اهتمام المحدثين بالسنة المطهرة
بقلم
الأستاذ الدكتور
الخشوعى الخشوعى محمد الخشوعى
أستاذ الحديث بجامعة الأزهر
وعضو هيئة علماء الجمعية
2003
تقديم
إن الحمد لله، والاستعانة والتوفيق من الله، والتوجه إلى الله، والقدوة فى مسيرتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتصام بحبل الله وبسنة رسوله ومجتباه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد..
فلما كان المنهج الذى تسير عليه الجمعية الشرعية مستمدًا من كتاب الله وسنة رسوله ومصطفاه محمد بن عبد الله، كان من أهم ما ينبغى العناية به دراسة الحديث النبوى، باعتباره التطبيق العملى لمراد الله من خلقه.. ولقد كانت الأمة المسلمة على مستوى المسئولية فى التوثيق والتحقيق والاهتمام بالتأكد من صحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبذلوا جهودًا جبارة – شهد بها العدو قبل الصديق – فى التحرى عن ضبط الرواة وعدالتهم.. وعن عرض ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جاء به كتاب الله، فكان المتن والإسناد محل البحث والتدقيق، وقام بهذا الجهد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فأفنوا أعمارهم فى خدمة الحديث وتمييز الطيب من الخبيث، واستخلصوا المتواتر والصحيح، وردوا شبهات المغرضين، وكشفوا عمل الوضاعين، فكانوا جنودًا لله حفظ بهم السنة، كما حفظ القرآن الكريم بمن اصطفاهم فأورثهم كتابه، وتحقق وعد الله بحفظ وحيه الخاتم حيث قال: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، والذكر هنا هو القرآن الكريم، وما بين هذا القرآن من كلام سيد الأنام الذى { مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى?* إِن هُوَ إِلاَّ وَحىٌ يُوحَى } .(1/1)
ولما كان الهدف من إنشاء معاهد إعداد الدعاة، أن يتزود فيها الطالب بما يجعله فاقهًا لدعوته، ملمًا بأسس هذه الدعوة ومنابعها، أهلاً لصد الأدعياء والمنافقين الذين يشككون فى الثوابت الإسلامية.. كان من الضرورى – قبل دراسة نص الأحاديث – أن يدرك هذا الطالب مدى اهتمام المسلمين بالسنة إسنادًا ومتنًا، فقدم لنا فضيلة الأستاذ الدكتور/ الخشوعى الخشوعى محمد الخشوعى
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو هيئة علماء الجمعية، هذا الكتاب القيم مراعيًا فيه الدقة والإيجاز وبث روح الانتماء إلى الوحى الصادق بجناحيه العظيمين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وإن القارئ ليلمح فى هذا الكتاب إخلاصًا وخشوعًا مستمدًا من اسمه، وصدق من قال: لكل اسم من مسماه نصيب، جزاه الله خيرًا ونفع به وكتبه فى ميزان
حسناته..
وما على طلابنا وطالباتنا إلا أن يعوا جيدًا ما فيه من درر تساعدهم على أداء مهمتهم الدعوية التى صارت فرض عين على كل القادرين فى مواجهة حملات التشكيك والتغريب وسلخ الأمة عن هويتها الإسلامية وقيمها الرفيعة.. وفق الله شبابنا لإحياء مجدنا وعزنا، ونشر نور الله فى العالمين، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على سيد الخلق وحبيب الحق محمد بن عبد الله، وعلى آله ومن والاه.
... ... ... أ. د. محمد المختار محمد المهدى
إمام أهل السنة و الرئيس العام للجمعيات الشرعية
مُقَدِّمَةُ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{(1/2)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ*وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَارِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (3).
وبعد،،
__________
(1) سورة آل عمران، آية رقم 102، 103.
(2) سورة النساء، آية رقم 1.
(3) سورة الأحزاب، آية رقم 70.
هذه تسمى خطبة الحاجة.
أخرجها أبو داود، كتاب النكاح – باب فى خطبة النكاح، 2/245 عن عبد الله بن مسعود مرفوعة.
وأخرجها الترمذى، كتاب النكاح – باب ما جاء فى خطبة النكاح، قال أبو عيسى حديث عبد الله " حديث حسن "، 3/404،405 عن عبد الله بن مسعود مرفوعة.
وأخرجها النسائى، كتاب النكاح – باب ما يستحب من الكلام عند النكاح، 6/88 عن عبد الله مرفوعة.
وأخرجها ابن ماجه، كتاب النكاح – باب خطبة النكاح، 1/610،609 عن عبد الله بن مسعود مرفوعة.
وأخرجها الحاكم فى المستدرك، كتاب النكاح – باب خطبة الحاجة، 2/183،182 عن عبد الله بن مسعود مرفوعة.(1/3)
فهذا مبحث " اهتمام المحدثين بالسنة المطهرة " أرجو الله أن أكون قد وفقت فى دراسته.
وإن كان فى هذا العمل من خير، فمرده إلى الله سبحانه وتعالى وحده، فهو الذى أعاننى ووفقنى وهدانى إلى الصواب: { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } (1).
وما كان فيه من تقصير – وهو واقع لا محالة – فهو عمل البشر الذى لا يسلم من الزلل
ليبقى الكمال المطلق لكتاب الله الكريم، وأسأل الله العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله فى ميزان حسناتى يوم ألقاه، وأن ينفع به المسلمين ؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (2).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد النبى الأمى الكريم
وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وآل بيته الطيبين الطاهرين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
... ... ... الدكتور
... الخشوعى الخشوعى محمد الخشوعى
... ... ... أستاذ بقسم الحديث – كلية أصول الدين
جامعة الأزهر الشريف – القاهرة
تمهيد
قبل الحديث عن اهتمام المسلمين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والدوافع إلى ذلك، ومظاهر هذه العناية، وكتابة السنة، وتدوينها، ووجوب العمل بخبر الآحاد.
نقدم بين يدى هذا البحث المتواضع بعض التعريفات التى لابد منها، حتى يكون القارئ على بينة وبصيرة من أول الأمر فلا يقع لبس فى الفهم.
1 – تعريف الحديث.
2 – تعريف السنة.
3 – تعريف الخبر.
4 – تعريف الأثر.
5 – تعريف الإسناد.
6 – تعريف المتن.
(1) الحديث
تعريف الحديث فى اللغة: ضد القديم، ويستعمل فى قليل الخبر وكثيره.
تعريف الحديث اصطلاحًا: للعلماء فى تعريف الحديث ثلاثة مذاهب:
(
__________
(1) سورة الأعراف، آية رقم 43.
(2) سورة الحشر، آية رقم 10.(1/4)
أ ) مذهب جمهور العلماء:
الحديث هو ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خُلقية، حقيقة أو حكمًا، حتى الحركات والسكنات فى اليقظة والمنام، وكذلك ما أضيف إلى الصحابة والتابعين من قول أو فعل.
فيشمل ذلك التعريف:
المرفوع(1) والموقوف(2) والمقطوع(3).
(ب) المذهب الثانى:
الحديث هو ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خُلقية، فيطلق على المرفوع فقط.
(جـ) المذهب الثالث:
الحديث هو ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً له، أو فعلاً.
قال السيوطى: وقيل لا يطلق الحديث على غير المرفوع إلا بشرط التقييد، فيقال هذا الحديث موقوف على عمر مثلاً.
وقد سمى النبى صلى الله عليه وسلم ما يصدر عنه حديثًا.
عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه»(4).
(2) السنة
السنة على وزن ( فعلة ) بمعنى مفعولة، من سننت الإبل إذا أحسنت رعيتها والقيام عليها، وقيل من سن الماء إذا والى صبه، وقيل من سننت النصل إذا حددته وصقلته.
تطلق السنة فى اللغة يراد بها عدة معان منها:
( أ ) الطريقة والسيرة – حسنة كانت أو قبيحة.
قال خالد بن زهير الهذلى:
__________
(1) الحديث المرفوع هو ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً له، أو فعلاً، أو تقريرًا.
(2) الحديث الموقوف هو ما أضيف إلى الصحابى رضى الله عنه.
(3) الحديث المقطوع هو ما أضيف إلى التابعى، أو من بعد التابعى.
(4) أخرجه البخارى – كتاب العلم – باب الحرص على الحديث، فتح البارى، 1/233.(1/5)
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... - ... فأول راض سنة من يسيرها(1)
ويشهد لهذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « من سن فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شىء، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شىء »(2).
حيث أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة سنة على الطريقة الحسنة، كما أطلقها على الطريقة المذمومة.
عن ابن سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا فى جحر ضب لاتبعتموهم »،
قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى. قال:« فمن»(3).
فكلمة سنة هنا أطلقت على الموافقة فى المعاصى والمخالفات، لا فى الكفر.
والمراد بقوله « من سن سنة » من عملها ليقتدى به فيها، وكل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم بعده قيل هو الذى سنه.
وسن فلان طريقًا من الخير، يسنه إذا ابتدأ أمرًا من البر لم يعرفه قومه، فاستنوا به وسلكوه، وإذا أطلقت كلمة سنة فى الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه، وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال فى أدلة الشرع الكتاب والسنة، أى القرآن والحديث(4).
(ب) الطريقة المحمودة المستقيمة، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة، معناه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة.
(
__________
(1) لسان العرب 3/2124.
(2) أخرجه مسلم، كتاب العلم – باب من سن سنة حسنة أو سيئة " جزء حديث "، صحيح مسلم بشرح النووى، 16/226 عن جرير بن عبد الله.
(3) أخرجه البخارى، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : « لتتبعن سنن من كان قبلكم » فتح البارى، 13/300.
وأخرجه مسلم، كتاب العلم – باب الألد الخصم، صحيح مسلم بشرح النووى، 16/220،219 " واللفظ لمسلم ".
(4) لسان العرب 3/2125،2124.(1/6)
جـ) العادة المستمرة والطريقة المتبعة، ومنه قوله تعالى: { سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَواْ مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبدِيلا } (1) أى سن الله ذلك فى الذين نافقوا الأنبياء وأرجفوا بهم أن يقتلوا أين ثقفوا، أى وجدوا(2).
وقوله تعالى: { فَهَل يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبدِيلا وَلَن تَجدَ لِسنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلاً } (3).
غير أن أهل اللغة اتفقوا على أن كلمة سنة إذا أطلقت انصرفت إلى الطريقة، أو السيرة الحميدة فقط، ولا تستعمل فى غيرها إلا مقيدة(4).
السنة فى الاصطلاح:
لقد اختلف العلماء فى تعريف السنة فى الاصطلاح، وذلك يرجع إلى اختلاف الأغراض التى اتجهوا إليها فى أبحاثهم، فعلماء أصول الفقه عنوا بالبحث عن الأدلة الشرعية، وعلماء الحديث عنوا بنقل ما نسب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وعلماء الفقه عنوا بالبحث عن الأحكام الشرعية من فرض وواجب، ومندوب، وحرام ومكروه، لذلك اختلف المراد من لفظ السنة عند العلماء، وقد يقع الاختلاف بين علماء الطائفة الواحدة منهم.
( أ ) السنة فى اصطلاح الفقهاء:
ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم، من غير افتراض، ولا وجوب، وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة عند الجمهور، أو السبعة عند الحنفية، وقد تطلق عندهم على ما يقابل البدعة، ومنه قولهم: طلاق السنة كذا وطلاق البدعة كذا.
وجهة نظر الفقهاء:
لقد بحث الفقهاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعى، والفقهاء يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبًا، أو حرمة، أو إباحة، أو غير ذلك(5).
__________
(1) سورة الأحزاب – آية رقم 62.
(2) لسان العرب، مادة " سنن ".
(3) سورة فاطر – آية رقم 43.
(4) علوم الحديث، للدكتور أبو العلا ؛ لسان العرب 3/2124.
(5) الحديث والمحدثون، ص9.(1/7)
وقد تطلق السنة عند الفقهاء على ما دل عليه دليل شرعى، سواء كان ذلك فى الكتاب العزيز، أو عن النبى صلى الله عليه وسلم، أو اجتهد فيه الصحابة، كجمع المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد، وتدوين الدواوين، ويقابل ذلك البدعة(1).
كما جاء ذلك فى حديث العرباض بن سارية، حيث أمر بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين، وجعل مقابل السنة البدعة(2).
عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال: « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشى فإنه من يعش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضّوا عليها بالنواجذ »(3).
وفى رواية أبى داود: « فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ».
(ب) السنة فى اصطلاح الأصوليين:
ما نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير.
وجهة نظر الأصوليين:
إنما بحث الأصوليون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشرع الذى يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله، وأفعاله، وتقريراته التى تثبت الأحكام وتقررها.
(جـ) السنة فى اصطلاح المحدثين:
(1) مذهب الجمهور:
__________
(1) السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى، ص48.
(2) السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى، ص48 ؛ الموافقات للشاطبى، 4/3،2.
(3) أخرجه أبو داود، كتاب السنة – باب فى لزوم السنة، 4/201 ؛ وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع، قال أبو عيسى هذا حديث " حسن صحيح "، 5/45،44 " واللفظ للترمذى ".(1/8)
هى ما أضيفت إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، حقيقة أو حكمًا، حتى الحركات والسكنات فى اليقظة والمنام، وكذلك سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، أو بعدها، وكذا ما أضيف إلى الصحابة والتابعين من قول أو فعل ؛ والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث – على مذهب الجمهور – فتشمل المرفوع، والموقوف، والمقطوع ؛ ويشهد لهذا أن الإمام البيهقى سمى كتابه بالسنن الكبرى، والكتاب يشتمل على الأحاديث المرفوعة، والموقوفة، والمقطوعة.
(2) المذهب الثانى:
هى ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية، أو خلقية حقيقة أو حكمًا، حتى الحركات والسكنات فى اليقظة والمنام، أو سيرته سواء كان ذلك قبل البعثة، أو بعدها.
والسنة بهذا المعنى تكون خاصة بالمرفوع فقط، فلا تشمل الموقوف، والمقطوع، وهى بهذا مرادفة للحديث على المذهب الثانى فى تعريفه.
وجهة نظر المحدثين:
لقد بحث المحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام الهادى، الذى أخبر الله عز وجل عنه إنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة، وخلق، وشمائل، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكمًا شرعيًا أم لا(1).
(3) المذهب الثالث:
هى ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية فقط، وهى بهذا المعنى مرادفة للحديث – على المذهب الثالث – فتشمل المرفوع فقط، ولا يدخل فى هذا التعريف الحركات والسكنات... إلخ.
(3) الخبر
تعريف الخبر فى اللغة: النبأ، والجمع أخبار، وأخابير جمع الجمع(2).
تعريف الخبر فى الاصطلاح:
قال شيخ الإسلام ابن حجر:
__________
(1) السنة ومكانتها فى التشريع، ص47-49.
(2) لسان العرب، 2/1090.(1/9)
الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث، وقيل: الحديث ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره، ومن ثم قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها: الإخبارى، ولمن يشتغل بالسنة النبوية: المحدث، وقيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، فكل حديث خبر من غير العكس(1).
وذهب فقهاء خراسان إلى أن الخبر ما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ما يروى عن غيره صلى الله عليه وسلم فيطلقون عليه الأثر.
قال السيوطى عقب قول ابن حجر ( الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث ): فيطلقان على المرفوع، وعلى الموقوف، وعلى المقطوع.
وقيل: لا يطلق الحديث على غير المرفوع إلا بشرط التقييد(2)، فيقال: هذا حديث موقوف على عمر مثلاً.
(4) الأثر
تعريف الأثر فى اللغة: ما بقى من رسم الشىء، ويطلق على بقية الشىء؛ وأصل الأثر ما ظهر من مشى الشخص على الأرض.
والأثر: الخبر، والجمع: آثار، وسنن النبى صلى الله عليه وسلم آثاره، والحديث المأثور أى: الذى يخبر الناس به بعضهم بعضًا، أى ينقله خلف عن سلف، يقال منه: أثرت الحديث فهو مأثور وأنا آثر؛ ويقال: أثرت
الحديث بمعنى: رويته، ويسمى المحدث أثريًا بالنسبة للأثر.
تعريف الأثر فى الاصطلاح:
( أ ) مذهب المحدثين:
ذهب المحدثون إلى أن الأثر هو ما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن غيره، فيطلق على المرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويشهد لذلك أن أبا جعفر الطحاوى سمى كتابه: " شرح معانى الآثار "، والكتاب يشتمل على المرفوع والموقوف والمقطوع؛ وهذا هو الموافق للمعنى اللغوى، لأن الأثر مأخوذ من أثرت الحديث أى: رويته.
قال النووى: المذهب المختار الذى قاله المحدثون وغيرهم، واصطلح عليه السلف وجماهير الخلف، هو أن الأثر يطلق على المروى مطلقًا، سواء كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابى.
__________
(1) شرح نخبة الفكر، ص3.
(2) تدريب الراوى، 1/43،42، 1/184.(1/10)
قال السخاوى: الأثر اصطلاحًا الأحاديث مرفوعة كانت أو موقوفة على المعتمد، ومنه شرح معانى الآثار لاشتماله عليها.
(ب) مذهب فقهاء خراسان:
ذهب فقهاء خراسان إلى أن الأثر ما يروى عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم فيطلق على غير المرفوع، قال أبو القاسم الفورانى – من فقهاء خراسان –: الفقهاء يقولون: الخبر ما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم، والأثر ما يروى عن الصحابة.
وعلى هذا فيطلق الأثر على الموقوف والمقطوع، ولا يطلق على المرفوع.
قال السخاوى: وظاهر تسمية البيهقى كتابه المشتمل عليها ( أى على المرفوع وغيره بمعرفة السنن والآثار ) معهم وكان سلفهم فيه إمامهم، فقد وجد ذلك فى كلامه كثيرًا، واستحسنه بعض المتأخرين، قال: لأن التفاوت فى المراتب يقتضى التفاوت فى المرتب عليها، فيقال لما نسب لصاحب الشرع ( أى الرسول صلى الله عليه وسلم ): الخبر، وللصحابة: الأثر، وللعلماء: القول والمذهب.
قال ابن حجر: ويقال للموقوف والمقطوع: الأثر(1).
وبعد أن بينا المراد بالحديث، والسنة، والخبر، والأثر، نرى أنه إذا أطلقت كلمة حديث أو سنة انصرف ذلك إلى المرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم، أما إذا أطلق أحدهما على غير ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قيد حتى لا يقع لبس، فيقال: حديث موقوف على عمر أو سنة الخليفة الراشد أبى بكر الصديق رضي الله عنه، أما الخبر والأثر فكلاهما يطلق على ما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن غيره.
(5) الإسناد
__________
(1) راجع فى هذا: لسان العرب، 1/25 ؛ شرح نخبة الفكر، ص30 ؛ صحيح مسلم بشرح النووى، 1/63 ؛ فتح المغيث للسخاوى، 1/9، 104،103 ؛ تدريب الراوى، 1/43، 1/185،184.(1/11)
تعريف الإسناد اصطلاحًا: هو الطريق الموصل إلى متن الحديث؛ أو هو عبارة عن سلسلة الرواة الذين تحملوا الحديث واحد عن الآخر حتى وصلوا به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فى الحديث المرفوع، أو إلى الصحابى فى الحديث الموقوف، أو إلى التابعى فى الحديث المقطوع.
(6) المتن
تعريف المتن اصطلاحًا: هو نص الحديث، أو ألفاظ الحديث التى تقوم بها المعانى.
الباب الأول:
القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى له
إذا كان القرآن الكريم هو المنهج الذى ارتضاه الله لخلقه، فهو فى نفس الوقت المعجزة الكبرى لنبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكما تكفل الله عز وجل بحفظ معجزات الرسل السابقين، فلقد تكفل بحفظ القرآن الكريم باعتباره المعجزة الكبرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتى تتناسب وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتحقق وعد الله عز وجل بصيانة القرآن الكريم.
قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1).
فلم تمتد إليه يد بتحريف، أو تغيير، أو زيادة، أو نقصان، بل هو بحروفه وكلماته كما تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام؛ بل إن عوامل حفظ القرآن الكريم تتزايد من يوم لآخر، فلم يتأثر حفظ القرآن الكريم بضعف المسلمين أو قوتهم، وذلك لأن الذى حفظه إنما هو الغالب على أمره وهو الله سبحانه وتعالى، وإذا أراد شيئًا كان كما أراد لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه.
قال الله تعالى: { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (2).
__________
(1) سورة الحجر، آية رقم 9.
(2) سورة يوسف، آية رقم 21.(1/12)
فلم يكل الله تعالى حفظ القرآن الكريم إلى المسلمين كما حدث بالنسبة للكتب السابقة حيث وكل إلى أصحابها حفظها، فلم يقوموا بواجبهم، بل حرفوها وبدلوها كما أخبر الله بذلك فى كتابه الكريم، وكما يشهد بذلك واقع هذه الكتب، وما كانت أى قوة مهما عظمت تستطيع حفظ القرآن وصيانته كما حفظه الله تعالى الغالب على أمره.
علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم
لقد وكل الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تبيين القرآن الكريم، وتبيين القرآن إنما هو فى السنة المطهرة.
قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (1).
فقام النبى صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة على خير وجه استجابة لأمر الله تعالى، فبين القرآن الكريم غاية البيان، ولقد أقر الله تعالى هذا البيان، فسكوت الوحى على بيانه صلى الله عليه وسلم إنما هو إقرار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على تبيين ما بينه، وأنه بيان حق.
فتبيين السنة المطهرة للقرآن الكريم، إنما هو بيان حق وصدق، صدر عن رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، وأقره الله تعالى على هذا البيان.
فالمسلمون ملزمون بالسنة المطهرة، كما هم ملزمون بالقرآن الكريم، لا فرق بينهما بحال من الأحوال، فمصدرهما واحد وهو الله تعالى.
قال الله تعالى:
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } (2).
فالمراد بالكتاب هو القرآن الكريم، والحكمة هى السنة المطهرة.
لقد كان الوحى يرقبه صلى الله عليه وسلم فيما يجتهد فيه ويصوب له ما يحتاج إلى تصويب؛ فالنبى صلى الله عليه وسلم معصوم بالوحى الذى لا يخطئ.
__________
(1) سورة النحل، آية رقم 44.
(2) سورة البقرة، آية رقم 151.(1/13)
ولا أدل على ذلك مما ورد فى القرآن الكريم من عتاب له صلى الله عليه وسلم وتصويب لبعض ما اجتهد فيه، وكذلك فى السنة؛ فمن ذلك:
- ماجاء بشأن أسرى بدر.. لما قبل النبى صلى الله عليه وسلم الفداء من المشركين فى مقابل أن يرد عليهم أسراهم، عاتبه الله فى ذلك، ثم أباح له الغنائم التى لم يحلها الله لأحد من الأنبياء قبله.
قال الله تعالى:
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ?*لَّولاَ كِتَب مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُم فِيمَآ أَخَذتُم عَذَابٌ عَظِيم?*فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1).
- ما جاء بشأن إذن النبى صلى الله عليه وسلم للذين اعتذروا عن الخروج معه صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، مدعين أن بهم أعذار تحول بينهم وبين الغزو، ولم تكن لهم أعذار، فكان على النبى صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم، حتى يتبين له الصادق من الكاذب، لأنهم عزموا على عدم الغزو أذن لهم الرسول أو لم يأذن، فعاتبه الله هذا العتاب الرقيق المصدر بعفو الله عنه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } (2).
- ما جاء بشأن تحريمه صلى الله عليه وسلم على نفسه ما أباحه الله تعالى له، بغض النظر عن كون ما حرمه صلى الله عليه وسلم على نفسه الجارية، أو العسل.
قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3).
__________
(1) سورة الأنفال، آية رقم 67-69.
(2) سورة التوبة، آية رقم 43.
(3) سورة التحريم، آية رقم 1.(1/14)
- ما جاء بشأن عبد الله بن مكتوم، حين أعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم، وقد جاء يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عن شىء، فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم لانشغاله ببعض عظماء قريش، وكان يطمع فى إسلامهم، فأنزل الله تعالى قرآنًا يعاتبه فيه.
قال تعالى:
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى* َمَّا مَنِ استَغنَى* )فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَن جَآءكَ يَسعَى* وَهُوَ يَخشَى* فَأَنتَ عَنهُ تَلَهَّى } (1).
عن عبد الله بن أبى قتادة عن أبى قتادة أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد فى سبيل الله والإيمان بالله، أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت فى سبيل الله تكفر عنى خطاياى ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم إن قُتلت فى سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر »، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كيف قُلت ؟ » قال: أرأيت إن قُتلت فى سبيل الله أتكفر عنى خطاياى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدّين، فإن جبريل عليه السلام قال لى ذلك »(2).
__________
(1) سورة عبس، آية رقم 1-10.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة – باب من قتل فى سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، صحيح مسلم بشرح النووى 13/29،28 " واللفظ له ".
وأخرجه مالك، كتاب الجهاد – باب الشهداء فى سبيل الله، 2/461.
قال الإمام النووى: وأما قوله: « إلا الدّين » ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة، وغيرهما من أعمال البر، لا يكفر حقوق الآدميين، إنما يكفر حقوق الله تعالى، صحيح مسلم بشرح النووى، 13/29.(1/15)
فى هذا الحديث أفتى النبى صلى الله عليه وسلم هذا السائل، بأن القتل فى سبيل الله مع الإخلاص لله رب العالمين، والإقبال من غير إدبار، يكفر الذنوب بدون تفريق بين حقوق الله وحقوق العباد.
ولما كان القتل فى سبيل الله تعالى، مع الإخلاص لله رب العالمين، والإقبال، يكفر الخطايا المتعلقة بحقوق الله تعالى فقط، أما حقوق العباد فهى موكولة إليهم، ولابد من ردها إلى أصحابها، صوب جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم هذه الفتوى، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القتل فى سبيل الله بشرطه المذكور فى الحديث يكفر الخطايا المتعلقة بالله تعالى، دون المتعلقة بالبشر.
وهكذا كان جبريل عليه السلام يرقب النبى صلى الله عليه وسلم فى كل أحواله.
قال الإمام النووى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: « نعم »، ثم قال بعد ذلك: « إلا الدّين »، فمحمول على أنه أوحى إليه به فى الحال، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: « إلا الدّين، فإن جبريل عليه السلام قال لى ذلك »، والله أعلم(1).
ونستطيع بعد هذا العرض السريع، أن نقسم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قسمين:
( أ ) ما أتى به الوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: فهو معصوم فيه من الخطأ، سواء كان ذلك قرآنًا كريمًا، أو سنة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم.
(ب) ما اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قسمان:
- القسم الأول:
ما سكت الوحى عليه، فهذا إقرار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
على ما اجتهد فيه، وهو صواب لا يحتمل الخطأ، لأن الله تعالى لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على الخطأ.
- القسم الثانى:
ما صوبه الوحى، فهو كما صُوب.
مما سبق يتضح ما يأتى:
(1) ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو إقرار، إما عن وحى أو اجتهاد من النبى صلى الله عليه وسلم أُقر عليه من قبل الله عز وجل.
(
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى، 13/29.(1/16)
2) هذا التصويب لبعض ما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم، دليل واضح على أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يصدر عن رأيه المطلق، بل إن الوحى كان يرقبه فيما اجتهد فيه.
وهو فى نفس الوقت من أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغ عن الله كل ما أُمر بتبليغه، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم آيات العتاب، ومراجعات جبريل عليه السلام له صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الإنسان مهما سمت نفسه وتجرد، لا يصل إلى هذه الدرجة أن ينتقد نفسه، ويصوب اجتهاده.
ومن هنا أخذ النص الشرعى قداسته، سواء كان هذا النص من القرآن الكريم، أو السنة المطهرة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم أن يرد شيئًا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعتقاد المسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ، وأن ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إنما هو دين يدان لله به ويتقرب به إليه، ولا يجوز مخالفته صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال.
لذلك نقول: إن الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم، حجة برأسه عمل به أم لم يعمل، ويلزم من بلغه العمل به، وأنه لا حجة لقول أحد من البشر مع قوله صلى الله عليه وسلم، فهو الذى أوجب الله علينا طاعته، وليس هذا لأحد غيره من البشر.
قال الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى –:
فكل من قبل عن الله فرائضه فى كتابه، قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننه، بفرض الله طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه؛ ومن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته(1).
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعى، ص33.(1/17)
قال الإمام الشافعى وهو يتحدث عن الناسخ والمنسوخ وعلاقة السنة المشرفة بالقرآن الكريم: فيما وصفت من فرض الله على الناس اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، دليل على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قبلت عن الله، فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها، ولا نجد خبرًا ألزمه الله خلقه نصًا بيّنًا إلا كتابه، ثم سنة نبيه(1).
قال الإمام الشافعى: كل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله من سنة فهى موافقة كتاب الله فى النص بمثله، وفى الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون أكثر تفسيرًا من الجملة، وما سن مما ليس فيه نص كتاب الله، فبفرض الله طاعته عامة فى أمره تبعناه(2).
وسوف نوجز العلاقة بين السنة المطهرة والقرآن الكريم، لنبين أنه لا غنى للمسلم عن أحدهما، وأن المسلم كما هو مخاطب بالقرآن الكريم ملزم بالعمل به، فهو أيضًا مخاطب بالسنة المطهرة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ملزم بالعمل بها، لأن مصدرهما واحد، وأن العلاقة بينهما إنما هى علاقة تكامل.
( أ ) السنة المطهرة هى المبيّنة والشارحة لما أجمل فى القرآن الكريم:
وذلك لأن الله تعالى وكّل إلى نبيه تبيين القرآن الكريم بنص القرآن الكريم، وتبيين القرآن إنما هو فى السنة المطهرة.
قال تعالى: { وَأَنزَلنَآ إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ } (3).
مثال ذلك:
أمر الله بالصلاة فى كتابه الكريم، وتكرر ذلك كثيرًا، غير أن الله تعالى لم يبين فى كتابه الكريم عدد الصلوات فى اليوم والليلة، ولا عدد ركعات كل صلاة، ولا كيفية الصلاة، إلى غير ذلك؛ فقام النبى صلى الله عليه وسلم بتبيين هذا الأمر غاية البيان بسنته العملية والقولية.
__________
(1) المرجع السابق، ص109،108.
(2) المرجع السابق، ص212.
(3) سورة النحل، آية رقم 44.(1/18)
وقال صلى الله عليه وسلم: « صلوا كما رأيتمونى أصلى »؛ وبتوجيهاته القولية أيضًا، وهذا من الظهور والبيان بحيث لا يخفى على أحد.
وكذلك بالنسبة للزكاة والصيام، والحج، إلى غير ذلك مما فصّلته السنة وبينته غاية البيان.
(ب) السنة المطهرة تخصص عام القرآن الكريم:
تعريف العام: هو اللفظ الذى يدل – بحسب وضعه اللغوى – على شموله واستغراقه لجميع الأفراد التى يصدق عليها معناه من غير حصر فى كمية معينة منها مثل: لفظ ( كل )، ولفظ ( جميع )؛ وكذلك المفرد المعرف بـ ( ال ) تعريف الجنس: كالسارق، والزانى، وغير ذلك.
تخصيص العام فى اصطلاح الأصوليين: هو تبيين أن مراد الشارع من العام – ابتداء – بعض أفراده لا جميعها(1).
مثال ذلك: قول الله تعالى:
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقطَعُواْ أَيدِيَهُمَا جَزَآء بمَا كَسَبَا نكلا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم } (2).
هذا العموم الوارد فى الآية الكريمة، خصصته السنة المطهرة، حيث جعلت القطع خاصًا بمن سرق نصابًا قيمته ربع دينار فصاعدًا، فليس كل سارق تقطع يده.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « تقطع يد السارق فى ربع دينار فصاعدًا»(3).
عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا تقطع يد السارق إلا فى ربع دينار فصاعدًا»(4).
__________
(1) أصول الفقه، للشيخ/ عبد الوهاب خلاف، ص182،181.
(2) سورة المائدة، آية رقم 38.
(3) أخرجه البخارى، كتاب الحدود – باب قول الله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقطَعُواْ أَيدِيَهُمَا } وفى كم يقطع، وقطع على من الكف، 9/199 " واللفظ له ".
وأخرجه مسلم، كتاب الحدود – باب حد السرقة ونصابها، صحيح مسلم بشرح النووى، 11/181،180.
(4) أخرجه مسلم، نفس الكتاب والباب السابق.(1/19)
قال الإمام النووى بعد أن ذكر أقوال أهل العلم فى قدر نصاب السرقة: والصحيح ما قاله الشافعى وموافقوه (أى قدر نصاب السرقة ربع دينار ذهبًا أو ما قيمته ربع دينار )، لأن النبى صلى الله عليه وسلم صرح ببيان النصاب فى هذه الأحاديث من لفظه وأنه ربع دينار، وأما باقى التقديرات فمردودة لا أصل لها مع مخالفتها لصريح هذه الأحاديث(1).
قال الإمام الشافعى: ولولا الاستدلال بالسنة وحكمنا بالظاهر، قطعنا من لزمه اسم سرقة... إلخ(2).
(جـ) السنة المطهرة تقيد مطلق القرآن الكريم:
تعريف اللفظ المطلق: هو ما دل على فرد غير مقيد لفظًا بأى قيد، مثل: مصرى.
تعريف اللفظ المقيد: هو ما دل على فرد مقيد لفظًا، بأى قيد، مثل: مصرى مسلم.
فالمطلق يفهم على إطلاقه، إلا إذا قام دليل على تقييده.
فإن قام الدليل على تقييده، كان هذا الدليل صارفًا له عن إطلاقه، ومبيّنًا المراد منه(3).
مثال ذلك: قول الله تعالى:
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم } (4).
فالآية الكريمة، ورد فيها قطع يد السارق بدون قيد، فهل تقطع اليد اليمنى أم اليسرى، وما القدر المقطوع، وقد استدل جمهور المجتهدين بالسنة العملية على تعيين المراد منها فى الآية الكريمة، من رؤوس الأصابع إلى الرسغ فى اليمنى.
قال الإمام النووى: وأجمعوا على أنه إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، فإذا سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى، فإذا سرق ثالثًا قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعًا قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عزر، ثم كلما سرق عزر.
قال الشافعى، وأبو حنيفة، ومالك، والجماهير: تقطع اليد من الرسغ – وهو المفصل بين الكف والذراع
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى، 11/182.
(2) الرسالة، للإمام الشافعى، 73،72.
(3) أصول الفقه، للشيخ/ عبد الوهاب خلاف، ص192.
(4) سورة المائدة، آية رقم 38.(1/20)
–وتقطع الرجل من المفصل بين الساق والقدم(1).
(د ) فمن ذلك تفسير " الظلم " الوارد فى قوله تعالى:
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (2).
فهم الصحابة أن المراد عموم الظلم، فيشمل ذلك الذنوب كلها، كبيرها وصغيرها، وأن من يقع فى معصية – سواء كانت كبيرة أو صغيرة – فليس بمهتد ولا آمن، فشق عليهم ذلك، لأن المسلم لا يسلم من الوقوع فى شىء من ذلك، فبين النبى صلى الله عليه وسلم أن المراد بالظلم، إنما هو الشرك، وليس عموم الظلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت:
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنه ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه: { ? إِنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيم } »(3).
(هـ) السنة المطهرة تؤسس الأحكام فيما ليس لله فيه نص كتاب:
مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها فى نكاح واحد، وهذا أمر استقلت به السنة المطهرة، وليس له ذكر فى القرآن الكريم.
فإن القرآن الكريم حرم – بسبب المصاهرة – أم الزوجة إن عقد على ابنتها، وبنت الزوجة إن دخل بأمها، وزوجة الابن الصلبى، والجمع بين الأختين فى نكاح واحد.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى، 11/185 ؛ فتح البارى، 12/101 ؛ أصول الفقه، للشيخ/ خلاف، ص180.
(2) سورة الأنعام، آية رقم 82.
(3)
( ) أخرجه البخارى، كتاب التفسير – باب لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم، 6/144،143 " واللفظ له ".
وأخرجه البخارى فى غير هذا الموضع، فأخرجه فى كتاب الإيمان – باب ظلم دون ظلم، 1/15 ؛ راجع هذا الموضع السابق فى فتح البارى لترى بقية المواضع، فتح البارى، 1/87.
وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان – باب صدق الإيمان وإخلاصه، 1/115،114.(1/21)
فألحقت السنة المطهرة بذلك الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها فى نكاح واحد.
عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها »(1).
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها(2).
قال الإمام النووى: هذا دليل لمذاهب العلماء كافة، أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، سواء كانت عمة وخالة حقيقية وهى أخت الأب وأخت الأم، أو مجازية وهى أخت أبى الأب وأبى الجد وإن علا، وأخت أم الأم وأم الجدة من جهتى الأم والأب وإن علت، فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجمع بينها.
وقالت طائفة من الخوارج والشيعة: يجوز، واحتجوا بقوله تعالى:
{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُم } (3). واحتج الجمهور بهذه الأحاديث خصوا بها الآية.
والصحيح الذى عليه جمهور الأصوليين، جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، لأنه صلى الله عليه وسلم مبين للناس ما أنزل إليهم من كتاب الله.
وأما الجمع بينهما فى الوطء بملك اليمين كالنكاح، فهو حرام عند العلماء كافة، وعند الشيعة مباح.
قالوا: ويباح أيضًا الجمع بين الأختين بملك اليمين، قالوا: وقوله تعالى:
{
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب النكاح – باب لا تنكح المرأة على عمتها، فتح البارى، 9/64.
وأخرجه مسلم، كتاب النكاح – باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، صحيح مسلم بشرح النووى، 9/19.
(2) أخرجه البخارى، كتاب النكاح – باب لا تنكح المرأة على عمتها، فتح البارى، 9/64.
وأخرجه مسلم، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، صحيح مسلم بشرح النووى، 9/191.
(3) سورة النساء، آية رقم 24.(1/22)
وَأَن تَجمَعُواْ بَينَ الأُختَينِ } (1)، إنما هو فى النكاح. قال العلماء كافة: هو حرام(2).
حرمت السنة – بسبب الرضاع – كل ما حرم بسبب النسب.
لم يحرم القرآن الكريم – بسبب الرضاع – إلا الأم المرضعة والأخوات من الرضاع.
غير أن القرآن الكريم حرم – بسبب النسب – سبع، وهن: الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.
قال تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } (3).
فألحقت السنة المطهرة بالأم المرضعة والأخت من الرضاعة، كل ما حرم بسبب النسب – وهن المذكورات فى الآية الكريمة – البنت من الرضاعة، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.
عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن عمها من الرضاعة يسمى أفلح استأذن عليها فحجبته، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: « لا تحتجبى منه فإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب »(4).
تحريم أكل الحمر الأهلية، وكل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطيور، إلى غير ذلك مما استقلت السنة المطهرة بحكمه(5).
الباب الثاني
السنة المطهرة محفوظة بحفظ الله تعالى لها
لزم من حفظ المُبيَّن حفظ المُبيِّن
__________
(1) سورة النساء، آية رقم 23.
(2) صحيح مسلم بشرح النووى، 9/190-192.
(3) سورة النساء، آية رقم 23.
(4) أخرجه البخارى، كتاب التفسير – باب إن تبدوا شيئًا أو تخفوه فإن الله كان بكل شىء عليمًا، فتح البارى، 8/392.
وأخرجه مسلم، كتاب الرضاع، صحيح مسلم بشرح النووى، 10/22 " واللفظ له "
(5) راجع الرسالة للإمام الشافعى، ص32 وما بعدها، ص88 وما بعدها، ص201 وما بعدها، ص212 وما بعدها.(1/23)
ولما كانت السنة المطهرة هى المُبيِّنة والشارحة للقرآن الكريم،والمخصصة لعامه والمقيدة لمطلقه،لزم أن يحفظ الله تعالى رحمة منه وفضلاً السنة المطهرة،وأن يصونها من عبث العابثين وكيد المغرضين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين.
لذلك فإن الله تعالى قد هيأ للسنة المطهرة فى كل عصر ومصر رجالاً أطهارًا أبرارًا صالحين،أنار الله بصائرهم،ورزقهم الفهم الصائب والحكمة،فبذلوا جهدًا عظيمًا يُعجز عن وصفه،بذلوا النفس والنفيس،وضحوا بكل شىء من أجل المحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد كيد أعداء الإسلام عنها،يسترضون بذلك ربهم سبحانه وتعالى.
وتحقق بجهدهم وجهادهم فى سبيل المحافظة على دين الله عز وجل قول النبى صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من المسلمين سيثبتون على الحق ويقومون بنصرة دين الله عز وجل والدفاع عنه إلى يوم القيامة مهما كلفهم ذلك،وهم الطائفة المنصورة – إن شاء الله تعالى –.
قال حميد بن عبد الرحمن: سمعت معاوية خطيبًا يقول: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول:
« من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين وإنما أنا قاسم والله يعطى ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله »(1).
عن المغيرة بن شعبة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
« لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون »(2).
عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«
__________
(1)
( ) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين، 1/28،27.
وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة – باب قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم »، صحيح مسلم بشرح النووى، 13/67.
(2) أخرجه البخارى، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق وهم أهل العلم »، 9/125.(1/24)
لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله وهم كذلك »(1).
قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث ( أى حديث معاوية ) مشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها: فضل التفقه فى الدين،وثانيها: أن المعطى فى الحقيقة هو الله تعالى،وثالثها: أن بعض هذه الأمة يبقى على الحق أبدًا ؛ والمراد بأمر الله تعالى هنا الريح تقبض روح كل من فى قلبه شىء من الإيمان،ويبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة.
إثبات الخير لمن تفقه فى دين الله،وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط،بل لمن يفتح الله عليه به،وأن من يفتح الله عليه بذلك لا يزال جنسه موجودًا حتى يأتى أمر الله
المراد بقوله: « ولن تزال هذه الأمة قائمة.... » الحديث:
قال الحافظ ابن حجر: قال البخارى: المراد بهم أهل العلم بالآثار.
قال أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدرى من هم.
قال القاضى عياض: أراد أحمد أهل السنة،ومن يعتقد مذهب أهل الحديث(2).
قال الإمام البخارى: سمعت علىّ بن المدينى يقول: هم أصحاب الحديث(3).
قال الإمام النووى: يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون،ومنهم فقهاء،ومنهم محدثون،ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر،ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير،ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين،بل قد يكونون متفرقين فى أقطار الأرض.
وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة،فإن هذا الوصف مازال بحمد الله تعالى من زمن النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن،ولا يزال حتى يأتى أمر الله المذكور فى الحديث(4).
وما ذهب إليه الإمام النووى هو الأولى والأقرب إلى الصواب والقبول،والله أعلم
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة – باب قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم »، صحيح مسلم بشرح النووى، 13/65.
(2) فتح البارى، 1/198.
(3) فتح البارى، 13/306.
(4) صحيح مسلم بشرح النووى، 13/67.(1/25)
اهتمام المسلمين بالسنة المطهرة
لقد اهتم المسلمون بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم عناية فائقة لم يسبقوا إليها ولم يدانيهم أحد فيها على مر العصور والأزمان.
فالرجل الوحيد على مر العصور الذى حفظت أقواله،وأفعاله،وتقريراته،وصفاته الخِلقية والخُلقية،وحركاته وسكناته،هو نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
حتى يكاد يجزم الدارس لسنته المطهرة،الممعن النظر فى سيرته العطرة،أنه قد رآه صلى الله عليه وسلم،فهو وإن لم يكن قد رأى شخصه الشريف،فقد تحقق من صفاته الخِلقية التى خلقه الله عليها،ومن صفاته الخُلقية التى ينبغى أن يتأسى بها المسلم اقتداء وامتثالاً لقول الله تعالى:
{ لَقَد كَانَ لَكُم فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَة لِّمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا } (1).
أسباب اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بسنته صلى الله عليه وسلم
لقد اهتم الصحابة رضي الله عنهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم اهتمامًا عظيمًا لم يسبقوا إليه – كما ذكرنا – وكان لهذا الاهتمام أسباب حملتهم على ذلك،كما كان لهذا الاهتمام مظاهر – أيضًا – واضحة جلية،وسوف نجمل هذه الأسباب والمظاهر فى نقاط رئيسية.
المقطع 1.01 أولاً: أسباب اهتمام الصحابة بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم:
نستطيع بحول الله وقوته أن نجمل هذه الأسباب فى النقاط الآتية:
(1) المسلمون ملزمون بالسنة المطهرة،كما هم ملزمون بالقرآن الكريم،لوحدة المصدر.
لقد علم الصحابة أن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من أقوال،وأفعال،وتقريرات،إنما هو دين يدان لله به،ويتقرب به إليه،وأن صلاح البشرية فى الدنيا،وفلاحهم فى الآخرة متوقف على طاعته صلى الله عليه وسلم،والاقتداء به فى كل كبيرة وصغيرة،والنزول على حكمه بنفس راضية،وأنهم ملزمون بالسنة المطهرة،كما هم ملزمون بالقرآن الكريم،لأن مصدرهما واحد وهو الله تعالى.
__________
(1) سورة الأحزاب، آية رقم 21.(1/26)
وأنه لا خيار لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حفظ كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم،وتعليمه لمن لم يعلمه،وتبليغه للناس،فهذا أمر أوجبه الله عليهم ولا خيار لهم فيه
فلقد شرف الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم فجعلهم أمناء الله على كتابه وسنة نبيه،فهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بعدهم،ولقد كان الصحابة فى غاية الحرص على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تحملاً وأداء،حتى يبلغوه كما سمعوه،حتى لا يضل الناس بخطئهم ؛ وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم،وذلك للآتى:
أ - المراد بالحكمة المقرونة بالكتاب الكريم فى آيات القرآن الكريم هى السنة المطهرة.
قال الله تعالى: { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الكِتَبَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُن تَعلَمُ وَكَانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيما } (1).
وذلك لأن الله تعالى ذكر الكتاب،والمراد به القرآن الكريم،وعطف عليه الحكمة،والعطف يقتض التغاير،بمعنى أن المعطوف غير المعطوف عليه،فالحكمة غير القرآن الكريم.
وما أتى به النبى صلى الله عليه وسلم إنما هو قرآن كريم،وسنة مطهرة.
قال الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى –: كل ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه كتاب،وفيما كتبنا فى كتابنا هذا،من ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة،دليل على أن الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
قال الإمام الشافعى بيان فرض الله فى كتابه اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: وضع الله رسوله صلى الله عليه وسلم من دينه،وفرضه وكتابه الموضع الذى أبان – جل ثناؤه – أنه جعله علمًا لدينه بما افترض من طاعته وحرم من معصيته،وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به.
__________
(1) سورة النساء، آية رقم 113.
(2) الرسالة للإمام الشافعى، ص32.(1/27)
فقال سبحانه وتعالى: { َآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } (1).
ثم قال الإمام الشافعى: ففرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله.
ثم ذكر الإمام الشافعى الآيات التى قرن الله فيها الحكمة بالقرآن الكريم،ومنها:
قال الله تعالى: { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيكَ الكِتَبَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَم تَكُن تَعلَمُ وَكَانَ فَضلُ اللَّهِ عَلَيكَ عَظِيما } (2).
قال الإمام الشافعى: فذكر الله الكتاب وهو القرآن،وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،وهذا يشبه ما قال،والله أعلم.
لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة،وذكر الله منه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة فلم يجز – والله أعلم – أن يقال: الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله،وأن الله افترض طاعة رسوله،وحتم على الناس اتباع أمره،فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله.
لما وصفنا،من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونًا بالإيمان به.
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيِّنة عن الله معنى ما أراد دليلاً على خاصه وعامه ؛ ثم قرن الحكمة بكتابه فأتبعها إياه ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله صلى الله عليه وسلم (3).
قال الإمام الشافعى: باب ما أمر الله من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم،ثم ذكر الآيات التى أمر الله فيها بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم،وأن طاعته صلى الله عليه وسلم ما هى إلا طاعة لله تعالى،والآيات التى نفى الله فيها الإيمان عمن لا يقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس راضية،ثم قال – رحمه الله تعالى –:
__________
(1) سورة النساء، آية رقم 171.
(2) سورة النساء، آية رقم 113.
(3) الرسالة للإمام الشافعى، ص73-79 بتصرف.(1/28)
فأعلم الله الناس فى هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم دعاء إلى حكم الله،لأن الحاكم بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،وإذا سلّموا لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما سلّموا لحكمه بفرض الله.
وأنه أعلمهم أن حكمه حكمه،على معنى افتراضه حكمه،وما سبق فى علمه – جل ثناؤه – من إسعاده بعصمته وتوفيقه،وما شهد له به من هدايته واتباعه أمره.
فأحكم فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم،وإعلامهم أنها طاعته،فجمع لهم أن أعلمهم أن الفرض عليهم اتباع أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم،وأن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم طاعته،ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله صلى الله عليه وسلم اتباع أمره – جل ثناؤه –(1)
قال الحافظ ابن كثير عند تفسير الآية الكريمة { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } : الكتاب هو القرآن والحكمة هى السنة(2).
وقال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى:
{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (3): { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } الكتاب يعنى القرآن،والحكمة
يعنى السنة،قاله الحسن،وقتادة،ومقاتل بن حيان،وأبو مالك،وغيرهم،وقيل الفهم فى الدين ولا منافاة(4).
ولم يجعل الله لأولى الأمر طاعة مستقلة،حيث لم يكرر الفعل ( أطيعوا ) – كما كرره مع الرسول صلى الله عليه وسلم – مع أولى الأمر،فقال: { وَأُولِى الأَمرِ مِنكُم } فلم يجعل لهم طاعة مستقلة،بل إنما يطاع أولوا الأمر إذا أَمَروا بطاعة الله ورسوله،أما إذا أمروا بمعصية الله ورسوله فلا طاعة لهم.
__________
(1) المرجع السابق، ص82-85 بتصرف.
(2) تفسير ابن كثير، 1/554.
(3) سورة البقرة، آية رقم 129.
(4) تفسير ابن كثير، 1/184.(1/29)
وهذا ما أوجبه الشرع ويقبله العقل،وذلك لأن الوحى معصوم من الخطأ ؛ أما أولوا الأمر فالخطأ وارد عليهم باعتبارهم من البشر الذين لا يسلمون من الخطأ والأهواء البشرية.
فالمعصوم الأوحد من البشر،إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهو معصوم بالوحى الذى لا يخطئ.
ولذلك جعل القرآن الكريم الرد عند التنازع إلى الله ورسوله،لا إلى أولى الأمر،فقال تعالى:
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } .
ب– أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فى كل ما أمر،والانتهاء عن كل ما نهى عنه،سواء كانت هذه الأوامر أو تلك النواهى فى القرآن الكريم أو السنة المطهرة،لا فرق فى ذلك،ولم يجعل ذلك خاصًا بما جاء فى القرآن الكريم،وحذر المسلمين من عقابه – سبحانه – إن خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (1).
جـ– جعل الله تعالى طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة له تعالى.
قال الله تعالى:
{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } (2)
د– جعل الله تعالى اتباعه صلى الله عليه وسلم،والنزول على أمره،علمًا على محبته تعالى،وسبيلاً للفوز مبغفرته ورضوانه.
قال الله تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } (4).
__________
(1) سورة الحشر، آية رقم 7.
(2) سورة النساء، آية رقم 80.
(3) سورة أل عمران، آية رقم31.
(4) سورة آل عمران، آية رقم 31، 32.(1/30)
هـ– جعل الله تعالى طاعته صلى الله عليه وسلم سببًا لمرافقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، فى الجنة.
قال الله تعالى:
{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } (1).
و – جعل الله تعالى طاعته صلى الله عليه وسلم واتباعه، سبيلاً للنجاة فى الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى:
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } (2).
ز – حذر الله تعالى من مخالفة أمر النبى صلى الله عليه وسلم ، والخروج عليه، وتوعد الخارجين عليه صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم فتنة تستأصل ما فى قلوبهم من الإيمان، أو عذاب أليم ينزل بهم.
قال الله تعالى:
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (3).
ح – نفى الله الإيمان عمن لا يقبل حكمه صلى الله عليه وسلم بنفس راضية مطمئنَّة إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى:
{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (4).
قال الإمام الشافعى: نزلت هذه الآية فيما بلغنا – والله أعلم – فى رجل خاصم الزبير فى أرض، فقضى النبى صلى الله عليه وسلم بها للزبير(5).
__________
(1) سورة النساء، آية رقم 69.
(2) سورة النور، آية رقم 54.
(3) سورة النور، آية رقم 63.
(4) سورة النساء، آية رقم 65.
(5) الرسالة للإمام الشافعى، ص83.(1/31)
عن عروة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنه حدثه: أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبى صلى الله عليه وسلم فى شراج الحرة التى يسقون بها النخل، فقال الأنصارى: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: « اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك »، فغضب الأنصارى فقال: أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: « اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر »، فقال الزبير: والله إنى لأحسب هذه الآية نزلت فى ذلك: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (1).
قال الإمام النووى: قال العلماء: لو صدر مثل هذا الكلام الذى تكلم به الأنصارى اليوم من إنسان من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى هوى، كان كفرًا، وجرت على قائله أحكام المرتدين فيجب قتله بشرطه.
قالوا: وإنما تركه النبى صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان فى أول الإسلام، يتألف الناس ويدفع بالتى هى أحسن، ويصبر على أذى المنافقين ومن فى قلبه مرض.
قال القاضى: وحكى الداودى أن هذا الرجل الذى خاصم الزبير، كان منافقًا، وقوله فى الحديث ( أنه أنصارى ) لا يخالف هذا، لأنه كان من قبيلتهم لا من الأنصار المسلمين.
وذكر الإمام النووى فى سبب نزول هذه الآية غير ذلك، وقال ابن جرير: يجوز أنها نزلت فى الجميع – والله أعلم –(2).
(2) منزلة السنة المطهرة من القرآن الكريم، وقد سبق الحديث عنها تحت عنوان علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم.
(
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب الشرب والمساقاة – باب سكر الأنهار، 3/146،145 " واللفظ له ".
وأخرجه مسلم، كتاب الفضائل – باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ، 4/1830،1829.
قال الإمام النووى: أما قوله " أن كان ابن عمتك ؟ " فهو بفتح الهمزة، أى فعلت هذا لكونه ابن عمتك.
(2) صحيح مسلم بشرح النووى، 15/109،108.(1/32)
3) خوف الصحابة من كتمان العلم: لقد أمر الله تعالى المسلمين بتبليغ العلم، وأنه لابد من وجود مجموعة من الناس – تتحقق بهم الكفاية – تقوم بهذا الواجب بعد أن تكون قد تأهلت لذلك، وإلا أثم المسلمون جميعًا.
وهذه المجموعة المتأهلة للقيام بهذا الواجب، يكون تبليغ العلم وتعليمه فى حقهم واجب.
قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (1).
لقد ذم الله تعالى كاتم العلم فى كتابه الكريم، وتوعده بالعذاب الأليم والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى.
قال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (2).
لقد أخبر تعالى أنه أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب من قبلنا أن يبلغوه للناس ولا يكتمونه، فلم يقوموا بواجبهم، فذمهم لذلك محذرًا المسلمين أن يسلكوا سبيلهم فيصيبهم ما أصابهم.
قال الله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } (3)
__________
(1) سورة التوبة، آية رقم 172.
(2) سورة البقرة، آية رقم 159، 160.
(3) سورة آل عمران، آية رقم 187.(1/33)
لقد أُمر النبى صلى الله عليه وسلم بتبليغ العلم وحض عليه ورغب فيه بشتى الوسائل، ودعا لمن يقوم بهذه المهمة، وتوعد من يكتم العلم بالعذاب الأليم، كما توعد من يكذب عليه بالعذاب الأليم فى نار جهنم.
عن عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار »(1).
عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه »(2).
عن عبد الرحمن بن أبى بكرة عن أبيه: ذكر النبى صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره، وأمسك إنسان بخطامه – أو بزمامه – قال: « أى يوم هذا ؟ » فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: « أليس يوم النحر ؟ »، قلنا: بلى، قال: « فأى شهر هذا ؟ » فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: « أليس بذى الحجة ؟ »، قلنا: بلى، قال: « فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه »(3).
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب أحاديث الأنبياء – باب ما ذكر عن بنى إسرائيل، 4/207.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب العلم – باب فضل نشر العلم، 3/322.
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما جاء فى الحث على تبليغ السماع، قال أبو عيسى: حديث زيد بن ثابت حديث حسن، 5/34،33.
وأخرجه الترمذى من حديث عبد الله بن مسعود، نفس الكتاب والباب السابق، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، 5/34.
(3) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : « رب مبلغ أوعى من سامع »، 1/26.
وأخرجه البخارى فى غير هذا الموضع، راجع أطراف حديث رقم67، فتح البارى، 1/190.(1/34)
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة »(1).
فأنت ترى فى هذا الحديث الشريف أن النبى صلى الله عليه وسلم يتوعد كاتم العلم بالعذاب الأليم المخزى فى نار جهنم، لأنه بكتمانه للعلم يصير مضيعًا له حاجبًا نور الله وهدايته عن الناس متسببًا فى شقائهم وإعناتهم فى الدنيا والآخرة.
قال الإمام النووى: ومن آداب تعليمه، اعلم أن التعليم هو الأصل الذى به قوام الدين وبه يؤمن إمحاق العلم، فهو من أهم أمور الدين، وأعظم العبادات، وآكد فروض الكفايات.
قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } (2)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكتُمُونَ مَآ أَنزَلنَا } (3)، وفى الصحيح من طرق أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « ليبلغ الشاهد منكم الغائب »(4)، والأحاديث بمعناه كثيرة، والإجماع منعقد عليه(5).
وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يعتذر عن إكثاره من الرواية، ولولا خوفه من وعيد الله تعالى للكاتمين للعلم، ما حدّث بحديث.
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم – باب كراهية منع العلم، 3/321.
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما جاء فى كتمان العلم، قال أبو عيسى: حديث أبى هريرة حديث حسن، 5/19.
(2) سورة آل عمران، آية رقم 187.
(3) سورة البقرة، آية رقم 159.
(4) سبق تخريجه.
(5) المجموع للنووى، المقدمة – باب آداب المعلم، 1/50.(1/35)
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر، والله الموعد، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه، وسأخبركم عن ذلك إن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضيهم، وإن إخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنى فأشهد إذا عابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: « أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا ثم يجمعه إلى صدره فإنه لن ينس شيئًا سمعه » فبسطت بردة علىّ حتى فرغ من حديثه ثم جمعتها إلى صدرى، فما نسيب بعد ذلك اليوم شيئًا حدثنى به، ولولا آيتان أنزلهما الله فى كتابه، ما حدّثت شيئًا أبدًا: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } (1) إلى آخر الآيتين(2).
لقد قيض الله تعالى فى كل عصر ومصر، من يقوم بهذه المهمة العظمى، وهى مهمة تبليغ العلم وتعليمه على خير وجه.
فالعلماء يحافظون للأمة الإسلامية – بعد توفيق الله تعالى – على مصدر عزها وسعادتها فى الدنيا والآخرة وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة، وذلك بتوريث الإسلام للأجيال من بعدهم.
فالعلماء هم أمناء الله على وحيه، الزائدين عن حياض الإسلام العظيم، المبينين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، الداعين إلى الله تعالى على بصيرة.
(4) حرص الصحابة على أنفسهم: فلقد أراد الصحابة – بتبليغ الكتاب والسنة كما سمعوه إلى من بعدهم – ألا تنقطع أعمالهم بموتهم، بل تضاعف لهم الحسنات ما بقى فى الدنيا قرآن يتلى وسنة تتبع.
__________
(1) سورة البقرة، آية رقم 159، 160.
(2) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب حفظ العلم، 1/40.
= وأخرجه مسلم، كتاب الفضائل – باب فضل أبى هريرة رضي الله عنه ، صحيح مسلم بشرح النووى، 16/54،53 " واللفظ له ".(1/36)
عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا »(1)
(5) قيام الصحابة بواجبهم نحو إخوانهم: فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم قد شرفهم الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وشاهدوا التنزيل، وسمعوا أقوال رسولهم، وشاهدوا أعماله وتقريراته، إلى غير ذلك، فإنهم رأوا أن من الواجب عليهم أن يبلغوا ما سمعوه إلى من لم يسمعه.
وكما أن الله تعالى استنقذهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، فهداهم به من الضلالة، وأخرجهم به من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
فلقد عملوا جاهدين على استنقاذ إخوانهم فى الإنسانية بتبليغهم ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، لإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ولقد عهد إليهم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، يوم أن عرفهم واجبهم نحو إخوانهم فى الإنسانية، وأن مهمتهم من مهمته صلى الله عليه وسلم ، وأنه يجب عليهم القيام بواجبهم.
ولولا قيامهم بهذا الواجب، ما برح الإسلام الجزيرة العربية، ولعدّوا مقصرين فى واجبهم، كما هو حال المسلمين اليوم.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب العلم – باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، 4/2060،2059.
وأخرجه أبو داود، كتاب السنة – باب لزوم السنة، 4/201.
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع أو إلى ضلالة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، 5/43.(1/37)
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابى فبال فى المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم: « دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء – أو ذنوبًا من ماء – فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين »(1).
(6) الالتزام بالسنة المطهرة مخرج من الفتن، عاصم من الشرور.
لقد أمرنا صلى الله عليه وسلم بلزوم سنته، وبيّن أن الالتزام بها مخرج من الفتن، عاصم من الشرور والآثام، وحذر من الابتداع فى دين الله تعالى.
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون وَوَجِلت منها القلوب، فقال قائل: يارسول الله كأن هذه موعظة مودعٍ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال: « أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشيًّا، فإِنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإِنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ »(2).
عن أبى رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى، ما وجدنا فى كتاب اللّه اتبعناه »(3).
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب الوضوء – باب صب الماء على البول فى المسجد، 1/65.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب السنة – باب فى لزوم السنة، 4/201 " واللفظ له ".
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، 5/45،44.
(3) أخرجه الإمام الشافعى، الرسالة، ص89.
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبى صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، 5/37.(1/38)
عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عنى وهو متكئ على أريكته، فيقول:
بيننا وبينكم كتاب اللّه، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما حرّم اللّه »(1).
(7) حب الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم: لقد أحب الصحابة رضي الله عنهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم حبًا صادقًا فاق حبهم حتى لأنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأموالهم، ولا أدل على ذلك مما كان يحدث فى المعارك الحربية من سترهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم بأجسامهم، حتى لا تصل إليه سهام العدو، وكان يقع الواحد منهم بعد الآخر، وما يتركونه صلى الله عليه وسلم لسهام العدو مهما اشتد وطيس المعركة، بل كان الرجل منهم يقول للنبى صلى الله عليه وسلم: نفسى دون نفسك، ونحرى دون نحرك، وما تخلف واحد من أصحابه عن نصرته والدفاع عنه صلى الله عليه وسلم مهما كلفه ذلك، ومهما بذل فى سبيل ذلك.
انظر إلى موقف أبى بكر الصديق رضي الله عنه يوم أن خرج مهاجرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفتدى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.
قال المباركفورى: ولما انتهيا إلى الغار ( أى غار ثور الذى اختبأ فيه النبى صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله عنه )، قال أبو بكر: " والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شىء أصابنى دونك "، فدخل فكسحه ووجد فى جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادخل "، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
__________
(1) أخرجه الترمذى، نفس الكتاب والباب السابق، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه، 5/38.
(2) الرحيق المختوم، ص149.(1/39)
وهذا هو أبو طلحة رضي الله عنه يدفع العدو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرميهم بالسهام، وقد أحاط برسول الله صلى الله عليه وسلم يستره من سهام العدو بجسده، وهو فى غاية الخوف والوجل عليه صلى الله عليه وسلم ، ويفتدى النبى صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، بل وبنحره، فإذا أشرف النبى صلى الله عليه وسلم ينظر العدو تودد إليه ألا يفعل ذلك خوفًا عليه من سهام العدو.
عن أنس رضي الله عنه، قال: لما كان يوم أُحد، انهزم الناس عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وأبو طلحة بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم مجوب(1) به عليه بحجفة(2) له، وكان أبو طلحة رجلاً راميًا شديد القِدِّ(3)، يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل، فيقول: انثرها لأبى طلحة فأشرف النبى صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبى الله، بأبى أنت وأمى لا تشرف يصيبك منهم من سهام القوم، نحرى دون نحرك ؛ ولقد رأيت عائشة بنت أبى بكر وأم سليم، وإنهما المشمرتان، أرى خدم سوقهما تُنقِزان القرب على متونهما، تفرغانه فى أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه فىأفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبى طلحة إما مرتين وإما ثلاثًا(4).
ولم تكن هذه حالة فردية انفرد بها بعض الصحابة دون بعض، بل إن الصحابة رضي الله عنهم جميعًا، كانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا صادقًا تضاءل معه كل حب حتى حبهم لأنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأموالهم، حتى هجروا من أجله الأهل والوطن، وضحوا بكل رخيص وغال.
__________
(1) مجوب – بفتح الجيم وكسر الواو المشددة – أى مترس عليه يقيه بها.
(2) الحجفة: الترس.
(3) شديد القد: أى شديد وتر القوس، والقد سير من جلد غير مدبوغ.
(4) أخرجه البخارى، كتاب مناقب الأنصار – باب مناقب أبى طلحة رضي الله عنه ، فتح البارى، 7/160.(1/40)
وأصدق ما يصوّر هذا الحب وأنه لم يكن حالة فردية لبعض الصحابة، ما جاء فى حديث عروة بن مسعود الثقفى رسول قريش فى الحديبية وهو يصور حال الصحابة مع نبيهم، ومدى حبهم له وتقديرهم له صلى الله عليه وسلم.
قال عروة بن مسعود الثقفى للنبى صلى الله عليه وسلم بالحديبية: أى محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإنى والله لأرى وجوهًا، وإنى لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: " امْصُصْ بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه ؟ " فقال: من ذا ؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذى نفسى بيده، لولا يد كانت لك عندى لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبى صلى الله عليه وسلم ، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبى صلى الله عليه وسلم ، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبى صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا ؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أى غُدَر، ألست أسعى فى غدرتك ؟، وكان المغيرة صحب قوما فى الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: « أما الإسلام فأقبله، وأما المال فلست منه فى شىء »، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أى قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشى، والله إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت(1/41)
فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدوا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها... الحديث(1).
فانظر – نضر الله وجهك – هل عرف التاريخ القديم أو الحديث رجلاً أحبه أصحابه وعظموه ووقروه، مثل نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قلت وبكل ثقة: لم يحدث هذا لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ، والتاريخ خير شاهد على صحة ما نقول.
وانظر إلى غيرة أبى بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم التى حملته على أن يرد على عروة بن مسعود هذا الرد القاسى الشديد مع ما عرف عن أبى بكر من رقة ولين وحلم.
وانظر إلى غيرة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه لا يقبل أن يمس عروة بن مسعود لحية النبى صلى الله عليه وسلم
وانظر إلى شهادة عروة بن مسعود وكان كافرًا – والفضل ما شهدت به الأعداء – أنه ما رأى أحدًا يعظم أحدًا ملكًا كان أو غير ملك – وقد وفد على الملوك – مثل ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا صلى الله عليه وسلم.
إن كانت هذه هى شهادة عروة بن مسعود الثقفى، وأنه ما رأى أحدًا يحب أحدًا مثل حب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد.
فهذه شهادة أخرى من أبى سفيان بن حرب، وكان آنذاك كافرًا، بأنه ما رأى أحدًا يحب أحدًا مثل حب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد، حتى فى وقت الشدة القصوى لا يضحون بنبيهم، بل ولا يتمنون له سوءًا لينجواهم، والفضل ما شهدت به الأعداء.
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب الشروط – باب الشروط فى الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، 3/254.(1/42)
قال ابن إسحاق: وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له، يقال له نسطاس، إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه. واجتمع رهط من قريش، منهم أبو سفيان بن حرب ؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أَنشُدُك الله يا زيد، أتحب محمدًا عندنا الآن فى مكانك نضرب عنقه، وأنك فى أهلك ؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس فى أهلى. قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا ؛ ثم قتله نِسطاس، يرحمه الله تعالى(1).
فإن قلت: لماذا لم يعهد هذا التعظيم والتوقير والتقدير لغير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الملوك أو غيرهم ؟
قلت لك: إن تعظيم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم ، إنما نشأ عن حب صادق استحقه المحبوب صلى الله عليه وسلم ، وأوجبه الله عليهم، إنه حب فى الله تعالى ومن أجل الله، فهو باق ببقاء سببه، والله تعالى لا يزول ولا يتغير، أما تعظيم أصحاب الملوك لملوكهم، فنشأ عن خوف وطمع فى دنياهم، تعظيم وحب مرتبط بالمصالح، وهذا حب مرتبط بسببه، فإذا زال السبب الحامل على التوقير والتعظيم، زال التوقير والتعظيم، وانقلب إلى عداوة ظاهرة، بعد أن كانت العداوة مستترة.
فإن قلت: كيف يفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأفعال التى ذكرها عروة بن مسعود: من دلكهم لوجوههم وجلودهم بنخامته صلى الله عليه وسلم ، والاقتتال على الماء الذى توضأ به والإنسان يأنف من مثل هذه الأفعال ؟
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام، باب ذكر يوم الرجيح فى سنه ثلاث، 3/126.(1/43)
قلت لك: إنه الحب الصادق، والإيمان الذى لا يخالطه شك، هو الذى يحمل صاحبه على مثل ذلك، بل يحمل صاحبه على التضحية بالنفس والولد والمال من أجل من يحبه، فإن كنت تعجب من ذلك ولا تصدق، فأقول لك: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف، أو أقول لك جرب تجد – إن شاء الله تعالى –.
إن هذا الحب المنقطع النظير، هو الذى حمل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حملاً على حفظ أقواله، وأفعاله، وصفاته الخِلقية والخُلقية، وتقريراته، وحركاته وسكناته فى النوم واليقظة، وما تركوا شيئًا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله، إلا حفظوه ونقلوه لمن بعدهم، بعد أن جعلوا له واقعًا عمليًا فى حياتهم العامة والخاصة.
ثانيًا: مظاهر اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحملاً وأداءً
سبق أن ذكرنا أسباب اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنذكر هنا – بحول الله وقوته – بعض هذه المظاهر لترى مدى اهتمامهم، والجهد الذى بذلوه من أجل المحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينتفعوا بها، وحتى يبلغوها لمن بعدهم، فمن ذلك:
(1) التناوب فى أخذ الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم فى غاية الحرص على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنهم ما استطاعوا ملازمته صلى الله عليه وسلم فى كل أحواله وأوقاته – بل إن هذا أمر مستحيل – وذلك لأنهم شغلوا بأعمال أخرى لا تقل فى الفضل عن ملازمته صلى الله عليه وسلم فلقد خرجوا مجاهدين فى سبيل الله تعالى، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من يعلم الناس الإسلام، ويقرىء الناس القرآن بل وشغلوا بمعاشهم وتحصيل حاجتهم الضرورية فعملوا بالزراعة والتجارة وغير ذلك.(1/44)
ولفرط حرصهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا غاب الواحد منهم فى سفر أو جهاد فى سبيل الله تعالى أو غير ذلك من مصالحهم الخاصة أو العامة، سأل الغائب منهم الحاضر عما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره، بل كان من شدة حرصهم، يتناوبون النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر الشاهد منهم الغائب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس رضي الله عنهم عن عمر رضي الله عنه قال: كنت أنا وجار لى من الأنصار فى بنى أمية ابن زيد، وهى من عوالى المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحى وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك... الحديث(1).
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت لنا ضيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب(2)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ليس كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن حدثنا أصحابنا، ونحن قوم لا يكذب بعضهم على بعض(3).
وكما كان الصحابة رضي الله عنهم فى غاية الحرص على أخذ الحديث وتحمله، كانوا فى غاية الحرص والأمانة على تبليغ الحديث إلى من لم يبلغه.
(
__________
(1) أخرجه البخارى " جزء حديث "، كتاب العلم – باب التناوب فى العلم، 1/33 " واللفظ له ".
وأخرجه مسلم " جزء حديث "، كتاب الطلاق – باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية، صحيح مسلم بشرح النووى، 10/86،85.
(2) أخرجه الخطيب البغدادى فى الكفاية – باب الكلام فى إرسال الحديث ومعناه وهل يجب العمل بالمرسل أم لا، ص385 " واللفظ له ".
وأخرجه ابن عدى فى كامله – باب صفة من يؤخذ عنه العلم، 1/157
(3) نفس المصدرين السابقين.(1/45)
2) الرحلة من أجل طلب الإسناد العالى وسماع الحديث ممن سمعه مباشرة، حتى لا تكثر الوسائط، وحتى نقارن المرويات ببعضها فيعرف المحفوظ من غيره.
فلقد رحل جماعة من الصحابة، وكذا التابعون ومن جاء بعدهم، إلى الأمصار الإسلامية طلبًا للإسناد العالى، ومن أجل أن يسمعوا الحديث ممن سمعه مباشرة، حتى لا تكثر الوسائط بينهم وبين النبى صلى الله عليه وسلم ، وصارت هذه سنة المحدثين فى كل عصر ومصر، فرحل المحدثون إلى سائر البلدان الإسلامية طلبًا للأسانيد العالية.
قال العلانى: لا ريب فى اتفاق أئمة الحديث قديمًا وحديثًا على الرحلة إلى من عنده الإسناد العالى.
قال البخارى – رحمه الله تعالى – ( باب الخروج فى طلب العلم ): ورحل جابر ابن عبد الله مسيرة شهر، إلى عبد الله بن أنيس فى حديث واحد(1).
قال الحافظ ابن حجر: وفى حديث جابر دليل على طلب علو الإسناد، لأنه بلغه الحديث عن عبد الله بن أنيس، فلم يقنعه حتى رحل فأخذه عنه بلا واسطة(2).
قال أبو عبد الله الحاكم: وجابر بن عبد الله، على كثرة حديثه وملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رحل إلى من هو مثله أو دونه، مسافة بعيدة فى طلب حديث واحد(3).
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والله الذى لا إله غيره ما أُنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم منى بكتاب الله تبلغه الإبل، لركبت إليه(4).
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب الخروج فى طلب العلم، صحيح البخارى، 1/29.
(2) فتح البارى، 1/210.
(3) معرفة علوم الحديث، النوع الأول: معرفة عالى الإسناد، ص9.
(4) أخرجه البخارى، كتاب فضائل القرآن – باب القراء من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ، 6/230.(1/46)
عن أبى العالية قال: كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبصرة، فلم نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم(1).
قال سعيد بن المسيب: إن كنت لأرحل الأيام والليالى فى طلب الحديث الواحد(2).
قال أيوب: قال أبو قلابة: لقد أقمت بالمدينة ثلاثًا مالى حاجة إلا رجل عنده حديث يقدم فأسمعه منه(3).
قال أبو عبد الله الحاكم: طلب الإسناد العالى سنة صحيحة، وقد رحل فى طلب الإسناد العالى غير واحد من الصحابة، ثم ذكر خروج أبى أيوب الأنصارى إلى عقبة ابن عامر رضي الله عنهم، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو عبد الله: فهذا أبو أيوب
النصارى – على تقدم صحبته وكثرة سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم – رحل إلى صحابى من أقرانه فى حديث واحد لو اقتصر على سماعه من بعض أصحابه لأمكنه(4).
قال الحافظ السخاوى: ولم يزل السلف والخلف من الأئمة يعتنون بالرحلة، والقول الذى حكاه الرامهرمزى فى الفاصل عن بعض الجهلة فى عدم جوازها، شاذ مهجور(5).
وهكذا نرى أن العلماء قد رحلوا وحثوا على الرحلة، بل واعتبروها رافعة للبلاء عن الأمة.
قال إبراهيم بن أدهم: إن الله يدفع عن هذه الأمة البلاء برحلة أصحاب الحديث(6).
قال أيوب: إنك لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره(7).
وقد استدل العلماء لما ذهبوا إليه بالآتى:
قال الله تعالى:
{
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادى فى الجامع لأخلاق الراوى – باب الرحلة فى الحديث إلى البلاد النائية، 2/225.
(2) نفس المصدر السابق، 2/226.
(3) أخرجه الخطيب فى الجامع لأخلاق الراوى – باب الرحلة فى الحديث إلى البلاد النائية، 2/227.
(4) معرفة علوم الحديث للحاكم – النوع الأول، ص5-8.
(5) فتح المغيث للسخاوى، 3/280.
(6) المرجع السابق، 3/279.
(7) جامع بيان العلم – باب الحض على استدامة الطلب والصبر على اللأواء والنصب، 1/119.(1/47)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (1)
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة »(2).
(
__________
(1) سورة التوبة، آية رقم 122.
(2) أخرجه مسلم " جزء حديث "، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار – باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، صحيح مسلم بشرح النووى، 17/21.
وأخرجه أبو داود، كتاب العلم – باب الحث على طلب العلم، 3/317
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب فضل العلم، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، 5/28.
وأورده البخارى فى ترجمة الباب بلفظ " ومن سلك طريقًا يطلب به علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة "، صحيح البخارى، كتاب العلم – باب العلم قبل القول والعمل، 1/27،26.
قال الحافظ ابن حجر: قوله: " ومن سلك طريقًا يطلب به علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة " هو من جملة الحديث المذكور، وقد اخرج هذه الجملة أيضًا مسلم من حديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة فى حديث غير هذا، وأخرجه الترمذى وقال " حسن "، ولم يقل له صحيح لأنه يقال إن الأعمش دلس فيه فقال: حدثت عن أبى صالح.
قال الحافظ: لكن فى رواية مسلم عن أبى أسامة عن الأعمش: حدثنا أبو صالح، فانتفت تهمة تدليسه، فتح البارى، 1/193.
قال الحافظ ابن حجر: قوله " طريقًا " نكرها ونكر " علمًا " ليتناول أنواع الطرق الموصلة إلى تحصيل العلوم الدينية، وليندرج فيه القليل والكثير، قوله " سهل الله له طريقًا إلى الجنة " أى فى الآخرة أو فى الدنيا بأن يوفقه للأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنة، وفيه بشارة بتسهيل العلم على طالبه، لأن طلبه من الطرق الموصلة إلى الجنة، فتح البارى، 1/193.(1/48)
3) مراجعة الصحابة لبعضهم فيما أشكل عليهم، ونزولهم على الصواب بعد المدارسة والتمحيص، فكان هدفهم الوصول إلى الصواب دون تعصب.
أخرج الإمام مسلم فى صحيحه بسنده عن ابن جريج قال: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُصّ، يَقُولُ فِى قَصَصِهِ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُباً فَلاَ يَصُمْ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (لأَبِيهِ) فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ. حَتّىَ دَخَلْنَا عَلَىَ عَائِشَةَ وَأُمّ سَلَمَةَرضي الله عنهما . فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: كَانَ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمّ يَصُومُ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتّىَ دَخَلْنَا عَلَىَ مَرْوَانَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ. فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ علَيْكَ إِلاّ مَا ذَهَبْتَ إِلَىَ أَبِى هُرَيْرَةَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلّهِ. قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ. ثُمّ رَدّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِى ذَلِكَ إِلَىَ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبّاسِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ. وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمّا كَانَ يَقُولُ فِى ذَلِكَ.(1/49)
قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا فِى رَمَضَانَ ؟ قَالَ: كَذَلِكَ: كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمّ يَصُومُ(1).
وإنما رجع أبو هريرة رضي الله عنه إلى حديث عائشة وأم سلمة، لأنهما أعلم بذلك كما صرح أبو هريرة فى نص الحديث.
تثبت الصحابة فى الحديث
إذا كان الصحابة رضي الله عنهم قد حرصوا حرصًا منقطع النظير، واهتموا اهتمامًا عظيمًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تحملاً وأداء.
ومع أنهم كانوا فى غاية الأمانة فى تبليغ ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يكذبون، وكيف يكون الظن بمن عدلهم الله تعالى وزكاهم وأثنى عليهم فى كتابه العزيز وهو العليم بحقيقة أمرهم وما انطوت عليه صدورهم، وكذلك عدلهم النبى صلى الله عليه وسلم وعرف لهم قدرهم وأخبر أنهم خير الناس على الإطلاق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا ما يصدقه واقعهم العملى رضي الله عنهم.
غير أن الإنسان – بحكم بشريته – معرض للخطأ والنسيان، ولا يكاد يسلم من الخطأ كبير أحد على الإطلاق، فهذه أمور من لوازم البشرية.
الخلفاء الراشدون
يضعون منهجًا للتثبت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصيام – باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، صحيح مسلم بشرح النووى، 7/220-223.
قال الإمام النووى: قال ابن المنذر فيما رواه عن البيهقى فى الجواب عن حديث أبى هريرة: حديث أبى هريرة منسوخ، وأنه كان فى أول الأمر حين كان الجماع محرمًا فى الليل بعد النوم، كما كان الطعام والشراب محرمًا ثم نسخ ذلك، ولم يعلمه أبو هريرة، فكان يفتى بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه، قال ابن المنذر: هذا أحسن ما سمعت فيه، صحيح مسلم بشرح النووى، 7/221.(1/50)
لقد اتجه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم إلى نقد متون السنة وتمحيصها لحرصهم على سلامة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يدخل فيه ما ليس منه، أو يحرف، وكان ذلك فى فترة مبكرة جدًا، فوضع الخلفاء الراشدون منهجًا لقبول الرواية، وكان الغاية من ذلك، إنما هو التثبت والاحتياط، خوفًا من الخطأ أوالنسيان، وحتى لا يجترئ غير الصحابة فيتقولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتوقفوا فى قبول الحديث، إذا عارض القطعى أو ما هو أثبت منه، لاستحالة أن يعارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، فالقرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل، ووكل إليه بيانه لا معارضته.
ولأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بعضه بعضًا، ومصدره واحد، فإذا وجد تعارض بين الحديث والقرآن الكريم، أو بين حديث وحديث آخر، ولم يتمكن الأئمة من دفع هذا التعارض، فإن ذلك يرجع إلى أمر خارجى، غير أنه كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد يكون بسبب خطأ الراوى أو نسيانه، أو أن الراوى اقتصر على رواية جزء من الحديث وما اقتصر على روايته له تعلق بما تركه، أو أنه روى بالمعنى فأخطأ، أو أنه غفل عن سبب ورود الحديث أو المناسبة التى قيل فيها الحديث.
ومعرفة سبب ورود الحديث أو المناسبة التى قيل فيها الحديث تعين على فهم الحديث، كما أن الوقوف على سبب نزول الآية يعين على فهمها، أو غير ذلك من الأسباب.
فطلبوا البيّنة ممن يحدث بما لا يعرفون، واحتكموا إلى صاحب الواقعة أو من يخصه الأمر، ورجعوا إليه ونزلوا على قوله لأنه أعلم بالأمر من غيره، وراجع بعضهم بعضًا، واستثبتوا من صحة الأحاديث، فما اتفق على روايته الأكثر قدموه، وكانوا متجردين لله رب العالمين، وللحق الذى أرادوه، فلم ينتصر أحد لنفسه، والله أعلم.(1/51)
وسنرى – إن شاء الله تعالى – فى هذا العرض السريع، كيف حافظ المسلمون على سنة نبيهم، وكما أنهم اهتموا بدراسة الأسانيد ونقدها، فلقد اهتموا بدراسة المتون وتمحيصها، ونقدوها كما ينبغى.
ولنذكر أمثلة يتضح من خلالها أن الاهتمام بالمتون ونقدها بدأ فى فترة مبكرة، حيث بدأ ذلك فى عهد الخليفة الراشد والإمام العادل أبى بكر الصديق رضي الله عنه.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتثبت فى الحديث
لقد وضع الخليفة الراشد والإمام العادل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجًا لقبول الحديث، فإن حدثه أحد بما لا يعرف، طلب منه البيّنة على ما يقول، وليس ذلك للشك فى الصحابى الذى يحدثه، بل من أجل التثبت والاحتياط، خوفًا من النسيان أو الخطأ الملازم للبشرية.
قال الحافظ الذهبى: كان أبو بكر الصديق أول من احتاط فى قبول الأخبار(1).
توقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه فى خبر المغيرة بن شعبة فى ميراث الجدة حتى انضم إليه محمد بن مسلمة فشهد أنه سمع ما أخبر به المغيرة بن شعبة من الرسول صلى الله عليه وسلم فأمضاه أبو بكر الصديق صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) تذكرة الحفاظ، 1/2.(1/52)
عن قَبيصَةَ بنِ ذُؤيبٍ قال: جاءتْ الجدَّةُ إلى أبى بكرٍ تسألهُ ميراثَهَا، قال لها: مالكِ في كتابِ اللهِ شىءٌ، ومالكِ في سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شىءٌ، فارجْعى حتَّى أسألَ النَّاسَ، فسألَ النَّاسَ، فقال المغيرةُ بنُ شُعبةَ: حضرتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأَعطَاهَا السُّدسَ، فقال: هل معكِ غيرُكِ ؟ فقام مُحَمَّدُ بنُ مَسلمةَ فقال مثلَ ما قال المُغيرةُ بنُ شُعبةَ، فأنفَذهُ لها أبو بكرٍ قال: ثُمَّ جاءتْ الجدَّةُ الأخرى إلى عمر بنِ الخطَّابِ تسألهُ ميراثَهَا فقال: مالكِ فى كتابِ اللهِ شىءٌ، ولكن هو ذاِكِ السُّدسُ، فإنْ اجتَمَعتُما فيهِ فهو بينكُما وأيَّتكُما خلتْ بهِ فهو لها(1).
ولم يكن ذلك شكًا فى المغيرة، أو ردًا لخبره، بل توقف إلى أن يأتى ما يؤيده ويزيده يقينًا بوجود هذا التشريع فى الإسلام، وهو إعطاء الجدة السدس، ولما كان هذا تشريعًا لم ينص عليه القرآن الكريم، كان لابد للعمل به وإقراره من زيادة فى التثبت والاحتياط، فلما شهد محمد بن مسلمة أنه سمع هذا من النبى صلى الله عليه وسلم ، لم يتردد أبو بكر فى العمل بخبر المغيرة(2).
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يطلب البيّنة ممن يحدثه بما لا يعرف
وجاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسلك مسلك سلفه الصالح أبى بكر رضي الله عنه، فطلب ممن يحدث بما لا يعرف، أن يأتى بالبيّنة على ما يقول، وإلا عوقب زيادة فى الاحتياط والتثبت، وحتى لا يجترئ غير الصحابة فيتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويدخل فى حديثه ما ليس منه.
__________
(1) أخرجه الترمذى، كتاب الفرائض – باب ما جاء فى ميزاث الجدة، 4/420.
(2) السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى، ص170.(1/53)
قال مُعَاوِيَةَ: إِيّاكُمْ وَأَحَادِيثَ، إِلاّ حَدِيثاً كَانَ فِى عَهْدِ عُمَرَ، فَإِنّ عُمَرَ كَانَ يُخِيفُ النّاسَ فِى اللهِ عز وجل(1).
قال الحافظ الذهبى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو الذى سن للمحدثين التثبت فى النقل، وربما كان يتوقف فى خبر الواحد إذا ارتاب(2).
توقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى خبر أبى موسى الأشعرى، وطلبه البيّنة على ما يقول، ولم يكن ذلك شكًا فى أبى موسى الأشعرى، ولكن من أجل الاحتياط، وحتى لا يجترئ أحد على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتقول عليه، كما صرح بذلك عمر رضي الله عنه فى رواية الإمام مالك.
عن أبى سعيد الخدرى قال: كنت فى مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن لى فرجعت، فقال: ما منعك ؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لى فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع »، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمنكم أحد سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبىّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك(3).
وفى رواية عند مسلم: فقال عمر: خفى على هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهانى عنه الصفق بالأسواق(4).
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة – باب النهى عن المسألة، صحيح مسلم بشرح النووى، 7/127.
(2) تذكرة الحفاظ، 1/6.
(3) أخرجه البخارى، كتاب الاستئذان – باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، 8/67.
وأخرجه مسلم، كتاب الأدب – باب الاستئذان، صحيح مسلم بشرح النووى، 14/130.
(4) أخرجها مسلم، نفس الكتاب والباب السابق.(1/54)
وفى رواية عند مسلم: أن أبى بن كعب قال لعمر: يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: سبحان الله، إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت(1).
وفى رواية عند الإمام مالك فى الموطأ: فقال عمر لأبى موسى: أما إنى لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وقد اتضح من الروايات السابقة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيّن السبب الذى حمله على طلب البيّنة من أبى موسى، وهو إرادة التثبت من الخبر، وحتى لا يجترئ الناس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيتقولوا عليه ليدفعوا عن أنفسهم الأذى أو ليحققوا لأنفسهم مصلحة، وليس هذا لريبة فى أبى موسى كما قال عمر له: أما إنى لم أتهمك... إلخ.
قال ابن بطال: فيؤخذ منه التثبت فى خبر الواحد، لما يجوز عليه من السهو وغيره، وقد قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبر العدل الواحد بمفرده فى توريث المرأة من دية زوجها، وأخذ الجزية من المجوس، إلى غير ذلك، لكنه يستثبت إذا وقع ما يقتضى ذلك.
قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشى أن أحدهم يختلق الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة، طلبًا للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئًا من ذلك ينكر عليه حتى يأتى بالمخرج(3).
قال الآمدى: وما ردوه من الأخبار، أو توقفوا فيه، إنما كان لأمور اقتضت ذلك، من وجود معارض، أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها فى جنسها، مع أنهم متفقون على العمل بها.
ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة، حجة، وإن جاز تركها والتوقف فيها، لأمور خارجة عنها(4).
__________
(1) هذه الروايات أخرجها مسلم، نفس الكتاب والباب السابق.
(2) أخرجه مالك فى الموطأ، كتاب الاستئذان – باب الاستئذان، 2/964.
(3) فتح البارى، 11/32.
(4) الأحكام فى أصول الأحكام، 1/177.(1/55)
قال الحافظ ابن حجر: إنما كان توقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فى خبر أبى موسى عند الارتياب، فإن أبا موسى أورد الخبر عند إنكار عمر عليه رجوعه بعد الثلاث، وتوعده، فأراد عمر الاستثبات خشية أن يكون دفع بذلك عن نفسه(1).
أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه
يثتثبت فى رواية الحديث
لقد سلك أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه مسلك سلفه الصالح، فاستحلف من يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يعرف.
قال الحافظ الذهبى عن علىّ رضي الله عنه: كان إمامًا، عالمًا، متحريًا فى الأخذ، بحيث أنه يستحلف من يحدثه بالحديث(2).
عن أسماء بن الحكم الفزارى قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعنى الله منه بما شاء أن ينفعنى، وإذا حدثنى أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لى صدقته.
قال: وحدثنى أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ما من عبد يذنب ذنبًا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له » ثم قرأ هذه الآية: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا...... } (3) إلى آخر الأية(4).
الصحابة رضي الله عنهم يقتدون
بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فى التثبت من المرويات
لقد اقتدى الصحابة رضي الله عنهم بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم – الذين أُمرنا بالاقتداء بهم – فنقدوا المتون، ومحصوا المرويات.
__________
(1) فتح البارى، 13/238، بتصرف يسير.
(2) تذكرة الحفاظ، 1/10.
(3) سورة آل عمران، آية رقم 135.
(4) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة – باب فى الاستغفار، 2/86.
وأخرجه الترمذى، كتاب تفسير القرآن – باب ومن سورة آل عمران، 5/228.(1/56)
وأصبح ذلك منهجًا متبعًا عند الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم من التابعين، لا يقبلون من كل أحد ما يحدث به، بل لابد من أن يكون الراوى عدلاً فى دينه، ضابطًا لحفظه، وأن يتثبتوا من سلامة المتن من الخطأ والنسيان. وكان الهدف فى هذه الفترة المباركة من نقد المتون وتمحيص المرويات، الخوف من الخطأ أو النسيان، أو أن يجترئ غير الصحابة فيتقولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلا فالرواة عدول يأخذ الصحابة الحديث عن بعضهم، ويأخذ التابعون عن الصحابة، وكانت الثقة متبادلة بين الصحابة رضي الله عنه ؛ وكذلك لم يكن التابعون يتوقفون فى قبول أى خبر يسمعونه من الصحابة.
أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها
تتثبت فى الحديث وتنتقد المرويات
رد عائشة رضي الله عنها عنها خبر عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهم فى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، لأنها علمت سبب ورود الحديث، والمناسبة التى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الحديث، ومعرفة سبب ورود الحديث والظروف التى قيل فيها الحديث، له دخل كبير فى فهم الحديث فهمًا صحيحًا، كمعرفة سبب نزول الآية القرآنية.
ولما لم يتذكر عمر وابنه رضي الله عنهم سبب ورود الحديث، والمناسبة التى قيل فيها الحديث، واقتصرا على رواية جزء من الحديث ظنًا أن الحديث على إطلاقه، وقد ردت عائشة رضي الله عنها ذلك إلى النسيان، أو الخطأ فى السماع، ولأن هذا الحديث يعارض القرآن الكريم.(1/57)
عن أبى موسى قال: لما أصيب عمر أقبل صهيب من منزله حتى دخل على عمر، فقام بحياله يبكى، فقال عمر: " علام تبكى ؟ أعلىّ تبكى ؟ " قال: إى والله عليك أبكى يا أمير المؤمنين، قال: " والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من يبكى عليه يعذب » "، قال: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة، فقال: كانت عائشة تقول: إنما كان أولئك اليهود(1).
عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الميت يعذب ببكاء الحى »(2).
عن عروة قال: ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم الله أبا عبد الرحمن، سمع شيئًا فلم يحفظه، إنما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة يهودى وهم يبكون عليه، فقال: « أنتم تبكون وإنه ليعذب »(3).
وفى رواية عند مسلم: لما بلغ عائشة قول عمر وابن عمر: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، قالت: إنكم لتحدثونى عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ(4).
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب الجنائز – باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : « يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه »، إذا كان النواح من سنته، 2/102.
وأخرجه مسلم، كتاب الجنائز – باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، صحيح مسلم بشرح النووى، 6/230 " واللفظ له ".
(2) أخرجه البخارى، نفس الكتاب والباب السابق.
وأخرجه البخارى، كتاب الجنائز – باب ما يكره من النياحة على الميت، 2/102.
وأخرجه مسلم فى صحيحه، نفس الكتاب والباب السابق " واللفظ له ".
(3) أخرجه البخارى، كتاب المغازى – باب قتل أبى جهل، 5/98.
وأخرجه مسلم، نفس الكتاب والباب السابق " واللفظ له ".
(4) أخرجه مسلم، نفس الكتاب والباب السابق.(1/58)
وفى رواية: أن عائشة قالت لما بلغها قول عمر فى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه: يرحم الله عمر لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، ولكن قال: « إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه »، قال: وقالت عائشة: حسبكم القرآن: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (1)، قال ابن أبى مُليكة: فوالله ما قال ابن عمر من شىء(2).
عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة وذكر لها أن عبد الله ابن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحى، فقالت عائشة: يغفر الله لأبى عبد الرحمن، أما أنه لم يكذب، ولكنه نسى أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها، فقال: « إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب فى قبرها »(3).
__________
(1) سورة الإسراء، آية رقم 15.
(2) أخرجه البخارى، كتاب الجنائز – باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : « يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه »، 2/101.
وأخرجه مسلم، نفس الكتاب والباب السابق " واللفظ له ".
(3) أخرجه البخارى، نفس الكتاب والباب السابق، 2/102،101.
وأخرجه مسلم، نفس الكتاب والباب السابق " واللفظ له ".(1/59)
قال الإمام النووى: قوله: « إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه »، وفى رواية « ببعض بكاء أهله عليه »، وفى رواية «ببكاء الحى »، وفى رواية « يعذب فى قبره بما نيح عليه »، وفى رواية « من يبك عليه يعذب »، وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهم وأنكرت عائشة ونسبتها إلى النسيان والاشتباه عليهما، وأنكرت أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك، واحتجت بقوله تعالى: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، قالت: وإنما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها، يعنى تعذب بكفرها فى حال بكاء أهليها لا بسبب البكاء(1)
__________
(1) واختلف العلماء فى هذه الأحاديث، فتأولها الجمهور على من وصى بأن يبكى عليه ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم، لأنه بسببه ومنسوب إليه، قالوا: فأما من بكى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه، فلا يعذب لقول الله تعالى: { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } .
قالوا: وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعينى بما أنا أهله ... وشقى علىّ الجيب يا ابنة معبد
قالوا: فخرج الحديث مطلقًا حملاً على ما كان معتادًا لهم.
وقالت طائفة: هو محمول على من أوصى بالبكاء والنوح، أو لم يوص بتركهما، فمن أوصى بهما أو أهمل الوصية بتركهما، يعذب بهما لتفريطه بإهمال الوصية بتركهما، فأما من وصى بتركهما فلا يعذب بهما، إذ لا صنع له فيهما، ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بتركهما، ومن أهملها عذب بهما.
وقالت طائفة: معنى الأحاديث أنهم كانوا ينوحون على الميت، ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه فى زعمهم، وتلك الشمائل قبائح فى الشرع يعذب بها، كما كانوا يقولون: يا مؤتم الولدان، ومخرب العمران، ومفرق الأخدان، ونحو ذلك مما يرونه شجاعة وفخرًا وهو حرام شرعًا.
وقالت طائفة: معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله، ويرق لهم، وإلى هذا ذهب محمد بن جرير الطبرى، وغيره.
وقال القاضى عياض – وهو أولى الأقوال –: واحتجوا بحديث فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم زجر امرأة عن البكاء على أبيها، وقال: « إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم ».
ذكره الحافظ ابن حجر فى فتح البارى " جزء حديث "، وقال: هذا طرف من حديث طويل، حسن الإسناد، أخرجه ابن أبى خيثمة، وابن أبى شيبة، والطبرانى، وغيرهم ؛ وأخرج أبو داود والترمذى أطرافًا منه، فتح البارى، 3/185 عن قيلة بنت مخرمة.
وقالت عائشة رضى الله عنها: معنى الحديث أن الكافر، أو غيره من أصحاب الذنوب، يعذب فى حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم، والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور، وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم على أن المراد بالبكاء هنا البكاء بصوت ونياحة، لا مجرد دمع العين. =
= صحيح مسلم بشرح النووى، 6/229،228 ؛ راجع أيضًا: فتح البارى، 3/183-185.(1/60)
بعض الضوابط العامة
التى وضعها الصحابة رضي الله عنهم للتثبت من صحة المتن
لقد وضع الصحابة رضي الله عنهم ضوابط لقبول الحديث، فضلاً عن الذى تقدم، فمن ذلك:
(1) الرجوع إلى صاحب العمل، أو صاحب الاختصاص، فى عمله واختصاصه، وذلك لأن عمله يوجب عليه أن يتعرف على حكمه، وانشغاله به يجعله له أضبط وأحفظ
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية، فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لأبى هريرة زرعًا(1).
قال الإمام النووى: قوله: قال ابن عمر: إن لأبى هريرة زرعًا، قال العلماء: ليس هذا توهينًا لرواية أبى هريرة، ولا شكًا فيها، بل معناه أنه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه، والعادة أن المبتلى بشىء يتقنه ما لا يتقنه غيره، ويتعرف من أحكامه ما لا يعرفه غيره.
قال النووى: والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردًا بهذه الزيادة – أى بزيادة ( أو كلب زرع ) – بل وافقه جماعة من الصحابة فى روايتها عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ولو انفرد بها لكانت مقبولة مرضية مكرمة(2).
قال الحافظ ابن حجر: ويقال إن ابن عمر أراد بذلك الإشارة إلى تثبيت رواية أبى هريرة، وأن سبب حفظه لهذه الزيادة دونه، أنه كان صاحب زرع دونه، ومن كان مشتغلاً بشىء احتاج إلى تعرف أحكامه(3).
(2) تقوية الرواية المستغربة بشهادة راو آخر بأنه سمعها، وتسليم المستغرب، حين يتثبت من الرواية بانضمام آخر.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة – باب الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه، وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك، صحيح مسلم بشرح النووى، 10/236،235.
(2) صحيح مسلم بشرح النووى، 10/236.
(3) فتح البارى، 5/9،8.(1/61)
عن نافع قال: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من تبع جنازة فله قيراط من الأجر »، فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة فسألها، فصدقت أبا هريرة، فقال ابن عمر: لقد فرطنا فى قراريط كثيرة(1)
قال الإمام النووى: معناه أنه خاف لكثرة رواياته أنه اشتبه عليه الأمر فى ذلك، واختلط عليه حديث بحديث، لا أنه نسبه إلى رواية ما لم يسمع، لأن مرتبة ابن عمر وأبى هريرة أجل من هذا(2).
الباب الثالث
كتابة السنة المطهرة
من المعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة السنة المطهرة كما أمر بكتابة القرآن الكريم، بل إن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة ما عدا القرآن الكريم فى أول الأمر، ثم أذن بعد ذلك فى الكتابة، وسنتحدث عن ذلك بالتفصيل – إن شاء الله تعالى – مبينين المراحل التى مر بها تدوين السنة المطهرة.
وقبل الحديث عن كتابة السنة المطهرة، نرى لزامًا علينا أن نتحدث أولاً عن كتابة القرآن الكريم، فهو كلام الله عز وجل الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد ؛ والمنهاج الكامل الذى ارتضاه الله لخلقه، والمصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامى، ومصدر عز المسلمين وسعادتهم فى الدنيا والآخرة.
أولاً: كتابة القرآن الكريم
من المعلوم أن النبى صلى الله عليه وسلم اتخذ للوحى كتابًا، فكان إذا نزلت عليه الآية أو الآيات من القرآن الكريم، استدعى بعض كتاب الوحى، وقال: ضعوا هذه الآية أو الآيات فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا، بين آيتى كذا وكذا.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الجنائز – باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، صحيح مسلم بشرح النووى، 7/15.
(2) صحيح مسلم بشرح النووى، 7/16،15.(1/62)
عن ابن عباس، رضي الله عنهم قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهى من المئين وإلى الأنفال وهى من المثانى فجعلتموهما فى السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ؟ قال عثمان: كان النبى صلى الله عليه وسلم مما ينزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له، ويقول له: ضعوا هذه الآية فى السورة التى يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية والآيتان، فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتهما فى السبع الطوال، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم(1).
ويستنبط من هذا الحديث ما يأتى:
1 – القرآن الكريم كتب بأمر منه صلى الله عليه وسلم ، وأشرف على ذلك بنفسه.
2 – ترتيب الآيات فى السور على ما هى عليه الآن، بتوقيف من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما تلقاه من جبريل عليه السلام ليس للنبى فى ذلك دخل.
3 – لا يجوز لأحد أن يخالف هذا الترتيب، بأن يقدم آية عن موضعها أو يؤخر آية، على هذا إجماع المسلمين سلف وخلف.
__________
(1)
( ) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة – باب من جهر بها – أى ببسم الله الرحمن الرحيم –، 1/209،208.
وأخرجه الترمذى، كتاب التفسير – باب ومن سورة التوبة، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسى عن ابن عباس، ويزيد الفارسى قد روى عن ابن عباس غير حديث، 5/273،272.
وأخرجه ابن حبان، كتاب الوحى – باب ذكر ما كان يأمر النبى صلى الله عليه وسلم بكتبة القرآن عند نزول الآية بعد الآية، الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان، 1/230.
وأخرجه الحاكم فى المستدرك، كتاب التفسير – باب بسم الله الرحمن الرحيم، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
قال الذهبى: على شرط البخارى ومسلم، 2/221.(1/63)
قال الحافظ ابن حجر: قال القاضى عياض: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هى عليه الآن فى المصحف، توقيف من الله تعالى، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم (1).
قال القرطبى: قال أبو بكر الأنبارى: فمن عمل على ترك الأثر، والإعراض عن الإجماع، ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة، لم يدر أين تقع الفاتحة لاختلاف الناس فى موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية التى فى رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن، فقد كفر به ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى(2).
إذا علم أن ترتيب الآيات فى السور على ما هى عليه الآن فى مصاحف المسلمين بتوقيف من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد أخذ الصحابة القرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وسلم على الحالة التى هو عليها الآن، فلا يجوز لمسلم أن يفسد هذا الترتيب، بأن يقدم آية عن موضعها، أو يؤخر أخرى عن موضعها متعمدًا، وإلا كفر بذلك بشرطه.
ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم فى غاية الحرص على حفظ ما يسمع من جبريل عليه السلام حتى إنه ليردد ما يسمع من جبريل عليه السلام مخافة أن يتفلت منه، فطمأنه الله على ذلك ووعده أن يجمع له القرآن الكريم فى صدره، وأن يتلوه على الوجه الذى سمعه من جبريل عليه السلام، وأن يبينه له.
قال الله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (3).
قال تعالى:
{
__________
(1) فتح البارى، 8/657.
(2) تفسير القرطبى، المقدمة، ص54.
(3) سورة القيامة، آية رقم 16-19.(1/64)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } (1)، أى لا تعجل بالقراءة.
عن ابن عباس رضي الله عنهم فى قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج(2) من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما – فحرك شفتيه – فأنزل الله تعالى
{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال: جمعه لك فى صدرك وتقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } قال: فاستمع له وأنصت { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام استمع فإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبى صلى الله عليه وسلم كما قرأه(3).
قال الحافظ ابن حجر: كان النبى صلى الله عليه وسلم – فى ابتداء الأمر – إذا لقن القرآن نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر حتى يتمها، مسارعة إلى الحفظ، لئلا ينفلت منه شىء، قاله الحسن وغيره(4).
ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يبلغ القرآن الكريم إلى أصحابه فور نزوله، استجابة لقول الله تعالى:
{
__________
(1) سورة طه، آية رقم 114.
(2) المعالجة: محاولة الشىء بمشقة، فتح البارى، 1/40.
(3) أخرجه البخارى، كتاب بدء الوحى – باب رقم 4، فتح البارى، 1/39 " واللفظ له ".
وأخرجه مسلم، كتاب الصلاة – باب الاستماع للقراءة، صحيح مسلم بشرح النووى.
(4) فتح البارى، 1/40.(1/65)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (1).
كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن الكريم على أصحابه فى الصلاة وخارجها، وحفظه منهم جمع غفير، كما كان الصحابة يكتبون لأنفسهم نسخًا خاصة بهم.
ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام، وكان جبريل عليه السلام يأتيه فيعارضه بالقرآن الكريم، فكان كل منهما يقرأ على صاحبه، فيعلم بذلك النبى صلى الله عليه وسلم ما نسخ من القرآن الكريم.
فلما كان العام الذى قُبض فيه صلى الله عليه وسلم ، اعتكف عشرين يومًا، وعارضه جبريل عليه السلام بالقرآن مرتين.
وكانت هذه هى العرضة الأخيرة التى استقر عليها الأمر.
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم يعتكف فى كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذى قُبض فيه، اعتكف عشرين يومًا(2).
قال الحافظ ابن حجر مبيّنًا السبب فى أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يومًا فى العام الذى قبض فيه: قيل السبب فى ذلك، أنه صلى الله عليه وسلم علم بانقضاء أجله، فأراد أن يستكثر من أعمال الخير ليبيّن لأمته الاجتهاد فى العمل إذا بلغوا أقصى العمل، ليلقوا الله على خير أحوالهم.
وقيل السبب فيه، أن جبريل عليه السلام كان يعارضه بالقرآن فى كل رمضان مرة، فلما كان العام الذى قُبض فيه، عارضه به مرتين، فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين(3).
__________
(1) سورة المائدة، آية رقم 67.
(2) أخرجه البخارى، كتاب الاعتكاف – باب الاعتكاف فى العشر الأوسط من رمضان، فتح البارى، 4/334.
(3) فتح البارى، 4/334.(1/66)
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: كان يَعرِضُ على النبى صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين فى العام الذى قُبض فيه، وكان يعتكف فى كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين فى العام الذى قُبض فيه(1).
عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون فى شهر رمضان، لأن جبريل عليه السلام كان يلقاه فى كل ليلة فى شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام، كان أجود بالخير من الريح المرسلة(2).
قال الحافظ ابن حجر: المعارضة مفاعلة من الجانبين، كأن كلاً منهما كان تارة يقرأ والآخر يسمع(3).
فى رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن الكريم على جبريل عليه السلام، وذلك واضح فى قوله: يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
وفى ترجمة الإمام البخارى لهذا الباب، أن جبريل عليه السلام كان هو الذى يعرض على النبى صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم.
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب فضائل القرآن – باب كان جبريل يعرض القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم ، فتح البارى، 8/660.
قال الحافظ ابن حجر: قوله: " كان يعرض على النبى صلى الله عليه وسلم " كذا بضم أوله " أى بضم أول الفعل يُعرض " على البناء للمجهول، وفى بعضها بفتح أوله " أى ببناء الفعل يَعرِضُ للمعلوم " بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل عليه السلام، صرح به إسرائيل فى روايته عن أبى حصين، أخرجه الإسماعيلى، ولفظه: " كان جبريل عليه السلام يعرض على النبى صلى الله عليه وسلم القرآن فى كل رمضان "، إلى هذه الرواية أشار المصنف فى الترجمة، فتح البارى، 8/662.
(2) أخرجه البخارى، كتاب فضائل القرآن – باب كان جبريل عليه السلام يعرض القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم ، فتح البارى، 8/660،659.
(3) فتح البارى، 8/660.(1/67)
قال الحافظ ابن حجر: وتقدم فى بدء الوحى ( أى حديث ابن عباس ): وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن(1).
فيحمل على أن كلاً منهما كان يعرض على الآخر(2).
قال الحافظ ابن حجر: قال الإمام النووى: فيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن الكريم كان فى شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان فى رمضان – كما ثبت من حديث ابن عباس – فكان جبريل عليه السلام يتعاهده فى كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذى توفى فيه، عارضه به مرتين – كما ثبت فى الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها –(3).
عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة رضي الله عنها قالت: أسر إلىّ النبى صلى الله عليه وسلم: « أن جبريل عليه السلام كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى، وإنك أول أهل بيتى لحاقًا بى »، فبكيت، فقال: « أما ترضين أن تكونى سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين »، فضحكت لذلك(4).
فلقد اجتمع للقرآن الكريم وسيلتان للحفظ:
أولاً: الحفظ فى السطور:
وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة القرآن الكريم، وأشرف على ذلك بنفسه، وما انتقل النبى صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، إلا والقرآن من أوله إلى آخره مدون فى وسائل التدوين المعروفة آنذاك، حسب ما استقر عليه الأمر فى العرضة الأخيرة التى كانت قبل موته بقليل.
ثانيًا: الحفظ فى الصدور:
__________
(1) صحيح الإمام البخارى، كتاب بدء الوحى – باب رقم 6، فتح البارى، 1/40.
(2) فتح البارى، 8/660.
(3) فتح البارى، 1/41.
(4) أخرجه البخارى " جزء حديث "، كتاب المناقب – باب علامات النبوة فى الإسلام، فتح البارى 6/726
وأخرجه البخارى، كتاب فضائل القرآن – باب كان جبريل عليه السلام يعرض القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم ، فتح البارى، 8/659.(1/68)
لقد قام النبى صلى الله عليه وسلم بتبليغ القرآن إلى أصحابه فور نزوله، وقرأه عليهم فى الصلاة وفى خارج الصلاة، وحفظ القرآن الكريم فى حياته صلى الله عليه وسلم جمع غفير من الصحابة، كما هو معروف فى بابه، فالصحابة جميعًا أخذوا القرآن الكريم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، كما كان الصحابة يكتبون القرآن لأنفسهم أيضًا.
وظل الأمر على ذلك الحال فى حياته صلى الله عليه وسلم ، وصدرًا من خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه القرآن مدوّن فى السطور، محفوظ فى صدور الصحابة رضي الله عنهم، خاصة أنهم يعلمون قدر القرآن الكريم، وأنه كلام الله تعالى، وأنه يتعبد بتلاوته، ويثاب على قراءته الثواب العظيم، وأنه مصدر عز الأمة وكرامتها، فهو المنهاج الذى ارتضاه الله لها.
ظل الأمر على ذلك الحال، إلى أن قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه المرتدين ومانعى الزكاة، ولما اشتد القتل بقرّاء القرآن الكريم فى معركة اليمامة، أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبى بكر الصديق رضي الله عنه أن يجمع القرآن المكتوب بين دفتى كتاب واحد، حتى لا يضيع منه شىء بموت حفاظه، غير أن أبا بكر الصديق وجد فى نفسه حرجًا من ذلك، لأنه كيف يقدم على عمل لم يعمله النبى صلى الله عليه وسلم ، ثم شرح الله صدره لما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورأى الخير فى ذلك.
وكان الغرض من جمع المكتوب بين دفتى كتاب واحد، حتى لا يضيع شىء من القرآن بموت حفاظه، وكان هذا فى مرحلة مبكرة جدًا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم مباشرة.(1/69)
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلىّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: " إن عمر أتانى فقال: إن القتل قد استحر(1) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإنى أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن "، قلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر: " هذا والله خير "، فلم يزل عمر يراجعنى حتى شرح الله صدرى لذلك، ورأيت فى ذلك الذى رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: " إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه "، فوالله لو كلفونى نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علىّ مما أمرنى به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: " هذا والله خير " لم يزل أبو بكر يراجعنى، حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدر أبى بكر وعمر رضي الله عنهم، فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُبِ(2)، واللِّخاف(3)، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبى خزيمة الأنصارى، لم أجدها مع أحد غيره { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } حتى خاتمت براءة، فكانت الصحف عند أبى بكر، حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه(4).
الغرض من الجمع فى عهد أبى بكر الصديق رضي الله عنه:
__________
(1) استحر القتل: أى اشتد وكثر.
(2)
( ) العسب: هو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون فى الطرف العريض، وقيل هو الطرف العريض الذى لم ينبت عليه الخوص.
(3) اللخاف: هى الحجارة الرقاق، وقيل صحائف الحجارة الرقاق، وقيل هى الآنية التى تصنع من الطين المشوى.
(4) أخرجه البخارى، كتاب فضائل القرآن – باب جمع القرآن، فتح البارى، 8/627.(1/70)
لقد قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بجمع المكتوب فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم بين دفتى كتاب واحد، بعد معركة اليمامة، حتى لا يضيع شىء من القرآن بموت شيوخ الصحابة الجامعين للقرآن الكريم، وهذا قد تم فى فترة مبكرة جدًا من خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه.
فلما كانت خلافة عثمان رضي الله عنه، ودخل كثير من الأعاجم فى الإسلام، وقع اختلاف بين المسلمين فى القراءة، فهب عثمان رضي الله عنه فور علمه بذلك، فنسخ من المصحف الإمام الذى كتب فى خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أنذاك عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه عدة نسخ، وأمر بتوزيعها على الأمصار الإسلامية، لجمع الناس على قراءة واحدة، وحرق ما عداها.
عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأزربجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان رضي الله عنه إلى حفصة، أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها فى المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان رضي الله عنه، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها فى المصاحف، وقال عثمان رضي الله عنه للرهط القرشيين الثلاثة: " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم "، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف رد عثمان رضي الله عنه الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحف أن يحرق(1).
وقد حفظت الصحف التى جمع فيها القرآن الكريم عند أبى بكر الصديق رضي الله عنه طول حياته، حتى توفاه الله عز وجل.
__________
(1) نفس المرجع السابق.(1/71)
ثم حفظت عند الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه طول حياته، فلما توفاه الله، حفظت عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر، لأنها كانت وصية عمر رضي الله عنه، واستمرت عندها حتى طلبها أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه لينسخ منها النسخ التى وزعت على الأمصار الإسلامية، ليجمع الناس على قراءة واحدة.
ولما كتب المصحف بالخط العثمانى، كان لابد لمن يقرأ القرآن الكريم قراءة صحيحة، ويحفظه، أن يأخذه مشافهة عن شيخ.
وظل الأمر على ذلك الحال، إلى أن وصل إلينا الآن.
فلا يوجد قارئ للقرآن الكريم فى زمننا، إلا وأخذه عن شيخ، هذا الشيخ أخذه عن شيخ، وهكذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإسناد كل قارئ فى أى زمان، متصل بالنبى صلى الله عليه وسلم ؛ وأعداد الحفاظ تتزايد بمرور الزمن، فلا يوجد بلد بل قرية، إلا وفيها عدد من القرّاء يتحقق بهم التواتر، يستوى فى ذلك العرب وغيرهم، فالقرآن الكريم متواتر تواتر الجيل عن الجيل، وهذا أعلى أنواع التواتر.
فلقد أخذ الصحابة القرآن الكريم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وأخذه التابعون عن الصحابة، وأخذه أتباع التابعين عن التابعين، وهكذا إلى أن وصل إلينا
مما سبق يتضح أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ القرآن الكريم عن جبريل عليه السلام مشافهة فى اليقظة التامة، مع علمه التام أن الذى يخاطبه بالقرآن، إنما هو جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه السلام عارض النبى صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم مرات عديدة، وكان آخر الأمر أن عارضه بالقرآن مرتين فى العام الذى قُبض فيه صلى الله عليه وسلم.
وأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن الكريم، فور نزوله، محددًا موضع كل آية من كل سورة.(1/72)
وأن الصحابة أخذوا القرآن الكريم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم مشافهة، فقرأ النبى صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم على أصحابه فى الصلاة وخارجها، فحفظه من الصحابة جمع غفير فى حياته صلى الله عليه وسلم ، كما جمعه كثير منهم.
ولقد كتب كثير من الصحابة القرآن الكريم لأنفسهم.
فلله الحمد والمنة أن حفظ كتابنا وصانه، وما كانت أى قوة مهما عظمت تستطيع حفظ كتاب الله تعالى كما حفظه الله تعالى الغالب على أمره، قال تعالى:
{ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (1).
وتحقق بذلك وعد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم، ووعده حق وصدق، لا يتخلف أبدًا بحال من الأحوال، فإذا أراد شيئًا كان كما أراد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ؛ قال تعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (2).
ملحوظة:
قد يقول قائل: إذا كان إسناد كل قارئ بالنبى صلى الله عليه وسلم متصلاً، فإننا لا نعرف شيئًا عن عدالة رواته وضبتهم، وشرط الراوى المقبول الرواية أن يكون عدلاً فى دينه، ضابطًا لحفظه، فالجواب عن ذلك أن المتواتر
لا يسأل عن عدالة رواته وضبطهم، لأن الكثرة العددية فى كل طبقة من طبقات إسناده تفوق الحفظ، والضبط مهما كان، وتغنى عن العدالة، وتجعلنا نوثق ونجزم بنقل الكثرة هذا بالنسبة لأقل درجات التواتر.
فكيف بالقرآن الكريم، الذى تواتر تواتر الجيل عن الجيل، فنقل بأعلى درجات التواتر.
ثانيًا: كتابة السنة المطهرة
__________
(1) سورة يوسف، آية رقم 21.
(2) سورة الحجر، آية رقم 9.(1/73)
من المعلوم أن كتابة الحديث، وقع فيها خلاف بين العلماء، ما بين مجيز ومانع، وذلك يرجع إلى أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن كتابة ما عدا القرآن الكريم – أولاً – ثم أذن لهم فى الكتابة، والذى استقر عليه الأمر أخيرًا هو جواز الكتابة، وأن النهى عن كتابة ما عدا القرآن الكريم، نسخ بالإذن فى الكتابة، وكان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الإذن فى كتابة السنة المطهرة، وذلك واضح جلى، حيث إن أدلة الإذن متأخرة عن أدلة النهى، والله أعلم.
ولقد كتب بعض الصحابة رضي الله عنهم الحديث فى زمنه صلى الله عليه وسلم بإذن صريح منه، وكانت لهم صحف دوّنوا فيها ما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم ، مثل: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، بل إن النبى صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يكتبوا لمن لم يستطع الكتابة، فأمرهم أن يكتبوا لأبى شاة.
بل هم النبى صلى الله عليه وسلم أن يكتب لأصحابه كتابًا فى مرض موته، وكتب بعض الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم لأنفسهم.(1/74)
ولقد كتب الأئمة الأعلام الحديث، وصنفوا فى ذلك المصنفات الكثيرة التى لا تحصى، وهم أعلم الناس بهذه المسألة وما ورد فيها من إذن ونهى، ولولا أن وفق الله تعالى الأئمة – رحمهم الله تعالى – لكتابة السنة المطهرة فى فترة مبكرة، لضاعت وما عثر على حديث واحد صحيح، فضلاً عن هذه المصنفات التى تحوى هذا الكنز العظيم الذى ورثته الأمة المسلمة عن رسولها صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف كان يحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث الشريفة، مع تباعد الزمان، ونزول الأسانيد، وكثرة مشاغل الناس، وفتور الهمم عن الحفظ بدون تدوين، إن هذا الأمر شاق جدًا أو مستحيل، مع أنه كان محتملاً فى زمن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، بغض النظر عما تعرضت له الأمة المسلمة من بلاء ومحن على مر العصور، وأراد المبتدعة والزنادقة القضاء على السنة المطهرة، فهى السلاح الثانى بعد القرآن الكريم الذى واجههم به أهل السنة والجماعة، فلو لم تدوّن لوجدوا الفرصة سانحة للتشكيك فى السنة وإبطال حجيتها، وإذا كانت السنة قد دوّنت، وبذلت جهود لا توصف من أجل المحافظة عليها، ولم تسلم من هؤلاء المغرضين الذين فى قلوبهم مرض فى كل عصر ومصر، فهم يشككون فى السنة المطهرة، وهدفهم الأكبر هو إبطال العمل بالقرآن الكريم، وجعله كتابًا غير قابل للتطبيق، وأنه كتاب يتبرك به، وبذلك يُنحى الإسلام العظيم من حياة الناس، ليشقى المسلمون فى الدنيا والآخرة بإعراضهم عن منهج الله تعالى شقاء ليس بعده شقاء.
إن آفة النسيان متسلطة على بنى آدم، وهى آفة العلم، وإذا كان الله عز وجل - والنسيان عليه مستحيل – قد أخبرنا فى كتابه الكريم: أنه يكتب ألا نأخذ الدرس ونقتدى بالله عز وجل ؟!!(1/75)
عن أبى هلال قال: قالوا لقتادة: نكتب ما نسمع منك ؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد اخبر اللطيف الخبير أنه يكتب، فقال: { قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } (1).
فلله الحمد والمنة، أن دونت السنة المطهرة فى فترة مبكرة جدًا فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وبإذن صريح منه صلى الله عليه وسلم.
ولقد هيأ الله تعالى للسنة المطهرة فى كل عصر ومصر رجالاً أبرارًا صالحين، بذلوا النفس والنفيس فى سبيل المحافظة على السنة المطهرة، وتحملوا فى سبيل ذلك ما تحملوا جزاهم الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
مراحل تدوين السنة المطهرة
مر تدوين السنة المطهرة بعدة مراحل، نذكرها فيما يأتى:
1 – مرحلة النهى عن كتابة السنة.
2 – مرحلة الإذن فى كتابة السنة المطهرة ( مرحلة التدوين الفردى ).
3 – مرحلة التدوين الرسمى على يد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
4 – مرحلة ظهور المصنفات الحديثية.
5 – مرحلة التصنيف فى الحديث الصحيح المجرد.
وسوف نتحدث عن كل مرحلة بشىء من التفصيل – إن شاء الله تعالى –.
أولاً: مرحلة النهى عن كتابة السنة المطهرة
وردت أحاديث مرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، وأخرى موقوفة على الصحابة ومقطوعة، وفيها النهى عن كتابة غير القرآن الكريم، وأصح ما ورد فى النهى عن ذلك حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه.
عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب علىّ – قال همام: أحسبه قال: متعمدًا – فليتبوأ مقعده من النار »(2).
__________
(1) أخرجه الرامهرمزى فى المحدث الفاصل، باب الكتاب، ص372، فقرة 340 ؛ والآية الكريمة من سورة طه، آية رقم 52.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الزهد – باب التثبت فى الحديث وحكم كتابة العلم، صحيح مسلم بشرح النووى، 18/129 " واللفظ له ".(1/76)
ثانيًا: مرحلة الإذن فى كتابة السنة المطهرة
( مرحلة التدوين الفردى )
إذا كان قد وردت أحاديث فى النهى عن كتابة السنة المطهرة، فلقد وردت أحاديث مرفوعة وغير مرفوعة فى الإذن فى كتابة السنة المطهرة.
ومن أقوى ما استدل به العلماء لجواز كتابة السنة المطهرة ما يأتى:
1 – عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: لما اشتد بالنبى صلى الله عليه وسلم وجعه، قال: « ائتونى بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده ».
قال عمر: إن النبى صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: « قوموا عنى، ولا ينبغى عندى التنازع »، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه(1).
فى هذا الحديث، دليل على جواز كتابة الحديث، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم هَمّ أن يكتب لأمته كتابًا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهمّ إلا بحق(2).
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب كتابة العلم، فتح البارى، 1/251 " واللفظ للبخارى ".
وأخرجه مسلم، كتاب الوصية – باب ترك الوصية لمن ليس له شىء يوصى فيه، 3/1259.
(2) فتح البارى، 1/253.(1/77)
2 – عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله على رسوله مكة، قام فى الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: « إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلى، وإنها أحلت لى ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد من بعدى، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد. ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يفدى وإما أن يقيد »، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: « إلا الإذخر »، فقام أبو شاة – رجل من أهل اليمن – فقال: اكتبوا لى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اكتبوا لأبى شاة »، قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لى يا رسول الله ؟ قال: هذه الخطبة التى سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
ويستنبط من هذا الحديث ما يأتى:
- جواز كتابة الحديث الشريف، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يكتبوا لأبى شاة خطبته صلى الله عليه وسلم التى سمعها منه، ولو لم تكن الكتابة جائزة، ما أمرهم بالكتابة، بل لنهاهم عنها.
- الإذن فى كتابة السنة المطهرة، كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب كتابة العلم، 1/39.
وأخرجه البخارى، كتاب اللقطة – باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، 3/165،164، واللفظ المذكور من كتاب اللقطة، القائل للأوزاعى هو الوليد بن مسلم أحد رواة الإسناد، كما نص على ذلك فى إسناد هذا الحديث، فتح البارى، 1/249.
وأخرجه مسلم، كتاب الحج – باب تحريم مكة وتحريم صيدها.. إلخ، صحيح مسلم بشرح النووى، 9/118.(1/78)
3 – عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتنى قريش، وقالوا تكتب كل شىء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: « أكتب، فوالذى نفسى بيده ما خرج منه إلا حق »(1).
4 – عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله، إنى أسمع منك أشياء، أفأكتبها ؟ قال: « نعم »، قلت: فى الغضب والرضا ؟ قال: « نعم، فإنى لا أقول فيهما إلا حقًا »(2).
فى هذا الحديث إذن صريح من النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو أن يكتب حديثه.
5 – عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: ما من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه منى، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب(3).
__________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب العلم – باب فى كتابة العلم، 3/318.
وأخرجه أحمد، 2/192.
وأخرجه الدارمى، المقدمة – باب من رخص فى كتابة العلم، 1/103. =
= وأخرجه الرامهرمزى، رقم 321، ص366.
وأخرجه الحاكم فى المستدرك، كتاب العلم – باب قيدوا العلم بالكتاب، 1/106،105.
(2) أخرجه أحمد، 2/207، 2/215، واللفظ المذكور من 2/215.
وأخرجه الرامهرمزى فى المبحث الفاصل، باب الكتاب، ص364، رقم 316.
(3) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب كتابة العلم، فتح البارى، 1/249.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى –: هذا استدلال من أبى هريرة على ما ذكره من أكثرية ما عند عبد الله بن عمرو بن العاص على ما عنده، ويستفاد من ذلك: أن أبا هريرة كان جازمًا بأنه ليس فى الصحابة أكثر حديثًا عن النبى صلى الله عليه وسلم منه إلا عبد الله، مع أن الموجود المروى عن عبد الله بن عمرو، أقل من الموجود المروى عن أبى هريرة بأضعاف مضاعفة، فإن قلنا إن الاستثناء منقطع،، فلا إشكال، إذ التقدير لكن الذى كان من عبد الله هو الكتابة لم يكن منى سواء لزم منه كونه أكثر حديثًا لما تقتضيه العادة أم لا، وإن قلنا الاستثناء متصل فالسبب فيه من جهات " أى فى كون أبى هريرة أكثر حديثًا من عبد الله مع أن عبد الله كان يكتب " أحدها: أن عبد الله كان مشتغلاً بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلّت الرواية عنه، ثانيها: أنه كان أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار بمصر أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إليهما ممن يطلب العلم، كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصديًا فيها " أى فى المدينة " للفتوى والتحديث إلى أن مات، ويظهر هذا من كثرة من حمل عن أبى هريرة، فقد ذكر البخارى أنه روى عنه ثمانمائة نفس من التابعين، ولم يقع =
= هذا لغيره، ثالثها: ما اختص به أبو هريرة من دعوة النبى صلى الله عليه وسلم له بأن لا ينسى ما يحدثه به، رابعها: أن عبد الله كان قد ظفر فى الشام بحمل جمل من كتب أهل الكتاب، فكان ينظر فيها، ويحدث منها، فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من أئمة التابعين، والله أعلم، فتح البارى 1/250.(1/79)
6 – عن أبى جحيفة قال: قلت لعلىّ: هل عندكم كتاب ؟ قال لا إلا كتاب الله أوفهم أعطيه رجل مسلم، أو ما فى هذه الصحيفة، قال: قلت: فما هذه الصحيفة ؟ قال العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر(1).
__________
(1) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب كتابة العلم، 1/38.
المراد بعلىّ هو على بن أبى طالب رضي الله عنه ، قوله: " هل عندكم " الخطاب لعلى، والجمع إما لإرادته مع بقية أهل البيت أو للتعظيم، قوله: " كتاب " أى مكتوب أخذتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه، ويدل على ذلك رواية المصنف فى الجهاد: " هل عندكم شىء من الوحى إلا ما فى كتاب الله "، وله فى الديات: " هل عندكم شىء مما ليس فى القرآن "، وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك، لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت – لاسيما عليًّا – أشياء من الوحى خصهم النبى صلى الله عليه وسلم بها لم يطلع غيرهم عليها، وقد سأل عليًّا عن هذه المسألة أيضًا قيس بن عباد والأشتر النخعى، وحديثهما فى مسند النسائى، قوله: " لا " زاد المصنف فى الجهاد: " لا والذى فلق الحبة وبرًا النسمة "، قوله: " إلا كتاب الله " هو بالرفع " أى الكتاب "، قال ابن المنير: فيه دليل على أنه كان عنده أشياء مكتوبة من الفقه المستنبط من كتاب الله، وهى المراد بقوله: " فهم أعطيه رجل " لأنه ذكره بالرفع، فلو كان الاستثناء من غير الجنس لكان منصوبا كذا قال، والظاهر أن الاستثناء فيه منقطع، والمراد بذكر الفهم إثبات إمكان الزيادة على ما فى الكتاب، وقد رواه المصنف فى الديات بلفظ: " ما عندنا إلا ما فى القرآن إلا فهمًا يعطى رجل فى " الكتاب " فالاستثناء الأول مفرغ، والثانى منقطع معناه لكن إن أعطى الله رجلاً فهمًا فى كتابه فهو يقدر على الاستنباط فتحصل عنده الزيادة بذلك الاعتبار، وقد روى أحمد بإسناد حسن من طريق طارق بن شهاب قال: شهدت عليًّا على المنبر وهو يقول: " والله ما عندنا كتاب نقرؤه عليكم إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة " وهو يؤيد ما قلناه إنه لم يرد بالفهم شيئًا مكتوبًا، قوله: " الصحيفة " أى الورقة المكتوبة، وللنسائى من طريق الأشتر: فأخرج كتابًا من قراب سيفه، قوله: " العقل " الدية، وإنما سميت الدية بالعقل لأنهم كانوا يعطون فيها الإبل ويربطونها بفناء دار المقتول بالعقال وهو الحبل، ووقع فى رواية ابن ماجه بدل العقل " الديات "، والمراد أحكامها ومقاديرها وأصنافها، قوله: " وفكاك " بكسر الفاء وفتحها، قال =
= الفراء: الفتح أفصح، والمعنى: أن فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب فى ذلك، قوله: " ولا يقتل مسلم بكافر " عطف الجملة على المفرد، لأن التقدير فيها – أى الصحيفة – حكم العقل، وحكم تحريم قتل المسلم بكافر، ووقع للمصنف ومسلم من طريق يزيد التيمى عن علىّ قال: " ما عندنا شىء نقرؤه إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة، فإذا فيها المدينة حرام.. " الحديث ولمسلم عن أبى الطفيل عن علىّ: " ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء لم يعم به الناس كافة، إلا ما فى قراب سيفى هذا "، وأخرج صحيفة مكتوبة فيها لعن الله من ذبح لغير الله.. الحديث، وللنسائى من طريق الأشتر وغيره عن علىّ: فإذا فيها " المؤمنون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم.. " الحديث، ولأحمد من طريق طارق بن شهاب: " فيها فرائض الصدقة "، والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة، وكان جميع ذلك مكتوبًا فيها، فنقل كل واحد من الرواة عنه ما حفظه، والله أعلم، فتح البارى 1/247.(1/80)
وفى هذا الحديث دليل على جواز كتابة السنة المطهرة، حيث كتب علىّ رضي الله عنه، ولو كان ذلك غير جائز ما فعله.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " قيدوا العلم بالكتاب "(1).
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: قيدوا هذا العلم بالكتاب(2).
ملحوظة:
تسمى هذه المرحلة من مراحل التدوين، بمرحلة التدوين الفردى، لأن من أراد أن يدون لنفسه فعل دون تدخل من الدولة.
بين أدلة النهى عن
كتابة السنة وأدلة الإذن فى الكتابة
للعلماء فى توجيه أدلة الإذن فى الكتابة، وأدلة النهى عن الكتابة اتجاهان:
أ – أدلة الإذن فى الكتابة ناسخة لأدلة النهى عن الكتابة.
ب – الجمع بين أدلة النهى عن الكتابة وأدلة الإذن فى الكتابة.
وإليك بيان ذلك والله المستعان.
أولاً: أدلة الإذن فى الكتابة ناسخة لأدلة النهى عن الكتابة:
إن أدلة الإذن فى كتابة الحديث ناسخة لأدلة النهى عن الكتابة، وذلك لأن أدلة الإذن فى الكتابة متأخرة عن أدلة النهى، ومن المعلوم أن الدليل المتأخر ناسخ للدليل المتقدم عند عدم إمكان الجمع بين النصوص المتعارضة.
ومما يدل على أن أدلة الإذن فى الكتابة متأخرة عن أدلة النهى عن الكتابة ما يأتى:
- حديث ابن عباس: كان فى مرض موته صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأيام.
- حديث أبى شاة: كان فى فتح مكة، وكان فتح مكة فى العام الثامن من الهجرة.
- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: وفيه أن النبى صلى الله عليه وسلم أذن له فى الكتابة، وقد أسلم وهاجر بعد سنة سبع من الهجرة النبوية الشريفة(3).
- حديث أبى هريرة، وفيه أن أبا هريرة أخبر أن عبد الله بن عمرو كان يكتب.
وأبو هريرة أسلم عام خيبر فى العام السابع من الهجرة، وصحب النبى صلى الله عليه وسلم أربعة أعوام على الصحيح(4).
__________
(1) أخرجه الدارمى، المقدمة – باب من رخص فى كتابة العلم، 1/105.
(2) نفس المصدر السابق.
(3) سير أعلام النبلاء، 3/91.
(4) المرجع السابق، 2/590،589.(1/81)
والقول بالنسخ هو أقوى الأقوال وأولاها بالقبول، لقوة أدلته التى لا يجد المعارض مفر من التسليم والإذعان لها، فهى من الوضوح والظهور بحيث لا تخفى.
ولعل النبى صلى الله عليه وسلم نهاهم عن كتابة ما عدا القرآن الكريم فى أول الأمر، حين خاف اختلاط القرآن الكريم بغيره، فلما أمن النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك، وتميز أسلوب القرآن الكريم لدى الصحابة، أذن لهم فى كتابة السنة المطهرة.
قال أبو عمر بن عبد البر: من كره كتابة العلم إنما كرهه لوجهين، أحدهما: ألا يتخذ مع القرآن كتابًا يضاهى به، وثانيهما: لئلا يتكل الكاتب على ما كتب فلا يحفظ فيقل الحفظ(1).
هذا على فرض التسليم بأن حديث أبى سعيد الخدرى صحيح، ولكن يرى البعض بأنه معل بالوقف على أبى سعيد الخدرى.
قال الحافظ ابن حجر: ومنهم من أعل حديث أبى سعيد الخدرى، قال: والصواب وقفه على أبى سعيد، قاله البخارى وغيره(2).
وعلى ذلك يكون وقف الحديث على أبى سعيد الخدرى، علة قادحة فى رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يزول الإشكار أصلاً.
وقد ثبت عن كثير من الصحابة والتابعين فمن جاء بعدهم من الأئمة أنهم كتبوا الحديث وأمروا بكتابته، فدل ذلك على أنهم علموا أن أحاديث الإذن فى الكتابة ناسخة لأحاديث النهى عن الكتابة، وإلا ما استجازوا لأنفسهم أن يفعلوا أمرًا نهى عنه واستقر الأمر على النهى.
فال الدكتور/ محمد مصطفى الأعظمى: وفى ضوء دراستنا هذه نستطيع أن نقول: إن كل من نقل عنه كراهية كتابة العلم، قد نقل عنه عكس ذلك أيضًا، ما عدا شخص أو شخصين، وقد ثبتت كتابتهم أو الكتابة عنهم(3).
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، 1/83.
(2) فتح البارى، 1/251.
(3) صحائف الصحابة، ص38،37.(1/82)
قال ابن الصلاح: اختلف الصدر الأول رضي الله عنهم فى كتابة الحديث، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم وأمروا بحفظه، ومنهم من أجاز ذلك.. ثم ذكر بعض الكارهين وبعض المجوزين.. إلى أن قال: ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه فى الكتب لدرس فى الأعصر الآخرة، والله أعلم(1)
ثانيًا: الجمع بين أدلة الإذن فى الكتابة وأدلة النهى عن الكتابة:
ذهب بعض العلماء إلى الجمع بين أدلة النهى عن كتابة الحديث وأدلة الإذن فى الكتابة، بعدة وجوه، أهمها:
1 – النهى خاص بكتابة الحديث الشريف مع القرآن الكريم فى صحيفة واحدة، لئلا يختلط الحديث بالقرآن الكريم، والإذن فى كتابة الحديث فى صحيفة واحدة.
2 – النهى خاص بمن يوثق بحفظه، ويخشى اتكاله على الكتابة إذا كتب، والإباحة خاصة بمن لا يوثق بحفظه.
وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يكتبوا لأبى شاة لهذا السبب.
وسبق أن ذكرنا أن أقوى الأقوال وأولاها بالقبول هو أن أدلة الإذن ناسخة لأدلة النهى، والله المستعان.
3 – خوف النبى صلى الله عليه وسلم أن ينشغل المسلمون بالسنة عن القرآن الكريم، أو أن يتخذ المسلمون كتابًا مع كتاب الله عز وجل يضاهى به.
قال الحافظ ابن حجر فى قول البخارى – باب كتابة العلم –: طريقة البخارى فى الأحكام التى يقع فيها الاختلاف، أن لا يجزم فيها بشىء، بل يوردها على الاحتمال، وهذه الترجمة من ذلك، لأن السلف اختلفوا فى ذلك عملاً وتركًا، وإن الأمر استقر والإجماع انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشى النسيان ممن يتعين عليه تتبع العلم(2).
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح، ص77-88 ؛ راجع فى هذا الموضوع: جامع بيان العلم وفضله – باب ذكر كراهية كتابة العلم وتخليده فى الصحف، وباب ذكر الرخصة فى كتابة العلم، لترى أقوال الكارهين وأقوال المجوزين.
(2) فتح البارى، 1/246.(1/83)
ثم قال الحافظ ابن حجر: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوا حفظًا، لكن لما قصرت الهمم، وخشى الأئمة ضياع العلم، دونوه، وأول من دون الحديث ابن شهاب الأزهرى على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد(1).
قال الإمام النووى – رحمه الله تعالى – عقب حديث عتبان بن مالك: وفيه أن أنس رضي الله عنه قال: فأعجبنى هذا الحديث فقلت لابنى اكتبه فكتبه(2).
وفيه جواز كتابة الحديث وغيره من العلوم الشرعية، لقول أنس لابنه: اكتبه، بل هى مستحبة، ثم ذكر الجمع بين أدلة النهى عن كتابة الحديث وأدلة الإذن، ثم قال: وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف فى جواز كتابة الحديث، ثم اجمعت الأمة على جوازها واستحبابها، والله أعلم(3).
__________
(1)
( ) فتح البارى، 1/251، يقصد الحافظ ابن حجر أن أول من دون الحديث تدوينًا رسميًا هو الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، حين وجه الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن عبد العزيز أمره الكريم إلى ولاته بتدوين الحديث، أما كتابة الحديث فلقد كتب الصحابة أمثال عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، وكذلك دون التابعون الحديث، غير أن ذلك التدوين كان تدوينًا فرديًا، فمن أراد أن يكتب لنفسه فعل، والله أعلم.
(2) حديث عتبان بن مالك، أخرجه مسلم، كتاب الإيمان – باب جواز كتابة الحديث، صحيح مسلم بشرح النووى، 1/244.
(3) نفس المصدر السابق.(1/84)
قال الحافظ الذهبى فى ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم: وكتب الكثير بإذن النبى صلى الله عليه وسلم وترخيصه له فى الكتابة بعد كراهيته للصحابة أن يكتبوا عنه سوى القرآن، وسوغ ذلك صلى الله عليه وسلم ، ثم انعقد الإجماع بعد اختلاف الصحابة رضي الله عنهم على الجواز والاستحباب لتقييد العلم بالكتابة، والظاهر أن النهى كان أولاً، لتتوفر هممهم على القرآن الكريم وحده، وليمتاز القرآن الكريم بالكتابة عما سواه من السنن النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس، ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس، أذن فى كتابة العلم، والله أعلم(1).
قال الحافظ الذهبى: وهو دال على أن الصحابة كتبوا عن النبى صلى الله عليه وسلم بعض أقواله، وهذا علىّ رضي الله عنه كتب عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث فى صحيفة صغيرة قرنها بسيفه، وقال صلى الله عليه وسلم: « اكتبوا لأبى شاة »، وكتبوا عنه كتاب الديات، وفرائض الصدقة، وغير ذلك(2).
وكان لعبد الله بن عمرو صحيفة تسمى بالصادقة، وكانت محببة إلى قلبه، وكان يعتز بها ولا يعيرها لأحد.
عن عبد الله بن عمرو قال: ما يرغبنى فى الحياة إلا الصادقة، والوهط، فأما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الوهط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها(3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء، 3/80.
(2) نفس المصدر السابق، 3/88،87.
(3) أخرجه الدارمى، المقدمة – باب من رخص فى كتابة العلم، 1/105.
وأخرجه الرامهرمزى، فى المحدث الفاصل – باب الكتاب، ص366.
وأخرجه ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، 1/86.(1/85)
عن مجاهد قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنع علىَّ، فقلت: تمنعنى شيئًا من كتبك ؟ فقال: إن هذه الصحيفة الصادقة التى سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينى وبينه أحد، فإذا سلم لى كتاب الله وهذه الصحيفة والوهط، لم أبال ما ضيعت الدنيا(1).
قال الذهبى: الوهط: بستان عظيم بالطائف، غرم مرة على عروشه ألف ألف درهم(2).
ثالثًا: مرحلة التدوين الرسمى للسنة المطهرة
المراد بالتدوين الرسمى: أن تتولى الدولة عملية التدوين، وتشرف عليها بنفسها.
كان تدوين السنة المطهرة فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق رضي الله عنه تدوينًا فرديًا، من أراد أن يكتب لنفسه فعل، غير أن مرحلة التدوين الرسمى سبقت بعدة محاولات، كان القصد منها تدوين السنة المطهرة تدوينًا رسميًا، غير أن ذلك لم يحدث، بل ظل الأمر على ما هو عليه، من أراد أن يكتب لنفسه فعل، إلى أن جاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، فأمر بتدوين السنة تدوينًا رسميًا.
أولاً: محاولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدوين السنة.
لقد هم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يدون السنة تدوينًا رسميًا، وبعد استشارة الصحابة، واستخارة الله تعالى، رأى أن لا يفعل ذلك مخافة أن يشغل الناس بالسنة المطهرة عن القرآن الكريم، وأن يتخذ الناس كتابًا مع كتاب الله تعالى.
__________
(1) أخرجه الرامهرمزى، فى المحدث الفاصل – باب الكتاب، ص367 مختصرًا ؛ وذكره الذهبى فى ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص، سير أعلام النبلاء، 3/89، " واللفظ المذكور من السير ".
(2) سير أعلام النبلاء، 3/89.(1/86)
عن عروة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: " إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدًا "(1).
عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يحدث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب هذه الأحاديث، أو كتبها، ثم قال: " لا كتاب مع كتاب الله "(2).
ثانيًا: محاولة عبد العزيز بن مروان الأموى كتابة السنة المطهرة.
حاول عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموى، والد عمر بن عبد العزيز، أن يكتب السنة المطهرة.
عن الليث قال: حدثنى يزيد بن أبى حبيب أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى كثير بن مرة، وكان قد أدرك بحمص سبعين بدريًا.
قال الليث: وكان يُسمى الجُند المقدم، قال: فكتب إليه أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثهم إلا حديث أبى هريرة، فإنه عندنا(3).
ثالثًا: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يأمر بكتابة السنة المطهرة رسميًا.
ظل الأمر على ذلك الحال، من أراد أن يكتب لنفسه كتب، وهذه ما تسمى بمرحلة التدوين الفردى، إلى أن جاء الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه على رأس المائة الأولى من الهجرة، فوجه أمره الكريم المبارك إلى ولاته يأمرهم أن يكتبوا السنة المباركة، وأن ينشروها بين الناس، خوفًا عليها من الضياع، فنشط العلماء لذلك، وبدأوا فى جمع السنة المطهرة، وبذلك تكون قد بدأت مرحلة جديدة من مراحل التدوين فى السنة المطهرة، وهى مرحلة التدوين الرسمى على يد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، 1/78.
(2) نفس المصدر السابق.
(3) سير أعلام النبلاء، 4/47،46.(1/87)
قال الإمام البخارى – رحمه الله تعالى –: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبى صلى الله عليه وسلم ، ولتفتشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًا.
قال الإمام البخارى: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار بذلك، يعنى حديث عمر بن عبد العزيز، إلى قوله " ذهاب العلماء "(1).
عن عبد الله بن دينار قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن اكتب لى بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحديث عمرة، فإنى قد خشيت دروس العلم وذهابه(2).
__________
(1) صحيح الإمام البخارى، كتاب العلم – باب كيف يقبض العلم، 1/36.
قوله: " إلى أبى بكر بن حزم " هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى، وأبو بكر تابعى استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها، ولهذا كتب إليه، قوله: " انظر ما كان " أى اجمع الذى تجد ووقع للكشميهنى " عندك " أى فى بلدك، قوله: " حدثنا العلاء " لم يقع وصل هذا التعليق عند الكشميهنى ولا كريمة ولا ابن عساكر، إلى قوله: " ذهاب العلماء "، وهو محتمل لأن يكون ما بعده ليس من كلام عمر أو من كلامه ولم يدخل فى هذه الرواية، والأول أظهر، وبه صرح أبو نعيم فى المستخرج، ولم أجده فى مواضع كثيرة إلا كذلك، وعلى ذلك فبقيته من كلام المصنف أورده تلو كلام عمر، ثم بين أن ذلك غاية ما انتهى إليه كلام عمر بن عبد العزيز – رحمه الله تعالى –، فتح البارى، 1/235،234.
(2) أخرجه الدارمى، المقدمة – باب من رخص فى كتابة العلم، 1/104.(1/88)
عن سعيد بن زياد – مولى الزبير – قال: سمعت ابن شهاب يحدث سعد بن إبراهيم: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا(1).
وإنما خص عمر بن عبد العزيز ابن شهاب بهذا الأمر، لأن ابن شهاب اهتم منذ وقت مبكر بجمع السنة النبوية، ولم يقتصر على المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل جمع الموقوف على الصحابة أيضًا.
عن صالح بن كيسان، قال: اجتمعت أنا والزهرى، ونحن نطلب العلم، فقلنا نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه، فإنه سنة، وقلت أنا: ليس بسنة، فلا نكتبه، فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيعت(2).
قال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس، وبصر عينى به ومعه ألواح أو صحف، يكتب فيها الحديث، وهو يتعلم يومئذ(3).
وعن أبى الزناد، قال: كنت أطوف أنا والزهرى ومعه الألواح والصحف، فكنا نضحك به(4).
قال معمر: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهرى حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حُملت على الدواب من خزائنه، يقول: من علم الزهرى(5).
الصحف الحديثية
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، 1/92.
(2) نفس المصدر السابق، 1/93.
(3) سير أعلام النبلاء، 5/332 ؛ جامع بيان العلم وفضله، 1/89، " واللفظ المذكور من السير ".
(4) سير أعلام النبلاء، 5/332.
(5) نفس المصدر السابق، 5/334.(1/89)
ولقد كتبت عدة صحف حديثية فى زمنه صلى الله عليه وسلم ، وبعد زمنه، وإن كانت هذه الصحف الحديثية لم تصل إلينا بعينها، إلا أن ما تحويه من أحاديث قد دون فى المصنفات الحديثية، ووصل إلينا عن طريق الرواة الذين أخذوا أحاديث هذه الصحائف رواية عن أصحابها، كما أخذت أحاديث من لم تكن لهم صحف حديثية رواية عن أصحابها، من هذه الصحف الحديثية التى دونت فى زمنه وبعد زمنه صلى الله عليه وسلم إلى زمن التدوين الرسمى:
1 – صحيفة علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه، وسبق الحديث عنها.
2 – الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وسبق الحديث عنها.
وغير ذلك من الصحف، ولسنا بصدد الحديث عن الصحف الحديثية الآن.
رابعًا: مرحلة ظهور المصنفات الحديثية
وما أن أصدر الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أمره الكريم بتدوين السنة المطهرة، حتى نشط علماء المسلمين لتلبية هذا النداء، وبدأ التصنيف فى السنة المطهرة، وبدأت المصنفات الحديثية فى الظهور.
ولسنا بصدد الحديث عن المصنفين ومصنفاتهم هنا.
أهم المصنفات الحديثية التى صنفت فى القرن الثانى الهجرى:
الموطأ للإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر أبو عبد الله الأصبحى، إمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، وتوفى سنة تسع وسبعين ومائة – رحمه الله رحمة واسعة –.
ولسنا بصدد الحديث عن الموطأ ومؤلفه.
أهم المصنفات الحديثية التى صنفت فى القرن الثالث الهجرى:
سنقتصر هنا على ذكر بعض المصنفات الحديثية التى صنفت فى القرن الثالث الهجرى، وهذا القرن هو القرن الذهبى للتصنيف فى السنة المطهرة.
1 – مصنف عبد الرزاق، للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعانى، المتوفى سنة 211هـ.
2 – مصنف ابن أبى شيبة، للإمام عبد الله بن محمد بن أبى شيبة، المتوفى سنة 235هـ.
3 – مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الله الشيبانى، المتوفى سنة 241هـ.(1/90)
4 – سنن الدارمى، للإمام عبد الله بن عبد الرحمن أبو محمد الدارمى، المتوفى سنة 255هـ.
5 – صحيح البخارى، للإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، المتوفى سنة 256هـ.
6 – صحيح مسلم، للإمام أبى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى النيسابورى، المتوفى سنة 261هـ.
7 – سنن أبى داود، للإمام أبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى، المتوفى سنة 275هـ.
8 – سنن الترمذى، للإمام أبى عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذى، المتوفى سنة 279هـ.
9 – سنن النسائى، للإمام أبى عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن على النسائى، المتوفى سنة 303هـ.
10 – سنن ابن ماجه، للإمام أبى عبد الله محمد بن يزيد، المعروف بابن ماجه القزوينى، المتوفى سنة 275هـ.
ولسنا بصدد الحديث عن هذه المصنفات وأصحابها، فهذا أمر يفصل فى موضع آخر – إن شاء الله تعالى –.
خامسًا: مرحلة التدوين فى الحديث الصحيح المجرد
كان الأئمة – قبل الإمام البخارى رحمه الله تعالى – يجمعون فى مصنفاتهم الحديثية بين الحديث الصحيح والحسن والضعيف، تاركين التمييز إلى معرفة القارئ، إلى أن جاء الإمام محمد بن إسماعيل البخارى – رحمه الله تعالى – فرأى أن يخص الحديث الصحيح بالجمع والتصنيف، فألف كتابه " الجامع الصحيح "، وجعله خاصًا بالأحاديث الصحيحة.
وبذلك يكون الإمام البخارى – رحمه الله تعالى – قد نهض بالحديث نهضة كبيرة، وخطا به خطوة واسعة جيدة، حيث ميز الحديث الصحيح من غيره، وجعل كتابه " الجامع الصحيح " خاص بالأحاديث الصحيحة.
اسم الكتاب: " الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ".
ثم تلا الإمام البخارى فى جمع الحديث الصحيح وتجريده، تلميذه النجيب: الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيرى النيسابورى – رحمه الله تعالى –، فصنف كتابه الصحيح المعروف بـ " صحيح الإمام مسلم "، وجعله خاص بالأحاديث الصحيحة.(1/91)
ولقد تلقت الأمة الإسلامية الكتابين: " صحيح الإمام البخارى " و" صحيح الإمام مسلم " بالقبول، واتفقت الأمة على أن أصح الكتب – بعد كتاب الله تعالى –:" صحيح الإمام البخارى " و" صحيح الإمام مسلم
الباب الرابع
الإسناد من خصوصيات الأمة الإسلامية
لقد خص الله الأمة الإسلامية، وميزها على سائر الأمم الأخرى، بأمور كثيرة، منها: الإسناد الذى لم يتيسر لأمة فى القديم ولا فى الحديث، فالرجل الوحيد الذى حفظت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وحركاته، وسكناته، وصفاته الخِلقية والخُلقية، حتى لكأنك تراه رأى العين، إنما هو النبى صلى الله عليه وسلم ، وما ذلك إلا لأن الله تبارك وتعالى، قد تكفل بحفظ القرآن الكريم، وصانه بنفسه من التحريف، والتبديل، والزيادة، والنقصان، وتحقق وعد الله بحفظ كتابه، قال الله تبارك وتعالى:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1)
، وسبق الحديث عن هذه القضية بالتفصيل.
ولقد كان من لوازم حفظ القرآن الكريم، أن حفظ الله سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لأن السنة المطهرة هى الشارحة والمبيّنة للقرآن الكريم، فهى التى فصّلت مجمله، وخصصت عامه، وقيدت مطلقه، فالسنة المطهرة تمثل المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم، وذلك لأن الله تعالى وكّل إلى النبى صلى الله عليه وسلم تبيين القرآن الكريم، فهو أعلم الناس بمراد الله تعالى، قال الله
تبارك وتعالى:
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (2)
، ولقد أقر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على تبيين القرآن الكريم، فهو بيان حق وصدق، ولقد كان من لوازم حفظ القرآن الكريم، أن حفظ الله السنة التى بينته، لذلك هيأ الله للسنة المطهرة من عوامل الحفظ، ما جعلها محفوظة إلى اليوم، فلله الحمد والمنّة.
__________
(1) سورة الحجر، آية رقم 9.
(2) سورة النحل، آية رقم 44.(1/92)
فلقد هيأ الله للسنة رجالاً أطهارًا أبرارًا صالحين، بذلوا النفس والنفيس، من أجل صيانة سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، والمحافظة عليها، فوضع أئمة الحديث شروطًا لقبول الرواة ومروياتهم، فوضعوا لذلك القواعد والموازين الى على أساسها يقبلون الرواة ومروياتهم – وهذه القواعد من أدق وأرقى ما عرفته البشرية – ولقد بدأ وضع هذه القواعد فى فترة مبكرة، حيث بدأ ذلك فى زمن الصحابة رضي الله عنهم، فلم يقبل العلماء من كل أحد ما حدث به، بل شرطوا لذلك أن يكون الإسناد متصلاًا بين من يحدث والنبى صلى الله عليه وسلم ، كما شرطوا أن يكون كل راو فى الإسناد ثقة، وبعد أن يثبت لديهم أن الإسناد متصل، وأن الرواة ثقات، فإنهم يتجهون إلى نقد المتن، وهل لهذا المتن معارض أقوى منه أم لا ؟ فإذا سلم المتن من الشذوذ، والعلة القادحة، صار الحديث مقبولاً، معمولاً به، كما هو معلوم فى علوم الحديث.
قال ابن حزم: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال، فيوجد فى كثير من كتب اليهود، لكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم ، بل يقفون حتى يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه.
قال: وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل، إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير فى نقل اليهود والنصارى.
قال: وأما أقوال الصحابة والتابعين، فلا يمكن لليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبى أصلاً ولا إلى تابع له، ولا يمكن للنصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص(1)
__________
(1) تدريب الراوى، 2/160،159.(1/93)
فالمسلمون ينقلون حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وكذا أقوال الصحابة، والتابعين، عن الإمام الثقة فى زمانه المشهور بالعدالة والضبط، عن مثله من أول السند حتى نهايته، ثم يبحثون أشد البحث، حتى يعرفوا الأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لشيخه من غيره، ثم بعد البحث عن الإسناد ورجاله ومعرفة أن الإسناد متصل بالثقات المتقنين، يتجهون إلى دراسة المتن، لمعرفة هل به شذوذ أو علة قادحة، فإن سلم المتن من الشذوذ والعلة القادحة، صار مقبولاً، معمولاً به.
أما غير المسلمين من اليهود والنصارى، فليس لهم إسناد إلى أنبيائهم، إنما هى صحف فى أيديهم، وقد خلطوا بها أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التى أخذوها عن أقوام مجاهيل لا يعرفون، وقد دخل هذه الكتب التحريف والتبديل، كما أخبر الله بذلك، ثم إن واقع هذه الكتب يشهد أنها ليست من عند الله، فلا تصح نسبة هذه الكتب إلى الله تعالى، لما فيها من الأباطيل المخالفة لصريح المعقول، والتى يتنزه الله عنها.
منزلة الإسناد:
ولما كانت سلامة الشريعة الإسلامية متوقفة على سلامة المصدر الثانى من مصادر التشريع الإسلامى وهو السنة المطهرة، فهى كما قلنا المبيّنة والشارحة للقرآن الكريم، وكانت سلامة السنة المطهرة متوقفة على سلامة أسانيدها، وإتقان رجالها، فلقد عنى أئمة الإسلام بالأسانيد عناية فائقة ليس لها مثيل، فاعتبروا الإسناد من الدين، والرحلة من أجله سنة مؤكدة عن سلفهم الصالح – رضى الله عن الجميع – والبحث عن رواته جرحًا وتعديلاً أمر واجب لا يفرط فيه أمين.
أخرج الحاكم بإسناده عن يزيد بن هارون قال: قلت لحماد بن زيد: يا أبا إسماعيل هل ذكر الله أصحاب الحديث فى القرآن، فقال: بلى، ألم تسمع إلى قول الله تعالى:
{(1/94)
ِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (1)
، فهذا فيمن رحل فى طلب العلم ثم رجع إلى من وراءه ليعلمهم إياه.
قال الحاكم: ففى هذا النص دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع غير المرسل(2).
عن ابن عباس رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم »(3).
قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء(4)
قال سعد بن إبراهيم: لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الثقات(5).
قال محمد بن سيرين: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم(6).
وهكذا نرى أن الأئمة قد اهتموا بالإسناد اهتمامًا بالغًا، فنظروا إليه على أنه جزء لا يتجزأ من دين الله تعالى، لتوقف سلامة الدين على سلامته، وبحثوا عن رجاله لمعرفة مدى ضبطهم، وعدالتهم، وإتقانهم، ويقظتهم، حتى لا يؤتى الإسلام من قِبَل أقوام أصابتهم غفلة الصالحين، فلا خبرة لهم بأحوال الرجال، بل يصدقون كل من يحدثهم، وإن كان هؤلاء صادقين فى أنفسهم.
قال أبو الزناد: إنى أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال ليس من أهله(7).
__________
(1) سورة التوبة، آية رقم 122.
(2) معرفة علوم الحديث – ذكر النوع الثامن من علوم الحديث، ص27.
(3) أخرجه أبو داود، كتاب العلم – باب فضل نشر العلم، 3/322،321.
وأخرجه الحاكم فى معرفة علوم الحديث – ذكر النوع الثامن من علوم الحديث، ص27.
(4) أخرجه مسلم، فى مقدمة الصحيح – باب بيان أن الإسناد من الدين، صحيح مسلم بشرح النووى، 1/87.
وأخرجه الحاكم فى معرفة علوم الحديث – النوع الأول، ص6.
(5) أخرجه مسلم، مقدمة الصحيح – نفس الباب السابق.
(6) نفس المصدر السابق.
(7) أخرجه مسلم، مقدمة الصحيح – نفس الباب السابق.(1/95)
ولقد أنكر العلماء على من لا يهتم بالأسانيد، ويذكر الحديث من غير إسناده، من هؤلاء الذين أنكروا على من يهمل الأسانيد: الإمام الجليل محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى – رحمه الله تعالى –.
أخرج الخطيب البغدادى بإسناده عن عتبة بن أبى حكيم قال: جلس إسحاق بن أبى فروة إلى الزهرى فجعل يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الزهرى: مالك قاتلك الله تحدث بأحاديث ليس لها أزمة، وروى عن غير ابن شهاب بهذا المعنى(1).
فائدة ذكر الإسناد:
لذكر الإسناد فوائد(2)
__________
(1) الكفاية فى قوانين الرواية – باب ذكر ما احتج به من ذهب إلى قبول المراسيل، ص555.
(2)
( ) يجب أن نعلم أن فائدة ذكر الإسناد إنما كانت قبل تدوين الحديث فى الكتب، حيث كان الاعتماد على الرواية، وكان الناس على علم بالأسانيد والرجال، أما بعد تدوين الحديث، وبعد أن أصبح الاعتماد على الكتب التى دونت فيها الأحاديث – حيث تؤخذ الأحاديث من كتب السنة المعروفة – وأصبح الناس لا يعرفون شيئًا عن الأسانيد والرجال، فينبغى أن نفرق بين ما يذكر لعامة الناس فى مجالس الوعظ والإرشاد، وبين ما يذكر فى دور العلم للتعلم، فليس لذكر الإسناد فائدة فى مجالس الوعظ والإرشاد لما يأتى:
أ – المخاطبون لا يعرفون شيئًا عن الإسناد ورجاله، فمن يذكر الإسناد لمن لا يعرف شيئًا عنه، يكون كمن يخاطب قومًا بلغة لا يفهمونها، أو على الأقل يذكر ما لا فائدة من ذكره.
ب – الغرض من الخطبة أو الدرس، إما إحداث رغبة، أو رهبة، فى قلب السامع لينشط لفعل الخير أو ينزجر عن فعل الشر، وهذا إنما تحدثه النصوص المتوالية، وذكر الإسناد يؤدى إلى فصل النصوص عن بعضها، فلا تحدث أثرًا فى القلب، وحتى لو كان المتحدث يتحدث فى الأحكام، فإن العامى لا يعنيه إلا أن يعرف الحكم الفقهى فقط ليطبقه فى واقع حياته، ويكفى من يعظ العوام أو يعلمهم ما يحتاجون إليه من أمور الفقه، أن يذكر درجة الحديث من الصحة أو الحسن، أو يذكر من الحديث ما يصلح للاحتجاج به فى بابه، وحتى ذكر =
= الدليل فى معرض الاحتجاج لما يقول، إنما هو لربط المخاطبين بالقرآن الكريم والسنة المطهرة فقط – وإلا فما دام أن المخاطب لم يصل بعد إلى درجة النظر فى الأدلة لاستنباط الأحكام منها – فذكر الدليل له كعدمه، إنما تذكر الأدلة لمن وصل إلى درجة النظر فى الدليل.(1/96)
كثيرة، نذكر منها ما يأتى:
1 – الوقاية من خطر الكذابين الوضاعين، وأعداء الإسلام، الذين يكيدون للإسلام والمسلمين بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخلوا فى دين الله تعالى ما ليس منه، وليشككوا المسلمين فى معتقداتهم.
قال الحاكم: فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه، لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه، بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترًا(1).
قال عبد الله بن المبارك: بيننا وبين القوم، القوائم، يعنى الأسانيد(2).
قال سفيان الثورى: الإسناد سلاح المؤمن(3).
__________
(1) جـ - قد يذكر من يعظ الناس أو يعلمهم الإسناد، حتى إذا ما وصل إلى المتن التبس عليه الأمر فيذكر متنًا آخر للإسناد الذى ذكره، أو يقدم أو يؤخر رجلاً من رجال الإسناد عن موضعه، أو يستبدل رجلاً بآخر، وهذا كله يؤدى إلى ضعف الحديث، كما يعرف ذلك المشتغلون بالحديث وعلومه، وهذا تكلف لا فائدة منه.
أما فى دور العلم، فلابد من دراسة الأسانيد، ومعرفة الرجال، لأنه لابد من وجود طائفة من العلماء - يتحقق بهم حد الكفاية – تعكف على دراسة الحديث وعلومه دراسة كافية كغيره من العلوم الإسلامية، وهذه الطائفة هم أمناء الله على حديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويجب عليهم أن يورثوا هذا العلم إلى من يأتى بعدهم، حتى لا يخلو عصر من العصور ممن يزود عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبيّنه للناس غاية البيان.
( ) معرفة علوم الحديث، ص6.
(2) أخرجه مسلم، فى مقدمة صحيحه – باب بيان أن الإسناد من الدين، صحيح مسلم بشرح النووى، 1/88 ؛ والمراد بقول عبد الله بن المبارك: " من جاء بإسناد =
= صحيح قبلنا حديثه، ومن لم يأت بإسناد صحيح رددنا حديثه وتركناه " فجعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير إسناد، كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم.
(3) تدريب الراوى، 2/160.(1/97)
2 – ذكر الإسناد، يعطى الباحث فرصة ليعرف مدى صحة الحديث، ومبلغ عدالة رواته، ومدى علمهم وإتقانهم.
عن سليمان بن موسى قال: لقيت طاوسًا فقلت: حدثنى فلان كيت وكيت، قال: إن كان صاحبك مليًا، فخذ عنه(1).
عن أبى إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقانى، قال: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، الحديث الذى جاء فيه: " إن من البر بعد البر أن تصلى لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صومك "، قال: فقال عبد الله: يا أبا إسحاق، عمن هذا ؟ قال: قلت له: هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال: ثقة عمن ؟ قال: قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة عمن ؟ قال: قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج بن دينار وبين النبى صلى الله عليه وسلم مفاوز تتقطع فيها أعناق المطى، ولكن ليس فى الصدقة اختلاف(2).
فأنت ترى أن عبد الله بن المبارك، علم ضعف الحديث، لما ذكر الإسناد، فعلم أنه غير متصل، لذلك لم يقبله، ولو لم يذكر الإسناد لم يعرف الانقطاع.
__________
(1) أخرجه مسلم، فى مقدمة الصحيح، 1/85 ؛ والمراد بقوله: " إن كان صاحبك مليًا " أى ثقة ضابطًا متقنًا يؤثق بدينه ومعرفته، ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملى بالمال ثقة بذمته.
(2) نفس المصدر السابق، 1/89،88 ؛ والمراد بقوله: " إن بين الحجاج بن دينار والنبى صلى الله عليه وسلم مفاوز.. إلخ " أن الحجاج بن دينار من أتباع التابعين، فأقل ما يمكن أن يكون بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم اثنان: التابعى، والصحابى، فلهذا قال: بينهما مفاوز أى انقطاع كثير، والمراد بهذه الحكاية: أنه لا يقبل الحديث إلا بإسناد صحيح، ومن صحته أن يكون متصلاً، وقوله: " مفاوز " جمع مفازة وهى الأرض القفر البعيدة =
= عن العمارة وعن الماء التى يخاف الهلاك فيها، قيل: سميت مفازة للتفاؤل بسلامة سالكها، كما سمّوا اللديغ سليمًا، وقيل: لأن من قطعها فاز ونجا، صحيح مسلم بشرح النووى، 1/89.(1/98)
متى بدأ البحث عن الإسناد:
لقد أخذ الصحابة رضي الله عنهم الحديث من نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وهم أعدل الناس بتعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ولقد علموا أنهم ينقلون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم دينًا يترتب على الأخذ به صلاح الدنيا، والفوز بالسعادة الأبدية فى ضيافة الرحمن الرحيم فى الجنة.
لذلك كانوا فى غاية الحرص على تبليغ أقواله، وأفعاله، وكل ما صدر منه صلى الله عليه وسلم ، إلى من لم تبلغه، خاصة وأن النبى صلى الله عليه وسلم حضهم على ذلك ورغبهم فيه، ودعا لمن يقوم بهذا الواجب، وقد سبق ذلك.
ولقد كان الصحابة فى غاية الحرص والأمانة فى تبليغ ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم ، وما كانوا يكذبون، وكيف الظن بمن عدلهم الله وزكاهم، وهو العليم بحقيقة أمرهم، ولم يكن الصحابة يشك بعضهم فى بعض، وإن كان الخلفاء الراشدون قد وضعوا منهجًا لقبول الرواية، فإنما كان الغاية من ذلك إنما هو التثبت، وحتى لا يجترئ غير الصحابة فيتقولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت الثقة متبادلة بين الصحابة رضي الله عنهم، وكذا لم يكن التابعون يتوقفون فى قبول أى خبر يسمعونه من الصحابة.(1/99)
ظل الأمر على ذلك الحال، يأخذ الصحابة عن بعضهم، ويأخذ التابعون عن الصحابة، ولم يكونوا يسألون عن الإسناد، لأن الذى يحدث إنما هو صحابى عدل فى دينه، وسواء حدّث بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، أو بما سمعه من صحابى آخر ولو لم يذكر اسمه، فالصحابة جميعًا عدول بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، فلا تضر جهالتهم العينية، وظل الأمر على ذلك الحال، إلى أن وقعت الفتنة باستشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه – بتدبير من الخاسر عبد الله بن سبأ اليهودى وأعوانه الذين هالهم انتصار الإسلام وانتشاره فأرادوا أن يكيدوا للإسلام والمسلمين – فكان أول ما فعله هذا الخاسر الماكر أن دبر المؤامرة لقتل الخليفة الراشد العادل سيدنا عثمان رضي الله عنه.
فلما وقعت الفتنة بمقتل الخليفة الراشد والإمام العادل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبدأ أهل البدع فى الظهور، وبدأ الدس والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لينصر كل مبتدع بدعته التى يدعو إليها، وليدخلوا فى دين الله ما ليس منه، وليحرفوا عقيدة المسلمين، وليشككوا الناس فى الإسلام، فلم يكن قتل عثمان رضي الله عنه هدفًا فى حد ذاته، بل كان المستهدف الأعظم هو الإسلام.
ومنذ ذلك الحين، بدأ الصحابة وكبار التابعين يبحثون عن الإسناد، ويتحرون عن الرواة ومروياتهم، ويتثبتون فى نقل الحديث، حتى لا يدخل فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه.(1/100)
عن مجاهد، قال: جاء بشير العدوى إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، مالى لا أراك تسمع لحديثى، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف(1).
قال محمد بن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم(2).
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم، فى مقدمة صحيحه – باب النهى عن الرواية عن الضعفاء، صحيح مسلم بشرح النووى، 1/82،81 ؛ والمراد بقوله: " لا يأذن لحديثه " أى لا يسمع ولا يصغى، ومنه سميت الأذن، وأصل الصعب والذلول فى الإبل، فالصعب العسر المرغوب عنه، والذلول السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه، والمعنى: لما سلك الناس كل مسلك مما يحمد ويذم، لم يقبل عن الناس إلا ما نعرف من الحديث، صحيح مسلم بشرح النووى، 1/82،81.
(2) أخرجه الإمام مسلم، فى مقدمة صحيحه – باب بيان أن الإسناد من الدين، صحيح مسلم بشرح النووى 1/84.(1/101)
ونظر الصحابة والتابعون، فوجدوا أن الإسلام أباح الكلام فى الرواة جرحًا وتعديلاً من أجل المحافظة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الإسلام قد أباح تجريح الشهود من أجل حفظ الحقوق الدنيوية من الدماء والأموال والأعراض، فهو من أجل حفظ دين الله الذى يترتب عليه صلاح الدنيا والآخرة أوجب، كما وجدوا أن النبى صلى الله عليه وسلم عدّل، وجرّح، وسن للمسلمين القول فى الناس على سبيل النصيحة، وأى نصيحة أنفع من حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدر الثانى للتشريع الإسلامى بعد القرآن الكريم.
وجاء الصحابة فسلكوا سبيل نبيهم صلى الله عليه وسلم فعدّلوا، وجرّحوا، وتثبتوا من المرويات، ومحصوها، وإن كان الكلام فى الرواة جرحًا وتعديلاً قليلاً فى هذا الزمن المبارك لقلة بواعثه.
ثم جاء التابعون من بعد الصحابة، فسلكوا طريق سلفهم الصالح، فعدّلوا، وجرّحوا، ونظروا فى المرويات، ونقدوها كما ينبغى.
وكلما تباعد الزمن، زاد العبء، وكثرت المشقة، وأصبح الأمر يتطلب جهدًا أكبر من ذى قبل، ونشط علماء الإسلام لذلك، ولم يخل عصر من الأعصر بعد ذلك من متكلم فى رواة الحديث جرحًا وتعديلاً، ومن ناقد للإسناد، متحقق ومتثبت من صحة المتون.
وأصبح المسلمون يمتلكون علمًا لم يتيسر لأمة فى القديم أو الحديث، وهو علم الرجال، أو علم الجرح والتعديل(1).
فلقد عنى المسلمون بدراسة الأسانيد، واهتموا بها اهتمامًا عظيمًا لم يسبقوا إليه ولم يلحقهم أحد فيه(2).
كما اهتموا بدراسة المتون، ونقدها، وتبيين ما يصلح للاحتجاج به، وما لا يصلح
__________
(1) راجع هذا فى كتابنا: مبحث فى الجرح والتعديل.
(2) قد أوضحنا الكلام عن الإسناد، وأنه من خصوصيات الأمة الإسلامية، ومنزلته، ومتى بدأ البحث عن الإسناد، ومظاهر عناية الأمة الإسلامية بالإسناد، فى مبحث الإسناد فى كتابنا: مباحث فى علوم الحديث.(1/102)
فالرجل الوحيد على مر العصور الذى نقلت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخِلقية والخُلقية، وحركاته، وسكناته، بالأسانيد المتصلة، والرواة الثقات، وعرضت هذه المرويات على أدق موازين النقد العلمى: هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
حتى لكأن المسلم العالم بسنته صلى الله عليه وسلم ، وما بذل فى سبيل المحافظة عليها، يشاهد أفعاله، ويسمع أقواله، ويرى تقريراته وصفاته، وذلك لاتصال الأسانيد وجودتها، وإتقان الرواة وضبطهم، وتمحيص المرويات والتثبت منها، ومعرفة درجة صحتها.
ولا نكون مبالغين إذا قلنا: كأن المسلم يراه صلى الله عليه وسلم بعينى رأسه، بعد الوقوف على الجهود التى بذلت لحفظ سنته الشريفة.
أخرج الإمام البيهقى بإسناده عن عبد الله بن المبارك، قال: كأنى أنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو يرفع يديه فى الصلاة، لكثرة الأحاديث، وجودة الأسانيد(1).
وقد كان كلام العلماء عن الأسانيد، والرواة جرحًا وتعديلاً، والحكم على المتون ونقدها، مفرقًا فى كتب السنة المطهرة، ثم ظهرت المصنفات المتخصصة فى علوم الحديث، فجمع ما تفرق من ذلك فى هذه المصنفات.
ووضع العلماء القواعد التى على أساسها يقبلون الرواة ومروياتهم، فلم يقبل العلماء الحديث من كل أحد، بل شرطوا فى الراوى شروطًا لابد من تحققها ليقبل حديثه، كما شرطوا فى المروى شروطًا لابد من تحققها ليقبل الحديث.
شروط قبول الراوى:
شرط العلماء فى الراوى الذى يقبل حديثه، أن يكون عدلاً فى دينه ضابطًا لحفظه.
وقسم العلماء رواة الحديث إلى مراتب، باعتبار هذين الشرطين السابقين، كما شرطوا فى الإسناد أن يكون متصلاً.
__________
(1) السنن الكبرى، كتاب الصلاة – باب من لم يذكر الرفع إلا عند الافتتاح، 2/79.(1/103)
قال الإمام الشافعى: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة، حتى يجمع أمورًا منها: أن يكون من حدث به ثقة فى دينه، معروفًا بالصدق فى حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالمًا بما يحيل معانى الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى – وهو غير عالم بما يحيل معناه – لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظًا إن حدث من حفظه، حافظًا لكتابه إن حدث من كتابه إذا شرك أهل الحفظ فى الحديث وافق حديثهم، بريًّا من أن يكون مدلسًا: يحدث عن من لقى ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبى صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبى صلى الله عليه وسلم.
ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى يُنتهى بالحديث موصولاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغنى فى كل واحد منهم عما وصفت(1).
وقال – رحمه الله تعالى –: ومن كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح، لم نقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط فى الشهادة لم نقبل شهادته(2).
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: يعرف كون الراوى ضابطًا بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة – ولو من حيث المعنى – لرواياتهم، أو موافقة لها فى الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطًا ثبتًا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم، عرفنا اختلال ضبطه، ولم يحتج بحديثه، والله أعلم(3).
الباب الخامس
اهتمام المسلمين بمتون الحديث
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعى، ص370-372.
(2) الرسالة للإمام الشافعى، ص382.
(3) مقدمة ابن الصلاح، ص50 ؛ وسبق الحديث عن ذلك بالتفصيل، فى كتابنا " مبحث الجرح والتعديل "، وكتابنا: " الحديث الضعيف ".(1/104)
وكما اهتم المسلمون بدراسة الأسانيد، وتمحيصها، والوقوف على مدى اتصالها، وترجموا لرواتها، ووقفوا على مدى عدالتهم وضبطهم وإتقانهم، وهذه هى الكتب التى صنفت فى تراجم رواة الحديث والجرح والتعديل – والتى لا يستطيع أى باحث أن يزعم أنه أحصاها أو أحاط علمًا بها – خير شاهد على ما نقول، وأعداء الإسلام يسلمون بذلك، حتى لقد هالهم كثرتها ودقتها وإتقانها.
فالرجل الوحيد على مر العصور والأزمان الذى نقلت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخِلقية والخُلقية، بنقل العدل التام الضبط عن مثله من أول الإسناد إلى منتهاه مع تعرض الإسناد والمتن للنقد كما ينبغى وفق ضوابط المحدثين التى لم تعرفها البشرية عند غيرهم، إنما هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
حتى لكأن الدارس لسنته صلى الله عليه وسلم ، الممعن النظر فى سيرته، يراه بعينى رأسه، غير أن أعداء الإسلام، أعماهم الحقد على الإسلام والمسلمين، عن رؤية الحقائق الظاهرة الواضحة، فراحوا يعيبون على المسلمين ويتقولون عليهم، ويقولون: إن المسلمين اهتموا بدراسة الأسانيد، وتمحيصها، وترجموا لرواتها، إلا أنهم لم يهتموا بالمتون، ولم ينقدوها كما ينبغى، فدخلها الوضع والتحريف، وخلصوا من هذه المقدمة الباطلة إلى نتيجة أبطل منها، وهى أن السنة لا تصلح أن تكون مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامى الذى يعتمد عليها.
والناظر بتجرد وإنصاف، يجد أن المسلمين كما اهتموا بالأسانيد ودرسوها كما ينبغى، فقد اهتموا بالمتون ونقدوها، ومحصوها، فكما وضع المحدثون شروطًا لقبول الراوى، وضعوا شروطًا لقبول المروى(1/105)
وسوف نذكر – بحول الله وقوته – شروط قبول المتن، وبعض المصنفات التى صنفت فى نقد متون السنة، وتمحيصها، وخدمتها، وسترى – إن شاء الله تعالى – أن العلماء نقدوا متون السنة، ومحصوها، واستدرك اللاحق منهم على السابق، وكانوا متجردين لله تعالى وللحق، خاصة أنهم علموا أن موضوع بحثهم إنما هى السنة المطهرة التى تمثل المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم.
شروط قبول المتن:
وكما شرط العلماء فى الراوى الذى يقبل حديثه، ويحتج به، شروطًا، شرطوا كذلك فى المتن شروطًا، لتأمين جانب الخطأ والسهو والنسيان عند الراوى، وسد هذه الثغرة التى قد تكون سببًا فى دخول غير الصحيح من الحديث فى الصحيح، فكما اهتم العلماء بالأسانيد، فقد اهتموا بالمتون، ومحصوها.
فشرط العلماء فى المتن أن يكون سالمًا من الشذوذ، والعلة القادحة والإدراج، والقلب، والاضطراب، والتصحيف، والتحريف.
فبعد أن يفرغ العلماء من دراسة الإسناد، ومعرفة أنه متصل، وأن كل راو فى الإسناد متصف بالعدالة، والضبط، فإنهم لا يكتفون بذلك، بل يتجهون إلى دراسة المتن، ونقده، ليعرفوا هل به شذوذ، أو علة قادحة، وغير ذلك من أسباب القدح فى المتن أم لا.
فيبحث العلماء هل لهذا المتن الذى فرغوا من دراسة إسناده معارضًا من القرآن الكريم، أو السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا.
فإذا لم يجدوا للمتن معارضًا قبلوه، وعملوا به، وأطلقوا على هذا النوع من الحديث الذى لا معارض له: الحديث المحكم(1)، أو محكم الحديث، وأكثر أحاديث السنة كذلك، ولله الحمد والمنة.
أما إذا وجدوا للمتن معارضًا من القرآن الكريم، أو السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فإنهم يبحثون عن وجه للجمع بين النصين المتعارضين.
__________
(1) الحديث المحكم: هو الحديث المقبول، المعمول به، السالم من المعارضة.(1/106)
فإن أمكن الجمع بينهما – بوجه من وجوه الجمع المعروفة – صار الحديث مقبولاً وعملوا به، ويطلقون على هذا النوع من الحديث: مختلف الحديث(1).
أما إذا لم يمكن الجمع بين النصين المتعارضين – بوجه من وجوه الجمع – بحث العلماء عن التاريخ الذى قيل فيه كل نص.
فإن أمكن الوقوف على التاريخ، ومعرفة المتقدم من المتأخر، صار المتأخر ناسخًا للمتقدم.
أما إذا لم يمكن الوقوف على التاريخ، صار العلماء إلى الترجيح، فإن أمكن الترجيح بين النصين المتعارضين – بوجه من وجوه الترجيح المعروفة – قبل الراجح، وعمل به، وترك المرجوح، ويقال للراجح: المحفوظ(2)، وللمرجوح: الشاذ(3).
__________
(1) مختلف الحديث: هو الحديث المقبول المعمول به المعارض بالمقبول، بحيث يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع، من غير تكلف.
وإنما يلجأ العلماء إلى الجمع بين النصين المتعارضين، أو النصوص المتعارضة، حتى ولو كان بعضها صحيحًا وبعضها ضعيفًا، ولم يبادروا إلى رد الضعيف، وذلك للآتى:
1 – العمل بنصين، أو أكثر، أقوى من العمل بنص واحد.
2 – لا يستطيع أحد أن يجزم بأن الحديث الضعيف لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالراوى الضعيف من قبل حفظه مثلاً، فى كلامه نسبة من الصواب.
(2) الحديث المحفوظ: هو الحديث المقبول المعمول به، الذى خالف رواية الثقة أو الصدوق، رواية من هو أدنى منه مرتبة، ولم يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع.
(3) الحديث الشاذ: هو الحديث الذى خالف راوية الثقة أو الصدوق، رواية من هو أولى منه، سواء كان ذلك بالحفظ، أو بالعدد، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع المعروفة.
وإنما لجأ العلماء إلى الترجيح بين النصين المتعارضين، وأطلقوا على الحديث الراجح " المحفوظ " وعملوا به، وردوا المرجوح، وأطلقوا عليه " الشاذ "، ولم يعملوا به، لأن إهمال أحد النصين أولى من إهمالهما معًا.(1/107)
أما إذا لم يمكن الترجيح بين النصين المتعارضين، توقفوا فى قبولهما معًا، فليس العمل بأحد النصين بأولى من الآخر، ولأنه يستحيل أن يصدر الكلام المتعارض من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع سلامة الحديث من الشذوذ، لابد أن يسلم من العلة القادحة(1)، والإدراج(2)، والقلب(3)، والاضطراب(4)، والتصحيف(5)،
والتحريف(6)، ليكون المتن صحيحًا، وسبق الحديث عن هذه الأنواع بالتفصيل فى مبحث " الحديث الضعيف".
القرائن التى يستدل بها على أن الحديث موضوع:
ومع تحقق الشروط السابقة فى المتن، إذا وجدت قرينة فى المتن تدل على أن الحديث ليس من كلام النبى صلى الله عليه وسلم ، حكموا على الحديث بالوضع، ولم يقبلوه، ولم يعملوا به، فمن ذلك:
1 – أن يكون الحديث مخالفًا لصريح القرآن الكريم مخافلة جلية، مثال ذلك: حديث: " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ".
__________
(1) الحديث المعل: هو الحديث الذى اطلع فيه على علة خفية قادحة تقدح فى صحته، مع أن الظاهر السلامة منها.
(2) الحديث المدرج: هو ما غير سياق إسناده، أو أدخل فى متنه ما ليس منه، بلا تمييز بين ما أدخل وأصل الحديث.
(3) الحديث المقلوب: هو الحديث الذى وقع الإبدال فى سنده، أو متنه، سهوًا كان أو عمدًا.
(4) الحديث المضطرب: هو الحديث الذى يروى على أوجه مختلفة متساوية من راو واحد مرتين أو أكثر، أو من أكثر من راو من غير ترجيح بين الروايات.
(5) الحديث المصحف: هو ما وقع التغيير فى النقط، مع بقاء صورة الحرف.
(6) الحديث المحرف: هو ما وقع التغيير فى شكل الحرف، أى فى ضبطه، مع بقاء الحروف على ما هى عليه.
هكذا فرق الحافظ ابن حجر بين المصحف والمحرف، فجعل التصحيف خاصًا بتغيير النقط، أما التحريف فهو خاص بتغيير ضبط الحرف مع بقاء شكل الكلمة.
أما الحافظ السخاوى، فيطلق على مطلق التغيير – سواء كان بالنسبة للنقط أو الشكل – المصحف.(1/108)
قال ابن القيم: وهو من وضع المشركين، عباد الأوثان(1)، فهذا القول لا يصدر إلا عن كافر، يريد تحريف عقيدة المسلمين ورد الناس إلى الشرك والوثنية بعد أن منّ الله عليهم بالتوحيد.
وآيات القرآن الكريم، ونصوص السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم قطعية فى أنه: لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وهى من الظهور بحيث لا تكاد تخفى على أحد، وهذا معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
وكان بعض هؤلاء الزنادقة يتغفل الشيوخ فيدس فى كتبهم ما ليس من حديثهم كما فعل عبد الكريم بن أبى العرجاء(2).
2 – أن يكون الحديث مناقضًا للسنة المتواترة، أو مناقضًا للأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، مناقضة بيّنة، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع، أما مع إمكان الجمع، فلا يحكم بالوضع، أو يكون الحديث مناقضًا للإجماع القطعى(3).
قال ابن القيم: فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك، فرسول الله صلى الله عليه وسلم منه برىء.
من هذا الباب، مدح من اسمه محمد وأحمد، وأن كل من يسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار.
وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه صلى الله عليه وسلم: أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة.
قال ابن القيم: ومن هذا الباب أحاديث كثيرة عُلقت النجاة من النار بها، وأنها لا تمس من فعل ذلك، وغايتها أن تكون من صغار الحسنات، والمعلوم من دينه صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، وأنه إنما ضمن النجاة منها لمن حقق التوحيد(4).
3 – أن يَعِد الحديث بثواب عظيم على عمل يسير لا يستوجب ذلك الثواب العظيم.
__________
(1) المنار المنيف فى الصحيح والضعيف، ص139، رقم 319.
(2) الموضوعات لابن الجوزى، 1/37.
(3) النكت على كتاب ابن الصلاح، 2/846 ؛ تدريب الراوى، 1/276.
(4) المنار المنيف فى الصحيح والضعيف، ص57،56.(1/109)
مثال ذلك: ما ورد من الوعد العظيم على فعل بعض السنن: " من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أعطى ثواب سبعين نبيًا "(1).
وصلاة الضحى سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا يصل ثوابها إلى هذه الدرجة، بل هذه مجازفة عظيمة تدل على أن الحديث موضوع.
قال ابن القيم: والأحاديث الموضوعة عليها ظلمة، وركاكة، ومجازفات باردة، تنادى على وضعها، واختلاقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم ذكر ( الحديث السابق )، وقال: كان هذا الكذاب الخبيث ( أى الذى وضع الحديث ) لم يعلم أن غير النبى لو صلى عمر نوح عليه السلام لم يعط ثواب نبى واحد(5).
قال الحافظ السخاوى: وهذا ( أى الوعد العظيم على عمل يسير ) كثير موجود فى حديث القصاص والطرقية(2).
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – عقب ذكره لأحاديث اشتملت على وعد عظيم على عمل يسير: وأمثال هذه المجازفات الباردة، التى لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون فى غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقًا قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم ، بإضافة مثل هذه الكلمات إليه(3).
4 – الوعيد الشديد على فعل ذنب من صغائر الذنوب لا يستوجب هذا العقاب الشديد.
5 – أن يكون كلام الحديث لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى هو وحى يوحى كما قال الله تعالى: { (* إِن( هُوَ إِلاَّ وَحـ(ـىٌ يُوحَى? } (4)، أى ما نطقه إلا وحى يوحى، فيكون الحديث ( أى الموضوع ) مما لا يشبه الوحى، بل لا يشبه كلام الصحابة رضي الله عنهم.
مثال ذلك: حديث: " إن الله طهر قومًا من الذنوب بالصلعة فى رؤوسهم، وإن عليًّا لأولهم "(5).
__________
(1) المنار المنيف لابن القيم، ص50.
(2) فتح المغيث للسخاوى، 1/315.
(3) المنار المنيف لابن القيم، ص51،50.
(4) سورة النجم، آية رقم 3، 4.
(5) المنار المنيف لابن القيم، ص62،61.(1/110)
فما علاقة الصلع بالتطهير من الذنوب ؟! وهل للإنسان دخل فى ذلك حتى يؤجر أو يعاقب ؟! ثم إن بعض الصلعة فسقة متمردون على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بل بعض الصلعة كفار.
وإنما يطهر المسلم من الذنوب بالتوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، كما أخبر بذلك القرآن الكريم، والسنة المطهرة.
قال الله تعالى:
{ يَـ((ـأَيُهَا ا(لَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُو(اْ إِلَى ا(للَّهِ تَو(بَة( نَّصُوحًا عَسَى? رَبُّكُم( أَن يُكَفِّرَ عَنكُم( سَيِّئـ(ـاتِكُم( وَيُد(خِلَكُم( جَنَّـ?ـت( تَجـ(ـرِى مِن تَحـ(ـتِهَا ا(لأَنـ(ـهَـ?ـرُ } (1).
قال الله تعالى:
{ وَأَقِمِ ا(لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ا(لنَّهَارِ وَزُلَفـ(ـا مِّنَ ا(لَّيـ(لِ( إِنَّ ا(لـ(ـحَسَنَـ?ـتِ يُذ(هِبـ(ـنَ ا(لسَّيِّئـ(اتِ( ذَ?لِكَ ذِكـ(رَى? لِلذَّ?كِرِينَ } (2).
6 – أن يُدعى على النبى صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه، كما يزعم أكذب الطوائف أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة كلهم وهو راجع من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع، ثم قال: " هذا وصيى وأخى، والخليفة من بعدى، فاسمعوا له وأطيعوا "، ثم اتفق الكل على كتمان ذلك وتغييره ومخالفته، فلعنة الله على الكاذبين(3).
7 – أن يكون الحديث باطلاً فى نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم
مثال ذلك: حديث: " إذا غضب الله تعالى، أنزل الوحى بالفارسية، وإذا رضى أنزله بالعربية "(4).
8 – ركاكة لفظ الحديث ومعناه، أو معناه فقط.
فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد بوضعها ركاكة لفظها ومعانيها.
__________
(1) سورة التحريم، آية رقم 8.
(2) سورة هود، آية رقم 114.
(3) المنار المنيف، ص57.
(4) المنار المنيف، ص59.(1/111)
قال ابن الجوزى: واعلم أن الحديث المنكر يقشعر له جلد طالب العلم وقلبه فى الغالب(1).
قال الأوزاعى: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابه، كما يعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذنا، وما أنكروا منه تركنا(2).
قال الربيع بن خيثم: إن للحديث ضوءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره(6).
قال الحافظ السيوطى: قال شيخ الإسلام ( أى الحافظ ابن حجر ): المدار فى الركة على ركة المعنى، فحيثما وجدت دل على الوضع، وإن لم ينضم إليه ركة اللفظ، لأن هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداءة، أما ركاكة اللفظ فقط، فلا تدل على ذلك لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح، نعم إن صرح بأنه لفظ النبى صلى الله عليه وسلم فكاذب(3).
9 – مخالفة الحديث لصريح المعقول، بحيث لا يقبل التأويل.
قال ابن الجوزى: كل حديث رأيته يخالف المعقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره.
ألا ترى أنه لو اجتمع خلق من الثقات فأخبروا أن الجمل قد دخل فى سم الخياط، لما نفعتنا ثقتهم، ولا أثرت فى خبرهم، لأنهم أخبروا بمستحيل، والمستحيل لو صدر عن الثقات رد ونسب إليهم الخطأ(4).
قال الحافظ السيوطى: ومما يدخل فى قرينة حال المروى، ما نقل عن الخطيب عن أبى بكر بن الطيب، أن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفًا للعقل، بحيث لا يقبل التأويل، ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة(5).
ملحوظة:
ينبغى أن نفرق بين ما يحكم العقل باستحالته، وبين ما يعجز العقل عن إدراك حقيقته، فالإسلام ليس فيه شىء يحكم العقل باستحالته، ولكن قد يعجز العقل عن إدارك حقيقة بعض أمور الإسلام.
__________
(1) الموضوعات لابن الجوزى، 1/103.
(2) نفس المصدر السابق.
(3) تدريب الراوى، 1/276 ؛ وراجع أيضًا النكت على كتاب ابن الصلاح، 2/844.
(4) الموضوعات لابن الجوزى، 1/106 " مع تقديم وتأخير ".
(5) تدريب الراوى، 1/276.(1/112)
10 – أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق.
مثال ذلك: حديث: " الهريسة تشد الظهر "(1).
11 – أن يكون فى الحديث تاريخ يتعلق بالمستقبل.
مثل قوله: إذا كانت سنة كذا وكذا، وقع كذا وكذا، وإذا كان شهر كذا، وقع كذا وكذا(2).
مثال ذلك: حديث: " عند رأس مائة يبعث الله ريحًا باردة يقبض الله فيها روح كل مؤمن "(3).
12 – أن لا يكون الحديث موجودًا فى الكتب بعد أن دونت السنة المطهرة، فإذا جاء أحد بحديث ولم يوجد هذا الحديث فى الكتب المدونة، دل ذلك على أنه موضوع.
قال ابن الصلاح: قال الإمام البيهقى: من جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذى يرويه ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه، أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا، وتبقى هذه الكرامة التى خصت بها هذه الأمة شرفًا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم
وقد علل ابن الصلاح ما قاله البيهقى، وأنه لا يقبل من أحد حديث لا يوجد فى الكتب: ووجه ذلك بأن الأحاديث التى قد صحت، أو وقعت بين الصحة والسقم، قد دونت وكتبت فى الجوامع التى جمعها أئمة الحديث، ولا يجوز أن يذهب شىء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها(4).
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى –: ومنها ما ذكره الإمام فخر الدين الرازى: أن الخبر إذا روى فى زمان قد استقرت فيه الأخبار، فإذا فتش عنه فلم يوجد فى بطون الكتب، ولا فى صدور الرجال، علم بطلانه.
وأما فى عصر الصحابة رضي الله عنهم حين لم تكن الأخبار استقرت، فإنه يجوز أن يروى أحدهم ما لم يوجد عند غيره.
__________
(1) المنار المنيف، ص64.
(2) المنار المنيف، ص63.
(3) المنار المنيف، ص110.
(4) مقدمة ابن الصلاح، ص58،57.(1/113)
قال العلانى: وهذا إنما يقوم به ( أى بالتفتيش عليه ) الحافظ الكبير الذى قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو معظمه، كالإمام أحمد، وعلىّ بن المدينى، ويحيى بن معين ومن بعدهم: كالبخارى، وأبى حاتم، وأبى زرعة ؛ ومن دونهم: كالنسائى، ثم الدارقطنى، لأن المأخذ الذى يحكم به غالبًا على الحديث بأنه موضوع، إنما هى الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق والاطلاع على غالب المروى فى البلدان المتنأنية، بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة، مما ليس من حديثهم، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة، فكيف يقضى بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع، هذا ما يأباه تصرفهم، فالله أعلم(1).
قال الحافظ السيوطى: وفى جمع الجوامع لابن السبكى، أخذًا من المحصول وغيره: كل خبر أوهم باطلاً، ولم يقبل التأويل فمكذوب، أو نقص منهم ما يزيل الوهم ومن المقطوع يكذبه ما نقب عنه من الأخبار، ولم يوجد عند أهله من صدور الرواة وبطون الكتب، وكذا قال صاحب المعتمد.
قال العز بن جماعة: وهذا قد ينازع فى إفضائه إلى القطع، وإنما غايته غلبة الظن، ولهذا قال العراقى: يشترط استيعاب الاستقراء، بحيث لا يبقى ديوان، ولا راو، إلا وكشف أمره فى جميع أقطار الأرض، وهو عسر، أو متعذر(2).
والناظر بتجرد وإنصاف، يجد أن هذه الشروط كافية لتأمين هذا الجانب، ويجد أن أئمة الحديث كما اهتموا بدراسة الأسانيد، فقد اهتموا بدراسة المتون، ونقدها، وتمحيصها، ولم يهملوا دراسة المتون كما يقول أعداء الإسلام الذين يكيدون للإسلام والمسلمين من المستشرقين وأذنابهم.
__________
(1) النكت على كتاب ابن الصلاح، 2/847.
(2) تدريب الراوى، 1/277.(1/114)
فلقد عنى أئمة الإسلام بنقد المتون، وتمحيصها، وكانوا – والحمد لله – متجردين لله تعالى، ثم للحق، وعلموا أن هذا الأمر دين يترتب على الأخذ به سعادة الدنيا والآخرة، لذلك رأوا أن من الواجب عليهم أن يبينوا الحق، ولا تأخذهم فى الله لومة لائم، ولم يمنعهم من قول الحق، أن يكون المتن الذى ينقد فى الصحيحين، أو أحدهما أو فى غيرهما، فمع أن البخارى ومسلم بذلا كل ما يمكن من جهد لتجريد الصحيح من غيره – كما يشهد بذلك صنيعهما فى كتابيهما – إلا أنهما لم يدعيا العصمة، فالمعصوم الأوحد إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما غيره فيؤخذ من قوله، ويرد عليه.
ومع ما للصحيحين من منزلة رفيعة عند المسلمين، إلا أن هذه المنزلة لم تمنع أئمة الحديث من نقد ما يستحق النقد، وإن كان فى الصحيحين أو أحدهما، وهذا النقد من وجهة نظر الناقد، وقد تكون هذه النقود مقبولة، وقد تكون غير مقبولة، فهى تمثل وجهات نظر لأصحابها، وقد أجاب العلماء عن أكثرها.
ومن الذين انتقدوا أحاديث فى الصحيحين: الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر ابن أحمد، الشهير بالدارقطنى، المتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، فى كتابيه: " الإلزامات " و" التتبع ".
ومع ذلك، فلقد كانت هذه الانتقادات محل احترام أئمة الحديث، وأخذوها فى اعتبارهم عند الكلام عما تفيده أحاديث الصحيحين، فلم يسو العلماء بين الأحاديث التى انتقدت والتى لم تنقد.
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: ما انفرد به البخارى أو مسلم، مندرج فى قبيل ما يقطع بصحته، لتلقى الأئمة كل واحد من كتابيهما بالقبول – على الوجه الذى فصلناه من حالهما فيما سبق – سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطنى، وغيره، وهى معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم(1).
وتابع العلماء ابن الصلاح على ما قال.
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح، ص15،14.(1/115)
قال الإمام النووى: فصل قد استدرك جماعة على البخارى ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها، ونزلت عن درجة ما التزماه، وقد سبقت الإشارة إلى هذا.
وقد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطنى، فى بيان ذلك كتابه المسمى بـ " الإستدراكات والتتبع "، وذلك فى مائتى حديث مما فى الكتابين.
ولأبى مسعود الدمشقى أيضًا عليهما استدراك.
ولأبى على الغسانى الجيانى فى كتابه " تقييد المهمل " فى جزء العلل منه، استدراك أكثره على الرواة وفيه ما يلزمهما، وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره، وستراه فى مواضعه – إن شاء الله تعالى – والله أعلم(1).
وقد عقد الحافظ ابن حجر فى مقدمة شرحه لصحيح البخارى المسماه بـ " هدى السارى " فصلاً أجاب فيه على الانتقادات التى وجهت إلى أحاديث صحيح البخارى، وأجاب عنها، كما ذكر أحاديث لم يذكرها النقاد، وأجاب عنها.
قال الحافظ ابن حجر: الفصل الثامن فى سياق الأحاديث التى انتقدها عليه حافظ عصره أبو الحسن الدارقطنى، وغيره من النقاد، وإيرادها حديثًا حديثًا على سياق الكتاب وسياق ما حضر من الجواب عن ذلك(2).
قال الحافظ ابن حجر عقب قول الإمام النووى ( وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره ): هو الصواب، فإن منها ما الجواب عنه غير منتهض(275).
ثم قال: على أن الدارقطنى، وغيره من أئمة النقد، لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين، كما تعرضوا لذلك فى الإسناد، فما لم يتعرضوا له من ذلك حديث جابر فى قصة الجمل.... إلى أن قال: وغير ذلك مما سنأتى – إن شاء الله تعالى – على بيانه عند شرحه فى أماكنه، فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتها، وحققتها، وقسمتها، وفصلتها، لا يظهر منها ما يؤثر فى موضوع الكتاب – بحمد الله – إلا النادر(3).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووى، 1/27.
(2) هدى السارى، ص364.
(3) هدى السارى، ص366.(1/116)
ثم قال الحافظ ابن حجر فى نهاية هذا الفصل: هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطلعون على خفايا الطرق، وليست كلها من إفراد البخارى بل شاركه مسلم فى كثير منها... إلى أن قال – رحمه الله تعالى –: وليست كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه فى الجواب عنه تعسف، كما شرحته مجملاً فى أول الفصل، وأوضحته مبيّنًا إثر كل حديث منها(1).
بعض المصنفات فى نقد متون السنة
وإذا كان أئمة الحديث قد اهتموا بنقد متون السنة، وتمحيصها، وظهر ذلك فى فترة مبكرة جدًا – كما سبق – فإنه من المعروف أن هذا موضوع دقيق جدًا، لذلك لم يتكلم فيه كل أحد، بل تكلم فيه جهابذة الحديث ونقاده.
وهذا النوع من الأئمة نادر الوجود كما هو الحال فى جميع التخصصات الدقيقة التى لا يقف عليها إلا الجهابذة النقاد، وأرباب الفن، وإذا كان كلام هؤلاء النقاد وجد فى كتب شروح السنة وغيرها من كتب الرجال، فلقد خص أئمة الحديث وجهابذته هذا العلم بالجمع والتصنيف.
( أ ) بعض المصنفات فى علم مختلف الحديث:
وخص جماعة من الأئمة علم مختلف الحديث بالجمع والتصنيف، وهذا العلم من العلوم الدقيقة التى لم يتكلم فيها إلا الأئمة الجامعون بين علم الحديث وعلم الفقه وأصوله ومن هذه المصنفات:
1 – " اختلاف الحديث "(2)، للإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعى، المتوفى سنة أربع ومائتين.
وهو أول تكلم فى هذا العلم، والله أعلم، ولكنه لم يقصد استيعابه، وإن كان ما كتبه فى هذا الموضوع مدخل عظيم لهذا النوع، يتنبه به العارف على طريقته
__________
(1) هدى السارى، ص402.
(2) طبع هذا الكتاب تحت هذا العنوان، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ت: الأستاذ/ محمد أحمد عبد العزيز.(1/117)
وما كتبه فى هذا الموضوع إنما هو جزء ضمن كتابه " الأم " تحت عنوان " اختلاف الحديث "(1).
2 – " تأويل مختلف الحديث "، للإمام الجليل أبى محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، المتوفى سنة ست وسبعين ومائتين.
3 – " مشكل الآثار "، للإمام الجليل أبى جعفر أحمد بن محمد الطحاوى، المتوفى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
4 – " مشكل الحديث وبيانه "، للإمام الحافظ أبى بكر محمد بن الحسن بن فورك الأنصارى الأصبهانى، المتوفى سنة ست وأربعمائة.
(ب) بعض المصنفات فى علم الناسخ والمنسوخ:
لقد تكلم العلماء فى الناسخ والمنسوخ من الحديث الشريف، وبدأ ذلك منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم واهتم العلماء بهذا العلم لما يترتب على معرفته من فهم الأحكام الشرعية فهمًا صحيحًا، وتجنب الخطأ فى استنباط الأحكام من النصوص.
وهذا العلم مر بمراحل النمو المختلفة – كأى علم آخر – حتى وصل إلى مرحلة الازدهار والكمال.
وكان للإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعى، المتوفى سنة أربع ومائتين من الهجرة – رحمه الله تعالى – جهدًا طيبًا فى هذا العلم، حتى أن الإمام أحمد يعيب على ابن وارة، حيث لم يكتب كتب الشافعى لما قدم من مصر.
قال الإمام أحمد بن حنبل لابن وارة(2) لما قدم من مصر: كتبت كتب الشافعى ؟ قال: لا، قال: فرطت ما علمنا المجمل من المفسر، ولا ناسخ الحديث من منسوخه، حتى جالسنا الشافعى(3)، ولقد رحل الإمام أحمد إلى الإمام الشافعى بمكة ليتعلم منه هذا العلم.
وإن كان الإمام الشافعى لم يخصه بالتصنيف، بل وجد الكلام عليه مفرقًا فى كتبه.
__________
(1) طبع فى آخر كتاب " الأم " وهو يقع فى إحدى وأربعين ومائة صفحة.
(2) ابن وارة: هو الإمام الحافظ محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله أبو عبد الله الرازى، المعروف بابن وارة، قال عنه النسائى: ثقة صاحب حديث، تهذيب التهذيب، 9/451.
(3) تدريب الراوى، 2/190 ؛ فتح المغيث للسخاوى، 4/49.(1/118)
قال الحافظ السخاوى: وكان إمامنا الشافعى – رحمه الله تعالى – له فيه اليد الطولى والسابقة الأولى، فخاض تياره، وكشف أسراره، واستنبط معينه، واستخرج دفينه، واستفتح بابه، ورتب أبوابه، ومع ذلك فلم نر له فيه تصنيفًا مستقلاً، إنما يوجد فى غضون الأبواب من كتبه مفرقًا، وكذا فى الرسالة له منه أحاديث، وتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان متداولاً بين الصحابة والتابعين، متفرقًا فى كتب شروح السنة، إلى أن جرد له غير واحد من الأئمة مصنفات(1)، ومن المصنفات فى علم الناسخ والمنسوخ:
1 – " الناسخ والمنسوخ "، للإمام الحافظ أبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى، صاحب السنن، المتوفى سنة خمس وسبعين ومائتين.
2 – " ناسخ الحديث ومنسوخه "، للإمام الحافظ أبى حفص عمر بن أحمد بن شاهين، المتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
3 – " الاعتبار فى بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار "، للإمام الحافظ أبى بكر محمد ابن موسى الحازمى، المتوفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
(جـ) بعض المصنفات فى الحديث الموضوع:
لقد خص علماء الحديث الأحاديث الموضوعة بالجمع والتصنيف تنبيهًا وتبيينًا للمسلمين، حتى لا يغتر بها مغتر، فيعمل بها وهو لا يعلم أنها موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ما بذله العلماء من وقت وجهد فى البحث والتنقيب عن هذه الأحاديث ورجالها وما قاله العلماء عن رواة هذه الأحاديث، مع استعمالهم للضوابط العامة التى يعرف بها الحديث الموضوع، فجزاهم الله خير الجزاء على ما قدموا من خير للأمة المسلمة، من أجل المحافظة على دين الله تعالى، والدفاع عن سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
فقد وقع القصور فى هذا العمل، وهذا أمر لا محالة واقع، فهو عمل البشر الذى لا يسلم من الزلل، وليبقى الكمال لكتاب الله العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
__________
(1) فتح المغيث للسخاوى، 4/49، 50.(1/119)
ثم إن هذا عمل شاق يعلم هذا كل من له صلة بهذا العلم.
وقد يرجع ذلك إلى اختلاف وجهات النظر فى الحكم على الرواة والأحاديث، وهل الحديث يعارض القطعى من القرآن أو السنة المتواترة، أم أن هذا تعارض من حيث الظاهر، إلى غير ذلك.
ومما يجب أن يعلم ولا يغفل عنه باحث، أن هذه الكتب التى صنفت فى الأحاديث الموضوعة، إنما هى ثمار مباركة لجهود أئمة بذلوا النفس والنفيس من أجل الدفاع عن دين الله تعالى والذود عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بدأت هذه الجهود المباركة منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم عندما بدأ الكلام فى الرواة جرحًا وتعديلاً، وتمحيص الروايات، واستمر ذلك فى كل عصر ومصر، فلم يخل زمن من الأزمنة من قائم لله بالحجة.
فلم تنشأ هذه الكتب من فراغ.
رضى الله عن أئمتنا، وجزاهم عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ما بقى فى الدنيا قرآن يتلى وسنة تتبع.
من الكتب التى صنفت فى الأحاديث الموضوعة:
1 – " الموضوعات "، للإمام ابن الجوزى(1) – رحمه الله تعالى –.
قدم أبو الفرج ابن الجوزى لكتابه " الموضوعات " بعدة فصول تكلم فيها عن مسائل تتعلق بعلم الحديث.
ثم تكلم عن الوضاعين، وقسمهم إلى عدة أقسام.
ثم تكلم عن جواز القدح فى الرواة، وأن هذا جائز، فهو من باب النصيحة للإسلام ورد على أولئك الذين يقولون إنه غيبة محرمة.
ثم ذكر أربعة أبواب:
الباب الأول: فى ذم الكذب.
الباب الثانى: فى قوله صلى الله عليه وسلم: « من كذب علىّ متعمدًا ».
الباب الثالث: يأمر فيه بانتقاد الرجال، ويحذر من الرواية عن الكذابين والمجهولين، والبحث عن الحديث المباين للأصول.
الباب الرابع: فى ذكر الكتب التى يشتمل عليها هذا الكتاب.
وقد قسم ابن الجوزى كتابه إلى كتب، وقسم كل كتاب إلى أبواب، وأورد فى كل باب من الأحاديث الموضوعة التى تتعلق به، وبدأه بكتاب التوحيد.
__________
(1) أبو الفرج عبد الرحمن بن علىّ الجوزى القرشى، المتوفى سنة 597هـ.(1/120)
وقد وفق ابن الجوزى فى حكمه على كثير من الأحاديث.
قال السيوطى: قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: غالب ما فى كتاب ابن الجوزى موضوع، والذى ينتقد عليه بالنسبة إلى ما لا ينتقد قليل جدًا، وقد انتقد الأئمة ابن الجوزى فى حكمه على بعض الأحاديث، وهذا لا يقلل من قدر الكتاب، بل هذا تتميم لهذا العمل الكبير الشاق، وتتلخص هذه الانتقادات فيما يأتى:
أ – خرج ابن الجوزى فى كتابه " الموضوعات " كثيرًا من الأحاديث الضعيفة التى لا تصل إلى درجة الموضوع، ولا دليل معه على أنها موضوعة.
بل إن هذا النوع من الأحاديث يحتمل فى باب الترغيب والترهيب.
ب – خرج ابن الجوزى فى كتابه " الموضوعات " قليلاً من الأحاديث الحسان
قال الذهبى: ربما ذكر ابن الجوزى فى " الموضوعات " أحاديث حسانًا قوية
جـ– ذكر ابن الجوزى فى كتابه " الموضوعات " قليلاً من الأحاديث الصحيحة، غير أن هذا النوع فى كتابه، قليل جدًا، كما قال الحافظ ابن حجر.
لم يحكم ابن الجوزى على أحاديث فى أحد الصحيحين بالوضع، إلا حديث واحد فى صحيح مسلم، وقد خانه التوفيق فى ذلك، وهو حديث أبى هريرة:
عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن طالت بك مدة أوشكت أن ترى قومًا يغدون فى سخط الله ويروحون فى لعنته فى أيديهم مثل أذناب البقر »(1).
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف فى كتاب " الموضوعات " لابن الجوزى على شىء حكم عليه بالوضع، وهو فى أحد الصحيحين غير هذا الحديث، وإنها لغفلة شديدة منه(2).
وإنما وقع هذا فى كتاب ابن الجوزى للآتى:
__________
(1)
( ) أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، 4/2193.
وأخرجه أحمد، 2/308.
(2) القول المسدد فى الذب، عن مسند الإمام أحمد، ص51.
وقد بين الحافظ ابن حجر مدى مخالفة ابن الجوزى للصواب، وأن الحديث صحيح وليس بموضوع، فراجع ذلك.(1/121)
استند ابن الجوزى فى الحكم على هذه الأحاديث الضعيفة بالوضع فى الغالب على ضعف رواة هذه الأحاديث.
قال الحافظ السيوطى: قال الحافظ الذهبى: ونقلت من خط السيد أحمد بن أبى المجد، قال: صنف ابن الجوزى كتاب " الموضوعات " فأصاب ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل، وما لم يصب فيه إطلاق الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس فى أحد رواتها، كقوله فلان ضعيف أو ليس بالقوى أو لين، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا حجة بأنه موضوع سوى كلام ذلك الرجل فى رواية، وهذا عدوان ومجازفة(1).
د – حكم على بعض الأحاديث بالوضع، لوجود راو كذاب فى إسناد الحديث، مع أن الحديث روى من وجه آخر ليس فيه هذا الكذاب، ومن المعلوم أن الحكم على المتن يكون بأعلى الأسانيد.
قال الحافظ ابن حجر: قال العلائى: دخلت على ابن الجوزى الآفة من التوسع فى الحكم بالوضع، لأن مستنده فى غالب ذلك بضعف راويه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد يعتمد على غيره من الأئمة فى الحكم على بعض الأحاديث بتفرد بعض الرواة الساقطين بها، ويكون كلامهم محمولاً على قيد أن تفرده إنما هو من ذلك الوجه، ويكون المتن قد روى من وجه آخر لم يطلع هو عليه أو لم يستحضره حالة التصنيف، فدخل عليه الدخيل من هذه الجهة، وغيرها(2).
قال الحافظ السخاوى: ولقد أكثر الجامع ( أى ابن الجوزى ) فيه مصنفًا نحو مجلدين ( أى كتاب الموضوعات ) إذ خرج عن موضوع كتابه لمطلق الضعف حيث أخرج فيه كثيرًا من الأحاديث الضعيفة التى لا دليل معه على وضعها.
بل ربما أدرج فيها الحسن والصحيح مما هو فى أحد الصحيحين، فضلاً عن غيرهما.
__________
(1) تدريب الراوى، 1/278.
(2) النكت على كتاب ابن الصلاح، 2/848.(1/122)
وهو مع إصابته فى أكثر ما عنده توسع منكر ينشأ عنه غاية الضرر من ظن ما ليس بموضوع، بل هو صحيح موضوعًا، مما قد يقلده فيه العارف تحسينًا للظن به، حيث لم يبحث، فضلاً عن غيره.
ولذا انتقد العلماء صنيعه إجمالاً، والمُوقع له فيه استناده فى غالبه بضعف راويه الذى رمى بالكذب مثلاً غافلاً عن مجيئه من وجه آخر.
وربما يكون اعتماده فى التفرد قول غيره ممن يكون كلامه فيه محمولاً على النسبى، هذا مع أن مجرد تفرد الكذاب بل الوضاع ولو كان بعد الاستقصاء فى التفتيش من حافظ متبحر تام الاستقراء غير مستلزم لذلك ( أى غير مستلزم للحكم بالوضع )، بل لابد معه من انضمام شىء مما سيأتى(1)، أى انضمام قرينة فى المروى من القرائن الدالة على الوضع.
2 – " العلل المتناهية فى الأحاديث الواهية "، للإمام ابن الجوزى.
قال الحافظ ابن حجر: ولابن الجوزى كتاب آخر سماه: " العلل المتناهية فى الأحاديث الواهية "، أورد فيه كثيرًا من الأحاديث الموضوعة.
كما أورد فى كتاب " الموضوعات " كثيرًا من الأحاديث الواهية، وفاته من كل النوعين قدر ما كتب فى كل منهما أو أكثر(2).
3 – " اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة "، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، المتوفى سنة 911هـ.
__________
(1) فتح المغيث للسخاوى، 1/297،296.
(2) النكت على كتاب ابن الصلاح، 2/850.(1/123)
قال الحافظ السيوطى فى مقدمة كتابه " اللآلىء المصنوعة ": وبعد، فإن من مهمات الدين التنبيه على ما وضع من الحديث واختلق على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع فى ذلك الحافظ أبو الفرج ابن الجوزى كتابًا، فأكثر فيه من إخراج الضعيف الذى لم ينحط إلى رتبة الوضع، بل ومن الحسن ومن الصحيح، كما نبه على ذلك الأئمة الحفاظ، ومنهم ابن الصلاح، فى علوم الحديث وأتباعه، وطالما اختلج فى ضميرى انتقاؤه وانتقاده واختصاره لينتفع به مرتاده، إلى أن استخرت الله تعالى وانشرح صدرى لذلك، وهيأ لى إلى أسبابه المسالك، فأورد الحديث من الكتاب الذى أورده هو منه، كتاريخ الخطيب، والحاكم، وكامل بن عدى، والضعفاء للعقيلى، ولابن حبان، وللأزدى، وأفراد الدارقطنى، والحلية لأبى نعيم، وغيرهم بأسانيدهم، حاذفًا إسناد أبى الفرج إليهم، ثم أعقبهم بكلامه، ثم إن كان متعقبًا نبهت عليه، وأقول فى أول ما أزيده: " قلت "، وفى آخره: " والله أعلم".
ورمزت لما أورده الحافظ أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الجوزقانى، صورة (ج) إعلامًا بتوافق المصنفين على الحكم بوضع الحديث، وسميته: " اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة "، وأسأل الله الإعانة عليه والتوفيق لما يرضيه ويقربنى إليه(1).
رتب السيوطى كتابه على الكتب، كما فعل ابن الجوزى فى كتابه " الموضوعات ".
4 – " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة "، للإمام أبى الحسن علىّ بن محمد بن عراق.
__________
(1) اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة، 1/10،9.(1/124)
قال الشيخ/ عبد الوهاب عبد اللطيف: جمع أبو الحسن بن عراق ما جمعه السيوطى فى " اللآلىء المصنوعة " وما زيله مما فات ابن الجوزى، وما ذكره فى " النكت البديعات "(1) من المتعقب عليه وغيره، ولخص ذلك وهذبه وزاد عليه فى كتاب حافل محرر يسمى: " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة "، وقدم للكتاب بفصول نافعة فى هذا الفن، ثم ذكر أسماء الوضاعين على حروف المعجم، فكان أجمع كتاب فى هذا الباب(2).
5 – " الأسرار المرفوعة فى الأخبار المصنوعة "، المعروف بـ " الموضوعات الكبرى "، للإمام نور الدين علىّ بن محمد بن سلطان، المشهور بـ الملا علىّ القارى.
أ – جمع الملا علىّ القارى فى كتابه هذا الأحاديث الموضوعة المشتهرة على ألسنة الناس.
ب – اقتصر فيه على ما قيل فيه: " إنه لا أصل له " أو " موضوع بأصله ".
جـ– لم يذكر ما اختلف فى وضعه خوفًا من أن يكون موضوعًا من طريق، وصحيحًا من وجه آخر.
د – رتب الأحاديث على ترتيب حروف الهجاء.
قال الملا علىّ القارى: قال الزركشى: بين قولنا: لم يصح، وقولنا: موضوع بون بين، فإن الوضع إثبات الكذب، وقولنا: لم يصح، إنما هو إخبار عن عدم الثبوت، ولا يلزم منه إثبات العدم، والله سبحانه أعلم.
ثم اعلم أنه قد يكون الحديث موضوعًا بحسب المبنى، وإن كان صحيحًا مطابقًا للكتاب والسنة، بحسب المعنى(3).
الشبهات التى أثارها
المستشرقون وأذنابهم حول متون السنة المطهرة
سوف نتكلم – إن شاء الله تعالى – بشىء من الإيجاز عن الشبهات التى أثارها بعض المستشرقين وأذنابهم حول متون السنة.
__________
(1) " النكت البديعات فى الرد على الموضوعات ": هذا الكتاب للإمام السيوطى، تعقب فيه ابن الجوزى فى كتابه " الموضوعات "، مقدمة الموضوعات، 1/23.
(2) هامش تدريب الراوى، 1/281.
(3) الأسرار المرفوعة، ص99.(1/125)
وهذه الشبهات قائمة على أساس أن أئمة الحديث اهتموا بدراسة الأسانيد، والبحث عن الرواة جرحًا وتعديلاً، إلا أنهم لم يهتموا بدراسة المتون ونقدها.
ويرتبون على هذه المقدمة الباطلة، نتيجة أبطل منها، وهى دخول الوضع فى الحديث، ولم يستطع أئمة الحديث تمييز الأحاديث الموضوعة من غيرها، نتيجة إهمالهم نقد المتون.
لقد اتهم المستشرقون ومن شايعهم من أبناء الإسلام المحدثين بأنهم لم يهتموا بدراسة متون الأحاديث ونقدها، وإنما اهتموا بدراسة الأسانيد ونقد الرواة فقط.
وهذا اهتمام باطل، لا أساس له من الصحة، فكما اهتم المحدثون بدراسة الأسانيد ونقد رواة الحديث، فقد اهتموا بدراسة المتون ونقدها.
وقد رأيت فيما سبق أن الأئمة كما شرطوا شروطًا فى الراوى، فقد شرطوا شروطًا فى المروى ( أى المتن).
فلم يقبل العلماء من الثقات كل ما حدثوا به، فقد يكون الإسناد متصلاً ورواته ثقات غير أنهم لا يقبلون المتن، لأنه شاذ، أو معلول، أو غير ذلك من أسباب الضعف المتعلقة بالمتن.
وإذا كان الدافع للمستشرقين إلى ما قالوا، إنما هو بغضهم للإسلام، والتعصب الذى أنساهم إنصاف المخالفين، وأعماهم عن رؤية الحقائق الواضحة الجلية، فما الذى جعل أبناء الإسلام ينساقون خلف هؤلاء الكافرين ؟ أهو حب التقليد الأعمى، وضعف الشخصية، وانعدام الهوية الإسلامية، والجهل بما عند المسلمين من علوم لم تتيسر لأمة فى القديم أو الحديث، وكانت هذه العلوم هى سر حفظ السنة المطهرة، أم بغض الإسلام والمسلمين.
إن المسلم المنصف، ليندهش حين يرى بعض المسلمين وقد انساق خلف أعداء الإسلام يرددون ما يقولون، ويهتفون بما يهتفون به، وإن كان ذلك على حساب الحقائق الثابتة.
موقف " جولد تسيهر " من السنة المطهرة:(1/126)
سنذكر هنا – إن شاء الله تعالى – الشبهات التى أثارها " جولد تسيهر " فى كتابه: " العقيدة والشريعة فى الإسلام " حول السنة المطهرة، حيث أن هذه الشبهات تتعلق بالمتون، وسوف نرد عليه – إن شاء الله تعالى – ونبيّن فساد ما قال.
وسنذكر الشبهات التى أثارها " أحمد أمين " أيضًا فى كتابه " ظهر الإسلام حول متون الأحاديث النبوية " والرد عليه، ونبيّن فساد ما قال.
تخبط " جولد تسيهر " فى نقده للسنة المطهرة:
إن الناظر فيما قاله " جولد تسيهر "، وفيما وجهه للسنة من نقد، يجد أنه يتخبط وتخبطه هذا يرجع إما إلى جهله أو تعصبه الأعمى وبغضه للإسلام والمسلمين.
إلا أن كتابه يشهد بأن ما حمله على ما قال إلا التعصب الأعمى الذى أنساه إنصاف المخالفين والتجرد للحق.
وإن كان الإنسان لا يستطيع أن يتجرد التجرد المطلق، لأنه أسير لمعتقداته الدينية وموروثاته التى ورثها من آبائه وبيئته، إلا أنه لا يجوز أن يتجاوز فى حكمه على الأشياء، فينكر الحقائق الثابتة الواضحة الجلية، أو يتقول على الآخرين، فينسب إليهم كذبًا وبهتانًا ما لم يقولوه وما هم منه براء، وإلا فقد مصداقيته عند الناس، واتهم بالكذب والخيانة.
ادعى " جولد تسيهر " أن بعض الأحاديث الموضوعة قد وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال " جولد تسيهر ": ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك احاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول، أو هى من عمل رجال الإسلام القدامى، ولكن من ناحية أخرى، فإنه ليس من السهل تبيين هذا الخطر المتجدد عن بعد الزمان والمكان عن المنبع الأصلى(1).
__________
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام، ص49.(1/127)
فهل يقول عاقل: إن الحديث الذى قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوع، وهل يقول هذا طالب علم فى بداية الطريق، فضلاً عن ناقد كبير له مكانته بين المستشرقين، ولماذا سمى بالموضوع مادام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاله ؟! وعلى من وضع ؟!
إن الحديث الموضوع: هو المختلق المنسوب كذبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
اتهم " جولد تسيهر " أئمة المذاهب، بأنهم وضعوا أحاديث ينسبونها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد ما ذهبوا إليه وما قالوه.
وقد سبق قوله وأنه اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع بعض الأحاديث، كما قام بعض رجال الإسلام القدامى بوضع بعض الأحاديث الأخرى.
ثم قال بأن يخترع أصحاب المذاهب النظرية والعملية، أحاديث لا يرى عليها شائبة فى ظاهرها، ويرجع بها إلى الرسول وأصحابه.
فالحق أن كل فكرة، وكل حزب، وكل صاحب مذهب، يستطيع دعم رأيه بهذا الشكل، وأن المخالف له فى الرأى يسلك أيضًا هذا الطريق، ومن ذلك لا يوجد فى دائرة العبادات، أو العقائد، أو القوانين الفقهية أو السياسية، مذهب أو مدرسة لا تعزز رأيها بحديث، أو بجملة من الأحاديث ظاهرها لا تشوبه أية شائبة(1).
" جولد تسيهر " خلط بين الغث والسمين:
الذى نقوله: إن " جولد تسيهر " خلط بين الغث والثمين، وألبس الباطل ثوب الحق تمويهًا وكذبًا.
__________
(1) نفس المصدر السابق، ص50.(1/128)
فالمعروف أن بعض أهل البدع والأهواء من أهل القبلة والفرق الخارجة عن الإسلام، قد وضعوا أحاديث لنصرة بدعهم الباطلة، أو لتشويه الإسلام وفض الناس عنه، وهذا ما أحدثه الزنادقة، غير أن أهل السنة والجماعة، وقفوا لهؤلاء جميعًا بالمرصاد، وبيّنوا باطلهم، وما اختلقوه ووضعوه من الأحاديث، ونبهوا على ذلك، ومن له أدنى صلة بكتب علوم الحديث يعلم أن العلماء كانوا من أحاديث المبتدعة على حذر، حتى أهل الصدق منهم، فلا يقبل ما رواه المبتدع الصادق فى دينه الذى يرى حرمة الكذب إذا كان فيما رواه ما يؤيد بدعته ويقويها، وهذا قول المعتدلين من أئمة الحديث، ومن العلماء من ذهب إلى رد رواية المبتدع على الإطلاق من غير تفريق بين ما يؤيد بدعته وما لا يؤيدها.
ولقد أوضحنا ذلك فى مبحث الجرح والتعديل – باب المبتدع وحكم روايته.
أما أن يقول: إن أئمة المسلمين قد وضعوا الأحاديث تأييدًا لما ذهبوا إليه، فإن هذا القول يفوح كذبًا وبهتانًا على رجال قد باعوا أنفسهم لله تعالى، وزادوا عن حياض الإسلام، وما قبلوا الدنية فى دينهم، وقد كلفهم ذلك النفس والنفيس، فرضى الله عنهم وأرضاهم وجزاهم خير الجزاء.
" جولد تسيهر " يفقد مصداقيته عند الباحثين المنصفين لكذبه:
علل " جولد تسيهر " ظهور ( علم نقد الحديث عند المسلمين ) كوسيلة للتخلص من التناقض بين الأحاديث التى وضعوها تأييدًا لمذاهبهم إذا عجزوا عن التوفيق بين الأحاديث الموضوعة.
قال " جولد تسيهر ": ولم يستطع المسلمون أنفسهم أن يخفوا هذا الخطر ( يشير إلى الأحاديث الموضوعة التى وضعها أصحاب المذاهب تأييدًا لما ذهبوا إليه – كما يدعى كذبًا وزورًا – )، ومن أجل هذا وضع العلماء علمًا خاصًا له قيمته، وهو ( علم نقد الحديث ) لكى يفرقوا بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث، إذا أعوزهم التوفيق بين الأقوال المتناقضة(1).
__________
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام، ص50.(1/129)
هذا محض افتراء، وتقول، وكذب لا أساس له من الصحة، بل إن هذا الكلام يجعل الباحثين يفقدون الثقة بقائله.
فلقد ظهر الكلام فى الرواة جرحًا وتعديلاً، ونقد المتون فى فترة مبكرة جدًا.
فلقد ظهر ذلك فى زمن الصحابة، وبدأ ذلك على يد أبى بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم علىّ رضي الله عنه.
وسلك الصحابة سبيل الخلفاء الراشدين، فلم يقبل الصحابة من كل أحد ما يحدث به، بل إن واضع أسس علم الجرح والتعديل، إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد جرح وعدل وسن للمسلمين الكلام فى الرواة جرحًا وتعديلاً، وقد أوضحت ذلك فى مبحث الجرح والتعديل، بما لا يدع مجالاً للشك.
فهل تأخر ظهور علم الجرح والتعديل، ونقد الروايات سندًا ومتنًا، إلى بعد أن وضع الأئمة الحديث كوسيلة للتوفيق بين الروايات المتعارضة الموضوعة – كما يدعى كذبًا وبهتانًا –، كبرت كلمة تخرج من أفواه أعداء الإسلام، إن يقولون إلا كذبًا.
" جولد تسيهر " ينتقص منهج النقد عند المسلمين:
انتقص " جولد تسيهر " منهج النقد عند المسلمين بعد أن قارن بين النقد عند المسلمين وعند المستشرقين، ويدعى أن النقد عند المستشرقين تميز عن النقد عند المسلمين.
قال " جولد تسيهر ": ومن السهل أن يفهم أن وجهات نظرهم ( يعنى المسلمين ) ليست كوجهات النظر عندنا، تلك التى تجد لها مجالاً كبيرًا فى النظر فى تلك الأحاديث التى اعتبرها النقد الإسلامى صحيحة غير مشكوك فيها، ووقف حيالها لا يحرك ساكنًا(1).
قال " جولد تسيهر ": وكل هذه الأحاديث، سواء فى ذلك ما يتعلق بالأحكام الفقهية، أو الأمور الخلقية والتهذيبية، يرجعها أصحابها إلى الرسول، بواسطة سلسلة متصلة إلى الصحابى الذى سمع هذه الأقوال من النبى، ورآه يعمل بهذه العادات.
__________
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام، ص54.(1/130)
والنقدة المسلمون أنفسهم، لم يحتاجوا إلى استعمال كثير من الذكاء لكى يستشفوا أساس هذه الاختلافات التى لا تتفق وظروف الزمان الموجودة فى تلك الأخبار، أو تلك الحالات التى تستدعى النظر والتفكير، أو تلك التهم الموجهة إلى صحة قسم كبير من الحديث، عند مقارنة هذه الأخبار المختلفة(1).
وهذا كلام مرسل لا دليل عليه، بل هو محض كذب وافتراء، وذلك لأن منهج النقد عند المسلمين لم يعرفه أحد فى التاريخ القديم أو الحديث، ولم يعرفه أتباع نبى قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لذلك حرفت كتبهم وبدلت وغيرت.
فالرجل الوحيد الذى حفظت أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وسكناته، وصفاته الخِلقية والخُلقية، ومحصت غاية التمحيص حتى كأن المسلم يشاهده، إنما هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس ذلك لأحد قبله أو بعده.
وتميز منهج النقد عند المسلمين، بأن الذين قاموا به كانوا فى قمة التجرد لله الذى جعلهم ينصفون المخالفين لهم، ولا يحابون قريبًا لقرابته ولا صديقًا لصداقته.
فلقد كان الرجل منهم يعدل ويجرح لله تعالى، لا يخاف فى الله لومة لائم، وذلك انطلاقًا من ولائه المطلق لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللإسلام العظيم، فيسئل الرجل عن أبيه وابنه، فيقول فيه ما يرضى الله تعالى، وهو يعلم أنه مسئول عن شهادته أمام الله تعالى، وهذه هى كتب الرجال خير شاهد على ما نقول.
وهذا التجرد مرده فى المقام الأول والأخير، إلى أصالة المنهج الذى ربى عليه هؤلاء النقاد، وأنه منهج ربانى.
__________
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام، ص54.(1/131)
فالمنهج الذى أنتجهم، قائم على أساس تربية المسلم على مراقبة الله تعالى فى السر والعلانية، فالمسلم يعلم أن الله يرى أعماله، ويسمع أقواله، وأن أعماله وأقواله محصية عليه، وأنه سوف يُسأل عنها بين يدى الله تعالى، ويترتب على هذه المساءلة إما النعيم الأبدى فى ضيافة الرحمن الرحيم لمن التزم منهجه وأنصف الآخرين حتى من نفسه، وإما العذاب الأليم إن حاد عن منهج الله تعالى وظلم الخلق.
وسير هؤلاء النقاد خير شاهد على ما نقول، فلقد كانوا فى قمة الصلاح، والاستقامة، والزهد فى الدنيا، والإقبال على الله، ومن ينظر فى سيرهم بتجرد وإنصاف، يظن أنهم ليسوا من بنى البشر.
إن ذلك ليرجع فى المقام الأول والأخير، إلى سلامة المنهج الذى ربى عليه هؤلاء، وإلى صدق المربين الذين أعطوا من أنفسهم القدوة العملية لمن يربونهم اقتداء بالمربى الأول صلى الله عليه وسلم.
لقد علم النقاد المسلمون أنهم ينقلون للأمة دينًا يترتب على الأخذ به صلاح الدنيا، والفوز فى الآخرة بالسعادة الأبدية فى ضيافة الرحمن الرحيم، ولقد كانوا بحق أمناء على ما ائتمنوا عليه، فبذلوا النفس والنفيس من أجل المحافظة على دين الله تعالى، يرجون بذلك رضا الله والجنة.
ولقد كان هؤلاء الأئمة يعلمون أنهم يعدلون ويجرحون الرواة، وسيترتب على تعديلهم قبول الراوى وما روى، وسيترتب على تجريحهم رد الراوى وما روى، وهم أمناء الله على دينه، ولم يغب عن بالهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم توعد من يكذب عليه بأشد أنواع العذاب.
ولم يدع أحد من أئمتنا العصمة، لذلك وضعوا شروطًا لقبول الجرح والتعديل، وقد أوضحنا ذلك فى كتابنا " الجرح والتعديل ".(1/132)
ثم إن كتاب " جولد تسيهر "، يحمل دليل كذبه وافترائه، فأين هذا المنهج الذى التزمه فى كتابه هذا الذى يفوح كذبًا وافتراء وبُغضًا للإسلام والمسلمين، وهل ينتظر منه أو ممن على شاكلته إنصافًا أو تجردًا، إن من يطالب بذلك كالذى يرجو ثمارًا بدون أن يغرس ويتعهد الغرس، إن هؤلاء ليس لهم منهج يربيهم وينطلقون منه، وإنما تسيرهم أهواؤهم وشهواتهم.
وأين ثمار النقد عند المستشرقين ؟! لم يثمر نقدهم إلا الكذب الجلى، واتهام الأبرياء، وتشويه الحقائق.
أما ثمار النقد عند المسلمين الذى لم يسبقوا إليه، ولم يدانيهم أحد فيه، فسلامة دينهم من التحريف والتبديل.
فهذا هو القرآن الكريم يشهد القريب والبعيد، والعدو والصديق، إنه كلام رب العالمين، ووجوه إعجازه لا تنقضى.
وهذه سنة نبينا صلى الله عليه وسلم ننظر فيها كأننا نراه صلى الله عليه وسلم ، وذلك لجودة الأسانيد واتصالها، وإتقان الرواة وعدالتهم، وتجرد النقاد وإخلاصهم لله رب العالمين.
تكلم " جولد تسيهر " عن الوضاعين، وخص بالذكر منهم أولئك الذين ينسبون إلى الزهد والعبادة الذين وضعوا أحاديث فى فضائل العمال، ثم يدعى كذبًا وزورًا أن ما وضعوه قبل منهم، وأن ذلك لم يحط من مكانتهم عند المسلمين.
" جولد تسيهر " يقع فى الكذب الصريح:
قال " جولد تسيهر ": قد سميت أسماء بعض هؤلاء الرجال الذين كانت لهم نية صالحة فى وضع هذه الأحاديث النافعة ونشرها بين الناس، كما اعترف كثير من الأتقياء عند وفاتهم بلا تردد، عما لهم من فضل فى وضع أحاديث كثيرة، وربما كانوا لا يرون فى هذا أمرًا لا يتفق والاستقامة، متى كان الواضع يقصد إلى غايات طيبة.(1/133)
وقد يكون الراوى متهمًا فى روايته، ومع ذلك يبقى رجلاً شريفًا، لا يحط ذلك من شرفه وكرامته الشخصية، أو احترامه الدينى، إذ كانوا قديمًا لا يرون من غضاضة فى التصريح بأن فى الحديث قسمًا غير صحيح، كأن يقال عن النبى فى حياته كذبًا، كما كذب عليه بعد موته(1).
إن ما قاله " جولد تسيهر "، يفوح كذبًا وافتراء إلى حد يجعله يفقد مصداقيته عند الباحثين، ولا يعول على كلامه من قريب أو بعيد.
فهل تساهل أئمة الإسلام مع الوضاعين حتى الذين ينسبون إلى الزهد والعبادة ؟
لقد رد العلماء رواياتهم، وقالوا: من ثبت عليه الكذب – ولو فى حديث واحد فى أى باب من أبواب العلم – رد جميع حديثه، ولا يقبل له حديث على الإطلاق، بل من كذب فى حديثه مع الناس يصير فاسقًا، ويرد حديثه على الإطلاق، فكيف بمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
أما أولئك الزهاد الذين دخل الحديث الموضوع فى حديثهم من غير أن يتعمدوا الوضع، فإن العلماء يردون حديثهم أيضًا، وإن لم يعاملوا معاملة الوضاعين، لأنهم لم يتعمدوا الوضع، وهذا من إنصاف أئمة الحديث، وسبق الكلام عن الحديث الموضوع، وأقسام الوضاعين، وحكم الوضع، وغير ذلك من مباحث فى كتابنا " الحديث الضعيف ".
الحديث الموضوع لا يجوز العمل به مطلقًا، ولا يقبل فى أى باب من الأبواب على الإطلاق، لا فى الفضائل ولا فى غيرها، وهذا بالاتفاق، ولا يجوز أن يروى إلا على جهة التحذير منه وبيان أنه موضوع، وإلا شارك راويه واضعه فى الاثم، ويدخل فى عداد الوضاعين، كما هو معلوم ومتفق عليه بين أئمة المسلمين.
ربط " جولد تسيهر " بين ظهور القياس والوضع فى الحديث:
علل " جولد تسيهر " ظهور القياس كدليل من الأدلة الشرعية، إلى ظهور الوضع فى الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام، ص54.(1/134)
قال " جولد تسيهر ": وقد أدى هذا الشك والارتياب ( يقصد الوضع فى الحديث ) إلى ظهور طريقة سادت منذ بدء الفقه، كان أصحابها يستعملون بجانب الأحاديث الصحيحة عندهم وسائل ثابتة لاستنتاج القواعد الدينية، ثم هذه العلاقات المتجددة كان يرى من الخير أن تقنن باستعمال القياس، والاستنتاج، والرأى الشخصى أيضًا، ولا يترك الحديث عندما يقوم على أساس ثابت، ولكن الاستنتاج الحر يأخذ مكانه بجانبه كطريقة صحيحة للفقه، ومطلوبة أيضًا(1).
لم يظهر القياس كدليل من الأدلة الشرعية نتيجة لظهور الوضع فى الحديث كما زعم " جولد تسيهر ".
لأنه من المعلوم أنه لا قياس مع النص، سواء كان هذا النص من القرآن الكريم أو السنة المطهرة، فلا يلجأ العلماء إلى القياس إلا عند عدم النص.
والقياس ما هو إلا تعدية الحكم من قضية نص على حكمها إما فى القرآن الكريم أو السنة المطهرة إلى قضية لم ينص على حكمها، لاشتراك القضيتين فى علة الحكم.
فما علاقة القياس بوضع الحديث ؟!
الدوافع النفسية للمستشرقين للتشكيك فى السنة المطهرة:
لا يخفى أن غرض المستشرقين من الهجوم على السنة المطهرة، والتشكيك فيها، إنما هو القضاء على الإسلام، وبيان أنه لم يسلم من التحريف هو الآخر، كما أن كتب غير المسلمين قد حُرفت.
ولما كان للقرآن الكريم عند المسلمين المكانة العالية الرفيعة، فهم لا يقبلون أى كلام يمس القرآن الكريم من قريب أو بعيد، بل يناصبون من يحوم حوله أو يمسه من قريب أو بعيد بسوء العداء الذى لا يوصف، خاصة وأن القرآن الكريم كتب بأمر من النبى صلى الله عليه وسلم وبإشراف مباشر منه، وتناقلته الأمة جيلاً بعد جيل، إلى أن وصل إلينا الآن، وعوامل حفظه تتزايد من يوم لآخر، فهو محفوظ فى الصدور، مسطور فى السطور، مسجل على وسائل التسجيل الحديثة.
__________
(1) العقيدة والشريعة فى الإسلام، ص54.(1/135)
فلقد اتجهت أنظار أعداء الإسلام إلى السنة المطهرة، باعتبارها المصدر الثانى للتشريع الإسلامى، ولا غنى للمسلمين عنها، فالقرآن الكريم لا يفهم إلا فى ضوئها، ولا يكون له وجودًا عمليًا فى حياة المسلمين، إلا بتفسير السنة المطهرة، كما سبق.
ولأن السنة المطهرة لا تتمتع بهذه الحساسية التى يتمتع بها القرآن الكريم، فقد صوبوا سهامهم نحو السنة المطهرة، خاصة وأن السواد الأعظم من المسلمين ليست عندهم معرفة كافية بالسنة المطهرة، والجهود التى بذلت للمحافظة على السنة المطهرة على مر العصور.
ولا يصح بحال من الأحوال، إغفال الدوافع النفسية التى تحركهم للنيل من السنة المطهرة، فهم ينظرون إلى المسلمين بعين الحسد والحقد، وهذا هو الذى حملهم على ما قالوا ويقولون، فكما حرفت كتبهم وبدلت، يريدون أن يقولوا للمسلمين: نحن سويًا فى البضاعة، فكما حرفت كتب اليهود والنصارى، فلم تسلم سنة نبيكم ودخلها الوضع والدس.
وهم بذلك يريدون أن يعطلوا القرآن الكريم عن العمل به، ويبقى كتاب يتبرك به فقط، ويغيب الإسلام من حياة المسلمين، عند ذلك يتحقق لهم – لا قدر الله – القضاء على المسلمين، وإخراجهم من دينهم، فالهجوم على السنة المطهرة ليس هدفًا فى حد ذاته، بل المستهدف الأعظم إنما هو الإسلام العظيم بقرآنه وسنته.
وصدق الله العظيم إذ بيّن هدف الكافرين، وحقيقة ما يضمرونه فى نفوسهم للمسلمين:
قال الله تعالى: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } (1).
وقال الله تعالى:
{ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (2).
وقال الله تعالى:
{
__________
(1) سورة النساء، آية رقم 89.
(2) سورة البقرة، آية رقم 105.(1/136)
وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1).
والقتال كما يكون بالآلة الحربية التى تزهق الأرواح وتخرب الديار، يكون حربًا فكرية لإخراج المسلمين من دينهم ويصيروا كفارًا، فإما أن يرتد المسلمون، أو يقتلوا.
والله غالب على أمره، فهو الذى تكفل بحفظ دينه، ولقد وعد المسلمين النصر والتمكين، ما قاموا بواجبهم نحو دينهم، وعضوا عليه بالنواجذ، وجعلوا له واقعًا عمليًا فى حياتهم العامة والخاصة.
قال الله تعالى:
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (2)
" أحمد أمين " يسلك مسلك المستشرقين
لقد سلك " أحمد أمين " مسلك المستشرقين، فاتهم المحدثين بما اتهمهم به المستشرقون.
اتهم " أحمد أمين " المحدثين بإهمال نقد متون السنة وتمحيصها، حتى دخل فيها الموضوع، ولم يستطيعوا التمييز بين الأحاديث الموضوعة وغير الموضوعة، مع اهتمامهم بدراسة الأسانيد، والبحث عن الرواة جرحًا وتعديلاً.
قال " أحمد أمين ": كما يؤخذ عليهم ( أى على المحدثين ) أنهم عُنوا بالسند أكثر من عنايتهم بالمتن، فقد يكون السند مدلسًا تدليسًا متقنًا فيقبلونه، مع أن العقل والواقع يأبيانه.
__________
(1) سورة البقرة، آية رقم 217.
(2) سورة النور، آية رقم 55.(1/137)
بل قد يعده ( أى الحديث ) بعض المحدثين صحيحًا، لأنهم لم يجدوا فيه جرحًا، ولم يسلم البخارى ولا مسلم من ذلك، وربما لو امتحن الحديث بمحك أصول الإسلام، لم يتفق معها وإن صح سنده(1).
ويجاب على " أحمد أمين " بما أجيب به على " جولد تسيهر "، وقد بيّنا فى الجواب على " جولد تسيهر " أن المحدثين كما اهتموا بدراسة الأسانيد، والبحث عن الرجال جرحًا وتعديلاً، فقد اهتموا بدراسة المتون وتمحيصها، واثبتنا ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، وأن ذلك بدأ فى مرحلة مبكرة جدًا، حيث بدأ على يد أبى بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم صارت هذه سنة المحدثين رضي الله عنهم فى كل عصر ومصر.
أبعد هذه الجهود التى بذلت فى نقد المتون وتمحيصها، يقال: إن أئمة الحديث اهتموا بالأسانيد ومحصوها ونقدوها، وبذلوا فى سبيل ذلك جهودًا لا تقدر، وأهملوا المتون، ولم يهتموا بها، ولم ينقدوها كما نقدوا الأسانيد.
إن هذا ادعاء باطل، وقائل هذا القول، إما أنه جاهل يجهل ما بذله العلماء من جهود لا تقدر فى سبيل نقد المتون، وكان من الواجب على هذا الصنف من الناس من باب احترامه لنفسه ألا يتكلم فيما لا يعلم، حتى لا يعرض نفسه للسخرية والاستهزاء، وينكشف جهله، ويزدريه الناس، وحتى لا يعرض نفسه للمساءلة بين يدى الله تعالى.
قال الله تعالى:
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (2).
__________
(1) ظهر الإسلام، 2/48.
(2) سورة الإسراء، آية رقم 36.(1/138)
وإما أن قائل هذا القول يكيد للإسلام والمسلمين، ويريد أن يشكك فى السنة المطهرة، باعتبارها المصدر الثانى من مصادر التشريع الإسلامى، ولا غنى للمسلمين عن سنة نبيهم، فهى التى تجعل القرآن الكريم قابلاً للتطبيق والعمل به، وبدونها يظل القرآن الكريم بدون مبيِّن، ولا سبيل إلى تطبيقه، وهذا من الظهور والوضوح بحيث لا يخفى على أحد، خاصة إذا كان من المشتغلين بالعلوم الشرعية.
ولو تجرد هؤلاء من أهوائهم، ونظروا إلى الموضوع نظرة علمية موضوعية، ما قالوا هذا الكلام الذى يفوح كذبًا وافتراء، وذلك نابع من كفرهم وحقدهم على الإسلام والمسلمين، وذلك للآتى:
دراسة الأسانيد ليست مقصودة لذاتها:
إن دراسة الأسانيد ليست مقصودة لذاتها، بل الغاية من دراسة الأسانيد، والوقوف على مدى اتصالها، ومعرفة أحوال الرواة، والوقوف على مدى عدالتهم وضبطهم وإتقانهم، إنما الغرض منه خدمة المتون، فدراسة الأسانيد والجهود التى بذلت فى سبيل ذلك، ليست هدفًا فى حد ذاته، بل هى من الوسائل التى استعان بها الأئمة لمعرفة مدى صحة المتون ومدى ضعفها، ليقبلوا الصحيح ويردوا الضعيف والموضوع
ولو لم يكن لهؤلاء الرجال الذين درس العلماء حياتهم، وتتبعوا أحوالهم، حتى عرفوا مدى عدالتهم ودرجة ضبطهم وإتقانهم رواية، ما بحث العلماء عنهم وما اهتموا بهم وما رأى أحد لهم ذكرًا على الإطلاق، بل إن ذكرهم جرحًا وتعديلاً، لا يجوز، إذا لم تكن لهم رواية، بل هو نوع من العبث وإضاعة الوقت فيما لا فائدة منه.
لذلك، فإن علماء الجرح والتعديل قالوا: لا يجوز الجرح والتعديل، إلا إذا احتيج إلى الرواية عن الرجل، أما إذا لم نحتج إلى الرواية عنه، فلا حاجة إلى جرحه أو تعديله، ويصير الجرح – مع عدم الحاجة إليه – حرامًا، إبقاء للحكم على أصله، وكذا التعديل، لا يجوز إلا لمصلحة دينية، أو دنيوية، لأنه منهى عنه أيضًا.(1/139)
الجهود التى بذلها الأئمة لدراسة الرجال والأسانيد كبيرة، وهى فى نفس الوقت ظاهرة ومتميزة، بحيث لا تخفى.
هذا إذا نظرنا إلى الجهود التى بذلت لدراسة الأسانيد على أنها منفصلة عن الجهود التى بذلت لدراسة المتون.
ولكن إذا نظرنا إلى الجهود التى بذلت لدراسة الأسانيد على أنها خادمة للمتون، فنقول: إن هذه الجهود مجتمعة، سواء كانت لدراسة الأسانيد أو المتون، إنما هى خادمة للسنة المطهرة، والقصد منها الوقوف على مدى صحة المتون.
فدراسة الأسانيد ليست مقصودة لذاتها، بل هى وسيلة من وسائل كثيرة للوقوف على مدى صحة المتن وسلامته من العلل الظاهرة والباطنة.
الجهود التى بذلت لنقد متون السنة لا يقف عليها إلا الجهابذة النقاد:
الجهود التى بذلها أئمة الحديث لدراسة المتون ونقدها، وإن كانت ليست بحجم الجهود التى بذلت لدراسة الأسانيد ومعرفة أحوال الرواة جرحً وتعديلاً، وفى نفس الوقت ليست متميزة مثل الجهود التى بذلت لدراسة الأسانيد، فلا يقف على هذه الجهود إلا العلماء الذين درسوا السنة دراسة مستوعبة، وأحاطوا علمًا بكتب السنة، سواء ما يتعلق بكتب الرجال، أو كتب شروح السنة، أو كتب العلل، أو كتب الأحاديث الموضوعة، وغير ذلك، ليتسنى لهم الوقوف على الحقائق، وليعلموا أن العلماء كما اهتموا بدراسة الأسانيد، فقد اهتموا بدراسة المتون وتمحيصها، وأن دراسة الرجال والأسانيد ليست مقصودة لذاتها، فالكلام عن المتون، وإن كان العلماء خصوه بالجمع والتصنيف، إلا أن قسمًا كبيرًا منهم تكلم عنه الأئمة فى كتب شروح السنة المطهرة، عند تعرضهم للمتون بالشرح.(1/140)
فمما يفعله الأئمة عند شرحهم للحديث، أنهم يجمعون طرق الحديث، ويستوعبون ألفاظه، وإن كان هناك تعارض بين الحديث وآيات القرآن الكريم، أو بين الحديث وحديث آخر، أزالوا هذا التعارض إن كان من حيث الظاهر، أو بيّنوا الناسخ من المنسوخ إن لم يمكن إزالة التعارض الظاهر، وإذا لم يكن نسخ، يلجأون إلى الترجيح بين الأدلة ليعلموا بالراجح، ويردوا المرجوح.
ثم تراهم يتكلمون عن العلل إن كانت هناك علل، وإن كان فى الحديث إدراج أو قلب أو اضطراب أو تصحيف أو تحريف بيّنوه غاية البيان، كما اهتم أئمة الحديث بتبيين غريب الحديث، وما يستنبط منه من أحكام، وما يستفاد منه من عظات وعبر، فجزاهم الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين.
وأيضًا جاء الكلام عن المتون وتحقيقها وتمحيصها، فى ثنايا كتب الرجال، فإنهم يتحدثون فى تراجم الرواة عما انفرد به الضعفاء، كما يتكلمون عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
الباب السادس
حكم العمل بالحديث الشريف
قبل الحديث عن حكم العمل بالحديث الشريف، ينبغى أن نعلم أن العلماء قسموا الحديث – باعتبار تعدد طرقه وعدم تعددها – إلى قسمين رئيسيين، وسوف نتحدث عن كل قسم بشىء من الإيجاز، حتى يكون القارئ على بيّنة من الأمر، وبالله التوفيق.
تقسيم الحديث
باعتبار تعدد طرقه وعدم تعددها
ينقسم الحديث بهذا الاعتبار إلى قسمين رئيسيين:
1 – الحديث المتواتر. 2 – الحديث الآحاد.
أولاً: الحديث المتواتر:
تعريف الحديث المتواتر:
هو ما رواه جمع عن جمع، يحيل العقل أن يتفقوا على الكذب، أو أن يقع منهم مصادفة عن مثلهم من أول الإسناد إلى آخره، وأن يستندوا إلى أمر محسوس من سماع أو رؤية.
شروط الحديث المتواتر:
من التعريف السابق للحديث المتواتر يتبين لنا شروطه، وهى:
1 – أن يكون رواته عددًا كبيرًا.
2 – أن يحكم العقل باستحالة اتفاق رواته على الكذب عادة، أو حصوله منهم اتفاقًا.(1/141)
3 – أن يكون عدد الرواة فى كل طبقة من طبقات الإسناد يتحقق بهم التواتر، فإذا اختل العدد – ولو فى طبقة واحدة – فلا يكون متواترًا.
4 – أن يكون الخبر الذى نقلوه مما يدرك بالحس من سماع أو رؤية، لا مما يدرك بالعقل المحض، بأن يكون آخر ما يصير إليه السند وينتهى عنده أمر حسى كأن تقول آخر طبقة فى الإسناد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا، أو رأيناه يعمل كذا.
ما الذى يفيده الحديث المتواتر ؟
إذا استوفى الحديث المتواتر جميع الشروط السابقة، فإنه يفيد العلم اليقينى الضرورى لسامعه، بحيث يضطر إليه، ولا يمكنه دفعه أو ردّه.
فالحديث المتواتر – من حيث الثبوت – يلى القرآن الكريم فى المنزلة والرتبة.
حكم العمل بالخبر المتواتر:
ولما كان الخبر المتواتر مفيدًا للعلم اليقينى الضرورى، وجب العمل به، وكان صالحًا للاحتجاج به فى إثبات العقائد والأحكام الشرعية العملية، سواء ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات، وكذلك الأخلاق والآداب.
حكم من ينكر الخبر المتواتر:
ولما كنا على يقين من أن الخبر المتواتر صادر عن قائله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لزم علينا قبوله من غير تردد.
وأما من أنكره مع علمه بأنه متواتر، وعلمه بحكم من ينكر الخبر المتواتر، ويجحده، فإنه يكون بذلك ردًا لما علم قطعًا أنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيكون كافرًا.
ويجب أن نعلم أن المراد من رد الخبر، هو جحوده وإنكاره، أما من تأول الخبر تأويلاً صحيحًا، فإنه لا يدخل فى باب منكر الخبر وجاحده بحال من الأحوال، لأنه يلزم من تأويل الخبر قبوله أولاً.
كما يجب أن نعلم أن العذر بالجهل، هو مذهب أهل السنة والجماعة، فمن أنكر خبرًا متواترًا أو جحده وهو لا يعلم أنه متواتر، أو لا يعلم حكم من أنكر المتواتر، فلا يصح أن نبادر إلى تكفيره، بل يجب أن نبين له الأمر، فإن أصر بعد البيان فهو الجانى على نفسه.
أقسام المتواتر:
ينقسم الخبر المتواتر إلى قسمين:
((1/142)
أ ) المتواتر اللفظى:
وهو ما تواتر لفظه، بأن ينقل إلينا بلفظ النبى صلى الله عليه وسلم ، مثال ذلك حديث: « من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار »(1).
(ب) المتواتر المعنوى:
وهو ما تواتر معناه دون لفظه، وذلك بأن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة تشترك فى أمر يتواتر ذلك القدر المشترك، كما إذا نقل رجل عن حاتم مثلاً أنه أعطى جملاً، وآخر أنه أعطى فرسًا، وآخر أنه أعطى دينارًا، وهلم جرا فيتواتر القدر المشترك بين أخبارهم وهو ( الإعطاء )، لأن وجوده مشترك فى جميع هذه القضايا.
مثال ما تواتر معناه دون لفظه من الحديث: أحاديث رفع اليدين فى الدعاء.
فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه ( رفع يديه فى الدعاء )، لكن هذه الأحاديث فى قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع(2).
ثانيًا: حديث الآحاد:
تعريف حديث الآحاد، أو خبر الآحاد: هو ما ليس بمتواتر.
أقسام خبر الآحاد:
ينقسم خبر الآحاد إلى ثلاثة أقسام:
1 – الغريب. 2 – العزيز. 3 – المشهور.
(1) الحديث الغريب:
تعريف الحديث الغريب:
هو الحديث الذى تفرد بروايته راو واحد ولو فى طبقة واحدة من طبقات إسناده.
مثال للحديث الغريب:
__________
(1)
( ) أخرجه البخارى، كتاب العلم – باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم ؛ راجع أطراف الحديث فى فتح البارى لترى أن البخارى خرجه فى مواضع أخرى من صحيحه، فتح البارى، 1/202.
وأخرجه مسلم، فى المقدمة بلفظه المذكور، وبلفظ: « من تعمد علىّ كذبًا »، 1/10.
وأخرجه ابن حبان، كتاب الرقائق – باب البيان بأن الشيطان قد يعقد على مواضع الوضوء ؛ انظر الإحسان، 2/194.
(2) تدريب الراوى، 2/181،180.(1/143)
قال الإمام البخارى – رحمه الله تعالى –: حدثنا الحميدى عبد الله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصارى قال: أخبرنى محمد بن إبراهيم التيممي: أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه » "(1).
فقد تفرد برواية هذا الحديث من الصحابة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم.
وتفرد بروايته عن عمر بن الخطاب من التابعين: علقمة بن وقاص الليثى.
وتفرد به عن علقمة محمد بن إبراهيم التيمى، وتفرد به عن محمد بن إبراهيم التيمى: يحيى بن سعيد الأنصارى، ثم رواه عن يحيى بن سعيد الأنصارى عدد كثير فى كل طبقة.
فهو حديث آحاد غريب مطلق، حيث وقع التفرد فى أصل السند.
حكم الحديث الغريب:
الحديث الغريب، منه الصحيح والحسن والضعيف، وذلك إنما يرجع إلى مدى تمكن الحديث من شروط القبول، فإذا تحقق فى الحديث أعلى شروط القبول فهو الصحيح، وإن تحقق فى الحديث أدنى شروط القبول فهو الحسن، وإن فقد الحديث شرطًا أو أكثر من شروط القبول فهو ضعيف.
(2) الحديث العزيز:
تعريف الحديث العزيز:
__________
(1) صحيح البخارى، كتاب بدء الوحى – باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، 1/2 " واللفظ له ".
وأخرجه البخارى، كتاب الأيمان والنذور – باب النية فى الأيمان، " بلفظ أتم من اللفظ المذكور هنا "، راجع الحديث الأول من فتح البارى، لتقف على المواضع التى أخرجه البخارى فيها، فتح البارى، 1/9.
وأخرجه مسلم، كتاب الإمارة – باب قوله صلى الله عليه وسلم « إنما الأعمال بالنية »، صحيح مسلم بشرح النووى، 13/54،53.(1/144)
هو الحديث الذى تفرد بروايته راويان ولو فى طبقة واحدة من طبقات إسناده، بشرط ألا يقل عدد الرواة فى كل طبقة من طبقات إسناده عن اثنين.
مثال للحديث العزيز:
أخرج البخارى ومسلم من حديث أنس والبخارى من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين »(1).
حكم الحديث العزيز:
الحديث العزيز، منه الصحيح والحسن والضعيف، وذلك إنما يرجع إلى مدى تمكن الحديث من شروط القبول، فإن تحقق فى الحديث أعلى شروط القبول فهو الصحيح، وإن تحقق فى الحديث أدنى شروط القبول فهو الحسن، وإن فقد الحديث شرطًا أو أكثر من شروط القبول فهو الضعيف.
(3) الحديث المشهور:
تعريف الحديث المشهور:
هو الحديث الذى تفرد بروايته ثلاثة رواة ولو فى طبقة واحدة من طبقات إسناده، بشرط ألا يقل عدد الرواة فى كل طبقة من طبقات إسناده عن ثلاثة رواة.
أو هو الحديث الذى له طرق محصورة بأكثر من اثنين، ولم يبلغ حد التواتر.
مثال للحديث المشهور:
« المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » "(2).
حكم الحديث المشهور:
__________
(1) صحيح البخارى، كتاب الإيمان – باب حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، 1/10 " عن أنس وأبى هريرة "
والرواية المذكورة عن أنس، ورواية أبى هريرة بلفظ مقارب.
صحيح مسلم، كتاب الإيمان – باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل، صحيح مسلم بشرح النووى، 2/15 " عن أنس ".
(2) أخرجه البخارى، كتاب الإيمان – باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، 1/9 " عن عبد الله بن عمرو ".
وأخرجه البخارى، كتاب الإيمان – باب أى الإسلام أفضل، 1/10 " عن أبى موسى ".
وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان – باب تفاضل الإسلام وأى أموره أفضل، صحيح مسلم بشرح النووى، 2/12 " عن جابر بن عبد الله " كما أخرجه " عن أبى موسى وعبد الله بن عمرو ".(1/145)
الحديث المشهور، منه الصحيح والحسن والضعيف، وذلك إنما يرجع إلى مدى تمكن الحديث من شروط القبول وتمكنه منها، فإن تحقق فى الحديث أعلى شروط القبول فهو الصحيح، وإن تحقق فى الحديث أدنى شروط القبول فهو الحسن، وإن فقد الحديث شرطًا أو أكثر من شروط القبول فهو الضعيف.
حكم العمل بحديث الآحاد:
علمت مما سبق أن حديث الآحاد أو خبر الآحاد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الغريب، والعزيز، والمشهور، وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة ينقسم إلى: الصحيح، والحسن، والضعيف، وذلك إنما يرجع إلى مدى تمكن الحديث من شروط القبول، فإن تحققت فى الحديث أعلى شروط القبول فهو الصحيح، وإن تحققت فى الحديث أدنى شروط القبول فهو الحسن، وإن فقد الحديث شرطًا أو أكثر من شروط القبول فهو الضعيف.
وحديثنا هنا عن حكم العمل بالحديث المقبول بقسميه الصحيح والحسن، أما الحديث الضعيف فله حكم يخصه.
أجمع من يعتد به فى الإجماع، على وجوب العمل بخبر الآحاد، خلافًا لمن أنكر ذلك ممن لا يعتد برأيه، ولا يوثق بقوله، وسوف نورد شبهات المنكرين والرد عليها – إن شاء الله تعالى –.
أدلة وجوب العمل بخبر الآحاد:
1 – سبق أن ذكرنا الأدلة العامة من القرآن الكريم، التى أوجبت على المسلمين طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما أمر، والانتهاء عن كل ما نهى عنه، سواء كان ذلك فى القرآن الكريم أو السنة المطهرة، ولم يجعل الله تعالى ذلك خاصًا بما جاء فى القرآن الكريم، بل جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة.
2 – تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم – الذى لا حجة لقول أحد من البشر مع قوله – أنه عمل بخبر الواحد، كما تواتر ذلك أيضًا عن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، أنهم عملوا بخبر الواحد فى وقائع لا تكاد تحصى، وسوف نذكر بعض الأدلة على ذلك
لذلك لا يجوز لمسلم أن يرد خبر الآحاد، لأنه خبر آحاد بحال من الأحوال، وذلك لأن العمل بخبر الآحاد من المعلوم من الدين بالضرورة.(1/146)
قال الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى –: ولو جاز لأحد من الناس أن يقول فى علم الخاصة: أجمع المسلمون قديمًا وحديثًا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته، جاز لى.
ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا فى تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجودًا على كلهم(1).
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر – رحمه الله تعالى –: أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر فى جميع الأمصار – فيما علمت – على قبول خبر الواحد العدل، وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء فى كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافًا.
وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتى لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله، وقد ذكر الحجة عليهم فى ردهم أخبار الآحاد جماعة من أئمة الجماعة وعلماء المسلمين(2).
وقد ذكر الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى – أدلة وجوب العمل بخبر الواحد فى رسالته، وسنذكر بعضها – إن شاء الله تعالى –.
قال الإمام الشافعى: فإن قال قائل: اذكر الحجة فى تثبيت خبر الواحد بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع...(3)، ثم ذكر الأدلة:
قال الإمام البخارى – رحمه الله تعالى – فى باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق فى الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام: وقول الله تعالى:
{ فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } (4).
ويسمى الرجل طائفة، لقوله تعالى:
{
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعى، ص458،457.
(2) مقدمة كتاب التمهيد، 1/3،2.
(3) الرسالة للإمام الشافعى، ص401.
(4) سورة التوبة، آية رقم 122.(1/147)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } (1)، فلو اقتتل رجلان دخلا فى معنى الآية، وقوله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } (2)، وكيف بعث النبى صلى الله عليه وسلم أُمراءه واحدًا بعد واحد، فإن سها أحد منهم رد إلى السنة(3).
ثم ساق الإمام البخارى فى هذا الباب أربعة عشر حديثًا، تدل على أن العمل بخبر الواحد واجب، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يتوقفوا فى العمل بخبر الواحد، بل عملوا به فور سماعهم إياه، وسنذكر بعض هذه الأحاديث – إن شاء الله تعالى –.
قال الإمام النووى: ذهب جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل(4).
وسنذكر – بحول الله وقوته – بعض ما استدل به على حجية خبر الآحاد، ووجوب العمل به.
1 – عن عبد الله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: « نضر الله عبدًا سمع مقالتى فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم »(5).
__________
(1) سورة الحجرات، آية رقم 9.
(2) سورة الحجرات، آية رقم 6.
(3) صحيح البخارى، 9/107.
(4) مقدمة صحيح مسلم بشرح النووى، 1/131.
(5) أخرج الشافعى، فى رسالته – باب الحجة فى تثبيت خبر الواحد، ص402،401.
وأخرجه أبو داود، كتاب العلم – باب فضل نشر العلم، " بدون قوله: ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم... إلخ "، 3/322 " عن زيد بن ثابت ".
وأخرجه الترمذى، كتاب العلم – باب ما جاء فى الحث على تبليغ السماع، " بدون قوله: ثلاث لا يغل عليهن... إلخ "، قال أبو عيسى: وفى الباب عن عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وجبير بن مطعم، وأبى الدرداء، وأنس، وقال أبو عيسى: حديث زيد بن ثابت، حديث حسن، 5/34،33.(1/148)
قال الإمام الشافعى: فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته، وحفظها، وأدائها امرأ يؤديها – والامرء واحد – دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة فى دين ودنيا.
ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حافظًا، ولا يكون فيه فقيهًا.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين، مما يحتج به فى أن إجماع المسلمين – إن شاء الله – لازم(1).
2 – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقى أبا طلحة الأنصارى، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبى بن كعب، شرابًا من فضيخ – وهو تمر – فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت(2).
يستنبط من حديث أنس بن مالك ما يأتى:
أ – علم أبو طلحة أن الحجة تقوم عليه بخبر هذا الآتى، لذلك أمر بكسر الجرار وفيه شراب مباح يومئذ، ولا يجوز إتلاف المال إلا إذا كان حرامًا.
ب – إقرار صاحبيه، وهما من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بالحلال والحرام.
جـ– علم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك العمل، وأقر أصحابه عليه، وهذا دليل منه صلى الله عليه وسلم على أن خبر الواحد تقوم به الحجة، ويلزم من بلغه العمل به.
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعى، ص402،403.
(2) أخرجه البخارى، كتاب أخبار الآحاد – باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق... إلخ.
وأخرجه البخارى، قبل ذلك فى كتاب الأشربة – باب نزول تحريم الخمر وهى من البسر والتمر، فتح البارى، 10/37.
وأخرجه الإمام الشافعى، فى الرسالة – باب الحجة فى تثبيت خبر الواحد، ص409.(1/149)
قال الحافظ ابن حجر فى حديث أنس: هذا وهو حجة قوية فى قبول خبر الواحد، لأنهم أثبتوا به نسخ الشىء الذى كان مباحًا حتى أقدموا من أجله على تحريمه والعمل بمقتضى ذلك(1).
قال الإمام الشافعى فى التعقيب على حديث أنس: وهؤلاء فى العلم والمكان من النبى صلى الله عليه وسلم وتقدم صحبته، بالموضع الذى لا ينكره عالم.
وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر، فأمر أبو طلحة – وهو مالك الجرار – بكسر الجرار، ولم يقل هو ولا هم ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع قربه منا، أو يأتينا خبر عامة.
وذلك أنهم لا يهريقون حلالاً، إهراقة سرف، وليسوا من أهله.
والحال فى أنهم لا يدعون إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوا، ولا يدع – لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم – أن ينهاهم عن قبوله(2).
3 – عن البراء، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } (3)، فوجه نحو الكعبة، وصلى معه رجل العصر ثم خرج، فمر على قوم من الأنصار، فقال وهو يشهد أنه صلى مع النبى صلى الله عليه وسلم وأنه قد وجه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع فى صلاة العصر(4).
__________
(1) فتح البارى، 13/238.
(2) الرسالة للإمام الشافعى، ص410،409.
(3) سورة البقرة، آية رقم 144.
(4) أخرجه البخارى، كتاب أخبار الآحاد – باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق... إلخ، 9/108.(1/150)
4 – عن ابن عمر، قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة(1).
قال الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى –: وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها.
ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله فى القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه فى تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر الواحد، إذا كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم، فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة.
ولم يكونوا ليفعلوه – إن شاء الله – بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله، إذا كان من أهل الصدق.
ولا ليحدثوا أيضًا مثل هذا العظيم فى دينهم إلا عن علم بأن لهم إحداثه.
ولا يدعون أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنعوا منه.
ولو كان ما قبلوا من خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تحويل القبلة، وهو فرض: مما يجوز لهم، لقال لهم – إن شاء الله – رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد كنتم على قبلة، ولم يكن لكم تركها إلا بعد علم تقوم عليكم به حجة، من سماعكم منى، أو خبر عامة، أو أكثر من خبر واحد عنى(2).
__________
(1) نفس المصدر السابق.
وأخرجه الإمام الشافعى، فى الرسالة – باب الحجة فى تثبيت خبر الواحد، ص406
(2) الرسالة للإمام الشافعى، ص406-408.(1/151)
5 – عن أم عمرو ابن سليم الزرقى، قالت: بينما نحن بمنى، إذا علىّ بن أبى طالب على جمل يقولك: " إن رسول الله يقول: « إن هذه أيام طعام وشراب، فلا يصومن أحد »، فاتبع الناس وهو على جمله، يصرخ فيهم بذلك(1).
قال الإمام الشافعى: ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبعث بنهيه واحدًا صادقًا، إلا لزم خبره عن النبى صلى الله عليه وسلم ، بصدقه عند المنهيين عن ما أخبرهم أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاج، وقد كان قادرًا على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عددًا، فبعث واحدًا يعرفونه بالصدق.
وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم، وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هكذا، مع ما وصفت من مقدرة النبى صلى الله عليه وسلم على بعثه جماعة إليهم، كان ذلك – إن شاء الله – فيمن بعده – ممن لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم – أولى أن يثبت به خبر الصادق(2).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر واليًا على الحج فى سنة تسع، وحضره الحج من أهل بلدان مختلفة، وشعوب متفرقة، فأقام لهم مناسكهم، وأخبرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما لهم وما عليهم.
وبعث علىّ بن أبى طالب فى تلك السنة، فقرأ عليهم فى مجمعهم يوم النحر، آيات من " سورة براءة "، ونبذ إلى قوم على سواء، وجعل لهم مددًا، ونهاهم عن أمور.
فكان أبو بكر وعلىّ، معروفين عند أهل مكة بالفضل والدين والصدق، وكان من جهلهما – أو أحدهما – من الحاج وجد من يخبره عن صدقهما وفضلهما.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعث إلا واحدًا، الحجة قائمة بخبره على من بعثه إليه – إن شاء الله–.
__________
(1) أخرجه الإمام الشافعى، فى الرسالة – باب الحجة فى تثبيت خبر الواحد، ص411.
(2) الرسالة للإمام الشافعى، ص413،412.(1/152)
وقد فرق النبى صلى الله عليه وسلم عمالاً على نواحى، عرفنا أسماءهم والمواضع التى فرقهم عليها(1).
وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وأمره أن يقاتل من أطاعه من عصاه، ويعلمهم ما فرض عليهم، ويأخذ منهم ما وجب عليهم لمعرفتهم بمعاذ ومكانه منهم وصدقه، وكل من ولى فقد أمره بأخذ ما وجب الله على من ولاه عليه، ولم يكن لأخذ عندنا فى أحد ممن قدم عليه من أهل الصدق أن يقول: أنت واحد وليس لك أن تأخذ منا ما لم نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه علينا، ولا أحسبه بعثهم مشهورين فى النواحى التى بعثهم إليها بالصدق، إلا لما وصفت من أن تقوم بمثلهم الحجة على من بعثه إليه.
وبعث فى دهر واحد اثنى عشر رسولاً إلى اثنى عشر ملكًا يدعوهم إلى الإسلام، ولم يبعثهم إلا إلى من قد بلغته الدعوة، وقامت عليه الحجة فيها، وألا يكتب فيها دلالات لمن بعثهم إليه على أنها كتبه، وقد تحرى فيهم ما تحرى فى أمرائه من أن يكونوا معروفين، فبعث دحية إلى الناحية التى هو فيها معروف، ولم تزل كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهى، ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ أمره، ولم يكن ليبعث رسولاً إلا صادقًا عند من بعثه إليه(2).
وهذه بعض الأدلة التى ساقها الشافعى، وغيره من الأئمة الأجلاء، على أن خبر الواحد الثقة حجة، ويلزم من بلغه العمل به، ولا حجة لأحد فى تركه.
قال الحافظ ابن حجر: من الأدلة على قبول خبر الواحد من حيث النظر أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث لتبليغ الأحكام، وصدق خبر الواحد ممكن، فيجب العمل به احتياطًا، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر، فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة، وأن مبنى الأحكام على العمل بالشهادة، وهى لا تفيد القطع بمجردها(3).
__________
(1) نفس المصدر السابق، ص414-419.
(2) الرسالة للإمام الشافعى، ص414-419.
(3) فتح البارى، 13/235.(1/153)
قال الإمام النووى فى إبطال قول من رد خبر الواحد وأنكر وجوب العمل به: وهذا قول باطل، فلم تزل كتب النبى صلى الله عليه وسلم وآحاد رسله يعمل بها، ويلزمهم النبى صلى الله عليه وسلم العمل بذلك، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون، فمن بعدهم، ولم تزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة، فمن بعدهم من السلف والخلف، على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة، وقضائهم به، ورجوعهم إليه فى القضاء والفتيا، ونقضهم به ما حكموا به على خلافه، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم بذلك على من خالفهم، وانقياد المخالف لذلك، وهذا كله معروف لا شك فى شىء منه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد، وقد جاء الشرع بوجوب العمل به، فوجب المصير إليه(1).
مما سبق يتبين أن العمل بخبر الآحاد متواتر، لذلك لا يجوز لمسلم ترك العمل به لأنه خبر آحاد، بل يجب عليه قبوله، والعمل به.
حكم من يرُدّ خبر الآحاد:
سبق أن ذكرنا أن العمل بخبر الآحاد متواتر، وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، لذلك لا يجوز للمسلم رده، بل يجب عليه قبوله، والعمل به.
وقبل أن نتحدث عن حكم من يرُدّ خبر الآحاد، لابد أن نفرق بين من يرُدّ خبر الآحاد جملة وتفصيلاً، ولا يقبله، ولا يعمل به لأنه خبر آحاد، وبين من يرُدّ خبر الآحاد لوجود المعارض الأقوى منه فى بابه، أو لسبب آخر.
أولاً: حكم من يرد خبر الآحاد لأنه خبر آحاد:
من يرد خبر الآحاد جملة وتفصيلاً، ولا يعمل به مطلقًا، يكون منكرًا لما علم من دين الله بالضرورة، فيكون كافرًا، بشرط أن يكون عالمًا غير جاهل.
فلابد أن يكون عالمًا بحكم العمل بخبر الآحاد، وأنه واجب، وحكم من يرده أو يجحده.
أما من يجهل هذا الحكم، فلا يصح أن يبادر إلى تكفيره، بل من حقه أن يعلم، فإن أصر بعد البيان، فهو الجانى على نفسه.
__________
(1) صحيح مسلح بشرح النووى، 1/132.(1/154)
ثم إن الذين يردّون السنة المطهرة، ويعطلونها عن العمل ليس قصدهم ردّ السنة وفقط، بل هدفهم تعطيل القرآن الكريم عن العمل به، وتنحية الإسلام من حياة المسلمين، وسبق أن ذكرنا علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم، وقلنا إن السنة هى الشارحة والمبيّنة للقرآن الكريم، فالسنة تمثل المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم، فالعلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة، هى علاقة تتميم، فإذا ردّت السنة، وعطلت عن العمل، ستبقى أوامر القرآن الكريم غير قابلة للتطبيق، فيقول القرآن الكريم: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ولا نعرف كيف ننفذ هذه الأوامر.
وعند ذلك يتحول القرآن الكريم من منهج ينظم حياة المسلمين من أولها إلى آخرها إلى كتاب غير قابل للتطبيق، ويبقى كتاب يتبرك به، ويُعزل عن قيادة الحياة.
وإنما وجّه هؤلاء سهامهم إلى السنة المطهرة، ولم يوجهوها إلى القرآن مباشرة، لأن للقرآن الكريم حساسية عند المسلمين، فلا يقبل المسلمون المساس بالقرآن الكريم من قريب أو بعيد، خاصة أن القرآن الكريم، نقل من أوله إلى آخره، نقلاً متواترًا، بل وبأعلى أنواع التواتر، فهو متواتر تواتر الجيل عن الجيل.
فعلم هؤلاء إن وجهوا سهامهم إلى القرآن الكريم مباشرة، فستكون سهام طائشة، ولن يتحقق هدفهم.
وقد استغل هؤلاء المشككون جهل المسلمين بالسنة المطهرة، والجهود الذى بذلت من أجل المحافظة عليها، فلبسوا عليهم الأمر، وقالوا: إن السنة دخلها الوضع، واختلط الصحيح منها بالسقيم، فلا يصح أن تكون مصدرًا للتشريع.
وقد استغلوا هذه الظاهرة الصحية – وهى أن الأحاديث ليست فى درجة واحدة، ففيها الصحيح والحسن والضعيف – استغلالاً يخدم أغراضهم الخبيثة، فشككوا فى السنة المطهرة.(1/155)
وهذا التمييز بين الأحاديث، دليل جلى على الجهود التى بذلت من أجل المحافظة على السنة المطهرة، وأن علماء السنة ميزوا الصحيح من السقيم، فهذه ظاهرة صحية وليست ظاهرة مرضية حتى تستغل للتشنيع على السنة، والمطالبة برفضها.
ثانيًا: حكم من يرد خبر الآحاد لا لأنه خبر آحاد، بل لسبب آخر:
قد يقول قائل: رأينا الأئمة الكبار يردّون بعض الأحاديث، ولا يعملون بها، فهل هؤلاء يدخلون مع من يرد أخبار الآحاد، ولا يعمل بها ؟ وكيف سوغوا لأنفسهم أن يردوا الأحاديث ؟
والجواب عن ذلك نقول: ما من إمام إلا وأخذ من السنة وترك، إلا أنهم لم يجمعوا على ترك سنة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان هؤلاء الأئمة قد تركوا بعض الأحاديث فلم يعملوا بها، فإنما كان ذلك لأسباب أخرى غير أنها أخبار آحاد، فهم لا يدخلون مع من ينكر خبر الآحاد، بل إنهم أنكروا على من يرد أخبار الآحاد، وبينوا ضلالهم وهدفهم، والثابت عنهم رضي الله عنهم أنهم عملوا بالسنة الآحادية، واستنبطوا منها الأحكام، كما يشهد بذلك واقعهم العملى، فكتبهم تعج بأخبار الآحاد، وإذا رد أحدهم حديثًا أو أكثر، فإنما يرد ما يرد لسبب آخر غير أنه خبر آحاد، ومن الأسباب التى رد الأئمة الحديث بسببها:
1 – قد لا يصح الحديث عند هذا الإمام الذى رده، فلم تتوفر فيه شروط القبول عند ذلك الإمام، خاصة إذا كان ذلك الإمام تشدد فى شروط القبول، وشرط فى الحديث المقبول الذى يحتج به شروطًا أكثر مما شرطه الجمهور، فهو إذ يرده، فإنما يرده لأنه ضعيف عنده لا يصلح للاحتجاج به، فأبو حنيفة – رحمه الله تعالى – مثلاً، يشترط فى الراوى فضلاً عن الشروط التى شرطها الجمهور أن يكون فقيهًا.
2 – قد يرد الإمام الحديث، لوجود المعارض الأقوى منه فى بابه، سواء كان ذلك المعارض من القرآن الكريم، أو السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، ولو من وجهة نظر ذلك الإمام، وهذا ما يسمى بالحديث الشاذ، والحديث الشاذ ضعيف.(1/156)
فإذا وقع تعارض بين حديثين، فإن العلماء يسلكون نحو النصين المتعارضين ما يأتى:
أ – الجمع بين الحديثين المتعارضين إن أمكن الجمع بينهما، فإن أمكن الجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع المعروفة، عمل بالنصين معًا، ويكون هذا التعارض من حيث الظاهر فقط.
ب – إذا لم يمكن الجمع بين الحديثين المتعارضين بوجه من وجوه الجمع، فاعتبار الناسخ والمنسوخ، وذلك يتوقف على معرفة تاريخ كل نص، فإن عرف المتقدم من المتأخر صار النص المتأخر ناسخًا للنص المتقدم، وعمل بالناسخ وترك المنسوخ.
جـ– إذا لم يمكن معرفة المتأخر من المتقدم لنصير إلى الناسخ والمنسوخ، فالترجيح بين الحديثين المتعارضين بوجه من وجوه الترجيح المتعلقة بالسند أو المتن، لمعرفة أيهما أرجح من الآخر، فيأخذ بالأرجح ويعمل به، ويترك المرجوح، ويسمى الأرجح: بالمحفوظ، أما المرجوح فيسمى: الشاذ.
ويلاحظ هنا أن الإمام عندما يرد النص المرجوح، لا يرده لأنه خبر آحاد، ولكن رده لوجود ما هو أقوى منه فى بابه، مع عدم إمكان الجمع بينهما، كما أن الحديث المحفوظ، غالبًا يكون آحادًا إذا لم يمكن الترجيح بين الحديثين المتعارضين.
د – التوقف عن العمل بالنصين المتعارضين، فليس العمل بأحدهما بأولى من الآخر، ويستحيل أن يصدر الكلام المتعارض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلابد من وقوع خطأ من أحد الرواة أدى إلى هذا التعارض.
3 – قد يكون فى إسناد الحديث الذى ردّه الإمام راو ضعيف عند هذا الإمام، وقد يكون هذا الراوى ثقة أو صدوقًا عند غيره ؛ ولا يصح أن يحاكم الإمام إلى قواعد غيره هو وما وضعه من شروط وضوابط لقبول الخبر أو رده.
4 – قد يكون الحديث الذى ردّه الإمام منسوخًا، والمنسوخ لا يعمل به وإن صح.
5 – قد يكون الحديث الذى عمل الإمام بخلافه – إذا لم يظهر له معارض أقوى منه – لم يصل إلى ذلك الإمام، وهو معذور مأجور على اجتهاده – إن شاء الله تعالى –.(1/157)
6 – قد يكون الحديث ظنى الدلالة، يفهم منه أكثر من فهم، فيفهمه إمام على وجه، ولا يفهمه غيره على هذا الوجه، فيظن من لا يعلم أن الإمام خالف الحديث.
ومن المعلوم أن الحديث حجة برأسه، عمل به أم لم يعمل به، ويلزم من بلغه العمل به، فلا حجة لقول أحد من البشر كائنًا من كان مع قوله صلى الله عليه وسلم ، فهو الذى أوجب الله على المسلمين طاعته، ولم يجعل الله هذا لغيره من البشر.
قال الإمام الشافعى – رحمه الله تعالى –: فإن شبه على رجل بأن يقول: قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث كذا وحديث كذا، وكان فلان يقول قولاً يخالف ذلك الحديث، فلا يجوز عندى على عالم أن يثبت خبر واحد كثيرًا ويحل به ويحرم، ويرد مثله، إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكون ما سمع ومن سمع منه أوثق عنده ممن حدثه خلافه، أو يكون من حدثه ليس بحافظ، أو يكون متهمًا عنده، أو يُتّهم من فوقه ممن حدثه، أو يكون الحديث محتملاً معنيين فيتأول فيذهب إلى أحدهما دون الآخر.
فأما أن يتوهم متوهم أن فقيهًا عاقلاً يثبت سنة بخبر واحد مرة ومرارًا، ثم يدعها بخبر مثله وأوثق، بلا واحد من هذه الوجوه التى تُشبِّه بالتأويل، كما شُبِّه على المتأولين فى القرآن، وتهمة المخبر، أو علم بخبر خلافه، فلا يجوز – إن شاء الله –
فإن قال قائل: قل فقيه فى بلد، إلا وقد روى كثيرًا يأخذ به وقليلاً يتركه ؟ فلا يجوز عليه إلا من الوجه الذى وصفت(1).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد النبى الأمى الكريم
وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته الطيبين الطاهرين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
فهرس الاهتمام
الموضوع ... الصفحة
تقديم ... 2
مقدمة ... 3
تمهيد ... 5
(1) الحديث ... 6
(2) السنة ... 7
(3) الخبر ... 11
(4) الأثر ... 11
(5) الإسناد ... 12
(6) المتن ... 12
الباب الأول
القرآن الكريم محفوظ بحفظ الله تعالى ... 12
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعى، ص459،458.(1/158)
علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم ... 13
الوحى يرقب النبى صلى الله عليه وسلم ... 16
تصويب بعض ما اجتهد فيه النبى صلى الله عليه وسلم ... 16
أ – السنة المطهرة هى المبيّنة والشارحة للقرآن الكريم ... 18
ب– السنة المطهرة تخصص عام القرآن الكريم ... 18
جـ– السنة المطهرة تقيد مطلق القرآن الكريم ... 19
د – السنة المطهرة تفسر القرآن الكريم ... 20
الموضوع ... الصفحة
هـ– السنة المطهرة تؤسس الأحكام فيما ليس لله تعالى فيه نص كتاب ... 20
الباب الثانى
السنة المطهرة محفوظة بحفظ الله تعالى لها ... 21
اهتمام المسلمين بالسنة المطهرة ... 23
أسباب اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بسنته صلى الله عليه وسلم ... 23
1 – المسلمون ملزمون بالسنة المطهرة كما هم ملزمون بالقرآن الكريم لوحدة المصدر ... 24
2 – منزلة السنة المطهرة من القرآن الكريم ... 29
3 – خوف الصحابة رضي الله عنهم من كتمان العلم ... 29
4 – حرص الصحابة رضي الله عنهم على أنفسهم ... 32
5 – قيام الصحابة رضي الله عنهم بواجبهم نحو إخوانهم ... 32
6 – الالتزام بالسنة المطهرة مخرج من الفتن عاصم من الشرور ... 32
7 – حب الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم ... 32
مظاهر اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 36
1 – التناوب فى أخذ الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 36
2 – الرحلة من أجل طلب الإسناد العالى ... 37
3 – مراجعة الصحابة رضي الله عنهم لبعضهم فيما أشكل عليهم ... 39
تثبت الصحابة رضي الله عنهم فى الحديث ... 39
الموضوع ... الصفحة
الخلفاء الراشدون يضعون منهجًا للتثبت من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ... 40
أبو بكر الصديق رضي الله عنه يتثبت فى الحديث ... 41
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب البيّنة ممن يحدثه بما لا يعرف ... 41
أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه يتثبت فى رواية الحديث ... 43
الصحابة رضي الله عنهم يقتدون بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فى التثبت من المرويات ... 44(1/159)
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تتثبت فى الحديث وتنتقد المرويات ... 45
بعض الضوابط العامة التى وضعها الصحابة رضي الله عنهم للتثبت من صحة المتن ... 47
1 – الرجوع إلى صاحب العمل ... 47
2 – تقوية الرواية المستغربة بشهادة راو آخر ... 47
الباب الثالث
كتابة السنة المطهرة ... 48
أولاً: كتابة القرآن الكريم ... 48
وسائل حفظ القرآن الكريم ... 52
1 – الحفظ فى السطور ... 52
2 – الحفظ فى الصدور ... 52
ثانيًا: كتابة السنة المطهرة ... 56
مراحل تدوين السنة المطهرة ... 56
الموضوع ... الصفحة
أولاً: مرحلة النهى عن كتابة السنة المطهرة ... 57
ثانيًا: مرحلة الإذن فى كتابة السنة المطهرة ... 58
( مرحلة التدوين الفردى )
بين أدلة النهى عن كتابة السنة وأدلة الإذن فى الكتابة ... 61
أولاً: أدلة الإذن فى الكتابة ناسخة لأدلة النهى ... 61
ثانيًا: الجمع بين أدلة الإذن فى الكتابة وأدلة النهى عن الكتابة ... 62
ثالثًا: مرحلة التدوين الرسمى للسنة المطهرة ... 64
أولاً: محاولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدوين السنة ... 65
ثانيًا: محاولة عبد العزيز بن مروان الأموى كتابة السنة ... 65
ثالثًا: أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز يأمر بكتابة السنة ... 65
الصحف الحديثية ... 67
رابعًا: مرحلة ظهور المصنفات الحديثية ... 67
أهم المصنفات الحديثية التى صنفت فى القرن الثانى الهجرى ... 67
أهم المصنفات الحديثية التى صنفت فى القرن الثالث الهجرى ... 68
خامسًا: مرحلة التدوين فى الحديث الصحيح المجرد ... 68
الباب الرابع
الإسناد من خصوصيات الأمة الإسلامية ... 69
منزلة الإسناد ... 69
الموضوع ... الصفحة
فائدة ذكر الإسناد ... 72
متى بدأ البحث عن الإسناد ... 73
شروط قبول الراوى ... 67
الباب الخامس
اهتمام المسلمين بمتون الحديث ... 77
شروط قبول المتن ... 77
القرائن التى يستدل بها على أن الحديث موضوع ... 77
بعض المصنفات فى نقد متون السنة ... 79
أ – بعض المصنفات فى علم مختلف الحديث ... 86
ب– بعض المصنفات فى علم الناسخ والمنسوخ ... 86
جـ– بعض المصنفات فى الحديث الموضوع ... 87(1/160)
الشبهات التى أثارها المستشرقون وأذنابهم حول متون السنة المطهرة ... 92
موقف " جولد تسيهر " من السنة المطهرة والرد عليه ... 93
الدوافع النفسية للمستشرقين للتشكيك فى السنة المطهرة ... 99
أحمد أمين يسلك مسلك المستشرقين ... 102
الرد على أحمد أمين ... 101
دراسة الأسانيد ليست مقصودة لذاتها ... 102
الجهود التى بذلت لنقد متون السنة المطهرة لا يقف عليها إلا الجهابذة النقاد فى علم الحديث ... 102
الموضوع ... الصفحة
الباب السادس
حكم العمل بالحديث الشريف ... 104
تقسيم الحديث باعتبار تعدد طرقه وعدم تعددها ... 105
أولاً: الحديث المتواتر ... 105
تعريف الحديث المتواتر ... 105
شروط الحديث المتواتر ... 105
ما الذى يفيده الحديث المتواتر ... 105
حكم العمل بالحديث المتواتر ... 105
حكم من ينكر الحديث المتواتر ... 105
أقسام المتواتر ... 106
أ – المتواتر اللفظى ... 106
ب– المتواتر المعنوى ... 106
ثانيًا: حديث الآحاد ... 107
تعريف حديث الآحاد ... 107
أقسام خبر الآحاد ... 107
1 – الغريب ... 107
تعريف الغريب ... 107
مثال للحديث الغريب ... 107
حكم الحديث الغريب ... 107
2 – الحديث العزيز ... 108
الموضوع ... الصفحة
تعريف الحديث العزيز ... 108
مثال للحديث العزيز ... 108
حكم الحديث العزيز ... 108
3 – الحديث المشهور ... 108
تعريف الحديث المشهور ... 108
مثال للحديث المشهور ... 108
حكم الحديث المشهور ... 188
حكم العمل بحديث الآحاد ... 109
أدلة وجوب العمل بخبر الآحاد ... 109
حكم من يرد خبر الآحاد ... 109
أولاً: حكم من يرد خبر الآحاد لأنه خبر آحاد ... 115
ثانيًا: حكم من يرد خبر الأحاد لا لأنه خبر آحاد بل لسبب آخر ... 116(1/161)