الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها
الموازنة
بين المتقدمين والمتأخرين
في تصحيح الأحاديث وتعليلها
بقلم الدكتور
حمزة بن عبد الله المليباري
الطبعة الثانية
1422هـ 2001
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله رب العالمين ، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخاتم رسله ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ،ونصح الأمة وتركها على محجة بيضاء ليلها كنهارها .
... اللهم صلى على محمد وآله كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
... أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمر محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .
" ربنا إغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " .
***
... ... بين يدي البحث
إن التجديد والإبداع أمر مطلوب ، ومهمة عظيمة منوطة بكل من يسعى إلى التمكين لدين الله ، كما أن تنقية التراث الإسلامي مما علق به من الشوائب ،وتمحيصه من كل غث واجب عظيم تحتاج إله الأمة الإسلامية في طريق عودتها إلى الكتاب والسنة .
لكن ما لا يقبله عقل سليم هو التقليل من شأن ميراث السلف - بدعوى التجديد - ، أو مقابلته بالإنتقاد اللاذع دون الإرتكاز على منهج علمي رصين ، وعدم المبالاة بفهوم السابقين ، وهم الذين حفظوا الكتاب والسنة - بفضل الله تعالى - من كل انتحال وتحريف ، خاصة السنة النبوية إذ كانت عرضة لهجمات الأعداء ومجالاً ينفذون من خلاله للتشكيك في الإسلام برمته .
فتصدى لكل مشكك ومستخف بالسنة المطهرة جهابذة الحديث وصاغوا منهجاً علمياً فريداً في تاريخ البشرية لصيانتها ، وقد شهد بذلك المستشرقون أنفسهم .
فمعارضة هؤلاء العلماء من محدثين ونقاد لا تكون في متناول كل متعرض لذلك ، بل تحتاج إلى علم وافر وإحاطة دقيقة بمنهجهم ،ومن ذلك - أي من ذلك المنهج - طريقتهم في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، إذ جاء قوم من بعدهم واعترضوا عليهم في ذلك ، فيحكم أحدهم بصحة حديث ما وقد ضعفه المتقدمون ، أو يصححه وقد أعلوه .
فهل ظفر المتأخرون في أثناء دراساتهم وتحقيقاتهم بما تقاصر المتقدمون عن الإحاطة به من دقائق الأسانيد ، مع أنهم أقرب عهداً بذلك وأدرى بخفايا ملابسات الرواية ؟ أم هو غرور بظواهر الأسانيد وجودتها التي لم تصبح وحدها كفيلة بمعرفة الصحة والعلة على منهج النقاد ؟
وهذا ما سنحاول في أثناء هذا البحث المتواضع معرفة حقيقته من خلال أمثلة حديثية نسوقها قصد الموازنة بين من أعلها ومن صححها ، سالكين فيه طريق الحق والإنصاف ، وملتزمين بمنهج علمي نزيه ، بعيدين عن كل الأهواء الذميمة شرعاً - إن شاء الله تعالى - .
ومن الأمور التي دفعتنا إلى معالجة هذا الموضوع العلمي الخطير تنبيه طلاب الحديث والمشتغلين به إلى دقة منهج المحدثين وإزالة الستار عن حقيقة كثير من القضايا الإسنادية التي ما زالت غامضة لدى عدد كبير منهم ،والإسهام في حفظ السنة النبوية ، على منهج المحدثين النقاد ، وإبقاء معالم الإسلام وشرائعه نزيهة وواضحة كما بلغة النبي صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان وعليه التكلان .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/2)
مقدمة الطبعة الثانية
فهذه طبعة ثانية لكتاب " الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها " ، أقدمها - بمن الله وفضله - لقرائي الأعزاء ، وهي تتضمن إضافات جديدة ، عسى أن يجدوا فيها مبتغاهم في تحقيق منهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، مع رد الشبهات المثارة من بعض إخواني المشتغلين بالحديث ، حول منهجية هذا الكتاب ومصداقية الفكرة التي يطرحها . حامداً الله تعالى على توفيقه لخدمة علوم الوحي ،وشاكراً من إخوتي من أكرمني بإسداء النصيحة ، وأتحفني بالحب والإحترام والتقدير ،وأقول لهم : " جزاكم الله خير الجزاء ، وزادكم توفيقاً للتعاون على البر والتقوى " .(1/3)
أما الأمور التي تتميز بها هذه الطبعة فهي
مبحث خاص في التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي ، والعوامل التاريخية التي أدت إلى ذلك .
مبحث خاص في تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد ، والضوابط في ذلك .
بعض الأمثلة التوضيحية لإجراء الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين.
فجاءت مباحث الكتاب على الترتيب التالي :
مدخل عام .
المبحث الأول في التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين ، والعوامل التاريخية التي أدت إلى ظهور ذلك .
والمبحث الثاني في تفرد الثقة .
والمبحث الثالث في زيادة الثقة .
والمبحث الرابع في تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد ، وبيان الضابط في ذلك ، وتكون هذه المباحث محتوى القسم الأول من الكتاب .
وأما القسم الثاني ففي الأمثلة المختارة لعملية الموازنة .
ولعل من المفيد أن أشير إلى أن عملي في الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف يقوم على النقاط الثلاث : " تفرد الثقة " ، و " زيادة الثقة " ، " وتقوية الحديث بالمتابعات والشواهد " ، لكونها تشكل محاور رئيسة لكثير من أنواع علوم الحديث ومصطلحاتها ، مما يعكس بوضوح حقيقة التباين المنهجي بين نقاد الحديث الأوائل وبين غيرهم من المتأخرين الذين تصدوا لمهمة نقد الأحاديث ، في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي .
فإذا كان منهج المحدثين النقاد من المتقدمين في تصحيح الأحاديث وتحسينها وتعليلها قائماً على تتبع القرائن والملابسات التي تحيط بها ، لا سيما ما يتفرد به الثقة من الأحاديث ، أو يزيده في الأسانيد أو المتون على غيره من الثقات ، فإن كثيراً من المتأخرين - وبينهم المعاصرين من تصدوا لمهمة التصحيح والتضعيف - يسلكون فيها مسلكاً سهلاً ، وهو النظر في أحوال الرواة العامة ،والحكم على الحديث حسب مراتبهم في الجرح والتعديل ، فمثلاً ؛ يقولون : " هذا إسناد رجاله ثقات والحديث صحيح " ، و " فلان ثقة فحديثه صحيح " ،و " فلان صدوق فحديثه حسن ، وقد توبع فارتقى إلى الصحيح " ، و" فلان ضعيف فحديثه ضعيف ، لكنه توبع فارتقى إلى الحسن " ، و " هذا متروك فحديثه متروك " ، و " هذا كذاب فحديثه موضوع " .
وكل هذا ( كما ترى ) عمل أشبه ما يكون بالقواعد الرياضية ، لا يحتاج فيه الباحث إلى حفظ ولا معرفة ولا فهم ولا ممارسة ، بل غاية جهده أن ينظر في كتاب ( التقريب ) للحافظ ابن حجر العسقلاني ، ثم يحكم على الحديث حسب مراتب الرواة المبينة فيه . وقد أسفر هذا التباين المنهجي عن تفشي ظاهرة الاعتراض على نقاد الحديث ، في كثير من البحوث الحديثية المعاصرة؛ فيصحح أحد المتأخرين حديثاً ما وقد أعله النقاد ، أو يضعفه وقد صححوه .
ومن تتبع كتاب " الأحاديث المختارة " للإمام المقدسي ، أو تخريجات الإمام السيوطي ، أو تحقيق الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي أو تحقيقه لمسند الإمام أحمد ، أو كتب الشيخ ناصر الدين الألباني ، أو الرسائل الجامعية المقدمة من طلبة قسم الحديث ، على سبيل المثال ، ثم قارن ما صححه أحدهم في كتابه مع كتاب العلل للإمام الدارقطني ، أو علل الإمام أبي حاتم ، أو سنن الترمذي ، أو كتب النقاد عموماً مقارنة علمية ؛ يتجلى له هذا التباين المنهجي متجسداً في جملة من الأحاديث ، ولا أدّعي شمول ذلك كل ما تناوله المتأخرون في كتبهم ، وإنما حديثنا عن القدر الذي يخالف فيه المتأخرون المتقدمين عموماً ، وعن سر هذا الاختلاف ، وذلك لتوعية الباحثين بضرورة معالجة هذه الظاهرة منهجياً ، وتسليط الضوء على دقة المتحدثين النقاد الأوائل في نقد الأحاديث والآثار ، وتبيان دقائق منهجهم في ذلك .
ولذلك فإننا نؤكد أن ما يحف بالحديث من القرائن والملابسات لا يحظى باهتمام المتأخرين عند التصحيح والتضعيف ، بينما تكون هذه القرائن والملابسات هي المعول عليها عند نقاد الحديث المتقدمين في الحكم على الحديث ، بغض النظر عن أحوال رواته العامة غير المتروكين ، إذ إن أحوالهم من حيث التوثيق أو التضعيف أوالتهمة بالكذب ، إنما ظهرت من خلال معرفة مروياتهم ، وتميزت مراتبهم في سلم الجرح والتعديل بدقة بالغة في ضوء المقارنة بين نسبة خطئهم وصوابهم فيها ، ولذا فإن الأحوال العامة لرواة الحديث لا تعد معايير للحكم في الحديث ، إلا في حالة واحدة ، وهي أن يخلو الحديث من القرائن التي تدل على أن رواية قد أخطأ فيه ، أو حفظه وأتقن روايته . فعندئذ تبقى للنقاد وسيلة وحيدة في معرفة الصواب والخطأ ، ألا وهي اعتماد أصل هذا الراوي وعادته في الرواية ؛ فإن كان ثقة فالأغلب في روايته الصواب ، وبالتالي يكون حديثه صحيحاً ، وإن كان ضعيفاً فالأصل في حالة أن يكون مخطئاً ، ويكون حديثه ضعيفاً ، وأما إن كان صدوقاً فيكون حديثه حسناً مع تفاوت مراتبه طبعاً ، ولذا فإن هذه الأحكام لا تفيد في الواقع إلا الظن الغالب لكونها مبنية على الأصل في حال الراوي .
ويمكن أن نعزز هذه الفكرة بما يلي :
قال الحافظ العلائي - بصدد بيان موقف نقاد الحديث من زيادة الثقة - : " كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أن لا يحكم في هذه المسألة - يعني زيادة الثقة - بحكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر على الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في حديث حديث " (1)
يعني بذلك أن منهجهم في قبول زيادة الثقة قائم على تتبع القرائن ودراسة الملابسات التي تحيط بروايتها (2)
وقال الحافظ ابن حجر موجهاً إلى ما تضمنه هذا النص من اعتماد النقاد على القرائن والملابسات لقبول زيادة الثقة : " وهذا العمل الذي حكاه - يعني الحافظ العلائي - عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح ، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح فالظاهر أنه ( يعني القبول ) المفروض في أصل المسألة ( أي زيادة الثقة) ، وعلى هذا فيكون في كلام ابن الصلاح إطلاق في موضع التقييد (3).
ويمكن أن نستخلص من هذين النصين أن مراعاة الأصل في تصحيح زيادة الثقة وقبولها ليست على الإطلاق ، وإنما في حالة ما إذا لم يظهر للنقاد وجه الترجيح ، ولم يتبين لهم من القرائن ما يدل على صحة الزيادة أو أنها وهم من الثقة .
هذا فيما يتعلق بالنقطتين : تفرد الثقة وزيادته ، وأما النقطة الثالثة ، وهي " تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد " ، فعلى النحو الأتي " :
إن الحديث الذي يرويه الضعيف غير المتروك ، أو الحديث المنقطع بجميع أنواعه تتم تقويته بتعدد الروايات عند نقاد الحديث إذا ثبتت صحة هذه الروايات ، أو إذا لم يظهر لهم خطأ فيها ، ففي الحالة الأولى يتقوى الحديث بالمتابعات (4) ويصير صحيحاً دون تمييز بين الثقة والضعيف والصدوق ، وفي الحالة الثانية يكون الحديث حسناً كذلك ، وأما إذا ظهر الخطأ والوهم فيما ورد من الروايات فلا يعدها النقاد متابعات ولا شواهد تصلح للتقوية ، حتى وإن كان رواتها ثقات ، فإن هذه الروايات عبارة عن أوهام من رواتها ، وتعددها يكون حينئذ وهماً لا حقيقة ، ويعبرون عن ذلك بقولهم : " تفرد به فلان " ، أو " غريب " أو غير ذلك . وهذه الضوابط في تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد لدى أئمة هذا الشأن .
ومن المؤسف أن نرى بعض الباحثين المعاصرين يستدرك على نقاد الحديث فيما ينصون على غرابته من الأحاديث ، ويقول : " قلت : وقد توبع " أو " وجدت له متابعات " ، ثم يسردها ،وفي الواقع لم تكن هذه المتابعات اكتشافاً من هذا الباحث ، وإنما أخذها من كتب النقاد أنفسهم الذين أعلوها بالتفرد أو المخالفة . وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن ما فهمه في مسألة تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد لم يكن سليماً ولا مستقيماً منهجياً ، لكون هؤلاء المعاصرين قد اعتمدوا في ذلك على ظاهر ما ورد في كتب المصطلح دون إمعانهم النظر في سياقه ، ولا بحثهم عن أمثلته التطبيقية في كتاب النقاد (5) ، فهم كمستبضع تمر إلى هَجَر .
فعلى منهج النقاد فإن ظواهر الإسناد لا يعول عليها في التصحيح والتضعيف إلا بعد التأكد من انتفاء القرائن والملابسات التي يمكن أن تحيط بذلك الإسناد . ولذا فإن معرفة صحة الحديث وضعفه ومدى قبوله وخطئه تكون متوقفة على الحفظ والفهم والمعرفة سواء في حالة اعتماد القرائن أو في حالة اعتماد الظواهر ؛ فإن القرائن غير محصورة بضوابط معينة ، بل لكل حديث قرينة وملابسات خاصة ، كما صرّح بذلك بعض حفاظ المتأخرين أمثال ابن رجب والعلائي وابن حجر وغيرهم .
وهذا الذي ذكرناه من دقة منه النقاد في التصحيح والتعليل ، هو بعينه سر وجود بعض أحاديث الثقات ، بل أحاديث الأئمة في كتب العلل ، كونها معلولة غير مقبولة ، وسر وجود بعض أحاديث الضعفاء في كتب الصحاح مصححة معتمدة .
قال الحافظ ابن حجر - بصدد بيان موقف نقاد الحديث من زيادة الثقة - : " والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة " (6) .
وقال الحافظ ابن رجب : " وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد ، وأن لم يرو الثقات خلافه : " إنه لا يتابع عليه " ويجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه (7) .
ولذلك فإن اعتماد الأصل فيما رواه الثقة أو الضعيف غير المتروك يعد منهجاً علمياً منضبطاً لن يستطيع النهوض به إلا الناقد المتمرس الفطن الذي له إطلاع واسع على واقع الروايات وملابستها وقرائنها .
وأما الرجوع المباشر إلى أحوال الرواة العامة في تصحيح الحديث وتعليله ، دون تتبع الملابسات ، ودراسة القرائن التي تحيط به فعمل استروح إليه كثير من المتأخرين والمعاصرين مع أنهم يحسون عن يقين أن الإحاطة الشاملة بالعلل أو التأكد من انتفائها كانت من خصائص النقاد المتقدمين .
__________
(1) نقله الحافظ ابن حجر في كتابه " النكت على كتاب ابن الصلاح " 2/604.
(2) تناولنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في أبحاثنا الجديدة المقدمة لنشرها في مجلة الدراسات التي تصدرها الجامعة الأردنية بعمان.
(3) النكت على مقدمة ابن الصلاح 2/604-605 .
(4) للمتابعات تفاصيل أخرى مهمة بينها أخونا الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عثيم ( رحمه الله تعالى رحمة واسعة ) في كتابه " دراسة الأسانيد " لمعالجة ظاهرتي الإفراط والتفريط في تطبيق قاعدة المتابعات والشواهد في بحوث المعاصرين والرسائل الجامعية ، فلتراجع .
(5) سيأتي هذا الموضوع مع بيان الشبه حوله ومعالجتها منهجياً في مباحث القسم الأول من الكتاب . ( إن شاء الله تعالى ) .
(6) شرح النخبة " نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر " ، ص 66- 67 ( تحقيق نور الدين عتر ، ط : 2 ، سنة 1414هـ ، مطبعة الصباح ، دمشق ) وانظر أيضاً كتابة " النكت على مقدمة ابن الصلاح " 2/692.
(7) شرح العلل ص : 208 ( تحقيق صبحي السامرائي ، ط : 2) .(1/4)
قال السخاوي ( رحمه الله ، ولله دره ) : " وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة (وهي العدالة والضبط والاتصال) صحيحاً ، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده ، فشاذ وهو استرواح ، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفياً وإثباتاً فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك ، وربما تطرّق إلى التصحيح متمسكاً بذلك من لا يحسن ، فالأحسن سد هذا الباب ، وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش ، حيث قال : " لأن عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر " فتصريحه بالإشتراط يدفعه ، مع أن قصر الحكم على الإسناد – وإن كان أحق – لا يسلم من الفقهاء "(1) يعني فقهاء المتأخرين بدون شك .
وقال الحافظ ابن حجر ( رحمه الله ) : " صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنكارة " (2).
ويقول البيهقي ( رحمه الله ) : " وهذا النوع من معرفة صحيح الحديث من سقيمه لا يعرف بعدالة الرواة وجرحهم وإنما يعرف بكثرة السماع ومجالسة أهل العلم بالحديث ومذاكرتهم والنظر في كتبهم والوقوف على روايتهم حتى إذا شذ منها حديث عرفه " (3) .
وقال الحاكم ( رحمه الله ) : " إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث . فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة ( رواة الحديث ثقات ) غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته . (4)
وقال في صدد بيان العلل:"والحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير"(5) وقال أبو حاتم : " وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا " (6)
ولذلك نقول إن اعتماد الأصل في حال الراوي ، والحكم على حديثه حسب مرتبته إنما ينهض به الناقض الجهبذ ، وأما من الباحث العادي الذي لا يعرف نوعية المرجحات ولا يفهم دلالة الملابسات والقرائن فيعد ذلك خرقاً وتقصيراً ، بل مجازفة خطيرة .
ولو وقف الذين يتصدون لمهمة التصحيح والتضعيف من المتأخرين والمعاصرين عند هذا الحد – أي : مجرد التصحيح – لكان الخطب سهلاً ، لكنهم يستدلون بما صححوه من الأحاديث للأحكام الفقهية أو العقدية أو السلوكية أو غيرها ،وهذا عمل خطير ؛ إذا يشجع أعداء السنة على تحديها لخلو عملهم في تصحيح الحديث وتضعيفه من المنهجية المنضبطة وفقدانه المصداقية في النقد ، لأنهم يصححونه بمجرد كون راويه ثقة ، وبثبوت لقائه بمن فوقه بشكل عام ، دون أن يلتفتوا إلى مدى ضبط هذا الراوي للحديث الذي رواه ، وإلى ثبوت سماعه له ممن فوقه ، مع كونه من أهم شروط الصحيح .
وبالجملة ، نرجو أن نكون قد سلطنا الضوء على التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين بشكل عام في التصحيح والتضعيف ، وعلى أسباب ذلك التباين ، كما سيظهر أيضاً بمزيد من الوضوح عند الموازنة في القسم الثاني من هذا الكتاب ( إن شاء الله تعالى ) .
إن منهج التصحيح والتعليل القائم على نظر سطحي في ظواهر السند ، ومراتب الرواة في الجرح والتعديل ، وكذا منهج تقوية الحديث بالمتابعات والشواهد دون النظر في كونها وهماً أو حقيقة ، مع الاكتفاء في ذلك بأنه لم بكن في الرواة متهم ولا متروك ، نقول : هو منهج متأخر تبلور في مرحلة ما بعد الرواية .
والمنهج الذي يعتمد على القرائن والملابسات في التصحيح والتضعيف بغض النظر عن ظواهر السند اللافتة منهج متقدم تبناه النقاد في مرحلة الرواية ، ولهذا نصطلح هنا ونقول : فمن كان عمله على النوع الأول ( وهو اعتبار ظواهر السند في التصحيح والتضعيف ) فهو على منهج المتأخرين ، حتى وإن كان في عصر الرواية ،ومن كان على النوع الثاني ( وهو اعتماد القرائن في ذلك ) فهو على منهج المتقدمين وإن كان من المعاصرين . وبالتالي فالذي نصل إليه مما سبق هو أن تفريقنا بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي تفريق منهجي لا زمني ،وإن ذلك ضروري في فهم حقيقة هذا العلم .
ونحن نطمئن القارئ الكريم بأننا لم نجترح جديداً بمقدار ما حركنا ساكناً وأنها ليست فكرة وليدة الخواطر والأوهام ، أو مجرد خاطرة علقت في ذهننا ثم جعلناها قاعدة أساسها مثالان أو ثلاثة كما اتهمنا بذلك كله بعض إخواننا المحترمين (سامحهم الله ) بل أساسها ما ورد عن أمثال الحافظ ابن كثير والحافظ ابن حجر والحافظ السخاوي والحافظ العلائي والعلامة ابن دقيق العيد وغيرهم ، ومفاده : إذا اتفق النقاد على تصحيح حديث أو تضعيفه ، أو إذا صححه ناقد منهم أو ضعفه دون اعتراض عليه من ناقد آخر فإن على المتأخرين قبول ذلك .
قال الحافظ ابن حجر : " … فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه ، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث " (7) .
وقال السخاوي في نوع "الموضوع" : ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً ، وللنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجئ بعدهم مساوٍ لهم ولا مقارب أفاده العلائي ، وقال : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا هـ (8) .
وقال الحافظ ابن كثير : " أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب ، وذلك للعلم بمعرفتهم ،وإطلاعهم ،واضطلاعهم في هذا الشأن ،واتصفوا بالإنصاف والديانة ،والخبرة والنصح ، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً أو كذاباً ،أو نحو ذلك . فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم ، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم " (9)
ولذلك فإن عملنا في هذا الصدد لم يكن إلا في إطار بيان أسس هذه الفكرة وتوضيح معالمها ، وبيان العوامل التاريخية التي أدت إلى ذلك التباين المنهجي ،وضرورة احترامنا وتقديرنا لذلك في بحوثنا ودراساتنا . ومع ذلك فقد اعتمدنا في هذا الموضوع على ما وصلنا من كتب المتقدمين والمتأخرين وبحوث المعاصرين بعد أن قمنا بالمقارنة بينها مقارنة علمية دامت ردحاً من الزمان يربو على خمس عشرة سنة . ( ولله الحمد والشكر ) .
هذا وقد كثر التفريق بين المتقدمين والمتأخرين ، بغض النظر عن معاييره وحدوده ، في كتب المتأخرين وعلى ألسنة المعاصرين ،وحتى على ألسنة النافرين المناوئين لهذا المنهج (10) .
وبقي لنا أن نشير في هذه المناسبة إلى أن علماء الحديث في مرحلة ما بعد الرواية قد قاموا بحفظ السنة النبوية ، كما قام به المتقدمون في مرحلة الرواية ، كل ذلك وفق ما تقتضيه مستجدات عصرهم ، وتمليه عليهم أعرافهم العلمية .
ومن المعلوم بديهياً أن العصور كلما تقدمت فإن أساليب الحياة ،ونظم التعليم ،وطبيعة التكوين العقلي للإنسان ، كل ذلك يشهد تطوراً وتحولاً حسب نوعية العوامل والبواعث المتوافرة . ومع ذلك فإن اللاحقين لم يستغنوا عن تجارب السابقين ، بل يستمدون منها ما يعين على نهوضهم بما تفرضه المتغيرات في جميع مجالات الحياة ، وبالتالي فإن أساليب المواجهة لتحديات العصور لا تظل على نمط واحد ، بل تتطور تلقائياً وفق مقتضياتها ، كما أن الإنشغالات العلمية تتبدل بقدر خطورتها ، وهذه من سنن الله تعالى في الكون .
وإن كانت البيئة العلمية في مرحلة ما بعد الرواية على غير ما ألفه المتقدمون ، فقد كان من الطبيعي عدم خوض المتأخرين إلا فيما يخدم مصلحة السنة في تلك المرحلة ، ولذا فإن الفرص لا تكاد تكون متاحة في المرحلة الثانية لخوضهم فيما خاضه المتقدمون من نقد المرويات وجرح رواتها وتعديلهم ، كما لا يشكل ذلك أولويات هذه المرحلة ، إذ كانت مستجدات هذه المرحلة تفرض عليهم القيام بما من شأنه حفظ الكتب والدواوين ، ومن ثم فإنهم في هذا المجال العلمي أصبحوا مبدعين ، حتى تمخض عن ذلك منهج علمي رائع في تحقيق التراث ونشر المخطوطات ، وأما في مجال النقد فليس لهم سوى تقليد المتقدمين أو تحقيق نصوصهم وتدقيق آرائهم .
ومن الجدير بالذكر أن الأسانيد التي كانت تعد من الدين في مرحلة الرواية نظراً لدورها الأساس في حماية السنة من الكذب والأوهام والأخطاء ، صارت في عصر المتأخرين كما وصف ابن الصلاح (رحمه الله ) بقوله : " أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينما من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في روايتهم لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم وكان عليه من تقدم ، ووجه ذلك ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود آل آخراً إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلماً بالغاً عاقلاً غير متظاهر بالفسق والسخف وفي ضبطه لوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله " (11).
ومن تتبع جهود العلماء المتأخرين في مرحلة ما بعد الرواية ، يجد أن الذي كان يشغلهم فيما يتعلق بالحديث هو بالدرجة الأولى حفظ التراث والمدونات التي تركها أوائلهم في مرحلة الرواية ،وحمايتها من وقوع تصحيف وتحريف وانتحال فيها ، وذلك لكون هذه الكتب هي المعتمدة أساساً في نقل الأحاديث ، بعد أن صارت الأسانيد المحور الرئيس لتلقي الأحاديث ونقلها وروايتها في مرحلة الرواية .
__________
(1) فتح المغيث1/ 20 ( تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، ط : 2 ، سنة 1388، المكتبة السلفية ) .
(2) النكت 1/404 .
(3) معرفة السنن والآثار 1/144.
(4) معرفة علوم الحديث ص : 59-60 ( تحقيق لجنة إحياء التراث العربي ، ط : 4 ، سنة 1400هـ ، دار الأفاق ) .
(5) المصدر السابق ص : 113 .
(6) مقدمة الجرح والتعديل 1/350 .
(7) النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص : 64 .
(8) فتح المغيث 1/237 ،وتوضيح الأفكار 1/344 ،والنكت 2/604-605 .
(9) اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث : 79 .
(10) سيأتي شرحاً مفصلاً في المبحث الأول – إن شاء الله تعالى - .
(11) مة ابن الصلاح ص : 120 ( تحقيق نور الدين عتر ، ط 3 سنة 1418هـ .(1/5)
وإذا وازنت بين جهد العلماء المتأخرين في سبيل حفظ التراث والدواوين وبين جهد المتقدمين في حفظ الأحاديث عن طريق الأسانيد ، تجد مجال التفاضل بينهما غير متاح من حيث النتائج والآثار المترتبة عليها جميعاً ، ذلك لأن الأحاديث إذا كانت قد استقرت بأسانيدها في تلك الكتب في أثناء مرحلة الرواية ، فإن الكتب التي تحمل هذه الأحاديث والآثار قد وصلتنا مؤصلة منسوبة بدقة متناهية دون تحريف ولا تصحيف ، بحيث تطمئن النفوس إلى وثاقتها بفضل جهد المتأخرين .
ولولا تواصل الجهود في مراحلها المختلفة لضاعت السنة بأكملها ، وما بلغنا من السنة إلا ما حرف وصحف ، ولم يعرف له أصل ولا نسب .
وحين تقوم بدراسة " السماعات " التي كانت تسجل في المخطوطات وبشكل رسمي ، تجد عظمة ما قام به المتأخرون من الجهود والتضحيات ، ونوعية اهتمامهم وانشغالهم ، وبالتالي فلا يجوز لأحد أن يحط من قدر المتأخرين لأجل أولئك المتقدمين ، فيكون كمن يبني قصراً ويهدم مصراً .
وعلى كل فالذي يجب ذكره في هذا الصدد أن الجهود العظيمة التي بذلها المتأخرون في حفظ السنة النبوية قد تمخضت عن منهج علمي فريد في التعامل مع المخطوطات وعملية نسخها ومقابلتها وتحقيقها ونشرها ، كما تمخضت جهود المتقدمين عن منهج علمي فريد في مجال نقد المرويات . وما علينا إلا أن نستمد من هذه المنهجين ما يعيننا على مواجهة تحديات العصر في الدفاع عن السنة النبوية ،وهذا لا يتم إلا إذا ميزنا بين المتقدمين والمتأخرين فيما قدموه لنا من المناهج .
ومن هنا يجد كل منصف أن التفريق بين المتقدمين والمتأخرين بفاصل منهجي في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي هو تعبير صادق عن الواقع ، وأنه لا يشكل تحاملاً على المتأخرين ولا طعناً في جهودهم المبذولة لخدمة الحديث وعلومه ، لا من قريب ولا من بعيد ، بل يكون ذلك نموذجاً تطبيقياً للأثر القائل "أنزلوا الناس منازلهم " . وهذا بعينه هو موقف المتأخرين تجاه هذا الواقع ؛ إذ كانوا يشهدون في كتبهم ما يفيد بأن المتقدمين هم أهل التخصص ، وأن أعمالهم ونصوصهم هي الأساس في التصحيح والتعليل ،ومعرفة الجرح والتعديل ،وأنه يجب التسليم لهم في ذلك كله دون معارضة لهم .
قال الحافظ ابن حجر : " هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ، ولايقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غائصاً واطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ، ومعرفة ثاقبة ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم ،وإليهم المرجع في ذلك ، لما جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه ، دون غيرهم ممن يمارس ذلك . وقد تقصر عبارة المعلل منهم ، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى ، كما في نقد الصيرفي سواء ، فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه ، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث (1) .
وقال السخاوي في مناسبة تعليقه على شرح أبي حاتم منهج النقاد في معرفة صحيح الحديث وضعيفة : " وهو أمر يهجم على قلوبهم ، لا يمكنهم رده ، وهيئة نفسانية ، لا معدل لهم عنها ، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث ، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر ، لا ينكر عليهم ، بل يشاركهم ، ويحذو حذوهم ،وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة " .
" هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعن ، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرّغوا له ،وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين " .
" فتقليدهم ، والمشي وراءهم وإمعان النظر في تواليفهم ، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور ،ومداومة الاشتغال ،وملازمة التقوى والتواضع ، يوجب لك ( إن شاء الله ) معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله "(2) .
وستأتي( إن شاء الله تعالى ) تفاصيل ما أجملنا من القضايا النقدية ،وما يتصل بمنهج المحدثين النقاد فيها ، في مباحث القسم الأول ،والأمثلة التوضيحية لذلك في القسم الثاني .
وبقي لي شيء أخر يجب ذكره في هذه المناسبة ، كان على أن أختار في العنوان :" الموازنة بين النقاد وبين الفقهاء وعلماء الأصول " بدلاً من صيغة " الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين " لكني آثرتها لأسباب تاريخية وعلمية ومنهجية . وذلك لأنه إذا جعلنا العنوان : " الموازنة بين الفقهاء وعلماء الفقه والأصول " فإنه يوهم أن المحدثين النقاد لم يكونوا فقهاء ،وليس الأمر كذلك فإن النقاد هم محدثون وفقهاء ، وبدون الفقه لا يمكن لهم نقد الحديث نقداً علمياً صحيحاً ، وكيف يتأكدون من خلو الحديث من الشذوذ ، الذي يعد شرطاً أساسياً في التصحيح ، إذا لم يتفقهوا ؟ إذا الشذوذ ليس محصوراً في مخالفة الراوي لأوثق مه ، بل معناه أوسع من ذلك ، بحيث يشمل مخالفة الحديث للسنة الثابتة ، أو إجماع العلماء ، أو الواقع التاريخي ، أو العملي ، أو الحديثي (3) . هذا ولم يعرف لدى السلف في التمييز بين المدرستين المشهورتين سوى بـ "أهل الحديث وأهل الرأي" ، وإذا نظرنا إلى أصحاب المذاهب نجد معظمهم محدثين فقهاء ، وكتاب صحيح البخاري والجوامع والسنن وموطأ الإمام مالك وسائر المصنفات أدلة ناصعة على ما ذكرناه .
ثم إن كثيراً من المعاصرين ممن لهم اهتمام بالحديث وعلومه ينتهجون في التصحيح والتضعيف منهج الفقهاء ، مقرين في الوقت ذاته بأن صحة الحديث تتوقف على خلوه من العلة الأمر الذي يعد من صميم عمل نقاد الحديث .
وبما أن موضوع كتابي هذا شامل لهؤلاء المعاصرين أيضاً بقدر كبير يتعين أن يكون العنوان عاماً بحيث يشمل متأخري الفقهاء ومن يسلك مسلكهم في التصحيح والتضعيف ، ولذا أسميت الكتاب " الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها " ، مراعياً في ذلك صفة الأغلبية فيهما ، مع أن الهدف من ذلك بالدرجة الأولى هو الموازنة بين منهجين مختلفين ، وليس التحديد الحصري لأفراد هذه المنهجين .
وفي ختام هذه المقدمة أود أن أذكر القارئ الكريم بأن هذا الكتاب لا يهدف إلى التحامل على أحد من العلماء المتأخرين ولا المعاصرين ، ولا إلى التقليل من شأنهم لا لمزاً ولا همزاً ، وإنما كان هدفه الوحيد هو إحياء منهج المحدثين النقاد المتقدمين ، وتوعية الباحثين بضرورة العودة إلى ذلك المنبع الصافي لينهلوا منه قواعد علوم الحديث وأصول النقد ، مستمدين المنهج من جهود المتأخرين العظيمة في مجال الحديث وعلومه ، حيث نوّه إلى ذلك قبلنا العلماء المحققون حين قالوا بأن نقاد الحديث المتقدمين هم المرجوع إليهم في التصحيح والتضعيف وعلم الجرح والتعديل ، ووجوب التسليم لهم في ذلك .
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كتبه أبو محمد حمزة بن عبد الله المليباري
كلية الشريعة – الجامعة الأردنية
عمان / الأردن
__________
(1) النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص : 64 .
(2) المغيث 1/274 ( ط: سنة 1407 هـ إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس ) .
(3) لقد شرحت هذه المسألة الجوهرية في منهج التصحيح والتعليل في كتاب جديد للمؤلف عنوانه : " كيف ندرس علوم الحديث " ، وهو في طور الإعداد ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لإكماله .(1/6)
مدخل عام
لما انتشرت رواية الأحاديث الضعيفة الواهية بحسن نية من الرواة الصالحين غير الحافظين ، وبسوء نية من أصحاب الأغراض والمصالح الخاصة ، شمر المحدثون عن ساعد الجد وعزموا على تنقية السنة الشريفة من كل ما التصق بها من أباطيل وأكاذيب ووضعوا قواعد لحفظ الأسانيد والمتون من الوضع والتحريف والتصحيف والأوهام ، كما اشترطوا شروطاً وضوابط لقبول الحديث أو رده غاية في الدقة والإتقان ، حتى إن البعيد عن ميدان الحديث وقليل الزاد فيه أو الدارس له دراسة سطحية يخيل إليه أن علمهم هذا هو عبارة عن إلهام لا يؤتاه غيرهم ، وفي الحقيقة هو خلاصة ممارسة طويلة لذلك الفن وإحاطة شاملة به مع إخلاص في طلبه .
وبذلك المنهج العلمي الرائع صانوا السنة الشريفة عن كذب المتعمدين ووهم الناقلين حتى وصلت إلينا نقية سليمة ، بل تركوا المدارس الحديثية ممثلة في جملة من القواعد مجسدة في دراسات حديثية مثل الصحيحين والسنن الأربعة وكتب العلل ، تبصرة للأجيال بكيفية استخدام هذه القواعد في البحوث الحديثية - فجزاهم الله عنا خير الجزاء - .
فبواسطة ذلك الإرث الحضاري الضخم الذي تركوه لنا نستطيع التمييز بين صحيح الأحاديث وضعيفها ، ومقبولها ومردودها التي ظلت مصادر العلوم الشرعية تضمها من غير تحفظ ، إن نحن طبقنا ذلك المنهج القويم .
ولإبراز براعة ودقة المحدثين النقدة في دراسة الأحاديث وحرصهم الشديد على التثبت من كل حديث ومن مدى صحته أو ضعفه ،والبحث الحثيث عن خفاياه ، ولتسليط الأضواء على تساهل المتأخرين فيها ، وددنا - بفضل الله وعونه - أن نقوم بموازنة علمية بينهم في تصحيح الأحاديث وتعليلها على ضوء دراسة بعض الأمثلة الحديثية التي خالف فيها المتأخرون المحدثين النقاد .
وذلك لما كنا نلمسه في كثير من البحوث الحديثية من ظاهرة المخالفة المبنية على أسس واهية بتصحيح ما أعله السلف وتعليل ما صححوه ، حتى إن البعض يبني عليه حكماً شرعياً يتعصب له ويتشدد فيه إلى درجة أنه لا يقبل فيه نقداً ولا مراجعة ولا تصويباً ، ويتهم من كان ينتقده بأسلوب علمي في عقيدته ودينه ، وهذا مرض ابتلي به خلق كثير ، فالله المستعان .
فرغم كثرة المشتغلين بالأحاديث في عصرنا بحثاً وتحقيقاً وتخريجاً ودراسة ، فإنه تكاد لا توجد أطروحة علمية على مستوى لائق بمكانة السنة من حيث الابتكار والاستدراك والانتقاد ، إلا نادراً ، إذ إنهم ينقصهم جانب كبير من الفهم والدقة والإطلاع والممارسة ، وكان معظمهم يقحمون أنفسهم ويفرضون وجودهم في مجال البحوث الحديثية دون أن يتحقق لهم تأهل علمي متكامل من خلال الممارسة الحديثية الطويلة ، بل اغتروا بالقواعد التي حفظوها من علوم الحديث دون فهم ومعرفة وتحقيق .
فإن جل مباحث الحديث فن دقيق يحتاج إلى تعامل مستمر مع مختلف المصادر الحديثية ، وبعض مسائله لا يزال يكتنفها من اللبس والغموض ما يمكن أن يمنع الطالب الباحث عن إحاطة شاملة وفهم صحيح وهذا يؤدي إلى ضعف المستوى في دراسته وبحثه ، ويحدث بوناً شاسعاً بينه وبين المتقدمين ، مثل مسألة التفرد ، وزيادة الثقة ، والحسن ، والعلة ، والشذوذ ، والتدليس ، ونحوها ، مما يعد من أهم النقاط وأدقها ، التي يؤسس عليها المحدثون نقدهم .
فمن الغريب أن نرى بعضهم يتعقبون على فرسان الحديث وجهابذتهم بأمر بديهي لم يكن خافياً على المبتدئين ، وهؤلاء كما قال الشيخ طاهر الجزائري وهذا نصه :
" وأعلم أن هذه المسألة هم من أهم مسائل هذا الفن الجليل الشأن ، والناظرون في هذا الموضع قد انقسموا إلى ثلاث فرق : الفرقة الأولى فرقة جعلت جل همها النظر في الإسناد ، فإذا وجدته متصلاً ليس في اتصاله شبهة ووجدت رجاله ممن يوثق بهم حكمت بصحة الحديث قبل إمعان النظر فيه ، وحتى إن بعضهم يحكم بصحته ولو خالف حديثاً أخر رواته أرجح ، ويقول : كل ذلك صحيح ، وربما قال : هذا صحيح وهذا أصح ، وكثيراً ما يكون الجمع بينهما غير ممكن ، إذا توقف متوقف في ذلك نسبة إلى مخالفة السنن ، وربما سعى في إيقاعه في محنة من المحن … وقد وصل الغلو بفريق منهم إلى أن ألزموا الناس بالأخذ بالأحاديث الضعيفة الواهية فأوقعوا الناس في داهية ، "وما أدراك ماهية " وهذا الفرقة هم الغلاة في الإثبات " . ا هـ (1)
فعلينا أن نسلط الأضواء على الجوانب الغامضة التي تظل بعيدة عن انتباه الناظرين في تلك المسائل، إلا أننا نختار منها مسألتي التفرد ، وزيادة الثقة ، ونفرد كلاً منهما ببحث خاص ، مستندين فيه على نصوص المحدثين النقاد ، ومستمدين من ممارساتهم العلمية ، كتمهيد بين يدي هذه الموازنة ،وذلك ليستقين القارئ رصانة المتقدمين في نقدهم للأحاديث .
***
__________
(1) توجيه النظر ص 74 .(1/7)
المبحث الأول التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي ، وأسباب ذلك
يضم هذا البحث شرح ما يلي :
التفريق بين المتقدمين والمتأخرين واقع تاريخي يجب احترامه .
موقف العلماء من التفريق بين المنهجين .
أول مناسبة في كتب المصطلح يفرق فيها بين المنهجين .
اتفاق العلماء على هذا التباين المنهجي .
ملاحظات استطرادية حول قول أبي الحسن الأندلسي بتميز منهج الفقهاء في نقد الحديث .
سرد مواضع أخرى من كتب المصطلح استخدم فيها العلماء مصطلحي : " المتقدمون " و " المتأخرون " .
العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع ذلك التباين بينهم .
الشروط التي وضعت لحفظ الكتب والمدونات ، وعناية المتأخري بها .
منحى أخر تحولت إليه مرحلة ما بعد الرواية.
ميدان إبداع المتأخرين في خدمة السنة .
التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ، وأسباب ذلك
أ - من هم المتقدمون ومن هم المتأخرون من المحدثين ؟
ب - وما حاجتنا إلى معرفة ذلك في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ؟
ج- وهل يصح أن نضفي على المناهج والمفاهيم المتفق عليها لدى المتأخرين شرعية مطلقة لتفسير نصوص المتقدمين وتأويل مصطلحاتهم في مجال التصحيح والتضعيف ، أو في مجال الجرح والتعديل ؟
د- وما مصداقية ذلك التفسير إذا لم تعتبر فيه الخلفية العلمية لتلك المصطلحات ،وأساليب أصحابها في استعمالها ؟
ومن الجدير بالذكر أن معرفة الإجابة الدقيقة عن هذه التساؤلات أمر لابد منه لمن يتعامل مع نصوص المتقدمين في مجال التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل ، التي تزخر بها مصادر الحديث وكتب الرجال . وذلك لتفادي التلفيق بين المناهج المختلفة عند تحديد مفاهيم المصطلحات ودلالات النصوص ذات الطابع النقدي .
ولذا نرى من الضروري أن نشرح مواقف الأئمة تجاه مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين بوجه عام في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ، ثم نسلط الضوء على الأمور التاريخية التي أدت إلى تباين المنهج بينهم في ذلك عموماً ، حتى تكون الإجابة على تلك التساؤلات واقعية ودقيقة .(1/8)
التفريق بين المتقدمين والمتأخرين واقع تاريخي يجب احترامه
سبق لي ذكر مسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في كتابي " نظرات جديدة في علوم الحديث " لكني أعيدها هنا بشيء من التفصيل لأمرين :
الأول : استدراك بعض النقائص التي دفعت ببعض الإخوة إلى إساءة الظن بنا ، وتعكير صفاء هذا الموضوع الذي نحن بحاجة ماسة إلى بلورته وإثرائه من أحل التحرر من الإشكالات المعقدة كافة حول كثير من أنواع علوم الحديث ،وفهم ما تحويه مصطلحاتها من الأبعاد النقدية فهماً صحيحاً متكاملاً ، والتأصيل لمنهج المحدثين النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، دون خلطه بمناهج الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ، بإذن الله سبحانه وتعالى .
الأمر الثاني : أن هذه المسألة تشكل نقطة أساسية لموضوع هذا الكتاب.
إن قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ، ليست فكرة محدثة كما يتصورها بعضنا ، ولا هي بدعة منكرة ،ولا هي مجرد خاطرة خطرت ببالنا كما اتهمنا بها بعض آخر وإنما هي فكرة قديمة نوّه بها قبلنا علماء التحقيق والتدقيق من المتأخرين أنفسهم .
وما دعاني إلى إثارتها من جديد إلا إحياء منهج المحدثين النقاد المتقدمين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، بعد أن لمست في كثير من البحوث والدراسات المعاصرة انتهاج منهج ملفق بين منهج المحدثين النقاد وبين منهج الفقهاء وعلماء الأصول ، ثم إلصاقة بنقاد الحديث .(1/9)
موقف العلماء من التفريق بين المنهجين
ونسوق هنا من النصوص ما يحدد لنا بدقة مواقف العلماء تجاه قضية التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف وما يتعلق بهما من القضايا والمسائل .
قال الحافظ الذهبي ( رحمه الله تعالى ) : " يا شيخ ارفق بنفسك والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشَّزْر ولا ترمقنهم بعين النقص ، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا حاشا وكلا ، وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ ربتة أولئك في المعرفة فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال : من أحمد ؟ وما ابن المديني ؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود فاسكت بحلم أو انطق بعلم ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث فلا نحن ولا أنت ، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل (1).
... ثم قال في ترجمة الإسماعيلي صاحب المستخرج على صحيح البخاري " صَنَّف ( يعني الإسماعيلي ) مسند عمر رضي الله عنه ، طالعته وعلقت منه وابتهرت بحفظ هذا الإمام ، وجزمت على أن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين " (2).
... والجدير بالذكر أن الذهبي أدرج الإسماعيلي المتوفي سنة 371هـ ، من المتقدمين، على الرغم من قوله بأن " الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين ثلاث مائة سنة " (3)
... وقال أيضاً : " وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث ، فإن أولئك الأئمة ، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول وعرفوا عللها ، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد ، وفقدت العبارات المتيقنة ، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَل على الحاكم في تصرفه في المستدرك " (4)
... وقال الحافظ ابن حجر : " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين ،وشدة فحصهم ،وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك ،والتسليم لهم فيه ، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد ، كالترمذي ، وكأبي حاتم ابن حبان ؛ فإنه أخرجه في صحيحه ،وهو معروف بالتساهل في باب النقد ، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال (5)
... وقال السخاوي : " ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً ، وللنظر في مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ولم يجئ بعدهم مساوٍ لهم ولا مقارب أفاده العلائي ،وقال : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح ا هـ (6)
... يعني السخاوي بقوله هذا ؛ أن تصحيح الحديث أو تعليله بناء على معرفة ما يحيط به من القرائن يصعب على المتأخرين ، بخلاف المتقدمين لتبحرهم في علم الحديث وتوسعهم في حفظه .
... وقال الحافظ العلائي بعد أن سرد آراء الفقهاء وعلماء الأصول حول مسألة زيادة الثقة : " كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أن لا يحكم في هذا المسألة – يعني زيادة الثقة – بحكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر على الترجيح بالنسبة إلى ما يقوي عند أحدهم في حديث حديث "(7) .
... وقال الحافظ ابن حجر في المناسبة نفسها : " والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ، ولا يعرف عن أحد منهم قبول الزيادة " (8) .
... وهذه النصوص واضحة وجلية في مدى احترام أئمتنا فكرة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مجال الحديث وعلومه ، وشعورهم العميق بالفوارق العلمية الآخذة في تبلورها بينهم بقدر كبير في معالجة مسائل علوم الحديث ، تنظيراً وتطبيقاً .
... كما أن هذه النصوص تحمل إشارة واضحة إلى أن كلمة " المتقدمين " يقصدون بها نقاد الحديث ، باستثناء المعروفين منهم بالتساهل في التصحيح : كابن خزيمة وابن حبان والحاكم . بينما يعنون بالمتأخرين غير النقاد ممن كان يقبل الأحاديث ويردها بعد الدارقطني ، من الفقهاء وعلماء الكلام وغيرهم ممن ينتهج منهجهم ، أو يلفق بينه وبين منهج المحدثين النقاد ، كما هو جلي من سياق كلام الحافظ العلائي والحافظ ابن حجر ، إذ أنَّ تعقيبهما الذي نقلته آنفاً كان بعد سرد آراء علماء الطوائف – وهم الفقهاء ،وعلماء الكلام والأصول ، وعلماء الحديث – حول مسألة زيادة الثقة ،ولذلك ينبغي أن يكون الحد الفاصل بينهم منهجياً أكثر من كونه زمنياً .
... هذا وقد كان استخدام لفظتي " المتقدمين والمتأخرين " مألوفاً في كتب مصطلح الحديث وغيرها ، مما يبرهن به على وجود تباين بينهم في إستخدام المصطلحات عموماً ، الأمر الذي يفرض على الباحث في علوم الحديث أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار عند شرح المصطلحات والنصوص ذات الطابع النقدي ، لا سيما في الأنواع التي توسعت مفاهيمها وضوابطها في العصور المتأخرة ، كطرق التحمل والأداء ،والجرح والتعديل .
__________
(1) الحافظ الذهبي ، تذكرة الحفاظ ص : 726 – 826 .
(2) المصدر السابق ، ص : 849 .
(3) ميزان الإعتدال1/ 4 .
(4) الموقظة ص : 46( تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ، ط : 2 ، سنة 1412هـ دار البشائر الإسلامية ، بيروت )
(5) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726 ( تحقيق الشيخ ربيع المدخلي ، ط : 1 ، الجامعة الإسلامية ) ، وأما قول الحافظ ابن حجر في معرض تعقيبه على ابن الصلاح في مسألة التصحيح في العصور المتأخرة : " فيلزم على الأول ( يعني قول ابن الصلاح : فآل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه ائمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ) تصحيح ما ليس بصحيح ، لأن كثيراً من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة ، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن " (النكت 1/270) فيعني به تصحيح المتساهلين من المتقدمين ؛ كابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، دون التعميم على جميع المتقدمين النقاد ، ولذا عقبه بقوله : " فكم في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته ، وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن ،وكذا في كتاب ابن حبان ، بل وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي يفرق بين الصحيح والحسن " .ولذا فإن قول الحافظ ابن حجر هذا لا يتعارض مع الذي نقلناه عنه من ضرورة الرجوع إلى تصحيح المتقدمين وتعليلهم ، وتسليم الأمر لهم فيهما . والله أعلم .
(6) الحافظ السخاوي ، فتح المغيث 1/237 ( الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ، ط 2 سنة 1388هـ ) .
(7) نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في " النكت على كتاب ابن الصلاح " 2/604 ، والصنعاني في توضيح الأفكار 1/312.
(8) الحافظ بن حجر ، شرح نخبة الفكر ص : 13، وانظر أيضاً كتابه " النكت على مقدمه ابن الصلاح " 2/692 .(1/10)
أول مناسبة في كتب المصطلح يفرق فيها بين المنهجين
... ولعل أول موضع من كتب المصطلح يشد انتباه القراء إلى ضرورة التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي هو مبحث الصحيح .
... فقد قال ابن الصلاح : " الصحيح ما اتصل سنده بالعدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة " . ثم أشار إلى أن هذا التعريف على منهج أهل الحديث حين قال : " فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث " (1) . وتبعه في ذلك كل من صنف في مصطلح الحديث عموماً، متفقين على أن هذا التعريف إنما هو على منهج المحدثين دون غيرهم من الفقهاء وعلماء الأصول .
... وذلك لأن الفقهاء وعلماء الأصول لم يشترطوا في الصحيح أن يكون الحديث خالياً من أسباب الشذوذ والعلة المتفق عليها عند المحدثين .
... ويتجلى ذلك بوضوح في مسألة زيادة الثقة ،ومسألة ما يتفرّد به الثقة من الأحاديث ، ومسألة تعارض الوصل والإرسال ،وتعارض الوقف والرفع ، ومسألتي الشاذ والمنكر ؛ إذ كان موقف الفقهاء وعلماء الأصول تجاه هذه المسائل هو قبول ما يرده نقاد الحديث .
... ولهذا قال ابن دقيق العيد : ومداره ( يعني الصحيح ) بمقتضى أصول الفقهاء والأصوليين على صفة عدالة الراوي في الأفعال مع التيقظ ، العدالة المشترطة في قبول الشهادة ، على ما قرر في الفقه ، فمن لم يقبل المرسل منهم زاد في ذلك أن يكون مسنداً ، وزاد أصحاب الحديث أن لا يكون شاذاً ولا معللاً ، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء (2) .
... وقال أيضاً في شرح الإلمام : "إن لكل من أئمة الفقه والحديث طريقاً غير طريق الآخر ، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالراوية ، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه ، فمتى حصل ذلك وجاز ألا يكون غلطاً وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه . فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته " وقال الصنعاني معقباً عليه : " وهو صريح في إختلاف الاصطلاحين في مسمى الصحيح من الحديث كما قررناه "(3)
... وقال أبو الحسن بن الحصار الأندلسي (611هـ ) :" إن للمحدثين أغراضاً في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك ، كتعليلهم الحديث المرفوع بأنه روي موقوفاً أو مرسلاً ،وكطعنهم في الراوي إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو مخالفته من هو أعدل منه ، أو أحفظ ، وقد يعلم الفقيه صحة الحديث بموافقة الأصول ، أو آية من كتاب الله تعالى ، فيحمله ذلك على قبول الحديث ، والعمل به ، واعتقاد صحته ، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " (4)
... وإن كان في قول أبي الحسن الأندلسي بعض المؤاخذات العلمية التي سأبديها قريباً فإن هذه النصوص أفادتنا عموماً بضرورة التفريق بين الفقهاء وعلماء الأصول وبين نقاد الحديث في تنظير قواعد التصحيح والتضعيف وتطبيقاتها ، لئلا تكون المفاهيم حولها ملفقة بين مناهجهم المختلفة ، ومعلوم أن هذه القواعد إنما تؤخذ عن المحدثين النقاد ، دون غيرهم ، ويجب التسليم لهم في ذلك ، ولذا قال الحافظ ابن حجر : "يتبين عظم موقع كلام المتقدمين ، وشدة فحصهم ،وقوة بحثهم ،وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك ، والتسليم لهم فيه " (5) .
... وقال أيضاً : " فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه" (6)
... وقال ابن كثير : " أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن ( أي في جرح الرواة ) فينبغي أن يؤخذ مسلماً من غير ذكر أسباب ، وذلك للعلم بمعرفتهم ، وإطلاعهم ، في هذا الشأن ، واتصفوا بالإنصاف والديانة ، والخبرة والنصح ، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً أو كذاباً ، أو نحو ذلك ، فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في مواقفهم ، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم " (7) .
... وقال السخاوي : فمتى وجدنا في كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً لما أعطاهم الله من الحفظ وإن اختلف النقل عنهم عدل إلى الترجيح اهـ (8)
... وهذا الإمام السبكي يسجل لنا ما صدر من الإمام الجويني – وهو أحد أئمة علم الكلام والأصول – من بالغ التقدير والاحترام لمنهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف ،وذلك بعد أن أدرك خطأه في طريقة تصحيحه للأحاديث ، والإحتجاج بها ، وهذا نصه :
... " كان الشيخ أبو محمد قد شرع في كتاب سماه ( المحيط ) عزم فيه على عدم التقيد بالمذهب ، وأنه يقف على مورد الأحاديث لا يعدوها ،ويتجنب جانب العصبية للمذاهب فوقع إلى الحافظ أبي بكر البيهقي منه ثلاثة أجزاء ، فانتقد عليه أوهاماً حديثيه ، ويبين أن الآخذ بالحديث الواقف عنده هو الشافعي ، رضي الله عنه ،وأن رغبته عن الأحاديث التي أوردها الشيخ أبو محمد إنما هي لعلل فيها ، يعرفها من يتقن صناعة المحدثين " .
... " فلما وصلت الرسالة إلى الشيخ أبي محمد قال : هذه بركة العلم ، ودعا للبيهقي ، وترك إتمام التصنيف ، فرضي الله عنهما ، لم يكن قصدهما غير الحق والنصيحة للمسلمين ، وقد حصل عند البيهقي مما فعله الشيخ أبو محمد أمر عظيم ، كما يظهر من كلامه في هذه الرسالة "(9) . ا هـ .
... ومن المفيد أن ننقل هنا بعض ما ورد عن البيهقي في رسالته المذكورة ، يقول:
... " وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماعه الحديث والنظر في كتب أهله ، فأشكر إليه ،وأشكر الله تعالى عليه ، وأقول في نفسي ، ثم فيما بين الناس : قد جاء الله عز وجل بمن يرغب في الحديث ويرغب فيه من بين الفقهاء ، ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم ، من جملة العلماء ، وأرجو من الله أن يحيي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار ، حيث أماتها أكثر فقهاء الأمصار بعد من مضى من الأئمة الكبار الذين جمعوا بين نوعي علمي الفقه والأخبار ، ثم لم يرضَ بعضهم بالجهل به حتى رأيته حمل العالم به بالوقوع فيه ، والإزراء به والضحك منه ، وهو مع هذا يعظم صاحب مذهبه ويجله ، ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله ، ثم يدع في كيفية قبول الحديث ورده طريقته ،ولا يسلك فيها سيرته ؛ لقلة معرفته بما عرف ، وكثرة غفلته عما عليه وقف ، هل نظر في كتبه ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره ، واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره ! فنرى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجباً على كل من انتصب للفتيا ، فإما أن يجتهد في تعلمه ، أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه ، ولا يجمع عليه وزران ، حيث فاته الأجران ، والله المستعان، وعليه التكلان " .
... " ثم إن بعض أصحاب الشيخ – أدام الله عزه – وقع إلى هذه الناحية ، فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى (بالمحيط ) فسررت به ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار ، لائقاً بما خصّ به من علم الأصل والفرع ، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع " (10)
... والذي يبدو من مضمون الرسالة المشار آنفاً أن معاصري الإمام البيهقي من فقهاء الشافعي سلكوا في قبول الأحاديث والاحتجاج بها مسلكاً يناهض منهج إمامهم الشافعي وغيره من المتقدمين من أصحاب الحديث والأثر ، وعلى الرغم من دفاع الإمام البيهقي عن المحدثين النقاد ومنهجهم في التصحيح والتضعيف ،وقبول الإمام الجويني ذلك منه بحفاوة ورحب صدر ، فإن اللاحقين من الفقهاء استمروا في تساهلهم في تصحيح الأخبار وقبولها والاحتجاج بها .
... ويتجلى ذلك بوضوح بما قال ابن الجوزي : " فرأيت أن إسعاف الطالب للعلم بمطلوبه يتعين خصوصاً عند قلة الطلاب ، لا سيما لعلم النقل ، فإن أعرض عنه بالكلية حتى إن جماعة من الفقهاء يبنون على العلوم الموضوعة " (11) . يعني : أنهم يستدلون بالأحاديث الموضوعة ،والله أعلم .
... وقال في موضع آخر : " رأيت بضاعة أكثر الفقهاء في الحديث مزجاة ، يعول أكثرهم على أحاديث لا تصح ويعرض عن الصحاح ، ويقلد بعضهم بعضاً فيما ينقل " (12) .
... وقال الإمام النووي " وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك واعتمادهم عليه ( يعني ما رواه الضعفاء ) فليس بصواب بل قبيح جداً ، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به ، فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام ، وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الإحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفاً ، أو بسؤال أهل العلم إن لم يكن عارفاً . والله أعلم " (13)
__________
(1) م الحديث ، المشهور بـ ( مقدمة ابن الصلاح ) ص : 11-13 ( تحقيق نور الدين عتر ، ط : 3 ، سنة 1418هـ) .
(2) قتراح في بيان الاصطلاح ص : 186( تحقيق عارم حسن صبري ، ط : ا ، سنة 1417هـ ، دار البشائر الإسلامية ،بيروت )
(3) توضيح الأفكار 1/23 .
(4) نقله الحافظ في كتاب النكت على ابن الصلاح 2/128 – 131 ، ( مناهج المحدثين ص : 25 ) .
(5) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/726 .
(6) النكت 2/711 . انظر اختصار علوم الحديث ص : 64 .
(7) اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث : 79 .
(8) فتح المغيث 1/237 ، وتوضيح الأفكار 1/344 ، والنكت 2/ 604 –605 .
(9) طبقات الشافعية الكبرى 5/76-77 للإمام السبكي ( تحقيق محمود محمد الطناحي ، ط: ا ، سنة 1967 م ) .
(10) طبقات الشافعية الكبرى ، ص : 81-82 .
(11) الموضوعات 1/3 .
(12) التحقيق في اختلاف الحديث 1/3 .
(13) شرح النووي لصحيح مسلم 1/126 .(1/11)
ملاحظات استطرادية حول قول أبي الحسن الأندلسي بتميز منهج الفقهاء في نقد الحديث
... وأما ما زعمه أبو الحسن الأندلسي ( رحمه الله تعالى ) " أن للمحدثين أغراضاً في طريقهم احتاطوا فيها وبالغوا في الاحتياط ، ولا يلزم الفقهاء اتباعهم على ذلك ، ،وأن الفقيه قد يعلم صحة الحديث بموافقة الأصول ، أو آية من كتاب الله تعالى ، فيحمله ذلك على قبول الحديث ،والعمل به ، واعتقاد صحته ، وإذا لم يكن في سنده كذاب فلا بأس بإطلاق القول بصحته إذا وافق كتاب الله تعالى وسائر أصول الشريعة " (1) فيرده ما سبق سرده من نصوص الأئمة . هذا من حيث الجملة .
... وأما من حيث التفصيل فقوله :" إن المتحدثين بالغوا في الاحتياط " بعيد عن الدقة ، وذلك لأن منهج المحدثين في التصحيح والتضعيف لم يكن قائماً على التخمين والاحتياط ، وإنما على تتبع القرائن والملابسات ، ولذلك فإنهم حين أعلُّوا الحديث المرفوع بالموقوف يعني أن القرائن نبهتهم على أن رفع الحديث خطأ ، وليس لمجرد وجود المخالفة بين الموقوف والمرفوع ، أو بين المتصل والمرسل ، وليس لأنهم مبالغون في الاحتياط ، ويمكن أن نصفه بذلك إذا كان منهجهم في ذلك مجرد تخمين وظن ، دون تعويل على القرائن والملابسات .
... وأما طعنهم في الراوي فليس كما قال الأندلسي: إذا انفرد بالحديث أو بزيادة فيه أو لمخالفته من هو أعدل منه أو أحفظ ، يطعن فيه النقاد ، وإنما طعنوا فيه لكثرة مخالفته الصواب وكثرة تفرده بما ليس له أصل ، وليس لمجرد أنه قد خالف من هو أعدل منه ، دون لجوء إلى ما يحف به من القرائن .
... وأما الجملة الأخيرة فتعد غريبة منه رحمه الله تعالى ، وهي وليدة خلط بين قضيتين مختلفتين تتميز كل منهما عن الآخر بالضوابط ، إذ موافقة القول المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم الأصول أو الآية القرآنية لا تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة ، والذي ذكره أبو الحسن الأندلسي إنما هو من حيث محتوى النص ، فسلامته من الخلل تتم بانسجامه مع الأصل الثابت أو الإجماع ، وأما من حيث روايته وإضافته إلى شخص ما فينبغي أن يكون خاضعاً لقواعد النقل والرواية ، وبمجرد أن يكون نص ما قد وافق الآية القرآنية لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة إذا لم يكن من رواية الكذاب .
... ومن المعلوم أن النقل له قواعد وضوابط ، كما للعقل قواعد وضوابط ، ولا ينبغي إخضاع أحدهما لقواعد الآخر إلا في حالات معينة وبطريقة علمية منهجية ، وبالتالي فما لا يمنع العقل وقوعه لا يلزم إضافته إلى شخص ، ما لم يثبت عنه نقلاً ، وكيف إذا كان الأمر يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن الخطب فيه جلل ،والعاقبة وخيمة .
... وعلى كل فقد ظهر جلياً مما سبق أن أئمة الفقه والأصول كانوا يقعدون القواعد وينظرون المسائل فيما يخص التصحيح والتعليل والقبول والرد والجرح والتعديل وفق ما يقتضيه التجويز العقلي المجرد ، كما سبق الإشارة إلى ذلك في نص الإمام ابن دقيق العيد ، كذا نص أبي الحسن الأندلسي وبالتالي يكون من الإنصاف العلمي أن لا يعد ذلك منهجاً علمياً يوازي منهج المحدثين النقاد .
... وربما نجد في نصوص بعض المتأخرين أن المحدثين يضعفون الأحاديث لعلة غير قادحة ،وأنهم يضعفون الحديث لاختلاف رواته على شيوخهم في اسم الصحابي ، ويعدون مثل هذا الاختلاف عله تقدح في صحة الحديث . وأما الفقهاء فلا يعدونه علة قادحة لأن الحديث في جميع الاحتمالات يكون من رواية الصحابي ، ولا يضر الإبهام في اسمه لثبوت عدالة الصحابة ، مما يوهم القارئ المستعجل أن الفقهاء هم في غاية من الدقة في التصحيح والتضعيف . أقول : كلا ثم كلا ؛ فإن ذلك النوع من الخلاف لن يكون قياساً لمعرفة دقة الفقهاء في التصحيح والتضعيف ومرونتهم في ذلك ، وهذا في الواقع أمر سهل ، بل لا يرد أحد من النقاد الأحاديث من أجله ، وإنما يرفض فقط أن يحدد الراوي بأنه فلان ؛ لوقوع اضطراب حوله ، دون أن يقدح ذلك في صحة الحديث .
... وأما الخلاف الجوهري المتمثل في كون الحديث موقوفاً أو مرفوعاً ، أو كون الحديث مرسلاً أو متصلاً ، أو كون الحديث بزيادة أو بدونها فيعد ذلك كله من العلل القادحة ، فقط إذا توفرت القرائن على أن رفعه أو وصله أو زيادته خطأ محض من رواية أياً كان هذا الراوي ، ولم يكن ذلك مبنياً على مجرد تخمين ، أو تجويز عقلي .
... في حين يعد الفقهاء هذا النوع من الاختلاف عللاً غير قادحة ؛ نظراً لكون راوي ذلك ثقة أو صدوقاً ، وأن الزيادة منه مقبولة عندهم إذ كانوا يجوزون عقلياً صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم صارفين النظر عما يحيط بتلك الزيادات من ملابسات وقرائن . ولذا فعلى المنصف أن يتأمل : أي منهج يتسم بالدقة المتناهية التي تقتضيها مكانة ألسنة النبوية ؛ منهج المحدثين النقاد الذي يقوم على تتبع القرائن والملابسات ؟ أو منهج الفقهاء والأصوليين الذي يعتمد على التجويز العقلي (2)
... وفي ضوء ما سبق ذكره يمكن لنا القول : من كان منهجه في التصحيح والتضعيف هو النظر في عدالة الراوي واتصال السند فهو على طريقة الفقهاء ، وعليه جرى عمل كثير من المتأخرين من أهل الحديث عموماً ، وهو ظاهر لكل من يتتبع كتب الفقه وأحاديث الأحكام ، وكتب التخريجات ،وكذلك المعاصرون ينتهجون المنهج نفسه ، كما نرى ذلك في كثير من بحوثهم ودراساتهم . غير أنهم يتفاوتون في ذلك بقدر ممارستهم بمنهج المحدثين النقاد . وستأتي لذلك نماذج عديدة عند الموازنة ، إن شاء الله تعالى .
... هذا وقد تبلور التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في تقعيد قواعد القبول والرد في مناسبات أخرى في علوم الحديث ، كمبحث تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، ومبحث زيادة الثقة ، ومبحث الاستخراج ، ومبحث الشاذ والمنكر .
... يقول الحافظ العلائي في صدد هذا التباين :
... " فأما إذا كان رجال الإسناد متكافئين في الحفظ أو العدد ، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شيء من ذلك ، مع أن كلهم ثقات محتج بهم ، فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء " .
... " فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقاً ، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى ، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها ، وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ؛ ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة ، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده " .
... " وأما أئمة الفقه والأصول ، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه يعني كما تقدّم تفصيله عنهم ، ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم"(3)
... وقال الحافظ ابن حجر : " وهذا ( يعني قبول زيادة الثقة ) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محيى الدين النووي في مصنفاته"(4)
... وقال الحافظ العلائي : " فهذا ( قبول زيادة الثقة ) كلام أئمة الأصول ممن وقفت عليه ، وأما أئمة الحديث فالمتقدمون منهم كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ، ومن بعدهما كعلي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وهذا الطبقة ،وكذلك من بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين ومسلم والنسائي والترمذي وأمثالهم ، ثم الدارقطني والخليلي ، كل هؤلاء يقتضي تصرفهم في الزيادة قبولاً ورداً الترجيح بالنسبة إلى ما يقوي عند الواحد منهم في كل حديث ،ولا يحكمون في المسألة بحكم كلي يعم جميع الأحاديث ،وهذا هو الحق والصواب كما سنبينه إن شاء الله تعالى " (5) ثم استثنى العلائي منهم الإمام الحاكم وابن حبان لتساهلهما في التصحيح .
وهذه النصوص كلها واضحة وجلية في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين في مسألة التصحيح والتضعيف وما يلحق بهما من المسائل والضوابط ،وأن المتقدمين هم نقاد الحديث ، وأن المتأخرين هم الفقهاء وعلماء الكلام والأصول ومن تبعهم في المنهج من أهل الحديث ، دون النظر إلى الفاصل الزمني في التفريق .
... ولذا أطلق السخاوي بقوله السابق : " ولذا كان الحكم من المتأخرين عسراً جداً ، وللنظر فيه مجال ، بخلاف الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث والتوسع في حفظه كشعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم وأصحابهم مثل أحمد وابن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ، وهكذا إلى زمن الدارقطني والبيهقي ،ولم يجئ بعدهم مساو لهم ولا مقارب " (6)
... ومن هنا يتجلى وهاء ما ذكره الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ( رحمة الله عليه ) في سبيل دفاعه عن حديث عون بن عبد الله الخراز عن مالك عن الزهري عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً موضوع ترك رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ،وعن صحته ، مع أن الراوي قد انفرد به مخالفاً للثابت عن مالك ثم عن الزهري ثم عن نافع ثم عن ابن عمر ثم عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ونصّ بعض النقاد على أنه باطل ، وأوضح ذلك الشيخ الألباني رحمة الله عليه ، كما سيأتي تفصيل ذلك في قسم الموازنة إن شاء الله تعالى .
__________
(1) نقله الحافظ في كتاب النكت على ابن الصلاح 2/128 -131 ( مناهج المحدثين ص : 25 ) .
(2) هذا الموضوع مشروح بتفاصيل دقيقة في كتاب جديد للمؤلف عنوانه " كيف ندرس علوم الحديث " .
(3) نقله الحافظ في النكت على كتاب ابن الصلاح - النوع الثامن عشر : معرفة العلل - 2/712 .
(4) المصدر السابق - في النوع السادس عشر : معرفة زيادات الثقات - 2/688 .
(5) نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد ص : 209 - 210 ( تحقيق بدر بن عبد الله ، ط : 1 ، سنة 1416هـ ، دار ابن الجوزي ) .
(6) فتح المغيث 1/237 ، وتوضيح الأفكار 1/344 ،والنكت 2/604-605 .(1/12)
بيان مواضع أخرى من كتب المصطلح استخدم فيها العلماء مصطلحي (المتقدمون) و ( المتأخرون )
كتب المصطلح تزخر بلفظي المتقدمون والمتأخرون في كثير من المسائل ، ومنها طرق التحمل والأداء ، والجرح والتعديل ،حيث كان هذا الموضوعان محل عناية لدى المتأخرين ، على الرغم من اختلاف تخصصاتهم العلمية وتوجهاتهم الفكرية ، إذ الأولى تشكل نظم التعليم التي من شأنها أن تطور وفق مقتضيات العصر ، ويتأثر بذلك جميع العلوم ،وأما الثاني فدخل فيه الفقهاء والأصوليون من باب مسألة الشهادة ، وأطنبوا فيها حتى تعرضت لخلط الآراء القديمة والجديدة ،ومعلوم أن معظم المؤلفين في كتب المصطلح هم أصحاب تخصص فقهي أو أصولي أو تاريخي مع وجود تفاوت كبير فيما بينهم من حيث الفهم والممارسة والاهتمام .(1/13)
استعمال مصطلحي ( المتقدمون ) و (المتأخرون ) أمر شائع في كتب المصطلح
... وأسرد هنا - على سبيل المثال دون استيعاب - تلك المواضع التي ورد فيها مصطلحا " المتقدمون " و" المتأخرون " من غير ترتيب موضوعي لها ،أو توضيح ملابسات تلك المسائل التي تعرضت للتباين المنهجي بينهم ، إذ الغاية هي مجرد عرض لهذه المواضع ليقف القارئ على أنني لم أحدث شيئاً جديداً في قضية التفريق بين المقدمين والمتأخرين . وأنا على يقين أن القارئ على علم بذلك .
قال الحافظ ابن حجر ( رحمه الله تعالى ) : " وكذا خصصوا ( الإنباء ) بـ (الإجازة) التي يشافه بها الشيخ من يجيزه ،وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم ، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل ، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب فتكفلوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته . نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط ، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح ، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين (1) .
وقال أيضاً : "والإنباء بمعنى الإخبار عند المتقدمين جزماً " (2) .
وقال أيضاً : " قوله ( أنبأنا أبو إسحاق ) كذا هو بلفظ الإنباء ، وهو في عرف المتقدمين بمعنى الإخبار والتحديث وهذا منه " (3) .
وقال أيضاً : " وهذا أختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ، ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه ، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين ، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة " (4) . يلاحظ أن موضوع هذا النص فيما يخص تأويل حديث عذاب الميت ببكاء أهله .
وقال ابن الصلاح : " التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين ، فيكتبون لابن خمس فصاعداً ( سمع ) ولمن لم يبلغها (حضر) أو ( أحضر) " (5) ، ونقله عنه اللاحقون في كتب المصطلح .
وقال السخاوي : " فاعلم أنه قد تقدم اغتفار الكلمة والكلمتين ، يعني سواء أخلتا أو إحداهما بفهم الباقي ، لا لأن فهم المعنى لا يشترط ، وسواء كان يعرفهما أم لا ، والظاهر أن هذا بالنسبة إلى الأزمان المتأخرة وإلا ففي غير موضع من كتاب النسائي ، يقول : ( وذكر كلمة معناها كذا ) لكونه فيما يظهر لم يسمعها جيداً وعلمها (6).
وقال أيضاً نقلاً : " وخصّ بعضهم الاستواء بالأزمان المتأخرة التي حصل التسامح فيها في السماع بالنسبة للمتقدمين لكون آل لتسلسل السند إذ هو حاصل بالإجازة " (7) .
وقال أيضاً نقلاً عن أبي العلاء الحسن بن أحمد الهمداني العطار : " لم أرَ في اصطلاح المتقدمين من ذلك شيئاً ، غير أن نفراً من المتأخرين استعملوا هذه الألفاظ ، ولم يروا بها بأساً ، ورأوا أن التخصيص والتعميم في هذا سواء "(8) .
وقال في موضع آخر نقلاً عن ( توضيح النخبة ) : " إن القول بها توسع غير مرضي ، لأن الإجازة الخاصة المعينة مختلف في صحتها اختلافاً قوياً عند القدماء ، وإن كان العمل استقر على اعتبارها عند المتأخرين فهي دون السماع بالاتفاق " (9) .
وقال أيضاً : " وهذه الألفاظ إن كثر استعمالها لذلك بين المتأخرين من بعد الخمسمائة وهلم جراً فما سلم من استعمالها مطلقاً من الإيهام وطرف من التدليس ، أما المشافهة فتوهم مشافهة بالتحديث ، وأما الكتابة فتوهم أنه كتب إليه بذلك الحديث بعينه ، كما يفعله المتقدمون " (10) .
وفي 2/119 : " نعم اصطلح قوم من المتأخرين على إطلاقها فيها " ( يعني لفظة " أنبأنا" في الإجازة ) إلى أن قال : " وراعى في التعبير به عن الإجازة اصطلاح المتأخرين ، لا سيما ولم يكن الاصطلاح بذلك انتشر " .
وفي 2/132 " لكن إذا صحّ عند أحد من المتقدمين كما عليه ابن الصلاح ، أو المتأخرين على المختار ما حصل الإعلام به من الحديث حصل الوثوق به ".
وفي 2/206 : " وكذا خصّ بعض المتشددين الجواز بما إذا لم يخرج الكتاب عن يده بعارية أو غيرها ، قال بعضهم : وهو احتياط حسن يقرب منه صنيع المتقدمين أو جلهم في المكاتبة " .
وقال في 2/208 : " فإن تحديث المتقدمين من كتبهم مصاحب غالباً بالضبط والإتقان الذي يزول به الخلل ، حتى إن الحاكم أدرج في المجروحين من تساهل في الرواية من نسخ مشتراة أو مستعارة غير مقابلة لتوهمهم الصدق في الراوية منها بخلاف المتأخرين في ذلك فهو غالباً عري عن الضبط والإتقان ، وإن نوقش في أصله كما تقرر في محله " .
وفي 2/249 : " وإن اصطلح المتأخرون على التصرف في أسماء الرواة وأنسابهم بالزيادة والنقص وبزيادة تعيين تاريخ السماع " إلى أن قال : " وهو توسع أشار ابن دقيق العيد إلى منعه "
وفي 2/256 : كما جوّزه ( يعني تقديم المتن على السند ) بعض المتقدمين من المحدثين ،وكلام أحمد يشعر به ، فإن أبا داود سأله هل لمن سمع كذلك أن يؤلف بينهما ؟ قال نعم ، وبه صرّح ابن كثير من المتأخرين فقال : الأشبه عندي جوازه ".
وفي 2/269 : " وفعله ( يعني أن يجمع بين الروايات مع بيان الفروق فيما بينها ) من المتأخرين عياض فقال في الشفاء : وعن عائشة والحسن وأبي سعيد وغيرهم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وبعضهم يزيد على بعض " .
وفي 2/281 : "وقد فعله جماعة من المتأخرين ، وبالغ بعض المتساهلين فكان يقرأ عليه الماشي حال كونه راكباً ، وذلك قبيح منهما " .
وفي 2/283 : "وكذلك الشافعي قد أُخذ عنه العلم في سن الحداثة وانتصب لذلك ، في آخرين من الأئمة المتقدمين والمتأخرين " .
وفي 2/292 : " واعلم أن القراء في هذه الأعصار المتأخرة ، بل وحكاه ابن دقيق العيد أيضاً قد تسامحوا في ذلك وصار القارئ يستعجل استعجالاً يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة ، بل كلمات ، وقد اختلف السلف في ذلك " .
وفي 3/18-19 : " وعلو الصفة عند أئمة الحديث بالأندلس أرجح من علو المسافة ، خلافاً للمشارقة ، يعني المتأخرين ، ولأجل هذا قال العماد بن كثير : إنه نوع قليل الجدوى بالنسبة إلى باقي الفنون ، ونحوه قول شيخنا : وقد عظمت رغبة المتأخرين فيه حتى غلب ذلك على كثير منهم بحيث أهملوا الاشتغال بما هو أهم منه " ، ثم نقل ابن دقيق العيد قوله : " وقد عظمت رغبة المتأخرين في طلب العلو، حتى كان سبباً لخلل كثير في الصنعة ، ولم يكن فيه إلا الإعراض عمن طلب العلم بنفسه بتمييزه إلى من أجلس صغيراً ، لا تمييز له ولا ضبط ولا فهم ، طلباً للعلو وتقدم السماع " .
وفي 3/ 26 : " لو جمع بين سندين أحدهما أعلى بأيهما يبدأ فجمهور المتأخرين يبدؤون بالأنزل ليكون لإيراد الأعلى بعده فرحة ، وأكثر المتقدمين بالأعلى لشرفه " . ثم أورد لذلك الأمثلة من صحيح البخاري وصحيح مسلم .
وهذه النصوص كلها توضح وقوع فوارق منهجية لافتة الانتباه بين المتقدمين والمتأخرين فيما يخص طرق التحمل والأداء ، وأن مصطلح " المتأخرين" هنا يشمل جميع علماء الطوائف الثلاث : أئمة الفقه ، وأئمة الأصول والكلام ، وأهل الحديث ، كما يظهر ذلك لمن يتتبع مبحث طرق التحمل والأداء وما يتعلق بهما من مسائل في كتب المصطلح ، حيث أن حضور هؤلاء الأئمة جميعاً في تقعيد ما يتعلق بها واضح وجلي ، منهم القاضي أو بكر الباقلاني ( ت 403هـ ) ، وأبو الفتح سليم الرازي (ت447هـ ) وأبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ ) ، وابن الصباغ (ت477هـ ) ، وأبو إسحاق الاسفرائيني (ت418هـ ) ، وأبو الوليد سليمان بن خلف الباجي وإمام الحرمين ( ت 478هـ ) ، والمازري ، والماوردي (ت450هـ ) ، وغيرهم ممن عاصر الحافظين المشهورين : البيهقي ( 458هـ ) ،والخطيب البغدادي (ت460هـ ) ولاحقيهما كالآمدي (ت631هـ ) ، وابن الحاجب (ت646هـ ) .
وأما الموضوعات الأخرى التي نص فيها العلماء على تباين منهجي بين المتقدمين والمتأخرين فهي كالآتي : قال السخاوي : " ولا شك أن في المتكلمين في ذلك من المتأخرين من كان من الورع بمكان كالحافظ عبد الغني صاحب الكمال في معرفة الرجال المخرج لهم في الكتب الستة ، الذي هذبه المزي وصار كتاباً حافلاً ، عليه معول من جاء بعده ، وأختصره شيخنا وغيره ، من المتقدمين من لم يشك في ورعه كالإمام أحمد " (11)
وقال أيضاً : " قد شغف جماعة من المتأخرين القائلين بالتاريخ وما أشبهه كالذهبي ثم شيخنا بذكر المعائب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، وذلك غيبة محضاً " (12) .
وقال أيضاً :" لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة ، فإنه ليس من أهلها ،ولذا كان الجهل بالعلوم ومراتبها والحق والباطل منها أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفه منها في ذلك ، كما ذكره ابن دقيق العيد ، وقال : إنه محتاج إليه في المتأخرين أكثر لأن الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة والمتأخرة حتى علوم الأوائل .. " إلى أن قال : " والمتقدمون قد استراحوا من هذا لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم "(13) .
وفي 3/360 : " فنسب الأكثر من المتأخرين منهم كما كانت العجم تنسب للأوطان ،وهذا وإن وقع في المتقدمين أيضاً فهو قليل ، كما أنه يقع في المتأخرين أيضاً النسبة إلى القبائل بقلة " .
وقال السخاوي : " ليس يمكن في عصرنا ( يعني التصحيح والتحسين ) بل جنح لمنع الحكم بكل منهما في الأعصار المتأخرة الشاملة له ، واقتصر فيهما على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغير والتحريف ، محتجاً بأنه ما من إسناد إلا في روايته من اعتمد على ما في كتابه عرياً عن الضبط والإتقان "(14).
وقال أيضاً : " لكن قد وافق اختيار ابن الصلاح جماعة من المتأخرين"(15)
وقال أيضاً :" وبسعيد ( يعني سعيد بن المسيب الذي روي عنه أنه لا يحتج بالمرسل ) يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين، وابن الحاجب من المتأخرين ادعاءهما إجماع التابعين على قبوله ( أي المرسل ) "(16) .
وقال أيضاً :" إن ما تقدم في كون ( عن ) وما أشبهها محمولاً على السماع ،والحكم له بالاتصال بالشرطين المذكورين ، هو في المتقدمين خاصة ، وإلا فقد قال ابن الصلاح : لا أرى الحكم يستمر بعدهم فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه ( ذكر فلان ) ( قال فلان ) ونحو ذلك ، أي فليس له حكم الاتصال إلا إن كان له من شيخه إجازة "(17)، إلى أن قال في 163 : " وكثر بين المنتسبين إلى الحديث استعمال (عن) في ذا الزمن المتأخر أي بعد الخمسمائة إجازة " .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/145 .
(2) المصدر السابق 5/400 .
(3) المصدر السابق 2/563 .
(4) المصدر السابق 3/ 155 .
(5) مقدمة ابن الصلاح ص ، 130 .
(6) فتح المغيث 2/48 .
(7) المصدر السابق 2/58.
(8) المصدر السابق 2/68 .
(9) المصدر السابق 2/73 .
(10) المصدر السابق 2/118 .
(11) فتح المغيث 3/323 .
(12) فتح المغيث 3/324 .
(13) المصدر السابق وفي 3/327 .
(14) فتح المغيث 1/44 .
(15) المصدر السابق 1/51 .
(16) المصدر السابق1/136 .
(17) المصدر السابق 1/162 .(1/14)
وقال في 1/166 من فتح المغيث :" وإلا فالحق حسب الاستقراء من صنيع متقدمي الفن ، كابن مهدي والقطان وأحمد والبخاري عدم المراد حكم كلي ، بل ذلك دائر مع الترجيح ، فتارة يترجح الوصل وتارة الإرسال وتارة يترجح عدد الذوات على الصفات ، وتارة العكس ،ومن راجع أحكامهم الجزئية تبين له ذلك … إلى أن قال وبتأيد كل ذلك بتقديم البخاري نفسه للإرسال في أحاديث أخر لقرائن قامت عنده … هذا حاصل ما أفاده شيخنا مع زيادة وسبقه لكون ذلك مقتضى كلام الأئمة العلائي ومن قبله ابن دقيق العيد وغيرهما " .
وفي 1/222 : " ولذا حكم غير واحد من الحفاظ كالنووي في الخلاصة وابن عبد الهادي وغيره من المتأخرين باضطراب سنده " .
32- وفي 1/333 : الثالث عشر : " في عدم مراعاة ما تقدم في الأزمان المتأخرة وأعرضوا أي المحدثون فضلاً عن غيرهم في هذه الدهور المتأخرة عن اعتبار اجتماع هذه الأمور التي شرحت فيما مضى في الراوي وضبطه فلم يتقيدوا بها في عملهم لعسرها وتعذر الوفاء بها ، بل استقر الحال بينهم على اعتبار بعضها… " .
... 33- قال الحافظ السيوطي نقلاً عن الحافظ العراقي : " وهو الذي عليه عمل أهل الحديث ، فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحاً : فمن المعاصرين لابن الصلاح أبو الحسن ابن القطان الفاسي صاحب كتاب ( الوهم والإيهام ) صحح فيه حديث ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما ، ومنهم الحافظ ضياء الدين المقدسي جمع كتاباً سماه ( المختارة ) التزم فيه الصحة ، وصحح الحافظ زكي الدين المنذري ، ثم صحح الطبقة التي تلي هذه فصحح الحافظ شرف الدين الدمياطي ، ثم تقي الدين السبكي ، قال : ولم يزل دأب من بلغ أهلية ذلك منهم ، إلا أن منهم من لا يقبل ذلك منهم ، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئاً فأنكر عليه تصحيحه " (1) .
... 34- وقال أيضاً : " لكن قد يقوى ما ذهب إليه ابن الصلاح بوجه آخر وهو ضعف نظر المتاخرين بالنسبة إلى المتقدمين " (2) .
... 35- وقال أيضاً : نقلاً عن ابن الصلاح : " وفيما قاله مسلم نظر ، قال ولا أرى هذا الحكم يستمر بعد المتقدمين فيما وجد من المصنفين في تصانيفهم مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه : ( ذكر فلان) أو ( قال فلان) أي فليس له حكم الاتصال " (3) .
... 36- وقال أيضاً : " والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد والمزي أن لذلك حكم العنعنة " (4)
... 37- وقال في ص : 180 من تدريب الراوي : " من الأمور المهمة تحرير الفرق بين الرواية والشهادة ، وقد خاض فيه المتأخرون " .
... 38- وفي ص181 : " فالمختار عند المتاخرين أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال ما رويته أو كذب علي ، ونحوه وجب رده لتعارض قولهما مع أن الجاحد هو الأصل " .
... 39- وقال الحافظ ابن حجر : " تنبيه : حاصل كلام المصنف أن للفظ (عن) ثلاثة أحوال : أحدها أنها بمنزلة (حدثنا) و (أخبرنا) بالشرط السابق ، الثاني : أنها ليست بتلك المنزلة إذا صدرت (عن) عند مدلس ، وهاتان الحالتان مختصتان بالمتقدمين ،وأما المتأخرون وهم من بعد الخمسمائة وهلم جراً فاصطلحوا عليها للإجازو ، فهي بمنزلة أخبرنا " (5) .
... 40- وقال أيضاً : " وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيداً في تعريف المعلول ، فقرأت في (المقنع) للشيخ سراج الدين بن الملقن ، قال : (ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث : أن المعلول أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه ، أو تختلف جهتهما ؛ كأن يروي الخراساني مثلاً عن المغربي ، ولا ينقل أن أحدهما رحل عن بلده " (6) .
... 41- ونختم هذا بما قاله العلامة محمد انور شاه الكشميري في كتابه فيض الباري ، وهذا نصه :
... 42- " وليعلم أن تحسين المتأخرين ،وتصحيحهم ، لا يوازي تحسين المتقدمين ، فإنهم كانوا أعرف بحال الرواة لقرب عهدهم بهم ، فكانوا يحكمون ما يحكمون به ، بعد تثبت تام ، ومعرفة جزئية ، أما المتأخرون فليس عندهم من أمرهم غير الأثر بعد العين ، فلا يحكمون إلا بعد مطالعة أحوالهم في الأوراق ، وأنت تعلم أنه كم من فرق بين المجرب والحكيم ،وما يغني السواد الذي في البياض عند المتأخرين ، عما عند المتقدمين من العلم على أحوالهم ، كالعيان ، فإنهم أدركوا الرواة بأنفسهم ، فاستغنوا عن التساؤل ، والأخذ عن أفواه الناس ، فهؤلاء أعرف الناس ، فبهم العبرة ، وحينئذ إن وجدت النووي مثلاً يتكلم في حديث ، والترمذي يحسنه ، فعليك بما ذهب إليه الترمذي ، ولم يحسن الحافظ في عدم قبول تحسين الترمذي ، فإن مبناه على القواعد لا غير ، وحكم الترمذي يبنى على الذوق والوجدان الصحيح ، وإن هذا هو العلم ، وإنما الضوابط عصا الأعمى" (7)
... هكذا تضافرت النصوص على استخدام مصطلحي " المتقدمون والمتأخرون " مؤكدة بأهمية التفريق بين المناهج المختلفة في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي ، ونحن إذ نطرح ذلك من جديد فإننا نقصد بذلك بلورة هذه الفكرة ، لضرورة العودة إلى منهج المتقدمين في معرفة صحة الحديث وضعفه ، وتحديد معاني المصطلحات التي استخدموها في مجال النقد ، أو الجرح والتعديل ، مستعيناً في ذلك بالتعريفات التي ذكرها المتأخرون في كتب المصطلح .
... والذي أثار غرابتي وعجبي أن المناوئين لمسألة التفريق بين المتقدمين والمتأخرين كانوا يفرقون بينهم ، ويستخدمون هذين المصطلحين بين حين وآخر عند تناولهم مسائل علوم الحديث ؛ لقد سمعت من بعض الشيوخ يصف هذا المنهج بأنه محدث وبدعة في الدين ، وفي الوقت ذاته يفرق بينهم عشرات المرات في تحرير معنى الحسن وغيره من مسائل علوم الحديث .
... وفي ضوء ما تقدم من النصوص نستطيع أن نلخص ما يلي :
ورد في بعض النصوص ما ينص على أن الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين هو الخمسمائة سنة الهجرية .
وكان موقف العلماء موحداً حول وجود تباين جوهري بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف .
الأسماء الواردة في قائمة المتقدمين هم : شعبة والقطان وابن مهدي ونحوهم ، وأصحابهم مثل أحمد وأبن المديني وابن معين وابن راهويه وطائفة ، ثم أصحابهم مثل البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وهكذا إلى زمن الدارقطني والخليلي والبيهقي .
فاتضح بذلك أن البيهقي هو خاتمة المتقدمين .
وأن هذه الأسماء إنما ذكرت على سبيل المثال لا على سبيل الحصر .
ويبرهن بذكر هذه الأسماء على أن قصدهم بالمتقدمين هم نقاد الحديث .
وأدرج الذهبي الإسماعيلي (ت371هـ) في زمرة المتقدمين ، رغم قول الذهبي بأن الحد الفاصل بينهم هو القرن الثالث الهجري .
وأن الأسماء الواردة في قائمة المتأخرين هي : ابن المرابط ، وعياض ، وابن تيمية ، وابن كثير ، وعبد الغني صاحب الكمال ، والذهبي ، والحافظ ابن حجر ، وابن الصلاح ، وابن الحاجب ، والنووي ،وابن عبد الهادي ، وابن القطان الفاسي ، وضياء الدين المقدسي ، وزكي الدين المنذري ، وشرف الدين الدمياطي ، وتقي الدين السبكي ، وابن دقيق العيد ، والمزي .
وتضم هذه القائمة – كما ترى – أهل الحديث وأهل الفقه والأصول . وأطلق عليهم جميعاً مصطلح " المتأخرين " .
صرح السيوطي بضعف نظر المتأخرين بالنسبة إلى المتقدمين ، هذا بالطبع فيما يخص الحديث وعلومه فقط . ولم يكن (رحمه الله ) شاذاً في ذلك ، بل يؤيده ما سبق ذكره من نصوص الأئمة ، ولهذا قال الحافظ ابن حجر بوجوب تسليم الأمر للمتقدمين في مجال التصحيح والتضعيف وتنظير القواعد المتعلقة بهما .
... وفي نهاية هذا التلخيص نعود ونقول مرة أخرى إن أئمتنا قد استخدموا مصطلحي " المتقدمون" و " المتأخرون " ، لوجود تباين منهجي بينهم في التصحيح والتضعيف ، وتنظير ما يتعلق بهما من المسائل والقواعد ، ولتفاوتهم في التكوين العلمي في مجال الحديث وحفظه ونقده .
وبعد هذا يكون من المفيد أن ننظر في العوامل التاريخية التي أدت إلى وقع ذلك التباين ، وهذا ما أذكره في الفقرات التالية .
__________
(1) تدريب الراوي ص : 71 ( دار الكتب ا لعلمية ، سنة 1417هـ ، بيروت ) .
(2) المصدر السابق ، ص : 73 .
(3) المصدر السابق ، ص : 114 .
(4) المصدر السابق ، ص : 117 .
(5) النكت على كتاب ابن الصلاح – النوع الحادي عشر : المعضل – 2/586 .
(6) المصدر السابق – النوع الثامن عشر : العلل – 2/746 .
(7) فيض الباري 4/414 ، 415 .(1/15)
العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع ذلك التباين المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين
... إذا نظرنا في المراحل الزمنية التي مرت عليها السنة النبوية ، وقمنا بتحليل ما يميز بعضها عن بعض من أساليب التعلم والتعليم ، وطبيعة الحركات العلمية العامة ، نجد أنها تنقسم إلى مرحلتين متميزتين يكاد كل واحد منهما يستأثر بخصائص منهجية وسمات علمية ، على الرغم من أن اللاحقة منهما ما هي إلا امتداد للسابقة .
المرحلة الأولى :
... أما المرحلة الأولى فيمكن تسميتها بمرحلة الرواية ، وأبرز خصائصها كون الأحاديث لا تتلقى من الشيوخ ، ولا تتداول بين المحدثين إلا بواسطة الأسانيد ، والرواية المباشرة المتمثلة في قولهم " حدثني فلان عن فلان " إلى أن يذكروا الحديث أو الأثر . ويشهد لذلك طبيعة كتب الحديث التي ظهرت في هذه المرحلة .
... فأذكر على سبيل المثال كتاب " المسند " للإمام أحمد بن حنبل ، أو كتاب "التفسير" للإمام الطبري ، وهما نموذجان لكتب المرحلة الأولى ، عمدتها في نقل الأحاديث هي الأسانيد والرواية المباشرة الفردية ، ولذلك كان الإمام أحمد يقول في كل حديث يسوقه فيه " حدثنا فلان عن فلان .. " إلى آخر الإسناد ، وكذا الإمام الطبري في تفسيره .
... وهذه المرحلة ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري على وجه التقريب لا على وجه التحديد ،وقد سبق عن عدد من المتأخرين ما يدل على ذلك .
... فالإسناد في هذه المرحلة يشكل العمود الفقري ، عليه يتم الإعتماد في تلقي الأحاديث ونقلها ، ومن هنا صار الإسناد وثيقة علمية يتجلى بها مدى صدق راوي الحديث أو كذبه ، وضبطه أو خطئه ونسيانه . وبالرواية المباشرة في تداول الأحاديث والآثار فيما بينهم قد حفظوا السنة النبوية ، وليس بالتدوين الذي قد يلجأ إليه بعض أفراد الصحابة أو كثير من الرواة بعدهم لحفظ ما سمعوا من شيوخهم من الأحاديث وضبطها إذا اقتضت حالة ذاكرتهم ذلك .
... ومن هنا يظهر جلياً معنى نصوص أئمتنا المتقدمين فيما يخص الإسناد : قال عبد الله بن المبارك : " الإسناد عندي من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "(1) وفي رواية أخرى زيادة كلمة : " فإذا قيل له : من حدثك ؟بقي "(2).يعني بقي ساكناً .
... وقال سفيان الثوري : " الإسناد سلاح المؤمن إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل "(3)
... ولم يقولوا : " التدوين من الدين ولولا التدوين لقال من شاء ما شاء " ، أو "التدوين سلاح المؤمن " .
... وعليه فالذي كان يمنع أن يقول من شاء ما شاء في الحديث مرحلة الرواية هو الإسناد وليس التدوين ، وهذا لا يعني أن التدوين لم يكن له دور في حفظ السنة ، لكن دوره يتمثل فيما يلي :
... إن التدوين إنما لجأ إليه بعض أفراد الصحابة وآحاد الرواة حسب قوة ذاكرتهم لحفظ مروياتهم الخاصة سواء أكانت صحيحة أم خطأ ؛ فإن الكتب التي ظهرت في مرحلة الرواية على اختلاف أشكالها أوضح دليل على ما سبق بيانه ،ولا يوجد فيها كتاب يستوعب السنة جميعها من حيث أنها سنة صحيحة ثابتة ، وإنما الذي تمّ تدوينه هو الأحاديث التي تلقاها الراوي من شيوخه ، لكن بعض النقاد قام بتمحيص ما صحّ منها من غير استيعاب ، أمثال الإمام البخاري ومسلم ، إذن فالذي تم تدوينه من السنة إنما هو مسموعاته الخاصة ، ولم يكن ذلك على استيعاب جميع ما ورد في كتب المحدثين من السنة .
المرحلة الثانية :
... وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بمرحلة متا بعد الرواية ، وفي هذه المرحلة آلت ظاهرة الإسناد والرواية المباشرة إلى التلاشي لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب ، وذلك بعد أن أخذت الأحاديث والآثار كلها تستقر في بطونها ، حتى أصبح الإسناد والرواية المباشرة في هذه المرحلة أمراً نادراً يلفت الإنتباه ، وجل الكتب التي ظهرت في هذه المرحلة إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على الكتب السابقة .
... وعلى سبيل المثال كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري أو تفسير الإمام ابن كثير ، فإن عمدتها في نقل الأحاديث هي الكتب والمدونات التي ظهرت في مرحلة الرواية ، ولذلك ترى الإمام المنذري في كتابه الترغيب والترهيب يقول بعد سرد الحديث : " رواه البخاري " ونحوه ، كما يقول الإمام ابن كثير في تفسيره :" قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا فلان عن فلان " .
... وعلى هذا الفاصل المنهجي اعتمد الإمام ابن الملقن في التفريق بين المتقدمين والمتأخرين حين قال ( رحمه الله تعالى ) :
... " هذا كله كان على رأي السلف الأول ، يذكرون الأحاديث بالأسانيد في هذه التصانيف إذا عليه المعول ، وأما المتأخرون فاقتصروا على إيراد الأحاديث في تصانيفهم بدون الإسناد ، مقتصرين على العزو إلى الأئمة الأول إلا أفراداً من ذلك وآحاداً : كأحكام عبد الحق الكبرى والصغرى والوسطى "(4) .
... ... ثم قال : " وأنبه - مع ذلك - على ما أظهر الله على يدي مما وقع للمتقدمين والمتأخرين من وهم أو غلط أو اعتراض ، أو استدراك قاصداً بذلك النصيحة للمسلمين ، حاشا الظهور أو التنقيص ، معاذ الله من ذلك فهل الفضل إلا للمتقدم " (5) .
... وإذا كانت المراحل الزمنية التي مرت عليها السنة النبوية تنقسم إلى قسمين من حيث الخصائص المنهجية والأعراف العلمية فإن طبيعة التكوين العلمي لعلمائهما ونوعية انشغالاتهم في حفظ السنة ، لا تكون إلا وفق مقتضيات تلك الأعراف والخصائص .
... ففي مرحلة الرواية توجه الأئمة نحو تنقية الأحاديث عن طريق نقد الأحاديث وأسانيدها وجرح رواتها وتعديلهم ، إذ يقوم تكوينهم العلمي أساساً على الرواية المباشرة وتداول الأسانيد ، حتى تمخض ذلك عن منهج علمي فريد في نقد المرويات من الأحاديث والآثار ، بل في نقد كل ما ينقل عن السابقين من التفسير والتاريخ والفقه وغيره من العلوم .
... وأما في المرحلة الثانية فاجتهد أئمتنا من أهل الحديث وأهل الفقه والأصول في حفظ الكتب والمدونات وهي بعيدة عن جميع احتمالات التصحيف والتحريف والانتحال ؛ لأن هذه الكتب والمدونات التي استقرت فيها الأحاديث صارت هي المعتمدة في النقل والرواية ، وأخذت تقوم في ذلك بدور الرواة ، وبذلك أصبحت تلك الكتب والمدونات محل عنايتهم البالغة .
... ولما كان أفراد العلماء أو الوراقون عموماً في مرحلة ما بعد الرواية يقومون بنسخ الكتب ، وكان من طبيعة هذا العمل أن يقع تصحيف وتحريف فيما نسخوه ، بل قد يجد المغرضون في ذلك فرص الانتحال والتدليس من أجل الإساءة إلى سمعة إمام ، جاءت شروط صارمة ليتم لهم نقل تلك الكتب إلى الأجيال اللاحقة ، دون تصحيف أو تحريف أو انتحال .
الشروط التي وضعت لحفظ الكتب والمدونات وعناية المتأخرين بها
... ما هي أنواع الشروط التي وضعت لحفظ الكتب والمدونات ؟
... إن أهم تلك الشروط التي وضعوها لحماية الكتب من التصحيف والانتحال والتدليس تتمثل فيما يلي :
مقابلة الفروع على أصوله حين يتم النسخ منها .
التوقيع والمصادقة على الفروع بعد مقابلتها على أصولها من طرف محدث مسئوول عن ذلك .
ضرورة إثبات كل واحد منهم أحقيته في نقل الحديث من النسخة التي يملكها ، وذلك عن طريق تسجيل اسمه في " السماعات" و" الطباق "(6)، التي تثبت عادة على غلاف تلك النسخة ، أو سجل رسمي خاص بأسماء الحاضرين والسامعين في حلقات الحديث والقراءة ، إضافة إلى أساليب أخرى تطورت في مرحلة ما بعد الرواية في سبيل حماية الكتب والمدونات ، وتؤخذ هذه الأمور التاريخية من كتب مصطلح الحديث : طرق التحمل والأداء .
... وبناء على ذلك فإن النسخ التي لا تتوفر فيها تلك الشروط لاتقبل في التحديث ، ولا تكون حيازتها بشراء أو غيره كافية في جواز التعالم معها رواية أو إفادة ، الأمر الذي فرض على طلبة الحديث لقاء الشيوخ لحصول الإجازات منهم في رواية الكتب ، أو لقراءتها عليهم ، وتسجيل أسمائهم في السماعات وطباقها.
... ولذلك نراهم يبذلون جهدهم في جمع أقصى ما يمكن جمعه من الإجازات والقراءات من خلال رحلات مكثفة وموسعة عبر مراكز العلم المنتشرة في الأقطار الإسلامية ، ثم يعكفون في نهاية المطاف على تأليف أسماء شيوخهم وتفاصيل إجازاتهم وأسانيدهم التي تحصّلوا عليها ، وذلك نظراً لأهمية ما تنطوي عليه من وثائق تاريخية قيمة يجب الإحتفاظ بها ، وصدرت كتب في هذا المجال العلمي تحت عناوين جديدة مطابقة لمحتواها ، مثل : " المشيخات " و " الفهارس" و" الاثبات" و " البرنامج " و " الأجزاء " .
... وإذا كان المحدثون يسعون إلى جمع الأحاديث والآثار من شيوخهم ثم يصنفونها في نهاية المطاف على ترتيب أسماء الصحابة ، وهو ما يسمى في اصطلاح المحدثين " مسند " فإن المتأخرين في المرحلة الثانية كانوا يجتهدون في جمع الإجازات والسماعات ثم يقومون بتأليفها على ترتيب أسماء شيوخهم ، أو على ترتيب أسمائ الكتب ، أو على تقديم الأصح فالأصح من الكتب .
__________
(1) رواه مسلم في مقدمة صحيحة 1/87 ، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص : 6 .
(2) الترمذي ، العلل الصغير الملحق بآخر سننه 4/388 ،والذهبي، تذكر الحفاظ ، ص: 1054 .
(3) ابن حبان ، المجروحين 1/19 ، والسمعاني أبو سعد ، أدب الإملاء والإستملاء ، ص : 8 .
(4) البدر المنير 1/276 ( تحقيق جمال محمد السيد ، ط : 1 ، دار العاصمة السعودية ) وهذا النصّ قد اتحفني به أخي العزيز عبد الحميد كوفي الجزائري جزاه الله تعالى خير الجزاء .
(5) المصدر السابق 1/389-390 .
(6) تكون السماعات والطابق بمثابة الكشوف التي تسجل فيها أسماء السامعين والحاضرين في حلقات قراءة الكتب التي تتم بشكل منظم عبر أجيال متعاقبة ، ثم حين يملك أحد منهم نسخة فرعية من الأصل المسموع أو المقروء تنقل تلك السماعات فيها بإشراف شيخ مسئول عن ذلك ليكون لصاحبها سند متصل موثوق بينه وبين مؤلف الكتاب .
والله أعلم .(1/16)
منحى آخر تحولت إليه مرحلة ما بعد الرواية
... والجدير بالذكر في هذه المناسبة هو أن المظاهر العلمية التي عمت مرحلة ما بعد الرواية أخذت شكلاً أخر عندما بالغ الأغلبية من طلبة العلم في حرصهم على جمع الإجازات وأسانيد الكتب ، وانشغالهم بتنويع الأساليب في تأليف تلك الإجازات والسماعات .
قال الحافظ الذهبي : " ليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف عليه عند من حَيَّز طلب العلم ، بل اصطلاح وطلب أسانيد عالية وأخذ من شيخ لا يعي ، وتسميع لطفل يلعب ولا يفهم ، أو لرضيع يبكي ، أو لفقيه يتحدث مع حدث أو آخر ينسخ ، وفاضلهم مشغول عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس ، والقارئ إن كانت له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء سواء تصحف عليه الاسم واختلط المتن ، أو كان من الموضوعات ، فالعلم عن هؤلاء بمعزل والعمل لا أكاد أراه بل أرى أموراً سيئة ، نسأل الله العفو " (1) .
وقال الذهبي أيضاً - في صدد تعقيبه على قول الحاكم إن إسحاق وابن المبارك ومحمد بن يحيى دفنوا كتبهم - قال : " هذا فعله عدة من الأئمة ، وهو دال على أنهم لا يرون نقل العلم وجادة فإن الخط قد يتصحف على الناقل وقد يمكن أن يزاد في الخط حرف فيغير المعنى ونحو ذلك ، وأما اليوم فقد اتسع الخرق وقلّ تحصيل العلم من أفواه الرجال بل ومن الكتب غير المغلوطة وبعض النقلة للمسائل قد لا يحسن أن يتهجى " (2) .
وقال السخاوي : " وعلو الصفة عند أئمة الحديث بالأندلس أرجح من علو المسافة خلافاً للمشارقة ، يعني المتأخرين ، ولأجل هذا قال العماد ابن كثير : إنه نوع قليل الجدوى بالنسبة إلى باقي الفنون ،ونحوه قول شيخنا : وقد عظمت رغبة المتأخرين فيه حتى غلب ذلك على كثير منهم بحيث أهملوا الاشتغال بما هو أهم منه " ،ثم نقل عن ابن دقيق العيد قوله : " وقد عظمت رغبة المتأخرين في طلب العلو ، حتى العلم كان سبباً لخلل كثير في الصنعة ، ولم يكن فيه إلا الإعراض عمن طلب العلم بنفسه بتمييزه إلى من أجلس صغيراً ، لا تمييز له ولا ضبط ولا فهم ، طلباً للعلوّ وتقدم السماع "(3) .
... إضافة إلى عامل أخر يعد أقوى تأثيراً في مجال التكوين ، وهو انتشار علم المنطق والفلسفة بين المتأخرين ، ولهذا قال السخاوي : " لعل ابن معين لا يدري ما الفلسفة ، فإنه ليس من أهلها ، ولذا كان الجهل بالعلوم ومراتبها والحق والباطل منها أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها في ذلك ، كما ذكره ابن دقيق العيد ، وقال : إنه محتاج إليه في المتأخرين أكثر لأن الناس انتشرت بينهم أنواع من العلوم المتقدمة والمتأخرة حتى علم الأوال … " إلى أن قال : " والمتقدمون قد استراحوا من هذا لعدم شيوع هذه الأمور في زمانهم " (4)
... وفي أثناء هذا التحليل التاريخي لعصري الرواية وما بعدها كنا نلحظ بجلاء أن مرحلة ما بعد الرواية شهدت ظاهرة جديدة فرضت على أصحابها أن يعتنوا بأسانيد الكتب وروايتها ، بناء على أن الأحاديث قد استوعبتها تلك الكتب واستقرت في بطونها ، ولم تعد الأسانيد والرواية المباشرة تلعب دورها في نقل الأحاديث والدفاع عنها كما في المرحلة الأولى ، وصارت في عصر المتأخرين كما وصف ابن الصلاح (رحمه الله ) بقوله :
... " أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في روايتهم لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم وكان عليه من تقدم ، ووجه ذلك ما قدمنا في أول كتابنا هذا مع كون المقصود آل آخراً إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد ، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها ، فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلماً بالغاً عاقلاً غير متظاهر بالفسق والسخف ، وفي ضبطه لوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم ، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه ، وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله " (5) . ثم نقل ( رحمه الله تعالى ) عنه قوله :
... " توسع من توسع في السماع من بعض محدث زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ، ولا يحسنون قراءته من كتبهم ، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم ، بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم ، ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحّت ، أو وقفت بين الصحة والسقم ، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ، ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم ، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها ، فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ، ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته ، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره ، والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا ، وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم والله أعلم .(6)
... ويدل هذا النص على أن مظاهر الإهمال والتساهل فيما يخص الأسانيد والرواية المباشرة أخذت تظهر في أواخر مرحلة الرواية .
... وقد شرحنا في المقدمة أن العصور كلما تقدمت فإن أساليب الحياة ، ونظم التعليم ، وطبيعة التكوين العقلي للإنسان ، كل ذلك يشهد تطوراً وتحولاً حسب نوعية العوامل والبواعث المتوفرة ، ومع ذلك فإن اللاحقين لم يستغنوا عن تجارب السابقين ، فاستمدوا منها ما يعين على نهوضهم بما تفرضه المتغيرات في جميع مجالات الحياة ، وبالتالي فإن أساليب المواجهة لتحديات العصور لا تظل على نمط واحد ، بل تتطور تلقائياً وفق مقتضياتها ، كما أن الانشغالات العلمية تتبدل بقدر خطورتها . وهذه سنة من سُنن الله تعالى في الكون .
__________
(1) الحافظ الذهبي ، سير أعلام النبلاء 7/167 - ترجمة مسعر بن كدام - .
(2) المصدر السابق 11/377 .
(3) فتح المغيث 3/18-19 .
(4) المصدر السابق وفي 3/327 .
(5) مقدمة ابن الصلاح ص : 120 ( تحقيق نور الدين عتر ، ط : 3 سنة 1418هـ ) .
(6) نقله ابن الصلاح في مقدمته ص : 121 .(1/17)
ميدان إبداع المتأخرين في خدمة السنة
... وإن كانت البيئة العلمية في مرحلة ما بعد الرواية على غير منا ألفه المتقدمون ؛ فإنه يكون من الطبيعي أن لا يخوض المتأخرون إلا فيما يخدم مصلحة السنة في تلك المرحلة وفي إطار إمكانيتهم العلمية الحديثية ، ولذا فإن الفرص لم تكن متاحة في المرحلة الثانية لخوضهم فيما خاضه المتقدمون من نقد المرويات وجرح رواتها وتعديلهم ، كما لا يشكل ذلك أولويات هذه المرحلة ؛ إذ كانت مستجدات هذه المرحلة تفرض عليهم القيام بما من شأنه حفظ الكتب والدواوين ، ومن ثم فإنهم في هذا المجال العلمي أصبحوا مبدعين ، حتى تمخض عن ذلك منهج علمي رائع في تحقيق التراث ونشر المخطوطات ، وأما في مجال رواية الأحاديث أو نقدها فليس لهم في ذلك سوى تقليد المتقدمين (1) ، أو تحقيق نصوصهم وتدقيق آرائهم .
... وإذا وازنت بين جهد العلماء المتأخرين في سبيل حفظ التراث والدواوين وبين جهد المتقدمين في حفظ الأحاديث عن طريق الأسانيد ، تجد مجال التفاضل بينهما يكاد يكون منعدماً من حيث النتائج والآثار المترتبة عليها جميعاً ؛ ذلك لأنه إذا كانت الأحاديث قد استقرت بأسانيدها في تلك الكتب في أثناء مرحلة الرواية ، فإن الكتب التي تحمل هذه الأحاديث والآثار قد وصلتنا مؤصلة منسوبة بدقة متناهية دون تحريف ولا تصحيف ، بحيث تطمئن النفوس إلى وثاقتها بفضل جهد المتأخرين .
... ولولا تواصل الجهود في مراحلها المختلفة ، ونهوضهم بمقتضياتها لضاعت السنة بأكملها ، وما بلغنا من السنة إلا ما حرف وصحف ، ولم يعرف له أصل ولا نسب ، فسبحان من تولى حفظ دينه الحنيف .
__________
(1) انظر ص : 20 من هذا البحث .(1/18)
خلاصة القول
لقد بذل المحدثون في المرحلتين جميعاً جهوداً مضنية لصيانة السنة وحفظها طبقاً لمتطلبات ظروف كل منهما ، فصارت عناية المحدثين في المرحلة الأولى منصبة على نقلة الأخبار ورواتها ، والبحث عن أحوالهم والتفتيش في مروياتهم ومن ثم أصبحت السنة محل دفاعهم المباشر ، ويكون عملهم التطبيقي في ذلك هو المصدر الأصيل لاستخلاص قواعد نقد الأحاديث ورواتها كما أشرنا إليه سابقاً.
وأما في المرحلة الثانية فقد تحول اهتمام الأئمة إلى حماية الكتب والدواوين من وقوع تحريف وانتحال فيها ، حتى تصل تلك الكتب والدواوين إلى الأجيال اللاحقة سليمة ومحفوظة وموثقة ، حتى صار جهدهم في ذلك مرجعاً أساسياً لقوانين تحقيق التراث والمخطوطات ، ولولا تلك الجهود والعناية لنقلت مصادر السنة إلينا مصحفة ومحرفة وغير موثقة ، وليس ذلك إلا مظهراً من مظاهر العناية الربانية بهذا الدين الحنيف .
وبما أن الأعراف العلمية في تلقي الأحاديث وتعلم العلم قد تطورت من عصر إلى عصر ، فإن طبيعة التكوين العلمي ، ونوعية التفكير والإنشغال لدى الأئمة السابقين تتفاوت تلقائياً بحسب الظروف العلمية التي كانوا يحتكون بها ، كما تجلى ذلك في كتبهم ونصوصهم .
وتبلورت في غضون هذا المبحث العوامل التاريخية التي أدت إلى وقوع تباين منهجي بين المتأخرين الذين عاشوا في مرحلة ما بعد الرواية ، وبين حفاظ مرحلة الرواية ، لا سيما نقاد الحديث ، مما يلفت انتباهنا إلى أهمية التمييز بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي ، كما يدعو إلى ضرورة الاحتكام عند تأويل النصوص وفهم المصطلحات إلى منهج قائلها ، والله تعالى أجل وأعلم .
***(1/19)
المبحث الثاني : مسألة التفرد
حقيقته .
أهميته في معرفة علل الأحاديث .
الطريقة العلمية للكشف عن التفرد .
ضابط التفرد .
مراتب التفرد .
أمثلة ونماذج توضيحية .
مسألة التفرد
حقيقته :
يراد بالتفرد أن يروي شخص من الرواة حديثاً ، دون أن يشاركه الآخرون ،وهو ما يقول فيه المحدثون النقاد : " حديث غريب " ، أو " تفرّد به فلان" أو " هذا حديث لا يعرف إلاَّ من هذا الوجه " ، أو " لا نعلمه يروي عن فلان إلا من حديث فلان " ، أو نحو ذلك .
وما يمكن استخلاصه من نصوصهم أن التفرد على نوعين : تفرد مطلق وتفرد نسبي ، غير أنهم كثيراً ما يطلقونه على حديث ولا يفرقون بينهما وهذا ما يجعل المبتدئين يفهمون منه خلاف مقصودهم .
أما المطلق فإن لا يكون الحديث معروفاً إلا من رواية فلان ، مثل ما تفرّد به أشعث بن عبد الله ، عن الحسن ،عن عبد الله بن مغفل : أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن يبول الرجل في مستحمه … " (1) .
يقول الترمذي : " هذا حديث غريب ، لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث أشعث بن عبد الله " .
وأما النسبي فأن يكون التفرد بالنسبة إلى جهة معينة ، مثل حديث سلمة بن وردان ، عن أبي سعيد بن أبي المعلي ، عن علي بن أبي طالب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة … " ، فإن سلمة بن وردان لم يتفرّد بهذا الحديث مطلقاً ، وإنما تفرّد بجعله من مسند علي ، وهذا تفرد نسبي والحديث مشهور عن أبي هريرة(2) .
ومثل حديث : " إنما الأعمال بالنيات " ، الذي رواه الربيع بن زياد ، عن محمد بن عمرو ،عن محمد بن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول ابن عدي : لم يروه عن محمد بن عمرو ، عن محمد بن إبراهيم غير الربيع بن زياد (3) ، اعتبر ابن عدي رواية الربيع لهذا الحديث تفرداً رغم شهرته عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عمر، لأنه تفرّد بإضافته إلى محمد بن عمرو.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب في كراهية البول في المغتسل 1/32-33 ( تحقيق أحمد شاكر ) .
(2) روى ابن عدي حديث سلمة بن وردان في الكامل 3/335 ( تحقيق يحي غزاوي ، دار الفكر ) .
(3) أورده ابن عدي في الكامل 3/136 .(1/20)
أهميته في معرفة علل الأحاديث :
إن التفرد من المسائل التي اعتنى بها نقاد الحديث إذ إن له علاقة مباشرة بتعليل الأحاديث ، فهو أحد وسائل الكشف عما يكمن في الأحاديث من أوهام وأخطاء ، فمن ثم أولاه المحدثون عناية بالغة واهتموا به اهتماماً خاصاً ، فأفردوه بالتصنيف، فمن هذه المصنفات كتاب الأفراد ، وغرائب مالك ، والفوائد المنتخبة للإمام الدارقطني ومنها ما ينسب لأبي تمام وغيره من كتب الفوائد ، ومنها كتاب المعجم الأوسط ، والمعجم الصغير كلاهما للطبراني ، والمسند المعلل للإمام البزار ، وحلية الأولياء لأبي نعيم ، والتاريخ الكبير للإمام البخاري ،والكامل لابن عدي ، والضعفاء للعقيلي ، وغيرها كثير .
... وذلك مما يدل على أهمية المسألة ، إذ إنه ليس بالإمكان تعليل الأحاديث أو تصحيحها إلا بعد معرفة حالة التفرد أو حالة المشاركة في كل طبقة من طبقات الإسناد .(1/21)
*الطريقة العملية للكشف عن التفرد :
... ولمعرفة التفرد في الحديث والكشف عنه يقوم نقاد الحديث بعملية تسمى : الاعتبار ، وهي عبارة عن المقارنة بين الروايات كي يتبين هل الراوي تفرد بروايته ، أم شاركه فيها غيره ، وهذا في كل طبقة من طبقات الإسناد ، وهي كما رأيت عَمَلية عِلمية دقيقة ، خلافاً لما يقوم به كثير من المعاصرين من تخريج الأحاديث معرضين - وللأسف الشديد- عن هذه الجوانب العلمية التي هي الغاية من التخريج ، فظن كثير منهم أن التخريج هو غاية في حد ذاته ، وحقيقة الأمر أنه وسيلة ، لا غاية فانقلبت الوسائل عندهم إلى غايات ، وقد نبه إلى هذا الشيخ الفاضل محمد ناصر الدين الألباني في مقدمة صحيح الترغيب والترهيب(1) .
__________
(1) ص 6-7( المكتب الإسلامي ، الطبعة الثانية ) .(1/22)
ضابط التفرد :
فما شاع عند كثير من المتأخرين وتواطأت عليه كتب المصطلحات الحديثية التي ظهرت في العصور المتأخرة أن الراوي إذا كان ثقة وتفرد برواية شيء ولم يشاركه غيره قبل حديثه اعتماداً على ثقته ، وأما إذا كان ضعيفاً وتفرّد بشيء ولم يتابع عليه رد حديثه استناداً على ضعفه وقلة ضبطه .
ويقول الإمام ابن الصلاح : إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه : فإن كان ما انفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذاً مردوداً ، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره ، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره ، فينظر في هذا الراوي ولم يقدح الانفراد فيه ، وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارماً له مزحزحاً عن حيز الصحيح .
ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال ، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ،ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ، وإن كان بعيداً من ذلك رددنا ما انفرد ، وكان من قبيل الشاذ المنكر (1) .
وخلاصته : أن التفرد يقبل من الثقة ، ويرد من الضعيف ، ويستحسن من المتوسط بينهما ، وهذا - كما ترى - مبني على مجرد أحوال الرواة وقبله منه من جاء بعده كأنه حقيقة مسلمة وضابط كلي مطرد يصلح في كل حديث يتفرد به ثقة أو ضعيف أومتوسط .
وحقيقة الأمر أنه لا يصح اعتباره كضابط كلي ، وقاعدة مطردة ، إذا أن التفرد تطرأ عليه حالات مختلفة ،ومتفاوتة في تأثير الحكم عليه كما ينطق بها موقف النقاد تجاهه ، وسيأتي بيانها مفصلة ، ومدعمة بالأدلة المادية ، ومرفوقة بالأمثلة الواضحة .
فمن الواجب علينا أن نقيّم مسألة التفرد ،ونحللها على ضوء الواقع الملموس في عمل الأئمة النقدة ، الذي يعد المصدر الحقيقي لمنهج النقد الحديثي وأصوله ومصطلحاته ، فهو الأمان من الانزلاق والتخبط والانحراف عن الجادة .
... وعند تتبع كلام النقاد والنظر في صنيعهم يتجلى لنا أن ما لخصه ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - ينبغي تخصيصه ، فإن مقاييس القبول والرد في مجال التفرد ليست أحوال الرواة المتمثلة في الثقة والضعف فحسب ، بل توافر القرائن الدالة على ذلك ، فمن أفراد الثقات وغرائبهم ما يرد وما يقبل ، ولهذا وضعوا في تعريف الصحيح قيداً مهماً ، وهو : الخلو من الشذوذ والعله ، فلو كان القبول لازماً لأحاديث الثقات لأصبح ذكر هذا القيد لغواً في التعريف وهو مرفوض لدى المحدثين ، فإنهم اعتبروا سلامة الحديث الذي يرويه الثقات من الشذوذ والعلة عنصراً هاماً في الصحيح ولمزيد من التوضيح نسوق طائفة من أقوال الأئمة في هذا المجال :
... يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد ، وإن لم يرو الثقات خلافه : "إنه لا يتابع عليه" ، ويجعلون ذلك علة فيه اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه " (2)
... أقول : إنه تلخيص نفيس لمنهج المحدثين النقاد فيما يتعلق بتفرد الثقات ، وهو أمر واقعي يلمسه كل من دقق النظر في ذلك المنهج ومارسه حق الممارسة ، فقد أفادنا الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى - أن إطلاق القبول فيما تفرد به الثقات لا يكون مستقيماً لدى أصحاب الحديث ، وأن الأمر في القبول يكون حسب الأدلة والقرائن التي تتوفر في الحديث ، وهذا أمر جد غامض ولا يطيق على إدراكه إلا الناقد الجهبذ ، ولا يسلم لهم ذلك إلا من مارس طريقتهم وأسلوبهم في البحث والنظر والحكم ، كما سيتضح لنا جلياً - إن شاء الله تعالى - .
... يقول الإمام أحمد - رحمه الله- : " إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا حديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث أو خطأ من المحدث أو حديث ليس له إسناد وإن كان قد روى عن شعبة وسفيان . فإذا سمعتهم يقولون : هذا لا شيء فاعلم أنه حديث صحيح ". اهـ (3)
... فبين الإمام أحمد ،وهو من أئمة الحديث ونقاده ، أن أئمة الحديث يتتبعون أفراد الرواة وغرائبهم ويحكمون عليها بالحكم المناسب بغض النظر عن صاحبها ، فقد يكون إماماً أو ثقة من الثقات الكبار كشعبة وسفيان ، لكن يرد حديثهم لقيام القرائن الدالة على وهمهم وخطئهم .
... ومثل هذا ما قاله أبو داود - رحمه الله - إنه لا يحتج بما تفرد به الثقات إذا دلت القرائن على وهمهم ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد ، فقال في معرض الكلام على الأحاديث التي دونها في سننه :
... " والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير ،وهي عند كل من كتب شيئاً من الحديث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس ، والفخر بها أنها مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم ، ولو احتج رجل بحديث غريب وجت من يطعن فيه ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريباً شاذاً .اهـ(4)
... فبين رحمه الله أنه لا يحتج بالحديث إذا كان غريباً شاذاً وهو الحديث الذي يتفرّد بروايته راو من الثقات ،وليس لذلك الحديث راو غيره يشاركه فيه ، وهذا النوع من التفرّد هو الذي اعتبره الحاكم في مدلول الشاذ حين قال :
... " الشاذ غير المعلول ، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل بمتابع لذلك الثقة " . اهـ (5) .
... يعني بذلك أن الشاذ أدق وأغمض من المعلول ، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس غاية الممارسة وكان في الذروة العليا من الفهم والحفظ الواسع والمعرفة التامة بمراتب الرواة والمملكة القوية من بالأسانيد والمتون ، فيما عبَّر عنه السخاوي (6) ، وأما المعلول فعلته أظهر من الشاذ لكونها تعرف بالمخالفة لما رواه الأوثق أو الجماعة أو لما ثبت واشتهر وهما نوعان من الحديث المردود عند الحاكم .
... ولم يقصد الحاكم بذلك تفرد الثقة على إطلاقه ، بل قصد نوعاً خاصاً منه وينقدح ذلك في نفس الناقد أنه غلط أو دخل حديث في حديث ، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة عليه بحيث يقتنع بها العوام ، لأن مبنى الحكم يكون أحياناً معرفته الخاصة التي لا يشترك فيها إلا النقاد ، كما يستخلص من سياق كلامه ومن الأمثلة التي ساقها للحديث الشاذ .
... وبذلك يصبح تعريفه للشاذ مقبولاً وخالياً من مجال الشبهات التي اعترض بها على الحاكم بعض المتأخرين ومن الأدلة الواضحة على أنه لم يرد بالتفرد مطلق التفرد أنه بيَّن الأقسام في نوع الأفراد والغرائب ، وجعل فيها ما هو صحيح متفق عليه وما هو ضعيف ولم يطلق على الأول بالشاذ حتى يتسنى لهم الإستدراك به (7) .
... وبعد هذه النقول التي سقناها من كلام النقاد أصبح واضحاً جلياً أن التفرد ينبغي توضيحه وتفصيله بما تدل عليه طبيعة نقدهم وطريقة حكمهم على الأحاديث تصحيحاً أو تعليلاً .
... وذلك ما سنشير إليه في الفقرات التالية :
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 46 ، ( تحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا ) .
(2) شرح العلل ص 208 ( تحقيق صبحي السامرائي ، الطبعة الثانية ) .
(3) حكاه الخطيب في كتابه " الكفاية في علم الرواية " ص 172 ( تحقيق الدكتور أحمد عمر هاشم ) وقد فسره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : "يعني أنهم يستفيدون غرائب الأحاديث كما يستفيد الفقهاء ونحوهم غرائب الأقوال والطرق والوجوه وإن كانت=
= وجوهاً سوداً " .ا هـ انظر ص 18 من تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري.
ويتضح لنا بذلك سر تسمية الحفاظ لكتب الغرائب التي ينتخبونها من الأصول " فوائد " أو " فوائد منتخبة " فلينتبه له الباحثون .
وأما الجملة الأخيرة من قول الإمام أحمد فيعني بها أنه حديث مشهور ،وليس بشيء يستفاد من الأخر لكونه معروفاً ومحفوظاً لدى الحفاظ ، وإنه لا شيء فيه يستحق أن ينظر لكونه صحيحاً وثابتاً والله تعالى أعلم .
(4) رسالة أبي داود إلى أهل مكة ، ص 29 ( تحقيق محمد الصباغ ) .
(5) معرفة علوم الحديث ص 199 .
(6) فتح المغيث 1/232( تحقيق الشيخ علي حسن علي - الهند ) .
(7) انظر معرفة علوم الحديث ص 94 ، 96 .(1/23)
مراتب التفرد :
... عند إمعان النظر في صنيع المحدثين يتبين لنا أن التفرد على مرتبتين :
... أولاً : تفرد في الطبقات المتقدمة .
... ثانياً : تفرد في الطبقات المتأخرة .
... وإليك بيان كل منهما ،وحكم التفرد فيهما .
(1/24)
أولاً : التفرد في الطبقات المتقدمة :
... إذا تفرد الراوي بحديث في طبقة من شأنها عدم شهرته وعدم تعدد روايته في الغالب ، لعامل ظرفي يتمثل في إنعدام إمكانية التنقل بين البلدان الإسلامية ، على نطاق واسع ، الذي يعطي للمحدثين فرصاً عديدة للتلاقي وتبادل المرويات بينهم ، مثل طبقة الصحابة والتابعين ، فهذا النوع من التفرد مقبول ومحتج به ، بشرط أن يكون الراوي ثقة معروفاً .
... ذلك لأن التفرد في هذه الطبقات لا يثير في نفس الناقد تساؤلاً حول كيفية التفرد ، ولا ريبة في مدى ضبطه لما تفرد ، حيث إن تداخل الأحاديث والآثار بالنسبة إليه احتمال يكاد يكون معدوماً ، نظراً لمحدودية الأسانيد التي يتداولها هو ومعاصروه، وقصرها .
... أما إذا خالف هو ما ثبت واشتهر ، أو كان متنه لا يعرف إلا من روايته ،ولم يجر العمل بمقتضاه سابقاً ، فإنه عندئذ يصبح شاذاً غريباً يرفض الناقد قبوله ،وفي هذا الصدد يقول الإمام أحمد : " شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها"(1)
... وأما إن كان الراوي المتفرد فيها ضعيفاً فأمره بين ، فلا خلاف بينهم في رد حديثه ، وكذا إذا كان مجهولاً فإنه يرد عند الجمهور من النقدة .
__________
(1) الكفاية ص 172 .(1/25)
ثانياً : التفرد في الطبقات المتأخرة :
... أما التفرد برواية حديث في طبقة من شأنها أن يكون الحديث فيها مشهوراً ومتعدد الطرق ، كالمدارس الحديثية المشتهرة في جهات مختلفة من الأقطار الإسلامية ، والتي يشترك في نقل أحاديثها جماعة كبيرة من مختلف البلاد ، لبالغ حرصهم على جمعها من مخارجها الأصيلة بحيث لا يفوت لهم شيء منها إلا نادراً ،وقد تهيأ لهم ذلك من خلال تجولهم الحر ، وتنقلهم الواسع النطاق بين البلدان الإسلامية ، والذي أصبح بمقدور الجميع . فهذا النوع من التفرد يدعو الناقد إلى ضرورة النظر حول أسبابه ، فينظر في علاقة صاحبه مع المروي عنه عموماً ، وكيفية تلقيه ذلك الحديث الذي تفرد به عنه خصوصاً ، كما ينظر في حالة ضبطه لأحاديث شيخه بصفة عامة ، ولهذا الحديث خصوصاً ، ثم يحكم عليه حسب مقتضى دراسته وبحثه واجتهاده (1) .
... فليس هناك إذن حكم مطرد بقبول تفرد الثقة ، أو رد تفرد الضعيف بل تتفاوت أحكامهما ، ويتم تحديدها وفهمها على ضوء المنهج النقدي النزيه .
... وذلك لأن الثقة يختلف ضبطه باختلاف الأحوال والأماكن والشيوخ لخلل يحدث في كيفية التلقي للأحاديث أو لعدم توفر الوسائل التي تمكنه من ضبط ما سمعه من بعض شيوخه أو لحدوث ضياع في بعض ما كتبه عن البعض حتى ولو كان من أثبت أصحابهم وألزمهم ولذا ينكر النقاد من أحاديث الثقات - حتى ولو كانوا أئمة – ما ليس بكثير ، كما أشار إليه الإمام أحمد سابقاً .
... فإذا أعلَّ النقاد حديثاً على اختلاف عصورهم مستدلين عليه بالتفرد ، فعلينا – نحن الباحثين – أن نتأمل في تعليلهم جيداً كي نتمكن من معرفة أسراره ، ولا يليق بنا أن نتعقبهم ونقول : كلا إنه ثقة لا يضر تفرده .
... فإنه لا يتصور في حقهم الإتفاق على الغفلة أو النسيان بأن الرجل ثقة ،حتى يتم لنا الاستدراك عليهم بمثل هذه الأمور البديهية التي لا تخفى على الطالب المبتدئ فضلاً عن هؤلاء الجهابذة الحفاظ .
__________
(1) أشار إليه الحافظ الذهبي في كتابه " الموقظة " ص 77 .(1/26)
أمثلة ونماذج توضيحية :
ولمزيد من التوضيح نشرح بعض الجوانب العلمية الغامضة ، التي لها صلة وثيقة باختلاف أحوال الثقات .
يقول ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - : " قوم ثقات لهم كتاب صحيح ،وفي حفظهم بعض الشيء ،فكانوا يحدثون من حفظهم أحياناً فيغلطون ، ويحدثون أحياناً من كتبهم فيضبطون " (1) .
__________
(1) شرح العلل ص 323 .(1/27)
رواية عبد الرزاق عن معمر :
... " قال أحمد في حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" رأى عمر ثوباً جديداً … " ، فقال : هذا كان يحدث به من حفظه ولم يكن في الكتب " .
... " وقال يحيى بن معين : ما كتبت من عبد الرزاق حديثاً واحداً إلا من كتابه كله " .
... " ومما أنكر على عبد الرزاق حديثه عن معمر ، عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة مرفوعاً " الخيل معقود في نواصيها الخير " ، أنكره أحمد ومحمد بن يحيى ، قالا " لم يكن في أصل عبد الرزاق ". وذكر الدارقطني " أن الصواب إرساله " ، وقال الدارقطني : " عبد الرزاق يخطيء عن معمر في أحاديث لم تكن في الكتاب" ا هـ (1).
... فهذا دليل واضح على أن الثقة – ولو كان إماماً – له أحوال مختلفة من حيث الضبط وعدمه حتى ولو حدَّث عن أقرب شيوخه وهذا عبدالرزاق من الأئمة أختلف حاله في بعض ما روى عن أقرب شيوخه – معمر بن راشد – لخلل وقع في حفظه ، بحيث لو حدث منه تخلط لأنه كان يهتم بضبط الأحاديث في كتابه دون حفظه ، ولهذا تحفظ بعض المتقنين من الحفاظ في السماع منه لما يحدث من حفظه .
... وذلك قبل اختلاطه ،وأما بعده وبسبب العمى فجلي أنه غير مقبول لأنه لا يمكن له التحديث أو الإقرار على ما عرض عليه من الأحاديث إلا باعتماده على من ينظر له في كتبه أو مما علق في قلبه .
... فإذا وجد الناقد يقول في حديث عبد الرزاق عن معمر مثلاً تفرد به عبد الرزاق فمعناه أنه خطأ لما سبق من الأسباب ، وأما الاعتراض عليه بأنه إمام قد روى عن أقرب شيوخه ولا يضر تفرده فليس من الأسلوب العلمي بشيء ، ولو استدرك عليه بأنه لم ينفرد به لوجود متابعة صحيحة لكان ذلك موضوعياً ومقبولاً لدى الجميع .
يقول الإمام أحمد : " سماع عبد الرزاق بمكة من سفيان مضطرب جداً ، روى عنه عن عبيد الله أحاديث مناكير ، هي من حديث العمري أما سماعة باليمن فأحاديثه صحاح لأنه ضبط الكتاب الذي كتب هناك عنه ".
" وذكر لأحمد حديث عبد الرزاق عن الثوري ، عن قيس ، عن الحسن بن محمد ، عن عائشة ،قالت : "أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم وشيقة لحم وهو محرم فلم يأكله " . فجعل أحمد ينكره إنكاراً شديداً ، وقال : هذا سماع مكة "(2) .
أليس هذا من الأمور الدقيقة التي لا يدركها إلا الناقد الجهبذ ؟ لقد ميز الإمام أحمد – رحمه الله – ما سمعه عبد الرزاق بمكة عما سمعه باليمن من أحاديث سفيان وأعلّ الأول ، ولعل لبعض هذه الملابسات الغامضة يقولون : " تفرد به فلان " وليس لأنهم لا يقبلون تفرد الثقة .
__________
(1) شرح العلل ص 323.
(2) شرح العلل ص 331 – 333 .(1/28)
رواية عبد الله بن وهب بن شيب :
... يقول ابن عدي في شبيب بن سعيد الحبطي –أحد الثقات المعروفين بالبصرة- : " له نسخة عن يونس بن يزيد ، عن الزهري يرويها عنه ابنه أحمد وهي أحاديث مستقيمة ،وروى عنه ابن وهب أحاديث من حفظه فيغلط ويهم"(1)
... فهذا عبد الله بن وهب أحد الثقات المصريين تنكر أحاديثه عن شبيب بن سعيد الحبطي لخلل وقع في سماعه منه ، لأنه كان لم ينصب نفسه للتحديث بل كان في مناسبة تجارية فعرض عليه أحاديثه وأقر عليها اعتماداً على حفظه فوقع فيها الخطأ .
__________
(1) شرح العلل ص 326 –327 ،والكامل لابن عدي 4/30 .(1/29)
رواية إبراهيم بن سعد الزهري :
... وقال ابن رجب : " وتكلم يحيى القطان في بعض أحاديث إبراهيم بن سعد الزهري أحد الأعيان الثقات المتفق على تخريج حديثهم وأنكرها لأنه حدث بها من حفظه وسئل أحمد عن حديث رواه إبراهيم عن أبيه ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الأئمة من قريش " ليس هذا في كتب إبراهيم لا ينبغي أن يكون له أصل " (1) .
... فإبراهيم بن سعد ثقة ، ومع ذلك فاختلفت أحواله ، فإذا حدث من حفظه أخطأ ، فما كان في كتبه قبل ، وما لم يكن في كتبه أنكره عليه النقاد .
...
__________
(1) شرح العلل ص 367 ، 369 ، 330 . وانظر قول الإمام أحمد في الكامل 1/246 .(1/30)
رواية يونس بن زيد الأيلي :
... هذا يونس بن زيد الأيلي أحد أثبات أصحاب الزهري لم يكن حافظاً للأحاديث التي سمعها من غير الزهري ، وتكلم فيه من أجله فاختلفت حاله باختلاف شيوخه .(1/31)
رواية يونس بن أيوب المصري :
... ويحيى بن أيوب المصر ي أحد الثقات ، " قال أحمد : كان إذا حدث من حفظه يخطئ ،وإذا حدث من كتاب فليس به بأس ،وقد حدث يحي من حفظه عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر ، فقال أحمد : من يحتمل هذا ، يعني أنه خطأ فاحش "(1) .
رواية معمر بن راشد :
... ومعمر بن راشد أحد أصحاب الزهري الثقات ، يقول فيه الإمام أحمد : " حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلى من حديث هؤلاء البصريين ، كان يتعاهد كتبه وينظر ، يعني باليمن ، وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة "(2) .
... وقال يعقوب بن شيبة : " سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب ، لأن كتبه لم تكن معه " ، ومن الأحاديث التي أنكرت عليه حديثه عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، يقول البخاري: " هذا حديث غير محفوظ ، لأن الزهري إنما قال : " حدثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان … " ،والذي حدث الزهري عن سالم ، عن أبيه هو : " أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لتراجعن نساءك " (3) .
... فمعمر بن راشد مع كونه من اثبت الناس في الزهري تداخل عليه بعض أحاديثه ، لأنه رواه من حفظه ، وعرف ذلك بتفرده مع المخالفة لطائفة من أصحاب الزهري ، فاختلفت حال معمر في بعض أحاديثه عن واحد من اقرب شيوخه ، ولعل النقاد يعلون بعض أحاديث الثقة بالتفرد لمثل ما سبق من أمر جد خفي .
__________
(1) شرح العلل ص 367-369، 330 ، والضعفاء للعقيلي 4/391 ( تحقيق عبد المعطي قلعجي ) .
(2) شرح العلل ص 367-369، 330 ، وتهذيب الكمال 18/57 ( تحقيق بشار معروف ، مؤسسة الرسالة ) .
(3) شرح العلل ص 327 ، 330 .(1/32)
رواية وليد بن مسلم الدمشقي :
... هذا وليد بن مسلم الدمشقي صاحب الأوزاعي إذا حدث في غير دمشق ففي حديثه شيء ، يقول أبو داود : سمعت أبا عبد الله – سئل عن حديث الأوزاعي عن عطاء ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بالباءة " - قال : هذا من الوليد ، يخاف أن يكون ليس بمحفوظ عن الأوزاعي لأنه حدّث به الوليد بحمص ، ليس هو عند أهل دمشق (1) ، وهذا تعليل بالتفرد .
... وتكلم الإمام أحمد أيضاً فيما حدث به الوليد من حفظه بمكة (2) فإذا أعلّ النقاد بتفرد الوليد فربما يكون ذلك لنحو ما سبق من الأمور الخفية ، وليس لكون تفرد الثقة غير مقبول لديهم ولا لكونهم يشترطون التعدد في صحة الحديث .
... وهذه بعض الجوانب التي تتصل بأحوال الثقات المختلفة ، وذكرتها لإلقاء الأضواء على أمور جد خفية ، قد تكون منطلقاً علمياً لنقاد الحديث في تعليل بعض أحاديث الثقات بالتفرد ، دون أن يفصحوا عن جميع الأمور التي تكمن فيه ، ويظل ظاهره مشكلاً لمن لم ينتبه إلى منهجهم .
... ومن هنا أصبح التفرد متعدد الجوانب ومختلف الأحكام وينبغي للباحث محاولة معرفتها من خلال الممارسة الحديثية ولذلك فإن مجرد حفظ القواعد الحديثية من كتب المصطلح لا يؤهل صاحبه للخوض في التصحيح والتعليل .
... وأما إذا أخذ مسألة التفرد وأطلق عليها بالقبول إن كان الراوي ثقة ، أو بالرد إن كان ضعيفاً فلا يكون بحثه في مأمن من الانزلاق والتخبط .
... وما أروع الشيخ عبد الرحمن المعلمي – رحمه الله تعالى – وهو من القلائل الذي فهموا دقة منهج المحدثين في تعليلهم وتصحيحهم للأحاديث ، إذا يقول :" إذا استنكر الأئمة المحققون المتن وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة ، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً حيث وقعت أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً ، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر ، فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع هذا ، مع أن الراوي غير مدلس ، أعلّ البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة تراه في ترجمة عمرو من التهذيب " (3) .
... " ونحو ذلك كلامه في عمرو بن دينار في القضاء بالشاهد واليمين ونحوه أيضاً كلام شيخه علي بن المديني في حديث " خلق الله التربة يوم السبت ..." ، كما تراه في الأسماء والصفات للبيهقي ، وكذلك أعلّ أبو حاتم خبراً رواه الليث بن سعد بن سعيد المقبري كما تراه في علل ابن أبي حاتم 2/353 " (4) .
... " ومن ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني وكان خالد يدخل على الشيوخ ، يراجع معرفة علوم الحديث للحاكم ص 120 " .
" ومن ... ذلك الإعلال بالحمل على الخطأ وإن لم يتبين وجهه كإعلالهم حديث عبد الملك بن أبي سليمان في الشفعة ومن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أدخل على الشيخ كما ترى في لسان الميزان في ترجمة الفضل بن الحباب وغيرها ".
" وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلقاً إنما بُني على أن دخول الخلل من جهتها نادر ، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه ، فقد يحقق وجود الخلل وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة فالظاهر أنها هي السبب ، وأن هذا من ذلك النادر الذي يجئ الخلل فيه من جهتها " .
" وبهذا يتبين أن ما وقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة ، وإنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق ، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر " .
" القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف ولا يحقق الحق فيه تحقيقاً واضحاً ، وكثيراً ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزيئات كثيراً ، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية ".ا هـ (5)
وهذا كلام جد نفيس ينم عن فهمه الصحيح لمنهج النقاد من خلال الممارسة ، ولذا نقلته بحروفه ، وقليلاً ما نلمس مثل هذا التحقيق في بحوث المعاصرين ، وجزاه الله عنا خير الجزاء .
__________
(1) شرح العلل ص 332 .
(2) شرح العلل ص 332 .
(3) تهذيب التهذيب 8/72 وفيه أنه " روى عن عكرمة عن ابن عباس : من أتى بهيمة فاقتلوه " .
(4) وفيه " سألت أبي عن حديث رواه أبو بكر ابن أبي عبد الأمين عن أبي صالح عن الليث عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من مضر وبني تميم " فقيل : من هو يا رسول الله ؟ قال : " أويس القرني " قال أبي : هذا الحديث ليس هو في كتاب أبي صالح عن الليث ، نظرت في أصل الليث وليس فيه هذا الحديث ، ولم يذكر أيضاً الليث في هذا الحديث خبراً ، ويحتمل أن يكون سمعه من غير ثقة ودلسه ولم يروه غير أبي صالح " ( علل الحديث ، تحقيق محب الدين الخطيب ، دار المعرفة ) .
(5) مقدمة التحقيق للفوائد المجموعة ص (ح) ، (ط) – الناشر : المكتب الإسلامي .(1/33)
المبحث الثالث زيادة الثقة
يضم هذا المبحث ما يلي :
توضيح معنى زيادة الثقة .
سبب الغموض في مسألة زيادة الثقة .
نقاد الحديث هم المعول عليهم في معرفة أحكام زيادة الثقة .
منهج النقاد في قبول زيادة الثقة وردها .
زيادة الثقة
... تعد مسألة " زيادة الثقة " وجهاً آخر لتباين المنهج بين المتقدمين والمتأخرين في التصحيح والتضعيف ،ولها ظهور مكثف في قسم الموازنة من هذا الكتاب ؛ ولهذا أخصها بالذكر ، مع كونها متصلة بـ " تفرد الثقة " ، حتى يتم التأصيل لضوابط هذه المسألة في ضوء منهج المحدثين النقاد ، وبالتالي فإن معالجة أبرز شبهة رسخت في وجدان كثير من المعاصرين حول ما يعله النقاد من زيادات الثقات تكون منهجية مقبولة .
... كما تشكل هذه المسألة نقطة علمية حساسة من بين مسائل علوم الحديث لكونها مصدراً لكثير من الأحكام الفقهية والقضايا العقدية والسلوكية التي اختلف العلماء فيها قديماً ، أو التي يثار حولها اختلاف من جديد ، ولذلك أصبحت هذه المسألة محل اهتمام بالغ من العلماء قديماً وحديثاً ، حيث عقدوا لها مبحثاً خاصاً في كتب المصطلح ، بل صدرت عن بعضهم بحوث مستقلة في سبيل معالجتها تنظيراً وتطبيقاً ، وعلى الرغم من ذلك كله فإن مسألة زيادة الثقة لا يزال يكتنفها كثير من الغموض ، ونجمت عن ذلك آثار سلبية تعاني منها الأمة الإسلامية في كثير من المجالات الشرعية ، ومن أخطرها ما نلمسه في كتب بعض المعاصرين من إطلاق القول بأن " زيادة الثقة مقبولة كما هو المقرر في كتب المصطلح " ؛ ليتخذوا من ذلك ذريعة لتصحيح ما أعله نقاد الحديث من زيادات الثقات ، إذ يكمن في ذلك طمس تدريجي لأهم معالم النقد عند المحدثين .(1/34)
توضيح معني زيادة الثقة
... المقصود من مسألة " زيادة الثقة " : أن يروي جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد ، فيزيد بعض الثقات فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة (1) ، سواء أكان ذلك في السند أم في المتن أم كان في كليهما ، ولذا فإن هذه المسألة تشمل جميع صور الزيادة التي تقع من الثقة ، سواء أكان الثقة واحداً أم أكثر ، وسواء أكانت الزيادة صحيحة أم ضعيفة ، وسواء أكانت في السند والمتن أم في أحدهما ، ويستثنى منها ما يذكره الصحابي من الزيادات فإنها مقبولة دون خلاف(2) .
__________
(1) ابن رجب الحنبلي ، شرح العلل 1/425 .
(2) انظر النكت على مقدمة ابن الصلاح 2/691 .(1/35)
سبب الغموض في مسألة زيادة الثقة
... ولعل من أكثر العوامل إسهاماً في بقاء مسألة زيادة الثقة بعيدة عن منهج المحدثين النقاد في التنظير والتطبيق عند كثير من المعاصرين ما قد يلمس في مقدمة ابن الصلاح وما بعدها من كتب المصطلح من غياب الوحدة الموضوعية بين زيادة الثقة وبين ما يتصل بها من الأنواع كالشاذ والمنكر والعلة وغيرها ، إذا كانت مطروقة في مواضع متباعدة منها (1) ، دون التركيز على بلورة الصلة فيما بينها ، بحيث يخيل إلى القارئ أنها أنواع مستقلة يتميز كل منها بأبعاده وخصائصه عن الآخر .
... وكذلك ظاهرة التلفيق بين طريقة الفقهاء ، والأصوليين ، وطريقة المحدثين في معالجة هذه المسألة ، كان لها دون كبير في تعقيد أمرها ، وأول كتاب تجده قد انتهج هذا الأسلوب المزدوج هو كتاب ( الكفاية ) للخطيب البغدادي (2) ، ثم أصبح ذلك منهجاً مستقراً عند اللاحقين ؛ إذ وسعوا في كتبهم سرد آراء أهل الكلام والأصول حول تلك المسألة ، مع ذكر حجج كل منهم ، حتى طغت آرؤاهم فيها على نقاد الحديث .
تفاوت أحكام زيادة الثقة في كتب المصطلح وسببه
... ومن الجدير بالذكر أن مسألة زيادة الثقة قد وردت في مواضع متفرقة من كتب المصطلح ؛ مرة تحت عنوان " زيادة الثقة "، وأخرى ضمن أنواع متعددة ؛ مثل " المعلول" ،و " الشاذ" ، و " المنكر" ،و" تعارض الوصل والإرسال " ، و "تعارض الوقف والرفع " ، " المدرج " ، و" المزيد من متصل الإسناد " ، و" المستخرج" ، وإذا درسنا هذه الأنواع دراسة مقارنة بناء على أنها تشكل وحدة موضوعية تتمثل في المخالفة والتفرد ، نجد أحكام زيادة الثقة مختلفة بين هذه الأنواع غير متفقة ، ونجملها فيما يلي :
أولاً : أن يدور القبول والرد فيما زاده الثقة على القرائن والملابسات ، فلا تقبل الزيادة ولا ترد إلا بمقتضى القرائن المحيطة بها ، ولا ينهض بذلك إلا نقاد الحديث . وذلك خلاصة حكم زيادة الثقة المذكورة ضمناً في نوع " العلة " .
ثانياً : أن يكون حال الراوي ميزاناً للقبول والرد ؛ فإن كان راوي الزيادة أوثق وأحفظ فهي مقبولة وإلا فمردودة ، وهو خلاصة حكم زيادة الثقة المبينة ضمناً في نوعي "الشاذ" و " المنكر" .
... ثالثاً : أن يكون معيار الرد هو منافاة الزيادة لما رواه الناس ، فلا ترد إلا في حالة منافاتها لما رواه الناس ،وأما في غير ذلك فالزيادة مترددة بين القبول والرد ، وهو ما خلص إليه حكم الزيادة صراحة في نوع " زيادة الثقة " .
... رابعاً : أن يكون حال الراوي ميزاناً لقبول ما زاده ؛ فإن كان ثقة يقبل مطلقاً ، وإن كان ضعيفاً يرد مطلقاً ، وهو خلاصة حكم زيادة في مبحثي " تعارض الوصل والإرسال " ، و" تعارض الوقف والرفع "،وكذا في "المستخرج" .
... خامساً : أن ترد زيادة الثقة إذا تبين أنها مدرجة من خلال الدلائل التي فصلها ابن الصلاح في مقدمته ، وهذا حكم زيادة الثقة ، المذكور ضمن نوع " المدرج " .
... وهكذا وقع حكم زيادة الثقة غير منضبط بقواعد النقد المتبعة لدى المحدثين المتقدمين ،وعلى صور مختلفة تكاد تكون قريبة من منهج علماء الكلام والأًصول ، ومع ذلك فلا يصفو كثير منها من كدر الإشكال عند التنظير ،والاضطراب عند التطبيق .
... هذا وقد نصّ الحافظ ابن حجر على أن في زيادة الثقة ما هو مقبول وما هو مردود تبعاً للقرائن المحيطة بها ، وقد يكون من القرائن ما يدل على أن الزيادة مدرجة في الحديث ، وأنها كانت من قول فلان ، أو من حديث آخر. يقول الحافظ في صدد قبول الزيادة وردها ضمن دفاعه مجملاً عن الإمام البخاري ، حيث انتقده الإمام الدارقطني في ذلك :
... " ما تفرّد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها ، فهذا لا يؤثر التعليل به ، إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع ، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقبل فلا ، اللهم إلا أن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته فما كان من هذا القسم فهو مؤثر كما في الحديث الرابع والثلاثين "(3) ، وعليه فهذا النوع من الزيادات يكون مردوداً لثبوت إدراج تلك الزيادة في الحديث ، يعنى أن ما أدرجه الثقة لا يكون من لفظ الحديث وغير مقبول جعله جزءاً منه .
__________
(1) ولا أعنى بذلك إلصاق تهمة التقصير بعلمائنا الصالحين ؛ فإني أحس عن يقين بوجود أهداف تعليمية وتربوية وراء اختيارهم لهذا الأسلوب في كتب المصطلح ، ومن أهمها تسهيل بحث أنواع علوم الحديث، وتيسير حفظ مصطلحاتها للطلبة المبتدئين .
(2) انظر الكفاية ص : 424- 429 .
(3) الحافظ ابن حجر ، مقدمة فتح الباري ، الفصل الثامن ، القسم الثالث ص : 507 .(1/36)
نقاد الحديث هم المعول عليهم في معرفة أحكام زيادة الثقة
... والجدير بالذكر أن هذه المسألة من تلك الأنواع التي يجب الرجوع فيها إلى نقاد الحديث وحدهم لكونها في صلب تخصصاتهم النقدية ، ولأن منهجهم في نقد المرويات ينبغي أن يكون وحده المعول عليه في معرفة المقبول والمردود من زيادات الثقات ؛ إذ كانت حجتهم في ذلك حفظ الأحاديث وفهم محتواها ومعرفة ملابسات رواياتها ، ولذا لا يكون كافياً في قبول الزيادات أن يعتمد على ثقة راويها وإتقانه اعتماداً كلياً بحجة أن النقاد جعلوا ذلك قرينة لقبولها في بعض المرويات ؛ إذ إنه لا يلزم أن تكون تلك القرينة هي نفسها صالحة للاعتماد في المرويات الأخرى .(1/37)
منهج المحدثين النقاد في قبول زيادة الثقة وردها
... وإن كانت زيادة الثقة تشمل السند والمتن ، فمسألة تعارض الوصل والإرسال ، وتعارض الوقف والرفع ، والمزيد في متصل الأسانيد ، وتعارض الزيادة والنقص في المتن ، والشاذ ، والمنكر ، والمعلول ، عموماً ، تشكل أساسيات في زيادة الثقة .
... وهذه الزيادة إما أن تكون صحيحة أو ضعيفة ، وذلك لأنه إذا تبين للناقد أن الراوي الثقة لم يكن واهماً حين زاد في الحديث ؛ لوجود قرائن تدل على ذلك ، فيكون ما زاده صحيحاً . وإذا تبين أن الراوي كان واهماً لكونه قد أدرج في الحديث ما ليس منه بسبب الإختلاط ، أو لنقله بالمعنى ، أو غير ذلك من الأٍسباب فتكون تلك الزيادة معلولة ، وإن شئت سمها شاذة ، أو منكرة(1) ، أو مدرجة ، أو مقلوبة .
... وإذا لم تتوافر فيها تلك القرائن فيبقى الأصل في هذه المسألة هو القبول ، لكونه ثقة قليل الخطأ ، وبذلك يوفق بين نصوص المتقدمين التي يدل ظاهرها على القبول مطلقاً وبين تطبيقاتهم العملية القائمة على مراعاة القرائن فيها ودلالاتها في قبول الزيادة وردها .
... ويمكن أن نبرهن بذلك على أن اعتبار الأصل في حال الرواة الثقات، وجعل ذلك قاعدة في قبول أحاديثهم المتفردة ، أو زياداتهم ، لا ينهض به إلا الناقد المتمرس الفطن الذي له إطلاع واسع على واقع الروايات وملابساتها ، وأما من الباحث العادي الذي لا يعرف نوعية تلك الملابسات والمرجحات ولا طبيعة دلالتها فيعد اعتماد الأصل في جميع أنواع الزيادات التي تقع من الثقة خرقاً ومجازفة خطيرة .
... وإذا كان النقاد قد نصوا في بعض المناسبات على قبول زيادة الثقة أو الأوثق (2) ؛ بحيث يخيل إلى القارئ المستعجل أن موقفهم في ذلك هو القبول المطلق ، فإن عملهم النقدي المتمثل في رد الزيادة مرة وقبولها أخرى بغض النظر عن حال الراوي الثقة أو الأوثق يكون كافياً للتفسير بأن ذلك ليس حكماً مطرداً منهم ، وإنما قبلوا فقط بمقتضى القرائن المحيطة بها (3)، أو بالرجوع إلى الأصل في حال الراوي الثقة الذي زاد في الحديث ، بعد تأكدهم من سلامته من جميع الملابسات الدالة على احتمال الخطأ والوهم أو النسيان . ولذلك يكون قول الإمام أبي عبد الله الحاكم في نوع العلة : " والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير " (4) من أحسن ما ينبغي أن يقال في مجال زيادة الثقة .
... وقد أكد ذلك أئمتنا الحفاظ ، يقول الحافظ العلائي : " ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص . وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات . ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده . والله أعلم " (5) .
... وقال ابن دقيق العيد ( رحمه الله تعالى ) : " من حكى عن أهل الحديث ، أو اكثرهم إنه إذا تعارض رواية مسند ومرسل أو رافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد لم يصب في هذه الإطلاق ؛ فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً ، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول " .
... وبما أن فقهاء المتأخرين ينظرون في مسألة زيادة الثقة في نظرة عقلية ، فإنها تكون مقبولة عندهم مطلقاً ، ما لم تعارض مذهبهم ، وعلى منهجهم هذا سار كثير من المعاصرين : من محدثين وفقهاء .
... ولذلك فإذا أعلّ النقاد زيادة زادها ثقة فلا ينبغي التسرع بالتعقيب عليه قائلاً بأن الراوي ثقة وزيادته مقبولة كما هو مقرر في كتب المصطلح ، وذلك لأن النقاد لم يردوها إلا في ضوء القرائن المحيطة بها ، وبالتالي لا يكون من المنطق أن يرد قول النقاد بإطلاق القاعدة (6) .
__________
(1) يلاحظ أن النقاد لم يخصصوا مصطلح (المنكر) بما رواه الضعيف مخالفاً للثقات ، بل أطلقوه فيما لم يكن معروفاً عندهم من الأحاديث ، سواء أكان راوية ثقة أم ضعيفاً ، وإن كان إطلاقهم بذلك فيما رواه الضعيف أكثر .
(2) كما ورد عن الإمام البخاري فيما زاده إسرائيل على شعبة وسفيان : " الزيادة مقبولة ، وإسرائيل ثقة " ( انظر تفصيل ذلك في كتاب شرح العلل 2/368 لابن رجب الحنبلي ، وكتاب الكفاية ص : 409-413 ) ، كما نص على قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل العلم والحفظ في بعض ما رووا وأمعن في ذلك على الموافقة لهم فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته " 1/7 .
(3) الحافظ ابن حجر ، فتح الباري 9/230 .
(4) الحاكم ، معرفة علوم الحديث ، ص :112 .
(5) نقله الحافظ في النكت 2/712 .
(6) كتبت لمجلة الشريعة بجامعة الكويت بحثاً مستقلاً حول هذا الموضوع ، بعنوان : " زيادة الثقة في كتب المصطلح " ، وسينشر قريباً إن شاء الله تعالى .(1/38)
المبحث الرابع تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد ، وضوابط ذلك
يضم هذا المبحث شرح ما يلي :
أهمية دراسة هذا الموضوع في ضوء منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتعليل .
الشروط التي ذكرها ابن الصلاح وغيره لتقوية الحديث الضعيف .
مصدر ابن الصلاح في اعتبار هذه الشروط .
هل الاحتراز من الشذوذ يتضمن الاحتراز من العلة في سياق ما ذكره ابن الصلاح؟
الضوابط التي اعتمدها ابن الصلاح في نوعي الحسن ، ومدى موافقتها لما سبق في مسألة التقوية .
مقصود ابن الصلاح من كلمة " مستور " الواردة في نصه .
هل يلزم من ورود الحديث من وجه آخر أن يخلو من الشذوذ حسب قول ابن الصلاح ؟
رفع الغموض عن معنى الشذوذ الذي تضمنه كلام ابن الصلاح ، وضرورة الاحتراز منه في تقوية الضعيف .
منهج الإمام الترمذي في تحسين الحديث .
التباين المنهجي في تحسين الحديث الضعيف بين الترمذي والمتأخرين .
تسليط الضوء على الضوابط العلمية في تقوية الحديث الضعيف عند نقاد الحديث .
المثال التطبيقي لأسلوب جمع المتابعات والشواهد عند المتأخرين .
بيان أن النقاد غير مسئولين عما يقع من الوهم بعدهم .
خلاصة البحث .
(1/39)
تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات
والشواهد ، وضوابط ذلك
... تعد تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد من أعظم مسائل علوم الحديث دقة ، ومن أكثرها حساسة ؛ لتوقفها على علم العلل من جهة . ولكونها أساساً لكثير من المسائل الفقهية والعقدية والسلوكية وغيرها من جهة أخرى ، ولذا يتعين علينا معرفة منهج المحدثين النقاد في تنظير هذه المسألة وتطبيقها ، إذا أردنا أن نخدم السنة وفقهها خدمة تليق بمكانتها التشريعية .
... وعلى الرغم من ذلك فإن كثيراً من الباحثين يتناولون اليوم هذه المسألة ، كأنها في متناول الجميع ، يتصدون لتطبيقها ،وليس لديهم من المعارف والخبرات ما يؤهلهم لذلك ، اللهم إلا ما أخذوا من كتب المصطلح من تصورات عامة عن "الشاهد" ونوعي " المتابعة" : التامة والقاصرة ؛ فيجمعون الروايات حتى لو كانت معلولة أعلها النقاد بالتفرد أو المخالفة ، أو مذكورة في كتب الضعفاء لغرض البرهنة على ضعف رواتها المترجم لهم فيها ، أو الأحاديث التي ينفرد بها أحد الرواة في أواخر مرحلة الرواية ، مما لا يعرفها المحدثون القدامي ، أقول : يجمعون هذه الأنواع من الأحاديث كحاطبي الليل ، من أجل الصحيح أو التحسين.
... ولذلك فالحديث الذي أعلّه نقاد الحديث بغرابته ، أو تفرده ، أو بقوله : " لا يصح في هذا الباب شيء " ، يكون عند كثير من المعاصرين محل إشكال ورفض ، لا سيما في حالة ما إذا كان راوي الحديث ثقة أو صدوقاً . وكان سندهم الوحيد في هذا الموقف الرافض هو أن الراوي صالح مقبول حديثه ، وأنه لم يكن متروكاً ولا متهماً بالكذب والوضع . وإن كان هذا يفهم من كتب المصطلح كقاعدة مطردة في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، لكنها مقيدة بشروط سيأتي ذكرها وفق منهج المحدثين النقاد في قبول الحديث ورده .
... ويمكن أن نفهم من هذا النموذج الواقعي أن الذي يشكل عقبة كبيرة في سبيل دارسي علوم الحديث عموماً هو الإطلاق فيما ينبغي تقييده ، والتقييد فيما ينبغي إطلاقه .(1/40)
قول ابن الصلاح في مسألة تقوية الحديث الضعيف
... وليكون هذا الأمر أكثر وضوحاً يحسن بنا أن ننظر ونتأمل في قول الحافظ ابن الصلاح ( رحمه الله تعالي ) في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، باعتباره مرجعاً أصيلاً في تقعيدها لدى اللاحقين عموماً ، وهذا نصه ( رحمه الله ) :
... " ليس كل ضعف يزول بمجيئه من وجوه ، بل ذلك يتفاوت ، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة ، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه ، ولم يختل ضبطه له ، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك ، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذا فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر . ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته ، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب ، أو كون الحديث شاذاً . ( والله أعلم ) " اهـ (1).
... وإن كان هذا النص يدلك بظاهره على أن الضابط في تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد هو أن لا تكون هذه المتابعات والشواهد من مرويات المتروكين ، وأن لا يكون فيها شذوذ ، فإن الإمام النووي اختصر النص على النحو الذي يتبلور فيه الشرط الأول دون الثاني ، إذ قال ( رحمه الله تعالى ) :
... " إذا روي الحديث الضعيف من وجوه ضعيفة لا يلزم أن يحصل من مجموعها حسن ، بل ما كان ضعفه لضعف حفظ راويه الصدوق الأمين زال بمجيئه من وجه آخر وصار حسنا ، وكذا إذا كان ضعفه بالإرسال زال بمجيئه من وجه آخر ، وأما الضعف لفسق الراوي فلا يؤثر فيه موافقة غيره "(2)
... ... وكذا اختصره الإمام ابن كثير ، وهذا نصه :
... " قال الشيخ أبو عمرو : لا يلزم من ورد الحديث من طرق متعددة أن يكون حسناً ، لأن الضعف يتفاوت فمنه مما لا يزول بالمتابعات – يعني كرواية الكذابين والمتروكين – ومنه ضعف يزول بالمتابعة كما إذا كان راويه سيئ الحفظ ، أو روى الحديث مرسلاً ، فإن المتابعة تنفع حينئذ ويرفع الحديث عن حضيض الضعف إلى أوجه الحسن أو الصحة . والله أعلم "(3) ا هـ
... وقال الطيبي في هذا الخصوص : " وأما الضعيف فلكذب راويه أو فسقه ، لا ينجبر بتعدد طرقه " (4) .
... وقال الزركشي : " والحاصل أن الذي يحتاج إلى مجيئه من غير وجه ما كان راويه في درجة المستور ومن لم تثبت عدالته " (5)
... ونرى في هذه النصوص منهجاً أوسع مما ذكره ابن الصلاح ، إذ لم تكن فيها قاعدة تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد مرتكزة في صياغتها إلا على شرط واحد ، وهو أن لا يكون الحديث من مرويات المتروكين ، دون أن يذكر الشرط الثاني ، وهو أن لا يكون الحديث شاذاً .
... وإن كان الأساس في هذه المسألة لدى كثير من المعاصرين هو ما ذكره النووي وغيره من اللاحقين ، فإن الشرط الثاني الذي نص عليه ابن الصلاح ، وهو أن لا يكون الحديث شاذاً ، يبقى لديهم مجرد مسألة نظرية دون تطبيق .
... ولذلك فإنه من الصعوبة بمكان أن يأتي عملهم في هذا المجال – مجال تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد – وفق منهج النقاد الأوائل ، وبالتالي فما أعله النقاد من الأحاديث ، يكون في نظر المعاصرين صحيحاً لغيره إن كان راوي ذلك الحديث صدوقاً ، أو حسناً لغيره في حال كون راويه ضعيفاً غير متروك ، وعلى هذا جرى الكثيرون من المتأخرين أيضاً ، لا سيما فقهاؤهم .
... وإن معالجة هذه المسألة – مسألة تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد – من جذورها ، ثم تأسيسها على منهج النقاد المتقدمين ، مع إزاحة جميع أنواع الشبهات عنها ، أمر لابد منه لكي ندافع عن السنة النبوية كما دافع عنها سلفنا الصالح ، لا سيما نفاد الحديث ؛ ولذلك فإننا نطرح هنا بعض التساؤلات فيما نقلناه عن الإمام ابن الصلاح وغيره آنفاً ، وهي :
هل قصد ابن الصلاح بقوله : " ولا يكون شاذاً " شرطاً أٍساسياً في تقوية الحديث الضعيف ؟
وما مصدره في ذكر هذا الشرط ؟
أو أنه ذكره فقط اختصاراً لكلام الإمام الترمذي الذي تضمّن ذلك ، دون تقييده بالمعنى الذي آثره ابن الصلاح في مقدمته ؟
ولما أفرد الشاذ بالذكر دون العلة ؟ وهل كان ذلك من أجل التفريق بينهما في مسألة التقوية ؟ أي أنه إذا كان الحديث معلولاً يتقوه به الحديث ويعد متابعاً وشاهداً له ، حتى ولو كانت كل الأحاديث قد أعلّها النقاد بالتفرد والغرابة أو المخالفة ؟
وماذا يعني ابن الصلاح بالشاذ هنا بالضبط ؛ أهو الذي عرفه في المقدمة أم الذي اشتهر عند المحدثين الحفاظ ؟
... وللإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي أن نتأمل فيما شرحه ابن الصلاح ونبحث عن مصدره في ذلك ثم نفسر المصطلح الذي تضمنه ذلك الشرح تفسيراً منهجياً يقوم على مراعاة منهج ذلك المصدر .
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص : 34.
(2) تدريب الراوي 1/176 ( تحقيق عبد الوهاب ، مكتبة الرياض الحديثة ) .
(3) اختصار علوم الحديث مع الباعث الحثيث ص : 33 .
(4) الخلاصة في أصول الحديث ص : 44 .
(5) النكت 2/400 .(1/41)
مصدر ابن الصلاح في مسألة تقوية الضعيف
... ويظهر جلياً من خلال قراءة نص الإمام ابن الصلاح الذي سبق نقله أنه اعتمد في تلخيص المسألة التي نحن بصددها على قولين : أحدهما للإمام الشافعي والآخر للإمام الترمذي .
(1/42)
... المصدر الأول لابن الصلاح :
... وأما اعتماد ابن الصلاح قول الإمام الشافعي في ذلك فإنه جلي من خلال المقارنة بينهما ، يقول الإمام الشافعي في الاحتجاج بالمرسل :
... " … فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين ، فحدّث حديثاً منقطعاً عن النبي اعتبر عليه بأمور؛ منها :
... أن ينظر ما أرسل من الحديث .
فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – بمثل بمعنى ما روى - : كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه .
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك .
ويعتبر عليه بأن ينظر : هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم ، فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى به مرسله وهي أضعف من الأولى .
وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له ، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله .
ج – وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الشافعي : ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه ، ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه فإن خالفه وجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه .
ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه ، حتى لا يسع أحداً منهم قبول مرسله.
قال : وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله .
ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل (1) اهـ .
... يفيدنا هذا النص أن المرسل ليس بحجة إلا إذا كان مرسله ثقة لا يرسل عن الضعفاء ولا عن المجاهل ، ثم جاء م وجه آخر مسندا ًمن رواية الحفاظ الثقات ، أو مرسلاً أرسله من لم يأخذ الحديث عمن أخذه عنه المرسل الأول ، أو وافقه عمل الصحابة أو فتواه ، وذلك ليطمئن قلب الناقد بتعدد مصدر الحديث ، أو بوجود أصل صحيح له ، ومن هنا أصبح واضحاً أن ابن الصلاح قد اعتمد هذا القول حين خصّ المرسل بذكره من أنواع الانقطاع وإلا لأشار إليها جميعاً ، كما هو مفهوم من قول الإمام الترمذي وعمله في السنن .
__________
(1) الرسالة ، ص 300-304 .(1/43)
... المصدر الثاني لابن الصلاح :
... ولئن كان الاحتجاج بالمرسل وما يتعلق به من الشروط التي ذكرها الإمام الشافعي ، ثم لخصها الإمام ابن الصلاح ضمن ذلك النص الذي سبق ذكره أمراً في غاية الوضوح ، فإن الجانب الذي يتضمنه قول الإمام الترمذي يقتضي شيئاً من التفصيل والتحليل لنقف سوياً على ما يشكل إجابة علمية لتلك التساؤلات التي سبق طرحها آنفاً ،ولذا فإن نص الإمام الترمذي يكون المحور الرئيس في الفقرات التالية :
... يقول الإمام الترمذي :
... " وما قلنا في كتابنا هذا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا :
كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب .
ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن " (1) اهـ .
... ويمكن تلخيص هذا النص بما يلي : أن حسن السند يتحقق بمجرد كون راويه غير متروك ، كما في حرف (أ) ، ويتحقق حسن المتن بمجرد كونه مروياً من غير وجه نحو ذلك ، كما في حرف (ب ) ، يعني بذلك ورود حديث آخر يؤيد معنى ذلك المتن ، أو ثبوت عمل أحد الصحابة بمقتضاه ، أو فتواه به ، على أساس أن تكون الجملة : " ويروى من غير وجه نحو ذلك " تفسيراً للجملة : "ولا يكون الحديث شاذاً " ويكون ذلك جميعاً هو معنى قوله " حديث حسن " مجرداً عن الصحيح .
... وبذلك يكون لتحسين الإمام الترمذي مغزى آخر غير الذي يهدف إليه الكثيرون من المعاصرين من تحسين الحديث ، وهو زوال الشذوذ عن المتن بالطريقة التي بينتها آنفاً ، ولذا فما يحسنه في سننه لا يلزم أن يكون صالحاً للاحتجاج به دوماً ، كما سيأتي من التفصيل حول ذلك .
... والذي يهمنا هنا هو تحقيق معنى الشاذ في هذا النص باعتباره مصدراً للإمام ابن الصلاح في تحديد الضابط في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، وقد سبق في التساؤلات ماذا يقصد ابن الصلاح بقوله " وأن لا يكون الحديث شاذاً"؟ ،وهل يرى ضرورة الاحتراز من الشذوذ دون العلة في تقوية الضعيف ؟
... ويظن كثير منا أن الشاذ في نص الإمام الترمذي هو ما ألفناه في كتب المصطلح عموماً من مخالفة الثقة أو الصدوق لمن هو أوثق منه ، وهذا غير سليم في نظري ؛ إذ لا يتسق كلام الترمذي على هذا المعنى للشاذ ، حيث إن مناسبته كانت فيما كان يرويه الضعيف غير المتهم بالكذب .
... فقد قال الحافظ العراقي ( رحمه الله تعالى ) : " فهذه أقسام الضعيف باعتبار الانفراد والاجتماع ، وقد تركت من الأقسام التي يظن انقسامه إليها بحسب اجتماع الأوصاف عدة أقسام ، وهي اجتماع الشذوذ ووجود ضعيف ، أو مجهول ، أو مستور في سنده لأنه لا يمكن اجتماع ذلك على الصحيح ، لأن الشذوذ تفرد الثقة فلا يمكن وصف ما فيه راو ضعيف أو مجهول أو مستور بأنه شاذ " (2) ا هـ .
... بيد أن قول الإمام الترمذي يكون متسقاً بعضه على بعض إذا فسرنا الشاذ بالمعنى الذي آثره ابن الصلاح في مقدمته ؛ إذ كل حديث مخالف للراجح يكون عنده شاذاً ، سواء كان راويه ثقة أم ضعيفاً . كما يعد ابن الصلاح ما تفرّد به الراوي الضعيف شاذا منكراً أيضاً ، حيث إن مفهوم الشاذ عند أعم مما شرحه الإمام الشافعي حين جعله مقيداً بالثقة ،وهو الذي اختاره كثير من اللاحقين .
__________
(1) سنن الترمذي 5/758 ( قسم العلل ) .
(2) شرح ألفية العراقي 1/115 .(1/44)
الاحتراز من الشذوذ يتضمن الاحتراز من العلة
... وإذا كان ابن الصلاح قد اعتمد قول الإمام الترمذي في إضافة هذا الشرط ، ألا وهو أن يكون الحديث خالياً من الشذوذ ، وفسرنا هذا الشذوذ بما عرفه هو في المقدمة ،وهو ما خالف الراوي فيه الأوثق والأحفظ ، فإن العلة تكون مثل الشاذ في وجوب الاحتراز منها ، لكونها متفقة مع الشاذ في معناه الجوهري ، كما يتجلى ذلك مما شرحه الإمام ابن الصلاح في نوع العلة(1) ؛ إذ قال فيه :
... " ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك ، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول ، أو وقف في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك " .
... وفي ضوء هذا النص فنقطة المخالفة والتفرد التي تكون على النحو الذي ورد فيه ، تشكل المناط في مفهوم العلة ، وكذا أيضاً في مفهومي الشاذ والمنكر ؛ إذ يقومان على مخالفة الحديث للراجح أو التفرد بما ليس له أصل أيضاً ، وليس مطلق المخالفة ولا مطلق التفرد .
... هذا إذا جعلنا هذا النص الوارد في العلة شاملاً لما رواه الثقة والضعيف ، وهو الصواب الذي يتأيد بعمل نقاد الحديث . وأما إذا حملناه على ما رواه الثقة وحده ، وجعلناه ميدان العلة ، كما يعتقده الكثير ، فوجه انفصال العلة عن الشاذ يصبح واضحاً فقط في حالة كون الراوي المخالف صدوقاً أو ضعيفاً غير متروك ، إذ الشاذ أعم من العلة لكونه يشمل حديث الصدوق والضعيف غير المتروك في حالة مخالفته حديث الثقة حسب رأي ابن الصلاح، وأما العلة فيكون ميدانها حديث الثقة وحده . وبالتالي يلزم من ذكر الاحتراز من الشذوذ في تقوية الحديث الضعيف الاحتراز من العلة تلقائياً لكون الشذوذ شاملاً لها .
... وأما عند اللاحقين الذي يجعلون الشاذ والمعلول مقيدين برواية الثقات ، فإن فصله عن العلة يبقى نظرياً مجرداً لا يؤيده الواقع ؛ إذا العلة عندهم متصلة بأحاديث الثقات ، وهي ميدان وقوعها ،وكذلك الشاذ أيضاً . وإذا كانت "مخالفة الثقة للراجح " من أهم العناصر التي ينطوي عليها مفهوم هذين النوعين فيكيف ينفصل أحدهما عن الآخر ؟ وإذا فرضنا وجود فرق بينهما من حيث الجوهر فأي نوع من المخالفة يجعل حديث الثقة معلولاً دون الشذوذ ؟ وهو في غاية الإشكال.
... وهل يمكن القول إن الشاذ عندهم هو مجرد المخالفة ، وأما العلة فتختلف عنه بتقيدها بمخالفة الراجح أو التفرد بما لا أصل له ؟ وعليه يكون الشاذ أعم من المعلول من جهة الإطلاق والتقييد ، وبالتالي لا يكون الشاذ المطلق مما ينبغي الإحتراز منه ، لا في التصحيح ولا في التحسين ، لكون الشاذ عبارة عن مجرد وجود المخالفة ، سواء أكانت نتيجة خطأ أم نتيجة خطأ أم نتيجة صواب ، غير أن الإمام الشافعي الذي شرح الشاذ بالمخالفة قد قيده بمخالفة الثقة للراجح (2) . وكذلك الإمام بن الصلاح لم يذهب إلى إطلاق المخالفة في الشاذ المردود ، حين جعله مقيداً بمخالفة الراوي الأوثق والأحفظ .
... ولا شك أن هذه المخالفة التي يكون منشؤها الوهم والخطأ هي بذاتها تشكل المناط في مفهوم العلة ، كما سبق آنفاً نص الإمام ابن الصلاح ، وهو قوله : " ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم … " وعلى هذا التفسير لمصطلحي الشذوذ والعلة ، يلزم من قول ابن الصلاح في مسألة تقوية الضعيف " وأن لا يكون شاذاً " أن لا يكون معلولاً أيضاً .
... ومن خلال ما سبق من تحليل نص الإمام ابن الصلاح ، وتفسير الشاذ بمعانيه المختلفة المعروفة في كتب المصطلح كان الأمر واضحاً أن العلة كالشاذ في ضرورة الاحتراز منها في مسألة تقوية الضعيف .
نصوص ابن الصلاح المتصلة بـ " حسن لذاته " و " حسن لغيره " ومدى موافقتها بما سبق ذكره في مسألة الاحتراز عن الشذوذ
... لكن تظهر مشكلة أخرى في نصوص ابن الصلاح حول تفصيل " حسن لذاته " و " حسن لغيره " ، وهي أنه يفرق بين الشاذ والعلة ، وتوضيح ذلك فيما يلي ؛ يقول الإمام ابن الصلاح في موضوع الحسن :
... " إن الحديث الحسن قسمان ؛ أحدهما : الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهم بالكذب في الحديث أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سب آخر مفسق ، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر ، أو أكثر ، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله ، أو بما له من شاهد ،وهو ورود حديث آخر بنحوه ؛ فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً منكراً ، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل " ا هـ (3) .
__________
(1) تفصيل ذلك في بحثي " زيادة الثقة في كتب المصطلح" الذي أجيز لنشره في مجلة الشريعة بجامعة الكويت .
(2) انظر تفصيل ذلك في النكت 2/688 .
(3) مقدمة ابن الصلاح ص : 31 .(1/45)
مقصود ابن الصلاح بقوله ( مستور )
فقوله " مستور " لا يعني مجهول الحال ، بدليل الجمل اللاحقة المفسرة لمعناه ، كجملة : " لم تتحقق أهليته " وجملة " غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه " ، إذا لا يصح إطلاق هذه الجملة في حق مجهول الحال ، الذي لم يشتهر حديثه ولم يتعدد تلاميذه ، لتوقف الحكم بها على معرفة الرجل من حيث الضبط وعدمه ، اللهم إلا إذا قلنا إن معنى هذه الجملة أنه لم تظهر غفلته وكثرة خطئه فيما يرويه لكونه مجهول الحال ، وهذا تكلف في نظري إذ يحمل هذا القسم من الحسن على رواية مجهول الحال وحده ، ولم يدل عليه سياق قول الترمذي الشامل لجميع أنواع الضعفاء غير المتروكين ، والذي كان مصدر ابن الصلاح لهذا التلخيص ، ولا شك أن التفسير المضيق لما وسعه الترمذي يعد تكلفاً غير مقبول .
... وبذلك يكون معنى المستور أنه لم يرد في حق الراوي ما يدل على فسقه ، وعليه يكون مغزى هذه الجملة هو أن الراوي لم يكون متروكاً من حيث العدالة الدينية ولا من حيث الحفظ والإتقان .(1/46)
تحقيق معنى قوله ( وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً منكراً )
... وإن كان ابن الصلاح قد وجّه قول الإمام الترمذي بهذا التفصيل ، فإنه يريد بذلك التأصيل ، وعليه فقوله : " وهو ورود حديث آخر بنحوه ؛ فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً منكراً " يفيد أن الشذوذ والنكارة يزولان تلقائياً بورود حديث آخر بنحوه ، فإنه قال : " فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً منكراً " ، وكان سياق هذه الجملة جلياً في تفرعها على الجملة السابقة ، بحيث تفيد أن خلو الحديث من شذوذ ونكارة يتحقق بورود نحوه من وجه آخر ، ولا يفهم من السياق أن ابن الصلاح يجعل هذه الأمرين شرطين مستقلين لا تلازم بينهما ، وهما :
ورود الحديث بنحوه من وجه آخر .
وكونه خالياً من الشذوذ والنكارة .
... وكأنه (رحمه الله) يرى أن جملة " ويروى من غير وجه " التي جاءت في نص الإمام الترمذي (1) الذي كان مصدر ابن الصلاح في هذا التلخيص بمثابة تفسير لجملة " أن لا يكون شاذاً " ، يعني أن الواو في الجملة للتفسير وليس للجمع ، كما أوّله الحافظ العراقي (2) ، وهو الصواب ، بدليل مناسبة النص التي هي بصدد رواية الضعفاء ، دون الثقات ، وإن لم يكن ذلك محل اتفاق لدى اللاحقين من الأئمة(3) .
... بيد أنه قال في الحسن لذاته : " ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذاً منكراً - سلامته من أن يكون معللاً " ، وهذا يدلنا على أن العلة غير الشذوذ والنكارة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يفيدنا هذا النص أن خلو الحديث من العلة والشذوذ والنكارة ، أمر منفصل عن ورود الحديث من وجه آخر ، وإلا ( أي : وإن لم يكن منفصلاً ، بل أصبح ورود الحديث من وجه آخر هو بحد ذاته سلامته من شذوذ وعلى ) يصبح الحديث الذي رواه الصدوق صحيحاً لغيره ، لأن خلوه من شذوذ وعلة يلزم منه أن يروي من غير وجه لتلازمهما ، ومن المعلوم أن الإمام ابن الصلاح بصدد ذكر الحسن لذاته ، يعني ، أن الحديث حسن لذات راويه ، لكونه صدوقاً ، دون اعتبار وروده من وجه آخر ، بخلاف " حسن لغيره " فإنه يقوم أساساً على تعدد الطرق .
__________
(1) وهو قوله : " وما قلنا في كتابنا هذا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروى من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن " .
(2) التقييد والإيضاح ص : 44للحافظ العراقي .
(3) انظر تفصيل ذلك في كتاب " نظرات جديدة في علوم الحديث " ص : 34 ، للمؤلف .(1/47)
رفع الغموض عن معنى ( الشذوذ ) وضرورة الاحتراز منه في تقوية الضعيف
... وعلى كل حال فإن رأي الإمام ابن الصلاح في مجال الاحتراز من الشذوذ ، ثم ما يخص تحديد المعنى الذي يقصده به ، ومدى انفصاله عن العلة في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، والحسن ، كل ذلك يظل محل غموض كثيف ، وذلك حين نقوم بالمقارنة بين نصوص الإمام ابن الصلاح الواردة في مسألة تقويه الضعيف ومسألة الحسن . ومع ذلك فالذي يظهر لي مما سبق ذكره هو أن ابن الصلاح يرى الشاذ منفصلاً عن العلة كما هو واضح في مسألة " حسن لذاته " ، وأن الشاذ الذي ورد ذكره في موضوعي حسن لغيره ، وتقوية الحديث الضعيف إنما ذكره تقليداً للإمام الترمذي ، وبذلك تكون نصوصه خالية من الإشكال والغموض .
... ومن هنا ينبغي تفسير ذلك الشاذ حسب منهج الإمام الترمذي في استخدام مصطلح الشاذ ، وليس بما اختاره الإمام ابن الصلاح في مقدمته ، وبذلك تتضح القاعدة في هذه المسألة التي نحن بصدد دراستها دون غموض وإشكال .
... ولا شك أن رأي الإمام الترمذي في الشاذ هو ما نقله الحافظ الخليلي عن حفاظ الحديث عموماً بقوله : " الشاذ عند حفاظ الحديث ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ، ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به " (1) .
... وفي ضوء هذا النص يمكن القول إن الشاذ عند الترمذي هو أن يكون متن الحديث غريباً له سوى سند واحد من أوله إلى آخره ، وهذا مما ينبغي الاحتراز منه في التصحيح والتحسين ، وإن كان يفهم من ظاهر النص المذكور أن التفرد على إطلاقه لكن مناسبة عمل المحدثين النقاد ، ونصوصهم العامة في الحديث الغريب يوضح أن التفرد المقصود بالشاذ المردود هو التفرد بما لا أصل له ، وليس مطلق التفرد .
... وإذا كان الأمر كذلك فالذي يكون الأقرب إلى الصواب هو إن الإمام الترمذي يريد بالشاذ ما يقصد به الحفاظ الآخرون ، وهو غرابة المتن ، بأن يكون غير معروف لديهم ؛ لا رواية ولا عملاً ولا قولاً لأحد من الصحابة والتابعين سواء كان راوي ذلك المتن ثقة أم ضعيفاً (2) ، وبهذا المعنى يصبح سياق قول الترمذي في موضوع الحسن متسقاً بعضه على بعض ، بخلاف المعنى الذي شرحه الإمام الشافعي للشاذ ، فإنه لا يتناسب مع سياق النص لكونه مقيداً بمرويات الثقات ، كما سبق .
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص : 77 .
(2) والجدير بالذكر أن مثل هذه في المتون لا تقع غالباً إلا المتروكين المتهمين بالكذب والوضع .ولهذا قال شعبة : لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ ( تدريب الراوي 1/339 ) .
وفي الواقع لا يوجد فرق بين الشاذ والعلة إلا من حيث الغموض ، وأما من حيث الجوهر فلا ، فإن العلة تدور أيضاً على حالة التفرد بما ليس له أصل . وكلما كان الراوي ثقة معروفاً ازداد تفرد غموضاً . ولذلك قال الإمام الحاكم ( رحمه الله تعالى ) : " وهو (يعني الشاذ) غير المعلول ؛ فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة " اهـ . ( معرفة علوم الحديث ص : 119 ) . =
=وشرحه الحافظ ابن حجر بقوله : " وهو ( يعني الشاذ ) على هذا أدق من المعلل بكثير ، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة ، وكان في الذروة العليا من الفهم الثاقب ورسوخ الفهم في الصناعة ورزقه الله نهاية الملكة " .( النكت) هذا طبعاً إذا كان راوية ثقة .
وقال السخاوي : " والشاذ لم يوقف له على علة ، وهذا يشعر بإشتراك هذا مع ذلك ( يعني المعلول ) في كونه ينقد في نفس الناقد أنه غلط ، وقد تقتصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه ،وأنه من أغمض الأنواع وأدقها ، والشاذ أدق من العلل بكثير اهـ . ( فتح المغيث 1/232، تحقيق الشيخ علي حسن علي ، الهند ) .
وهذا لا يعني أن الشاذ لا يطلق إلا على رواية الثقة ، بدليل قول شعبة السابق وغيره من النقاد ، وليس من المنهج السليم اعتماد المفهوم المخالف لأقوال النقاد بعيداً عن واقع أعمالهم التطبيقية . ولذا يتوقف تفسير نصوص النقاد على خبرة واسعة واحتكاك طويل بمنهجهم في النقد .
ولعل نص الإمام الحاكم هذا هو مصدر الإمام ابن الصلاح فيما شرحه في نوع العلة من التفاصيل ،وفي ذكر العلة والشذوذ جميعاً في تعريف الصحيح ،وبالتالي يصبح من الضروري تفسير هذه المصطلحين الذين تضممنهما تعريف الصحيح بالمعنى الذي وضعه الإمام الحاكم لهما ، دون الاعتماد على المعنى الذي ترجح في كتب المصطلح ، وإلا فذكر الشاذ مع العلة بعد تكراراً ، إذ هما يتفقان في جوهر المعنى ، وإن كان تعريفهما مختلفين في الصياغة .(1/48)
منهج الإمام الترمذي في تقوية الضعيف .
... ولئن كان الإمام الترمذي يقصد بالشاذ غرابة المتن فإن مغزى تحسينه للحديث الضعيف هو زوال الشذوذ والغرابة عن المتن ، ولذلك فإن المسلك الذي سلكه المتأخرون في التقوية والتحسين يكون مختلفاً تماماً عن منهج الترمذي في ذلك ، إذ كان الإمام الترمذي قد يريد بالحسن مجرد زوال حالة الغرابة عن المتن بكونه معروفاً بعمل أحد الصحابة بمقتضاه ، دون أن يقصد بذلك تقوية الحديث مرفوعاً ، ولا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بشرط أن لا يكون في سنده راو متروك ، والدليل على ذلك أن كثيراً ما يعلل سند الحديث بالتفرد والغرابة ، مشيراً إلى عدم ثبوت ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية ، وفي الوقت نفسه يصفه بالحسن (1) ، وبهذا يكون معنى هذا التحسين هو أن متن الحديث لم يكن غريباً عموماً ، بل قد عرف ذلك بعمل بعض الصحابة به ، أو فتواه به ، أو له شاهد حديثي . ولنتأكد من ذلك يكون من الأفضل أن ننظر في سياق قول الإمام الترمذي ، وهذا نصه :
... " وما قلنا في كتابنا هذا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا ، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب ولا يكون الحديث شاذاً ويروي من غير وجه نحو ذاك فهو عندنا حديث حسن " (2) ا هـ .
... وقوله " ويروى من غير وجه " تفسير لقوله " ولا يكون شاذاً " يعني أن يروى ذلك المعنى من أي وجه آخر ، سواء كان ذلك حديثاً مروياً شاهداً أو متابعة ، أم عملاً أم فتوى لبعض الصحابة أو التابعين ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً . ومن تتبع الجوانب التطبيقية لهذا المصطلح في سننه يجد ذلك المعنى مجسداً .
... ولكون الإمام الترمذي قد توسع في تحسين الحديث بالشكل الذي سبق ذكره لعل هذا ما حمل الحافظ ابن حجر على أن يقول : إنه لا يلزم الاحتجاج بكل ما يحسنه الترمذي . والجدير بالذكر أن هذا لا يعني إنكار الإحتجاج بكل ما يحسنه (رحمه الله تعالى ) .
... ومن الأفضل أن أنقل قوله هنا ، وهو : " وقد صرح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه ( بيان الوهم والإيهام ) بأن هذا القسم ( يعني ما يحسنه الترمذي ) لا يحتج به كله ، بل يعمل به في فضائل الأعمال ،ويتوقف العمل به في الأحكام ، إلا إذا كثرت طرقه أو عضده باتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن " .
... وعقبه الحافظ بقوله " وهذا حسن قوي رايق ، ما أظن منصفاً يأباه والله الموفق . ويدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم عنده أن يحتج به أنه أخرج حديثاً من طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين ( رضي الله تعالى عنه ) وقال بعده هذا حديث حسن ، وليس إسناده بذاك " .
... " وقال في كتاب العلم بعد أن أخرج حديثاً في فضل العلم : هذا حديث حسن ، قال : وإنما لم نقل لهذا الحديث : صحيح ، لأنه يقال : إن الأعمش دلس فيه فرواه بعضهم عنه ، قال : حُدِّثتُ عن أبي صالح عن أبي هريرة ( رضي الله عنه) " .
... " فحكم له بالحسن للتردد الواقع فيه وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك ، لكن في كل المثالين نظر ، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهما كونهما جاءا من وجه آخر كما تقدّم تقريره ، لكن محل بحثنا هنا : هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا ؟ ، هذا الذي يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل . والله أعلم " (3) ا هـ .
... وسيأتي في قسم الموازنة بعض الأمثلة التي تكون أصرح وأوضح مما ذكره الحافظ ابن حجر في إفادة ذلك من عدم لزوم العمل بكل ما يحسنه الإمام الترمذي وعدم الاحتجاج به من الأحاديث ، وأن غرضه في ذلك هو إفادة أن متن الحديث ليس فيه شذوذ ولا غرابة ، وأن مضمون ذلك قد عرف إما قولاً للنبي صلى الله عليه وسلم أو قولاً للصحابة أو عملاً له ، وإن لم تصح روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً . ولذلك يكون فيما حسنه الإمام في سننه ما يصلح للاحتجاج كما يكون فيه ما لا يصلح لذلك .
...
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في الأمثلة التي ستأتي في الجانب التطبيقي من هذا الكتاب .
(2) سنن الترمذي 5/758 ( قسم العلل ) .
(3) النكت 1/402 -403 .(1/49)
تباين منهجي في تحسين الحديث الضعيف
... وإذا تبين لنا أن طريقة الإمام الترمذي في تحسين الحديث تختلف عن أٍسلوب المتأخرين فيه فإن ما يحسنه كثير من المعاصرين من الأحاديث عن طريق المتابعات والشواهد ، من أجل تقوية الضعيف والعمل به ينبغي إخضاعه لقوانين النقد المستمدة من منهج ناقد الحديث في ذلك عموماً . وذلك لسبب إطلاقهم القاعدة في تقوية الحديث الضعيف ، وإدراجه ضمن الأحاديث المحتج بها باعتباره حسناً لغيره ، وهذا خطأ واضح ؛ إذ كان النقاد يفرقون في مسألة تقوية الحديث الضعيف وجعله صالحاً للاحتجاج ، بين الرواية التي أخطأ فيها الراوي ، سواء كان ثقة أم سيئ الحفظ ، وبين التي لم يتبين لهم فيها الخطأ ، وكذلك المرسل وجميع أنواع الانقطاع فإنه لا تنفع له المتابعة إلا إذا جاءت طبقاً لشروط معينة كما شرحها الإمام الشافعي(1) وغيره من الأئمة ( رحمهم الله تعالى جميعاً ) ، وذلك من أجل التأكد من تعدد مصادر ذلك الحديث المرسل والمنقطع ، لأنه قد يكون التعدد وهمياً لا حقيقياً ، كما وقع في حديث القهقهة ، وغيرها من الأمثلة التي ستأتي في قسم الموازنة من هذا الكتاب .
__________
(1) الرسالة 1/461-463 .(1/50)
الضابط العلمي في تقوية الحديث الضعيف عند نقاد الحديث
... ومن هنا تشتد الحاجة إلى تحديد الضوابط في مسألة تقوية الحديث الضعيف ، وتأصيلها على منهج النقاد ، وهو أن الفاصل العلمي بين ما ينجبر وبين مالا ينجبر من الروايات الضعيفة هو أن لا يتبين للناقد أن الراوي قد وهم في روايته ، وأما ما وهم فيه الراوي فلا يعد متابعة ولا شاهداً ، ولذلك نجد النقاد يحكمون على الرواية بغرابتها ، رغم أنهم قد ساقوا روايات تكون بظاهرها متابعة لها ، أو شواهد . ومن لا يعرف منهجهم في التعليل والتصحيح يجد نفسه مضطراً لرفض الحكم الذي صدر منهم في هذا المجال قائلاً : " هذه روايات متعددة ، يقوي بعضها بعضاً ، ويكون الحديث حسناً لغيره أو صحيحاً لغيره " بحجة أن ذلك الحديث لم يكون من مرويات المتروكين " .(1/51)
... فائدة :
... وهاهنا فائدة مهمة جاءت محصلة لهذه الدراسة ، وهي أن ما ذكره ابن الصلاح في مجال تقوية الحديث الضعيف لا ينبغي إطلاقه كقاعدة مطردة ، بل لابد من تقييده بحالة ما إذا لم يتأكد النقاد فيها على وجود خطا فيما رواه الراوي ، سواء كان ثقة أم ضعيفاً . وأما في حالة ظهور خطأ ووهم في الرواية فلا مجال لتطبيق تلك القاعدة .
... وبهذه النتيجة أصبح واضحاً لدى القارئ أنني لم أكن بهذه الدراسة النقدية طاعناً في علم ابن الصلاح ولا غيره من الأئمة الأجلاء المحترمين لدى الأمة ، ولا في عملهم ، ولا في نواياهم ، ولا في شخصيتهم ، التي يجب علينا احترامها وتقديرها والوفاء لها ، بيد أن هذه الدراسة لفتت الانتباه إلى أن التقصير يأتي عادة من قبل الدارسين بسبب تسرعهم في الفهم والاستنتاج والإطلاق فيما ينبغي تقييده ، والتقييد فيما يجب إطلاقه .(1/52)
المثال التطبيقي لأسلوب المتأخرين في جمع المتابعات والشواهد
... واذكر هنا على سبيل المثال ما وقع في تعليق أحد المحققين الجدد على حديث قال فيه الإمام الطبراني : " لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد تفرد به صالح " بعد روايته في المعجم الصغير والأوسط ، وعلق عليه المحقق الفاضل بقوله :
... " وهذا من الأدلة الكثيرة التي تبين لأمثال المليباري والمعجبين به ، أنه قد يفوت على كبار الحفاظ أسانيد أو طرق للأحاديث ، كهذا الحديث ، فإن رواية البيهقي تؤكد أن صالحاً … لم يتفرد به ، بل تابعه غير واحد عند البيهقي ، فسبحان من لا تخفى عليه خافية ، وعلى كل حال ، فالإسناد واه جداً ، ثم وقفت على طريق أخرى للحديث عند الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في الشعب ، والواحدي في التفسير وفيه محمد بن الحسين بن زبالة المخزومي ، وهو ساقط كما قال الذهبي في تخليص المستدرك " اهـ (1)
... ولتوضيح ما يكمن في هذا التعليق من الشبهة ، مع أن المحقق الفاضل قد أقرّ بوهاء الحديث وبطلانه ، أقول : إن الطبراني روى هذا الحديث في معجمه الأوسط ، و الصغير عن عبد الله بن عمران بن موسى البغدادي عن صالح بن علي بن عبد الله الحلبي عن عبد الله بن هبيرة المؤدب الحلبي عن سلمة بن سنان الأنصاري عن طلحة بن عمرو المكي عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعاً ، ثم قال في الصغير : " لا يروي عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد تفرد به صالح " .
... ورواه الحارث عن أبي نعيم عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة موقوفاً (2)، وكذا رواه الحاكم عن أبي بكر محمد بن عبد الله بن أحمد عن أحمد بن نفير ، عن أبي غسان النهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة موقوفاً .
... ورواه البيهقي عن أبي عبد الله الحافظ عن شيخ الحاكم به وقال : " هذا هو المحفوظ بهذا الإسناد موقوفاً " ورواه أيضاً عن أبي طاهر عن عمرو بن عبد الله عن محمد بن عبد الوهاب عن محمد بن القاسم عن طلحة به (3).
... وهذا الحديث الذي رواه الحارث والحاكم والبيهقي وقبلهما الطبراني يدور على طلحة بن عمرو ، و جاء حديثه هذا موقوفاً من طريق أبي نعيم وأبي غسان النهدي ومحمد بن القاسم ، وخالفهم صالح بن علي حين رواه عن عبد الله بن هبيرة عن سلمة عن طلحة بن عمرو نفسه مرفوعاً ، ولهذا قال الطبراني : " لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد تفرد به صالح " يعني لم يرو حديث أبي هريرة مرفوعاً إلا صالح بن علي ، ولم يكن تعليق البيهقي بأن المحفوظ هو الموقوف سوى تأكيد لغرابة هذا المرفوع . ومن المعلوم أن الإمام الطبراني قد خصص كتابيه : الأوسط والصغير برواية الغرائب التي تروى في عصره ، أو قبله ، دون الغرائب التي أغربها من جاء بعده من الرواة ، ودون ذكر المحفوظات والصحاح . ومعلوم أن الغرابة قد تكون مطلقاً وقد تكون نسبية ، وقد بين الإمام الترمذي في خاتمته للسنن (4) . ولكن يتوقف فهم ذلك على شيء من الممارسة لنصوص الأوائل ، ومنهجهم في النقد .
... ولذلك فما نصّ عليه الإمام الطبراني من غرابة المرفوع الذي أورده في المعجمين : الأوسط والصغير ، لا يكون معارضاً بما رواه الحاكم والبيهقي موقوفاً ، بل يؤيده قول الطبراني " هذا هو المحفوظ بهذا الإسناد موقوفاً " ، حيث لا يعني الإمام الطبراني بقوله السابق أنه لم يروِ هذا الحديث إلا بالإسناد الذي ذكره هو ، وتكون الغرابة التي صرح بها كانت موجهة صوب رواية صالح بن علي من طريق طلحة بن عمرو مرفوعاً يعني بذلك الغرابة النسبية .
... وأما ما رواه الحاكم والبيهقي (5) عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب عن محمد بن عبد الوهاب عن محمد بن الحسن عن أم سلمة عن أبيها عن جدها عن أبي هريرة مرفوعاً فلا يعكر أيضاً على ما نصّ عليه الطبراني من الغرابة ، فإن مثل هذه الرواية التي لا توجد في أصول المتقدمين فلا اعتبار بها لغرابة الإسناد من أوله إلى آخره ، ولهذا قال الحاكم معلقاً على هذا الحديث : " هذا حديث عال غريب الإسناد والمتن ، له شاهد من حديث طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة "(6).
__________
(1) هامش كتاب " نعمة الذريعة في نصرة الشريعة " ص : 86 للعلامة إبراهيم الحلبي ، تحقيق علي رضا بن عبد الله بن علي رضا(دار المسير ) .
(2) زوائد الهيثمي 2/821 تحقيق حسين الباكري ، دار النشر : خدمة السنة والسيرة ، المدينة المنورة ، سنة 1413هـ .
(3) انظر التخريج في تعليق المحقق الذي نقلناه في الصفحة السابقة .
(4) قسم العلل 2/340 ( طبعة بولاق ) .
(5) المستدرك 2/503 ، وشعب الإيمان 4/289 .
(6) مستدرك الحاكم 2/503 .(1/53)
السابق من النقاد ليس مسؤولاً عن نقد ما أغربه الراوي اللاحق
... وفي الواقع أن الإمام الطبراني لن يكون مسؤولاً عن الغرائب التي أغرب فيها من جاء بعده من الرواة وهماً ، إذ لا يمكن له الإطلاع على ذلك ، وبالتالي يكون من العبث بالتراث ومنهج النقاد في التصحيح والتضعيف أن يعترض أحدنا على ما نصّ عليه أحد النقاد من الغرابة بحجة أنه ورد في كتاب أحد المحدثين اللاحقين بإسناد آخر (1) . ولو ذكر صاحبنا المحقق حديثاً أو سنداً من كتب المتقدمين من معاصري الإمام الطبراني مثلاً ، مما يكون متابعاً لسنده لكان الباحث رجلاً منهجياً .
... وذلك لأن الرواية في العصور المتأخرة لم تعد معتمدة ، وإنما كان اعتماد المحدثين فيها من أصحاب الروايات على ما رواه المتقدمون . ولهذا فإن كثيراً من المحدثين في أواخر مرحلة الرواية ، كالبيهقي والبغوي والحازمي وغيرهم من المحدثين في مرحلة ما بعد الرواية التي انقطعت فيها ظاهرة الرواية كانوا يولون بالغ العناية في عزو ما رووه من الأحاديث إلى من رواه من المتقدمين . يقول الإمام البيهقي في هذا الصدد :
... " توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن يكون القراءة عليهم من أصل سماعهم ، ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحّت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها قال فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم . والله أعلم " (2) ، وأكد ذلك الإمام ابن الصلاح في مقدمته (3) ، وهذا معنى قول الحاكم أيضاً " فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة لتظهر علته "(4) .
... ولذلك لا ينبغي لأمثالنا التسرع إلى الاعتراض على نقاد الحديث في حكمهم على حديث ما بأنه "غريب" أو " تفرد به فلان" ، أو " لا يعرف إلا بهذا الإسناد تفرد به فلان " ، أو غير ذلك مما يفيد الغرابة أو الضعف ، بما يروى في كتب الفوائد أو الغرائب أو الكتب التي ظهرت في أواخر مرحلة الرواية ، بحجة أنه يفوت على كبار المحدثين من الطرق والروايات ما قد حفظه الآخرون . نعم قد يفوت على بعضهم ما عند الآخرين ، وأما أن يفوت حديث على المحدثين المتقدمين جميعاً ثم يحفظه بعض المتأخرين فلا(5) . ومعلوم بدهياً أن اللاحقين عالة على السابقين في مجال الروايات ،والحديث إنما يصل إلى اللاحق عن طريق السابق .
... ولهذا قال الحاكم حين روى ذلك الحديث الذي رواه الطبراني بطريق آخر : " هذا حديث عال غريب الإسناد والمتن " . فهذا الحديث الذي رواه الحاكم ثم البيهقي لا يرد غرابة رواية صالح مرفوعاً .
... وفي ضوء ذلك فقول المحقق ( جزاه الله تعالى خيراً ) إن رواية البيهقي تؤكد أن صالحاً لم ينفرد به ، بل تابعه غير واحد عند البيهقي قول غير منهجي .
__________
(1) هذا من الأخطاء الشائعة بين كثير من المتأخرين والمعاصرين ، ولي بحث حول هذا الموضوع بعنوان : مسألة التفرد وأبعادها النقدية.
وأذكر هنا مثالاً واحداً لتلك الأخطاء على وجه السرعة ، قال الإمام الترمذي : حدثنا قتيبة حدثنا أبن لهيعة عن يزيد بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد الفهري قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره .
ثم قال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة " .
(كتاب الطهارة ، باب تخليل الأصابع 1/57 -58 ) .
وقال الشيخ أحمد شاكر : " الحديث رواه أحمد (4/229) بثلاثة أسانيد ، وأبو داود (1/57 ) ، وابن ماجه (1/87) كلهم من طريق ابن لهيعة ، وقد صرح الترمذي بانفراده به ، ولكنه ليس كذلك ، فقد قال الحافظ في التلخيص ( ص : 34) " تابعه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث ، أخرجه البيهقي وأبو بشر الدولابي والدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن الثلاثة ( يعني الليث وعمرو بن مالك ) وصححه ابن القطان " .
ومن عنده ممارسة نقدية يعرف بسهولة أن هذه الروايات متأخرة ، لم تكن معروفة لدى السابقين ،ولو كان هذا الحديث عند هؤلاء الأئمة لكان أسرع انتشاراً ، وأفضل إسناداً ، وأولى رواية من حديث ابن لهيعة لكونه ضعيفاً ،و الإمام الترمذي ليس مسئولاً إلا بنقد ما هو متدوال فيما بين معاصريه من الإنفراد المثير للشكوك ، وأما الذي وقع بعد عصره من الأوهام فلن يكون محل نقده طبعاً .
(2) نقله ابن الصلاح في مقدمته ص 120 .
(3) المصدر السابق .
(4) الحاكم النيسابوري ، معرفة علوم الحديث ص : 59-60 .
(5) وبعد كتابة هذا المبحث وقفت على كتاب " تنبيه الهاجد" وقرأت فيه بعض الأمثلة فوجدت معظمها على النمط الذي ذكره ، غير أني أريد قراءته مرة أخرى ، لأبدي دقة النقاد في كلامهم :" تفرد به فلان " أو " هذا غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه " أو نحوهما ، ومنهجهم في ذلك ، ولا أعني أنهم لا يفوتهم شيء من الأحاديث ، وذلك لأني لاحظت في أثناء تتبعي لنصوصهم وملابساتها أن لهم مقصداً آخر في قولهم " تفرد به فلان " مع كونه مروياً في كتب معاصريه ، أو زملائه ، وهو بيان الخطأ والوهم في ذلك الحديث ، وليس مجرد بيان التفرد وأنه لم يروه إلا ذلك الراوي ، وإن كان هذا هو المتبادر إلى الأذهان من ظاهر هذا النص ؛ فإن لغة النقاد تتوقف معرفتها على دراسة منهجهم وأساليبهم وخلفياتهم العلمية . والله المستعان .(1/54)
الخلاصة
... وفي نهاية هذا المبحث يحسن بنا تلخيص ما سبق وهو أن الضعيف نوعان : نوع ينجبر ونوع لا ينجبر . وأما النوع الذي ينجبر هو الحديث الذي لم يتبين خطؤه للناقد ،ويقع تحته أحاديث الضعفاء غير المتروكين ،والتي لم يخطئوا فيها ،كما يقع تحته جميع أنواع الانقطاع مثل المعلق والمدلس والمرسل والمنقطع والمعضل . والنوع الذي لا ينجبر هو ما تبن خطؤه وكان معلولاً ، سواء كان الراوي ثقة أم ضعيفاً ، أو ما تبين كذبه وكان موضوعاً ، ويكون الفرق بينهما أن الأول من مرويات الثقات ، أو الضعفاء غير المتروكين ،والثاني من مرويات الكذابين والمتروكين .
... والذي يلفت الانتباه في أسلوب المتأخرين ممن لا يسير على منهج النقاد في نقد المرويات والرواة ، هو : أن استخدام المتابعات والشواهد لتقوية الحديث كان على منهجية غير منضبطة بقواعد علمية معروفة لدى نقاد الحديث الأوائل تطبيقاً ، وذلك بناء على إطلاق القاعدة في التقوية ، بحيث يخيل لمن يتتبع بحوثهم أن شخصاً ما إذا حفظ تعريف المتابعات : الناقصة منها والقاصرة ،والشواهد صار إماماً في تطبيقها في التخريج والتحقيق .(1/55)
القسم الثاني في الموازنة العلمية
وهي على نوعين :
... النوع الأول : فيما صححه المتآخرون ، وهو معلول عند النقاد ، وفيه أمثلة:
الأحاديث الواردة في هيئة الخرور إلى السجود .
الأحاديث الواردة في جمع التقديم .
حديث عبد الله بن عمر في الطلاق البدعي .
حديث ابن مسعود في ترك رفع اليدين في الصلاة .
حديث ابن عمر في ترك رفع اليدين في الصلاة .
حديث ابن مسعود في زيادة لفظة " وبركاته " في التسليم في الصلاة .(1/56)
الموازنة العلمية
... على ضوء ما ألمحنا إليه من بعض الجوانب الواقعية التي قد يكون لها دور مباشر لإعلال النقاد بعض ما رواه الثقات من أحاديث غريبة أحببت إيراد بعض الأحاديث ، على سبيل المثال ، ليتم لنا الموازنة العلمية بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، في جو علمي ، بغض النظر عن كل ما يمكن أن يترتب عليه من الملابسات الفقهية وغيرها ، التي ربما يتحسسها البعض بطبيعة بشرية ، إذ أن جميع ما أقصد وراء ذلك تنبيه إخواننا الباحثين في الأحاديث إلى دقة النقاد المتناهية في تعليل المرويات ، وتصحيحها ، وسعة اطلاعهم وغاية تحفظهم ، وعمق فهمهم ، وقوة ذاكرتهم التي لا تزال بعيدة عن إحساس كثير من المعاصرين .
... وقد تنحصر الأمثلة في نوعين ، أحدهما تصحيح المتأخرين ما أعلّه المتقدمون ، والثاني التعليل لما صححوه .(1/57)
النوع الأول فيما صححه المتآخرون ، وهو معلول عند النقاد
(1/58)
... أما المثال الأول :
فهو ما ورد في هيئة الخرور إلى السجود من الأحاديث المختلفة ، يفيد بعضها تقديم اليدين على الركبتين ، والأخر عكس ذلك ، ومن هنا اختلف العلماء قديماً وحديثاً في اختيار أفضل صورة للخرور إلى السجود .
... وجملة ما روي في الرأي الأول حديثان أحدهما عن أبي هريرة والثاني عن ابن عمر ، وكلاهما معلولان عند النقاد ، وصحيحان عند بعض المتأخرين ، فهل خفي على النقاد ما علمه المتأخرون ؟ أم خفي على هؤلاء ما عرفه الأولون ؟ وللإجابة الواضحة نوازن بينهم بما يلي :
... أما حديث أبي هريرة فرواه أصحاب السنن وغيرهم (1) من طريق محمد بن عبد الله بن الحسن ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه " .
... هذا حديث أعله الإمام البخاري ،والترمذي والدارقطني وغيرهم (2) يتفرد محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد ، وردّه بعض المتأخرين ، قائلين بأن محمد بن عبد الله بن حسن ثقة ، وثقه النسائي وابن حبان ، ولا يضر تفرّده(3).
... ومما تنكشف به الأمور الغامضة التي قد تكون لها صلة مباشرة لردّهم ما تفرّد به محمد بن عبد الله بن حسن عن أبي الزناد ما يأتي بيانه :
... إن أبا الزناد - عبد الله بن ذكوان - من فقهاء أهل المدينة ومحدثيهم ، ورواة أخبارهم المعروفين ، أمثال مالك والأعمش وسفيان الثوري وابن عيينة وزائدة بن قدامة ، وغيرهم ، وعليهم الاعتماد في صحة أحاديثه وقبولها ، لأن أباالزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة من أصح الأسانيد لأحاديث أبي هريرة ، ويحرص حفاظ الحديث أن يسمع منه جميع ما عنده من أحاديث أبي هريرة ، ولهذا الغرض يلازمه بعضهم ويكثرون السماع منه .
... وأما محمد بن عبد الله بن حسن الذي رواه عن أبي الزناد وتفرد به ، فليس من أصحاب أبي الزناد المعروفين ، المكثرين ، وكان مقل الحديث يحب الخلوة ويلزم البادية ،ولهذا لم يوجد له عن أبي الزناد إلا حديث واحد عند أصحاب السنن(4) .
... ... فإذا جاء حديث أبي الزناد من رواية محمد بن عبد الله بن حسن دون أن يشاركه أحد من أصحابه الحفاظ المكثرين يستغربه النقاد ، لأنه لو حدّث أبو الزناد ما خفي على أحد من هؤلاء الحفاظ ، وهم أولى الناس بمعرفته وروايته عنه ، والذي يقدر على السماع منه ما لم يسمعه الآخرون ينبغي أن يكون من الذين يلازمونه ملازمة طويلة ، ويكثرون السماع منه وإلاَّ فظاهرة التفرد مما يؤثر في عدالته ، يقول عبد الرحمن بن مهدي : قيل لشعبة : مَن الذي يترك حديثه ؟ قال : الذي إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون فأكثر طرح حديثه(5) .
... ومن هنا ندرك في قول النقاد - " تفرّد به محمد بن عبدالله بن حسن عن أبي الزناد " - بعداً علمياً ، تساهل فيه البعض من المتأخرين حين صححوه اعتباراً لظاهر الإسناد .
... ومن المتآخرين من نقل قول البخاري من التاريخ مفرقاً بين شقيه ، حين قال : " أعل البخاري بأنه لا يدري اسمع محمد بن عبد الله بن حسن من أبي الزناد أم لا ؟ " معقباً عليه بقوله : " أنه ليس في ذلك شيء ، إلاّ عند البخاري ، بناء على أصله المعروف ، وهو اشتراك معرفة اللقاء ، وليس ذلك بشرط عند جمهور المحدثين بل يكفي عندهم مجرد إمكان اللقاء مع أمن التدليس ، كما هو مذكور في المصطلح ، وشرحه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ، وهذا متوفر هنا ، فإن محمد بن عبد الله لم يعرف بتدليس ، ثم هو قد عاصر أبا الزناد وأدركه زماناً طويلاً ، فالحديث صحيح لا ريب فيه " (6) . ...
... أقول : هذا تعقيب غير علمي ، فإن البخاري لم يعلّ حديثه لكونه لم يثبت عنده السماع له من أبي الزناد فحسب ، حتى يعقب عليه بغرابة مذهبه فيه ، بل إنه أعلّه بتفرّده عنه مؤيداً لذلك بقوله : ولا أدري أسمع منه أم لا ، يعني أن الراوي لم يكن معروفاً بين أصحاب أبي الزناد بحيث يبقى مجال التردد في ثبوت سماعه منه قائماً ، وتفرده عنه بحديث لم يعرفه أصحابه مما يؤخذ عليه ، ولهذا أورد الإمام البخاري هذا الحديث في ترجمة محمد بن عبدالله من التاريخ الكبير ، وقال : " ولا يتابع عليه ، ولا أدري سمع من أي الزناد أم لا " (7) .
... وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه الطحاوي ، والدارقطني والحاكم ، والبيهقي ، وغيرهم (8) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع عنه أنه كان يضع يديه قبل ركبته وقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .
... هذا حديث أعلّه الإمام الدارقطني والبيهقي والحازمي (9) لتفرّد الدراوردي به ، وصححه البعض من المتأخرين لأن الذي تفرّد به هو ثقة ، ولا ضير في تفرده(10) .
... ومن تأمل فيما قيل في أحاديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر ، يتبين له جلياً الأبعاد العلمية التي يشير إليها قولهم " تفرد به الدراوردي " ، مع أنهم يعرفون شهرته وإتقانه ، وكما يتضح له التساهل الذي اندفع به المتأخرون إلى تصحيح الحديث ، والتعقيب بأنه ثقة ولا ضير في تفرده .
... ذلك أن عبيد الله بن عمر من ثقات المدينة المشهورين بالفقه والحفظ والجمع ، ويشترك في رواية أحاديثه جمع كبير من الحفاظ المتقنين أمثال شعبة وسفيان .
... وأما عبد العزيز بن محمد الدراوردي فثقة معروف ، لكنه تكلم فيما حدث من حفظه ، خاصة في روايته عن عبيد الله بن عمر لتفرده عنه بما لا يعرفه أصحابه ، وربما يقلب أحاديث عبد الله بن عمر العمري ويجعلها عن عبيد الله بن عمر عن غير تعمد منه ، ولهذا قال النسائي : " وحديثه عن عبيد الله منكر " (11)
... فإذا تفرد الدراوردي عن عبيد الله بن عمر بما لا يعرفه الآخرون من أصحابه الثقات ، فقبوله وردّه حسب رأي الناقد الجهبذ ، وليس من المنهج العلمي إطلاق القول " بأنه ثقة ولا يضر تفرّده " لردّ ما قاله الناقد وقد أعلّوا هذا الحديث لتفرّده عنه .
... يقول البيهقي : " ولعبد العزيز الدراوردي فيه إسناد آخر ولا أراه إلا وهماً " ، ثم أورده م طريقه عن عبيد الله بن عمر بهذا الحديث وقال : " والمشهور عن ابن عمر في هذا ما رواه حماد بن زيد عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا سجد أحدكم فليضع يديه فإذا رفع فليرفعهما فإن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه " ، ورواه أيضاً من طريق ابن علية عن أيوب به وقال : " والمقصود منه وضع اليدين في السجود ، لا التقديم فيهما ، والله أعلم " (12) .
... يعني بذلك أنه لم يثبت عن ابن عمر حديث مرفوع في تقديم اليدين على الركبتين في الهوي إلى السجود ، والذي اشتهر عنه ما رواه حماد بن زيد وابن علية عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قوله في وضع اليدين على الأرض في السجود ، وهذا موضع آخر .
... ويقول البعض معقباً عليه : " وعبد العزيز ثقة ولا يجوز توهيمه بمجرد مخالفة أيوب له ، فإنه قد زاد الرفع ، وهي زيادة مقبولة منه ، ومما يدل على أنه حفظه أنه روى الموقوف والمرفوع معاً " (13) .
... وهذا مستغرب من قائله ، لأنه يكون ما رواه الدراوردي- حسب سياق كلامه - شاذاً ، لأنه خالف من هو أوثق منه - وهو أيوب السختياني - ولئن لم يكن هنا ما يمنع التجويز العقلي المجرد في حفظه لما زاده من المرفوع ، فإن القرينة التي تقوي ذلك الاحتمال منتفية هنا ، كما يبدو ذلك جلياً من قولهم " تفرّد به عبد العزيز الدراوردي " . يقول ابن مهدي : خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن : الحكم والحديث (14) .
... وأما قول المعقب : ومما يدل على أنه حفظه أنه روى الموقوف والمرفوع معاً فليس بسليم ، لأن الموقوف لم يقع فيه خلاف ، وإنما زاد عليه الدراوردي المرفوع ، ورواية الزيادة لم يعتبرها المحدثون دليلاً على حفظ الراوي ، وإلاَّ فلم يبقَ مجال للنزاع بينهم وبين الطوائف حول مسالة زيادة الثقة ، ومذهب المحدثين فيها معروف كما أوضحنا سابقاً ، اللهم إلاَّ إذا زاد الراوي القصة أو المناسبة للحديث فإن الإمام أحمد صرح بأنه دليل على حفظه وتيقظه (15) .
... وأما رواية المرفوع والموقوف معاً فقد اعتبرها النقاد دليلاً قوياً على حفظ الرواة لما رووه ، إذا وقع الخلاف فيها بينهم ، فمثلاً أن يروي بعضهم مرفوعاً ، والآخر موقوفاً ، فإذا روى أحد من الثقات هذين الوجهين معاً فمعناه أن الشيخ حدث موقوفاً مرة ، ومرفوعاً مرة أخرى ، وإنّ كلاً منهم حفظ كما سمع منه ، وليس كذلك ما رواه الدراوردي هنا ، فتأمل (16) .
__________
(1) أبو داود في كتاب الصلاة ، باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه 3/70 ( عون المعبود ) ،والنسائي في كتاب الافتتاح ، باب أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده 2/207 - الناشر : المكتبة العلمية ، بيروت - والدارقطني في كتاب الصلاة ، باب ذكر الركوع والسجود وما يجزي فيهما 1/344 -345 .
(2) البخاري في التاريخ الكبير 1/139 ، والترمذي في سننه 1/168-169 - تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ، ط : الثانية ، 1403هـ ، الناشر دار الفكر ، بيروت - والدارقطني فيما نقله ابن القيم في زاد المعاد 1/57 -58 ،وفي تهذيب سنن أبي داود 3/75 ، والشوكاني في النيل - باب هيئات السجود وكيف الهويّ إليه .
(3) من المتأخرين ابن التركماني في الجوهر النقي 2/100 والشوكاني في النيل 2/286 ، والمباركفوري في تحفة الأحوذي 2/136-137 ( تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، مكتبة ابن تيمية ، القاهر ) ، والشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المحلى 4/128-129 ،و الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/78 -79 .
(4) تهذيب التهذيب 9/252 ( طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية في الهند ) .
(5) الكفاية ص 173 .
(6) إرواء الغليل 2/79، التعليق على المحلى 4/129 ، وقد نقلا الشق الأول منه أيضاً ، لكن فرّقا بينهما للتعقيب عليهما على حدة .
(7) التاريخ الكبير للبخاري 1/139 .
(8) الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/254 ( تحقيق محمد زهري النجار ، دار الكتب العلمية ) ، والدارقطني 1/344 ، والحاكم 1/226 ( مكتبة النصر ، الرياض ) ، وقال صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، قلت : فيه نظر ، لأن حديث الدراوردي عن عبيد الله ليس من شرط مسلم ولم يخرج شيئاً منها في صحيحه .
(9) الدارقطني فيما نقله الشوكاني في النيل 2/284 ، واليهقي في السنن 2/100 ، والحازمي في الاعتبار ص 160 .
(10) الشوكاني في النيل 2/285 ، وابن التركماني في الجوهر النقي 2/100 ، والشيخ الألباني في الإرواء 2/79 ( المكتب الإسلامي ، الطبعة الثانية ) .
(11) التهذيب 6/353 - 354 .
(12) السنن 2/100 - 101 بتصرف يسير .
(13) الإرواء للشيخ الألباني 2/77 .
(14) الضعفاء للعقيلي 1/9 ( تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي ، دار الكتب العلمية ) .
(15) هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 363 في الحديث الثاني والأربعون - بتحقيق محب الدين الخطيب وغيره ، الناشر:دار المعرفة -
(16) فإن الدراوردي زاد هنا على غيره حين روى الحديث عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر ومرفوعاً ، وكان المعروف عن نافع عن ابن عمر الوقف وليس الرفع .(1/59)
... هذا كله بناء على سياق كلامه ، لكن الإمام البيهقي – رحمه الله – لم يوهم الدراوردي لأنه خالف أيوب السختياني ، وإنما لتفرّده عن عبيد الله بن عمر بما لم يعرفه الحفاظ من أصحاب عبيد الله ، كما فسرنا قوله آنفاً ، ولا يتصور قضية المخالفة بين عبد العزيز وأيوب لاختلاف مصدرهما ، فإن عبد العزيز الدراوردي رواه عن عبيد الله ، ورواه أيوب عن نافع ، وفي الحقيقة أن القضية هنا هي التفرد ، وليست المخالفة ، حيث لم يثبت عن عبيد الله شيء في هذه المسألة حتى يقال بأنه خالف أيوباً ، والله أعلم .
... وأما الأحاديث التي وردت في تقديم الركبتين فهي معلولة ولم يختلف فيها المتأخرون ، وإن رجحها الخطابي وغيره على الأحاديث الأول فإنهم لم يصححوها ، وفيها بعض النقاط العلمية التي تكمن في ترجيحهم ، كنت أردت أن أوضحها لكن ضيق المقام يجعلني أكتفي بهذا القدر ، وعلى كل أن المسألة الفقهية المتعلقة بهذه الأحاديث هي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى- :
... " أما الصلاة بكليهما فجائز بإتفاق العلماء إن شاء المصلي أن يضع ركبتيه قبل يديه ، وإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه ، وصلاته صحيحة باتفاق العلماء ، ولكن تنازعوا في الأفضل " . اهـ (1) .
... وقال الإمام النووي – رحمه الله - : " ولا يظهر ترجيح أحد المذهبين من حيث السنة " . ا هـ (2) .
__________
(1) الفتاوي 22/449 ( جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ) .
(2) المجموع 3/395( تحقيق المطيعي ) .(1/60)
المثال الثاني
... روى الإمام الترمذي وغيره عن قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ بن جبل : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخّر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعاً ، ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب " (1) .
... هذا الحديث أعلّه جماعة من النقاد قائلين بان قتيبة تفردّ به عن الليث ، ومنهم الإمام البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي وأبو سعيد بن يونس والحاكم والبيهقي وغيرهم ، وصححه بعض المتأخرين قائلين بأن قتيبة ثقة لا يضر تفرّده ، وهم الحافظ ابن القيم والعلاَّمة أحمد شاكر والشيخ ناصر الدين الألباني .
... فما سرّ الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين في تعليل حديث معاذ وتصحيحه؟ هل يعني أن النقاد كانوا يبالغون في ردّ الأحاديث حتى ولو تفرّد بها الثقات ،وأنهم يشترطون في صحتها تعدد الرواة ، حتى يرفض تعليلهم بمنتهى البساطة ويقال إنه ثقة ولا يضر تفرّده ؟ أم أن المتأخرين تساهلوا فيما دققه وحققه نقاد الحديث وفقاً على منهج علمي محكم ، اغتراراً بظاهر الإسناد ؟
... ولكي يتضح الجواب أسوق نصوص الفريقين ثم أشير إلى البعد العلمي الذي يتميَّز به كل منهما ، ومدى صلته بالواقع النقدي الحديثي موازناً بينهما إن شاء الله.
__________
(1) في أبواب الصلاة باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين 2/438 ( تحقيق أحمد شاكر ) ، وأبو داود في الصلاة باب الجمع بين الصلاتين 1/190 ( بنشر دار الكتاب العربي ، بيروت ) ، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص 120 ، والدارقطني في الصلاة باب الجمع بين الصلاتين في السفر 1/393 ( دار المحاسن للطباعة ، القاهرة ) ، والبيهقي في 3/162 ، وغيرهم ، انظر الإرواء 3/28-33(1/61)
أولاً : نصوص النقاد ومن وافقهم من المتأخرين :
... يقول أبو حاتم : " كتبت عن قتيبة حديثاً عن الليث بن سعد لم أصبه بمصر عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر فجمع بين الصلاتين ، لا أعرفه من حديث يزيد ، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث ، حدثنا أبو صالح حدثنا الليث عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث " (1) .
... ويقول أبو داود " لم يرو هذا الحديث إلاَّ قتيبة وحده " ، كما في سننه ، وكذا نقله الدارقطني (2) ، لكن الحافظ قال : " قال أبو داود هذا حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم " (3) .
... ويقول الترمذي : " وحديث الليث عن يزيد عن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل حديث غريب ، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ، رواه قرة بن خالد وسفيان الثوري وغير واحد عن أبي الزبير المكي " . ا هـ (4) .
... أما الشافعي فقد قال : " ليس الشاذ من الحديث ما يرويه الثقة ولا يرويه غيره ، ولكن الشاذ ما يرويه الثقة ويخالفه الناس مثل حديث معاذ في غزوة تبوك في الجمع بين الصلاتين " . ا هـ (5) .
... وهذا الإمام البخاري يقول : " قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ؟ فقال : كتبته مع خالد المدائني ،وقال البخاري : وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ "(6).
ويقول الطبراني : " لا يروى هذا الحديث عن معاذ إلا بهذا الإسناد تفرد به قتيبة "(7) .
ويقول البيهقي : " تفرد به قتيبة عن ليس ، عن يزيد وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة " (8) .
... ويقول الحاكم : " هذا حديث رواته أئمة ثقات ،وهو شاذ الإسناد والمتن ، لا نعرف له علة نعلله بها ، ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل لعلّلنا به الحديث ، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً "(9) .
... " ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أي حبيب ، عن أبي الطفيل رواية ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل فقلنا الحديث شاذ "
... " وقد حدثونا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول لنا : على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبي بكر بن أبي شيبة وأبي خيثمة حتى عدّ قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، فأئمة هذا الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجباً من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن واحد منهم أنه ذكر لحديث علّة فنظرنا فإذا الحديث موضوع ، وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون " (10)
... ويقول الخطيب البغدادي : " لم يرو حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ، عن الليث غير قتيبة ، وهو منكر جداً من حديثه ، ويرون أن خالداً المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه ، والله أعلم " (11)
... ويقول أبو سعيد بن يونس : " لم يحدث به إلا قتيبة ، ويقال : إنه غلط ، وإن موضع " يزيد بن أبي حبيب " " أبو الزبير " (12) .
... ويقول الحافظ الذهبي : " ما رواه أحد عن الليث سوى قتيبة ، وقد أخرج عنه في الجمع أبو داود والترمذي ، وأما النسائي فامتنع من إخراجه لنكارته " .
... ويقول أيضاً : " وما علمتهم نقموا على قتيبة سوى ذلك الحديث المعروف في الجمع في السفر ، ثم علق على قول أبي سعيد بن يونس قائلاً : فيكون – يعني قتيبة – قد غلط في الإسناد وأتى بلفظ منكر جداً ن يرون أن خالداً المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه ، فالله أعلم " .
... " قلت : - القائل الذهبي – هذا التقرير يؤدي إلى أن الليث كان يقبل التلقين ، ويروي ما لم يسمع ، وما كان كذلك بل كان حجة متثبتاً ،وإنما الغفلة وقعت فيه من قتيبة ، وكان شيخ صدق ، قد روى نحواً من مائة ألف ، فيغتفر له الخطأ في حديث واحد " . ا هـ (13) .
... أما الحافظ ابن حجر فقد أقرّ علة الحديث حين قال : " والمشهور في جمع التقديم ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، وقد أعلّه جماعة من أئمة الحديث بتفرّد قتيبة عن الليث ، وأشار البخاري إلى أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة ، حكاه الحاكم في علوم الحديث ، وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، وهشام مختلف فيه ، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري وقرّة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم " . اهـ (14) .
... وكذا قال الحافظ في موضع أخر ، وزاد فيه حكايته عن أبي داود : " وهذا حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم " ، وعن أبي حاتم وأبي سعيد بن يونس قولهما المذكور سابقاً (15) .
... وهذا العلاّمة المعلمي يقر علة الحديث قائلاً : " ومن ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني وكان خالد يُدخل على الشيوخ " (16) .
__________
(1) العلل 1/91 .
(2) سنن أبي داود 1/190 ، وسنن الدارقطني 1/393 .
(3) التلخيص الحبير 2/52 ( تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل ، مكتبة الكليات الأزهرية ) .
(4) يلاحظ أن الإمام الترمذي حسّن ا لمتن دون سنده حين قال : " حديث معاذ حسن غريب وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، حديث غريب والمعروف عند أهل العلم … " إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً ، ولعل ذلك نظراً إلى ما أشار إليه بقوله " وفي الباب " من الشواهد . وقد أوضحت ذلك بشرح مفصّل في المبحث الرابع ص : 108 وما بعدها .
على أن معظمها لا تتفق مع حديث معاذ في موضوع جمع التقديم الذي استنكروه في رواية قتيبة والذي يتفق منها لم يخل من العلة بسبب التفرّد . وانظر تفصيله في تلخيص الحبير 2/52 ، وتحفة الأحوذي 1/387 .
والجدير بالذكر أن تحسين المتن لا يلزم منه تحسين السند ، إذ أنه صرح بعلته من تفرّد قتيبة عن الليث بما يستغرب سنداً ، وأما الذي وقع في بعض النسخ من سنن الترمذي في آخر الباب " وحديث الليث حسن صحيح " فينقض ما سبق من التعليل ، مع سقوطه في معظم النسخ وهو مما يشكك في ثبوته عن الترمذي ، والله أعلم .
(5) كذا نقله الشيخ الفاضل مقبل بن هادي في رسالته " الجمع بين الصلاتين في السفر " من طبقات الشافعية لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي ص 19 ، والذي يبدو لي أن قوله مثل حديث معاذ إلى آخره من أبي عاصم لأن قول الشافعي في الشاذ نقله كثير من الأئمة كإبن رجب الحنبلي وقبله الحافظ أبي يعلى بدون التمثيل بحديث معاذ ، والله أعلم .
(6) حكاه الحاكم والبيهقي والخطيب ، انظر معرفة علوم الحديث ص 12 ، وسنن البيهقي 3/163 .
(7) المعجم الصغير 1/234 .
(8) سنن البيهقي 3/162 .
(9) يريد الحاكم بهذا العرض – فيما ظهر لي بعد تأمل طويل - : أن العلة تبرز في حديث قتيبة من خلال مخالفته لما كان الليث يحدث به أو شيخه ، ولهذا قال : " ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به " ، يعني لو كان الحديث عند الليث هكذا لاتضحت العلة لمعرفتنا الخطأ في حديث قتيبة المتمثل في عزوه إلى غير مصدره الذي تلقاه منه الليث "
فإن كان الأمر كذلك فقيه نظر إذ إن المخالفة التي ستتأكد فيما بعد من خلال رواية الرملي وعبد الله بن صالح تكفي لظهور العلة ، وقد أشار أبو حاتم قبل قليل إلى تلك المخالفة ، والله أعلى وأعلم .
(10) معرفة علوم الحديث ص 120 ( بتصرف ) .
(11) تاريخ بغداد 12/467 ( دار الكتاب العربي ) .
(12) حكاه الحافظ الذهبي وغيره ، انظر سير أعلام النبلاء 11/23 ( تحقيق شعيب الأرناؤوط ، مؤسسة الرسالة ) .
(13) سير أعلام النبلاء 11/20 ، 22، 23 ، 24 .
(14) فتح الباري 2/583 .
(15) التلخيص الحبير 2/52 .
(16) انظر ص : 85 من هذا الكتاب .(1/62)
ثانياً : نصوص المعارضين من المتأخرين :
... قال الحافظ ابن القيم : " لكن اختلف في هذا الحديث ، فمن مصحح له ومن محسن ومن قادح فيه وجعله موضوعاً – كالحاكم – وإسناده على شرط الصحيح ، لكن رمي بعلة عجيبة ، وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مُسَلّم ، فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله الرملي حدثنا المفضل بن فضالة عن الليث بن سعد (1) ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره " .
... فهذا المفضل قد تابعه قتيبة وإن كان قتيبة أجلّ من المفضل وأحفظ لكن زال تفرد قتيبه به ، ثم إن قتيبة صرح بالسماع فقال : " حدثنا " ، ولم يعنعن فكيف يقدح في سماعه مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة والحفظ والثقة والعدالة " .
... " وقد روى إسحاق بن راهويه حدثنا شبابة حدثنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل " .
... " وهذا إسناد كما ترى ، وشبابة هو شبابة بن سوار ثقة ، المتفق على الاحتجاج بحديثه ، قد روى له مسلم في صحيحه عن الليث بن سعد بهذا الإسناد على شرط الشيخين ، وأقل درجاته أن يكون مقوياً لحديث معاذ، وأصله في الصحيحين ، لكن ليس فيه جمع التقديم " .
... " ثم قال أبو داود : وروى هشام عن عروة ، عن حسين بن عبد الله ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث المفضل ، يعني حديث معاذ في جمع التقديم ، ولفظه : عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن كريب ، عن ابن عباس أنه قال : ألا اخبركم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في الزوال وإذا سافر قبل أن تزول الشمس آخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر " . اهـ (2) ، وقال ابن القيم في موضع آخر : " وإسناده – يعني حديث قتيبة – وعلته واهية " (3) .
... ويقول العلاَّمة أحمد شاكر : " وعلل الحاكم بأنه شاذ الإسناد والمتن لانعرف له علة نعلله بها ، وأطال القول في ذلك بما لا طائل تحته ، والحديث ليست له علة ، وقد صححه ابن حبان ، وليس الشاذ ما انفرد به الثقة إنما الشاذ أن يخالف الراوي غيره لمن هو أحفظ منه وأوثق " اهـ (4) .
... ويقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : " وأنا أرى أن الإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الستة ، وقد أعلّه الحاكم بما لا يقدح في صحته ، وغاية ما أعلّ به علتان ، الأولى تفرّد قتيبة به أو وهمه فيه ، والأخرى عنعنة يزيد بن أبي حبيب " .
... " والجواب عن الأولى أن قتيبة ثقة ثبت كما قال الحافظ فلا يضر تفرده كما هو مقرر في علم الحديث ، وأما الوهم فمردود إذا لا دليل عليه إلا الظن ،و الظن لا يغني من الحق شيئاً ، ولا يردّ به حديث الثقة ، ولو فتح هذا الباب لم يسلم لنا حديث " .
... " والجواب عن العلة الثانية فهو أن يزيد بن أبي حبيب غير معروف بالتدليس ، وقد أدرك أبا الطفيل حتماً فإنه ولد سنة 53 ، ومات سنة 128 ، وتوفي أبو الطفيل سنة 100 ، أو بعدها ، وعمر يزيد حينئذٍ 47 سنة " .
... " نعم قد خولف قتيبة في إسناده ، فقال أبو داود حدثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي الهمداني ، حدثنا المفضل بن فضالة والليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي هريرة ، عن أبي الطفيل به " .
... " فتابع قتيبة الرملي لكنه خالفه في إسناده فقال : الليث عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، فإما أن يصار إلى الجمع فيقال : الليث بن سعد فيه إسنادان عن أبي الطفيل ، روى أحدهما قتيبة والأخر الرملي ، ولهذا أمثلة كثيرة في الأسانيد كما هو معروف عند المشتغلين بهذا العلم الشريف " .
... " وأما أن يصار إلى الترجيح فيقال : قتيبة أجل وأحفظ من الرملي ، فروايته أصح ، والجمع عندي أولى ، لأنه لا يلزم منه تخطئة الثقة بدون حجة ، لا سيما ولرواية أبي الزبير عن أبي الطفيل أصل أصيل ، ففي موطأ مالك : عن أبي الزبير المكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، قال : فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً " .
... " ومن طريق مالك أخرجه مسلم (7/60) ، وأبو داود (1206) ، والنسائي (1/98) ، والدارمي (1/356 ) ، والبيهقي وأحمد (5/237) ، وأخرجه مسلم وابن ماجة (1070) ، وابن أبي شيبة (2/113/1) ، والطيالسي (1/126 ) ، وأحمد (5/229 ، و 230 ، و 236 ) ، من طرق أخرى عن أبي الزبير به وصرح في بعضها بالتحديث ، وزاد مسلم والطيالسي وأحمد في رواية قلت : ما حملت على ذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته " .
... " قلت : (القائل الشيخ ) وليس في شيء من هذه الطرق عن أبي الزبير ذكر جمع التقديم الوارد في حديث قتيبة ، ولا يضره ذلك لما تقرر أن زيادة الثقة مقبولة ، لا سيما ولم يتفرد به بل تابعه الرملي وإن خالفه في إسناده كما سبق "
... " على أن لهذه الزيادة شاهداً قوياً في بعض طرق حديث أنس الآتي ، وللحديث شاهد من رواية ابن عباس " ، ( ثم ساقها الشيخ مع تخريجاتها ). اهـ (5) .
***
__________
(1) وقع في سنن أبي داود ، ( ناشره دار الكتاب العربي ) : " والليث بن سعد " بدل " عن الليث بن سعد " وكذا في تحفة الأشراف للحفاظ المزي ، وقال الشيخ الألباني في الإرواء 3/30 ، بإنه هو الصواب ، ولم ينتبه له ابن القيم في الزاد ، لكن قال البيهقي في روايته عن أبي داود " عن الليث بن سعد " ، وذكر محقق سنن الدارقطني : إنه وقع في بعض النسخ من السنن " عن الليث " ، وصححه ، والصواب ما حققه الشيخ الألباني .
(2) راد المعاد 1/187 –188 .
(3) إعلام الموقعين 3/25 .
(4) هامش سنن الترمذي 2/442 ( بتصرف ) .
(5) اء الغليل 3/29-34 وللشيخ مقبل بن هادي كلام مثله وتم الإطلاع عليه مؤخراً ، وهو ضمن رسالة مطبوعة بعنوان " الجمع بين الصلاتين في السفر " ، وسيأتي إن شاء الله التعليق عليه في أخر الكلام حول هذا الحديث .(1/63)
الموازنة بين الموقفين
... يمكن لنا أن نستخلص من النصوص السابقة بشكل إجمالي أن نقاد الحديث أعلّوا حديث قتيبة بتفرده به عن الليث رغم وقوفهم على رواية الرملي عنه بمثل حديثه ، غير أن بعض المتأخرين رفضوه بحجة أن قتيبة ثقة ولا يضر تفرده ، وجعلوا رواية الرملي متابعة له .
... وفي الوقفة الأولى عند نصوص المتأخرين يتبادر إلى الذهن سؤال طبيعي : هل النقاد يردّون تفرد الثقة كما يردون تفرد الضعيف ؟ أم أن قتيبة غير معروف عندهم ؟ مما يثير في النفس اهتماماً بالغاً بالنظر المعمق في نصوص النقدة وملابسات الرواية حتى نقف على دقائق الأمور وخفاياها التي أحدثت في نفوسهم رجحاناً في احتمال الخطأ والوهم في الحديث ، فإن عمل النقاد في تصحيح الأحاديث وتعليلها يمنع منعاً قاطعاً طرح ذلك السؤال في حقهم .
... إذن فلابد في تعليلهم من سرّ سوى تفرد قتيبة إذ لا يستقل بمجرده في برهنته على الوهم ، والمتأمل في نصوصهم بإمعان يظفر بما يرشده إلى حقيقة ذلك السر ونوعيته ، مقتنعاً بأن حجتهم فيه الحفظ والفهم والمعرفة لا غير كما صرح بذلك الحاكم (1) .
... ربما تظل الأمور التي سأذكرها في سبيل توضيح حجتهم في ذلك غير ذات مقنع عند المعارضين ، لاتصالها بعامل ذاتي كثيراً ما يعلق بنفوس النقاد الجهابذة من جراء ممارستهم لفن الحديث رواية وجمعاً وحفظاً ومذاكرة ونقداً ، ويظل نزاعنا فيها اغتراراً بظواهر الإسناد ، ساقطاً من علياء الإنصاف العلمي ، ومخالفاً لقاعدة احترام أهل التخصص في تخصصهم .
... وقد استخلصه الحافظ ابن حجر من مناسبة كهذه حين قال : " وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد " .اهـ(2) .
... فأصبح الأمر واضحاً أن المتقدمين أعلوا حديث قتيبة ليس لأنهم لا يقبلون تفرد الثقة ، بل لجملة من القرائن التي تحف بتفرد قتيبة حيث أوقعت في نفوسهم رجحان احتمال الخطأ والوهم في حديثه ، ومن مارس منهج القوم ممارسة طويلة يصبح مقتنعاً بها ومطلعاً على مقتضيات كلامهم اطلاعاً دقيقاً.
... والذي يمكن استخلاصه من نصوصهم هو أن حديث معاذ في صلاة الجمع في أثناء السفر لم يعرفه الحفاظ – على اختلاف عصورهم وبلادهم – من غير طريق أبي الزبير عن أبي الطفيل عنه ، فصار أبو الزبير صاحب هذا الحديث ومصدره ، وإذا وجدوا أحداً من الرواة يحدث به خلاف ما عرفوا – كأن يضيفه إلى غير أبي الزبير ، أو يرويه بغير سياقه زيادة أو نقصاً – يفهمون أنه خطأ ووهم ، لأن المعرفة حجة لصاحبها ، وبوسعه أن يدرك الأخطاء والأوهام .
... ومن هذا النوع ما ورد عن الأعرج وأبي صالح : " ليس أحد يحدث عن أبي هريرة إلا علمنا أصادق هو أم كاذب " (3) .
... يعني أنهما حفظا جميع ما عند أبي هريرة من الأحاديث بضبط وإتقان ، بحيث لو روى أحد عنه حديثاً لم يكن معروفاً عندهما ليحكمان أنه خطأ ، وفي كتب العلل أمثلة كثيرة تبرهن على أن المعرفة من أهم المقاييس العلمية لإدراك الخطأ والصواب .
... والذي ينظر من هذه الزاوية العلمية الواقعية إلى ما ذكره الإمام الترمذي " والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل ، عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء … " تتبين له القرينة التي استخلص منها النقاد أنه قد وقع في حديث قتيبة خلل ووهم .
... لقد أضاف قتيبة حديث معاذ إلى غير مصدره إذ قال فيه : " عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل " وبغير سياقه إذ إن الحديث الذي يعرفه الحفاظ في عصور مختلفة وفي بلاد مختلفة هو في مطلق الجمع بين الصلاتين – الظهر والعصر ، المغرب والعشاء – فساقه قتيبة مغيراً لسياقه بذكر جمع التقديم فيه .
... والقرينة التي وضحها الإمام الترمذي هي قرينة علمية مطلقة يصلح أن يبرهن بها على وقوع الخلل والوهم ممن يخالف المعروف من غير تحديد أصحابه وتفصيل نقاطه ، وثمة قرينة أخرى ذكرها أبو حاتم وغيره مما يعطي لنا تحديداً وتفصيلاً اكثر من الأولى .
... يقول أبو حاتم : " كتنبت عن قتيبة حديثاً عن الليث لم أصبه بمصر عن الليث ، عن يزيد ، عن أبي الطفيل .. لا أعرفه من حديث يزيد بن أبي حبيب ، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث ، حدثنا أبو صالح حدثنا الليث عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير … " إلى آخره .
... وملخصه أن الحديث المعروف عن الليث هو عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ( الحديث بمثل لفظ قتيبة ) ، وأما ما رواه قتيبة عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب فهو مقلوب ، ذكر فيه " عن يزيد بن أبي حبيب " بدل " عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير " وهماً وخطأً .
... وهذا كلام دقيق وعلمي ومنطقي ومبني على الفهم والمعرفة ، وليس مجرد الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً كما سمعناه آنفاً من بعض المعاصرين ، وذلك لأنه لو حدث به ليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب وهشام بن سعد لحفظهما جميعاً حفاظ أصحابه وسجلهما كاتبه عبد الله بن صالح في الأصول ، ويستبعد عادة في حالة ما إذا حدث بهما جميعاً أن يحفظ طائفة من الحفاظ طريقاً منهما دون الأخرى وأن يستقل فرد آخر بحفظ ما لم يحفظوا لأن شأن الحفاظ الذين يلازمونه ويحرصون على استيعاب أحاديثه أن يحفظوهما جميعاً لو كان الليث حدث بهما .
... ولذا قال أبوحاتم : " لم أصبه بمصر عن الليث عن يزيد ، لا أعرفه من حديث يزيد ، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث ، يعني أنه لم يصبه عند حفاظ مصر من أصحابه ولا في أصوله ، والذي عندهم هو حديث الليث عن هشام عن أبي الزبير وأن قتيبة إنما تداخل عليه الإسناد وجعله عن يزيد بدلاً عن هشام "
... وهذا هو المعنى لقول أبي سعيد بن يونس : " ويقال إنه غلط ، وإن موضع يزيد بن أبي حبيب أبو الزبير " ، وعلى هذا فرواية قتيبة عن الليث عن يزيد ترجع إلى رواية الليث عن هشام بن سعد عن أبي الزبير ، فسقط قول القائل " بأن قتيبة تابعه الرملي ، والليث حدث بهما جميعاً "
... وإذا ضممنا هذه القرينة إلى السابقة وتأملنا فيهما تتضح لنا صور الأوهام وأصحابها بالتحديد ، إذ إنها تدل على أن في الحديث خطأين ، أحدهما في السند والآخر في المتن ، وأن صاحب الخطأ في السند هو قتيبة أو خالد المدائني على اختلاف بين النقاد كما سيأتي تفصيله إن شاء الله ، وخطؤه محصور في إضافة الحديث إلى يزيد بن أبي حبيب ، وصاحب الخطأ في المتن هو هشام بن سعد ، وليس قتيبة فإن الليث حدث به عن هشام .
... أما الخطأ في المتن فإن الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وعمرو بن الحارث وأبي خيثم زهير بن معاوية وأشعث بن سوار وزيد بن أبي أنيسة وقرة بن خالد وغيرهم على اختلاف بلادهم خالفوا جميعاً هشام بن سعد مع كونه ضعيفاً إلا في حديث زيد بن أسلم .
... وهشام بن سعد إذا تفرد بشيء عمن سوى زيد بن أسلم ينبغي النظر فيه ، فكيف إذا خالفه فيه جماعة من كبار الحفاظ ، لأنه لو كان الحديث عند أبي الزبير كما حدث به هشام عنه ما غفل عنه هؤلاء الحفاظ ، وما أطبقوا عليه .
... ومن هنا يبرز البعد العلمي من قول الحافظ ابن حجر السابق ذكره ، وفهمه الدقيق من نصوص النقاد ، فقد قال الحافظ : " وله طريق أخرى عن معاذ بن جبل أخرجها أبو داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل ، وهشام مختلف فيه ،وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمال والثوري وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم "
... وبهذا التقرير ننتهي إلى أن النقاد أعلّوا حديث قتيبة ليس لأن تفرده غير مقبول عندهم بل لجملة من القرائن العلمية التي لا تستقيم إلا في إحساس النقاد ، ولا يسترضي بها إلاَّ من مارس منهج القوم ، وإن حديثه ليس له أصل من حديث معاذ ، والله أعلم .
__________
(1) معرفة علوم الحديث ص 112 ( تحقيق د . السيد معظم حسين ، الناشر : المكتب التجاري للطباعة والتوزيع ، بيروت ) ، وانظر قول العلاّمة عبد الرحمن في ص 85 –86 من هذا البحث .
(2) النكت 2/726 .
(3) تهذيب التهذيب 6/291 .(1/64)
من المخطئ في السند : قتيبة ؟ أم خالد المدائني ؟
... وقد لاحظنا في نصوص المتقدمين اختلافاً في تحديد المخطئ في السند ، حيث نفهم من نص الإمام البخاري أن خالد بن القاسم المدائني هو الذي قلب الإسناد وجعل رجلاً مكان رجل وأن قتيبة كان بريئاً منه ، ووافقه الحاكم والخطيب والبيهقي وابن حزم ، ولهذا بالغ الحاكم في الحكم عليه بالوضع ، يعني وضعه خالد على الليث بن سعد بإسناد كاذب ، ويأتي بيانه في التعليق على نصوص المتأخرين إن شاء الله .
... بينما كان قول أبي حاتم يدل على أن المخطئ هو قتيبة ، وتداخل عليه حديث في حديث ، وصرح به الحافظ الذهبي حين قال :
... " يرون أن خالداً المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه ، وهذا يؤدي إلى أن الليث كان يقبل التلقين ويروي ما لم يسمع ، وما لم يسمع ، و ما كان كذلك ، بل كان حجة متثبتاً ، وإنما الغفلة وقعت فيه من قتيبة ، وكان شيخ صدق ، قد روى نحواً من مائة ألف فيغتفر له الخطأ في حديث واحد " : (1) اهـ ، وتبعه الحافظ ابن حجر في التهذيب 8/361 .
... قلت : والأقرب إلى الصواب – فيما أراه – ما قاله الإمام البخاري ، لأن احتمال الخطأ من قتيبة مستبعد إذ إنه مرت عليه فترات تستدعي انتباهه لما يحتمل أن يكون واهماً فيه وتفرض عليه رجوعه إلى الصواب الذي كان عليه معاصروه من الحفاظ ، لا سيما حين ترك الأئمة الحفاظ على ذلك الحديث من أصوله علامة مما جعل الحاكم يفهم منه أنهم سمعوا ذلك الحديث من قتيبة لغرابة الإسناد والمتن.
... ومع هذا كله لم يكن قتيبة يتردد في صحة ما كتبه عن الليث ، بل إنه كان يعتقد أنه لم يقع من جهته أي خلل في الحديث ، و من هذا الواقع اتجه الإمام البخاري العبقري – رحمه الله تعالى – إلى التأمل فيمن كتب معه الأحاديث عن الليث ، والبحث عنه ، حيث إنَّ وقوع الوهم والخلل من طرفه أمر محتمل جداً .
... فلما أخبره قتيبة أنه كتب عن الليث مع خالد المدائني ، علم أن ذلك من عمله ، وقال : وكان المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ .
... ولا يلزم منه أي مانع يتنافى مع ليث بن سعد في إمامته وإتقانه وتيقظه وعدم قبوله التلقين لأن مدلول ما ذكره الإمام البخاري ليس كما تأوله الحافظ الذهبي ، وإن كان ذلك متبادراً إلى الذهن .
... ونص الحكاية : " قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ فقال كتبته مع خالد المدائني ، وقال البخاري : كان المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ " .
... وتأولها الإمام الذهبي بما يتبادر منها إلى الذهن وحملها عليه وقال : " يرون أن خالداً المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه ، وهذا يؤدي إلى أن الليث كان يقبل التلقين ويروي ما لم يسمع ، وما كان كذلك بل كان حجة متثبتاً " . اهـ ... إن رواة الحديث لهم عادات مختلفة في تلقي الأحاديث من شيوخهم وكتابتها ، وهي – وأن كانت مذكورة بتفاصيلها في كتب المصطلح – إلا أن هناك بعض الجوانب الخفية يجد التذكير بها لكي يفهم جيداً من الإشارات التي يقتصر فيها قول النقاد في مجال النقد والإعلال .
... غير أنني أذكر هنا من الحقائق التي لها صلة بمسألة كتابة الحديث ما يوضح مقصود الإمام البخاري بقوله السابق ذكره ويزيل عنه الغموض والشبهة ، وملخصه أن رواة الحديث فيهم من يفضل كتابة الأحاديث وقت سماعها من الشيخ مباشرة ، وفيهم من يؤجلها إلى ما بعد جلسة السماع ، ولكل منهم إيجابيات وسلبيات حسب ما يتمتع به كل منهم من قوة الذاكرة وفرط الاهتمام والتركيز .
... وهؤلاء الرواة الذي يؤجلون الكتابة إلى نهاية الجلسة فيهم من يسارع إلى ناحية ويسجل كل ما سمعه من شيخه قبل الإنصراف ، وفيهم من يكتبه بعد إنصرافه إلى البيت أو إلى بلد آخر ، كما ورد عن البخاري ( رحمه الله ) من قوله : " رُبَّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، وربَّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر " (2) .
... وهم صنفان : صنف يعتمد على ذاكرته ويكتب منها بمفرده ، وصنف يكتب مع الآخر الذي يملي عليه (3) .
... وهذا الصنف الذي يعتمد على المملي يتشكل بأكثر من واحد ، وهم يجتمعون عادة بعد نهاية الحلقة ويكتبون سوياً ، وربما يكون المملي متميزاً بالحفظ والضبط والإتقان أو يكون قارئ الحديث على الشيخ أو صاحب نسخة نسخها من أصوله ، أو صاحب رقعة جمع فيها أحاديثه من هنا وهناك .
... فإذا أخطأ المملي أو أدخل في الأحاديث ما لم يسمعوا منه عمداً إما بقلب الإسناد أو رفع الموقوف أو وصل المرسل ونحو ذلك وقع ذلك في كتبهم إلا إذا استدرك عليه .
... وإذا عرفت هذا فيظهر لك مقصود البخاري أنه سأله عمّن كان يملي عليه ما سمعوه من الليث وكتب معه ، وأنه لم يسأله عمّن كان يقرأ عليه – يعني الليث – وسمع معه منه ، وبينهما فرق شاسع ، وعليه فلا يلزم من صحة ما ذكره البخاري شيء من التناقض مع عادة الليث وإمامته فإن معنى قوله : " يدخل الأحاديث على الشيوخ " يعني في حالة إملائها على زملائه ، وليس ذلك عند القراءة على الشيوخ ، والله أعلم .
... ونظيره ما قاله البرذعي : " قلت لأبي زرعة : رأيت بمصر أحاديث لعثمان بن صالح عن ابن لهيعة يعني منكرة ، فقال : لم يكن عثمان عندي يكذب ولكن يسمع الحديث مع خالد بن نجيح ، وكان خالد إذا سمعوا من الشيخ أملى عليهم ما لم يسمعوا فبُلوا به ، وبُلي أبو صالح أيضاً – يعني كاتب الليث بن سعد عبد الله بن صالح – وكان خالد يضع في كتب الشيوخ ما لم يسمعوا " (4) .
***
__________
(1) سير أعلام النبلاء 11/23-24 .
(2) هدي الساري ص 487 .
(3) استخلصته من الأمثلة الكثيرة ، منها ما ذكره ابن أبي حاتم في تقدمه الجرح والتعديل 1/248 : قال علي – يعني ابن المدائني – ذكرت ليحيى أصحاب شعبة فقال : أنا لا أسمي لك أحداً ، كان عماتها يمليها عليهم رجل إلا خالد ومعاذ ، قال : كنا إذا قمنا من عند شعبة جلس خالد ناحية ومعاذ ناحية فكتب كل واحد منهما بحفظه وأما أنا فكنت لا أكتب حتى أجئ البيت .
ومنها ما ذكره الفسوي في تاريخه : قال وكيع : ما كتبت عن الثوري حديثاً قط كنت أحفظه فإذا رجعت إلى المنزل كتبته ، ومنها ما ذكره الخطيب في التاريخ 9/25 : كان شعبة إذا قام من المجلس أملى عليهم أبو داود . =
=ومنها ما حكاه الحافظ في التهذيب 1/196 : قال آدم – يعني ابن ابي إياس - : كنت سريع الخط وكنت أكتب وكان الناس يأخذون من عندي ، ومنا ما ساقه الخطيب في تقييد العلم ص 112 : كان الأعمش يسمع من أبي إسحاق ثم يجئ فيكتبه في المنزل .
ومن هنا تصبح الأصول معرضة للأخطاء إلا إذا تحفظ أصحابها واهتم بمراجعتها ومقابلتها مع الأصول الموثوقة ، فقد قيل كتاب فلان صحيح وكتاب فلان فيه خلط .
(4) التهذيب 5/227 ، وسؤالات البرذعي ص 418 تحقيق ( سعدي الهاشمي ) .(1/65)
تعقيبات علمية على شبهات المعارضين
... وننهي الكلام حول حديث قتيبة في جمع التقديم ببعض التعقيبات العلمية التي يستحسن وضعها على نصوص المعارضين من المتأخرين كي تأخذ الموازنة شكلاً علمياً نزيهاً ومتكاملاً ، ويقف القارئ على الفوارق العلمية العميقة التي تفصل بين النقاد وغيرهم في مجال تصحيح الأحاديث وتعليلها ، بحيث تنكشف وجوه الشبهات التي دفعت بالمعارضين من المتأخرين إلى رد آراء النقاد بمنتهى السهولة.
... وقد علمنا مما سبق أن جماعة من النقاد أعلّوا حديث قتيبة بتفرده به ، وحكينا من تصريحات بعض الأئمة ما يؤكد ذلك ، كتصريح البيهقي بقوله : " وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل " ، والذهبي بقوله : " وما علمتهم نقموا على قتيبة سوى ذلك الحديث المعروف في الجمع في السفر " . والحافظ ابن حجر بقوله : " وقد اعلّه جماعة من أئمة الحديث بتفرد قتيبة عن الليث " ، مما يصحح فهم الحافظ ابن رجب واستخلاصه من اصطلاحات النقاد حين قال :
... " وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرّد به واحد وإن لم يروِ الثقات خلافه إنه لا يتابع عليه ويجعلون ذلك علة فيه " ، كما نقلنا سابقاً .
... ورغم ذلك فإن أكثر المعارضين ركزوا في ردهم ونقاشهم على قول الحاكم دون تعرضهم لمن سبقه بالتعليل من النقاد ، فلعل ذلك لمبالغته حين حكم عليه بالوضع وإلاَّ فمن سبقه في التعليل أولى بالذكر والرد ، أو ربما أنهم لم ينتبهوا إلى مضمون قولهم " تفرد به فلان " ومقصودهم به الذي ذكرناه أنفاً ، والله أعلم .
... أما التعقيبات على نصوص المعارضين وأدلتهم فلنبدأ فيها بالحافظ ابن القيم – رحمه الله – فيلخص ما ذكره في مناقشته مع الحاكم وردّ دعواه بثلاثة أمور وهي " ثقة الراوي " ، و " المتابعة " ، و " الشواهد" ، وتبعه فيها بقية المعارضين ، إلا أني أخص كلاً منهم بالتعقيبات من غير التكرار ، وذلك حسب مقتضى الأسلوب والأدلة التي ينفرد بها كل منهم .
... نعم إن الحديث إذا توفرت فيه هذه العناصر الثلاثة فلا ينبغي أن يُردّ ويُعلَّ بل يُصحح ويُقبل ، وهذا هو منهج الأئمة النقدة ، فإن المتابعة والشواهد تنفي عن الحديث احتمالات العلّة المتمثلة في الوهم أو الكذب .
... وقد علمنا مما سبق أن الأحاديث التي اعتبرها ابن القيم وغيره متابعات وشواهد ليست مما ظفروا به دون المتقدمين ، بل إنهم حكوها عن النقاد، وحسب المعطيات العلمية التي تتوفر لدينا نجزم أنها لا تصلح للشواهد ولا للمتابعة حيث إنها غير ثابتة عن مصادرها المنسوبة إليها كما سنفصلها ، ولهذا لم يعتبرها من رواها من النقاد بأدنى إعتبار .
... أما العنصر الأول – وهو ثقة الراوي – فلا نزاع فيه بين أحد من النقاد وغيرهم ، بل الحاكم صرح بذلك ، حين قال : " رواته كلهم أئمة ثقات " .
... وبما أن صحة الحديث وقبوله – أياً كان راويه – يقتضي التأكد بخلوه عن وهم الراوي أو تدخل راوٍ أجنبي فيه بقلب الإسناد أو المتن بالزيادة والنقص فإن ثقة الراوي لا توجب صحة حديثه دائماً ، وهو أمر قد صرح به الحافظ ابن القيم نفسه حين قال : " ثقة الراوي شرط لصحة الحديث وليس موجبه " (1) .
... هذا وقد وضحنا سابقاً خطأ الإسناد والمتن ومصادره وقرائنه وفق مناهج النقاد ورغم كون الرواة ثقات مشهورين .
... العنصر الثاني :
... العنصر الثاني من العناصر الثلاثة التي أشرنا إليها آنفاً هو المتابعة من قبل المُفضَّل ، فقد أورد ابن القيم ما رواه أبو داود في السنن عن يزيد بن خالد الرملي ، عن المفضل ، عن الليث ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ ، متابعة لقتيبة إذ قال :
... " فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجلّ من المفضل وأحفظ، لكن زال تفرد قتيبه به " .
... يريد ابن القيم إزالة تفرد قتيبة بالمتن وإبراء ساحته عن ذمة الغرابة – كما يبدو ذلك جلياً من سياقه – وهو أمر سليم ومتجه في رده على الحاكم في دعواه إذ إن الأمر واضح وجلي أن قتيبة لم ينفرد بإضافة المتن إلى ليث بن سعد بل شاركه فيه مفضل حسب سياقه السابق ذكره (2) .
... أما تفرد قتيبة بسنده بحيث ينبئ بخطأ ووهم وقعا فيه إما من قبل قتيبة أو من خالد المدائني الذي كتب معه الأول – وهو الصواب كما حققنا سابقاً – فلم ينكره ابن القيم بل أقره حين قال : " وإن كان قتيبة اجل من المفضل وأحفظ … ثم أن قتيبة صرح بالسماع فقال حدثنا ، ولم يعنعن فكيف يقدح في سماعه " . ...
... وقد حررنا سابقاً أن غرابة المتن إنما وقعت من جهة هشام بن سعد ، وأن غرابة السند هي من قبل قتيبة ، وعليه فإطلاق القول بأن " المفضل قد تابعه قتيبة " غير سليم وإن كان المقصود به اتفاقهما في المتن لكن يبقى بينهما اختلاف في السند ، ولذا فإنه ينبغي أن يقال : " إنه خالفه " حسب اسلوب النقاد .
... وعلى كل فإن الحكم على الحديث بأنه موضوع مردود على الحاكم ، وقد صرح به الحافظ بن حجر(3) ، اللهم إذا أراد به الحاكم سند الحديث فقط لكونه من صنع خالد المدائني ، غير أن السياق يكاد يقطع أنه أراد به الحديث سنداً ومتناً .
... وإن كان ابن القيم قد استطاع أن يرد على الحاكم في دعواه ، لكنه لم يتمكن من رده على النقاد في إعلالهم لحديث قتيبة من أجل تفرده به ، حيث إنه أضاف الحديث إلى غير مصدره الذي تلقاه منه الليث بن سعد وذلك وهم وخطأ في نظرهم .
... أما موقف بعض المعاصرين المتمثل في القول بجمع الروايتين عن الليث وثبوتها عنه من أجل التفادي عن لزوم تخطئة الثقة في حالة ما إذا تم الترجيح لأحدهما فمردود (4)، فإن الجمع أو الترجيح إنما يكون حسب ما تقتضيه المعطيات العلمية التي تتوفر لدى نقاد الحديث وذلك أمر واضح وجلي لمن يعي ويتأمل في منهجهم وأقوالهم ، وأما أن يُجمَع أو يُرجح حسب ما يتم له الاختيار العقلي المجرد فليس بمنهجهم .
... وقد ذكرنا سابقاً من المعطيات العلمية ما اقتضى ترجيح الرواية عن الليث ، عن هشام بن سعد ، عن ابن الزبير على رواية قتيبة ، عن الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، رغم تقدم قتيبة حفظاً وضبطاً (5) .
... العنصر الثالث :
... وتطرق ابن القيم إلى الشواهد لإزالة الغرابة عن المتن كلياً ، وساق فيها حديث أنس وابن عباس ، وحديثهما صحيحان مشهوران ، فقد جاءا من طرق كثيرة ، غير أنها خالية عن ذكر جمع التقديم الذي هو نقطة الاستشهاد إلاَّ في رواية شاذة استنكرها بعض النقاد .
... أما حديث أنس فقد جاء من طريق عقيل عن الزهري عنه واشتهر به حيث رواه عنه كل من المفضل بن فضالة والليث بن سعد وجابر بن إسماعيل .
... أما المفضل بن فضالة فسمع منه الحديث قتيبة بن سعيد وحسان بن عبد الله الواسطي ويحيى بن غيلان ويزيد بن خالد الرملي ، وهم متفقون لفظاً وسياقاً ، ولم يذكر أحد منهم جمع التقديم ، بل قالوا فيه : " … فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى ثم ركب "، وقال يحيى بن غيلان : " ثم ذهب " بدل " ثم ركب" (6) .
... وأما ليث بن سعد فرواه عنه شبابة بن سوار بلفظ " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر آخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما " ، هكذا روى عن شبابة عمرو الناقد والحسن بن محمد بن الصباح وعبد الله بن صالح (7) . وهذا الحديث قاطع بمفهومه أنه صلى الله عليه وسلم لا يقدم العصر إذا أراد الجمع .
... غير أن إسحاق بن راهويه خالفهم جميعاً حين قال في حديثه عن شبابه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل " وهذا مغاير لما ذكره الجماعة بحيث لا يمكن الجمع من حيث المعنى .
... وأما جابر ابن إسماعيل فحدث عن ابن وهب بلفظ " إذا عَجِل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر فيجمع بينما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء حين يغيب الشفق " هكذا رواه عن ابن وهب أبو الطاهر وعمرو بن سواد ويونس بن عبد الأعلى وسليمان بن داود وبحر بن نصر (8) .
... والمتأمل في هذه الروايات يكاد يجزم أن عقيلاً لم يذكر في حديثه عن الزهري ، عن أنس جمع التقديم ، ويعتبر حديث إسحاق بن راهويه الذي ذكر فيه جمع التقديم شاذاً مردوداً ، إذ إنه أصبح به مخالفاً لجميع أصحاب شبابة بل لما ثبت عن كل من عقيل والزهري وأنس ، أما عقيل فظاهر مما سبق ، و الزهري فقد رواه عنه يونس موافقاً لعقيل بلفظ : " إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخَّر الظهر … " الحديث ، وأما أنس فقد رواه عنه حفص بن عبيد الله بمثل حديث الزهري عن أنس (9).
... ولهذا استنكره أبو داود على إسحاق بن راهوية حسب ما حكاه الحافظ(10) كما أعله الإسماعيلي بتفرده ، وهو الصواب – وإن رده الحافظ بحجة إنه إمام – لإنه لو كان ذلك محفوظاً ما غفل عنه هذه الطائفة من الحفاظ في طبقته وفي طبقة شيخه كما مرّ أنفاً وما سأل الزهري الذي هو مصدر حديثه سالماً شيخه عن جميع التقديم لقد سأله عنه فقال : نعم ، لا بأس بذلك ، ألم ترَ إلى صلاة الناس بعرفة .
... ومما يؤيد العلة فيه أن الإمام البخاري والإمام مسلماً لم يروياه في صحيحهما عندما أخرجا حديث أنس بعديد من الطرق رغم استقلاله بفقه مهم ، ولا استأنس به البخاري في التبويب بل عنون بقوله : " باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس على الظهر ثم ركب " (11) وجدير بالذكر أن إسحاق بن راهويه من شيوخ البخاري.
... هذا وقد صرح الحافظ بقوله : " وذكر الظهر فقط هو المحفوظ عن عقيل في الكتب المشهورة ، ومقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلاَّ في وقت الثانية منهما " (12) .
__________
(1) تهذيب السنن له 3/273 ( مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري ) .
(2) وقد أشرنا إلى أن الصواب هو المتابعة من الرملي وليس من المفضل ، راجع الصفحة :140 .
(3) التهذيب 5/25 .
(4) كما صنع الشيخ الألباني في كتابه الإرواء 3/30 .
(5) انظر صفحة 140 من هذا البحث .
(6) البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب يؤخر الظهر إلى العصر .. ارتحل قبل أن تزيغ الشمس 2/582 ، وفي باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب 2/582 –583 ( فتح الباري ) .
- مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر 5/214 ( شرح النووي ) .
أبو داود في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب جواز الجمع بين الصلاتين 1/90 ( الناشر دار الكتاب العربي – لبنان ) .
الدارقطني في كتاب الصلاة باب الجمع بين الصلاتين في السفر 1/390 ( تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني ، الناشر دار المحاسن للطباعة ، القاهرة – سنة 1386) هـ .
(7) أخرجه مسلم 5/214 ( شرح النووي ) والدارقطني 1/389 .
(8) أخرجه مسلم 5/214 ، والبغوي 4/192 –193 ، وأبو داود 1/190 ، والبيهقي 3/161 .
(9) حديث يونس رواه أبو نعيم في الحلية 8/322 ( دار الكتاب العربي ) ، وحديث أنس رواه البخاري 2/581 ( فتح الباري ) .
(10) التلخيص الحبير 2/52 .
(11) فتح الباري 2/582 .
(12) فتح الباري 2/583 .(1/66)
... فأما الذي وقع في رواية الحاكم في الأربعين من طريق حسان بن عبد الله الواسطي عن المفضل بن فضالة ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن أنس من لفظه : " والعصر " في قوله : " فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر والعصر ثم ركب " ، فغير ثابت ، وإنه زيادة خطأ من الراوي عن الحاكم أو من الناسخ ، فإن البيهقي أخرج هذا الحديث عن الحاكم وجعل لفظه كلفظ الليث عن عقيل سواء (1) ، يعني لم ترِد فيه : " والعصر " .
... ومع ذلك فإن الإمام البخاري روى هذا الحديث بدون كلمة : "والعصر" ، عن حسان بن عبد الله الواسطي عن المفضل به .
... وهذا كله يدل على أن كلمة " والعصر" في رواية الحاكم زائدة خطأ ، فقد قال الحافظ : " في ثبوتها نظر " ، ومن هنا يندفع الاستدراك على الحاكم أنه لم يورد ذلك الحديث في كتابه المستدرك ، وتصحيح بعض المتأخرين له (2) .
وكذا ما رواه الإمام الطبراني عن محمد بن إبراهيم الأصبهاني حدثنا هارون بن عبد الله الحمال ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا ابن عجلان عن عبد الله بن الفضل ، عن أنس … الحديث وفيه :
... " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر فزاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر والعصر جميعاً ".
... فإنه أيضاً غير ثابت وأعلّه الطبراني بتفرد يعقوب بن محمد به ، وهو ممن تكلم فيه النقاد من أجل روايته ما لا يعرفه الحفاظ (3).
... وبعد فإن جمع التقديم لم يذكره أنس في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما وقع ذلك في بعض الروايات الشاذة ، وليس من عادة المحدثين النقاد أن يُجمع كل ما وقع شاذاً وغريباً ويُصحح ويُحتج به .
... وأما حديث ابن عباس في الجمع المطلق فمعروف ، رواه البخاري ومسلم وغيرهما (4)، لكن لم يذكر فيه أحد من الرواة جمع التقديم إلا حسين بن عبد الله بن عبيد الله عن عكرمة وكريب ،عن ابن عباس ، وحسين هذا متفق على ضعفه ، لكن بعض الرواة من الطبقة المتأخرة أسقط من السند حسين بن عبد الله وجعل الإسناد هكذا : هشام بن عروة عن كريب ، عن ابن عباس ، ولم يتنبه له من المعاصرين من صححه نظراً إلى ظاهره واغتراراً به (5) .
... وتوضيح ذلك أن حسين بن عبد الله روى عنه ابن جريج وابن عجلان وابن الهاد وهشام بن عروة ، ولكل منهم رواة كثيرون ، ولابن جريج فيه إسنادان أحدهما عن حسين مباشرة ، والثاني عن هشام بن عروة عن حسين بالواسطة كما حققه الإمام الدارقطني وفق القواعد النقدية ، ومن أراد تأكيده فليراجع سنن الإمام الدارقطني 1/389 –390 . وكذا سنن البيهقي 3/163 .
ولم يكن لهشام بن عروة فيه رواية مباشرة عن كريب وإنما عن حسين بن عبد الله ، عن كريب ، فقد قال أبو داود : " وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله ، عن كريب " .
... لكن اسماعيل بن أبي أويس أغرب الإسناد وقلبه وقال : عن أخيه عن سليمان بن بلال ، عن هشام بن عروة ، عن كريب به ، وإسماعيل هذا متكلم فيه بسرقة الحديث وغيرها (6) .
... وقد لخص الحافظ ابن حجر القول في إسماعيل ، وقال : " لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره إلاَّ أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه "(7).
... ونظيره ما رواه يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، فقد قال أبو زرعة : " هو خطأ إنما هو أبوخالد عن ابن عجلان ، عن الحسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (8) .
... ونبين مما ذكرنا أنه لم يصح في حديث ابن عباس مرفوعاً جمع التقديم غير أنه صح فيه عمله (9) ، كما صح الحديث عنه في الجمع مطلقاً ، وعلى هذا فحديث ابن عباس ليس فيه ما يصلح أن يكون شاهداً لحديث قتيبة ، فتبين لنا أن رواية قتيبة معلولة كما صرح بها النقاد، وأن جمع التقديم لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير الحج كما حكي الحافظ عن أبي داود أنه حديث منكر ، وليس في جمع التقديم حديث قائم ، يعني في غير الحج .
ثانياً : صاحب الإرواء :
... يقول : " وغاية ما أعلّ به – يعني الحاكم – علتان ، الأولى تفرّد قتيبة به أو وهمه فيه ،والأخرى عنعنة يزيد بن أبي حبيب .
... "والجواب عن الأولى أن قتيبة ثقة ثبت كما قال الحافظ فلا يضر تفرده كما هو مقرر في علم الحديث ، وأما الوهم فمردود إذ لا دليل عليه إلا الظن والظن لا يغني من الحق شيئاً ولا يرد به حديث الثقة ، ولو فتح هذا الباب لم يسلم لنا حديث " .
... " والجواب عن العلة الأخرى فهو أنّ يزيد بن أبي حبيب غير معروف بالتدليس ،وقد أدرك أبا الطفيل حتماً ، فإنه ولد سنة ( 53) ،ومات سنة (128) ، وتوفي أبو الطفيل سنة (100) ، أو بعدها وعمر يزيد حينئذ ( 47 ) سنة ".اهـ.
... أقول – وبالله التوفيق والفضل - : إنه قد سبق من التفاصيل ما يوضح الشبهة التي دفعته إلى أن يجيب عن العلة الأولى بهذا التعليق الغريب (10) .
... وأما جوابه الثاني فمبنيّ على تصوره الخاطئ لمدلول قول الحاكم ، وكان قوله إشارة واضحة إلى بعض المعطيات الواقعية التي اهتدوا بها إلى معرفة الخطأ والوهم في الرواية والجزم به .
... وقول الحاكم : " ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية " كان مدلوله واضحاً أن هذا إسناد غريب التركيب ، ولا يوجد له حديث ، ومن علم هذا من خلال حفظه وجمعه واستيعابه وغربلته يجزم أن ذلك التركيب إنما هو نتيجة وهم وخطأ .
... ونظيره ما ذكره البخاري في مناسبة تعليله لحديث كفارة المجلس الذي رواه موسى بن عقبة عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : " لا أعلم في الدنيا بهذا الإسناد غير هذا الحديث " (11) .
... ولكن فضيلة الشيخ – حفظه الله – تصوره بشيء آخر لم يقصده الحاكم ، وقال : " إن يزيد غير معروف بالتدليس … " إلى آخر قوله ، والحاكم لم يعلّه بسبب الانقطاع ولا بعنعنته حتى يعلق عليه بذلك .
***
__________
(1) سنن البيهقي 3/161 .
(2) انظر تلخيص الحبير 2/52 ( تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل ، مكتبة الكليات الأزهرية ) ، والإرواء 3/32 .
(3) الضعفاء للعقيلي 4/445 ، والتهذيب 11/396 ،وحديث الطبراني ذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 2/160 ( مكتبةالقدسي ) ،والحافظ ابن حجر في التلخيص .
(4) البخاري في كتاب تقصير الصلاة باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء 2/579 معلقاً ، ومسلم في باب جواز الجمع بين الصلاتين 5/215-218 من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة .
(5) انظر الإرواء 3/32 .
(6) راجع الكامل لابن عدي 1/323 ،والتهذيب 1/310 ، أما قول أبي دواد ففي سننه 1/188 .
(7) هدي الساري ص 391 .
(8) كتاب العلل لابن أبي حاتم 1/183.
(9) انظر فتح الباري 2/583 .
(10) راجع ص 145 وما بعدها من هذا البحث .
(11) انظر النكت 2/745 .(1/67)
تعقيبات علمية مفيدة
... وننهي الكلام في المثال الثاني ببعض التعقيبات العلمية على ما كتبه أحد الأفاضل حول حديث قتيبة الذي نحن بصدده ضمن رسالة صغيرة مطبوعة تحت عنوان " الجمع بين الصلاتين في السفر " .
... وقد اقتفى صاحبها آثار من سبقه كابن القيم والشيخ الألباني في توهين جانب العلة بذكر المتابعة والشواهد التي تم التعقيب عليها والكشف عن حقيقتها .
بيد أن في أسلوبه جوانب أخرى أثارت في نفسي عجباً واستغراباً فأردت أن أتابعها هنا بالملاحظات العلمية وعسى أن يستفيد منها عشاق هذا العلم،إن شاء الله.
... أولاً : قوله : " وأما القصة التي ساقها الحاكم والخطيب واعتمد عليها ابن حزم فإنها تدور على شيخ الحاكم محمد بن موسى بن عمران ، وقال الحافظ في لسان الميزان : وكان له فهم : ولكنه كان مغفلاً ، ذكره الحاكم ، وصالح بن حفصويه راوي القصة عن البخاري ما وجدت ترجمته ولا نكتفي بقول الإمام ابن خزيمة وكان صاحب حديث ، فثبوت القصة متوقف على صحة السند إلى البخاري رحمه الله " (1) .
... أقول : لو كان راويها متهماً بالكذب أو مجهولاً أو كان الإسناد منتقطعاً لصارت القصة مردودة ، أما إذا كان معروفاً وله فهم وعقل - وإن لم يسلم من الغفلة - فلا مانع من قبولها والاعتماد عليها ، لا سيما إذا اعتمد عليها أئمة هذا الشأن كالحكام وهو تلميذ ذلك الراوي ، وكالخطيب البغدادي والبيهقي وغيرهم .
... ذلك أن الشروط الدقيقة التي وضعوها للرواة إنما هي لحفظ الأحاديث النبوية بالدرجة الأولى ، وأما في غيرها فإنها لم تعتبر بقدر ما هو معتبر في المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن تتبع كتب التراجم وغيرها بان له ذلك .
... بيد أن المحققين من المؤلفين لا يتركون الأسانيد بدون نظر وتأمل ، بل ينظرون فقط هل الراوي متهم بالكذب ؟ أم مجهول العين والحال ؟ أم الإسناد منقطع ؟ أم خالف المعروف ؟ فإن كان الأمر كذلك فهم يعقبون عليه بذلك .
... وعلى هذه الصورة ظلت الأسانيد مستعملة منذ عصر التدوين ، ومسند الإمام أحمد مثال واضح لذلك ، إذ إن جميع ا لأسانيد التي نقلته عن الإمام أحمد تدور على أبي علي بن المذهب عن أبي بكر القطيعي عن عبد الله عنه ، وقد تكلم فيها العلماء (2) .
... على أن هذه القصة لم تكن بمجردها مصدراً وحيداً لدى النقاد لتعليل الحديث ، وإنما اعتبرها بعضهم لتحديد الجهة التي صدر منها الخطأ ، هذا وقد عبّر الخطيب والذهبي بصيغة الجمع في قولهما :" ويرون أن خالداً المدائني أدخله على الليث " مما يفيد بأن القصة لها أصل يجعلنا أن لا نتوقف عن قبولها .
... ثانياً : قوله : " وأما قول الحاكم - رحمه الله - فهؤلاء الأئمة ما كتبوه عن قتيبة إلا تعجباً من سنده ومتنه فدعوى ، فإن أئمة الحديث رحمهم الله قد يكتبون الحديث ليتخذوه حجة عند الله ، وللتوقف فيه حتى يحصل له عاضد ، وللنظر في مذهب المحدث ، والظاهر هنا الأول ذلك لأنهم لو علموا أن قتيبة واهِم في هذا لراجعوه ، كيف ويحيى بن معين قد اختبر شيخه أبا نعيم الفضل بن دكين ، والبخاري قد ردّ على بعض شيوخه كما في مقدمة الفتح ، وقد ساق الخطيب بسنده إلى قتيبة أنه قال لأحمد بن محمد : ما رأيت في كتابي من علامات الحمرة فهو علامة أحمد بن حنبل وما رأيت فيه من الخضرة فهو علامة يحيى بن معين ".اهـ(3) .
... أقول : - إن قول الحاكم " فهؤلاء الأئمة ما كتبوه عن قتيبة إلا تعجباً من سنده ومتنه " ليس مجرد دعوى ولا تخمين بل إنه قول نابع من خبرة علمية وتجربة حديثية يؤيده الواقع الملموس المألوف في أساليب المحدثين في تلقي الأحاديث وسماعها وكتابتها .
... إن البارعين من الحفاظ عادتهم أن ينتخبوا الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة من الأصول التي يمكنها لهم شيوخهم أو معاصروهم ويرسم عليها كل منهم علاماتهم الخاصة ليتميز أصحابها ، وقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " باباً خاصاً بعنوان " رسم الحافظ العلامة على ما ينتخبه " لتناول مسألة الانتخاب والإنتقاء (4) .
... وقد أود الخطيب فيه حديث قتيبة الذي نحن بصدده ثم قال : " قال أبو العباس السراج : رأيت على هذا الحديث في كتاب قتيبة ست علامات ، منها علامة أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبي بكر بن أبي شيبة وغيرهم " .
... فهؤلاء الأئمة إنما وضعوا عليه العلامات لانتخابه لمّا وجدوه غريباً ومنكراً ، وهذا ما قاله الحاكم فهؤلاء الأئمة ما كتبوه عن قتيبة إلا تعجباً من سنده ومتنه ، وإلا فتخصيصهم له بالعلامات من بين الأحاديث يثير الحيرة والغرابة .
... والجدير بالذكر أن أكثر النقاد لا ينتخبون من الأصول إلا الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة كما أوضحه الخطيب (5) . إذ إنهم يريدون به لفت الانتباه إلى غرابتها ونكارتها ، ومن هنا أصبح الانتخاب عملاً علمياً يتصل بالنقد ، ولا يقدر عليه إلا النقاد الجهابذة .
... يقول ابن معين : " دفع إليَّ ابن وهب كتابين عن معاوية بن صالح خمسمائة أو ستمائة حديث فانتقيت منها شرارها ورددت عليه الكتابين ، قيل له : لمَ أخذت شرارها ؟ قد كنت سمعتها من إنسان قبله ؟ قال : لا ، ولكن لم يكن لي بها يومئذ معرفة " (6) ، فالإنتخاب شيء وكتابة الحديث على وجهه شيء آخر .
... صحيح أن يحيى بن معين كان يختبر شيوخه لمعرفة مدى ضبطهم وإتقانهم وحفظهم ، فقد أختبر أبا نعيم وغيره ، وقصته فيه معروفه ، لكن لم يختبر بعد معرفة الأحوال ، وقد كان قتيبة بن سعيد من أقرانه المعروفين لديه ، وأما مراجعة الأخطاء فلا يمتنع عنها مهما كان مصدرها ، ولهذا وضع ابن معين علامة على حديث قتيبة ، والله أعلم .
... ثالثاً : قوله : " وأما أبو حاتم - رحمه الله - فإنه اعتمد على شيئين : أحدهما : أنه لم يجد الحديث في مصر ، وإنما حدثه به قتيبة ، وهذا لا يمنع أن يتفرد قتيبة بحديث عن الليث ، والثاني : أنه عللها برواية أبي صالح عن الليث ، عن هشام بن سعد ، وأبو صالح هو عبدالله بن صالح كاتب الليث والكلام فيه معروف ، وهشام هو ابن سعد مختلف فيه والراجح ضعفه إلاّ إذا روي عن زيد بن أسلم فهذه الرواية لا تصلح أن تكون معلة لتلك الرواية " .
... أقول : إن كان أبو حاتم الذي ليس من شأن أمثاله النقاد أن يرسلوا الكلام جزافاً في مجال النقد قد صرّح بأنه لم يصب ذلك الحديث بمصر عن الليث ، وأنه لا يعرفه من حديث يزيد بن أبي حبيب فمعناه المتبادر إلى الذهن الواعي أنه قال ذلك بعد بحثه الدقيق في الأصول المعروفة والمحفوظة لدى عبد الله بن صالح كاتب الليث وغيره وبعد مراجعته لحفاظ أصحابه ، مما يهيئ قلب الناقد للجزم بأن ذلك الحديث لا يمكن أن يكون إلا خطأ .
حيث أن تلك الأصول نالت أهمية بالغة في أوساط النقاد إذ هم كانوا يرجعون إليها في حسم الخلاف الذي يحدث عادة بين الرواة لأحاديث ليث بن سعد ، كما يبدو ذلك جلياً من صنيع البخاري في التاريخ الكبير ومن ترجمة خالد المدائني وغيره .
... ولا يعكر عليه ما تكلم بعض النقاد في عبد الله بن صالح لأن الأمر الفاصل فيه هو ما حققه الحافظ ابن حجر إذ قال : ظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن حديثه في الأول كان مستقيماً ثم طرأ عليه فيه تخليط ، فمقتضى ذلك أن ما يجئ من روايته عن أهل الحذق كيحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم فهو من صحيح حديثه وما (7)يجئ من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه .اهـ .
... فهل من المعقول أن نرفض قول أبي حاتم مجيبين عنه بأنه لا يمنع ذلك أن يتفرد قتيبة بحديث عن الليث ، لا سيما وقد صرّح النقاد قبله وبعده بأن قتيبة تفرّد به عن الليث ، دون أن نذكر رواية واحدة موافقة له .
... وقد وجدنا المعارضين سابقاً أنهم عجزوا عن ذكر رواية توافق لقتيبة ، وإنما ذكروا ما أورده النقاد من رواية ابن موهب الرملي التي تخالفه في نقطة تفرده ، فلا يبقى هنا مجال لطرح قول أبي حاتم وغيره .
... نعم إذا قمنا بالمقارنة بين قتيبة وعبد الله بن صالح بغض النظر عن الملابسات التي تنيط بروايتهما نكاد نجزم بترجيح رواية قتيبة على رواية عبدالله لما نلمس بينهما من تفاوت في المستوى العلمي ، لكن هذه المقارنة السهلة التي لا تحتاج إلى عناء لم تكن كافية لرفض ما قاله الناقد ، لأنه قد مضى من التوضيحات ما يلقي ضوءاً كاشفاً على الملابسات العلمية التي دفعت بالنقاد إلى القول بوقوع الخطأ في رواية قتيبة .
... أما اختصار أبي حاتم بذكر رواية أبي صالح فلا يعني أنه لا يعرف غيرها ، وإلاَّ لحكم عليها أيضاً بالتفرد دون أن يذهب إلى الاعتماد عليها ، وإنما أراد به مجرد الإشارة إلى ما كان يعرفه الحفاظ من رواية ليث بن سعد بدون أن يستوعب ذكر جميع الرواة ، لأنه التزم الاختصار في كتابه العلل .
... هذا وقد وقفنا على رواية موهب الرملي عن الليث الموافقة لرواية عبد الله بن صالح ، ورواية المفضل بن فضالة عن هشام بن سعد الموافقة لليث بن سعد مما يرجح جانب عبد الله بن صالح حتى ولو نظرنا نظرة سطحية .
... ومما تجدر به الإشارة أن ضعف الراوي - هشام بن سعد - ليس له دخل في مسألة الترجيح بين قتيبة وعبيد الله بن صالح لأن المهمة النقدية تتمثل هنا في النظر فيما قال الليث هل كما اخبر به عن قتيبة ؟ أم كما أخبر به عبد الله بن صالح ؟ أم أخبر بهما جميعاً مرة هكذا وفي أخرى هكذا ؟ ويصبح الترجيح بينها أو الجمع حسب القرائن والملابسات ، ولا يكون لضعف هشام بن سعد أية صلة بذلك ، كما يوهم ذلك السياق الذي نقلته آنفاً ، نعم له تأثير سلبي لو كانت المقارنة بينه وبين غيره كما لاحظناها من قبل .
... أخيراً أصبحت الهوة العلمية التي تفصل بين نقاد الحديث وغيرهم من المتأخرين في مجال النقد العلمي واضحة جلية من خلال الواقع الملموس ، حيث إن جل الأسباب التي لاحظناها في حوزة المتأخرين لم تكن قوية بقدر ما يسمح لهم المخالفة لنقاد الحديث ، مما يؤكد على ضرورة التسليم في حالة وجود اتفاق بين النقاد على تعليل حديث أو تصحيح حديث بدون استدراك أو اعتراض بناءً على مبدأ احترام أهل التخصص في مجال تخصصهم .
ملاحظة : إن جمع التقديم لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد يطمئن إليه القلب إلا في الحج ، أما في غيره من الأسفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع يؤخر صلاة الظهر إلى العصر وصلاة المغرب إلى العشاء .
__________
(1) رسالة الجمع بين الصلاتين في السفر لفضيلة الشيخ مقبل ص 31 .
(2) انظر ترجمة أبي بكر القطيعي في الميزان 1/88 ، وترجمة ابن المذهب في لسان الميزان 2/236 ، ومقدمة ابن الصلاح ص 159( مع التقييد والإيضاح ) ، وفتح المغيث 2/106-108 ( تحقيق الشيخ علي حسين علي ) .
(3) الجمع بين الصلاتين في السفر ص 31- 32 .
(4) 2/158 .
(5) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ص 156- 159 .
(6) نفس المصدر السابق .
(7) هدي الساري ص 414 .(1/68)
والذين يقولون بجواز جمع التقديم أصلهم فيه ما عمله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم عرفه فإنه مما أجمع عليه المسلمون قديماً وحديثاً والأفضل ترك التقدير في غير الحج اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم(1) .
__________
(1) انظر الفتح لمزيد من التفاصيل حول آراء الأئمة في مسألة الجمع 2/583 .(1/69)
المثال الثالث
حديث عبد الله بن عمر : قال طلقت امرأتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي حائض - فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أخرى ، فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها ، أو يمسكها ، فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء .
رواه نافع(1) وسالم(2) وأنس بن سيرين(3) ويونس بن جبير(4) وسعيد بن جبير (5)وعبد الله بن دينار(6) وطاووس(7) وأبو وائل(8) والشعبي(9) وميمون بن مهران(10) وعكرمة (11) والحسن (12) كلهم عن ابن عمر بألفاظ متقاربة ، تتفق كلها على أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالمراجعة ، وليس في شيء منها ما يدل على عدم اعتداده صلى الله عليه وسلم بالطلاق ، بل في بعضها ما يدل على العكس ،وفي أخرى ما ينص على أن ابن عمر كان يعتبر وقوع الطلاق(13).
بينما رواه أبو الزبير(14) بلفظ : أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر - وأبو الزبير يسمع - قال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً ؟ قال : طلق عبد الله بن عمر امرأته - وهي حائض - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال إن عبد الله بن عمر طلق امرأته - وهي حائض - . قال عبدالله : فردها علي ولم يرها شيئاً : وقال : إذا طهرت فليطلق ، أو ليمسك . قال ابن عمر : وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ) ، وفي رواية : " ليرجعها . فردها علي " . وفي أخرى : " فردها علي " بدون " ولم يرها شيئاً " ، وفي رواية : " فليراجعها . فردها علي ، ولم يرها شيئاً " .
... وإن كانت الروايات عن أبي الزبير متفقة على كلمة " فردها علي" التي يمكن أن تكون مفسرة لكلمة " فليراجعها " ومعبرة عن معناها المقصود ، لكن في بعض الروايات ما ينص على عدم وقوع الطلاق ، كما سبق أنفاً في رواية " ولم يرها شيئاً " الأمر الذي يشكل نقطة خلاف واضح بين حديث أبي الزبير وبين غيره من الثقات .
نصوص النقاد حول حديث ابن عمر
... قال أبو داود : " روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وأبو الزبير ومنصور عن أبي وائل معناهم كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك . وكذلك رواه محمد بن عبدالرحمن عن سالم عن ابن عمر ،وأما رواية الزهري عن سالم ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك . وروى عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير " .
... وقال الخطابي (15) : " قال أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا … " .
... وقال الشافعي (16): " نافع أثبت من أبي الزبير ،والأثبت من الحديثين أولى أن يؤخذ به إذا تخالفا . وقد وافق نافعاً غيره من أهل الثبت " .
... وقال ابن عبد البر :قوله ( ولم يرها شيئاً ) منكر عن ابن عمر … ولم يقل أحد عنه غير أبي الزبير ، وقد رواه عنه جماعة أجلة ، فلم يقل ذلك واحد منهم . وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه … ولو صحّ لكان معناه عندي - والله أعلم - ولم يرها على استقامة …"(17) .
... أضف إلى ذلك أن البخاري ومسلماً وغيرهما من أئمة الحديث والنقد اعتمدوا على حديث نافع وغيره ، في رأيهم بوقوع طلاق ابن عمر ، ويفيد صنيعهم هذا أن حديث أبي الزبير " ولم يرها شيئاً" معلول عندهم جميعاً ، كما نصّ على علته الإمام أبوداود وابن عبد البر ، ولذلك أضاف الخطابي تعليل الحديث إلى أهل الحديث قاطبة .
... ولذا قال الحافظ ابن رجب الحنبلي : " وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء ،وقالوا : إنه تفرد بما خالف الثقات ، فلا يقبل تفرده ، فإن في رواية الجماعة عن ابن عمر ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حسب عليه الطلقة من وجوه كثيرة ، وكان ابن عمر يقول لمن سأله عن الطلاق في الحيض : إن كنت طلقت واحدة أو اثنتين ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك - يعني : بارتجاع المرأة - وإن كنت طلقت ثلاثاً فقد عصيت ربك وبانت منك امرأتك " (18) .
__________
(1) البخاري في الطلاق ، باب قول الله تعالى ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء … ) برقم (5251) ومسلم في الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، برقم (1471) .
(2) البخاري في التفسير ، سورة الطلاق ، برقم (4908 ) ، في الأحكام ، باب هل يقضي القاضي … ، برقم (7160) و، ومسلم في الموضع السابق .
(3) البخاري في الطلاق ، باب إذا طلقت الحائض تعتد بتلك الطلقة ، برقم (5252)، ومسلم في الموضع السابق .
(4) البخاري في الطلاق ، باب من طلق ، وهل يواجه الرجل … برقم (5258) ، ومسلم في الموضع السابق .
(5) البخاري في الطلاق ، باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق برقم (5253 ) ، والطيالسي ص : 255 ، برقم (1871) .
(6) مسلم في الموضع السابق .
(7) مسلم في الموضع السابق ، والنسائي في الطلاق ، باب الرجعة 6/213 ، والبيهقي في الخلع والطلاق ، باب الطلاق يقع على الحائض 7/326 .
(8) الدارقطني في الطلاق والخلع 4/11 والبيهقي 7/326 .
(9) البيهقي 7/326 .
(10) البيهقي في الموضع السابق .
(11) الطبراني في الكبير 12/346 ، برقم (13305) .
(12) الدارقطني في الطلاق والخلع 4/31 ، والبيهقي في الخلع والطلاق ، باب الاختيار للزوج أن لا يطلق إلا واحدة 7/330 .
(13) انظر إرواء الغليل 7/124 - 138 ، فقد بيّن اختلاف هذه الألفاظ .
(14) أبو داود في الطلاق ، باب في طلاق السنة ، برقم (2185) ، وأحمد 2/80 ، 2/256 .
(15) فتح الباري 9/354 .
(16) اختلاف الحديث ص : 261 .
(17) في التمهيد 15/65 .
(18) جامع العلوم والحكم 1/174 .(1/70)
نصوص المتأخرين
... وقال ابن القيم ( رحمه الله ) بعد ذكره هذا الحديث : "وهذا إسناد في غاية الصحة ؛ فإن أبا الزبير غير مدفوع عن الحفظ والثقة ، و إنما يخشى من تدليسه ، فإذا قال : (سمعت) أو ( حدثني ) زال محذور التدليس ، وزالت العلة المتوهمة ، وأكثر أهل الحديث يحتجون به إذا قال : ( عن ) ولم يصرح بالسماع ، ومسلم يصحح ذلك من حديثه ، فأما إذا صرح بالسماع فقد زال الإشكال وصح الحديث وقامت الحجة … " .
... ثم رجح ابن القيم لفظ أبي الزبير لكونه أصرح في إفادة أن النبي صلىلله عليه وسلم رد الطلاق البدعي ، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتبر به ، بينما كانت ألفاظ الآخرين مبهمة في إفادة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتد بتلك التطليقة (1) .
... وكذا صححه الشيخ أحمد شاكر ( رحمه الله )(2) .
... وقال الشيخ الألباني ( رحمه الله ) : بعد نقله كلام أبي داود في حديث ابن الزبير السابق ذكره : " قلت : كذا قال . وأبو الزبير ثقة حجة ،وإنما يخشى منه العنعنة لأنه كان مدلساً وهنا قد صرح بالسماع فأمنا شبهة تدليسه ،وصحّ بذلك حديثه والحمد لله ، وقد ذهب الحافظ ابن حجر في الفتح 9/308 إلى أنه صحيح على شرط الصحيح . وهو الحق الذي لا ريب فيه ، ولكنه ناقش في دلالته على عدم وقوع طلاق الحائض " .
... "وأما دعوى أبي داود أن الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير فيرده طريق سعيد بن جبير التي قبله فإنه موافق رواية أبي الزبير هذه فإنه قال :
... فردّ النبي صلى الله عليه وسلم علي حتى طلقتها وهي طاهر وإسنادها صحيح غاية كما تقدم ، فهي شاهد قوي جداً لحديث أبي الزبير ترد قول أبي داود المتقدم ومن نحوه مثل ابن عبد البر والخطابي وغيرهم ، ومن العجيب أن هذا الشاهد لم يتعرض لذكره أحد من الفريقين مع أهميته ، فاحفظه واشكر الله على توفيقه " اهـ (3) .
__________
(1) زاد المعاد 5/226 ( 4/45-47 دار الفكر ن ط : 2 ، سنة 1392 هـ ) .
(2) مسند الإمام أحمد 5/5 ، 94 .
(3) في الإرواء 7/129-130 .(1/71)
الموازنة بين الأئمة المتقدمين والمتأخرين
... من خلال الموازنة بين هذه النصوص يتجلى الفارق المنهجي بين المتقدمين والمتأخرين في الصحيح والتضعيف ، فإذا كان أبو داود وغيره من النقاد قد سلكوا في ذلك مسلك المقارنة بين حديث أبي الزبير هذا وبين الواقع الحديثي في رواية ذلك الحديث عن ابن عمر ، لمعرفة مدى الموافقة أو المخالفة بينهما ، فإن منهج المتأخرين في ذلك يقوم أساساً على ظاهر أحوال الرواة والاتصال فيما بينهم ،وهذا المنهج هو بعينه ما نتهجه الفقهاء المتأخرون ، كما سبق تحريره في القسم الأول من هذا الكتاب .
... وقد رأينا فيما سبق أن ابن القيم وغيره من المتأخرين يركزون في تصحيح حديث أبي الزبير على أنه ثقة ،وقد صرح بالسماع ، بالإضافة إلى ما ذكره الشيخ الألباني من أن أبا الزبير لم ينفرد بلفظه المذكور ، بل تابعه سعيد بن جبير ، وسيأتي النقاش حول هذه النقطة بالتفصيل إن شاء الله تعالى ، بينما قال أبوداود وغيره : إن حديث أبي الزبير مخالف لما رواه الآخرون ،وأنه منكر غير محفوظ عن ابن عمر ، الأمر الذي يزيدنا تأكيداً على تباين منهجي بين المتقدمين والمتآخرين في التصحيح والتضعيف على النحو الذي تقدّم ذكره آنفاً .
... هذا الحكم الذي صدر من أبي داود وغيره من النقاد المتقدمين واضح إذا اعتبرت لفظة ( ولم يرها شيئاً ) من قول أبي الزبير . وأما إذا كان حديثه بلفظ : " فردها علي " دون زيادة " ولم يرها شيئاً " كما ورد في بعض الروايات التي رواها مسلم (1) وغيره فيكون مصدر هذه الجملة بعض الرواة اللاحقين ، وعليه فحديث أبي الزبير يمكن أن يكون موافقاً لما رواه معظم الثقات من أصحاب عبد الله بن عمر ، ألا وهو قولهم : " مره فليراجعها " ،ولذلك وقع في بعض الروايات" ليراجعها ، فردها علي " بالفاء ، ولعل هذا قول الشافعي رضي الله عنه " وحديث أبي الزبير شبيه به " (2) ، يعني بما روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالرجعة .
... ومن الواضح جداً أن سياق القول " ليراجعها ، فردها علي " يدل على أن كلمة " فردها علي" وصف موجز من أبي الزبير لما حدث في قصة أبن عمر في الطلاق ، أعنى بذلك : أن ابن عمر راجع امرأته وردها إليه ، فلما كان ارتجاعه لها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم نسب ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،وقال : " فردها علي " بالفاء .
... علماً أن هذه الجملة لم ترد بواو العطف في شيء من الروايات التي وجدتها ، حتى يمكن القول بأنها تضيف أمراً جديداً غير الذي أفادته الجملة الأولى ، وهو عدم الاعتداد بطلاقه البدعي .
... وأما في حالة ثبوت جملة " ولم يرها شيئاً " عن أبي الزبير ، كما يظهر ذلك جلياً من نصوص النقاد وغيرهم فإن أقرب الاحتمالات التي ترد في شأنها هو أن هذه الجملة أضافها أبو الزبير حين روى عن ابن عمر قصة طلاقه بالمعنى الذي فهمه وفق الاعتقاد السائد لدى طوائف من الناس ،وهو أن الطلاق الذي طلقه ابن عمر ثلاثة ،كما ورد عن ابن سيرين ما يدل على ذلك ، فقد قال :" مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثاً وهي حائض فأمر أن يراجعها ، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير الباهلي ، وكان ذا ثبت ، فحدثني أنه سأل ابن عمر ، فحدثه أن طلق امرأته تطليقة وهي حائض فأمر أن يراجعها ، قال : قلت : أفحسبت عليه ؟ قال فمه أو إن عجز واستحمق " (3) .
... وقد روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أرسلنا إلى نافع ،وهو يترجل في دار الندوة ذاهباً إلى المدينة ، ونحن جلوس مع عطاء : أم حسبت تطليقه عبد الله امرأته حائضاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واحدة ؟ قال : نعم (4) .
... ولذا قال الحافظ ابن رجب الحنبلي : " وكان نافع يسأل كثيراً عن طلاق ابن عمر هل كان ثلاثاً ، أو واحدة ، ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبهة " (5) . ويبدو من ذلك أن أهل مكة كانوا يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثاً .
... وإذا كان أبو الزبير مكياً فمن الطبيعي جداً أنه قد فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم :" ليراجعها " أن طلاق ابن عمر لم يقع ، إذ لو كان الطلاق البدعي قد وقع فعلاً ما أمره صلى الله عليه وسلم بالمراجعة لكونها بائنة ،وبهذا أصبح أبو الزبير مخالفاً للواقع الحديثي والعملي في حديث ابن عمر .
... أما الواقع الحديثي فأعنى به اتفاق معظم الثقات من أصحاب عبد الله بن عمر على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمراجعة دون ذكر أحد منهم كلم " فردها علي ، ولم يرها شيئاً " . وحين أدرج أبو الزبير هذه الكلمة في حديث ابن عمر أصبح مخالفاً للواقع الحديثي ، وربما يوافقه في ذلك بعض من روى قصة ابن عمر بالمعنى لكونه ممن يعتقد بعدم وقوع الطلاق البدعي ، كعبد الله بن مالك ، فقد روى سعيد بن منصور من طريقه عن ابن عمر " أنه طلق امرأته وهي حائض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس ذلك بشيء " .
... ومن خلال المقارنة السريعة بين هذا اللفظ وبين ألفاظ الثقات يظهر أن هذا الحديث رواه عبد الله بن مالك باختصار القصة وبالمعنى الذي فهمه منها – وهو عدم الاعتداد بالطلاق البدعي – وبالتالي فإن هذا الحديث لا يعطي لحديث أبي الزبير تقوية الأمر الذي يؤكد على أن حديث أبي الزبير خطأ ووهم ، وعبدالله بن مالك هذا هو الهمداني ، ليس من الرواة المعروفين ، لا سيما في حديث ابن عمر ، ولذا قال الحافظ في التقريب : " مقبول " (6) .
... وأما الواقع العملي فهو أن ابن عمر كان يرى وقوع الطلاق بدعياً ، ولهذا كان يفتي بذلك حين يسأل عن ذلك . كما ثبت ذلك أيضاً عن نافع وغيره من أصحاب عبد الله بن عمر . وإليك من النصوص ما يفيد ذلك :
... روى محمد بن سيرين عن يونس بن جبير بلفظ : "سألت ابن عمر ، قلت : رجل طلق امرأته وهي حائض ؟ فقال : هل تعرف عبد الله بن عمر فإنه طلق امرأته وهي حائض فأتي عمر النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يراجعها . قلت : تعتد بتلك التطليقة ؟ قال : فمه ، أرأيت إن عجز واستحمق " (7) .
... ورواه حميد الطويل عن يونس بن جبير قال : " قلت لابن عمر اعتددت بطلاقك إمرأتك ؟ قال : وما لي لا أعتد بها وإن كنت أسأت واستحمقت " (8).
... ورواه أنس بن سيرين : سمعت ابن عمر يقول : " طلق ابن عمر امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم قال : ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها ، قال : فقلت له : أفتحتسب بها ؟ قال: فمه " (9) .
... وفي حديث أيوب عن نافع : " فكان ابن عمر إذا سئل عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض، يقول : أما أنت إن طلقتها واحدة أو اثنتين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يرجعها ثم يمهلها حتى تحيض حيضة أخرى ، ثم يمهلها حتى تطهر ثم يطلقها قبل أن يمسها ،وأما أنت طلقتها ثلاثاً فقد عصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك " (10) .
... وفي حديث سالم عن ابن عمر " وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها ، وراجعها عبد الله كما أمره صلى الله عليه وسلم "(11) .
... وفي حديث الزبيدي عن الزهري " قال ابن عمر : فراجعتها وحسبت لها التطليقة التي طلقتها "(12) .
... وفي حديث عبيد الله بن عمر :" قلت لنافع : ما صنعت التطليقة ؟ قال : واحدة اعتد بها "(13) .
... وفي حديث ابن أبي ليلى عن نافع : " أن رجلاً طلق امرأته – وهي حائض – ثلاثاً ، فسأل ابن عمر فقال : عصيت ربك وبانت منك ، لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك " (14) .
... وعن الشعبي عن شريح : " أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً – وهي حائض – أتعتد بعد هذه الحيضة ثلاث حيض ، ولا تحتسب بهذه الحيضة التي طلقها فيها ، فقال : هو الذي الناس عليه " (15) .
... وهذه الروايات المتعددة تفيد بأن الواقع العملي لدى صاحب القصة عبد الله بن عمر وأصحابه وغيرهم هو الاعتداد بوقوع الطلاق بدعياً .
... وإذا كان لفظ أبي الزبير :" ولم يرها شيئاً " هو الصحيح ، كما يدّعي ذلك ابن حزم وغيره من المتأخرين ، فكيف صدر من ابن عمر الفتوى بخلاف ذلك ، ثم يستمر عليه أصحابه من بعده ،ولا يعقل أصلاً أن ينقل ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عدم اعتداده بالطلاق البدعي ثم يخالف ذلك قولاً وعملاً !! إلا إذا حملت كلمة " ولم يرها شيئاً " على المعنى الذي ذكره ابن عبد البر ،وهو : " لم يرها شيئاً " على المعنى الذي ذكره ابن عبد البر ، وهو : " لم يرها على استقامة لكونها لم تقع على السنة "(16) أو كما قال الإمام الشافعي :" لم يرها شيئاً أي صواباً " (17).
... يقول الحافظ ابن حجر :
... " وهذا الجمع الذي ذكره ابن عبد البر وغيره يتعين ، وهو أولى من تغليط بعض الثقات . وأما قول ابن عمر : ( أنها حسبت عليه بتطليقه ) فإنه – وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فإن فيه تسليم أن ابن عمر قال : إنها حسبت عليه ، فكيف يجتمع مع هذا قوله : ( إنه لم يعتد بها) أو ( لم يرها شيئاً ) على المعنى الذي ذهب إليه المخالف ، لأنه إن جعل الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لزم منه أن ابن عمر خالف ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بخصوصها ، لأنه قال : إنها حسبت عليه بتطليقة ، فيكون من حسبها عليه خالف كونه لم يرها شيئاً ، وكيف يظن به ذلك مع اهتمامه واهتمام أبيه بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ليفعل ما يأمره به ؟ وإن جعل الضمير في ( لم يعتد بها ) أو ( لم يرها ) لابن عمر لزم منه التناقض في القصة الواحدة فيفتقر إلى الترجيح ، ولا شك أن الأخذ بما رواه الأكثر والأحفظ أولى من مقابلة عند تعذر الجمع عند الجمهور والله أعلم (18) . ا هـ .
... هذا فقد تبين جلياً أن هذه الكلمة التي زادها أبو الزبير عن ابن عمر إنما كانت نتيجة روايته قصة ابن عمر في الطلاق بالمعنى الذي فهمه ، كما سبق بيانه ، دون أن يكون لهذه الزيادة أصل في حديث ابن عمر . ولهذا قال ابن عبدالبر : "هذا القول منكر عن ابن عمر لما ذكرنا عنه ( أنه أعتد بها ) ولم يقله أحد عنه غير أبي الزبير ، وقد رواه عنه جماعة جلة فلم يقل ذلك واحد منهم ، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه " (19) .
__________
(1) مسلم في الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، برقم (1471) .
(2) اختلاف الحديث ص : 261 .
(3) مسلم في الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، برقم (1471) .
(4) مصنف عبد الرزاق 6/309 .
(5) جامع العلوم والحكم 1/175 .
(6) التقريب 1/319 ، وانظر تهذيب الكمال 15/506 .
(7) صحيح مسلم في الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، برقم (1471) ، وقوله : "فمه ، أرأيت إن عجز واستحمق " ، يفسره ما ورد في الروايات الأخرى ، مثل حديث حميد الطويل " وما لي لا اعتد بها وإن كنت أسأت واستحمقت " ، يعني الطلاق واقع ونافذ ، ولا يمنعه العجز والحماقة .
(8) المصدر السابق .
(9) المصدر السابق .
(10) المصدر السابق .
(11) المصدر السابق .
(12) المصدر السابق .
(13) المصدر السابق .
(14) مصنف عبدالرزاق 5/311 .
(15) المصدر السابق .
(16) في التمهيد 15/65 .
(17) اختلاف الحديث ص : 262 .
(18) فتح الباري 9/354 .
(19) التمهيد 5/65 .(1/72)
... وقال أيضاً : " وكل من روى هذا الخبر من الحفاظ لم يذكروا ذلك وليس من خالف الجماعة الحفاظ بشيء فيما جاء به " (1) .
ونقل الخطابي عن أهل الحديث " لم يرو أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا " (2)
... وقال أبو داود : " والأحاديث كلها على خلاف ما قاله أبو الزبير " (3) .
... وفي الواقع أن رأيهم هذا هو الصواب ، إذ يستبعد أن يصحّ قول أبي الزبير المكي بخلاف ما اتفق عليه الثقات من أصحاب ابن عمر المدنيين والعراقيين جميعاً ، وإن تفرده هذا مع المخالفة يشكل النقطة الرئيسة للعلة التي تجعل الحديث منكراً شاذاً ، وذلك لوجود قرينة علمية قوية تدل على أن هذا التفرد من أبي الزبير كان نتيجة روايته حديث الطلاق بالمعنى الذي فهمه ، ومن المعلوم أن من أهم شروط الصحيح خلوه من العلة .
... وأما القرينة العلمية التي تؤيد نكارة حديث أبي الزبير فهي كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي ، وهذا نصه : " وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثاً ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ردها عليه لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض ،وقد روي ذلك عن أبي الزبير أيضاً من رواية معاوية بن عمار الذهني عنه ، فلعل أبا الزبير اعتقد هذا حقاً فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه ، وروى ابن لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير فقال عن جابر أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليراجعها فإنها امرأته " وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد وتفرّد بقوله : " فإنه امرأته " ولا يدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن يكون ثلاثاً فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير ، وأصحاب ابن عمر الثقات الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه " .
... " فروى أيوب عن ابن سيرين قال : مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهمهم أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثاً وهي حائض ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب يونس بن جبير ، وكان ذا ثبت ، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة ، خرجه مسلم ، وفي رواية : قال له ابن سيرين فجعلت لا أعرف للحديث وجهاً ولا أفهمه ، وهذا يدل على أنه كان قد شاع بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم أن طلاق ابن عمر كان ثلاثاً ، ولعل أبا الزبير من هذا القبيل ، ولذلك كان نافع يسأل كثيراً عن طلاق ابن عمر هل كان ثلاثاً أو واحدة ،ولما كان نافع يسأل كثيراً عن طلاق ابن عمر هل كان ثلاثاً أو واحدة ،ولما قدم نافع مكة أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبه . واستنكار ابن سيرين لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلاً معتبراً يقول : إن الطلاق المحرم غير واقع ،وأن هذا القول لا وجه له . قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث ، وسئل عمن قال لا يقع الطلاق المحرم لأنه يخالف ما أمر به فقال : هذا قول سوء رديء ، ثم ذكر قصة ابن عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض(4) .
... وفي ضوء ذلك فإن حديث أبي الزبير يكون مروياً بالمعنى الذي فهمه من قصة طلاق ابن عمر ، الأمر الذي أدى إلى وقوع مخالفة صريحة بينه وبين أصحاب ابن عمر في وقوع الطلاق وعدمه . وبالتالي أصبح قول النقاد المتقدمين بنكارة هذا الحديث أكثر واقعياً ومنهجياً من تصحيح المتأخرين له .
... وأما قول الشيخ الألباني : " وأما دعوى أبي داود أن الأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير فيرده طريق سعيد بن جبير التي قبله فإنه موافق رواية أبي الزبير هذه فإنه قال : ( فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علي ،حتى طلقتها وهي طاهر ) ،وإسنادها صحيح غاية كما تقدم ، فهي شاهد قوي جداً لحديث أبي الزبير ترد قول أبي داود المتقدم ومن نحا نحوه ، مثل ابن عبد البر والخطابي وغيرهم ،ومن العجب أن هذا الشاهد لم يتعرض لذكره أحد من الفريقين مع أهميته ، فأحفظه ، وأشكر الله على توفيقه " (5) اهـ فغير سليم منهجياً .
... وذلك أن أيوب روى عن سعيد بن جبير بلفظ " حسبت علي بتطليقة " (6) ، بينما روى هشيم عن أبي بشر عنه بلفظ " طلقت امرأتي وهي حائض ، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علي حتى طلقتها وهي طاهر " (7) . وفي هذه الحالة التي لم يتفق فيها الرواة عن سعيد بن جبير على لفظ معين لا ينبغي القول : " إنه روى الحديث بلفظ كذا " إلا بعد ترجيح ذاك اللفظ، هذا وقد روى البخاري في صحيحه معلقاً حديث أيوب عن سعيد بن جبير بلفظه المذكور ، وهو قوله : " حسبت علي بتطليقه " مع أن اللفظ الذي ذكره أبو بشر عن سعيد بن جبير لا يخالفه أصلاً ، إذ إن سياق حديث أبي بشر – وهو :" طلقت امرأتي وهي حائض ، فردّ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علي حتى طلقتها وهي طاهر "- يكون وصفاً لما آل إليه حال ابن عمر بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمراجعة ،وهو أنه صلى الله عليه وسلم رد عليه امرأته ، لكونه قد راجعها امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم . ولا يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يعتبر الطلاق نافذاً ،ولهذا كان حديث أيوب عن سعيد بن جبير صريحاً حين قال : " حسبت علي بتطليقة " .
... ولذلك لا يكون لفظ سعيد بن جبير فيما رواه عنه أبو بشر شاهداً لأبي الزبير في قوله : " ولم يرها شيئاً " إذ إنه استبدل جملة " فردها علي " مكان كلمة المراجعة التي ذكرها معظم أصحاب ابن عمر ،وبالتالي يكون سعيد بن جبير ممن خالفهم أبو الزبير ،وليس ممن وافقه .
... ولو كان أبو الزبير ذكر كلمة " فردها علي " وحدها لسلم من مخالفته الواقع الحديثي والعملي ، ولهذا السبب رواه مسلم في صحيحه ، دون ذكر كلمة " ولم يرها شيئاً " ،واكتفى بالإشارة إليها . يقول الحافظ بن حجر : " ولعله – يعني مسلماً – طوى ذكرها عمداً " (8) . وبذلك أصبح قول أبي داود ومن نحا نحوه من الأئمة سليماً ومنهجياً . والحمد لله رب العالمين .
... وفي تعقيبات الشيخ الألباني على ابن القيم ملاحظات شتى ،وفي متابعتها فوائد كثيرة ،ولذا أقول :
... وقال ابن القيم تعليقاً على حديث ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر : ( أنه امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فجعله واحدة ) : ...
... " فلعمر الله ، لو كانت هذه اللفظة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليها شيئاً ولصرنا إليها بأول وهلة ،ولكن لا ندري أقالها ابن وهب من عنده أم ابن أبي ذئب أو نافع ، فلا يجوز أن يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يتيقن أنه من كلامه .. " اهـ (9) .
... وعقبه الشيخ الألباني بقوله الطويل ، وفيه ما يلي :
" وهذا شيء عجيب من مثله :
... 1- لأن المتفق عليه بين العلماء أن الأصل قبول رواية الثقة كما رواها ، وأنه لا يجوز ردها بالاحتمالات والتشكيك ، وأن طريق المعرفة هو التصديق بخبر الثقة .
... 2- ألا ترى أنه يمكن للمخالف لابن القيم أن يرد حديثه " فردها علي ولم يرها شيئاً " بمثل الشك الذي أورده هو على حديث ابن وهب بالطعن في أبي الزبير ونحو ذلك من الشكوك ، وقد فعل ذلك بعض المتقدمين كما تقدمت الإشارة إلى ذلك .
... 3- على أن ابن وهب لم يتفرد بإخراج الحديث ، بل تابعه الطيالسي كما تقدم ، فقال : حدثنا ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر : أنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له فجعله واحدة " .
... 4- وتابعه أيضاً يزيد بن هارون حدثنا ابن أبي ذئب به . أخرجه الدارقطني من طريق محمد بن أشكاب نا يزيد بن هارون ،ومحمد بن أشكاب لم أعرفه الآن ، وبقية الرجال ثقات ، ثم عرفته (؟) فهو محمد بن الحسين بن إبراهيم أبو جعفر بن أشكاب البغدادي الحافظ من شيوخ البخاري ثقة .
... 5- وتابع ابن أبي ذئب ابن جريج عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هي واحدة " أخرجه الدارقطني أيضاً عن عياش بن محمد نا أبو عاصم عن ابن جريج . قلت : ورجاله ثقات كلهم ، وعياش بن محمد هو ابن عيسى الجوهري ، ترجمة الخطيب ، وقال (12/279) : وكان ثقة ، فهو إسناد صحيح إن كان ابن جريج سمعه من نافع .
... 6-وتابع نافعاً الشعبي بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ثم يحتسب بالتطليقة التي طلق أول مرة " وهو صحيح السند كما تقدم (10) انتهى تعقيب الشيخ الألباني .
... أقول: في تعقيب الشيخ ست نقاط مهمة ، سأذكرها على الترتيب .
... أما النقطة الأولى : فقول الشيخ إن خبر الثقة لا يرد بالاحتمال والتشكيك مستقيم جداً ، لكن لا يصح إطلاق القول بأن الأصل المتفق عليه بين العلماء قبول رواية الثقة كما رواها ،وأن طريق المعرفة هو التصديق بخبر الثقة .
... وذلك لأن اللجوء إلى هذا الأصل المتمثل فيما هو الأغلب في حال الراوي لا يتعين إلا في نهاية المطاف بعد التتبع والبحث عن القرائن المحتفة بالرواية ، وحين التأكد من خلوها من تلك القرائن التي تدل على صوابها أو على خطئها يجب النظر في الراوي الذي انفرد بها ؛ فإذا كان ثقة فأصل حديثه الصحيح ، وإن كان ضعيفاً فأصل حديثه الضعف ، وهكذا يكون الحكم حسب حال الراوي إتقاناً وحفظاً . وهذا هو القدر الوحيد من السنة الذي تنطبق عليه القاعدة المنطقية المشهورة القائلة بأن خبر الآحاد لا يفيد إلى الظن ، دون الحديث الذي يحتف به القرائن ، إيجابية كانت أو سلبية ، فإنه يختلف عن الأول في إفادة اليقين والجزم .
... ومن الجدير بالذكر أن تفرد الراوي بحديث ما لا يشكل وحده علة ولا شذوذاً ، ولا قائل بذلك من النقاد ، وأما في حالة وجود القرائن الدالة على ضبط الراوي أوخطئه فينبغي الرجوع إليها في التصحيح والتضعيف . وبذلك تستطيع أن توفق بين ما ورد في تعريف الصحيح من خلو الحديث من شذوذ وعلة – وهو أهم عناصر التصحيح على الإطلاق – وبين الجوانب التطبيقية لنقاد الحديث التي تضعف حديث الثقة حيناً ويصحح حديث الضعيف حيناً آخر ، وبين موقف أهل السنة القائل بأن رواية الثقة عن الثقة حجة وقد شرحت هذه النقطة المنهجية المهمة في القسم الأول من هذا الكتاب .
__________
(1) المصدر السابق .
(2) فتح الباري 9/354 .
(3) سنن أبي داود 2/256 .
(4) جامع العلوم والحكم 1/174/175 .
(5) في الإراواء 7/129- 130 .
(6) البخاري في الطلاق ، باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، برقم (5253) .
(7) النسائي 2/95 ، والسنن الكبرى له في الطلاق ، باب الطلاق لغير العدة 3/344 والطحاوي في شرح معاني الآثار في الطلاق باب الرجل يطلق امرأته وهي حائض 3/52 ،والطيالسي ، برقم (1871) .
(8) فتح الباري 9/353 .
(9) زاد المعاد 4/47 .
(10) إرواء الغليل 7/134 –135 .(1/73)
... والنقطة الثانية : - وهي " أنه يمكن أن يرد المخالف لابن القيم حديثه (فردها ولم يرها شيئاً ) بمثل الشك ، وقد فعل ذلك بعض المتقدمين " - فيها نظر ، بل فيها خلل منهجي واضح ، وذلك لأن النقاد المتقدمين لم يرفضوا حديث أبي الزبير بمجرد الشكوك والاحتمال ، كما أشار إليه الشيخ بقوله " وقد فعل ذلك بعض المتقدمين " ،وليس هذا منهجهم البتة ، وإنما أعلوه لمخالفته الواقع الحديثي والعملي ، كما أوضحت آنفاً . ثم إن حديث ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر يمكن تعليله بتفرده بكلمة " وهي واحدة " دون أن يذكرها أحد ممن روى عن نافع مثل مالك وأيوب وعبيد الله وغيرهم ، وليس بمجرد الشك والاحتمال ، كما سيأتي بشيء من التفصيل . إن شاء الله تعالى .
... والنقطة الثالثة والرابعة : أقول : إن قول الشيخ سليم ؛ لأن المتابعين المذكورين لابن وهب يفيدان بدون شك أن ابن وهب لم ينفرد بذلك الحديث ، وبالتالي لا يمكن أن يكون ابن وهب هو مصدر كلمة " فجعله واحدة " مما يكون رداً واضحا على ابن القيم في الاحتمال الذي ذكره .
... والنقطة الخامسة : أقول : لم يكن محتواها منهجياً ، لا سيما في التصحيح ، فإنه اعتمد فيه على ثقة الراوي واتصال السند ، ولهذا قال " ورجاله ثقات كلهم ، وعياش بن محمد ترجمه الخطيب ، وقال : وكان ثقة . فهو إسناد صحيح إن كان ابن جريج سمعه من نافع " وهو المنهج الذي يغلب في دراسات المعاصرين عموماً .
... وفي الواقع أن حديث عياش هذا فيه إشكال كبير ، يتوقف تصحيحه على معالجته ضمن إطار منهجي يحدده تعريف الصحيح . ويتجلى هذا الإشكال بوضوح من خلال مقارنة سريعة بين الروايات الواردة عن أبي عاصم عن ابن جريج في هذا الموضوع . وهو أن عياش بن محمد - وأن كان ثقة وثقه الخطيب البغدادي كما نقله الشيخ - تفرد برواية هذا الحديث عن أبي عاصم عن ابن جريج - في حدود تتبعي طبعاً - ، والمعروف عنه عن ابن جريج حديثان في موضوع الطلاق ، وهما : حديث أبي الزبير عن ابن عمر المذكور سابقاً ، وحديث طاوس عن ابن عمر مثل الروايات المشهورة .
... أما حديث عياش عن أبي عاصم فغير معروف في رواية الثقات المشهورين الذين رووا عنه قصة الطلاق ، وهذا التفرد من راو لاحق - مثل عياش بن محمد - بما لا يعرف عند سابقيه يحدث إشكالاً كبيراً ، لا ينبغي الحكم بصحة الحديث دون معالجته في ضوء ما يقتضي منهج المحدثين في النقد ، وليس من المنهج السليم أن يصحح مثل هذا التفرد على النحو الذي ذكرته أنفاً ، من تساؤلات حول أسبابه ، ولا سيما في الوقت الذي روي فيه حديث أبي عاصم عن ابن جريج من غير وجه ، بسند آخر غير الذي أورده عياش .
... وهذا لا يعني أنني أعل حديث عياش ، بمجرد هذا التفرد الذي لاحظته - في حدود تتبعي - في الطبقة المتأخرة التي يكون من شأنها أن ينتشر الحديث فيها ، وإنما كان قصدي بذلك لفت الانتباه إلى ضرورة معالجة ذلك الإشكال ليكون تصحيح الحديث المذكور وفق منهج النقاد في التصحيح والتضعيف ، هذا وإن كنت أميل إلى أن هذا التفرد مع قرينة تحيط به - وهي أن يروي حديث أبي عاصم عن ابن جريج ، وكذلك عن ابن جريج نفسه على شكل آخر ، دون ذكر كلمة " وهي واحدة " - ، فإني لا أتجاسر على تضعيفه ، إذا لم أجد أحداً من النقاد ينص على تفرده أو غرابته أو غرابته أو مخالفته .
... والخلاصة : أن تفرد عياش بن محمد عن أبي عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر بكلمة " وهي واحدة " ينبغي أخذه بعين الاعتبار حين يحكم بصحة هذه الكلمة ، أو اعتبارها متابعة لحديث ابن أبي ذئب عن نافع ، لأنه يحتمل كونها زيادة من طرف الراوي حسب فقهه من الحديث الذي يحفظه ومن المعلوم أنه لا يعول في ذلك على ثقة الراوي واتصال السند دون النظر في مدى سلامة الحديث من القرائن التي تدل على أنه وهم من الراوي سواء علم سبب هذا الوهم أم لا .
... هذا وإني أميل إلى أن عياش بن محمد وقع في سنن الدارقطني مصحفاً عن عباس بن محمد ، وذلك لأمرين ؛ أحدهما : أنني تتبعت كتاب السنن فوجدت أن الراوي كان يروي عنه أبو بكر النيسابوري شيخ الإمام الدارقطني إنما هو عباس بن محمد الدوري ، وليس عياش . والأمر الثاني أن عياش بن محمد من طبقة تلاميذ الإمام أحمد الذي كان يروي عن أبي عاصم ، وأما عباس الدوري فقد روى عن أبي عاصم مباشرة . وعلى فرض أن هذا الراوي الذي رواه عن أبي عاصم هو عباس الدوري فإن ما سبق من الإشكال ينطبق تماماً عليه ، لأن المنهج في التصحيح والتضعيف ليس هو النظر في أحوال الرواة بمفردها ، حتى لا يقال إن عباس الدوري أكثر شهرة وإتقاناً من عياش بن محمد ، فحديثه أولى بالتصحيح.
... وأما الروايات المعروفة عن أبي عاصم فقد روى هارون بن عبدالله (1) وابن عسكر(2) عنه عن ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عمر حديث الطلاق بلفظ " فردها علي " ، وكذا رواه حجاج بن محمد وعبد الرزاق (3)عن ابن جريج به ، كما اشتهر أيضاً حديث ابن جريج عن ابن طاوس عن طاوس عن ابن عمر بلفظ المراجعة ، دون ذكر كلمة " هي واحدة " ، من طريق أبي عاصم وعبد الرزاق وحجاج (4)، ورواه عن أبي عاصم عبد الله بن حجاج بن منهال(5) .
... وفي ضوء ذلك فما ذكره عياش بن محمد ، أو عباس بن محمد عن أبي عاصم عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر يكاد يكون شاذاً غريباً غير محفوظ في نقطتين ، وهما : ذكر كلمة : " هي واحدة " ،وإضافة حديث ابن جريج إلى نافع .
... وأما قول الشيخ : " فهو إسناد صحيح عن كان ابن جريج سمعه من نافع " فلعله أراد به لفت الانتباه إلى وقوع التدليس ، حيث كان يقول ذلك عادة عندما يكون الراوي متهماً بالتدليس ،وهذا يعني اهتمامه بظاهر الاتصال ، دون ربطه بما سبق ذكره من تفرد عباس أو عياش عن أبي عاصم بالحديث المذكور .
... وبقيت لنا النقطة الأخيرة للتعقيب عليها ، وهي قول الشيخ الألباني :
... وتابع نافعاً الشعبي بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ثم يحتسب بالتطليقة التي طلق أول مرة " ، وفيها نظر أيضاً ، فإنه لم يثبت هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أحد ممن روى القصة عن ابن عمر من جلة أصحابه ، وإنما ابن عمر هو الذي صرح بوقوع الطلاق البدعي ، كما ورد في روايات متعددة ، وفي أخرى بصيغة المجهول : " حسبت علي تطليقة " . وبذلك يكون الشعبي مخالفاً للآخرين حين قال : إنه صلى الله عليه وسلم قال : " ثم يحتسب بالتطليقة التي طلق أول مرة " .
... ولعل الإمام الشعبي ( رحمه الله ) قد روى القصة بالمعنى الذي يفهم من روايات الآخرين ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم احتسب ذلك الطلاق نافذاً وجعله واحدة . ولذا يكون الأقرب إلى الصواب أن كلمة " هي واحدة " أدرجها ابن أبي ذئب في حديث نافع حين روى قصة ابن عمر بالمعنى ، وربما يكون هذا الإدراج لكثرة الشبهات حول مسألة الطلاق البدعي : هل يقع أو لا .
... وهذا الإدراج يتجلى أكثر حين نقارن الروايات عن نافع عن ابن عمر ، فكلمة " هي واحدة " لم ينقلها ضمن قول النبي صلى الله عليه وسلم أحمد ممن روى عن نافع ، من امثال مالك وعبيد الله وأيوب وغيرهم من كبار الثقات ، كما لم يعرف في رواية سالم ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين وغيرهم من أصحاب ابن عمر . وكذا لم ينقل هذه الكلمة مرفوعة أحد ممن روى عن ابن جريج عن ابن طاوس عن طاوس عن ابن عمر ، وكذلك كلمة " يحتسب بتلك التطليقة " لم تثبت برفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بينما جاء في بعض الطرق الصحيحة نص على أن ابن عمر كان يعده تطليقة ، ويحتسبها ، وفي رواية صحيحة " وحسبت علي تطليقة " بصيغة المجهول .
... وفي ضوء ما سبق فإن رأي ابن القيم أن كلمة : ( وهي واحدة ) ليست من النبي صلى الله عليه وسلم ، يكون اقرب إلى الصواب . والله تعالى أعلم .
... ومن الأحاديث التي صححها بعض المتأخرين بناء على ظاهر السند ، حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه قال في رجل يطلق امرأته وهي حائض ؟ قال ابن عمر : لا يعتد بذلك (6) . وبما أن هذه الرواية عن عبيد الله مخالفة لما رواه عنه الثقات ، كابن المبارك ، والمعتمر بن سليمان ،وابن نمير ، وعبد الله بن إدريس ، قال يحيى بن معين : " وهذا غريب ليس يحدث به إلا عبد الوهاب الثقفي "(7) . لكن عقبه الإمام البيهقي بقوله " وقد روى معناه يحيى بن أيوب المصري عن عبيد الله " ، وهذا لا ينفي العلة التي أشار إليها ابن معين ، لكونه قد خالف سائر الثقات بكلمة " لا يعتد بذلك " ، وعدم ثبوتها عن عبيد الله .
... والخلاصة : إن حديث أبي الزبير ، وحديث عبد الوهاب الثقفي صححهما بعض المتأخرين بناء على ظاهر السند ، بينما أعلهما بعض النقاد المتقدمين لمخالفتهما الواقع الحديثي مع كونهما من الثقات ، الأمر الذي يؤكد تباين المنهج بين المتقدمين والمتأخرين عموماً في التصحيح والتضعيف ، وأن كثيراً من المعاصرين ينتهجون في ذلك منهج الفقهاء المتأخرين ، الذي يقوم على ظاهر السند ، وأن المتقدمين النقاد هم المرجعية الوحيدة في هذا المجال النقدي ، لما يتسمون به من دقة النظر في القرائن والملابسات التي تحيط بالحديث ، وجاء هذا المثال ليجسد ذلك بجلاء ، وهو الذي سبق تحريره في القسم الأول من هذا الكتاب . والله أعلم .
***
__________
(1) مسلم في باب الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، برقم (1471) .
(2) أبو نعم في الطلاق ، باب من طلق امرأته وهي حائض 4/152 .
(3) رواه مسلم في الموضع السابق .
(4) أبو نعيم في مستخرجه 4/151 .
(5) المصدر السابق .
(6) مصنف ابن أبي شيبة في الطلاق ، باب ما قالوا في الرجل يطلق امرأته وهي حائض 4/6 وسنن البيهقي 7/418 .
(7) سنن البيهقي في العدة ، باب لا تعتد بالحيضة التي وقع فيها الطلاق 7/418 .(1/74)
المثال الرابع
... حديث إن عبد الله بن مسعود عَلَّمَهم بصلاته صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم انه صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه في الصلاة إلا عند تكبيرة الإحرام.
... رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ :" ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فصلّى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة "(1)
... ورواه ابن إدريس وغيره عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود بلفظ : " علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ، فكبر ورفع يديه فلما ركع طبق يديه بين ركبتيه ، قال فبلغ ذلك سعداً ، فقال : صدق أخي قد كنا نفعل هذا ، ثم أمرنا بهذا يعني الإمساك على الركبتين (2). ولم يتعرض الحديث لموضوع ترك رفع اليدين في الصلاة أصلاً .وتابعه أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة والأسود عن عبد الله بن مسعود (3) . كما تابعه إبراهيم عن الأسود وعلقمة بلفظ : أتينا عبد الله( يعني ابن مسعود ) في داره قال : صلى هؤلاء خلفكم : قلنا : لا . فقال : قوموا فصلوا ، فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة ، فذهبنا لنقوم خلفه فأخذ بأيدينا فجعل بأحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فلما ركعنا وضعنا أيدينا عن ركبنا فضرب أيدينا ، وطبق كفيه ثم أدخلهما بين فخذيه (4) .
__________
(1) الترمذي في أبواب الصلاة ، باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة ، برقم (257) 2/42 ، والنسائي في الصلاة ، باب ترك ذلك ( أي رفع اليدين للركوع ) برقم (1026) 2/195 ، وفي سننه الكبرى ، كتاب التطبيق ، باب الرخصة في ترك ذلك برقم (645) 1/221 ، وأبو داود في الصلاة، باب من لم يذكر الرفع عند الركوع ، برقم (748) 1/199، وأحمد 1/388 وفي علله 1/369 ، وابن أبي شيبة في الصلاة ، باب من كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود 1/267، وأبو يعلى في مسنده 8/45 ، وفي 9/203،والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/224 ، وإنكانت ألفاظهم عن سفيان مختلفة لكنها متفقة على نفي الرفع في غير التكبيرة الأولى .
(2) أبو داود في الصلاة باب افتتاح الصلاة ، برقم ( 747) 1/199 والنسائي في الكبرى ، كتاب التطبيق ، باب التطبيق ، برقم (620) 1/215 ،وأحمد في 1/418 ، والدارقطني في الصلاة ، باب ذكر نسخ التطبيق والأمر بالأخذ بالركب 1/339 .
(3) شرح معاني الآثار 1/229، 306 .
(4) مسلم في المساجد ومواضع الصلاة ، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ، برقم (534) 1/378، وأبو عوانة في الصلاة ، باب بيان صفة الركوع في الصلاة 1/485 -486 ، والبزار في مسنده 4/356 ، والبيهقي في الصلاة ، باب ما روي في التطبيق في الركوع 2/83 .(1/75)
نصوص النقاد في تعليل حديث سفيان
قال عبد الله بن المبارك : " قد ثبت حديث من يرفع يديه ، وذكر حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، ولم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يرفع يديه إلا في أول مرة "(1) .
قال أبو داود (2): " هذا ( يعني حديث سفيان عن عاصم ) حديث مختصر من حديث طويل ، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ " .
قال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : حديث عاصم بن كليب حديث عبد الله ؟ قال : حدثناه وكيع في الجماعة قال : حدثنا سفيان عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال : قال ابن مسعود : ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة . حدثني أبي قال : حدثناه وكيع مرة أخرى بإسناد سواء ، فقال : قال عبد الله : أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه في أول . حدثني أبي قال : حدثنا أبوعبد الرحمن الضرير قال : كان وكيع ربما قال ، يعني " ثم لا يعود " ، قال أبي : كان وكيع يقول هذا من قبل نفسه ، يعني"ثم لا يعود" قال أبي : وقال الأشجعي " فرفع يديه في أول شيء " .
... " وذكرت لأبي حديث الثوري عن حصين عن إبراهيم عن عبد الله أنه كان يرفع يديه أول الصلاة ثم لا يعود ؟ قال أبي : حدثنا هشيم قال حدثنا حصين عن إبراهيم ، لم يجز به إبراهيم ، وهشيم أعلم بحديث حصين " .
... " قال أبي حديث عاصم بن كليب رواه ابن إدريس فلم يقل " ثم لا يعود " . حدثني أبي قال حدثنا يحيى بن آدم قال : أملاه عليَّ عبد الله بن إدريس من كتابه عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود قال : حدثنا علقمة عن عبد الله قال : علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فكبّر ورفع يديه ثم ركع وطبق يديه وجعلهما بين ركبتيه ، فبلغ سعداً ، فقال : صدق أخي ، قد كنا نفعل ذلك ثم أمرنا بهذا وأخذ بركبتيه ، حدثني عاصم بن كليب هكذا ، قال أبي : هذا لفظ غير لفظ وكيع ،وكيع يثبج (3) الحديث لأنه كان يحمل نفسه في حفظ الحديث(4) .
قال الإمام البخاري (5) : قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم قال : نظرت في كتاب ابن إدريس عن عاصم بن كليب ، ليس فيه "ثم لم يعد" ، فهذا أصح ، لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم ، وقال البخاري بعد ذكر حديث ابن إدريس : " وهذا ( يعني حديث ابن ادريس ) المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود " .
قال أبو حاتم (6) : " هذا ( يعني حديث سفيان عن عاصم ) خطأ يقال : وهم فيه الثوري ، فقد رواه جماعة عن عاصم ،وقال كلهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح فرفع يديه ثم ركع ، فطبق ، وجعلها بين ركبتيه ، ولم يقل أحد ما روى الثوري " .
سئل الإمام الدارقطني عن حديث علقمة عن عبد الله قال : " ألا أريكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه في أول تكبيرة ، ثم لم يعد . فقال : يرويه عاصم عن عبدالرحمن بن الأسود عن علقمة حدث به الثوري عنه : ورواه أبوبكر النهشلي عن عاصم عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه وعن علقمة عن عبد الله ،وإسناده صحيح ، وفيه لفظة ليست بمحفوظة ذكرها أبوحذيفه في حديثه عن الثوري وهي قوله : " ثم لم يعد " . وكذلك قال الحماني عن وكيع ، وأما أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير فرووه عن وكيع ، ولم يقولوا فيه : " ثم لم يعد" ، وكذلك رواه معاوية بن هشام أيضاً عن الثوري مثل ما قال الجماعة عن وكيع ، وليس قول من قال "ثم لم يعد" محفوظاً(7) .
قال ابن عبد البر نقلاً عن أبي بكر البزار : " وهو حديث لا يثبت ولا يحتج به " (8) . ولكن قول البزار في مسنده لم يكن بخصوص حديث سفيان ، بل في عموم حديث عاصم ، وهذا نصه : وهذا الحديث رواه عاصم بن كليب وعاصم في حديثه اضطراب ،ولا سيما في حديث الرفع ، ذكره عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله أنه رفع يديه في أول تكبيرة ورواه عن أبيه عن وائل بن حجر أنه رفع يديه حين افتتح الصلاة وحين رفع رأسه من الركوع وروى عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً وروى عن أبيه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه يرفع في أول مرة(9) .
قال ابن حبان : " هذا أحسن خبر روى أهل الكوفة في نفي رفع اليدين في الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه ،وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه ؛ لأن له عللاً تبطله " (10) اهـ . فهذه نصوص الأئمة النقاد الأوائل حول حديث سفيان الذي ينفي رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ، وهي كلها متفقة على أنه خطأ ووهم ، كما أن معظمها تتفق على أن مصدر هذا الخطـ هو سفيان الثوري ، وسيأتي شيء من التفصيل حول هذه النقطة . إن شاء الله تعالى .
__________
(1) شرح معاني الآثار 1/229، 306 .
(2) مسلم في المساجد ومواضع الصلاة ، باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ، برقم (534) 1/378 ، وأبو عوانة في الصلاة ، باب صفة الركوع في الصلاة 1/485-486 ، والبزار في مسنده 4/356 ، والبيهقي في الصلاة ، باب ما روي في التطبيق في الركوع 2/83 .
(3) " يثبج " معناه يضطرب .
(4) العلل ومعرفة الرجال 1/369- 371 .
(5) جزء رفع اليدين ص : 28 .
(6) العلل ص : 96 .
(7) علل الدارقطني 5/171 -173 .
(8) في التمهيد 9/22 .
(9) مسند البزار5/47-48 .
(10) نيل الأوطار 1/185 .(1/76)
نصوص من يعارض ذلك من المتأخرين
قال الزيلعي (1):
... " واعترض على هذا الحديث ( يعني حديث سفيان السابق ذكره ) بأمور :
... منها : ما رواه الترمذي بسنده عن ابن المبارك قال : لم يثبت عندي حديث ابن مسعود أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة ، وثبت حديث ابن عمر أنه رفع عند الركوع وعند الرفع من الركوع وعند القيام من الركعتين . ورواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما ، وذكره المنذري في مختصر السنن ، ثم قال : وقال غير ابن المبارك : لم يسمع عبد الرحمن من علقمة . انتهى " .
... " ومنها : تضعيف عاصم بن كليب ، نقل البيهقي في سننه عن أبي عبد الله الحاكم أنه قال : عاصم بن كليب لم يخرج حديثه في الصحيح ، وكان يختصر الأخبار فيؤديها بالمعنى ، وهذه اللفظة : ( ثم لا يعود ) غير محفوظة في الخبر. انتهى " .
... وأجاب الزيلعي عن هذين الاعتراضين ،وقال : " والجواب ؛ أما الأول : فقال الشيخ في ( الإمام ) : وعدم ثبوت الخبر عند ابن المبارك لا يمنع من النظر فيه ، وهو يدور على عاصم بن كليب وقد وثقه ابن معين ، كما قدمناه ، قال : وقول شيخنا أبي محمد المنذري :
... " وقال غيره : لم يسمع عبدالرحمن من علقمة " فغير قادح أيضاً ، فإنه عن رجل مجهول ،وقد تتبعت هذا القائل فلم أجده ،ولا ذكره ابن أبي حاتم في مراسيله ،وإنما ذكره في كتاب الجرح والتعديل ، فقال : " وعبد الرحمن ابن الأسود دخل على عائشة ، وهو صغير ، ولم يسمع منها ، وروى عن أبيه وعلقمة " ،ولم يقل : إنه مرسل . وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ،وقال : "إنه مات سنة تسع وتسعين وكانت سنه سن إبراهيم النخعي " . فإذا كانت سنه سن النخعي فما المانع من سماعه عن علقمة ، مع الاتفاق على سماع النخعي منه ، ومع هذا كله فقد صرح الحافظ أبوبكر الخطيب في كتاب ( المتفق والمفترق) في ترجمة عبد الرحمن هذا : " أنه سمع أباه وعلقمة " .
... " وقال ابن القطان في كتابه ( الوهم والإيهام ) : ذكر الترمذي عن ابن المبارك أنه قال : " حديث وكيع لا يصح " والذي عندي أنه صحيح ، وإنما المنكر فيه على وكيع زيادة " ثم لا يعود" ، وقالوا : إنه كان يقولها من قبل نفسه ،وتارة لم يقلها ،وتارة اتبعها الحديث ، كأنها من كلام ابن مسعود ، وكذلك قال الدراقطني : إنه حديث صحيح إلا هذه اللفظة ، وكذلك قال أحمد بن حنبل وغيره ،وقد اعتنى الإمام محمد بن نصر المروزي بتضعيف هذه اللفظة في كتاب رفع اليدين . انتهى كلامه " .
... ثم عقبه الزيلعي بقوله :
... " قلت : قد تابع وكيعاً على هذه اللفظة عبد الله بن المبارك كما رواه النسائي ، وقد قدمناه ، وأيضاً فغير ابن القطان ينسب الوهم فيها لسفيان الثوري لا لوكيع ، قال البخاري في كتابه ( رفع اليدين ) : " ويروى عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب ، فذكره بسنده ومتنه ، قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن أدم : نظرت في كتاب عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب فلم أجد فيه " ثم لم يعد " . قال البخاري : " وهذا أصح لأن الكتاب أثبت عند أهل العلم ، فجعل الوهم فيه من سفيان لأن ابن إدريس خالفه ،وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل : " سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فكبّر فرفع يديه ثم لم يعد" ، قال أبي : هذا خطأ ، يقال : وهم فيه الثوري ، فقد رواه جماعة عن عاصم ،وقالوا كلهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح فرفع يديه ثم ركع فطبق وجعلهما بين ركبتيه ولم يقل أحد ما روى الثوري " .
... " فالبخاري وأبو حاتم جعلا الوهم فيه من سفيان ، وابن القطان وغيره يجعلون الوهم فيه من وكيع ، وهذا اختلاف يؤدي إلى طرح القولين ،والرجوع إلى صحة الحديث لوروده عن الثقات" . ا هـ .
... هكذا أجاب الزيلعي عن الاعتراض الأول ، وأما جوابه عن الاعتراض الثاني - وهو تضعيف عاصم - فهذا نصه :
... " وأما الثاني وهو تضعيف عاصم فقد قدمنا أنه من رجال الصحيح وأن ابن معين قال فيه : ثقة ، كما ذكره الشيخ في الإمام ، قال الشيخ : وقول الحاكم : إن حديثه لم يخرج في الصحيح ، فغير صحيح ، فقد أخرج له مسلم حديثه عن أبي بردة عن علي في الهدي وحديثه عنه عن علي نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجعل خاتمي في هذه والتي يليها ، وغير ذلك ، وأيضاً فليس من شرط الصحيح التخريج عن كل عدل ، وقد أخرج هو في المستدرك عن جماعة لم يخرج لهم في الصحيح ، وقال: هو على شرط الشيخين، وإن أراد بقوله ( لم يخرج حديثه في الصحيح ) أي هذا الحديث ، فليس ذلك بعلة ، وإلا لفسد عليه مقصوده كله في كتابه المستدرك " (2).
انتهى كلام الزيلعي .
... وقال المعلق على كتاب نصب الراية ":
... " أعلم أن قول ابن المبارك هذا أوقع كثيراً من أهل الحديث في مغلطة ،وظنوا أن حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي وحسنه هو الذي قال فيه ابن المبارك : " لم يثبت " ، وهذا ليس بصحيح ؛ لأن الحديث الذي قال فيه ابن المبارك هو الذي ذكره الترمذي تعليقاً : " أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " ،ولفظه عند الطحاوي : " أنه عليه السلام كان يرفع يديه في أول تكبيره ، ثم لا يعود " ، هذا الحديث هو الذي يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم قولاً يدل على السلب الكلي المناقض للإيجاب الجزئي ، الذي يثبته حديث ابن عمر ، وهذا الحديث رواه الطحاوي في شرح الآثار ، والدارقطني وغيرهما ،ولفظه عند الدارقطني عن عبد الله ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة " .
" وهذا إن ثبت يناقض حديث ابن عمر ، فلهذه النكتة أورده الترمذي عقيب حديث ابن عمر ، وضعفه ،ولم يورده بعد حديث ابن مسعود الذي رواه من فعله ، وأما الحديث الذي حكى به ابن مسعود فعله صلى الله عليه وسلم بفعله فهو الذي رواه الترمذي وحسنه ، وابن حزم في المحلى 4/88 وصححه ،وأحمد وغيرهم ، وهذا لايعارض حديث ابن عمر ،وهو ثابت عند الترمذي ،وبين الحديثين بون بائن ، وقع في الاشتباه من لم يعط النظر حقه ، فجر قول ابن المبارك إلى الحديث الفعلي ، وهذا أبعد عن سواء الطريق ،وهذا واضح ، لا سيما في النسخة التي أفرد فيها بعد قول ابن المبارك ، باب من لم يرفع يديه إلا في أو ل مرة ، كما في نسخة عبد الله بن سالم البصري شيخ الشيخ الشاه ولي الله الدهلوي الموجودة في مكتبة بير جهندا بالسند ،وفي نسخة الشيخ عبد الحق ، كما في شرح سفر السعادة ، ثم أورد بعدها حديث ابن مسعود وحسنه ،وذكر من عمله به ،وهذا هو الموافق لعادة الترمذي أنه إذا كان في مسألة اختلاف بين الحجازيين والعراقيين يورد مستدلهما في أبواب متعاقبة . والله أعلم (3) انتهى كلام المعلق .
__________
(1) نصب الراية 1/394 .
(2) نصب الراية 1/396-397 .
(3) نصب الراية ( هامش الكتاب ) 1/395 .(1/77)
الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين
... من خلال الموازنة بين الموقفين المذكورين يتجلى بوضوح أن النقاد المتقدمين أعلوا حديث سفيان عن عاصم عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود ، لكونه قد تضمن كلمة " ثم لم يعد " أو كلمة " لم يرفع يديه إلا في أول مرة " التي تعد غريبة في حديث عاصم ، إذ لم يذكرها أحد من أصحابه ، لا سيما ابن إدريس ، وهو صاحب كتاب ، بل جعلوا حديثه في موضع أخر ،وهو تطبيق اليدين في الركوع ، وهكذا رواه أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود ، وإبراهيم النخعي عن علقمة ، كما سبق بيان ذلك في مستهل المثال .
... وتبين بذلك أن كلمة " لم يرفع يديه إلا في أول مرة " تفرد بها سفيان حين أضافها في حديث عاصم ،وهي معروفة في أصل حديثه الذي رواه عنه ابن إدريس وغيره من الثقات ، ولا في حديث شيخه : عبد الرحمن بن الأسود ، إذ اشتهر حديثه بدونها من طريق بن أبي إسحاق عنه ، ولا في حديث شيخ شيخه: علقمة ، حيث رواه عنه إبراهيم النخعي بدون هذه الزيادة ،وأنهم جعلوا جميعاً هذا الحديث في موضوع التطبيق وغيره ، فكيف يكون عند سفيان ما ليس عند السابقين ؟ ومعنى ذلك أن سفيان اختصر هذا الحديث الذي عند عاصم ، وساق لفظه حسب ما فهم ، بدل أن يرويه بسياقه المفصل ، ولهذا قال الإمام أبو داود : " هذا حديث مختصر من حديث طويل ،وليس هو بصحيح على هذا اللفظ " . وهذا طبعاً حسب شعور النقاد ،وإن لم يكن لدينا هذا الشعور العلمي فإن الأمر في مثل هذا المجال النقدي ينبغي تسليمه لهم دون نقاش ؛ لكونه قائماً على حفظهم وفهمهم ومعرفتهم .
... بيد أن بعض المتأخرين صححوا تلك اللفظة بحجة كون راويها ثقة ، الأمر الذي يؤكد ما تقدم بيانه في القسم الأول من هذا الكتاب من وجود تباين منهجي بين نقاد الحديث وبين غيرهم في التصحيح والتضعيف ،وأنه لا ينبغي الخلط بينهم في ذلك ، بل يجب الرجوع في هذا المجال النقدي إلى منهج المحدثين الأوائل .
(1/78)
مناقشة كلام الإمام الزيلعي
... وتوضيح ذلك :
... أولاً : أن الإمام الزيلعي حين رفض العلة التي تقدّم شرحها أنفاً قد ارتكز على نقطتين ، مقلدا للشيخ ابن دقيق العيد ،وهما :
أن عاصم بن كليف ثقة ، وأن عبد الرحمن بن الأسود سمع من علقمة ،وبالتالي يكون السند متصلاً برواية الثقات .
الاضطراب في تحديد مصدر الخطأ ، إذ نسب بعضهم الخطأ إلى سفيان ،ونسبه الأخر إلى وكيع ،ومن أحل هذا الاضطراب ينبغي أن يطرح التعليل كلياً .
وحديث إنه لم يشر أحد ممن أعلوا الحديث إلى أن سبب ذلك هو ما يتصل بحال عاصم ، أو مدىسماع عبد الرحمن من علقمة ، فإن إثارة هذا الموضوع للجواب عن علة الحديث تكون عديمة الجدوى ، ولا يخدم المناسبة النقدية التي نحن بصددها أن يوسع الكلام حول عاصم ومدى ضبطه وإتقانه ، وحول سماع عبد الرحمن من علقمة .
وقد سبق أن ابن المبارك أعلّ كلمة : " لم يرفع يديه إلا في أول مرة " في حديث سفيان ، لكونها غير معروفة في أصل حديث عاصم الذي ضبطه ابن إدريس في كتابه ، بل إن هذه اللفظة كانت مخالفة لما في الكتاب ، كما تعارضت مع كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كان يرفع اليدين فيها . ومن هنا قال ابن المبارك : " لم يثبت عندي حديث ابن مسعود أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة ، يريد به إعلال حديث سفيان عن عاصم ، إذ لم يذكر هذه اللفظة أحد من أصحاب عاصم في حديثه هذا إلا سفيان الثوري .
وعليه فسبب تضعيفه لهذا الحديث يعود إلى مخالفة سفيان للواقع الحديثي في رواية عاصم ،وليس إلى عاصم ولا إلى علاقة عبد الرحمن مع علقمة ، لأنه لم يثر أحد من النقاد ذلك في تعليله ، لا ابن المبارك ولا غيره .
( وإن كان ظاهر كلام ابن المبارك قد يتوهم منه أنه لم يقصد بالتعليل حديث سفيان بعينه ، حين قال : " لم يثبت عندي حديث ابن مسعود " دون أن يقول : " لم يثبت عندي حديث سفيان " فإنه لم يقصد به سوى ما أوضحه النقاد فيما بعد ، ألا وهو تفرد سفيان بما لم يعرف في حديث عاصم . على أن سلسلة السند : " عاصم عن عبد الرحمن عن علقمة عن ابن مسعود " لم تكن مداراً لحديث سفيان فحسب ، بل هي مدار رواية ابن إدريس وغيره أيضاً ) .
هذا وقد رجح النقاد رواية ابن إدريس وغيره على رواية سفيان مع كون هذه الروايات كلها تدور على تلك السلسلة ،ولو قصد ابن المبارك تعليل حديث ابن مسعود من جميع طرقه لأطلق التعليل ، لكن لم يحدث ذلك ، بل جعله مقيداً بمسألة ترك رفع اليدين ، حين قال: " لم يثبت عندي حديث ابن مسعود أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " ، إذ لم يرو أحد عن عاصم ما يدل على هذا المعنى سوى سفيان الثوري ، وبالتالي فكلام ابن المبارك يكون موجهاً نحو رواية سفيان فحسب .
وبما أن سفيان الثوري قد تفرّد عن عاصم بهذه الكلمة بدلاً من ذكر موضوع " التطبيق" ، حتى خالفه ابن إدريس وغيره ، اعتبر النقاد أنها وهم منه ، ولذا يتعين على من يرد هذا التعليل أن يرتكز على هذه النقطة ، وليس على ثقة الراوي واتصال السند .
وأما الإضطراب الذي أثاره الزيلعي في جوابه عن العلة فغير وارد هنا أصلاً ؛ لأن ابن القطان الفاسي لم يكن سوى ناقل عن الترمذي قول ابن المبارك ، الذي أطلق الوهم في حديث ابن مسعود ، دون تحديد مصدر هذا الوهم ، غير أن ابن القطان حين نقله اختصر وتصرف في لفظه ، وقال : " حديث وكيع لا يصح ، وهذا التصرف من ابن القطان في نص ابن المبارك لا يشكل أبداً نقطة اضطراب في إعلال الحديث ، بل ينبغي القول إن نقله هذا غير سليم ؛ إذ لم ينقل قول ابن المبارك بسياقه .
غير أن الإمام أحمد قال : " هذا لفظ غير لفظ وكيع ،وكيع يثبج الحديث ( يعني يضطرب في الحديث ) لأنه كان يحمل نفسه في حفظ الحديث " ،وقال أيضاً : " كان وكيع يقول هذا من قبل نفسي- يعني : ثم لا يعود - " ،وكذا نقل عن أبي عبد الرحمن الضرير ، قوله : " كان وكيع ربما قال يعني ثم لا يعود " ، ولعل هذه النصوص هي المعول عليها لدى ابن القطان حين أضاف الوهم إلى وكيع . هذا وقد نسب الدارقطني الوهم إلى أبي حذيفة كما سبق .
وإن كان هذا يعد اختلافاً حول تحديد صاحب الخطأ ، لكن بورود هذه اللفظة : " ثم لا يعود " أو نحوها في رواية ابن المبارك ، وأبي حذيفة عن سفيان كما سبق ، يترجح قول من قال بأن صاحب هذا الخطأ هو سفيان ، على أن هذا الإختلاف حول تحديد مصدر الخطأ يقع عادة من النقاد ، بل قد يقع ذلك من ناقد واحد ، وهي ظاهرة لا تخفى على من يمارس هذا العلم النقدي ،وربما يكون ذلك لفرط اهتمام النقاد ببيان الخطأ أكثر من تحديد صاحبه .
... وهب أن ذلك يشكل اضطراباً فإن ذلك لا يؤثر سلباً فيما يخص الوهم والعلة ، وإنما يضر فقط في تحديد مصدره ، وبالتالي تبقى جهة ذلك الخطأ مجهولة ، فلا يؤدي ذلك إلى طرح التعليل بالكلية . نعم إذا كان الاضطراب حول وجود الوهم ، فيطرح ذلك الذي وقع فيه الاضطراب فقط في حالة ما إذا لم يتضح سبب لرجحان أحد القولين .
(1/79)
التعقيب على قول المعلق
ثانياً : قول المعلق بأن قول ابن المبارك هذا أوقع كثيراً من أهل الحديث في مغلطة ، وظنوا أن حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي وحسنه هو الذي قال فيه ابن المبارك " لم يثبت "، وهذا ليس بصحيح … إلى آخر قوله .
أقول : يحاول المعلق - من خلال زعمه بأن الحديث الذي حسنه الترمذي هو غير الحديث الذي أعله ابن المبارك ، وأن بينهما بوناً بائناً - أن يبرهن على أن أهل الحديث قد وقعوا في مغلطة حين حملوا تعليل ابن المبارك على الحديث الذي حسنه الترمذي .
وقبل أن أتطرق لمناقشة المعلق فيما يزعمه يكون من المفيد أن أنقل هنا نص الإمام الترمذي في هذه المسألة ، وهذا نصه :
" 1- … حديث ابن عمر حديث حسن صحيح ، …
2- وقال عبد الله بن المبارك : قد ثبت حديث من يرفع يديه ، وذكر حديث الزهري عن سالم عن أبيه .
ولم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يرفع يديه إلا في أول مرة "(1) .
ثم ذكر الإمام الترمذي :
"باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة.
حدثنا هناد حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة قال : قال عبد الله بن مسعود : ( ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة ) .
قال : حديث ابن مسعود حديث حسن .
وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة (2) اهـ .
وكان المعلق قد ارتكز في تفريقه بين الحديث الذي حسنه الترمذي ،وهو في رقم (5) وبين الحديث الذي أعله ابن المبارك ،وهو في رقم (3) على أمرين :
الأمر الأول : أن الإمام الترمذي نقل عن ابن المبارك تعليله للحديث الذي نص عليه بلفظ : " إنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " كما في رقم (3) بعد ذكر حديث ابن عمر ، ثم روى حديث ابن مسعود متصلاً بلفظ : " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فصلى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة " تحت باب " ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة " كما في رقمي : ( 4 ) و (5) .وجاء المعلق ليفهم من هذا الصنيع في سنن الترمذي أن ابن المبارك لم يعل حديث ابن مسعود في رقم ( 4 ) ، وإنما أعل الحديث الذي ذكره هو معلقاً في رقم (3) .
ولعل سبب هذا الفهم هو : أن ابن المبارك لو أراد بالتعليل هذا الحديث الذي رواه الترمذي متصلاً تحت باب مستقل ، لنقل فيه التعليل ، بل ذهب الإمام الترمذي إلى تحسينه ،ومعنى هذا عند المعلق أن الحديث رقم (4) يراه الترمذي ثابتاً ، وما في رقم (3) يراه ضعيفاً ،وبالتالي يكون الحديث الذي أعله ابن المبارك غير الذي حسنه الترمذي .
والأمر الثاني : وجود تفاوت في اللفظ وتغاير في المعنى بين الحديثين ؛ إذ إن الحديث الذي ذكره ابن المبارك معلقاً ،وهو : " إنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " يفيد السلب الكلي لرفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ، بحيث يناقض حديث ابن عمر : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع ويقول سمع الله لمن حمده ولا يفعل ذلك في السجود "(3). وهذا الحديث يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام ،وهو ما وصفه المعلق بالإيجاب الجزئي . ولوجود التناقض بين هذين الحديثين أعل ابن المبارك من حديث ابن مسعود ما يفيد السلب الكلي ، دون غيره .
وأما الحديث الذي ذكره الترمذي متصلاً تحت باب مستقل كما في رقم (5) فيرى المعلق أنه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ليس فيه ما يناقض حديث ابن عمر ،وبالتالي يجوز الجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه في غير تكبيرة الإحرام في بعض صلواته ،وقد تركه في أخرى لبيان جواز الحالتين جميعاً .
وهذا كما ترى تجويز عقلي مجرد عن مراعاة الواقع الحديثي ،وملابسات الرواية ،وأنه غير مبني على أسس علمية سليمة ،وكل ما في الأمر اعتبار حديث ابن عمر ليس نصاً صريحاً في أن ذلك الرفع كان في جميع صلواته صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يناقضه لفظ الحديث الذي حسنه الترمذي ، وبالتالي يكون الحديثان صحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وهذا هو منهج المعلق .
ومن المعلوم أن إمكانية الجمع بين الأحاديث المختلفة لا تعد دائماً مقياساً لمعرفة ثبوتها جميعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ولا عن أي مصدر اختلف عليه الرواة في حديثه ، بل يكون ثبوتها وعدمه على ضوء ما تدل عليه القرائن والملابسات التي تحيط بها ،وهذا أمر يجب أخذه بعين الاعتبار عند التصحيح والتضعيف ،وإلا سيؤدي إلى عواقب خطيرة نظراً إلى مكانة السنة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم .
ولا أدري من يقصد المعلق بكلمة : " أهل الحديث " ؛ نقاد الحديث أو المشتغلين بالحديث من المعاصرين . وكيف يستقيم صنيعه في جعل حديث سفيان حديثين مستقلين ، لمجرد وجود تفاوت بينهما في اللفظ والمعنى مع أن مدارهما واحد . وسيأتي ما يثبت أن الحديث الذي أعله ابن المبارك هو الحديث الذي رواه هو ووكيع وغيرهما عن سفيان ، وهو الذي بعينه حسنه الترمذي في سننه ، وأن ابن المبارك إنما ساقه مختصراً لغرض تعليله ، كعادة النقاد، وأنه لا يعني أن ابن مسعود حدث مرة بهذا اللفظ ،وأخرى بذلك اللفظ .
وكان المعلق قد زعم في قوله السابق أن الحديث الذي أعله ابن المبارك رواه الطحاوي في شرح الآثار ،والدارقطني وغيرهما ، ولفظه عند الدارقطني عن عبد الله ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر ، فلم يرفعوا أيديهم إلا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة " .
قلت : إن الطحاوي رواه عن ابن أبي داود عن نعيم بن حماد عن وكيع عن سفيان عن عاصم بن كليب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود" (4) ، وبما أن هذا الحديث يحتمل أن يكون قد رواه ابن أبي داود أو شيخه نعيم بن حماد بمعنى حديث سفيان : " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة " ، فلا ينبغي أن يفهم من ذلك أن سفيان قد حدث بهذا مرة ،وأخرى بذاك.
وهذا لا صلة له بحديث سفيان ، الذي نحن بصدده ، لاختلاف مصدرهما ، وإذا كان مصدر هذا الحديث هو حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم فإن مصدر ذلك الحديث هو سفيان عن عاصم ،وبالتالي يعد حديث محمد بن جابر حديثاً آخر مستقلاً لا يتصل بحديث سفيان لاختلاف المصدر .
ومع ذلك فإن حديث محمد بن جابر خطأ ووهم ، فهو غير ثابت أصلاً عن ابن مسعود ؛ فقد قال الدارقطني :" تفرد به محمد بن جابر ، وكان ضعيفاً ، عن حماد عن إبراهيم ،وغير حماد يرويه مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب (5) . وكذا نقله عنه البيهقي (6) .
وقال عبد الله بن أحمد في العلل(7) : ذكرت لأبي : حديث محمد بن جابر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله في الرفع ؟ فقال :ابن جابر أيش حديثه ! هذا حديث منكر .أنكره جداً .
وليس من المنهج العلمي أن يعد حديث سفيان حديثين ، وأنه قد حدّث بهما جميعاً ، بوجود تفاوت بين لفظ ابن أبي داود عن نعيم عن وكيع عن سفيان ، وبين ما رواه الثقات عن وكيع عن سفيان ، لجواز أن يكون ابن أبي داود أو شيخه نعيم بن حماد قد ساق هذا اللفظ من عنده ، لا سيما في حالة مخالفته جماعة من الثقات من أصحاب وكيع ،وكذا أصحاب سفيان أيضاً ، ولو حدث سفيان بهذين الوجهين لكان أصحابه أولى بروايتهما ، أو من هو أكثر ملازمة له ، وأما أن يكون ذلك اللفظ معلوماً عند تلميذ تلميذ سفيان أوعند الراوي الذي بعده ن دون أن يعلم به أحد من أصحابه فغير معقول .
ولمزيد من التوضيح لما زعمه المعلق أذكر هنا اختلاف الألفاظ في حديث سفيان ، وهي كالأتي :
" ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فصلى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة " .
" إنه عليه السلام كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود "
" إنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " .
ويزعم المعلق أن هذه الألفاظ بينها تناقض ، حيث إن اللفظ الأخير صريح على أنه نفي كلي لرفع النبي صلى الله عليه وسلم اليدين في غير تكبيرة الإحرام ، ويقاربه اللفظ الثاني في إفادة النفي الكلي ، بينما يكون اللفظ الأول لا يفيد بظاهرة هذا السلب الكلي ، بل يفيد النفي الجزئي فقط ، وإنما أعلّ ابن المبارك اللفظ الثالث وحده للتناقض بين اللفظ الأخير وبين حديث ابن عمر ، وأما اللفظ الأول فلم يعله لأنه لم يناقض حديث ابن عمر .
وهذا من المعلق عمل غريب لا يقره المنهج السليم في نقد الحديث ، إذ هذه الألفاظ كلها تدور على سفيان الثوري ،ومن المعلوم أن المغايرة بين ألفاظ الحديث لا تعني بالضرورة تعدد الحديث وتعدد الرواية ، لاحتمال أن يكون الحديث مروياً بالمعنى من قبل بعض الرواة اللاحقين . هذا ولم يرو أحد - حسب معرفتي - حديث ابن مسعود بلفظ الحديث الثالث ، وإنما جاء مختصراً فقط في قول ابن المبارك حين ذكر العلة ، وفي تبويب الترمذي .
وإن كان أسلوب المعلق هو اعتبار تعدد الروايات لمجرد وجود تفاوت بين ألفاظها فإنه لا يتم له أن يجعل الحديث الثالث والثاني شيئاً واحداً ، حين قال المعلق : " ولفظه ( يعني الحديث الثالث ) عند الطحاوي : أنه عليه السلام كان يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود ، وهذا الحديث هو الذي يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم قولاً يدل على السلب الكلي المناقض للإيجاب الجزئي الذي يثبته حديث ابن عمر ،وهذا الحديث رواه الطحاوي في شرح الآثار ".
وذلك لوجود تفاوت بينهما ، مع أن اللفظ يكون أقرب إلى اللفظ الأول من الثالث ، لأنه لا يفيد السلب الكلي كما يدل عليه الثالث ، إلا أن الأول كان بالفعل ،والثاني بالقول .
وفي الحقيقة أن الذي أعله ابن المبارك هو حديث سفيان بلفظ " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فصلى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة " ، وأنه حين أعله ساقه مختصراً ، وهذا كل شيء فيما يخص تعليل ابن المبارك ،ولذا نرى النقاد : كالبخاري وأبي داود وأبي حاتم وغيرهم ، يعلون حديث ابن مسعود الذي حسنه الترمذي بحيث يزيل الغموض الذي وقع في تعليل ابن المبارك لذلك الحديث ، ثم إن ابن القطان الفاسي والشيخ ابن دقيق العيد والزيلعي يعتقدون أن الحديث الذي أعله ابن المبارك إنما هو الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه ، بخلاف ما فهمه المعلق تماماً ، كما يتضح ذلك من النصوص التي أوردها في نصب الراية ، وأسردها فيما يلي :
__________
(1) سنن الترمذي 2/37- 39 .
(2) سنن الترمذي 2/39 -42 .
(3) البخاري في الصلاة ، باب رفع اليدين إذا كبّر وإذا ركع وإذا رفع ، برقم (736 ).
(4) الطحاوي ، شرح معاني الآثار1 /224 .
(5) العلل للدارقطني 1/295 .
(6) سنن البيهقي 2/80 .
(7) العلل ص 96.(1/80)
أولاً : يقول الزيلعي بعد أن ساق حديث ابن مسعود " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فصلى ، فلم يرفع يديه إلا في أول مرة " من طريق سفيان عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة :
" اعترض على هذه الحديث بأمور ؛ منها : ما رواه الترمذي بسنده عن ابن المبارك قال : لم يثبت عندي حديث ابن مسعود : أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة ، وثبت حديث ابن عمر أنه رفع عند الركوع وعند الرفع من الركوع ، وعند القيام من الركعتين "
وهذا يدل بصراحة على أن ابن المبارك إنما أعلّ الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه ، وفيه فعل ابن مسعود محاكياً فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
ثانياً: يقول ابن القطان الفاسي : ذكر الترمذي عن ابن المبارك أنه قال : حديث وكيع لا يصح ، والذي عندي أنه صحيح ، وإنما النكر فيه على وكيع زيادة ثم لا يعود .
ثم عقبه الزيلعي ،وقال : قد تابع وكيعاً على هذه اللفظة عبد الله بن المبارك كما رواه النسائي .
وهذا واضح أيضاً أن الحديث الذي أعله ابن المبارك هو الحديث الذي سبق ذكره في مستهل كلام الزيلعي ، وهو الذي بعينه رواه ابن المبارك كما في سنن النسائي(1) .
ثالثاً : يقول البخاري : ويروى عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب ، فذكره بسنده ومتنه ، قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم : نظرت في كتاب عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب ، فلم أجد فيه ثم لم يعد ، قال البخاري : وهذا أصح ؛ لأن الكتاب أثبت عند أهل العلم . وقال الزيلعي :" فجعل الوهم فيه من سفيان" .
وهذا أيضاً دليل على أن البخاري وأحمد ويحيى بن آدم جميعهم أعلنوا ذلك الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه .
رابعاً : يقول ابن أ[ي حاتم : سألت أبي عن حديث رواه سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فكبر فرفع يديه ، ثم لم يعد ، فقال أبي : هذا خطأ ، يقال: وهم فيه الثوري ، فقد رواه جماعة عن عاصم ، وقالوا كلهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح فرفع يديه ثم ركع فطبق ، فجعلهما بين ركبتيه ، ولم يقل أحد ما روى الثوري " ثم تعقبه الزيلعي وقال : " فالبخاري وأبو حاتم جعلا الوهم فيه من سفيان ،وابن القطان وغيرهم يجعلون الوهم من وكيع .
وهذا دليل واضح على أن الذي أعله أبوحاتم هو الحديث الذي أورده الزيلعي في مستهل كلامه ، وهو الذي رواه الترمذي وحسنه. وإن كان اللفظ الذي ذكره ابن أبي حاتم مغايراً لسياق ذلك الحديث فإن ذلك لا يعنى أنه أراد بسؤاله هذه اللفظ فحسب ، لأنه أورده مختصراً لغرض سؤاله لأبيه عنه كعادته في الكتاب ، وهو الذي وقع بعينه من ابن المبارك سابقاً ، وهذا التغاير بين الروايات لحديث سفيان لا يعني بالضرورة تعدد القصة ، وأن سفيان قد حدّث بها جميعاً في أوقات مختلفة ،وللنقاد في معالجة ذلك منهج علمي واضح يقوم على خلفية حديثية واسعة يتميزون بها عن الآخرين .
ومن هنا نقول إن العقل المجرب في مجال ما ،غير الحديث والرواية لا يكون متأهلاً لمزاحمة صفوف النقاد أصحاب العقول المجربة في الحديث ،وإلا ستكون العواقب خطيرة ، حيث تؤدي إلى طمس معالم النقد عند المحدثين النقاد تدريجياً ،و ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله .
وبما أن الفقهاء المتأخرين أئمة في مجال الفقه دون نزاع ، فلا يعني بذلك أنهم أئمة في الحديث ، يملكون منهجاً في التصحيح والتضعيف يوازي منهج المحدثين النقاد الأوائل في ذلك ، بحيث يسمح للأحقين بحرية الاختيار بينهما ، كلا ، ثم كلا ، فلكل علم أسرار وخصائص ومصطلحات لا يعرفها إلا أصحابه المجربون في ذلك العلم .
وعلى هذا الأساس أعل النقاد قاطبة حديث سفيان عن عاصم كلمة : " فلم يرفع يديه إلا في أول مرة " ،وفي طليعتهم ابن المبارك ، الذي لم يروِ الحديث عن سفيان إلا بالسياق الذي رواه الترمذي وحسنه ، وهو حكايته بصلاة ابن مسعود صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا قال ابن المبارك : " قد ثبت حديث من يرفع يديه ، وذكر حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، ولم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يرفع يديه إلا في أول مرة "(2) حيث جعل حديث ابن مسعود النافي لرفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام بمقابل حديث ابن عمر المثبت رفع اليدين .
واتضح من سياق هذا النص قصد ابن المبارك هو الترجيح بين الرواية النافية لرفع اليدين وبين المثبته له ، عموماً ،ومن اجل هذا أشار إلى حديث ابن مسعود وابن عمر بسياق مختصر . وبالتالي لا يفهم من هذا الاختصار أنه أراد بالتعليل اللفظ الذي ذكره مختصراً فقط ، مع أن حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه إلا في أول مرة " لم يعرف بهذا اللفظ عن سفيان أصلاً ،ولا عن أصحابه : وكيع وابن المبارك وغيرهما . كما رأينا في النص نفسه كيف ساق ابن المبارك حديث ابن عمر مختصراً كذلك اختصر حديث ابن مسعود.
هذا كله إذا سلمنا بوجود تفاوت في المعنى بين اللفظ الذي ساقه ابن المبارك عند التعليل وبين اللفظ الذي رواه عن سفيان ،وفي الواقع أنه لا يوجد تفاوت أصلاً ، لأن ابن مسعود كان يعلم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يرفع فيها اليدين إلا في تكبيرة الإحرام ،ويبين لهم أن هذه هي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا معناه أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة ، كما جاء عن ابن المبارك عند التعليل .
ألا ترى أن الإمام الترمذي قد عنون لحديث ابن مسعود هذا بقوله : " باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة " ،وهو الذي ذكره ابن المبارك معلقاً ، وهذا يعني أن الذي ذكره ابن المبارك معلقاً عند التعليل هو مختصر مما رواه الترمذي وحسنه .
وإذا كان المعلق قد فهم من صنيع الترمذي وجود فرق بين الذي أعله ابن المبارك وبين الذي رواه الترمذي وحسنه ليصف أهل الحديث بأنهم قد وقعوا في مغلطة ، فإن صنيع الترمذي هذا في تبويب لحديث ابن مسعود واضحاً على أن المعلق هو الذي وقع في مغلطة ، وليس أهل الحديث .
وفي الواقع أن ما ذكره المعلق من التأويل ليفرض وجود تفاوت بين الروايتين بالشكل الذي شرحه ،وهو أن هذا الحديث الذي يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم قولاً يدل على السلب الكلي المناقض للإيجاب الجزئي الذي يثبته حديث ابن عمر ، ثم يزعم أن ابن المبارك إنما أراد بالتعليل حديث " أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " ، دون اللفظ الذي كان يرويه هو عن سفيان ، قبل أن يتحقق من مدى ثبوت روايته به ، يعد كل ذلك تكلفاً واضحاً لا يحتمله الواقع ، وخروجاً عن منهج الأئمة النقاد ،وقد سبق أنه لم يرو الحديث أحد بهذا اللفظ ، وإنما هو اختصار من ابن المبارك لما سمعه من سفيان من حديث ابن مسعود ، ومن المعلوم أنه لا يلزم من وجود تفاوت ما في اللفظ أو المعنى تعدد الحديث ، لاحتمال كونه مروياً بالمعنى . وهذه ظاهرة أخرى نراها لدى كثير من المعاصرين في رفض كلام النقاد وتصحيح ما أعلوه من الأحاديث .
ولو فرضنا جدلاً أن ابن المبارك لم يقصد بالتعليل ما كان يرويه عن سفيان من حديث ابن مسعود " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم… " ، وإنما قصد فقط حديث " أنه عليه السلام لم يرفع يديه إلا في أول مرة " الذي أورده هو معلقاً ، فماذا يقول المعلق عن تعليل النقاد : البخاري وأبي داود وأبي حاتم والدارقطني وغيرهم حديث سفيان بلفظ " ألا أصلي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم…" وقد صرحوا بذلك ؟
بهذا يتبين بجلاء أن ما ذكره المعلق فيه تكلف واضح ينبذه الواقع العلمي ، وانه غير متسق على النهج السليم في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، وليس كما زعم هو ( غفر الله لنا وله ) أن أهل الحديث وقعوا في مغلطة حين حملوا قول ابن المبارك على الحديث الذي رواه هو عن سفيان بلفظ : " ألا أصلي بكرم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم …" ،وأنهم لم يعطوا النظر حقه ، وقد رأينا سابقاً أن الإمام الزيلعي والشيخ ابن دقيق العيد وابن القطان الفاسي والمنذري كلهم فهموا أن حديث سفيان بلفظ " ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم… " هو الذي أعله النقاد ، وفي طليعتهم ابن المبارك ، وذلك لتضمنه كلمة "ثم لم يعد " ،وأن هذه الكلمة كانت مدرجة في الحديث خطأ ووهماً من سفيان ، وأن الحديث الذي رواه عاصم إنما هو في موضوع التطبيق ، وليس كما جعله سفيان في موضوع ترك رفع اليدين ، والله أعلم .
وفي قول المعلق ملاحظات أخرى ، يحسن بي أن أسجلها هنا على وجه السرعة ، فقوله : " فلهذه النكتة أورده الترمذي عقيب حديث ابن عمر ، وضعفه ، ولم يورده بعد حديث ابن مسعود الذي رواه من فعله " أقول : إن الترمذي لم يباشر بتضعيفه بشيء ، ثم روى ذلك الحديث تحت باب " من لم يرفع يديه إلا في أول مرة " ،ولذا فلا داعي لتضعيف الحديث مرة أخرى ، ومن عادته في السنن أن يروي بعض ما علقه من الأحاديث أو أشار إليه بقوله " وفي الباب عن فلان وفلان " ، في باب لاحق أو في الباب نفسه .
وقول المعلق " إن حديث ابن مسعود هذا ثابت عند الترمذي " لعله فهم ذلك من قول الإمام الترمذي ، " حديث ابن مسعود حديث حسن " ،وفي هذا نظر ؛ لأن الإمام الترمذي يقصد بالتحسين إزالة الغرابة عن متن الحديث فقط ، بغض النظر عن مدى صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني بذلك أن المتن ليس فيه شذوذ ولا غرابة لكونه معروفاً بوجود شواهد تتمثل إما في رواية أو عمل أو قول لبعض الصحابة والتابعين ، وإن لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية.
ولذلك نرى الإمام الترمذي يعلل الحديث كثيراً من حيث روايته مرفوعاً ، ويبين خطأ الراوي فيها ، ثم يحسن متنه ، كما وجدنا في هذا الحديث ، حيث نقل تعليل ابن المبارك له دون تعقيب عليه ، بحيث يشير بذلك إلى أن الحديث لم يثبت عنده مرفوعاً ، ثم بعد ذلك حسنه بقوله : " حديث ابن مسعود حديث حسن " ، مع لفت الإنتباه إلى وجه ذلك التحسين ، بقوله : " وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة "
ولذلك لا يلزم من تحسين الترمذي حديثاً ما أنه ثابت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما لا يلزم من ذلك الإحتجاج به ، إلا إذا سلمت الرواية من علة ، أو لم يتبين وجه العلة فيها ، وفي هاتين الحالتين يصبح الحديث صالحاً للاحتجاج ، غير أن في الحالة الأولى التي يطمئن فيها شعور النقاد إلى سلامة الرواية من خطأ ووهم يكون الحديث فيها صحيحاً ،ويقول فيه : " حسن صحيح " وإن كان الراوي ضعيفاً ، وقد فهمنا ذلك من خلال تتبع أمثلة كثيرة في سنن الترمذي ، وسنذكرها مفصلة في بحث آخر مستقل ، إن شاء الله تعالى ، هذا وقد ذهب إلى ذلك ابن القطان الفاسي ، ومال إلى ترجيحه الحافظ بن حجر(3).
__________
(1) سنن النسائي في الصلاة ، باب ترك ذلك ( أي رفع اليدين … ) برقم ( 1026 ) 195.
(2) سنن الترمذي 2/37-39 .
(3) سبق هذا الموضوع بشيء من التفصيل في مبحث تقوية الحديث الضعيف بالمتابعات والشواهد .(1/81)
الخاتمة
... وفي ختام هذه الدراسة أود أن أقول إن تباين النظر والمنهج في تصحيح الحديث وتضعيفه بين نقاد الحديث والمتأخرين واضح وجلي من خلال هذا المثال ، حيث جاء تصحيح من صحح حديث سفيان من المتأخرين بناء على ظواهر السند من ثقة الراوي واتصال السند ، بينما كان منهج النقاد في تعليله قائماً على معرفة الملابسات والقرائن المحيطة به ، الأمر الذي يؤكد بصراحة أن المرجعية الوحيدة في مجال النقد هي أئمة النقد المتقدمون ، وأنه لا ينبغي الخلط بين منهجهم وبين منهج الفقهاء المتأخرين في مجال التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل . والله تعالى أعلم .
(1/82)
المثال الخامس
... روي عن ابن عمر حديث : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود " .
... رواه عبدالله بن عون الخراز(1) عن مالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر بلفظ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود " .
... وخالفه يحيى (2)وعبد الله بن وهب(3)وعبد الله بن مسلمة (4)وقتيبة (5)ويحيى بن سعيد (6)وعبدالله بن المبارك(7) والشافعي(8) وإسماعيل بن أبي أويس(9) وعبد الرحمن (10)وعبد الله بن يوسف(11)وخالد بن مخلد(12) وعثمان بن عمر (13)جميعهم عن مالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه ، إذا افتتح الصلاة ،وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك " .
... وكذا رواه عن الزهري كل من الزبيدي(14)وشعيب(15)وسفيان بن عيينة(16)
ويونس(17) وابن جريج(18) وعبيد الله بن عمر(19) .
... كما رواه عبيد الله (20)ومالك(21) وموسى بن عقبة(22) وأيوب(23) عن نافع عن ابن عمر ، وإن كانت الفاظهم مختلفة ، غير أنهم يتفقون جميعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في غير موضع من الصلاة إلا أن بعضهم ذكر موضعين ، وبعضهم ثلاثة مواضع ،وآخر أربعة مواضع ، ولم يذكر أحد منهم في حديث ابن عمر ما ذكر عبد الله بن عون الخراز .
__________
(1) البيهقي في الخلافيات كما في نص الرواية 1/404 .
(2) الموطأ 1/75 .
(3) البيهقي 2/62 .
(4) البخاري (703) .
(5) النسائي 2ي 122.
(6) النسائي 2/194 .
(7) ابن حبان 5/172.
(8) المسند للشافعي 121 ، والبيهقي 2/68 .
(9) جزء رفع اليدين ص53.
(10) أحمد 2/62 .
(11) جزء رفع اليدين ص 15 .
(12) الدارمي 1/342 .
(13) الدارمي 1/316 .
(14) أبو داود 1/192 .
(15) البخاري (706) .
(16) مسلم 1/292 ، والترمذي2/35 .
(17) والبخاري (704) .
(18) مسلم 1/292 ، وأبو داود 1/197 .
(19) النسائي 3/3 .
(20) البخاري (707) .
(21) أبو داود 1/198 ، ومالك 1/77 .
(22) البيهقي 2/62 .
(23) أحمد 2/100 .(1/83)
نصوص بعض النقاد ومن وافقهم من المتأخرين
... قال الحافظ البيهقي : قال الحاكم : " هذا (يعني حديث عبد الله بن عون الخراز) باطل موضوع ،ولا يجوز أن يذكر إلا على سبيل القدح ، فقد روينا بالأسانيد الصحيحة عن مالك بخلاف هذا ، ولم يذكر الدارقطني هذا في غرائب حدث مالك (1) .
... وقال الحافظ ابن حجر : " وهو مقلوب موضوع " (2)
... وقال ابن القيم : " ومن شمه الحديث على بعد شهد بالله إنه موضوع "(3)
__________
(1) نصب الراية 1/404 .
(2) التلخيص الحبير 1/222 .
(3) نقد المنقول ص 130 .(1/84)
نصوص المعارضين من المتأخرين
... قال الحافظ مغلطاي : لا بأس بسنده(1).
وقال الملا محمد عابد السندي : تضعيف الحديث لا يثبت بمجرد الحكم ، وإنما يثبت ببيان وجوه الطعن، و حديث ابن عمر الذي رواه البيهقي في (خلافياته) رجاله رجال الصحيح ، فما أرى له ضعفاً بعد ذلك ، اللهم إلا أن يكون الراوي عن مالك مطعوناً ، لكن الأصل العدم ، فهذا الحديث عندي صحيح لا محالة ، وغاية ما يقال فيه : إن ابن عمر رأى النبي صلى الله عليه وسلم حيناً برفع ، فأخبر عن تلك الحالة ، وأحياناً لا يرفع ،وأخبر عن تلك الحالة ، وليس في كل من حديثه ما يفيد الدوام والاستمرار على شيء معين منهما(2) .
وإذا لم يكن قول الحاكم واضحاً في بيان ما يكمن وراء حديث الخراز لدى هؤلاء العلماء فمعنى ذلك أنهم ليسوا مستعدين على تضعيف حديث أو تركه إلا إذا كان راويه متفقاً على ضعفه ، أو كان راويه متروكاً ، أو كذاباً ، أو إذا تعذر تأويله عقلاً ،وهذا لا يتم لهم إلا إذا كان معنى " الثقة " أنه معصوم من الخطأ والنسيان . وتأكيد هذا التباين المنهجي الواضح بين أولئك النقاد ، وبين متأخري الفقهاءو من انتهج منهجهم في التصحيح والتضعيف هو الذي نهدف إليه من خلال الموازنة الآتية ،إن شاء الله تعالى .
__________
(1) الإمام ابن ماجة وكتابه السنن ص: 251 للشيخ محمد عبد الرشيد النعماني ( تحقيق عبدالفتاح أبي غدة ، دار البشائر ، بيروت ، 1419هـ ) .
(2) نقله الشيخ عبد الفتاح في تعليقه على " الإمام ابن ماجة وكتابه السنن " للشيخ محمد عبد الرشيد النعماني ص:251-252.(1/85)
الموازنة بين الموقفين
... لقد جرى بين الشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ عبد الفتاح أبو غدة (رحمهما الله تعالى رحمة واسعة ) حول حديث عبد الله بن عون الخراز هذا ، حوار حامي الوطيس ،وأنا أذكر منه هنا ما يتصل بالنقاط العلمية ،وذلك لتجليه منهج النقاد في التصحيح والتضعيف ، وهو الذي يجب على الباحث انتهاجه فيهما ، مبرهناً بذلك على وجود تباين منهجي في نقد الحديث بين نقده الحديث وغيرهم ، كمتأخري الفقهاء ، حتى يتم حفظ السنة النبوية من الآثار السلبية المترتبة على خلط الباحثين بين المناهج المتباينه ، في تنظير مسائل علوم الحديث وتطبيقها.
... ولعل من الأفضل أن أستهل هذه الموازنة بتلخيص سريع لما سبق من النصوص المتباينة في تضعيف حديث ابن عمر وتصحيحه ، حتى يكون ذلك تمهيداً لما يأتي من التعقيبات .
... إن الأئمة : الحاكم والبيهقي وابن القيم وابن حجر ( رحمه الله عليهم جمعياً) ضعفوا حديث عبدالله بن عون الخراز لكونه قد تفرّد بما لا يعرفه المعروفون من أصحاب مالك عنه ، بل وخالف ما عرفوه عنه ، ورووه ، ولم يكن لذلك الحديث أصل في حديث الزهري الذي هو مصدر مالك فيه ، ولا في حديث ابن عمر ،ولا في عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وقد خالف ما ثبت عنهم رواية وعملاً .
... وبذلك أصبح تضعيف هؤلاء الأئمة لحديث عبد الله بن عون الخراز وفق منهجية منضبطة بقواعد النقد لدى أئمة الحديث الأوائل في التصحيح والتضعيف ، وصارت عبارتهم المستخدمة في ذلك في غاية الدقة . وذلك أن هذه المخالفة من راو لاحق لسائر أصحاب مالك - وعلاوة على ذلك لم يعرفه أحد من أصحاب الزهري ولا من أصحاب ابن عمر - على هذا النحو لا تقع عادة إلا من جراء تصرف من هذا الراوي اللاحق فيما رواه .
... ومن المعلوم أنه كلما تأخر عهد الراوي عن عصور النهضة الحديثية ، فإن خطأه يتضح أكثر، من خلال تفرده بما لم يعرفه أحد من الحفاظ السابقين ، إذ لا يمكن وصول حديث إلى لاحق من الرواة إلا عن طريق سابقه ،وبالتالي فما تحصل عليه اللاحق من حديث يجب أن يكون معروفاً عن سابقه وثابتاً عنه ، لا سيما إذا كان ذلك الشيخ من مشاهير الحفاظ ، وإلا فإن تفرده عنه بما لا يعرف عنه سابقاً ، أو مخالفته لما كان ثابتاً عنه يثير شكوكاً ، لاسيما إذا كان الحديث الذي تفرّد به ذلك الراوي المتأخر معروفاً عن السابقين بشكل آخر وبسياق مختلف ، كما وقع هنا في هذا المثال .
... ومن العلوم بدهياً أن حالة المخالفة والتفرد تعد مؤشراً رئيساً على احتمال وقوع خطأ من صاحبها فيما تفرد به أن خالف فيه غيره ، وبما أن هاتين الحالتين تقعان في الرواية لأسباب مختلفة ، منها خطأ الراوي ، ووهمه ، ومنها كثرة تتبعه للأحاديث ،وضبطه له واتقانه ، وكثرة مجالسته مع شيخه ، فإن البحث عن السبب الذي أسفر عن المخالفة والتفرد أصبح ضرورياً لتصحيح تلك الرواية التي تفرّد بها الراوي أوخالف فيها غيره ، أو لتضعيفها ، ولا يكون هذا الأمر ميسراً بالنسبة إلينا إلا إذا نص نقاد الحديث على تلك الأسباب التي تكون وراء التفرد أو المخالفة ، وقد لانحتاج إلى نصوصهم في مثل هذا التفرد والمخالفة التي نحن بصددها ، لمخالفته الواقع الحديثي المعروف عن الحفاظ السابقين .
... وقد أجاد الإمام ابن الصلاح حين أوضح هذه الحقيقة العلمية في نوع العلة ، وهو يقول : " ويستعان على إدراكها ( يعني العلة ) بتفرد الراوي ، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك ، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول ، أو وقف في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك ، بحيث يغلب على ظنه ذلك ، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه ، وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه " (1) .
... وما تحته الخط من هذا النص يضم أنواعاً ، كزيادة الثقة والشاذ والمنكر والمقلوب والمدرج والمصحف والمضطرب والمزيد في متصل الأسانيد بشكل واضح ، وذلك أن المخالفة بين الرواة تكون في صور أشار إليها ابن الصلاح آنفاً. وهي وصل المرسل ، ورفع الموقوف ، وتداخل الأحاديث ، وغير ذلك من الأوهام ، فإذا زاد راو - سواء أكان ثقة أم ضعيفاً - أسماً أو كلمة أسقطها غيره من الرواة ، أو استبدل سياق الحديث أو قلب الإسناد أو غير ذلك تظهر بينهم حالة المخالفة والتفرد التي تشكل القاعدة الأساسية لمفهومي الشاذ والمنكر ، وربما تكون هذه المخالفة والتفرد نتيجة تصحيف أو إدراج أو قلب من أحد رواة الحديث ، وبالتالي أصبح هذا النص الذي ذكره ابن الصلاح في مبحث العلة شاملاً لجميع هذه الأنواع التي تشكل وحدة موضوعية لا تختلف أحكامها باختلاف تسميتها .
... إن تفاصيل الحكم بينها ابن الصلاح من خلال ذلك النص تتسم بغاية من الدقة ، إذ جعل حكم الحديث الذي يتفرد به الراوي الثقة أو خالف فيه غيره من الثقات دائراً على القرائن المحيطة بذلك الحديث . ، وهذا بعينه منهج المحدثين النقاد في معالجة ظاهرة المخالفة والتفرد ، التي تشهدها أحاديث الثقات بقلة ، وأحاديث الضعفاء بكثرة ، ولذا فإن جميع الأنواع التي تشترك مع نوع " العلة " في نقطتي التفرد والمخالفة يجب أن يكون الحكم فيها دائراً على القرائن وحدها ، وإذا لم تعرف القرائن بعد التتبع فيرجع الأمر إلى حالة الراوي ، ويكون الحكم وفقها ، وفي ضوء ذلك يمكن استخلاص حكم الحديث المخالف أو المتفرد بما يلي:
... إذا دلت القرينة على أن الراوي المخالف أو المتفرد كان واهماً أو ناسياً ، فتعد روايته معلولة ، سواء سميت شاذة أو منكرة أو مقلوبة أو مدرجة أو غير ذلك ، وأما إذا لم تدل القرينة على ذلك فإنها قد تكون صحيحة أو حسنة ؛ وذلك تبعاً لدلالة القرائن المحيطة بالحديث وقوتها ووضوحها لدى النقاد دون غيرهم .
... ومن الجدير بالذكر أن المخالفة والتفرد تختلف أبعادهما سلباً وإيجاباً من حديث لآخر ،وليس لها حكم واحد ، بل يتوقف على القرائن المحتفة بها ، ولا يكون في متناول الجميع فهم تلك القرائن وفهم أبعادها باستثناء نقاد الحديث ، كما أشار إليه ابن الصلاح حين قال : " مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن" ، ويعني بالعارف بهذا الشأن ناقد الحديث دون غيره .
... فعلى منهج النقاد فإن ظواهر الإسناد لا يعول عليها في التصحيح والتضعيف إلا بعد التأكد من أنتفاء القرائن والملابسات التي يمكن أن تحيط بذلك الإسناد . ولذا فإن معرفة صحة الحديث وضعفه ومدى قبوله وخطئه تكون متوقفة على الحفظ والفهم والمعرفة سواء في حالة اعتماد القرائن أو في حالة اعتماد الظواهر ؛ فإن القرائن غير محصورة بضوابط معينة ، بل لكل حديث قرينة وملابسات خاصة ، كما صرح بذلك بعض حفاظ المتأخرين أمثال ابن رجب والعلائي وابن حجر وغيرهم (رحمهم الله تعالى جميعاً ) .
... وأما الرجوع المباشر إلى أحوال الرواة العامة في تصحيح الحديث وتعليله ، دون تتبع الملابسات ، ودراسة القرائن التي يمكن أن تحيط به فعمل استروح إليه كثير من المتأخرين والمعاصرين مع أنهم يحسون يقين أن الإحاطة الشاملة بالعلل ، أو التأكد من انتفائها كانت من خصائص النقاد المتقدمين ، وأن ذلك كله ضروري لنقد الحديث تصحيحاً وتضعيفاً ، الأمر الذي جعل علم العلل أدق أنواع علوم الحديث ، وأصعبها مسلكاً .
... ولذلك نقول إن اعتماد الأصل في حال الراوي ، والحكم على حديثه حسبت مرتبته في الجرح والتعديل إنما هو بعد تتبع ما يمكن أن يحيط به من القرائن والملابسات ، وبعد التأكد من انتفائها ، ولذلك فإن هذا العمل النقدي لا يستطيع النهوض به سوى الناقد الجهبذ ،وأما من الباحث العادي الذي لا يعرف نوعية المرجحات ولا يفهم دلالة الملابسات والقرائن ، أو لا يبالي بها إن ذكرت منصوصاً عليها ، فيعد ذلك خرقاً وتقصيراً ، بل مجازفة خطيرة ، يجب علاجها منهجياً مع الإخلاص والإنصاف ، دون شغب وتجريح وعجب وغرور .
... وفي ضوء هذا الواقع العلمي فإن الحديث الذي نحن بصدده قد ضعفه الحاكم والبيهقي وغيرهما بناء على القرائن المحتفة به ، لكن من المتأخرين من رفض هذا التضعيف كالحافظ مغلطاي ،حين قال : " لا بأس بسنده " ،ومنهم من صححه ، كالشيخ محمد عابد السندي والشيخ محمد عبد الرشيد النعماني ، بناء على ثقة الراوي ، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار ما ألمح النقاد إليه من القرائن الدالة على أن الزيادة الواردة في حديث الخراز خطأ ووهم وباطل ، فكان تصحيحهم لهذه الزيادة نموذجاً لمنهج الفقهاء المتأخرين في التصحيح والتضعيف الذي أوضحه ابن دقيق العيد وغيره من الأئمة ، وأن هذا المنهج غير مقبول ، ولا يسلم لهم ذلك ، كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر والسخاوي وغيرهما ، كما سبق في مقدمة هذا الكتاب وما بعدها من المباحث .
... وعلى الرغم من توضيح الشيخ الألباني ما يكمن وراء حديث عبد الله بن عون الخراز من أسباب بطلانه فإنني آثرت إيراد هذا المثال ضمن أمثلة الموازنة ، وذلك لأؤكد مرة أخرى أن عملية التصحيح والتعليل بناء على نظر سطحي في ظواهر السند ، ومراتب الرواة في الجرح والتعديل ، تبلورت في مرحلة ما بعد الرواية كمنهج يزاحم منهج النقاد الأوائل الذي يعتمد على القرائن والملابسات بغض النظر عن ظواهر السند اللافتة .
... ولهذا أكرر قولي : بأن من كان عمله على اعتبار ظواهر السند في التصحيح والتضعيف فهو على منهج المتأخرين ، حتى وإن كان في عصر الرواية ،ومن كان اعتماده في ذلك القرائن فهو على منهج المتقدمين ، حتى وإن كان من المعاصرين ، وبالتالي فالذي نصل إليه هو أن تفريقنا بين المتقدمين والمتأخرين في قسمي علوم الحديث النظري والتطبيقي تفريق منهجي لا زمني ، ولست أدعو إلى تقليد المتقدمين وقبول أقوالهم لمجرد كونهم متقدمين ، ولا إلى رفض موقف المتأخرين لكونهم متأخرين ، كلا، بل لدقة المنهج الذي انتهجه النقاد الأوائل في التصحيح والتضعيف ،وضرورة تسليم ذلك لهم .
... وقد شرحنا في القسم الأول من الكتاب أن نقاد الحديث القدامى هم المرجعية الوحيدة في معرفة صحة الحديث وخطئه ، لكونهم أهل تخصص وأصحاب ملكة وأرباب ذوق في الحديث ، وقد أقرّ بذلك الفقهاء المتأخرون أنفسهم ،ولم تكن هذه الملكة الحديثية المكتسبة من خلال الممارسة والمعايشة والاحتكاك بالحديث رواية ودراية موضع منازعة الآخرين ، ولذا لن يكون من الإنصاف العلمي أن ندمج في سلك النقاد الأوائل من ليس منهم ،وإن كان إماماً بارعاً ومحترماً في مجالات أخرى ،ولا أن يقال إن لكل إمام منهجاً خاصاً في التصحيح والتضعيف ،ولنا حرية الاختيار فيما بينهم .
... وإن كانت هذه القضايا قد سبق ذكرها في بعض أبحاثي حول زيادة الثقة فإن إعادتها هنا كانت ضرورية لإجراء الموازنة بين من صحح هذا الحديث وبين من ضعفه ، نظراً لما اتسم به بعض المواقف من خلط ونكص ، سامح الله صاحبها ، وغفر له .
__________
(1) ابن الصلاح ، علوم الحديث (المشهور بمقدمة ابن الصلاح ) ص : 90 ، وكذا في بقية كتب المصطلح وإن كان فيما بينها بعض التفاوت في السياق فإن المعنى واحد ، انظر على سبيل المثال كتاب المقنع 1/211 -212 ، فتح المغيث للسخاوي 1/210-211 ، وتوضيح الأفكار للصنعاني 2/22- 23 ، وتدريب الراوي للسيوطي 1/135.(1/86)
قول الشيخ الألباني في بيان علة حديث الخراز
... وبعد فأنقل أولاً كلام الشيخ الألباني - رحمه الله عليه - وهذا نصه بتصرف :
... حديث ( كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود ) باطل موضوع ، رواه البيهقي في الخلافيات من حديث محمد بن غالب حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، حدثنيا عبد الله بن عون حدثنا مالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعاً .
... قلت : (القائل الشيخ ) وهذا سند ظاهره الجودة ، وقد اغتر به بعض الحنفية ، فقال الحافظ مغلطاي : لا بأس بسنده ، ولا أدري كيف يقول بذلك مثل هذا الحافظ مع اشتهار الحديث في الصحيحين والسنن الأربعة ، والمسانيد عن مالك بإسناده المذكور عن ابن عمر برفع اليدين في الركوع أيضاً ، لاسيما وقد نبّه على ذلك مخرجه البيهقي وشيخه الحاكم فقالا : هذا باطل موضوع ، لا يجوز أن يذكر إلا على سبيل التعجب والقدح فيه ، فقد روينا بالأسانيد الزاهرة عن مالك خلاف هذا " .
... ثم نقل الشيخ قول بعض المعارضين لهذا التعليل وقال :
... " تضعيف الحديث لا يثبت بمجرد الحكم ، وإنما يثبت ببيان وجود الطعن ، وحديث ابن عمر هذا رجاله رجال الصحيح ، فما أرى له ضعفاً بعد ذلك ، اللهم إلا أن يكون الراوي عن مالك مطعوناً ، لكن الأصل العدم ، فهذا الحديث عندي صحيح لا محالة ".
... ورد عليه الشيخ الألباني بما خلاصته :
... " أن الحديث لا يعد صحيحاً إلا إذا توفر فيه ما ورد في تعريف الصحيح من الشروط ، ومن أهمها خلو الحديث من شذوذ وعلة ، وقد أشار الحاكم والبيهقي إلى أن الحديث لم يسلم من الشذوذ ،وذلك قولهما : فقد روينا بالأسانيد الزاهرة عن مالك خلاف هذا " .
... " والحاكم والبيهقي لم يحكما على الحديث بالبطلان بمجرد الدعوى ، كما زعم المعارض ، بل قرنا ذلك بالدليل لمن يريد أن يفهم ،وهو الشذوذ، على أن هناك أدلة أخرى تؤيد الحكم المذكور على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى " .
... " ولم لم يكن ثمة دليل على بطلان الحديث إلا وروده في كتاب الإمام مالك (الموطأ1/97) على خلاف هذه اللفظ لكفى ، فكيف وقد رواه جمع كثير من المصنفين والرواة عن مالك على خلافه ؟ " .
... وبعد تخريج رواياتهم عن مالك ، قال الشيخ :
... " والواقع أن الحديث بهذا اللفظ ( يعني المثبت لرفع اليدين في الصلاة ) المخالف لهذا الحديث الباطل متواتر عن مالك رحمه الله، فقد سرد ابن عبد البر أسماء من رواه عن مالك من الرواة ، فجاء عددهم نحو الثلاثين ، وقد وافقه أي مالكاً جماعة من الثقات في روايته عن ابن شهاب به .
... وبعد أن أورد رواية نافع عن ابن عمر مع تخريجها قال الشيخ :
... " إذا عرف هذا فهذه الروايات والطرق الصحيحة عن ابن عمر رضي الله عنه تدل على بطلان هذا الحديث من وجوه :
... الأول: ما أشار إليه الحاكم والبيهقي من مخالفة راوية عن مالك لجميع من رواه عنه من الثقات على خلاف هذا الحديث ، وإثبات الرفع الذي نفاه ، لا سيما وقد بلغ عددهم مبلغ التواتر كما سبق ،ومخالفة الفرد لأقل منهم بكثير يجعل حديثه شاذاً مردوداً عند أهل العلم ، فكيف وهم جمع غفير ؟
... الثاني : أن مالكاً رحمه الله لو كان عنده علم بهذا الحديث المنسوب إليه لرواه في كتابه الموطأ وعمل به ،وكل من الأمرين منفي ، أما الأول : فلما سبق بيانه أن روى فيه الحديث المخالف له بسنده هذا ، والآخر أنه عمل بخلافه ، وقال بمشروعية الرفع بعد الرفع في تكبيرة الإحرام ، كما حكاه عنه الترمذي في سننه ( 2/37)، ولم يحك عنه خلافه ، ونقل الخطابي والقرطبي أنه آخر قولي مالك وأصحهما كما في الفتح (2/174 ) .
... الثالث : أن ابن عمر رضي الله عنه كان يحافظ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على الرفع المذكور كما سبق ذلك عنه صريحاً ، فلو كان هذا الحديث ثابتاً عنه لما رفع ، وهو من أحرص أصحابه صلى الله عليه وسلم على اتباعه كما هو معلوم وكيف لا وقد صحّ عنه أنه كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى ، أخرجه البخاري في ( رفع اليدين ص8) ، وعبد الله بن الإمام أحمد في ( مسائله عن أبيه ) ،والدارقطني (108) بسند صحيح .
... الرابع : أن الذي روى هذا الحديث عن ابن عمر إنما هو سالم ابنه - فيما زعموا- ومن الثابت عنه أنه كان يرفع يديه أيضاً كما حكاه الترمذي أيضاً عنه ، وسبق ذلك في بعض الروايات عنه ، فلو كان هذا الحديث مما رواه عن أبيه حقاً لما خالفه أصلاً ، كما هو ظاهر .
... فدل ذلك كله على صحة قول الحاكم والبيهقي في الحديث : إنه باطل ، وأن قول الشيخ النعماني : " فهذا الحديث عندي صحيح لا محالة " محال! " .
... ثم قال الشيخ رداً على بعض من صحح حديث عبد الله بن عون عن طريق الجمع والتجويز العقلي :
... " ومما سبق تعلم بطلان قول الشيخ المذكور عقب جملته المذكورة ( وغاية ما يقال فيه : أن ابن عمر رأى النبي صلى الله عليه وسلم حيناً يرفع ، فأخبر عن تلك الحالة ، وأحياناً لا يرفع ، وأخبر عن تلك الحالة ،وليس في كل من حديثه ما يفيد الدوام والاستمرار على شيء معين منهما ، لفظ كان لا يفيد الدوام إلا على سبيل الغالب ) " .
... " قلت : هذا الجمع بين الروايتين باطل أيضاً ، لأن الشرط في الجمع إنما هو ثبوت الروايتين ، أما وإحداهما صحيحة ، والأخرى باطلة ، فلا يجوز الجمع حينئذ ، وكيف يعقل أن الراوي الواحد يقول مرة : كان لا يرفع ، وأخرى : كان يرفع ،ولا يجمع هو نفسه بينهما في عبارة واحدة ولو مرة واحدة ؟هذا مما لا نعرف له مثيلاً في شيء من الأحاديث "(1) انتهى قول الشيخ ناصر الألباني (رحمة الله عليه ) .
__________
(1) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 2/ 346 .(1/87)
خلاصة ما شرحه الشيخ ناصر الدين الألباني
... وخلاصة ما ذكره الشيخ ناصر الدين الألباني في سبيل على الحديث ووجه بطلانه ، هي : أن حديث الخراز شاذ للأسباب الآتية :
... أولاً : مخالفته جماعة كبيرة من أصحاب مالك ، إذ تفرد الخراز عن مالك بما لم يذكره أحد من أصحابه .
... ثانياً : أنه مخالف أيضاً للواقع العملي عند ابن عمر وكذا عند سالم رواي حديثه .
... ثالثاً : أنه مخالف أيضاً لما في الموطأ كتاب الإمام مالك .
... وأن هذه المخالفة على هذا النحو إنما هي نتيجة تصرف وقع من أحد الرواة اللاحقين بعد مالك ، وروايته بالمعنى الذي كان يعتقده .
... وجميع ما ذكره الشيخ هنا في الغاية من الدقة لكونه متسماً بمنهجية واضحة مطابقة لقواعد النقد عند المحدثين الأوائل ، إلا في بعض ما يخص عمل الإمام مالك رحمه الله .
(1/88)
تعقيب الشيخ عبد الفتاح أبوغدة على ما سبق
... ورد الشيخ عبد الفتاح ( رحمة الله عليه ) هذه الأمور بإطناب ، وخلاصة هذا الرد تتمثل فيما يلي :
... أولاً : أختلف المحدثون أنفسهم في مدى ضرورة سلامة الحديث من الشذوذ ليصح .
... ثانياً : إن هذا الشذوذ لا يكون قادحاً لصحة الحديث عند أئمة الأصول والفقه .
... ثالثاً : إن الشذوذ عند المحدثين إنما هو في إطار ضيق ،وغير مستوعب لجميع جوانبه ، إذا يعتمدون في ذلك على مرجحين فقط ، دون المرجحات الأخرى ، حيث تبلغ مائة مرجح ،ولذا فما يعده المحدثون شاذاّ بناء على أحد المرجحين لا يكون شاذاً كذلك عند الفقهاء الذي ينظرون إليه من زوايا متعددة.
... رابعاً : ارتفع هذا الشذوذ المزعوم - حسب تعبير الشيخ - بوجود شواهد .
... وتفصيل هذه النقاط مع المناقشة كالآتي :
... أما الأمر الأول فقد قال فيه الشيخ :
... "وهذا الذي زعمه الألباني لا يسوى سماعه حسب قواعد المحدثين ، فإن المحدثين يختلفون في أن الشذوذ هل ينافي الصحة أم لا ؟ فضلاً عن أن يقضي ذلك الوضع أو البطلان .
... قال الحافظ السيوطي في تدريب الراوي :
... " قيل : لم يفصح ابن الصلاح بمراده من الشذوذ المشترط نفيه في تعريف الحديث الصحيح ، وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال :
... أحدها : مخالفة الثقة لأرجح منه .
... والثاني : تفرد الثقة مطلقاً .
... والثالث : تفرد الراوي مطلقاً .
... ورد ابن الصلاح هناك المعنيين الأخيرين ، فالظاهر أنه أراد هنا الأول.
... قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر : وهو مشكل ، لأن الإسناد إذا كان متصلاً وكان رواته كلهم عدولاً ضابطين ، فقد انتفت عنه العلل الظاهرة ، ثم إذا انتفى كونه معلولاً فما المانع من الحكم بصحته ؟ فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه أو أكثر عدداً لا يستلزم الضعف ، بل يكون من باب صحيح أو أصح .
... قال : ولم أرَ مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة ، وإنما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة .
... ثم قال : فإن قيل : يلزم أن يسمى الحديث صحيحاً ولا يعمل به ، قلت : لا مانع من ذلك ، إذ ليس كل صحيح يعمل به ، بدليل المنسوخ " .
... ونقل الشيخ عبد الفتاح عن السخاوي هذا القول أيضاً ، ثم قال :
... " ومن أصحاب الصحاح الذي لم يشترطوا نفي الشذوذ والعلة في الحديث الصحيح : الحافظ ابن حبان وشيخه ابن خزيمة رحمهما الله تعالى " اهـ .
(1/89)
مناقشة قول الشيخ عبد الفتاح الذي أثار شبهات حول مفهوم " الشاذ "
... هكذا رفض الشيخ عبد الفتاح أن يضعف الحديث بشذوذه ، معولاً على نص الحافظ ابن حجر وغيره ، وكنت أستغرب صدور مثل هذا الكلام من الشيخ (رحمه الله ) ، الذي له باع طويل في الحديث وعلومه .
... وإن كان نص الحافظ ابن حجر يفيد بظاهره أن ثقة الراوي واتصال السند يكفي في الحكم على الحديث بصحته ، وأن خلوه من شذوذ وعلة ليس شرطاً للصحة ، لكن الحافظ نفسه ينقض هذه القاعدة جملة وتفصيلاً ، ولذا فإن هذا النص الغريب لا يصح اعتماده ، دون بحث عن نصوص الحافظ ابن حجر التي تدل بصراحة على أن خلو الحديث من شذوذ وعلة أهم شروط الصحيح . وإليك بعض هذه النصوص .
... يقول الحافظ ابن حجر ( رحمه الله ) :
... " صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ والنكارة " (1).
... " وهذا ( يعني قبول زيادة الثقة مطلقاً ) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محي الدين النووي في مصنفاته . وفيه نظر كثير ؛ لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم ، ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتني بمروياته كالزهري وأضرابه بحيث يقال : إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها ، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة " .
... " وقد نص الشافعي في ( الأم ) على نحو هذا فقال في زيادة مالك ومن تابعه في حديث ( فقد عتق منه ما عتق ) (2) : إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه ، أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه ، وهم عدد وهو فرد ، فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عدداً أنها تكون مردودة(3). انتهى .
... وقال أيضاً في رده على الدارقطني : وأما من حيث التفصيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل(4) .
... وقال أيضاً : " وأما المخالفة فينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الضابط والصدوق شيئاً فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكراً ، وهذا ليس في الصحيح منه إلا نزر يسير قد بين في الفصل الذي قبله بحمد الله تعالى (5).
... هذا والحافظ ابن حجر قد كان يقر بأن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة شرط أساسي في الصحيح ، حيث إنه في أثناء رده على الإمام الدارقطني في جميع اعتراضاته على الإمام البخاري بأحاديث اختلف الرواة فيها لم يكن يدّعي أن الشذوذ ليس قادحاً في صحة الحديث ، وأن انتفاءه في الحديث ليس شرطاً في ذلك لدى أصحاب الصحاح .
... ثم إنه يبدو أن هذا الكلام صدر من الحافظ ابن حجر كمجرد نزاع في مسألة المخالفة ، كما عبّر عن ذلك السخاوي بقوله : " إن الحافظ قد مال إلى النزاع " ، وكيف لا ! وهو الذي حرر مسألة الشذوذ ، مؤكداً على قدحها في صحة الحديث . ثم إن كتب العلل والسنن والمسانيد تزخر بأحاديث الثقات التي أعلها النقاد بالمخالفة والتفرد ،وليس من الإنصاف العلمي غض الطرف عن هذا الواقع الملموس ليعول على قول الحافظ الذي يعد مجرد نزاع في مسألة الشذوذ المتمثل في المخالفة : هل يشترط في الصحيح أن يكون خالياً منه أم لا ، دون أن يؤصل ذلك كقاعدة ؟
... هذا وقد أعلّ الحافظ ابن حجر الذي نحن بصدده بقوله :"هذا الحديث مقلوب موضوع" مع كونه صاحب القول الذي اعتمده الشيخ عبد الفتاح كقاعدة في تصحيح ذلك الحديث ، وهذا دليل واضح وناصع على أن الحافظ ابن حجر لم يرد بذاك النص التقعيد والتأصيل .
... وإن كان بعض نصوص الأئمة الواردة في الصحيح قد يوهم الاكتفاء بثقة الراوي واتصال السند ، لكن عملهم المستفيض يفسر بأن ذلك في حالة إذا لم يظهر لهم خطأ ووهم من الراوي الثقة وأما في حالة ثبوت الخطأ والوهم من خلال مخالفته الواقع ، أو تفرده بما ليس له أصل ، مثل الذي نحن بصدده ، فليس من المنهج بشيء أن يقال إن المحدثين اختلفوا في اشتراطهم خلو الحديث من الشذوذ والعلة .
... وقد رأيت هذا الموقف ذاته مع أحد شيوخ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، فحين شرحت له بعض أخطائه العلمية الفادحة ، المتمثلة في تصحيحه ما أعله النقاد من الأحاديث ، قال لي : إن سلامة الحديث من المخالفة والشذوذ ليس شرطاً في صحة الحديث مستدلاً بقول الحافظ ابن حجر هذا .
... كما وقع لشارح سنن الترمذي والمباركفوري ، حين حكم التيموري على حديث يحيى بن سعيد في وضع اليدين على الصدر ، بأنه شاذ ، لكونه مخالفاً للآخرين ، فقال الشارح ما معناه : ليس كل مخالفة تعد شاذة ، وإنما الصواب تقييد المخالفة بالمنافاة بحيث يتعذر الجمع(6) .
... ولا شك أن مثل هذا التذبذب والاضطراب في تطبيق مثل هذه المسألة من مسائل علوم الحديث يكون طبيعياً لدى جميع الفئات ، وأصحاب الاتجاهات المختلفة ، إذا نظرنا بتمعن وإنصاف في طبيعة دراستنا لكتب المصطلح ، إذا كانت سطحية : نطلق فيما ينبغي تقييده ، ونقيد فيما يجب إطلاقه ، دون مراعاة منهج النقاد في ذلك ، ولذلك أصبحت القواعد الأساسية في علوم الحديث غير مؤصلة لدينا بشكل واضح .
... هذا ويمكن الجمع بين ما نقل الشيخ عبد الفتاح عن الحافظ ابن حجر وبين نصوصه الأخرى التي تدل على أن الشاذ قادح في الصحة ، بأن هذا النص إنما هو في حالة عدم تبين خطأ المخالف من خلال القرائن ، إذ المخالفة لا تعتبر بحد ذاتها شاذة ، وقد رأينا ابن الصلاح قد بيّن لنا في نوع العلة بأن المخالفة أو التفرد التي تصحبها قرائن تنبه العارف بهذا الشأن أنه خطأ ووهم ، هي التي تعد علة ، وليس مجرد المخالفة التي تكون هي محل نزاع لدى الحافظ ابن حجر ، فيما أرى.
... وفي ضوء ذلك فإن الحديث الذي تفرّد به عبد الله بن عون الخراز عن الإمام مالك مخالفاً الواقع الحديثي المعروف عنه ، ثم المعروف عن الزهري ثم المعروف عن ابن عمر ثم المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية وعملاً فلا ينبغي رده اعتماداً على نص الحافظ ، علماً بأن الحافظ نفسه قال بأنه مقلوب موضوع .
__________
(1) النكت 1/404.
(2) رواه البخاري في العتق باب إذا أعتق عبداً بين اثنين 2/892 ، ومسلم في أول كتاب العتق 2/1139.
(3) الحافظ ابن حجر ، النكت 2/688.
(4) هدي الساري مقدمة فتح الباري 1/11 .
(5) مقدمة الفتح 1/384-385.
(6) تحفة الأحوذي 1/216-17 . وقد ناقشنا هذه المسألة بإطناب في أحد أبحاثي المقبولة للنشر في مجلة كلية الشريعة بجامعة الكويت .(1/90)
إشكالات أخرى في نص الحافظ ابن حجر
... ثم في سياق نص الحافظ بعض الإشكالات ، وهي أنه يقول : " لأن الإسناد إذا كان متصلاً وكان رواته كلهم عدولاً ضابطين ، فقد انتفت عنه العلل الظاهرة ثم إذا انتفى كونه معلولاً فما المانع من الحكم بصحته " وفيه نظر ، لأنه إذا كان الراوي ثقة ، وكان سنده متصلاً لا يلزم من ذلك انتفاء العلة مطلقاً ، إنما يلزم منه إنتفاء العلة الظاهرة المتمثلة في ضعف الراوي وانقطاع السند فقط ، كما صرح بقوله :" فقد انتفت عنه العلة الظاهرة " ، وعلى هذا يجب أن يكون معنى قوله " ثم إذا انتفى كونه معلولاً " أي معلولاً ظاهراً " وليس على إطلاقه .
... وبالتالي فإن التساؤل بقوله : " فما المانع عن الحكم بصحته " إنما يصح بعد جملة : " ثم إذا انتفى كونه معلولاً بعد تتبع القرائن الأخرى " وأما قبل التتبع والفحص عنها ، فلا يقال " ثم انتفى كونه معلولاً فما المانع عن الحكم بصحته " وذلك أن الحديث لا يصحح بثقة راويه واتصال سنده دون تتبع وبحث عما يحيط به من القرائن التي هي أساس الحكم على الحديث صحة أو ضعفاً ، إذ لم يعتبر ذلك أصلاً في مسألة التصحيح إلا في حالة عدم العثور على ملابسات الرواية وقرائنها .
... هذا وقد قال السخاوي : " وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة ( وهي : العدالة والضبط والاتصال )صحيحاً ، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده ، فشاذ وهو استرواح ، حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفياً وإثباتاً فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك ، وربما إلى التصحيح متمسكاً بذلك من لا يحسن ، فالأحسن سد هذا الباب . وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحة الإسناد بجواز الحكم قبل التفتيش ، حيث قال : " لأن عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر " فتصريحه بالاشتراط يدفعه ، مع أن قصر الحكم على الإسناد - وإن كان أحق - لا يسلم من الفقهاء " (1) . يعني فقهاء المتأخرين بدون شك .
... ويقول البيهقي ( رحمه الله ) : "وهذا النوع من معرفة صحيح الحديث من سقيمه لا يعرف بعدالة الرواة وجرحهم وإنما يعرف بكثرة السماع ومجالسة أهل العلم بالحديث ومذاكرتهم والنظر في كتبهم والوقوف على روايتهم حتى إذا شذَّ منها حديث عرفه " (2).
... وقال الحاكم ( رحمه الله ) : إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث . فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة ( رواة الحديث ثقات ) غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته "(3).
... وقال في صدد بيان العلل : " والحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير"(4) . وقال أبوحاتم : " وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا "(5) .
... وكانت هذه التصريحات محل قبول وتقدير لدى جلة أهل العلم ، ولم ينازع أحد منهم نقاد الحديث في ذلك ، ولم يقل لهم : لكم منهج ولنا منهج . وكانت قصة أبي حاتم مع أحد جلة أهل الرأي معروفة لدى المشتغلين بالحديث ،وكذلك قصة البيهقي مع الإمام الجويني .
... وأما قول الحافظ ابن حجر " فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه أو أكثر عدداً لا يستلزم الضعف " فسليم ، لكن الإشكال : من الذي يعد تلك المخالفات كلها شاذة ؟ لا أحد .وإنما الشاذ - كما ذكر هو- مخالفة الراوي للراجح ، أو للواقع ، وقد يكون ما رواه الأوثق شاذاً مرجوحاً ،كما تكون رواية الجماعة شاذة أحياناً ، وبالتالي ، وأن معرفة الواقع والراجح تعتمد أساساً على القرائن ، وقد يكون من القرائن كون الراوي أوثق أوالعدد في الرواة ، لكن ليس مطرداً .
__________
(1) فتح المغيث 1/20 ( تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، ط : 2 ، سنة 1388هـ ، المكتبة السلفية ) .
(2) معرفة السنن والآثار 1/144 .
(3) معرفة علوم الحديث ص : 59-60 ( تحقيق لجنة إحياء التراث العربي ، ط : 4 ، سنة 1400هـ دار الآفاق ) .
(4) المصدر السابق ص : 113.
(5) مقدمة الجرح والتعديل 1/350 .(1/91)
ورود المختلف فيها في الصحيحين جعله الشيخ أبو غدة دليلاً على عدم قدحية الشذوذ
في حديث الخراز ،ومناقشة ذلك
... ومما استدل به الشيخ عبد الفتاح على أن الشذوذ ليس قادحاً في صحة الحديث الأحاديث الواردة في الصحيحين مع وجود الاختلاف فيها بين رواتها . وهذه الأمثلة التي سردها الشيخ من صحيح البخاري أو صحيح مسلم نقلاً عن تدريب الراوي تختلف تماماً عن حديث الخراز الذي أعله بعض النقاد وتركوه ، وبينهما بون شاسع ، وكان ينبغي ،إدراج هذا الحديث ضمن الأحاديث المعلولة التي ترك روايتها البخاري ومسلم في صحيحيهما . وعليه يكون الأجدر بهذا الحديث الذي هو محل المناقشة أن يقاس على تلك التي أعلها النقاد وحكموا عليها بالبطلان ،وليس على تلك الأنواع التي لم يرتق فيها الاختلاف والاضطراب إلى درجة التأثير .
... ثم إن الاختلاف والاضطراب تختلف آثاره في الحديث سلبياً بقدر قوة القرائن التي تحيط به ،ولا تكون القرائن على مستوى واحد في دلالتها على وجود الوهم والخطأ ، وما لم يدل من القرائن على وجود الوهم يقيناً في حديث لا يعني أن جميع أنواع المخالفة يكون كذلك ، وهذا أمر بدهي يقبله الجميع .
... هذا فإن كثيراً من تلك الأمثلة التي سردها الشيخ عبد الفتاح نقلاً عن تدريب الراوي إنما تكون أمثلة للاضطراب حول بعض الجمل التي تضمنها الحديث ، ولم تكن تلك الجملة المضطربة محل استدلال لدى البخاري ومسلم ، أو قد يصحح أحدهما بعض الأحاديث منها مع أنها معلولة لدى الآخرين ، وذلك اقتناعاً منه بصحتها ، ومثل هذه الاختلاف الجزئي بين أئمة النقد لا يعني أبداً أنهم مختلفون في ضرورة الاحتراز من الشذوذ ، وإن كان الإمام مسلم قد صحح بعض الأحاديث التي فيها اختلاف بين رواته اقتناعاً منه بذلك ، فإن كتابه التمييز ، وكذا مسنده الصحيح ، أوضح برهان على أنه متفق مع النقاد على ضرورة اشتراط خلو الحديث من علة وشذوذ ، فكم من الروايات أعلها مسلم في كتابه التمييز ، وترك ذكرها في صحيحه رغم كون رواتها أئمة ثقات .
... والأمر الذي يلفت الانتباه هو : أن المعاصرين يربطون العلة والشذوذ بمرويات ، وعندما يشير أحد النقاد إلى علة فيما رواه الثقة بمخالفته للراجح أو تفرده به ، يردونه ويقولون : " هذا ثقة لا يضر تفرده ، أو لا تضر مخالفته " . عجباً لهذا الموقف ! ولهذا التناقض الغريب بين التنظير والتطبيق !!
(1/92)
هل يعد صنيع ابن خزيمة وابن حبان في تصحيح الأحاديث المختلف فيها ، دليلاً على عدم قدحية الشذوذ ؟
... ومما احتج به الشيخ عبد الفتاح على عدم قدحية الشذوذ في صحة حديث الخراز تصحيح ابن خزيمة وابن حبان الأحاديث الكثيرة مع كونها شاذة ،والجواب عن ذلك أن ابن خزيمة وابن حبان قد عدهما الحافظ ابن حجر والسيوطي وغيرهما من أصحاب كتب المصطلح ضمن المتساهلين في التصحيح ، فكيف إذن يكون موقفهما في التصحيح دليلاً على قبول الحديث الشاذ ، وكيف يكون حجة على رفض موقف الأئمة الآخرين الذين يعلون من أحاديث الثقات ما تفرّد أحدهم به ، أو خالف فيه الراجح ،والملاحظ أن الإمام الحاكم مع كونه أكثرهم تساهلاً باتفاق الجميع قد ردّ هذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عون الخراز بمخالفته الواقع الحديثي والعلمي ، بل عبّر بأنه باطل موضوع .
الأمر الثاني الذي اعتمده الشيخ في تصحيح حديث الخراز
... وأما الأمر الثاني الذي استند إليه الشيخ عبد الفتاح في تصحيح حديث الخراز الذي نحن بصدد مناقشته فيقول فيه الشيخ : " … هذا كله على مذهب المحدثين لا سيما أصحاب الصحاح منهم ، وأما عند الفقهاء والأصوليين فليس الشذوذ - بالمعنى المصطلح عند المحدثين - علة تقدح في صلاحية الحديث للاحتجاج به أو العمل وفقه " .
... ونقل عن ابن دقيق العيد قوله في الاقتراح ص 153: " وفي هذه الشرطين - عدم الشذوذ والعلة - نظر على مقتضى نظر الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء " .
... كما نقل قوله في شرح الإلمام : " لكل من أئمة الفقه والحديث طريقاً غير طريق الآخر ، فإن الذي تقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث عدالة الراوي وجزمه بالراوية ،ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه ، فمتى حصل ذلك وجاز ألا يكون غلطاً وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه ، فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته " ا هـ .
... أقول : لقد خصصت حيزاً كبيراً في المبحث الأول من القسم الأول من هذه الكتاب لمعالجة هذه الشبهة ، ولا فائدة تذكر في إعادتها مرة أخرى .
(1/93)
الأمر الثالث الذي اعتمده الشيخ في تصحيح حديث الخراز
... وأما الأمر الثالث الذي اعتمده الشيخ عبد الفتاح في تصحيح الحديث ، فهذا نصه :
... " وقال شيخ الإسلام المحدث المفسر شبير أحمد العثماني ( رحمه الله تعالى ) في مقدمة ( فتح الملهم ص 153) بعد نقل كلام السخاوي المذكور ما نصه :
وعلى تقدير اشتراط عدم الشذوذ في الصحيح ، وتفسير الشذوذ بمخالفة الثقة لمن هو أرجح منه بحيث يتعسر الجمع بين روايتيهما : إنما يقتصرون في الحكم بالشذوذ على الأرجحية من جهة كثرة العدد أو قوة الحفظ فقط ، ولا يلتفتون إلى غيرهما من وجوه الترجيح بين الروايات التي تزيد على مئة وجه - كما ذكره السيوطي في التدريب - إلا إلى بعض أحوال الرواة نادراً ، ولا يكادون يتجاوزون منها إلى ترجيح المرويات بعضها على بعض من حيث الحكم والمعنى .
ولعل هذا اصطلاح منهم بحسب موضوعهم ، فإن وظيفتهم الأصلية على الإٍسناد أو على المتن من جهة الإسناد ، فكأنهم أحالوا الخارج عن وظيفتهم على الفقهاء والأصوليين الذين وظيفتهم انتقاد المتون ، والبحث عن معانيها ، وترجيح بعض الأحاديث على بعض من حيث الحكم والمعنى ، وبما يرجع إلى غير أحوال الرواة وكيفيات التحمل ، فإن لكل فن رجالاً يقدمون في فنهم على غيرهم .
قال الترمذي رحمه الله في جامعه : الفقهاء هم أعلم بمعاني الأحاديث (1) . وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر رحمه الله : ولابن حبان تفصيل حسن (أي في تفاضل إسنادين أحدهما عن شيوخ الحديث مع قلة الوسائط ، والآخر عن الفقهاء مع كثرتها ، فأيهما يوصف بالعلو ) قال : إن النظر إن كان للسند فالشيوخ أولى ، وإن كان للمتن فالفقهاء ..
وأيضاً قد اشترطوا في الشاذ تعسر الجمع بينه وبين المحفوظ ، فقد يتيسر لقوم أمر يتعسر عند غيرهم ، والأئمة والفقهاء رحمهم الله هم الميسرون للجمع بين متون الأحاديث فهم المقدمون في هذا الباب .
قال صاحب التنقيح - ابن عبد الهادي - بعد الكلام على حديث عبد الملك بن أبي سليمان في الشفعة : وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث لا يقدح فيه ، فإنه ثقة ، وشعبة لم يكن من الحذاق في الفقه ، ليجمع بين الأحاديث إذا ظهر تعارضاً ، إنما كان حافظاً ، وغير شعبة إنما طعن فيه تبعاً لشعبة .
فالإنصاف أن الحكم بالشذوذ من المحدثين لما كان مرجعه الترجيح من حيث كثرة العدد أو قوة الحفظ ونحوهما : لا يستلزم كون الحديث شاذاً مردوداً عند غيرهم من الفقهاء غير محتج به في الأحكام ، فإن وجوه الترجيح غير محصورة ، فلا يبعد أن يكون الحديث المرجوح من جهة تفرد الراوي أو قصور حفظه أرجح مما يقابله من سائر جهات الترجيح ..
فإن الشاذ ولو كان مردوداً لكونه مرجوحاً عند المحدثين من جهة خاصة يحتمل أن يكون راجحاً بحسب المتن من جهات أخر عند غيرهم ، فلا يمنع حكمهم بالشذوذ تجشم سائر المرجحات لغيرهم ،ولا منافاة بين كون الشيء مردوداً ومقبولاً من وجهين فليحفظ " انتهى كلام الشيخ العثماني مختصراً .
ثم عقبه الشيخ عبد الفتاح فقال :
" وبما تقدم من النصوص تبين للقارئ الكريم أن الشذوذ - بالمعنى المصطلح عليه عند المحدثين - لا ينافي الصحة الاصطلاحية ، فضلاً عن أن يستلزم الوضع والبطلان ، وهذا عند أصحاب الحديث مصنفي الصحاح وغيرهم " .
" وأما عند الفقهاء والأصوليين فالأمر أوسع ، فإن الشذوذ - وحده- لا يقدح عندهم في صلاحية الحديث للاحتجاج به أيضاً ، كما سبق في كلام الإمام ابن دقيق العيد وبحث المحقق العثماني رحمهما الله تعالى " .
"وبهذا يظهر أن حكم الحاكم والبيهقي ببطلان حديث ابن عمر المبحوث عنه لأجل الشذوذ : لا يبتني على أساس صحيح (!!) ، بل الحكم البطلان بمجرد الشذوذ يخالف قواعد الحديث والفقه جميعاً ، ويظهر أيضاً أن تعقب السندي أو النعماني ! حكم الحاكم والبيهقي وارد في محله " .
انتهى كلام الشيخ عبد الفتاح .
وهذا النص كله مخالف للواقع العلمي الذي كان عليه منهج المحدثين النقاد ، ولذا كنت اتعجب كيف صدر هذا الكلام من الشيخ شبير أحمد ، وكيف جعله الشيخ عبد الفتاح أمراً مسلماً ، وإذا أرد عليهما محتوى هذه النصوص جملة وتفصيلاً فإني أقصد الدفاع عن الحق والصواب ، مع احترامي وتقديري لهما .
وقد سبق في القسم الأول من هذا الكتاب ما يدعو إلى احترام أهل التخصص في دائرة تخصصهم ، معززاً بنصوص الأئمة ، وإذا كان نقد المرويات ورواتها من اختصاص المحدثين النقاد ، فإن استنباط الفقه من النصوص القرآنية والنبوية يكون من وظائف الفقهاء المجتهدين ، مع العلم أن المحدثين النقاد في عصور الرواية ؛ كمالك وسفيان والشافعي وأحمد والبخاري وغيرهم ممن جمعوا بين الحديث والفقه من النقاد الأوائل يشكلون مدرسة في الحديث والفقه .
ومن الجدير بالذكر أن نقد المرويات يتوقف على فهم معانيها ، كما يتوقف على معرفة ملابسات روايتها، وهذا معنى قول الإمام الحاكم : الحجة عندنا الحفظ والفهم والمعرفة " (2) ، وليس هذا مجرد دعوى فارغة ، وإنما يشهد لذلك واقع عملهم في النقد ، ومن تتبع كتاب التمييز للإمام مسلم يتجلى له ذلك بوضوح ، فضلاً عن عشرات الكتب في العلل والصحاح .
__________
(1) كتاب الجنائز ، باب ما جاء في غسل الميت 2/230 .
(2) معرفة علوم الحديث ، ص 112 .(1/94)
القرائن لم يحصرها المحدثون في الأوثقية والتعدد
... وقد تضمن هذا النص الذي نقلته عن الشيخ عبد الفتاح قضايا مهمة تحتاج كل منها إلى تمهيد لبيان ما يحيط بها من شبهة ، وردها منهجياً وتاريخياً ، وهذه الفقرات التي قمت بترقيمها تتمحور عموماً حول مفهوم الشاذ وما يتعلق به .
... أما الفقرة الأولى ، وهي : أن الشاذ عند المحدثين مخالفة الثقة لمن هو أرجح منه بحيث يتعسر الجمع بين روايتهما : إنما يقتصرون في الحكم بالشذوذ على الأرجحية من جهة كثرة العدد أو قوة الحفظ فقط ، ولا يلتفتون إلى غيرهما من وجوه الترجيح بين الروايات التي تزيد على مئة وجه - كما ذكره السيوطي في التدريب - إلا إلى بعض أحوال الرواة نادراً ، ولا يكادون يتجاوزون منها إلى ترجيح المرويات بعضها على بعض من حيث الحكم والمعنى .
... فأقول- وبالله التوفيق - إن المحدثين النقاد لم يضيقوا مدلول الشاذ كما ورد في هذه الفقرة ، لا نصاً ولا عملاً ، كما ضيقه متأخرون علماء الفقه والأصول ممن ألفوا في مصطلح الحديث ، والشاذ عند المحدثين هو ، كما نقل الحافظ أبو يعلى عن حفاظ الحديث بقوله : " الشاذ عند حفاظ الحديث ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ، ثقة كان أو غير ثقة فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به " (1) .
... ويمكن القول إن الجملة الأخيرة تفيدنا أن تفرد الثقة لا يطلق عليه الرد ، أوالقبول ، وإنما ينبغي النظر فيما يمكن أن يحفه من القرائن ، وإذا تأكد من خلال القرائن أنه صحيح وقد أتقن فيه ، يقال حينئذ : إنه تفرد بما له أصل ، ولا مانع من تسميته شاذاً بمعنى غريب كما يصح القول صحيح غريب يصح القول شاذ صحيح ، وقد ندر في كلام النقاد استخدام هذا المصطلح المركب .وأما إذا تأكد أنه خطأ ووهم ، يقال إنه تفرد بما ليس له أصل . ويكون هذا شاذاً مردوداً .وأما إذا لم يتأكد ذلك من خلال القرائن فيتوقف فيما تفرد به الثقة ولا يحتج به ، وهذا أحوط ،وإلا فلا مانع من الاحتجاج به نظراً إلى أغلب حالة في الضبط والإتقان ، وهذا طبعاً لا يفيد العلم بصحته ،وإنما فيه الظن فقط .
... وعلى هذا المعنى يندرج الشاذ ضمن العلة ، غير أن الشاذ يكون أشد غموضاً في حال كون الراوي ثقة كما أشار إلى ذلك الإمام الحاكم (2) .
... وأما على المعنى الذي استقر عليه المتأخرون في كتب المصطلح فيكون الشاذ مقيداً بمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه أو أكثر عدداً ، والذي يلاحظ في ذلك تقييده بهاتين القرينتين ، وهما : الأوثقية ، والتعدد ،وأن هذا التقييد ، وحصر القرائن في هذين الأمرين لم يكن معروفاً في منهج المحدثين النقاد ، غير أن الحافظ ابن حجر قد أجاد في بعض كتبه حين جعل الشاذ مقيداً بمحافظة الثقة للراجح ، بحيث يتعذر الجمع بينهما على قواعد المحدثين(3) . وعليه فإن الشاذ هو بذاته يكون العلة ، ومن المعلوم أن الراجح إنما يعرف ويحدد في ضوء القرائن المحيطة به، وليس بالأوثقية والتعددية فقط .
... وأما ما ورد عن الإمام الشافعي ، وهو قوله إن الشاذ مخالفة الثقة لما رواه الناس ، فلم يكن ذلك منه -رحمه الله - على وجه التعريف المتعارف لدى المتأخرين بعلوم المنطق ،وليس من شأن الإمام الشافعي ، ولا من أهل عصره أن يحددوا المصطلحات بتعريفاتها ، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ذلك ، إذ كانت لغتهم العلمية يفهمها بعضهم بعضاً ، لاحتكاكهم بالجو العلمي النقدي ،وإلا فلماذا تم اختيار هذا المصطلح ، مع كونه قليل الاستعمال فيما بينهم ، ليحدد معناه ، دون مصطلحات أخرى ،وهي أكثر استعمالاً ، وأكثر تعقيداً ، وبالتالي لا يفيد هذا النص أن الإمام الشافعي قد خالف المحدثين النقاد في كون الشاذ مقيداً بمخالفة الثقة لما رواه الناس دون غيرها .
... والذي يبدو لي أن قول الإمام الشافعي ( رحمه الله تعالى ) في توضيح مدلول كلمة " الشاذ " كان لفتة عظيمة أراد بها الدفاع عن موقف أهل السنة والجماعة تجاه خبر الخاصة ، وحجية الحديث الذي ينفرد به الثقة عن الثقة ، وكان ذلك محل خلاف بينهم وبين أهل البدع ، إذ يشترطون التعدد ليكون الحديث صالحاً للاحتجاج .
... وقول الشافعي هذا إنما حكاه عنه يونس بن عبد الأعلى بقوله :
... قال لي الشافعي :" ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره ، هذا ليس بشاذ ، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس ، هذا الشاذ من الحديث " (4)
... وتدل هذه الحكاية على أن ذلك كان في مناسبة علمية خاصة ، وذلك لأن الشافعي لم يبين هذا المعنى في كتبه ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فالذي ورد في كتابه الأم هو قوله : " فعليك من الحديث بما تعرفه العامة ، وإياك والشاذ منه "(5) .وهذا يفيد أن كل ما لا يعرفه العامة ( يعني الحفاظ ) عنده شاذ مردود لا يقبل .
... وأما الذي نقله يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي فكان في سبيل الدفاع عن موقف أهل السنة والجماعة ، كما سبق ذكره ، وذلك أنه لو كان أهل السنة والجماعة يطلقون الشذوذ في الحديث الذي يتفرد به الثقة عن الثقة لكان ذلك تأييداً لموقف أهل البدع الذين لا يقبلون خبر الآحاد . ولذا فإن الإمام الشافعي بموقفه هذا تجاه خبر الخاصة لم يؤصل فكرة جديدة في مفهوم الشاذ ، ولا يرى أن كل ما انفرد به ثقة عن ثقة يعد حجة ، على أية صورة وقع هذا التفرد ، وهذا واضح وجلي من خلال بيانه شروط الاحتجاج بخبر الخاصة ، إذ لم يكتف ( رحمه الله ) فيه كون راويه ثقة فحسب .
... ولهذا يكون معنى قوله في الشاذ أنه ليس كل ما انفرد به الثقة عن الثقة يعد شاذاً مردوداً ، وإنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس ، هذا الشاذ من الحديث ، ويمكن القول إن هذا النص يشمل نوعي المخالفة : المخالفة الصريحة ، والمخالفة الضمنية . أما الأولى فأعني بها ما يكون فيه مخالفة بين الرواة المشتركين في رواية حديث عن شيخهم ،وأما الثانية فهي تفرد الراوي عن شيخ معروف بما لا يعرفه الآخرون ،وهذا يتضمن المخالفة في ذكر الحديث وعدمه . ولذلك فكل مخالفة يلزم منها التفرد ، كما تلزم المخالفة من التفرد .
... كما لا يفهم من نص الإمام الشافعي أنه قد اتخذ موقفاً مناهضاً لموقف الحفاظ الثقات في مسألة التفرد ؛ فكان يقبل ما تفرد به الثقة مطلقاً ، وحتى الذي ينص النقاد على بطلانه ، كلا ، بل كان ( رحمه الله ) يعتمد أيضاً على النقاد في معرفة صحة الحديث وضعفه ؛ فيقبل ما أثبتوه من الأحاديث ويرد ما أنكروه ، هذا ما قاله الحافظ ابن حجر :"أن الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث " (6) .
... ولذلك فليس فيما ذكره الإمام الشافعي ما يبني عليه معنى الشاذ كتعريف يتحدد به مصطلح الشاذ . والله أعلم .
... وما أريد قوله هنا أن تحديد القرائن وحصرها في أمرين اثنين من خلال تعريفهم للشاذ بأنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق أو لما رواه الناس إنما كان ذلك من قبل الفقهاء المتأخرين ، وكان الأولى أن يقال في ذلك أنه مخالفة الثقة للثابت أو الراجح ، ويعرف هذا الراجح والثابت بقرائن مختلفة لا تحصى بضوابط معينة.وعليه يكون الشاذ بعينه العلة ، ولا يختلف عنها - لا معنى ولا حكماً - بتغير التسمية ، وهذه العلة أو الشاذ إنما تكتشف بتفرد الراوي بما لا أصل له ، أو بمخالفته للمعروف أو الثابت ، ولم يجعل أحد من النقاد - لا نصاً ولا عملاً - القرائن التي تنبه العارف بأنه هو الثابت محصورة في الأوثقية والعدد ، بل كانت المرجحات عندهم كثيرة ، فقد قال العلائي : ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ؛ ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة ، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده " (7)
... وقال ابن رجب :" ولهم ( يعني نقاد الحديث ) في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابطه يضبطه "(8) ، وقد أقر ذلك الحافظ ابن حجر في مؤلفاته كما سبق نقل نصوصه في هذا الخصوص . وإذا نظرنا في عمل النقاد نجد ما يؤيد ذلك ، حيث يرجحون رواية الثقة على الأوثق حيناً ، وعلى الجماعة حيناً آخر .
... قال الحافظ ابن حجر : " هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غائصاً وإطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ، ومعرفة ثاقبة ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم ، وإليهم المرجع في ذلك ، لما جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والإطلاع على غوامضه ، دون غيرهم ممن يمارس ذلك . وقد تقصر عبارة المعلل منهم ، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى ، كما في نقد الصيرفي سواء ، فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما تتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه ، وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : وفي حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث (9) .
... ولو كانت القرائن محصورة عند المحدثين في اثنين فقط ما كان هذا الفن لعمري أغمض أنواع علوم علوم الحديث ، ولا أدقها مسلكها ، وأصبح جميع الناس ممن هب ودب متأهلين لتناول هذا العلم تنظيراً وتطبيقاً .
... ولذلك قال السخاوي في مناسبة تعليقه على ما شرح أبو حاتم من منهج النقاد في معرفة صحيح الحديث وضعيفه : " وهو أمر يهجم على قلوبهم ، لا يمكنهم رده ، وهيئة نفسانية ، لا معدل لهم عنها ، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث ، كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر ، لا ينكر عليهم ، بل يشاركهم ، ويحذو حذوهم ، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة " .
... " هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعطى تحرير فمن غير فنه فهو متعني ، فالله بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقاداً تفرّغوا له ، وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين ".
... " فتقليدهم ، والمشي وراءهم ، وإمعان النظر في تواليفهم ، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور ، ومداومة الاشتغال ،وملازمة التقوى والتواضع ، يوجب لك ( إن شاء الله ) معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله "(10)
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ، ص : 77 .
(2) كنت أنوي كتابة بحث حول هذا الموضوع بعنوان " الشذوذ وآثاره في النقد " ، وأسأل الله تعالى التوفيق لإعداده على أكمل وجه.
(3) انظر مقدمة الفتح 1/384-385 .
(4) معرفة علوم الحديث ، ص : 119 .
(5) 7/307/-308 .
(6) النكت 2/711 .
(7) نقله الحافظ في النكت على كتاب ابن الصلاح - النوع الثامن عشر : معرفة العلل - 2/712 .
(8) شرح العلل ص : 208 ( تحقيق صبحي السامرائي ، ط: 2) .
(9) النكت 2/711 انظر اختصار علوم الحديث ص :64 .
(10) فتح المغيث : 1/274 .(1/95)
... وفي ضوء ما سبق بيانه يعد غلطاً كبيراً وخللاً فادحاً أن نضيق مفهوم الشاذ أو العلة بأنه مخالفة الثقة لمن هو أوثق ، أو لما رواه الجماعة ،ثم أن نتهم المحدثين النقاد بناء على ذلك بأنهم إنما يقتصرون في الحكم بالشذوذ على الأرجحية من جهة كثرة العدد أو قوة الحفظ فقط ، ولا يلتفتون إلى غيرهما من وجوه الترجيح بين الروايات التي تزيد على مئة وجه- كما ذكره السيوطي في التدريب - إلا إلى بعض أحوال الرواة نادراً ولا يكادون يتجاوزون منها إلى ترجيح المرويات بعضها على بعض من حيث الحكم والمعنى ، وأنهم أحالوا وظيفة النقد في المتون لعجزهم فيها على الفقهاء .
لا ينبغي الخلط بين المرجحات الفقهية
(1/96)
والمرجحات الحديثية ،وهو نموذج لازدواجية المنهج
في قسمي علوم الحديث : النظري والتطبيقي
... وكأني أرى الشيخ العثماني ( رحمه الله ) قد وقع في خلط بين وظيفة الاستنباط من معاني المتون وبين وظيفة النقد في الحديث سنداً ومتناً ؛ فجعل المرجحات المتعلقة بالإستنباط الفقهي هي ذاتها لمعرفة صحة الروايات المختلفة ، وفي الواقع أن كلاً منهما يستقل عن الآخر بالمرجحات والقرائن ، وإن كان رفع التعارض يتم بمرجحات خاصة فإن معرفة ثبوت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم تتوقف على قرائن أخرى تخدم ذلك .
... أما فيما يخص الأول - وهو وظيفة الاستنباط من المتون - فلا ينازع أحد على أن الفقهاء هم أهل التخصص في أداء هذه الوظيفة الاجتهادية . وأم الثاني فمن لب اختصاص المحدثين النقاد ، على أن المحدثين النقاد في عصور الرواية هم أهل الاجتهاد والنقد . ومن المحدث الذي أحال الاجتهاد على الفقهاء ، أهو الإمام أحمد ؟! أم الشافعي ؟! أم مالك ؟! أم سفيان؟! وما حدث في مرحلة ما بعد الرواية من انفصال العلوم بعضها عن بعض لا يقاس عليه ما كان عليه الأوائل من النقاد من الجمع بين العلوم الشرعية ، فإنهم يشكلون بأنفسهم مدرسة في الحديث والفقه توازي مدرسة أهل الرأي .
... وعلى كل حال فإن المحدثين النقاد لم يعدو أحفظية الراوي وأوثقيته قرينة مطردة أبدية ، كما لم يعدوا عدد الرواة أيضاً قرينة مطردة ،وكانت القرائن لمعرفة الراجح والثابت غير محصورة عندهم بضابط معين ، بل لكل حديث قرينة خاصة ،ولا يعرفها إلا من تخصص في هذه الفن ، وحصل على ملكة وذوق حديثي ، وليس من منهجهم النظر في أحوال الرواة ومراتبهم للحكم على الحديث كما أوضحنا غير مرة .
... وههنا لفتة علمية أخرى ، وهي أن الشيخ شبير ( رحمة الله عليه ) ذكر أن المرجحات تزيد على مئة وجه ، وفي الواقع أن كثيراً من هذه المرجحات لا يمكن تطبيقها إلا في رفع التعارض بين الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما في معرفة ثبوت الحديث عنه صلى الله عليه وسلم وصحته عند اختلاف رواة الحديث على شيخهم ، فتطبيقها عديم الجدوى ، بل مخالف للحق والصواب .
... وأذكر هنا سريعاً مثالين لذلك ، وهما تعارض الحديثين ، أحدهما قول ، والثاني فعل بخلافه ، وطريقة الفقهاء والأصوليين في رفع هذا التعارض معروفة وسهلة ، وهي أن القول يقدم على الفعل ، أو أنه لا تعارض بينهما أصلاً ، لأن الفعل قد يكون من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم ، كما تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض قوله الخاص بالأمة ، وهكذا .
... وهذا كما ترى مرجح لا يصلح تطبيقه إلا لرفع التعارض بين الحديثين الصحيحين الثابتين عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما تطبيقه في رفع الاختلاف بين الرواة ، ومعرفة ما هو القول الثابت عن شيخهم فلا ، وذلك إذا رجحنا الرواية التي فيها القول باعتبار كونه قولاً ، أو وفق بينها بالتحويز العقلي ، كنا قد أَضفنا إلى شيخهم ما لم يقله ، أو ما لم يتحقق أنه قاله ، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله ، أو ما لم يتحقق قوله ،ومن المعلوم لدى الجميع أنه لا يلزم من كون إحدى الروايات قولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله بالضرورة .
... والمثال الثاني تعارض الحديثين ، أحدهما نهي والثاني يدل على الجواز ، وعلى طريقة علماء الفقه والأصول يتم رفع هذا التعارض بترجيح النهي لكونه مقتضياً للحظر ، وهو مرجح مستقل . وهذا أيضاً لا يصلح تطبيقه إلا إذا علمنا أنه ثبت كلا الحديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وأما توظيفه في معرفة ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحديثين الذي اختلف فيهما الرواة فخروج من المنهج السليم ، وذلك لأنه لا يلزم من كونه نهياً مقتضياً للحظر أنه صلى الله عليه وسلم قد قاله ، لاحتمال قوي أن الراوي قد فهم من الحديث الذي سمعه من شيخه هذا النهي ؛ فرواه بالمعنى الذي بادر إلى الذهن ، وإذا علمنا ذلك من خلال القرائن المحيطة بروايته فإنه لا يبقى في الحديث مجال للتعارض أصلاً ، وهذه القرائن لا تنحصر في أوثقية الراوي ولا في عدد الرواة ، وإنما هي محصورة ، ولا يعرفها إلا نقاد الحديث ، كما سبق .
... وما يتعلق بالمرجحات يشكل نموذجاً واضحاً للخلط بين المناهج المختلفة وازدواجيتها في مسائل علوم الحديث عموماً ، وذلك أمر طبيعي جداً ، لأن معظم المؤلفين في كتب المصطلح ، هم من علماء الفقه أو من علماء الأصول ، أو من علماء التاريخ ، وإن كانوا منشغلين بالحديث وعرفوا بلقب المحدثين والحفاظ ، لكن طابع الفقه والأصول والتاريخ هو البارز في عملهم ، وبالتالي يكون من المألوف جداً أنهم يذكرون المرجحات من غير تمييز بين ما يعتمدونه وبين ما يعتمده المحدثون(1) .
... ومن الآثار السلبية لهذا الخلط تصحيح ما روي في ترك رفع اليدين من الأحاديث التي حكم عليها النقاد ببطلانها في ضوء القرائن ، كما هو جلي في مناقشة الشيخ عبد الفتاح وما نقله عن سابقيه من النصوص ، وذلك لأنهم يقومون بالجمع بين الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الصلاة ، وبين الأحاديث المعلولة المخالفة لتلك الأحاديث الصحيحة بحملهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع اليدين مرة ،ويتركه في أخرى على التجويز العقلي ، وكأنهم يذهبون إلى أن ما يمكن جمعه من الأحاديث صحيح وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله وعلينا العمل به !! إلا إذا كان راويه متروكاً أو ضعيفاً متفقاً على ضعفه ، كما سبق ذلك نصاً لأبي الحسن الأندلسي ، وهذا ما نقله ابن دقيق العيد من منهج أئمة الفقه والأصول .
... ولذلك فإن محتوى الفقرة السادسة والسابعة من كلام الشيخ شبير السابق نقله يصبح غير مقبول منهجياً وواقعياً ، والفقهاء هم أشد حاجة إلى من يصحح لهم الأحاديث ليتم استنباط المسائل الفقهية منها بوجه صحيح . وأما إطلاق العنان في مجال التصحيح دون دراية لقواعده ثم مواصلة الاستنباط مما صححوه فهذا يؤدي بدون شك إلى إضفاء الشرعية على أمور تتبرأ عنها السنة عموماً .
... وأما الفقرة الثانية فمناقشتها سبقت آنفاً .
... وأما الفقرة الثالثة فلا يشك أحد أن الفقهاء هم أعلم بمعاني الأحاديث ، ولسنا بصدد بيانها ومناقشتها ، وإنما في مناسبة البحث في كيفية معرفة كيف يعرف صحة الحديث وضعفه .وأما ما ذكره ابن حبان فلا يكون مثالاً لتقديم الفقهاء على المحدثين عموماً ، إذ سبب علو السند هو كون رواته حفاظاً وفقهاء ، يعني كونهم قد جمعوا بين الفقه والحديث ،وهذا مقدم على من ليس كذلك باتفاق المحدثين .
... وما ورد في الفقرة الرابعة من تعذر الجمع في الشاذ إنما هو على طريقة المحدثين ، وليس على طريقة الفقهاء وعلماء الأصول ( رحمهم الله تعالى جميعاً ) المتمثلة في التجويز العقلي (2) .
... ثم إن قول الحافظ ابن حجر في الشاذ معروف لدى الجميع ، نقل عنه السخاوي في فتح المغيث (3) أنه قال : " فإن خولف - أي الراوي - بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالراجح يقال له المحفوظ ومقابلة المرجوح ويقال له الشاذ ، والله أعلم " .
... وقول الحافظ ابن حجر : " لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات " دليل على أن الحافظ لم يجعل القرائن والمرجحات محصورة على الأوثقية والعدد .
... وقال الحافظ أيضاً :" أما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الضابط أوالصدوق شيئاً فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عدد بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ " (4). ولم يقل " بحيث يتعذر الجمع " فقط ، وإنما قيده بقوله : " على طريقة المحدثين " ، وطريقة المحدثين في ذلك كما سبق بيانه في نصوص الأئمة السابق نقلها آنفاً . وبالتالي فما أمكن الجمع على طريقة أئمة الفقه والأصول ، فلا يلزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاله .
... وأما طريقة المحدثين فهي تتبع القرائن والملابسات ؛ فإن دلت على رجحان رواية صححوها ،وحكموا عليها بالصحة ، وإن أجاز العقل عكس ذلك ،ومن الجدير بالذكر أن الذي تدل عليه القرائن يكون على متفاوت القوة ؛ ففيه ما يفيد الناقد يقيناً وجزماً وقطعاً ،وفيه ما دون ذلك ، وعدم شعورنا بشيء من ذلك لا يؤثر فيما وصل إليه النقاد سلباً ولا إيجاباً .
... وأما ما ذكره الشيخ من أن الفقهاء هم الميسرون للجمع بين المتون إنما ذلك لرفع التعارض بين الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما معرفة من المصيب ومن المخطئ في نقل الحديث حين اختلف الرواة على شيخهم فالمحدثون النقاد هم أدرى بذلك ، كما سبق تفصيله آنفاً .
... ومحتوى الفقرة السادسة سبق الجواب عنه في مناقشة فقرة رقم 1، لكن الملاحظ : أن الفقرة الأولى كانت في حصر القرائن في أمرين ، مؤكدة بقوله "فقط" ،وأما في هذه الفقرة فأضاف إليهما شيئاً آخر مبهماً بقوله : " ونحوهما" وهذا أمر جميل ؛ لإفادته بعدم حصر القرائن في الآمرين المذكورين ، لكن لم ينل هذه الكلمة حظها من اهتمام الشيخ لدى المناقشة .
... وفي ضوء ما سبق فقول الشيخ عبد الفتاح وغيره بصحة حديث عبد الله بن عون الخراز ، قول غير سليم منهجياً وواقعياً ، وكذا ما جمعه من الروايات باعتبارها شواهد أساسه فيها أن الراوي ليس متروكاً ، وهذا منه عمل غير علمي ، لأنها جميعاً مما تفرد به الضعفاء مخالفين ما ثبت لدى الثقات رواية وعملاً .
... ولعلي بهذا القدر قد غطيت الجانب المهم في مناقشة الشيخ عبد الفتاح (رحمه الله تعالى ) ، وأما كثير من القضايا الجزئية التي أثارها الشيخ عبد الفتاح من خلال نصوص أكثر من نقلها ، فإني أكتفي فيها بالجواب العام الذي يفهم من المناقشة السابقة ، خوفاً مني أن يتيه القارئ في دوامة النزاع العقيم الذي لا يثيره سوى شبهات وتخمينات ، ومن المعلوم أن طرف الحوار إذا لم يقر بأن هذا هو المنهج الحقيقي للمحدثين ، وبضرورة الاعتماد عليه في معرفة الصواب والخطأ في الأحاديث فإن الحوار لن يؤتي أكله . والله المستعان .
... ويتجلى للقارئ بوضوح - بهذا المثال كغيره - تباين المنهج في التصحيح والتضعيف بين نقاد الحديث وبين متأخري علماء الفقه والأصول ومن سار نهجهم من المحدثين ، وأن منهج المحدثين النقاد في ذلك هو وحده المعول عليه ، وأنه من الخطأ الواضح الخلط بين مناهجهم المتباينة في التصحيح والتضعيف ، ثم إسناده إلى نقاد الحديث . والله أعلم .
***
__________
(1) يمكن القول إن هذه المرجحات التي تناولها علماء الفقه والأصول تنقسم إلى ثلاثة أقسام عموماً ، القسم الأول : خاص بترجيح الروايات المختلفة ،والقسم الثاني : خاص برفع التعارض عن الأحاديث الثابتة ، والقسم الأخير : مشترك بينهما . وهذا موضوع جدير بالبحث ، وكان هذا أحد الأبحاث التي كنت أهتم بها منذ فترة طويلة . والله المستعان .
(2) المغيث 1/274 ( ط : سنة 1407هـ إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس ) .
(3) فتح المغيث - في مبحث الشاذ - 1/185 .
(4) المصدر السابق في الفصل التاسع ص : 549 .(1/97)
المثال السادس(1)
زيادة لفظة " وبركاته " في التسليم من الصلاة
... رويت هذه الزيادة :" وبركاته " في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، من رواية الثوري وعمر بن عبيد الطنافسي وأبي الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن ابن مسعود ، ولفظه : "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
... كما وردت هذه الكلمة في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه من رواية موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل عن علقمة بن وائل عن أبيه وائل ولفظه : " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله " .
... قال الطبراني - بعد أن أورد الحديث في ترجمة حجر بن عنبس عن وائل - : " هكذا رواه موسى بن قيس عن سلمة قال عن علقمة بن وائل وزاد في السلام وبركاته " (2) .
... وقال الشيخ الألباني حول حديث وائل هذا :" وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الصحيح . وقد صححه عبد الحق في الأحكام (ق56/2) والنووي في المجموع (3/479) والحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ، لكنهما أورداه مع الزيادة في التسليمتين ، فلا أدري أذلك وهم منهما ، أو هو من اختلاف النسخ ، فإن الذي في نسختنا وغيرها من المطبوعات ليس فيها هذه الزيادة في التسليمة الثانية ، وهو الموافق لحديث ابن مسعود في مسند الطيالسي كما تقدم ،والله أعلم ".
... ثم قال الشيخ : ( تنبيه ) احتج المؤلف رحمه الله بالحديث على أن الأولى أن لا يزيد : " وبركاته " وإذا عرفت ما سبق من التحقيق يتبين للمنصف أن الأولى الإتيان بهذه الزيادة ،ولكن أحياناً ، لأنها لم ترد في أحاديث السلام الأخرى ، فثبت من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها ، ولكن تارة وتارة " أهـ (3)
__________
(1) هذا المثال أخذته من بحث أخينا الفاضل / سعيد المري القطري (حفظه الله ) حيث قدمه لي ضمن متطلبات مادة العلل في الدراسات العليا ، وزدت فيه بعض الشيء ليتسق أسلوب الموازنة على أساليب الأمثلة الأخرى .
(2) المعجم الكبير 22/45 .
(3) إرواء الغليل 2/31-32 .(1/98)
تفصيل الكلام حول هذه الحديثين
الحديث الأول : حديث ابن مسعود
1-رواية الثوري :
... روى حديث ابن مسعود عن الثوري تسعة من أصحابه وهم : عبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح ،وأبو نعيم الفضل بن دكين ، وعبد الرزاق بن همام ، وأبو دادود سليمان بن داود الطيالسي ، ومحمد بن كثير العبدي ، وعبيد الله بن موسى العبسي ، ومحمد بن الحسين الشيباني ، وعبد الله بن الوليد ، فأما ابن مهدي(1) ، وعبد الرزاق(2) ، وأبو داود الطيالسي(3)، وعبيد الله بن موسى(4) ، ومحمد بن الحسن (5) ، وعبد الله بن الوليد (6)، فلم تختلف الروايات عنهم في عدم ذكر هذه الزيادة .
... وأما وكيع وأبو نعيم ومحمد بن كثير فقد اختلف عليهم ، فرواه أحمد بن حنبل وأبو خيثمة زهير بن حرب عن وكيع بدون ذكر هذه الزيادة أيضاً (7) ، وكذا رواه علي بن عبد العزيز البغوي وأبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي عن أبي نعيم (8) ، وخالفهم عبد الله بن عمر الذي يلقبونه مشكدانة فروى الحديث عن وكيع وأبي نعيم بإثبات هذه الزيادة (9) .
... وأما محمد بن كثير فروى الحديث عنه أبوداود سليمان بن الأشعث السجستاني بدون هذه الزيادة (10) ، وخالفه الفضل بن الحباب فذكرها (11) .
__________
(1) أخرجه أحمد 1/444 ، قال : حدثنا عبد الرحمن . والترمذي ح295 قال : حدثنا محمد بن بشار قال : أنا عبد الرحمن . والنسائي 3/63 قال : أخبرنا عمرو بن علي قال : أنا عبد الرحمن .
(2) أخرجه في المصنف 2/219 ،وأحمد 1/409 ، وغيره عنه .
(3) أخرجه الشاشي في مسنده 2/148 قال : حدثنا عباس بن محمد الدوري عن أبي داود الطيالسي .
(4) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/267 قال : حدثنا علي بن شيبة قال لنا عبيد الله بن موسى العبسي .
(5) أخرجه محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الحجة 1/142-143 .
(6) أخرجه ابن المنذر في الأوسط 3/219 قال : حدثنا علي بن الحسن قال : حدثنا عبد الله عن سفيان ووقع في المطبوع بين عبيد الله وسفيان "بن" بدل " عن" وهو خطأ ظاهر فإن ابن المنذر كثيراً ما يروي عن علي بن الحسن عن عبد الله بن الوليد عن الثوري . انظر مثلاً الأوسط 1/132، 135 ، 145، 162 ، 184، وغيرها كثير ، ثم إنه لا يوجد في الرواة أصلاً من اسمه عبد الله بن سفيان في طبقة من يروي عن أبي إسحاق ، وقد أخطأ المحقق كهذا الخطأ في عدد من المواضع .
(7) أخرجه أحمد 1/390، 444 قال : حدثنا وكيع ،وابو يعلى في مسنده 9/128 قال : حدثنا أبو خيثمة حدثنا وكيع .
(8) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/267 قال : حدثنا أبو أمية قال : حدثنا أبو نعيم ، والطبراني في الكبير 10/123 قال : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا أبو نعيم .
(9) أخرجه أبو العباس السراج قال : حدثنا عبد الله بن عمر - يعني مشكدانة - حدثنا وكيع وأبو نعيم به ، رواه الحافظ ابن حجر بسنده في نتائج الأفكار 2/222 وقال : هكذا في أصل سماعنا من مسند السراج بخط الحافظ مجد الدين بن النجار وكذلك وجده بخط الحافظ زكي الدين البرزالي .
(10) أخرجه أبو داود في السنن عنه ح 96 .
(11) أخرجه ابن حبان 5/333 قال : أخبرنا الفضل بن الحباب .(1/99)
2- رواية عمر بن عبيد الطنافسي:
... وروي هذا الحديث عن عمر بن عبيد الطنافسي ثمانية من أصحابه وهم :أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل ومحمد بن عبيد المحاربي وأخوه يعلى بن عبيد وزياد بن أيوب الذي يلقبونه دلويه ومحمد بن آدم المصيصي وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ومحمد بن عبد الله بن نمير .
... فأما أبو بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل (1) ومحمد بن عبيد (2) ومحمد بن آدم(3) ويعلى بن عبيد(4) فلم تختلف الروايات عنهم في عدم ذكر هذه الزيادة .
... وأما ابن نمير وإسحاق بن الشهيد وزياد بن أيوب فقد اختلفت نسخ الكتب التي أخرجت هذا الحديث عنهم .
... فأما رواية ابن نمير عند ابن ماجه (5) ، وليس في المطبوع من سنن ابن ماجه ذكر لهذه الزيادة ولذلك قال صاحب بذل المجهود: " رأيت نسخ ابن ماجه التي طبعت في الهند والتي طبعت في مصر ولم أجد لها أثراً من هذه الزيادة " (6) ، وقال ابن رسلان في شرح السنن :" لم نجدها في ابن ماجه " (7) ، لكن قال صاحب السبل : " راجعنا سنن ابن ماجه من نسخه صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه " ، ثم ساق الحديث بذكر الزيادة فيه (8).
... وقال مؤلف غاية المقصود : " لكن نسخة السنن لابن ماجه التي عند شيخنا نذير حسين المحدث أظنها بخط القاضي ثناء الله رحمه الله والتي بأيدينا تؤيد كلام ابن رسلان فإنها خالية عن هذه الزيادة " (9)، وتعقبه صاحب عون المعبود بقوله : " لكن الاعتماد في ذلك الباب على نسخة صحيحة مقروءة على الحفاظ كما قاله الأمير اليماني في السبل ، فإنه رأى هذه الزيادة ،وأيضاً قد أثبت هذه الزيادة من رواية ابن ماجه الحافظ في التلخيص وغيره من الكتب "(10) .
__________
(1) أخرجه في المصنف 1/265 وأحمد بن حنبل أخرجه في المسند 1/448 .
(2) أخرجه أبو داود ح997 قال : وحدثنا محمد بن عبيد المحاربي .
(3) أخرجه النسائي في السنن الصغرى 3/63 قال : أخبرني محمد بن آدم بدون تفسير لكيفية السلام .
(4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 10/123 وقال : حدثنا محمد بن زهير الأيلي ثنا عبدة بن عبد الله الصفار ثنا يعلى بن عبيد .
(5) ذكر ذلك الحافظ بن حجر في نتائج الأفكار 2/223 إذ قال : وهكذا أخرجه ابن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير عن عمر بن عبيد عن أبي إسحاق وفيه " وبركاته " .
(6) بذل المجهود 5/338.
(7) انظر عون المعبود 3/207 –208 .
(8) انظر المصدر السابق .
(9) انظر المصدر السابق .
(10) انظر المصدر السابق .(1/100)
الراجح في رواية ابن نمير عن عمر بن عبيد
... قال مقيده ( عفا الله عنه )(1) : لم أجد من أثبت هذه الزيادة في رواية محمد بن عبد الله بن نمير عند ابن ماجه ممن خرّج الحديث ، أو شرحه سوى الحافظ ابن حجر ، والأمير الصنعاني . والأقرب إلى الصواب عدم إثباتها في سنن ابن ماجه ، لكثرة من لم يذكرها من شرّاح ومخرجين ، ولأن في عدم إثباتها من رواية ابن نمير موافقة لما رواه الجماعة عن عمر بن عبيد الطنافسي ، وعن غيره ممن روى الحديث ، وسيأتي بيان من رواه غير سفيان وعمر بن عبيد.
تعقيب استطرادي على قول الإمام الصنعاني
__________
(1) هذه العبارة للأخ سعيد المري ، يقصد بها نفسه ، وستكرر هذه الكلمة لدى تعليقه .(1/101)
في ترجيح نسخة سنن ابن ماجه
... وأما قول صاحب عون المعبود من أن الاعتماد في ذلك الباب على نسخة صحيحة مقروءة على الحفاظ كما قاله الأمير اليماني فقول بعيد عن التحقيق لا سيما في هذه الأعصار المتأجرة ، لأن الناس قد توسعوا منذ زمن بعيد في السماع والقراءة ، فقد قال البيهقي وهو يحكي حال بعض المحدثين في زمنة : " توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زماننا الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءة كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم "(1) .
... وقال الذهبي : " فليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف عند من حيز الطلب ، بل اصطلاح وطلب أسانيد عالية ، وأخذ عن شيخ لا يعي ، وتسميع لطفل يلعب ولا يفهم ، أو لرضيع يبكي ، أو لفقيه يتحدث مع حدث ، أو أخر ينسخ ، وفاضلهم مشغول عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس ، والقارئ إن كان له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء ، سواء تصحف عليه الاسم ، أو اختلط المتن ، أو كان من الموضوعات ، فالعلم عن هؤلاء بمعزل ، والعمل لا أكاد أراه ، بل أرى أموراً سيئة ، نسأل الله العفو "(2).
... ونقل الذهبي عن ابن حيويه أنه قال : " جئت إلى شيخ عنده الموطأ ، فكان يُقرأ عليه وهو يتحدث ، فلما فرغ قلت : أيها الشيخ يقرأ عليك وأنت تتحدث ، فقال : قد كنت أٍسمع ، قال : فلم أعد إليه " ثم علق الذهبي على ذلك بقوله : "قلت : كذا شيوخ الحديث اليوم إن لم ينعسوا تحدثوا ، وإن عوتبوا قالوا قد كنا نسمع ، وهذه مكابرة " (3) .
... ونقل الذهبي أيضاً :" وقد تسمح الناس في هذه الأعصار بالإسراع المذموم الذي يخفي معه بعض الألفاظ ، والسماع هكذا لا ميزة له على الإجازة ، بل الإجازة صدق ، وقولك : سمعت ، أو قرأت هذا الجزء كله ، مع التمتمة ودمج بعض الكلمات كذب .. وكان الحفاظ يعقدون مجالس للإملاء وهذا قد عُدم اليوم ، والسماع بالإملاء يكون محققاً ببيان الألفاظ للمسمع والسامع "(4) .
... هكذا هو حال الرواية في زمن البيهقي وزمن الذهبي ، فما ظنك بحال الرواية في زمن الصنعاني ، أيقال بعد ذلك بترجيح لفظة شاذة ليست في كل النسخ بحجة أن النسخة التي وجدت فيها تلك اللفظة نسخة صحيحة مقروءة كما يقول الصنعاني ، ولم يكتف بذلك صاحب عون المعبود حتى زاد ، فجعلها نسخة صحيحة مقروءة على الحفاظ ، على أن من يوصف بالحفظ في ذلك العصر ، أعنى عصر الصنعاني ، إنما يوصف بذلك لأجل كثرة ما يحصله من الإجازات والقراءة على الشيوخ ، ولا يتأتى ذلك لهم إلا بسرعة القراءة ، بل كانوا يفتخرون بذلك ، فيقول قائلهم قرأت البخاري في ثلاثة أيام ، ومسلماً في ستة أيام ، ومعجم الطبراني الصغير بين المغرب والعشاء ، وأمثال ذلك ، بل كان هذا النوع من القراءة في زمن يذخر بالحفاظ المحققين عند أهل هذا العصر ، كالذهبي، وابن حجر ، والسيوطي ، وأضرابهم ،ولقد رأيت بنفسي في هذا العصر أناساً يقرؤون على بعض الشيوخ قراءة لا يمكنني معها معرفة ما يقول إلا بالمتابعة في الكتاب ، ولا أكاد أدرك الموضع الذي يقرؤه ، ولذلك اشترط ابن الصلاح لمن أراد الاحتجاج بحديث ، أو العمل به من الكتب المعتمدة مراجعة أصل قد قوبل بأصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة ، ليحصل له بذلك مع شهرة هذه الكتب وبعدها على أن تقصد بالتبديل والتحريف الثقة بصحة ما أتفقت عليه تلك الأصول فجعل الثقة لا تحصل إلا بالذي اتفقت عليه تلك الأصول المتعددة (5) .
__________
(1) انظر مقدمة ابن الصلاح ص 93-94 .
(2) سير أعلام النبلاء 7/167 .
(3) انظر سير أعلام النبلاء 16/160-161 .
(4) الموقظة ص 67 .
(5) مقدمة ابن الصلاح ص 31 .(1/102)
الراجح في رواية ابن الشهيد وابن أيوب عن عمر بن عبيد
... وأما رواية إسحاق بن الشهيد وزياد بن أيوب فأخرجها ابن خزيمة عنهما بذكر هذه الزيادة كما في النسخة المطبوعة بتحقيق د. مصطفى الأعظمي (1) ، غير أن ابن حجر روى هذا الحديث بسنده من طريق ابن خزيمة فلم يذكر ثم قال : " أخرجه ابن خزيمة في صحيحة هكذا "(2) .
... وقال في التلخيص : " تنبيه : وقع في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود زيادة ( وبركاته ) وهي عند ابن ماجة أيضاً ،وهي عند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حجر فيتعجب من ابن الصلاح ، حيث يقول إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث " (3) .
... وهذا دليل على أنه لم ير هذه الزيادة في حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة ، وكذا كل من خرّج الحديث فإني لم أجد من عزى هذه الزيادة لابن خزيمة سوى من اعتمد على النسخة السابقة ، ثم إن أبا داود السجستاني قد روى هذا الحديث من طريق أحد شيخي ابن خزيمة في هذه الرواية ، وهو زياد بن أيوب ، فلم يذكر هذه اللفظة (4) ،وعليه فالأقرب إلى الصواب عدم إثبات هذه الزيادة في حديث ابن مسعود عند ابن خزيمة .
__________
(1) صحيح ابن خزيمة 1/359 .
(2) نتائج الأفكار 2/220 .
(3) التلخيص 1/271 .
(4) أخرجه أبو داود ح 997 قال : وحدثنا محمد بن عبيد المحاربي وزياد بن أيوب .(1/103)
3-رواية أبي الأحوص سلام بن سليم :
... روى هذا الحديث عن أبي الأحوص أربعة من أصحابه مسدد بن مسرهد(1) ،وأبو الفضل عباس بن الوليد النرسي (2)، وسهل بن عثمان العسكري(3) ، وهناد بن السري ، فلم يذكر هذه الزياده سوى هناد بن السري وحده(4) ، وقول الجماعة أولى بالصواب .
__________
(1) أخرجه عنه أبو داود ح 996 .
(2) أخرجه عنه أبو يعلى في مسنده 9/39 –40 ، وابن حبان 5/331 قال : أخبرنا أحمد بن علي بن المثني قال : حدثنا العباس بن الوليد النرسي .
(3) أخرجه الطبراني في الكبير 10/123 قال : حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي ثنا سهل بن عثمان .
(4) ذكر رواية هناد الحافظ في نتائج الأفكار 2/221 ووقع في المطبوع تحريف " هناد بن السري " إلى " أبي هناد السلولي " وليس في الرواية أحد بهذا النعت .(1/104)
خلاصة القول في تصحيح حديث ابن مسعود
... قال مقيده ( عفا الله عنه ) : إنما قلت بأن الصواب عدم ذكر زيادة (وبركاته) فيما تقدم من الروايات عن ابن مسعود لما يلي :
... أولاً : كثرة من روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون هذه الزيادة ، فقد روى التسليمتين عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ابن مسعود جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم سعد ابن أبي وقاص(1) ، وابن عمر(2) ،وجابر بن سمرة(3) ، والبراء (4)، وعمار بن ياسر(5) ، وعقبة بن عامر(6) ، وطلق بن علي (7)، وغيرهم (8)، وأصح هذه الأحاديث حديث جابر بن سمرة وحديث ابن مسعود وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عن الجميع ، والثلاثة في مسلم ، وحديث سعد ليس فيه بيان كيفية التسليم .
... ثانياً : كثرة من روى هذا الحديث عن ابن مسعود غير أبي الأحوص بدون هذه الزيادة ، فقد رواه عن ابن مسعود أبو معمر(9) ، غير أنه لم يبين كيفية التسليم ، ورواه الأسود علقمة(10) ، ورواه مسروق بن الأجدع (11) ، لكنه من رواية جابر الجعفي عن أبي الضحى عنه وجابر ضعيف إلا أن الراوي عنه شعبة وسفيان ، ومن روى حديث مسروق عن غير جابر الجعفي فقد أخطأ .
... هذه أمثل روايات هذا الحديث عن ابن مسعود ،وقد روي عن غير هؤلاء عنه ، وليس في شيء من هذه الروايات ذكر لهذه الزيادة .
... ثالثاً : كثرة من روى حديث ابن مسعود عن أبي إسحاق السبعي ، بدون ذكر هذه الزيادة ، فقد رواه عن أبي إسحاق أيضاً خمسة من أصحابه لم يختلف عنهم في إسناده ولا متنه متابعين في ذلك ما ذكرت أنه الصواب عن الثوري وعمر بن عبيد وأبي الأحوص : وهم : الحسن بن صالح(12) ، ومعمر(13) ، وزائدة(14) ، وشريك(15) ، وعلي بن صالح(16) .
... وتابعهم على المتن جماعة ،واختلف عنهم في الإسناد ،وهم : زهير بن معاوية وإسرائيل ويونس بن أبي إسحاق وأبو الأحوص وإبراهيم بن طهمان وأبو بكر بن عياش وأبو ملك عبد الملك بن الحسين وخالد بن ميمون ويوسف بن إسحاق وحديج بن معاوية وأبو وكيع (17) .
... فعدة من روى هذه الحديث عن أبي إسحاق ثمانية عشر راوياً ، كلهم متفقون على عدم ذكر هذه الزيادة في المتن ، وإن اختلفوا في الإسناد ، سوى ثلاثة ؛ اختلف على اثنين منهم أصحابهما ، أعنى الثوري وأبا الأحوص ،وأكثر أصحابهما وأحفظهم على عدم ذكر هذه الزيادة ،واختلفت النسخ عن الثالث أعني عمر بن عبيد في إثبات هذه الزيادة وعدم إثباتها عن بعض أصحابه عنه ، بينما لم تختلف النسخ في عدم إثبات هذه الزيادة عن جل أصحابه وأحفظهم عنه .
... رابعاً : أن من فضَّل في روايات هذا الحديث من الأئمة كأبي داود(18) ،والدارقطني(19) ،والطبراني (20)، مع ما عرف عنهم من الاعتناء التام بذكر أوجه الاختلاف والزيادات في الروايات (21)، لم يذكروا هذه الزيادة عن أحد من رواة هذه الحديث مع أنهم ذكروا روايات من رويت عنهم هذه الزيادة .
... خامساً : أن شعبة بن الحجاج كان ينكر هذا الحديث حديث أبي إسحاق أن يكون مرفوعاً ،ولذلك لم يخرجه البخاري أصلاً ولم يخرجه مسلم عن طريق أبي إسحاق .
__________
(1) مسلم ح 582 .
(2) أحمد 2/71 ، والنسائي 3/62 –63 .
(3) مسلم ح 431 .
(4) ابن أبي شيبة في المصنف 1/266 .
(5) ابن ماجه ح 916 .
(6) انظر المطالب العالية ح 545 .
(7) ابن حبان في الثقات 7/590 .
(8) انظر التلخيص الحبير 1/270 –271 .
(9) مسلم 581 .
(10) أخرجه أحمد 1/394 ، 418،426 ، 442 ، والترمذي ح253، والنسائي 2/205 ، 233 من طرق عن زهير بن معاوية وإسرائيل وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عنهما به ،وليس في هذه الطريق مخالفة لما رواه الجماعة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك عن ابن مسعود ؛ لأن ابا الأحوص سلام بين سليم يروي الحديث عن أبي إسحاق على الوجهين وإن كان قد اقتصر في لفظه عن الأسود وعلقمة على ذكر التكبير دون التسليم .
(11) أحمد 1/390 ، 409 ، 438 .
(12) أخرجه أحمد 1/408قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن قال : حدثنا الحسن .
(13) أخرجه عبد الرزاق عنه 2/219 ، وأحمد 1/409 قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر .
(14) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/265 قال : حدثنا حسين بن علي عن زائدة ، وأبو داود ح996 قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا زائدة ،والطبراني في الكبير 10/123 قال : حدثنا محمد بن النضر الأزدي ثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة .
(15) أخرجه أبو داود ح 996 قال : حدثنا تميم بن المنتصر قال : أخبرنا إسحاق يعني ابن يوسف عن شريك .
(16) أخرجه النسائي 3/63 قال : أخبرنا زيد بن أخزم عن ابن داود يعني عبد الله بن داود الخريبي عن علي بن صالح ، والطبراني في الكبير 10/123 قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن سحبان الشيرازي ثنا الحسن بن علي بن عفان ثنا معاوية بن هشام عن علي بن صالح لكن قال الدارقطني : تفرد به عبد الله بن داود عن علي بن صالح كما في أطراف الغرائب 4/147.
(17) انظر العلل للدارقطني 5/8- 11 .
(18) السنن ح 996 .
(19) العلل 5/4 – 11 .
(20) المعجم الكبير 10/123-128 .
(21) قال ابن رجب : " وأما الزيادات في المتون وألفاظ الحديث فأبو داود رحمه الله في كتاب السنن أكثر الناس اعتناء بذلك " ( شرح علل الترمذي 2/639 )(1/105)
الحديث الثاني : حديث وائل بن حجر
روى هذا الحديث سلمة بن كهيل ، وأختلف عنه فرواه سفيان(1)، و العلاء بن صالح(2) ، ومحمد بن سلمة بن كهيل (3)، عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قرأ فاتحة الكتاب جهر بآمين . قال : وسلم عن يمينه وعن يساره حتى رأيت بياض خده .
وخالفهم شعبة في الإسناد والمتن ؛ فقال عن سلمة عن أبي العنبس عن علقمة عن وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال : " ولا الضالين" قال : " آمين " فأخفى بها صوته ، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى ، وسلم عن يساره .
__________
(1) أخرجه أحمد 4/317 ، قال : ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير بن سفيان .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/265، قال : حدثنا ابن نمير عن العلاء بن صالح ،والترمذي مختصراً ح249 ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن أبان قال : حدثنا عبد الله بن نمير عن العلاء ،والطبراني في الكبير 22/45 ، قال : حدثنا عبيد بن غنام ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا ابن نمير عن العلاء بن صالح ، وحدثنا محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني حدثنا أبو كريب ثنا محمد بن بشر وعبد الله بن نمير عن العلاء بن صالح ، وخالفهم مخلد بن خالد الشعيري فرواه عن ابن نمير عن علي بن صالح أخرجه أبو داود ح933 قال المزي في تهذيب الكمال 22/513 وهو وهم .
(3) أخرجه الطبراني في الكبير 22/45 ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا الأزرق بن علي ثنا حسان بن إبراهيم ثنا محمد بن سلمة بن كهيل .(1/106)
نصوص النقاد في بيان خطأ شعبة في هذه الرواية
... وهكذا رواه جماعة عن شعبة(1) ، وهو المحفوظ عنه ، ولذلك خطأه الحفاظ ؛ فقال الترمذي : سمعت محمد بن إسماعيل يقول حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة ، وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضع ؛ قال : " عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس " ، وإنما هو " حجر بن عنبس " ، وكنيته : أبو السكن . وزاد فيه : " عن علقمة بن وائل " ، وإنما هو : " حجر بن عنبس عن وائل بن حجر " ، ليس فيه " علقمة " ، وقال : " وخفض بها صوته " ، والصحيح : " أنه جهر بها " .
... وسألت أبا زرعة ؛ فقال : حديث سفيان أصح من حديث شعبة ، وقد رواه العلاء بن صالح (2)، وقال مسلم : " أخطأ شعبة في هذه الرواية ، حين قال : وأخفى صوته "(3) .
... وقال الدراقطني : " كذا قال شعبة : وأخفى بها صوته ، ويقال : إنه وهم فيه لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما رووه عن سلمة ، فقالوا : ورفع صوته بآمين " (4).
__________
(1) انظر مسند أبي داود الطيالسي ، ص 138، ومسند أحمد 4/316 ، والتمييز لمسلم ص 180 ، وصحيح ابن حبان 5/109 ،والمعجم الكبير للطبراني 22/9، 45 ، والمستدرك للحاكم 2/253 .
(2) العلل الكبير للترمذي ، ص 68-69 ، وانظر التاريخ الكبير 3/73 .
(3) التمييز ، ص 180 .
(4) سنن الدارقطني 1/334 .(1/107)
رواية موسى بن قيس عن سلمة بن كهيل
... ورواه موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل عن علقمة بن وائل عن أبيه ، قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله " (1) ؛ فخالف موسى بن قيس الجميع في هذا الإسناد ، حيث أسقط حُجراً ، وجعل مكانه " علقمة" وفسر السلام ، وزاد فيه : لفظة " وبركاته " .
... قال الطبراني – بعد أن أورد الحديث في ترجمة حجر بن عنبس عن وائل :- " هكذا رواه موسى بن قيس عن سلمة قال عن علقمة بن وائل وزاد في السلام "وبركاته " (2).
وقد ذكر العقيلي عدداً من الأحاديث لموسى بن قيس،ليس هذا الحديث من ضمنها ثم قال :" هذه الأحاديث من أحسن ما يروي عصفور ،وهو يحدث بأحاديث رديئة بواطيل " (3)، فلعل هذا من الأحاديث التي أخطأ فيها .
__________
(1) أخرجه أبو داود ح997 ، قال : حدثنا عبدة بن عبد الله ثنا يحيى بن آدم ثنا موسى ، والطبراني في الكبير 22/45 ، قال :حدثنا أسلم بن سهل الواسطي ثنا أبو الشعثاء علي بن الحسن يحيى بن آدم به .
(2) المعجم الكبير 22/45 .
(3) ضعفاء العقيلي 4/164 .(1/108)
الراجح في حديث وائل بن حجر عدم ذكر " وبركاته "
... وعلى هذا فإن كلمة " وبركاته " لا تصح من حديث وائل بن حجر أيضاً لما يأتي :
... أولاً : أن موسى بن قيس أخطأ في إسناد هذا الحديث ،وهذا قرينة على عدم الثقة بما ينفرد به من الزيادة في المتن ، وظني أنه أختلط عليه حديث حجر بن عنبس هذا بحديث علقمة عن أبيه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله "(1) ، فلعل موسى بن قيس تداخل عليه إسناد هذا الحديث وتوهم أنه لمتن حديث حجر ، وزاد على سبيل التوهم في السلام لفظة : "وبركاته" .
... ثانياً : أنه لم يتابع على هذه الرواية من أحد أصحاب سلمة بن كهيل ، وفيهم الحفاظ المتقنون ؛ كالثوري وغيره .
... ثالثاً : أن الحديث قد روي من وجه أخر عن وائل بن حجر بدون هذه الزيادة ؛ فقد رواه شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا البختري يحدث عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل الحضرمي قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه وعن شماله (2).
... رابعاً : أن موسى بن قيس وإن كان ثقة فليس ممن يقبل تفرده بالزيادة عن سلمة بن كهيل دون الأجلة من أصحابه ممن روى الحديث عنه .
__________
(1) أخرجه أحمد 4/316 ، والنسائي 2/125 من طريقين عن علقمة به .
(2) أخرجه أبو داود الطيالسي ص 137 ، وابن أبي شبية في المصنف 1/265 ،وأحمد 4/316 ،والدارمي ح 1252 ، وأبو القاسم البغوي في مسند ابن الجعد ، ح125 ، وغيرهم من طرق عن شعبة به .(1/109)
زيادة الثقة في هذا الحديث
... فإن قيل هذه زيادة من ثقة فهي مقبولة ، كما قال صاحب عون المعبود ؛ إذ قال : " ومع صحة إسناد حديث وائل – كما قال الحافظ في بلوغ المرام – يتعين قبول زيادته ؛ إذ هي زيادة عدل ، وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها ،وقد عرفت أن الوارد زيادة " وبركاته " ، وقد صحت ، ولا عذر عن القول بها "(1) . فالجواب أن يقال : أن الزيادة في حديث ما – قوانين مطردة – أشبه بالمسائل الفقهية البحتة ،بينما ليس لأهل الحديث فيها حكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر مع القرائن في كل حديث حديث(2) .
... ولذلك قال الترمذي : " ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث(3) " ، وليست الغرابة تقدح بمجرد التفرد ، بل بما يحف ذلك من القرائن أيضاً . ولذلك قال أبو داود : " فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم "(4) ، بينما يقبل تفرد مثل هؤلاء في بعض الأحيان بحسب القرائن حيث لم يقوّ جانب الرد على جانب القبول .
... وأما إذا خلا المقام من المرجحات والقرائن ، فإن النظر ينصب حينئذ إلى الترجيح بقوة الحفظ والإتقان ، ويكون ذلك بمثابة القرينة ، ولذلك قال ابن خزيمة :" لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ ، ولكنا نقول : إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان فروى حافظ عالم بالأخبار زيادة في خير قبلت زيادته ، فإذا تواردت الأخبار ، فزاد ، وليس مثلهم في الحفظ ، زيادة لم تكن الزيادة مقبولة "(5)
... وعليه فلا يصح جعل هذه الرواية – التي تبين بالقرائن المتقدمة أن راويها خلّط في إسنادها ومتنها – من قبيل زيادة الثقة المقبولة بحال ، والله تعالى أعلم . وفي ضوء ما تقدم يتبين أن من صحح حديث ابن مسعود أو حديث وائل بهذه الزيادة فقد تساهل في ذلك (6) ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) عون المعبود3/207 – 208 .
(2) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح ، للحافظ ابن حجر 2/604 ،وتدريب الراوي 1/222 .
(3) سنن الترمذي 5/759 .
(4) رسالة أبي داود ، ص 29 .
(5) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/689 .
(6) كالشيخ الألباني – رحمه الله تعالى - ، انظر صفة الصلاة ، ص 187 .(1/110)
تنبيه :
... ذكر الشيخ الألباني رحمة الله عليه زيادة " وبركاته " في صفة الصلاة له ، وعزى حديثها لأبي داود وابن خزيمة ثم قال : " وصححه عبد الحق في أحكامه ،وكذا النووي والحافظ ابن حجر ورواه عبد الرزاق في مصنفه (2/219 ) " .
... قال مقيده عفا الله عنه : في كلامه ( رحمة الله عليه ) نظر من وجوه :
... الأول : أنه عزى هذ ... ه الزيادة إلى أبي داود وابن خزيمة ، فهذا العزو يوهم ورودها في حديث واحد عندهما ، مع أنهما حديثان ثم رتب على ذلك ما ذكر من التصحيح عمن ذكرهم ،وهذا يقتضي أنهم صححوا الحديثين معاً ، وهذا خلاف الواقع ، فإن حديث ابن خزيمة لم يصححه أحد من هؤلاء .
... الثاني : أن النووي قد حكم برد هذه الزيادة في الأذكار ، وأنها لم تجئ إلا في رواية لأبي داود ، يعني رواية وائل بن حجر (1) ، فلعله حصل لبس في العزو من جهة أن بعض الشافعية يرى هذه الزيادة ويصحح الحديث فيها ،والله أعلم .
... الثالث : أنه عزى الحديث لعبد الرزاق في المصنف ، برقم (2/219 ) ، وليس الحديث فيه مسنداً ،والذي سبب هذا الخطأ أن عبد الرزاق ذكر حديث أبي الضحى في التسليم عن مسروق عن عبد الله مرفوعاً ، دون ذكر زيادة " وبركاته" ، ثم ذكر بعده حديثاً موقوفاً على ابن مسعود ، فيه ذكر هذه الزيادة معقباً عليه بقوله : " أظنه لم يتابعه عليه أحد " ، ثم أسند حديثاً عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله مرفوعاً ولم يذكر لفظه بل قال : " مثل أبي الضحى " ، فظن الشيخ الألباني ( رحمة الله عليه ) أن حديث أبي الضحى هو السابق على هذا مباشرة لأن هذا هو الكثير من صنيع أهل الحديث أنهم يحيلون لفظ بعض الروايات على ما يسبقها مباشرة إذا اتحد اللفظ أو المعنى ، فعزى الشيخ الرواية مرفوعة بزيادة " وبركاته " لعبد الرزاق ،والله أعلم .
***
__________
(1) انظر نتائج الأفكار 2 /219 .(1/111)
النوع الثاني من الموازنة : التعليل لما صححوه
... لقد لوحظت في كثير من البحوث التي يقوم بها بعض المهتمين بالحديث في عصرنا ظاهرة أخرى وهي تعليل ما صححه المتقدمون من الأحاديث دون أن يبينوا من الأدلة العلمية ما كان يتوقف على الفهم والوعي والتتبع .
... ذلك لأنه ربما يتحسسون في الإسناد ما يشكل ظاهرة مثل رواية الضعيف غير المتروك أو عنعنة المدلس أو نحو ذلك مما يجعلهم يعقبون عليه بأمر بديهي لم يكن خافياً .
... حيث إن دراسة الأسانيد دون وعي وفهم وتتبع واسع لا تعطي لصاحبها فكرة شاملة ودقيقة عن واقع الرواية وملابساتها القريبة والبعيدة ، ولا تمكنه من التأكد من حال الإسناد تفرداً أو متابع ة، لأنها متوقفة على استيعاب التتبع لجميع ما ورد فيه من الوجوه المعتبرة مع حظ وافر من الفهم والوعي والمعرفة .
... مثلاً إن الضعيف غير المتروك لا يضر حديثه إلا إذا تفرد به أو خالفه الآخرون فيه ، وأما إذا وافقه الآخرون فذلك دليل على صحة حديثه وضبطه له ، ولعل المحدث يختار رواية الضعيف لعلوه أو لخصائص إسنادية أخرى ، وهي كثيرة ، ويعتمد عليه فلا ينبغي لنا أن نعقب عليه قائلين بأن الإسناد فيه ضعيف إلا إذا عرفنا من خلال الجمع والغربلة والتتبع أن الحديث لا يعرف إلا به .
... وكذلك عنعنه المدلس فإنها لا تضر الحديث إلا إذا جاء عنه بغير تصريح بالسماع في جميع الطرق ولم يكن شيخه ممن لازمه ملازمة طويلة وأكثر السماع منهم بحيث لم يفت له شيئ من أحاديثهم فعنعنته لا تعكر في صحة الحديث والاعتماد عليه لندرة احتمال التدليس .
... وفي الصحيحين أحاديث كثيرة من هذا النوع فليس من المنطق أن يستدرك الباحث على الشيخين أو غيرهما من النقاد إذا صححوا حديث المدلس الذي عنعن فيه ويقول : " فيه مدلس وقد عنعن والحديث ضعيف أو الإسناد ضعيف " فإنهم أدق نظراً وتتبعاً وجمعاً ، وأشد تحفظاً فيما يرويه المدلس بالعنعنة اللهم إلا إذا تبين له من خلال تتبعه الواسع أن الحديث لا يعرف إلا معنعناً ، وأن المدلس قد تفرد به ،وأن شيخه لم يكن ممن أكثر السماع منهم فعندئذ يصبح الاستدراك علمياً ومقبولاً .
... والجدير بالذكر أن المدلسين فيهم من يكون تدليسه نادراً في بعض الروايات أو لا يدلس فيها أصلاً مع كونه معروفاً بالتدليس .
... مثل هشيم بن بشير المشهور بالتدليس إلا أنه يكاد لا يدلس في حديثه عن حصين بن عبد الرحمن ، فعنعنته محمولة على الاتصال : فقد قال الإمام أحمد : " هشيم بن بشير لا يكاد يدلس عن حصين " (1) . ذلك لأنه لازمه ملازمة طويلة وأكثر سماعه منه بحيث لم يفت له من أحاديثه ، ولذا قالوا : " هشيم أعلم الناس بأحاديث حصين " .
... وكذا سفيان الثوري فقد وصف بالتدليس عن الضعفاء إلا أن الإمام البخاري قال : " لا أعرف لسفيان عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ولا عن منصور - وذكر شيوخاً كثيرة - لا أعرف لسفيان عن هؤلاء تدليسا ما أقل تدليسه "(2).
... قلت : ومن هؤلاء الشيوخ الأعمش وابن جريج وأبو إسحاق ومعمر ويحيى بن أبي كثير ، لأنه قلما يفوت له من أحاديثهم لطول الملازمة وكثرة السماع .
... وكذلك الأعمش فقد قال الحافظ الذهبي : " وهو يدلس وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به ، فمتى قال : حدثنا ، فلا كلام ، ومتى قال : عن ،تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وابن أبي وائل وأبي صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال ".اهـ(3) .
... وهذا ابن جريج يدلس كثيراً لكنه هو كما قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي : "كان ابن جريج يدلس عن غير عطاء ، فأما عن عطاء فلا ، قال : إذا قلت : قال عطاء فأنا سعته منه ، وإن لم أقل سمعت ، وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء ، فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء ، بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء ، وهذا كما قال أبو إسحاق : قال أبو صالح وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج : ليس أحد يحدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علماً أنه كذب لإحاطتهما بحديث أبي هريرة "(4)
... كما أن بعض المدلسين إذا جاء حديثهم من طريق بعض الرواة فتحمل عنعنتهم على الاتصال ، لأنهم لا يقبلون منهم إلا ما سمعوا من شيوخهم مثل عكرمة بن عمار اليمامي وقتادة والأعمش وأبي إسحاق وأبي الزبير وسفيان الثوري .
... أما عكرمة فقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين ، لكن إذا جاء حديثه من طريق سفيان الثوري فتحمل عنعنته على الاتصال ، لأنه كان يوقفه عند كل حديث ويقول له قل حدثني وسمعت(5) .
... وأما قتادة والأعمش وأبو إسحاق فلا تضر عنعنتهم إذا روى عنهم شعبة ، فإنه قال : " كفيتكم تدليسهم " ، وكذا أبو إسحاق فقط بالنسبة إلى حديث ابن سعيد القطان عن زهير عنه وأبو الزبير المكي عن جابر إذا روى عنه ليث بن سعد فعنعنته محمولة على الاتصال ، وكذا الثوري إذا حدث يحيى بن سعيد القطان(6).
... فهذه بعض الأمور التي تتصل برواية الضعيف وعنعنة المدلس ذكرتها بإيجاز ليتنبه القارئ إلى أن ظاهرة الإسناد لايكفي وحده للحكم عليه بالضعف ، بل يتوقف ذلك على دراسة مستوعبة وواعية ، ولمزيد من التوضيح أذكر هنا مثالاً ، مقارناً فيه بين المتقدمين والمتأخرين ،وهو ما رواه الإمام مسلم في صحيحه :
... قال الإمام مسلم الناقد الجهبذ : حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حبان بن هلال ، حدثنا أبان حدثنا يحيى أن زيداً حدثه أن أبا سلام حدثه عن أبي مالك الأشعري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان … " الحديث (7) .
... هذا الحديث صححه الإمام مسلم حين ساقه في أول كتاب الصلاة من صحيحه معتمداً عليه من غير متابعة ولا شاهد ، غير أن بعض المتأخرين ضعفه بانقطاع السند ، وهم : الحافظ العلائي والنووي وابن رجب الحنبلي وابن القطان الفاسي وبعض المعاصرين (8) .
... ومنهم من اعتذر عن الإمام مسلم بأن المتن صحيح بإسناد آخر متصل ، لكن يبقى السؤال مطروحاً : لماذا اعتمد مسلم على هذا الإسناد المنقطع في مستهل كتاب الطهارة من الصحيح ؟ وإن أجاب بعض المعاصرين بأسلوب آخر حين قال : ... " إن مسلماً ظن أن أبا سلام قد عاصر أبا مالك فحكم بصحته بناء على مذهبه في الإكتفاء بمطلق المعاصرة بين الراوي وشيخه مع إمكان اللقاء"(9) . ثم قال : " ولو أن رجلاً مخلصاً أعلمه يستطيع أن يثبت لقاء أبي سلام لأبي مالك لشددت إليه الرحال لآخذ منه هذه الفائدة ولقبّلت رأسه " (10) .
... أما وجه الانقطاع في رأيهم فلأن أبا مالك الأشعري قديم الوفاة ، توفي في عهد عمر بن الخطاب ، ولم يلقه أبو سلام الشامي ، ولأن الإمام الدارقطني قال في التتبع : " وخالفه معاوية بن سلام ،رواه عن أخيه زيد ، عن أبي سلام ، عن أبي عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك حدثهم بهذا " (11) .
... أقول : إن هذا الحديث متصل الإسناد ، سمع أبو سلام من أبي مالك الأشعري ، إذ أن الإمام مسلماً أورد هذا الإسناد في كتاب الجنائز من الصحيح مزيلاً للشبهة حين قال :
... " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عفان ، حدثنا أبان بن يزيد - ح - وحدثني إسحاق بن منصور - واللفظ له - أنا حبان بن هلال ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية … " الحديث (12).
... فبهذا الإسناد الصحيح الثابت تأكد لنا أن أبا سلام سمع من أبي مالك الأشعري ، وهو ليس إلا متأخر الوفاة حتى لقيه أبو سلام وسمع منه أحاديثه ، ولعل اسمه الحارث بن الحارث الأشعري كمنا ذهب إليه الإمام الطبراني إذا أنه ساق الحديث : " الطهور شطر الإيمان " من طريق يحيى ومعاوية تحت العنوان " الحارث بن الحارث الأشعري " في معجمه الكبير 3/284 .
... غير أن الإمام مسلماً والدارقطني وغيرهما لا يرون أن أبا مالك الأشعري أسمه الحارث بن الحارث فقد ذكر مسلم في كتابه الكنى وجوه الاختلاف حول اسمه ، وأما الدارقطني فقد جعل الحارث بن الحارث الأشعري في الصحابة الذي لم يورد لهم مسلم من الأحاديث شيئاً (13).
... وعلى كل - سواء أقلنا انه هو الحارث أم أنه لا يعرف الاسم - فإسناد هذا الحديث متصل ، ولذا اعتمد الإمام مسلم في مستهل كتاب الطهارة على هذا الحديث من دون متابعة أو شاهد.
... يقول الحافظ ابن حجر : " أبو مالك الأشعري الذي روى عنه أبو سلام وشهر بن حوشب ومن في طبقتهما هو الحارث بن الحارث الأشعري وتأخرت وفاته ،وأما أبو مالك الأشعري فهو آخر قدم الوفاة ، مات في خلافة عمر رضي الله عنه " .
... " وذهب أبو نعيم إلى أنهما واحد إذ إنه ذكر في الرواة عن الحارث الأشعري جماعة ممن يروي عن أبي مالك الأشعري إلا أن ابن الأثير قال : والصواب أنه غيره ، وأكثر ما يرد غير مكنى ، وقد فرق بينهما كثير من العلماء ، منهم أبو حاتم وابن معين وغيرهما ، وعلى هذا فيرد على المزي كونه لم يذكر أن مسلماً روى للحارث بن الحارث هذا " . أ هـ (14) .
... فبهذا لم يبق للمتأخرين دليل على انقطاع السند إلا قول الدارقطني في التتبع حيث أنه تبين لنا جلياً أن أبا مالك الأشعري الذي روى عنه أبو إسلام ومن في طبقته هو الذي تأخرت وفاته وأما أبو مالك الأشعري الذي تقدمت وفاته هو صحابي آخر ، والله أعلم .
... وأما قول الدارقطني في التتبع فمبهم في إفادة الانقطاع وصريح في دلالته على وجود المخالفة بين يحيى بن أبي كثير ومعاوية بن سلام شيخهما زيد بن سلام في ذكر الواسطة بين أبي سلام وأبي مالك الأشعري ، يعني : ماذا قال زيد بن سلام ؟ هل هو كما قال يحيى عنه أم كما قال معاوية بن سلام عنه ، والإمام الدارقطني لم يرجع شيئاً منهما .
... فإن ثبت أن أبا سلام قال عن أبي مالك الأشعري من دون الواسطة فقول معاوية أصبح خطأً أو معلولاً بمعنى أن أبا سلام لم يقل في هذا الحديث عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري بل قال : عن أبي مالك الأشعري مباشرة .
__________
(1) شرح العلل ص 389 .
(2) نفس المصدر ص 389 ، وفتح المغيث 1/219 ، والنكت 2/631 .
(3) ميزان الاعتدال 2/224 .
(4) التنكيل 2/100 ( بتحقيق الشيخ الألباني ) .
(5) تقدمة الجرح والتعديل باب : من حرص الثوري على كتابة العلم ، لابن أبي حاتم 1/117 ، 68 .
(6) النكت 2/630 -631 .
(7) كتاب الطهارة 3/99 ( مع شرح النووي ، الطبعة الثانية سنة 1392هـ ،الناشر دار إحياء التراث العربي ، بيروت ) .
(8) العلائي في جامع التحصيل ص 137 ( تحقيق حمدي السلفي ، الدار العربية) ، والنووي في شرحه لصحيح مسلم 3/100 ،وابن رجب في جامع العلوم والحكم ص185، والفاسي فيما حكاه المناوي في فيض القدير 2/697 ، والشيخ الفاضل مقبل في تحقيقه للشيخ الدارقطني ص 160 ( الطبعة الثانية 1405 بيروت ) والشيخ ربيع في منهج مسلم ص 73 .
(9) منهج مسلم ص 73 .
(10) منهج مسلم ص 73 .
(11) التتبع ص 159 -160 .
(12) كتاب الجنائز ، باب تحريم النياحة 6/235 ( مع شرح النووي ) .
(13) الإلزامات والتتبع ص 100 ( تحقيق مقبل بن هادي الوادعي ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الثانية ) .
(14) التهذيب 2/137 -138 .(1/112)
... وإن ثبت عن أبي أنه قال : عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي مالك الأشعري ، فقول يحيى غير سليم بل معلول ، يعني أنه تصرف في الإسناد بحذف الواسطة التي ذكرها أبو سلام .
... أما في هذا الحديث فلم يرجح الإمام الدارقطني هذا ولا ذاك ، فمقصوده بيان وجود الخلاف بين يحيى ومعاوية ، لا بيان الإنقطاع ،والظاهر - كما يبدو من السياق - أن كلاً منهما قد أصاب وحدث كما سمع من زيد بن سلام ،وعليه فينظر قول يحيى هل هو متصل أم منقطع ؟ فقد عرفنا سابقاً أن أبا سلام سمع من أبي مالك الأشعري .
... ومن هنا تعيَّن القول بأن أبا سلام سمعه من أبي مالك الأشعري مباشرة وتحصل له فيه العلو ، ثم سمعه أيضاً من معاصرة عبد الرحمن بن غنم بالنزول ، وفضل الإمام مسلم الحديث العالي وساق في صحيحه حديث يحيى بن أبي كثير ، وزالت به الشبهة ، والله أعلم .
... فبهذا القدر الموجز أنهي الموازنة العلمية بين نقاد الحديث وغيرهم راجياً أن يكون ذلك قد سلط الأضواء على بعض الجوانب الخفية التي لا تدركها أنظار الباحثين الذي لم يمارسوا منهج المحدثين حق الممارسة ، وإن كان لديّ أمثلة كثيرة من هذا النوع لاحظتها في أثناء تدريسي في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة والجامعة الإسلامية بقسنطينة وغيرهما فإن هذه العجالة لا تسمح لي بذكرها .
... ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذي سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه العبد الفقير إلى ربه جل وعلا
أبومحمد حمزة بن عبد الله المليباري
الجامعة الأردنية - عمان
الأردن
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com(1/113)