وأما النوعُ الثالث وهو الموضوع الذي لم يذكره ابن الجوزي فهذه أمثلة له :
الفصل الثالث
( 34 ) حديث إذا كان يوم الجمعة ينزل الله تعالى بين الأذان والإقامة عليه رداء مكتوب عليه إنى أنا الله لا إله إلا أنا يقف فى قبلة كل مؤمن مقبلا عليه إلى أن يفرغ من صلاته لا يسأل الله عبد تلك الساعة شيئا إلا أعطاه فاذا سلم الإمام من صلاته صعد إلى السماء ( كر ) من حديث أنس من طريق أبى علي الأهوازى وهو المتهم به
( 35 ) حديث رأيت ربى بمنى يوم النفر على جمل أورق عليه جبة صوف أمام الناس ( كر ) من حديث لقيط بن عامر من طريق الأهوازى أيضا وقال فيه وفى الذى قبله كتبهما الخطيب عن الأهوازى تعجبا من نكارتهما وهما باطلان
( 36 ) حديث إن الله لينظر إلى عباده كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يبدئ ويعيد وذلك من حبه إلى خلقه ( مى ) من حديث أنس من طريق أبي هدبة
( 37 ) حديث إذا أراد الله أن ينزل إلى السماء الدنيا ينزل عن عرشه بذاته ( نع ) فى التاريخ من حديث أنس من طريق محمد بن عيسى الطرسوسى عن نعيم بن حماد عن جرير عن ليث ابن أبى سليم عن بشر عن أنس ونعيم يأتى بالطامات فلا يدرى البلاء منه أو من الطرسوسى ( قلت ) قال الذهبى فى كتاب العرش وبشر لا يدرى من هو ولعل هذا موضوع انتهى وأنا أظنه يسرا بالمثناة التحتية والسين المهملة مولى أنس فان يكن هو فالبلاء منه والله أعلم
( 38 ) حديث قال الله عز وجل لا إله الله كلمتى وأنا هو من قالها أدخلته حصنى ومن أدخلته حصني فقد أمن والقرآن كلامى ومنى خرج ( مى ) من حديث أنس من طريق يوسف بن خالد عن هرون بن راشد عن فرقد عن أنس قلت وأورده العقيلى من رواية على بن معبد عن وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بلفظ إن ربى يقول نورى هداى ولا إله إلا الله كلمته ومن قاله أدخلته حصنى وكنت جوزت أن يكون هرون بن راشد ووهب بن راشد واحدا غير اسمه بعض الرواة ثم ظهر لى أنهما غيران لأن وهبا معروف متهم وهرون جهلوه وذكره ابن حبان فى الثقات ووقع أيضا فى حديث جعفر بن نسطور الدجال المشهور يقول الله لا إله إلا الله حصنى فمن دخل حصنى أمن من عذابى والله أعلم
( 39 ) حديث يقول الله عز وجل لا إله إلا الله حصنى فمن دخله أمن من عذابى ( كر ) من حديث على بن أبى طالب وفيه عبد الله بن أحمد بن عامر ( قلت ) قال الحافظ العراقى فى تخريج الإحياء رواه الحاكم فى تاريخ نيسابور وأبو نعيم فى الحلية والقضاعى فى مسند الشهاب من رواية على بن موسى الرضى عن آبائه وهو ضعيف جدا قال ابن طاهر فى الكشف عن أخبار الشهاب راويه عن على الرضى فى الحلية أبو الصلت الهروى متفق على ضعفه وراويه عن على عند القضاعى أحمد بن على بن صدقة متهم بالوضع وأما قول صاحب الفردوس إن هذا الحديث ثابت مشهور،فمردود عليه انتهى وقوله فى أبي الصلت متفق على ضعفه فيه نظر كما سيعلم من الفصل الثانى من كتاب الإيمان فطريقه هى أشبه طرق الحديث قال الشيخ ركن الدين ابن القوبع وقوله فقد أمن من عذابى يعنى به العذاب الذى يوجبه الكفر والله أعلم
------------
قلت : أما قوله في أبي الصلت الهروي ، أقول :
قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب [ ج1 - ص 355 ](4070 ) عبد السلام بن صالح بن سليمان أبو الصلت الهروي مولى قريش نزل نيسابور صدوق له مناكير وكان يتشيع وأفرط العقيلي فقال كذاب ق
وقال الذهبي في الكاشف [ ج1 - ص 652 ] (3368 ) عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي خادم علي بن موسى الرضا عن مالك وحماد بن زيد وعنه أحمد بن أبي خيثمة وعبد الله بن أحمد واه شيعي متهم مع صلاحه توفي 236 ق
وفي الجرح والتعديل [ ج6 - ص 48 ] (257 ) عبد السلام بن صالح الهروي أبو الصلت روى عن حماد بن زيد وعبد الوارث وجعفر بن سليمان وشريك وعباد بن العوام وعطاء بن مسلم ومعتمر وعبد السلام بن حرب وخلف بن خليفة وأبى خالد الأحمر وابن إدريس نا عبد الرحمن قال سألت أبى عنه فقال لم يكن عندي بصدوق وهو ضعيف ولم يحدثني عنه واما أبو زرعة فأمر أن يضرب على حديث أبى الصلت وقال لا أحدث عنه ولا ارضاه
وفي الكامل في الضعفاء لابن عدي [ ج5 - ص 331 ] : ولعبد السلام هذا عن عبد الرزاق أحاديث مناكير في فضائل علي وفاطمة والحسن والحسين وهو متهم في هذه الأحاديث ويروي عن علي بن موسى الرضا حديث الإيمان معرفة بالقلب وهو متهم في هذه الأحاديث .
وفي الكشف الحثيث [ ج1 - ص 167 ](440 ) عبد السلام بن صالح ق أبو الصلت الهروي الرجل الصالح إلا أنه شيعي جلد قال الدارقطني رافضي خبيث متهم بوضع حديث الإيمان إقرار بالقلب ونقل عنه أنه قال كلب العلوية خير من بني أمية وذكره بن الجوزي في حديث ذم معاوية ثم قال فيه عباد بن نمير وأبو الصلت الهروي يعني عبد السلام هذا.
فالصواب أنه ساقط الراوية ، ولا عبرة بتوثيق ابن معين له ، لأنه لم يعرفه ، ومن عرف حجة على من لم يعرف ، فالكل مطبقون على توهين حديثه واتهامه بوضع بعض الأحاديث(1)
( 40 ) حديث يقول الله لا إله إلا أنا كلمتى من قالها أدخلته جنتى ومن أدخلته جنتى فقد أمن والقرآن كلامى ومنى خرج ( خط ) من حديث ابن عباس من طريق عمر بن محمد بن عيسى الشدائى وقال حديث منكر قال السيوطى وقال الذهبى فى الميزان موضوع
( 41 ) حديث على بن أبى طالب حدثنى رسول الله ويده على كتفى قال حدثنى الصادق الناطق بالحق رسول رب العالمين وأمينه على وحيه جبريل ويده على كتفى سمعت اسرافيل سمعت اللوح سمعت الله من فوق العرش يقول للشئ كن فلا تبلغ الكاف النون إلا يكون ذلك الذى يكون ( مى ) مسلسلا يحدثنى فلان ويده على كتفى وفيه أحمد بن موسى ولعله الجرجانى أحد الوضاعين ( قلت ) وكذلك رواه الحافظ الذهبى فى كتاب العرش مسلسلا من طريق أحمد بن الحسن بن محمد المكى وزاد بين اسرافيل واللوح سمعت القلم ثم قال هذا حديث باطل وأحمد المكى كذاب رويته للتحذير منه والله أعلم
( 42 ) حديث التفكر فى عظمة الله وجنته وناره ساعة خير من قيام ليلة وخير الناس المتفكرون فى ذات الله ( يخ ) من حديث ابن عباس وفيه نهشل بن سعيد
( 43 ) حديث أنس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :يوشك الكفر أن يدخل من دار إلى دار ومن ربع إلى ربع ومن بلد إلى بلد ومن مدينة إلى مدينة فقيل وكيف ذلك يا رسول الله قال قوم يأتون من بعدكم يحدون لله حدا فيصفونه بذلك الحد ( مى ) وسنده ظلمات فيه ضعفاء وكذابون
( 44 ) حديث كنت كنزا لا يعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت لهم فبى عرفونى قال ابن تيمية: موضوع
( 45 ) حديث ما وسعنى سمائى ولا أرضى بل وسعنى قلب عبدى المؤمن
( 46 ) وحديث القلب بيت الرب قال ابن تيمية موضوعان اهـ
والخلاصة ، فإن هذا الكتاب قيم ، ولكن يجب تخريج جميع أحاديث هذه الكتب بدقة والمقارنة بينها ، وإعطاء الحكم المناسب لها ، لأنها مع الأسف لم تخدم الخدمة العلمية اللائقة بها .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - وانظر : المجروحين [ ج 2 - ص 151 ] (765) وضعفاء العقيلي[ ج 3 - ص 70 ] (1036) والضعفاء للأصبهاني[ ج 1 - ص 108 ] (140 )(1/184)
14- تنبيهات هامة حول الحديث الموضوع
الأولى- التحذير من الأحاديث الواردة في فضل شهر رجب
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1):
" ومن هذا الباب : شهر رجب ، فإنه أحد الأشهر الحرم ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أنه كان إذا دخل شهر رجب قال : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ، وبلغنا رمضان »(2).
ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل رجب حديث آخر ، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب ، والحديث إذا لم يعلم أنه كذبٌ(3)، فروايته في الفضائل أمرٌ قريبٌ ، أما إذا علم كذبُه فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « من روى عني حديثًا وهو يرى أنه كذب ، فهو أحد الكاذبين »(4).
نعم ، روي عن بعض السلف في تفضيل العشر الأول من رجب بعض الأثر ، وروي غير ذلك ، فاتخاذه موسمًا بحيث يفرد بالصوم ، مكروه عند الإمام أحمد وغيره ، كما روي عن عمر بن الخطاب(5)وأبي بكرة(6)وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم .
وروى ابن ماجه : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم رجب" (10) رواه عن إبراهيم بن منذر الحزامي ، عن داود بن عطاء ، حدثني زيد بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن سليمان بن علي عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما . وليس بالقوي .(7)"
وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله؟ أو ألا يقرن به شهرا آخر؟ فيه للأصحاب وجهان . ولولا أن هذا موضع الإشارة إلى رؤوس المسائل لأطلنا الكلام في ذلك"(8).
وقال أيضاً(9):
" أَمَّا تَخْصِيصُ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ جَمِيعًا بِالصَّوْمِ أَوْ الِاعْتِكَافِ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ . وَلَا أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ . فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِى شَعْبَانَ ..(10)
وَأَمَّا صَوْمُ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، بَلْ مَوْضُوعَةٌ لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَلَيْسَتْ مِنَ الضَّعِيفِ الَّذِي يُرْوَى فِي الْفَضَائِلِ بَلْ عَامَّتُهَا مِنِ الْمَوْضُوعَاتِ الْمَكْذُوبَاتِ ،وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ : « اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِى رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَارِكْ لَنَا فِى رَمَضَانَ »..(11)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ.(12)وَفِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ لَكِنْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ النَّاسِ ؛ لِيَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّعَامِ فِي رَجَبٍ . وَيَقُولُ : لَا تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ .(13)
وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَرَأَى أَهْلَهُ قَدْ اشْتَرَوْا كِيزَانًا لِلْمَاءِ وَاسْتَعَدُّوا لِلصَّوْمِ فَقَالَ : " مَا هَذَا فَقَالُوا : رَجَبٌ فَقَالَ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ بِرَمَضَانَ ؟ وَكَسَرَ تِلْكَ الْكِيزَانَ "(14). فَمَتَى أَفْطَرَ بَعْضًا لَمْ يُكْرَهْ صَوْمُ الْبَعْضِ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ : حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَمَرَ بِصَوْمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : وَهِيَ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ(15). فَهَذَا فِي صَوْمِ الْأَرْبَعَةِ جَمِيعًا لَا مَنْ يُخَصِّصُ رَجَبًا .
وَأَمَّا تَخْصِيصُهَا بِالِاعْتِكَافِ فَلَا أَعْلَمَ فِيهِ أَمْرًا ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَامَ صَوْمًا مَشْرُوعًا وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ مِنْ صِيَامِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِلَا رَيْبٍ ،وَإِنْ اعْتَكَفَ بِدُونِ الصِّيَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَالثَّانِي : يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ بِدُونِ الصَّوْمِ ،مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ " اهـ
قلت : والذي صحَّ من ذلك مارواه مسلم (2782 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ح وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الأَنْصَارِىُّ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صَوْمِ رَجَبٍ - وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ فِى رَجَبٍ - فَقَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ.
قال النووي(16):
" الظَّاهِر أَنَّ مُرَاد سَعِيد بْن جُبَيْر بِهَذَا الِاسْتِدْلَال أَنَّهُ لَا نَهْيَ عَنْهُ ، وَلَا نَدْب فِيهِ لِعَيْنِهِ ، بَلْ لَهُ حُكْم بَاقِي الشُّهُور ، وَلَمْ يَثْبُت فِي صَوْم رَجَب نَهْيٌ وَلَا نَدْبٌ لِعَيْنِهِ ، وَلَكِنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ ، وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُدَ أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نَدَبَ إِلَى الصَّوْم مِنْ الْأَشْهُر الْحُرُم ، وَرَجَب أَحَدهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . "
حكمُ صَوْمِ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ(17)
" ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ أَفْضَل الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرَّمُ ، ثُمَّ رَجَبٌ ، ثُمَّ بَاقِيهَا : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلاَةُ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ ».(18).
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَصُومَ الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ مِنْ كُل شَهْرٍ مِنْ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ فَقَطْ مِنَ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمُ اسْتِحْبَابَ صَوْمِ الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ ، لَكِنَّ الأَْكْثَرَ لَمْ يَذْكُرُوا اسْتِحْبَابَهُ ، بَل نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ إِفْرَادِ رَجَبٍ بِالصَّوْمِ ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ(19). وَلأَِنَّ فِيهِ إِحْيَاءً لِشِعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ بِتَعْظِيمِهِ . وَتَزُول الْكَرَاهَةُ بِفِطْرِهِ فِيهِ وَلَوْ يَوْمًا ، أَوْ بِصَوْمِهِ شَهْرًا آخَرَ مِنَ السَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَل رَجَبًا(20).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم - (ج 2 / ص 96) و قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 131
(2) - ذكر ابن حجر العسقلاني هذا الحديث في رسالته (تبيين العجب بما ورد في فضل رجب) (ص11 ، 12) ، وذكر أنه أخرجه البزار في مسنده ، والطبراني في الأوسط والبيهقي في فضائل الأوقات ، وأبو يوسف القاضي في كتاب الصيام ، وقال ابن حجر : (وهو حديث ليس بالقوي) . وانظر : كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (1 / 457) ، الحديث رقم (961) فقد أورد الحديث ، وعلق عليه .
(3) - قلت : ولا منكر ولا ساقط ،وهو الضعيف جدًّا .
(4) - أخرجه أحمد في المسند (1 / 113) ، عن علي بن أبي طالب (4 / 250 ، 252 ، 255) ، عن المغيرة بن شعبة . وأخرجه مسلم مقطوعًا وموصولًا عن المغيرة ، في المقدمة ، باب وجوب الرواية عن الثقات (1 / 9) .
(5) - انظر : تبيين العجب (ص35) .
(6) - في المطبوعة : وأبي بكر ، وكلاهما صحيح ، لأنه ورد أن أبا بكر نهي أهله عن ذلك . انظر : مجموع الفتاوى للمؤلف (25 / 291) وانظر : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب (ص35)
(7) - أخرجه ابن ماجه في كتاب الصيام ، باب صيام أشهر الحرم ، الحديث رقم (1743) ، (1 / 554) .
(8) - لزيادة الفائدة في بيان حقيقة ما ورد في فضل رجب . راجع : تبيين العجب بما ورد في فضل رجب ، رسالة لابن حجر العسقلاني مطبوعة بعناية عبد الله الجبرين
(9) - مجموع الفتاوى - (ج 25 / ص 290)
(10) - صحيح البخارى (1969 )
(11) - مسند أحمد (2387) وهو حديث ضعيف
(12) - سنن ابن ماجه (1815 ) وهو ضعيف
(13) - كما في مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 102)( 9851) حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ ، قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ فِي رَجَبٍ ، حَتَّى يَضَعُوهَا فِي الْجِفَانِ وَيَقُولُ : كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ. ( وإسناده صحيح )
(14) - لم أجده
(15) - قلت : الذي ورد هو هذا الحديث الذي في صحيح مسلم(2813 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَرْفَعُهُ قَالَ سُئِلَ أَىُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ وَأَىُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ فَقَالَ :« أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّلاَةُ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ ».
(16) - شرح النووي على مسلم - (ج 4 / ص 167)
(17) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 28 / ص 95)
(18) - مر تخريجه
(19) - مر تخريجه
(20) - الفتاوى الهندية ( 1 / 201 ط الأميرية 1310 هـ ) حاشية الدسوقي 1 / 516 ، ومغني المحتاج 1 / 449 ، كشاف القناع 2 / 338 ، 340 ، الفروع 3 / 119(1/185)
الثانية -تحذير الخطباء من رواية المنكرات والموضوعات
وفي فتاوى ابن حجر الهيتمي(1):
"وسئل رضي الله عنه في خطيب يرقى المنبر في كل جمعة ويروى أحاديث كثيرة ولم يبين مخرجيها ولا رواتها فيما الذي يجب عليه ...
فأجاب رضي الله عنه بقوله : ما ذكره من الأحاديث في خطبة من غير أن يبين رواتها أو من ذكرها فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث أو ينقلها من كتاب مؤلفه كذلك ، وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد ، وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلا أم لا ، فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطبائها عن ذلك ، وجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه .
ثم قال : " فعلى هذا الخطيب أن يبين مستنده في روايته فإن كان مستنداً صحيحاً فلا اعتراض عليه والإساغ الاعتراض عليه بل وجاز لولي الأمر - أيد الله به الدين وقمع بعدله المعاندين - أن يعزله من وظيفة الخطابة زجراً له عن أن يتجرأ على هذه المرتبة السنية بغير حق" انتهى ملخصا
قلتُ : فكيف لو رأى خطباء زماننا اليوم ؟!!
ـــــــــــــــ
__________
(1) - الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي - (ج 1 / ص 88)(1/186)
الثالثة- بيانُ ضررِ الموضوعات على غير المحدثين وان الدواء لمعرفتها الرسوخ في الحديث .
" قال الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتابه ((إيثار الحق)) في خلال البحث عن كون معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام راجعاً إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما الزيادة في الدين والنقص منه ما نصه ((من أنواع الزيادة في الدين الكذب فيه عمداً وهذا الفن يضر من لم يكن من أئمة الحديث والسير والتواريخ ولا يتوقف على نقدهم فيه بحيث لا يفرق بين ما يتواتر عند أهل التحقيق وبين ما يزوره غيرهم ،وليس له دواء إلا إتقان هذا الفن والرسوخ فيه وعدم المعارضة لأهله بمجرد الدعاوي الفارغة ، وهو علم صعب يحتاج إلى طول المدة ومعرفة علوم الحديث وعدم العجلة بالدعوى، وإن كان جلياً في معناه فإن الرسوخَ فيه بعيدٌ عن حصول العلم الضروري بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحوال السلف بحيث يعلم دينهم بالضروة مثل ما يعلم مذهب المعتزلة والأشعرية كذلك يطول البحث في علم الكلام ،ويعلم ما يختلفون فيه وما لا يختلفون فيه ، وما يمكن القدح فيه من المنقولات المشهورة ،وما لا يمكن من غير تقليد ولا أقل من معرفة مثل علوم الحديث للحاكم في ذلك وهذا عندي هو الفائدة العظمى في الرسوخ في علم الحديث ، وليس الفائدة العظمى فيه معرفة أحاديث الاحكام في فروع الحلال والحرام كما يظنُّ ذلك من يقتصر على قراءة بعض المختصرات في ذلك، ويكتفي به في هذا العلم الجليل، ولأمر ما كان أئمة الحديث الراسخون أركان الإيمان في الثبوت عند الفتن والامتحان)) انتهى(1)
وقال العارف الشعراني رحمه الله في العهود الكبرى(2):
" (أخِذَ علينا العهدُ العام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أن لا نتهورَ في رواية الحديث ،بل نتثبت في كل حديث نرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نرويه عنه إلا إن كان لنا به رواية صحيحة. وكان سيدي علي الخواص رحمه الله تعالى يقول: لا ينبغي لفقيه أن يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا إلا إن كان له به علامة يعرف بها، أن ذلك من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إما من طريق النقل وإما من طريق سؤاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الحديث، وقوله هو من كلامي يقظة ومشافهة(3)، هذا كله فيما كان ضعيفا من طريق النقل، أما ما صحَّ من طريق المحدِّثين واستحسن فلا يحتاج إلى سؤاله - صلى الله عليه وسلم - فيه.
فاعلم يا أخي أن أكثر من يقع في خيانة هذا العهد المتصوفة الذين لا قدم لها في الطريق فربما رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس من كلامه لعدم ذوقهم وعدم فرقانهم بين كلام النبوة وكلام غيرها، ولو أنهم كانوا من العارفين لعرفوا كلام النبوة وميزوه عن غيره، فإن لامعة نور النبوة لا تخفى على من في قلبه نور. وقد سمعت بعضهم يحكي قول أبي محمد الكتاني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له يا رسول الله ادع الله لي أن لا يميت قلبي، فقال: قل كلَّ يوم أربعين مرة: يا حيُّ يا قيوم لا إله إلا أنت، وهي رؤية منام فصار هذا يرويه عنه على إيهام أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله لأصحابه، ورواه عنه الأئمة الحفاظ وهو وهم فاحش، فلولا أنني أعلمته بذلك ما علمه. وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول: إنما قال بعض المحدثين أكذب الناس الصالحون لغلبة سلامة بواطنهم فيظنون بالناس الخير وأنهم لا يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمرادهم بالصالحين المتعبدون الذين لا غوص لهم في علم البلاغة فلا يفرقون بين كلام النبوة وغيره ، بخلاف العارفين فإنهم لا يخفى عليهم ذلك حتى أن بعضهم كان يعرف صوت الشريف من غيره من وراء حجاب لكونه من رائحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد منَّ الله تعالى عليَّ بتمييز كلام النبوة من غيره من حيث حلاوة التركيب العلمي بأنه لا أحد يقدر على فصاحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فربما سمع الصحابي شيئا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب عنه حفظ بعض اللفظ والمعنى موفور في قلبه فيكمل لنا الحديث بلفظه هو فأعرفه بركاكة تركيبه، وربما ظنَّ بعضُ المحدثين أن ذلك الحديث موضوع، والحال أن الوضع إنما هو في مثل لفظة ونحوها، وأصل الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فتعلم يا أخي علم الحديث لتخرج من الوقوع في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو بغير قصد. والله تعالى أعلم. "(4)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 135) و إيثار الحق على الخلق[ ج 1 - ص 122 ]
(2) - لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية - (ج 2 / ص 255)
(3) - قلت : هذا طريق ليس دقيقاً ، وغير منضبط ، والكذب فيه سهل ، فليس لنا إلا الطريق الأول .
(4) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 135)(1/187)
الرابعة - بيانُ أنَّ للقلب السليم إشرافا على معرفة الموضوع
قال أبو الحسن علي بن عروة الحنبلي في ((الكواكب))(1)
"القلب إذا كان نقياً نظيفاً زاكياً كان له تمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب والهدى والضلال ولا سيما إذا كان قد حصل له إضاءة وذوق من النور النبوي فإنه حينئذ تظهر له خبايا الأمور ودسائس الأشياء والصحيح من السقيم ولو ركب على متن ألفاظ موضوعة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إسناد صحيح أو على متن صحيح إسناد ضعيف لميز ذلك وعرفه وذاق طعمه وميز بين غثه وسمينه وصحيحة وسقيمه، فإن ألفاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تخفى على عاقل ذاقها ،ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - « اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ». رواه الترمذي من حديث أبي سعيد(2)وقال جماعة من السلف في قوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} (75) سورة الحجر أي للمتفرسين ،وقال معاذ بن جبل :((إن للحق مناراً كمنار الطريق))(3)،وإذا كان الكفار لما سمعوا القرآن في حال كفرهم قالوا: ((إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوه وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمورق، وإن له لثمرة وإن له في القلوب لصولة ليست بصوله مبطل ))(4)فما الظن بالمؤمن التقي النقي الذي له عقل تام عند ورود الشبهات وبصرٌ نافذ عند ورود الشهوات؟ .
قال بعض السلف: ((إن العبد ليهم بالكذب فأعرف مراده قبل أن يتمم)) وقد قال تعالى { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (30) سورة محمد ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له حظٌّ من ذلك كقصته مع سواد بن قارب(5)وغيره ،فإن القلب الصافي له شعورٌ بالزيغ والانحراف في الأفعال والأعمال فإذا سمع الحديث عرف مخرجه من أين وإن لم يتكلمْ فيه الحفاظُ وأهل النقد، فمن كانت أعمله خالصة لله موافقة للسنة ميَّز بين الأشياء كذبها وصدقها ،بشواهد تظهر له على صفحات الوجوهِ وفلتات الألسنةِ قال شاه الكرماني : (( مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ ، فالله سبحانه هو الذي يخلق الرعب والظلمةَ في قلوب الكافرين والنور والبرهان في قلوب المتقين، ولهذا ذكر الله آية النور عقيب غضِّ النظر وكفِّ النفس عن المحارم ،وكذلك إذا كان العبدُ صدوقَ اللسان كان أقوَى له وأتمَّ على معرفة الأكاذيب والموضوعات، فإن الجزاءَ من جنس العمل ، فيثيب الله الصدوقَ ويجد للكذبِ مضاضةً ومرارةً ينبو عنها سمعُه ولا يقبلُها عقله)) ولما قدم وفد هوازن على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمين وسألوه أن يرد عليهم سبيهم ومالهم قال لهم : « أَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَىَّ أَصْدَقُهُ ولهذا كان كعبُ بن مالك بعد أن عميَ إذا سمع حديثا مكذوباً عرف كذبه وذلك أنه أجمعَ الصدق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم من غزوة تبوك وأنزل الله عز وجل :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة، فإن الله سبحانه يلهم الصادق الذكيَّ معرفة الصدق من الكذب كما في الحديث: ((الصدق طمأنينة والكذب ريبة))(6)، وقال لوابصة:((اسْتَفْتِ قَلْبَكَ))(7)وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على البيضاء ليلها كنهارها، وهذا من أدلِّ الأشياء على ما قلنا ،وإنما يؤتَى الإنسانُ ويدخلُ الزيفُ عليه والباطل من نقصِ متابعتهِ للرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلاف المؤمن المحسن المتبع له في أقواله وأفعاله فإن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها جلالةً، ولها ناموسٌ ولقد رأيتُ رجلاً إذا سمع حديثاً مرويًّا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ليس مما قاله يردُّه ويقول : ((هذا موضوع أو ضعيف أو غريب)) من غير أن يسمع في ذلك بشيء، فيكشف عنه فإذا هو كما قال، وكان قلَّ أن يخطيءَ في هذا الباب فإذا قيل له من أينَ لك هذا ؟ يقول: كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه جلالة وفيه فحولةٌ ليست لغيرهِ من الناس، وكذلك كلامُ أصحابه، وكنت أكشفُ عمَّا يقول فأجده غالباً كما قالَ ، وكان من أتبعِ الناس للسنَّة وأقلاهم(8)للبدعِ والأهواء ،وكذلك كان يقعُ هذا كثيراً فإنَّ الدِّينَ هو فعلُ ما أمر اللهُ به وتركُ ما نهى عنه، فمن تلبَّس في باطنه بالإخلاصِ والصِّدق، وفي ظاهره بالشرعِ لانتْ لهُ الأشياءُ ووضحتْ على ما هي عليه، عكسَ حال أهلِ الضلالِ والبدعِ الذين يتكلَّمون بالكذبِ والتحريفِ، فيدخِلون في دين الله ما ليس منه، وانظر ألفاظَ القرآن لمَّا كانت محفوظةً منقولةً بالتواتر لم يطمعْ مبطلٌ ولا غيره في إبطال شيء منه ولا في زيادة شيءٍ، بخلافِ الحديثِ، فإنَّ المحرِّفين والوضاعين تصرَّفوا فيه بالزيادة والنقصان والكذب والوضع في متونهِ وأسانيده ،ولكنْ أقام اللهُ به من ينفي عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، ويحميه من وضع الوضَّاعين فبينوا ما أدخلَ أهلُ الكذب والوضعِ فيه ،وأهلُ التحريف في معانيه ، كمن صنَّف في الصحيح كالبخاري ومسلم وابن خزيمة ،وكذلك أهل المساند كمسند أحمد ونحوه وكمالك وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم ممن تكلم على الحديث ،وكذلك الذين تكلموا على الرجال وأسانيدها كيحي بن سعيد الأنصاري ويحيى القطان وشعبة وسفيان وابن معين وابن المد يني وابن مهدي وغيرهم،فهؤلاء وأمثالهم أهلُ الذبِّ عن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عكسَ حال من صنَّف كتباً فيها من الموضوعاتِ شيءٌ كثيرٌ، وهو لا يميز ولا يعرف الموضوعَ والمكذوبَ من غيره، فيجيء الغِرُّ الجاهلُ فيرى حديثاً في كتاب مصنَّف فيغترُّ به وينقله ،وهؤلاء كثيرٌ أيضاً مثل مصنَّف كتاب ((وسيلة المتعبدين)) الذي صنفه الشيخ عمر الموصلي ومثل ((تنقلاتِ الأنوار)) للبكري الذي وضع فيه منَ الكذب ما لا يخفى على من له أدنى مسكة عقلٍ، بل قد أنكر العلماء على أهل التصوُّف كثيراً مما ذكروه في كتبهم من الأحاديث التي يعلمون أنها من الموضوعاتِ، ومن تفاسير آياتٍ يعلمونَ أنها مخالفةٌ ،مع أنهم قوم أحبُّوا الأعمال ،وكذلك أهلُ التفسير يضعون في تفاسيرهم أحاديثَ مكذوبةٍ، وكذلك كثير من الفقهاءِ يستدلُّون في كتبهم على المسائل بأحاديثَ ضعيفةٍ أو مكذوبةٍ، ومن لم يميز يقع في غلطٍ عظيمٍ، فاللهُ المستعانُ، وقد فرَّق اللهُ بين الحقِّ والباطل بأهل النور والإيمان والنقد، العارفينِ بالنقلِ، والذائقينَ كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعقلِ ، وقد صنَّفوا في ذلك كتباً في الجرح والتعديل، فهذا العلم مسلَّمٌ لهم، ولهم فيه معارف وطرق يختصون بها، وقد قال الإمام أحمد: ((ثلاثة علوم ليس لها أصل المغازي والملاحم والتفسير))(9)،ومعنى ذلك أن الغالب عليها أنها مرسلة وكذلك ((قصص الأنبياء)) للثعلبي فيها ما فيها ،والمقصود أن الصادق تمرُّ به أحاديث يقطع قلبه بأنها موضوعة أو ضعيفة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(10):
:"الْقَلْبُ الْمَعْمُورُ بِالتَّقْوَى إذَا رَجَّحَ بِمُجَرَّدِ رَأْيِهِ فَهُوَ تَرْجِيحٌ شَرْعِيٌّ .
قَالَ : فَمَتَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ وَحَصَلَ فِي قَلْبِهِ مَا بَطَنَ مَعَهُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَوْ هَذَا الْكَلَامَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ كَانَ هَذَا تَرْجِيحًا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ .
وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلْهَامِ لَيْسَ طَرِيقًا إلَى الْحَقَائِقِ مُطْلَقًا أَخْطَؤُوا ،فَإِذَا اجْتَهَدَ الْعَبْدُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ كَانَ تَرْجِيحُهُ لِمَا رَجَّحَ أَقْوَى مِنْ أَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ ضَعِيفَةٍ، فَإِلْهَامُ مِثْلِ هَذَا دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْهُومَةِ وَالظَّوَاهِرِ والاستصحابات الْكَثِيرَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْخَائِضِينَ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْخِلَافِ ؛ وَأُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : اقْرَبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ ؛ فَإِنَّهُمْ تَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ(11). وَحَدِيثُ مَكْحُولٍ الْمَرْفُوعُ { مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إِلاَّ ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ}(12)وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ }(13).
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّ الْقُلُوبَ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى التَّقْوَى جَالَتْ فِي الْمَلَكُوتِ ؛ وَرَجَعَتْ إلَى أَصْحَابِهَا بِطَرَفِ الْفَوَائِدِ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا عَالِمٌ عِلْمًا .(14)
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - { وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ،وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ }(15)، وَمَنْ مَعَهُ نُورٌ وَبُرْهَانٌ وَضِيَاءٌ كَيْفَ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ أَصْحَابِهَا ؟ وَلَا سِيَّمَا الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ مَعْرِفَةً تَامَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ الْعَمَلَ بِهَا ؛ فتتساعدُ فِي حَقِّهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَعَ الِامْتِثَالِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى أَنَّ الْمُحِبَّ يَعْرِفُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ مَحْبُوبِهِ مُرَادَهُ مِنْهُ تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا .
وَالْعَيْنُ تَعْرِفُ مِنْ عَيْنَيْ مُحَدِّثِهَا إنْ كَانَ مِنْ حِزْبِهَا أَوْ مِنْ أَعَادِيهَا
إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا(16)
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا }(17)، وَمَنْ كَانَ تَوْفِيقُ اللَّهِ لَهُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَا بَصِيرَةٍ نَافِذَةٍ وَنَفْسٍ فَعَّالَةٍ ؟
وَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ وَالْبِرُّ فِي صُدُورِ الْخَلْقِ لَهُ تَرَدُّدٌ وَجَوَلَانٌ ؛ فَكَيْفَ حَالُ مَنِ اللَّهُ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَهُوَ فِي قَلْبِهِ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ :" الْإِثْمُ حَوَّازُ الْقُلُوبِ"(18)، وَقَدْ قَدَّمْنَا" أَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ وَالصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ"(19)، فَالْحَدِيثُ الصِّدْقُ تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْهِ الْقَلْبُ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى الْحَقِّ ؛ فَإِذَا لَمْ تَسْتَحِلَّ الْفِطْرَةُ : شَاهَدَتِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ؛ فَأَنْكَرَتْ مُنْكِرَهَا وَعَرَّفَتْ مَعْرُوفَهَا . قَالَ عُمَرُ : الْحَقُّ أَبْلَجُ لَا يَخْفَى عَلَى فَطِنٍ(20). فَإِذَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُسْتَقِيمَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ مُنَوَّرَةً بِنُورِ الْقُرْآنِ تَجَلَّتْ لَهَا الْأَشْيَاءُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمَزَايَا، وَانْتَفَتْ عَنْهَا ظُلُمَاتُ الْجَهَالَاتِ فَرَأَتْ الْأُمُورَ عِيَانًا مَعَ غَيْبِهَا عَنْ غَيْرِهَا .
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 137)
(2) - سنن الترمذى (3419 ) وهو حديث حسن لغيره
(3) - المعجم الأوسط للطبراني(8958) وفيه انقطاع وصج نحوه عن ابن مسعود مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 489)(30656)
(4) - دلائل النبوة للبيهقي (505)
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 6 / ص 205)(6357) مطولا وفيها ضعف
(6) - مشكل الآثار للطحاوي (1789) وهو صحيح
(7) - مسند أحمد (18491) حسن
(8) - أبغضهم
(9) قال الخطيب : " وهذا الكلام محمول على وجه ، وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها ، ولا موثوق بصحتها ؛ لسوء أحوال مصنفيها ، وعدم عدالة ناقليها ، وزيادات القصاص فيها " قال : " أما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة ، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجوه مرضية ، وطرق واضحة جلية " الجامع لأخلاق الراوي ( 2 / 162 _ 163 ) .
(10) - مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 472)
(11) - لم أجده بهذا اللفظ
(12) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 13 / ص 231)(35485) ومسند الشهاب القضاعي (446) حسن مرسل
(13) - في الذي قبله
(14) - حلية الأولياء - (ج 4 / ص 250) وصفة الصفوة - (ج 1 / ص 470) ولفظه :" إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علماً."
(15) - عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ. وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا ».صحيح مسلم (56 ) -الموبق : المُهْلَك
(16) - غرر الخصائص الواضحة - (ج 1 / ص 21)
(17) - صحيح البخارى (6502 )
وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 18 / ص 342)
قَوْله ( فَكُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ ) زَادَ الْكُشْمِيهَنِيُّ " بِهِ " .
قَوْله ( وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ) فِي حَدِيث عَائِشَة فِي رِوَايَة عَبْد الْوَاحِد " عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا " وَفِي رِوَايَة يَعْقُوبَ بْن مُجَاهِد " عَيْنَيْهِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهِمَا " بِالتَّثْنِيَةِ وَكَذَا قَالَ فِي الْأُذُنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، وَزَادَ عَبْد الْوَاحِد فِي رِوَايَته " وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ " وَنَحْوه فِي حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ وَفِي حَدِيث مَيْمُونَةَ " وَقَلْبَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ " وَفِي حَدِيث أَنَس " وَمَنْ أَحْبَبْته كُنْت لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا "
وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ كَيْفَ يَكُونُ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا سَمْعَ الْعَبْدِ وَبَصَرَهُ إِلَخْ ؟
وَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيلِ ، وَالْمَعْنَى كُنْت سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فِي إِيثَارِهِ أَمْرِي فَهُوَ يُحِبُّ طَاعَتِي وَيُؤْثِرُ خِدْمَتِي كَمَا يُحِبّ هَذِهِ الْجَوَارِح .
ثَانِيهَا أَنَّ الْمَعْنَى كُلِّيَّته مَشْغُولَةٌ بِي فَلَا يُصْغِي بِسَمْعِهِ إِلَّا إِلَى مَا يُرْضِينِي ، وَلَا يَرَى بِبَصَرِهِ إِلَّا مَا أَمَرْتُهُ بِهِ .
ثَالِثهَا الْمَعْنَى أُحَصِّلُ لَهُ مَقَاصِدَهُ كَأَنَّهُ يَنَالُهَا بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ إِلَخْ .
رَابِعهَا كُنْت لَهُ فِي النُّصْرَة كَسَمْعِهِ وَبَصَره وَيَده وَرِجْلِهِ فِي الْمُعَاوَنَة عَلَى عَدُوِّهِ .
خَامِسهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَسَبَقَهُ إِلَى مَعْنَاهُ اِبْن هُبَيْرَة : هُوَ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، وَالتَّقْدِيرُ كُنْت حَافِظ سَمْعِهِ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ فَلَا يَسْمَعُ إِلَّا مَا يَحِلُّ اِسْتِمَاعُهُ ، وَحَافِظ بَصَرِهِ كَذَلِكَ إِلَخْ .
سَادِسُهَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ : يَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ أَدَقَّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُون مَعْنَى سَمْعِهِ مَسْمُوعَهُ ، لِأَنَّ الْمَصْدَر قَدْ جَاءَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِثْل فُلَانٌ أَمْلَى بِمَعْنَى مَأْمُولِي ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ إِلَّا ذِكْرِي وَلَا يَلْتَذُّ إِلَّا بِتِلَاوَةِ كِتَابِي وَلَا يَأْنَسُ إِلَّا بِمُنَاجَاتِي وَلَا يَنْظُرُ إِلَّا فِي عَجَائِبِ مَلَكُوتِي وَلَا يَمُدُّ يَدَهُ إِلَّا فِيمَا فِيهِ رِضَايَ وَرِجْله كَذَلِكَ ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ اِبْن هُبَيْرَة أَيْضًا .
وَقَالَ الطُّوفِيُّ : اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء مِمَّنْ يُعْتَدّ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا مَجَاز وَكِنَايَة عَنْ نُصْرَة الْعَبْد وَتَأْيِيده وَإِعَانَته ، حَتَّى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَزِّلُ نَفْسَهُ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةَ الْآلَاتِ الَّتِي يَسْتَعِينُ بِهَا وَلِهَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ " فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي " قَالَ : وَالِاتِّحَادِيَّة زَعَمُوا أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ الْحَقَّ عَيْنُ الْعَبْدِ ، وَاحْتَجُّوا بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ ، قَالُوا فَهُوَ رُوحَانِيٌّ خَلَعَ صُورَتَهُ وَظَهَرَ بِمَظْهَرِ الْبَشَرِ ، قَالُوا فَاَللَّهُ أَقْدَرُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ فِي صُورَةِ الْوُجُودِ الْكُلِّيِّ أَوْ بَعْضِهِ ، تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هَذِهِ أَمْثَالٌ وَالْمَعْنَى تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ . وَإِلَى هَذَا نَحَا الدَّاوُدِيُّ ، وَمِثْله الْكَلَابَاذِيّ ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ أَحْفَظُهُ فَلَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا فِي مَحَابِّي ، لِأَنَّهُ إِذَا أَحَبَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَكْرَهُهُ مِنْهُ . سَابِعُهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا : وَقَدْ يَكُون عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنْ سُرْعَة إِجَابَة الدُّعَاء وَالنُّجْحِ فِي الطَّلَب ، وَذَلِكَ أَنَّ مَسَاعِيَ الْإِنْسَان كُلَّهَا إِنَّمَا تَكُون بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ الْمَذْكُورَةِ . وَقَالَ بَعْضهمْ : وَهُوَ مُنْتَزَع مِمَّا تَقَدَّمَ لَا يَتَحَرَّك لَهُ جَارِحَةٌ إِلَّا فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، فَهِيَ كُلُّهَا تَعْمَلُ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ . وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الزُّهْد " عَنْ أَبِي عُثْمَان الْجِيزِيّ أَحَد أَئِمَّة الطَّرِيق قَالَ : مَعْنَاهُ كُنْت أَسْرَعَ إِلَى قَضَاء حَوَائِجه مِنْ سَمْعِهِ فِي الْأَسْمَاع وَعَيْنِهِ فِي النَّظَرِ وَيَده فِي اللَّمْس وَرِجْله فِي الْمَشْي . وَحَمَلَهُ بَعْض مُتَأَخِّرِي الصُّوفِيَّة عَلَى مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ مَقَام الْفِنَاء وَالْمَحْو ، وَأَنَّهُ الْغَايَة الَّتِي لَا شَيْء وَرَاءَهَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُون قَائِمًا بِإِقَامَةِ اللَّه لَهُ مُحِبًّا بِمَحَبَّتِهِ لَهُ نَاظِرًا بِنَظَرِهِ لَهُ مِنْ غَيْر أَنْ تَبْقَى مَعَهُ بَقِيَّةٌ تُنَاط بِاسْمٍ أَوْ تَقِفُ عَلَى رَسْمٍ أَوْ تَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ أَوْ تُوصَفُ بِوَصْفٍ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّهُ يَشْهَدُ إِقَامَةَ اللَّهِ لَهُ حَتَّى ، قَامَ وَمَحَبَّته لَهُ حَتَّى أَحَبَّهُ وَنَظَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ حَتَّى أَقْبَلَ نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ .
وَحَمَلَهُ بَعْض أَهْل الزَّيْغ عَلَى مَا يَدْعُونَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْد إِذَا لَازَمَ الْعِبَادَةَ الظَّاهِرَة وَالْبَاطِنَة حَتَّى يُصَفَّى مِنْ الْكُدُورَات أَنَّهُ يَصِير فِي مَعْنَى الْحَقّ ، تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ يَفْنَى عَنْ نَفْسه جُمْلَةً حَتَّى يَشْهَد أَنَّ اللَّه هُوَ الذَّاكِر لِنَفْسِهِ الْمُوَحِّد لِنَفْسِهِ الْمُحِبّ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَاب وَالرُّسُوم تَصِير عَدَمًا صَرْفًا فِي شُهُوده وَإِنْ لَمْ تُعْدَم فِي الْخَارِج ، وَعَلَى الْأَوْجُه كُلّهَا فَلَا مُتَمَسَّكَ فِيهِ لِلِاتِّحَادِيَّةِ وَلَا الْقَائِلِينَ بِالْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَة لِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّة الْحَدِيث " وَلَئِنْ سَأَلَنِي ، وَلَئِنْ اِسْتَعَاذَنِي " فَإِنَّهُ كَالصَّرِيحِ فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ .
(18) - المعجم الكبير للطبراني (8661 -8663) والإتحاف 1/159 و 6/60 و 81 و 7/298 و الترغيب 3/36 و مجمع 1/176 و الشعب (5434و 7277) صحيح موقوف
حواز القلوب- بفتح الحاء المهملة وتشديد الواو- وهو ما يحوزها ويغلب عليها حتى ترتكب ما لا يحسن، وقيل: بتخفين الواو وتشديد الزاي- جمع حازة- وهي الأمور التي تحز في القلوب وتحك وتؤثر، وتتخالج في القلوب أن تكون معاصي، وهذا أشهر.
(19) - عَنْ أَبِى الْحَوْرَاءِ السَّعْدِىِّ قَالَ قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ مَا حَفِظْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ». سنن الترمذى(2708 ) وقَالَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
(20) - جامع الأحاديث (30862)(1/188)
وَفِي السُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ عَنِ النَّوَاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِىِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وْالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِى عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِى مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِى قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ »(1). فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ - الَّذِي مَنْ عَرَفَهُ انْتَفَعَ بِهِ انْتِفَاعًا بَالِغًا إنْ سَاعَدَهُ التَّوْفِيقُ ؛ وَاسْتَغْنَى بِهِ عَنْ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَاعِظًا، وَالْوَعْظُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ؛ وَالتَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ .
وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَعْمُورًا بِالتَّقْوَى انْجَلَتْ لَهُ الْأُمُورُ وَانْكَشَفَتْ ؛ بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْخَرَابِ الْمُظْلِمِ ؛ قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : إنَّ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ سِرَاجًا يُزْهِرُ(2). وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ فَقَالَ إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ « أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ ، وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ ، كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى »(3).
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا لَا يَتَبَيَّنُ لِغَيْرِهِ ؛ وَلَا سِيَّمَا فِي الْفِتَنِ، وَيَنْكَشِفُ لَهُ حَالُ الْكَذَّابِ الْوَضَّاعِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ فَإِنَّ الدَّجَّالَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ ،مَعَ أَنَّ اللَّهَ يُجْرِي عَلَى يَدَيْهِ أُمُورًا هَائِلَةً ومخاريق مُزَلْزِلَةً ،حَتَّى إنَّ مَنْ رَآهُ افْتَتَنَ بِهِ فَيَكْشِفُهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ حَتَّى يَعْتَقِدَ كَذِبَهَا وَبُطْلَانَهَا .
وَكُلَّمَا قَوِيَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ قَوِيَ انْكِشَافُ الْأُمُورِ لَهُ ؛ وَعَرَفَ حَقَائِقَهَا مِنْ بَوَاطِلِهَا ،وَكُلَّمَا ضَعُفَ الْإِيمَانُ ضَعُفَ الْكَشْفُ ،وَذَلِكَ مَثَلُ السِّرَاجِ الْقَوِيِّ وَالسِّرَاجِ الضَّعِيفِ فِي الْبَيْتِ الْمُظْلِمِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ : هُوَ الْمُؤْمِنُ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلْحَقِّ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِالْأَثَرِ، فَإِذَا سَمِعَ فِيهَا بِالْأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ(4).
فَالْإِيمَانُ الَّذِي فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ يُطَابِقُ نُورَ الْقُرْآنِ ؛ فَالْإِلْهَامُ الْقَلْبِيُّ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ وَالْعِلْمِ ؛ وَالظَّنُّ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَذِبٌ . وَأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ بَاطِلٌ ؛ وَهَذَا أَرْجَحُ مِنْ هَذَا ؛ أَوْ هَذَا أَصْوَبُ .
وَفِي الصَّحِيح عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ « قَدْ كَانَ يَكُونُ فِى الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِى أُمَّتِى مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ». قَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ مُلْهَمُونَ.(5). وَالْمُحَدَّثُ : هُوَ الْمُلْهَمُ الْمُخَاطَبُ فِي سِرِّهِ . وَمَا قَالَ عُمَرُ لِشَيْءِ : إنِّي لَأَظُنّهُ كَذَا وَكَذَا إلَّا كَانَ كَمَا ظَنَّ ،وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ(6). وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتِ الْأُمُورُ الْكَوْنِيَّةُ قَدْ تَنْكَشِفُ لِلْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِقُوَّةِ إيمَانِهِ يَقِينًا وَظَنًّا ؛ فَالْأُمُورُ الدِّينِيَّةُ كَشْفُهَا لَهُ أَيْسَرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ إلَى كَشْفِهَا أَحْوَجُ فَالْمُؤْمِنُ تَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَدِلَّةٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يُمْكِنُهُ إبَانَةُ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِقَلْبِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ الْكَاذِبُ بَيْنَ يَدَيْ الصَّادِقِ عَرَفَ كَذِبَهُ مِنْ فَحْوَى كَلَامِهِ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ نَخْوَةُ الْحَيَاءِ الْإِيمَانِيِّ فَتَمْنَعُهُ الْبَيَانَ، وَلَكِنْ هُوَ فِي نَفْسِهِ قَدْ أَخَذَ حِذْرَهُ مِنْهُ ،وَرُبَّمَا لَوَّحَ أَوْ صَرَّحَ بِهِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ وَشَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ لِيَحْذَرُوا مِنْ رِوَايَتِهِ أَوْ الْعَمَلِ بِهِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْكَشْفِ يُلْقِي اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ حَرَامٌ ؛ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَافِرٌ ؛ أَوْ فَاسِقٌ ؛ أَوْ دَيُّوثٌ ؛ أَوْ لُوطِيٌّ ؛ أَوْ خَمَّارٌ ؛ أَوْ مُغَنٍّ ؛ أَوْ كَاذِبٌ ؛ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ، بَلْ بِمَا يُلْقِي اللَّهُ فِي قَلْبِهِ . وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ يُلْقِي فِي قَلْبِهِ مَحَبَّةً لِشَخْصِ وَأَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ؛ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ صَالِحٌ ؛ وَهَذَا الطَّعَامَ حَلَالٌ وَهَذَا الْقَوْلَ صِدْقٌ ؛ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَبْعَدَ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى هِيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ،وَأَنَّ الْخَضِرَ عَلِمَ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الْمُعَيَّنَةَ ،بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَطُولُ بَسْطُهُ قَدْ نَبَّهْنَا فِيهِ عَلَى نُكَتٍ شَرِيفَةٍ تُطْلِعُك عَلَى مَا وَرَاءَهَا" .اهـ
والمقصودُ أن الحديث الموضوع يعرفُ كونه موضوعاً إما بإقرار واضعه أو بركاكة لفظه أو غير ذلك، وقد أشرنا فيما كتبنا فيما تقدم أن أهل الإيمان والتقوى والصدق والإخلاص لهم أطلاعاتٌ وكشفٌ وفراساتٌ وإلهاماتٌ يلقيها الله في قلوبهم يعرفون بها صدق الصادق وكذب الكاذب، ووضع الوضاعين وصحيح الأخبار وكاذبها ،وقد كان أبو سليمان الداراني يسمِّي أحمد بن عاصم الأنطاكي ((جاسوس القلب)) لحدة فراسته، فعليك يا أخي بالصدقِ وإياك والكذبَ فإنه يجانبُ الإيمانَ والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المنقلب والمآب والحمد لله رب العالمين)) انتهى كلام الإمام ابن عروة الحنبلي الدمشقي رحمه الله تعالى "
ـــــــــــــــ
__________
(1) - المستدرك للحاكم 1/73(245) وحم 4/182 (18101و 18103) ومشكل 2/423 و 3/35 و ترغيب 3/224 والآجري 11/ و طبري 1/58 و صحيح الجامع (3887) صحيح
(2) -عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ : قَلْبٌ مُصَفَّحٌ ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ ، وَقَلْبٌ أَجْرَدُ ، كَأَنَّ فِيهِ سِرَاجًا يُزْهِرُ ، فَذَاكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ، وَقَلْبٌ فِيهِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ قُرْحَةٍ يَمُدُّ بِهَا قَيْحٌ وَدَمٌ ، وَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ خَبِيثٌ وَمَاءٌ طَيِّبٌ ، فَأَيُّ مَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهَا غَلَبَ.مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 11 / ص 36)(31043) ورجاله ثقات لكن فيه انقطاعاً
(3) - صحيح البخارى (5913 )
الآدم : أسمر اللون جعد : منقبض الشعر غير منبسطه الخلبة : الليف والحبل الصلب الرقيق
(4) - وفي مجموع الفتاوى - (ج 10 / ص 694)
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ فِيهِ بِأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ ؛ بَلْ صَاحِبُهُ أَحْمَد بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ كَانَ مِنْ أَتْبَعْ الْمَشَايِخِ لِلسُّنَّةِ
وفي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 585)
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ اثْنَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ بِأَثَرٍ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 11 / ص 595)
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الداراني : إنَّهُ لَتَلُمُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَجِدَ فِيهِ أَثَرًا فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ أَثَرًا كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ . وَقَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ : عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَلَمْ يَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا .
وفي مجموع الفتاوى - (ج 24 / ص 378)
وَلَكِنْ مَنْ حَصَلَ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَصِيرَةٌ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ بُرْهَانٌ كَانَ ذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : بَصِيرَةُ الْمُؤْمِنِ تَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ فِيهَا بِأَثَرِ ، فَإِذَا جَاءَ الْأَثَرُ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }
(5) - صحيح مسلم(6357 )
المحدَّث : الصادق الظن الملهم الذى يلقَى فى نفسه الشىء فيخبر به فراسة
(6) - عَنْ وَهْبٍ السُّوَائِىِّ قَالَ خَطَبَنَا عَلِىٌّ فَقَالَ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا فَقُلْتُ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ لاَ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَمَا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ. مسند أحمد (846) وهو صحيح(1/189)
الخامسة - مفهوم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ تَكْذِبُوا عَلَىَّ ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ »(1)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله(2):
" قَوْله : ( لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ ) هُوَ عَامّ فِي كُلّ كَاذِب ، مُطْلَق فِي كُلّ نَوْع مِنَ الْكَذِب ، وَمَعْنَاهُ لَا تَنْسِبُوا الْكَذِب إِلَيَّ . وَلَا مَفْهُوم لِقَوْلِهِ : " عَلَيَّ " لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّر أَنْ يُكْذَبَ لَهُ لِنَهْيِهِ عَنْ مُطْلَق الْكَذِب . وَقَدْ اِغْتَرَّ قَوْم مِنَ الْجَهَلَة فَوَضَعُوا أَحَادِيث فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب وَقَالُوا : نَحْنُ لَمْ نَكْذِب عَلَيْهِ بَلْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِتَأْيِيدِ شَرِيعَته ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ تَقْوِيله - صلى الله عليه وسلم - مَا لَمْ يَقُلْ يَقْتَضِي الْكَذِب عَلَى اللَّه تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات حُكْم مِنَ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة سَوَاء كَانَ فِي الْإِيجَاب أَوْ النَّدْب ، وَكَذَا مُقَابِلهمَا وَهُوَ الْحَرَام وَالْمَكْرُوه . وَلَا يُعْتَدّ بِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْكَرَامِيَّة حَيْثُ جَوَّزُوا وَضْع الْكَذِب فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب فِي تَثْبِيت مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ كَذِب لَهُ لَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَهْل بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّة . وَتَمَسَّكَ بَعْضهمْ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث مِنْ زِيَادَة لَمْ تَثْبُت وَهِيَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود بِلَفْظِ : " مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ لِيُضِلّ بِهِ النَّاس " الْحَدِيث ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي وَصْله وَإِرْسَاله ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِم إِرْسَاله ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيث يَعْلَى بْن مُرَّة بِسَنَدٍ ضَعِيف(3)، وَعَلَى تَقْدِير ثُبُوته فَلَيْسَتْ اللَّام فِيهِ لِلْعِلَّةِ بَلْ لِلصَّيْرُورَةِ كَمَا فُسِّرَ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (144) سورة الأنعام ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَآل أَمْره إِلَى الْإِضْلَال ، أَوْ هُوَ مِنْ تَخْصِيص بَعْض أَفْرَاد الْعُمُوم بِالذِّكْرِ فَلَا مَفْهُوم لَهُ ،كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (130) سورة آل عمران ، وقوله تعالى : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (151) سورة الأنعام ، فَإِنَّ قَتْل الْأَوْلَاد وَمُضَاعَفَة الرِّبَا وَالْإِضْلَال فِي هَذِهِ الْآيَات إِنَّمَا هُوَ لِتَأْكِيدِ الْأَمْر فِيهَا لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْم . "
ـــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (106 )
(2) - فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 173) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 141)
(3) - الصواب ثبوته(1/190)
السادسة - بيان أنه ليس كل حديث في باب الترغيب تحدث به العامة
ترجم لهذا المقصد المهم الإمام البخاري في صحيحه بقوله ((49 - باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لاَ يَفْهَمُوا .)) ثم قال :وَقَالَ عَلِىٌّ : حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ « يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . قَالَ « يَا مُعَاذُ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . ثَلاَثًا .
قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ « إِذًا يَتَّكِلُوا » . وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا .(1)
وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ : كُنَّا قُعُودًا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِى نَفَرٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَخَرَجْتُ أَبْتَغِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَيْتُ حَائِطًا لِلأَنْصَارِ لِبَنِى النَّجَّارِ فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابًا فَلَمْ أَجِدْ فَإِذَا رَبِيعٌ يَدْخُلُ فِى جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئْرٍ خَارِجَةٍ - وَالرَّبِيعُ الْجَدْوَلُ - فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَبُو هُرَيْرَةَ ». فَقُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « مَا شَأْنُكَ ». قُلْتُ كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا فَخَشِينَا أَنْ تُقْتَطَعَ دُونَنَا فَفَزِعْنَا فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ فَأَتَيْتُ هَذَا الْحَائِطَ فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثَّعْلَبُ وَهَؤُلاَءِ النَّاسُ وَرَائِى فَقَالَ « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ». وَأَعْطَانِى نَعْلَيْهِ قَالَ « اذْهَبْ بِنَعْلَىَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ » فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ فَقَالَ مَا هَاتَانِ النَّعْلاَنِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقُلْتُ هَاتَانِ نَعْلاَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَنِى بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ. فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَىَّ فَخَرَرْتُ لاِسْتِى فَقَالَ ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً وَرَكِبَنِى عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِى فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ». قُلْتُ لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى بَعَثْتَنِى بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَىَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لاِسْتِى قَالَ ارْجِعْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِىَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ فَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَخَلِّهِمْ ».(2)
وعَنْ أَبِى ظَبْيَانَ قَالَ غَزَا أَبُو أَيُّوبَ الرُّومَ فَمَرِضَ فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ أَنَا إِذَا مِتُّ فَاحْمِلُونِى فَإِذَا صَافَعْتُمُ الْعَدُوَّ فَادْفِنُونِى تَحْتَ أقَدْامِكُمْ وَسَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثاً سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَوْلاَ حَالِى هَذَا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ ».(3)
وعَنْ أَبِى أَيُّوبَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَوْلاَ أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ يَغْفِرُ لَهُمْ ».(4)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله(5):
" وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " بِمَا يَعْرِفُونَ " أَيْ : يَفْهَمُونَ . وَزَادَ آدَم بْن أَبِي إِيَاس فِي كِتَاب الْعِلْم لَهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن دَاوُدَ عَنْ مَعْرُوف فِي آخِره " وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ " أَيْ : يَشْتَبِه عَلَيْهِمْ فَهْمه . وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَج . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِه لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَر عِنْد الْعَامَّة . وَمِثْله قَوْل اِبْن مَسْعُود : " مَا أَنْتَ مُحَدِّثًا قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغهُ عُقُولهمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة " رَوَاهُ مُسْلِم . وَمِمَّنْ كَرِهَ التَّحْدِيث بِبَعْضٍ دُون بَعْض أَحْمَد فِي الْأَحَادِيث الَّتِي ظَاهِرهَا الْخُرُوج عَلَى السُّلْطَان ، وَمَالِك فِي أَحَادِيث الصِّفَات ، وَأَبُو يُوسُف فِي الْغَرَائِب ، وَمِنْ قَبْلهمْ أَبُو هُرَيْرَة كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الْجِرَابَيْنِ وَأَنَّ الْمُرَاد مَا يَقَع مِنْ الْفِتَن ، وَنَحْوه عَنْ حُذَيْفَة وَعَنْ الْحَسَن أَنَّهُ أَنْكَرَ تَحْدِيث أَنَس لِلْحَجَّاجِ بِقِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ لِأَنَّهُ اِتَّخَذَهَا وَسِيلَة إِلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدهُ مِنْ الْمُبَالَغَة فِي سَفْك الدِّمَاء بِتَأْوِيلِهِ الْوَاهِي ، وَضَابِط ذَلِكَ أَنْ يَكُون ظَاهِر الْحَدِيث يُقَوِّي الْبِدْعَة وَظَاهِره فِي الْأَصْل غَيْر مُرَاد ، فَالْإِمْسَاك عَنْهُ عِنْد مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْأَخْذ بِظَاهِرِهِ مَطْلُوب . وَاَللَّه أَعْلَم ."
قال صاحب كتاب أشهر مشاهير الإسلام (رفيق العظم رحمه الله) تحت عنوان ما كل حديث تحدث به العامة وندم أبي عبيدة على نقله الحديث لعامة الناس))(6)
" ((كلُّ مسلم أكتنه كنه الدين الإسلامي ووقف على حكمه وأسراره يرى من آياته العظمى في الترغيب والترهيب ما لو أحسن استعماله ووضع في موضعه لكفى لإزعاج النفوس الشريرة عن مواطن الرذيلة مهما التصقت بها وأمعنت فيها، ولجعل النفوس البارة نوراً على نور وألبسها من الفضيلة لباساً لا يصيبه بلى وقد جاء الكتاب الكريم بالترغيب ليكون باعثا للنفوس على العمل الصالح رجاء الثواب الأخروي الذي أعده الله لعباده الصالحين ، لا ليكون لاستدراج النفوس في مدارج الاستباحة طمعاً في عفو الله، لهذا جاء بإزاء الترغيب بالترهيب لترسم على صفحات النفوس صورة العقاب كما ارتسمت صورة الثواب فيكون لها منها داع إلى الخير يذكرها بالثواب ويمكن منها الرغبة فيه لا إلى حد الطمع والغرور ثم الاستدراج في الشرور وزاجر عن الشر يذكرها بالعقاب ويمكن منها الرهبة منه لا إلى حد الانقطاع إلى تقويم أود النفس وتعطيل وظائف الحياة، ولا إلى حد اليأس والقنوط ثم الاسترسال في الشهوات واقتراف المنكرات ،على ذلك الأساس بنيَ الترغيب والترهيب في الإسلام ،وكل ما جاء منه في الحديث النبوي فالمراد منه عين ما أراده القرآن،ولكن ما الحيلة وقد أولعَ كثيرٌ من علماء المسلمين بالإفراط في الوعظ ترغيباً وترهيبا ،وحملوا عامة الناس على طريقتهم في فهم الدين فأكثروا من حمل الحديث وروايته دون التفهم له والعلم بمقاصده ووضع كل شيء منه في محله والتفريق بين صحيحه وموضوعه ،حتى أغروا العامة بعقيدة الإباحة لكثرة ما يروون لهم من أحاديث الترغيب ، ولو موضوعة كفضائل الصيام والصلاة وفضائل الشهور والأيام وفضائل التلاوات، وجلُّها - إن لم نقل كلها - من الموضوع الذي تستدرج به العامة للاستباحة لاعتقادهم بأن من صام كذا غفر له من السيئات كذا وكذا ومن تنفل بيوم كذا محيت سيئاته إلى كذا، ولقد بلغ ببعضهم سوء الفهم للدين أن جعلوا لبعض القصائد النبوية من الفضائل ما لم يجعلوه للقرآن فقالوا إن البيت الفلاني منها لشفاء الأسقام والآخر لمحو الذنوب والآثام والثالث للنجاة من ظلم الحكام ،فليت شعري إذا اعتقد العامي أن تلاوة بيت من قصيد يكفيه لمحو كل ما يقترفه في يومه من الآثام فإلى أية درجة ينتهي فساد أخلاقه وشرور نفسه، وماذا ينفعه القرآن بأوامره ونواهيه ووعده ووعيده وحكمه وأحكامه، اللهم إن هذا لغاية الاستهانة بالدين والجهل بمقاصد الإسلام، ومنشؤه اضطراب الأفهام وتلبس الحقائق بالأوهام منذ أخذ الوضاعون بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأدخلوا في الدين ما ليس منه... " اهـ
ـــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (128 )
(2) - صحيح مسلم (156 )
أجهش : هم بالبكاء احتفز : تضامم ليسعه المدخل الحائط : البستان الربيع : النهر الصغير
(3) - مسند أحمد(24276) صحيح لغيره
(4) - صحيح مسلم(7139 )
قَالَ الطِّيبِيُّ : لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُنْهَمِكِينَ فِي الذُّنُوبِ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا بُعِثُوا لِيَرْدَعُوا النَّاسَ عَنْ غَشَيَانِ الذُّنُوبِ بَلْ بَيَانٌ لِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى وَتُجَاوِزْهُ عَنْ الْمُذْنِبِينَ لِيَرْغَبُوا فِي التَّوْبَةِ ، وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ كَمَا أَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ الْمُحْسِنِينَ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ الْمُسِيئِينَ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْغَفَّارُ الْحَلِيمُ التَّوَّابُ الْعَفُوُّ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِيَجْعَلَ الْعِبَادَ شَأْنًا وَاحِدًا كَالْمَلَائِكَةِ مَجْبُولِينَ عَلَى التَّنَزُّهِ مِنْ الذُّنُوبِ بَلْ يَخْلُقُ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ بِطَبْعِهِ مَيَّالًا إِلَى الْهَوَى مُتَلَبِّسًا بِمَا يَقْتَضِيهِ ثُمَّ يُكَلِّفُهُ التَّوَقِّيَ عَنْهُ وَيُحَذِّرُهُ عَنْ مُدَانَاتِهِ وَيُعَرِّفُهُ التَّوْبَةَ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ فَإِنْ وَفَّى فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَإِنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فَالتَّوْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ .تحفة الأحوذي - (ج 8 / ص 436)
(5) - فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 203)
(6) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 142)(1/191)
السابعة - وجوبُ تمييز الحديث الصحيح من الموضوع لمن يطالع المؤلفات التي لم تميز بين صحيح الأحاديث وسقيمها
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة له لجماعة عدي بن مسافر :(1)
" وَأَنْتُمْ أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَعَافَاكُمْ اللَّهُ مِمَّا ابْتَلَى بِهِ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْإِسْلَامُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران. وَعَافَاكُمْ اللَّهُ بِانْتِسَابِكُمْ إلَى السُّنَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ مِثْلَ كَثِيرٍ مِنْ بِدَعِ الرَّوَافِضِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ بِحَيْثُ جَعَلَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْبُغْضِ لِمَنْ يُكَذِّبُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ أَوْ يَسُبُّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا هُوَ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ، وَلِهَذَا كَثُرَ فِيكُمْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ الْمُجَاهِدِينَ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي طَوَائِفِ الْمُبْتَدِعِينَ، وَمَا زَالَ فِي عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمَنْصُورَةِ وَجُنُودِ اللَّهِ الْمُؤَيَّدَةِ مِنْكُمْ مَنْ يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ وَيُعِزُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَفِي أَهْلِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ مِنْكُمْ مَنْ لَهُ الْأَحْوَالُ الزَّكِيَّةُ وَالطَّرِيقَةُ الْمَرْضِيَّةُ وَلَهُ الْمُكَاشَفَاتُ وَالتَّصَرُّفَاتُ .
وَفِيكُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ مَنْ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الْعَالَمِينَ فَإِنَّ قُدَمَاءَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا فِيكُمْ مِثْلَ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ " أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَد بْنِ يُوسُفَ الْقُرَشِيِّ الهكاري " وَبَعْدَهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ الْقُدْوَةُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرٍ الْأُمَوِيُّ " وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمَا فِيهِمْ مِنَ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَرَفَعَ بِهِ مَنَارَهُمْ .
وَالشَّيْخُ عَدِيٌّ " - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَكَابِرِ الْمَشَايِخِ الْمُتَّبَعِينَ، وَلَهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الزَّكِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ الْعَلِيَّةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ ، وَلَهُ فِي الْأُمَّةِ صيت مَشْهُورٌ ، وَلِسَانُ صِدْقٍ مَذْكُورٌ، وَعَقِيدَتُهُ الْمَحْفُوظَةُ عَنْهُ لَمْ يَخْرُجْ فِيهَا عَنْ عَقِيدَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ كَالشَّيْخِ الْإِمَامِ الصَّالِحِ " أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ الشِّيرَازِيِّ ثُمَّ " الدِّمَشْقِيِّ " وَكَشَيْخِ الْإِسْلَامِ الهكاري " وَنَحْوِهِمَا . وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ لَمْ يَخْرُجُوا فِي الْأُصُولِ الْكِبَارِ عَنْ أُصُولِ " أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " بَلْ كَانَ لَهُمْ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْحِرْصِ عَلَى نَشْرِهَا وَمُنَابَذَةِ مَنْ خَالَفَهَا مَعَ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ مَا رَفَعَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَارَهُمْ وَأَعْلَى مَنَارَهُمْ ، وَغَالِبُ مَا يَقُولُونَهُ فِي أُصُولِهَا الْكِبَارِ جَيِّدٌ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِهِمْ وَكَلَامِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَرْجُوحَةِ وَالدَّلَائِلِ الضَّعِيفَةِ ؛ كَأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ وَمَقَايِيسُ لَا تَطَّرِدُ ( مَعَ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا سِيَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُحَكِّمُوا مَعْرِفَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِيهِمَا، وَيُمَيِّزُوا بَيْنَ صَحِيحِ الْأَحَادِيثِ وَسَقِيمِهَا وَنَاتِجِ الْمَقَايِيسِ وَعَقِيمِهَا ، مَعَ مَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَلَبَةِ الْأَهْوَاءِ وَكَثْرَةِ الْآرَاءِ وتغلظ الِاخْتِلَافِ وَالِافْتِرَاقِ وَحُصُولِ الْعَدَاوَةِ وَالشِّقَاقِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ وَنَحْوَهَا مِمَّا يُوجِبُ " قُوَّةَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ " اللَّذَيْنِ نَعَتَ اللَّهُ بِهِمَا الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ : {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب ، فَإِذَا مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ أَنْقَذَهُ مِنْ هَذَا الضَّلَالِ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } سورة العصر، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24) سورة السجدة . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ - أَصْلَحَكُمْ اللَّهُ - أَنَّ " السُّنَّةَ " الَّتِي يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَيُحْمَدُ أَهْلُهَا وَيُذَمُّ مَنْ خَالَفَهَا : هِيَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادَاتِ وَأُمُورِ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِمَعْرِفَةِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الثَّابِتَةِ عَنْهُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ ، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ
وَذَلِكَ " فِي دَوَاوِينِ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفَةِ " : مِثْلَ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَكُتُبِ السُّنَنِ : مِثْلَ سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَمُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَمِثْلَ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ ؛ كَمِثْلِ مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَيُوجَدُ فِي كُتُبِ " التَّفَاسِيرِ " وَ" الْمَغَازِي " وَسَائِرِ " كُتُبِ الْحَدِيثِ " جُمَلِهَا وَأَجْزَائِهَا مِنَ الْآثَارِ مَا يُسْتَدَلُّ بِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مَنِ اعْتَنَى بِهِ حَتَّى حَفِظَ اللَّهُ الدِّينَ عَلَى أَهْلِهِ ، وَقَدْ جَمَعَ طَوَائِفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي أَبْوَابِ " عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ " مِثْلَ : حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدارمي ؛ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرِهِمْ فِي طَبَقَتِهِمْ . وَمِثْلُهَا مَا بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمْ فِي كُتُبِهِمْ . وَمِثْلُ مُصَنَّفَاتِ أَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِي وَأَبِي الشَّيْخِ الأصبهاني وَأَبِي بَكْرٍ الآجري وَأَبِي الْحَسَنِ الدارقطني وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَأَبِي الْقَاسِمِ اللالكائي وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ ؛ وَأَبِي عَمْرٍو الطلمنكي وَأَبِي نُعَيْمٍ الأصبهاني وَأَبِي بَكْرٍ البيهقي وَأَبِي ذَرٍّ الهروي ، وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ مَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ ، وَقَدْ يَرْوِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : فِي الصِّفَاتِ وَسَائِرِ أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِ وَعَامَّةِ أَبْوَابِ الدِّينِ : أَحَادِيثَ كَثِيرَةً تَكُونُ مَكْذُوبَةً مَوْضُوعَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ قِسْمَانِ :
مِنْهَا مَا يَكُونُ كَلَامًا بَاطِلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْكَلَامِ : مَا يَكُونُ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ أَوْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوْ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكُونُ حَقًّا ، أَوْ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ أَوْ مَذْهَبًا لِقَائِلِهِ فَيُعْزَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهَذَا كَثِيرٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ مِثْلَ الْمَسَائِلِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّيْخُ " أَبُو الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ " وَجَعَلَهَا مِحْنَةً يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ وَهِيَ " مَسَائِلُ مَعْرُوفَةٌ " عَمِلَهَا بَعْضُ الْكَذَّابِينَ وَجَعَلَ لَهَا إسْنَادًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَهَا مِنْ كَلَامِهِ ،وَهَذَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى .
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ - وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا مُوَافِقًا لِأُصُولِ السُّنَّةِ - فَفِيهَا مَا إذَا خَالَفَهُ الْإِنْسَانُ لَمْ يُحْكَمْ بِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ مِثْلَ أَوَّلِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ ،وَالنِّزَاعُ فِيهَا لَفْظِيٌّ ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ اللَّذَّةَ الَّتِي يَعْقُبُهَا أَلَمٌ ؛ هَلْ تُسَمَّى نِعْمَةً أَمْ لَا ؟ وَفِيهَا أَيْضًا أَشْيَاءُ مَرْجُوحَةٌ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْحَدِيثِ الْكَذِبِ ،فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ ؛ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ دُونَ الْمَوْضُوعَةِ : فَهَذَا " أَصْلٌ عَظِيمٌ " لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا وَلِمَنْ يَدَّعِي السُّنَّةَ خُصُوصًا . " اهـ
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 3 / ص 376) فما بعدها وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 144)(1/192)
الثامنة - لا عبرة بالأحاديث المنقولة في كتب الفقه والتصوف،ما لم يظهر سندها وإن كان مصنفُها جليلا :
قال العلامة ملا على القارى في رسالة الموضوعات :(1)
بعد إيراده الحديث المفترى (من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان كان ذلك جابرا لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة )
قال : باطل قطعا لأنه مناقض للإجماع على أن شيئا من العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات، ثم لا عبرة بنقل النهاية ولا ببقية شراح الهداية فإنهم ليسوا من المحدثين ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرجين. انتهى.
وقال الشوكاني(2): " عقب حديث من صلى في آخر جمعة من رمضان الخمس الصلوات المفروضة في اليوم والليلة قضت عنه ما أخل به من صلاة سنته "
" هذا : موضوع لا إشكال فيه ولم أجده في شيء من الكتب التي جمع مصنفوها فيها الأحاديث الموضوعة ولكنه اشتهر عند جماعة من المتفقهة بمدينة صنعاء في عصرنا هذا وصار كثير منهم يفعلون ذلك ولا أدري من وضعه لهم ،فقبح الله الكذابين ."
وقال السيوطي في مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود على حديث ((نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم)) فإن قلت: ((إنه كان يسرح لحيته كل يوم مرتين، قلت لم أقف على هذا بإسناد ولم أر من ذكره إلا الغزالي في الإحياء ولا يخفي ما فيه من الأحاديث التي لا أصل لها)) اهـ(3)
"وظاهر أنهم لم يوردوا ما أوردوا مع العلم يكونه موضوعاً ،بل ظنوه مرويا ونقد الآثار من وظيفة حملة الأخبار، إذ لكل مقام مقالٌ، ولكل فنٍّ رجالٌ"(4)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - كشف الخفاء (2575) والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع - (ج 1 / ص 191)(358) والآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للكهنوي - (ج 1 / ص 85)
(2) - الفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي - (ج 1 / ص 28) و الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة للكهنوي - (ج 1 / ص 85)
(3) - تذكرة الموضوعات - (ج 1 / ص 160) والفوائد المجموعة للشوكاني بتحقيق المعلمي - (ج 1 / ص 93) وتذكرة الموضوعات - (ج 1 / ص 1231)
(4) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 146)(1/193)
التاسعة - الردُّ على من يزعم تصحيح بعض الأحاديث بالكشف بأن مدار الصحة على السند
وفي فتاوى ابن عليش(1):
" ( وَسُئِلَ - حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ) عَنْ حَدِيثِ { يس لِمَا قُرِئَتْ لَهُ } هَلْ صَحِيحٌ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ شَنَّعَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ صِحَّتَهُ أَفِيدُوا الْجَوَابَ .
فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ :
" الْحَمْدُ لِلَّهِ نَصَّ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهَرَةِ عَلَى الْأَلْسِنَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ(2)وَكَذَلِكَ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ الزَّرْقَانِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُشَنِّعِ الْمَذْكُورِ الْأَدَبُ الشَّدِيدُ لِتَجَارِيهِ عَلَى التَّكَلُّمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ جَاهِلٌ جَافٍ غَلِيظُ الطَّبْعِ لَمْ يُخَالِطْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ،وَمِثْلُ هَذَا يُخْشَى عَلَيْهِ مَقْتُ اللَّهِ تَعَالَى لِخَوْضِهِ فِي الْأَحَادِيثِ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ ،إذْ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ لَا يُنْكِرُ الْمَنْصُوصَ، وَشِدَّةُ الْجَهْلِ وَضَعْفُ الْعَقْلِ وَعَدَمُ الدِّيَانَةِ تُوجِبُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَتَبَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَيْضًا الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ السَّقَّا خَطِيبُ الْأَزْهَرِ مَا نَصُّهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ قَرَّرَ الشَّعْرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَدْرِ وَهُوَ عِنْدَ جَمَاعَةِ الشَّيْخِ إسْمَاعِيلَ الْيَمَنِيِّ قَطْعِيٌّ انْتَهَى , فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُرَدَّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ صِحَّتَهُ فَإِنَّ السَّخَاوِيَّ أَنْكَرَهَا وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُرَدَّ عَلَى مَنْ قَرَّرَهُ ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ قَرَّرَهُ كَمَا سَمِعْته عَنْ الشَّعْرَانِيِّ ،وَفَضْلُ يس وَكَوْنُهَا لِقَضَاءِ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ بِهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ هَذَا مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ . الْفَقِيرُ إبْرَاهِيمُ السَّقَّا الشَّافِعِيُّ عُفِيَ عَنْهُ .
( وَلَمَّا ) اطَّلَعَ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ شَيْخُنَا أَبُو يَحْيَى - حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَتَبَ عَلَيْهِ مَا نَصُّهُ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ مِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْأَحَادِيثَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْأَسَانِيدِ لَا بِنَحْوِ الْكَشْفِ وَأَنْوَارِ الْقُلُوبِ ، فَمَا نَقَلَهُ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ جَمَاعَةِ سَيِّدِي إسْمَاعِيلَ الْيَمَنِيِّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ صِحَّةَ اللَّفْظِ كَمَا فَهِمَ الْمُفْتِي تَوَقَّفَ الْأَمْرُ عَلَى السَّنَدِ ،وَإِلَّا رُدَّ الْقَوْلُ عَلَى قَائِلِهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَدِينُ اللَّهِ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ،وَالْوِلَايَةُ وَالْكَرَامَاتُ لَا دَخْلَ لَهَا هُنَا ،إنَّمَا الْمَرْجِعُ لِلْحُفَّاظِ الْعَارِفِينَ بِهَذَا الشَّأْنِ، وَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ مُنْلَا قَارِي وَقَالَ : قَالَ السَّخَاوِيُّ : لَا أَصْلَ لَهُ ،وَقَالَ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ: إنَّهُ لَا يَذْكُرُ الْحَدِيثَ الثَّابِتَ وَلَا الْمُخْتَلَفَ فِي وَضْعِهِ،وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ صِحَّةَ مَعْنَاهُ كَمَا هُوَ اللَّائِقُ بِتَحْسِينِ الظَّنِّ بِالسَّادَةِ، فَهَذَا أَمْرٌ قَرِيبٌ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ تَوَكُّلُهُ وَصَدَقَ إخْلَاصُهُ إذَا دَعَا الْإِلَهَ أَجَابَهُ، خُصُوصًا إذَا تَوَسَّلَ بِالْقُرْآنِ، وَيَقَعُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ الْحُفَّاظِ ،فَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ نِعْمَتُ الْفَائِدَةُ أَنَا أَقُولُ سُورَةُ الْمَائِدَةِ نِعْمَتُ الْفَائِدَةُ، لَكِنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَرِدْ انْتَهَى . إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ فَتَعَقَّبَ هَذَا الْمُفْتِي عَلَى السَّخَاوِيِّ بِآخِرِ عِبَارَةِ الشَّعْرَانِيِّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ إرَادَةِ صِحَّةِ اللَّفْظِ ،وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى السَّنَدِ ،وَلَمْ يُوجَدْ إذْ لَوْ وُجِدَ لَعَرَفَهُ الْحُفَّاظُ وَذَكَرُوا الْحَدِيثَ فِي كُتُبِهِمْ وَقَوْلُهُ فَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ , فِيهِ مَا فِيهِ وَيَرُدُّهُ كَلَامُ مُنْلَا عَلِيٍّ ،وَقَوْلُهُ : وَلَا يَلِيقُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَرَّرَهُ كَأَنَّ مُرَادَهُ الْمُفْتِي الْأَوَّلُ ،وَهُوَ لَمْ يَرِدْ عَلَى مَنْ قَرَّرَ إنَّمَا رُدَّ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ وَخَاضَ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ، وَالرَّدُّ عَلَى هَذَا مُتَعَيِّنٌ ،وَكَأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَلْفَاظَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ ،كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَ مَنْ رَدَّ بِهِ ،وَكَمَا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمِ السُّؤَالَ حَيْثُ قَالَ : وَفَضْلُ يس إلَخْ، فَإِنَّ فَضْلَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ،وَقَوْلُهُ: هَذَا مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ، لَمْ أَفْهَمْ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُحَقِّقْ مُرَادَ مَنْ يَتَعَقَّبُ بِكَلَامِهِ وَلَمْ يَتَدَبَّرِ السُّؤَالَ وَلَمْ يَفْهَمْ أَلْفَاظَ مَنْ رَدَّ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِ الرَّدِّ فُضُولًا، لِأَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَمَّا فِي السُّؤَالِ، وَأَمَّا فِي جَوَابِ الْمُجِيبِ فَلَا، فَبِأَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ الْفَتْحُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا غَايَةَ مَلَكَةِ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّا لِلَّهِ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ أَنَّ تَحْتَ الْقُبَّةِ شَيْخًا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ." اهـ
ـــــــــــــــ
__________
(1) - فتاوى ابن عليش - (ج 1 / ص 51) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 147)
(2) - المقاصد الحسنة للسخاوي (1342) وكشف الخفاء (3213 )(1/194)
المَتْروكُ(1)
إذا كان سببُ الطعن في الراوي هو التهمةُ بالكذبِ ـ وهو السببُ الثاني ـ سمِّيَ حديثه المتروكُ .
1- تعريفُه:
أ) لغة : اسم مفعول من " التَّركِ " وتسمِّي العربُ البيضة بعد أن يخرج منها الفرخ "التَّرِيكة" أي متروكة لا فائدة منها .(2)
ب) اصطلاحاً : هو الحديث الذي انفرد به راو متهم بالكذب وهو من عرف بالكذب في كلام الناس لا في الحديث النبوي. وزاد بعضهم ما انفرد به من رمي بفسق أو كثير الغفلة أو الوهم.(3).
2- أسبابُ اتهام الراوي بالكذب أحدُ أمرين وهما:
أ) أن لا يُروَى ذلك الحديثُ إلا من جهته ، ويكونُ مخالفاً للقواعد المعلومة ، وهي القواعد العامة التي استنبطها العلماء من مجموع نصوص عامة صحيحة مثل قاعدة" الأصل براءة الذمة"
ب) أن يُعْرَفَ بالكذب في كلامِه العادي ، لكن لم يظهر منه الكذب في الحديث النبوي .
3- مثالُه:
حديث عمرو بن شَمِر الجُعْفي الكوفي الشيعي ،عن جابر عن أبي الطفيل عن علي وعمار قالا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر ، ويكبر يوم عرفة من صلاة الغَداة ، ويقطع صلاة العصر آخر أيام التشريق "
وفي لسان الميزان للحافظ ابن حجر(4):عمرو بن شمر الجعفي الكوفي الشيعي أبو عبد الله عن جعفر بن محمد وجابر الجعفي والأعمش روى عباس عن يحيى ليس بشيء وقال الجوزجاني زائغ كذاب وقال ابن حبان رافضي يشتم الصحابة ويروي الموضوعات عن الثقات وقال البخاري منكر الحديث قال يحيى لا يكتب حديثه ثم قال البخاري حدثنا حامد بن داود ثنا أسيد بن زيد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي الطفيل عن علي وعمار رضى الله تعالى عنهما قالا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقنت في الفجر ويكبر يوم عرفة من صلاة الغداة ويقطع صلاة العصر آخر أيام التشريق وبه عن عمرو عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة عن بلال عن أبي بكر رضى الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضأ من طعام أحل الله أكله وبه عن سويد عن علي رضى الله تعالى عنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر مناديه أن يجعل أطراف أنامله عند مسامعه وأن يثوب في صلاة الفجر وصلاة العشاء إلا في سفر وقال النسائي والدارقطني وغيرهما متروك الحديث علي بن الجعد حدثنا عمرو بن شمر أنا جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان سمعت زامل بن عمرو الجذامي يحدث عن ذي الكلاع الحميري سمعت عمر رضى الله تعالى عنه يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنما يبعث المقتتلون على النيات قال السليماني كان عمر ويضع للروافض انتهى وقال بن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال منكر الحديث جدا ضعيف الحديث لا يشتغل به تركوه لم يزد على هذا شيئا وقال أبو زعرة ضعيف الحديث وقال النسائي في التمييز ليس بثقة ولا يكتب حديثه وقال بن سعد كانت عنده أحاديث وكان ضعيفا جدا متروك الحديث وقال أبو أحمد الحاكم ليس بالقوي عندهم وقال الحاكم أبو عبد الله كان كثير الموضوعات عن جابر الجعفي وليس يروي تلك الموضوعات الفاحشة عن جابر غير وذكره العقيلي والدولابي وابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء وقال أبو نعيم يروي جابر الجعفي الموضوعات المناكير "(5)
قلت : لكن أكثر ما يستخدم المحدِّثون ( المتروك ) على الرواة دون الروايات ، فكثيراً ما يقولون (فلانٌ متروك )(6)أو (متروكُ الحديث )(7)أو( تركوه )(8)، أو (تركه الناسُ)(9).
أما في الحديث فلا يستعملونه إلا نادراً ، ومع ذلك فلا يحصرونه في رواية المتهم بالكذب ، كما قال ذلك البعض ، بل الحديثُ عندهم يُتركُ إذا قامتِ الدلائل على ضعفه ، أو لم تقم على قبوله ، وإن لم يكن ذلك موجباً لترك راويه ، لأن الراوي لا يترك إلا إذا كثر الخطأ منه ، لكن إذا أخطأ- ولو قليلاً - ترك الحديث الذي أخطأ فيه .
وقد يطلقون المتروك بمعنى المنسوخ على معنى ترك العمل لا ترك الرواية .
قال ابن عبد البر في التمهيد 12/24 : "خبرُ ابن عباس في رد أبي العاص إلى زينب بنت رسول الله صلى اله عليه وسلم خبرٌ ( متروك)ٌ لا يجوز العمل به عند الجميع ".
ويعني قوله متروك أي منسوخ ، فقد قال هو من قبل هذا عن هذا الحديث نفسه 12/20 : وهذا الخبر - وإن صحَّ- فهو (متروك)ٌ منسوخ عند الجميع ، والله أعلم .(10)
4- رتبتُه :
تقدَّم أن شرَّ الضعيف الموضُوعُ, وهذا أمْرٌ متفق عليه, ويليه المترُوك, ثمَّ المُنْكر, ثمَّ المُعلَّل, ثمَّ المُدْرج, ثمَّ المقلوب, ثمَّ المُضْطرب, كذا رتَّبهُ الحافظ ابن حجر..(11)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 106) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 257) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 12) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 17) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 453) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 276) ومنظومة مصباح الراوي في علم الحديث - (ج 1 / ص 69) والتقريرات السنية - (ج 1 / ص 115) وقفو الأثر - (ج 1 / ص 74)
(2) - انظر القاموس جـ 3 - ص 306
(3) - منظومة مصباح الراوي في علم الحديث - (ج 1 / ص 69)
(4) - لسان الميزان للحافظ ابن حجر - (ج 4 / ص 116)[ 1075 ]
(5) - وانظر ميزان الاعتدال ـ3 ـ ص 268 والجرح والتعديل (ج 4 / ص 116)[ 1075 ]
(6) - كما في تقريب التهذيب - (ج 1 / ص 78)14- أحمد ابن بشير البغدادي آخر متروك خلطه عثمان الدارمي بالذي قبله وفرق بينهما الخطيب فأصاب من العاشرة تمييز
(7) - كما في تقريب التهذيب - (ج 1 / ص 92)215- إبراهيم ابن عثمان العبسي بالموحدة أبو شيبة الكوفي قاضي واسط مشهور بكنيته متروك الحديث من السابعة مات سنة تسع وستين ت ق
(8) - كما في تقريب التهذيب - (ج 2 / ص 610)7862- يوسف ابن خالد ابن عمير السمتي بفتح المهملة وسكون الميم بعدها مثناة أبو خالد البصري مولى بني ليث تركوه وكذبه ابن معين وكان من فقهاء الحنفية من الثامنة مات سنة تسع وثمانين ق
(9) - كما في لسان الميزان للحافظ ابن حجر - (ج 1 / ص 109)[ 1088 ] إسحاق بن إدريس الأسواري البصري أبو يعقوب عن همام وأبان وعنه عمر بن شبة وابن مثنى تركه بن المديني وقال أبو زرعة واه وقال البخاري تركه الناس وقال الدارقطني منكر الحديث وقال يحيى بن معين كذاب يضع الحديث انتهى وقال أبو حاتم ضعيف الحديث وقال بن حبان كان يسرق الحديث وقال البزار قال يحيى بن معين لا يكتب حديثه ولم يبين لنا ما قال يحيى بن معين وقال محمد بن المثنى واهي الحديث وقال النسائي بصري متروك وقال بن عدي له أحاديث وهو إلى الضعف أقرب
(10) - انظر تدريب الراوي 1/115 هامش
(11) - انظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 230) والنخبة وشرحها ص 46 وما بعدها و توجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 3 / ص 22)(1/195)
المنكَرُ(1)
إذا كان سببُ الطعن في الراوي فحشَ الغلط أو كثرةَ الغفلة أو الفسق ـ وهو السبب الثالث والرابع والخامس ـ فحديثه يسمَّى المنكر .
1- تعريفه:
أ) لغة : هو اسم مفعول من " الإنكار " ضد الإقرار .
ب) اصطلاحاً: عرف علماء الحديث المنكر بتعريفات متعددة أشهرها تعريفان وهما:
1- هو الحديث الذي في إسناده راو فَحُشَ غَلَطُهُ ، أَو كَثُرَتْ غَفلَتُه ، أَو ظهَرَ فِسْقُه.(2)
ومشى على هذا التعريف البيقوني في منظومته فقال :
ومنكرُ الفرد به راو غدا ... تعديله لا يحمل التفردا
2-هو ما رواه الضعيفُ مخالفاً لما رواه الثقة.(3)
وهذا التعريف هو الذي ذكره الحافظ ابن حجر واعتمده ، وفيه زيادة على التعريف الأول وهي قيد مخالفة الضعيف لما رواه الثقة .
2-الفرقُ بينه وبين الشاذِّ :
أ) أن الشاذ ما رواه المقبول(4)مخالفاً لمن هو أولى منه.
ب) أن المنكر ما رواه الضعيف مخالفاً للثقة.
فيُعْلَم من هذا أنهما يشتركان في اشتراط المخالفة ،ويفترقان في أن الشاذ رَاوِيْه مقبول ، والمنكر راويه ضعيف . قال ابن حجر : " وقد غفل من سَوَّى بينهما "(5).
3- مثالُه:
أ) مثال للتعريف الأول: وهو الفرد الَّذي ليسَ في رواته من الثِّقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده .
ما رواه ابن ماجه من طريق يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَدَنِىُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ كُلُوا الْخَلَقَ بِالْجَدِيدِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَغْضَبُ وَيَقُولُ بَقِىَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْخَلَقَ بِالْجَدِيدِ ».(6)
قال النسائي : " هذا حديث منكر .
تفرَّد به أبو زُكَير, وهو شيخٌ صالح(7), أخرج له مسلم في المَُابعات, غير أنَّه لم يبلغ مَبْلغ من يحتمل تفرده, بل قد أطلقَ عليه الأئمة القول بالتَّضعيف, فقال ابن معين(8): ضعيف, وقال ابن حبان(9): لا يُحتج به, وقال العُقَيلي: لا يُتَابع على حديثه(10), وأورد لهُ ابن عدي أربعةُ أحاديث مناكير(11).
مثال للتعريف الثاني : وهو المُنفرد المُخَالف لِمَا رواهُ الثِّقَات, رواية مالك, عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِىٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ».(12).
فخالفَ مالك غيره من الثِّقات في قوله: عُمر بن عثمان, بضم العين, وذكر مسلم في «التمييز»: أنَّ كل من رواه من أصحاب الزُّهْري قاله بفتحها, وأنَّ مالكًا وهِمَ في ذلك .
قال العِرَاقي(13): " وذكرَ أنَّ مالكاً كانَ يشيرُ بيدهِ إلى دارِ عُمَرَ بنِ عثمانَ ، كأنَّهُ علمَ أنَّهم يخالفونَهُ ، وعَمرٌو وعُمَرُ جميعاً ولدا عثمانَ غيرَ أنَّ هذا الحديثَ إنّما هوَ عن عَمرٍو - بفتحِ العينِ - وحكمَ مسلمٌ وغيرُهُ على مالكٍ بالوهمِ فيهِ ، هكذا مثَّلَ ابنُ الصلاحِ بهذا المثالِ ، وفيهِ نظرٌ ، منْ حيثُ إنَّ هذا الحديثَ ليسَ بمنكرٍ ، ولمْ يطلقْ عليهِ أحدٌ اسمَ النكارةِ فيما رأيت والمتن ليسَ بمنكرٍ ، وغايتُهُ أنْ يكونَ السندُ منكراً ، أو شاذاً لمخالفةِ الثقاتِ لمالكٍ في ذلكَ ، ولا يلزمُ من شذوذِ السندِ ونكارتِهِ وجودُ ذلكَ الوصفِ في المتنِ، فقدْ ذكرَ ابنُ الصلاحِ في نوعِ المعللِ : أنَّ العلةَ الواقعةَ في السندِ قدْ تقدحُ في المتنِ،وقدْ لا تقدحُ ومثَّلَ ما لا تقدحُ بما رواهُ يعلى بنُ عُبيدٍ ، عنِ الثَّوريِّ ، عنْ عَمرِو بنِ دينارٍ، عنِ ابنِ عُمرَ ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ: (( البَيِّعَانِ بالخِيَار )) قالَ : فهذا إسنادٌ معلَّلٌ غيرُ صحيحٍ ، والمتنُ على كلِّ حالٍ صحيحٌ ، قالَ : والعلّةُ في قولهِ عن عَمرِو بنِ دينارٍ ، وإنّما هوَ عنْ عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ. انتهى .(14)
فحكمَ على المتنِ بالصحةِ معَ الحكمِ بوهمِ يعلى بنِ عُبيدٍ فيهِ، بل هذا الحديثُ مثالٌ لهذا القسمِ من المنكر ، وهوَ ما رواهُ أصحابُ السننِ الأربعةِ عَنْ هَمَّامٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ. وَالْوَهَمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ وَلَمْ يَرْوِهِ إِلاَّ هَمَّامٌ.،(15)
وقالَ النسائيُّ بعدَ تخريجهِ : هذا حديثٌ غيرُ محفوظٍ انتهى . فهمّامُ بنُ يحيى ثقةٌ ، احتجَّ بهِ أهلُ الصحيحِ ، ولكنَّهُ خالفَ الناسَ ، فروى عنِ ابنِ جريجٍ هذَا المتنَ بهذا السندِ وإنّما رَوَى الناسُ عنِ ابنِ جريجٍ الحديثَ الذي أشارَ إليهِ أبو داودَ ، ولهذا حكمَ عليهِ أبو داودَ بالنكارةِ ، وأما الترمذيُّ فقالَ فيه(16): حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ . "
4- تنبيهات هامة :
الأول- قد عُلم مِمَّا تقدم, بل من صريح كلام ابن الصَّلاح: أنَّ الشَّاذ والمنكر بمعنى.
وقال الحافظ ابن حجر(17): إنَّ الشَّاذ والمُنْكر يجتمعان في اشْتراط المُخَالفة ويَفْترقان في أنَّ الشَّاذ راويه ثقة, أو صدوق, والمُنْكر راويه ضعيف.
قال: وقد غفل من سَوَّى بينهما.
ثمَّ مثَّل المُنكر بما رواه المعجم الكبير للطبراني(18)- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بن غَنَّامٍ , وَمُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ , قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بن أَبِي شَيْبَةَ. ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عُثْمَانَ بن أَبِي شَيْبَةَ , قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي , قَالا: حَدَّثَنَا حُبَيِّبِ بن حَبِيبٍ أَخُو حَمْزَةَ الزَّيَّاتُ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنِ الْعَيْزَارِ بن حُرَيْثٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ أَقَامَ الصَّلاةَ , وَآتَى الزَّكَاةَ , وَحَجَّ الْبَيْتَ , وَصَامَ رَمَضَانَ , وَقَرَى الضَّيْفَ دَخَلَ الْجَنَّةَ..
وفي علل الحديث( 2043) وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ حَبِيبٍ أَخُو حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَقَامَ الصَّلاةَ ، وَآتَى الزَّكَاةَ ، وَحَجَّ الْبَيْتَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، وَقَرَى الضَّيْفَ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، إِنَّمَا هُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفٌ.
قلت : كما في مصنف عبد الرزاق برقم (20530)عَنْ مَعْمَرٍ عن أبي إسحاق عن العيزار أَنَّ ابْنَ عباس أتاه الأعراب فقالوا إنا نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ونحج البيت ونصوم رمضان وإن ناسا من المهاجرين يقولون لسنا على شيء فقال ابن عباس من أقام الصلاة وآتى الزكاة وحج البيت وصام رمضان وقرى الضيف دخل الجنة .
وحينئذ فالحديث لا مُخَالفة فيه, وراويه مُتَّهم بالكذب, بأن لا يروى إلاَّ من جهتهِ, وهو مُخالف للقواعد المعلومة, أو عرف به في غير الحديث النَّبوي, أو كثير الغلط, أو الفِسْق, أو الغَفْلة يُسمَّى: المتروك وهو نوع مستقل ذكره شيخ الإسلام.(19)
كحديث صَدَقة الدَّقيقي, عن فرقد, عن مُرَّة, عن أبي بكر, وحديث عَمرو بن شمر, عن جابر الجُعْفي, عن الحارث, عن علي.
الثاني: عِبَارة شيخ الإسْلام في «النخبة»: فإن خُولف الرَّاوي بأرجح يُقَال له: المحفوظ, ومقابله يقال له: الشَّاذ.(20)
وإن وقعت المُخَالفة مع الضَّعف, فالرَّاجح يُقال له: المعرُوف, ومُقَابله يُقال له: المُنْكر, وقد علمت من ذلك تفسير المحفُوظ والمعروف, وهُمَا من الأنواع الَّتي أهملها ابن الصَّلاح والمُصنِّف, وحقهما أن يُذكرا, كما ذكر المُتَّصل مع ما يقابله من المُرسل والمنقطع والمُعضل.
الثَّالث: وقعَ في عِبَارتهم: أنكر ما رواه فُلان كذا, وإن لم يكن ذلك الحديث ضعيفًا.
وقال ابن عَدي(21): أنكرَ ما روى بُريد بن عبد الله بن أبي بُرْدة: «إذَا أرادَ الله بأمِّة خيرًا قبضَ نبيها قَبْلها». قال: وهذا طريقٌ حسن رُواته ثِقَات, وقد أدخله قومٌ في صِحَاحهم. انتهى.
قلت : إنما قال هذا الكلام في سياق الدفاع عن بريد ،قال في الكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 63):
"وقد اعتبرت حديثه فلم أر فيه حديثا أنكره ،وأنكر ما روى هذا الحديث الذي ذكرته إذا أراد الله عزوجل بأمة خيرا قبض نبيها قبلها ،وهذا طريق حسن ورواه ثقات ،وقد أدخله قوم في صحاحهم ،وأرجو أن لا يكون ببريد هذا بأسا "
يعني أن هذا الحديث أقرب الأحاديث إلى أن ينكره منكرٌ ، ومع ذلك فهو كما قال :"طريق حسن ...." فكأنه يقول : غذا كان هذا حال أقرب حديث من أحاديثه إلى الإنكار ، فكيف يكون حال بقية أحاديثه .
والحاصل أن كلام ابن عدي هذا يدلُّ سياقه على التوثيق لا التجريح ، والتصحيح لا التضعيف .(22)
والحديث في صحيح مسلم (6105 ) قَالَ مُسْلِمٌ وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِى أُسَامَةَ وَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنِى بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهَا وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَىٌّ فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ »..(23)
قلت : وفي سنده انقطاع ، وقد وصله عدة كما في مسند البزار (3177) والإحسان (6647 ) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنْ بُرَيْدٍ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ أُمَّةٍ ، قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا ، وَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَكَةَ أُمَّةٍ ، عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيُّ ، فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ أَبُو مُوسَى بِهَذَا الإِسْنَادِ .
قلت : وهو صحيح على شرط مسلم
وفي المعجم الكبير للطبراني - (ج 20 / ص 184)(1612) والأوسط (4457) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بن عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: نا يَحْيَى بن بُرَيْدِ بن أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:"إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا، فَجَعَلَهُ سَلَفًا وَفرَطًا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَإِذَا أَرَادَ هَلاكَهَا عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ، وَهُوَ يَنْظُرُ، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلاكِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ". لا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي مُوسَى إِلا بِهَذَا الإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ: الْقَوَارِيرِيُّ
قلت : لم يتفرد القواريري ولا شيخه كما في رواية البزار
وقال الَّذهبي في ترجمة الوليد بن مسلم(24):
" أَنْكَرُ مَا لَهُ حَدِيْثٌ رَوَاهُ عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ الدَّارِمِيُّ، وَأَحْمَدُ بنُ الحَسَنِ - وَاللَّفْظُ لَهُ - قَالاَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءهُ عَلِيٌّ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، تَفَلَّتَ هَذَا القُرْآنُ مِنْ صَدْرِي، فَمَا أَجِدُنِي أَقْدِرُ عَلَيْهِ.فَقَالَ: (يَا أَبَا الحَسَنِ، أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ، وَيُثَّبِتُ مَا تَعَلَّمْتَ فِي صَدْرِكَ؟).قَالَ: أَجَلْ يَا رَسُوْلَ اللهِ. قَالَ: (إِذَا بِتَّ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقُوْمَ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنَّهَا سَاعَةٌ مَشْهُوْدَةٌ، وَالدُّعَاءُ فِيْهَا مُسْتَجَابٌ، وَقَدْ قَالَ أَخِي يَعْقُوْبُ لِبَنِيْهِ: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يُوْسُفُ: 98] حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَقُمْ فِي وَسَطِهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فَفِي أَوَّلِهَا، فَصَلِّ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، تَقْرَأُ فِي الأُوْلَى: بِالفَاتِحَةِ وَيس، وَفِي الثَّانِيَةِ: بِالفَاتِحَةِ وَالدُّخَانِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: بِآلم السَّجْدَةِ، وَفِي الرَّابِعَةِ: تَبَارَكَ، فَإِذَا فَرَغْتَ، فَاحْمَدِ اللهَ، وَأَحْسِنِ الثَّنَاءَ، وَصَلِّ عَلَيَّ، وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّيْنَ، وَاسْتَغْفرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ، وَقُلْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي بِتَرْكِ المَعَاصِي، وَارْحَمْنِي أَنْ أَتَكَلَّفَ مَا لاَ يَعْنِيْنِي، وَارْزُقْنِي حُسْنَ النَّظَرِ فِيْمَا يُرْضِيْكَ عَنِّي، اللَّهُمَّ بَدِيْعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لاَ تُرَامُ، أَسْأَلُكَ يَا اللهُ، يَا رَحْمَنُ، بِجَلاَلِكَ وَنُوْرِ وَجْهِكَ، أَنْ تُلْزِمَ قَلْبِي حِفْظَ كِتَابِكَ...) فِي دُعَاءٍ فِيْهِ طَوِيْلٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: (يَا أَبَا الحَسَنِ، تَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ جُمَعٍ، أَوْ خَمْساً، أَوْ سَبْعاً، تُجَابُ بِإِذْنِ اللهِ). قَالَ: فَمَا لَبِثَ عَلِيٌّ إِلاَّ خَمْساً، أَوْ سَبْعاً، حَتَّى جَاءَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ المَجْلِسِ، فَقَالَ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، مَا لِي كُنْتُ فِيْمَا خَلاَ لاَ آخُذُ إِلاَّ أَرْبَعَ آيَاتٍ وَنَحْوَهُنَّ، وَأَنَا أَتَعَلَّمُ اليَوْمَ أَرْبَعِيْنَ آيَةً، وَلَقَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ الأَحَادِيْثَ، فَإِذَا رَدَّدْتُهُ، تَفَلَّتَ، وَأَنَا اليَوْمَ أَسْمَعُ الأَحَادِيْثَ، فَإِذَا حَدَّثْتُ، لَمْ أُحَرِّفْ مِنْهَا حَرفاً؟
فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: (مُؤْمِنٌ - وَرَبِّ الكَعْبَةِ - أَبَا الحَسَنِ).
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، غَرِيْبٌ، لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيْثِ الوَلِيْدِ.
قُلْتُ: هَذَا عِنْدِي مَوْضُوْعٌ وَالسَّلاَمُ، وَلَعَلَّ الآفَةَ دَخَلَتْ عَلَى سُلَيْمَانَ ابْنِ بِنْتِ شُرَحْبِيْلَ فِيْهِ، فَإِنَّهُ مُنْكَرُ الحَدِيْثِ، وَإِنْ كَانَ حَافِظاً، فَلَو كَانَ، قَالَ فِيْهِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، لَرَاجَ، وَلَكِنْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيْثِ، فَقَوِيَتِ الرِّيْبَةُ، وَإِنَّمَا هَذَا الحَدِيْثُ يَرْوِيْهِ هِشَامُ بنُ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ القُرَشِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدٌ هَذَا لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَشَيْخُهُ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ "
قلتُ :
أخرجه من طريقه الترمذى(3918 ) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ.
والمستدرك للحاكم(1190) وقال عقبه :هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وتعقبه الذهبي بقوله :"هذا حديث شاذ ، أخاف أن يكون موضوعاً ، وقد حيرني والله جودة سنده" !
وفي الترغيب والترهيب للمنذري 2226 ) قال عقبه : قال المملي رضي الله عنه طريق أسانيد هذا الحديث جيدة ومتنه غريب جدا والله أعلم.
وفي الأسماء والصفات للبيهقي (659) وقال عقبه :وهذا حديث تفرد به أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي بهذا اللفظ .
وقال الشيخ ناصر رحمه الله في السلسلة الضعيفة( 3374) منكر
وقال في آخره وجملة القول ؛ أن هذا الحديث موضوع كما قال الذهبي في "الميزان" ، وقال أيضاً : وهو من أنكر ما أتى به الوليد بن مسلم . وابن الجوزي ما أبعد عن الصواب أيضاً : وهو من أنكر ما أتى به الوليد بن مسلم . وابن الجوزي ما أبعد عن الصواب حين أورده في "الموضوعات" ، ومن تعقبه ، فلم يأت بشيء يستحق النظر فيه .
قلت : لم ينتبه لقول الذهبي في السير
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 14) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 8) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 5) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 104) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 189) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 15) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 12) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 17) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 338) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 108) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 185) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 80) والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 11) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 184)
(2) - انظر النخبة وشرحها ص 47 .
(3) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 190) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 338)
(4) - المراد بالمقبول هنا ما يشمل راوي الصحيح وراوي الحسن ( أي العدل التام الضبط ـ أو العدل الذي خف ضبطه ).
(5) - انظر النخبة وشرحها ص 37 ويعني بقوله هذا ابن الصلاح، فقد سوى بين الشاذ والمنكر في " علوم الحديث " ص 72 إذ قال " المنكر ينقسم قسمين على ما ذكرناه في الشاذ فإنه بمعناه "
(6) - برقم (3455 ) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 4 / ص 361) برقم (6690)
(7) - أصل هذا الكلام لأبي يعلى الخليلي في الإرشاد 1/173 قال : "هذا فرد شاذ لم يروه عن هشام غير أبي زكير ، وهو شيخ صالح ، ولا يحكم بصحته ولا بضعفه "
قال الذهبي في السير 9/299 قلت : "بل نحكم بضعفه ، ونكارة مثل هذا "
(8) - الجرح والتعديل 9/184
(9) - المجروحون 3/119
(10) - الضعفاء الكبير 4/427
(11) - الكامل 7/2698
(12) - مثال الأوَّل: موطأ مالك (1086 )
(13) - التقييد والإيضاح ص 106
(14) - قلت : وهذا هو الذي أراده ابن الصلاح من هذا التمثيل ، أراد نكارة الإسناد لا المتن ، ولا تلازم بينهما .
وهذا الخطأ - وإن لم يعرف من وصفه بالنكارة قبل ابن الصلاح - إلا أنه وصف صحيح على أساس أن المنكر هو الخطأ المتحقق في الإسناد أو في المتن .
وقد رأيت الإمام أبا حاتم الرازي وصف مثل هذا الخطإ بالنكارة ، ابنه في قال ابن أبي حاتم في العلل (1564) وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْخَمْرَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَرَأَيْتَ الْمِزْرَ ؟ قَالَ : مَا الْمِزْرُ ؟ قَالَ : حَبَّةٌ بِالْيَمَنِ قَالَ : هَلْ يُسْكِرُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ
قَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، لا يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَبِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَشْبَهُ "
(15) - سنن أبى داود(19 )
(16) - سنن الترمذى(1850)
(17) - زيادة الثقة في كتب مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 105) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 179) ونزهة النظر ص 99
(18) - (ج 10 / ص 283) برقم (12524 )
(19) - الزهة ص 122
(20) - نزهة النظر ص 97
مراد أهل العلم من قولهم ( المحفوظ مقابل الشاذ ) و(المعروف مقابل المنكر ) أي : حيث تقع رواية شاذةً ، ويستدل على شذوذها بالمخالفة ، فإن الرواية الراجحة هي المحفوظة ، وحيث تقع رواية منكرة ، ويستدلُ على نكارتها بالمخالفة ، فإن الرواية الراجحة هي المعروفة .
ومعلوم بداهة أن الرواية الصحيحة المحفوظة أو المعروفة هي صحيحة ثابتة ، وإن لم تعارضها رواية شاذً أو منكرة ً .
وبهذا نعلمُ خطأ من صنف في علم المصطلح من المعاصرين ، حيث أفرد لكل من المحفوظ والمعروف فصلاً ، معرِّفاً الأول بأنه : مارواه الأوثق مخالفا لرواية الثقة ، والثاني بأنه : ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الضعيف !!
فأوهم بذلك أنه لا يكون الحديث محفوظاً إلا إذا عارضه شاذٌّ ، ولا معروفاً إلا إذا عارضه منكر !!
وإنما استدل الأئمة على شذوذ الرواية الشاذة بمخالفتها لما هو محفوظ سلفاً ، وعلى نكارة المنكرة بمخالفتها لما هو معروف سلفاً ،فالمحفوظُ محفوظٌ وإن لم يخالف / والمعروف معروف وإن لم يخالف ، فافهم . / هامش التدريب 1/114-115
(21) - الكامل 2/496
(22) - انظر هامش التدريب 1/115
(23) - الفرط : المتقدم والمراد الشفيع
وفي شرح النووي على مسلم - (ج 7 / ص 493) :" قَالَ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي : هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْأَحَادِيث الْمُنْقَطِعَة فِي مُسْلِم ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الَّذِي حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَة . قُلْت : وَلَيْسَ هَذَا حَقِيقَة اِنْقِطَاع ، وَإِنَّمَا هُوَ رِوَايَة مَجْهُول ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَاشِيَة بَعْض النُّسَخ الْمُعْتَمَدَة : قَالَ الْجُلُودِيّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُسَيِّب الْأَرْغِيَانِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن سَعِيد الْجَوْهَرِيّ بِهَذَا الْحَدِيث عَنْ أَبِي أُسَامَة بِإِسْنَادِهِ ."
(24) - سير أعلام النبلاء (9/217-220)(1/196)
وفي الفتاوى الحديثية للحويني - (ج 1 / ص 60): قلت : وهذا الحديث منكرٌ ، وليس إسنادهُ نظيفًا كما قال الذهبي ، ولا جيدًا كما قال المنذري فإن الوليد بن مسلم دلَّسه ولم يصرح بالتحديث إلا في شيخه فحسب ، والمعروف أن مدلس التسوية يلزمه التصريح بالتحديث في كل طبقات السند ، وقد صرح بذلك جماعةٌ من المحققين منهم الحافظ في ( الفتح ) ( 2/ 318) في حديث آخر رواه الوليد بن مسلم فقال : ( وقد صرح بالتحديث في جميع الإسناد ) فقال الذهبي : إن الوليد صرح بالتحديث لا يخفى ما فيه ، فإن الوليد لا يدلس الإسناد فحسب حتى يقال فيه ذلك ، ثم ابن جريج مدلسٌ أيضًا وقد عنعنه من جميع طرقه ، وتدليسه قبيح كما قال الدارقطني فقد يكون أسقط الإسناد متهمًا أو نحوه فتكون البلية من ذاك الساقط ، وبالجملة فالحديث لا يصح سندًا ولا متنًا والله أعلم .
والموضوعات - (ج 2 / ص 138) وتنزيه الشريعة المرفوعة - (ج 2 / ص 109) وتنزيه الشريعة المرفوعة - (ج 2 / ص 110) وقال في آخره : وقال السخاوي قال المنذري طرق أسانيد هذا الحديث جيدة ومتنه غريب جدا والحق أنه ليست له علة إلا أنه عن ابن جريج عن عطاء بالعنعنة أفاده شيخنا يعني ابن حجر وأخبرني غير واحد أنهم جربوا الدعاء به فوجوده حقا انتهى والله أعلم
قلت : فهذا الحديث لا يصح سنده ولا يسقيم متنه . والله أعلم .
---------------
وفي صحيح مسلم (627 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِى زَائِدَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ ». قَالَ زَكَرِيَّاءُ قَالَ مُصْعَبٌ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. زَادَ قُتَيْبَةُ قَالَ وَكِيعٌ انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِى الاِسْتِنْجَاءَ.
وفي سنن النسائى (5058 ) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ طَلْقًا يَذْكُرُ عَشْرَةً مِنَ الْفِطْرَةِ السِّوَاكَ وَقَصَّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمَ الأَظْفَارِ وَغَسْلَ الْبَرَاجِمِ وَحَلْقَ الْعَانَةِ وَالاِسْتِنْشَاقَ. وَأَنَا شَكَكْتُ فِى الْمَضْمَضَةِ.
(5059 ) أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى بِشْرٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ عَشْرَةٌ مِنَ السُّنَّةِ السِّوَاكُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ وَتَوْفِيرُ اللِّحْيَةِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَنَتْفُ الإِبْطِ وَالْخِتَانُ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَغَسْلُ الدُّبُرِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِىِّ وَجَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ وَمُصْعَبٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وفي سنن الدارقطنى (324 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَسَّانِىُّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ زَكَرِيَّا عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَشْرَةٌ مِنَ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ وَالاِسْتِنْشَاقُ بِالْمَاءِ وَقَصُّ الأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ ». قَالَ زَكَرِيَّا قَالَ مُصْعَبٌ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ. رَوَاهُ خَارِجَةُ عَنْ زَكَرِيَّا وَقَالَ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِى الاِسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ. تَفَرَّدَ بِهِ مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ. وَخَالَفَهُ أَبُو بِشْرٍ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِىُّ فَرَوَيَاهُ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَوْلَهُ غَيْرَ مَرْفُوعٍ.
وفي المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم - (ج 1 / ص 318) قال عقبه : وإسناده فيه مصعب بن شيبة لين الحديث
قلت : مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ مختلف فيه ، فقد وثقه يحيى بن معين والعجلي ، وضعفه آخرون(1)
وقد أخرج له الجماعة عدا البخاري ، وهذا يقوي أمره .
وأما ما ورد عن الإمام أحمد والنسائي أنه منكر الحديث ، فليس المقصود المعنى الاصطلاحي الذي استقر عليه الأمر ، بدليل إن الإمام أحمد أخرج الحديث في مسنده مسند أحمد (25802) ولم يعله بشيء ، وصححه الشيخ شعيب ، وحسنه الشيخ نصر رحمه الله .
و كثيرا ما يقصد بها التفرد ليس إلا .
كما أن روايته موقوفا لا يعله حيث إن الراوي طلق بن حبيب يقول في الموقوف : عَشْرَةٌ مِنَ السُّنَّةِ ، وهذا يدلُّ على رفع الحديث ، وليس على وقفه ، فلعله رواه موصولا مرة وأخرى مرسلا .
وله شاهد كما في مصنف ابن أبي شيبة في مصنفه (2060)حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْفِطْرَةُ الْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَنَتْفُ الإِبِطِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ ، وَالِانْتِضَاحُ بِالْمَاءِ ، وَالْخِتَانُ. ( وفي سنده ضعف )
فهذا الحديث لا يزنل عن مرتبة الحديث الحسن ، وقد أخرج الإمام مسلم لبعض هؤلاء وغالبا في المتابعات والشواهد
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر: الجرح والتعديل[ ج 8 - ص 305 ] (1409) وتهذيب الكمال[ ج 28 - ص 31 ] (5985)(1/197)
5- رتبتُه :
يتبين من تعريفي المنكر المذكورين آنفاً أن المنكر من أنواع الضعيف جداً ؛ لأنه إما راويه ضعيف موصوف بفحش الغلط أو كثرة الغفلة أو الفسق ، وإما راويه ضعيف مخالف في روايته تلك لرواية الثقة ، وكلا القسمين فيه ضعف شديد ،
قلتُ : ومن كان بهذه الصفة لا يحتج بحديثه ولا يعمل لا في الفضائل ولا الأحكام ، على الراجح .
6- مظنة وجوده :
يوجد في كتب الضعفاء التي عنيت بذكر ما يؤخذ على الراوي أو بعض ما يؤخذ عليه ، مما يندرج تحت أسباب ضعفه ، مثل : " الكامل " لابن عدي ، و" الضعفاء " للعقيلي ، و" المجروحين " لابن حبان ، وهي أنفع الكتب في هذا الباب .
7- تفسير مصطلح ( المنكر ) في كلام المتقدمين :
وقع في كلام متقدمي أئمة الحديث إطلاق وصف ( المنكر ) على ما يأتي :
أولاً : تفرد الثقة ، وقع هذا في بعض كلام أحمد بن حنبل ، وقاله أبو بكر البرديجي(1).
وكان يحيى القطان يتشدد في تفرد الثقة ، حتى ربما عدَّ ذلك من وهمه .
كما في مسند أحمد (6437) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبِى يَقُولُ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ مَا أَنْكَرْتُ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلاَّ حَدِيثاً وَاحِداً حَدِيثَ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُسَافِرِ امْرَأَةٌ سَفَراً ثَلاَثاً إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ ».، قال أحمد : فأنكره يحيى بن سعيد عليه ، فقال لي يحيى بن سعيد : " فوجدته ، فوجدت به العمري الصغير(2)عن نافع عن ابن عمر ، مثله " ، قال أحمد : لم يسمعه إلا من عبيد الله ، فلما بلغه عن العمري صححه(3).
قلتُ : حكم بالنكارة للغرابة ، فلما زالت بالمتابعة حكم بصحته ، مع أنها متابعة من لين ، إذ العمري الصغير ضعيف ليس بالقوي في الحديث ، لكنه صالح في المتابعات .
وهذا مما لم تجرِ عليه طريقة الشيخين ولا غيرهما ، بل الثقة مقبول التفرد ، ما لم يأت بما يخالف فيه .
ثانياً : أنواع من الحديث الضعيف لأسباب أخرى ، كالحديث الشاذ ، أو الحديث الفرد الذي قام الدليل على أنه قد وهم فيه الثقة ، والمدرج ، والمنقطع ، وحديث المجهول ، وقع ذلك في كلام غير واحد من الأئمة المتقدمين ، كيحيى بن سعيد القطان ، وأحمد بن حنبل ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، وأبي داود ، والنسائي ، وغيرهم ، يطلقون لقب ( المنكر ) على هذه الأنواع .
ثالثاً : الحديث الفرد الذي يرويه الصدوق النازل عن درجة أهل الإتقان ، وليس له عاضد يصحح به ، ترى هذا في كلام أحمد بن حنبل وأبي داود والنسائي والعقيلي وابن عدي وغيرهم .
وهذا هو ( الحديث الحسن ) وهو أحد قسمي ( الحديث المقبول ) .
فالنكارة هنا لا يراد بها غير معنى التفرد ، ويزول أثرها إذا استقصينا تحقيق شروط حسن الحديث .
رابعاً : الحديث الفرد الذي يرويه المستور ، أو الموصوف بسوء الحفظ ، أوالمضعف في بعض شيوخه دون بعض ، أو بعض حديثه دون بعض ، وليس له عاضد يقوي به .
وهذا يوجد في كلام كثير من أئمة الحديث .
مثل ما رواه جعفر بن سلميان الضبعي ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله رب العالمين ، ويقال له : يرحمكم الله ، وإذا قيل له : يرحمكم الله ، فليقل : يغفر الله لكم "(4).
قال النسائي : " هذا حديث منكر ، ولا أرى جعفر بن سليمان إلا سمعه من عطاء بن السائب بعد الاختلاط ، ودخل عطاء بن السائب البصرة مرتين ، فمن سمع منه أول مرة فحديثه صحيح ، ومن سمع منه آخر مرة ففي حديثه شيء " .
وهذه الصورة يمكن إدراجها تحت السادسة الآتية ؛ من أجل أنها جاءت عن الراوي في حال الضعف ، وإن كان ذلك الراوي قد يقبل في حال أخرى .
خامساً : الحديث الفرد المخالف الذي يرويه من سبق وصفه في الصورة الثانية ، ويوصف الراوي بالضعف بحسب كثرة ذلك منه أو قلته ، وربما كثر منه حتى يصير متروكاً ، ...
وعلى هذه الصورة أكثر ما يقع إطلاق وصف ( المنكر ) .
سادساً : الحديث الذي يتفرد به الضعيف بما لا يعرف من غير طريقه ، ولا يحتمل منه .
وهذه الصورة مع التي قبلها ينبغي أن يجري عليهما الاصطلاح على ما تقدم اختياره .
سابعاً : حديث المتروكين والكذابين .
وتسميته بـ( المنكر ) أولى من غيره ، وهو غني عن التمثيل ؛ لكثرة وقوعه في كلام علماء الحديث .
وحديث هؤلاء كذلك يطلق عليه وصف : ( الحديث الواهي ) ، وذلك لأجل شدة ضعف راويه ، وسقوط الاعتبار به بمرة ، يقولون في ذلك : ( حديث واه ) ، و ( إسناده واه ) .
ثامنا- قد يوصف ( الحديث المنكر ) عندهم بـ( الحديث الباطل ) ، ويكثر مثله في كلام الإمام أبي حاتم الرازي ، وربما أطلق هذا الوصف على أي من درجات النكارة المتقدمة ، وفيما تقدم بعض مثاله .
ومن ذلك قول ابن عدي في ( إبراهيم بن البراء الأنصاري ) : " ضعيف جداً ، حدث عن شعبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم من الثقات بالبواطيل " ، وساق بعض حديثه ، ثم قال : " أحاديثه التي ذكرتها وما لم أذكرها ، كلها مناكير موضوعة ، ومن اعتبر حديثه علم أنه ضعيف جداً ، وهو متروك الحديث.(5)
قلت : بل فيه تسوية بين ( المنكر ) و( الباطل ) و( الموضوع ) ، ولا يخفى إمكان التناسب بينها ، وإن تفاوتت عند التفريق بينها دلالاتها .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر : شرح علل الترمذي ( 1 / 450 -452 ) .
(2) - يعني عبد الله بن عمر العمري .
(3) - مسائل الإمام أحمد ، رواية ابن هانئ ( 2 / 216 ) .
(4) - أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " ( رقم : 224 ) وعنه : ابن السني في " اليوم والليلة " له ( رقم : 259 ) . وأخرجه الهيثم الشاشي في " مسنده " ( رقم : 751 ) والحاكم ( 2 / 266 رقم : 7694 ) وابن عبد البر في " التمهيد " ( 17 / 331 ) من طريق مُحمد بن عبد الله الرقاشي ، عن جعفر ، به .
تابع جعفراً عليه : أبيض بن أبان . أخرجه الطبراني في " الكبير " ( 10 / 200 رقم : 10326 ) و " الأوسط " ( 6 / 320 رقم : 5681 ) و " كتاب الدعاء " ( رقم : 1983 ) والحاكم ، والبيهقي في " الشعب " ( 7 / 30 رقم : 9347 ، 9348 ) .
وذكر الطبراني كذلك أن المغيرة بن مسلم رواهُ عن عطاء كما رواهُ أبيض .
وقال الحاكم : " هذا حديث لم يرفعه عن أبي عبد الرحمن عن عبْد الله بن مسعود غيرُ عطاء بن السائب ، تفرد بروايته عنه جعفر بن سليمان الضُّبعي وأبيض بن أبان القُرشي ، والصحيح فيه رواية الإمام الحافظ المتقن سُفيان بن سعيد الثوري عن عطاء بن السائب " يعني موقوفاً من قوْل ابن مسعود.
وكذلك قال البيهقي في الموقوف : " وهو الصحيح " .
والرواية الموقوفة أخرجها البُخاري في " الأدب المفرد " ( رقم : 934 ) والحاكم ( رقم : 7695 ) والبيهقي في " الشعب " ( 7 / 30 رقم : 9346 ) من طرق عن سفيان ، به .
وأخرجها ابن أبي شيبة ( 8 / 690 ) قال : حدثنا ابنُ فضيل ، عن عطاء ، بإسناد به موقوفاً كذلك .
كذلك ذكر الدارقطني أن جرير بن عبد الحميد وعلي بن عاصم روياه عن عطاء موقوفاً أيْضاً ، وقال : " والموقوف أشهر " ( العلل 5 / 334 ) .
(5) - الكامل ( 1 / 411 - 412 ) .(1/198)
المَعْروفُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: هو اسم مفعول من " عَرَفَ "
ب) اصطلاحاً : ما رواه الثقة مخالفاً لما رواه الضعيف فهو بهذا المعنى مقابل للمنكر ، أو بتعبير أدق ، هو مقابل لتعريف المنكر الذي اعتمده الحافظ ابن حجر.
2- مثالُه:
أما مثاله فهو المثال الثاني الذي مر في نوع المنكر ، لكن من طريق الثقات الذين رووه موقوفاً على ابن عباس . لأن ابن أبي حاتم قال : ـ بعد أن ساق حديث حُبَيِّب المرفوع ـ " هو منكر ، لأن غيره من الثقات رواه عن أبي اسحق موقوفاً ، وهو المعروف ".
ـــــــــــــــ
__________
(1) - لم يذكر المعروف هنا لأنه من أنواع المردود ، وإنما ذكر هنا لمناسبة قسيمه " المنكر " هذا و"المعروف " من أقسام المقبول الذي يحتج به كما هو معروف . تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 17)(1/199)
المعلَّلُ(1)
إذا كان سبب الطعن في الراوي هو " الوهم " فحديثه يسمَّى المعلل وهو السبب السادس .
1- تعريفُه(2):
أ) لغة : اسم مفعول من " أَعَلَّهُ " بكذا فهو " مُعَلٌّ " وهو القياس الصرفي المشهور ، وهو اللغة الفصيحة ، لكن التعبير بـ " المعلل " من أهل الحديث جاء على غير المشهور في اللغة،(3)ومن المحدثين من عبر عنه بـ " المعلول " وهو ضعيف مرذول عند أهل العربية واللغة .(4)
ب) اصطلاحاً: هو الحديث الذي اُطُّلِعَ فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها.
2- أهميته(5):
" وهذا النَّوع من أجَلِّ أنواع عُلوم الحديث وأشْرَفها وأدقها, وإنَّما يتمكَّن منهُ أهل الحفظ والخِبْرة والفهم الثَّاقب، ولهذا لم يتكلَّم فيه إلاَّ القليل, كابن المَدِيني, وأحمد, والبُخَاري, ويعقُوب بن شَيْبة, وأبي حاتم, وأبي زُرْعة, والدَّارقُطْني.
قال الحاكم(6): وإنَّما يُعلَّل الحديث من أوجه ليسَ للجرح فيها مَدْخل, والحُجَّة في التَّعليل عندنَا بالحفظ والفَهْمِ والمَعْرفة لا غير.
وقال ابن مَهْدي(7): لأن أعرف عِلَّة حديث, أحبُّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديثًا ليسَ عندي. "
3- تعريفُ العلة:
" والعِلَّة عِبَارة عن سبب غامض خفي قادح في الحديث مع أنَّ الظَّاهر السَّلامة منه.
قال ابن الصَّلاح(8): فالحديث المُعلَّل ما اطُّلِع فيه على عِلَّة تقدح في صِحَّته مع ظُهور السَّلامة.
ويتطرَّق إلى الإسْنَاد الجَامع شُروط الصحَّة ظَاهرًا, وتُدْرك العلة بتفرُّد الرَّاوي وبمُخَالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تُنبِّه العارف بهذا الشَّأن على وهم وقع ،بإرْسَالٍ في الموصول أو وقفٍ في المرفوع ، [أو دُخُول حديث في حديث, أو غير ذلك, بحيثُ يَغْلُبُ على ظنِّه فيُحكم بعدم صِحَّة الحديث، أو يتردَّد فيتوقَّف فيه وربَّما تَقْصر عِبَارة المُعلَّل عن إقامة الحُجَّة على دعواه, كالصَّيرفي في نقد الدِّينار والدرهم.
قال ابن مهدي(9): معرفة عِلَّة الحديث إلهام, لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أينَ قلتَ هذا؟ لم يكن له حُجَّة, وكم من شخص لا يهتدي لذلك.
وقيل له أيضًا: إنَّك تقول للشيء: هذا صحيح, وهذا لم يثبت, فعَمَّن تقول ذلك؟ فقال: أرأيتَ لو أتيتَ النَّاقد فأريته دراهمكَ, فقال: هذا جيد, وهذا بهرج, أكنتَ تسأل عَمَّن ذلكَ, أو تُسلم لهُ الأمر؟ قال: بل أُسلِّمُ له الأمر. قال: فهذا كذلك بطُول المُجَالسة والمُنَاظرة والخِبْرة.(10)
وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضاً ، وأنَّه قيل له : يا أبا عبد الله تقولُ : هذا الحديث منكر ، فكيف علمتَ ولم تكتب الحديث كلَّه ؟ قال : مثلنا كمثل ناقدِ العين لم تقع بيده العَيْنُ كلُّها ، وإذا وقع بيده الدينارُ يعلم أنَّه جيدٌ ، وأنَّه رديء .(11)
وسُئل أبو زُرْعة(12): ما الحُجَّة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحُجَّة أن تسألني عن حديث له عِلَّة, فأذكر عِلَّته, ثمَّ تقصد ابن وَارة فتسأله عنه, فيذكر عِلَّته, ثمَّ تقصد أبا حاتم فيُعلله, ثمَّ تُميِّز كلامنا على ذلك الحديث, فإن وجدت بيننَا خِلافًا فاعْلم أنَّ كلا مِنَّا تكلَّم على مُراده, وإن وجدت الكلمة مُتفقة, فاعلم حقيقة هذا العِلْم, ففعل الرَّجُل ذلكَ, فاتَّفقت كلمتهم, فقال: أشهدُ أنَّ هذا العلم إلهامٌ. "
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِ (الجَرْحِ وَالتَّعْدِيْلِ) لَهُ(13):
" سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: جَاءنِي رَجُلٌ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِ الرَّأْي، مِنْ أَهْلِ الفَهْمِ مِنْهُم، وَمَعَهُ دَفْتَرٌ، فَعَرَضَهُ عَلَيَّ، فَقُلْتُ فِي بَعْضِه: هَذَا حَدِيْثٌ خَطَأٌ، قَدْ دَخَلَ لِصَاحِبِهِ حَدِيْثٌ فِي حَدِيْثٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَهَذَا مُنْكَرٌ، وَسَائِرُ ذَلِكَ صِحَاح.
فَقَالَ: مِنَ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنَّ ذَاكَ خَطَأٌ، وَذَاكَ بَاطِلٌ، وَذَاكَ كَذِبٌ؟ أَأَخْبَرَكَ رَاوِي هَذَا الكِتَابِ بِأَنِّي غَلِطْتُ، أَوْ بِأَنِي كَذَبْتُ فِي حَدِيْثِ كَذَا؟
قُلْتُ: لاَ، مَا أَدْرِي هَذَا الجُزْء مَنْ رَاوِيْهِ، غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الحَدِيْثَ خَطَأٌ، وَأَنَّ هَذَا بَاطِلٌ.
فَقَالَ: تَدَّعِي الغَيْبَ؟
قُلْتُ: مَا هَذَا ادِّعَاءُ غَيْبٍ.
قَالَ: فَمَا الدَّلِيْلُ عَلَى مَا قُلْتَ؟
قُلْتُ: سَلْ عَمَّا قُلْتُ، مَنْ يُحْسِنُ مِثْلَ مَا أُحْسِنُ، فَإِنْ اتَّفَقْنَا عَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ وَلَمْ نَقُلْهُ إِلاَّ بِفَهْمٍ.
قَالَ: وَيَقُوْلُ أَبُو زُرْعَةَ كَقَوْلِكَ؟
قُلْتُ: نَعْم.
قَالَ: هَذَا عَجَبٌ.
قَالَ: فَكَتَبَ فِي كَاغَد أَلفَاظِي فِي تِلْكَ الأَحَادِيْثَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، وَقَدْ كَتَبَ أَلْفَاظَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَبُو زُرْعَةَ فِي تِلْكَ الأَحَادِيْثَ، فَقَالَ: مَا قُلْتَ إِنَّهُ كَذِبٌ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: هُوَ بَاطِلٌ.
قُلْتُ: الكَذِبُ وَالبَاطِلُ وَاحِدٌ.
قَالَ: وَمَا قُلْتَ إِنَّهُ مُنْكَرٌ، قَالَ: هُوَ مُنْكَرٌ، كَمَا قُلْتَ، وَمَا قُلْتَ: إِنَّهُ صَحِيْحٌ، قَالَ: هُوَ صَحِيْحٌ.
ثُمَّ قَالَ: مَا أَعَجَبَ هَذَا! تَتَّفَقَان مِنْ غَيْر مُوَاطَأَةٍ فِيمَا بَيْنَكُمَا.
قُلْتُ: فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّا لَمْ نُجَازِفْ، وَأَنَّا قُلْنَا بِعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ قَدْ أُوْتِيْنَاهُ، وَالدَّلِيْلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُوْلُهُ أَنَّ دِيْنَاراً بَهْرَجاً يُحْمَلُ إِلَى النَّاقِدِ، فَيَقُوْلُ: هَذَا بَهْرَجٌ.
فَإِنْ قِيْلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ: إِنَّ هَذَا بَهْرَجٌ؟ هَلْ كُنْتَ حَاضِراً حِيْنَ بُهْرِجَ هَذَا الدِّينَارُ؟
قَالَ: لاَ.
وإِنْ قِيْلَ: أَخْبَرَكَ الَّذِي بَهْرَجَهُ؟
قَالَ: لاَ.
قِيْلَ: فَمَنْ أَيْنَ قُلْت؟
قَالَ: عِلْماً رُزِقْتُهُ.
وَكَذَلِكَ نَحْنُ رُزِقْنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا حُمِلَ إِلَى جَوْهَرِيٍّ فَصُّ يَاقُوْتٍ، وَفَصُّ زُجَاجٍ، يَعرِفُ ذَا مِنْ ذَا، وَيَقُوْلُ كَذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ نَحْنُ رُزِقْنَا عِلْماً، لاَ يتَهَيَّأُ لَهُ أَنْ نُخْبِرُكَ كَيْفَ عَلِمْنَا بِأَنَّ هَذَا كَذِبٌ، أَوْ هَذَا مُنْكَرٌ، فَنَعْلَمُ صِحَّةَ الحَدِيْثِ بِعَدَالَةِ نَاقِلِيْهِ، وَأَنْ يَكُوْنَ كَلاَماً يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَلاَمَ النُّبُوَّةِ، وَنَعْرِفُ سَقَمَهُ وَإِنْكَارَهُ بتَفَرَّدِ مَنْ لَمْ تَصِحَّ عَدَالَتُهُ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: قُلْتُ عَلَى بَابِ أَبِي الوَلِيْدِ الطَّيَالِسِيِّ:
مَنْ أَغْرَبَ عَلَيَّ حَدِيْثاً غَرِيْباً مُسْنَداً لَمْ أَسْمَعْ بِهِ صَحِيْحاً فَلَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَانَ ثَمَّ خَلْقٌ:
أَبُو زُرْعَةَ، فَمَنْ دُوْنَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادِي أَن يُلْقَى عَلَيَّ مَا لَمْ أَسْمَعْ بِهِ، فَيَقُوْلُوْنَ: هُوَ عِنْدَ فُلاَنٍ، فَأَذْهَبُ وَأَسْمَعَهُ، فَلَمْ يَتَهَيَّأَ لأَحَدٍ أَن يُغْرِبَ عَلَيَّ حَدِيْثاً. " اهـ
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله(14):
" وقال ابنُ مهدي : معرفة الحديث إلهام(15). وقال : إنكارُنا الحديث عند الجهال كهانةٌ(16).
وقال أبو حاتم الرازي(17): مَثَلُ معرفة الحديث كمثل فصٍّ ثمنه مئة دينار ، وآخر مثله على لونه ، ثمنُه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقدِ أنْ يُخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رُزقنا علماً لا يتهيأُ لنا أنْ نُخبِر كيف علمنا بأنَّ هذا حديثٌ كذِبٌ ، وأنَّ هذا حديثٌ مُنكرٌ إلا بما نعرفه ، قال : وتُعرَفُ جودةُ الدينارِ بالقياسِ إلى غيره ، فإنْ تخلف عنه في الحمرة والصَّفاء علم أنَّه مغشوش ، ويُعلم جنسُ الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإنْ خالفه في المائيَّة والصَّلابة ، علم أنَّه زجاج ، ويُعلَمُ صحةُ الحديث بعدالة ناقليه وأنْ يكون كلاماً يصلح مثلُه أنْ يكون كلامَ النبوّة ، ويُعرف سُقمه وإنكاره بتفرُّد من لم تصحَّ عدالته بروايته ، والله أعلم.
وبكلِّ حالٍ فالجهابذةُ النقادُ العارفون بعلل الحديث أفرادٌ قليلٌ من أهل الحديث جداً ، وأوَّل من اشتهر بالكلام في نقد الحديث ابنُ سيرين ، ثم خلفه أيوبُ السَّختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبةُ، وأخذ عن شعبة يحيى القطّان وابنُ مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، وعليُّ بن المديني ، وابن معين ، وأخذ عنهم مثلُ البخاري وأبي داود وأبي زُرعة وأبي حاتم(18).
وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قلَّ من يفهم هذا ، وما أعزَّه إذا دفعت هذا عن واحد أو اثنين ، فما أقلَّ من تجد من يُحسن هذا(19)!
ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يُحسن هذا - يعني : أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا بالعراق واحد يحسن هذا(20). وقيل له بعدَ موت أبي زُرعة : تعرف اليوم أحداً يعرف هذا ؟ قالَ : لا(21).
وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم : النَّسائي والعقيلي وابنُ عدي والدارقطني ، وقلَّ من جاء بعدهم ممَّن هوَ بارع في معرفة ذَلِكَ حتَّى قالَ أبو الفرج بن الجوزي في أوَّل كتابه " الموضوعات "(22): قد قلَّ من يفهم هذا بل عُدِمَ ، والله أعلم .اهـ
4- الطريق إلى معرفة العلة(23):
" والطَّريق إلى مَعْرفته جمع طرق الحديث, والنَّظر في اختلاف رواته و في ضَبْطهم وإتْقَانهم.
قال ابن المَدِيني(24): الباب إذَا لم تَجْمع طُرقهُ لم يتبيَّن خَطُؤه.
وكثُرَ التَّعليل بالإرْسَال للموصول ،بأن يَكُون راويه أقوى مِمَّن وصل, وتقع العِلَّة في الإسْنَاد وهو الأكثر, وقد تقع في المتن وما وقع، منهافي الإسْنَاد قد يَقْدح فيه وفي المَتْن أيضًا."
5-قد تطلق العلة على غير معناها الاصطلاحي:
وقد تُطلق العِلَّة على غير مُقتضاها الَّذي قدمناه من الأسباب القادحة ،ككذب الرَّاوي, وغفلته, وسُوء حفظه, ونحوها من أسباب ضعف الحديث وذلك موجود في كُتب العِلل.
وسمَّى الترمذي النَّسخ عِلَّة.
قال العِرَاقيُّ(25): فإن أراد به عِلَّة في العمل بالحديث فصحيح, أو في صحته فلا, لأنَّ في الصَّحيح أحاديث كثيرة منسوخة.اهـ
قلتُ :
قد ذكر في العلل في آخر الجامع سنن الترمذى - (ج 14 / ص 134)
أنَّ جَمِيعَ مَا فِى هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْحَدِيثِ فَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ وَقَدْ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا خَلاَ حَدِيثَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْمَدِينَةِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ وَلاَ مَطَرٍ. وَحَدِيثُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فِى الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا عِلَّةَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا فِى الْكِتَابِ.
وفي شرح علل الترمذي لابن رجب - (ج 1 / ص 112) :
كأن مراد الترمذي رحمه الله تعالى أحاديث الأحكام ، وقد سبق الكلام على هذين الحديثين اللذين أشار إليهما ههنا في موضعهما من الكتاب ، وذكرنا مسالك العلماء فيهما من النسخ وغيره ، وذكرنا أيضاً عن بعضهم بكل واحد منهما .
وقوله : (( قد بينا علة الحديثين جميعاً في الكتاب )) ، فإنما بين ما قد يستدل به للنسخ ، لا أنه بين ضعف إسنادهما .
هذا وقد رأيت غير الترمذي أيضاً سمَّى النسخً علَّةً ، ففي علل الحديث لابن أبي حاتم - (ج 1 / ص 118)114- وَسَمِعْتُ أَبِي وَذَكَرَ الأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ حَدِيثَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
وَحَدِيثَ شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي : الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ فَقَالَ : هُوَ مَنْسُوخٌ ، نَسَخَهُ حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
يعني كما في سنن الترمذى (110 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رُخْصَةً فِى أَوَّلِ الإِسْلاَمِ ثُمَّ نُهِىَ عَنْهَا.
فمع أن أباه لم يذكر في كلامه سوى النسخ ، فقد أدخله في كتاب العلل ، وفي هذا ما يدلُّ على أن النسخ عنده من العلل . والله أعلم .
وورد عنه كذلك كما في علل الحديث - (ج 1 / ص 249)246- وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : حَدِيث ابن مَسْعُود فِي التطبيق منسوخ ، لأن فِي حَدِيث ابن إدريس ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كليب ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأسود ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ : أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - طبَّق ثُمَّ أُخْبِر سَعْد ، فَقَالَ : صدق أخي ، قد كُنّا نفعل ، ثُمَّ أمرنا بِهَذَا ، يعني بوضع اليدين عَلَى الركبتين والحديث في مسند أبي عوانة (1434 )حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: صَلَّيْتُ فَلَمَّا رَكَعْتُ جَعَلْتُ يَدَيَّ بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَضَرَبَ أَبِي يَدِي، فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَرْفَعَ إِلَى الرُّكَبِ، هَذَا لَفْظُ الْجُعْفِيِّ وَأَمَّا الْحَسَنُ، فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ ثُمَّ أُمِرْنَا فَنُهِينَا عَنْهُ ثُمَّ أُمِرْنَا أَنْ نَرْفَعَ إِلَى الرُّكَبِ. "
وأطلقَ بعضهم العِلَّة على مُخَالفة لا تقدح في صحة الحديث, كإرسال ما وصله الثِّقة الضَّابط حتَّى قال: من الصَّحيح صحيحٌ مُعلَّل, كما قيل: منه صحيح شاذ .
وقائل ذلك أبو يَعْلى الخليلي في «الإرْشَاد(26).
ومثَّل الصَّحيح المُعلَّل بحديث مالك (1806 ) حَدَّثَنِى مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا يُطِيقُ ». فإنَّه أورده في «الموطأ» مُعضلاً, ورواه عنه إبراهيم بن طَهْمان والنُّعمان بن عبد السَّلام موصولاً.
كما في المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 171)(420 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ , قَالَ: نا أَحْمَدُ بن حَفْصٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي , قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بن طَهْمَانَ، عَنْ مَالِكِ بن أَنَسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بن عَجْلانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا يُطِيقُ"، لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مَالِكٍ إِلا إِبْرَاهِيمُ، وَالنُّعْمَانُ بن عَبْدِ السَّلامِ التَّيْمِيُّ
وفي مسند البزار(8384) حَدَّثنا الحسين بن علي الحناط ، قال : حَدَّثنا إبراهيم بن أيوب ، قال : حَدَّثنا النعمان ، يعني ابن عَبد السلام ، قال : حَدَّثنا مالك ، عَن مُحَمد بن عجلان ، عَن أبيه ، عَن أبي هُرَيرة ، عَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلاَّ ما يطيق.
ولا نعلم أسند عن ابن عجلان إلاَّ هذا الحديث.(27)
قال: فقد صار الحديث بتبيين الإسناد صحيحًا يُعتمد عليه.
قيلَ: وذلكَ عكس المُعلَّل, فإنَّه ما ظاهرُه السَّلامة فاطُّلع فيه بعد الفحص على قادحٍ, وهذا كان ظاهره الإعْلال بالإعْضَال, فلمَّا فُتش تبين وصله.اهـ
6- إلى أيِّ إسنادٍ يتطرقُ التعليلُ ؟
يتطرق التعليل إلى الإسناد الجامع شروطَ الصحَّة ظاهراً، لأن الحديث الضعيف لا يحتاجُ إلى البحث عن علله إذ أنه مردودٌ لا يعملُ به إلا ضمن شروط معينة ، وفي أشياء معينة .
7- ما هو الطريق إلى معرفة المُعَلَّل ؟
الطريق إلى معرفته هو جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته، والموازنة بين ضبطهم وإتقانهم، ثم الحكم على الرواية المعلولة.
8- أين تقع العلة ؟
أ) تقع في الإسناد ـ وهو الأكثر ـ كالتعليل بالوقف والإرسال.
ب) وتقع في المتن ـ وهو الأقل ـ مثل حديث نفي قراءة البسملة في الصلاة.
9- هل العلة في الإسناد تقدح في المتن ؟
أ) قد تقدح في المتن مع قدحها في الإسناد ، وذلك مثل التعليل بالإرسال.
ب) وقد تقدح في الإسناد خاصة ، ويكون المتن صحيحاً
كحديث يَعْلى بن عُبيد الطنافسي(28)أحد رجال الصَّحيح عن سُفيان الثَّوري, عن عَمرو بن دينار عن ابن عُمر عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حديث: «البَيِّعان بالخِيَار...» غلط يعلى عن سُفيان في قوله: عَمرو بن دينار إنَّما هو عبد الله بن دينار هكذا رَواهُ الأئمة أصْحَاب سُفيان, كأبي نُعيم الفَضْل بن دُكين(29), ومحمَّد بن يوسف الفِرْيابي(30), ومخلد بن يزيد(31)وغيرهم.(32)
ومثالُ العِلَّة في المَتْن: ما انفردَ به مسلم في «صحيحه» (918 )الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِىُّ عَنْ عَبْدَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لاَ يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِى أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلاَ فِى آخِرِهَا..
ثمَّ رواه (919 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الأَوْزَاعِىِّ أَخْبَرَنِى إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ..
وروى مالك في «المُوطأ» (178 ) وَحَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ قُمْتُ وَرَاءَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكُلُّهُمْ كَانَ لاَ يَقْرَأُ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ..
وزاد فيه الوليد بن مُسلم عن مالك: صَلَّيتُ خلفَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - .(33)
هذا الحديث مَعْلُول, أعلَّهُ الحفَّاظ بوجُوه جمعتها وحررتها في المجلس الرَّابع والعشرين من الأمالي بما لم أُسْبق إليه, وأنا ألخصها هنا:
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 16) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 5) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 107) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 208) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 52) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 251) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 114) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 202) وألفية العراقي في علوم الحديث - (ج 1 / ص 17) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 86) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 70) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 211) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 189)
(2) - انظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 189)
(3) -لأن المعلل اسم مفعول من " علله " بمعنى ألهاه ، ومنه تعليل الأم ولدها .
(4) - لأن اسم المفعول من الرباعي لا يكون على وزن مفعول، وانظر علوم الحديث ص 81
(5) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 2 / ص 239) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 460) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 416) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 185) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 36) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 190)
(6) - علوم الحديث ص 112-113
(7) - المصدر نفسه ص 112
(8) - علوم الحديث ص 116
(9) - معرفة علوم الحديث ص 113
(10) - كما في تهذيب الكمال 17/439 وأنظر جامع العلوم والحكم 1/94-95 و تهذيب الأسماء 1/284 .
(11) - جامع العلوم والحكم محقق - (ج 29 / ص 19)
(12) - معرفة علوم الحديث ص 113
(13) - سير أعلام النبلاء (13/253-255) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 14) ومقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 1 / ص 314) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 1 / ص 349)
(14) - جامع العلوم والحكم محقق - (ج 29 / ص 19)
(15) - أخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " 1/195 .
(16) - أخرجه : ابن أبي حاتم في " العلل " 1/196 .
(17) - في " الجرح والتعديل " 1/84 ، و" العلل " 1/196 .
(18) - انظر : الجرح والتعديل 1/314 .
(19) - ذكره : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/287 .
(20) - ذكره : ابن أبي حاتم في" الجرح والتعديل " 1/287 - 288 .
(21) - ذكره : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/314 .
(22) - الموضوعات 1/31 .
(23) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 191)
(24) - الجامع لخلاق الراوي وآداب السامع 2/212
(25) - شرح التبصرة 1/239
(26) - 1/162-164
(27) - والحديث موصول من طرق أخرى أنظرها في المسند الجامع - (ج 17 / ص 530)13590
(28) - الخليلي في الإرشاد 1/341
(29) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/269و273 وابن عبد البر في التمهيد 14/22
(30) - البخاري (2113 )
(31) - السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 7 / ص 188)(11668)
(32) - انظر الروايات كلها في المسند الجامع - (ج 10 / ص 727)(7730)
(33) - أخرجه ابن عبد البر في التمهيد 2/228(1/200)
فأمَّا رواية حُميد, فأعلَّها الشَّافعي(1)بمُخالفة الحُفَّاظ مالكًا, فقال في «سنن» قَالَ حَرْمَلَةُ قَالَ الشَّافِعِىُّ فِى رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدٍ خَالَفَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَالْفَزَارِىُّ وَالثَّقَفِىُّ وَعَدَدٌ لَقِيتُهُمْ سَبْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً مُتَّفِقِينَ مَخَالِفِينَ لَهُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ وَاحِدٍ ثُمَّ رَجَّحَ رِوَايَتَهُمْ بِرِوَايَةِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
قَالَ الشَّافِعِىُّ : يَعْنِى يَبْدَءُونَ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ قَبْلَ مَا يَقْرَأُ بَعْدَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلاَ يَعْنِى أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(2)
قال الدَّارقُطْني: (1217 ) حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضى الله عنهما لَمْ يَكُونُوا يَجْهَرُونَ بِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَالْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ وَيَحْيَى بْنُ السَّكَنِ وَأَبُو عُمَرَ الْحَوْضِىُّ وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ الَّذِى تَقَدَّمَ فَقَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَكَذَلِكَ رُوِىَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَامَّةُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ عَنْ قَتَادَةَ مِنْهُمْ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِىُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِىُّ وَالأَوْزَاعِىُّ وَسَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَهَمَّامٌ وَاخْتُلِفَ عَنْهُمَا فِى لَفْظِهِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ..
قال البَيْهقي(3): وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ وَثَابِتٌ الْبُنَانِىُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
قال ابن عبد البر(4): فهؤلاء حُفَّاظ أصْحَاب قتادة, وليس في روايتهم لهذا الحديث ما يُوجب سُقوط البَسْملة, وهذا هو اللفظ المُتفق عليه في «الصَّحيحين»(5)وهو رِوَاية الأكثرين, ورواهُ كذلك أيضًا عن أنس ثابت البُنَاني(6), وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, وما أوله عليه, ورواه الشَّافعي مُصَرَّح به في رِوَاية الدَّارقُطْني بسند صحيح: فكانوا يَسْتفتحُونَ بأمِّ القُرآن.(7)
قال ابن عبد البر(8): ويقولُون: إنَّ أكثر رواية حُميد عن أنس إنَّما سمعها من قتادة وثابت عن أنس, ويُؤيد ذلك أنَّ ابن أبي عدي صرَّح بذكر قتادة بينهما في هذا الحديث(9), فتبين انقطاعها ورجُوع الطريقين إلى واحدة.
وأمَّا رِوَاية الأوزاعي فأعَلَّها بعضهم بأنَّ الرَّاوي عنه وهو الوليد يُدلِّس تدليس التسوية, وإن كان قد صرَّح بسماعه من شيخه, وإن ثبت أنَّه لم يسقط بين الأوزاعي وقتادة أحد, فقتادة ولد أكمه, فلا بد أن يَكُون أمْلَى على من كتب إلى الأوزاعي, ولم يُسم هذا الكاتب فيُحتمل أن يكُون مجروحًا, أو غير ضابط, فلا تقوم به الحُجَّة مع ما في أصل الرِّواية بالكتابة من الخلاف, وأنَّ بعضهم يرى انقطاعها.
وقال ابن عبد البر(10): اختلف في ألفاظ هذا الحديث اختلافًا كثيرًا متدافعًا مضطربا:
منهم من يقول: صليتُ خلف رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعُمر.
ومنهم من يذكُر عُثمان.
ومنهم من يقتصر على أبي بكر وعُمر وعثمان.
ومنهم من لا يذكر: فكانوا لا يقرؤون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
ومنهم من قال: فكانوا لا يَجْهرُون ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
ومنهم من قال: فكانوا يَجْهرُون ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
ومنهم من قال: فكانوا يفتتحون القِرَاءة بالحمد لله ربِّ العالمين.
ومنهم من قال: فكانوا يقرؤون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
قال: وهذا اضطراب لا تَقُوم معه حُجَّة لأحد, ومِمَّا يدل على أنَّ أنسًا لم يُرد نفي البَسْملة, وأنَّ الذي زاد ذلكَ في آخر الحديث روى بالمعنى فأخطأ, ما صحَّ عنه كما في سنن الدارقطنى 1/317(1221 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّازُ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ حَدَّثَنَا أَبُو مَسْلَمَةَ - هُوَ سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الأَزْدِىُّ - قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ بِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أَوْ بِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فَقَالَ إِنَّكَ لَتَسْأَلُنِى عَنْ شَىْءٍ مَا أَحْفَظُهُ وَمَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ . قُلْتُ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى فِى النَّعْلَيْنِ قَالَ نَعَمْ. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ ..(11)
وما قيلَ: من أنَّ من حفظ عنه حُجَّة على من سألهُ في حال نِسْيانه.
فقد أجاب أبو شَامة بأنَّهما مسألتان, فسُؤال أبي سلمة عن البَسْملة وتركها, وسُؤال قتادة عن الاستفتاح بأي سُورة.(12)
وقد وردَ من طريق آخر عنه: كما في المعجم الكبير للطبراني - (ج 1 / ص 310)(738)حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن وُهَيْبٍ الْغَزِّيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن أَبِي السَّرِيِّ ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بن سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسِرُّ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا..
وابن خزيمة(13)من طريق سُويد بن عبد العزيز, عن عمران القَصِير, عن الحسن عنه.
وورد من طريق آخر عن المعتمر بن سُليمان عن أبيه, عن أنس قال: كان رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ببسم الله الرَّحمن الرَّحيم. رواه الدَّارقُطْني(14)والخطيب.
وأخرجه الحاكم(15)من جهة أُخرى عن المُعْتمر.
وقد ورد ثُبوت قراءتها في الصَّلاة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هُرَيْرة من طُرق عند الحاكم, وابن خزيمة, والنَّسائي, والدَّارقطني, والبيهقي, والخطيب(16).
وابن عبَّاس عند الترمذي والحاكم والبَيْهقي(17).
وعثمان, وعلي, وعمَّار بن ياسر, وجابر بن عبد الله, والنُّعْمَان بن بشير, وابن عُمر, والحكم بن عُمير, وعائشة, وأحاديثهم عند الدَّارقُطْني(18).
وسَمُرة بن جُنْدب, وأُبَي, وحديثهما عند البَيْهقي.(19)
وبُرَيدة, ومُجَالد بن ثور, وبُسْر أو بِشْر بن معاوية, وحُسين بن عرفطة, وأحاديثهم عند الخطيب.
وأم سلمة عند الحاكم(20).
وجماعة من المهاجرين والأنصار عند الشَّافعي(580).
فقد بلغ ذلك مبلغ التواتر, وقد بيَّنا طُرق هذه الأحاديث كلها في كتاب «قطف الأزْهَار المُتناثرة في الأخبار المُتواترة» وتبين بما ذكرناهُ أنَّ لحديث مُسلم السَّابق تسع علل:
المُخَالفة من الحُفَّاظ والأكثرين.
والانقطاع.
وتدليس التَّسوية من الوليد.
والكتابة.
وجهالة الكاتب.
والاضطراب في لفظه.
والإدراج.
وثُبوت ما يُخالفه عن صحابيه.
ومُخَالفته لما رواه عدد التواتر.
قال الحافظ أبو الفضل العراقي(21): وقول ابن الجوزي: إنَّ الأئمة اتفقوا على صحَّته فيه نظر, فهذا الشَّافعي والدَّارقطني والبَيْهقي وابن عبد البر لا يَقُولون بصحته, أفلا يقدح كلام هؤلاء في الاتِّفاق الَّذي نقله. "
10- أنواع الحديث المعلل :
قال البَلْقيني(22): أجل كِتَاب صُنِّف في العلل كتاب ابن المَديني, وابن أبي حاتم, والخَلاَّل, وأجمعها كتاب الدَّارقُطْني.
قلتُ: وقد صنَّف شيخ الإسلام فيه «الزهر المطول في الخبر المعلول».
وقد قسم الحاكم في «علوم الحديث»(23)أجناس المُعلَّل إلى عشرة, ونحن نلخصها هنا بأمثلتها:
أحدها: أن يَكُون السَّند ظاهر الصِّحة, وفيه من لا يُعرف بالسَّماع ممَّن روى عنه.
كحديث مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا كَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا حَدِيثٌ مَنْ تَأَمَّلَهُ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ ، وَلَهُ عِلَّةٌ فَاحِشَةٌ(24).
237 حَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدُونَ الْقَصَّارَ يَقُولُ : سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ : " وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ، فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ : دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أَسْتَاذَ الْأُسْتَاذَيْنِ ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ حَدَّثَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ قَالَ : ثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ , عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَنْ سُهَيْلٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ فَمَا عِلَّتُهُ ؟ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ : هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ " حَدَّثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ : ثَنَا سُهَيْلٌ , عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَوْلَهُ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ : هَذَا أَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يُذْكَرُ لِمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمَاعًا مِنْ سُهَيْلٍ(25)
الثاني- أن يَكُون الحديث مُرْسلاً من وجه, رواه الثِّقات الحُفَّاظ, ويُسْند من وجه ظاهره الصِّحة.
قال الحاكم: 238 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ , حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ قَالَ : ثنا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ أَوْ عَاصِمٍ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ , عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَقْرَأُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا ، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَذَا مِنْ نَوْعٍ آخَرَ عِلَّتُهُ ، فَلَوْ صَحَّ بِإِسْنَادِهِ لَأُخْرِجَ فِي الصَّحِيحِ ، إِنَّمَا رَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ , عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " أَرْحَمُ أُمَّتِي " , مُرْسَلًا وَأَسْنَدَ ، وَوَصَلَ : " إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا ، وَأَبُوعُبَيْدَةَ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " هَكَذَا رَوَاهُ الْبَصْرِيُّونَ الْحُفَّاظُ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، وَعَاصِمٍ جَمِيعًا ، وَأَسْقَطَ الْمُرْسَلَ مِنَ الْحَدِيثِ وَخَرَّجَ الْمُتَّصِلَ بِذِكْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
الثَّالث: أن يَكُون الحديث محفُوظًا عن صحابي, ويروى عن غيره, لاختلاف بلاد رُواته, كرواية المَدنيين عن الكُوفيين.
قال الحاكم : 239 حَدَّثَنَا أَبُو عَبَّاسٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ قَالَ : ثنا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ أَبِي بُرْدَةَ , عَنْ أَبِيهِ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا يَنْظُرُ فِيهِ حَدِيثِيُّ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ شَرْطِ الصَّحِيحِ وَالْمَدَنِيُّونَ إِذَا رَوَوْا عَنِ الْكُوفِيِّينَ زَلَّقُوا .
قال الحاكم : 240 حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : ثنا أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ : ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ , وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَحْفُوظُ وَرَوَاهُ الْكُوفِيُّونَ أَيْضًا مِسْعَرٌ , وَشُعْبَةُ , وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هَكَذَا.
الرَّابع: أن يَكُون محفُوظًا عن صحابي, فيروي عن تابعي, يقع الوهم بالتصريح بما يقتضي صحَّتهُ, بل ولا يكون مَعْروفًا من جهته.
قال الحاكم : 241 أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ قَالَ : ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْقَاضِي قَالَ : ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ : ثنا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ , عَنْ أَبِيهِ , أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ"
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَدْ خَرَّجَ الْعَسْكَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْوُحْدَانِ ، وَهُوَ مَعْلُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالْآخَرُ أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنُ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ , عَنْ أَبِيهِ , وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ : سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ يَرَهُ ، وَقَدْ خَرَّجْتُ شَوَاهِدَهُ فِي التَّلْخِيصِ .
الخامس: أن يكُون رُوِي بالعنعنة, وسقط منه رجل دلَّ عليه طريق أخرى محفوظة.
242 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : ثنا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ : أنا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ , عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَرُمِيَ بِنَجْمٍ ح فَاسْتَنَارَ ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ"
قَالَ الْحَاكِمُ : عِلَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ يُونُسَ عَلَى حِفْظِهِ وَجَلَالَةِ مَحَلِّهِ قَصَرَ بِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَيُونُسُ مِنْ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ ، وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ
السَّادس: أن يختلف على رجل بالإسْنَاد وغيره, ويكُون المحفوظ عنه ما قابل الإسناد.
243 حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ قَالَ : ثنا حَاتِمُ بْنُ اللَّيْثِ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ : ثنا حَامِدُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا لَكَ أَفْصَحْنَا ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ؟ قَالَ : " كَانَتْ لُغَةُ إِسْمَاعِيلَ قَدْ دَرَسَتْ فَجَاءَ بِهَا جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيَّ فَحَفَّظَنِيهَا "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لِهَذَا الْحَدِيثِ عِلَّةٌ عَجِيبَةٌ ، 244 حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الضَّبِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ ، قَالَ : أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَرِينٍ الْفَاشَانِيُّ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ ، قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّكَ أَفْصَحُنَا ، وَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ لُغَةَ إِسْمَاعِيلَ كَانَتْ قَدْ دَرَسَتْ فَأَتَانِي بِهَا جَبْرَائِيلُ فَحَفَّظَنِيهَا "
السَّابع: الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله.
245 حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ الْمُطَّوِّعِيُّ قَالَ : ثنا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُبَارَكِيُّ قَالَ : ثنا أَبُو شِهَابٍ , عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ فُرَافِصَةَ , عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ "
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 2 / ص 52)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 51)(2515)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 2 / ص 51)
(4) - الإنصاف ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/174
(5) - انظر المسند الجامع - (ج 1 / ص 567)(395)
(6) - أخرجه ابن خزيمة (497)
(7) -سنن الدارقطني 1/316
(8) - التمهيد 2/167
(9) - أخرجه ابن حبان (1798)
(10) - التمهيد 2/230
(11) - انظر معرفة السنن والآثار للبيهقي (789 )
(12) - انظر فتح الباري لا بن حجر 2/228
(13) - في صحيحه برقم(498)
(14) - في السنن 1/308-309
(15) - المستدرك 1/234 (852-855) وقال عقبها : فَفِي هَذِهِ الأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُعَارَضَةٌ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ الَّذِي يَرْوِيهِ أَئِمَّتُنَا عَنْهُ ، وَقَدْ بَقِيَ ، فِي الْبَابِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ الثُّمَالِيِّ ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ، وَبُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، كُلُّهَا مُخَرَّجَةٌ عِنْدِي فِي الْبَابِ تَرَكْتُهَا إِيثَارًا لِلتَّخْفِيفِ ، وَاخْتَصَرْتُ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَذَا الْبَابِ ، وَكَذَلِكَ قَدْ ذَكَرْتُ فِي الْبَابِ مَنْ جَهَرَ بِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَأَتْبَاعِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
(16) - أخرجه الحاكم 1/232 وا بن خزيمة (499) والنسائي 2/134 والدارقطني 1/307 والبيهقي في السنن 2/46 والخطيب في تاريخ بغداد 5/96
(17) - المستدرك للحاكم 1/208(750) والترمذي (245) والبيهقي في السنن 2/47و48
(18) - سنن الدارقطني 1/303-311
(19) - سنن الدارقطني 1/309 والذذي في سنن البيهقي 2/195 بدون ذكر البسملة فيه .
(20) - المستدرك 1/232
(21) - التقييد والإيضاح ص 119 والتبصرة 1/234
(22) - محاسن الاطلاع ص 203
(23) - علوم الحديث ص 113- 118
(24) - شرح السنة للبغوي(1340) ومعرفة علوم الحديث (236 )
(25) - كونه فيه من لا يعرف بالسماع ممن روى عنه ، ليس هو العلة ، بل دليل على العلة ، وإنما العلة : أنه روي عن عون بن عبد الله موقوفا عليه ، وقد أعلَّه أبو حاتم في العلل (2079) بالوقف ، وبين الحافظ ابن حجر في النكت 2/726 أن قول البخاري : لا يذكر لموسى سماع من سهيل ، معناه أنه إذا كان غير معروف بالأخذ عنه ، ووقعت عنه رواية واحدة ، خالفه فيها من هو أعرف بحديثه وأكثر له ملازمة ، رجحت روايته على تلك الرواية المنفردة "
قلت : وهذا ذهاب منه إلى أن العلة الاختلاف بين رفعه ووقفه ، وكلامه يدلُّ على ترجيح الوقف ، ويدلُّ أيضاً على أن قول البخاري السابق هو من أدلته على ترجيح الوقف ، لآ أنه العلة المقصودة . تدريب الراوي هامش 1/422(1/201)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : وَهَكَذَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، وَيَحْيَى بْنُ الضُّرَيْسِ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، فَنَظَرْتُ ، فَإِذَا لَهُ عِلَّةٌ 246 أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ بِمَرْوَ ، قَالَ : ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، قَالَ : ثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْفُرَافِصَةِ , عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، قَالَ سُفْيَانُ : أُرَاهُ ذَكَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ ، وَالْفَاجِرُ خِبٌّ لَئِيمٌ .
الثَّامن: أن يكُون الرَّاوي عن شخص أدركهُ وسَمعَ منهُ, لكنَّه لم يسمع منهُ أحاديث مُعينة, فإذا رواها عنه بلا واسطة فعلَّتها أنَّه لم يسمعها منه.
247 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ ، قَالَ : ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ , عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ ، قَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَنَزَلَتْ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَلَهُ عِلَّةٌ
248 أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَاسِمُ بْنُ الْقَاسِمِ السَّيَّارِيُّ ، وَأَبُو مُحَمَّدِ الْحَسَنُ بْنُ حَلِيمٍ الْمَرْوَزِيَّانِ بِمَرْوَ ، قَالَا : حَدَّثَنَا أَبُو الْمُوَجِّهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا هِشَامٌ , عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، قَالَ : حُدِّثْتُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا أَفْطَرَ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ ، قَالَ : " أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ "
التاسع: أن تكون طريقه معروفة, يروي أحد رجالها حديثا من غير تلك الطريق, فيقع من رواه من تلك الطريق بناء على الجادة في الوهم.
249 أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ : ثنا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ قَالَ : ثنا سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ قَالَ : حَدَّثَنِي الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِزَامِيُّ , عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ، قَالَ : " سُبْحَانَكَ ، اللَّهُمَّ تَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ "
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لِهَذَا الْحَدِيثِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخَذَ طَرِيقَ الْمَجِرِّةِ فِيهِ . حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيُّ النَّقِيبُ بِالْكُوفَةِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَكَمِ الْحَبَرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ , عَنِ الْأَعْرَجِ , عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ , عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا مُخَرَّجٌ فِي صَحِيحٍ لِمُسْلِمٍ .
العاشر: أن يُروى الحديث مرفوعًا من وجه, وموقوفًا من وجه.
250 أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ قَالَ : ثنا أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي سُفْيَانَ , عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " مَنْ ضَحِكَ فِي صَلَاتِهِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ "
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ : لِهَذَا الْحَدِيثِ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ
251 أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّبِيعِيُّ بِالْكُوفَةِ ، قَالَ : ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ ، قَالَ : ثنا وَكِيعٌ ، عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي سُفْيَانَ ، قَالَ : سُئِلَ جَابِرٌ ، عَنِ الرَّجُلِ يَضْحَكُ فِي الصَّلَاةِ ، قَالَ : " يُعِيدُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَقَدْ ذَكَرْنَا عِلَلَ الْحَدِيثِ عَلَى عَشْرَةِ أَجْنَاسٍ ، وَبَقِيَتْ أَجْنَاسٌ لَمْ نَذْكُرْهَا ، وَإِنَّمَا جَعَلْتُهَا مِثَالًا لِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَعْلُولَةٍ لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهَا الْمُتَبَحِّرُ فِي هَذَا الْعِلْمِ ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْعُلُومِ .
وما ذكرهُ الحاكم من الأجْنَاس يَشْملهُ القِسْمان المذكُوران فيما تقدَّم, وإنَّما ذكرناهُ تمرينًا للطَّالب وإيضَاحًا لما تقدَّم.اهـ
11 - أشهر المصنفات فيه :
لقد صُنِّفَتْ فيه مصنَّفاتٌ عديدةٌ، ذَكَرَ بعضَهَا الحافظُ السَّخَاويُّ في "فتحِ المغيثِ"(1)، والدكتورُ همَّام سعيد في مقدِّمةِ تحقيقِه لـ"شرحِ عللِ الترمذيِّ" لابنِ رجبٍ الحنبليِّ(2)، والدكتور محفوظ زين الله في مقدِّمة تحقيقِهِ لـ"عِلَلِ الدَّارَقُطْنِيِّ"(3)، والدكتور وَصِيّ الله عَبَّاس في مقدِّمة تحقيقه لـ"العِلَلِ" للإمامِ أحمد بروايةِ عبدالله(4)، والدكتورُ عبدُ الكريمِ الوريكاتُ في كتابِه "الوَهَمُ في رواياتِ مُخْتَلِفِي الأمصارِ"(5)، والأستاذُ إبراهيمُ بنُ الصِّدِّيقِ في كتابِهِ "عِلْمُ عِلَلِ الحديثِ، مِنْ خلالِ كتابِ بيانِ الوَهَمِ والإيهامِ"(6)،وقد أَتَى على ذلك كُلِّهِ وزاد عليه زياداتٍ مفيدةً، ونبَّه على بعضِ الأوهامِ فيه- الشيخُ الدكتورُ عليُّ بنُ عبدِ اللهِ الصَّيَّاحُ في رسالةٍ له بعنوانِ "جُهُودُ الْمُحَدِّثِينَ في بيانِ عِلَلِ الأحاديثِ"، غيرَ أنَّه لم يُفْرِدِ المصنَّفاتِ في العِلَلِ، وإنما ذَكَرها تَبَعًا لذكرِه لمؤلِّفيها في غَمْرَةِ الأئمَّةِ العارفينَ بالعِلَلِ.
وفيما يلي ذِكْرُ بعضِ ما وقَفْت عليه مِنْ هذه المصنَّفاتِ حتى وفاةِ الخَطِيبِ البغداديِّ:
1) "العِلَلُ" لعليِّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الْمَدِينيِّ (ت 234هـ)، وهي كتبٌ متعدِّدةٌ، لكنْ لم يَصِلْ إلينا منها إلا قِطْعَةٌ صغيرةٌ من روايةِ محمَّد ابنِ أحمدَ بنِ البَرَاء، عنه(7).
وقد سَمَّى أبو عبدِ اللهِ الحاكم(8)بعضَ هذه الكُتُبِ، ومنها :
أ - "كتابُ عِلَلِ الْمُسْنَدِ" ثلاثون جُزْءًا.
ب - "كتابُ العِلَلِ" لإسماعيلَ القاضي(9)، أربعةَ عَشَرَ جُزْءًا.
ج - "كتابُ عِلَلِ حديثِ ابنِ عُيَيْنَةَ" ثلاثةَ عَشَرَ جزءًا(10).
د - "كتابُ الوَهَمِ والخطأِ" خمسةُ أجزاءٍ.
هـ - "العِلَلُ المتفرِّقةُ" ثلاثونَ جزءًا.
وذكر الخَطِيبُ البغداديُّ(11)أنّ إسماعيلَ ابنَ الصَّلْتِ بنِ أبي مريمَ، سَمِعَ من عليِّ بنِ المدينيِّ، وعندَهُ عنه كتابٌ صغيرٌ في عللِ الحديثِ.
2) "العِلَلُ" للإمامِ أحمدَ (ت241هـ)(12)، وهو أيضًا روايات متعددة، منها :
أ- روايةُ عبد الله ابنِ الإمام أحمد(13).
ب- رواية أبي بَكْر الْْمَرُّوذِيِّ، وعبد الملك المَيْمُوني، وصالحٍ ابنِ الإمامِ أحمد(14).
ج- رواية الخَلاَّل، ولم يصلنا منها سوى قِطْعةٍ من انتخابِ ابنِ قُدَامة منها(15).
3) "العِلَلُ" لمحمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عَمَّارٍ المَوْصِليِّ (ت242هـ).
4) "العِلَلُ" لأبي حَفْصٍ عَمْرِو بنِ عليٍّ الفَلاَّسِ (ت249هـ).
5) "عِلَلُ حديثِ الزهريِّ" لمحمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ (ت258هـ).
6) "العِلَلُ"، و"التمييزُ"، كلاهما لمسلمِ ابنِ الحَجَّاجِ النَّيْسَابوريِّ (ت261هـ)، وهما كتابان مختلفانِ، ذَكَرَهُمَا السَّخَاويُّ في الموضعِ السابقِ بما يَدُلُّ على المغايرةِ بينهما ، وقد نَصَّ حاجي خَليفة(16)على أنَّ مسلمَ بنَ الحَجَّاجِ ممَّن صنَّف في عِلَلِ الحديثِ.
7) العِلَلُ" لأبي بكرٍ الأَثْرَمِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ هانئٍ (ت قريبًا من سنةِ 260هـ).
8) "المُسْنَدُ الكبيرُ المُعَلَّلُ" ليعقوبَ بنِ شَيْبَةَ السَّدُوسيِّ (ت262هـ).
9) "عِلَلُ أبي زُرْعةَ الرازيِّ" لِعُبَيْدِالله بن عبدالكريم أبي زُرْعة الرازي (ت264هـ)؛ ذَكَرَ محمَّدُ بنُ أحمدَ بنِ محمَّدٍ المالكيُّ الأندلسيُّ(17)أنه من الكُتُبِ التي ورَدَ بها الخطيبُ البغداديُّ دِمَشْقَ.
10) "العِلَلُ" لأبي بِشْرٍ إسماعيلَ بنِ عبدِاللهِ، المعروفِ بـ"سَمُّوْيَهْ" (ت267هـ).
11) "العِلَلُ" لأبي داود سليمان بن الأشعث السِّجِسْتاني (ت275هـ)(18).
12) "العِلَلُ" لأبي حاتمٍ محمَّدِ بنِ إدريسَ الحَنْظَلِيِّ الرازيِّ (ت277هـ)، ذَكَرَهُ ونقَلَ منه الحافظُ ابنُ ناصرِ الدِّينِ الدِّمَشْقيُّ(19)، وذَكَرَ أنَّه مِنْ روايةِ محمدِ بنِ إبراهيمَ الكَتَّانيِّ عنه، والكَتَّانيُّ هذا - بالتاءِ - تَرْجَمَ له الذَّهَبِيُّ(20)اعتمادًا على يحيى بنِ مَنْدَهْ في "تاريخِ أَصْبَهَانَ"، وذَكَرَ أنه لم يَعْثُرْ له على تاريخِ وفاةٍ، وصوابُهُ: "الكِنَاني" بالنونِ، وفي كُتُبِ الرجالِ نَقْلٌ كثيرٌ لسؤالاتِهِ لأبي حاتمٍ الرازيِّ في الرجالِ والعِلَلِ؛ فالظاهرُ أنَّ الكتابَ مِنْ جَمْعِهِ وتصنيفِهِ، كما صنَعَ عبدُ الرحمنِ بنُ أبي حاتمٍ في "العِلَلِ" و"الجَرْحِ والتعديلِ"، وليسَ مِنْ تصنيفِ أبي حاتمٍ، وإلاَّ لاشتَهَرَ، ولَذَكَرَهُ ابنُهُ عبدُ الرحمنِ ونَقَلَ َمنه، واللهُ أعلمُ.
13) "العِلَلُ الكبيرُ" و"العِلَلُ الصغيرُ" كلاهما لأبي عيسى التِّرْمِذِيِّ محمدِ بنِ عيسى ابْنِ سَوْرَةَ (ت279هـ).
14) "العِلَلُ في الحديث" لأبي زُرْعة عبدالرحمن بن عمرو بن عبد الله النَّصْري (ت281هـ)(21).
15) "عِلَلُ حديثِ الزُّهْريِّ" لأبي بكرٍ أحمدَ بنِ عمرِو بنِ أبي عاصمٍ (ت287هـ) ؛ كذا سَمَّاه هو في بعضِ المواضعِ من كتابِه "الآحاد والمثاني"(22)، وسَمَّاه في موضعٍ آخَرَ: "عِلَلَ الحديثِ"(23)، وسَمَّاه في أكثرِ المواضعِ: "العِلَلَ"(24)، وهو كتابٌ واحدٌ فيما يَظْهَرُ؛ بدليلِ أنَّ أكثرَ المواضعِ يكونُ الحديثُ المذكورُ فيها مِنْ روايةِ الزُّهْريِّ، واللهُ أعلمُ.
16) "الْمُسْنَدُ الكبيرُ الْمُعَلَّلُ" لأبي بكرٍ أحمدَ بنِ عَمْرِو بنِ عبدِالخالقِ البَزَّارِ (ت292هـ)(25).
17) "العِلَلُ" لأبي عليٍّ الْبَلْخيِّ عبدِ اللهِ ابنِ محمَّدٍ (ت294هـ).
18) "العِلَلُ" لأبي إسحاقَ إبراهيمَ بنِ أبي طالبٍ النَّيْسَابُوريِّ (ت295هـ).
19) "مُسْنَدُ حديثِ الزُّهْرِيِّ بِعِلَلِهِ، والكلامُ عليه" تأليفُ أبي عبدِالرحمنِ أحمدَ بنِ شُعَيْبٍ النَّسَائيِّ (ت303هـ)(26).
20) "العِلَلُ" لزكريَّا بنِ يحيى السَّاجِيِّ (ت307هـ).
21) "الْمُسْنَدُ الْمُعَلَّلُ" لأبي العباسِ الوليدِ ابنِ أَبَانَ بنِ بُوْنَةَ الأَصْبَهَانيِّ (ت310هـ، وقيل: 308هـ)(27).
22) "العِلَلُ" للخَلاَّلِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ هارونَ (ت311هـ).
23) "عِلَلُ الأحاديثِ في صحيحِ مسلمٍ" لابنِ عَمَّارٍ الشَّهِيدِ محمدِ بنِ أبي الحُسَيْنِ الجَارُودِيِّ، أبي الفضلِ الهَرَوِيِّ (ت317هـ).
23/م) "العلل" لمحمد بن عمرو بن موسى العقيلي (ت322هـ)(28).
24) "العِلَلُ" لعبدِ الرحمنِ بنِ أبي حاتمٍ الرازيِّ (ت327هـ)، وهو كتابُنَا هذا.
25) "العِلَلُ" لأبي عليٍّ الحُسَيْنِ بنِ عليٍّ النَّيْسَابُوريِّ (ت349هـ).
26) مصنَّفاتُ ابنِ حِبَّانَ محمَّدِ بنِ حِبَّانَ أبي حاتمٍ البُسْتيِّ (ت354هـ) في العِلَلِ، وهي كثيرةٌ، وقد انتقى الخطيبُ البَغْدَاديُّ منها جُمْلَةً فذَكَرَهَا، مع أنه لم يَرَهَا ، وإنما اعتمَدَ على ذِكْرِ مسعودٍ السِّجْزيِّ لها؛ قال في "الجامع، لأخلاقِ الراوي وآدابِ السامع"(29): «ومِنَ الكُتُبِ التي تَكْثُرُ منافعُهَا- إنْ كانتْ على قَدْرِ ما تَرْجَمَهَا به واضعُهَا- مصنَّفاتُ أبي حاتمٍ محمدِ بنِ حِبَّانَ البُسْتيِّ التي ذَكَرَهَا لي مسعودُ ابنُ ناصرٍ السِّجْزِيُّ، وأوقَفَنِي على تَذْكِرَةٍ بِأَسَامِيهَا، ولم يُقَدَّرْ ليَ الوصولُ إلى النَّظَرِ فيها؛ لأنَّها غيرُ موجودةٍ بيننا، ولا معروفةٍ عندنا، وأنا أَذْكُرُ منها ما استحسنتُهُ، سوى ما عَدَلْتُ عنه واطَّرَحْتُهُ؛ فمِنْ ذلك:... كتابُ "عِلَلِ أوهامِ أصحابِ التواريخِ" عَشَرَةُ أجزاءٍ، كتابُ "عِلَلِ حديثِ الزُّهْرِيِّ" عشرون جُزْءًا، كتابُ "عِلَلِ حديثِ مالكِ بنِ أنسٍ" عَشَرَةُ أجزاءٍ، كتابُ "عِلَلِ مناقبِ أبي حَنِيفةَ ومَثَالبِهِ" عَشَرَةُ أجزاءٍ، كتابُ "عِلَلِ ما أَسْنَدَ أبو حنيفةُ" عَشَرةُ أجزاءٍ، كتابُ "ما خالَفَ الثَّوْرِيُّ شُعْبةَ" ثلاثةُ أجزاءٍ، كتابُ "ما خالَفَ شُعْبةُ الثَّوْرِيَّ" جزءان...».
قال الخطيبُ: «سألتُ مسعودَ بنَ ناصرٍ فقلتُ له: أَكُلُّ هذه الكُتُبِ موجودةٌ عِنْدَكُمْ ومقدورٌ عليها ببلادِكم؟ فقال: لا؛ إنما يُوجَدُ منها الشيءُ اليسير، والنَّزْرُ الحقير، قال: وقد كان أبو حاتمِ بنُ حِبَّانَ سَبَّلَ كُتُبَهُ ووَقَفَهَا وجَمَعَهَا في دارٍ رَسَمَهَا بها، فكان السَّبَبَ في ذَهَابِهَا- مع تطاولِ الزمانِ - ضَعْفُ أمرِ السلطانِ، واستيلاءُ ذوي العَبَثِ والفَسَادِ، على أهلِ تلك البِلاَدِ.
قال أبو بكر(30): مِثْلُ هذه الكُتُبِ الجليلةِ كان يَجِبُ أن يَكْثُرَ لها النَّسْخُ، ويَتنافَسَ فيها أهلُ العِلْمِ، ويَكْتبوها لأنفسِهِمْ، ويُخْلِدُوهَا أحرازَهُمْ، ولا أَحْسَبُ المانعَ مِنْ ذلك إلا قِلَّةَ معرفةِ أَهْلِ تلك البلادِ لِمَحَلِّ العِلْمِ وفضلِهِ، وزُهْدَهُمْ فيه، ورَغْبَتَهُمْ عنه، وعَدَمَ بصيرتِهِمْ به، واللهُ أعلمُ».اهـ.
27) "الْمُسْنَدُ الكبيرُ الْمُعَلَّلُ" لأبي عليٍّ النَّيْسَابوريِّ الحُسَيْنِ بنِ محمَّدٍ الماسَرْجِسيِّ (ت365هـ).
28) "العِلَلُ" لأبي الحُسَيْنِ محمدِ بنِ محمدِ بنِ يَعْقُوبَ النَّيْسَابوريِّ، الْمُقْرئ، الْحَجَّاجِيِّ (ت368هـ).
29) "العِلَلُ" لأبي أحمدَ الحاكمِ محمدِ ابنِ محمدِ بنِ إسحاقَ النَّيْسَابوريِّ (ت378هـ).
30) "العِلَلُ" لأبي الْحَسَنِ عليِّ بنِ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيِّ (ت385هـ).
31) "الأجوبةُ" لأبي مسعودٍ الدِّمَشْقِيِّ إبراهيمَ بنِ محمدِ بنِ عُبَيْدٍ (ت401هـ).
32) "العِلَلُ" لأبي عبدِ اللهِ الحاكمِ محمدِ ابنِ عبدِ اللهِ النيسابوريِّ (ت405هـ).
33) "الفَصْلُ لِلوَصْل، الْمُدْرَجِ في النَّقْل"، و"تمييزُ الْمَزِيدِ في مُتَّصِلِ الأسانيدِ" كلاهما للخطيبِ البغداديِّ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ ثابتٍ (ت463هـ).
التعريف بكتاب العلل لابن أبي حاتم وبيان منهجه:
هو مرتب على الأبواب الفقهية ، وعدد أحاديثه (2840) وهو عبارة عن أسئلة طرحها عليه ولدُه عبد الرحمن فأجابه عليها ، وفيه بعض الأسئلة موجهة لأبي زرعة الرازي .
وهذه الأحاديث المذكورة في كتابه تعتبر معلولةً حسب علمه ومعرفته .
وأبو حاتم من المتشددين في الجرح والتعديل ، وقد ذكر فيها بعض الصحيح الذي ذكره الأئمة الكبار.
وهو يتكلم على أسانيد كل حديث جرحاً وتعديلاً وقد يكون فيها علة في السند ، ولكنها غير قادحة في المتن فيبقى الحديث صحيحاً ، أو لا تقتضي تلك العلة ضعفه
كما في الأحاديث التالية :
1- سأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مِحْجَلٍ أَوْ مِحْجَنٍ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِنَّ الصَّعِيدَ كَافِيكَ وَلَوْ لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سَنِينَ ، فَإِذَا أَصَبْتَ الْمَاءَ فَأَصِبْهُ بَشَرَتَكَ
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هَذَا خَطَأٌ ، أَخْطَأَ فِيهِ قَبِيصَةُ ، إِنَّمَا هُوَ أَبُو قِلابَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
2- وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ ، عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ شُعْبَةُ ، وَالأَعْمَشُ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ ذَرٍّ ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ رَجُلا أَتَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إِنِّي أَجْنَبْتُ وَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ فذكر عمّار عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي التيمم
وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ ، عَن سلمة بْن كهيل ، عَنْ أَبِي مالك ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبزى ، قَالَ : كنتُ عِنْد عُمَر إِذْ جاءه رَجُلٌ
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : حديث شُعْبَة أشبه
قُلْتُ لأَبِي زُرْعَةَ : ما اسم أَبِي مالك ؟
قَالَ : لا يُسمى ، وَهُوَ الغفاري
3- سَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ ، عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ أبو بكر بن أبي شَيْبة ، عن أبي داود ، عن مُحمد بن الجعد ، عن قتادة ، عن ابن سيرين وصالح أبي الخليل أَنهما قالا في التيمم الوجه والكفين
قَالَ أبو زُرْعَةَ هكذا قال ، وإنما هو : حماد بن الجعد
قلت : فالوهم من ابن أبي شَيْبة ؟
قال أبو زُرْعَةَ : حدثنا بحديث في كتاب الفرائض ، عن أبي دواد ، فقال : حماد ابن الجعد ، وقال في كتاب الوضوء : محمد بن الجعد ، فيُحتمل أن يكون اسمه محمد وحماد جميعًا.
4- وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ ، عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ سَلَمَةَ وَالْحَكَمِ ، عَنْ ذَرٍّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّيَمُّمِ
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هَذَا خَطَأٌ ، وَإنَّمَا الصَّحِيحُ سَلَمَةُ ، وَالْحَكَمُ ، عَنْ ذَرٍّ ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى ، عَنْ عَمَّارٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
5- وَسَأَلْتُ أَبَا زُرْعَةَ ، عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هَذَا خَطَأٌ ، إِنَّمَا هُوَ قَتَادَةُ ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
انظر الأحاديث رقم (6) و(7) و(23) و(48) ..
وهناك أحاديث ضعفها أو استنكرها وهي صحيحة أو حسنة مثل الحديث 53- وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ(31)، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَانْقُوا الْبَشَرَ .
قَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، وَالْحَارِثُ : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ اهـ
__________
(1) - (3/311).
(2) - (1/30-37).
(3) - (1/47-56).
(4) - (1/38-44).
(5) - (ص128-140).
(6) - (1/68-89).
(7) - وقد طبعت هذه القطعة بتحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، وعن هذه الطبعة طُبِعَ الكتاب طبعات أخرى.
(8) - في "معرفة علوم الحديث" (ص71).
(9) - يعني: أنه من رواية إسماعيل القاضي، عنه.
(10) - وقد ذَكَرَهُ السخاويُّ في الموضع السابق من "فتح المغيث" باسم: "العِلَلُ عن ابنِ عُيَيْنة، روايةُ ابنِ المَدِينِيّ عنه"؛ وبناءً عليه ذكر الدكتور محفوظ زين الله _ح في مقدِّمة تحقيقه لـ"عِلَلِ الدَّارَقُطْني" (1/47) أنَّ سفيان بن عيينة أوَّلُ من صنَّف في العِلَلِ، وتابعه على ذلك الأستاذ إبراهيم بن الصِّدَّيق في كتابه السابق الذِّكْر. وقد نبَّه على هذا الوَهَمِ ومَنْشَئِهِ الدكتور علي الصَّيَّاح في "جهود المحدِّثين" (ص180).
(11) - في "تاريخ بغداد" (6/280).
(12) - انظر: "تاريخ بغداد" (2/131).
(13) - وقد طبع بتحقيق د. وَصِيّ الله عباس.
(14) - وقد طبعت هذه الروايات مجموعةً بتحقيق د. وَصِيّ الله عباس أيضًا.
(15) - طبعت هذه القطعة بتحقيق الأخ طارق بن عوض الله.
(16) - في "كشف الظنون" (2/1159-1160).
(17) - في "جزء فيه تسميةُ ما وَرَدَ به الشيخُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ عليِّ بنِ ثابتٍ الخطيبُ البغداديُّ دِمَشْقَ". انظر "الحافظ الخطيب وأثره في علوم الحديث" للدكتور محمود الطحان (ص291 رقم 215).
(18) - نقل منه ابن الموَّاق في "بغية النُّقَّاد" (2/189).
(19) - في "توضيح المشتبه" (1/225)، و(5/285)، و(7/174).
(20) - في "تذكرة الحفاظ" (3/785 رقم 777).
(21) - انظر "كشف الظنون" (1/584)، و(2/1440).
(22) - (5/429).
(23) - (1/240).
(24) - (1/238 و317)، و(4/342)، و(6/17).
(25) - انظر: "تاريخ بغداد" (4/334).
(26) - ذكره ابن خَيْر الإِشْبِيلي في "فهرسته" (ص122)، وساق سنده إليه.
(27) - ذكره إسماعيل باشا في "إيضاح المكنون" (4/483)، و"هَدِيَّة العارفين" (6/500)، وذَكَرَ أبو الشيخ الأصبهاني في "طبقات المحدِّثين" (4/217) أنه صنَّف "المسنَدَ"، ولم يَذْكُرِ " المُسْنَدَ المعلَّل".
(28) - قال العقيلي في "الضعفاء" (4/351): «وفيه اختلاف واضطراب سنأتيه على تمامه في "كتاب العلل" إن شاء الله».
(29) - (2/467-471).
(30) - أي: الخطيب البغدادي.
(31) - الجُنُب : الذي يجب عليه الغُسْل بالجِماع وخُروجِ المّنيّ، والجنَابة الاسْم، وهي في الأصل : البُعْد. وسُمّي الإنسان جُنُبا لأنه نُهِيَ أن يَقْرَب مواضع الصلاة ما لم يَتَطَهَّر. وقيل لمُجَانَبَتِه الناسَ حتى يَغْتَسل(1/202)
قلت : قد ورد موصولا وموقوفا ومرسلا ، وهذا ما يقوي أمره(1)
والحديث رقم (70) وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ إِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْمَوَالِي ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ
فَقَالَ أَبِي : حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو زُرْعَةَ ، عَنِ الْفَرَوِيِّ .
فَقَالَ أَبِي : لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ ، حَدَّثَنَا بِهِ حَرْمَلَةُ ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْمَوَالِي ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلٌ
قَالَ أَبِي : وَالْمُرْسَلُ أَشْبَهُ . اهـ
قلت : ومع ذلك فهذا المتن موصول من طرق منها عن أبي هريرة كما في
صحيح البخارى (887 )
وعن رجل كما في مسند أحمد (24201) وغيرهما وهو حديث صحيح مشهور
فإعلاله بالإرسال لم يؤثر على المتن بشيء ، بل هذا يرجح الموصول حتى المرسل حتى في هذه الرواية .
والحديث رقم (79) وَسَمِعْتُ أَبِي ، وَحَدَّثَنَا : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيلِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ حَسَنٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ، ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ داءً ، وَفِي الآخِرِ دَوَاءً
فَقَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيثٌ مُضْطَرِبُ الإِسْنَادِ
قلت : بل هو صحيح موصول غير مضطرب
ففي المسند الجامع - (ج 17 / ص 838)(13823) عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ ، مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ، ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً ، وَفِي الآخَرِ دَاءً." .
ـ وفي رواية : إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ، ثُمَّ لْيَنْزَعْهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً ، وَفِي الآخَرِ شِفَاءً." .
ـ وفي رواية : إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ، ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً ، وَفِي الآخَرِ دَاءً." .
أخرجه أحمد 2/398(9157) قال : حدَّثنا سليمان ، حدَّثنا إسماعيل . و"الدارِمِي" 2038 قال : أخبرنا عبد الله بن مسلمة ، حدَّثنا سليمان بن بلال . و"البُخاري" 3320 قال : حدَّثنا خالد بن مخلد ، حدَّثنا سليمان بن بلال . وفي (5782) قال : حدَّثنا قتيبة ، حدَّثنا إسماعيل بن جعفر . و"ابن ماجة" 3505 قال : حدَّثنا سويد بن سعيد ، حدَّثنا مسلم بن خالد.
ثلاثتهم (إسماعيل بن جعفر ، وسليمان بن بلال ، ومسلم بن خالد) عن عتبة بن مسلم ، مولى بني تَمِيم ، عن عبيد بن حنين ، فذكره .
وفي مسند البزار (8783) حَدَّثنا مُحَمد بن الليث فيما أعلم ، قال : حَدَّثنا خالد بن مخلد ، قال : حَدَّثنا سليمان بن بلال عن عتبة بن مسلم عن عُبَيد بن حنين أنه أخبره أنه سمع أبا هُرَيرة يقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء.
وهذا الكلام قد روي عَن أبي هُرَيرة من غير وجه وروي ، عَن أبي سَعِيد ، وعَن أَنَس.
قلت : ربما يعني رواية إسماعيل بن عياش فقط ، لأن إسماعيل بن جعفر ، وسليمان بن بلال ، ومسلم بن خالد قد رووه عن عتبة بن مسلم ، مولى بني تَمِيم ، عن عبيد بن حنين . والرواية التي ذكرها أبو حاتم فيها جهالة شيخ إسماعيل بن عياش وشيخ شيخه كذلك
والحديث رقم(80) - وَسَأَلْتُ أَبِي ، وَأَبَا زُرْعَةَ ، عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ ابْنُ شُرَحْبِيلَ ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَاجْتَهَدَ ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ
قَالَ أَبِي : هَذَا عِنْدِي خَطَأٌ ، إِنَّمَا هُوَ أَشْعَثُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
قُلْتُ لأَبِي : مِمَّنِ الْخَطَأُ ؟
قَالَ : مِنْ أَحَدِهِمَا ، إِمَّا مِنَ ابْنِ شُرَحْبِيلَ ، وَإِمَّا مِنْ عِيسَى
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : لا أَحْفَظُ مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ إِلا هَكَذَا
قُلْتُ : فَيُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ خَطَأً ؟
قَالَ : لا ، رَوَى قَتَادَةُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَرَوَاهُ يُوسُفُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .اهـ
قلت : أخرجه الجماعة من طريق (قتادة ، ومطر) عن الحسن ، عن أبي رافع ، َعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ موصولا وهو الصواب انظر الروايات في المسند الجامع - (ج 16 / ص 1002) (12790)
والحديث رقم (88) - وَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ هِلالِ بْنِ عِيَاضٍ ، وَيُقَالُ أَيْضًا عَنْ عِيَاضِ بْنِ هِلالٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ نَهَى الْمُتَغَوِّطَيْنِ أَنْ يَتَحَدَّثَا
وَرَوَاهُ الأَوْزَاعِيُّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، مُرْسَلا
قَالَ أَبِي : الصَّحِيحُ هَذَا ، يَعْنِي : حَدِيثَ الأَوْزَاعِيِّ ، وَحَدِيثُ عِكْرِمَةَ وَهْمٌ . اهـ
قلت : قد رواه عن عكرمة موصولا عَبْد الرَّحْمن بن مَهْدِي ، وعَبْد اللهِ بن رَجَاء وسَلْم بن إبراهيم ، يَعْنِي الوَرَّاق وسُفْيان الثَّوْرِي و إِسْمَاعِيلُ بْنُ سِنَانٍ، فهؤلاء أعلم من غيرهم ، والصواب وصله لا إرساله(2)
وفي الكنى والأسماء للدولابي(150 ) حدثنا إبراهيم بن هانئ أبو إسحاق النيسابوري ببغداد قال : ، ثنا محمد بن يزيد بن سنان قال : أنا يزيد عن يحيى بن أبي كثير قال : أخبرني خلاد أنه سمع أباه يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا خرج أحدكم يتغوط أو يبول فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ، ولا يستقبل الريح ، وليتمسح ثلاث مرات ، وإذا خرج الرجلان جميعا فليتفرقا ، ولا يجلس أحدهما قريبا من صاحبه ، ولا يتحدثان ؛ فإن الله يمقت على ذلك » وفيه ضعف .
فالحديث عندي صحيح لغيره رغم إعلاله باضطراب عكرمة بن عمار .
والكتاب مطبوع من غير تحقيق ، ويحتاج لتحقيق وتخريج لأحاديثه كلها
--------------------
علل الدارقطني :
وهو مرتب على الأبواب الفقهية ، وهو أفضل وأوسع كتب العلل على الاطلاق ،
مثالين :
س (1) سئل الشيخ أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الحافظ عن حديث عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ، حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ ، قَالَ عُمَرُ : فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ ، فَقُلْتُ : إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ ، قَالَ : سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ، فَقَالَ : قَدْ بَدَا لِي أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا ، قَالَ عُمَرُ : فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ ، فَقُلْتُ : إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ ، فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ، فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ " خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ " فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ ، إِلَّا أَنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَقَبِلْتُهَا "(3)
فقال يرويه الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ:تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ مِنْ خُنَيْسِ بن حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَعَرَضْتُهَا، فَسَكَتَ عَنِّي، فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا دَخَلَنِي، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قُلْتُ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ ذَكَرَهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَكَتُّ"
وهو حديث صحيح من حديث الزهري رواه عنه جماعة من الثقات الحفاظ فاتفقوا على إسناده منهم شعيب بن أبي حمزة وصالح بن كيسان ويونس وعقيل ومحمد بن أخي الزهري وسفيان بن حسين والوليد بن محمد المؤقري وعبيد الله بن أبي زياد الرصافي وغيرهم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضى الله عنه حَدَّثَنَا قَالَ يَعْنِى تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ - قَالَ عُمَرُ فَأَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ قَالَ قُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. قَالَ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى فَقَالَ قَدْ بَدَا لِى أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا. قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضى الله عنه فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ. فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلاَّ أَنِّى قَدْ كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا وَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبِلْتُهَا..
ورواه معمر بن راشد عن الزهري بهذا الاسناد فجوده وأسنده مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَيْفَةَ أَوْ حُذَافَةَ - شَكَّ عَبْدُ الرَّزَّاقِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. قَالَ سَأَنْظُرُ فِى ذَلِكَ. فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ فَلَقِيَنِى فَقَالَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا. قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ ابْنَةَ عُمَرَ. فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئاً فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ فَخَطَبَهَا إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئاً قَالَ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئاً حِينَ عَرَضْتَهَا عَلَىَّ إِلاَّ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهَا وَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا.
وهو حديث صحيح عن الزهري أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معمر ومن حديث صالح بن كيسان وشعيب عن الزهري إلا أن معمرا قال فيما حكى عنه هشام بن يوسف قال فيه حبيش بن حذافة صحف فيه وأما عبد الرزاق فقال عن معمر خنيس بن حذافة أو حذيفة والصحيح أنه خنيس بن حذافة بن قيس السهمي أخو عبد الله بن حذافة الذي استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كان ينادي في أيام منى حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها أيام أكل وشرب وهو الذي قال من أبي يا رسول الله قال أبوك حذافة(4)حدثنا إبراهيم بن حماد قال ثنا أحمد بن منصور بن سيار ثنا عبد الرزاق ،
وحدثنا القاضي أحمد بن إسحاق بن بهلول قال ثنا زهير بن محمد قال أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسٍ - يَعْنِى ابْنَ حُذَافَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ. فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِى ذَلِكَ. فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ فَلَقِيتُهُ فَقَالَ مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا. قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضى الله عنه فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا فَكُنْتُ عَلَيْهِ أَوْجَدَ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ فَخَطَبَهَا إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا. قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا إِلاَّ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهَا وَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا.
وحدثنا إبراهيم بن حماد قال ثنا أحمد بن منصور قال ثنا أصبغ أخبرني بن وهب أخبرني يونس عن بن شهاب أن سالم بن عبد الله كان يحدث أن عمر حين تأيمت حفصة ثم ذكر نحو حديث معمر قال الرمادي ولم يذكر ابن عمر.
حدثنا علي بن سالم ثنا إبراهيم بن هاني ثنا سويد بن سعيد ثنا الوليد بن محمد عن الزهري عن سالم أنه سمع أباه يحدث أن عمر قال إن حفصة كان طلقها بن حذيفة قال عمر فلقيت عثمان ثم ذكر الحديث
حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار قال ثنا عباس بن محمد بن حاتم ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن صالح وحدثنا إبراهيم بن حماد قال ثنا أبو الفضل عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهري ثنا عمي حدثنا أبي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِىِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتُوُفِّىَ بِالْمَدِينَةِ - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِى أَمْرِى . فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ لَقِيَنِى فَقَالَ قَدْ بَدَا لِى أَنْ لاَ أَتَزَوَّجَ يَوْمِى هَذَا . قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ . فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىَّ شَيْئًا ، وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّى عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْتُ لَيَالِىَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَىَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَىَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا . قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِى أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَىَّ إِلاَّ أَنِّى كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبِلْتُهَا .(5)
(2) وسئل عن حديث موطأ مالك (1825 ) وَحَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِى الْمَوَارِدَ.
فقال رواه زيد بن أسلم عن أبيه .واختلف عن زيد بن أسلم فرواه الدراوردي عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه أَنَّ عُمَرَ اطَّلَعَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ فَقَالَ : مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! فَقَالَ : إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ إِلَّا يَشْكُو ذَرَبَ اللِّسَانِ " .
قال ذلك عبد الصمد بن عبد الوارث عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن أبيه ووهم فيه على الدراوردي ، والصواب عنه عَن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : دَخَلَ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ آخِذٌ بِلِسَانِهِ هَكَذَا ، يَقُولُ : هَا إنَّ ذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ. وقال عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عُمَرَ ، اطَّلَعَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ ، فَقَالَ : مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْجَسَدِ إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو ذَرْبَ اللِّسَانِ " وَقَالَ ابْنُ إِشْكَابَ : " إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اللِّسَانَ عَلَى حِدَّتِهِ " ورواه هشام بن سعد ومحمد بن عجلان وغيرهما عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ آخِذٌ بِلِسَانِهِ وَهُوَ يَقُولُ : هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ، نحو قول الدراوردي ولم يذكر المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ولا مسندا .
ورواه سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي بكر لم يذكر فيه عمر وقال فيه إن أسلم قال رأيت أبا بكر ويقال إن هذا وهم من الثوري.
ورواه سعير بن الخمس عن زيد بن أسلم مرسلا عن عمر عن أبي بكر لم يقل فيه عن أسلم .
والصحيح من ذلك ما قاله بن عجلان وهشام بن سعد ومن تابعهما.
وروى هذا الحديث بن وهب عن هشام بن سعد وداود بن قيس ويحيى بن عبد الله بن سالم وعبد الله بن عمر العمري عن زيد بن أسلم فأرسله عنهم عن عمر فلم يذكر فيه أسلم .
وروى هذا الحديث عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر ولا علة له تفرد به النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص عن إسماعيل بن أبي خالد عنه .
وثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا عبد الرحمن بن أبي البختري الطائي وحدثنا أبو العباس المارستاني عبد الله بن أحمد بن إبراهيم قال ثنا موسى بن محمد بن حيان البصري ببغداد قال ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال ثنا الدراوردي بذلك وحدثنا صوابه أبو محمد بن صاعد قال ثنا عبد الله بن عمران العابدي قال ثنا الدراوردي اهـ
فنلاحظ استقصاء للروايات والطرق بشكل منقطع النظير
والكتاب بحاجة لتحقيق ، وتخريج أحاديثه .
قلت : ليس بالضرورة أن يكون الحديث الذي أورده هؤلاء العلماء في كتبهم أن يكون معلولا أو غير صحيح ، فهناك انفكاك بين المسألتين .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر مصنف عبد الرزاق (1002) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 1 / ص 100)(1071 -1074) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 4 / ص 211)(3891) وتهذيب الآثار للطبري (1696 و1697) والتلخيص الحبير 1/142
(2) - انظرها في المسند الجامع - (ج 6 / ص 313)(4199)
(3) - البخاري (4005 )
(4) - عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ مَنْ أَبِى فَقَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ » . ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ « سَلُونِى » . فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نَبِيًّا ، فَسَكَتَ . صحيح البخارى (93 )
(5) - صحيح البخارى (5122 )(1/203)
المخالفةُ للِثقاتِ(1)
إذا كان سبب الطعن في الراوي مخالفته للثقات ـ وهو السبب السابع ـ فينتج عن مخالفته للثقات خمسة أنواع من علوم الحديث ، وهي : " المُدْرَج ، والمَقْلوب ، والمَزِيْد في متصل الأسانيد والمُضطَّرِب والمُصَحَّف "
فإن كانت المخالفة بتغيير سياق الإسناد أو بدمج موقوف بمرفوع فيسمَّى " المدْرَج".
وإن كانت المخالفة بتقديم أو تأخير فيسمَّى " المقلوب ".
وإن كانت المخالفة بزيادة راوٍ فيسمَّى " المزيد في متصل الأسانيد "
وإن كانت المخالفة بإبدال راو براو أو بحصول التدافع في المتن ولا مُرَجِّح فيسمَّى "المضْطَّرب "
وإن كانت المخالفة بتغيير اللفظ مع بقاء السياق فيسمَّى " المصَحَّف "(2)
وإليك تفصيل البحث فيها على التوالي :
المدْرَجُ(3)
1- تعريفُه:
أ) لغة : اسم مفعول من " أدرجت " الشيء في الشيء ، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه
ب) اصطلاحاً: ما غير سياق إسناده، أو أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل.
2- أقسامُه:
المدرجُ قسمان، مُدْرَجُ الإسناد، ومٌدْرَجُ المتن.
مدرجُ الإسناد.
تعريفه:هو ما غير سياق إسناده.
من صوره : أن يسوق الراوي الإسناد ، فيعرض له عارض ، فيقول كلاماً من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد ، فيرويه عنه كذلك .
مثاله : ما رواه ثَابِتُ بْنُ مُوسَى أَبُو يَزِيدَ عَنْ شَرِيكٍ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ ».(4).
وأصل القصة أن ثابت بن موسى دخل على شريك بن عبدالله القاضي وهو يُمْلِي ويقول : " حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... " وسكت ليكتب المُسْتَمْلِي(5)، فلما نظر إلى ثابت قال : « مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ » وقصد بذلك ثابتاً لزهده وورعه، فظنَّ ثابتٌ أنه متن ذلك الإسناد ، فكان يحدث به .
مدرجُ المتن :
تعريفه: ما أُدْخِلَ في متنه ما ليس منه بلا فَصْل.
أقسامه: ثلاثة وهي:
أن يكون الإدراج في أول الحديث، وهو القليل، لكنه أكثر من وقوعه في وسطه
أن يكون الإدراج في وسط الحديث، وهو أقل من الأول.
أن يكون الإدراج في آخر الحديث ، وهو الغالب .
3- أمثلةٌ له :
أ) مثال لوقوع الإدراج في أول الحديث :
فأمَّا مُدْرج المتن, فتارة يَكُون في آخر الحديث كما ذكرهُ, وتارة في أوَّله, وتارة في وسطه, كما ذكرهُ الخَطِيب وغيره.
والغالب وقُوع الإدْراج آخر الخبر, ووقُوعه أوَّله أكثر من وسطه, لأنَّ الرَّاوي يقول كلامًا يُريد أن يَسْتدل عليه بالحديث, فيأتي به بلا فصل, فيُتوهَّم أن الكُل حديث.
مثال الأول: ما رواه الخطيب(6)من رواية أبي قَطَن وشَبَابة, فرَّقهما عن شعبة, عن محمَّد بن زياد, عن أبي هُرَيْرة قال: قال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - «أسبغُوا الوضُوء, ويلٌ للأعْقَاب من النَّار».
فقوله: أسبغُوا الوضُوء, مُدْرج من قول أبي هُرَيْرة, كما في صحيح البخارى (165 ) حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ - وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ - قَالَ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ».
قال الخطيب(7): وهِمَ أبو قَطَن وشَبَابة في رِوَايتهما له عن شُعبة على ما سُقْناهُ, وقد رواهُ الجم الغَفِير عنه كرواية آدم.
قلت : وقد ورد مرفوعا من طرق أخرى عن غيره كما في في مسند أبي عوانة (476 )حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ هِلالَ بْنَ يِسَافٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَتَى عَلَى قَوْمٍ يَتَوَضَّئُونَ وَكَانَ فِي سَفَرٍ، فَقَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَوْ وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ، قَالَ شُعْبَةُ أَحَدَهُمَا .
وفي صحيح مسلم(593 ) وَحَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ هِلاَلِ بْنِ يِسَافٍ عَنْ أَبِى يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ فَتَوَضَّئُوا وَهُمْ عِجَالٌ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ".
وفي مسند أحمد (14479) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِىِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ غَزَوْنَا أَوْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةَ عَشَرَ وَمِائَتَيْنِ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَلْ فِى الْقَوْمِ مِنْ مَاءٍ ». فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى بِإِدَاوَةٍ فِيهَا شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ. قَالَ فَصَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى قَدَحٍ. قَالَ فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَ الْقَدَحَ فَرَكِبَ النَّاسُ الْقَدَحَ يَمْسَحُوا وَيَمْسَحُوا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى رِسْلِكُمْ ». حِينَ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ. قَالَ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَفَّهُ فِى الْمَاءِ وَالْقَدَحِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ للَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « بِسْمِ اللَّهِ ». ثُمَّ قَالَ « أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ». فَوَالَّذِى هُوَ أَبْلاَنِى بِبَصَرِى لَقَدْ رَأَيْتُ الْعُيُونَ عُيُونَ الْمَاءِ يَوْمَئِذٍ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَوَضَّئُوا أَجْمَعُونَ. ( وهو حديث صحيح )(8)
فالحديث رغم إعلاله صحيح مرفوع ، ولكن من غير طريق أبي هريرة رضي الله عنه .
ومِثَالُ المُدْرج في الوسط, والسَّبب فيه, إمَّا اسْتنباط الرَّاوي حُكمًا من الحديث قبل أن يتم فيُدْرجه, أو تفسير بعض الألفاظ الغريبة, ونحو ذلك.
فمن الأوَّل ما رواه الدَّارقُطْني في «السنن» (546) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَكِيلُ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رُفْغَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ ».
قال : كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامٍ وَوَهِمَ فِى ذِكْرِ الأُنْثَيَيْنِ وَالرُّفْغِ وَإِدْرَاجِهِ ذَلِكَ فِى حَدِيثِ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ غَيْرِ مَرْفُوعٍ كَذَلِكَ رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ هِشَامٍ مِنْهُمْ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِىُّ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا .
547 - حَدَّثَنَا بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِىُّ ح وَحَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ السَّرَّاجُ قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْعَثِ قَالاَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ». قَالَ وَكَانَ عُرْوَةُ يَقُولُ إِذَا مَسَّ رُفْغَيْهِ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ. وَاللَّفْظُ لأَبِى الأَشْعَثِ. صَحِيحٌ .
فعروة لمَّا فهم من لفظ الخبر أنَّ سبب نَقْض الوضُوء مظنَّة الشَّهوة, جعل حُكم ما قَرُب من الذَّكر كذلك, فقال ذلك, فظنَّ بعض الرُّواة أنَّه من صُلْب الخبر, فنقلهُ مُدْرجًا فيه, وفهِمَ الآخرون حقيقة الحال ففصلوا.
قال العراقي(9):
" لم ينفردْ به عبدُ الحميدِ . فقد رواه الطَّبرانيُّ في "المعجمِ الكبيرِ"(10)من روايةِ أبي كاملٍ الجَحْدريِّ ، ثنا يَزِيدُ بن زُرَيْعٍ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بُسْرَةَ بنتِ صَفْوَانَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رُفْغَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ". .
وعلى هذا فقدِ اختُلِفَ فيه على يزيدَ بنِ زُريعٍ . ورواهُ الدارقطنيُّ أيضاً (549 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى الرِّجَالِ حَدَّثَنَا أَبُو حُمَيْدٍ الْمِصِّيصِىُّ قَالَ سَمِعْتُ حَجَّاجًا يَقُولُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَرْوَانَ عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ وَقَدْ كَانَتْ صَحِبَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ أَوْ أُنْثَيَيْهِ فَلاَ يُصَلِّى حَتَّى يَتَوَضَّأَ ». ، ولم يذكرِ : الرُّفْغَ ، وزادَ في السندِ مروانَ بنَ الحكمِ .
وقد ضعّفَ ابنُ دقيقِ العيدِ الطريقَ إلى الحُكْمِ بالإدراجِ في نحو هذا . فقالَ في " الاقتراح " وممّا يَضعُفُ فيه أنْ يكونَ مُدرجاً في أثناءِ لفظِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - ، لاسيما إنْ كان مُقدَّماً على اللفظِ المرويِّ ، أو معطوفاً عليه بواوِ العطفِ ، كما لو قال مَنْ مسَّ أنثييهِ أو ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأْ ، بتقديمِ لفظِ الأنثييْنِ على الذَّكَرِ فهاهنا يضعفُ الإدراجُ لما فيه من اتصالِ هذهِ اللفظةِ بالعاملِ الذي هو من لفظِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - . قلتُ : ولا يعرفُ في طُرُقِ الحديثِ تقديمُ الأُنثيين على الذَّكَرِ ، وإنّما ذكرَهُ الشيخُ " اهـ
ب) مثال لوقوع الإدراج في وسط الحديث :
ومن الثاني كما في صحيح البخارى(3 ) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِىَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ.....(11)
فقوله: وهو التعبُّد, مُدْرج من قَوْل الزُّهْري.
وحديث فَضَالة كما في سنن النسائى (3146) قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو هَانِئٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « أَنَا زَعِيمٌ - وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ - لِمَنْ آمَنَ بِى وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ(12)وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ وَأَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِى وَأَسْلَمَ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا وَلاَ مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ »..
فقوله: والزَّعيم الحَميل مُدْرج من تفسير ابن وهب,
قال أبو حاتم(13): الزعيم لغة أهل المدينة، والحميل لغة أهل مصر، والكفيل لغة أهل العراق، ويشبه أن تكون هذه اللفظة الزعيم: الحميل من قول ابن وهب أدرج في الخبر.
وأمثلة ذلك كثيرة.
قال ابن دقيق العيد(14): والطَّريق إلى الحُكم بالإدراج في الأوَّل أو الأثناء صعب, لا سيمَا إن كان مُقدَّما على اللَّفظ المَرْوي, أو مَعْطُوفًا عليه بواو العطف.
والثَّاني: أن يَكُون عندهُ مَتْنان مُختلفان بإسْنَادين مختلفين فيرويهما بأحدهما أو يروي أحدهما بإسناده الخاص به, ويزيد فيه من المَتْن الآخر ما ليسَ في الأوَّل, ومنهُ أن يَسْمع الحديث من شيخه, إلاَّ طرفًا منهُ, فإنَّه عندهُ بإسْنَاد آخر, فيرويه تامًّا بالإسْناد الأوَّل.
ومنهُ أن يَسْمع الحديث من شَيْخهِ, إلاَّ طَرَفًا منهُ, فيسمعهُ بواسطة عنه فيرويهُ تامًّا بحذفِ الواسطة.
وابن الصَّلاح(15)ذكر هذين القِسْمين دُون ما ذكرهُ المُصنِّف, وكأنَّ المُصنِّف رأى دُخُولهما فيمَا ذكرهُ.
مثالُ ذلك حديث رواهُ سعيد بن أبي مريم, عن مالك(16), عن الزُّهْري, عن أنس أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَبَاغضُوا, ولا تَحَاسَدُوا, ولا تَدَابرُوا, ولا تَنَافَسُوا...» الحديث.
فقوله: ولا تنافَسُوا, مُدْرج, أدرجهُ ابن أبي مريم من حديث آخر لمالك, عن أبي الزِّناد, عن الأعرج, عن أبي هُرَيْرة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - : « إيَّاكم والظَّن, فإنَّ الظَّن أكْذَب الحديث, ولا تَجَسَّسوا, ولا تنافَسُوا, ولا تحاسَدُوا ».
وكِلاَ الحديثين مُتَّفق عليه من طريق مالك, وليسَ في الأوَّل: ولا تنافَسُوا, وهي في الثاني, وهكذا الحديثان عند رُواة الموطأ.(17)
قال الخطيب(18): وهِمَ فيها ابن أبي مَرْيم, عن مالك عن ابن شِهَاب, وإنَّما يَرْويها مالك في حديثه عن أبي الزِّناد.
وروى أبو داود من رِوَاية زائدة وشَريك فرَّقهما, والنَّسائي من رواية سُفيان بن عُيَينة, كلهم عن عاصم بن كُلَيب, عن أبيه, عن وائل بن حُجْر, في صِفَة صَلاةِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - , قال فيه: ثمَّ جئتهم بعد ذلك في زمَانٍ فيه برد شديد, فرأيتُ النَّاس عليهم جل الثِّياب تحرك أيديهم تحت الثِّياب.(19)
فقوله: ثُمَّ جئتهم, إلى آخره ليسَ هو بهذا الإسْنَاد, وإنَّما أُدْرج عليه, وهو من رِوَاية عَاصم, عن عبد الجبَّار بن وائل, عن بعض أهْلهِ, عن وائل.
وهكذا رواهُ مُبينًا: زُهَير بن مُعَاوية, وأبو بَدْر شُجَاع بن الوليد(20), فمَيَّزا قِصَّة تحريك الأيْدي وفَصَلاها من الحديث, وذكرا إسْنَادها.
قال مُوسَى بن هارون الحَمَّال: وهُمَا أثبت مِمَّن روى رَفْع الأيدي تحت الثِّياب عن عاصم, عن أبيه, عن وائل.
الثَّالث أن يَسْمع حديثًا من جماعة مُختلفين في إسْنَاده, أو متنه, فيَرويه عنهم باتِّفاق ولا يُبين ما اختُلفَ فيه.
ولفظة المَتْن مزيدة هُنَا, كأنَّه أرادَ بها ما تقدَّم, من أن يَكُون المتن عندهُ بإسْناد, إلاَّ طرفًا منه, وقد تقدَّم مثاله.
ومثال اخْتلاف السَّند كما في سنن الترمذى (3482 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِىٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ». قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ». قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « أَنْ تَزْنِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ ». قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ..
فرِوَاية واصل هذه مُدْرجة على رِوَاية منصُور والأعْمش, لأنَّ واصلاً لا يَذْكُر فيه عَمْرًا, بل يجعلهُ عن أبي وائل, عن عبد الله, هكذا رواهُ شُعبة ومهدي بن ميمُون ومالك بن مِغْوَل وسعيد بن مَسْرُوق, عن واصل, كما ذكرهُ الخطيب(21).
وقد بَيَّن الإسْنادين معًا يحيى بن سعيد القَطَّان في رِوَايته عن سُفيان, وفصلَ أحدهما من الآخر, رواهُ البُخَاري في «صحيحه» (4761 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِى مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ أَبِى مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ وَحَدَّثَنِى وَاصِلٌ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ سَأَلْتُ - أَوْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - أَىُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ » . قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ « ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ . قُلْتُ ثُمَّ أَىٌّ قَالَ « أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ » . قَالَ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ( وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) ..
قال عَمرو بن علي: فذكرتهُ لعبد الرَّحمن, وكان حدَّثنا عن سُفيان, عن الأعمش ومنصُور وواصل, عن أبي وائل, عن عَمْرو, فقال: دعهُ.
قال العِرَاقي(22): لكن رواه النَّسائي (4030 ) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ قَالَ « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ». قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ». قُلْتُ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « أَنْ تُزَانِىَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ ».
فزاد في السَّند عَمْرًا من غير ذكر أحد, وكأنَّ ابن مَهْدي لمَّا حَدَّث به عن سُفيان عن منصور والأعمش وواصل بإسْناد واحد, ظنَّ الرُّواة عن ابن مَهْدي اتِّفاق طُرقهم, فاقتصر على أحد شُيوخ سُفيان.
ج) مثال لوقوع الإدراج في آخر الحديث :
ما أُدرجَ في آخرِ الحديثِ من قولِ بعضِ رواتِهِ . أمَّا الصحابيُّ ، أو مَنْ بعدَهُ موصولاً بالحديثِ من غيرِ فَصْلٍ بين الحديثِ وبين ذلك الكلامِ ، بذكرِ قائِلِه ، فيلتبسُ على مَنْ لا يعلم حقيقةَ الحالِ ، ويتوهمُ أنَّ الجميعَ مرفوعٌ .
ويُدْرك ذلكَ بورُوده مُنفصلاً في رِوَاية أُخرى, أو بالتَّنصيص على ذلك من الرَّاوي, أو بعض الأئمة المُطَّلعين, أو باستحالة كونه - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك.
__________
(1) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 18) وبحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 68) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 58) والتعريفات الندية على المنظومة البيقونية - (ج 1 / ص 4) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 243) وعلوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 55)
(2) -انظر النخبة وشرحها ص 48-49 .
(3) - الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 10) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 6) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 3) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 85) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 228) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 18) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 205) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 462) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 122) والموقظة في علم مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 10) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 216) وألفية العراقي في علوم الحديث - (ج 1 / ص 19) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 114) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 92) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 221) وبحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 129) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 28)
(4) - سنن ابن ماجه باب قيام الليل برقم (1394 )
(5) - المستملي هو الذي يبلغ صوته المحدث إذا كثر الطلاب في المجلس .
(6) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 1 / ص 69) (324 و325) والمسند الجامع - (ج 11 / ص 30) (8337) والمسند الجامع - (ج 16 / ص 979) (12770)
(7) - الفصل للوصل 1/159
(8) - والمعجم الكبير للطبراني - (ج 10 / ص 178)(12214 ) عن ابن عباس والصحيحة (872 )
(9) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 93)
(10) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 17 / ص 440)(19981)
(11) - وفي فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 4): هَذَا مُدْرَج فِي الْخَبَر ، وَهُوَ مِنْ تَفْسِير الزُّهْرِيّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ وَلَمْ يَذْكُر دَلِيله ، نَعَمْ فِي رِوَايَة الْمُؤَلِّف مِنْ طَرِيق يُونُس عَنْهُ فِي التَّفْسِير مَا يَدُلّ عَلَى الْإِدْرَاج
(12) - الربض : حوالى الجنة وأطرافها
(13) - صحيح ابن حبان - (ج 10 / ص 480)
(14) - الاقتراح ص 224
(15) - علوم الحديث ص 129
(16) - انظر المسند الجامع - (ج 2 / ص 389)(1005-106) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ أَنَسٍ وبيان مشكل الآثار ـ الطحاوى - (ج 2 / ص 7)
(17) - انظر المسند الجامع - (ج 17 / ص 1148)(14087) و( 13620)
(18) - الفصل للصل 2/742
(19) - انظر الروايات في المسند الجامع - (ج 15 / ص 1030)(12065) عَنْ كُلَيْبِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ
(20) - أسنده الخطيب في الفصل للوصل 1/438
(21) - برقم ( )
(22) - التبصرة 1/260(1/204)
مثال ذلك ما رواهُ أبو داود ( 972 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِىُّ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِى فَحَدَّثَنِى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِى الصَّلاَةِ فَذَكَرَ مِثْلَ دُعَاءِ حَدِيثِ الأَعْمَشِ « إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ »..
فقوله: إذا قُلت, إلى آخره وصلهُ زُهَير بن مُعَاوية بالحديث المرفُوع كما في مسند أحمد(4087) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ قَالَ حَدَّثَنِى الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ قَالَ أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِى وَحَدَّثَنِى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِى الصَّلاَةِ قَالَ « قُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ». قَالَ زُهَيْرٌ حَفِظْتُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ « أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - قَالَ - فَإِذَا قَضَيْتَ هَذَا - أَوْ قَالَ فَإِذَا فَعَلْتَ هَذَا - فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ »., وفيما رواه عنه أكثر الرُّواة.
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 2 / ص 174) (3085) وَهَذَا الأَثَرُ الصَّحِيحُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ فِيمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ : عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِىِّ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْمُؤَذِّنُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ : عَلِىُّ بْنُ حَمَوَيْهِ بِبُخَارَى أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِىُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ : أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِى وَحَدَّثَنِى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ ، فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِى الصَّلاَةِ وَقَالَ :« قُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عَبَّادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ». قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ : وَزَادَنِى فِى هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْحَسَنِ :« أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ». قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ : بَلَغَ حِفْظِى عَنِ الْحَسَنِ فِى بَقِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ : إِذَا فَعَلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ. هَذَا حَدِيثٌ قَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِى خَيْثَمَةَ : زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَأَدْرَجُوا آخِرَ الْحَدِيثِ فِى أَوَّلِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى إِلَى ذَهَابِ بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنْ زُهَيْرٍ فِى حِفْظِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ.
{ت} وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ وَزَعَمَ أَنَّ بَعْضَ الْحَدِيثِ انْمَحَى مِنْ كِتَابِهِ أَوْ خُرِّقَ.
3086- وَرَوَاهُ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ زُهَيْرٍ ، وَفَصَلَ آخِرَ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْهُ قَبْلَ ذَهَابِهِ مِنْ حِفْظِهِ ، أَوْ مِنْ كِتَابِهِ أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ : زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى إِلَى قَوْلِهِ الصَّالِحِينَ ثُمَّ قَالَ :« أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَإِذَا قُلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ مِنَ الصَّلاَةِ ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ.
{ج} قَالَ عَلِىٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ : شَبَابَةُ ثِقَةٌ ، وَقَدْ فَصَلَ آخِرَ الْحَدِيثِ جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ أَدْرَجَ آخِرَهُ فِى كَلاَمِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{ت} وَقَدْ تَابَعَهُ غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ وَغَيْرُهُ فَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ كَذَلِكَ آخِرَ الْحَدِيثِ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - .
{ج} أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ : الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحَافِظُ قَالَ : وَهِمَ زُهَيْرٌ فِى رِوَايَتِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ ، وَأَدْرَجَ فِى كَلاَمِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا لَيْسَ مِنْ كَلاَمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِذَا فَعَلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
3087- كَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَزِيزٍ حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ الْمَوْصِلِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَ رِوَايَةِ شَبَابَةَ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَقَالَ فِى آخِرِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ ، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ.
3088- أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو عَرُوبَةَ الْحَرَّانِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْبَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : عَلَّمَنِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ ، فَذَكَرَهُ إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلاَتِكَ فَإِنْ شِئْتَ فَاثْبُتْ وَإِنْ شِئْتَ فَانْصَرِفْ.
{ق} قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ صَلاَتِكَ إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً أَشْبَهُ بِمَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِى انْقِضَاءِ الصَّلاَةِ بِالتَّسْلِيمِ ، وَبِمَا سَنَرْوِيهِ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى التَّسْلِيمِ وَكَأَنَّهُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ خِلاَفَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَنْصَرِفَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ قَبْلَ انْصِرَافِ الإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَتِ اللَّفْظَةُ الأُولَى ثَابِتَةً عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَعْلِيمَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ تَشَهُّدَ الصَّلاَةِ كَانَ فِى ابْتِدَاءِ مَا شُرِعَ التَّشَهُّدُ ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ شَرْعُ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ : قَدْ عَرِفْنَا السَّلاَمَ عَلَيْكَ ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ؟ ثُمَّ شُرِعَ التَّسْلِيمُ مِنَ الصَّلاَةِ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَصَارَ الأَمْرُ إِلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال الحاكم(1): وذلك مُدْرج في الحديث من كلام ابن مَسْعود, وكذا قال البيهقي- كما مرَّ- والخطيب.
وقال الزيلعي(2):
" قُلْتَ: احْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى عَدَمِ فَرِيضَةِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّشَهُّدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَنَّ أَبَا دَاوُد أَخْرَجَهُ فِي سُنَنِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، هَلْ هِيَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُدْرِجَتْ فِي الْحَدِيثِ؟ فَإِنْ صَحَّ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّشَهُّدِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، انْتَهَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ بَيَّنَهُ شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَفَصَلَ كَلَامَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنُ ثَوْبَانَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ - بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، مِنْ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، بِلَفْظِ السُّنَنِ -: وَقَدْ أَوْهَمَ هَذَا الْحَدِيثُ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ الصِّنَاعَةَ، أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّشَهُّدِ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: إذَا قُلْتُ هَذِهِ زِيَادَةٌ أَدْرَجَهَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي الْخَبَرِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ، ثم قال:ذَكَرَ ابْنُ ثَوْبَانَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَنَّ زُهَيْرًا أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ ثَوْبَانَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ بِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا، وَفِي آخِرِهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذَا، فَقَدْ فَرَغْتَ مِنْ صَلَاتِك، فَإِنْ شئت فثبت، وَإِنْ شِئْتَ فَانْصَرِفْ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُرِّ بِهِ، وَفِي آخِرِهِ، قَالَ الْحَسَنُ: وَزَادَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.قَالَ: فَإِذَا قُلْتَ هَذَا، فَإِنْ شِئْتَ فَقُمْ، قَالَ: وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ ضَعِيفٌ، قَدْ تَبَرَّأْنَا مِنْ عُهْدَتِهِ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ، انْتَهَى. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ - بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ هَكَذَا -(3): أَدْرَجَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ عَنْ زُهَيْرٍ، وَوَصَلَهُ بِكَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَفَصَلَهُ شَبَابَةُ عَنْ زُهَيْرٍ، فَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، فَإِنَّ ابْنَ ثَوْبَانَ رَوَاهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ كَذَلِكَ، وَجَعَلَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِاتِّفَاقِ حُسَيْنٍ الْجُعْفِيِّ. وَابْنِ عَجْلَانَ. وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ فِي رِوَايَتِهِمْ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَلَى تَرْكِ ذِكْرِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، مَعَ اتِّفَاقِ كُلِّ مَنْ رَوَى التَّشَهُّدَ عَنْ عَلْقَمَةَ. وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ سَاقَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ، وَفِي آخِرِهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إذَا فَرَغْت مِنْ هَذَا، إلَى آخِرِهِ. " اهـ
وقال الحافظ العراقي(4):
" قالَ الحاكمُ : قولُهُ إذا قلتَ ، هذا مدرجٌ في الحديثِ من كلامِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ . وكذا قالَ البيهقيُّ في " المعرفةِ " : قد ذهبَ الحُفَّاظُ إلى أنَّ هذا وهمٌ وأنَّ قولَهُ : (( إذا فعلتَ هذا ، أو قضيتَ هذا ، فقد قَضَيْتَ صَلاتَكَ )) من قولِ ابنِ مسعودٍ ، فأدرجَ في الحديثِ . وكذا قال الخطيبُ في كتابهِ الذي جمَعهُ في الْمُدرجِ: إنّها مُدْرَجَةٌ . وقالَ النَّوويُّ في " الخُلاصة " : اتّفقَ الحفَّاظُ على أنّها مُدرجةٌ . انتهى . وقولُ الخطّابيِّ في " المعالم " : اختلفوا فيهِ ، هلْ هوَ مِنْ قَوْلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أو من قولِ ابنِ مسعودٍ ؟ فأرادَ اختلافَ الرواةِ في وصلِهِ ، وفصلِهِ ، لا اختلافَ الحفَّاظِ ؛ فإنَّهُمْ متَّفِقُونَ على أنَّهَا مُدْرَجَةٌ.على أنَّهُ قدِ اختُلِفَ على زُهيرٍ فيهِ،فرواهُ النُّفَيليُّ وأبو النَّضْرِ هاشمُ بنُ القاسمِ، وموسى بنُ داودَ الضَّبِّيُّ ، وأحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ يونسَ اليَرْبوعيُّ ، وعليُّ بنُ الجَعْدِ ، ويحيى بنُ يحيى النَّيسابوريُّ ، وعاصمُ بنُ عليٍّ ، وأبو داودَ الطيالسيُّ، ويحيى بنُ أبي بُكَيرٍ الكِرْمانيُّ ، ومالكُ بنُ إسماعيلَ النَّهْديُّ عنهُ،هكذا مُدْرَجَاً.
ورواهُ شَبَابةُ بنُ سَوَّارٍ عنهُ ، فَفَصَلَهُ وبيَّنَ أنَّهُ مِنْ قولِ عبدِ اللهِ ، فقالَ : قالَ عبدُ اللهِ : (( فإذا قلتَ ذلكَ فقد قَضَيْتَ ما عليكَ من الصلاةِ ، فإنْ شئتَ أنْ تقومَ فقُمْ ، وإنْ شئتَ أنْ تَقْعُدَ فاقعُدْ )) . رواهُ الدارقطنيُّ ، وقالَ : شَبَابةُ ثقةٌ . وقد فَصَلَ آخِرَ الحديثِ وجعلَهُ من قولِ ابنِ مسعودٍ ، وهو أصحُّ من روايةِ مَنْ أدرجَ آخرَه . وقولُه أشبهُ بالصوابِ ؛ لأنَّ ابنَ ثوبانَ رواهُ عن الحسنِ بنِ الحرِّ كذلك ، وجعل آخرَه من قولِ ابنِ مسعودٍ ، ولم يرفعْهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - . ثم رواهُ من روايةِ غسّانَ بنِ الربيعِ، عن عبدِ الرحمن ابنِ ثابتِ بنِ ثوبانَ ، عن الحسنِ بنِ الحرِّ ، بهِ . وفي آخرِهِ : ثم قال ابنُ مسعودٍ : إذا فرغتَ من هذا فقد فرغتَ من صلاتِكَ ، فإنْ شئتَ فاثبُتْ ، وإن شئتَ فانصرِفْ . ورواه الخطيبُ أيضاً من روايةِ بقيّةَ ، قال : حدّثنا ابنُ ثوبانَ فاستدلَّ الدارقطنيُّ على تصويبِ قولِ شَبَابةَ، بروايةِ ابنِ ثوبانَ هذهِ ، وباتفاقِ حسين الجُعْفِيِّ، وابنِ عَجْلانَ، ومحمدِ بنِ أبانَ في روايتِهِم عن الحسنِ بنِ الحرِّ ، على تَرْكِ ذكرِهِ في آخِرِ الحديثِ ، مع اتفاقِ كُلِّ مَنْ روى التشهدَ عن علقمةَ ، وعَنْ غيرِهِ ، عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ على ذلك . " اهـ
وقال صاحب الجوهر النقي(5):
" وبمثل هذا لا تعلل رواية الجماعة الذين جعلوا هذا الكلام متصلاً بالحديث، وعلى تقدير صحة السند الذي روي فيه موقوفاً، فرواية من وقف لا تعلل بها رواية من رفع، لأن الرفع زيادة مقبولة على ما عرف من مذاهب أهل الفقه والأصول، فيحمل على أن ابن مسعود سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرواه كذلك مرة، وأفتى به مرة أخرى، وهذا أولى من جعله من كلامه، إذ فيه تخطئة الجماعة الذين وصلوه. "
قلت : لقد جانب الصواب لأن الأكثر قد رووها من قول ابن مسعود رضي الله عنه ، والذي رفعها توهم أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد عارضها أحاديث صحيحة عديدة تقطع بأنها من قول ابن مسعود وليست من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما قوله الرفع زيادة مقبولة فمردود ، فليس كل رفع يعتبر زيادة مقبولة بل لا بد له من شروط ، لا بد من توفرها حتى يؤخذ به . والله أعلم .
وكذا ما أخرجهُ الشَّيخان صحيح البخارى(2504 ) حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ و مسلم (3846 ) وَحَدَّثَنِى عَمْرٌو النَّاقِدُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ أَبِى عَرُوبَةَ كلاهما َنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِى عَبْدٍ ، أُعْتِقَ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَإِلاَّ يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ».(6)
قال الدَّارقُطْني(7)فيما انتقده على الشَّيخين: وقد رواهُ شُعبة وهِشَام وهُمَا أثبت النَّاس في قَتَادة, فلم يذكُرَا فيه الاستسعاء, ووافقهما همَّام وفصلَ الاستسعاء من الحديث, وجعله من قول قتادة.
قال الدَّارقُطْني: وذلك أوْلَى بالصَّواب.
قلت رواها موصولة عن قتادة جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وسَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ و حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ وعبدة بن سليمان الكلابى و هَمَّامٌ ويَحْيَى بْنِ صَبِيحٍ .
وفي السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 282) :
21905- وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنِى أَبِى ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الأَصْبَهَانِىُّ أَنْبَأَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِىُّ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِى عِيسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ مَمْلُوكٍ فَأَجَازَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِتْقَهُ وَغَرَّمَهُ بَقِيَّةَ ثَمَنِهِ. قَالَ قَتَادَةُ : إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. {ج} أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَلِىٌّ قَالَ سَمِعْتُ النَّيْسَابُورِىَّ يَقُولُ مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ ضَبَطَهُ وَفَصَلَ بَيْنَ قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ قَوْلِ قَتَادَةَ وَفِيمَا بَلَغَنِى عَنْ أَبِى سُلَيْمَانَ الْخَطَابِىِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ صَاحِبِ الْخِلاَفِيَّاتِ قَالَ هَذَا الْكَلاَمُ مِنْ فُتْيَا قَتَادَةَ لَيْسَ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَلِىِّ بْنِ الْحَسَنِ عَنِ الْمُقْرِئِ عَنْ هَمَّامٍ ثُمَّ قَالَ فَقَدْ أُخْبَرَ هَمَّامٌ أَنَّ ذِكْرَ السِّعَايَةِ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ وَأَلْحَقَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ الَّذِى مَيَّزَهُ هَمَّامٌ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ فَجَعَلَهُ مُتَّصِلاً بِالْحَدِيثِ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَبُو عَلِىٍّ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُرَيْثٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِىٍّ يَقُولُ أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ لأَنَّهُ كَتَبَهَا إِمْلاَءً. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ الْقَاضِى يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا قِلاَبَةَ الرَّقَاشِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِىَّ بْنَ الْمَدِينِىِّ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ شُعْبَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِحَدِيثِ قَتَادَةَ مَا سَمِعَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَسْمَعْ وَهِشَامٌ أَحْفَظُ وَسَعِيدٌ أَكْثَرُ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدِ اجْتَمَعَ شُعْبَةُ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَعِلْمِهِ بِمَا سَمِعَ مِنْ قَتَادَةَ وَمَا لَمْ يَسْمَعْ وَهِشَامٌ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَهَمَّامٌ مَعَ صِحَّةِ كِتَابِهِ وَزِيَادَةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلاَفِ ابْنِ أَبِى عَرُوبَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِى إِدْرَاجِ السِّعَايَةِ فِى الْحَدِيثِ وَفِى هَذَا مَا يُشْكِلُ فِى ثُبُوتِ الاِسْتِسْعَاءِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ.
__________
(1) - المعرفة ص 39
(2) - نصب الراية - (ج 1 / ص 424-425)
(3) - سنن الدارقطنى(1350)
(4) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 92)
(5) - 2/175
(6) - انظر الروايات في المسند الجامع - (ج 17 / ص 523)(13588)
قال ابن الأثير في "النهاية" 2/370: استسعاء العبد إذا عتق بعضه ورق بعضه: هو أن يسعى في فكاك ما بقي من رقه، فيعمل ويكسب، ويصرف ثمنه إلى مولاه، فَسُمِّيَ تصرفُه في كسبه سعاية.
وقوله: غير مسقوق عليه: أي لا يكلفه فوق طاقته، وقيل: معناه استسعى العبد لسيده: أي يستخدمه مالك باقيه بقدر ما فيه من الرق، ولا يحمله ما لا يقدر عليه.
(7) - التتبع ص 205-208(1/205)
21906- وَالَّذِى يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَضْلَ الاِسْتِسْعَاءِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ فُتْيَا قَتَادَةَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ السُّوسِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ قَالَ أَنْبَأَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ قَالَ : سُئِلَ الأَوْزَاعِىُّ عَنْ عَبْدٍ بَيْنَ ثَلاَثَةِ نَفَرٍ كَاتَبَ أَحَدُهُمْ ثُمَّ أَعْتَقَ الآخَرُ وَأَمْسَكَ الثَّالِثُ قَالَ ذُكِرَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ لِهَذَا الَّذِى أَمْسَكَ نَصِيبَهُ عَلَى الْمُعْتَقِ إِنْ كَانَ ذَا يَسَارٍ عَنْ حَظِّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِىَ الْمَمْلُوكُ فِى الثُّلُثِ مِنْ قِيمَتِهِ وَالْوَلاَءُ بَيْنَ الْمُعْتَقِ وَالْمُكَاتِبِ لِلْمُعْتِقِ الثُّلُثَانِ وَلِلْمُكَاتِبِ الثُّلُثُ وَمِنْهَا أَنْ قَالَ الشَّافِعِىُّ قِيلَ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَوِ اخْتَلَفَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ وَهَذَا الإِسْنَادُ أَيُّهُمَا كَانَ أَثْبَتُ قَالَ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . {ش} قَالَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْتُ وَعَلَيْنَا أَنْ نَصِيْرَ إِلَى الأَثْبَتِ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ الشَّيْخُ مَعَ نَافِعٍ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ بِإِبْطَالِ الاِسْتِسْعَاءِ. {ج} أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِىَّ يَقُولُ أَصَحُّ الأَسَانِيدِ كُلِّهَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الصُّوفِىُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الثَّقَفِىَّ قَالَ سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِىَّ عَنْ أَصَحِّ الأَسَانِيدِ فَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
21907- وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ كَامِلُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُسْتَمْلِىُّ أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ الإِسْفَرَائِينِىُّ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِىُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنْبَأَنَا هُشَيْمٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى عَذْرَةَ مِنْهُمْ أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَأَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُلُثَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْعَى فِى الثُّلُثَيْنِ. {ش} فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِلشَّافِعِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ مَنْ حَضَرَهُ هُوَ مُرْسَلٌ وَلَوْ كَانَ مَوْصُولاً كَانَ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ لاَ يُعْرَفُ وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُهُ قَالَ الشَّافِعِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَارَضْنَا مِنْهُمْ مُعَارِضٌ بِحَدِيثٍ آخَرَ فِى الاِسْتِسْعَاءِ فَقَطَعَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ لاَ يَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ يَعْرِفُ الْحَدِيثَ لِضَعْفِهِ. أَخْبَرَنَا بِجَمِيعِ هَذَا الْكَلاَمِ وَمَا نَقَلْتُهُ فِى هَذَا الْبَابِ مِنْ كَلاَمِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الأَصَمُّ أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ أَنْبَأَنَا الشَّافِعِىُّ فَذَكَرَهُ وَلاَ أَدْرِى أَىَّ حَدِيثٍ عُورِضَ بِهِ.
21908- وَلَعَلَّهُ عُورِضَ بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ أَبِى يَحْيَى الأَعْرَجِ قَالَ : سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبْدٍ أَعْتَقَهُ مَوْلاَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَمَرَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْعَى فِى الدَّيْنِ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. {ج} وَرَاوِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ.
21909- أَوْ عُورِضَ بِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِىُّ بِبَغْدَادَ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ كَانَ ثَلاَثُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُونَ : إِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ الْعَبْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فَهُوَ ضَامِنٌ إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى بِالْعَبْدِ صَاحِبُهُ فِى نِصْفِ قِيمَتِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ. {ج} الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ لاَ يُحْتَجَّ بِهِ. وَرُوِىَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِى السِّعَايَةِ وَهُوَ مُنْكَرٌ بِمَرَّةٍ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِى أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ الثَّقَفِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ : مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التِّرْمِذِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ ذَكَرْتُ أَنَا وَخَلَفُ بْنُ هِشَامٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِىٍّ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ وَخِلاَفُهُ عَنِ الثِّقَاتِ وَالْحُفَّاظِ فَتَذَاكَرْنَا مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً قَالَ فَذَكَرْنَا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِىٍّ حَدِيثَ الْحَجَّاجِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَنَّ الَّذِى لَمْ يُعْتِقْ إِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتَقُ الْقِيمَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اسْتُسْعِىَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَعْظَمِ الْفِرْيَةِ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا عَلَى مَا رَوَاهُ الْحَجَّاجُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَلَمْ يَكُنْ فِى آلِ عُمَرَ أَثْبَتَ مِنْهُ وَلاَ أَحْفَظَ وَلاَ أَوْثَقَ وَلاَ أَشَدَّ تَقْدِمَةً فِى عِلْمِ الْحَدِيثِ فِى زَمَانِهِ فَكَانَ يُقَالُ إِنَّهُ وَاحِدُ دَهْرِهِ فِى الْحِفْظِ ثُمَّ تَلاَهَ فِى رِوَايَتِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَلَمْ يَكُنْ دُونَهُ فِى الْحِفْظِ بَلْ هُوَ عِنْدَنَا فِى الْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ مِثْلُهُ أَوْ أَجْمَعُ مِنْهُ فِى كَثِيرٍ مِنَ الأَحْوَالِ وَرَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِىُّ وَهُوَ مِنْ أَثْبَتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَصَحَّهُمْ رِوَايَةً رَوَوْهُ جَمِيعًا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أَوْ شِقْصًا فِى عَبْدٍ كُلِّفَ عِتْقَ مَا بَقِىَ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّهُ يُعْتِقُ مِنَ الْعَبْدِ مَا أَعْتَقَ. {ق} قَالَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمْرُ السِّعَايَةِ إِنْ ثَبَتَ فِى حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَفِيهِ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الاِخْتِيَارَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ قَالَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ وَفِى الإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَهُوَ يَأْبَاهُ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الأَخْبَارِ مُخَالَفَةٌ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ مَعْنَى السِّعَايَةِ أَنْ يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُسْتَخْدَمَ لِمَالِكِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ أَىْ لاَ يُحَمَّلُ مِنَ الْخِدْمَةِ فَوْقَ مَا يَلْزَمُهُ بِحِصَّةِ الرِّقِّ. اهـ
وقال الزيلعي(1):
" عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" ، انْتَهَى. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الْعِتْقِ - وَفِي الشَّرِكَةِ"، وَمُسْلِمٌ فِي "الْعِتْقِ - وَفِي النُّذُورِ"، وَأَبُو دَاوُد فِي "الْعِتْقِ"، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي "الْأَحْكَامِ"، وَالنَّسَائِيُّ فِي "سُنَنِهِ الْكُبْرَى - فِي الْعِتْقِ"، وَأَلْفَاظُهُمْ فِيهِ مُتَقَارِبَةٌ، وَفِي لَفْظٍ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَيُسْتَسْعَى فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، انْتَهَى. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ السِّعَايَةَ، وَرَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حزم، وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ، فَذَكَرَا فِيهِ السِّعَايَةَ، انْتَهَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَمْرَ السِّعَايَةِ، انْتَهَى. وَقَالَ النَّسَائِيّ: أَثْبَتُ أَصْحَابِ قَتَادَةَ شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَقَدْ اتَّفَقَ شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ عَلَى خِلَافِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَرِوَايَتُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ هَمَّامًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ، فَجَعَلَ الْكَلَامَ الْأَخِيرَ: - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ، غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ - قَوْلَ قَتَادَةَ، انْتَهَى. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: أَحَادِيثُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ كَتَبَهَا إمْلَاءً، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُمَا أَثْبَتُ، فَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الِاسْتِسْعَاءَ، وَوَافَقَهُمَا هَمَّامٌ، وَفَصَلَ الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ الْحَدِيثِ، فَجَعَلَهُ مِنْ رَأْيِ قَتَادَةَ، قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ وَضَبَطَهُ، فَصَلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، فَجَعَلَا الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَحْسَبُهُمَا وَهِمَا فِيهِ لِمُخَالَفَةِ شُعْبَةَ، وَهِشَامٍ، وَهَمَّامٍ إيَّاهُمَا، انْتَهَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اضْطَرَبَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي "السِّعَايَةِ"، فَمَرَّةً يَذْكُرُهَا، وَمَرَّةً لَا يَذْكُرُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ، وَتَفْسِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَمَّامٌ وَبَيَّنَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" ، انْتَهَى. قُلْت: فِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ أَيُّوبُ : لَا أَدْرِي مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ، أَوْ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي قَوْلَهُ: فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ - وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ، وَيُعْطِي شركائهم حِصَصَهُمْ، وَيُخَلِّي سَبِيلَ الْمُعْتَقِ" ، انْتَهَى. ذَكَرَهُ فِي "الشَّرِكَةِ"، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ اجْتَمَعَ ههنا شُعْبَةُ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَعَمَلِهِ، بِمَا سَمِعَ قَتَادَةَ، وَمَا لَمْ يَسْمَعْ، وَهِشَامٌ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ، وَهَمَّامٌ مَعَ صِحَّةِ كِتَابَتِهِ، وَزِيَادَةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ إدْرَاجِ السِّعَايَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي هَذَا مَا يُضَعِّفُ ثُبُوتَ الِاسْتِسْعَاءِ بِالْحَدِيثِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي رَوَاهُ عَنْ هَمَّامٍ، وَزَادَ فِيهِ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَمَيَّزَهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، انْتَهَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الْمَعْرِفَةِ": وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ السِّعَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ عِنْدَ إعْسَارِ الشَّرِيكِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ دُونَ إجْبَارِهِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، وَفِي إجْبَارِهِ عَلَى السَّعْيِ فِي قِيمَتِهِ، وهو لا يريد مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ "التَّنْقِيحِ": وَقَدْ تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ هَذَا، وَضَعَّفُوا ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ مِنْ رَأْيِ قَتَادَةَ، كَمَا رَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْهُ، فَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ، وَفِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ الْأَثْبَاتِ فِي قَتَادَةَ، وَلَيْسَ هُوَ بِدُونِ هَمَّامٍ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَرَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُمْ جَرِيرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ،هَذَا الْحَدِيثَ شُعْبَةُ، وَهِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُمَا أَثْبَتُ، فَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ الِاسْتِسْعَاءَ، وَوَافَقَهُمَا هَمَّامٌ، وَفَصَلَ الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ الْحَدِيثِ، فَجَعَلَهُ مِنْ رَأْيِ قَتَادَةَ، قَالَ: وَسَمِعْت أَبَا بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا أَحْسَنَ مَا رَوَاهُ هَمَّامٌ وَضَبَطَهُ، فَصَلَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ، فَجَعَلَا الِاسْتِسْعَاءَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَحْسَبُهُمَا وَهِمَا فِيهِ لِمُخَالَفَةِ شُعْبَةَ، وَهِشَامٍ، وَهَمَّامٍ إيَّاهُمَا، انْتَهَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اضْطَرَبَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ فِي "السِّعَايَةِ"، فَمَرَّةً يَذْكُرُهَا، وَمَرَّةً لَا يَذْكُرُهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَتْنِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ قَتَادَةَ، وَتَفْسِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ هَمَّامٌ وَبَيَّنَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" ، انْتَهَى. قُلْت: فِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: قَالَ أَيُّوبُ : لَا أَدْرِي مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ، أَوْ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي قَوْلَهُ: فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ - وَفِي لَفْظٍ: قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ، إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ قَدْرَ ثَمَنِهِ، وَيُعْطِي شركائهم حِصَصَهُمْ، وَيُخَلِّي سَبِيلَ الْمُعْتَقِ" ، انْتَهَى. ذَكَرَهُ فِي "الشَّرِكَةِ"، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ اجْتَمَعَ ههنا شُعْبَةُ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ وَعَمَلِهِ، بِمَا سَمِعَ قَتَادَةَ، وَمَا لَمْ يَسْمَعْ، وَهِشَامٌ مَعَ فَضْلِ حِفْظِهِ، وَهَمَّامٌ مَعَ صِحَّةِ كِتَابَتِهِ، وَزِيَادَةِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ إدْرَاجِ السِّعَايَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي هَذَا مَا يُضَعِّفُ ثُبُوتَ الِاسْتِسْعَاءِ بِالْحَدِيثِ، وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي رَوَاهُ عَنْ هَمَّامٍ، وَزَادَ فِيهِ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ، وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ قَتَادَةَ، وَمَيَّزَهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، انْتَهَى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الْمَعْرِفَةِ": وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ السِّعَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ عِنْدَ إعْسَارِ الشَّرِيكِ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ دُونَ إجْبَارِهِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ، وَفِي إجْبَارِهِ عَلَى السَّعْيِ فِي قِيمَتِهِ، وهو لا يريد مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ "التَّنْقِيحِ": وَقَدْ تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي حَدِيثِ سَعِيدٍ هَذَا، وَضَعَّفُوا ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ، وَقَالُوا: الصَّوَابُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِسْعَاءِ مِنْ رَأْيِ قَتَادَةَ، كَمَا رَوَاهُ هَمَّامٌ عَنْهُ، فَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِهِ، وَفِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ نَظَرٌ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ مِنْ الْأَثْبَاتِ فِي قَتَادَةَ، وَلَيْسَ هُوَ بِدُونِ هَمَّامٍ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ، وَرَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُمْ جَرِيرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ،وَحَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ، وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ، وَحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَيَحْيَى بْنُ صَبِيحٍ الْخُرَاسَانِيُّ، انْتَهَى. " اهـ
وكذا حديث ابن مَسْعود في صحيح البخارى (1238) حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ » . وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ . .
وفي رِوَاية أُخرى: كما في مسند أحمد (3694و 4119 و 4318) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ ». قَالَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ النَّارَ. ( صحيح).
فأفادَ ذلكَ أنَّ إحدى الكلمتين من قَولِ ابن مسعُود, ثمَّ وردت رِوَايةٌ ثَالثة أفَادت أنَّ الكلمة الَّتي هي من قوله هي الثَّانية, وأكدَّ ذلك رِوَاية رابعة اقتُصِرَ فيها على الكلمة الأولى مُضَافة إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - .(2)
قلت :
لكن صح من طريق آخر ففي صحيح مسلم(279) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ فَقَالَ « مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ».
وفي الصَّحيح أبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ ، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّى ، لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ » .(3)
__________
(1) - نصب الراية - (ج 3 / ص 282)
(2) - رواه الخطيب بسنده في الفصل للوصل 1/220
(3) - صحيح البخارى 196/3برقم (2548 ) ومسلم برقم (4410 )(1/206)
فقوله : " والذي نفسي بيده .... الخ من كلام أبي هريرة، " كما في صحيح مسلم(4410 ) حَدَّثَنِى أَبُو الطَّاهِرِ وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالاَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لِلْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الْمُصْلِحِ أَجْرَانِ ». وَالَّذِى نَفْسُ أَبِى هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّى لأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ. قَالَ وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ يَحُجُّ حَتَّى مَاتَتْ أُمُّهُ لِصُحْبَتِهَا. قَالَ أَبُو الطَّاهِرِ فِى حَدِيثِهِ « لِلْعَبْدِ الْمُصْلِحِ ». وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَمْلُوكَ.(1)
لأنه يستحيل أن يصدر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - . لأنه لا يمكن أن يتمنى الرَّقَّ، ولأن أمه لم تكن موجودة حتى يَبَرَّها.
تصريح بعض رواة الحديث بفصلها عن أصل الحديث .
ومثاله ما وقع من بعض الرواة لحديث أبي هريرة كما في صحيح البخارى (2736 ) حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ » ..
فأدرج فيه بعضهم سياق الأسماء ، سنن الترمذى (3849 ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِىُّ حَدَّثَنِى صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِى حَمْزَةَ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدَةٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الْمَجِيدُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِىُّ الْمَتِينُ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِى الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُحْيِى الْمُمِيتُ الْحَىُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِى الْمُتَعَالِى الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِىُّ الْمُغْنِى الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الْهَادِى الْبَدِيعُ الْبَاقِى الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ. وَلاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رُوِىَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ نَعْلَمُ - فِى كَبِيرِ شَىْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ ذِكْرَ الأَسْمَاءِ إِلاَّ فِى هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَى آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ هَذَا عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ فِيهِ الأَسْمَاءَ وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. ،
لم تفصل فيه هذه الزيادة عن الحديث ، مما ظنه بعض الناس في جملة الحديث .
وهو عند البخاري وغيره ، عن أبي اليمان عن شعيب ، دون ذكرها ، وكذلك رواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد ، دونها، ومن غير وجه عن أبي هريرة بدونها أيضاً .(2)
ولك أن تقول : زادها ثقة ، والزيادة غير المخالفة من الثقة مقبولة .
ونقول : نعم ، على التحقيق ، هي كذلك ، لو كان بعض الرواة لم يذكرها وبعضهم ذكرها ، وليس في مجرد ذلك دليل على الإدراج ، ولكنا وجدنا ما بين أنها مدرجة :
فأخرج الحديث عثمان بن سعيد الدارمي بإسناد آخر للوليد بن مسلم ، قال عثمان : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا خليد بن دعلج ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لله تسعة وتسعين اسماً ، من أحصاها كلها دخل الجنة " .
زاد بعده : قال هشام ( يعني ابن عمار ) : وحدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، مثل ذلك ، وقال : كلها في القرآن ، هو الله الذي لا إله إلا هو ، فساق الأسماء(3).
فدل هذا على أن الوليد كان يحدث بالحديث المرفوع بإسنادين ، وكان يدرج فيه الأسماء مما أخذه عن سعيد بن عبد العزيز قوله .
لكن يجب أن تعلم أن كشف مثل هذه العلة ليس مما يتهيأ بيسر ، بل هو صورة من الصور الخفية لعلل الحديث .
قال الذهبي(4): " هذا طريق ظني ، فإن ضعف توقفنا ، أو رجحنا أنها من المتن
واعلم أن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري كان ممن عرف بالإدراج في المتون ، يدرج اللفظ يفسر فيه اللفظ ، ونحو ذلك ، وليس بالكثير في حديثه .
والتأصيل في الجملة : أنه لا يصح ادعاء الإدراج في إسناد أو متن إلا إذا قام برهان بين على وجوده ، وإذا ثبت فإن كان من مدرج المتن حكم لذلك القدر المدرج بكونه ليس من الخبر ، ولا يقدح هذا في سائر الخبر ويكون ذلك القدر من الجملة الحديث الضعيف رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإن كان من مدرج الإسناد فإنه قد يستدل به على لين الرواي أو ضعفه ، وإن كان من الثقات المتقنين ،فبيان إدراجه فيها مزيل لأثر محذورها ، ولا يقدح صنيع ذلك فيه ، إنما يقدح فيما نتج عن إدراجه من أثر ، وحديثه دون الإدراج صحيح .
3- دواعي الإدراج(5):
إن الباعث للراوي عَلَى الإدراج يختلف من شخص لآخر ، ومن حَدِيْث إلى حَدِيْث غيره ، ما بَيْنَ بيان لتفسير كلمة ، أَوْ استنباط لحكم ، أَوْ قلة ضبط .
أن يريد الرَّاوِي تفسير بعض الألفاظ الغريبة الواردة في متن الْحَدِيْث ، فيحملها عَنْهُ بعض الرُّوَاة من غَيْر تفصيل لتفسير تِلْكَ الألفاظ .
أن يقصد الرَّاوِي إثبات حكم ويستدل عليه بالحديث المرفوع .
أن يريد الرَّاوِي بيان حكم يُستَنبطُ من كلام النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - .
اختصار الْحَدِيْث والرواية بالمعنى .(6)
4- كيف يُدْرَك الإدراج ؟
لَمْ يَكُن النقد الحديثي في وقت من أوقاته عبارة عن إلقاء للكلام عَلَى عواهنه ،
بَلْ هُوَ أمر في غاية العسر ، تحكمه القرائن وتقويه المرجحات وتسنده أقوال أئمة هَذَا الشأن .
ولا ريب أن الكشف عن الْحَدِيْث المعل بأية علة كانت يفتقر إلى اطلاع واسع وخبرة بالرجال ودراية بأقوال النقاد وملاحظة مواضع كلامهم ، ومن هنا كَانَ الحكم عَلَى حَدِيْث ما بالإدراج شَيْئاً ليس بالهين .
لذا نجد الإمام ابن دقيق العيد يضعف الحكم بالإدراج عَلَى الْحَدِيْث إذا كَانَ اللفظ المدرج في أثناء متن الْحَدِيْث ، ويضعف أكثر إذا كَانَ قَبْلَ اللفظ المرفوع ، أو معطوفاً عليه بواو العطف(7).
ويعلل هَذَا الضعف بقوله : (( لما فِيْهِ من اتصال هَذِهِ اللفظة بالعامل الَّذِيْ هُوَ من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ))(8).
والحق أنه إذا قامت قرائن ومرجحات تقوي في نفس الناقد الحكم عَلَى تِلْكَ اللفظة بالإدراج فلا مانع من ذَلِكَ ، وفي هَذَا يقول الحافظ ابن حجر : (( وفي الجملة إذا قام الدليل عَلَى إدراج جملة معينة بحيث يغلب عَلَى الظن ذَلِكَ ، فسواء كَانَ في الأول أو الوسط أَو الآخر ، فإن سبب ذَلِكَ الاختصار من بعض الرُّوَاة بحذف أداة التفسير أَو التفصيل ، فيجيء مَن بعده فيرويه مدمجاً من غَيْر تفصيل فيقع ذَلِكَ ))(9).
طرق الكشف عن الإدراج:
وَقَد وضع العلماء جملة من القواعد الَّتِيْ يعرف بِهَا كون الْحَدِيْث مدرجاً ، يمكننا حصرها فِيْمَا يأتي :
1. أن يَكُوْن لفظه مِمَّا تستحيل إضافته إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، مثل حديث للعبد المملوك
2. أن يرد التصريح من الصَّحَابِيّ بأنه لَمْ يَسْمَع تِلْكَ الجملة من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - - مثل حديث من مات لا يشرك بالله شيئا...
3. أن يفصِّل بعض الرُّوَاة فيبينوا المدرج ويَفْصِلُوه عن الْمَتْن المرفوع ، ويضيفوه إلى قائله : مثاله : ما رَوَاهُ عَبْد الله بن خيران(10)، عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، أنه سَمِعَ ابن عمر رضي الله تَعَالَى عنهما يقول : طلقت امرأتي وَهِيَ حائض ، فذكر عمر - رضي الله عنه - ذَلِكَ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : (( مُرهُ فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلقها )) قَالَ : فتحتسب بالتطليقة ؟ قَالَ : فمه(11).
قَالَ الْخَطِيْب: (( والصواب أن الاستفهام من قَوْل أنس بن سيرين ، وأن جوابه من قول ابن عمر ))(12).
وَقَدْ بيّن ذَلِكَ جَمَاعَة الرُّوَاة عن شعبة ، وهم : بهز بن أسد(13): وروايته عِنْدَ أحمد(14)، ومسلم(15)
الحجاج بن منهال(16): عِنْدَ الطحاوي(17).
خالد بن الحارث : عِنْدَ مُسْلِم(18).
سليمان بن حرب : عِنْدَ البخاري(19).
مُحَمَّد بن جعفر ( غندر ) : عِنْدَ أحمد(20)، ومسلم(21)، والخطيب(22).
النضر بن شميل المازني عِنْدَ الْخَطِيْب(23).
يحيى بن سعيد القطان : عِنْدَ الْخَطِيْب(24).
يزيد بن هارون : عِنْدَ ابن الجارود(25).
فظهر أن عَبْد الله بن خيران أدرج سؤال ابن سيرين وجواب ابن عمر لَهُ في الْحَدِيْث وجعل صورة الكل كأنه مرفوع .
ولفظ الْحَدِيْث كَمَا أخرجه أحمد(26)من طريق مُحَمَّد بن جعفر ( غندر) ، عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، أنه سَمِعَ ابن عمر قَالَ : طلقت امرأتي وَهِيَ حائض ، فأتى عمر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فَقَالَ : (( مُره فليراجعها ، ثُمَّ إذا طهرت فليطلقها )) .
قُلْتُ لابن عمر : أحسب تِلْكَ تطليقة ؟ قَالَ : فمه !!
إلا أن الحَافِظ ابن حجر استدرك عَلَى حكمنا عَلَى الْحَدِيْث بالإدراج موافقة لهذه القاعدة الثالثة بأن البت بالحكم هنا لَيْسَ لَهُ قوة البت بالحكم في النوعين الماضيين ، فَقَالَ: (( والحكم عَلَى هَذَا القسم الثالث بالإدراج يَكُوْن بحسب غلبة ظن المحدّث الحَافِظ الناقد، ولا يوجب القطع بِذَلِكَ خلاف القسمين الأولين ، وأكثر هَذَا الثالث يقع تفسيراً لبعض الألفاظ الواقعة في الْحَدِيْث كَمَا في أحاديث الشغار والمحاقلة والمزابنة ))(27).
4-أو تضم الرواية الصحيحة ما يدل على أن الراوي لم يسمع المدرج من شيخه ،
أو يستحيل صدور ذلك المدرج من النبي - صلى الله عليه وسلم - ،
أو نحو ذلك من القرائن التي تؤكد بأن ذلك مدرج في الحديث .
فإذا أدرج الراوي فيما يرويه عن شيخه ما ليس منه ، وجعله طرفاً من حديثه ، فإنه أصبح بتصرفه هذا مخالفاً الواقع الحديثي ، أو متفرداً بما ليس له أصل في الواقع .
التنصيص عليه من بعض الأئمة المطلعين . .(28)
5- حكم الإدراج :
قال السيوطي(29):
" وكلُّه أي: الإدراج بأقسامه حرام بإجماع أهل الحديث والفقه, وعبارة ابن السَّمعاني وغيره: من تعمَّد الإدْراج, فهو ساقط العَدَالة, ومِمَّن يُحرِّف الكَلِم عن مواضعه, وهو مُلحق بالكذَّابين.
وعندي: أنَّ ما أُدْرج لتفسير غريب لا يمنع, ولذلك فَعَلهُ الزُّهْري وغير واحد من الأئمة.
6- أشهر المصنفات فيه :
أ) " الفَصْلُ للوَصْل المُدْرَج في النَّقْل " للخطيب البغدادي. شفى وكفىعلى ما فيه من إعْوَاز
ب) " تقريب المَنْهَج بترتيب المُدْرَج " لابن حجر، وهو تلخيص لكتاب الخطيب وزاد عليه قدرهُ مرَّتين أو أكثر في كِتَاب سمَّاه «تقريب المَنْهج بترتيب المُدْرج»..
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر الروايات في المسند الجامع - (ج 17 / ص 515)(13580)
(2) - انظر : النقض على المريسي ، لعُثمان الدارمي ( 1 / 180 - 183 ) .
(3) - انظر المسند الجامع - (ج 17 / ص 1471)(14342)
(4) - الموقظة ( ص : 54 ) .
(5) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 19)
(6) - بحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 146)
(7) - انظر : الاقتراح : 224-225 .
(8) - المصدر السابق .
(9) - النكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/828-829 .
(10) - هُوَ عَبْد الله بن خيران البغدادي أبو مُحَمَّد الكوفي ، هُوَ أكبر شيخ لقيه ابن أبي الدنيا ، قَالَ العقيلي: لا يتابع عَلَى حديثه، وَقَالَ الْخَطِيْب: قَدْ اعتبرت من رواياته أحاديث كثيرة وجدتها مستقيمة تدلّ عَلَى ثقته.
الضعفاء الكبير 2/245 ، وتاريخ بغداد 11/117-118 ، وميزان الاعتدال 2/415 ( 4293 ) .
(11) - رَوَاهُ من هَذِهِ الطريق الْخَطِيْب في " الفصل " 1/154 .
(12) - الفصل 1/155 .
(13) - بهز بن أسد العمي ، أبو الأسود البصري ، ثقة ثبت ، توفي بَعْدَ المئتين ، وَقِيْلَ : قبلها .
تهذيب الكمال 1/381 ( 761 ) ، والكاشف 1/276 ( 650 ) ، والتقريب ( 771 ) .
(14) - في مسنده 2/61 و 74 .
(15) - في صحيحه 4/182 ( 1471 ) ( 12 ) .
(16) - هُوَ الحجاج بن المنهال الأنماطي ، أَبُو مُحَمَّد السلمي مولاهم ، البصري : ثقة فاضل ، توفي سنة ( 216 هـ ) ، وَقِيْلَ : ( 217 هـ ) .التاريخ الكبير 2/380 ، والثقات 8/202 ، والتقريب ( 1137 ) .
(17) - في شرح معاني الآثار 3/52 .
(18) - في الصحيحة 4/182 ( 1471 ) ( 12 ) .
(19) - في صحيحه 7/52 ( 5252 ) .
(20) - في مسنده 2/78 .
(21) - في صحيحه 4/182 ( 1471 ) ( 12 ) .
(22) - في الفصل 1/155-156 .
(23) - في الفصل 1/157-158 .
(24) - في الفصل 1/157 .
(25) - في المنتقى ( 735 ) .
(26) - في مسنده 2/78 .
(27) - النكت 2/816 .
(28) - علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 62)
(29) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 211)(1/207)
المَقلوبُ(1)
1- تعريفُه:
المقلوبُ : اسم مفعول من ( قَلَبَ ) ، ومعناه : تحويل الشيء عن وجهه ، وقَلَبَه يَقلِبُه قَلْباً ، وَقَدْ انقلب وقَلَب الشيء وقَلَّبه .
تقول : قلبت الشيء فانقلب : إذا كببته ، وقلّبه بيده تقليباً ، وكلام مقلوب : ليس عَلَى وجهه ، والقَلْبُ : صرفك إنساناً تَقْلِبُه عن وجهه الَّذِيْ يريد ، وقلّب الأمور : بحثها ونظر في عواقبها ، ومنه قوله تَعَالَى : { وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ } (التوبة : 48) ، وتَقلَّب في الأمور والبلاد : تصرف فِيْهَا كيفما شاء ، وفي التنْزيل : { فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } (غافر : 4)(2).
أما في الاصطلاح : فهو الْحَدِيْث الَّذِيْ أبدلَ فِيْهِ راويه شَيْئاً بآخر في السند أو في الْمَتْن عمداً أو سهواً(3)
العلاقةُ بَيْنَ المعنى اللغوي والاصطلاحي :
نلاحظ أن معنى القلب متوافر في المعنى الاصطلاحي ، فهو في اللغة تغيير الشيء عن وجهه ، فسميَ بِهِ هَذَا الفعل في الاصطلاح فكأن الرَّاوِي قلب الْحَدِيْث وأخرجه عن وجهه الصَّحِيْح ، عمداً كَانَ فعله أم سهواً .
2- أقسامُه:
القلبُ يقع تارة في الْمَتْن وتارة في السند وتارة فيهما ، وعليه فيمكننا جعله عَلَى ثلاثة أنواع(4):
الأول : القلب في الْمَتْن .
الثاني : القلب في الإسناد .
الثالث : القلب في الْمَتْن والإسناد .
أ) مقلوب السند : وهو ما وقع الإبدال في سنده ، وله صورتان :
1- أن يُقَدَّم الراوي ويؤخر في اسم أحد الرواة واسم أبيه ، كحديث مروي عن " كعب بن مُرَّة " فيرويه الراوي عن " مُرَّة بن كعب " .
فإن كان الاسم لواحد لم يؤثر ويكون خطأ ممن قلبه ، أما إن كان صيَّره بالقلب رجلاً آخر ، فلا يشكل على صحة الرواية إذا كانا ثقتين أو ضعفها إذا كانا ضعيفين ، إنما يقدح فيها لو كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً ، ويعلُّ بذلك الإسناد ، فيكون الوصف بالقلب بسبب خطأ الراوي حكماً على الحديث بالضعف .
كما وقع لعبد العزيز بن محمد الدراوردي(5)، قال أحمد بن حنبل : " ما حدث عن عبيد الله بن عمر ، فهو عن عبد الله بن عمر " ، وفي رواية : " ربما قلب حديث عبد الله العمري ، يرويه عن عبيد الله بن عمر "(6).
قلتُ : الدراوردي سمع من عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة ، وسمع من عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف ، فكان ربما قلب أحاديث عبد الله فجعلها عن عبيد الله ، مما أوقعه في رواية المنكرات عن عبيد الله ، والتي أصلها أحاديث عبد الله ، فصار حديثه ضعيفاً عن عبيد الله ، وإن كان الدراوردي ثقة في غيره .
ومن مثال وقوع ذلك من الراوي دون أن يقدح في نفس حديثه وإن كان خطأ منه ، من أجل قلبه من ثقة إلى ثقة ، قول الحافظ يحيى بن محمد بن صاعد : " انقلبت على إبراهيم بن صرمة نسخة ابن الهاد ، فجعلها عن يحيى بن سعيد في الأحاديث كلها " ، قال : " انقلبت عليه وكان عنده عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار ، فقال : عن يحيى بن سعيد عن ابن دينار ، في الأحاديث كلها "(7).
قلتُ : فلو سلم ابن صرمة من جرح سوى وقوع هذا منه ، لما أضرَّ في روايته ؛ من أجل العلم بكونها في الأصل عن ثقة ، وهو قد انتقل بها من ثقة إلى ثقة ، لكن الرجل ضعيف .
ومن أسوأ أمثلة القلب : ما نقله ابن أبي حاتم العلل (1371) وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : لا يُسْتَقَادُ مِنَ الْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هُوَ مُرْسَلٌ مَقْلُوبٌ.
يعني أبو زرعة أن صوابه : ( ابن المبارك عن عنبسة بن سعيد عن جابر عن الشعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
فهذا قلب مفسد جداً ، ليس في تصيير المرسل موصولاً فقط ؛ إذ الشعبي تابعي ، بل جابر هذا في حال الوصل هو جابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي ، وفي حال كونه الراوي عن الشعبي فهو جابر بن يزيد الجعفي أحد المتهمين بالكذب في الحديث ، فتأمل !
2- أن يُبْدِل الراوي شخصاً بآخر بقصد الإغراب : كحديث مشهور عن " سالم " فيجعله الراوي عن " نافع "
وممن كان يفعل ذلك من الرواة " حماد بن عمرو النصيبي " وهذا مثاله : حديث حَمَّادُ بن عَمْرٍو النَّصِيبِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِذَا لَقِيتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي الطَّرِيقِ فَلا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ، وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا"(8)، فهذا حديث مقلوب ، قلبه حماد ، فجعله عن الأعمش ، وإنما هو معروف عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا لَقِيتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِى الطَّرِيقِ فَلاَ تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلاَمِ وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا »(9).
وهذا النوع من القلب هو الذي يُطْلَق على راويه أنه يسرق الحديث .
ب) مقلوب المتن: وهو ما وقع الإبدال في متنه، وله صورتان أيضاً.
1- أن يُقَدَّم الراوي ويؤخر في بعض متن الحديث
ومثاله : حديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ »(10). فهذا مما انقلب على بعض الرواة وإنما هو : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِى عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِى الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ »(11)
فهذا وقع الخطأ في رواية مسلم ؟ فيه اختلاف ، يرجع فيه إلى مظانه ، إذ ليس للإطالة به هنا ضرورة(12)
فهذا إذا قام عليه دليل بأنه مقلوب ، كما هو الشأن في هذا المثال ، فالمقلوب خطأ ، وهو لاحق بقسم المردود ، ولا يعتبر به ولا يتكلف له التأويل .
ومثاله : ما سبق في نوع المدرج في حَدِيْث عَبْد الله بن مسعود ، إِذْ روي مقلوباً من طريق أبي مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ ». قَالَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ النَّارَ(13).
فَقَدْ خالف أَبُو معاوية بقية الرُّوَاة عن الأعمش ، إِذْ رَوَاهُ عَنْهُ :
أبو حمزة السكري(14): عِنْدَ البخاري(15).
حفص بن غياث : عِنْدَ البخاري(16).
شعبة : عِنْدَ الطيالسي(17)وأحمد(18)..
عَبْد الله بن نمير(19): عِنْدَ أحمد(20)ومسلم(21)..
عَبْد الواحد بن زياد : عِنْدَ البخاري(22).
وكيع بن الجراح : عِنْدَ أحمد(23)ومسلم(24).
جميعهم الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ » . وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ..(25)
ووقع في رِوَايَة أبي عوانة(26)مقلوباً من طريق عَلِيٍّ بْنِ حَرْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَقُلْتُ أَنَا : مَنْ مَاتَ ، يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ ، هَذَا لَفْظُ أَبِي مُعَاوِيَةَ ..
وعلى هَذَا فيصلح هَذَا مثالاً لما قلب سنده ومتنه ، إلا أن الحافظ ابن حجر قَالَ: (( لَمْ تختلف الروايات في " الصحيحين " في أن المرفوع الوعيد ، والموقوف الوعد ، وزعم الحميدي في " الجمع " وتبعه مغلطاي في شرحه ومن أخذ عَنْهُ ، أن في رِوَايَة مُسْلِم من طريق وكيع وابن نمير بالعكس ...
وَكَأنَ سبب الوهم في ذَلِكَ ما وقع عِنْدَ أبي عوانة والإسماعيلي من طريق وكيع بالعكس ، لَكِنْ بيّن الإسماعيلي أن المحفوظ عن وكيع في البخاري ))(27)
أضف إلى ذَلِكَ أن عاصم بن أبي النجود(28)وسيار(29)والمغيرة(30)رووا هَذَا الْحَدِيْث عَنْ شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ ». قَالَ وَقُلْتُ أَنَا مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً دَخَلَ النَّارَ" باللفظ الصَّحِيْح.
وبهذا يَكُوْن أبو معاوية قَدْ خالف الرُّوَاة الأكثر مِنْهُ عدداً في رِوَايَة هَذَا الْحَدِيْث مقلوباً ، لذا قَالَ ابن خزيمة :(( وشعبة وابن نمير أولى بمتن الخبر من أبي معاوية، وتابعهما أَيْضاً سيار أبو الحكم(31)عن أبي وائل ، عن عَبْد الله ))(32).
وَقَالَ الحافظ ابن حجر نقلاً عن الإسماعيلي: (( إنما المحفوظ أن الَّذِيْ قلبه أبو معاوية وحده ،وبذلك جزم ابن خزيمة في "صحيحه "،والصواب رِوَايَة الجماعة ))(33).
ثُمَّ قَالَ: (( وهذا هُوَ الَّذِيْ يقتضيه النظر ؛ لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن وجاءت السنة عَلَى وفقه ، فلا يحتاج إلى استنباط ، بخلاف جانب الوعد فإنه في محلِّ البحث إِذْ لا يصح حمله عَلَى ظاهره ))(34).
وقال البَلْقيني(35): قد يقع القلب في المَتْن, قال: ويُمكن تمثيلهُ بما رواهُ خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمَّتِهِ أُنَيْسَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا أَذَّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا ، وَإِذَا أَذَّنَ بِلاَلٌ فَلاَ تَأْكُلُوا وَلاَ تَشْرَبُوا »..(36)
والمشهور من حديث ابن عُمر وعائشة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِىَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ » . ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لاَ يُنَادِى حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ .(37)
قال: فالرِّواية بِخلاف ذلكَ مقلُوبة, قال: إلاَّ أنَّ ابن حبَّان وابن خُزيمة لم يجعلا ذلك من المَقْلُوب, وجمعا باحتمال أن يَكُون بين بِلال وبين أم مكتُوم تناوب.(38)
قال: ومع ذلك فدعوَى القلب لا تبعد, ولو فتحنا باب التأويلات, لاندفعَ كثير من علل الحديث.
قال: ويُمكن أن يُسَمَّى ذلك بالمعكُوس, فيفرد بنوع, ولم أر من تعرَّض لذلك. انتهى.اهـ(39)
2- أن يَجعل الراوي متن هذا الحديث على إسناد آخر، ويجعل إسناده لمتن آخر، وذلك بقصد الامتحان وغيره.
ا- إما بقصد الإغراب وفاعل ذَلِكَ داخل في صنف الوضاعين ملحقاً بالكذابين(40).
ويفسر هذه الصورة قول ابن عدي في ( ثابت بن حماد أبي زيد البصري ) : " له أحاديث يخالف فيها وفي أسانيدها الثقات ، وأحاديثه مناكير ومقلوبات " ، فلما جئنا لتبين معنى القلب فيها وجدنا مثاله ، ما أخرجه ابن عدي من طريقه ، قال : عن سعيد(41)، عن قتادة عن أنس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو يعلم الناس ما في الصف المقدم ، لكانت قرعة " ، قال ابن عدي(42): " وهذا الحديث وهم فيه ثابت بن حماد ، وإنما يرويه عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلاَسٍ عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَوْ تَعْلَمُونَ - أَوْ يَعْلَمُونَ - مَا فِى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً »(43).
قلتُ : يعني ابن عدي أنه قلبه ، فركّب إسناداً على غير متنه .
وعبارات النقاد في المجروحين من الرواة لهذه العلة كثيرة ، فمن ذلك :
قال عمرو بن علي الفلاس : كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة ، ويقول:" حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة "(44)
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي، عن عبد الرحمان بن يزيد بن تميم. فقال: قلب أحاديث شهر بن حوشب وصيرها حديث الزهري، وجعل يضعفه..(45)
وقال في ( مصعب بن سلام ) :" انقلبت عليه أحاديث يوسف بن صهيب ، جعلها عن الزبرقان السراج ،وقدم ابن أبي شيبة مرة فجعل يذاكر عنه أحاديث عن شعبة ، هي أحاديث الحسن بن عمارة ، انقلبت عليه أيضاً(46).
وقال أبو زرعة الرازي في ( معاوية بن يحيى الصدفي ) : " ليس بقوي ، أحاديثه كلها مقلوبة ما حدث بالري ، والذي حدث بالشام أحسن حالاً "(47).
هؤلاء كان القلب يقع لأحدهم دون تعمد ، إنما هو لسوء الحفظ .
وممن كان يتعمد القلب من المتروكين الهلكى : صالح بن أحمد القيراطي ، قال ابن حبان : " يسرق الحديث ، ولعه قد قلب أكثر من عشرة آلاف حديث "(48).
وقال ابن عدي :" يسرق الأحاديث ، ويلزق أحاديث تعرف بقوم لم يرهم على قوم آخرين لم يكن عندهم وقد رآهم "(49).
ومثاله : ما رواه عمرو بن خالد الحراني(50)،عن حماد بن عمرو النصيبي(51)، عن الأعمش، عن أبي صالح ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا لَقِيتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي طَرِيقٍ فَلا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلامِ ، واضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهَا "(52).
فهذا حَدِيْث قلبه حماد بن عمرو فجعله عن الأعمش، عن أبي صالح ، وإنما هُوَ مشهور بسهيل بن أبي صالح ، عن أبيه أبي صالح(53)، هكذا رَوَاهُ الناس ، عن سهيل ، مِنْهُمْ : (معمر ، وسفيان الثَّوْرِي ، وزُهير ، وشعبة ، ووهيب بن خالد ، وعبد العزيز بن محمد الدَرَاوَرْدي ، وجرير بن عبد الحميد ، وأبو عَوَانة) عن سُهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛(54)
قلت : وهذا هو وجه إطلاقهم : ( يسرق الحديث ) على الراوي(55)، لكن لا يصح تسليمُ العبارة لقائلها في حق من أوقعه في القلب سوء الحفظ وضعف التيقظ ، إنما هي في المتعمدين من جهة ادعاء أحدهم سماع ما لم يسمع .
ومما يستدل به تارة لهذه الصورة عند النقاد شبه حديث الراوي بحديث راو آخر ، فيستدلون بذلك الشبه على كون أحدهما سرقه من الآخر .
هذه هي صور الحديث المقلوب ، وما ثبت أنه كذلك فهو ضعيف خطأ ، حتى ما ذكرته في الصورة الأولى من وقوع القلب بالتحول من ثقة إلى ثقة في الإسناد ، فالحديث في هذه الحالة وإن كان محفوظاً في أصله ، إلا أن ذلك الإسناد الذي وقع فيه القلب خطأ ضعيف ، لا يعتبر به .
ب- أن يَكُوْن بقصد الامتحان لمعرفة حفظ الشيخ وضبطه .
__________
(1) - الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 10) ,التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 6) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 110) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 257) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 16) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 19) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 475) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 129) والموقظة في علم مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 12) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 230) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 116) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 35)
(2) - وانظر : الصحاح 1/205 ، ولسان العرب 1/479 ، والنكت الوفية 190/ب ، وتاج العروس 4/68 ( قلب ) .
(3) - أثر علل الْحَدِيْث في اختلاف الفقهاء : 311 ومَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 91 والإرشاد 1/266-272 ، والتقريب: 86-87 والاقتراح:236 والمنهل الروي : 53 ، والخلاصة : 76 ، والموقظة : 60 ، واختصار علوم الْحَدِيْث : 87 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/282 ونزهة النظر : 125 ، وفتح المغيث 1/253 وألفية السيوطي: 69-72 ، وشرح السيوطي عَلَى ألفية العراقي : 225 وفتح الباقي 1/282 وتوضيح الأفكار 2/98 وظفر الأماني : 405 ، وقواعد التحديث : 230 .
(4) - انظر : شرح التبصرة والتذكرة 1/319 طبعة الفحل فما بعدها ، ونزهة النظر : 125-126 ، وفتح الباقي 1/297 طبعة الفحل ، وتوجيه النظر 2/577 .
(5) - عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي أبو محمد الجهني مولاهم المدني صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطىء قال النسائي حديثه عن عبيد الله العمري منكر من الثامنة مات سنة ست أو سبع وثمانين ع .تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 358 ] (4119 )
(6) - أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 2 / 2 / 395 ، 396 ) .
(7) - الكامل في الضعفاء[ ج 1 - ص 252 ](82)
(8) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 463) برقم (1108 )
(9) - مسند أحمد برقم (11084) صحيح وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 258) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 226)
(10) - صحيح مسلم برقم (2427 )
(11) - صحيح البخارى برقم (1423 )
(12) - انظر لذلك : إكمال المعلم بفوائد مُسلم ، للقاضي عِياض ( 3 / 563 ) وفتح الباري ، لابن حجر ( 2 / 146 ) .
(13) - مسند أحمد(3694)
(14) - هُوَ مُحَمَّد بن ميمون المروزي ، أبو حمزة السكري : ثقة فاضل ، توفي سنة (167هـ )، وَقِيْلَ: (168هـ )تهذيب الكمال 6/536 ( 6244 ) ، والكاشف 2/226 ( 5184 ) ، والتقريب ( 6348 ) .
(15) - في صحيحه 6/28 ( 4497 )
(16) - في صحيحه 2/90 ( 1238 )
(17) - في مسنده ( 256 )
(18) - في مسنده 1/443 و 462 و 464
(19) - هُوَ عَبْد الله بن نمير الهمداني الخارفي ، أبو هشام الكوفي : ثقة صاحب حَدِيْث من أهل السنة ، توفي سنة (199 هـ ). تهذيب الكمال 4/306 (3606) ، والكاشف 1/604 (3024) ، والتقريب (3668)
(20) - في مسنده 1/425
(21) - في صحيحه 1/65 ( 92 ) ( 150 )
(22) - في صحيحه 8/173 ( 6683 )
(23) - في مسنده 1/443 (4318 )
(24) - في صحيحه 1/65 ( 92 ) (278)
(25) - انظر المسند الجامع - (ج 11 / ص 803)(8973)
(26) - 1/17 (23 )
(27) - فتح الباري 3/111 .
(28) - عِنْدَ أحمد 1/402 و 407 ، وأبي يعلى (5090)، والطبراني في الكبير ( 10410 ) و( 10416 ) ، وفي الأوسط (2232)، والخطيب في الفصل 1/219-222
(29) - عِنْدَ أحمد 1/374
(30) - عِنْدَ أحمد 1/374 ، وابن حبان ( 251 ) ، وابن منده ( 72 ) .
(31) - سيار أبو الحكم العَنَزي ، ويقال : البصري : ثقة ، وَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يروي عن طارق بن شهاب ،توفي سنة ( 122 هـ )الثقات 6/421 ، وتهذيب الكمال 3/351 ( 2655 ) ، والتقريب ( 2718 ) .
(32) - التوحيد : 360 .
(33) - فتح الباري 3/111 .
(34) - فتح الباري 3/111 .
(35) - محاسن الاطلاع ص 1002
(36) - سنن النسائى (647 ) ومسند أحمد (28202 ) وصحيح ابن حبان - (ج 8 / ص 252)(3474 ) والمسند الجامع - (ج 19 / ص 120)(15839)
(37) - انظر المسند الجامع - (ج 10 / ص 155)(7292) و(ج 19 / ص 1054)(16571)
(38) - قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه: هذان خبران قد يوهمان من لم يحكم صناعة العلم أنهما متضادان، وليس كذلك، لأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كان جعل الليل بين بلال وبين ابن أم مكتوم نوبا، فكان بلال يؤذن بالليل ليالي معلومة، لينبه النائم، ويرجع القائم، لا لصلاة الفجر، ويؤذن ابن أم مكتوم في تلك الليالي بعد انفجار الصبح لصلاة الغداة، فإذا جاءت نوبة ابن أم مكتوم، كان يؤذن بالليل ليالي معلومة كما وصفنا قبل، ويؤذن بلال في تلك الليالي بعد انفجار الصبح لصلاة الغداة من غير أن يكون بين الخبرين تضاد أو تهاتر.صحيح ابن حبان - (ج 8 / ص 252)
(39) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 227) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 3 / ص 16) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 267)
(40) - انظر : شرح التبصرة والتذكرة 1/320 طبعة الفحل .
(41) - هو ابن أبي عروبة .
(42) - الكامل ( 2 / 303 ) .
(43) - انظر المسند الجامع - (ج 16 / ص 1327)(13014)
(44) - الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم ( 3 / 2 / 86 ) .
(45) - العلل ، لأحمد ( النص : 4390 ) .
(46) - العلل ( النص : 5317 ) ، وانظر : التاريخ الكبير ، للبخاري ( 4 / 1 / 354 ) والجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم ( 4 / 1 / 308 ) .
(47) - الجرح والتعديل ( 4 / 1 / 384 ) .
(48) - المجروحين ( 1 / 373 ) .
(49) - الكامل ( 5 / 112 ) .
(50) - هُوَ عَمْرو بن خالد بن فرّوخ التميمي ، ويقال : الخزاعي ، أبو الحسن الحراني ، نزيل مصر : ثقة ، توفي سنة ( 229 هـ )تهذيب الكمال 5/406-407 ( 4945 ) ، والكاشف 2/75 ( 4149 ) ، والتقريب ( 5020 )
(51) - هُوَ حماد بن عَمْرو ، أبو إسماعيل النصَّيِبيٌّ ، قَالَ ابن حبان : كَانَ يضع الْحَدِيْث وضعاً عَلَى الثقات، وَقَالَ يَحْيَى بن مَعِيْنٍ : لَيْسَ بشيء .الضعفاء الكبير 1/308 ، والمجروحين 1/307 ، والكامل 3/10 .
(52) - هَذِهِ الطريق المقلوبة عِنْدَ العقيلي 1/308 .
(53) - انظر : الضعفاء الكبير ، للعقيلي 1/308 .
(54) - انظرها في المسند الجامع - (ج 17 / ص 1401)(14294)
(55) - وانظر : الاقتراح ، لابن دقيق العيد ( ص : 236 ) والموقظة للذهبي ( ص : 60 ) .(1/208)
مثاله : ما وقع للإمام البخاري - رحمه الله - لما قدم بغداد ، فأراد أهل الْحَدِيْث اختبار حفظه ، فعمدوا إلى مئة حَدِيْث فقلبوا أسانيدها ، وجعلوا أسانيد هَذِهِ لمتون تِلْكَ ، ثُمَّ دفعوها إلى عشرة رجال لكل رجل عشرة أحاديث ، فلما جاء البخاري وجلس للإملاء، وَكَانَ المجلس غاصاً بأصحاب الْحَدِيْث والفقهاء، قام لَهُ رجل من العشرة فسأله عن حَدِيْث من تِلْكَ الأحاديث ، فَقَالَ البخاري: لا أعرفه ، فسأله عن الآخر فَقَالَ : لا أعرفه، إلى تمام العشرة، ثُمَّ قام الثاني فالثالث حَتَّى نهاية العشرة ، والبخاري لا يزيد عَلَى قوله : لا أعرفه، فكان من حضر المجلس من الفهماء يلتفت بعضهم إلى بعض ، ويقولون: الرجل فهم. ومن كَانَ مِنْهُمْ غَيْر ذَلِكَ يقضي عَلَى البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم .
فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى الأول مِنْهُمْ فَقَالَ : أما حديثك الأول فهو كَذَا ، وحديثك الثاني كَذَا حَتَّى أتم العشرة ، ثُمَّ أقبل عَلَى الثاني فالثالث ، ورد المتون كلها إلى أسانيدها ، وأسانيدها إلى متونها ، فأقرّ لَهُ الناس بالحفظ وأذعنوا لَهُ بالفضل(1).
وَكَانَ الحافظ العراقي لا يتعجب من رد البخاري الخطأ إلى الصواب لسعة معرفته واطلاعه ، وإنما كَانَ يعجب من حفظ الأحاديث المقلوبة عَلَى الموالاة من مرة واحدة(2).
وَقَدْ وقع نحو هَذَا الامتحان لعدد من الْمُحَدِّثِيْنَ مِنْهُمْ : أبان بن عياش اختبره شعبة(3)، وأبو نعيم الفضل بن دكين امتحنه يحيى بن معين(4)، وأبو جعفر العقيلي(5)، ومحمد بن عجلان(6)، وغيرهم .
وفي جواز قلب الأحاديث لامتحان حفظ المشايخ خلاف ، إِذْ لَمْ يرتضه بعض الْمُحَدِّثِيْنَ مثل : حرمي بن عمارة(7)، ويحيى بن سعيد القطان(8)، قَالَ الحافظ العراقي: (( وهذا يفعله أهل الْحَدِيْث كثيراً، وفي جوازه نظر إلا أنه إذا فعله أهل الْحَدِيْث لا يستقر حديثاً ))(9)، فجوازه إذن مشروط بالبيان(10).
وَقَدْ يَكُوْن بالتقديم والتأخير في اسم الرَّاوِي مثل: كعب بن مرة(11)، فيجعل : مرة ابن كعب(12).
ج - أن يقع في الإسناد والمتن معاً
مثاله: ما رواه الْحَاكِم في "مَعْرِفَة علوم الْحَدِيْث"(13)من طريق المنذر بن عَبْد الله الحزامي، عن عَبْد العزيز بن أبي سلمة الماجشون(14)، عن عَبْد الله بن دينار، عن ابن عمر ، أن رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا افتتح الصلاة قَالَ : (( سبحانك اللهم تبارك اسمك وتعالى جدك ... )) .
فهذا الْحَدِيْث مقلوب سنداً ومتناً، أما سنداً فإن عَبْد العزيز بن أبي سلمة يرويه عن عَبْد الله بن الفضل(15)، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع(16)، عن علي بن أبي طالب.
وأما القلب في الْمَتْن فإن لفظ حَدِيْث عَبْد العزيز عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ يُكَبِّرُ ثُمَّ يَقُولُ « وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِى فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى جَمِيعاً لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ اللَّهُمَّ اهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ اصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِى يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ». وَإِذَا رَكَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِى وَبَصَرِى وَمُخِّى وَعِظَامِى وَعَصَبِى ». وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَىْءٍ بَعْدُ ». وَإِذَا سَجَدَ قَالَ: « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِى لِلَّذِى خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُوَرَهُ فَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ». وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ وَسَلَّمَ قَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ »..(17)
هكذا رَوَاهُ حجين(18)، وأبو غسان مالك(19)بن إِسْمَاعِيْل(20)عن عَبْد العزيز بن أَبِي سلمة.
ورواه أَيْضاً :أحمد بن خالد(21): عِنْدَ ابن خزيمة(22)، والطحاوي(23).
أبو سعيد(24): عِنْدَ أحمد(25).
عَبْد الله بن رجاء : عِنْدَ الطحاوي(26).
عَبْد الله بن صالح : عِنْدَ الطحاوي(27).
أربعتهم ، عن عَبْد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، عن عَبْد الله بن الفضل والماجشون كلاهما، عن الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي، بِهِ عَلَى الصواب .
ورواه أَيْضاً :
أبو داود الطيالسي : في " مسنده "(28)، ومن طريقه الترمذي(29).
أَبُو صالح عَبْد الله بن صالح ( كاتب الليث(30) : عِنْدَ ابن الجارود(31)، وابن خزيمة(32).
أبو النضر هاشم بن قاسم : عِنْدَ أحمد(33)، ومسلم(34).
أبو الوليد : عِنْدَ الترمذي(35).
حجاج بن منهال : عِنْدَ ابن الجارود(36)، وابن خزيمة(37).
حجين : عِنْدَ أحمد(38)، وابن خزيمة(39).
سويد بن عمرو الكلبي(40): عِنْدَ ابن أبي شيبة(41).
عَبْد الرحمن بن مهدي: عِنْدَ مُسْلِم(42)....
معاذ بن معاذ بن نصر : عِنْدَ أبي داود(43).
يحيى بن حسان : عِنْدَ الدارمي(44)، والطحاوي(45).
يزيد بن هارون : عِنْدَ الدارقطني(46).
جميعهم ، عن عَبْد العزيز بن أَبِي سلمة ، عن يعقوب الماجشون منفرداً ، عن الأعرج ، عن عبيد الله ، عن علي ، بِهِ(47).
3- الأسبابُ الحاملة على القَلْب :
مِمَّا لا شك فِيْهِ أن قابليات الرُّوَاة تتفاوت ما بَيْنَ إتقان وضبط وتعاهد للمحفوظ ، ثُمَّ إنهم مختلفون في ما ركزه الله فِيْهِمْ من العدالة أو ضدها ، وعليه فَقَد اختلفت دوافع القلب في المرويات تبعاً لهذا التفاوت ، ويمكن أن نجعل جملة الأسباب الَّتِيْ تؤدي بوقوع القلب في حَدِيْث الرُّوَاة ثلاثة ، هِيَ(48):
1. رغبة الرَّاوِي في إيقاع الغرابة في حديثه ليُرَغِّبَ الناس حَتَّى يظنوا أنه يروي ما ليس عِنْدَ غيره فيقبلوا عَلَى التحمل مِنْهُ . عَلَى نحو ما وقع في حَدِيْث حماد بن عمرو النصيبي الَّذِيْ سقناه قَبْلَ قليل .
ولهذا السبب كره أهل الْحَدِيْث تتبع الغرائب ، قَالَ الإمام أحمد : (( لا تكتبوا هَذِهِ الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء ))(49).
2. الإمعان في التثبت من حال المحدِّث أحافظ هُوَ أم غَيْر حافظ ؟ وهل يفطن لما وقع في الْحَدِيْث من القلب أم لا ؟
فإن تبين لَهُ أنه حافظ متيقظ يطمئن القلب في الْحَدِيْث عَنْهُ ، أقبل عَلَى التحمل عَنْهُ ، وإن تبين لَهُ خلاف ذَلِكَ ، بأن كانت فِيْهِ غفلة أو بلادة ذهن أعرض عَنْهُ وتركه.
كَمَا وقع للبخاري والعقيلي والفضل بن دكين ومحمد بن عجلان والمزي وغيرهم - مِمَّا أسلفنا ذكرهم -.
3. خطأ الرَّاوِي وغلطه بأن يقع القلب في حديثه من باب السهو لا العمد ، وهذا النوع راويه معذور فِيْهِ ؛ لأنه لَمْ يقصد إيقاعه ، إلا أنه إذا كثر في حديثه استحق الترك(50).
مثاله : الْحَدِيْث الَّذِيْ رَوَاهُ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي"(51)
فهذا الْحَدِيْث انقلب إسناده عَلَى جرير، وإنما هُوَ مشهور ليحيى بن أبي كثير ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي.- ، هكذا رَوَاهُ الجمع ، عن يحيى بن أبي كثير مِنْهُمْ : (معمر ، والحجاج بن أبي عثمان الصَّواف ، وأبان بن يزيد ، وهمام بن يحيى ، وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، وعلي بن المبارك ، وشيبان ، ومعاوية بن سلام) عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، فذكره.(52)
قَالَ الترمذي: ((وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ وَهِمَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ فِى هَذَا الْحَدِيثِ وَالصَّحِيحُ مَا رُوِىَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَخَذَ رَجُلٌ بِيَدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا زَالَ يُكَلِّمُهُ حَتَّى نَعَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ. قَالَ مُحَمَّدٌ وَالْحَدِيثُ هُوَ هَذَا. وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ رُبَّمَا يَهِمُ فِى الشَّىْءِ وَهُوَ صَدُوقٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ وَهِمَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ فِى حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِى ». قَالَ مُحَمَّدٌ وَيُرْوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ فَحَدَّثَ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِى ». فَوَهِمَ جَرِيرٌ فَظَنَّ أَنَّ ثَابِتًا حَدَّثَهُمْ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - .))(53).
4- حكمُ القلب :
أ) إن كان القلب بقصد الإغراب فلا شك في أنه لا يجوز لأن فيه تغييراً للحديث ، وهذا من عمل الوضاعين .
ب) وإن كان بقصد الامتحان، فهو جائز للتثبت من حفظ المحدث وأهليته، وهذا بشرط أن يُبَيَّنَ الصحيح قبل انفضاض المجلس.
ج) وان كان عن خطأ وسهو ، فلا شك أن فاعله معذور في خطئه ، لكن إذا كثر ذلك منه فإنه يُخِلُّ بضبطه ، ويجعله ضعيفاً .
أمَّا الحديث المقلوب فهو من أنواع الضعيف المردود كما هو معلوم.
5- أشهرُ المصنفات فيه :
أ) كتاب "رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والألقاب " للخطيب البغدادي، والظاهر من اسم الكتاب أنه خاص بقسم المقلوب الواقع في السند فقط.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر القصة في : أسامي من روى عَنْهُمْ البخاري من مشايخه لابن عدي ورقة 2أ ، وتاريخ بغداد 2/120، والبداية والنهاية 2/25 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1/321 طبعة الفحل ، وطبعة العلمية 1/284 ، والنكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/867 ، وهدي الساري : 200 ، وإرشاد طلاب الحقائق 1/298 ، وفتح المغيث 1/254 ، وتدريب الرَّاوِي 1/293 ، وتوضيح الأفكار 2/104 .
وحصل للبخاري نحو هَذَا الامتحان في البصرة وسمرقند . انظر : البداية والنهاية 11/25 ، وطبقات الشافعية الكبرى 2/9 ، وهدي الساري : 486 .
(2) - انظر : النكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/869-870 .
(3) - انظر : شرح التبصرة والتذكرة 1/321 طبعة الفحل ، والطبعة العلمية 1/284 .
(4) - انظر : النكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/866-867 .
(5) - انظر : سير أعلام النبلاء 15/237 .
(6) - انظر : المحدّث الفاصل : 398 ( 408 ) ، وميزان الاعتدال 3/645-646 .
(7) - انظر : شرح التبصرة والتذكرة 1/321 طبعة الفحل ، وطبعة العلمية 1/284 .
(8) - انظر : المحدث الفاصل : 399 ، والنكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/871 .
(9) - شرح التبصرة والتذكرة 1/321 طبعة الفحل ، وطبعة العلمية 1/284 .
(10) - انظر : نُزهة النظر : 125 .
(11) - هُوَ الصَّحَابِيّ الجليل كعب بن مرة ، وَقِيْلَ : مرة بن كعب السلمي البهزي ، سكن البصرة ثُمَّ الأردن ، توفي سنة بضع وخمسين .أسد الغابة 4/248-249 ، وتجريد أسماء الصَّحَابَة 2/33 ( 358 ) ، والتقريب ( 5650 ) .
(12) - انظر : نُزهة النظر : 125-126 .
(13) - الصفحة : 118 .
(14) - هُوَ عَبْد العزيز بن عَبْد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني ، نَزيل بغداد ، مولى آل الهدير : ثقة فقيه مصنف، توفي سنة ( 164 هـ )و.طبقات ابن سعد 7/323 ، وسير أعلام النبلاء 7/309 ، والتقريب ( 104 )
(15) - هُوَ عَبْد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة الهاشمي ، المدني : ثقة .تهذيب الكمال 4/240 ( 470) ، والكاشف 1/585 ( 2910 ) ، والتقريب ( 3533 ) .
(16) - هُوَ عبيد الله بن أبي رافع المدني ، مولى رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم - ،كَانَ كاتب عَلِيّ - رضي الله عنه - : ثقة .التاريخ الكبير 5/381 ، وتهذيب الكمال 5/33-34 ( 4221 ) ، والتقريب ( 4288 ) .
(17) - انظر المسند الجامع - (ج 13 / ص 331)(10038)
(18) - حجين - بالتصغير - بن المثنى اليمامي ، أبو عمر ، سكن بغداد ، وولي قضاء خراسان : ثقة ، توفي سنة ( 205 هـ ) ، وَقِيْلَ : بعدها .تهذيب الكمال 2/71 ( 1125 ) ، والكاشف 1/315 ( 955 ) ، والتقريب ( 1149 ) .وحديثه عِنْدَ أحمد 1/113 .
(19) - هُوَ مالك بن إسماعيل النهدي، أَبُو غسان الكوفي، سبط حماد بن أبي سليمان ؛ ثقة متقن صَحِيْح الكِتَاب، عابد ، توفي سنة ( 217 هـ ) ، وَقِيْلَ : ( 219 هـ ) .التاريخ الكبير 7/315 ، والثقات 9/164 ، والتقريب ( 6324 ) .
(20) - عِنْدَ الْحَاكِم في مَعْرِفَة علوم الْحَدِيْث : 118 .
(21) - هُوَ أحمد بن خالد بن موسى الوهبي الكندي ، أبو سعيد الحمصي : صدوق ، توفي سنة ( 214 هـ ).تهذيب الكمال 1/37 ( 29 ) ، والكاشف 1/193 ( 25 ) ، والتقريب ( 30 ) .
(22) - في الصحيحة ( 463 ) .
(23) - في شرح المعاني 1/299 .
(24) - هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الله بن عبيد البصري ، أبو سعيد ، مولى بني هاشم ، نزيل مكة ، لقبه جَرْدَقَة : صدوق رُبَّمَا أخطأ ، توفي سنة ( 197 هـ ).تهذيب الكمال 4/427 ( 3859 ) ، والكاشف 1/633 ( 3238 ) ، والتقريب ( 3918 ) .
(25) - في مسنده 1/94 .
(26) - في شرح المعاني 1/199 .
(27) - في شرح المعاني 1/199 .
(28) - برقم ( 152 ) .
(29) - في الجامع الكبير ( 266 ) .
(30) - هُوَ عَبْد الله بن صالح بن مُحَمَّد الجهني ، أبو صالح المصري ، كاتب الليث : صدوق كَثِيْر الخطأ ، ثبت في كتابه ، وكانت فِيْهِ غفلة ، توفي سنة ( 222 هـ ) ، وَقِيْلَ : ( 223 هـ ) .تهذيب الكمال 4/164 (3324 ) ، والكاشف 1/562 ( 2780 ) ، والتقريب ( 3388 ) .
(31) - في المنتقى ( 179 ) .
(32) - في صحيحه ( 462 ) و ( 612 ) و ( 743 ) .
(33) - في مسنده 1/112 .
(34) - في الصحيحه 2/186 ( 771 ) ( 202 ) .
(35) - في الجامع الكبير ( 3422 ) .
(36) - في المنتقى ( 179 ) .
(37) - في الصحيحه ( 462 ) و( 612 ) و( 743 ) .
(38) - في مسنده 1/113 .
(39) - في الصحيحه ( 612 ) .
(40) - هُوَ سويد بن عَمْرو الكلبي ، أَبُو الوليد الكوفي العابد : ثقة ، توفي سنة (204 هـ )، وَقِيْلَ : (203 هـ )، وَقَدْ ذكره ابن حبان في كتابه "المجروحين" فَقَالَ: (( كَانَ يقلب الأسانيد ، ويضع عَلَى الأسانيد الصحاح المتون الواهية ، لا يجوز الاحتجاج بِهِ )) .المجروحين 1/446-447 ، وتهذيب الكمال 3/340 ( 2631 ) ، والتقريب ( 2694 ) .
(41) - في مصنفه ( 2399 ) و ( 2553 ) .
(42) - في صحيحه 2/186 ( 771 ) ( 202 ) .
(43) - في سننه ( 760 ) و( 1509 ) .
(44) - في سننه ( 1241 ) و( 1320 ) .
(45) - في شرح المعاني 1/199 .
(46) - في السنن 1/296 .
(47) - وأخرج هَذَا الْحَدِيْث أَيْضاً : عَبْد الرزاق في المصنف ( 2567 ) و( 2903 ) ، وأحمد 1/93و119، والبخاري في رفع اليدين ( 1 ) و ( 9 ) ، وأبو داود ( 744 ) و ( 761 ) ، وابن ماجه ( 864 ) و(1054) ، والترمذي ( 3423 ) ، وابن خزيمة ( 464 ) و ( 584 ) و( 607 ) و( 673 ) ، والطحاوي في شرح المعاني 1/222 و 239 ، وابن حبان ( 1771 ) و( 1772 ) و( 1774 ) ، والدارقطني 1/287 ، والبيهقي 2/33 و 74 ، من طرق ، عن موسى بن عقبة ، عن عَبْد الله بن الفضل، عن الأعرج بهذا الإسناد .وأخرجه مُسْلِم 2/185 ( 771 ) ( 201 ) ، والترمذي ( 3421 ) و ( 3422 ) ، وأبو يعلى ( 575 ) ، وابن خزيمة ( 723 ) ، والبيهقي 2/32 ، والبغوي ( 572 ) من طرق ، عن يوسف بن يعقوب الماجشون ، عن يعقوب بن الماجشون ، عن الأعرج ، بهذا الإسناد . وانظر : النكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 2/885 .
(48) - انظر : إرشاد طلاب الحقائق 1/267 ، والباعث الحثيث : 90 ، والنكت عَلَى كتاب ابن الصَّلاَحِ 1/641 ، وفتح المغيث 1/256 ، وتوضيح الأفكار 2/110-111 .
(49) - الكامل 1/111 ، وانظر : شرح التبصرة والتذكرة 2/77 طبعة الفحل ، وطبعة العلمية 2/270 .
(50) - انظر : منهج النقد في علوم الْحَدِيْث : 435 .
(51) - عِنْدَ : الطيالسي ( 2128 ) ، وعبد بن حميد ( 6259 ) ، والترمذي في " علله " الكبير ( 146 ) ، والطبراني في " الأوسط " ( 9387 ) .
(52) - انظر ها في المسند الجامع - (ج 16 / ص 595)(12523)
(53) - علل الترمذي : 89 عقيب ( 146 ) ، وانظر : العلل ومعرفة الرجال 2/243 ، والمراسيل : 94 ، وجامع الترمذي عقيب ( 527 ) ، والضعفاء الكبير 1/198(1/209)
المَزِيدُ في متَّصِل الأسانيد(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: المزيد اسم مفعول من " الزيادة ". والمتصل ضد المنقطع ، والأسانيد جمع إسناد .
ب) اصطلاحاً : زيادة راوٍ في أثناء سند ظاهره الاتصال .
هذا مبحث يراد به الإسناد الذي يأتي صريحاً بذكر السماع بين ثقتين ، فيقول الراوي الثقة المسمى ( خالد ) مثلاً : ( حدثني زيد ) ثم يوجد عن خالد هذا قوله : ( حدثني بكر عن زيد ) ، ويبحث في كل من الإسنادين إلى ( خالد ) فلا يوجد فيهما علة تدل على وهم أو خطأ ، وخالد نفسه لا يعاب في حفظه وصدقه ، بل هو ثقة ، فيقال : ( هذا من المزيد في متصل الأسانيد ) حملاً على كون ( خالد ) سمع الحديث أولا بواسطة ، ثم لقي ( زيداً ) فحدثه به ، وهذا واقع في الأسانيد غير مستنكر.
فالقول : هو من المزيد في متصل الأسانيد أولى من تخطئة الثقة بغير حجة بينة ، إلا أن يوجد أن خالداً لم يدرك زيداً ، فيكون بعض الرواة أخطأ فيه ، أو وقع في الإسناد سقط من نسخة أو كتاب .(2)
2- أمثلة:(3)
مثاله : ما رواه البيقهي في السنن الكبرى (ج 5 / ص 220)(10391) أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ : مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الطَّابِرَانِىُّ بِهَا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الطُّوسِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ ح وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حَمْشَاذٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَلِىٍّ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ : عَارِمٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَرِاثِ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنِى الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ أَبِى كَثِيرٍ : أَنَّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ حَدَّثَهُ قَالَ حَدَّثَنِى الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ أُخْرَى ». قَالَ فَحَدَّثْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالاَ : صَدَقَ. لَفْظُ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ وَفِى رِوَايَةِ رَوْحٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِىِّ وَقَالَ :« فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى ». وَالْبَاقِى بِمَعْنَاهُ. {ت} وَهَكَذَا رَوَاهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَأَبُو عَاصِمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَبِى عُثْمَانَ الصَّوَّافِ عَنْ يَحْيَى ذَكَرُوا فِيهِ سَمَاعَ عِكْرِمَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِىِّ.
فهذا إسناد صحيح متصل ، جاء بيان سماع رواته بعضهم من بعض من وجوه عن حجاج الصواف ، وهو ثقة .
قال البيهقي : (10392) وَقَدْ خَالَفَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ فَأَدْخَلَ بَيْنَهُمَا رَجُلاً أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِىَّ عَنْ حَبْسِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ». قَالَ عِكْرِمَةُ فَحَدَّثْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالاَ : صَدَقَ الْحَجَّاجُ.
{ت} وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِى حَبِيبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ.
{ج} قَالَ عَلِىُّ بْنُ الْمَدِينِىِّ : الْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ أَثْبُتُ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَائِينِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ عَنْ عَلِىِّ ابْنِ الْمَدِينِىِّ فَذَكَرَهُ. اهـ
وقال الترمذي(4): وَرَوَى مَعْمَرٌ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثَ.
وَحَجَّاجٌ الصَّوَّافُ لَمْ يَذْكُرْ فِى حَدِيثِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَافِعٍ. وَحَجَّاجٌ ثِقَةٌ حَافِظٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ سَلاَّمٍ أَصَحُّ.اهـ
قلتُ : وهذه رواية صحيحة كذلك ، لكنها لا تقدح في اتصال الأولى ، لثقة حجاج الصواف وإتقانه عن يحيى بن أبي كثير .
فهذه صورة للمزيد في متصل الأسانيد ، بنيت على اعتبار انتفاء المسوغ لتخطئة الثقة ، فيكون الجمع : أن عكرمة سمعه بواسطة عن الحجاج ، ثم لقي الحجاج فسمعه منه دون واسطة .
أما إن جاء الإسناد معنعناً في موضع ، وجاء من جهة أخرى صحيحة بزيادة راو في محل العنعنة ، فليس من المزيد في متصل الأسانيد ، بل الرواية الناقصة ضعيفة للانقطاع ، لا للشذوذ ، والمزيدة هي المحفوظة .
وذلك مثل : ما رواه أبان بن يزيد العطار وحرب بن شداد ، ومحمد بن المثنى ، عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ يُخَاصِمُ فِى أَرْضٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ».(5).
ولا إشكال في صحته على هذا الظاهر ، لكن رواه أصحاب بن أبي كثير مرة أخرى : علي بن المبارك ، وحسين المعلم ، وأبان العطار ، وحرب بن شداد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة ، به(6).
فزادوا واسطة بين يحيى وأبي سلمة ، ولم نجد في شيء من الطرق أن يحيى سمعه من أبي سلمة ، فدلَّ على أنه تلقاه عنه بالواسطة ، وروايته بدونها منقطعة .
أما مجيء الزيادة وهي مرجوحة شاذة ، فمثل ما رواه زهير بن معاوية ، عن حميد الطويل ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، قال : لبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة والحج معاً ، فقال : " لبيك بعمرة وحجة " .
قال البخاري : " هذا خطأ ، أصحاب حميد يقولون : عن حميد سمع أنساً "(7).
قلت : كذلك قال هشيم بن بشير(8)، ويحيى بن سعيد القطان(9)، وسفيان بن عيينة(10)، ذكروا جميعاً عن حميد سمع أنساً .
كما رواه غيرهم ما يزيد على ستة عشر نفساً من أصحاب حميد ، عنه ، لم يذكروا واسطة بينه وبين أنس ، بما يأتي على تأييد رواية من ذكر السماع .(11)
فهذه الصورة أيضاً ليست من المزيد في متصل الأسانيد.
مثال آخر :
روى عبد الله ابن المبارك قال: حدَّثنا سُفْيان, عن عبد الرَّحمن بن يزيد, حدَّثني بُسْر بن عُبيد الله بضمِّ المُوحدة وبالمُهملة, وأبوه مُصغَّر قال: سمعت أبا إدريس الخَوْلاني قال: سمعتُ واثلة بن الأسْقَع يقول: سمعتُ أبَا مَرْثد الغَنَوي يقول: سمعتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تَجْلسُوا على القُبُور ولا تُصلُّوا إليها» "(12)
3- الزيادة في هذا المثال :
فذكرُ سُفيان وأبي إدْريس في هذا الإسْنَاد زيادةُ وَهْم, فالوَهْم في سُفْيان مِمَّن دون ابن المُبَارك, لأنَّ ثِقَات رووهُ عن ابن المُبَارك, عن ابن يزيد نفسه, منهم: ابن مهدي, وحسن بن الرَّبيع, وهنَّاد بن السَّري وغيرهم.
ومِنْهم من صَرَّح فيه بالإخْبَار.
وفي أبي إدْريس من ابن المُبَارك, لأنَّ ثِقَاتٍ رَوَوهُ عن ابن يزيد فلم يذكُروا أبَا إدْريس, ومِنْهُم من صَرَّح بسَمَاع بُسْر من وَاثلة.
الزيادة في هذا المثال في موضعين ، الموضع الأول في لفظ " سفيان " والموضع الثاني في لفظ " أبا إدريس " وسبب الزيادة في الموضعين هو الوهم .(13)
4- شروطُ ردِّ الزيادة:
يشترط لِرَدَّ الزيادة واعتبارها وهماً ممن زادها شرطان وهما:
أن يكون من لم يزدها أتقن ممن زادها .
أن يقع التصريح بالسماع في موضع الزيادة .
فإن اختل الشرطان أو واحد منهما ترجحت الزيادة وقُبِلَتْ ، واعتبر الإسناد الخالي من تلك الزيادة منقطعاً ، لكن انقطاعه خَفٍيُّ وهو الذي يسمَّى " المرسلُ الخفي " .
5- الاعتراضات الواردة على ادَّعاء وقوع الزيادة :
يُعْتَرَض على ادعاء وقوع الزيادة باعتراضين هما :
إن كان الإسناد الخالي عن الزيادة بحرف "عن "في موضع الزيادة، فيَنْبغي أن يُجْعلَ مُنقطعًا.
وان كان مصرََّحا فيه بالسماع، أُحْتُمِل أن يكون سَمِعَهُ من رجل عنه أولاً، ثم سمعه منه مباشرة، ويمكن أن يُجاب عن ذلك بما يلي:(14)
أما الاعتراض الأول فهو كما قال المعترض.
وأما الاعتراض الثاني، فالاحتمال المذكور فيه ممكن لكن العلماء لا يحكمون على الزيادة بأنها وهم إلا مع قرينة تدل على ذلك.
6- أشهرُ المصنفات فيه :
كتاب " تمييز المزيد في متصل الأسانيد " للخطيب البغدادي. في كثير منه نظر
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 63) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 23) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 20) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 24) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 20) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 478) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 477) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 247)
(2) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 247)
(3) - ومقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 63) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 100) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 479) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 23) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 247)
(4) - سنن الترمذى (953 )
(5) - أخرجه أحمد ( 6 / 64 ، 259 )(25085) من طريق أبان بن يزيد العطار ، والطحاوي في " شرح المشْكل " ( رقم : 6145 ، 6146 ) من طريق حرْب بن شداد ، ومُحمد بن المثنى ، جميعاً ، عن يحيى بن أبي كثير ، به ، واللفظ لأبان .
(6) - أخرجه أحمد ( 6 / 78 ) والبخاري ( رقم : 2321 ) من طريق حسين المعلم ، والبخاري ( رقم : 3023 ) من طريق علي بن المبارك ، وأحمد ( 6 / 252 ) ومسلم ( رقم : 1612 ) من طريق حرْبٍ ، ومسلم من طريق أبان ، وفي رواية حُسين وأبان قال يحيى : " حدثني مُحمد بن إبراهيم ، أن أبا سلمة حدثه " .انظر ها في المسند الجامع - (ج 20 / ص 42)(16785)
(7) - العلل الكبير ، للترمذي ( 1 / 375 ) .
(8) - أخرجه أحمد ( 19 / 22 رقم : 11958 ) ومسلم ( رقم : 1251 ) وأبو داود ( رقم : 1795 ) والنسائي ( رقم : 2729 ) وابنُ خزيمة ( رقم : 2619 ) والطبراني في " الصغير " ( رقم : 968 ) والبيهقي في " الكبرى " ( 5 / 9 ) .
(9) - أخرجه أحمد ( 20 / 236 رقم : 12870 ) .
(10) - أخرجه الحميدي ( رقم : 1215 ) وأبو يعلى ( 6 / 325 ، 391 رقم : 3648 ، 3737 -وسقط منه ذكر سفيان في الموضع الأول ) .
(11) - انظر المسند الجامع - (ج 1 / ص 915)( 658 )
(12) - انظر صحيح مسلم برقم (2295 ) وسنن الترمذى برقم (1069 ) قَالَ أَبُو عِيسَى قَالَ مُحَمَّدٌ وَحَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ خَطَأٌ أَخْطَأَ فِيهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَزَادَ فِيهِ عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ وَإِنَّمَا هُوَ بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ وَلَيْسَ فِيهِ عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ وَبُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَدْ سَمِعَ مِنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ.
(13) - انظر المسند الجامع - (ج 14 / ص 1108)(11283)
(14) - التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 20) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 101)(1/210)
المضْطَّرِبُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: هو اسم فاعل من " الاضطراب " وهو اختلال الأمر وفساد نظامه، وأصله من اضطراب الموج ، إذا كثرت حركته وضرب بعضه بعضاً .
ب) اصطلاحاً: هو الحديث الذي تختلف فيه الرواة مع اتحاد مصدرهم، ولم يستقم التوفيق بينهم ولا الترجيح على طريقة المحدثين النقاد، وإن كان ذلك ممكنا على التجويز العقلي المجرد،
2- شرح التعريف :
أي هو الحديث الذي يُرْوَى على أشكال متعارضة متدافعة، بحيث لا يمكن التوفيق بينها أبداً، وتكون جميع تلك الروايات متساوية في القوة من جميع الوجوه، بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الأخرى بوجه من وجوه الترجيح.
3- شروط تحقق الاضطراب:
يتبين من النظر في تعريف المضطرب وشرحه أنه لا يسمى الحديث مضطرباً إلا إذا تحقق فيه شرطان وهما:
اختلاف روايات الحديث بحيث لا يمكن الجمع بينهما.
تساوي الروايات في القوة بحيث لا يمكن ترجيح رواية على أخرى .
أما إذا أمكن الجمع فَلاَ اضطراب ، وكذا إذا أمكن ترجيح إحدى الروايات عَلَى البقية ، فَلاَ اضطراب إذن فالراجحة محفوظة(2)أو معروفة(3)والمرجوحة شاذة(4)أو منكرة(5).
وإذا كان المخالف ضعيفاً فلا تعل رِوَايَة الثقات برواية الضعفاء(6)فمن شروط الاضطراب تكافؤ الروايات(7).
وقد لا يضر الاختلاف إذا كان من عدة رواة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ يذكر الْجَمِيْع ، ويخبر كُلّ راوٍ بِمَا حفظه عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - (8). وَلَيْسَ كُلّ اختلاف يوجب الضعف(9)إنما الاضطراب الَّذِي يوجب الضعف هُوَ عِنْدَ اتحاد المدار، وتكافؤ الروايات، وعدم إمكان الجمع ، فإذا حصل هذا فهو اضطراب مضعف للحديث، يومئ إلى عدم حفظ هذا الراوي أو الرواة لهذا الحديث . قال ابن دقيق العيد : (( إذا اختلفت الروايات ، وكانت الحجة ببعضها دون بعضٍ توقف الاحتجاج بشرط تعادل الروايات ، أما إذا وقع الترجيح لبعضها ؛ بأن يكون رواتها أكثر عدداً أو أتقن حفظاً فيتعين العمل بالراجح ، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالأقوى ، والمرجوح لا يمنع التمسك بالراجح ))(10).
وَقَالَ الحافظ ابن حجر: (( الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين : أحدهما استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قدم ، ولا يعل الصحيح بالمرجوح .
ثانيهما : مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد الْمُحَدِّثِيْن ، ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه ، فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب ، ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك ))(11).
وَقَالَ المباركفوري : (( قَدْ تقرر في أصول الحديث أن مجرد الاختلاف ، لا يوجب الاضطراب، بل من شرطه استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجح أحد الأقوال قدم ))(12).
فإن صورة الجمع بين الروايات المختلفة وأمثلتها بحاجة إلى معرفتها في هذه المناسبة حتى يكون منهج المحدثين في معالجة ظاهرة الاختلاف في رواية الحديث واضحا بجميع جوانبها وأبعادها.
وأما مثال الجمع بين الروايات المختلفة فحديث: أفطر الحاجم والمحجوم الذي رواه جماعة من الرواة عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ أَبِى الأَشْعَثِ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِى لِثَمَانَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ « أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ بِإِسْنَادِ أَيُّوبَ مِثْلَهُ.(13)،
وخالفهم بعض الرواة فرووه عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ أَبِى أَسْمَاءَ - يَعْنِى الرَّحَبِىَّ - عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ». قَالَ شَيْبَانُ أَخْبَرَنِى أَبُو قِلاَبَةَ أَنَّ أَبَا أَسْمَاءَ الرَّحَبِىَّ حَدَّثَهُ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(14).
هذا الاختلاف الذي ظهر بين الرواة عن شيخهم أبي قلابة مما يجعل الناقد يتأمل فيه، ويبحث عما قاله أبو قلابة : فهل قال عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس؟ أو عن أبي أسماء عن ثوبان ؟ أو رواه هكذا مرة وهكذا أخرى .
وعلى الرغم من وجود الاختلاف في حديث أبي قلابة فإن النقاد لم يحكموا عليه بالاضطراب، بل حكموا بصحته على الوجهين، وذلك لقرينة تدل على أنه حدث بهما جميعا.
يقول الإمام الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فصححه فقلت : وكيف ما فيه من اضطراب ؟ فقال : كلاهما عندي صحيح ، لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان وعن أبي الأشعث عن شداد بن أوس ، روى الحديثين جميعا . وهكذا ذكروا عن علي بن المديني أنه قال : حديث شداد بن أوس وثوبان صحيحان(15).
ورواية يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة على الوجهين جميعا تعتبر قرينة قوية، على أن أبا قلابة قد حدث بهما ، والجمع بين الوجوه المختلفة بناء على القرائن هو طريقة المحدثين النقاد ، وليس ذلك على التجويز العقلي، ولم يشر أحد من الأئمة النقاد إلى ذلك عند تصحيح الروايتين عن أبي قلابة.
ويمكن لنا أن نستخلص أن الاضطراب ينتفي عن الحديث إذا تم الجمع بين الوجوه المختلفة أو ترجيح وجه منها على طريقة النقاد، كما أنه لا يعد كل اختلاف اضطرابا، وأن شروط الاضطراب هي : الاتحاد في المصدر ، وعدم إمكانية التوفيق بين الوجوه المختلفة، ولا الترجيح على منهج النقاد، وإن كان ممكنا على التجويز العقلي.(16)
4- أقسامُه:
وقد يقع الاضطراب من راو واحد، أو من رواة ، لخلل طرأ لأحدهم في ضبط ذلك الشيء المضطرب فيه وحفظه، ولذا أصبح المضطرب نوعا من المعلول، وأنت تعرف أن الحديث المضطرب لا يخلو من وجود خطأ فيه، بيد أن هذا الخطأ لا يدرى بالتحديد، وإلا يكون الحديث صحيحا من جيع الوجوه الواردة في روايته، ولا يعرف هذا الاضطراب إلا بالجمع والمقارنة.
وقد يكون الاضطراب في الإسناد، وقد يكون في المتن، وقد يكون فيهما جميعا، وما وقع فيه الاضطراب لا يصح، وإن لم يؤثر في صحة غيره من السند والمتن.
ينقسم المضطرب بحسب موقع الاضطراب فيه إلى قسمين مضطرب السند ومضطرب المتن، ووقوع الاضطراب في السند أكثر .
مثلا إذا اختلف الرواة حول شيخهم ، واضطربوا في اسمه، فذكر بعضهم شخصا، والآخرون شخصا غيره، وكلاهما ثقة، فإن هذا النوع من الاضطراب يقدح فقط في ثبوت شخص بعينه، بدون أن يؤثر ذلك في صحة المتن، لأنه أيا كان هذا الشيخ فالمتن دائر على رواية ثقة، وأما إن كان الاختلاف حول ثقة وضعيف فإنه قادح في تعيين الراوي؛ هل هو هذا الثقة أو ذلك الضعيف، كما أنه يقدح في المتن، لأنه إذا كان راويه ضعيفا، فالحديث يكون حينئذ مما تفرد به الضعيف.
وكحديث أَبِى حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ لَكَ مِنْ نَفْسِى . فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا . قَالَ « قَدْ زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ » ..(17)
واختلف الرواة على أبي حازم؛ فقال مالك وجماعة : فقد زوجناكها
وقال ابن عيينة : أنكحتكها،
وقال ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن : ملكتكها،
وقال الثوري :أملكتكها ،
وقال أبو غسان :أمكناكها(18).
فصيغة العقد اضطرب فيها الرواة على أبي حازم، فذلك مما يقدح في تحديد الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الألفاظ، دون أن يؤثر ذلك في صحة المتن عموما، ولهذا رواه البخاري في مواضع من الصحيح معتمدا على ما لم يختلف فيه الرواة، كما هو ظاهر من أبواب الحديث. قلت : ومع هذا فلم يقدح هذا الاختلاف عند العلماء، قال الحافظ ابن حجر: (( وأكثر هذه الروايات في الصحيحين ، فمن البعيد جداً أن يكون سهل بن سعد - رضي الله عنه - شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مراراً عديدة ، فسمع في كل مرة لفظاً غير الذي سمعه في الأخرى(19)
بل ربما يعلم ذلك بطريق القطع - أيضاً - فالمقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة ، فلم يبق إلا أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفظاً منها، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى )) اهـ(20).
تحرير معنى الاضطراب يتبين من حصره في الصورتين التاليتين :
الصورة الأولى : أن يروَى الحديث على أوجه مختلفة متساوية في القوة ، بحيث يتعذر الترجيح .
فهذا وإن لم نجزم بخطأ أحد من رواته ، لكن الخطأ موجود من راو أو أكثر من غير تعيين .
وتصح دعوى الاضطراب حين يتعذر الجمع بين الوجوه المختلفة ، فإذا أمكن الجمع فلا اضطراب .
وهذه الصورة واردة في السند والمتن .
فمثالها في السند : ما وقع من الاضطراب الشديد في إسناد حديث جرهد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الفخذ عورة " .
فهذا الحديث اضطرب فيه الرواة على نحو من عشرين وجهاً مختلفاً ، قد يمكن إرجاع بعض منها إلى بعضها الآخر ، لكن لا انفكاك عن بقاء الاختلاف المؤثر ، الذي يتعذر معه ترجيح بعضها على بعض(21).
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ لَهُ عِلَّتَانِ: إحْدَاهُمَا: الِاضْطِرَابُ الْمُؤَدِّي لِسُقُوطِ الثِّقَةِ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: زُرْعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: زُرْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: زُرْعَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَرْهَدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: زُرْعَةُ عَنْ آلِ جَرْهَدٍ عَنْ جَرْهَدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: وَإِنْ كُنْت لَا أَرَى الِاضْطِرَابَ فِي الْإِسْنَادِ عِلَّةً، فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَ مَنْ يَدُورُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ ثِقَةً، فَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّهُ اخْتِلَافُ النَّقَلَةِ عَلَيْهِ إلَى مُرْسَلٍ وَمُسْنَدٍ، أَوْ رَافِعٍ وَوَاقِفٍ، أَوْ وَاصِلٍ، وَقَاطِعٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الَّذِي اضْطَرَبَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ غَيْرَ ثِقَةٍ، أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ، فَالِاضْطِرَابُ يُوهِنُهُ،أَوْ يَزِيدُهُ وَهْنًا وَهَذِهِ حَالُ هَذَا الْخَبَرِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ زُرْعَةَ، وَأَبَاهُ غَيْرُ مَعْرُوفَيْ الْحَالِ، وَلَا مَشْهُورَيْ الرِّوَايَةِ، انْتَهَى كَلَامُهُ.(22)
وَقَدْ ورد حَدِيث لعمار في التيمم بلفظ : (( أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمره بالتيمم للوجه والكفين )) ، وَفِي رِوَايَة : (( إنما يكفيك أن تَقُوْل بيديك هكذا : ثُمَّ ضرب الأرض ضربة وَاحِدَة ، ثُمَّ مسح الشمال عَلَى اليمين ، وظاهر كفيه ووجهه )) ، وَفِي رِوَايَة : ((ضرب النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ، ونفخ فِيْهما ، ثُمَّ مسح بهما وجهه وكفيه )) ، وَفِي رِوَايَة : (( ثُمَّ ضرب بيديه الأرض ضربة وَاحِدَة )) ، وَفِي رِوَايَة : (( وأمرني بالوجه والكفين ضربة وَاحِدَة )) ، وَفِي رِوَايَة : (( يكفيك الوجه و الكفان ))(23).
فهذا الحَدِيْث يختلف عن الحَدِيْث الأول مِمَّا دعى بَعْض العُلَمَاء إلى الحكم عليه بالاضطراب ، قَالَ الإِمَام التِّرْمِذِي :(( ضعف بَعْض أهل العِلْم حَدِيث عَمَّار عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التيمم للوجه و الكفين لما روي عَنْهُ حَدِيث المناكب و الآباط))(24).
وَقَالَ ابن عَبْد البر : (( كُلّ مَا يروى في هَذَا الباب فمضطرب مختلف فِيهِ ))(25). إلا أن بَعْض العُلَمَاء حاولوا أن يوفقوا بَيْنَ الحَدِيْث الأول والثَّانِي باعتبار التقدم و التأخر، وباعتبار أن الأول من فعلهم دُوْنَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ الأثرم : (( إِنَّمَا حكى فِيهِ فعلهم دُوْنَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا حكى في الآخر أَنَّهُ أجنب ؛ فعلّمه عَلَيْهِ الصَّلاَة و السلام ))(26).
وَقَالَ ابن حبان :(( كَانَ هَذَا حَيث نزل آية التيمم قَبْلَ تعليم النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عماراً كَيْفِيَّة التيمم ثُمَّ علمه ضربة وَاحِدَة للوجه والكفين لما سأل عمارٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن التيمم ))(27).
وذهب الحنفية إلى ترجيح روايته إلى المرفقين لحديثين أحدهما حَدِيث أبي أمامة الباهلي وحَدِيث الأسلع(28).
وَقَالَ البَغَوِيّ : (( وما روي عن عَمَّار أَنَّهُ قَالَ: تيممنا إلى المناكب ، فَهُوَ حكاية فعله ، لَمْ ينقله عن رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا حكى عن نَفْسه التمعك في حالة الجنابة ، فلما سأل النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالوجه والكفين انتهى إليه ، وأعرض عن فعله ))(29).
قُلْتُ : وما ذكر من توجيه عَلَى هَذَا النحو يشكل عَلَيْهِ أَنَّهُ ورد في الحَدِيْث
الأول :(( فقام المسلمون مَعَ رَسُوْل الله فضربوا بأيديهم ...)).(30)اهـ
قلت : كما يصلح له مثالاً حديث : " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " ، فإن البعض اعتبره مضطرب سنداً ومتناً ، والبعض الآخر ردَّ هذا الاضطراب
قال الزيلعي(31):
" وَقَدْ أَجَادَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي كِتَابِ الْإِمَامِ جَمْعَ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَرِوَايَاتِهِ وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ، وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ إطَالَةً تَلَخَّصَ مِنْهَا تَضْعِيفُهُ لَهُ فَلِذَلِكَ أَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِهِ فِي كِتَابِ الْإِلْمَامِ مَعَ شِدَّةِ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ. وَأَنَا أَذْكُرُ مَا قَالَهُ مُلَخَّصًا مُحَرَّرًا، وَأُبَيِّنُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ لَفْظًا وَمَعْنًى.
أما اضْطِرَابُهُ فِي اللَّفْظِ، فَمِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ. وَالْمَتْنِ، أَمَّا إسْنَادُهُ، فَمِنْ ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ: أحدهما رِوَايَةُ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، رَوَاهَا أَبُو دَاوُد عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ زبير بت عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أبيه سئل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَاءِ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ عليه السلام: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ" ، وَرَوَاهُ هَكَذَا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جعفر عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. وَأَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَكِيعِيُّ. وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَأَبُو عبيد بْنُ أَبِي السَّفَرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَادَةَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَحَاجِبُ بْنُ سُلَيْمَانَ. وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ. وَالْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيُّ الْحَافِظُ : وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيِّ. وَمُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ الْأَزْرَقِ. وَيَعِيشَ بْنِ الْجَهْمِ. وَغَيْرِهِمْ وَتَابَعَهُمْ الشَّافِعِيُّ عَنْ الثِّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قاله الدارقطني، وذكر ابْنُ مَنْدَهْ أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ رَوَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ أَبِي الْجَارُودِ عَنْ الْبُوَيْطِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَغَيْرِهِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، فَدَلَّ رِوَايَتُهُ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَارِثِ، وَهُوَ مِنْ الْحِجَازِيِّينَ. وَمِنْ أَبِي أُسَامَةَ، - وَهُوَ كُوفِيٌّ - جَمِيعًا عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحُفَّاظُ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ. وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى التَّرْجِيحِ، فَيُقَالُ: عَنْ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: هُوَ الصَّوَابُ وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ ثِقَةٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ ثِقَةٌ،وَالْحَدِيثُ لِمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَشْبَهُ، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: وَاخْتُلِفَ عَلَى أَبِي أُسَامَةَ، فَرَوَى عَنْهُ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ محمد بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَالَ: مَرَّةً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، لِأَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ، رَوَاهُ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، سُئِلَ، فَذَكَرَهُ، وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَقَالَ: وَلَمَّا اُخْتُلِفَ عَلَى أَبِي أُسَامَةَ فِي إسْنَادِهِ أَحْبَبْنَا أَنْ نَعْلَمَ مَنْ أَتَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، فَوَجَدْنَا شُعَيْبَ بْنَ أَيُّوبَ قَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَصَحَّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَصَحَّ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ كَثِيرٍ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ جَمِيعًا، فَكَانَ أَبُو أُسَامَةَ يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرَّةً يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدَانَ الصَّيْدَلَانِيِّ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ محمد بن جعفر بن الزبير، فذكره ثم رواه عن ابن سعدان عن شعيب بن أيوب عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْبَيْهَقِيُّ، فَأَخْرَجَ رِوَايَةً عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ.
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 17) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 9) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 6) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 4) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 108) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 222) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 15) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 20) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 118) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 212) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 91) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 117) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 41)
(2) - وهي رواية الثقة إذا خالفها الثقة الأقل حفظاً أو عدداً .
(3) - وهي رواية الثقة التي خالفها الضعيف .
(4) - وهي رواية الثقة التي خالفها من هو أوثق عدداً أو حفظاً .
(5) - وهي رواية الضعيف التي خالفت الثقات .
(6) - فتح الباري 3/213 .
(7) - فتح الباري 5/318 .
(8) - انظر : طرح التثريب 2/30 .
(9) - هدي الساري : 347 .
(10) - بحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 103)
(11) - بحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 103)
(12) - بحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 103)
(13) - سنن أبى داود(2371 ) صحيح
(14) - سنن أبى داود (2369 ) وهو صحيح
(15) - العلل الكبير للترمذي 1/360-364 .
(16) - انظر الحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 41)
(17) - رواه البخاري في الوكالة باب وكالة المرأة في النكاح 4/486 (من فتح الباري ) ومواضع أخرى ، انظر أرقام الحديث فيه 5030 ، 5087 ،5121 ،5126 ،5132 ،5135 ،5141 ،5149 ،5150 . و انظر المسند الجامع - (ج 7 / ص 397)(5098)
(18) - هذا الحديث أورده الحافظ ابن حجر في نكته 2/808 مثالا للاضطراب ، لكن فيه نظر لأنه يمكن الترجيح لقول الإمام مالك وجماعة مثل حماد بن زيد وفضل بن سليمان وزائدة بن قدامة وسفيان الثوري لكثرتهم وإمامتهم .
(19) - القطع بذلك ظاهر لتفرد أبي حازم عن سهل ، به .
(20) - النكت 2/809 -810 .
(21) - انظر المسند الجامع - (ج 4 / ص 965)(3130) والبدر المنير - (ج 4 / ص 14-152)
(22) - نصب الراية - (ج 4 / ص 242)
(23) - انظر الروايات ومخرجيها المسند الجامع - (ج 13 / ص 903)( 10403-10408)
(24) - جامع التِّرْمِذِي عقب حَدِيث (144) .
(25) - التمهيد 19/287 .
(26) - نصب الراية 1/156
(27) - الإحسان عقب حَدِيث (1307) و ط الرسالة ( 1310 ) .
(28) - المبسوط 1/107 .
(29) - شرح السُّنَّة 2/114 عقب (309) .
(30) - بحوث في المصطلح للفحل - (ج 1 / ص 99)
(31) - نصب الراية - (ج 1 / ص 105) فما بعد(1/211)
وعثمان ابنا أَبِي شَيْبَةَ بِذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، إلى خِلَافِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى مِنْ جِهَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَارِثِيِّ، فِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَلَى خِلَافِ رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحَارِثِيِّ، وَفِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَصَدَا بِذَلِكَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ علي الاسفرائني مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ وَأَنَا سَأَلْته حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْوَاسِطِيُّ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الماء بمثله، وههنا اخْتِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي الرِّوَايَةِ عُبَيْدُ الله بن عبد اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا عَبْدُ اللَّهِ أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَوَابٌ، فَكَأَنَّ إسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ، فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ يَقُولُ: غَلِطَ أَبُو أُسَامَةَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إنَّمَا هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَذَكَرَهُ، إلَّا أَنَّ عِيسَى بْنَ يُونُسَ أَرْسَلَهُ، وَرَأَيْت فِي كِتَابِ - إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الْكِسَائِيّ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ مَوْصُولًا، وَرَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ مَوْصُولًا، وَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ فِي الْأَصْلِ، فَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَهُ أَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ وَذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ عَنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ مَوْصُولَةً، وَذَكَرَ أَنَّ رِوَايَةَ عِيسَى بْنِ يُونُسَ أَشْبَهُ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، مِثْلَ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ فِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ. وَالْوَلِيدِ بْنِ كثير قال: روى هَذَا الْحَدِيثَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ فَهَذَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَافَقَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ فِي ذِكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر، وروايتهما وافق رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَغَيْرِهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ فِي ذِكْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالْكُوفَةِ. وَالْبَصْرَةِ عَلَى حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِاتِّفَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ. وَالْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ رِوَايَتِهِمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَعُبَيْدُ اللَّهِ. وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَقْبُولَانِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فِي كُتُبِهِمْ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ. وَالْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد. وَالنَّسَائِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ الْمُنْذِرِ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ أَخْرَجَ عَنْهُ مُسْلِمٌ. وَأَبُو دَاوُد. وَالنَّسَائِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ الْمُنْذِرِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ، وَقَالَ شُعْبَةُ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ ثِقَةٌ ثِقَةٌ ثِقَةٌ، انْتَهَى. قال الشيخ: وكان أبا عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ حَكَمَ بِالصِّحَّةِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ جِهَةِ الرُّوَاةِ، وَأَعْرَضَ عَنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ وكثرة الاختلاف فيه وَالِاضْطِرَابِ، وَلَعَلَّ مُسْلِمًا تَرَكَهُ لِذَلِكَ، وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْحَدِيثُ مَحْفُوظٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا أَعْنِي عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ كِلَاهُمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ من أهل الرواية، وهذا خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ كَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ فِيمَا حَكَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حاتم، قال: سألت أبي زُرْعَةَ عَنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقُلْت: إنَّهُ يَقُولُ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: ابْنُ إسْحَاقَ لَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُقْضَى لَهُ، قُلْت: مَا حَالُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ؟ فَقَالَ: صَدُوقٌ.
الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَنَّادٍ وَأَبُو دَاوُدمِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَيَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ. وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ. وَابْنِ الْمُبَارَكِ كُلُّهُمْ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ. وَزَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ محمد عن عَائِشَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَة عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ، وَقَالَ فِيهِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلَاةِ، وَتَرِدُهُ السِّبَاعُ. وَالْكِلَابُ، فَقَالَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: كَذَا قَالَ: السِّبَاعُ وَالْكِلَابُ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَكَذَلِكَ قَالَهُ مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ - الْكِلَابُ وَالدَّوَابُّ - إلَّا أَنَّ ابْنَ عَيَّاشٍ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إسْنَادِهِ، انْتَهَى. وَهَذَا الِاخْتِلَافُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ ابْنِ عَيَّاشٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ السُّلَمِيُّ عَنْ ابْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْقَلِيبِ يُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ، وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْكِلَابُ وَالدَّوَابُّ، قَالَ: "مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَخْرَجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَلَمَةَ اللَّبَقِيِّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَرَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ سِقْلَابٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَاخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهَا وَمَتْنِهَا، أَمَّا الْإِسْنَادُ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُوسَى بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجَّسُ" ، وَخَالَفَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، فَرَوَاهُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا أَيْضًا.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي اللَّفْظِ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ عَنْهُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: دَخَلْت مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بُسْتَانًا فِيهِ مِقْرَاةُ مَاءٍ فيه جلد بعبر مَيِّتٍ، فَتَوَضَّأَ فِيهِ، فَقُلْت لَهُ: أَتَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَفِيهِ جِلْدُ بَعِيرٍ مَيِّتٍ؟ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَرَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ الرَّازِيُّ عَنْ يَزِيدَ، فَلَمْ يَقُلْ: أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ. وَهُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ. وَكَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، قَالُوا فِيهِ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَرِوَايَةُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ. وَهُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمَّادٍ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ قَالَ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ، قَالَ الْحَاكِمُ: وَرَوَاهُ عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ. وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ عَنْ حَمَّادٍ لَمْ يَقُولُوا فِيهِ: أَوْ ثَلَاثًا، انْتَهَى، قُلْت: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِسَنَدِهِ، وَقَالَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ ، ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، بَعْدَ تَخْرِيجِ مَا ذُكِرَ مِنْ الرِّوَايَاتِ: وَرَوَاهُ عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ. وَيَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ. وَبِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ. وَالْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمَكِّيُّ. وَمُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ. وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعَيْشِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالُوا فِيهِ: إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجَّسْ، وَلَمْ يَقُولُوا: أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَخْرَجَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ طَرِيقَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْمِصِّيصِيِّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَلَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيِّ عَنْهُ، وَقَالَ: رَفَعَهُ هَذَا الشَّيْخُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ زَائِدَةَ، وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَائِدَةَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّوَابُ، ثُمَّ خَرَّجَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فِي مَتْنِهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَالْعُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ" ، انْتَهَى. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَوَهَمَ فِي إسْنَادِهِ، وَكَانَ ضَعِيفًا كَثِيرَ الْخَطَأِ، وَخَالَفَهُ رَوْحُ بْنُ القاسم. وسفيان الثوري. وعمر بْنُ رَاشِدٍ رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، ورواه أيوب السخيتنايي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يُجَاوِزْ بِهِ، ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ جِهَةِ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجَّسْ، ثُمَّ أَخْرَجَ رِوَايَةَ سُفْيَانَ مِنْ جِهَةِ وَكِيعٍ. وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَقَالَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ، وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ مَعْمَرٍ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ عَنْهُ وَأَخْرَجَ رِوَايَةَ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: إذَا بلغ الماءء أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يُنَجَّسْ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ عبد الرحمن عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: إذَا كَانَ الْمَاءُ أَرْبَعِينَ قُلَّةً لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا قَالَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، رَوَوْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالُوا: أَرْبَعِينَ غَرْبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرْبَعِينَ دَلْوًا، وَسُلَيْمَانُ بْنُ سِنَانٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ. وَأَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ.(1/212)
وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ فِي مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: إنَّ الْقُلَّةَ - اسْمٌ مُشْتَرَكٌ - يُطْلَقُ عَلَى الْجَرَّةِ. وَعَلَى الْقِرْبَةِ. وَعَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا حَدِيثًا، فَقَالَ فِي مُسْنَدِهِ أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ بِإِسْنَادٍ لَا يَحْضُرُنِي ذِكْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا" ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: بِقِلَالِ هَجَرَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَدْ رَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ، فَالْقُلَّةُ تَسَعُ قِرْبَتَيْنِ، أَوْ قِرْبَتَيْنِ وَشَيْئًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُلَّةَ قِرْبَتَيْنِ وَنِصْفًا، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَمْسَ قِرَبٍ كِبَارٍ، كَقِرَبِ الْحِجَازِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا، إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَاءِ رِيحٌ أَوْ طَعْمٌ أَوْ لَوْنٌ، انْتَهَى. وَهَذَا فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سَنَدَهُ مُنْقَطِعٌ، وَمَنْ لَا يَحْضُرُهُ مَجْهُولٌ فَلَا يَقُومُ بِهَذَا الْحُجَّةُ عِنْدَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: بِقِلَالِ هَجَرَ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيِّ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ جريح، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، فَذَكَرَهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى : قُلْت لِيَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ: أَيُّ قِلَالٍ؟ قَالَ: قِلَالُ هَجَرَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَرَأَيْت قِلَالَ هَجَرَ، فَأَظُنُّ كُلَّ قُلَّةٍ تَسَعُ قِرَبًا ، قَالَ: وَإِسْنَادُ الْأَوَّلِ أَحْفَظُ ، فَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَيْسَ فيهما رفع هذا الْكَلِمَةِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَوْ كَانَ مُرْسَلًا، فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ عُقَيْلٍ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، ثُمَّ الطَّرِيقُ الَّتِي ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ إسْنَادَهَا أَحْفَظُ يَقُولُ فِيهَا: فَأَظُنُّ أَنَّ كُلَّ قُلَّةٍ تَحْمِلُ قِرْبَتَيْنِ، والقربة تسع عَشَرَ رِطْلًا، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْقُلَّتَيْنِ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ رِطْلًا، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى - كُلَّ قُلَّةٍ قِرْبَتَيْنِ - يَقْتَضِي أَنَّ الْقُلَّتَيْنِ أَرْبَعُ قِرَبٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سِقْلَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" وَالْقُلَّةُ: أَرْبَعُ آصُعٍ، قَالَ: وَالْمُغِيرَةُ تَرَكَ طَرِيقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ: عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَكَانَ هَذَا أَسْهَلَ عَلَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ يَرْوِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" وَيُذْكَرُ أَنَّهُمَا فَرْقَانِ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: قَوْلُهُ فِي مَتْنِهِ: مِنْ قِلَالِ هَجَرَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، لَا يُذْكَرُ إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ مُغِيرَةَ هَذَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ، قَالَ: وَمُغِيرَةُ بْنُ سِقْلَابٍ يُكَنَّى أَبَا بِشْرٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَسْنَدَ إلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ سِقْلَابٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْتَمَنًا عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَعَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، فَهَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَ فِيهِ قِلَالَ هَجَرَ، وَذَكَرَ أَنَّهُمَا فَرْقَانِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ مَنْ حَزَرَهُمَا بِخَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ، قَالَ: القلال: الجواني الْعِظَامُ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ سمعت هشيماً، يَقُولُ: الْقُلَّتَانِ: هُمَا الْجَرَّتَانِ الْكَبِيرَتَانِ، وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ:قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَأَصْحَابُهُ: الْقُلَّةُ مَا تقلد الْيَدُ أَيْ تَرْفَعُهُ وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ إسْحَاقَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ، فَقَالَ: هِيَ الْجِرَارُ الَّتِي يُسْتَقَى فِيهَا الْمَاءُ. وَالدَّوَارِيقُ، وَأَخْرَجَ عَنْ وَكِيعٍ، قَالَ: هِيَ الْجَرَّةُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْمَعْرِفَةِ: وَقِلَالُ هَجَرَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَلِشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ شَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ نَبْقِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى بِقِلَالِ هَجَرَ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: رُفِعْت إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ قَالَ: وَاعْتِذَارُ الطَّحَاوِيِّ فِي تَرْكِ الْحَدِيثِ أَصْلًا، بِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ الْقُلَّتَيْنِ، لَا يَكُونُ عُذْرًا عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْقَوْلِ بِبَعْضِ الْحَدِيثِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ فِيمَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ، وَتَوْقِيتُهُ بِالْقُلَّتَيْنِ لِمَنْعِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَاءِ الْجَارِي عَلَى أَصْلِهِ، انْتَهَى كَلَامُهُ . اهـ
قلت : وقد رد عليه ابن الملقن(1):
" الحَدِيث الرَّابِع أَنه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «إِذا بَلَغَ (الماءُ) قُلَّتَين ، لم يَحْمِلْ خَبَثًا» .
هَذَا الحَدِيث صَحِيح ، ثَابت ، من رِوَايَة عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب ، عَن أَبِيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ، «أنَّ رَسُول الله سُئِلَ عَن المَاء يكون بِأَرْض الفَلاَة ، وَمَا يَنُوبُه من السبَاع وَالدَّوَاب ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : إِذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْنِ ، لم يحملِ الخَبَث» .
أخرجه (الْأَئِمَّة) الْأَعْلَام : الشَّافِعِي ، وَأحمد ، والدارمي فِي «مسانيدهم» . وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيّ ،وَالنَّسَائِيّ ، وَابْن مَاجَه ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي «سُنَنهمْ» ، وَابْن خُزَيْمَة ، وَابْن حبَان فِي «صَحِيحهمَا» وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي «الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» وَالْبَيْهَقِيّ فِي كتبه الثَّلَاثَة : «السّنَن الْكَبِير» ، و «الْمعرفَة» ، و «الخلافيات» .
قَالَ يَحْيَى بن معِين : إِسْنَاد جيد .
وَقَالَ الْحَاكِم : هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم ، فقد احتجا جَمِيعًا بِجَمِيعِ رُوَاته ، وَلم يخرجَاهُ ، وأظنهما - وَالله أعلم - لم يخرجَاهُ لخلاف عَلَى أبي أُسَامَة عَلَى الْوَلِيد بن كثير حَيْثُ رَوَاهُ تَارَة : عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير ، وَتارَة : عَن مُحَمَّد بن (عبَّاد) بن جَعْفَر .
قَالَ : وَهَذَا خلاف لَا يُوهن الحَدِيث ، فقد احتجَّ الشَّيْخَانِ جَمِيعًا بالوليد بن كثير ، وَمُحَمّد بن (عباد) بن جَعْفَر ، وإنَّما قرنه (أَبُو أُسَامَة) إِلَى مُحَمَّد بن جَعْفَر ، ثمَّ حدَّث بِهِ مرّة عَن هَذَا وَمرَّة عَن ذَاك .
ثمَّ رَوَاهُ الْحَاكِم بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي أُسَامَة نَا الْوَلِيد بن كثير ، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير ؛ وَمُحَمّد بن عباد بن جَعْفَر ، عَن عبد الله بن عمر بِهِ .
قَالَ : فقد صحَّ وَثَبت بِهَذِهِ الرِّوَايَة صِحَة الحَدِيث ، وَظهر أَن أَبَا أُسَامَة سَاق الحَدِيث عَن الْوَلِيد بن كثير ، عَنْهُمَا جَمِيعًا ، قَالَ : وَقد تَابع الْوَلِيد بن كثير عَلَى رِوَايَته ، عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير مُحَمَّد بن إِسْحَاق .
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه : إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث عَلَى شَرط مُسلم فِي عبيد الله بن عبد الله ، وَمُحَمّد بن جَعْفَر ، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق ، والوليد بن كثير .
قَالَ : وَقد رَوَى هَذَا الحَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة ، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر ، (عَن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عَن أَبِيه . [ و] رَوَاهُ إِسْمَاعِيل ابْن علية ، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر) ، عَن رجل ، عَن ابْن عمر .
فَهَذَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق ، وَافق عِيسَى بن يُونُس ، عَن الْوَلِيد بن كثير فِي ذكر مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير ، وَعبيد الله (بن عبد الله) بن عمر . وروايتهما توَافق رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة وَغَيره ، عَن عَاصِم بن الْمُنْذر ، (فِي ذكر عبيد الله بن عبد الله) .
فَثَبت هَذَا الحَدِيث بِاتِّفَاق أهل الْمَدِينَة والكوفة وَالْبَصْرَة عَلَى حَدِيث عبيد الله بن عبد الله ، وباتفاق مُحَمَّد بن إِسْحَاق ، والوليد بن كثير ، عَلَى روايتهما عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير . فعبيد الله ، وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر مقبولان بإجماعٍ من الْجَمَاعَة فِي كتبهمْ . وَكَذَلِكَ مُحَمَّد (بن جَعْفَر) بن الزبير ، وَمُحَمّد بن عَبَّاد بن جَعْفَر ، والوليد بن (كثير) : فِي كتاب مُسلم بن الْحجَّاج ، وَأبي دَاوُد ، وَالنَّسَائِيّ . وَعَاصِم بن الْمُنْذر يُعْتَبر بحَديثه . وَابْن إِسْحَاق أخرج عَنهُ (مُسلم و) أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ .
وَعَاصِم بن الْمُنْذر اسْتشْهد (بِهِ) البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع ، وَقَالَ شُعْبَة بن الْحجَّاج : مُحَمَّد بن إِسْحَاق أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث . وَقَالَ ابْن الْمُبَارك : هُوَ ثِقَة ثِقَة ثِقَة . هَذَا آخر كَلَام الْحَافِظ ابْن مَنْدَه .
وَقد ذكرت فصلا فِي مُحَمَّد بن إِسْحَاق قبيل الْأَذَان ، وَذكرت أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فَرَاجعه .
وأعَلَّ قومٌ الحديثَ بِوَجْهَيْنِ :
أَحدهمَا : الِاضْطِرَاب ، وَذَلِكَ من وَجْهَيْن أَحدهمَا فِي الإِسناد ، وَالثَّانِي فِي الْمَتْن .
(أما الأول) : فَحَيْثُ رَوَاهُ الْوَلِيد بن كثير تَارَة عَن مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر ، وَتارَة عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير . وَحَيْثُ رُوِيَ تَارَة عَن (عبيد الله) بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب ، وَتارَة عَن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب .
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن هَذَا لَيْسَ اضطرابًا ، بل رَوَاهُ مُحَمَّد بن عباد ، وَمُحَمّد بن جَعْفَر ، وهما ثقتان معروفان . (وَرَوَاهُ) - أَيْضا - عبيد الله ، وَعبد الله ابْنا عبد الله بن عمر بن الْخطاب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وأرضاهم) ، وهما - أَيْضا - ثقتان ، وَلَيْسَ هَذَا من الِاضْطِرَاب .
وَقد جمع اليبهقي طرقه ، وبيَّن رِوَايَة المُحَمَّدَيْن ، وَعبد الله ، وَعبيد الله ، وَذكر (طرق) ذَلِك كلهَا ، وبيَّنها أحسن بَيَان ، ثمَّ قَالَ : والْحَدِيث مَحْفُوظ عَن عبد الله وَعبيد الله .
قَالَ : وَكَذَا كَانَ شَيخنَا أَبُو عبد الله الْحَافِظ الْحَاكِم يَقُول : الحَدِيث مَحْفُوظ عَنْهُمَا ، وَكِلَاهُمَا رَوَاهُ عَن أَبِيه . قَالَ : وَإِلَى هَذَا ذهب كثير من أهل الرِّوَايَة ، وَكَانَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه يَقُول : غلط أَبُو أُسَامَة فِي عبد الله بن عبد الله ، إِنَّمَا هُوَ عبيد الله بن عبد الله ، بِالتَّصْغِيرِ .
وَأَطْنَبَ الْبَيْهَقِيّ فِي تَصْحِيح الحَدِيث بدلائله ، فَحصل أنَّه غير مُضْطَرب . وَقد قَدَّمنا - قبل هَذَا - كَلَام الْحَاكِم أبي عبد الله فِي ذَلِك .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» ، و «علله» : رَوَاهُ الْوَلِيد بن كثير عَن المُحَمَّدَيْن . فصحَّ الْقَوْلَانِ عَن أبي أُسَامَة ، وصحَّ أَن الْوَلِيد بن كثير رَوَاهُ عَن هَذَا مرّة ، وَعَن الآخر أُخْرَى .
وَكَذَلِكَ قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : الظَّاهِر عِنْد الْأَكْثَرين صِحَة الرِّوَايَتَيْنِ .
وَقَالَ فِي «التذنيب» : الْأَكْثَرُونَ صححوا الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَالُوا إِن عبد الله ، وَعبيد الله روياه عَن أَبِيهِمَا .
وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» : لأجل هَذَا الِاخْتِلَاف تَركه البُخَارِيّ وَمُسلم ، لِأَنَّهُ عَلَى خلاف شَرطهمَا ، لَا لطعن فِي متن الحَدِيث ، فإنَّه فِي نَفسه حَدِيث مَشْهُور مَعْمُول بِهِ ، وَرِجَاله ثِقَات معدلون ، وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَاف مِمَّا يوهنه . ثمَّ ذكر مقَالَة الْحَاكِم الْمُتَقَدّمَة .
وَقَالَ الْخطابِيّ : يَكْفِي شَاهدا عَلَى صِحَة هَذَا الحَدِيث : أَن نُجُوم أهل الحَدِيث صحَّحوه ، وَقَالُوا بِهِ ، واعتمدوه فِي تَحْدِيد المَاء ، وهم الْقدْوَة ، وَعَلَيْهِم الْمعول فِي هَذَا الْبَاب .
فَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي ، وَأحمد ، وَإِسْحَاق ، وَأَبُو ثَوْر ، وَأَبُو عبيد ، وَابْن خُزَيْمَة ، وَغَيرهم .
وَقَالَ عبد الْحق : حَدِيث صَحِيح . وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي «كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد» : هَذَا الحَدِيث حَسَّنه الحفَّاظ وصحَّحوه ، وَلَا تُقبل دَعْوَى من ادَّعى اضطرابه .
(وَأما الْوَجْه الثَّانِي : فَهُوَ أَنه قد رُوي فِيهِ) : «إِذا كَانَ المَاء قدر قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاث ، لم يُنجسهُ شَيْء» .رَوَاهُ الإِمام أَحْمد .
وَفِي رِوَايَة للدارقطني : «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا ، لم يُنجسهُ شَيْء» .
وَفِي رِوَايَة : لِابْنِ عدي ، والعقيلي ، وَالدَّارَقُطْنِيّ : «إِذا بلغ المَاء أَرْبَعِينَ قلَّة ، فإنَّه لَا يحمل الْخبث» .
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك : أما الرِّوَايَتَيْنِ (الأولتين ، فهما شاذتان ، غير ثابتتين ، فوجودهما كعدمهما . قَالَه النَّوَوِيّ) فِي «شرح الْمُهَذّب» .
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «تَحْقِيقه» : رَوَاهُمَا حَمَّاد ، واختُلف عَلَيْهِ :
فروَى عَنهُ : إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج ، وهدبة ، وكامل بن طَلْحَة ، فَقَالُوا : «قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا» .
وَرَوَى عَنهُ : عفَّان ، وَيَعْقُوب بن إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ ، وَبشر بن السّري ، والْعَلَاء بن عبد الجَبَّار ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل ، وَعبيد الله بن مُوسَى العيشي : «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ» . وَلم يَقُولُوا : «أَو ثَلَاثًا» .
وَاخْتلفُوا عَن يزِيد بن هَارُون ، فروَى عَنهُ ابْن الصَبَّاح بِالشَّكِّ ، وَأَبُو مَسْعُود بِغَيْر شكّ . فَوَجَبَ الْعَمَل عَلَى قَول من لم يشك .
وَأما الرِّوَايَة الْأَخِيرَة ، فَلَيْسَتْ (من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ) فِي شَيْء ، (ذَاك) من طَرِيق ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر مَرْفُوعا ، تفرد بِهِ الْقَاسِم الْعمريّ ، عَن ابْن الْمُنْكَدر ، وَهِي مَرْدُودَة بالقاسم .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ : غلط فِيهِ ، وَكَانَ ضَعِيفا فِي (الحَدِيث) ، (جَرَّحه) أَحْمد ، (وَيَحْيَى) ، وَالْبُخَارِيّ ، وَغَيرهم من الْحفاظ .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : كَانَ ضَعِيفا ، كثير الْخَطَأ ، (وَوهم) فِي إِسْنَاده ، وَخَالفهُ روح بن الْقَاسِم ، وسُفْيَان الثَّوْريّ ، وَمعمر ، (فَرَوَوْه) عَن ابْن الْمُنْكَدر ، عَن عبد الله بن [ عَمْرو ] مَوْقُوفا . وَرَوَاهُ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ ، عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر ، من قَوْله لم (يُجَاوِزهُ) .
وَقد رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي هُرَيْرَة ، عَن أَبِيه ، قَالَ : إِذا كَانَ المَاء قدر أَرْبَعِينَ قلَّة ، لم يحمل خبثًا .
وَخَالفهُ غير وَاحِد ، فَرَوَوْه عَن أبي هُرَيْرَة ، فَقَالُوا : أَرْبَعِينَ غَرْبًا ، وَمِنْهُم من قَالَ : أَرْبَعِينَ دلوًا .
قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَقَول من يوافقُ قَوْله من الصَّحَابَة قَول رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقلَّتَيْنِ ، أولَى أَن يُتَّبع .
قلت : لَا جرم أَن ابْن الْجَوْزِيّ ذكر فِي «مَوْضُوعَاته» هَذِه الرِّوَايَة الثَّالِثَة ، وَقَالَ : إنَّها لَا تصح ، (وأنَّ) الْمُتَّهم بالتخليط فِيهَا : الْقَاسِم بن [ عبد الله ] الْعمريّ ، قَالَ عبد الله بن أَحْمد : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ ، لَيْسَ بِشَيْء ، وسمعته مرّة يَقُول : كَانَ يكذب ، وَفِي رِوَايَة : يضع الحَدِيث.
الْوَجْه الثَّانِي : مِمَّا أُعِلَّ بِهِ هَذَا الحَدِيث ، وَهُوَ : أَنه رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى (عبد الله) بن عمر (كَذَلِك رَوَاهُ ابْن عُلَيَّة) .
وَالْجَوَاب : أَنه (قد سبق رِوَايَته) مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - من طَرِيق الثِّقَات ، فَلَا يضر تفرد وَاحِد لم (يحفظ) بوقفه .
وَقد رَوَى الْبَيْهَقِيّ وَغَيره ، بالإِسناد الصَّحِيح ، عَن يَحْيَى بن معِين - إِمَام (أهل) هَذَا الشَّأْن - أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث ، فَقَالَ : جيد الْإِسْنَاد ، قيل لَهُ : فَابْن علية لَمْ يرفعهُ ؟ قَالَ يَحْيَى : وإنْ لم يحفظ ابْن علية ، فَالْحَدِيث جيد الْإِسْنَاد .
(وَأَنا أتعجب) من قَول أبي عمر بن عبد الْبر فِي «تمهيده» : مَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ ، مَذْهَب ضَعِيف من جِهَة النّظر ، غير ثَابت من جِهَة الْأَثر ؛ لِأَنَّهُ حَدِيث تَكَلَّم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم ؛ وَلِأَن الْقلَّتَيْنِ لَمْ يُوقَف عَلَى حَقِيقَة (مبلغهما) فِي أثر ثَابت ، وَلَا إِجْمَاع .
وَقَوله فِي «استذكاره» : حديثٌ مَعْلُول ، رَدَّه إِسْمَاعِيل القَاضِي ، وَتَكلَّم فِيهِ .
وَقد حكم الإِمام الْحَافِظ ، أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ ، الْحَنَفِيّ ، بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث ، كَمَا ذكرنَا ، لكنه اعتلَّ بِجَهَالَة قدر الْقلَّتَيْنِ .
وَتَبعهُ عَلَى ذَلِك : الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ، فَقَالَ فِي «شرح الإِلمام» : هَذَا الحَدِيث قد صحَّح بَعضهم إِسْنَاد بعض طرقه ، وَهُوَ - أَيْضا - صَحِيح عَلَى طَريقَة الْفُقَهَاء ؛ لِأَنَّهُ وإنْ كَانَ حَدِيثا مُضْطَرب الإِسناد ، مُخْتَلَفًا فِيهِ فِي (بعض) أَلْفَاظه - وَهِي علَّة عِنْد الْمُحدثين ، إلاَّ أَن يُجاب عَنْهَا بِجَوَاب صَحِيح - فإنَّه يُمكن أَن يُجمع بَين الرِّوَايَات ، ويُجاب عَن بَعْضهَا بطرِيق أصولي ، ويُنسب إِلَى التَّصْحِيح ، وَلَكِن تركته - (يَعْنِي) فِي «الإِلمام» - لِأَنَّهُ لم يثبت عندنَا - الْآن - بطرِيق اسْتِقْلَال يجب الرُّجُوع إِلَيْهِ شرعا تعْيين لمقدار الْقلَّتَيْنِ .
وَالْجَوَاب عَمَّا اعتذرا بِهِ : أنَّ المُرَاد قُلَّتَيْنِ بقلال هجر ، كَمَا رَوَاهُ الإِمام الشَّافِعِي فِي «الْأُم» ، و «الْمُخْتَصر» : عَن مُسلم بن خَالِد الزِّنجيّ ، عَن ابْن جريج ، بإسنادٍ لَا يحضرني ذكره ، أنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحملْ خبثًا» ، وَقَالَ فِي الحَدِيث : «بقلال هَجَر» .
قَالَ ابْن جريج : وَقد رَأَيْت قلال هجر ، فالقلَّة تسعُ قربتين ، أَو قربتين وشيئًا .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي «سنَنه» .
وَمُسلم بن خَالِد ، وإنْ تُكُلِّم فِيهِ ، فقد وثَّقه : يَحْيَى بن معِين ، وَابْن حِبَّان ، وَالْحَاكِم ، وَأَخْرَجَا لَهُ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» ، أَعنِي ابْن حبَان وَالْحَاكِم . وَقَالَ ابْن عدي : حسنُ الحَدِيث . وَمن ضَعَّفه لَمْ يَبَيِّن سَببه ، وَالْقَاعِدَة المقررة : أنَّ الضعْف لَا يُقْبَلُ إلاَّ مُبَيَّنًا .
قَالَ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي «شرح الْمسند» : (الإِسناد) الَّذِي لم يحضر الشَّافِعِي ذكره - عَلَى مَا ذكر أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ - أنَّ ابْن جريج قَالَ : أَخْبرنِي محمدٌ (أنَّ) يَحْيَى بن عقيل أخبرهُ ، أَن يَحْيَى بن يعمر أخبرهُ ، أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ ، لم يحمل خبثًا ، وَلَا بَأْسا» . قَالَ مُحَمَّد : فَقلت ليحيى بن عقيل : قلال هجر ؟ فقَالَ : قلال هجر .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن الْأَثِير فِي «شرح الْمسند» أَيْضا .
قَالَ : وَمُحَمّد هَذَا الَّذِي حَدَّث (عَنهُ) ابْن جريج هُوَ : مُحَمَّد بن يَحْيَى ، يحدث عَن يَحْيَى بن أبي كثير ، وَيَحْيَى بن عقيل .
وَهَذَا الحَدِيث مُرْسل ، فإنَّ يَحْيَى بن يعمر (تَابِعِيّ مَشْهُور) ، رَوَى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر ، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ من الحَدِيث الْمَشْهُور ، وَيكون ابْن يعمر قد رَوَاهُ عَن ابْن عمر ، وَيجوز أَن يكون غَيره ؛ لِأَنَّهُ يكون قد رَوَاهُ عَن غير ابْن عمر .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» كَمَا ذكرالإِمامان : الرَّافِعِيّ ، وَابْن الْأَثِير .
قلت : وَإِذا كَانَ مُرْسلا ، فيعتضد بِمَا رَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة ابْن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ من قلال هجر ، لم يُنجسهُ شَيْء» .
لَيْسَ فِي إِسْنَاده سُوَى : الْمُغيرَة بن [ سقلاب ] ، قَالَ ابْن أبي حَاتِم [ عَن أَبِيه ] : صَالح الحَدِيث . وَقَالَ أَبُو زرْعَة : (جزري) لَا بَأْس بِهِ .
وَهَذَا يُقَدَّم عَلَى قَول ابْن عدي : مُنكر الحَدِيث ، وَعَلَى قَول (عليّ بن) مَيْمُون الرَّقي : إنَّه لَا يُسَوِّي بَعرَة ، لجلالة الْأَوَّلين .
__________
(1) - البدر المنير - (ج 1 / ص 404) فما بعد(1/213)
وَمن الْمَعْلُوم : أَن قِلال هجر كَانَت مَعْرُوفَة عِنْدهم ، مَشْهُورَة ، يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي ذَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ، الثَّابِت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ، أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - (أخْبرهُم) لَيْلَة الإِسراء (فَقَالَ) : «رُفِعَتْ إليَّ سِدرْة الْمُنْتَهَى ، فَإِذا وَرقهَا مثل آذان الفيلة ، وَإِذا نَبِقُها مثل قِلال هَجَر» .
فعُلِم بِهَذَا : أنَّ القلال عِنْدهم مَعْلُومَة ، مَشْهُورَة ، وَكَيف يُظن أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - (يُحدد) لَهُم ، أَو يمثل لَهُم بِمَا لَا يعلمونه ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ الشَّافِعِي : كَانَ مُسلم - يَعْنِي ابْن خَالِد الزنْجِي - يذهب إِلَى (أنَّ) ذَلِك الشَّيْء الْمَذْكُور فِي قَول ابْن جريج أقل (من نصف قربَة ، أَو نصف الْقرْبَة ، فَيَقُول : خمس قرب هُوَ أَكثر مَا يسع قُلَّتَيْنِ ، وَقد تكون)القلتان أقل من خمس .
قَالَ الشَّافِعِي : فالاحتياط أَن تكون [ الْقلَّة ] قربتين وَنصفا ، فَإِذا كَانَ المَاء خمس قرب لم يحملْ خبثًا ، فِي (جَرَيَان) ، أَو غَيره .
إلاَّ أَن يظْهر فِي المَاء ريح أَو طعم أَو لون .
قَالَ : وَقِرَب الْحجاز كبار ، فَلَا يكون المَاء الَّذِي لَا يحمل النَّجَاسَة إلاَّ بِقِرَبٍ كبار .
قلت : لِأَن الْقلَّة فِي اللُّغَة : الجرة الْعَظِيمَة ، الَّتِي يُقلها الْقوي من الرِّجَال ، أَي : يحملهَا و (يرفعها) . قَالَ الْخطابِيّ : قلال هجر مَشْهُورَة الصَّنْعَة ، مَعْلُومَة الْمِقْدَار ، لَا تخْتَلف كَمَا لَا تخْتَلف المكاييل والصيعان المنسوبة إِلَى الْبلدَانِ ، قَالَ : وقلال هجر أكبرها وأشهرها ؛ لأنَّ الْحَد لَا يَقع بِالْمَجْهُولِ .
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد فِي «تَعْلِيقه» : قَالَ أَبُو إِسْحَاق ، إِبْرَاهِيم بن جَابر ، صَاحب «الْخلاف» : سَأَلت قوما من ثِقَات هجر ، فَذكرُوا أنَّ القلال بهَا لَا تخْتَلف ، وَقَالُوا : قايسنا الْقلَّتَيْنِ ، فوجدناهما خَمْسمِائَة رَطْل .
فَإِذا تقرر عنْدك مَا قَرَّرْنَاهُ ، ظهر لَك أنَّ الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور مُتَعَيّن ، وَلَا جَهَالَة فِي مِقْدَار الْقلَّتَيْنِ .
فإنْ قُلْتَ : قد جَاءَ فِي آخر حَدِيث ابْن عمر ، الَّذِي ذكرته من طَرِيق ابْن عدي ، بعد قَوْله : «إِذا كَانَ المَاء قُلَّتَيْنِ من قلال هجر لَمْ يُنجِّسه شَيْء» . : «وَذكر (أَنَّهُمَا) فرقان» . فَلَا يَصح مَا قَرّرته ؛ لِأَن الْفرق : سِتَّة عشر رطلا ، فَيكون مَجْمُوع الْقلَّتَيْنِ : اثْنَان وَثَلَاثُونَ رطلا ، وَلَا تَقولُونَ بِهِ ؟
فَالْجَوَاب : أنَّ هَذِه اللَّفْظَة مدرجة فِي الحَدِيث ، جمعا بَينه وَبَين مَا قَرَّرْنَاهُ : من أَن قلال هجر لن تخْتَلف ، وأنهما خَمْسمِائَة رَطْل .
فَائِدَة : هَجَر : بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم ، قَرْيَة بِقرب الْمَدِينَة ، لَيست هجر الْبَحْرين . كَذَا قَالَه ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ .
وَحَكَى الْمُنْذِرِيّ فِي «حَوَاشِي السّنَن» قولا آخر : أَنَّهَا تُنسب إِلَى هجر الَّتِي بِالْيمن ، وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين .
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي كتاب «الْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن» : هجَر - بِفَتْح الْجِيم - الْبَلَد ، قَصَبَة بِبِلَاد الْبَحْرين ، بَينه إِلَى (سِرَّين) سَبْعَة أَيَّام ، والهجر : بلد بِالْيمن ، بَينه وَبَين (عثر) يَوْم وَلَيْلَة .
وَقَالَ أَبُو عبيد فِي «مُعْجَمه» : هَجَر - بِفَتْح أَوله وثانيه - مَدِينَة الْبَحْرين ، مَعْرُوفَة ، وَهِي مُعَرَّفة لَا يدخلهَا الْألف وَاللَّام ، وَهُوَ اسْم فَارسي ، مُعرب (أَصله) «هكر» ، وَقيل : إنَّما سمي (بهجر) بنت مِكْنَف من العماليق .
وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه «التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير» : هجر - وَيُقَال : الهجر بِالْألف وَاللَّام - : مَدِينَة جليلة ، قَاعِدَة الْبَحْرين ، بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل .
وَقَالَ مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد : هِيَ عَلَى ثَمَان لَيَال من مَكَّة إِلَى الْيمن ، مِمَّا يَلِي الْبَحْر . قَالَه فِي «مغازيه» .
وَمَا ذكره ابْن دحْيَة - أَولا - تبع فِيهِ صَاحب «الْمطَالع» ، (فَإِنَّهُ قَالَ) : وهجر مَدِينَة بِالْيمن ، وَهِي قَاعِدَة الْبَحْرين ، بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم ، وَيُقَال فِيهِ : الهجر بِالْألف وَاللَّام بَينهَا وَبَين الْبَحْرين عشر مراحل .
فَائِدَة أُخرى :
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام : «لم يحمل الْخبث» ، مَعْنَاهُ : لَمْ ينجس بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ . كَمَا فَسَّره فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى ، الَّتِي (رَوَاهَا) أَبُو دَاوُد ، وَابْن حبَان ، وَغَيرهمَا : «إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ ، لم ينجس» .
وَهَذِه الرِّوَايَة : ذكرهَا الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الْآتِي ، وَهِي صَحِيحَة من غير شكّ وَلَا مرية ، لَا مطْعن لأحد فِي اتصالها ، وثقة رجالها . قَالَ يَحْيَى بن معِين : إسنادها جيد ، وَقَالَ الْحَاكِم : صَحِيح .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : مَوْصُول . وَقَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين : لَا غُبَار عَلَيْهِ .
وتقديرها : لَا يقبل النَّجَاسَة ، بل يَدْفَعهَا عَن نَفسه ، كَمَا يُقال : فلَان لايحمل الضَّيْم ، أَي : لَا يقبله ، وَلَا يصبر عَلَيْهِ ، (بل) يأباه .
وقَالَ النَّوَوِيّ : وَأما قَول بعض المانعين للْعَمَل بالقلتين : إِن مَعْنَاهُ أَنه يَضْعُف عَن حمله . (فخطأ) فَاحش من أوجه :
أَحدهَا : أَن الرِّوَايَة الْأُخْرَى مصرحة بغلطه ، وَهِي قَوْله : «لم ينجس» .
الثَّانِي : أَن الضعْف عَن الْحمل إِنَّمَا يكون فِي الْأَجْسَام ، كَقَوْلِك : فلانٌ لايحمل الْخَشَبَة ، أَي : يعجز عَنْهَا لثقلها . وَأما فِي الْمعَانِي فَمَعْنَاه : لَا يقبله ، كَمَا ذكرنَا .
ثَالِثهَا : أنَّ سِيَاق الْكَلَام يُفْسِدهُ ؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ المُرَاد : أَنه يضعف عَن حمله ، لم يكن للتَّقْيِيد بالقلتين مَعْنَى ، فإنَّ مَا دونهَا أولَى بذلك .
فَإِن قيل : هَذَا الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر بالإِجماع فِي الْمُتَغَيّر بِنَجَاسَة ؟
فَالْجَوَاب : أَنه عَام ، خص مِنْهُ الْمُتَغَيّر بِالنَّجَاسَةِ ، فَيَبْقَى الْبَاقِي (عَلَى) عُمُومه ، كَمَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الْأُصُولِيِّينَ .
فإنْ قيل : هَذَا الحَدِيث (يحمل) عَلَى الْجَارِي .
فَالْجَوَاب : أَن الحَدِيث يتَنَاوَل الْجَارِي والراكد ، فَلَا يَصح تَخْصِيصه بِلَا دَلِيل اهـ
وهذا مثال آخر لمضطرب السند : عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَن عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ , مَا شَيَّبَكَ ؟ قَالَ : شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلاَتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ."(1)
قال الدارقطني : " هذا مضطرب ،فإنه لم يُرْوَ إلا من طريق أبي اسحق ، وقد أُخْتُلِِفَ عليه فيه على نحو عشرة أوجه ، فمنهم من رواه مرسَلا ، ومنهم من رواه موصولاً ، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر ، ومنهم من جعله من مسند سعد ، ومنهم من جعله من مسند عائشة، وغير ذلك ، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض والجمع متعذر .
ومثال مضطرب المتن : ما في سنن الترمذى عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِى حَمْزَةَ عَنِ الشَّعْبِىِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ سَأَلْتُ أَوْ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الزَّكَاةِ فَقَالَ « إِنَّ فِى الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ ». ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ :{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة.(2)
ورواه ابن ماجه عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِى حَمْزَةَ عَنِ الشَّعْبِىِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا سَمِعَتْهُ - تَعْنِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - - يَقُولُ « لَيْسَ فِى الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ »(3). قال العراقي " فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل " .
مثال آخر : وفي علل الحديث(4)وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، فَرَأَى عِنْدَهَا مُخَنَّثًا الْحَدِيثُ(5)
قَالَ أَبِي : هَذَا خَطَأٌ ، اضْطَرَبَ فِيهِ حَمَّادٌ ، إِنَّمَا هُوَ هِشَامٌ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
|وَلَيْسَ عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ،عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ إِلا ذَاكَ الْوَاحِدُ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ(6)
ومثالُ الاضطرابِ في السندِ أيضاً : ما رواهُ أبو داودَ ، وابنُ ماجه ، من روايةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِى عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ جَدِّهِ حُرَيْثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخُطَّ خَطًّا ثُمَّ لاَ يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ »..(7)
وقدِ اختُلِفَ فيه على إسماعيلَ اختلافاً كثيراً : فرواهُ بِشْرُ بنُ المُفضَّلِ ، ورَوْحُ بنُ القاسمِ عنه ، هكذا . ورواهُ سفيانُ الثوريُّ عنه ، عن أبي عمرِو بنِ حُريثٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . ورواهُ حُميدُ بنُ الأسودِ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ عن أبي هريرةَ . ورواهُ وُهَيبُ بنُ خالدٍ ، وعبدُ الوارثِ عنه ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جدِّهِ حريثٍ . ورواهُ ابنُ جُريجٍ عنه ، عن حريثِ بنِ عمّارٍ ، عن أبي هريرةَ . ورواه ذَوَّادُ بن عُلْبَةَ الحارثيُّ عنه، عن أبي عمرِو بنِ محمدٍ، عن جدِّهِ حريثِ بنِ سليمانَ . قالَ أبو زُرعةَ الدمشقيُّ : لا نعلمُ أحداً بيَّنَهُ ونسبَهُ غيرُ ذَوَّادٍ . ورواه سفيانُ بنُ عُيينةَ عنهُ . فاختُلِفَ فيه على ابنِ عيينة . فقال ابنُ المدينيِّ : عن ابنِ عيينةَ ، عن إسماعيلَ ، عن أبي محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جدِّهِ حريثٍ رجلٍ من بني عُذْرةَ . قال سفيانُ : لم نجدْ شيئاً نشدُّ به هذا الحديثَ ، ولم يجئ إلاَّ مِنْ هذا الوجهِ . قال ابنُ المدينيِّ : قلتُ له : إنّهم يختلفونَ فيه فتفكَّرَ ساعةً . ثم قال ما أحفظُهُ إلاّ أبا محمدِ بنَ عمرٍو .
ورواه محمّدُ بنُ سلامٍ البِيكَنْديُّ ، عن ابنِ عيينَة ، مثلَ روايةِ بشرِ بنِ المفضّلِ ، ورَوْحٍ . ورواهُ مُسَدَّدٌ ، عن ابنِ عيينةَ ، عن إسماعيلَ ، عن أبي عمرِو بنِ حريثٍ ، عن أبيهِ ، عن أبي هريرةَ . ورواهُ عمّارُ بنُ خالدٍ الواسطيُّ ، عن ابنِ عيينة ، عن إسماعيلَ ، عن أبي عمرِو بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حريثٍ ، عن جَدِّهِ حريثِ بنِ سُليمٍ ، وفيه من الاضطرابِ غيرُ ما ذكرتُ . وهو المرادُ بقولي : ( كالخطِّ ) أي : كحديثِ الخَطِّ للسُّتْرةِ جَمُّ الخُلْفِ ، أي : هو كثيرُ الاختلافِ .
في البدر المنير(8):
" هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم ، وَأحمد فِي «الْمسند» ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْن مَاجَه فِي «سنَنَيْهِمَا» ، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي «صَحِيحه» ، وَالْبَيْهَقِيّ فِي (كِتَابيه) الْمعرفَة» و «السّنَن» من رِوَايَة أبي هُرَيْرَة ، رَوَاهُ الشَّافِعِي ، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة ، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة (، عَن أبي مُحَمَّد بن عَمْرو بن حُرَيْث ، عَن جده حُرَيْث ، عَن أبي هُرَيْرَة ، وَرَوَاهُ) أَحْمد ، عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بِهِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، عَن مُسَدّد ، عَن بشر بن الْمفضل ، عَن إِسْمَاعِيل . وَرَوَاهُ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن فَارس ، عَن عَلّي بن الْمَدِينِيّ (عَن) سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن (بكر) بن خلف [ عَن ] حميد بن الْأسود (و) عَن عمار بن (خَالِد) ، عَن سُفْيَان بِهِ . وَرَوَاهُ ابْن حبَان ، عَن أبي يعْلى ، عَن أبي خَيْثَمَة [ عَن سُفْيَان ] عَن إِسْمَاعِيل بِهِ . وَرَوَاهُ أَيْضا عَن أبي يعْلى ، عَن [ مُحَمَّد ] بن الصَّباح الدُّولابي ، عَن مُسلم بن خَالِد ، [ عَن إِسْمَاعِيل ابْن أُميَّة ] عَن أبي مُحَمَّد بن عَمْرو بن حُرَيْث ، عَن أَبِيه ، عَن جده ، عَن أبي هُرَيْرَة . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن أبي سعيد ، عَن أبي بَحر ، عَن بشر بن مُوسَى ، عَن الْحميدِي ، عَن سُفْيَان كَمَا سلف .
وَاخْتلف الْحفاظ فِي هَذَا الحَدِيث : فصححه جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد وَعلي بن الْمَدِينِيّ نَقله عَنْهُمَا ابْن عبد الْبر فِي (استذكاره) وَعبد الْحق فِي «أَحْكَامه» ، وَمِنْهُم أَبُو حَاتِم بن حبَّان ؛ فَإِنَّهُ أخرجه فِي «صَحِيحه» كَمَا سلف ثمَّ قَالَ : عَمْرو بن حُرَيْث هَذَا شيخ من أهل الْمَدِينَة رَوَى عَنهُ سعيد المَقْبُري ، وَابْنه أَبُو مُحَمَّد يروي عَن جده . قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا بِعَمْرو بن حُرَيْث المَخْزُومِي ذَاك لَهُ صُحْبَة ، وَهَذَا عَمْرو بن حُرَيْث بن عمَارَة من بني عذرة سمع أَبُو مُحَمَّد عَمْرو بن حُرَيْث جدَّهُ حُرَيْث (بن عمَارَة) ، عَن أبي هُرَيْرَة ، وَذكره أَيْضا فِي «ثقاته» فَقَالَ : عَمْرو بن حُرَيْث المَخْزُومِي الَّذِي رَوَى عَن (ابْن) عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَرَوَى عَنهُ سعيد بن سعيد المَقْبُري وَأهل مصر . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «علله» : رَفعه صَحِيح ، قَالَ ذَلِك بعد أَن ذكر الِاخْتِلَاف (فِي إِسْنَاده وَفِي «أَحْكَام عبد الْحق» و) «إقليد» ابْن الفركاح عَنهُ (أَنه) رَوَى حَدِيث الصَّلَاة (إِلَى) الْخط عَن أبي هُرَيْرَة من طرق ؛ وَلَا تصح وَلَا تثبت .
قلت : وَضَعفه آخَرُونَ . رَوَى أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ : لم نجد شَيْئا نَشد بِهِ هَذَا الحَدِيث ، و(لم) يجِئ إِلَّا من هَذَا الْوَجْه ، وَقَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ : قلت لِسُفْيَان : إِنَّهُم يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بَعضهم يَقُول : أَبُو عَمْرو بن مُحَمَّد ، وَبَعْضهمْ يَقُول : أَبُو مُحَمَّد بن عَمْرو (فتفكَّر سُفْيَان سَاعَة ، ثمَّ قَالَ : مَا أحفظ إِلَّا أَبَا مُحَمَّد بن عَمْرو . قلت لِسُفْيَان : وَابْن جريج يَقُول : أَبُو مُحَمَّد بن عَمْرو) فَسكت سُفْيَان سَاعَة ، ثمَّ قَالَ : قدم هُنَا رجل بعد مَا مَاتَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة ، فَطلب هَذَا الشَّيْخ أَبَا مُحَمَّد حَتَّى وجده (فَسَأَلَهُ) عَنهُ فخلط عَلَيْهِ . قَالَ سُفْيَان : وَكَانَ إِسْمَاعِيل إِذا حدث بِهَذَا الحَدِيث يَقُول : عنْدكُمْ شَيْء تشدونه بِهِ وَأَشَارَ الإِمَام الشَّافِعِي إِلَى ضعفه وَقد كَانَ احْتج بِهِ فِي الْقَدِيم وَسنَن حَرْمَلَة ، وَتوقف فِيهِ فِي الْجَدِيد فَقَالَ فِي (كتاب) الْبُوَيْطِيّ : وَلَا يخط المصلِّي بَين يَدَيْهِ خطًّا ، إِلَّا أَن يكون فِي ذَلِك حَدِيث ثَابت ، فَيتبع . فَكَأَنَّهُ اطلع بعد ذَلِك عَلَى مَا نقل من الِاخْتِلَاف فى إِسْنَاده . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : هَذَا الحَدِيث قد أَخذ بِهِ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم ، وَسنَن حَرْمَلَة ، وَتوقف فِيهِ فِي الْجَدِيد . قَالَ : وَإِنَّمَا توقف فِيهِ لاخْتِلَاف الروَاة عَلَى إِسْمَاعِيل بن أُميَّة فِي أبي مُحَمَّد بن عَمْرو بن حُرَيْث ؛ فَقيل هَكَذَا ، وَقيل : عَن أبي عَمْرو بن مُحَمَّد بن حُرَيْث ، عَن جده ، وَقيل : عَن أبي عَمْرو بن حُرَيْث ، عَن أَبِيه ، وَقيل غير ذَلِك .
وَقَالَ عبد الْحق فِي «أَحْكَامه» : صحّح أَحْمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ هَذَا الحَدِيث ، وضعَّفه غَيرهمَا من أجْلِ رِوَايَة أبي عَمْرو بن مُحَمَّد (بن عَمْرو) بن حُرَيْث ، وَيُقَال : أَبُو مُحَمَّد بدل أبي عَمْرو ، عَن جده حُرَيْث ، وَلم يقل مَالك وَلَا أَبُو حنيفَة وَلَا اللَّيْث بالخطِّ ، ثمَّ نقل مقَالَة الدَّارَقُطْنِيّ السالفة عَنهُ ، و (لما) ذكر ابْن الصَّلاح فِي علومه نوع المضطرب وَقَالَ : إِنَّه مُوجب ضعف الحَدِيث ؛ لإشعاره بِعَدَمِ الضَّبْط ، مَثَّلَهُ بِالْحَدِيثِ ، وَقَالَ : رَوَاهُ عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة ، عَن عَمْرو بن مُحَمَّد بن حُرَيْث ، عَن جده حُرَيْث ، عَن أبي هُرَيْرَة . فَرَوَاهُ بشر بن الْمفضل وروح بن الْقَاسِم ، عَن إِسْمَاعِيل هَكَذَا ، وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ (عَنهُ) ، عَن أبي عَمْرو بن حُرَيْث ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة .
وَرَوَاهُ حميد بن الْأسود (عَن إِسْمَاعِيل) ، عَن أبي عَمْرو مُحَمَّد بن حُرَيْث بن سليم ، عَن أَبِيه ، عَن أبي هُرَيْرَة . وَرَوَاهُ وهيب وَعبد الْوَارِث ، عَن إِسْمَاعِيل ، عَن أبي عَمْرو بن حُرَيْث ، عَن جدِّه حُرَيْث . وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج : سمع إِسْمَاعِيل عَن حُرَيْث بن عمَارَة . قَالَ : وَفِيه من الِاضْطِرَاب أَكثر من هَذَا .
قلت : من صحَّحه كَأَنَّهُ لم ير هَذَا الِاضْطِرَاب قادحًا . وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي «علله» : هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو سَلمَة ، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا «إِذا صَلَّى أحدكُم فَليصل إِلَى شَجَرَة ، أَو إِلَى بعير ، فَإِن لم يجد ، فليخط خطا ، ثمَّ لَا يضرّهُ من مر وَرَاءه» .
قَالَ : وَرَوَى أَيْضا (مَوْقُوفا عَلَى) أبي هُرَيْرَة ، والْحَدِيث لَا يثبت . وَضَعفه من الْمُتَأَخِّرين النَّوَوِيّ فَقَالَ فِي «شرح المهذَّب» : هَذَا الحَدِيث قَالَ فِيهِ الْبَغَوِيّ وَغَيره : إِنَّه ضَعِيف ، ثمَّ نقل كَلَام الْبَيْهَقِيّ السالف فِيهِ ، ثمَّ قَالَ : وَقَالَ غير الْبَيْهَقِيّ : هُوَ ضَعِيف لاضطرابه ، وَقَالَ فِي «خلاصته» : قَالَ الْحفاظ : (هُوَ ضَعِيف لاضطرابه ، وَذكره الْمُنْذِرِيّ فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب وَضَعفه . قَالَ الْبَيْهَقِيّ) وَلَا بَأْس بِالْعَمَلِ بِهَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الحكم - إِن شَاءَ الله - أَي يخْتَار مَشْرُوعِيَّة الْخط عِنْد عدم الستْرَة .
__________
(1) -دلائل النبوة للبيهقي - (ج 1 / ص 358) برقم (327 ) ومصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 11 / ص 10) برقم (30261) وصحيح الجامع ( 3723) وهو حديث صحيح رغم إعلاله وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 203)
(2) - برقم (661 ) وطبرى 2/57 وهق 4/84 والإتحاف 4/105 وعدى 4/1328 وقط 2/125 وكثير 1/98 ومعانى 2/27 وتخ 3/90 والنيل 8/155 وقواه
(3) - برقم (1861 ) وفي السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 4 / ص 84) برقم (7493) قال عقبه : فَهَذَا حَدِيثٌ يُعْرَفُ بِأَبِى حَمْزَةَ : مَيْمُونٍ الأَعْوَرِ كُوفِىٌّ وَقَدْ جَرَحَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ. وَالَّذِى يَرْوِيهِ أَصْحَابُنَا فِى التَّعَالِيقِ لَيْسَ فِى الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ فَلَسْتُ أَحْفَظُ فِيهِ إِسْنَادًا وَالَّذِى رُوِّيتُ فِى مَعْنَاهُ مَا قَدَّمْتُ ذِكْرَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ."
قلت :صحح بعض الأئمة وقفه على بعض الصحابة والتابعين وورد عكسه وهو ليس فى المال حق سوى الزكاة وفى سنده ضعف وفى معناه : إذا أديت زكاة مالك فقد ذهب عنك شره --- هق 4/84 صحيح والجمع بينهما سهل ميسور بإذن الله ،فالحديث الثانى محمول على الحالة العادية للمسلمين حيث أن زكاة المال ونحوها من موارد الدولة الإسلامية تكفى حاجة الفقراء والمساكين .
والحديث الأول يحمل على الأحوال الطارئة : حروب كوارث طبيعية --- حيث زكاة المال لا تكفى لسد مثل هذه الضروريات فيجوز لولى الأمر العادل أخذ ما يحتاج إليه الفقراء أو الجهاد -- من فضول أموال الأغنياء -- وهذا ما قاله كثير من علماء السلف والخلف وهو الحق ، انظر الفيض 2/472 و 473 ، ومشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام للقرضاوى
(4) - برقم (2200)
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 405) برقم (8218 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بن دَاوُدَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بن بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بن أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ بَيْتَ أُمِّ سَلَمَةَ فَرَأَى عِنْدَهُمْ مُخَنَّثًا، وَهُوَ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بن أَبِي أُمَيَّةَ، لَوْ قَدْ فُتِحَتِ الطَّائِفُ لأَرَيْتُكَ بَادِيَةَ بنتِ غَيْلانَ، وَهِي تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"لا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ هَؤُلاءِ"
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 402) برقم (8207 ) حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بن إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَوَكِيعٌ، وَعَبْدَةُ بن سُلَيْمَانَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بن عَيَّاشٍ، عَنْ هِشَامِ بن عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بن أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا".وهو حديث صحيح
(7) - انظر المسند الجامع - (ج 16 / ص 1252)(12971)
(8) - البدر المنير - (ج 4 / ص 198) فما بعد(1/214)
قَالَ النَّوَوِيّ فِي «شرح الْمُهَذّب» : وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار ؛ لِأَنَّهُ وَإِن لم يثبت الحَدِيث فَفِيهِ تَحْصِيل حَرِيم للْمُصَلِّي . قَالَ : وَقد اتّفق الْعلمَاء عَلَى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ (الضَّعِيف) فِي فَضَائِل الْأَعْمَال دون الْحَلَال وَالْحرَام ، وَهَذَا من نَحْو فَضَائِل الْأَعْمَال .
فَائِدَة : اخْتلف الْعلمَاء فِي كَيْفيَّة الْخط : فَقَالَ الإِمَام أَحْمد والْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَصَاحب الشَّافِعِي : يَجعله مثل الْهلَال .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي «سنَنه» : سَمِعت مُسَددًا يَقُول : قَالَ (ابْن) دَاوُد : الْخط (بالطول) ، وَقَالَ صَاحب الْمُهَذّب : يخط بَين يَدَيْهِ خطا إِلَى الْقبْلَة ، وَقَالَ غَيره : يخط يَمِينا وَشمَالًا كالجنازة .. اهـ
قلت : وقال الحافظ ابن حجر(1):
" أتقن هذه الرِّوَايات: رِوَاية بِشْر وروح, وأجمعها رِوَاية حُميد بن الأسْود, ومن قال: أبو عَمرو بن مُحمَّد أرجح مِمَّن قال: أبو محمَّد بن عَمرو, فإنَّ رُواة الأوَّل أكثر, وقد اضْطَربَ من قال: أبو مُحمَّد, فمَرَّة وافق الأكثرين, فتلاشى الخلاف.
قال: والَّتي لا يُمكن الجمع بينها رِوَاية من قال: أبو عَمرو بن حُرَيث, مع رِوَاية من قال: أبو محمَّد بن عَمرو بن حُريث, ورِوَاية من قال: حُرَيث بن عمَّار, وما في الرِّوَايات يمكن الجمعُ بينها, فرِوَاية من قال: عن جدِّه لا تُنَافي من قال: عن أبيه, لأنَّ غايتهُ أنَّه أسقطَ الأب, فتبيَّن المُرَاد برواية غيره, ورِوَاية من قال: عن أبي عَمرو بن مُحمَّد بن عَمرو بن حُريث يدخل في الأثناء عَمْرًا, لا تُنَافي من أسْقَطه, لأنَّهم يكثرون نسبة الشَّخص إلى جدِّه المشهور, ومن قال: سليم, يمكن أن يكون اختصره من سليمان كالترخيم.
قال: والحق أنَّ التَّمثيل لا يليق إلاَّ بحديث لولا الاضْطراب لم يضعف, وهذا الحديث لا يَصْلح مِثَالاً, فإنَّهم اختلفُوا في ذاتٍ واحدة, فإن كان ثقة لم يضر هذا الاختلاف في اسمه أو نسبه, وقد وجد مثل ذلك في الصَّحيح, ولهذا صحَّحه ابن حبَّان(606), لأنَّه عندهُ ثقة, ورجَّح أحد الأقوال في اسْمهِ واسم أبيه, وإن لم يَكُن ثقة, فالضَّعف حاصل بغير جهة الاضْطراب, نعم يَزْداد به ضَعْفًا.
قال: ومثل هذا يدخُل في المُضْطرب لِكَوْن رُواته اختلفُوا, ولا مُرجِّح, وهو وارد على قولهم الاضْطراب يُوجب الضعف. "
والصورة الثانية : التردد في الإسناد أو المتن من الراوي المعين ، فيقال : ( كان فلان يضطرب فيه فتارة يقول كذا ، وتارة يقول كذا ) .
مثاله : ما أخرجه الترمذي(2)من طريق شعبة بن الحجاج أَخْبَرَنِى ابْنُ أَبِى لَيْلَى عَنْ أَخِيهِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى عَنْ أَبِى أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلْيَقُلِ الَّذِى يَرُدُّ عَلَيْهِ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَلْيَقُلْ هُوَ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ». .
قال الترمذي(3): " كَانَ ابْنُ أَبِى لَيْلَى يَضْطَرِبُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ أَحْيَانًا عَنْ أَبِى أَيُّوبَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقُولُ أَحْيَانًا عَنْ عَلِىٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . " .
قلتُ : وابن ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا.(4)
وفي هذا أن اضطراب الراوي المعين في أحاديثه من أسباب ضعفه في حفظه ، والحديث الذي اضطرب فيه يعلُّ من جهة لين ذلك الراوي في حفظه ، ومن جهة اضطرابه في تلك الرواية .
وربما وقع الاضطراب من الثقة ، لكن يكون قليلاً إلى جنب ما روى ، فمثله يوجب احتياطاً ومزيد تحرٍّ قبل تسليم قبول روايته ، وذلك بتتبع طرق حديثه المعين ، فإن سلِم من الاختلاف المؤثر فهو صحيح الحديث ؛ إعمالاً لما ترجح من الثقة المقتضية لضبطه .
مثال هؤلاء ( عبد الملك بن عمير ) ، فهو ثقة ، وقد ذكر بذلك ، قال أحمد بن حنبل : " مضطرب الحديث جدا مع قلة حديثه ، ما أرى له خمس مئة حديث ، وقد غلط في كثير منها " ، وقال يحيى بن معين : " مخلط "(5)وهو يريد هذا المعنى .
واضطرابه بينه أحمد بن حنبل في رواية أخرى عنه ، فقال : " يختلف عليه الحفاظ "(6).
قلتُ : وهذا يعني أن ما لم يختلف عليه فيه فهو من صحيح حديثه ، وما اختلف عليه فيه اختلافاً غير قادح على أي وجوهه كان ، فهو كذلك من صحيح حديثه ، وما كان منه غير ذلك فهو مما يعلُّ باضطرابه فيه ، ويضعف لذلك .
وقد يقع الاضطراب للرواي الثقة في روايته عن شيخ معين لا مطلقاً .
وذلك كقول أحمد بن حنبل في ( محمد بن عجلان ) : " ثقة " ، فقيل له : إن يحيى ( يعني القطان ) قد ضعفه ؟ قال : " كان ثقة ، إنما اضطرب عليه حديث المقبري ، كان عن رجل ، جعل يصيره عن أبي هريرة "(7).
قلت : فمثل هذا إن قدح في حديث الراوي ، فإنه لا يقدح إلا فيما رواه عن ذلك الشيخ ، على أن ابن عجلان لم يضرَّ حديثه عن المقبري أنه اضطرب فيه خلافاً لما قد يفهم من جرح يحيى القطان ؛ لأن اضطرابه من جهة أن سعيداً المقبري كان يروي عن أبيه عن أبي هريرة ، وسمع كذلك من أبي هريرة ، فذكر ابن عجلان عن نفسه أنها اختلطت عليه ، فجعلها جميعاً عن سعيد عن أبي هريرة ، فما ذكر فيه من روايته عن سعيد : ( عن أبيه ) فهو مثل صحيح ، وما لم يذكر ( عن أبيه ) فإما أن يكون سعيد بين سماعه من أبي هريرة ، وإما أن يكون رواه بالعنعنة ، فإن كان مبين السماع فهو كذلك متصل ، وما لم يبين فإن وافق ابن عجلان عليه غيره ، فهو متصل ، وإلا وردت عليه مظنة الانقطاع بين سعيد وأبي هريرة ، وإذا احتملنا فيه سقوط الواسطة فهو منقطع مظنة ، لكن حيث علمنا الواسطة المظنون سقوطها وهي ( أبو سعيد المقبري ) وهو ثقة ، فلك أن تقول : عاد الإسناد إلى أن يكون صحيحاً للعلم بالساقط المتعين كونه ثقة . اهـ(8)
5- مِمَّن يقع الاضطراب ؟
أ) قد يقع الاضطراب من راو واحد، بأن يَرْوِي الحديث على أوجه مختلفة.
ب) وقد يقع الاضطراب من جماعة، بأن يَرْوِي كل منهم الحديث على وجه يخالف رواية الآخرين.
6- سبب ضعف المضطرب :
وسبب ضعف المضطرب أن الاضطراب يُشْعِر بعدم ضبط رواته .
7_ أشهر المصنفات فيه :
كتاب " المُقْتَرِب في بيان المضطرب " للحافظ ابن حجر .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 202)
(2) - سنن الترمذى(2960 )
(3) - سنن الترمذى(2961)
(4) - محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدا من السابعة مات سنة ثمان وأربعين 4 .تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 493 ] (6081 )
(5) - الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم ( 2 / 2 / 361 ) .
(6) - الجرح والتعديل ( 2 / 2 / 360 _ 361 ) ، أي : أنَّ الرواة الثقات المتقنين إذا رووا عنه يذْكرون في رواياته اختلافاً ، وذلك من جهته لا من جهتهم ؛ لحفظهم .
(7) - العلل ، رواية أبي بكر المروذي وغيره ( النص : 162 ) .
(8) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 251)(1/215)
التصحيفُ والتحريفُ(1)
1- تعريفُهما:
التصحيف والتحريف من الأمور الطارئة الَّتِيْ تقع في الْحَدِيْث سنداً أو متناً عِنْدَ بعض الرُّوَاة ، وَهُوَ من الأمور المؤدية إلى الاختلاف في الْحَدِيْث . فيحصل لبعض الرُّوَاة أوهام تقع في السند أَوْ في الْمَتْن بتغيير النقط أو الشكل أو الحروف
وهذا النوع من الخطأ يسمى عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْنَ بـ ( التصحيف والتحريف ) .
أ) لغة: اسم مفعول من " التصحيف " وهو الخطأ في الصحيفة ومنه " الصَّحَفِيُّ " وهو من يخطئ في قراءة الصحيفة(2)فيغير بعض ألفاظها بسبب خطئه في قراءتها .
ب) اصطلاحاً :
التصحيف هُوَ : تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط
التحريف : هُوَ العدول بالشيء عن جهته ، وحرَّف الكلام تحريفاً عدل بِهِ عن جهته ، وَقَدْ يَكُوْن بالزيادة فِيْهِ ، أو النقص مِنْهُ ، وَقَدْ يَكُوْن بتبديل بعض كلماته ، وَقَدْ يَكُوْن بجعله عَلَى غَيْر المراد مِنْهُ ؛ فالتحريف أعم من التصحيف(3).
ولابد من الإشارة إلى أن المتقدمين كانوا يطلقون المصحف والمحرف جميعاً عَلَى شيء واحد ، ولكن الحافظ ابن حجر جعلهما شيئين وخالف بينهما ، فَقَدْ قَالَ : " إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق فإن كَانَ ذَلِكَ بالنسبة إلى النقط فالمصحف ، وإن كَانَ بالنسبة إلى الشكل فالمحرّف "(4).
وعلى هَذَا فالتصحيف هُوَ الَّذِيْ يَكُوْن في النقط ؛ أي في الحروف المتشابهة الَّتِيْ تختلف في قراءتها مثل : الباء والتاء والثاء ، والجيم والحاء المهملة والخاء المعجمة ، والدال المهملة والذال المعجمة ، والراء والزاي .
2- أهميته ودقته :
ومعرفة هَذَا الفن من فنون علم الْحَدِيْث لَهُ أهمية كبيرة ؛ وذلك لما فِيْهِ من تنقية الأحاديث النبوية مِمَّا شابها في بعض الألفاظ سواء كَانَ في متونها أم في رجال أسانيدها .
وعندما كثر التصحيف والتحريف بَيْنَ الناس شرع الحفاظ من أهل الْحَدِيْث بتصنيف كتب : ( التصحيف والتحريف ) وكتب ( المؤتلف والمختلف )(5)، وهذا الفن فن جليل لما يحتاج إِلَيْهِ من الدقة والفهم واليقظة ، وَلَمْ ينهض بِهِ إلا الحفاظ الحاذقون، قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( هَذَا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ ))(6).
والسبب في وقوع التصحيف والإكثار مِنْهُ إنما يحصل غالباً للآخذ من الصحف وبطون الكتب ، دون تلق للحديث عن أستاذ من ذوي الاختصاص ؛ لِذَلِكَ حذر أئمة الْحَدِيْث من عمل هَذَا شأنه ، قَالَ سعيد بن عَبْد العزيز التنوخي(7): (( لا تحملوا العلم عن صحفي ، ولا تأخذوا القرآن من مصحفي ))(8).
3- أقسامُ التصحيف:
للتصحيف بحسب وجوده وتفرعه أقسام . ينقسم إِلَيْهَا وَهِيَ ستة أنواع :
القسم الأول : التصحيف في الإسناد :
مثاله : حَدِيْث شعبة ، عن العوام بن مراجم(9)، عن أبي عثمان النهدي(10)، عن عثمان بن عفان، قَالَ: قَالَ رَسُوْل الله - صلى الله عليه وسلم - : « لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا ».(11)
وَقَدْ صحف فِيْهِ يحيى بن معين ، فَقَالَ : (( ابن مزاحم )) - بالزاي والحاء - وصوابه : (( ابن مراجم )) - بالراء المهملة والجيم -(12).
ومنه ما رواه الإمام أحمد(13)، من طريق شعبة قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ عُرْفُطَةَ - قَالَ أَبِى(14): وَإِنَّمَا هُوَ خَالِدُ بْنُ عَلْقَمَةَ - قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ خَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الدُّبَّاءِ(15)وَالْحَنْتَمِ(16)وَالْمُزَفَّتِ(17). قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَبِى :إِنَّمَا هُوَ خَالِدُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْهَمْدَانِىُّ وَهِمَ شُعْبَةُ.
وَقَدْ أخطأ الإمام شعبة بن الحجاج فصحف في هَذَا الاسم فَقَالَ : (( مالك بن عرفطة )) ، وصوابه: (( خالد بن علقمة )) كَمَا نبه عَلَى ذَلِكَ الإمام أحمد -كَمَا سبق-(18)وَقَدْ رَوَاهُ أبو عوانة ، عن شعبة ، فأخطأ فِيْهِ كذلك فِيْمَا أخرجه الْخَطِيْب في موضح أوهام الجمع والتفريق(19).
ثُمَّ رجع إلى الصواب فِيْمَا أخرجه عَنْهُ الْخَطِيْب في " تاريخ بغداد "(20)وَقَالَ :
(( عن شعبة ، عن خالد بن علقمة ، عن عَبْد خير ، بِهِ )) .
القسم الثاني : التصحيفُ في الْمَتْن :
ومثاله حَدِيْث أنس صحيح مسلم (499 ) وَحَدَّثَنِى أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِىُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالاَ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ - وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ - قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً ». زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ فِى رِوَايَتِهِ قَالَ يَزِيدُ فَلَقِيتُ شُعْبَةَ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ شُعْبَةُ حَدَّثَنَا بِهِ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَدِيثِ. إِلاَّ أَنَّ شُعْبَةَ جَعَلَ مَكَانَ الذَّرَّةِ ذُرَةً قَالَ يَزِيدُ صَحَّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامٍ..(21)
قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( قَالَ فِيْهِ شعبة : (( ذُرَةً )) - بالضم والتخفيف - ونسب فِيْهِ إلى التصحيف ))(22)
ومثّلَ ابنُ الصَّلاَحِ لتصحيف الْمَتْن بمثال آخر فَقَالَ : (( وفي حَدِيْث أبي ذر :
((تُعِينُ الصَّانِعَ)) ، قَالَ فِيْهِ هشام بن عروة - بالضاء المعجمة - وَهُوَ تصحيفٌ ، والصواب ما رواه الزهري: (( الصانع )) - بالصاد المهملة -(23)ضد الأخرق(24))(25)
القسم الثالث : تصحيف البصر :
وَهُوَ سوء القراءة بسبب تشابه الحروف والكلمات وهذا يحصل في الأعم لِمَنْ يأخذ من الصحف دون تلقٍ .
مثاله: ما في مسند أحمد (22230) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ كَتَبَ إِلَىَّ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ يُخْبِرُنِى عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ فِى الْمَسْجِدِ. قُلْتُ لاِبْنِ لَهِيعَةَ فِى مَسْجِدِ بَيْتِهِ قَالَ لاَ فِى مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - .)
قَالَ ابن الصَّلاَحِ: إنما هُوَ بالراء:" احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فِيْهَا"(26)فصحّفه ابن لهيعة ؛ لكونه أخذه من كتاب بغير سَمَاع "(27).
وَقَالَ الإمام مُسْلِم : (( هَذِهِ رِوَايَة فاسدة من كُلّ جهة . فاحشٌ خطؤها في الْمَتْن والإسناد ، وابن لهيعة المصحف في متنه ، المغفل في إسناده ))(28).
وَقَدْ وصف السخاوي تصحيف البصر بأنه الأكثر(29).
القسم الرابع : تصحيفُ السمع :
ويحدث بسبب تشابه مخارج الكلمات في النطق فيختلط الأمر عَلَى السامع فيقع في التصحيف أَوْ التحريف .
نحو حَدِيْث لـ : (( عاصم الأحول )) ، رَوَاهُ بعضهم فَقَالَ : (( عن واصل الأحدب )) وَقَدْ ذَكَرَ الإمام الدَّارَقُطْنِيّ أنَّهُ من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر، قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( كأنه ذهب - والله أعلم - إلى أن ذَلِكَ مِمَّا لا يشتبه من حَيْثُ الكتابة ، وإنما أخطأ فِيْهِ سمع من رَوَاهُ ))(30).
القسم الخامس : تصحيفُ اللفظ
ومثاله ما ورد عن الدَّارَقُطْنِيّ : أن أبا بكر الصولي(31)أملى في الجامع حَدِيْث أبي أيوب : (( من صام رمضان وأتبعه ستّاً من شوال )) ، فَقَالَ فِيْهِ : (( شيئاً ))(32)- بالشين والياء -(33).
قَالَ ابن الصَّلاَحِ : (( تصحيف اللفظ وَهُوَ الأكثر ))(34).
القسم السادس : تصحيفُ المعنى دون اللفظ :
مثاله: قَوْل مُحَمَّد بن المثنى(35): (( نحن قوم لنا شرف، نحن من عَنَزة ))(36). قَالَ ابن الصَّلاَحِ : يريد ما روي : ((أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلَى عَنَزَةٍ))(37).
فتوهم أنه صلى إلى قبيلتهم ، وإنما العنزة هاهنا حربة نصبت بَيْنَ يديه فصلَّى إليها ))(38).
4- تقسيم الحافظ ابن حجر(39):
هذا وقد قسم الحافظ ابن حجر التصحيف تقسيما آخر، فجعله قسمين وهما:
المُصَحَّف: وهو ما كان التغيير فيه بالنسبة إلى نَقْط الحروف مع بقاء صورة الخَط.
المُحَرَّف: وهو ما كان التغيير فيه بالنسبة إلى شَكْل الحروف مع بقاء صورة الخط.
5- هل يقدحُ التصحيف بالراوي ؟
أ) إذا صدر من الراوي نادراً فإنه لا يقدح في ضبطه ،لأنه لا يسلم من الخطأ والتصحيف القليل أحد.
ب) وإذا كثر ذلك منه فإنه يقدحُ في ضبطه، ويدلُّ على خفته وأنه ليس من أهل هذا الشأن.
6- السبب في وقوع الراوي في التصحيف الكثير :
غالباً ما يكون السبب في وقوع الراوي في التصحيف هو أخذ الحديث من بطون الكتب والصُّحُف ، وعدم تلقيه عن الشيوخ والمدرسين ، ولذلك حذر الأئمة من أخذ الحديث عمن هذا شأنهم وقالوا " لا يؤخذ الحديث من صَحَفٍيٍ " أي لا يؤخذ عمن أخذه من الصحف .
7 - أشهر المصنفات فيه :
ولأهمية هَذَا الفن من فنون علم الْحَدِيْث فَقَدْ صنف فِيْهِ العلماء عدة كَتَبَ مِنْهَا :
تصحيف العلماء : لأبي مُحَمَّد عَبْد الله بن مُسْلِم بن قتيبة الدينوري ( ت 276 ه( .
التنبيه عَلَى حدوث التصحيف : لحمزة بن الحسن الأصفهاني ( ت 360 ه( ، وَهُوَ مطبوع .
التنبيهات عَلَى أغاليط الرُّوَاة : لأبي نعيم علي بن حمزة البصري ( ت 375 ه( .
شرح ما يقع فِيْهِ التصحيف والتحريف : لأبي أحمد الحسن بن عَبْد الله العسكري ( ت 382 ه( .
تصحيفات الْمُحَدِّثِيْنَ : لأبي أحمد الحسن بن عَبْد الله العسكري ، وَهُوَ مطبوع .
تصحيفات الْمُحَدِّثِيْنَ : للإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ ( ت 385 ه( .
إصلاح خطأ الْمُحَدِّثِيْنَ : لأبي سليمان حمد بن مُحَمَّد الخطابي ( ت 388 ه( .
الرد عَلَى حمزة في حدوث التصحيف : لإسحاق بن أحمد بن شبيب ( ت 405 ه(.
متفق التصحيف : لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني ( ت 456 ه( .
تلخيص المتشابه في الرسم ، وحماية ما أشكل مِنْهُ عن بوادر التصحيف والوهم : للخطيب البغدادي ( ت 463 ه( .
تالي التلخيص : لأبي بكر أحمد بن علي الْخَطِيْب ( ت 463 ه( .
مشارق الأنوار عَلَى صَحِيْح الآثار : لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي ( ت 544 ه( .
ما يؤمن فِيْهِ التصحيف من رجال الأندلس : لأبي الوليد يوسف بن عَبْد العزيز المعروف بابن الدباغ ( ت 546 ه( .
مطالع الأنوار : لأبي إسحاق إِبْرَاهِيْم بن يوسف بن إِبْرَاهِيْم المعروف بابن قرقول ( ت 569 ه( .
التصحيف والتحريف : لأبي الفتح عثمان بن عيسى الموصلي ( ت 600 ه( .
تصحيح التصحيف وتحرير التحريف : لخليل بن أيبك الصفدي ( ت 764 ه( .
تحبير الموشين فِيْمَا يقال لَهُ بالسين والشين : للفيروزآبادي ( ت 817 ه( .
التطريف في التصحيف لأبي الفضل السيوطي ( ت 911 ه( .
التنبيه عَلَى غلط الجاهل والتنبيه : لابن كمال باشا ( ت 940 ه( .
وَقَدْ ساق هَذِهِ الكتب ورتبها موفق بن عَبْد الله في كتابه " توثيق النصوص " : 174-178 .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 20) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 3) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 90) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 40) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 21) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 488) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 467) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 118) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 129) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 129)
(2) - القاموس جـ3 ـ ص 166 .
(3) - تصحيفات الْمُحَدِّثِيْنَ 1/39
(4) - نُزهة النظر : 127 ، وانظر : تدريب الرَّاوِي 2/195 ، وألفية السيوطي : 203 ، وتوضيح الأفكار 2/419 مع حاشية محيي الدين عَبْد الحميد .
وَقَالَ الدكتور موفق بن عَبْد الله في كتابه " توثيق النصوص " : 166 : (( وسبق الحافظ ابن حجر في هَذَا التفريق الإمام العسكري في كتابه " شرح ما يقع فِيْهِ التصحيف والتحريف " )) .
(5) - الْمُؤْتَلِف لغة : اسم فاعل من الائتلاف بمعنى الاجتماع والتلاقي ، وَهُوَ ضد النفرة ، قَالَ ابن فارس : الهمزة واللام والفاء أصل واحد يدل عَلَى انضمام الشيء إلى الشيء ، والأشياء الكثيرة أَيْضاً . مقاييس اللغة 1/131 (ألف)، وانظر: شرح علي القاري عَلَى النخبة:224، وتيسر مصطلح الْحَدِيْث: 208.
والمختلف لغة : اسم فاعل من الاختلاف ، وَهُوَ ضد الاتفاق ، يقال : تخالف الأمران ، واختلفا إذا لَمْ يتفقا . وكل ما لَمْ يتساوَ فَقَدْ تخالف واختلف . لسان العرب 9/91 ( خلف ) ، وانظر : شرح علي القاري عَلَى النخبة : 224 ، وتيسر مصطلح الْحَدِيْث : 208 .
والمؤتلف والمختلف في اصطلاح الْمُحَدِّثِيْنَ : هُوَ ما يتفق في الخط دون اللفظ . فتح المغيث 3/213 .
وَهُوَ فن مهم للغاية ، وفيه عدة مؤلفات سردها الدكتور موفق في كتابه " توثيق النصوص " : 183-194 فبلغ بِهَا ستين .
(6) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 252 ، وطبعة الفحل : 448 .
(7) - هُوَ سعيد بن عَبْد العزيز التنوخي الدمشقي : ثقة إمام ، لكنه اختلط في آخر أمره ، توفي سنة (167 هـ )، وَقِيْلَ : ( 163 هـ )، وَقِيْلَ : ( 164 هـ ).سير أعلام النبلاء 8/32 ، والكاشف 1/440 ( 1926 ) ، والتقريب ( 2358 ) .
(8) - الجرح والتعديل 2/31 ، وتصحيفات الْمُحَدِّثِيْنَ 1/71 ، وشرح ما يقع فِيْهِ التصحيف : 13 ، والتمهيد 1/46 ، وفتح المغيث 2/232 .
(9) - انظر : الإكمال 7/186 .
(10) - بفتح النون وسكون الهاء . التقريب ( 4017 ) .
(11) - أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ في العلل 3/64-65 س287 ، وفي المؤتلف والمختلف 3/2078-2079 .
(12) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 252
(13) - في مسنده 6/244(26825 ) وكذلك أخرجه الطيالسي (1538)، وإسحاق بن راهويه (1229) و (1249).
(14) - القائل هُوَ : عبد الله بن الإمام أحمد راوي المسند عن أبيه .
(15) - الدباء:القرع،واحدها دُباءة،كانوا ينتبذون فِيْهَا فتسرع الشدة في الشراب،وتحريم الانتباذ في هَذِهِ الظروف كَانَ في صدر الإِسْلاَم ثُمَّ نسخ،وَهُوَ المذهب،وذهب الإمام مالك وأحمد إلى بقاء التحريم. النهاية 2/96.
(16) - الحنتم: جرار مدهونة خضر كانت تحمل الخمر فِيْهَا إلى الْمَدِيْنَة ، ثُمَّ اتسع فِيْهَا فقيل للخزف كله حنتم ، واحدها حنتمة ؛ وإنما نهي عن الانتباذ فِيْهَا لأنها تسرع الشدة فِيْهَا لأجل دهنها. وَقِيْلَ : لأنها كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر فنهي عَنْهَا من عملها . والأول أوجه . النهاية 1/448 .
(17) - المزفت : هُوَ الإناء الَّذِيْ طلي بالزفت ، وَهُوَ نوع من القار ثُمَّ انتبذ فِيْهِ . النهاية 2/304 .
(18) - وكذا نبه عَلَى هَذَا الوهم في " علله " برواية ابنه 2/33-34 .
(19) - 2/61 .
(20) - تاريخ بغداد 7/400 .
(21) - أخرجه الجماعة انظر المسند الجامع - (ج 1 / ص 356)(220) وهذا لفظ مسلم
(22) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 253
(23) - قَالَ الحافظ العراقي في شرح التبصرة :2/296 ، وطبعة الفحل 2/423 : (( وكقول هشام بن عروة في حَدِيْث أبي ذر : (( تعين ضايعاً )) بالضاد المعجمة ، والياء آخر الحروف ، والصواب بالمهملة والنون )) ، ومثله في تدريب الرَّاوِي 2/114 .
وهذا جزء من حَدِيْث أخرجه البخاري 3/188 ( 2518 ) ، ومسلم 1/62 ( 84 ) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي مُراوح ، عن أبي ذر ، قَالَ : قلت : يا رَسُوْل الله ... وفيهما : (( تعين صانعاً ))، وعند مُسْلِم أَيْضاً بلفظ : (( فتعين الصانع )) ، هكذا في الأصول المطبوعة لـ " الصحيحين ": ( (صانعاً ) - بالصاد المهملة والنون - ومثل ذَلِكَ في مسند الحميدي ( 131 ) ، ومسند الإمام أحمد 5/150 و5/171 ، وفي فتح الباري 5/148 : (( ضائعاً )) ، وفي عمدة القارئ 13/79 : ( (ضايعاً )) . وانظر تفصيل ذَلِكَ في شرح مُسْلِم للنووي 1/271 ، وفتح الباري 5/149 ، وعمدة القاري 13/80 . وانظر المسند الجامع - (ج 16 / ص 127)(12242)
(24) - الأخرق : هُوَ الَّذِيْ ليس بصانع ولا يحسن العمل ، يقال : رجل أخرق : لا صنعة لَهُ ، والجمع خرق - بضم ثُمَّ سكون - وامرأة خرقاء ، كذلك . انظر : فتح الباري 5/149 .
(25) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 254
(26) - أخرجه البخاري 8/34 (6113) ، ومسلم 2/188 (781) ، وفي التمييز (57) ، وأخرجه البخاري أَيْضاً 1/186 (731) و 9/117 (7290) ، ومسلم 2/188 (781) بلفظ : (( اتخذ حجرة )) .
(27) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 449 .
(28) - التمييز : 140 .
(29) - فتح المغيث 3/71 .
(30) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 256 ، وفي طبعة الفحل : 453 .
(31) - هُوَ محمد بن يحيى بن عَبْد الله بن العباس بن محمد بن صول، أبو بكر المعروف بالصولي، كَانَ أحد العلماء بفنون الآداب، حسن الْمَعْرِفَة بأخبار الملوك وأيام الخلفاء، ومآثر الأشراف، وطبقات الشعراء ، توفي سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة.. انظر: تاريخ بغداد 3/427 ، ومعجم الأدباء 19/109 ، والسير 15/301
والصولي : بضم الصاد المهملة ، وفي آخرها اللام ، هَذِهِ النسبة إلى صول ، وهم اسم لبعض أجداده . الأنساب 3/572 ..
(32) - انظر تخريجه في المسند الجامع - (ج 5 / ص 441) (3529)
(33) - تاريخ بغداد 3/431 ، ومعرفة أنواع علم الْحَدِيْث : 255 ، وفي طبعة الفحل : 452 .
(34) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 256 ، وفي طبعة الفحل : 453 .
(35) - هُوَ مُحَمَّد بن المثنى بن عبيد العنَزي -بفتح النون والزاي- أبو موسى البصري المعروف بالزمن: ثقة ثبت توفي (252ه). تهذيب الكمال 5/493 (6170) ، والكاشف 2/214 (5134) ، والتقريب(6264).
(36) - بفتح العين المهملة والنون . انظر : الأنساب 4/221 ، وتاج العروس 15/248 .
(37) - هَذِهِ إشارة إلى حَدِيْث ورد عن جَمَاعَة من الصَّحَابَة . انظر مثلاً : مسند الإمام أحمد 4/308 ، وصحيح البخاري 2/25 ( 973 ) ، وصحيح مُسْلِم 2/55 ( 501 ) ( 246 ) ، وابن ماجه ( 1304 ) .
(38) - مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث : 254-255 ، وفي طبعة الفجل : 451 ، وانظر في معنى العنزة : الصحاح 3/887 ، وتاج العروس 15/247 .
(39) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 21)(1/216)
الشاذُّ والمحفوظُ(1)
1- تعريفُ الشاذِّ:
أ) لغة: الشاذ اسم فاعل من (شذ) والشذوذ في اللغة : الانفراد . ولابن حزم فيه كلام جميل ، أنقله هنا، وهذا نصه :" (الباب السابع والعشرون في الشذوذ) : الشذوذ في اللغة التي خوطبنا بها هو الخروج عن الجملة ، وهذه اللفظة في الشريعة موضوعة باتفاق على معنى ما ، واختلف الناس في ذلك المعنى .
فقالت طائفة : الشذوذ هو مفارقة الواحد من العلماء سائرهم ، وهذا قول قد بينا بطلانه في باب الكلام في (الإجماع) من كتابنا هذا . والحمد لله رب العالمين .
وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق ، فهو محمود ممدوح ، والشذوذ مذموم بإجماع، فمحال أن يكون المرء محموداً مذموماً من وجه واحد في وقت واحد ، وممتنع أن يوجب شيء واحد الحمد والذم معاً في وقت واحد من وجه واحد ، وهذا برهان ضروري .
وقد خالف جميع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في حرب أهل الردة ، فكانوا في حين خلافهم مخطئين كلهم ، فكان هو وحده المصيب فبطل القول المذكور .
وقال طائفة : الشذوذ هو أن يجمع العلماء على أمر ما ، ثم يخرج رجل منهم عن ذلك القول الذي جامعهم عليهم ، وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا .
وهذا المعنى - لو وجد - شذوذ وكفر معاً لما قد بينا في باب (الكلام في الإجماع) : أن من فارق الإجماع ، وهو يوقن أنه إجماع ، فقد كفر ، مع دخول ما ذكر في الامتناع والمحال ، وليت شعري متى تيقنا إجماع جميع العلماء كلهم في مجلس واحد ، فيتقون ثم يخالفهم واحد منهم .والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق : إن حدَّ الشذوذ هو مخالفة الحق ، فكل من خالف الصواب في مسألة ما ، فهو فيها شاذ ، وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم ، أو بعضهم ، والجماعة والجملة هم أهل الحق ، ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد فهو الجماعة ، وهو الجملة .
وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط ، فكانا هم الجماعة ، وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الشذوذ .
وهذا الذي قلنا لا خلاف فيه بين العلماء ، وكل من خالف فهو راجع إليه ، ومقربه ، شاء أو أبى والحق هو اهـ(2).
ب) اصطلاحاً:
أما في الاصطلاح فقد اختلفوا قديما في تحديد مدلوله، غير أنهم اتفقوا في الحكم عليه بالرد .
وجدير بالذكر أن لفظة "الشاذ" لم يقع إطلاقها في مصادر العلل، في حدود تتبعي لها ، والذي كثر إطلاقه فيها عوضا عن هذا المصطلح هو لفظ "الوهم" و"الخطأ" و "غير محفوظ" وأحيانا "المنكر" .
قال الخليلي : ''وأما الشواذ فقد قال الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: الشاذ عندنا ما يرويه الثقات على لفظ واحد ويرويه ثقة خلافه زائدا أو ناقصا، والذي عليه حفاظ الحديث، الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة فما كان من غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان من ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به'' اهـ(3).
وقال الحاكم : الشاذُّ غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته : أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل بمتابع لذلك الثقة(4).
وإن كانوا قد اختلفوا في معنى الشاذ لكنهم متفقون عموما على أن الحديث الذي خالف فيه راويه ما ثبت عن مصدره، وكذا الحديث الذي تفرد به راو وليس لذلك الحديث أصل، كل ذلك مردود لا يحتجُّ به، كما يتبين ذلك جليا من الفقرات الآتية:
أمَّا الإمام الشافعي - رحمه الله - فقد اشترط في صحة الحديث والاحتجاج به سلامته من مخالفة الراجح، والتفرد بما ليس له أصل.
أما المخالفة فيقول فيها الإمام الشافعي -رحمه الله - :
'' وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَجْمَعَ أُمُورًا , مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَنْ حَدَّثَ بِهِ ثِقَةً فِي دِينِهِ , مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ فِي حَدِيثِهِ , عَاقِلًا بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ , عَالِمًا بِمَا يُحِيلُ مَعَانِيَ الْحَدِيثِ مِنَ اللَّفْظِ , أَوْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْحَدِيثَ بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمِعَهُ , لَا يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى , لِأَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ لَمْ يَدْرِ لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ , وَإِذَا أَدَّاهُ بِحُرُوفِهِ فَلَمْ يَبْقَ وَجْهٌ يُخَافُ فِيهِ إِحَالَتُهُ لِلْحَدِيثِ , حَافِظًا إِنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ , حَافِظًا لِكِتَابِهِ إِنْ حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ , إِذَا شَرِكَ أَهْلَ الْحِفْظِ فِي الْحَدِيثِ وَافَقَ حَدِيثَهُمْ , بَرِيئًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَلِّسًا , يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَقِيَ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ , وَيُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا يُحَدِّثُ الثِّقَاتُ خِلَافَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَيَكُونُ هَكَذَا مَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْحَدِيثُ مَوْصُولًا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , أَوْ إِلَى مَنِ انْتَهَى بِهِ إِلَيْهِ دُونَهُ , لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُثْبِتٌ لِمَنْ حَدَّثَهُ , وَمُثْبَتٌ عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ , فَلَا يُسْتَغْنَى فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمَّا وَصَفْتُ " . اهـ(5).
والذي يهمنا هنا هو قوله : '' أن يكون ( يعني الراوي الثقة ) بريا من أن يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يحدث الثقات خلافه''، إذ جعل الإمام الشافعي سلامة الحديث من مخالفة الثقات فيه من شروط الاحتجاج به، وذلك معنى الشذوذ عنده ، كما أوضحه ابن رجب الحنبلي الحافظ بما يلي :
'' الخامس(6): أن يكون في حديثه الذي لا ينفرد به يوافق الثقات في حديثهم ولا يحدث بما لا يوافق الثقات ، وهذا الذي ذكره معنى قول كثير من أئمة الحفاظ في الجرح في كثير من الرواة يحدث بما يخالف الثقات ، أو يحدث بما لا يتابعه الثقات عليه ، لكن الشافعي اعتبر أن لا يخالفه الثقات ، ولهذا قال بعد هذا الكلام: (بريا أن يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يحدث الثقات خلافه) ، وقد فسر الشافعي الشاذ من الحديث بهذا '' اهـ(7).
وأما التفرد فقد قال فيه الإمام الشافعي: '' فعليك من الحديث بما تعرفه العامة، وإياك والشاذ منه''(8)، وعلى هذا القول فما لا تعرفه عامة الحفاظ من الحديث يعده الشافعي شاذا مردودا، سواء تفرد الراوي به أم خالفهم فيه، ويبدو لي أن هذا القول لا يتناقض مع قوله السابق حول المقصود بالشاذ، فإنه لم يذكر ذلك كتعريف عام لمصطلح الشاذ، وليس ذلك من شأنه ولا من شأن علماء تلك العصور، وإنما ذكر ذلك في مناسبة علمية لها صلة بدفاعه عن موقف أهل السنة والجماعة، وإنكاره على أهل البدع الذين اشترطوا تعدد الرواة ليحتج بالحديث.
ثم إن الإمام الشافعي كان من عادته أن يثبت ما أثبته المحدثون النقاد من الأحاديث، ويترك ما تركه الحفاظ، ولم يعرف عنه ( رحمه الله تعالى ) منهج جديد مناقض لمنهج المحدثين عموما في قبول الأحاديث الشاذة الغريبة التي ليس لها أصل.
" وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَحْكِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنِّي , فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فَأَعْلِمُونِي إِنْ شَاءَ يَكُونُ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا , حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا ".(9)
وهنا لا بد أن يفهم أن قول الإمام الشافعي (رحمه الله ) ليس فيه دلالة على أن كل ما خالف فيه الثقة لغيره من الثقات أو الأوثق منه يعتبر شاذا ينبغي الاحتراز منه في الحديث الصحيح، وإنما يدلُّ على ما ترجح بالقرائن أنه مرجوح ووهم .
ولهذا قال (رحمه الله) في زيادة مالك ومن تابعه في حديث (فقد عتق منه ما عتق ) : قَالَ الشَّافِعِيُّ لِبَعْضِ مَنْ يُنَاظِرُهُ : أَوَ لِلْمُنَاظَرَةِ مَوْضِعٌ مَعَ ثُبُوتِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ بِطَرْحِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ : وَإِنَّا نَقُولُ : إِنَّ أَيُّوبَ قَالَ : وَرُبَّمَا قَالَ نَافِعٌ : " فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " , وَرُبَّمَا لَمْ يَقُلْهُ قَالَ : وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ نَافِعٌ بِرَأْيِهِ , قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَقُلْتُ لَهُ : لَا أَحْسِبُ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَرُوَاتِهِ يَشُكُّ فِي أَنَّ مَالِكًا أَحْفَظُ لِحَدِيثِ نَافِعٍ مِنْ أَيُّوبَ , لِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَ لَهُ مِنْ أَيُّوبَ , وَلِمَالِكٍ فَضْلُ حِفْظٍ لِحَدِيثِ أَصْحَابِهِ خَاصَّةً , وَلَوِ اسْتَوَيَا فِي الْحِفْظِ فَشَكَّ أَحَدُهُمَا فِي شَيْءٍ لَمْ يَشُكَّ فِيهِ صَاحِبُهُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَوْضِعٌ لِأَنْ يُغَلَّطَ بِهِ الَّذِي لَمْ يَشُكَّ , إِنَّمَا يُغَلَّطُ الرَّجُلُ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْهُ , أَوْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ يَشْرُكُهُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُ مَا حَفِظَ مِنْهُ , هُمْ عَدَدٌ , وَهُوَ مُنْفَرِدٌ , وَقَدْ وَافَقَ مَالِكًا فِي زِيَادَةٍ : " وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ " - يَعْنِي : غَيْرُهُ , قَالَ : وَزَادَ فِيهِ بَعْضُهُمْ : " وَرَقَّ مِنْهُ مَا رَقَّ ".(10)
وهنا وقفة قصيرة لننظر ما مدى صحة قول بعض الفقهاء المتأخرين بأن الشاذ لا يطلق إلا على الحديث المخالف المنافي لما رواه الأوثق، وما مصدر قيد التنافي في الشاذ.
هل يشترط في الشاذ التنافي مع المخالفة ؟
لم يشترط الإمام الشافعي للشاذ أن يكون منافيا لما رواه غيره بحيث يتعذر الجمع بينهما، لا تصريحا ولا تلميحا، بل اشترط مخالفة الراجح، وهي أعم من أن تكون المخالفة منافية للرواية الأخرى، أو غير منافية لها ، أي أن تكون المخالفة بحيث يتعذر الجمع فيها على قواعد نقاد الحديث، ويشهد له ما ذكر من أمثلة الشاذ.
وإنما عرف هذا الشرط عن بعض الفقهاء والأصوليين - كابن الصلاح ، وابن حجر الهيتمي الفقيه والزرقاني والأهدل وغيرهم - إلا إن فيهم من أطلق القول بتعذر الجمع، من غير تقييد بكونه على قواعد نقاد الحديث، وإن كان مقصوده به هو المنافاة التي تجعل الجمع متعذرا ، فيأتي النقاش حول ذلك الشرط في الفقرات التالية:
لقد ناقش هذه المسألة المباركفوري (رحمه الله) في مناسبة تصحيح كلمة (على صدره) التي زادها أحد الرواة في عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ.(11)، حتى انتهى إلى ضرورة تقييد المخالفة بالمنافاة بحيث يتعذر الجمع(12).
وكان قد استدل على ذلك بما ذكره الحافظ ابن حجر:
''وأما المخالفة فينشأ عنها الشذوذ والنكارة، فإذا روى الضابط أو الصدوق شيئا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ''(13).
يقول المباركفوري معلقا عليه:
فهذا التعريف هو الذي عليه المحققون وهو المعتمد، قال الحافظ في شرح النخبة : فإن خولف بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالراجح يقال له : ( المحفوظ) ومقابله - وهو المرجوح - يقال له :"الشاذ " - إلى أن قال - وعرف من هذا التقرير أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه وهو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح اهـ(14).
ثم قال المباركفوري: ''المراد من المخالفة في قوله : ( مخالفا ) المنافاة دون المطلق، يدل عليه قول الحافظ في هذا الكتاب ( يعني نخبة الفكر ) وزيادة راويهما - أي الصحيح والحسن - مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقا؛ لأنها في حكم الحديث المستقل الذي يتفرد به الثقة ، ولا يرويه عن شيخه غيره ، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح ''(15).
أقول:
لقد سبق أن مجرد المخالفة بين ثقة وأوثق، أو بين واحد وجماعة لا تستدعي الشذوذ في رواية الثقة، إلا بعد أن يتم ترجيح رواية الأوثق أو رواية الجماعة وفق منهج النقاد، وأما قيد المنافاة فلم يرد في نصوص المتقدمين الذين أوضحوا معنى الشاذ - لا تصريحا ولا تلميحا - .
وأما كلام الحافظ ابن ححر الذي استدل به المباركفوري على مراعاة قيد المنافاة في تعريف الشاذ ففيه النقاط التالية :
أولا : إن الأمثلة التي ساقها الحافظ ابن حجر وغيره للحديث الشاذ ليس في معظمها إلا المخالفة دون المنافاة .
ثانيا : نصوص الحافظ ابن حجر غير الأخير فيما يتعلق بالشاذ، كلها صريحة في عدم التقييد بالمنافاة، وهي المعتمدة؛ لأنها في صدد تعريف مصطلح الشاذ، وأما النص الأخير فهو فيما يتعلق بمسألة زيادة الثقة، حتى إنه أكد بقوله '' وعرف من هذا التقرير أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه ، وهو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح '' .
وأما النص الأول، وهو '' فإذا روى الضابط أو الصدوق شيئا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ'' فليس فيه ما يدل على قيد المنافاة، إذ إن معنى قوله : '' بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين '' أي يتعذر الجمع بين الوجوه المختلفة، لعدم دلالة القرائن على ذلك.
ثالثا: لو كانت المنافاة مقصودة ومتعينة في المخالفة التي يدور عليها الشاذ لخرج من الشاذ ما خالف الثقة لمن هو أرجح في وصل المرسل، أو رفع الموقوف، وذلك لعدم استكماله شرط المنافاة بينهما، ولأن الجمع فيها ممكن، وذلك خلاف الواقع.
رابعا: لو جمعنا بين الوجوه المختلفة على غير قواعد المحدثين، وقلنا بصحة جميع الوجوه المختلفة بمجرد كونها غير متنافية، لاحتمل أن يكون ذلك كذبا على الشيخ الذي اختلفوا عليه، ذلك لأنه إذا لم يكن بينها تناف لا يعني بالضرورة أن ذلك الشيخ قد ذكر الوجهين جميعا، وقد لا يكون ذكر إلا وجها واحدا.
ولكي يكون الحكم بالجمع أو بالترجيح في حالة الاختلاف بين الرواة منطقيا ومنهجيا فإنه ينبغي البحث عن القرائن والمناسبات التي تحف الروايات، وفقه دلالاتها، ومن الجدير بالذكر أن المحدثين النقاد لم يضعفوا حديث ثقة لمجرد أنه خالف فيه أوثق أو جماعة، بل بحسب الأدلة والقرائن والمرجحات، ولهذا قال الحاكم : الحجة عندنا الحفظ و الفهم والمعرفة لا غير.
يقول الحافظ ابن حجر: " واشْتُهِرَ عَنْ جَمْعٍ مِن العُلماءِ القَوْلُ بقَبولِ الزِّيادةِ مُطْلقاً مِن غيرِ تفصيلٍ(16)، ولا يَتَأَتَّى ذلك على طريقِ المُحَدِّثينَ الَّذينَ يشتَرِطونَ في الصَّحيحِ أَنْ لا يكونَ شاذّاً ، ثمَّ يفسِّرونَ الشُّذوذَ بمُخالَفةِ الثِّقةِ مَن هو أَوثقُ منهُ .
والعَجَبُ مِمَّنْ أَغفلَ ذلك منهُم معَ اعْتِرافِه باشْتِراطِ انْتفاءِ الشُّذوذِ في [ حدِّ ] [ الحديثِ ] الصَّحيحِ ، وكذا الحَسنِ .
والمَنقولُ عن أَئمَّةِ الحَديثِ المُتَقَدِّمينَ كعبدِ الرحمنِ [ بنِ ] مَهْدي ، ويحيى القَطَّانِ ، وأَحمدَ بنِ حنبلٍ ، ويحيى بنِ مَعينٍ ، وعليِّ بنِ المَدينيِّ ، والبُخاريِّ ، وأَبي زُرْعةَ (( الرازي )) ، وأَبي حاتمٍ ، والنَّسائيِّ ، والدَّارقطنيِّ وغيرِهم - اعتبارُ التَّرجيحِ فيما يتعلَّقُ بالزِّيادةِ وغيرها ، ولا يُعْرَفُ عن أَحدٍ منهُم إِطلاقُ قَبولِ الزِّيادةِ .
وأَعْجَبُ مِن ذلك إِطلاقُ كثيرٍ مِن الشَّافعيَّةِ القَوْلَ بقَبولِ زِيادةِ الثِّقةِ ، معَ أَنَّ نصَّ الشافعيِّ يدلُّ على غيرِ ذلك ؛ فإِنَّهُ قالَ في أَثناءِ كلامِه على ما يُعْتَبَرُ [ بهِ ] حالُ الرَّاوي في الضَّبْطِ ما نَصُّهُ : (( ويكونُ إِذا أشْرَك أَحداً مِن الحُفَّاظِ لم يُخالِفْهُ ، فإِنْ خالَفَهُ فوُجِدَ حديثُهُ أَنْقَصَ كانَ في ذلك دليلٌ [ على ] صحَّةِ مَخْرَجِ حديثِهِ ، ومتى خالَفَ ما وَصَفْتُ أَضرَّ ذلك بحديثِهِ )) اهـ(17).
غير أن الحافظ قال: '' وزِيادةُ راويهِما ؛ أي: الصَّحيحِ والحَسنِ ؛ مقبولةٌ ؛ مَا لمْ تَقَعْ مُنافِيَةً لِروايةِ مَنْ هُو أَوْثَقُ ،ممَّن لم يَذْكُرْ تلك الزِّيادةِ :
[ لأنَّ الزِّيادةَ ]: إِمَّا [ أَنْ ] تكونَ لا تَنافِيَ بينَها وبينَ روايةِ مَن لم يَذْكُرْها ؛ فهذه تُقْبَلُ مُطْلقاً ؛ لأنَّها في حُكْمِ الحديثِ المُستقلِّ الذي ينفرِدُ بهِ الثِّقةُ ولا يَرويه عن شيخِهِ غيرُه.
وإِمَّا أَنْ تكونَ مُنافِيةً بحيثُ يلزمُ مِن قبولِها رَدُّ الرِّوايةِ الأخرى ، فهذه (( هي )) التي يَقَعُ التَّرجيحُ بينها وبينَ معارِضِها(18)، [ فيُقْبَلُ الرَّاجحُ ] ويُرَدُّ المرجوحُ اهـ(19).
ويفهم من ظاهر هذا القول أن التفصيل في قبول الزيادة وردها هو وجود المنافاة وعدمها، بينما يدل القول السابق على تفصيل آخر، وهو أن يكون القبول والرد وفق دلالة القرائن، بغض النظر عن المنافاة وعدمها، وهو الصواب الذي عليه نقاد الحديث. والله أعلم .
خلاصة القول :
أن المنافاة ليست قيدا في المخالفة التي تكون بين الثقة والأرجح ليكون حديث الثقة شاذا مردودا، ولا هي معروفة في نصوص الإمام الشافعي ولا غيره من القدماء، ولا في تطبيقاتهم العملية.
كما يستخلص مما سبق أن الشاذ لدى الإمام الشافعي مردود، سواء أكان الشاذ هو الحديث الذي لا تعرفه العامة، أم الحديث الذي خالف فيه الثقة غيره من الثقات، وذلك لأن الشذوذ ناتج من خطأ الراوي، ولهذا اشترط الإمام الشافعي وغيره سلامة الحديث من الشذوذ لكي يكون محتجا به.(20)
2- حكم الشاذ عند الخليلي
أما ما ذكره الخليلي في معنى الشاذ عند الحفاظ فقد ورد نحوه عن غير واحد من الحفاظ .
عن صالح بن محمد الحافظ :''الحديث الشاذ المنكر الذي لا يعرف ''،
وعن إبراهيم بن أبي عبلة: ''من حمل شاذ العلم حمل شرا كثيرا ''،
وعن معاوية بن قرة: '' إياك والشاذ من العلم'' ،
وعن شعبة : ''لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ'' ،
وعن ابن مهدي : ''لا يكون إماما في العلم من يحدث بالشاذ ''،
وعن الإمام أحمد : أنه قال في حديث أسماء بنت عميس : تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما بدا لك: ''إنه من الشاذ المطروح''(21).
والشاذ على هذا الإطلاق مما ينبغي الاحتراز عنه ليكون الحديث صحيحا ومحتجا به ، حسبما فصله الحافظ الخليلي بقوله :
''فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به ''
__________
(1) - ألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 12) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 21) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 57) و الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 8) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 4) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 103) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 171) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 252) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 180) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 84) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 26)
(2) - (الإحكام لابن حزم 5/82)
(3) - الإرشاد 1/188 ، وحكاه ابن عدي بسياق آخر في الكامل 1/124 .
(4) - معرفة علوم الحديث ص:119 .
(5) - الرسالة للإمام الشافعي ص:369-372(ط:دار الفكر ، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر -سنة 1309 و الكفاية (37)
(6) - الحافظ ابن رجب في مناسبة التحليل لما ذكره الإمام الشافعي من تعريف الصحيح .
(7) - - شرح العلل ص:208 .
(8) - كتاب الأم 7/307 - 308
(9) - موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل - (ج 7 / ص 65) ((العلل)) (1055).
(10) - سنن البيهقي (19630 ) وحكاه الحافظ في النكت 2/688 .
(11) - سنن الترمذى(253 ) قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَغُطَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ هُلْبٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِى الصَّلاَةِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَضَعَهُمَا فَوْقَ السُّرَّةِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنْ يَضَعَهُمَا تَحْتَ السُّرَّةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ عِنْدَهُمْ.
(12) - تحفة الأحوذي 1/216- 217 .
(13) - - شرح النخبة ص: 28 .
(14) - - تحفة الأحوذي 1/217
(15) - - تحفة الأحوذي 1/217 . وجاء هذا الموضوع بشيء من التفصيل في بحث مستقل حول زيادة الثقة
(16) - وهذا تساهل إطلاق قبول الزيادة فلا بد من التقييد زيادة مقبولة ما لم تكن منافية لمن هو أوثق وما لم تكن أيضاً مخالفة لمن هو أوثق فإن كانت منافية ردت وإن كانت مخالفة شاذة ردت .
(17) - انظر النكت 2/692 والنخبة ص:13 والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 11)
(18) - زيادة رواي الصحيح والحسن مقبولة ما لم تقع منافية لمن أوثق ، منافية يعني لا تجتمع معها ، أما إذا كانت لا تنافي فهي مقبولة فإذا روى الثقة حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم رواه آخر وزاد عليه جملة أمر الله بها أو نهى عنها فلا بأس لا تكون منافية ، كما روى راوي النهي عن صيام يومي العيدين وزاد آخر فيه النهي عن لبستين أو بيعتين فلا ينافي هذا هذا فهذا شيء وهذا شيء فالزيادة التي لا تنافي تقبل أما إذا كانت تنافيها لا تجتمع مع ما رواه الأوثق فإنها تكون شاذة لا تقبل كأن يروي الثقة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكذا أو فعل ، فيأتي آخر أضعف من نافع فيروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن رواه نافع عن ابن عمر أنه أمر به فهذه لا تقبل لأنها مخالفة للأوثق فلا يجتمعان هذا يقول أمر وهذا يقول نهى .التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 10)
(19) - انظر نخبة الفكر ص:37 .
(20) - الحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 26) فما بعدها
(21) - - حكاها ابن رجب الحنبلي في شرح العلل ص : 236 . معناه : البسي ثياب الحداد السود . (انظر لسان العرب، مادة: سلب )(1/217)
ما المراد بالتفرد عند الخليلي ؟
إن الحافظ الخليلي لم يقصد بالتفرد تفردا مطلقا بحيث يتضمن ما تفرد به إمام متقن ومن دونه، وإنما أراد به تفردا خاصا ينفرد به شيخ، وهو دون مرتبة الأئمة والحفاظ، يقول الحافظ ابن رجب :
''ولكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره ، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فردا، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات أو أفراد إمام عن الحفاظ والأئمة صحيح متفق عليه، ومثله بحديث مالك في المغفر. اهـ(1).
فالحافظ الخليلي لا يعتبر تفردات الأئمة أو الثقات الحفاظ المشهورين شواذ ، كما هو ظاهر من تعريفه للشاذ ، ويشهد له ما صرح به في مسألة الأفراد : وأما الأفراد فما يتفرد به حافظ مشهور ثقة أو إمام عن الحفاظ والأئمة فهو صحيح متفق عليه - كحديث مالك عن الزهري في قصة المغفر - فهذا وأمثاله من الأسانيد متفق عليها(2).
على أنه لم يشترط في صحة الحديث والاحتجاج به تعدد الرواة في كل طبقة من طبقات السند ، وهذا لم يعرف إلا عن الخوارج وطوائف من أهل البدع .
فمراده واضح بقوله في تعريف الشاذ، إنه تفرد خاص ينفرد به الشيوخ، ويثير ذلك التفرد في قلب الناقد ريبة حول ضبط الراوي المتفرد .
وعليه فلا يبقى هنا مجال للاعتراض عليه بأنه يلزم من تعريفه للشاذ أن يدخل تفردات الثقات المعروفين التي اتفق على صحتها والاحتجاج بها الشيخان، كحديث : ''إنما الأعمال بالنيات ''وغيره من الأحاديث الكثيرة المخرجة في الصحيحين ، مع أنها أفراد تفرد بها الثقات.
وقد اعترض عليه بها بعض المتأخرين كابن الصلاح والنووي والحافظ ابن حجر وغيرهم، حين نظروا إلى قول الخليلي كتعريف ، إذ التعريف ينبغي أن يكون جامعا مانعا وواضحا وموجزا، كما هو معروف في علم المنطق، ولا ينفع القول في التعريف أن صاحبه قصد المعنى المطلوب، وإن لم يكن ذلك واضحا من التعريف.
وهذا النوع من التفرد لا يختلف الإمام الشافعي مع غيره من الحفاظ في عدم الاحتجاج به، كما أن الحفاظ الذين نقل عنهم الخليلي معنى الشاذ لا يختلفون مع الإمام الشافعي في عدم الاحتجاج بالحديث الشاذ الذي فيه مخالفة لما هو أرجح ، لأنه إذا كان الحديث الغريب الذي ليس له أصل غير مقبول عندهم ، فإن الذي خالف الواقع يكون من باب أولى أن لا يقبلوا ذلك الحديث لظهور خطأ فيه، وأما الخليلي فقد يقبله، إذ من رأيه أن يقبل زيادة الثقة مطلقا(3).
3-حكم الشاذ عند الحاكم
أما الحاكم فقد أراد بالشاذ ما هو أدق وأغمض من الحديث المعلول، إذ إنه فرق بينهما بقوله:
'' هَذَا النَّوْعُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الشَّاذِّ مِنَ الرِّوَايَاتِ ، وَهُوَ غَيْرَ الْمَعْلُولِ ، فَإِنَّ الْمَعْلُولَ مَا يُوقَفُ عَلَى عِلَّتِهِ ، أَنَّهُ دَخَّلَ حَدِيثًا فِي حَدِيثٍ ، أَوْ وَهِمَ فِيهِ رَاوٍ أَوْ أَرْسَلَهُ وَاحِدٌ ، فَوَصَلَهُ وَاهِمٌ ، فَأَمَّا الشَّاذُّ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ يَتَفَرَّدُ بِهِ ثِقَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ ، وَلَيْسَ لِلْحَدِيثِ أَصْلٌ مُتَابِعٌ لِذَلِكَ الثِّقَةِ '' .(4)
يقول الحافظ ابن حجر معلقا عليه : ''وهو على هذا أدق من المعلل بكثير ، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة وكان في الذروة العليا من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة ورزقه الله نهاية الملكة، وأسقط الزين العراقي من قول الحاكم قيدا لا بد منه ، وهو أنه قال: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك''(5).
وهذا القيد - وإن لم يصرح به الحاكم - فإنه يفهم من سياق كلامه، والأمثلة التي ساقها للحديث الشاذ.
يقول السخاوي: والشاذ لم يوقف له على علة ، وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذاك (يعني المعلول) في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه، وأنه من أغمض الأنواع وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله الفهم الثاقب والحفظ الواسع والمعرفة التامة بمراتب الرواة والملكة القوية بالأسانيد والمتون ، وهو كذلك، بل الشاذ أدق من المعلل بكثير اهـ(6).
فمقصود الحاكم بقوله: ''الشاذ غير المعلول'' أنه غير واضح العلة، ولا يعني أنه نوع منفصل عن العلة.
كما أن الحاكم ( رحمه الله ) لم يرد بقوله في الشاذ تفردا مطلقا، وإنما أراد نوعا خاصا من تفردات الثقات مما يتوقف الناقد الجهبذ عن قبوله والاحتجاج به لوجود الوهم فيه ، والدليل على ذلك ما شرحه في قسم الغريب والأفراد ، وهذا نصه:
'' ذِكْرُ النَّوْعِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عِلْمِ الْحَدِيثِ هَذَا النَّوْعُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْغَرِيبِ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ هَذَا الْعِلْمُ ضِدَّ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَنَوْعٌ مِنْهُ غَرَائِبُ الصَّحِيحِ ، مِثَالُ ذَلِكَ مَا 189 حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ : ثنا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ , عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَيْمَنُ قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : " كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فَعَرَضَتْ فِيهِ كَذَّانَةٌ وَهِيَ الْجَبَلُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَّانَةٌ قَدْ عَرَضَتْ فِيهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " رُشُّوا عَلَيْهَا " , ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهَا ، وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ مِنَ الْجُوعِ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ ذِكْرُ أَهْلِ الصُّفَّةِ ، وَدَعْوَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِيَّاهُمْ ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي وَرَقَةٍ قَالَ الْحَاكِمُ : رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ ، عَنْ خَلَّادِ بْنِ يَحْيَى الْمَكِّيِّ , عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ ، فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ , عَنْ أَبِيهِ , وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ( 190 ) حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنِ أَسَدٍ قَالَ : ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَعْمَى الشَّاعِرِ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : لَمَّا حَاصَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ : " إِنَّا قَافِلُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا " فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : أَنَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَحْهُ ؟ فَقَالَ : : " لَهُمُ اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ " , فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ ، فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا " , فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ الْحَاكِمُ : رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، وَغَيْرِهِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، وَهُوَ غَرِيبٌ صَحِيحٌ ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو غَيْرَ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّائِبِ بْنِ فَرُّوخَ الشَّاعِرِ ، وَلَا عَنْهُ غَيْرُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَلَا عَنْهُ غَيْرُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَهُوَ غَرِيبٌ صَحِيحٌ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ غَرِيبِ الْحَدِيثِ غَرَائِبُ الشُّيُوخِ ، مِثَالُهُ مَا ( 191 )حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : ثنا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ : أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ , عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ " قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ , عَنْ نَافِعٍ ، وَهُوَ إِمَامٌ يُجْمَعُ حَدِيثُهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ إِمَامٌ مُقَدَّمٌ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ غَيْرُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ بِمَرْوَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ : ثَنَا شُعْبَةُ , عَنْ حُصَيْنٍ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدِيثَ التَّشَهُّدِ قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ يُعَدُّ فِي أَفْرَادِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ , عَنْ شُعْبَةَ ، وَقَدْ تَابَعَهُ بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ وَلَا أَعْلَمُ لَهُ رَاوِيًا ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلِ غَيْرَ سَعِيدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ غَرِيبِ الْحَدِيثِ غَرَائِبُ الْمُتُونِ ، مِثَالُ ذَلِكَ مَا (192 ) حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيُّ بِمَكَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى بْنُ مَسَرَّةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ : ثنا أَبُو عَقِيلٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى " قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبُ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ ، فَكُلُّ مَا رُوِيَ فِيهِ فَهُوَ مِنَ الْخِلَافِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ ، فَأَمَّا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ , عَنْ جَابِرٍ ، فَلَيْسَ يَرْوِيهِ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ ، وَعَنْهُ أَبُو عَقِيلٍ ، وَعَنْهُ خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى اهـ(7).
وإن كانت الشبهة التي أثارها الإمام ابن الصلاح وغيره حول التعريف لكونه غير مانع لدخول الأحاديث الصحيحة الغريبة فيه، قد يجاب عنها بأنه لم يقصد بالشاذ التفرد المطلق كما سبق، بيد أن قول الحاكم باعتباره تعريفا يبقى مشكلا فنيا لعدم استيفائه شروط التعريف، إذ لا ينفع القول في مناسبة التعريف إنه قصد المعنى المراد، وإن لم يفهم ذلك من ظاهر العبارة، وقد يقال إن الحاكم ليس من أهل المنطق، وبالتالي لا ينبغي النظر في نصوصه بزاوية المنطق.
يقول الحافظ ابن حجر (رحمه الله ) : والحاصل من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق فيلزم على قوله أن يكون في الشاذ الصحيح وغير الصحيح فكلامه أعم ، وأخص منه كلام الحاكم لأنه يقول : إنه تفرد الثقة فيخرج تفرد غير الثقة ، فيلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ، وأخص منه كلام الشافعي ، لأنه يقول : إنه تفرد الثقة بمخالفة من هو أرجح منه ، ويلزم عليه ما يلزم على قول الحاكم ، لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح ، وأن الرواية الراجحة أولى ، لكن هل يلزم من ذلك عدم الحكم عليه بالصحة ؟ محل توقف اهـ(8)
أقول :
فيه أمور لا بد من التأمل فيها :
أولا : إن الخليلي لم يسوِّ بين الشاذ والفرد المطلق كما سبق تحقيقه.
وثانيا : إن الحاكم لم يعرف الشاذ بما يشمل الغريب الصحيح ، وإنما عرفه بما يخرجه منه ، واستشهدنا عليه بقوله ، فإذا هو الآن يعقب على تعريف الحاكم بقوله :" إنه يلزم عليه أن يكون في الصحيح الشاذ وغيره "
وثالثا : إن الشاذ عند الشافعي مردود وغير محتج به ، كما سبق تحقيقه ، لأنه اشترط في الخبر المحتج به عدم المخالفة لما رواه الناس ، فلا مجال للتساؤل هل يلزم منه عدم الحكم عليه بالصحة أو لا ؟ اهـ(9)
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أنه قد يرد لفظ الشاذ في نصوص بعض الأئمة، مثل الخليلي، والحاكم والبيهقي في غير ما ذكروا من المعنى، ألا وهو مجرد الغرابة، فكما يقال هذا حديث غريب صحيح يقال هذا شاذ صحيح، ومعنى الشاذ هنا غريب فقط .
وعلى العموم فالحديث الشاذ مردود لدى الجميع، ولا يعني بما سبق من اختلافهم في التعريف أن كل واحد منهم يصحح الحديث الشاذ حسب تعريف الآخر، ولا يرده إلا إذا كان حسب تعريفه، فإنهم ليسوا على حدود أهل المنطق. والله أعلم.
وبقي لنا شيء آخر يقتضي منا النظر فيه، وهو ما ذكره ابن الصلاح تلخيصا لموضوع الشاذ.
تلخيص ابن الصلاح لموضوع الشاذ
يقول ابن الصلاح ( رحمه الله تعالى)
''إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا،وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره ، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه، كما سبق من الأمثلة ،وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارجا له مزحزحا له عن حيز الصحيح ، ثم هو بعد ذلك بين مراتب متفاوتة بحسب الحال ،فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ،وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر.
فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان :
أحدهما الحديث الفرد المخالف.
والثاني الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجب التفرد والشذوذ من النكارة والضعف''. والله أعلم اهـ(10).
أقول :
إنه تحرير وتلخيص جيد ، ويكون للعمل به مجال خاص، ينبغي أن يحدد هذا المجال في ضوء ما شرحه في نوع العلة(11)، ولا يصلح أن يعتبر كقاعدة مطردة، كما جعلها كثير من المعاصرين ، وبنوا على ذلك دراساتهم الحديثية، فصححوا حديثا إذا كان رواته ثقات، متساهلين في مدى استيفائه بقية شروط الصحة ، لا سيما سلامته من الشذوذ والعلة، وإن كان فيهم صدوق حسَّنه ، وإن كان فيه ضعيفٌ ضعَّفه.
ومما يدلُّ على أن ما لخصه ابن الصلاح إطلاق فيما ينبغي تقييده قول ابن رجب الحنبلي :
''وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه ، إنه لا يتابع عليه ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه، كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه''(12).
4- الفرق بين تعريف الإمام الشافعي للشاذ وتعريف الحاكم
قال الشافعي رحمه الله : " ليس الشاذ من الحديث : أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره ، إنما الشاذ من الحديث : أن يروي الثقات حديثاً ، فيشذ عنهم واحد ، فيخالفهم "(13).
وعرفه الحاكم بقوله : " حديث يتفرد به ثقة من الثقات ، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة "(14).
ومثل له بقوله :( 253 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ قَالَ : ثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ : ثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ , عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ , عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ " إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ زَيْغِ الشَّمْسِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إِلَى الْعَصْرِ فَيُصَلِّيَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ سَارَ ، وَكَانَ إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ ، فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذَا حَدِيثٌ رُوَاتُهُ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ ، وَهُوَ شَاذُّ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ لَا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً نُعَلِّلَهُ بِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَ اللَّيْثِ , عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ , عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ لَعَلَّلْنَا بِهِ الْحَدِيثَ ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ لَعَلَّلْنَا بِهِ ، فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ لَهُ الْعِلَّتَيْنِ ، خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا ، ثُمَّ نَظَرْنَا ، فَلَمْ نَجِدْ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رِوَايَةً ، وَلَا وَجَدْنَا هَذَا الْمَتْنَ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الطُّفَيْلِ ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ , عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، فَقُلْنَا الْحَدِيثُ شَاذُّ ، وَقَدْ حَدَّثُونَا عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيِّ ، قَالَ : كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ لَنَا : عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ حَتَّى عَدَّ قُتَيْبَةُ أَسَامِي سَبْعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ، كَتَبُوا عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَدْ أَخْبَرْنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ ، قَالَ : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : ثَنَا قُتَيْبَةُ فَذَكَرَهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ إِنَّمَا سَمِعُوهُ مِنْ قُتَيْبَةَ تَعَجُّبًا مِنْ إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ لِلْحَدِيثِ عِلَّةً ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ هَذَا الْبَابَ ، وَحَدَّثَنَا بِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ ، وَهُوَ إِمَامُ عَصْرِهِ ، عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَلَا أَبُو عَلِيٍّ لِلْحَدِيثِ عِلَّةً ، فَنَظَرْنَا ، فَإِذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، ثِقَةٌ ، مَأْمُونٌ حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْفَقِيهُ قَالَ : ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ : سَمِعْتُ صَالِحَ بْنَ حَفْصَوَيْهِ النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ : " أَبُو بَكْرٍ : وَهُوَ صَاحِبُ حَدِيثٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ : " قُلْتُ لِقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ : مَعَ مَنْ كَتَبْتَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ , عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ؟ " ، فَقَالَ : كَتَبْتُهُ مَعَ خَالِدٍ الْمَدَايِنِيِّ ، قَالَ : الْبُخَارِيُّ ، وَكَانَ خَالِدٌ الْمَدَايِنِيُّ يُدْخِلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الشُّيُوخِ
ثم استدل بتعريف الشافعي للشاذ ، وبين التعريفين مفارقة ، وهي أن الشافعي اشترط لصحة الوصف بالشذوذ المخالفة من قبل الثقة ، واقتصر الحاكم على مجرد تفرد الثقة بما لم يأت عن غيره .
والتحقيق أن تعريف الشافعي يبطل تعريف الحاكم الذي استشهد به ، فإنه نفى أن يكون الشذوذ تفرد الثقة ، والحاكم يجعله تفرد الثقة ، وأكده بالمثال الذي مثل به ، وهو حديث معاذ بن جبل في جمع الصلاتين في غزوة تبوك ، وهو حديث لم تأت في إسناده ولا في متنه مخالفة من ثقة ، ولكنه حديث فرد .
والحاكم حكم عليه بالشذوذ ، بل زعم أن الحديث موضوع ، مع أنه قال : " لا نعرف له علة نعلله بها "(15).
والتحقيق : أن تفرد الثقة بحديث من غير مخالفة لا يعد من الشذوذ ، بل وقوع المخالفة شرط في الشذوذ ، أو ما ينزل منزلة المخالفة ، كزيادة الثقة المتوسط الرفع أو الوصل وليس محله في الإتقان محل من تسلم زيادته على من لم يأت بها ، هذه هي القاعدة.
5- أين يقع الشذوذ ؟
يقع الشذوذ في السند ، كما يقع في المتن أيضاً .
__________
(1) - - شرح العلل ص:256 .
(2) - - الإرشاد1/187 .
(3) - - سبق البيان بأن الخليلي ممن يقبل زيادة الثقة مطلقا كوصل ثقة ضابط لما أرسله الجماعة ، فإنه يقبله لكون الوصل زيادة ثقة .
(4) - معرفة علوم الحديث ص119 و المنهج المقترح لفهم المصطلح - (ج 1 / ص 199) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 26) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 243) وعلوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 53)
(5) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 172) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 31) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 379) وعلوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 53)
(6) - - فتح المغيث 1/232(تحقيق الشيخ علي حسن علي ، ط:إدارة البحوث الإسلامية - الهند ، سنة 1407 ( ) .
(7) - - معرفة علوم الحديث ص:94 وما بعدها
(8) - ( النكت 2/652 - 653). وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 188)
(9) - الحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 31)
(10) - - مقدمة ابن الصلاح ص:104 (مع التقييد والإيضاح بتحقيق عبد الرحمن ) .
(11) - - وهو قوله الدقيق : ''ويستعان على إدراك العلة بالتفرد والمخالفة ... ''
(12) - - شرح ابن رجب الحنبلي ص:208 .
(13) - أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه " ( ص : 233 ) بإسناد صحيح , ونحوه ( ص : 234 ) .
(14) - معرفة علوم الحديث ( ص : 119 ) ، وفي سؤالات مسعود السجزي له ( النص : 150 ) قال : " بهْز بن حكيم بن معاوية بن حيْدة القشيري من ثقات البصريين ممن يُجمع حديثه ، وإنما أسقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده ؛ لأنها شاذةٌ لا مُتابع لها في الصحيح " .
قلت : بل لم يُخرجاها لأنها دون شرطهما في القوة ، وإلا فهي جيدة قوية .
(15) - معرفة علوم الحديث ( ص : 120 ) .(1/218)
مثال الشذوذ في السند :"ما رواه أبو داود(1)والسنن الكبرى للبيهقي(2)والترمذى(3)كلهم من طريق حَمَّادَ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَوْسَجَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلاً تُوُفِّىَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« انْظُرُوا هَلْ لَهُ وَارِثٌ ». فَقَالُوا : لاَ إِلاَّ غُلاَمًا كَانَ لَهُ فَأَعْتَقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« ادْفَعُوا إِلَيْهِ مِيرَاثَهُ ». " وتابع ابن عيينة على وصله ابن جُرَيْج وغيره ، وَخَالَفَهُمَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فَرَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مُرْسَلاً.ففي السنن الكبرى للبيهقي(4)أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِى حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ وَعَارِمٌ قَالاَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَوْسَجَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلاً مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ مَوْلًى لَهُ هُوَ أَعْتَقَهُ فَأَعْطَاهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِيرَاثَهُ. قَالَ الْقَاضِى هَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ مُرْسَلاً لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مُرْسَلاً قَالَ الْبُخَارِىُّ : عَوْسَجَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ قَالَ الشَّيْخُ : وَرَوَاهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ غَلَطٌ لاَ شَكَّ فِيهِ.
قال أبو حاتم: المَحفُوظ حديث ابن عُيينة.
قال شيخُ الإسْلام ( الحافظ ابن حجر ): فحمَّاد بن زيد من أهل العَدَالة والضَّبط, ومع ذلك رجَّح أبو حاتم رِوَاية من هم أكثر عددًا منه, قال: وعرف من هذا التقرير أنَّ الشَّاذ ما رواه المقبول مُخَالفًا لمن هو أولَى منهُ. قال: وهذا هو المُعتمد في حدِّ الشَّاذ بحسب الاصطلاح..(5)
مثال آخر :
حديث رواه حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِىِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِى فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِى فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ ». يَعْنِى الْقَلْبَ. "(6).
حماد بن سلمة ثقة ، لكنه تفرد بوصل هذا الحديث .
وفي علل الحديث (1279) وَسَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ ، وَحَدَّثَنَا : عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَيَعْدِلُ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ ، وَلا أَمْلِكُ
فَسَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ : لا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ حَمَّادًا عَلَى هَذَا
قُلْتُ : رَوَى ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ
قلت : خالفه حماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي ، فقالوا : عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الحديث(7).
وهذه رواية مرسلة ، وحماد بن زيد وابن علية وعبد الوهاب كل واحد منهم أوثق من حماد بن سلمة ، فكيف بهم مجتمعين ؟ .
فلذا حكم جماعة من الحفاظ بترجيح روايتهم المرسلة .
فرجح أبو زرعة الرازي الإرسال .
وقال الترمذي بعد ذكر مخالفة حماد بن زيد وغير واحد لابن سلمة : " وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة " ، وكان في " العلل " سأل البخاري عنه ؟ فأشار إلى تعليله بإرسال حماد بن زيد له .
وكذلك أعقبه النسائي بذكر إرسال ابن زيد له ، مشيراً إلى علته .
وحاصله : أن رواية الجماعة ( محفوظة ) ورواية ابن سلمة ( شاذة ) .
وهذا مثال للشذوذ مع أن وجه المخالفة فيه ليس على معنى المعارضة للرواية الأخرى ، وإنما جاء من جهة أن حماد بن سلمة ليس في الإتقان في درجة من يستقل عن الجماعة بزيادة ، لما له من الأوهام مع ثقته .(8)
مثال الشذوذ في المتن(9):
ما رواه أبو داود(10)حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَأَبُو كَامِلٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالُوا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى يَمِينِهِ ». فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَمَا يُجْزِئُ أَحَدَنَا مَمْشَاهُ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَضْطَجِعَ عَلَى يَمِينِهِ ..قَالَ لاَ. قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ هَلْ تُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا يَقُولُ قَالَ لاَ وَلَكِنَّهُ اجْتَرَأَ وَجَبُنَّا. قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فَمَا ذَنْبِى إِنْ كُنْتُ حَفِظْتُ وَنَسُوا.
قال البيهقي(11)َقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىُّ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ حِكَايَةً عَنْ فِعْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ. أَخْبَرَنَاهُ أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِى عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِى صَالِحٍ السَّمَّانُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ رَكْعَتَيْهِ مِنَ الْفَجْرِ وَبَيْنَ الصُّبْحِ بِضَجْعَةٍ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ. {ق} قَالَ الشَّيْخُ وَهَذَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا لِمُوَافَقَتِهِ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وقال أبو إسحاق الحويني(12):
" قلت: وهذا إسنادٌ ظاهرهُ الصحةُ، ولكن أعلّه البيهقي، ونقل ابن عبد البر في "التمهيد" (8-126) عن الأثرم قال: "سمعتُ أحمد بن حنبل يُسألُ عن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، فقال: ما أفعلُه أنا. قيل له: لِمَ لم تأخذ به؟ قال: ليس فيه حديث يثبُتُ. قلتُ له: حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؟ قال: رواه بعضهم مرسلاً". انتهى.
وقال الذهبي في "الميزان" (2-672) في ترجمة "عبد الواحد": "احتجا به في "الصحيحين"، وتجنبا تلك المناكير التي نقمت عليه، فيحدث عن الأعمش بصيغة السماع عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا، وذكر هذا الحديث وعزاه إلى أبي داود.
وهذا التصريح بالتحديث- الذي ذكره الذهبي- لم أقف عليه عند أحدٍ من المخرجين، وقد ذكر العقيليُّ في "الضعفاء" (3-55) عن أبي داود الطيالسي، وذُكر عنده عبد الواحد بن زياد فقال: عهد إليَّ نقل أحاديث كان يرسلها الأعمش، فوصلها كلَّها يقول: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا مجاهدٌ في كذا وكذا. فهذا يدلُّ على أن عبد الواحد وهم في حديث الأعمش عن مجاهد خاصة، وكان الأعمش إذا روى عن صغار شيوخه مثل مجاهد أكثر من التدليس، بخلاف روايته عن أبي صالح، فإنه من جلة شيوخه، ثم هو مكثرٌ عنه. حتى استثناه الذهبي مع غيره ممن يروي عنهم الأعمش، أن يقبل حديثه إذا رواه الأعمش عنه بالعنعنة، كما تراه في ترجمة "الأعمش" من "الميزان"،
أما ما رواه العقيلي عن يحيى بن سعيد القطان قال: ما رأيتُ عبد الواحد بن زياد يطلبُ حديثًا قطُّ بالبصرة ولا بالكوفة، وكنا نجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة أذاكره حديث الأعمش، لا يعرفُ منه حرفًا". فهذا مقابلٌ بقول ابن معين وسئل عن أثبت أصحاب الأعمش بعد سفيان وشعبة؟ فقال: أبو معاية الضرير وبعده عبد الواحد بن زياد. وقد احتج به الشيخان في حديث عن الأعمش، ولم يقم دليلٌ على أن أحدًا من أصحاب الأعمش الكبار خالفه في هذا الحديث، فإن وجدنا عملنا بمقتضاه، فلو رواه من هو أثبتُ من عبد الواحد بن زيادٍ عن الأعمش فأرسله كما وقع في كلام أحمد، حكمنا لهذا الثبت عليه، إلاَّ أن يقوم مانعٌ. وقول أحمد: رواه بعضهم مرسلاً، فلا ندري من هذا "البعض"، وهل يقدَّم على عبد الواحد أم لا.
وأما قولُ المنذري في "تهذيب سنن أبي داود" (2-76): "قيل: إن أبا صالح لم يسمع هذا الحديث من أبي هريرة، فيكون منقطعًا". وقد سبقه إلى ذلك أبو بكر بن العربي، فقال في "عارضة الأحوذي" (2-217): "وحديثُ أبي هريرة معلولٌ، لم يسمعه أبو صالح من أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالحٍ كلام". اه.
فأما القول بأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة فلم أقف على قائله من أئمة الحديث الكبار، ولا على دليله. وابنُ العربي رحمه الله، فليس من أحلاس هذا العلم، وله أوهامٌ في تواليفه في التصحيح والتضعيف، والكلام على علل الحديث.
وقد صحَّحه الترمذي وابنُ حزمٍ في "المحلى" (3-196) لكنه اشتطَّ في الاستدلال به على فرضية الضجعة بعد ركعتي الفجر. وصحَّحه أيضًا من المتأخرين النووي في "شرح مسلم" (6-19)، وفي "المجموع" (4-28) على شرط الشيخين.
وقال في "رياض الصالحين" (ص343)، وفي "الخلاصة" (1-536): "رواه أبو داود والترمذي بأسانيد صحيحة" كذا قال! وهي عبارة يكثر منها النووي ولا معنى لها، وليس للحديث عندهما إلا هذا الإسنادُ الواحدُ. وصححه أيضًا الشيخ المحقق أبو الأشبال أحمد شاكر وشيخنا الألباني في "صحيح الجامع" (1-171).
وقد أعلَّه البيهقي بأن محمد بن إبراهيم التيمي رواه عن أبي صالحٍ قال: سمعتُ أبا هريرة يحدثُ مروان بن الحكم وهو على المدينة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفصلُ بين ركعتيه من الفجر وبين الصبح بضجعةٍ على شقه الأيمن.
وقد تابعه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه بهذا الإسناد.
أخرجه النسائيُّ في "الكبرى" (1-455) عن أبي كدينة يحيى بن المهلب وابنُ ماجه (1199) عن شعبة كلاهما عن سهيل بن أبي صالح بهذا.
قال البيهقيُّ: "وهذا أولى أن يكون محفوظًا لموافقته سائر الروايات عن عائشة وابن عباس". اه.
والأعمش أثبت منهما في أبي صالح. فإن قلت: نعم، ولكن الشأن في الراوي عنه وهو ابن زيادٍ. قلنا: نعم، وقد قدمنا لك أنه أحدُ الأثبات في الأعمش كما قال ابن معين. فالصوابُ الحكمُ له حتى يظهر لنا أنه قد خالفه من هو أمكنُ منه. فالراجح عندي: صحةُ الحديث بالشرط المذكور. والله أعلم.اهـ
قلتُ :
وأنا مع من صحح الحديث فتوهين عبد الواحد بن زياد بحجة رواية الحديث أنه من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من قوله ، دليلها ليس ظاهرا ، فلم لا يكون أنه قد روي من قوله وفعله - صلى الله عليه وسلم - معاً ؟!!
مثال آخر :
ما رواه هَمَّامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ. وَالْوَهَمُ فِيهِ مِنْ هَمَّامٍ وَلَمْ يَرْوِهِ إِلاَّ هَمَّامٌ. "(13).
قلت :
أراد أبو داود بالمنكر الشاذ ؛ لأن مخالفة الثقة شذوذ لا نكارة ، وهمام ثقة ، لكن هذا معنى اصطلاحي واسع ، وإنما ذكرت هذا الحديث مثالاً للتنبيه أيضاً على إطلاقهم النكارة على الشذوذ ، بجامع الوهم والخطأ في كلٍّ .
وما ذكره من تفرد همام به بهذا اللفظ صحيح بالنظر إلى وروده من طريق ثقة ، وإلا فقد جاء من وجه آخر ضعيف لا يعتبر به .
وقد قال النسائي : " هذا الحديث غير محفوظ "(14)، وهذه العبارة ألصق بالاصطلاح من عبارة أبي داود .
والحديث شاذ لمخالفة سياق متنه لما هو المحفوظ من رواية أصحاب الزهري كيونس بن يزيد الأيلي وشعيب بن أبي حمزة وإبراهيم بن سعد وزياد بن سعد وغيرهم ، والحكم بالوهم فيه من قبل همام مظنة لا قطع ، إذ يحتمل أن يكون ابن جريج دلس فيه(15).
والحكم بشذوذ هذا اللفظ إدراك من الناقد لما وراء ظاهر الإسناد ، وإبانة لوهم الثقة بالبرهان ، إذ أتى بما هو على خلاف المحفوظ عن الزهري من رواية متقني أصحابه .
وتلاحظ من هذا أن اعتبار درجات الثقات هو المقياس لتمييز الحفظ من الشذوذ .
ويتفرع عن الكلام في ( الشذوذ ) مسألتان :
المسألة الأولى : زيادات الثقات .
الثقة يزيد أحاديث يحفظها لا يرويها غيره ، أو يشارك غيره في رواية حديث ، لكنه يزيد فيه ما لم يأت به غيره في إسناده أو متنه .
فهذان نوعان ، فأما الأول فليس مراداً هنا ، إذ هو في أفراد الثقات التي يتميز بها الراوي عن غيره ، وهي الأكثر في روايات الأحاديث الصحيحة ، لا يكاد ثقة يخلو من أن يأتي بالشيء الذي لا يرويه غيره ، خصوصاً أولئك الحفاظ الذين أكثروا رواية الحديث والاعتناء به .
كما قال علي بن المديني : " نظرنا فإذا يحيى بن سعيد يروي عن سعيد بن المسيب ما ليس يروي أحد مثلها ، ونظرنا فإذا الزهري يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد ، ونظرنا فإذا قتادة يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد "(16).
وأما النوع الثاني فهو المراد بهذه المسألة .
وجملة ما يحتاج إليه في هذا المقام هو أن الزيادة كانت في الإسناد أو المتن ، لا تخلو من أن تكون مخالفة لرواية من لم يأت بها أو غير مخالفة :
فإن كانت مخالفة لرواية الأقوى ضبطاً ، حكمنا بكونها ( شاذة ) .
وإن كانت غير مخالفة نظرنا اعتبار أمرين لقبولها : أن تكون من ثقة متقن ، وأن لا يقوم دليل على خطئه فيها ، فإن كانت بهذه كانت المثابة حكمنا بكونها ( محفوظة ) .
وإن لم يكن من أتى بها في إتقانه في المنزلة التي ترجح معها زيادته ، للين في حفظه ، كحماد بن سلمة في المثال المتقدم ، حكمنا بكونها ( شاذة ).
وما حكمنا بشذوذه فهو ( ضعيف ) .
المسألة الثانية : المزيد في متصل الأسانيد .
هذا مبحث يراد به الإسناد الذي يأتي صريحاً بذكر السماع بين ثقتين ، فيقول الراوي الثقة المسمى ( خالد ) مثلاً : ( حدثني زيد ) ثم يوجد عن خالد هذا قوله : ( حدثني بكر عن زيد ) ، ويبحث في كل من الإسنادين إلى ( خالد ) فلا يوجد فيهما علة تدل على وهم أو خطأ ، وخالد نفسه لا يعاب في حفظه وصدقه ، بل هو ثقة ، فيقال : ( هذا من المزيد في متصل الأسانيد ) حملاً على كون ( خالد ) سمع الحديث أولا بواسطة ، ثم لقي ( زيداً ) فحدثه به ، وهذا واقع في الأسانيد غير مستنكر.
فالقول : هو من المزيد في متصل الأسانيد أولى من تخطئة الثقة بغير حجة بينة ، إلا أن يوجد أن خالداً لم يدرك زيداً ، فيكون بعض الرواة أخطأ فيه ، أو وقع في الإسناد سقط من نسخة أو كتاب .
مثاله : ما روي عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ بْنَ عَمْرٍو الأَنْصَارِىَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ». قَالَ عِكْرِمَةُ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالاَ صَدَقَ..(17)
فهذا إسناد صحيح متصل ، جاء بيان سماع رواته بعضهم من بعض من وجوه عن حجاج الصواف ، وهو ثقة .
وروى الحديث معمر بن راشد ومعاوية بن سلام ، وهما ثقتان ، وسعيد بن يوسف ، وهو ضعيف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري .
فزادوا عن ابن كثير رجلاً بين عكرمة والحجاج .
وهذه رواية صحيحة كذلك ، لكنها لا تقدح في اتصال الأولى ، لثقة حجاج الصواف وإتقانه عن يحيى بن أبي كثير .
فهذه صورة للمزيد في متصل الأسانيد ، بنيت على اعتبار انتفاء المسوغ لتخطئة الثقة ، فيكون الجمع : أن عكرمة سمعه بواسطة عن الحجاج ، ثم لقي الحجاج فسمعه منه دون واسطة.
أما إن جاء الإسناد معنعناً في موضع ، وجاء من جهة أخرى صحيحة بزيادة راو في محل العنعنة ، فليس من المزيد في متصل الأسانيد ، بل الرواية الناقصة ضعيفة للانقطاع ، لا للشذوذ ، والمزيدة هي المحفوظة .
وذلك مثل : ما رواه أَبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِى سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهُوَ يُخَاصِمُ فِى أَرْضٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ». "(18).
ولا إشكال في صحته على هذا الظاهر ، لكن رواه أصحاب ابن أبي كثير مرة أخرى : علي بن المبارك ، وحسين المعلم ، وأبان العطار ، وحرب بن شداد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة ، به(19).
فزادوا واسطة بين يحيى وأبي سلمة ، ولم نجد في شيء من الطرق أن يحيى سمعه من أبي سلمة ، فدل على أنه تلقاه عنه بالواسطة ، وروايته بدونها منقطعة .
أما مجيء الزيادة وهي مرجوحة شاذة ، فمثل ما رواه زهير بن معاوية ، عن حميد الطويل ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، قال : لبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة والحج معاً ، فقال : " لبيك بعمرة وحجة " .
قال البخاري : " هذا خطأ ، أصحاب حميد يقولون : عن حميد سمع أنساً "(20)
قلت : كذلك قال هشيم بن بشير(21)، ويحيى بن سعيد القطان(22)، وسفيان بن عيينة(23)، ذكروا جميعاً عن حميد سمع أنساً .
كما رواه غيرهم ما يزيد على ستة عشر نفساً من أصحاب حميد ، عنه ، لم يذكروا واسطة بينه وبين أنس ، بما يأتي على تأييد رواية من ذكر السماع .
__________
(1) - برقم (2907 )
(2) - (ج 6 / ص 242) برقم (12766)
(3) - برقم (2252 )
(4) - (ج 6 / ص 242) برقم (12768)
(5) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 186) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 174) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 14)
(6) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 4 / 386 ) وأحمد ( 6 / 144 ) والدارمي ( رقم 2127 ) وأبو داود ( رقم : 2134 ) والترمذي في " الجامع " ( رقم : 1140 ) و " العلل " ( 1 / 448 ) والنسائي ( رقم : 3943 ) وابن ماجة ( رقم : 1971 ) وابن أبي حاتم في " العلل " ( رقم : 1279 ) والطحاوي في " شرح المشْكل " ( رقم : 232 ، 233 ) وابن حبان ( رقم : 4205 ) والحاكم ( 2 / 187 رقم : 2761 ) والبيهقي في " الكبرى " ( 7 / 298 ) والخطيب في " الموضع لأوهام الجمع والتفريق " ( 2 / 107 ) من طرق عن حماد بن سلمة ، بإسناده به.
(7) - أخرجه ابن جرير في " تفسيره " ( 5 / 315 ) من طريق حماد بن زيد . وابن أبي شيبة ( 4 / 386 ) وابنُ سعد في " الطبقات " ( 8 / 168 ) عن ابنِ عُلية . وابن جرير أيضاً ( 5 / 314 ) من طريق ابنِ عُلية وعبد الوهاب ، وكان قد أخرجه عن عبد الوهاب بواسطة مُحمد بن بشار عنه ، بالرواية المرسلة ، وأخرجه ( 5 / 315 ) عن سُفيان بن وكيع ، عن عبد الوهاب ، بمثل رواية حماد بن سلمة موصولة ، لكن هذه رواية ضعيفة ، ابنُ وكيع ضعيف ، وخالف ابن بشار الثقة الحافظ عن عبد الوهاب .
(8) - انظر البدر المنير - (ج 7 / ص 481) الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ
(9) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 174)
(10) - برقم (1263 ) و الترمذى برقم (422 ) من طريق بِشْرَ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍبه و قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رُوِىَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَىِ الْفَجْرِ فِى بَيْتِهِ اضْطَجَعَ عَلَى يَمِينِهِ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُفْعَلَ هَذَا اسْتِحْبَابًا.
(11) - في السنن الكبرى (ج 3 / ص 45)برقم (5085)
(12) - في الفتاوى الحديثية للحويني - (ج 2 / ص 26)
(13) - سنن أبي داود ( رقم : 19 ) .
(14) - السنن الكبرى ( رقم : 9542 ) .
(15) - وانظر الحديث بتخريجه والكلام في علته في تعليقي ( عبد الله الجديع ) على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقن ( 1 / 182 - 184 ) .
(16) - سؤالات ابن أبي شيبة ( النص : 76 ) .
(17) - سنن أبى داود (1864 )
(18) - أخرجه أحمد ( 6 / 64 ، 259 ) من طريق أبان بن يزيد العطار ، والطحاوي في " شرح المشْكل " ( رقم : 6145 ، 6146 ) من طريق حرْب بن شداد ، ومُحمد بن المثنى ، جميعاً ، عن يحيى بن أبي كثير ، به ، واللفظ لأبان .
(19) - أخرجه أحمد ( 6 / 78 ) والبخاري ( رقم : 2321 ) من طريق حسين المعلم ، والبخاري ( رقم : 3023 ) من طريق علي بن المبارك ، وأحمد ( 6 / 252 ) ومسلم ( رقم : 1612 ) من طريق حرْبٍ ، ومسلم من طريق أبان ، وفي رواية حُسين وأبان قال يحيى : " حدثني مُحمد بن إبراهيم ، أن أبا سلمة حدثه " .
(20) - العلل الكبير ، للترمذي ( 1 / 375 ) .
(21) - أخرجه أحمد ( 19 / 22 رقم : 11958 ) ومسلم ( رقم : 1251 ) وأبو داود ( رقم : 1795 ) والنسائي ( رقم : 2729 ) وابنُ خزيمة ( رقم : 2619 ) والطبراني في " الصغير " ( رقم : 968 ) والبيهقي في " الكبرى " ( 5 / 9 ) .
(22) - أخرجه أحمد ( 20 / 236 رقم : 12870 ) .
(23) - أخرجه الحميدي ( رقم : 1215 ) وأبو يعلى ( 6 / 325 ، 391 رقم : 3648 ، 3737 - وسقط منه ذكر سفيان في الموضع الأول ) .(1/219)
فهذه الصورة أيضاً ليست من المزيد في متصل الأسانيد(1).
6- المحفوظُ:
هذا ويقابل الشاذَّ " المحفوظُ " وهو:ما رواه الأوثق مخالفاً لرواية الثقة
ومثاله : الأمثلة المذكورة في نوع الشاذ .
7- حكم الشاذ والمحفوظ :
من المعلوم أن الشاذ حديث مردود، أما المحفوظ فهو حديث مقبول.
8- خلاصة الكلام في الشاذ:
الحديث الغريب الذي لا أصل له ، ولم يرو من وجه آخر .
الحديث المخالف للصواب .
وكلاهما يدور على معنى الغرابة التي تنافى الصواب ، وبذلك نكون قد جمعنا بين الأقوال المختلفة ، واستوعبنا في الوقت ذاته منهجهم في التعليل بذلك .
وأما إذا جعلنا الشاذ مقيداً بمخالفة الثقة لمن هو أولى منه ، وتعاملنا على هذا الأساس مع نصوص النقاد ، فإننا نكون قد ضيقنا الواسع ، وأسأنا فهم مصطلحاتهم ، وسلكنا مسلكاً غير سليم .
ومن الجدير بالذكر أن المخالفة التي تؤخذ في مفهوم الشاذ ينبغي أن تكون في أوسع معانيها ، لتشمل ما يلي :
مخالفة الحديث لما رواه الناس من الأحاديث .
مخالفته للواقع العملي .
مخالفته للواقع التاريخي .
ولا ينبغي حصرها بين ثقة وأوثق ، يتحدان في المخرج .
وإذا كانت العلة تعرف بمخالفة الراوي الثقات أو بتفرده بما لا أصل له ، فإن الشاذ - سواء فسرناه بكونه مخالفة للراجح ، كما استقر عليه رأي المتأخرين ، أم فسرناه بأنه غريب تفرد به الراوي وليس له أصل ، كما هو رأي الحفاظ عموماً - متداخل في مفهوم العلة ، وأنه لا ينفك عنها . والله أعلم.(2)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 243) فما بعد
(2) - علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 54)(1/220)
الجهَالة بالرَّاوي(1)
إن من ينعم النظر في عملية الجرح والتعديل التي يمارسها أئمة الحديث على الرواة يجد أن المواطن التي يمكن للجارح أن يطعن من خلالها في الرواة لا تتجاوز هذه الأشياء وهي:-
( البدعة ، أو المخالفة ، أو الغلط ، أو جهالة الحال ، أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعي في الراوي بأنه كان يدلس أو يرسل ) .(2)
وجاء في نخبة الفكر أن ( الطعن أما أن يكون لكذب الراوي أو لتهمته بذلك أو فحش غلطه أو غفلته عن الإتقان أو فسفه أو وهمه بأن يروى على سبيل التوهم ، أو مخالفته للثقات أو لجهالته ، أو لبدعته أو سوء حفظه بان يكون ليس غلطه اقل من إصابته ).(3)
1- تعريفُها:
أ) لغة: مصدر " جَهِلَ " ضد " عَلِمَ " والجهالة بالراوي تعني عدم معرفته.
ب) اصطلاحاً: عدم معرفة عَيْنِ الراوي أو حاله.
يمكن لنا أن نقول ان المراد بجهالة الراوي: هو أن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح من قبل أهل الجرح والتعديل . وبهذا المعنى فان جهالة الراوي يندرج تحتها ثلاثة أمور هي:(4)
أولا: جهالة اسم الراوي .
ثانيا: جهالة عين الراوي .
ثالثاً: جهالة حال الراوي .
أما من هو المجهول ؟
فقد اختلف فيه العلماء على مذاهب تبعاً لاختلافهم في وسائل إثبات العدالة ، إذ أن كل من ثبتت عدالته ارتفعت عنه الجهالة .
ويمكن إجمال مذاهب علماء الحديث في المجهول فيما يأتي:-
أولا: يرى الخطيب البغدادي أن المجهول عند المحدثين هو (هُوَ كُلُّ مَنْ لَمْ يُشْتَهَرُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي نَفْسِهِ , وَلَا عَرَفَهُ الْعُلَمَاءُ بِهِ , وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُهُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ رَاو وَاحِدٍ , مِثْلُ عَمْرٍو ذِي مُرٍّ وَجَبَّارٍ الطَّائِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَغَرَّ الْهَمْدَانِيِّ وَالْهَيْثَمِ بْنِ حَنَشٍ وَمَالِكِ بْنِ أَغَرَّ وَسَعِيدِ بْنِ ذِي جُدَّانَ وَقَيْسِ بْنِ كُرْكُمٍ وَخَمِرِ بْنِ مَالِكٍ , وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُمْ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ , وَمِثْلُ سَمْعَانَ بْنَ مُشَنَّجٍ وَالْهِزْهَازِ بْنِ مِيزَنٍ لَا يُعْرَفُ عَنْهُمَا رَاوٍ إِلَّا الشَّعْبِيُّ , وَمِثْلُ بَكْرِ بْنِ قِرْوَاشٍ وَحَلَامِ بْنِ جَزْلٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُمَا إِلَّا أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ , وَمِثْلُ يَزِيدَ بْنِ سُحَيْمٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو , وَمِثْلُ جُرَيِّ بْنِ كُلَيْبٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ , وَمِثْلُ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ , وَغَيْرُ مَنْ ذَكَرْنَا خَلْقٌ كَثِيرٌ تَتَّسِعُ أَسْمَاؤُهُمْ , وَأَقَلُّ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عَنِ الرَّجُلِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ كَذَلِكَ)(5)
ثانياً: بينما يرى ابن الصلاح الشهرزوري أن المجهول من الرواة على ثلاثة أصناف وهم:
مجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً .
المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة وهو عدل في الظاهر وهو المستور . ثم عرف المستور بقوله: قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلاً في الظاهر ولا تعرف عدالته الباطنة .
المجهول العين .(6)وقد اقر في حده ما ذكره الخطيب .
ثالثاً: يذهب ابن حجر العسقلاني إلى أن المجهول من الرواة صنفان:
مجهول العين:- وهو من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق.
مجهول الحال:- وهو من روى عنه اثنان فاكثر ولم يوثق.(7)
رابعاً: بينما يذهب ابن حبان إلى أن الجهالة منحصرة في عين الراوي فمن انتفت عنه جهالة عينه فهو على العدالة إلى أن يثبت عكس ذلك . وكلامه هذا مبني على مذهبه في إثبات العدالة .
يقول ابن حبان : ( فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عن الخصال الخمس(8)
أن يكون فوق الشيخ الذي ذكره رجل ضعيف لا يحتج بخبره .
أو يكون دونه رجل واهٍ لا يجوز الاحتجاج بروايته .
أو يكون مرسلاً فلا يلزم به حجة .
أو يكون منقطعاً .
أو يكون في الإسناد رجل مدلس .(9).
التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره لان العدل من لم يعرف منه الجرح ... فمن لم يعلم بجرح فهو عدل إذا لم يتبين ضده )(10)
غير أن العلماء لم يرتضوا منهج ابن حبان هذا يقول ابن حجر : ( وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب والجمهور على خلافه )(11)
والذي يبدو والله أعلم - أن اقرب هذا الأقوال إلى الواقع هو ما ذكره ابن حجر . لأن ما ذكره الخطيب في حده للمجهول بقوله :( هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به) أمر فيه نوع من المرونة فإنه ليس كل من تصدى للحديث كان مشتهراً ، ثم ما هو الحد الذي إذا وصل إليه المحدث كان مشتهراً وإذا قصر عنه لم ينعت بالاشتهار .
أما ابن الصلاح فانه حينما صنف من كان مجهول العدالة إلى صنفين الأول مجهول العدالة ظاهراً وباطنا والثاني مجهول العدالة في الباطن دون الظاهر . وهو ما سماه بالمستور . فإني أرى أن هذا زيادة في التقسيمات والتعريفات . لأن جمهور العلماء قالوا: إن العدالة إنما تثبت بأشياء زائدة على الظاهر . وإنه يجب التحري ومحاولة سبر أغوار نفوس الرواة قبل الحكم على عدالتهم وعدم الاكتفاء بما يظهر من صلاحهم لخطورة ما يتعلق بهذا الحكم .
أما ابن حبان فان مذهبه هذا مخالف لما عليه الجمهور تبعاً لرأيه في إثبات العدالة وقد: صرح ابن حجر بأنه عجيب وإنه مخالف لجمهور المحدثين كما نقلنا عنه ذلك قبل قليل .
إذن فالمجهول أما أن يكون مجهول العين وأما أن يكون مجهول الحال أي العدالة . ولكل نوع من هاتين الجهالتين منهج للعلماء في التعامل معه .(12)
2-أسباب وقوع الجهالة:
لا شك أن وقوع الجهالة في بعض رواة الحديث أمر لا بد منه لأن من اشتغل بنقل سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا من الكثرة بمكان لا يسمح معه أن يلم أصحاب الجرح والتعديل بهم جميعاً .
وقد ذكر ابن حجر بعض الأسباب التي تؤدي إلى وقوع الجهالة في الراوي فقال في متن نخبة الفكر:
( ثم الجهالة ، وَسَبَبُهَا أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَكْثُرُ نعُوتُهُ فَيُذْكَرُ بِغَيْرِ مَا اشْتَهَرَ بِهِ لِغَرَضٍ، وَصَنَّفُوا فيهِ الْمُوْضِحَ.
وقَدْ يَكُونُ مُقِلاًّ فَلاَ يَكْثُر الأخْذُ عَنْهُ، وَصَنَّفُوا فِيهِ الوُحْدَانَ.
أَوْ لا يُسَمَّى اخْتِصَاراً، وفيهِ المُبْهَمَاتُ.(13)
والإبهام أو الاختصار يكون على شكلين:-
أولا: أن يبهم الراوي اسم شيخه فيقول حدثني رجل ، أو بعضهم أو شيخ لنا ، أو حدثني الثقة أو حدثني من لا أتهم .
ثانيا: أن يذكر الراوي اسم شيخه مهملاً كأن يقول ( حدثني فلان أو ابن فلان أو أبو فلان ).
وهناك سبب رابع لوقوع الجهالة لم يذكره ابن حجر ولكنه شائع الوقوع بين رواه الحديث وهو:
(عدم نص أئمة الحديث على توثيق الراوي أو تضعيفه)(14)فتقع الجهالة لهذا السبب . لأنه من المعلوم أن المحدثين وناقلي السنة النبوية أكثر ممن تعرض لهم أئمة الجرح والتعديل في كتبهم ، فكم من راو يقولون عنه لم يعرف عنه تعديل ولا تجريح .
ولما كان رأي الجمهور أن العدالة لا تثبت بمجرد رواية الثقات عن الراوي كان عدم وجود نص من قبل العلماء في ذلك الراوي تجريحاً أو تعديلاً مدخلاً له في دائرة جهالة الحال اهـ.
3- أمثلة:
أ) مثال كثرة نعوت الراوي : " محمد بن السائب بن بشر الكلبي " نسبه بعضهم إلى جده فقال " محمد بن بشر " وسماه بعضهم " حماد بن السائب " وكناه بعضهم " أبا النضر " وبعضهم " أبا سعيد " وبعضهم " أبا هشام " فصار يُظَن أنه جماعة ، وهو واحد .(15)
ب) مثال قلة رواية الراوي وقلة من روي عنه : " أبو العشراء الدارمي " من التابعين ، لم يرو عنه غير حماد بن سلمة .(16)
ج ) مثال عدم التصريح باسمه: قول الراوي: أخبرني فلان ،مثاله كما في مسند الحميدى برقم (16) حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ أَخْبَرَنِى فُلاَنٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ هَكَذَا - يَعْنِى يُحَرِّكُهَا يَمِينًا وَشِمَالاً - عُوَيْمِلٌ لَنَا بِالْعِرَاقِ ، عُوَيْمِلٌ لَنَا بِالْعِرَاقِ خَلَطَ فِى فَىْءِ الْمُسْلِمِينَ أَثْمَانَ الْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا ». يَعْنِى أَذَابُوهَا. هذا الرجل مجهول لأنه لم يسمَّ
أو شيخ ، كما في مصنف عبد الرزاق مشكل - (ج 5 / ص 16) برقم (9799) و(9516- جامع الحديث ) عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، أَخْبَرَنِي شَيْخٌ ، مُؤَذِّنُ لِأَهْلِ مَكَّةَ ، عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ " فَقَالَ : هِيَ هِيَ فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ : مَا هِيَ هِيَ ؟ قَالَ : " وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا " ( والشيخ مجهول)
أو رجل أو نحو ذلك ، كما في سنن أبى داود برقم (3810 ) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَنٍ الْمِصِّيصِىُّ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِى رَجُلٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ أَنْ نَأْكُلَ لُحُومَ الْحُمُرِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْكُلَ لُحُومَ الْخَيْلِ قَالَ عَمْرٌو فَأَخْبَرْتُ هَذَا الْخَبَرَ أَبَا الشَّعْثَاءِ فَقَالَ قَدْ كَانَ الْحَكَمُ الْغِفَارِىُّ فِينَا يَقُولُ هَذَا وَأَبَى ذَلِكَ الْبَحْرُ يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ.
وكما في مصنف عبد الرزاق مشكل - (ج 3 / ص 452) برقم (7353) ( 7118 - جامع الحديث ) أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ ، أَنَّ رَجُلًا ، أَخْبَرَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ قَالَ : بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ رَأَيْتُ الْهِلَالَ ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ - وَلَا أَرَاهُ - : " اللَّهُمَّ أَطْلِعْهُ عَلَيْنَا بَالسَّلَامَةِ ، وَالْإِسْلَامِ ، وَالْأَمْنِ ، وَالْإِيمَانِ ، وَالْبِرِّ ، وَالتَّقْوَى ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ ، وَتَرْضَى ، فَمَا زَالَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى حَفِظَهَا " وكما في مصنف ابن أبي شيبة(ج 3 / ص 50)9393- حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مَكْحُولٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنَ الْحَيِّ مُصَدَّقٌ ، عَنْ ثَوْبَانَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ..
وبرقم (19103) حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ , عَنْ عَمْرِو سَمع عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ يَقُولُ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : لَوِ اسْتَطَعْت أَنْ أَجْعَلَ عِدَّةَ الأَمَةِ حَيْضَةً وَنِصْفًا فَعَلْت فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : لَوْ جَعَلْتهَا شَهْرًا وَنِصْفًا فَسَكَتَ..
وكما في مسند أحمد برقم (15575) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى الزِّنَادِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِى عَمْرٍو أَخْبَرَنِى رَجُلٌ ثِقَةٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لَحْمُ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَصِدْهُ أَوْ يُصَدْ لَهُ ».
قلت : وهذا الرجل المجهول إذا لم يبين ، ولم يوجد ما يشهد للحديث فالحديث ضعيف
4- تعريف المجهول:
هو من لم تُعْرَف عَيْنُهُ أو صفته
ومعنى ذلك أي هو الراوي الذي لم تعرف ذاته أو شخصيته أو عرفت شخصيته ولكن لم يعرف عن صفته أي عدالته وضبطه شيء.
5- أنواع المجهول:
يمكن أن يقال أن أنواع المجهول ثلاثة هي :
ا ) مجهول العَيْن(17):
تعريفه: هو من ذُكِر اسمه ، ولكن لم يَرْوِ عنه إلا راو واحد .
حكم روايته : عدم القبول ، إلا إذا وُثِّقَ .
كيف يوثق : يوثق بأحد أمرين :
أما أن يوثقه غير من روى عنه.
وإما أن يوثقه من روى عنه بشرط أن يكون من أهل الجرح والتعديل.
هل لحديثه اسم خاص ؟ ليس لحديثه اسم خاص ، وإنما حديثه من نوع الضعيف .
2 ) مجهول الحال: ( ويسمى المستور )
تعريفه: هو من روي عنه اثنان فأكثر، لكن لن يُوَثَّق.
حكم روايته: الرد، على الصحيح الذي قاله الجمهور.
هل لحديثه اسم خاص ؟ ليس لحديثه اسم خاص ، وإنما حديثه من نوع الضعيف .(18)
6-هل تقبل رواية المجهول ؟
وقال الحافظ العراقي رحمه الله(19):
"اختلفَ العلماءُ في قَبولِ روايةِ المجهولِ ، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ : مجهولِ العينِ ، ومجهولِ الحالِ ظاهراً وباطناً ، ومجهولِ الحال باطناً .
القسمُ الأولُ : مجهولُ العَيْنِ ، وهو مَنْ لم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ . وفيه أقوالٌ :
الصحيحُ الذي عليه أكثرُ العلماءِ من أهلِ الحديثِ ، وغيرِهم ، أنّهُ لا يقبلُ .
والثاني: يقبلُ مطلقاً.وهذا قولُ مَنْ لم يشترطْ في الراوي مزيداً على الإسلامِ.
والثالثُ : إن كان المنفردُ بالروايةِ عنه لا يروي إلا عَنْ عَدْلٍ ، كابنِ مهديٍّ ، ويحيى بنِ سعيدٍ ، ومَنْ ذُكرَ معهُما ، واكتفينا في التعديلِ بواحدٍ قُبلَ ، وإلاّ فلا .
والرابعُ : إنْ كان مشهوراً في غيرِ العلمِ بالزُّهْدِ ، أو النَّجْدةِ قُبلَ ، وإلاّ فلا . وهو قولُ ابنِ عبدِ البرِّ ، وسيأتي نقلهُ عنه .
والخامسُ : إنْ زَكَّاه أحدٌ من أئمةِ الجرحِ والتعديلِ مع روايةِ واحدٍ عنهُ قُبل ، وإلاّ فلا . وهو اختيارُ أبي الحسنِ بنِ القطّانِ في كتابِ " بيان الوهمِ والإيهامِ " .
قال الخطيبُ في " الكفاية " : المجهولُ عند أصحابِ الحديثِ : كُلُّ مَنْ لم يشتهرْ بطلبِ العلمِ في نفسِهِ ، ولا عرفَهُ العلماءُ به . ومَنْ لم يُعرفْ حديثُهُ إلاّ من جهةِ راوٍ واحدٍ، مثلُ : عَمْرٍو ذِي مرٍّ ، وجَبَّارٍ الطَّائيِّ ، وعبدِ اللهِ بنِ أَعَزَّ الهَمْدانيِّ ، والهَيْثَمِ بنِ حَنَشٍ ، ومالكِ بنِ أَعزَّ ، وسعيدِ بنِ ذي حُدَّانَ ، وقَيْسِ بنِ كُرْكُمٍ ، وخَمْرِ بنِ مالكٍ . قال : وهؤلاءِ كلُّهم لم يَرْوِ عنهم غيرُ أبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ . ومثلُ : سَمْعانَ بنِ مُشَنَّجٍ ، والهَزْهازِ بنِ مَيْزنٍ ، لا يُعرفُ عنهما راوٍ إلاّ الشَّعبيُّ . ومثلُ : بَكْرِ بنِ قِرْواشٍ ، وحَلاَّمِ بنِ جَزْلٍ ، لم يروِ عنهما إلا أبو الطُّفَيلِ عامرُ بنُ واثلةَ . ومثلُ : يزيدَ بنِ سُحَيْمٍ ، لم يروِ عنه إلا خِلاَسُ بنُ عَمْرٍو . ومثلُ : جُرَي بنِ كُلَيبٍ ، لم يروِ عنه إلا قتادةُ بن دِعَامةَ . ومثلُ : عُمَيرِ بنِ إسحاقَ ، لم يروِ عنه سوى عبدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ . وغيرُ من ذَكرنا . وروينا عن محمدِ بنِ يحيى الذُّهْلِيِّ ، قال : إذا رَوَى عن المحدِّثِ رجلانِ ارتفعَ عنه اسمُ الجهالةِ .
وقال الخطيبُ : أقلُّ ما تُرفعُ به الجهالةُ أن يرويَ عنه اثنانِ فصاعداً ، من المشهورينَ بالعلمِ ، إلا أنّه لا يثبتُ له حكمُ العدالةِ بروايتهِما عنه . واعترضَ عليه ابنُ الصلاحِ بأنَّ الهَزْهازَ رَوَى عنه الثوريُّ أيضاً .
قلت : وروى عنه أيضاً الجرَّاحُ بنُ مَلِيحٍ ، فيما ذكرَهُ ابنُ أبي حاتمٍ ، وسمَّى أباهُ مازناً، بالألفِ لا بالياءِ . ولعلَّ بعضَهُم أمالَهُ فكتبَهُ بالياءِ . وخَمْرُ بنُ مالكٍ روى عنه أيضاً عبدُ اللهِ بنُ قَيْسٍ ، وذكرَهُ ابنُ حبّانَ في " الثقاتِ " ، وسمَّاهُ خُمَيْرَ بنَ مالكٍ ، وذكرَ الخلافَ فيه في التَّصْغيرِ والتّكبيرِ ابنُ أبي حاتِمٍ . وكذلِكَ الهَيْثمُ ابنُ حَنَشٍ رَوَى عنه أيضاً سَلَمةُ بنُ كُهَيْل ، قالَهُ أبو حاتمٍ الرازيُّ . وأما عبدُ اللهِ بنُ أَعزّ ، ومالكُ بن أعزَّ ، فقد جعلَهُما ابنُ ماكولا واحداً ، اختُلفَ على أبي إسحاقَ في اسمِهِ . وبَكْرُ بنُ قِرْواشٍ روى عنه أيضاً قتادةُ فيما ذكرَهُ البخاريُّ ، وابنُ حبّانَ في " الثقاتِ " . وسمَّى ابن أبي حاتم أباهُ قُرَيشاً . وحَلاَّمُ بنُ جَزْلٍ ذكرَهُ البخاريُّ في " تاريخه " فقالَ : حِلاَبٌ ، أي : بباء موحّدةٍ ، وخطَّأهُ ابنُ أبي حاتمٍ في كتابٍ جمعَ فيهِ أوهامَهُ في " التاريخ " ، وقال : " إنّما هو حَلاَّمٌ " ، أي : بالميمِ . ثم تعقّبَ ابنُ الصلاحِ بعضَ كلامِ الخطيبِ المتقدّم بأنْ قال : قد خَرَّجَ البخاريُّ حديث جماعةٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم : مِرْدَاسٌ الأسلميُّ ، لم يروِ عنه غيرُ قَيْسٍ بنِ أبي حازمٍ . وخَرَّجَ مسلمٌ حديثَ قومٍ ليس لهم غيرُ راوٍ واحدٍ منهم : ربيعةُ بنُ كعبٍ الأسلميُّ ، لم يروِ عنه غيرُ أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ . وذلك منهما مَصِيرٌ إلى أنَّ الراوي قد يَخْرُجُ عن كونِهِ مجهولاً مردوداً ، بروايةِ واحدٍ عنه . والخلافُ في ذلك مُتَّجِهٌ ، نحوَ اتجاهِ الخلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحدٍ في التعديلِ .
قلتُ : لم ينفردْ عن مِرْداسٍ قَيْسٌ ، بل روى عنه أيضاً زيادُ بنُ عِلاَقةَ فيما ذكرَهُ المزّيُّ في " التهذيبِ " ، وفيه نظرٌ . ولم ينفردْ عن ربيعةَ أبو سَلَمةَ ، بل رَوَى عنه أيضاً نُعَيْمٌ المُجْمِرُ وحَنْظلةُ بنُ عليٍّ.وأيضاً فمِرْداسٌ وربيعةُ من مشاهيرِ الصحابةِ، فمِرداسٌ من أهلِ الشَّجَرَةِ،وربيعةُ من أهل الصُّفَّةِ.وقد ذكرَ أبو مسعودٍ إبراهيمُ بنُ محمدٍ الدِّمَشْقيُّ في (( جُزْءٍ له أجابَ فيه عن اعتراضاتِ الدارقطنيِّ على كتابِ مسلمٍ )) ، فقال : لا أعلمُ رَوَى عن أبي عليٍّ عمرِو بنِ مالكٍ الجَنْبيِّ أحدٌ غيرُ أبي هانيءٍ ، قال : وبروايةِ أبي هانيءٍ وَحْدَهُ لا يرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ ، إلا أنْ يكونَ معروفاً في قبيلتهِ ، أو يروي عنه أحدٌ معروفٌ مع أبي هانئٍ ، فيرتفعُ عنه اسمُ الجهالةِ . وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ في النوعِ السابعِ والأربعينَ عن ابنِ عبدِ البرِّ ، قال : كُلُّ مَنْ لم يروِ عنه إلا رجلٌ واحدٌ ، فهو عندَهم مجهولٌ إلا أنْ يكونَ رجلاً مشهوراً في غيرِ حملِ العلمِ كاشتهارِ مالكِ بنِ دينارٍ بالزُّهْدِ ، وعَمْرِو بن مَعْديْ كَرِبَ بالنَّجْدةِ . فشهرةُ هذينِ بالصُّحبةِ عند أهلِ الحديثِ آكدُ في الثقةِ به من مالكٍ وعمرٍو ، والله أعلمُ .
والقسمُ الثاني : مجهولُ الحالِ في العدالةِ في الظاهرِ والباطنِ ، مع كونِهِ معروفَ العَيْنِ بروايةِ عدلينِ عنه . وفيه أقوالٌ :
أحدُها : وهو قولُ الجماهيرِ ، كما حكاهُ ابنُ الصلاحِ أنَّ روايتَهُ غيرُ مقبولةٍ.
والثاني : تقبلُ مطلقاً ، وإنْ لم تقبلْ روايةُ القسمِ الأولِ . قال ابنُ الصلاحِ : وقد يَقبلُ روايةَ المجهولِ العدالةِ مَنْ لا يَقبلُ روايةَ المجهولِ العينِ .
والثالثُ : إنْ كانَ الراويانِ ، أو الرواةُ عنه فيهم مَنْ لا يَروِي عن غيرِ عَدْلٍ قُبِلَ ، وإلاَّ فلاَ .
والقسمُ الثالثُ : مجهولُ العدالةِ الباطنةِ ، وهو عدلٌ في الظاهرِ ، فهذا يحتَجُّ به بعضُ مَنْ رَدَّ القسمَينِ الأولَينِ ، وبهِ قطعَ الإمامُ سُلَيمُ بنُ أيوبَ الرازيُّ ، قال : لأنَّ الإخبارَ مَبنيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بالراوي ؛ لأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَنْ تَتَعذَّرُ عليه معرفةُ العدالةِ في الباطنِ ، فاقتُصِرَ فيها على معرفةِ ذلك في الظاهرِ . وتُفَارِقُ الشهادَةَ ، فإنَّها تكونُ عند الحُكَّامِ،ولا يتعذّرُ عليهم ذلكَ ، فاعتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطنِ.
قالَ ابنُ الصّلاحِ : ويشبهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ من الرُّواةِ الذين تقادَمَ العهدُ بهم ، وتعذَّرَتِ الخِبْرةُ الباطنةُ بهم ، واللهُ أعلمُ .
__________
(1) - وهي السبب الثامن من أسباب الطعن في الراوي . انظر مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 21) ,قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 155) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 87) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 302) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 247)
(2) - -مقدمة فتح الباري/ابن حجر/384/وانظر قواعد التحديث/للقاسمي/191 .
(3) - -نخبة الفكر/ابن حجر/230 (ذيل سبل السلام للصنعاني) و نزهة النظر - (ج 1 / ص 21)
(4) - -انظر نزهة النظر/ابن حجر/44 .
(5) - الكفاية بَابُ ذِكْرِ الْمَجْهُولِ وَمَا بِهِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ الْمَجْهُولُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
(6) - -مقدمة ابن الصلاح/225-226 .
(7) - -نزهة النظر/ابن حجر/50 .
(8) - -يعني بالخصال الخمس ما يلي:
(9) - (انظر الثقات/لابن حبان 1/11)
(10) - -الثقات/ابن حبان/1/13 .
(11) - -لسان الميزان/ابن حجر/1/14 .
(12) - جرح الرواة وتعديلهم - (ج 7 / ص 1)
(13) - -نخبة الفكر/ابن حجر/ذيل سبل السلام 4 / 230 و نزهة النظر - (ج 1 / ص 277)
(14) -انظر ضوابط الجرح والتعديل/عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم العبد اللطيف/76 .
(15) - انظر تهذيب الكمال [ ج 25 - ص 246 ]برقم (5234 )
(16) - وفي الكاشف [ ج 2 - ص 443 ] برقم (6741 ) أبو العشراء الدارمي البصري عن أبيه وعنه حماد بن سلمة يقال أسامة ويقال عطارد ويسار أعرابي لينه البخاري وقال أحمد حديثه عندي غلط
(17) - التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 7) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 93) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 378) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 306) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 248) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 26) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 514)
(18) - قلت : لنا عودة حول المسكوت عنه ( وهو المستور )
(19) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 114)(1/221)
وأطلقَ الشافعيُّ كلامَهُ في اختلافِ الحديثِ أنَّهُ لا يحتجُّ بالمجهولِ ، وحكى البيهقيُّ في " المدخلِ " : أنَّ الشافعيَّ لا يحتجُّ بأحاديثِ المجهولينَ . ولما ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القسمَ الأخيرَ ، قال : وهو المستورُ ، فقد قال بعضُ أئمتِنا : المَسْتُورُ مَنْ يكونُ عَدْلاً في الظَّاهرِ ، ولا تُعْرَفُ عدالتُهُ باطناً . انتهى كلامُه . وهذا الذي نَقَلَ كلامَهُ آخراً ، ولم يسمِّهِ ، هو البغويُّ ، فهذا لفظُهُ بحروفِهِ في " التهذيبِ " ، وتَبِعهُ عليه الرافعيُّ. وحكى الرافعيُّ في الصومِ وجهين في قبولِ روايةِ المستورِ من غيرِ ترجيحٍ. وقالَ النوويُّ في " شرحِ المهذّبِ " : (( إنَّ الأصحَّ قبولُ روايتِهِ )) .
وقولي : ( وفيه نظرٌ ) ، ليس في كلامِ ابنِ الصلاحِ ، فهو من الزوائدِ التي لم تتميَّزْ ووجهُ النظرِ الذي أشرتُ إليهِ هو أنَّ في عبارة الشافعيِّ في اختلافِ الحديثِ ما يقتضي أنَّ ظاهِرَي العدالةِ مَنْ يحكمُ الحاكمُ بشهادتِهِمَا .
فقالَ في جوابِ سؤالٍ أوردَهُ : فلا يجوزُ أنْ يَتركَ الحُكْمَ بشهادتِهما إذا كانا عَدْلَيْنِ في الظاهرِ . فعلى هذا لا يُقالُ لمَنْ هو بهذهِ المثابةِ مستورٌ. نَعَمْ، في كلامِ الرافعيِّ في الصومِ أنَّ العدالةَ الباطنةَ هي التي يُرْجَعُ فيها إلى أقوالِ المُزَكِّينَ . ونقلَ الرُّوْيَانيُّ في " البَحر " عن نصِّ الشافعيِّ في " الأمِّ ": أنَّهُ لو حضَرَ العقدَ رجلانِ مسلمانِ ، ولا يُعرفُ حالُهما من الفِسْقِ والعَدالةِ انعقدَ النكاحُ بهما في الظاهرِ . قال: لأنَّ الظّاهرَ من المسلمينَ العدالةُ . والله أعلم . "
-------------
وقال البزدوي(1):
"وَهَذَا أَيْ كَوْنُ الْمَسْتُورِ كَالْفَاسِقِ ثَابِتٌ بِلَا خِلَافٍ فِي بَابِ الْحَدِيثِ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الدِّينِ أَهَمُّ فَلَا يَكُونُ رِوَايَةُ الْمَسْتُورِ حُجَّةً بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي إخْبَارِهِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ لَا غَيْرُ إلَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ أَيْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ؛ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْمَسْتُورِ مِنْهُمْ مَقْبُولَةٌ لِكَوْنِ الْعَدَالَةِ أَصْلًا فِيهِمْ عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْمَجْهُولِ بَيْنَهُمْ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ "
وقال الإمام النووي رحمه الله(2):
" وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُغَفَّلُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ , وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَنْ نَقْبَلُهُ .
وَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ , فَإِنْ قُلْنَا : يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ اُشْتُرِطَتْ , وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ , قَالُوا : وَهُمَا جَارِيَانِ فِي رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ , الْحَدِيثَ ( وَالْأَصَحُّ ) قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ , وَكَذَا الْأَصَحُّ قَبُولُ قَوْلِهِ هُنَا وَالصِّيَامُ بِهِ , وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمُتَوَلِّي "
وقال الآمدي رحمه الله(3):
"المسألة الأولى مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية ،بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له.
وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفَى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً.
وقد احتج النافون بحجج الأولى: أن الدليل بنفي قبول خبر الفاسق وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات ،غير أنا خالفناه فيمن ظهرت عدالته بالاختبار بمعنى لا وجود له في محل النزاع ، وهو ما اختص به من زيادة ظهور الثقة بقوله فوجب أن لا يقبل ، ولقائل أن يقول: الآية إنما دلت على امتناع قبول خبر الفاسق ومن ظهر إسلامه وسلم من الفسق ظاهراً لا نسلِّم أنه فاسق حتى يندرج تحت عموم الآية واحتمال وجود الفسق فيه لا يوجب كونه فاسقاً بدليل العدل المتفق على عدالته.
الحجة الثانية: أنه مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية دفعاً لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة في العقوبات ، ولقائل أن يقول: وإن كان احتمال الكذب قائماً ظاهراً غير أن احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أظهر من احتمال الكذب ، ومع ذلك فاحتمال القبول يكون أولى من احتمال الرد ولا يمكن القياس على الشهادة ، لأن الاحتياط في باب الشهادة أتم منه في باب الرواية ولهذا كان العدد والحرية مشترطاً في الشهادة دون الرواية ومتعبداً فيها بألفاظ خاصة غير معتبرة في الرواية ، حتى إنه لو قال أعلم بدل قوله أشهد لم يكن مقبولاً ، وعلى هذا فلا يلزم من اشتراط ظهور العدالة في الشهادة بالخبرة الباطنة اشتراط ذلك في الرواية.
الحجة الثالثة قالوا: أجمعنا على أن العدالة شرطٌ في قبول الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى أن بلوغ رتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول الفتوى ، فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار فلا تقبل أخباره دفعاً للمفسدة اللازمة من فوات الشرط كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد فإنه لا يجب على المقلِّد اتباعه إجماعاً.
ولقائل أن يقول: المجمعُ على اشتراطه في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة من الفسق ظاهراً أو بمعنى آخر، والأول مسلم غير أن ما هو الشرط متحقق فيما نحن فيه ، والثاني ممنوع كيف وإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق في الحجة المتقدمة ، وبتقدير ظهور مناسبة الوصف الجامع فالاعتبار بالمفتي غير ممكن، وذلك لأن بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ، ولهذا كانت العدالة أغلب وقوعاً من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وعند ذلك فاحتمال عدم صفة الاجتهاد يكون أغلب من عدم صفة العدالة فلا يلزم من عدم قبول قول المفتي مع الجهل بحاله القول بعدم قبول الراوي مع الجهل بحاله.
الحجة الرابعة: أن عدم الفسق شرط في قبول الرواية فاعتبر فيه الخبرة الباطنية مبالغة في دفع الضرر كما في عدم الصبي والرق والكفر في قبول الشهادة.
ولقائل أن يقول : ما ذكرتموه من الوصف الجامع غير مناسب لما سبق تقريره في الحجة الثانية ، وبتقدير مناسبته فالقياس على الشهادة غير ممكن لما تقدم.
الحجة الخامسة قالوا: ردَّ عمر رواية فاطمة بنت قيس لما كانت مجهولة الحال وعلي عليه السلام رد قول الأشجعي في المفوضة واشتهر ذلك فيما بين الصحابة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً.
ولقائل أن يقول: أمَّا ردُّ عمر لخبر فاطمة إنما كان لأنه لم يظهر صدقها ولهذا قال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، وما نحن فيه ليس كذلك فإن من ظهر إسلامه وسلامته من الفسق ظاهراً فاحتمال صدقه لا محالة أظهر من احتمال كذبه ، وأما ردُّ علي عليه السلام لخبر الأشجعي فإنما كان أيضاً لعدم ظهور صدقه عنده ولهذا وصفه بكونه بوالاً على عقبيه أي غير محترز في أمور دينه ، ويجب أن يكون كذلك وإلا كان مخالفاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - . «إِنَّمَا نحكم بِالظَّاهِرِ ، وَالله يتَوَلَّى السرائر»(4)
والمعتمد في المسألة أنا نقول: القول بوجوب قبول رواية مجهول الحال يستدعي دليلاً ، والأصل عدم ذلك الدليل ، والمسألة اجتهادية ظنية فكان ذلك كافياً فيها .
فإن قيل بيان وجود الدليل من جهة النص والإجماع والمعقول: أما النص فمن جهة الكتاب والسنة: أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات ، أمر بالتثبت مشروطاً بالفسق فما لم يظهر الفسق لا يجب التثبت فيه.
وأما السنة فمن وجهين: الأول قوله عليه السلام: "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر"(5)وما نحن فيه فالظاهر من حاله الصدق فكان داخلاً تحت عموم الخبر الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه الأعرابي وقال أشهد أن لا إله إلا الله وشهد برؤية الهلال عنده(6)قبل شهادته وأمر بالنداء بالصوم لما ثبت عنده إسلامه ولم يعلم منه ما يوجب فسقاً فالرواية أولى.
وأما الإجماع فهو أن الصحابة كانوا متفقين على قبول أقوال العبيد والنسوان والأعراب المجاهيل لما ظهر إسلامهم وسلامتهم من الفسق ظاهراً.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي مسلم لم يظهر منه فسق فكان خبره مقبولاً كإخباره بكون اللحم لحم مذكَّى ، وكون الماء طاهراً أو نجساً وكون الجارية المبيعة رقيقة ، وكونه متطهراً عن الحدثين حتى يصح الاقتداء به ونحوه والثاني أنه لو أسلم كافر وروى عقيب إسلامه خبراً من غير مهلة فمع ظهور إسلامه وعدم وجود ما يوجب فسقه بعد إسلامه يمتنع رد روايته ، وإذا قبلت روايته حال إسلامه فطول مدته في الإسلام أولى أن لا توجب رده.
والجواب عن الآية أن العمل بموجبها نفياً وإثباتاً متوقف على معرفة كونه فاسقاً أو ليس فاسقاً لا على عدم علمنا بفسقه ، وذلك لا يتم دون البحث والكشف عن حاله ،وعن الخبر الأول من ثلاثة أوجه:
الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضاف الحكم بالظاهر إلى نفسه ولا يلزم مثله في حق غيره إلا بطريق القياس عليه لا بنفس النص المذكور ، والقياس عليه ممتنع لأن ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الاطلاع والمعرفة بأحوال المخبر لصفاء جوهر نفسه واختصاصه عن الخلق بمعرفة ما لا يعرفه أحد منهم من الأمور الغيبية غير متحقق في حق غيره.
الثاني أنه رتب الحكم على الظاهر وذلك وإن كان يدل على كونه علة لقبوله والعمل به فتخلف الحكم عنه في الشهادة على العقوبات والفتوى يدل على أنه ليس بعلة.
الثالث المعارضة بقوله تعالى: { إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (36) سورة يونس ، وليس العمل بعموم أحد النصين وتأويل الآخر أولى من الآخر بل العمل بالآية أولى لأنها متواترة وما ذكروه آحاد.
وعن الخبر الثاني: لا نسلِّم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم من حال الأعرابي سوى الإسلام.
وعن الإجماع لا نسلِّم أن الصحابة قبلوا رواية أحد من المجاهيل فيما يتعلق بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا ردوا رواية من جهلوه كرد عمر شهادة فاطمة بنت قيس ورد علي شهادة الأعرابي.
وعن الوجه الأول من المعقول بالفرق بين صور الاستشهاد ومحل النزاع ؛ وذلك من وجهين:
الأول أن الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى رتبة وأشرف منصباً من الإخبار فيما ذكروه من الصور ، فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما .
الثاني أن الإخبار فيما ذكروه من الصور مقبول مع ظهور الفسق ولا كذلك فيما نحن فيه.
وعن الوجه الثاني من المعقول بمنع قبول روايته دون الخبرة بحاله ، لاحتمال أن يكون كذوباً وهو باق على طبعه .
وإن قبلنا روايته في مبدأ إسلامه فلا يلزم ذلك في حالة دوامه، لما بين ابتداء الإسلام ودوامه من رقة القلب وشدة الأخذ بموجباته والحرص على امتثال مأموراته واجتناب منهياته على ما يشهد به العرف والعادة في حق كل من دخل في أمر محبوب والتزمه ، فإن غرامه به في الابتداء يكون أشد منه في دوامه."
7- ما ترتفع به الجهالة:
بعد أن عرفنا الجهالة وأنواعها وأسباب ورودها بقي علينا أن نتعرف على منهج علماء الحديث فيما ترتفع فيه الجهالة عن الراوي . أو بعبارة أخرى ما هي الأمور التي إذا توفرت في الراوي زالت جهالته واشتهرت حاله .
وللجواب على هذا التساؤل نقول: ان لعلماء الحديث منهجاً في رفع الجهالة عن الراوي تبعاً لنوع الجهالة المتعلقة بالراوي . فما ترتفع به جهالة العين هو غير ما ترتفع به جهالة الحال وهما غير ما ترتفع به جهالة من أبهم اسمه وعينه
ويمكن إجمال مناهج العلماء في ذلك فيما يأتي:
أولا: ما ترتفع به جهالة العين:
والمقصود بجهالة العين أن الراوي لم يروِ عنه إلا واحد .
قال ابن حجر في ترجمة يحيى بن حرب المديني (قلت: قال ابن المديني: مجهول ما روى عنه غير موسى )(7)
وقال ابن عدي (ولا أعلم أحدا يروي عنه غير مروان الفزاري وإذا روى عنه رجل واحد فهو شبه المجهول )(8)
إذن فلا فرق عند العلماء بين مجهول العين أو شبه المجهول لان كليهما لم يروِ عنهما إلا راويا واحدا .
ومن كان هذا حاله فان للعلماء فيما ترتفع به الجهالة عنه أقوالا:
ذهب الخطيب البغدادي إلى أن (أقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم )(9).
قال صاحب كتاب نصب الراية موافقا الخطيب فيما ذهب إليه: (وَإِنَّمَا يرتفع جَهَالَةُ الْمَجْهُولِ إذَا رَوَى عَنْهُ ثِقَتَانِ مَشْهُورَانِ، فَأَمَّا إذَا رَوَى عَنْهُ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَدِيثُ حُجَّةً، وَلَا ارْتَفَعَتْ جَهَالَتُهُ، انْتَهَى.)(10).
بينما ذهب فريق من العلماء كيحيى بن معين والذهبي وابن حجر في ،حد رأييه وغيرهم إلى أن جهالة العين ترتفع بأن يروي عنه اثنان فصاعداً دون أن يشترط فيهما أن يكونا مشهورين في أهل العلم .
أخرج الخطيب البغدادي 227 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ , أنا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ , أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْقَارِئُ , نا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي , يَقُولُ : إِذَا رَوَى عَنِ الْمُحَدِّثِ رَجُلَانِ ارْتَفَعَ عَنْهُ اسْمُ الْجَهَالَةِ قَالَ الْخَطِيبُ : إِلَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ : فَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ عَدَالَتَهَ تَثْبُتُ بِذَلِكَ , وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَسَادَ قَوْلِهِمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ )(11).
وجاء في تعجيل المنفعة في ترجمة بركة بن يعلى التميمي (واستفدنا منهما أن لبركة راويين فارتفعت جهالة عينه والله المستعان )(12).
وجاء في تلخيص الحبير في ترجمة عبد الله بن بصير: (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَصِيرٍ قِيلَ لَا يُعْرَفُ لِأَنَّهُ مَا رَوَى عَنْهُ غَيْرُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْهُ فَارْتَفَعَتْ جَهَالَةُ عَيْنِهِ)(13).
ذهب ابن حجر في رأيه الآخر إلى أن الراوي مجهول العين-وهو من لم يرو عنه إلا واحد-ينظر إلى ذلك الواحد الذي يروي عن ذلك المجهول . فان كان من أئمة الحديث وحفاظهم عدَّ ذلك تعريفاً بعين ذلك الراوي:
جاء في تهذيب التهذيب (وقال الذهبي في الطبقات: أحمد بن يحيى بن محمد لا يعرف . قلت: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه وفي التعريف بحاله توثيقه له.)(14).
4.وذهب ابن خزيمة وابن حبان من بعده إلى أن مجهول العين ترتفع جهالته برواية واحدٍ مشهور .
جاء في لسان الميزان: (وكان عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحدٍ مشهور وهو مذهب شيخه ابن خزيمة ولكن جهالة حاله باقية عند غيره . وقد أفصح ابن حبان بقاعدته فقال: العدل من لم يعرف فيه الجرح ، إذ التجريح ضد التعديل ، فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه )(15).
ثانيا: ما ترتفع به جهالة الحال:
والمقصود من جهالة الحال أن لا يعرف الراوي بجرح ولا تعديل . وترتفع جهالة حاله بأمور وضوابط وضعها علماء الحديث ، وهم مختلفون فيها كما يأتي:
أجمع علماء أهل السنة وأغلب الفرق الإسلامية على أن من ثبتت صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت جهالة حاله واستغني عن البحث عن عدالته . لأن الصحابة - رضي الله عنهم - عدول بتعديل الله تعالى لهم وتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال الذهبي: (وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات ، فما يكاد يسلم أحد من الغلط ، لكنه غلط نادر لا يضر أبدا ، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى )(16).
ذهب جمهور المحدثين إلى أن من وردت روايته في كتب الصحيح ارتفعت جهالة حاله . يوضح ذلك قول ابن حجر في مقدمة فتح الباري: (فأما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفا بالعدالة ، فمن زعم أن أحدا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه معروف ،ولا شك أن المدعي لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفته لما مع المثبت من زيادة العلم ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحدا ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلا)(17).
وجاء في نصب الراية قول ابن دقيق العيد( رحمه الله): (قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: وَمِنْ العجب كون الْقَطَّانِ لَمْ يَكْتَفِ بِتَصْحِيحِ التِّرْمِذِيِّ فِي مَعْرِفَةِ حَالِ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، مَعَ تَفَرُّدِهِ بِالْحَدِيثِ، وَهُوَ قَدْ تقل كَلَامَهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: هُوَ ثِقَةٌ، أَوْ يُصَحَّحَ لَهُ حَدِيثٌ انْفَرَدَ بِهِ؟ وَإِنْ كَانَ تَوَقَّفَ عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا أَبُو قِلَابَةَ، فَلَيْسَ هَذَا: بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى كَثْرَةِ الرُّوَاةِ فِي نَفْيِ جَهَالَةِ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ لَا يُوجِبُ جَهَالَةَ الْحَالِ بِانْفِرَادِ رَاوٍ وَاحِدٍ عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي تَعْدِيلَهُ، وَهُوَ تَصْحِيحُ التِّرْمِذِيِّ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ كِتَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ فَيَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَتِهِ. وَطَرِيقَةُ الْفِقْهِ أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَلِكَ، إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ قَوْلِنَا: عَنْ رَجُلٍ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: عَنْ رَجُلٍ من بين عَامِرٍ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، وَأَمَّا مَنْ أَسْقَطَ ذِكْرَ هَذَا الرَّجُلِ فَيَأْخُذُ بِالزِّيَادَةِ، وَيَحْكُمُ به، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، فَإِنْ كَانَ كُنْيَةً لِعَمْرٍو فَلَا اخْتِلَافَ، وَإِلَّا فَهِيَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ مُخَالِفَةٌ احْتِمَالًا لَا يَقِينًا، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي قُشَيْرٍ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَهِيَ مُخَالِفَةٌ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْظُرَ فِي إسْنَادِهَا عَلَى طَرِيقَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يُعَلِّلْ بِهَا، انْتَهَى كَلَامُهُ.)(18).
وذهب الدارقطني فيما نقله عنه السخاوي أن: ( من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته وثبتت عدالته )(19).
وذكر البلقيني أن هذا هو مذهب ابن حبان كذلك فقال: ( اكتفى ابن حبان بمجرد رواية عدلين في التعديل وهو بعيد )(20).
والصحيح أن ابن حبان يختلف عن الدارقطني فيما ترتفع به جهالة الحال عن الراوي . وله مذهب خاص به وهو الآتي:
4 .ذهب ابن حبان إلى أن كل من روى عنه راو مشهور قد ارتفعت جهالة عينه وكل من ارتفعت جهالة عينه ولم يعرف فيه جرح فهو عدل ، أي أن جهالة الحال ترتفع مع جهالة العين إذا لم يعرف فيه جرح للعلماء .
وقد نص ابن حجر على مذهب ابن حبان هذا في لسان الميزان فقال: (وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب ، والجمهور على خلافه)(21).
إذن فما ذهب إليه البلقيني من أن ابن حبان يشترط رواية عدلين في إثبات عدالة الراوي يخالف المشهور من مذهب ابن حبان الذي قدمناه آنفاً .
وذهب ابن عبد البر إلى أن مجهول الحال يمكن أن ترتفع جهالته إذا اشتهر ـ في غير حمل العلم ـ بمكارم الأخلاق من زهد أو كرم أو نجدة . وقد نقل السخاوي قوله في فتح المغيث وهو (قبول روايته أن كان مشهوراً كأن يشتهر بالزهد أو النجدة أو الكرم فان اشتهر بالعلم فقبوله من باب أولى )(22).
__________
(1) - كشف الأسرار - (ج 5 / ص 26)
(2) - المجموع شرح المهذب - (ج 6 / ص 277)
(3) - الأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 78) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 1 / ص 324) فما بعد الشاملة 2
(4) - هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا أعلم من خرجه من أَصْحَاب الْكتب الْمُعْتَمدَة وَلَا غَيرهَا ، وَسُئِلَ عَنهُ حَافظ زَمَاننَا جمال الدَّين الْمزي فَقَالَ : لَا أعرفهُ . وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي «سنَنه» بَاب الحكم بِالظَّاهِرِ . ثمَّ أورد حَدِيث «إِنَّمَا أَنا بشر ...» وَقد أوردهُ الرَّافِعِيّ قبل هَذَا .البدر المنير - (ج 9 / ص 590)
(5) - لا أصل له في المرفوع
(6) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنِّى رَأَيْتُ الْهِلاَلَ -يَعْنِى رَمَضَانَ - فَقَالَ « أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ « يَا بِلاَلُ أَذِّنْ فِى النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا ».سنن أبى داود(2342 ) وصحح جمع إرساله
(7) - -تهذيب التهذيب/ابن حجر 11/173 .
(8) - -الكامل في ضعفاء الرجال/ابن عدي/3/389 .
(9) - -الكفاية/ 111 .
(10) - نصب الراية - (ج 2 / ص 39)
(11) - الكفاية - بَابُ ذِكْرِ الْمَجْهُولِ وَمَا بِهِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَهَالَةُ
(12) - -تعجيل المنفعة برجال الأئمة الأربعة/ابن حجر 1/50 .
(13) - -تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير/ابن حجر/2/26 .و وانظر البدر المنير - (ج 9 / ص 282)
(14) - تهذيب التهذيب - (ج 1 / ص 77)
(15) - -لسان الميزان/ابن حجر 1/14 وانظر تفصيل كلام ابن حبان في كتابه الثقات 1/11-13 .
(16) - -معرفة الرواة المتكلم فيه بما لا يوجب الرد/ الذهبي 46 .
(17) - -مقدمة فتح الباري/ 384 .
(18) - نصب الراية - (ج 1 / ص 149)
(19) - -فتح المغيث/ السخاوي 1/320 .
(20) - -محاسن الإصلاح/ البلقيني 227 هامش مقدمة ابن الصلاح .
(21) - -لسان الميزان/ 1/14 .
(22) - -فتح المغيث/السخاوي 1/316 .(1/222)
قال ابن الصلاح: " ثم بلغني عن أبي عمر بن عبد البر الأندلسي وجادة قال: كل من لم يرو عنه إلا رجل واحد فهو عندهم مجهول إلا أن يكون رجلاً مشهورا في غير حمل العلم كاشتهار (مالك بن دينار) بالزهد و (عمرو بن معدي كرب)(1)بالنجدة"(2).
وذهب أبو الحسن علي بن عبد الله القطان إلى رفع جهالة الحال عن الراوي بتوثيق أحد أئمة الجرح له . أي أن مجهول العين الذي لم يرو له إلا واحد إذا وثق ذلك الراوي من قبل أحد أئمة الجرح والتعديل كان ذلك التوثيق كافياً عنده في التعريف بحاله(3). وهو نفس ما ذهب إليه ابن حجر فقال بقبول رواية مجهول العين إذا وثقه من ينفرد عنه أن كان متأهلاً لذلك(4).
وعلى هذا الأساس بنى توثيقة لأحمد بن يحيى بن محمد في تهذيب التهذيب فاسمع إليه وهو يقول: قال الذهبي : (أحمد بن يحيى بن محمد لا يعرف ، قلت: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه ، وفي التعريف بحاله توثيقة له)(5).
فمع أن أحمد بن يحيى هذا غير معروف عند العلماء لأنه لم يرو عنه سوى النسائي . فقد عده ابن حجر معروفاً ومعدلاً برواية النسائي وتعديله إياه .
وحكي الفيروزآبادي الشيرازي في كتابه التبصرة عن بعض الشافعية أنهم يعدِّلون من روى عنه الثقة مطلقاً فقال: (إذا روى الثقة عن المجهول لم يدل على عدالته، ومن أصحابنا من قال يدل على عدالته)(6).
وذهب الغزالي إلى أن الثقة إذا روى عن المجهول وكان هذا الثقة لا يروي إلا عن العدول ولا يستجيز نقل الأحاديث الضعيفة عدَّ ذلك تعديلاً منه لمن روى عنه وإلا فلا فقال: (إذا روى المستجمع لخلال التعديل عن شخص واقتصر عليه فهل يجعل ذلك تعديلاً؟! والمختار أن ذلك كالتعديل من مالك ومن كل محدث لا يستجيز نقل الأحاديث الضعيفة وإلا فلا)(7).
وذهب بعض العلماء إلى تعديل من عمل الثقة بموجب حديثه . قال الغزالي وهو يتحدث عما يعد توثيقا للراوي: (أن يعمل بموجب حديث لم ينقله إلا رجل واحد هل يجعل ذلك تعديلاً ؟ فيه خلاف. والمختار أنه أن أمكن حمل عمله على الاحتياط فلا ، وإن لم يمكن حمله فهو كالتعديل لأنه محصل للثقة)(8).
ثالثاً: ما ترتفع به جهالة المبهم:
والمقصود بالمبهم من الرواة من لم يسمّ اسمه كنحو (حدثني رجل) أو (فلان) أو (حدثني الثقة) أو (من لا أتهم) إلى غيرها من الألفاظ التي لا تكشف عن اسم الراوي .
وللعلماء في رفع الجهالة الناتجة عن الإبهام طريقتان:
الأولى: طريقة التنصيص:
وهي أن ما ذكر مبهماً في مكان ذكر صراحة في موضع آخر . وقد ذكر هذه الطريقة ابن حجر في نزهة النظر فذكر أنه يُستَدَلُّ على معرفَةِ اسمِ المُبْهَمِ بوُرودِه مِن طريقٍ أُخرى [ مسمّىً [ فيها ](9).
الثانية: طريقة استقراء منهج الراوي:
ومعناها أن يعرف من خلال الاستقراء أن الراوي الفلاني إذا قال حدثني الثقة مثلاً فإنما يعني به شخصا بعينه . مثاله إذا قال الشافعي: (حدثني الثقة عن الليث بن سعد فالثقة يحيى بن حسان التنيسي البكري)(10).
وإذا قال: (حدثني الثقة عن ابن جريج فمراده بالثقة مسلم بن خالد المخزومي مولاهم)(11).
ويعد هذا النوع من أصعب أنواع الاستكشاف للرواة لأن كل عالم له منهجه وطريقته الخاصة في إيراد ذكر شيوخه .
والأسباب التي تؤدي إلى وقوع الإبهام في الرواة هي:
أن الراوي يهمل ذكر اسم شيخه اختصارا ، إذا كان قد ذكره صريحاً في موضع آخر .
إن الراوي قد يهمل اسم شيخه تدلسياً(12)
8- حكم رواية المجهول
الاعتبار الأول - حكم رواية المجهول باعتبار نوع الجهالة المتعلقة به:
ويمكن معرفة هذه الأحكام من خلال معرفتنا لأنواع الجهالة التي تلحق الراوي . وهي:
1- جهالة العين:
وللعلماء في حكم الراوي الذي جهلت عينه مذاهب وهي:
أولا: ذهب جمهور العلماء إلى عدم قبول رواية مجهول العين مطلقاً وحجتهم أن العدالة شرط في صحة الرواية فمن جهلت عينه جهلت عدالته من باب أولى.
يقول ابن كثير: (فأما المبهم الذي لم يسمّ اسمه أو من سمي ولا تعرف عينه فهذا من لا يقبل روايته أحد علمناه)(13)
وصرح ابن حجر بهذا فقال في اللسان: (إذ المجهول غير محتج به)(14)
ثانيا: ذهب الحنيفة ومن معهم إلى قبول روايته مطلقا لأنهم لم يشترطوا في الرواة مزيداً على الإسلام .
يقول الدكتور فاروق حمادة (وقد قبل هذا النوع مطلقاً من العلماء من لم يشترط في الراوي مزيداً على الإسلام ، وعزاه ابن المواق للحنفية حيث قال: إنهم لم يفصلوا بين من روى عنهم واحد وبين من روى عنه أكثر من واحد ، بل قبلوا رواية المجهول على الإطلاق)(15).
ثالثا: إذا تفرد بالرواية عنه من لا يروي إلا عن ثقة كعبد الرحمن بن مهدي قبلت روايته وإلا فلا:
قال الخطيب: (إذا قال العالم كل من اروي لكم عنه واسميه فهو عدل رضاً مقبول الحديث كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه)(16).
رابعا: ذهب علي بن عبد الله بن القطان إلى أن مجهول العين إذا زكاه مع راويه الواحد أحد أئمة الجرح والتعديل قبلت روايته . وإلا فلا(17).
خامسا: ذهب ابن عبد البر إلى قبول رواية مجهول العين إذا كان مشهوراً بشيء من مكارم الأخلاق من نجدة أو كرم أو ما إلى ذلك من غير العلم . وإلا فلا .(18)قال ابن الصلاح: بلغني عن أبي عمر ابن عبد البر وجادة قال: (كل من لم يرد عنه إلا رجل واحد فهو عندهم مجهول إلا أمور يكون رجلاً مشهوراً في غير حمل العلم واشتهار مالك بن دينار بالزهد وعمرو بن معد مكرب بالنجدة)(19).
2- جهالة الظاهر والباطن:
وللعلماء في قبول رواية من كان مجهول العدالة ظاهراً وباطناً مذاهب يمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: ذهب جمهور المحدثين إلى عدم قبول رواية مجهول العدالة - ظاهراً وباطناً - لأن العدالة - كما قدمنا - شرط في صحة الرواية ، ومن جهلت عدالته في الظاهر والباطن فجماهير العلماء على روايته .
ثانيا: نسب إلى أبي حنيفة وأتباعه قبول روايته مطلقاً اكتفاءً منهم بظاهر الإسلام وعدم ظهور ما يفسق به أنواعها ترد روايته . وقد عقب البلقيني على كلام ابن الصلاح حينما قال: (ومجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً روايته غير مقبولة عند الجماهير)(20)بقوله (فائدة: أبو حنيفة يقبل مثل هذا)(21).
ثالثا: ذهب ابن حجر ومن معه إلى أن مجهول العدالة إن كان من انفرد عنه ممن لا يروي إلا عن ثقة قبلت روايته وإلا فلا(22).
3- جهالة الباطن:
وهي أن يكون الراوي عدلاً في ظاهره ، مجهول العدالة من حيث الباطن . وهو ما يسمى بالمستور عند المحدثين .
وللعلماء في قبول رواية المستور مذاهب يمكن إجمالها فيما يلي:-
أولا: ذهب الجمهور إلى عدم قبول روايته ما لم تثبت عدالته . وهو قول الشافعي . ومبناه أن أمور رواية الراوين عنه تعريف به لا توثيق له وأن قبول الرواية مبني على التوثيق لا على التعريف .(23).
ثانيا: ذهب أبو حنيفة وبعض الشافعية إلى قبول روايته ما لم يعلم الجرح فيه .
قال السيوطي(24): (وروايةُ المَسْتُور, وهو عدل الظَّاهر, خفيُّ البَاطن أي: مجهول العَدَالة باطنًا يحتجُّ بها بعض من ردَّ الأوَّل, وهو قول بعض الشَّافعيين كسليم الرَّازي.
قال: لأنَّ الإخبار مَبْنيٌّ على حُسْن الظَّن بالرَّاوي, ولأنَّ رِوَاية الأخبار تَكُون عند من يتعذَّر عليه معرفة العَدَالة في الباطن, فاقتصر فيها على مَعْرفة ذلك في الظاهر, بخلاف الشَّهادة, فإنَّها تَكُون عند الحُكَّام, فلا يتعذَّر عليهم ذلك.
قال الشَّيخ ابن الصَّلاح(25): ويشبهُ أن يَكُون العمل على هذا الرأي في كثير من كُتب الحديث المشهورة في جَمَاعة من الرُّواة تقادم العهد بهم, وتعذَّرت خبرتهم باطنًا وكذا صحَّحه المُصنِّف في «شرح المُهذَّب».) .
قلت : قال النووي في شرح المهذب(26):
" وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَنْ نَقْبَلُهُ . وَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ , فَإِنْ قُلْنَا : يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ اُشْتُرِطَتْ , وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ , قَالُوا : وَهُمَا جَارِيَانِ فِي رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ , الْحَدِيثَ ( وَالْأَصَحُّ ) قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ , وَكَذَا الْأَصَحُّ قَبُولُ قَوْلِهِ هُنَا وَالصِّيَامُ بِهِ , وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمُتَوَلِّي , "
ثالثا: وذهب إمام الحرمين إلى القول بالتوقف في رواية المستور حتى يتبين حاله فقد قال:
(لا نطلق رد رواية المستور ولا قبولها بل يقال رواية العدل مقبولة ورواية الفاسق مردودة ورواية المستور موقوفة على استبانة حالته)(27).
وقد اختار الحافظ ابن حجر هذا القول وتبناه حينما قال: (والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يطلق القول بردها ولا بقبولها بل هي موقوفة على استبانة حاله)(28).
والخلاصة أن مجهول الحال له صورتان :
الأولى : كون الراوي معروفاً برواية أكثر من واحد عنه .
والثانية : روى عنه واحد ، لكن انضمت إليه قرينة زادت من قدر العلم به ، كمجيء ذكره في خبر لا في إسناد ، أو أن يكون العلم به وبحديثه جاءنا من رواية ثقة عنه لم يعرف بالرواية عن المجروحين ، كإبراهيم النخعي ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجراح .
لكنه مع العلم بوجوده وارتفاع جهالة عينه فإنه لم تثبت أهليته في الحديث .
نعم ، تثبت له العدالة الدينية بذلك ... .
ويطلق على هذا النوع من الرواة وصف : ( مجهول الحال ) ، وربما أطلق بعض علماء الجرح والتعديل وصف : ( مجهول ) ويعنون هذا المعنى ، كما يقع من أبي حاتم الرازي .
ويوصف هذا أيضاً بـ( المستور ) .
وزوال الراوي بجهالة الحال إنما يكون باختبار حديثه وتبين حفظه وإتقانه بذلك ، وهو الطريق الذي سلكه أئمة الحديث للحكم على الرواة ، فإن ثبت حفظه فهو ثقة أو صدوق ، وإن تبين سوء حفظه نزل على ما يناسبه من الأصاف .
وقد لا يتهيأ للناقد تبين حال الراوي إذا كان لم يرو إلا القليل من الحديث ، فيثبت له الوصف بالجهالة الموجبة لرد حديثه ، حتى تندفع عنه شبهة الضعف بالمتابعة.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : سألته عن عطاء العطار ؟ فقال : " روى عنه حماد بن سلمة ، وهشام بن حسان " فقلت : كيف حديثه ؟ فقال : " كم روى ؟ ! شيئاً يسيراً "(29).
وقال ابن عدي في ( عمران بن عبد الله البصري ) : " غير معروف ، وأنكر عليه البخاري الحديث الواحد في التسبيح ، وإذا كان الرجل غير معروف بالروايات ؛ فإنه يقع في حديثه المناكير "(30).
وقال البخاري في ( قيس أبي عمارة الفارسي ) : " فيه نظر "(31)، فقال ابن عدي : " هذا الذي أشار إليه البخاري إنما هو حديث واحد ، وليس الذي يبين من الضعف في الرجل وصدقه إذا كان له حديث واحد "(32).
وقال ابن عدي في ( سلم العلوي ) : " قليل الحديث جداً ، ولا أعلم له جميع ما يروي إلا دون خمسة أو فوقها قليلاً ، وبهذا المقدار لا يعتبر فيه حديثه أنه صدوق أو ضعيف ، ولا سيما إذا لم يكن في مقدار ما يروي متن منكر "(33).
4- جهالة الإبهام:
ويعنى بجهالة الإبهام أن الراوي لم يسمّ وإنما يذكر مبهماً ويأتي على ضربين:-
أولا: إبهام لا يفيد التوثيق:
كأن يقول حدثني رجل ، أو بعضهم ، وحكم رواية المبهم عند العلماء كالأتي:-
1. ذهب جمهور العلماء إلى عدم قبول رواية المبهم (لأن شرط قبول الرواية معرفة عدالة الراوي ، ومن أبهم اسمه لا نعرف عينه فكيف نعرف عدالته وضبطه)(34).
2. لكن إذا وقع الإبهام من رجل آلى على نفسه ألا يحدث إلا عن ثقة وهو ممن يعتد برأيه كعبد الرحمن بن مهدي مثلاً . فإنه يحتج به عند من قال أن جهالة الحال تزول بتوثيق واحد من أئمة الجرح والتعديل . والجمهور على عدم ثبوتها . لما بينه الخطيب حينما قال: (242 أَخْبَرَنَا بُشْرَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّاشِدِيُّ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ , يَقُولُ : " إِذَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ , فَرِوَايَتُهُ حُجَّةٌ , قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَوَّلًا يَتَسَهَّلُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ , ثُمَّ شَدَّدَ بَعْدُ , كَانَ يَرْوِي عَنْ جَابِرٍ يَعْنِي الْجُعْفِيَّ ثُمَّ تَرَكَهُ " وَهَكَذَا إِذَا قَالَ الْعَالِمُ : كُلُّ مَنْ رَوَيْتُ عَنْهُ فَهُوَ ثِقَةٌ وَإِنْ لَمْ أُسَمِّهِ , ثُمَّ رَوَى عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ , فَإِنَّهُ يَكُونُ مُزَكِّيًا لَهُ , غَيْرَ أَنَّا لَا نَعْمَلُ عَلَى تَزْكِيَتِهِ , لِجَوَازِ أَنْ نَعْرِفَهُ إِذَا ذَكَرَهُ بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ , وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمُرْسَلِ مِنَ الْأَخْبَارِ , إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى , فَأَمَّا إِذَا عَمِلَ الْعَالِمُ بِخَبَرِ مَنْ رَوَى عَنْهُ لِأَجْلِهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَعْدِيلًا لَهُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ , لِأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِخَبَرِهِ إِلَّا وَهُوَ رِضًا عِنْدَهُ عَدْلٌ , فَقَامَ عَمَلُهُ بِخَبَرِهِ مَقَامَ قَوْلِهِ : هُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الْخَبَرِ , وَلَوْ عَمِلَ الْعَالِمُ بِخَبَرِ مَنْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ , لَمْ يَكُنْ عَدْلًا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ وَالرُّجُوعُ إِلَى تَعْدِيلِهِ , لِأَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَتْ أَمَانَتُهُ أَنْ يَعْمَلَ بِخَبَرِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ عِنْدَهُ , احْتَمَلَتْ أَمَانَتُهُ أَنْ يُزَكِّيَ وَيُعَدِّلَ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ)(35)(ولأن إضراب المحدث عن تسمية شيخه ريبة توقع تردداً في القلب)(36).
ثانيا: إبهام يفيد التوثيق:
وهو على درجتين: الأول ، أن يقول حدثني الثقة ، أو الحافظ أو نحو ذلك والثانية أن يقول حدثني من لا أتهم . ولا شك أن النمط الأول آكد وأشد في إثبات عدالة من أبهم . لأن قوله (من لا أتهم) لا يحمل من قوة التوثيق ما يحمله الأول .
وللعلماء من رواية من أبهم على التعديل مواقف نجملها فيما يأتي:-
أولا: ذهب الخطيب البغدادي والصيرفي الفقيه وغيرهما إلى أن التعديل على الإبهام لا يجزئ من غير تسمية المعدل .. (وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع ، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف)(37).
ثانيا: نقل عن أبي حنيفة (أن ذلك يكفي تعديلاً للراوي)(38)وهو مبني على أن الموثق مؤتمن على ذلك ، وهو نظير الاحتجاج بالمرسل من جهة أن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف لما حذفه ، فكأنه عدله ، فالقبول في هذه المسألة من باب أولى لأن الإبهام قد دفع بلفظ التوثيق الصريح(39).
ثالثا: أما إذا كان التعديل من قبل رجل لا يروي إلا عن ثقة ، فروايته مقبولة لأنه توثيق صريح لذلك الراوي: وهو عندي أقوى ممن قبل توثيق مجهول الحال برواية من لا يروي إلا عن ثقة . والله أعلم .
المذهب الثاني:موقف العلماء من رواية المجهول بالنظر إلى طبقته .
ومن العلماء من تعامل مع المجاهيل ومروياتهم من جهة قربهم أو بعدهم عن عصر الرسالة .
وبهذا الاعتبار فأنهم صنفوا المجاهيل إلى أربع طبقات ، كل طبقة لها حكمها الخاص بها . وهذه الطبقات هي:-
1- المجاهيل من الصحابة:
والمقصود بالمجهول من الصحابة هو من جهل اسمه أو جهل اشتهاره بالعلم . والعلماء مجمعون على أن الجهالة مرفوعة عن الصحابة لأن عدالتهم ثابتة بتعديل الله تبارك وتعالى لهم.
2- المجاهيل من كبار التابعين وأوساطهم:
وهم الذين تتلمذوا على أيدي الصحابة الكرام فأمثال هؤلاء يقبل حديثهم إذا سلم من المخالفة . قال الذهبي: (وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ)(40).
3.إذا كان من صغار التابعين:-
وأما إذا كان الراوي من صغار التابعين فإن العلماء قالوا في روايته ما يلي:- (وأما إن كان الرجل منهم - أي من المجاهيل - من صغار التابعين فسائغ رواية خبره ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي وتحريه)(41).
4.إذا كان من تابع التابعين فما بعدهم:
وأما أن كان الراوي من تابع التابعين فمن بعدهم فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد به(42)، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد للقرون الثلاثة الأول بالخيرية على سائر الأجيال . فعَنْ أَبِى جَمْرَةَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ - رضى الله عنهما - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خَيْرُ أُمَّتِى قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » . قَالَ عِمْرَانُ فَلاَ أَدْرِى أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا « ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ ، وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يَفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ »(43)ْْ.
المذهب الثالث: حكم رواية المجهول بالنظر إلى وثاقة من يروي عنهم:
ومن العلماء من كان ينظر إلى المجاهيل وحكم مروياتهم من خلال النظر إلى مرتبة من يروي عن أولئك المجاهيل . من حيث الوثاقة والاعتبار . ومن هذا المنظار فان رواية المجاهيل يمكن تصنيفها كالأتي:-
حكم رواية المجهول إذا روى عنه الضعفاء:-
فهؤلاء لم أجد من العلماء من ذهب إلى اعتبار روايته سواء المتشددون منهم أو المتساهلون ، فهذا ابن حبان على الرغم من تساهله في التوثيق فانه يقول: (وأما المجاهيل الذين لم يروِ عنهم إلا الضعفاء فإنهم متروكون على الأحوال كلها)(44)،لأن الضعف قد انتاب روايتهم من طرفين الأول جهالة الراوي والثاني ضعف الناقلين لتلك الرواية .
حكم رواية المجهول إذا روى عنه المشهورون:
أما إذا روى عن المجهول أناس عدول أو مشهورون فإن للعلماء في قبول روايته مذاهب قدمناها آنفاً عند حديثنا على رواية مجهول الحال .
3. حكم رواية المجهول إذا روى الإثبات عنه:
أما إذا انفرد الثقات الإثبات بالرواية عن ذلك المجهول فإن حكم روايته عند العلماء كما يلي:-
1.ذهب جمهور العلماء إلى عدم قبول روايته حتى تثبت عدالته لجواز أن يروي الثقة عمن ليس بثقة ظناً منه أنه ثقة . وهو مبني على أن رواية الثقة عن غيره ليست توثيقاً له(45).
2.مذهب من يرى أن رواية الثقة عن غيره تعديل له أن من روى عن المجهول وهو ثقة قبلت روايته عنه .
يقول الدكتور فاروق حمادة (وهذا في الحقيقة لازم لكن من ذهب إلى أن رواية العدل بمجردها تعديل له ، بل عزاه النووي في مقدمة شرحه على مسلم لكثير من المحققين وكذلك محمد بن اسحق بن خزيمة ذهب إلى أن جهالة العين ترتفع براو واحد مشهور واليه يومئ قول ابن حبان: العدل من لم يعرف فيه جرح فمن لم يجرح فهو عدل حتى يثبت جرحه)(46).
وصرح ابن حبان بهذا وهو يتكلم عن منهجه في ثبوت العدالة فقال: (إذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة ولم يأت بحديث منكر فهو ثقة)(47).
8- جهالة الراوي سببٌّ لردِّ حديثه
الجهالة سبب لرد حديث الراوي ، ما لم تثبت استقامة حديثه ذلك .
وهذا قديم عند أهل العلم أنهم لا يحتجون بحديث المجهول .
قال عبد الله بن عون : " لا نكتب الحديث إلا ممن كان عندنا معروفاً بالطلب "(48).
__________
(1) - -لا يصح التمثيل هنا عمرو بن معدي كرب . لأنه صحابي وترجمته في الإصابة (4 /691 ). ومعلوم أن الصحابي لا يضر إبهامه فكيف إذا عرف اسمه .
(2) - -مقدمة ابن الصلاح/ 496 .
(3) - -فتح المغيث/ 1/317 .
(4) - -نزهة النظر/ 50 .
(5) - -تهذيب التهذيب 1/77 .
(6) - -التبصرة/ الفيروز آبادي الشيرازي/ 339 .
(7) - -المنخول/ الغزالي 264 .
(8) - -المنخول/ 264 .
(9) - -نزهة النظر/ 49 .
(10) - (1) -تقريب التهذيب/ابن حجر/ 589 .
(11) - -المصدر السابق/ 529 .
(12) - انظر جرح الرواة وتعديلهم - (ج 7 / ص 17)
(13) - -اختصار علوم الحديث/ابن كثير 81 وانظر الموجز 157 والجرح والتعديل (بحث في الرسالة الإسلامية/ د. حارث سليمان الضاري 83-84 .
(14) - -لسان الميزان لابن حجر 1/4 .
(15) - -المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل/ فاروق حمادة ص 306 .
(16) - -الغاية/ 115 .
(17) - -نزهة النظر/ 50 .
(18) - -فتح المغيث 1/316 .
(19) - -مقدمة ابن الصلاح/ 496 .
(20) - -مقدمة ابن الصلاح 225 .
(21) - -محاسن الإصلاح/ هامش مقدمة ابن الصلاح/ للبلقيني 225 .
(22) - -انظر الكفاية 115 ، والخلاصة في أصول الحديث/ للطبي 93 ، وقواعد في علوم الحديث/ التهانوي 203 ، وعلوم الحديث ونصوص من الأثر/ 75 .
(23) - -مقدمة ابن الصلاح/ 225 ، وتدريب الراوي 1/316-317 .
(24) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 247)
(25) - -مقدمة ابن الصلاح/ 225 .
(26) - المجموع شرح المهذب - (ج 6 / ص 277)
(27) - -البرهان في أصول الفقه/ الجويني 1/615 .
(28) - -نزهة النظر/ ابن حجر 50 .
(29) - العلل ومعرفة الرجال ، لأحمد بن حنبل ( النص : 786 ) .
(30) - الكامل ( 6 / 173 ) .
(31) - التاريخ الأوسط ( 2 / 108 ) .
(32) - الكامل ( 7 / 171 ) .
(33) - الكامل ( 4 / 352 ) .
(34) - -المصدر السابق/ 49 .
(35) - -الكفاية/ 115 .
(36) - -مقدمة ابن الصلاح/ 224 .
(37) - -مقدمة ابن الصلاح/ 224 .
(38) - -فتح المغيث/ 1/308 ، إرشاد الفحول/ 67 .
(39) - -انظر ضوابط الجرح والتعديل/ 77 .
(40) - -ديوان الضعفاء والمتروكين/ الذهبي 374 .
(41) - -المصدر السابق 374 .
(42) - -المغني في الضعفاء/ المقدمة 1/ك .
(43) - صحيح البخارى(3650 )
(44) - -لسان الميزان 1/14 .
(45) - -الكفاية/ 112 .
(46) - -المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل/ د. فاروق حمادة/ 306 .
(47) - -الصحيح/ لابن حبان 1/115 .
(48) - أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 1 / 1 / 28 ) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " ( ص : 405 ) وابنُ عدي ( 1 / 257 ) والخطيب في " الكفاية " ( ص : 251 ) من طريق إبراهيم بن المنذر الحِزامي ، قال : سمعت أيوب بن واصل يقول : سمعت عبد الله بنَ عون ، به . وإسناده حسن .(1/223)
وقال الشافعي : " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ طَلَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَعَ مُخْبِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُخْبِرًا آخَرَ غَيْرَهُ ، قِيلَ لَهُ : إِنَّ قَبُولَ عُمَرَ خَبَرَ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مَعَ مُخْبِرٍ مُخْبِرًا غَيْرَهُ إِلَّا اسْتِظْهَارًا ، لَا أَنَّ الْحُجَّةَ تَقُومُ عِنْدَهُ بِوَاحِدٍ مَرَّةً وَلَا تَقُومُ أُخْرَى ، وَقَدْ يَسْتَظْهِرُ الْحَاكِمُ فَيَسْأَلُ الرَّجُلَ قَدْ شَهِدَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّاهِدَانِ الْعَدْلَانِ زِيَادَةَ شُهُودٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَبِلَ الشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنْ فَعَلَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ جَهِلَ الْمُخْبِرَ ، وَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ مَنْ جَهِلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَا نَقْبَلُ خَبَرَ مِنْ جَهِلْنَاهُ ، وَمَنْ لَمْ نَعْرِفْهُ بِالصِّدْقِ وَعَمَلِ الْخَيْرِ . "(1).
وقال : " قَالَ الشَّافِعِيُّ : كَانَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ , وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ , يَذْهَبُونَ إِلَى أَنْ لَا يَقْبَلُوا الْحَدِيثَ إِلَّا عَمَّنْ عَرَفَ وَحَفِظَ , وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يُخَالِفُ هَذَا الْمَذْهَبَ , وَكَانَ طَاوُسٌ إِذَا حَدَّثَهُ رَجُلٌ حَدِيثًا , قَالَ : إِنْ كَانَ حَدَّثَكَ حَافَظٌ مَلِيُّ وَإِلَّا فَلَا تُحَدِّثْ عَنْهُ "(2).
وقال البيهقي : " لا يجوز الاحتجاج بأخبار المجهولين "(3).
وقال الذهبي : " لا حجة فيمن ليس بمعروف العدالة ، ولا انتفت عنه الجهالة "(4).
وقال ابن رجب : " ظاهر كلام الإمام أحمد أن خبر مجهول الحال لا يصح ولا يحتج به "(5).
قلت : وقد جرح الأئمة بالجهالة ، وردوا بها الكثير من الحديث .
فمن أمثلته ( هبيرة بن يريم الشيباني ) ، تابعي تفرد بالرواية عنه أبو إسحاق السبيعي ، قال ابن أبي حاتم الرازي : سألت أبي عنه قلت : يحتج بحديثه ؟ قال : " لا ، هو شيبه بالمجهولين "(6).
وهذا ابن عدي أدخل في المجروحين جماعة من المجهولين كانت حجته تعود تارة إلى نكارة حديثهم ، وتارة إلى قلة الرواية بحيث لا يتبين من مقدارها استقامة ما رووا ، فمن كلامه :
قوله في ( إبراهيم بن عبد السلام المخزومي ) : " ليس بمعروف ، حدث بالمناكير ، وعندي أنه يسرق الحديث "(7).
وقوله في ( إبراهيم بن هانئ ) شيخ لبقية بن الوليد : " ليس بالمعروف ، يحدث عنه بقية ، ويحدث إبراهيم هذا عن ابن جريج بالبواطيل "(8).
وقوله في ( إبراهيم بن عبد الرحمن الخوارزمي ) : " ليس بمعروف ، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة "(9).
وقوله في ( بشير بن زياد الخراساني ) : " غير مشهور ، في حديثه بعض النكرة " وقال : " ليس بالمعروف ، إلا أنه يروي عن المعروفين ما لا يتابعه أحد عليه ، ولم أجد أحداً يروي عنه غير إسماعيل بن عبد الله بن زرارة "(10).
وقوله في ( بكر بن يزيد المدني ) : " ليس بمعروف ، ولا أعلم يروي عنه غير القعنبي(11)، وهو مجهول من أهل المدينة ، والقعنبي أصله من المدينة سكن البصرة ، ويروي عن قوم من أهل المدينة غير معروفين ، لا يروي عنهم غيره "(12).
وقال مثل هذا في ( بهلول بن راشد )(13)، و ( سليمان بن أبي خالد البزار )(14)، و ( سليط بن مسلم )(15), و ( عبد الله بن سليمان )(16)، وهؤلاء جميعاً روى عنهم القعنبي .
وقوله في ( تمام بن بزيع السعدي ) : " ليس بالمعروف ، ولا يحدث عنه من البصريين غير محمد بن أبي بكر المقدمي ، وهو قليل الحديث "(17).
وقوله في ( الحسن بن عبد الله الثقفي ) : " ليس بمعروف ، منكر الحديث " ، وقال بعد أن ذكر له حديثين : " وهذان الحديثان بهذا الإسناد منكران ، ولا أعلم أنّ للحسن بن عبد الله الثقفي غيرهما ، وإن كان للحسن رواية غير ما ذكرته يكون مثل ما ذكرته في الإنكار "(18).
وقوله في ( محمد بن عباد بن سعد ) شيخ لمعن بن عيسى : " ليس بالمعروف ، ومعن يحدث عن قوم ٍ من أهل المدينة ليسوا هم بمعروفين "(19).
وكذلك صنع العقيلي ، فمن كلامه في جماعة من المجهولين :
قوله في ( إياس بن أبي إياس ) : " مجهول ، حديثه غير محفوظ "(20).
وقوله في ( إبراهيم بن زكريا الواسطي ) : " مجهول ، وحديثه خطأ "(21).
وقوله في ( إبراهيم بن عبد الرحمن الجبلي ) : " ليس بمعروف في النقل ، والحديث غير محفوظ "(22).
وقوله في ( بلهط بن عباد ) : " مجهول في الرواية ، حديثه غير محفوظ ، ولا يتابع عليه "(23).
وقوله في ( الحسن بن علي الهمداني ) : " مجهول ، لا يتابع على حديثه ، ولا يعرف إلا به "(24).
وهكذا رأيت من صنيع ابن حبان ، لكن على خطته فيمن لم يرو عنه إلا مجروح ، فمن كلامه :
قوله في ( عبد الله بن أبي ليلى الأنصاري ) ، وذكر له أثراً عن علي بن أبي طالب : " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة " : " هذا شيء لا أصل له عن علي ، .. وابن أبي ليلى هذا رجل مجهول ، ما أعلم له شيئاً يرويه عن علي غير هذا الحرف المنكر الذي يشهد إجماع المسلمين قاطبة ببطلانه .. "(25).
وقوله في ( عبد الله بن زياد سليم القرشي ) : " شيخ مجهول ، يروي عن عكرمة ، روى عنه بقية بن الوليد ، لست أحفظ له راوياً غير بقية " وذكر له من تفرده ما لا يحتمل(26).
وقوله في رجل يقال له : ( أبو زيد ) : " يروي عن ابن مسعود ما لم يتابع عليه ، ليس يدري من هو ، لا يعرف أبوه ولا بلده ، والإنسان إذا كان بهذا النعت ثم لم يرو إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس والنظر والرأي يستحق مجانبته فيها ، ولا يحتج به " ، وذكر له حديثاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بالنبيذ(27).
وكذلك الشأن عند الدار قطني ، فجرح جماعة بقوله في أحدهم : " مجهول يترك " أو " مجهول متروك " .
قال ذلك في : إسحاق بن عمر ، يروي عن عائشة(28)، وفي : علي بن أبي فاطمة ، يحدث عن يونس بن بكير(29)، وفي : عمرو بن أبي نعيمة المعافري(30)، وحابس اليماني ، يروي عن أبي بكر الصديق(31)وفي : يزيد بن زيد مولى أبي أسيد البدري(32)، وفي : أبي مريم الثقفي ، يروي عن عمار بن ياسر(33).
وهذا الذي ذكرت يوضح منهجاً مشتركاً عند هؤلاء الأئمة ، هو : أن الراوي يكون مجهولاً ويأتي بالحديث بما لا يعرف وجهه إلا من طريقه ، ولكون الشبهة في ضعفه قد قويت من جهة ما تفرد به إسناداً أو متناً أو كليهما ، فقد صار في عداد المجروحين .
ولا يلحق بالثقات إلا من ثبت تحديثه بالمحفوظ من الحديث دون غيره من أولئك المجهولين .
9- القول في رواية المستور
وقال الزركشيُّ رحمه الله(34):
"الثَّانِي : الْمَجْهُولُ بَاطِنًا وَهُوَ عَدْلٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَهُوَ الْمَسْتُورُ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يُعْلَمْ الْجَرْحُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ تُعْلَمْ الْعَدَالَةُ كَالشَّهَادَةِ ، وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ عَنْ جَزْمِ الشَّافِعِيُّ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ ، وَنَقَلَهُ إلْكِيَا عَنْ الْأَكْثَرِينَ ، وَنَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ : نُصَّ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْمَسْتُورِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ كَالْعَدْلِ ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الشَّهَادَةِ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ فِي أَدَبِ الْجَدَلِ " : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ عَلَى قَوْلِهِ : لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَإِنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى جَهَالَةِ الْحَالِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ خَصْمًا يُطَالِبُ بِالْعَدَالَةِ ، فَجَازَ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ إذَا تَرَكَ الْخَصْمُ حَقَّهُ ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ كَمَا قُلْنَا بِالِاتِّفَاقِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ .
وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ ، كَمَا رَأَيْت ، نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ " ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ مَبْنِيٌّ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي ، وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ ، فَاقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ ، وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَالَةُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ ، وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ ،وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَنْ عُرِفَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ ، وَسَنَذْكُرُهُ .
قُلْتُ : وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا مَا سَبَقَ عَنْهُمْ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ ، حَيْثُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْعَدَالَةُ ، وَأَمَّا الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقْبَلُ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " : الْمَجْهُولُ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ نَقَلَ عَنْهُ السَّلَفُ ، وَعَمِلُوا بِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَيُعْمَلْ بِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ اهـ.
وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ فِي كِتَابِ " الثِّقَاتِ " أَنْ يُوَثِّقَ مَنْ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ التَّابِعِينَ .
قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : اسْتَقْرَيْت ذَلِكَ مِنْهُ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَصْرِ ، مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِي التَّضْعِيفَ ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : يُوقَفُ ، وَيَجِبُ الِانْكِفَافُ إذَا رُوِيَ التَّحْرِيمُ إلَى الظُّهُورِ فَتَحَصَّلْنَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ .
وَأَطْلَقَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " تَصْحِيحَ قَبُولِ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ ، وَرُبَّمَا أَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِمَسْتُورِي الْعَدَالَةِ ، فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ ، وَقَالَ : قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ إنَّمَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ ، لَا مَنْزِلَةَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يُقْضَى فِيهِ عِنْدَ التَّجَاحُدِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورٍ ، فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَشْهُورِ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " : إنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ اعْتَقَدَ أَنَّ شُهُودَ النِّكَاحِ عُدُولٌ فِي ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَاقَضَ مَا قَالَهُ فِي حَدِّ الْعَدَالَةِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ وَمُعْظَمُهَا ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ عَدَالَةً فَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ قَوْلِهِ .انْتَهَى .
وَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ ، وَأَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمَجْهُولُ ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالْمَاوَرْدِيُّ ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَسْتُورِ مَنْ يَكُونُ عَدْلًا فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ بَاطِنًا ، قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ تَبَعًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ " أَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ هِيَ الَّتِي تَرْجِعُ فِيهَا الْقُضَاةُ إلَى قَوْلِ الْمُزَكِّينَ ، وَسَبَقَ عَنِ النَّصِّ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُهُ .
وَفَسَّرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَسْتُورَ بِاَلَّذِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ نَقِيضُ الْعَدَالَةِ ، وَلَمْ يَبْقَ الْبَحْثُ عَلَى الْبَاطِنِ فِي عَدَالَتِهِ ، وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ الِاسْتِقَامَةُ بِلُزُومِ أَدَاءِ أَوَامِرِ اللَّهِ ، وَتَجَنُّبِ مَنَاهِيهِ وَمَا يَثْلِمُ مُرُوءَتَهُ ، أَيْ سَوَاءٌ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَمْ لَا .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يَكْفِيهِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ ، حَتَّى يَتَوَقَّى مَعَ ذَلِكَ لِمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً كَالضَّرْبِ الْخَفِيفِ ، وَتَطْفِيفِ الدَّانِقِ وَنَحْوِهِ .
الثَّالِثُ : مَجْهُولُ الْعَيْنِ ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا رَاوٍ وَاحِدٌ ، فَالصَّحِيحُ لَا يُقْبَلُ ، وَقِيلَ : يُقْبَلُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الرَّاوِي مَزِيدًا عَلَى الْإِسْلَامِ .
وَقِيلَ : إنْ كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ كَابْنِ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، فَاكْتَفَيْنَا فِي التَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا ، وَقِيلَ : إنْ كَانَ مَشْهُورًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ بِالزُّهْدِ وَالنَّجْدَةِ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَقِيلَ : إنْ زَكَّاهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مَعَ رِوَايَتِهِ وَأَخَذَهُ عَنْهُ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ ، صَاحِبِ كِتَابِ " الْوَهْمِ وَالْإِيهَامِ " .
قَالَ الْخَطِيبُ : وَأَقَلُّ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْعَدَالَةِ بِرِوَايَتِهِمَا عَنْهُ ، وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِ .
قُلْتُ : وَظَاهِرُ تَصَرُّفِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ثِقَاتِهِ وَصَحِيحِهِ : " " ارْتِفَاعُ الْجَهَالَةِ بِرِوَايَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّسَائِيّ أَيْضًا ، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ : ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا رَوَى عَنْهُ وَاحِدٌ فَقَطْ فَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَإِذَا رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مَعْلُومٌ انْتَفَتْ عَنْهُ الْجَهَالَةُ .
قَالَ : وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأُصُولِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الْجَمَاعَةُ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَعْرِفُونَ ، وَلَا يُخْبِرُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ ، وَيُحَدِّثُونَ بِمَا رَوَوْا عَنْهُ ، وَلَا تُخْرِجُهُ رِوَايَتُهُمْ عَنْهُ عَنِ الْجَهَالَةِ إذَا لَمْ يَعْرِفُوا عَدَالَتَهُ .
قُلْت : مُرَادُ الْمُحَدِّثِينَ ارْتِفَاعُ جَهَالَةِ الْعَيْنِ لَا الْحَالِ ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ رِوَايَةَ الِاثْنَيْنِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْجَمَةِ فِي الشَّهَادَةِ ."
--------------
قلتُ :
ورواية مستور الحال يحتجُّ بها لدى طائفةٍ معتبرةٍ من العلماء ، قال الحافظ السيوطي في تدريب الراوي(35):
"وروايةُ المَسْتُور, وهو عدل الظَّاهر, خفيُّ البَاطن أي: مجهول العَدَالة باطنًا يحتجُّ بها بعض من ردَّ الأوَّل, وهو قول بعض الشَّافعيين كسليم الرَّازي.
قال: لأنَّ الإخبار مَبْنيٌّ على حُسْن الظَّن بالرَّاوي, ولأنَّ رِوَاية الأخبار تَكُون عند من يتعذَّر عليه معرفة العَدَالة في الباطن, فاقتصر فيها على مَعْرفة ذلك في الظاهر, بخلاف الشَّهادة, فإنَّها تَكُون عند الحُكَّام, فلا يتعذَّر عليهم ذلك[قال الشَّيخ ابن الصَّلاح(36): ويشبهُ أن يَكُون العمل على هذا الرأي في كثير من كُتب الحديث المشهورة في جَمَاعة من الرُّواة تقادم العهد بهم, وتعذَّرت خبرتهم باطنًا وكذا صحَّحه المُصنِّف في «شرح المُهذَّب».
10- أصولٌ في الراوي المجهول
الأصل الأول : مجاهيل التابعين أرفع ممن بعدهم لندرة الكذب يومئذ .
هذا الأصل بالنظر إلى ندرة ما ينكر من أحاديث من أحاديث تلك الطبقة ، على أن هذا لا يدل على قبول حديث من كان كذلك منهم ، إنما المقصود تفاوت أثر النعت بالجهالة فيما بينهم وبين من بعدهم .
وقال الشافعي : " أَخْبَرَنَا عَمِّي ، مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ : " إِنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَأَسْتَحْسِنُهُ فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذِكْرِهِ إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَسْمَعَهُ مِنِّي سَامِعٌ فَيَقْتَدِي بِهِ . أَسْمَعُهُ مِنَ الرَّجُلِ لَا أَثِقُ بِهِ قَدْ حَدَّثَهُ عَمَّنْ أَثِقُ بِهِ ، وَأَسْمَعُهُ مِنَ الرَّجُلِ أَثِقُ بِهِ قَدْ حَدَّثَهُ عَمَّنْ لَا أَثِقُ بِهِ " . وَقَالَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : " لَا يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا الثِّقَاتُ "(37)
قال ابن عبد البر : " في خبر عروة هذا دليل على أن ذلك الزمان كان يحدث فيه الثقة وغير الثقة "(38).
وهكذا جاء عن غير واحد من التابعين أنهم لم يكونوا يقبلون الحديث إلا عمن ثبت عندهم أنه ثقة .
قال الشافعي : " وما زال أهل الحديث في القديم والحديث يثبتون فلا يقبلون الرواية التي يحتجون بها ويحلون بها يحرمون بها إلا عمن أمنوا "(39).
لكن لو قارنت بين مجاهيل التابعين والمجاهيل بعدهم ، وجدت أكثر من بقي له نعت الجهالة فيمن بعدهم قد روي عنه من الحديث ما عدت الآفة فيه منه ، كشيوخ بقية بن الوليد وغيره ممن كانوا يروون عن المجهولين الأحاديث المنكرة .
وفي علل الحديث لابن أبي حاتم (180) وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ بَقِيَّةُ ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ الأَنْمَارِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عُثْمَانَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَخَلَّلَ لِحْيَتَهُ فَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ ، وَأَبُو سُفْيَانَ الأَنْمَارِيُّ مَجْهُولٌ ".(40)
قلتُ : الأنماري هذا من طبقة أتباع التابعين ، أتى بهذا الإسناد النظيف الذي لا يعرف عن غيره ، فلظهور نكارة الإسناد والجزم بكونه باطلاً أن يروي به هذا الحديث ، حمل هذا المجهول تبعته .
الأصل الثاني : المجهولات من النساء .
يقلُّ في النساء من روين الحديث ويقلُّ فيمن رواه منهن من عرفن ، ومن عرفن فقد عرفن بالثقة ، وندرَ في النساء من جرحت بسبب من أسباب الجرح المتقدمة ، لكن أكثرهن مجهولات .
وأكثر من ذكرن بالرواية منهن كن من الطبقات المتقدمة ، من الصحابيات ومن قرب من عهدهن .
ولعل ما ذكرت من غلبة الجهالة على النساء أنهم لم يكونوا يرغبون في الرواية عنهن ؛ لأنها رواية عن المجهولات .
قال أبو هاشم الرماني : " كانوا يكرهون الرواية عن النساء ، إلا عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - "(41).
__________
(1) - اختلاف الحديث ( ص : 45 ) . و معرفة السنن والآثار (10)
(2) - الأم ( 12 / 369 ) .
(3) - الخلافيات ( 2 / 178 - 179 ) .
(4) - ميزان الاعتدال ( 2 / 234 ) .
(5) - شرح علل الترمذي ( 1 / 347 ) .
(6) - الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم ( 4 / 109 - 110 )
قلت : قد روى عنه اثنان ووثقه عدة والصواب أنه حسن الحديث يحتج به انظر: تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 570 ](7268) الكاشف[ ج 2 - ص 334 ](5941 ) والثقات لابن حبان[ ج 5 - ص 511 ] (5989) والثقات للعجلي[ ج 2 - ص 325 ] (1885) والكامل في الضعفاء[ ج 7 - ص 133 ] 2049 )
(7) - الكامل في ضعفاء الرجال ( 1 / 419 ) .
(8) - الكامل ( 1 / 421 ) .
(9) - الكامل ( 1 / 422 ) .
(10) - الكامل ( 2 / 183 ) .
(11) - هوَ عبد الله بن مسلمة القعنبي .
(12) - الكامل ( 2 / 201 ) .
(13) - الكامل ( 2 / 251 ) .
(14) - الكامل ( 4 / 295 ) .
(15) - الكامل ( 4 / 549 ) .
(16) - الكامل ( 5 / 430 ) .
(17) - الكامل ( 2 / 279 ) .
(18) - الكامل ( 3 / 167 - 168 ) .
(19) - الكامل ( 7 / 478 ) .
(20) - الضعفاء ، للعُقيلي ( 1 / 35 ) .
(21) - الضعفاء ( 1 / 53 ) .
(22) - الضعفاء ( 1 / 56 ) .
(23) - الضعفاء ( 1 / 166 ) .
(24) - الضعفاء ( 1 / 235 ) .
(25) - المجروحين ، لابن حبان ( 2 / 5 ) .
(26) - المجروحين ( 2 / 17 ) .
(27) - المجروحين ( 3 / 158 ) .
(28) - سؤالات البرقاني ( النص : 28 ) .
(29) - سؤالات البرقاني ( النص : 367 ) .
(30) - سؤالات البرقاني ( النص : 372 ) .
(31) - سؤالات البرقاني ( النص : 112 ) .
(32) - سؤالات البرقاني ( النص : 551 ) .
(33) - سؤالات البرقاني ( النص : 587 ) .
(34) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 340) فما بعدها
(35) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 247)
(36) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 21)
(37) - تأويل مختلف الحديث (1469 ) وأخرجه الشافعي في " الأم " ( 12 / 368 ) ومن طريقه : الخطيب في " الكفاية " ( ص : 73 ، 210 ) وابنُ عبد البر في " التمهيد " ( 1 / 38 ، 39 ) وإسناده صحيح .
(38) - التمهيد ( 1 / 39 ) .
(39) - الأم ( 12 / 368 ) .
(40) - قلت : قد صح الحديث من طرق انظرها في البدر المنير - (ج 2 / ص 188)
(41) - أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " ( النص : 4956 ) بإسنادٍ صحيح ، وأبو هاشم هذا ثقةٌ فقيه يروي عن التابعين .(1/224)
وقال شعبة بن الحجاج : " كنت إذا أتيت الكوفة يسألني الأعمش عن حديث قتادة ، فقلت له يوماً : حدثنا قتادة عن معاذة ، قال : عن امرأة ؟ ! اغرب ، اغرب ! "(1).
وقال أبو الحسن ابن القطان : " أحاديث النساء متقاة محذور منها قديماً من أئمة هذا الشأن ، إلا المعلومات منهن الثقات ، فأما هؤلاء الخاملات القليلات العلم ، اللاتي إنما اتفق لهن أن روين أحاديث آبائهن أو أمهاتهن أو إخوانهن أو أخواتهن أو أقربائهن بالجملة .. فإن الغالب في هؤلاء أنهن من المستورات كمساتير الرجال ، فأما مثل عمرة بنت عبد الرحمن وعائشة بنت طلحة وصفية بنت شيبة وأشباههن من ثقاتهن ، فلا ريب في وجوب قبل روايتهن "(2).
وعقد الذهبي في أواخر كتابه " ميزان الاعتدال " فصلاً قال فيه : " فصل في النسوة المجهولات ، وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها "(3).
قلتُ : وهذا يدل على خفة تأثير ذلك في حديثهن .
الأصل الثالث : قول الراوي : ( حدثني الثقة ) أو : ( حدثني من لا أتهم ) ولا يسمِّي ذلك الشيخ ، فهل يعتدُّ بهذا التعديل ؟
عدم تسمية الراوي ، أو عدم ذكر ما يتميز به شخصه ، فيمن دون الصحابة من الرواة ، لا يرفع من أمره شيئاً أن يقول الراوي عنه : ( حدثني الثقة ) أو : ( حدثني من لا أتهم ) ، حتى وإن كان ذلك الراوي معدوداً فيمن يميز النقلة .
وذلك أنا نعلم أن النقاد يختلفون في النقلة ، فربما لو سمى ذلك الراوي شيخه لكن مجروحاً بقادح عند غيره من أئمة الحديث .
قال العلائي : " والذي عليه أكثر المحققين : أنه لا يكتفى بقول الراوي : حدثني الثقة ، من غير ذكر اسمه ، فإنه إذا صرح باسمه وعرفناه زال ذلك الاحتمال إذا لم يظهر فيه جرح بعد البحث "(4).
بل إن عدوله عن تسميته شبهة في أنه ربما علم أنه لو سمَّاه لرد أهل العلم روايته .
ومن أمثلة قول الناقد : قول الشافعي : " أخبرنا الثقة عن فلان " ويسمي شيخ ذلك الثقة عنده .
فالشافعي ممن له دراية بالنقلة ، لكنا لا نقبل منه قوله في شيخه المبهم : " الثقة " دون أن يسميه ، فإنه روى عن بعض الشيوخ المجروحين ، ومن أبرزهم إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي ، وهو متروك عند سائر كبار النقاد ، ومعروف أن الشافعي كان يوثقه .
أما ما جاء عن بعض أهل العلم في تعيين المراد ببعض من أرادهم الشافعي بذلك ، فذلك مما لا يمكن القطع به ، بل الظاهر أنه أجري على مجرد الاحتمال .
وذلك مثل ما حكى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : " جميع ما حدث به الشافعي في كتابه فقال : حدثني الثقة ، أو : أخبرني الثقة ، فهو أبي "(5).
فهذا حصر غير دقيق ، بل حدَّث الشافعيُّ عن الثقة عنده عن جماعة من الرواة لم يدركهم أحمد بن حنبل ، مثل : عطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وابن شهاب الزهري ، وحميد الطويل ويحيى بن أبي كثير ويونس بن عبيد ، وأيوب السختياني ، وهشام بن عروة ، وسفيان الثوري ، وغيرهم .
نعم ، حدث عن الثقة عنده عن جرير بن عبد الحميد ، وإسماعيل بن علية ، وهذان من شيوخ أحمد .
وحاول بعض أهل العلم أن يبسط ذلك ، فذكر أن قول الشافعي : " عن الثقة عن الليث بن سعد " هو يحيى بن حسان ، و" عن الثقة عن أسامة بن زيد " هو إبراهيم بن أبي يحيى ، و" عن الثقة عن حميد الطويل " هو إسماعيل بن علية ، و" عن الثقة عن معمر " هو مطرف بن مازن ، و" عن الثقة عن الوليد بن كثير " هو أبو أسامة حماد بن أسامة ، و" عن الثقة عن الزهري" هو سفيان بن عيينة(6).
وهذا إضافة إلى كونه لم يستغرق كل من قاله فيه الشافعي : " عن الثقة " ، فهو مقول بالظن ، ويبدو أن مستنده يرجع إلى تفقده من عرف بالرواية عن ذلك الشيخ ممن أدركهم الشافعي وأخذ عنهم ، وهذا لا يصح أن يكون مقياساً لتعيين هؤلاء .
ثم رأيت أن فيهم من هو ثقة كابن علية وأبي أسامة ، وفيهم من هو مجروح كابن أبي يحيى ومطرف بن مازن .
فالصواب من القول : أن هذه العبارة من الشافعي لا ترتفع من شأن ذلك الراوي ، بل أمره باق على الجهالة ، وكأن قوله : " أخبرنا الثقة " بمنزلة قوله : " أخبرنا رجل " .
ومالك بن أنس أعرف بالحديث ورجاله من الشافعي ، واستعمل هذه الصيغة في مواضع من " الموطأ " ، وكذلك اجتهد بعض العلماء لتمييز المراد(7)، وليس في ذلك شيء يقطع به ، إلا أن يراد الحديث ذاته من طريق أخرى صحيحة إلى مالك يصرح فيها باسم ذلك المبهم .
ومن أمثلة قول الراوي الثقة الذي لا يعد فيمن يعتمد قوله في الرجال : قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي : " حدثني من لا أتهم " ، فإنه جاء بأخبار كثيرة في السير يرويها بمثل هذه الصيغة ، ومعروف أن ابن إسحاق يروي عن المجهولين والمتروكين(8)وليس معدوداً فيمن يميز المتقنين من النقلة من غيرهم ، وإذا كنا لم نعتدَّ بمثل ذلك القول من الشافعي ، فكيف يغني شيئاً من مثل ابن إسحاق ؟!
والقول بترك الاعتماد على مثل هذا التعديل المبهم هو الذي رجحه الخطيب من أئمة الحديث(9)وأبو بكر الصيرفي من أئمة الأصول ، وذلك خلافاً لإمام الحرمين ومن تبعه(10).
الأصل الرابع : قول الناقد في الراوي : " لا أعرفه " .
وقع استعمال هذا اللفظ بمعنى : " مجهول " في كلام كثير من نقاد المحدثين ، ومن أكثرهم استعمالاً له في المجاهيل : الإمامان يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي .
لكن ينبغي أن تعلم أن تلك الجهالة إنما هي بالنسبة إلى علم ذلك الناقد ، لا مطلقاً ، فإن خفاء حال الراوي على ناقد وإن كان ذلك الناقد كيحيى بن معين ، لا يلزم منه أن يكون مجهولاً عند غيره ، فابن معين إنما يخبر عن علمه .
مثال ذلك أنه سئل عن ( إبراهيم بن محمد الشافعي ) فقال : " لا أعرفه ، زعموا أنه ليس به بأس "(11).
كذا قال يحيى ، والرجل مشهور بالعلم ، روى عنه كثيرون ، وكان ثقة ، وإنما يبلغ يحيى من أمره ما يمكنه من الحكم على شخصه ، فقال : " لا أعرفه " .
وقد يعرف حديثه ويميزه فيثني عليه فيه ، لكنه لا يدري من يكون ذلك الراوي .
نقل عبد الخالق بن منصور قال : سألت يحيى بن معين عن ( حاجب ، يعني ابن الوليد ) فقال : " لا أعرفه ، وأما أحاديثه فصحيحة " ، فقلت : ترى أن أكتب عنه ؟ فقال : " ما أعرفه ، وهو صحيح الحديث ، وأنت أعلم "(12).
ويشبه أن يكون الخطيب بنى على ذلك ، فقال في ( حاجب ) : " كان ثقة " .
وقال أبو داود السجستاني في ( العلاء بن خالد الأسدي ) : " ما عندي من علمه شيء ، أرجو أن يكون ثقة "(13).
والرجل صدوق جيد الحديث .
وما فسر به بعض العلماء قول يحيى بن معين في بعض المواضع : " لا أعرفه " بكون ذلك الراوي ( مجهولاً ) ، فهو صحيح بحسب ما وافق من حال ذلك الراوي ، حيث اجتمعت فيه أسباب الوصف بالجهالة .
وذلك كقول يحيى في ( محمد بن عباد بن سعد ) : " لا أعرفه " ، فقال ابن أبي حاتم : " يعني لأنه مجهول "(14).
وكقوله في ( أبي يزيد الطحان ) الذي يروي عنه أحمد بن يونس : " لا أعرفه "(15)، فقال ابن عدي : " ابن يونس يروي عن غير واحد ممن يكنيهم ولا يعرفون ، فلهذا قال ابن معين : لا أعرفه "(16).
أما قول ابن عدي في ترجمة ( عبد الرحمن بن آدم ) الذي قال فيه ابن معين : " لا أعرفه " : " إذا قال مثل ابن معين : لا أعرفه ، فهو مجهول غير معروف ، وإذا عرفه غيره لا يعتمد على معرفة غيره ؛ لأن الرجال بابن معين تسبر أحوالهم "(17)، فهذا تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله : " لا يتمشى في كل الأحوال ، فرب رجل لم يعرفه ابن معين بالثقة والعدالة ، وعرفه غيره ، فضلاً عن معرفة العين ، فلا مانع من هذا "(18).
قلت : وهذا الذي قاله الحافظ هو الصواب ، وإنما أخبر ابن معين بحسب علمه ، وفيمن لم يعرفهم جماعة من الثقات ، وابن عدي نفسه لم يسلِّم لابن معين قوله ذلك في جماعة ، منهم : الجراح بن مليح البهراني(19)، وحاتم بن حريث الطائي(20)، وسفيان بن عقبة(21)، وعلل ابن عدي في غير موضع قول ابن معين في الراوي يسأل عنه : ( لا أعرفه ) بقلة حديث ذلك الراوي(22)، وهذا صواب فمثل ابن معين لا يخفاه أمر راو معروف برواية الحديث ، إنما يقع مثل ذلك في راو يذكر بالحديث والحديثين ونحو ذلك ، فلا يخبر أمره .
كما قال أبو حاتم الرازي : سألت يحيى بن معين عن ( سعيد بن سلمة المديني ) فلم يعرفه ، قال ابنه عبد الرحمن : " يعني فلم يعرفه حق معرفته "(23).
وقال يحيى في ( صدقة بن أبي عمران ) : " لا أعرفه " ، فقال ابن أبي حاتم : " يعني لا أعرف حقيقة أمره " ، وهو شبه ما نقله عن أبيه أبي حاتم في حق ( صدقة ) هذا ، قال : " صدوق ، شيخ صالح ، ليس بذاك المشهور "(24).
وقالها يحيى في ( قدامة بن كلثوم ) ، فقال ابن أبي حاتم : " لم يعرفه ؛ لأنه كان مجهولاً "(25)، ونحو ذلك في ترجمة ( قرة بن أبي الصهباء )(26)، وقالها يحيى في ( محمد بن ذكوان أبي صالح السمان أخي سهيل ) ، فقال ابن أبي حاتم : " يعني لا أخبره "(27).
والمقصود أن هذه العبارة لا تعني الجهالة إلا عند قائلها ، فإذا فقدنا معها التعديل أو الجرح المعتبرين صرنا إلى وصف ذلك الراوي بالجهالة .
الأصل الخامس : توضيح طريقة أبي حاتم الرازي في الحكم بجهالة الراوي .
الإمام أبو حاتم تعرض للكلام في النقلة على سبيل التصنيف المستوعب ، وذلك فيما كان يعرضه عليه ولده عبد الرحمن من أسمائهم يسأله عنهم ، إذ كتابه الفذ " الجرح والتعديل " يكاد يكون من تصنيف أبي حاتم نفسه .
فنجد كثيراً من الرواة يحكم عليهم أبو حاتم بالجهالة ، فيقول تارة وهو الأكثر : ( مجهول ) ، وتارة : ( لا أعرفه ) ، وربما قال : ( لا يعرف ) ، كما يقول في الراوي : ( غير مشهور ) ، وربما أضاف إلى ذلك كلمة ( شيخ ) وهي في هذا السياق مضمومة إلى غيرها لا تدل على شيء في جرح الراوي أو تعديله .
وقد تأملت طريقة أبي حاتم في أولئكم الرواة ، فوجدت الأصل في نظره يقوم على اعتبار مقدار ما روى ذلك الراوي ، ونوع مرويه مسنداً أو مرسلاً ، مرفوعاً أو غير مرفوع ، مع ملاحظة طريق العلم به وبروايته ، وذلك بالنظر إلى من روى عنه .
فعامة من وصفهم بالجهالة ممن لم يبلغه من حديثهم إلا الحديث الواحد ، أو اليسير جداً ، أو الأثر عن صحابي قولا أو فعلاً ، فذلك المروي إن كان معروفاً من طريق محفوظ وجدته أثنى على حديث ذلك الراوي دون شخصه ، وهذا كثير منثور في الكتاب ، وربما وصفه بالجهالة مع تقوية حديثه ، كقوله مثلاً في ( أحمد بن إبراهيم أبي صالح الخراساني ) : " شيخ مجهول ، والحديث الذي رواه صحيح "(28)، وقال في ( سعيد بن محمد الزهري ) : " ليس بمشهور ، وحديثه مستقيم ، إنما روى حديثاً واحداً "(29).
بينما في آخرين تفردوا بالحديث والحديثين ، ولا يعرف لهم غير ذلك ، يزيد إلى وصف الجهالة جرح ذلك الراوي في حديثه ، كقوله في ( زياد بن عبيدة الكوفي ) : " مجهول ، والحديث الذي رواه باطل "(30)، وفي ( زرعة بن عبد الله بن زياد الزبيدي ) شيخ لبقية بن الوليد : " شيخ مجهول ، ضعيف الحديث "(31).
والراوي الذي لا يعرف إلا من طريق رجل مجروح يقول فيه : ( مجهول ) ، مثل قوله في ( عبد العزيز بن أبي معاذ ) : " شيخ مجهول ، لا يدري من هو "(32)وذلك أنه لم يعرف إلا من رواية مسلمة بن الصلت عنه ، ومسلمة هذا متروك الحديث .
وقد تكون علة الراوي من جهة أنه لم يعرف حديثه إلا من روايته عمن هو معروف بالجرح ، كقول أبي حاتم في ( وافد بن سلامة ) يروي عن يزيد الرقاشي ، روى عنه محمد بن عجلان وعبد الله بن وهب : " هو يروي عن الرقاشي ، فما يقال فيه ؟ " ، قال ابنه عبد الرحمن : " يعني أن الرقاشي ليس بقوي ، فما وجد في حديثه من الإنكار يحتمل أن يكون من يزيد الرقاشي "(33).
ورأي أبي حاتم بحسب ما بلغه من العلم في شأن الراوي ، وقد يخالف في ذلك ، فالراوي عنده المقل من الحديث ، ولم يبلغه من الرواة عنه إلا الراوي الواحد ،يحكم بجهالته ، ويكون غيره قد اطلع على أكثر من ذلك فيعدله أو يجرحه .
كما قال في ( شعيب بن يحيى التجيبي المصري ) : " شيخ ، ليس بالمعروف "(34). وذلك أنه ذكر أنه روى عن عبد الجبار بن عمر ، وعنه عبد الرحمن بن عبد الحكم .
والصواب أنه مشهور كثير الحديث ، حديثه معروف في أهل بلده ، روى عن الليث بن سعد وابن لهيعة ويحيى بن أيوب ، وروى عنه بكر بن سهل الدمياطي ، وخرج له الطبراني في " معجميه " حديثاً كثيراً عنه ، وكذلك روى عنه الربيع بن سليمان ، وزيد بن بشر وغيرهم ، فأبو حاتم قال ذلك القول بحسب ما بلغه عن هذا الرجل .
وقال أبو حاتم في ( يحيى بن أبي زكريا أبي مروان الغساني ) : " شيخ ليس بمشهور "(35)، وله في البخاري في أربعة مواضع متابعات ، وله غيرها ، بل وقفت له على ثلاثة عشر حديثاً ، نعم ، بعضها لا يثبت ، لكنها تدل على أن الرجل معروف(36)، وروى عنه جماعة من الثقات .
وقال في ( عبد الرحمن بن الحارث السلامي ) : " شيخ مجهول ، لا أعلم روى عنه غير هشام ، وأرى حديثه مقارباً "(37), مع أنه روى عنه أيضاً الحكم بن موسى ، والرجل معروف عند أهل الشام ، نعم كان قليل الرواية .
لكن هذا إذا قارنت مقدار صواب أبي حاتم فيه بمقدار ما فاته منه ، وجدت ما فاته منه قليلاً .
والذي تحرر لي في الجملة : أن مذهب أبي حاتم في وصف الراوي بالجهالة لا يخرج عما هو معروف من مسالك غيره من أهل العلم بالحديث .
وعليك أن تعلم أنه رحمه الله ، لم يراع التمييز بين جهالة الحال والعين ، بل هذا الطريق لم يكن متميزاً في كلامهم يومئذ ، ولذا فإنه قد يقول : ( مجهول ) في مجهول العين الذي لا يدري من هو ، ولم يعرف ذكره إلا من رواية واحد عنه ، وقد يكون ذلك الراوي عنه مجروحاً أو مجهولاً مثله ، ويقولها كذلك في مجهول الحال ، وهو الذي عرف برواية أكثر من ثقة عنه ، لكن لم يتبين ضبطه لقلة حديثه .
الأصل السادس : طريقة ابن القطان الفاسي في تجهيل الرواة .
عرف الإمام أبو الحسن علي بن محمد الفاسي ، المعروف بابن القطان ( المتوفى سنة : 628 ) بتوسعه في تجهيل الرواة ، خصوصاً في كتابه " بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام " .
وذلك التوسع منه غير محمود ، ولذا ردَّه عليه الإمامان المحققان : الذهبي ، وابن حجر .
قال ابن القطان في ( حفص بن بغيل ) : " لا تعرف حاله "(38)، فتعقبه الذهبي بقوله : " قلت: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا، فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته.
وهذا شئ كثير، ففى الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل. "(39).
وقال ابن القطان في ( مالك بن الخير الزبادي ) : " هو ممن لم تثبت عدالته "(40)، فقال الذهبي : " وفي رواة الصحيحين عددٌ كثير ، ما علمنا أن أحداً نصَّ على توثيقهم ، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما يُنكر عليه ، أن حديثه صحيح "(41).
وقال ابن حجر في ترجمة ( محمد بن نجيح السندي ) : " عده أبو الحسن بن القطان فيمن لا يعرف ، وذلك قصور منه فلا تغتر به ، وقد أكثر من وصف جماعة من المشهورين بذاك ، وسبقه إلى مثل ذلك أبو محمد بن حزم ، ولو قالا : لا نعرفه ، لكان أولى لهما "(42).
قلت : فهذه الطريقة تجعله مع ابن حزم في محل ترك الاعتداد بقولهما في تجهيل الرواة .
11- تحرير القول في الرواة المسكوت عنهم
"علمنا أن منهج أهل العلم بالحديث لتمييز أهلية الراوي أو عدمها فيما يرويه ، هو اختبار حديثه ، وهذه المنهجية كانت طريقهم لتعديل أو جرح أكثر الرواة .
فحين ترى مثلاً الإمام علي بن المديني يقول في رجل روى عنه يحيى بن أبي كثير وزيد بن أسلم : " مجهول " ، بينما قال في ( خالد بن سمير ) ولم يرو عنه غير الأسود بن شيبان : " حسن الحديث "(43)، فإنما قال " مجهول " في راو لم يتبين مما رواه منزلة حديثه ، وحين تبين في الآخر ضبطه نعته بحسن حديثه .
ونحن نجد طائفة من الرواة ممن ذكروا في كتب تراجم الرواة ، أو وقفنا على أسمائهم فيما رووه من الحديث ، لم يؤثر عن نقاد المحدثين شيء في تعديلهم أو جرحهم ، فهؤلاء يقول فيهم الواحد من المتأخرين مثلاً : ( فلان ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ) ، ومنهم من يجعل ذلك بمجرده سبباً لرد رواية ذلك الراوي ، ومنهم من يعد سكوت الناقد عن أحدهم تعديلاً له ، من جهة أنه لو وقف في أحدهم على الجرح لذكره .
وحيث إن محل ما يتعلق به المتأخرون في الغالب في الاعتداد بالسكوت عن الراوي الديوانان العظيمان في تاريخ الرواة : " التاريخ الكبير " للبخاري ، و " الجرح والتعديل " لا بن أبي حاتم ، فإليك تحرير القول فيهما ، وخذ من ذلك أنموذجاً لغيرهما : " التاريخ الكبير " للبخاري :
من تأمل هذا الديوان وجد أن البخاري اجتهد في استقصاء أسماء من بلغه ممن روى العلم إلى زمانه ، وهو كتاب مليء بالعلم ، وما يتصل منه بموضوع الجرح والتعديل ، يجب أن يؤخذ بالاعتبار في شأنه ما يلي :
أولاً : لم ينص فيه على خطته ، إنما تركها للناظر فيه .
ثانياً : لم يلتزم فيه ذكر التعديل في الرواة ، وإنما يرد ذلك أحياناً قليلة جداً .
ثالثاً : التزم أن يذكر الجرح في المجروحين ، وذلك من جهة ما يحكيه من عبارات بعض الأئمة قبله ، وتارة بعبارة نفسه ، وتارة بنقد رواية ذلك الراوي فيستفاد من خلال ذلك النقد جرحه عند البخاري ، ولا يلزم بأنه جرح عدداً يسيراً جداً من الرواة سكت عنهم في ( التاريخ ) وقدح فيهم في محل آخر ، فالحكم للغالب الأعم .
رابعاً : لم يجر على الجرح بالجهالة ، إلا ما يمكن أن يدل عليه قوله في مواضع في الراوي : " فيه نظر " ، فإن التتبع يدل على أن طائفة ممن قال فيهم البخاري ذلك هم في جملة المجهولين .
وقد قال ابن عدي : " مراد البخاري أن يذكر كل راو ، وليس مراده أنه ضعيف أو غير ضعيف ، وإنما يريد كثرة الأسامي "(44).
وهذا المعنى ذكره ابن عدي فيما يزيد على ثلاثين موضعاً من " الكامل " .
وهو نص من إمام عارف ناقد ، أن إدخال الراوي في " التاريخ الكبير " لا يعني بمجرده جرحاً ولا تعديلاً .
لكن لكون البخاري قلما ترك بيان الجرح لمن هو مجروح ، فلو قال قائل : من سكت عنهم البخاري فغير مجروحين عنده ، وإنما هم عدول ، واحتمل في القليل منهم أن لا يكونوا من المشهورين ، فيلحقون بالمستورين ، لكان هذا قولاً وجيهاً .
نعم ، لا يصح أن يطلق بتوثيق من سكت عنه البخاري بمجرد ذلك .
" الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي :
فسر ابن أبي حاتم خطته في كتابه " الجرح والتعديل " وبين منهجه ولم يدعه للتخمين ، فقال : " ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل ، كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روي عنه العلم ، رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم ، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله "(45).
وينبغي أن يلاحظ من عبارة ابن أبي حاتم ، أن من سكت عنهم لا يلحقون بالمجروحين ولا المجهولين ولا المعدلين ، فإنه ضمن كتابه الحكم على الرواة بالأوصاف الثلاثة .
__________
(1) - أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " ( 1 / 146 ) وإسناده صحيح . ومُعاذةُ هيَ العدوية ، تابعيةٌ ثقةٌ .
(2) - بيان الوهم والإيهام ( 5 / 146 ) .
(3) - ميزان الاعتدال ( 4 / 604 ) .
(4) - جامع التحصيل ( ص : 106 ) .
(5) - أخرجه أبو نُعيم في " الحلية " ( 9 / 182 ) بإسناد صحيح ، وهوَ في " العلل " لأحمد ( النص : 1082 ) و " آداب الشافعي " لابن أبي حاتم ( ص : 96 ) ، ونصه : " وكلُّ شيْءٍ في كتب الشافعي : حدثني الثقة عن هُشيْم ، وغيره ، هو أبي " .
(6) - انظر : مناقب الشافعي ، للبيهقي ( 1 / 533 ) ، تعجيل المنفعة ، لابن حجر ( 2 / 626 _ 627 ).
(7) - انظر : الجرح والتعديل ، ترجمة ( مَخرمة بن بكَير ) ( 4 / 1 / 363 ) ، وتعجيل المنفعة ( 2 / 625 ) .
(8) - وفسَّر مرةً قوله : " حدثنا من لا أتهم " بأنه عنى الحسن بن عُمارة ، وهوَ متروك ، ( انظر : الروْضً الأنف ، للسهلي 6 / 43 ) .
(9) - الكفاية ( ص : 531 ) .
(10) - جامع التحصيل ، للعلائي ( ص : 95 ، 96 ) .
(11) - معرفة الرجال ، رواية ابن محرز ( 1 / 75 ) .
(12) - أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " ( 8 / 271 ) بإسناد حسن ، وهو ثقة معروف
(13) - سؤالات الآجري ( النص : 143 ) .
(14) - الجرح والتعديل ( 4 / 1 / 15 ) .
(15) - تاريخ الدارمي ( النص : 968 ) .
(16) - الكامل في الضعفاء[ ج 7 - ص 295 ] .
(17) - الكامل ( 5 / 485 ) .
(18) - تهذيب التهذيب ( 2 / 527 ) ترجمة : عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أمير الأندلس .
(19) - تاريخ الدارمي ( النص : 214 ) الكامل ( 2 / 410 ) ، وابن مَعين لم يعرفه في رواية الدارمي ، لكن عرَفه في رواية الدوري فقال : " ليس به بأسٌ " ( تاريخه ، النص : 5357 ) .
(20) - تاريخ الدارمي ( النص : 287 ) الكامل ( 3 / 371 ) .
(21) - تاريخ الدارمي ( النص : 370 ) الكامل ( 4 / 475 ) .
(22) - كما قال ذلك في : الأصبغ بن سفيان ، وعاصم بن سُويد الأنصاري ، ومحمد بن عبد العزيز التميمي ، وأبي سلَمة مولى بني ليث .
(23) - الجرح والتعديل[ ج 4 - ص 29 ]
(24) - الجرح والتعديل[ ج 4 - ص 432 ]
(25) - الجرح والتعديل[ ج 7 - ص 129 ] .
(26) - الجرح والتعديل[ ج 7 - ص 130 ] .
(27) - الجرح والتعديل[ ج 7 - ص 252 ]
(28) - الجرح والتعديل[ ج 2 - ص 39 ]
(29) - الجرح والتعديل[ ج 4 - ص 58 ]
(30) - الجرح والتعديل[ ج 3 - ص 538 ]
(31) - الجرح والتعديل[ ج 3 - ص 606 ]
(32) - الجرح والتعديل[ ج 5 - ص 398 ]
(33) - الجرح والتعديل[ ج 9 - ص 50 ]
(34) - الجرح والتعديل[ ج 4 - ص 353 ]
(35) - الجرح والتعديل[ ج 9 - ص 146 ]
(36) - وفي تقريب التهذيب ( 7550 ) يحيى بن أبي زكريا الغساني أبو مروان الواسطي أصله من الشام ضعيف ما له في البخاري سوى موضع واحد متابعة من التاسعة مات سنة تسعين خ
(37) - الجرح والتعديل[ ج 5 - ص 225 ]
(38) - بيان الوهم والإيهام ، لابن القطان ( النص : 1637 ) .
(39) - ميزان الاعتدال - (ج 1 / ص 556)
(40) - بيان الوهم والإيهام ، لابن القطان ( النص : 1451 ) .
(41) - ميزان الاعتدال ( 3 / 426 ) .
(42) - تهذيب التهذيب ( 3 / 717 ) .
(43) - انظر : شرح علل الترمذي ، لابن رجب ( 1 / 83 _ 84 ) .
(44) - الكامل ( 3 / 267 ) .
(45) - الجرح والتعديل ( 1 / 1 / 38 ) .(1/225)
ومن قال : يجري أمرهم على التعديل تغليباً للأصل ؛ لعدم الجرح ، ولعدم تنصيص العارفين على الجهالة ، والأصل السلامة من القدح ، فهذا من جهة التأصيل قوي(1)، لكنه وإن مال بنا إلى اعتبار التعديل ، فإنه لا ينهض بمجرده للحكم به في حق ذلك الراوي .
غير أنه يمكن أن يستفاد من هذا : أن يعتبر لمجرد سكوت البخاري وابن أبي حاتم عن الراوي منزلة هي أرفع من الحكم بالجهالة ، مائلة إلى الحكم بالتعديل ، وهي منزلة ( المستور ) عند بعض الأئمة .
والذي يتحرر لنا في هذا الأصل في الجملة أن نقول في هذا النوع من الرواة ، أنهم قسمان :
القسم الأول : الرواة المترجمون في كتب الجرح والتعديل ، لكن لم يذكروا بجرح ولا تعديل .
وهذا الصنف إذا اتبعنا فيهم النظر والتحري عند المتقدمين أمكن تمييز منازلهم في الرواية من حيث قبول حديثهم أو رده ، وذلك باتباع الطرق التالية :
الأولى : جمع مروياتهم .
الثانية : تحري موضع الموافقة لحديث الثقات ، والمخالفة له ، أو التفرد دونهم .
الثالثة : اعتبار شهرته من عدمها بحسب كثرة من روى عنه .
الرابعة : اعتبار شهرته من عدمها بحسب ما ورد عنه من أخبار .
فلو أخذت له مثالاً ( عبد الله بن عوف الكناني ) ، فهو راو لم يوثقه غير ابن حبان ، لكنه كان أحد عمال عمر بن عبد العزيز ، فهذا تعديل له في شخصه دون روايته ، لما عرف من صرامة عمر في الحق وعدله ، فما كان ليولي فاسقاً ، فبقيت عدالته في الرواية بحسب سلامته من التفرد بمنكر.
الخامسة : وجود التصريح بالتعديل لشيخ له لم يعرف ذلك الشيخ إلا من طريق هذا الراوي .
مثل : ( مالك بن الخير الزبادي ) رجل من أهل مصر ، فزعم ابن القطان أنه لم تثبت عدالته(2)، وتعقبه الذهبي في ذلك وقال فيه : " محله الصدق "(3).
قلت : وهذا الرجل تفرد بالرواية عن ( مالك بن سعد التجيبي ) ، لم يرو عنه أحد سواه ، وما عرف مخرج حديثه إلا من طريقه ، وقد قال أبو زرعة الرازي في هذا التجيبي : " مصري لا بأس به "(4)، وذكر يعقوب بن سفيان في " ثقات التابعين من أهل مصر "(5)، كما ذكره ابن حبان في " الثقات "(6)، فإذا صح أن يكون هذا ثقة ، وجب أن يصح الطريق إليه ، ولا يصح إلا بعد أن يكون رواته ثقات .
والقسم الثاني : من وجدناه في الأسانيد ، لكن لم نقف له على ترجمة .
اعتنى الأئمة ومتأخروهم على التعيين بتتبع أسماء من تكلم فيه من الرواة على سبيل الاستيعاب ، وما وقعت العناية بتتبع جميع الرواة ، وإن حاولها بعضهم ، وأوعب ما ألف في جمع من تكلم فيهم : " ميزان الاعتدال " للحافظ الذهبي ، مع الزيادة عليه في " لسان الميزان " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، والذي أورد فيه تراجم من تكلم فيهم ممن لا ترجمة لهم في " تهذيب الكمال " للمزي .
وقد ذكر ابن حجر في آخر كتاب " اللسان " فائدة حاصلها : أن من لم يترجم له في " الميزان " أو " اللسان " أو " تهذيب التهذيب " قال : " فهو إما ثقة ، أو مستور "(7).
قلت : وهذا أصل نافع في رواة كثيرين ، إذا بحثت عن تراجم لهم لم تقف عليها ، وهم معروفون بالنقل ، فهذا طريق يعين على تنزيلهم ما يليق بهم ، لكن بعد التحقق على نفس منهاج متقدمي النقاد ، من اعتبار الشهرة بالحديث ، ورواية ما هو معروف ، إلى سائر ما تقدم بيانه في شرح منهجهم .
والعمل بهذا الطريق اقتداء بأئمة هذا الشأن ممن تعرضوا لبيان أحوال رواة لم يسبقوا إلى الكلام فيهم ، كابن عدي والعقيلي وابن حبان والدارقطني والخطيب البغدادي .
فهذا ابن عدي مثلاً ، قد تتبع المجروحين إلى زمانه في كتابه الفذ : " الكامل " ، حتى قال في مقدمته : " لا يبقى من الرواة الذين لم أذكرهم إلا من هو ثقة أو صدوق ، وإن كان ينسب إلى هوى وهو فيه متأول "(8).
ومنهجه في اتباع هذا الطريق واضح في كتابه ، ومن عبارته في بعض الرواة :
قوله في ( سليمان بن أبي كريمة ) بعد أن أذكر له جملة أحاديث : " وله غير ما ذكرت ، وليس بالكثير ، وعامة حديثه مناكير ، ويرويه عنه عمرو بن هاشم البيروتي ، وعمرو ليس به بأس ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً ، وقد تكلموا فيمن هو أمثل منه بكثير ، ولم يتكلموا في سليمان هذا ؛ لأنهم لم يخبروا حديثه "(9).
وقوله في ( سعد بن سعيد سعدويه الجرجاني ) وذكر له أحاديث : " لسعد غير ما ذكرت من الحديث غرائب وأفراد غريبة تروى عنه ، وكان رجلاً صالحاً ، ولم تؤت أحاديثه التي لم يتابع عليها من تعمد منه فيها ، أو ضعف في نفسه ورواياته ، إلا لغفلة كانت تدخل عليه ، وهكذا الصالحون ، ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً ؛ لأنهم كانوا غافلين عنه ، وهو من أهل بلدنا ، ونحن أعرف به "(10).
وهذا المنهج رأيت عمل الحافظ الذهبي قد جرى عليه في تعديل طائفة من الرواة ، خصوصاً من طبقات من يأتي بعد طبقات رواة الأئمة الستة ، وذلك بالنظر إلى شهرته ، مع كون أمره على الستر والسلامة ، وأنه لم يوقف فيما روى على شيء منكر .
تنبيه وفائدة :
قال الثقة عبد الله بن أحمد الدورقي : " كل من سكت عنه يحيى بن معين فهو عنده ثقة "(11).
قلت : هذا يجب حمله على رجال جاءوا في معرض السؤال ليحيى ، فلم يذكر فيهم جرحاً ولا تعديلاً ، إذ من شأن يحيى أنه إذا سئل عن الراوي المجروح لم يسكت عنه ، وإذا كان لا يعرفه أجاب بذلك ، فحيث سكت عن جرحه وعن تجهيله ، فهو عنده في جملة المقبولين الموثقين ، والله أعلم . اهـ(12)
ــــــــــــــ
القول الفصل في الرواة المسكوت عنهم
لقد تبين لديَّ بالاستقراء أنَّ كلَّ راوٍ سكتَ عليه الإمامُ البخاري في التاريخ وآبو حاتم الرازي في الجرح والتعديل وقال عنه الإمام الذهبي وُثِّقَ أو الحافظ ابن حجر (مقبول ) فحديثه حسنٌ إن شاءَ اللهُ تعالى .
وهو الذي يحِّسنُ له عادة الإمام الترمذي أو يصحح له ابن حبان أو ابن خزيمة أو الحاكم في المستدرك ، ويحسِّنُ له الإمام المنذري في الترغيب والترهيب أو الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد أو الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ، وهو عادة يكون من الرواة المقلين ، فليس له سوى حديث أو حديثين ، وغالب هؤلاء في التابعين .
وقد غفل عن هذه القاعدة أكثر الباحثين اليوم ، فتراهم من كان بهذه الشاكلة يضعفون حديثه ، فكم من حديث حسنه أو صححه الأقدمون بناء على هذه القاعدة فجاء المعصرون فضعَّفوه ، وذلك لعدم فهمهم هذه القاعدة ، التي جرى عليها العمل في الجرح والتعديل .
قال الشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله في تعليقه على كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي رحمه الله :
((وعلى هذا ، فيكون اعتبار السكوت من باب التعديل أولى من اعتباره من باب التجهيل ، وهو الذي مشى عليه جمهور كبار الجهابذة المتأخرين
وفي كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 2 / ص 36)
باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه أنها تقويه، وعن المطعون عليه أنها لا تقويه حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة مما يقويه ؟ قال إذا كان معروفاً بالضعف لم تقوه روايته عنه وإذا كان مجهولا نفعه رواية الثقة عنه.
حدثنا عبد الرحمن قال سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه ؟ قال أي لعمري، قلت: الكلبى روى عنه الثوري، قال إنما ذلك إذا لم يتكلم فيه العلماء، وكان الكلبى يُتكلَّمُ فيه، والتعجب فتعلقوا عنه روايته .
فهذا نصٌّ في أن الثقة إذا روى عن رجلٍ لم يضعَّف ، نفعه ذلك ، فسكوت البخاري ِّ وابن أبي حاتم وغيرهما يدلُّ على تقويه الرجل إذا روى عنه الثقة ، ولذلك يقول ابن حجر مراراً : إنَّ البخاريَّ أو ابن أبي حاتمَ ذكره وسكت عليه ، أو لم يذكر فيه جرحاً .
وخالف الجمهور في ذلك : الحافظُ ابن القطان أبو الحسن علي بن محمد الفاسي المغربي ، المشهور بابن القطان المتوفى سنة 628 هـ رحمه الله ، فاعتبر سكوت أحد هؤلاء الحفاظ النقاد عن الراوي تجهيلاً لهُ !!
وابن القطان هذا معروف بتعنته وتشدده في الرجال ، كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في مواضع من كتبه ، منها في ترجمته في تذكرة الحفاظ 4/1407 ، ومنها في ترجمته في تاريخ الإسلام كما نقله الدكتور عواد بشار معروف في كتابه الذهبي ومنهجه في كتابه تاريخ الإسلام ص 173 ، ومنها في الميزان 4/301 في ترجمة (هشام بن عروة ) ونكَّتَ عليه فيه ،وعاب تشدده وخلْطهُ الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلِّطين ...
وفي نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 1 / ص 491)
حَدِيثٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْجِلْدِ : أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ { نَهَى أَنْ يَسْتَطِيبَ أَحَدُكُمْ بِعَظْمٍ أَوْ رَوْثَةٍ أَوْ جِلْدٍ } انْتَهَى .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : لَا يَصِحُّ ذِكْرُ الْجِلْدِ انْتَهَى .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " وَعِلَّتُهُ الْجَهْلُ بِحَالِ مُوسَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مِنْ أَمْرِهِ بِشَيْءٍ ، فَهُوَ عِنْدَهُ مَجْهُولٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَيْضًا مَجْهُولٌ ، قَالَ : وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ ؛ لِأَنَّهُ عَمَّنْ لَمْ يُسَمِّ مِمَّنْ يَذْكُرُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ رَأَى أَوْ سَمِعَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لِأَحَدِهِمْ التَّابِعِيُّ الرَّاوِي عَنْهُ بِالصُّحْبَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وفي نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 2 / ص 65)
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " : كُلُّ مَنْ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ مَعْرُوفٌ إلَّا مُحَمَّدَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَمَجْهُولُ الْحَالِ ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ .
والدراوردي يَقُولَانِ : عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَنْبَأَ قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ ، وَذَكَرَ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْبُخَارِيُّ ، وَلَمْ يُعْرَفْ هُوَ ، وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَالِهِ بِشَيْءٍ ، فَهُوَ عِنْدَهُمَا مَجْهُولٌ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وقد حمَّل ابنُ القطان : البخاريُّ وابن أبي حاتم ما لم يقولاه ، أما البخاري فإنه ما نصَّ على شيء في حكم سكوته عن الراوي ، فمن أين أضاف إليه :( فهو عنده مجهول )؟
والعلماء الحفاظُ الجهابذة مثلُ المجد ابن تيمية والمنذري والذهبي وابن القيم وابن عبد الهادي والزيلعي وابن كثير والزركشي والهيثمي و ابن حجر وغيرهم ... فهموا من تتبع صنيع البخاري وعادته ودراسة أحكامه في الرجال : أن من سكت عنه لا يعدُّ مجروحاً ، ولا مجهولاً ،فقول ابن القطان بأنَّ من سكت عنه البخاري (فهو مجهول ) تقويلٌ وتحميلٌ غير سائغٍ .
وأما ابن أبي حاتم فإنه قال : على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتابُ على كلِّ من رويَ عنه العلمُ ،رجاءَ وجودِ الجرحِ والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم إن شاءَ اللهُ تعالى) اهـ الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 1 / ص 13)والجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 2 / ص 38)
والجهالة جرحٌ بلا ريبٍ ، فلا يصحُّ لابن القطان رحمه الله أن يضيفه إلى ابن أبي حاتم فيقول : ( فهو عنده مجهول )، فإن ابن أبي حاتم قال : ( رجاء وجود الجرح فيهم ) فابن أبي حاتم لم يجعل توقفه فيمن توقف فيه ( جرحاً)له ، فجعل ابن القطان هذا التوقف ( جرحاً ) عند ابن أبي حاتم : تقويلٌ له ما لم يقلْه.
يضافُ إلى ذلك أن ابن أبي حاتم أو والده ، حين يصرح أحدهما في حكمه على الراوي بقوله ( مجهول) فقد جزمَ بجهالته عنده ، وأما حين يسكت عن الراوي فإنه لم يجزم بجهالته ، فكيف يجعلُ ابنُ القطان سكوتَ أحدهما عن الراوي مثل تصريحه ، ولا نصَّ عنهما في ذلك ؟ فهذا منه رحمه الله تعالى تقويلٌ لهما ما لم يقولاهُ .واضطرب فيها مسلك الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في هذه المسالة ، فمشى مرةً على نحو مسلك ابن القطان ، ومرةَ على مسلك الجمهور :
قال الزيلعي رحمه الله :" أَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي " الْكَامِلِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ سَعْدٍ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُدْخِلَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، وَقَالَ : إنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِك ، وَأَنَّ أَذَانَ بِلَالٍ كَانَ مَثْنَى مَثْنَى ، وَإِقَامَتَهُ مُفْرَدَةٌ ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّةً وَاحِدَةً } ، قَالَ ( يعني ابن دقيق العيد) فِي " الْإِمَامِ " : وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عَدِيٍّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ هَذَا بِجَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ ، فَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَذَكَرَ تَضْعِيفَهُ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ كُلُّهُمْ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ حَالٌ ، انْتَهَى .نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 2 / ص 102)
ويقال في الردِّ عليه ما قيل على ابن القطان .
وقال أيضا كما في نصب الراية : "قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْإِمَامِ " : وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ حَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ وَقَالَ : كَانَ ثِقَةً ، وَوَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ أَيْضًا ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ " أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ ، وَرَوَى لَهُ فِي " صَحِيحِهِ " ، وَيُوسُفُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ غَيْرِ جَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ." نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 5 / ص 441)
وهذا الحديث نفسه أورده الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 3/282 وقال : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات اهـ
وهذا يدلُّ على أن سكوت ابن أبي حاتم ليس جرحاً ولا جهالة عند الحافظ الهيمثي ، فلذا قال في هذا الحديث (ورجاله ثقات) فمن سكت عليه ابنُ أبي حاتم - ومثله البخاري ...- يعدُّ ثقةً عند الحافظ الهيثمي رحمه الله .
ولكن ابن دقيق العيد رحمه الله له أقوال تدلُّ على أخذه بمذهب الجمهور ، فقد ذهب إلى أن خلوَّ كتب الضعفاء - ومنها الكامل لابن عديٍّ -عن ذكر الراوي المذكور بالرواية : يقتضي توثيقه ، فقد جاء في نصب الراية :"{ حَدِيثٌ آخَرُ } : أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ دَاوُد الْحَرَّانِيِّ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ .وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ ، فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا ، وَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ لَا يَخْلَعْهُمَا إنْ شَاءَ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ } انْتَهَى .
قَالَ الْحَاكِمُ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَرُوَاتُهُ عَنْ آخِرِهِمْ ثِقَاتٌ انْتَهَى .
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَسَدِ بْنِ مُوسَى ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِهِ ، قَالَ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " : إسْنَادُهُ قَوِيٌّ ، وَأَسَدُ بْنُ مُوسَى صَدُوقٌ ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغَيْرُهُ انْتَهَى .
وَلَمْ يُعِلَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " التَّحْقِيقِ " بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ الثَّلَاثِ ، قَالَ الشَّيْخُ فِي " الْإِمَامِ " قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : هَذَا مِمَّنْ انْفَرَدَ بِهِ أَسَدُ بْنُ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ ، وَأَسَدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، قَالَ الشَّيْخُ : وَهَذَا مَدْخُولٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَدَمُ تَفَرُّدِ أَسَدٍ بِهِ ، كَمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ ثَنَا حَمَّادٌ .
الثَّانِي : أَنَّ أَسَدًا ثِقَةٌ ، وَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الضُّعَفَاءِ لَهُ ذِكْرٌ ، وَقَدْ شَرَطَ ابْنُ عَدِيٍّ أَنْ يَذْكُرَ فِي " كِتَابِهِ "كُلَّ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ ، وَذَكَرَ فِيهِ جَمَاعَةً مِنْ الْأَكَابِرِ وَالْحُفَّاظِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَسَدًا ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَوْثِيقَهُ ، وَنَقَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ تَوْثِيقَهُ عَنْ الْبَزَّارِ ، وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكُوفِيِّ " نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 1 / ص 376)
ومثل ذلك قول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره حيث قال عقب روايته لقصة هاروت وماروت - والتي لا يصح رفعها بحال- قال(13):
" وَهَذَا حَدِيث غَرِيب مِنْ هَذَا الْوَجْه وَرِجَاله كُلّهمْ ثِقَات مِنْ رِجَال الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا مُوسَى بْن جُبَيْر هَذَا وَهُوَ الْأَنْصَارِيّ السُّلَمِيّ مَوْلَاهُمْ الْمَدِينِيّ الْحَذَّاء وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي أُمَامَة بْن سَهْل بْن حُنَيْف وَنَافِع وَعَبْد اللَّه بْن كَعْب بْن مَالِك وَرَوَى عَنْهُ اِبْنه عَبْد السَّلَام وَبَكْر بْن مُضَر وَزُهَيْر بْن مُحَمَّد وَسَعِيد بْن سَلَمَة وَعَبْد اللَّه بْن لَهِيعَة وَعَمْرو بْن الْحَرْث وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَرَوَى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ وَذَكَرَهُ اِبْن أَبِي حَاتِم فِي كِتَاب الْجَرْح وَالتَّعْدِيل وَلَمْ يَحْكِ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا فَهُوَ مَسْتُور الْحَال "
وتابعه على هذا المسلك - وهو اعتبار المسكوت عليه مستور الحال- تلميذه الإمام بدر الدين الزركشي في كتابه (( الدرر المنثورة في الأحاديث المشهورة ))- مخطوط- فقال في الباب السابع في القصص والأخبار في كلامه على هذا الحديث : أخرجه أحمد في مسنده من جهة موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً ، وموسى بن جبير ذكره ابن أبي حاتم في كتابه ( الجرح والتعديل ) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، فهو مستور الحال " اهـ
والشاهد من هذا النصِّ عن الإمام ابن كثير خصوصُ حكمه في قوله ( ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، ولم يحكِ فيه شيئاً ، فهو مستور الحال)) بصرف النظر عما حول الحديث وراويه مما أشرت إليه آنفاً .
ورواية مستور الحال يحتجُّ بها لدى طائفةٍ معتبرةٍ من العلماء ، قال الحافظ العراقي(14):
" مجهولُ العدالةِ الباطنةِ ، وهو عدلٌ في الظاهرِ ، فهذا يحتَجُّ به بعضُ مَنْ رَدَّ القسمَينِ الأولَينِ ، وبهِ قطعَ الإمامُ سُلَيمُ بنُ أيوبَ الرازيُّ ، قال : لأنَّ الإخبارَ مَبنيٌّ على حُسْنِ الظَّنِّ بالراوي ؛ لأنَّ روايةَ الأخبارِ تكونُ عندَ مَنْ تَتَعذَّرُ عليه معرفةُ العدالةِ في الباطنِ ، فاقتُصِرَ فيها على معرفةِ ذلك في الظاهرِ . وتُفَارِقُ الشهادَةَ ، فإنَّها تكونُ عند الحُكَّامِ،ولا يتعذّرُ عليهم ذلكَ ، فاعتُبِرَ فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطنِ. قالَ ابنُ الصّلاحِ(15): ويشبهُ أنْ يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ في غيرِ واحدٍ من الرُّواةِ الذين تقادَمَ العهدُ بهم ، وتعذَّرَتِ الخِبْرةُ الباطنةُ بهم ، واللهُ أعلمُ . وأطلقَ الشافعيُّ كلامَهُ في اختلافِ الحديثِ أنَّهُ لا يحتجُّ بالمجهولِ ، وحكى البيهقيُّ في " المدخلِ " : أنَّ الشافعيَّ لا يحتجُّ بأحاديثِ المجهولينَ . ولما ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القسمَ الأخيرَ ، قال : وهو المستورُ ، فقد قال بعضُ أئمتِنا : المَسْتُورُ مَنْ يكونُ عَدْلاً في الظَّاهرِ ، ولا تُعْرَفُ عدالتُهُ باطناً . انتهى كلامُه . وهذا الذي نَقَلَ كلامَهُ آخراً ، ولم يسمِّهِ ، هو البغويُّ ، فهذا لفظُهُ بحروفِهِ في " التهذيبِ " ، وتَبِعهُ عليه الرافعيُّ. وحكى الرافعيُّ في الصومِ وجهين في قبولِ روايةِ المستورِ من غيرِ ترجيحٍ. وقالَ النوويُّ في " شرحِ المهذّبِ " : (( إنَّ الأصحَّ قبولُ روايتِهِ )) اهـ.
قلتُ :
قال الإمام النووي رحمه الله(16):
" وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُغَفَّلُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ , وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَنْ نَقْبَلُهُ .
__________
(1) - وممن سلكه من المعاصرين العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة ، رحمه الله ، في بحث له نُشر في " مجلة كليَّة أصول الدين " الصادرة عن جامعة محمد بن سعود الإسلامية ، العدد الثاني لعام 1400 هـ ، وذلك بعنوان : ( سُكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يُجرح ولم يأتِ بمتنٍ منكر يُعدُّ توثيقاً له ) ، وكتب الشيخ عداب الحمش رداَّ عليه في كتاب سماه ( رواة الحديث الذي سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل ) ، وفي ردِّه فوائد ، وأنا أوافقه على بعض نتائجه وأخالفه في أخرى ، وربما أخذت عليه في نفسه فيه .
(2) - بيان الوهم والإيهام ، لابن القطان ( رقم : 1451 ) . وتقدم قريباً في ( المبحث السابق ) التنبيه عليه .
(3) - ميزان الاعتدال ( 3 / 426 ) ، بل وجدت فيه فائدة عزيزة فاتت جميع من ترجم له ، وهي قولُ ناقد أهل مصر أحمد بن صالح المصري فيه : " ثقة " ( تاريخ أبي زُرعة 1 / 442 ) زيادةً على توثيق ابنِ حبان ، ولكن المقصود التمثيل بهذه الصورة في دَفع الجَهالة عن الراوي .
(4) - الجرح والتعديل ( 4 / 1 / 209 ) .
(5) - المعرفة والتاريخ ، ليعقوب بن سُفيان ( 2 / 530 ) .
(6) - الثقات ( 5 / 385 ) .
(7) - لِسان الميزان ( 7 / 571 ) .
(8) - الكامل ( 1 / 79 ) .
(9) - الكامل ( 4 / 250 ) .
(10) - الكامل ( 4 / 398 ) .
(11) - أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " ( 1 / 218 ) وإسناده جيد .
(12) - انظر تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 333-335)
(13) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 353)
(14) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 114) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 247)
(15) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 21) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 247)
(16) - المجموع شرح المهذب - (ج 6 / ص 277)(1/226)
وَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ , فَإِنْ قُلْنَا : يُشْتَرَطُ عَدْلَانِ اُشْتُرِطَتْ , وَإِلَّا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ , قَالُوا : وَهُمَا جَارِيَانِ فِي رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ , الْحَدِيثَ ( وَالْأَصَحُّ ) قَبُولُ رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ , وَكَذَا الْأَصَحُّ قَبُولُ قَوْلِهِ هُنَا وَالصِّيَامُ بِهِ , وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْإِبَانَةِ وَالْعُدَّةِ وَالْمُتَوَلِّي "
وأقدم من تكلم بهذا الأمر وهو اعتبار سكوت النقاد عن الراوي يعدُّ من باب التعديل ، هو الإمام مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن تيمية الجدُّ المتوفى سنة 656 هـ رحمه الله تعالى ، وهذا نصُّ عبارته كما في زاد المعاد(1):
" التّأْوِيلُ السّادِسُ أَنّهُ كَانَ قَدْ تَأَهّلَ بِمِنًى وَالْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ وَتَزَوّجَ فِيهِ أَوْ كَانَ لَهُ بِهِ زَوْجَةٌ أَتَمّ وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - . فَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلّى عُثْمَانُ بِأَهْلِ مِنًى أَرْبَعًا وَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ لَمّا قَدِمْتُ تَأَهّلْت بِهَا وَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ إذَا تَأَهّلَ الرّجُلُ بِبَلْدَةٍ فَإِنّهُ يُصَلّي بِهَا صَلَاةَ مُقِيم رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ الْحُمَيْدِيّ فِي " مُسْنَدِهِ " أَيْضًا وَقَدْ أَعَلّهُ الْبَيْهَقِيّ بِانْقِطَاعِهِ وَتَضْعِيفِهِ عِكْرِمَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيّةَ : وَيُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الضّعْفِ فَإِنّ الْبُخَارِيّ ذَكَرَهُ فِي " تَارِيخِهِ " وَلَمْ يَطْعَنْ فِيهِ وَعَادَتُهُ ذِكْرُ الْجَرْحِ وَالْمَجْرُوحِينَ "
وقد أقرَّا كلام أبي البركات بن تيمية كما رأيت .
ومشى على هذا المسلك أيضاً : الحافظ المنذريُّ المتوفَّى سنة 656هـ رحمه الله تعالى ، فقال في كتابه الترغيب والترهيب في كتاب الصوم باب الترغيب في صيام رمضان احتساباً فقال عند الحديث رقم(32) الحديث رقمه العام(1502 ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا يستقبلكم وتستقبلون ثلاث مرات فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله وحي نزل قال لا قال عدو حضر قال لا قال فماذا قال إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة وأشار بيده إليها فجعل رجل بين يديه يهز رأسه ويقول بخ بخ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا فلان ضاق به صدرك
قال لا ولكن ذكرت المنافق فقال إن المنافقين هم الكافرون وليس للكافرين في ذلك شيء رواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي ، وقال ابن خزيمة إن صح الخبر فإني لا أعرف خلفا أبا الربيع بعدالة ولا جرح ولا عمرو بن حمزة القيسي الذي دونه
قال الحافظ قد ذكرهما ابن أبي حاتم ولم يذكر فيهما جرحا والله أعلم"(2)
قلت : وهو في صحيح ابن خزيمة (1778)باب ذكر تفضل الله عز وجل على عبادة المؤمنين في أول ليلة من شهر رمضان بمغفرته إياهم كرما وجودا 1778 ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، ثنا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمْزَةَ الْقَيْسِيُّ ، ثنا خَلَفٌ أَبُو الرَّبِيعِ ، إِمَامُ مَسْجِدِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، ثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَسْتَقْبِلُكُمْ وَتَسْتَقْبِلُونَ " - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَحْيٌ نَزَلَ ؟ قَالَ : " لَا " قَالَ : عَدُوٌّ حَضَرَ ؟ قَالَ : " لَا " قَالَ : فَمَاذَا ؟ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِكُلِّ أَهْلِ هَذِهِ الْقِبْلَةِ " ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهَا ، فَجَعَلَ رَجُلٌ يَهُزُّ رَأْسَهُ وَيَقُولُ : بَخٍ بَخٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا فُلَانُ ، ضَاقَ بِهِ صَدْرُكَ ؟ " قَالَ : لَا ، وَلَكِنْ ذَكَرْتُ الْمُنَافِقَ ، فَقَالَ : " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، وَلَيْسَ لِكَافِرٍ مِنْ ذَلِكِ شَيْءٌ "
وهذا الحديث عند المنذري صحيح أو حسن أو قريب منه ، لأنه أورده بلفظة (عن أنس) ولم يورده بلفظة (رويَ عن أنس) كما هو مصطلحه في الأحاديث الصحاح والحسان ، والأحاديث الضعاف ، كما ذكر ذلك في مقدمة الترغيب والترهيب حيث قال : " فإذا كان إسناد الحديث صحيحاً أو حسناً أو ما قاربهما صدَّرتُهُ بلفظة (عن) وكذلك أصدِّرهُ بلفظة( عن) وإذا كان ... ثم أشيرُ إلى إرساله وانقطاعه ... وإذا كان في الإسناد من قيل فيه كذاب أو وضاع أو متهم أو مجمع على تركه أو ضعفه أو ذاهب الحديث أو هالك أو ساقطٌ أو ليس بشيء أو ضعيف جدا أو ضعيفٌ فقط ، أو لم أر فيه توثيقاً بحيث لا يتطرق إليه احتمال التحسين ، صدَّرتهُ بلفظة (رويَ )ولا أذكر ذلك الراوي ، ولا ما قيل فيه البتة ، فيكون للإسناد الضعيف دلالتانِ : تصديره بلفظة (رُويَ) وإهمالُ الكلام عليه في آخره " اهـ باختصار
وهذه أمثلة من كتابه المذكور :
2049 - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " حَجَّةٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعِينَ غَزْوَةٍ وَغَزْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعِينَ حَجَّةٍ " . يَقُولُ : إِذَا حَجَّ الرَّجُلُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَغَزْوَةٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعِينَ حَجَّةً ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعِينَ غَزْوَةٍ . "
رواه البزار ورواته ثقات معروفون ،وعنبسة بن هبيرة وثقه ابن حبان ولم أقف فيه على جرح
2086 - عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : صَعِدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الْمِنْبَر فَقَالَ " لَا أُقْسِم لَا أُقْسِم " ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ : " أَبْشِرُوا أَبْشِرُوا مَنْ صَلَّى الصَّلَوَات الْخَمْس وَاجْتَنَبَ الْكَبَائِر السَّبْع نُودِيَ مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة اُدْخُلْ " قَالَ عَبْد الْعَزِيز : لَا أَعْلَمهُ قَالَ إِلَّا " بِسَلَامٍ " وَقَالَ الْمُطَّلِب : سَمِعْت مَنْ سَأَلَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر سَمِعْت رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرهُنَّ ؟ قَالَ : نَعَمْ " عُقُوق الْوَالِدَيْنِ وَإِشْرَاك بِاَللَّهِ وَقَتْل النَّفْس وَقَذْف الْمُحْصَنَات وَأَكْل مَال الْيَتِيم وَالْفِرَار مِنْ الزَّحْف وَأَكْل الرِّبَا " . "
رواه الطبراني وفي إسناده مسلم بن الوليد بن العباس لا يحضرني فيه جرح ولا عدالة
163 - وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ ؟ قَالَ : " مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ ، وَزَادَ فِي عَمَلِكُمْ مَنْطِقُهُ ، وَذَكَّرَكُمْ فِي الْآخِرَةِ عَمَلُهُ "
رواه أبو يعلى ورواته رواة الصحيح إلا مبارك بن حسان
وقال في آخر كتابه 6/357 في باب ذكر الرواة المختلف فيهم : مبارك بن حسان قال الأزدي : يرمى بالكذب ، وقال أبو داود : منكر الحديث ، وذكره البخاري ولم يجرحه ،و قال النسائي : ليس بقوي ، وقال ابن معين : ثقةٌ اهـ
وكل ذلك يدلُّ على التعديل وليس على الجرح .
وقد تلاه على هذا المسلك الحافظ ابن عبد الهادي في التنقيح في كلامه على ( عثمان بن محمد الأنماطي)(3):
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ ، فَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " أَيْضًا ، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي " السُّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْمَاطِيِّ ثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةُ لِلذِّرَاعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ } انْتَهَى .
قَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " التَّحْقِيقِ " : وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ ، وَتَعَقَّبَهُ صَاحِبُ " التَّنْقِيحِ " تَابِعًا لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي " الْإِمَامِ " وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد .
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ .وَغَيْرُهُمَا ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " كِتَابِهِ " وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا .وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ومشى على هذا المسلك أيضاً شيخ الزيلعيِّ الحافظُ الذهبيُّ في ( ميزان الاعتدال )3/430 في ترجمة [ مبارك ] 7038 - مبارك بن حسان [ ت ].عن عطاء.قال الازدي: يرمى بالكذب. وقال ابن معين: ثقة.
وذكره البخاري فما ذكر فيه جرحا. وقال أبو داود: منكر الحديث.وقال النسائي: ليس بالقوى."
وقال الحافظ الذهبي أيضاً في رسالته (( الموقظة )) في المصطلح ما يمكن اعتباره نصًّا صريحاً في الموضوع ، حيث قال رحمه الله تعالى(4):
"وقد اشتَهَر عند طوائف من المتأخرين ، إطلاقُ اسم ( الثقة ) على من لم يُجْرَح ، مع ارتفاع الجهالةِ عنه . وهذا يُسمَّى : مستوراً ، ويُسمىَّ :محلهُّ الصدق ، ويقال فيه : شيخ ."
ومشى على هذا المسلك أيضاً الحافظ ابن حجر رحمه الله في مواضع كثيرة من كتبه ، مثل (هدي الساري )(5)حيث قال في ترجمة أحد رجال صحيح البخاري :خ س ق -الحسن بن مدرك السدوسي أبو علي الطحان قال النسائي في أسماء شيوخه لا بأس به وقال ابن عدي كان من حفاظ أهل البصرة وقال أبو عبيد الآجري عن أبي داود كان كذابا يأخذ أحاديث فهد بن عوف فيقلبها على يحيى بن حماد " قلت : إن كان مستند أبي داود في تكذيبه هذا الفعل فهو لا يوجب كذبا لأن يحيى بن حماد وفهد بن عوف جميعا من أصحاب أبي عوانة، فإذا سأل الطالب شيخه عن حديث رفيقه ليعرف إن كان من جملة مسموعه فحدثه به أولا فيكف يكون بذلك كذابا ؟ وقد كتب عنه أبو زرعة وأبو حاتم ولم يذكرا فيه جرحا وهما ما هما في النقد ،وقد أخرج عنه البخاري أحاديث يسيرة من روايته عن يحيى بن حماد مع أنه شاركه في الحمل عن يحيى بن حماد وفي غيره من شيوخه وروى عنه النسائي وابن ماجة " اهـ
وفي (88) موضعاً من كتابه ( تعجيل المنفعة برجال الأئمة الأربعة ) ذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحاً ، قرن بينهما في أكثر المواضع ، وأفرد أحدهما في بعضها ، ولكنه في أغلب تلك المواطن ذكر سكوتهما عن الجرح من باب التوثيق والتعديل ، وردَّ به على من زعم جهالة ذلك الراوي ، أو ضعفه ، بل توسَّع في الاستدلال بالسكوت على وثاقة الراوي ، فاستدل بسكوت ابن يونس المصري ، وأبي أحمد الحاكم النيسابوري ، وابن حبان البستي ، وابن النجار البغدادي ، وغيرهم .
وسأورد جملة ملتقطة من كتابه المذكور لصلتها بكلامه في الكتاب ، ثم أورد بعدها طائفة من عبارته في الكتاب ، كنماذج في الموضع لما قدمته ، وأشير إلى باقي المواضع فيه بأرقام الترجمات التي تضمنت عبارته المشار إليها ، قال رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه تعجيل المنفعة(6):
(أما بعد) فقد وقفت على مصنف للحافظ أبى عبد الله محمد بن على بن حمزة الحسينى الدمشقي سماه (التذكرة برجال العشرة) ضم إلى من في (تهذيب الكمال) لشيخه المزى من في الكتب الأربعة وهى (الموطأ) و (مسند الشافعي) و (مسند أحمد) و (المسند الذى خرجه الحسين بن محمد بن خسرو) من حديث الإمام أبى حنيفة ،وحذا حذو الذهبي في الكاشف في الاقتصار على من في الكتب الستة دون من أخرج لهم في تصانيف لمصنفيها خارجة عن ذلك كالأدب المفرد) للبخاري و (المراسيل) لأبي داود و (الشمائل) للترمذي ،فلزم من ذلك أن ينسب ما خرج له الترمذي أو النسائي مثلا إلى من أخرج له في بعض المسانيد المذكورة وهو صنيع سواه أولى منه ،فإنَّ النفوس تركنُ إلى من أخرج له بعض الأئمة الستة أكثر من غيرهم، لجلالتهم في النفوس ، وشهرتهم، ولأن أصل وضع التصنيف للحديث على الأبواب أن يقتصر فيه على ما يصلح للاحتجاج أو الاستشهاد،بخلاف من رتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع ، ..ثم عثرت في أثناء كلامه على أوهام صعبة فتعقبتها ثم وقفت على تصنيف له أفرد فيه رجال أحمد سماه (الإكمال عن من في مسند أحمد من الرجال) ممن ليس في (تهذيب الكمال) فتتبعت ما فيه من فائدة زائدة على التذكرة
ثم وقفت على جزء لشيخنا الحافظ نور الدين الهيثمى استدرك فيه ما فات الحسينى من رجال أحمد لقطه من المسند لما كان يكتب زوائد أحاديثه على الكتب الستة وهو جزء لطيف جدا وعثرت فيه مع ذلك على أوهام وقد جعلت على من تفرد به (هب)
ثم وقفت على تصنيف للإمام أبى زرعة ابن شيخنا حافظ العصر أبى الفضل ابن الحسين العراقى سماه (ذيل الكاشف) تتبع الأسماء التى في (تهذيب الكمال) ممن أهمله الكاشف، وضم إليه من ذكره الحسينى من رجال أحمد وبعض من استدركه الهيثمى وصير ذلك كتابا واحدا واختصر التراجم فيه على طريقة الذهبي فاختبرته فوجدته قلد الحسينى والهيثمي في أوهامهما وأضاف إلى أوهامهما من قبِله أوهاماً أخرى وقد تعقبت جميع ذلك مبينا محررا مع أني لا أدعي العصمة من الخطأ والسهو، بل أوضحت ما ظهر لى فليوضح من يقف على كلامي ما ظهر له فما القصد إلا بيان الصواب طلبا للثواب
وقال في ص 8 :
"فأقول عقب كل ترجمة عثرت فيها على شئ من ذلك (قلت) فما بعد قلت فهو كلامي وكذا أصنع فيما أزيده من الفوائد من جرح أو تعديل أو ما يتعلق بترجمة ذلك الشخص غالبا وبالله أستعين فيما قصدت وعليه أتوكل فيما اعتمدت .."
إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب ..وقد ذكره ابن أبى حاتم فلم يذكر فيه جرحا، وذكره الذهبي في المغني في الضعفاء ولم يذكر لذكره فيه مستندا.
((فع ا) إبراهيم بن أبي خداش.عن عتبة بن أبي لهب.وعنه ابن عيينة مجهول كذا قرأت بخط الحسينى . وصحح اسمه وقال :والدليل على صحة ما قلته أن ابن أبي حاتم قال إبراهيم بن أبى خداش بن عتبة بن أبي لهب الهاشمي اللهبى روى عن ابن عباس روى عنه ابن جريح وابن عيينة ولم يذكر فيه جرحا ، وقال : وإذا عرف ذلك كيف يسوغ لمن يروي عنه ابن جريح وابن عيينة ونسبه بهذه الشهرة أن يقال في حقه مجهول ؟!!(7)
[ 15 ] ا إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع الحضرمي عن أبيه وعنه فرج بن فضالة مجهول قلت لم يذكره بن أبي حاتم وحديثه بهذا السند في تحريم الخمر والميسر والمزر الحديث عن عبد الله بن عمرو وقد ذكره بن يونس فقال أحسبه إبراهيم بن عبد الرحمن بن فروخ التنوخي ولم يذكر له راويا غير فرج ولم يذكر فيه جرحا
[ 30 ] ا أخشن السدوسي عن أنس وعنه أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد الله السدوسي ذكره بن حبان في الثقات زاد في الإكمال وهو مجهول قلت لم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم فيه جرحا وصرح في روايته سماعه من أنس
[ 33 ] ا أسامة بن سلمان النخعي شامي روى عن أبي ذر وابن مسعود وعنه عمر بن نعيم العنسي وغيره ذكره بن حبان في الثقات قلت لم يذكر البخاري ولا بن أبي حاتم فيه جرحا ولم يذكروا له راويا غير عمر
[ 41 ] ا إسحاق بن أبي الكهلة ويقال بن أبي الكهتلة كوفي روى عن بن مسعود وأبي هريرة وعنه الوليد بن قيس وسعد بن إسحاق قال البخاري حديثه في الكوفيين ولم يذكر فيه جرحا وتبعه بن أبي حاتم وذكره بن حبان في الثقات
[ 63 ] ا أمية بن شبل يماني روى عن عثمان بن بوذويه وعروة بن محمد بن عطية والحكم بن أبان وعنه إبراهيم بن خالد وهشام بن يوسف وغيرهما قال بن المديني ما بحديثه بأس قلت لم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم فيه جرحا وذكره بن حبان في الثقات
[ 75 ] ا أيمن بن مالك الأشعري عن أبي أمامة وأبي هريرة وعنه قتادة وثقه بن حبان قلت وأخرج حديثه في صحيحه وذكره بن أبي حاتم فلم يذكر فيه جرحا
[ 87 ] ا بسطام بن النضر أبو النضر الكوفي عن أعرابي لأبيه صحبة وعنه عمر بن فروخ ذكره بن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا وذكره بن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات
[ 95 ] ا بشير بن أبي صالح عن أبي هريرة ..وفي تاريخ البخاري جبير أبو صالح عن أبي هريرة روى عنه يزيد بن أبي زياد ولم يذكر فيه جرحا
[ 106 ] فه بلال بن أبي بلال عن أبيه وعنه أبو حنيفة لا يعرف قلت كذا أفرده ...وقد ذكر البخاري في التاريخ أن بلال بن مرداس فزاري يروى عن خيثمة البصري وشهر بن حوشب ويروى عنه عبد الأعلى الثعلبي وليث بن أبي سليم والسدي ولم يذكر فيه جرحا وتبعه بن أبي حاتم
[ 200 ] ا حزام بكسر أوله وبالزاى المعجمة المنقوطة بن إسماعيل العامري كوفي روى عن أبي إسحاق الشيباني والأعمش ومغيرة وعاصم الأحول روى عنه أبو معاوية والحسن بن ثابت وأبو النضر بن هاشم بن القاسم وعطاء بن مسلم قاله الدارقطني وضبطه بالزاي المنقوطة وقال وكذا ذكره البخاري وابن أبي حاتم فيمن اسمه حزام بالزاي ولم يذكرا فيه جرحا
[ 207 ] ا الحسن بن يحيى المروزي عن ابن المبارك والنضر بن شميل وغيرهما وعنه أحمد وغيره فيه نظر قلت روايته عند أحمد مقرونة بعلي بن إسحاق كلاهما عن بن المبارك وعلاها عبد الله بن أحمد عن أحمد بن جميل عن بن المبارك وذكره بن النجار في تاريخ بغداد وذكر انه يروي عنه أيضا يزيد بن يحيى الزهري ولم يذكر فيه جرحا ووقع في الطبقة الثالثة من الثقات لابن حبان الحسن بن يحيى المروزي عن كثير بن زياد وعنه بن المبارك فما أدري أهو هو انقلب أو هو آخر غيره
[ 210 ] هب حصين بن حرملة المهري عن أبي مصبح عن جابر في فضل الخيل وعنه عتبة بن أبي حكيم استدركه شيخنا الهيثمي على الحسيني وقال ذكره بن حبان في الثقات وله في المسند حديثان من طريق عبد الله بن المبارك أحدهما عن حصين غير منسوب والآخر نسب فيه حصينا فقال عن عتبة عن حصين بن حرملة وقد ذكره البخاري فقال يعد في الشاميين ولم يذكر فيه جرحا وتبعه ابن أبي حاتم
[ 237 ] ا حميد بن علي أبو عكرشه العقيلي عن الضحاك بن مزاحم يقال مرسلا وعنه مروان بن معاوية قال الدارقطني لا يستقيم حديثه ولا يحتج به وقال أبو زرعه كوفي لا باس به قلت لم يذكر البخاري فيه جرحا وذكره بن حبان في الطبقة الرابعة من الثقات
وذكر ذلك في الأرقام التالية (242 و303 و327 و330 و332 و338 و394 و434 و470 و491 و497 و499 و503 و531 و534 و 537 و544 و553 و555 و562 و602 و604 و608 و640 و667 و675 و723 و755 و762 و772 و782 و787 و789 و800 و805 و816 و835 و838 و 846 و857 و862 و867 و874 و879 و886 و910 و939 و940 و963 و973 و975 و984 و1046 و 1049 و1084 و 1113 و 1116 و 1137 و1152 و1153 و 1155 و 1170 و 1193 و 1210 و1259 و1263 و 1343 و 1380 و1381 و 1382 و 1418 )
وقد أعقب الحافظ ابن حجر في بعض التراجم قوله : لم يذكر ....فيه جرحا ،بقوله وذكره ابن حبان في الثقات ، وهذا منه ليس للتعقب على ما قبله ، بل هو من باب استيفاء ما ذكرَ في الراوي ، لأن الحافظ قد نقد طريقة ابن حبان في كتابه ( الثقات) في مقدمة كتابه ( لسان الميزان )(8)
وسلك الحافظ ابن حجر أيضاً هذا المسلك في كتابه (لسان الميزان ) وأكتفي بالإشارة على بعض ما جاء من ذلك في الجزء الأول منه فقط ، انظر التراجم ذوات الأرقام التالية : (50و71 و 106 و107 و137 و145 و189 و351و381 و390 و461و563و674 و756 و770 و1005و1044 و1057 و1095و1208و1233و1244و1267و1310و1384 و1398و1399و1415و1438و1452و1456 و1466و1495و1505و1516)
وأما قول الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب(9)721 - عس (مسند علي).إياس بن نذير الضبي الكوفي والد رفاعة.
روى حديثه حسين بن حسن الأشقر عن رفاعة بن إياس بن نذير الضبي عن أبيه عن جده قال كنت مع علي يوم الجمل فبعث إلى طلحة أن القني الحديث هكذا رواه النسائي وقال ابن أبي حاتم إياس بن نذير روى عن شبرمة بن الطفيل عن علي روى عنه أبو حيان التيمي. يعد في الكوفيين.
قلت:وذكره ابن حبان في الثقات وذكره ابن أبي حاتم وبيض فهو مجهول.
ففيه أولاً : أن المزي قد نقل ترجمة ( إياس ) هذا عن ابن أبي حاتم ، وهي في كتابه الجرح والتعديل(10)، ولم ينتبه الحافظ إلى هذا ، فقال : (قلت : وذكره ابن أبي حاتم ...)
وثانياً : قال الحافظ ابن حجر: ( وبيَّضَ فهو مجهول ) والذي في الجرح والتعديل ليس فيه تبييض ، وقد ذكره الحافظ تبعاً للذهبي في الميزان(11)، لكن عبارة الذهبي في الميزان هكذا : وذكره ابن أبي حاتم ، وبيَّضَ ، مجهول )اهـ وليس فيها تفريع الجهالة على التبييض كما هي عبارة ابن حجر ، فانتفى أن يكون هذا النص شاهداً على اعتبار ابن حجر ما سكت عنه ابن أبي حاتم مجهولاً .
وثالثاً :أن لفظ ( مجهول ) في كلام الذهبي ، إنما هو من حكمه وإنشائه ، إذ لم يذكر ذلك أبو حاتم ولا ابنه في كتابه .
وقال الحافظ السخاوي في كتابه الغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - وهو شرح له على منظومة ( الهداية في علم الرواية ) لابن الجزري المقرئ -(12):
( ثالثها ) مجهول الحال فى العدالة باطنا لا ظاهرا لكونه علم عدم الفسق فيه ولم تعلم عدالته لفقدان التصريح بتزكيته، فهذا معنى إثبات العدالة الظاهرة ونفي العدالة الباطنة ،لأن المراد بالباطنة ما في نفس الأمر، وهذا هو المستور والمختار قبولُه وبه قطع سليمُ الرازيُّ ،قال ابنُ الصلاح :ويشبه أن يكون عليه العمل في كثير من كتب الحديث المشهورة فيمن تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة انتهى.
قلتُ :
__________
(1) - زاد المعاد - (ج 1 / ص 444) ونيل الأوطار - (ج 5 / ص 237)
(2) - الترغيب والترهيب للمنري - (ج 2 / ص 64)
(3) - نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 1 / ص 151)
(4) - الموقظة في علم مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 18)
(5) - 2/123
(6) - ص 2-4
(7) - تعجيل المنفعة لابن حجر - (ج 1 / ص 5)
(8) - 1/14-15
(9) - - (ج 1 / ص 342)
(10) - الجرح والتعديل[ ج 2 - ص 282 ] 1019
(11) - 1/283
(12) - - (ج 1 / ص 60)(1/227)
وعلى هذا يترجح العمل بالرأي القائل بقبول (رواية ) المستور على مقابله ، لأنه قد تعذرت الخبرة في كثير من رجال القرن الأول والثاني والثالث ، ولم يعلم عنهم مفسِّقٌ ، ولا تعرف في روايتهم نكارة ، فلو رددنا أحاديثهم أبطلنا سنناً كثيرة ، وقد أخذت الأمة بأحاديثهم ، كما أشار إليه الحافظ ابن الصلاح في كلمته الآنفة الذكر .
وعليه جرى عملُ الإمامين البخاريُّ ومسلمٌ في كتابيهما ( الصحيحين ) كما قال ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله في ( الميزان )1/556 :" في ترجمة 2109 - حفص بن بُغيل [ د ].عن زائدة وجماعة.وعنه أبو كريب، وأحمد بن بديل.قال ابن القطان: لا يعرف له حال ولا يعرف.
قلتُ: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا، فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدلُّ على عدالته.
وهذا شئ كثير، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل."
وقال في ميزان الاعتدال - (ج 3 / ص 426):
"7015 - مالك بن الخير الزبادى .مصرى.محله الصدق.
يروى عن أبي قبيل، عن عبادة - مرفوعا: ليس منا من لم يبجل كبيرنا.
روى عنه حيوة بن شريح، وهو من طبقته، وابن وهب، وزيد بن الحباب، ورشدين.
قال ابن القطان: هو ممن لم تثبت عدالته - يريدُ أنه ما نصَّ أحدٌ على أنه ثقة.
وفي رواة الصحيحين عددٌ كثيرٌ ما علمنا أن أحدا نصَّ على توثيقهم.
والجمهور على أنَّ منْ كان منَ المشايخ قد روى عنه جماعةٌ ولم يأت بما ينكر ُعليه أنَّ حديثَهُ صحيحٌ ."
وهذا الذي ذكره الحافظ الذهبي رحمه الله من مسلك الشيخين قد مشَى عليه الإمامُ أبو حنيفة ومن وافقه من أتباعه وغيرهم ، قال المحقق الآمديُّ الشافعيُّ في كتابه الإحكام في أصول الأحكام(1):
المسألة الأولى مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية ،بل لا بد من خبرة باطنة بحاله ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له.
وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفَى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً. اهـ
وقال به لفيف من أهل العلم ومنهم العلامة عبد الغني البحراني الشافعي في كتابه قرة العين في ضبط رجال الصحيحين ص 8 : لا يقبل مجهول الحال ، وهو على ثلاثة أقسامٍ :
أحدها : مجهول العدالة ظاهرا وباطناً ، فلا يقبل عند الجمهور .
ثانيها: مجهول العادلة باطناً لا ظاهراً ، وهو المستور ، والمختار قبوله ، وقطع به سليم الرازي- أحد أئمة الشافعية وشيخ الحافظ الخطيب البغدادي- وعليه العملُ في أكثر كتب الحديث المشهورة ، فيمن تقادم عهدهم وتعذَرتْ معرفتهم ) اهـ
وقال العلامة المحقق البارع محمد حسن السنبهلي الهندي في مقدمة كتابه النفيس ( تنسيق النظام في مسند الإمام )- أي الإمام أبي حنيفة -ص 68 : ( قال القسطلاني في إغرشاد الساري 1/16 : وقبلَ المستورُ قومٌ ورجحه ابن الصلاح ) وقال ابن حجر في شرح النخبة : وقبلَ روايتهَ جماعةٌ بغير قيدٍ )اهـ كلام السنبهلي .
وقال العلامة علي القاري في شرح شرح النخبة(2):
"(وقد قبل روايته) أي المستور، (جماعة) منهم أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، (بغير قيد) يعني بعصر دون عصر ذكره السخاوي. وقيل: أي بغير قيد التوثيق وعدمه، وفيه أنه إذا وثق خرج عن كونه مستورا، فلا يتجه قوله: بغير قيد. واختار هذا القول، ابن حبان تبعا للإمام الأعظم ؛ إذ العدل عنده: من لا يعرف فيه الجرح، قال: والناس في أحوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، ولم يكلف الناس ما غاب عنهم، وإنما كلفوا الحكم للظاهر، قال تعالى: : {{ولا تجسسوا}} ولأن أمر الأخبار مبني على الظن، و (إن بعض الظن إثم)، ولأنه يكون غالبا عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر، وتفارق الشهادة، فإنها تكون عند الحكام ولا يتعذر عليهم ذلك فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن. قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي، في كثير من كتب الحديث المشهورة، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، فاكتفي بظاهرهم، وقيل: إنما قبل أبو حنيفة رحمه الله في صدر الإسلام حيث كان الغالب على الناس العدالة، فأما اليوم فلا بد من التركيز لغلبة الفسق، وبه قال صاحباه أبو يوسف، ومحمد. وحاصل الخلاف: أن المستور من الصحابة، والتابعين وأتباعهم، يقبل بشهادته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بقوله: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم " وغيرهم لا يقبل إلا بتوثيق، وهو تفصيل حسن." ..اهـ
والأخذ بهذا المذهب فيمن سكتوا عنه وجيهٌ للغاية جدًّا ، وأما من كان بعد خير القرون الثلاثة بعد فشوِّ الكذب وقيام الحفاظ بالرحلة وتأليف الكتب في الرجال والرواة ، فينبغي أن لا يقبلَ إلا من ثبتتْ عدالتهُ وتحققت فيه شروطُ قبول الرواية التي رسمها المتأخرون .
فإذا علمَ هذا كله ، اتضحت وجاهةُ ما أثبتُّه من أنَّ مثلَ البخاري ، أو أبي حاتم ، أو ابن أبي حاتم ،أو أبي زرعة ، أو ابن يونس المصري ، أو ابن حبان ، أو ابن عديٍّ ، أو الحاكم الكبير أبي أحمدَ ، أو ابن النجار البغدادي ، أو غيرهم ممن تكلم في الرجال ، إذا سكتوا عن الراوي الذي لم يجرح ، ولم يأتِ بمتنٍ منكرٍ : يعدُّ سكوتهُم عنه من باب التوثيق والتعديل ، ولا يعدُّ من باب التجريحِ والتجهيل ِ ، ويكون حديثه لا ينزلُ عن مرتبة الحسَنِ ، إذا سلِمَ من المغامز ، والله تعالى أعلم .
وقد سار على هذا المسلك العلامة أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد(3)وفي تعليقه على مختصره لتفسير ابن كثير الذي سماه عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير(4)، وكذلك الشيخ العلامة ظفر أحمد التهانوي في كتابه قواعد في علوم الحديث(5)وحبيب الرحمن الأعظمي في كتبه وتعليقاته الكثيرة .(6)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - - (ج 1 / ص 324)
(2) - شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 518)
(3) - انظر الجزء السابع الحديث رقم(5544)
(4) - انظر منه 1/60 و88 و165 و168
(5) - ص 358 و404
(6) - انظر الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي بتعليق العلامة الشيخ عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله من ص 230 فما بعدها الهامش بحث (( سكوت المتكلمين في الرجال عن الراوي الذي لم يجرح ، ولم يأت بمتنٍ منكر : يعدُّ تعديلاً ) وقد اقتبست منه كثيرا وزدت عليه زيادات كثيرة .(1/228)
12- أشهرُ المصنفات في أسباب الجهالة :
أ) كثرة نعوت الراوي: صنف فيها الخطيب كتاب " مُوْضِح أوهام الجَمْع والتفريق"
ب) قلة رواية الراوي :صُنف فيها كتب سميت " كتب الوحدان " أي الكتب المشتملة على من لم يَرْوِ عنه إلا واحد ، ومن هذه الكتب " الوُحْدان " للإمام مسلم.
ج) عدم التصريح باسم الراوي : وصُنِّف فيه كتب المُبْهَمَات " مثل كتاب " الأسماء المُبهمة في الأنباء المُحْكَمَة " للخطيب البغدادي وكتاب " المُسَتفاد من مُبْهَمَات المتن والإسناد " لولي الدين العراقي .
ـــــــــــــــ(1/229)
البِدْعَةُ(1)
1- تعريفها:
أ) لغة: هي مصدر من " بَدَعَ " بمعنى " أَنْشَأَ " كابتداع(2).
والمبتدع اسم فاعل من الابتداع والابتداع في أصل اللغة الاختراع على غير مثل . ومنه (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة/117]) أي مبدعهما ومنشئهما على غير مثال سابق.
ب) اصطلاحاً : البدعةُ الحدث في الدين بعد الإكمال(3). وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ »(4).
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ »(5).
وبالنظر في معنى هذا الحديث فإن الردَّ لا يتناول كل أمر محدث وإنما مختص بما ليس في دين الله تبارك وتعالى .
ولذا يقول ابن الأثير الجزري(6): " البِدْعةُ بدْعتان بدعةُ هُدى وبدْعة ضلال فما كان في خلاف ما أَمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو في حَيِزّ الذّمِّ والإِنكار، وما كان واقعاً تحت عُموم ما ندَب اللهُ إِليه وحَضّ عليه أَو رسولُه فهو في حيِّز المدح ، وما لم يكن له مِثال موجود كنَوْع من الجُود والسّخاء وفِعْل المعروف فهو من الأَفعال المحمودة، ولا يجوز أَن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأَن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل له في ذلك ثواباً فقال : « مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ »(7). وذلك إِذا كان في خلاف ما أَمر الله به ورسوله قال ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه:" نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ"(8)لمّا كانت من أَفعال الخير وداخلة في حيّز المدح سَمّاها بدعة ومدَحَها ، لأَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّها لهم ،وإِنما صلاَّها لَيالِيَ ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها ولا كانت في زمن أَبي بكر وإِنما عمر رضي الله عنهما جمع الناسَ عليها وندَبهم إِليها، فبهذا سماها بدعة وهي على الحقيقة سنَّة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ "(9). وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِى أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ »(10). وعلى هذا التأْويل يُحمل الحديث الآخَر كلُّ مُحْدَثةٍ بدعة إِنما يريد ما خالَف أُصولَ الشريعة ولم يوافق السنة وأَكثر ما يستعمل المُبْتَدِعُ عُرْفاً في الذمِّ اهـ
هذا بالنسبة إلى عموم اللغة أمَّا المحدِّثون والفقهاء فإنهم حينما يقولون فلان مبتدع فإنما يراد به الذم وما خالف ما عليه الشريعة .
2- أنواعها:
البدعةُ نوعان :
القسم الأول: بدع يكفر بها صاحبها:
، ولا بد أن يكون ذلك التكفير متفقاً عليه في قواعد جميع الأئمة كما في غلاة الرفض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في علي أو غيره أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة(11)فهؤلاء لا خلاف بين العلماء انهم لا تجوز الرواية عنهم تحت أي ظرف من الظرف لأن الإسلام شرط في ثبوت العدالة .
أما إذا لم يكن التكفير متفقاً عليه فلا إجماع على رد روايته يقول ابن حجر: "والتحقيق : أنه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكفَّرٍ ببدعَتِه ؛ لأَنَّ كلَّ طائفةٍ تدَّعي أَنَّ مخالِفيها مبتَدِعةٌ ، وقد تُبالِغُ فتُكفِّرُ مخالِفها ، فلو أُخِذَ ذلك على الإِطلاقِ ؛ لاسْتَلْزَمَ تكفيرَ جميعِ الطَّوائفِ ، فالمُعْتَمَدُ أَنَّ الَّذي تُرَدُّ روايتُهُ مَنْ أَنْكَرَ أَمراً مُتواتِراً مِنَ الشَّرعِ ، معلوماً مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ ، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ "(12)
والمقصود من هذا أن يكون المكفِّر قام عليه الدليل ليس بمجرد التعصب والتقليد ،بل قام الدليل على كفره بأن يكون أتى شيئاً يوجب تكفيره بالأدلة الشرعية، أما كونه يكفر لهواه أو لمخالفة نحلته فلا ،المهم أن تكون البدعة المكفِّرة من جهة الدليل .(13)
القسم الثاني: بدعٌ يفسق بها صاحبها:
كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذلك الغلو ، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنَّة خلافاً ظاهراً لكنه مستندٌ إلى تأويل ظاهره سائع.(14)
وفي قبول رواية من كان على هذه الشاكلة، إن كان معروفاً في التحرز من الكذب مشهورا بالسلامة من خوارم المروءة موصوفا بالديانة والعبادة .
3- حكمُ رواية المبتدع :
لقد تضاربت فيه مذاهب أهل الحديث ، بين قبول حديث الموصوف به وردِّه ، أو قبوله في حال وردِّه في حال .
وإنما دخل الإشكال على من ذهب إلى القدح بذلك أن البدعة خللٌ في الدين ، وذلك موجب للقدح في العدالة .
قال سلام بن أبي مطيع : بلغ أيوب ( يعني السختياني ) أني آتي عمراً ( يعني ابن عبيد )(15)، فَأَقْبَلَ عَلَىَّ يَوْمًا فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً لاَ تَأْمَنُهُ عَلَى دِينِهِ كَيْفَ تَأْمَنُهُ عَلَى الْحَدِيثِ "(16).
وقال ابن حبان : " "وأما المنتحلون المذاهب من الرواة، مثل الإرجاء والترفض وما أشبههما، فإنا نحتجُّ بأخبارهم إذا كانوا ثقات، على الشرط الذي وصفناه، ونَكِلُ مذاهبهم وما تقلدوه فيما بينهم وبين خالقهم إلى الله -جل وعلا- إلا أن يكونوا دعاة إلى ما انتحلوا، فإن الداعي إلى مذهبه، والذابَّ عنه حتى يصير إماماً فيه -وإن كان ثقة- ثم روينا عنه، جعلنا للاتباع لمذهبه طريقاً، وسوَّغنا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله. فالاحتياطُ ترك رواية الأئمة الدعاة منهم، والاحتجاج بالثقات الرواة منهم، على حسب ما وصفنا، ولو عمدنا إلى ترك حديث الأعمش، وأبي إسحاق، وعبد الملك بن عمير، وأضرابهم، لِمَا انتحلوا، وإلى قتادة، وسعيد بن أبي عروبة، وابن أبي ذئب وأشباههم، لِمَا تقلَّدوا، وإلى عمر بن ذر، وإبراهيم التيمي، ومسعر بن كدام، وأقرانهم، لِمَا اختاروا، فتركنا حديثهم لمذاهبهم، لكان ذلك ذريعة إلى ترك السُّنَن كلها، حتى لا يحصل في أيدينا من السُّنَن إلا الشيء اليسير"(17).
مذاهب أهل العلم في ردِّ حديث أهل البدع أو قبوله :
هي محصورة في أربعة مذاهب :
المذهب الأول : ترك حديثهم مطلقاً ، أي : البدعة جِرحة مسقطٌةٌ للعدالة .
ذهب طائفة من العلماء منهم محمد بن سيرين ، والإمام مالك وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي إلى رد رواية المبتدع مطلقا ،وقد قال عبد الرحمن: " ثَلَاثَةٌ لَا يُحْمَلُ عَنْهُمُ , الرَّجُلُ الْمُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ , وَالرَّجُلُ كَثِيرُ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ , وَرَجُلٌ صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو إِلَى بِدْعَةٍ "(18)
وعن محمد بن سيرين قال : " كَانَ فِى الزَّمَنِ الأَوَّلِ لاَ يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ سَأَلُوا عَنِ الإِسْنَادِ لِكَىْ يَأْخُذُوا حَدِيثَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيَدَعُوا حَدِيثَ أَهْلِ الْبِدَعِ. "(19)
وعن مالك بن أنس ، قال : " لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم من العلم شيئاً ، وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم ، وكانوا أصنافاً : فمنهم من كان كذاباً في غير علمه ، تركته لكذبه ، ومنهم من كان جاهلاً بما عنده ، فلم يكن عندي موضعاً للأخذ عنه لجهله ، ومنهم من كان يدين برأي سوء "(20).
وحجَّةُ هؤلاء تكمن فيما يلي:-
أولاً: ما أخرجه الخطيب بسنده عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ اللَّخْمِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلاثَةً: إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَلْتَمِسَ الْعِلْمَ عِنْدَ الأَصَاغِرِ..(21)
والأصاغر في الحديث هم أهل البدع كما نصَّ على ذلك ابن المبارك فيما أخرجه عنه الخطيب البغدادي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمُزَكِّي ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ ، قَالَ : سَمِعْتُ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيَّ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ مَحْبُوبَ بْنَ مُوسَى ، " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ : " أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ " قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَسَأَلْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ : مَنِ الْأَصَاغِرُ ؟ قَالَ : " أَهْلُ الْبِدَعِ "(22).
ثانياً: إن المبتدع فاسقٌ ببدعته ، وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول ، يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول(23).
ثالثاً: إن البدعة والهوى لا يؤمن معهما الكذب ، فعن أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئِ , قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ لَهِيعَةَ , يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ رَجَعَ عَنْ بِدْعَتِهِ , فَجَعَلَ يَقُولُ : " انْظُرُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ , فَإِنَّا كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا رَأْيًا جَعَلْنَاهُ حَدِيثًا "(24)
وعَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ , قَالَ : سَمِعْتُ شَيْخًا , مِنَ الْخَوَارِجِ وَهُوَ يَقُولُ : " إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ دِينٌ , فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ , فَإِنَّا كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا "(25)
وعن حماد بن سلمة حَدَّثَنِي شَيْخٌ ، لَهُمْ - يَعْنِي الرَّافِضَةَ - تَابَ قَالَ : " كُنَّا إِذَا اجْتَمَعْنَا وَاسْتَحْسَنَّا شَيْئًا جَعَلْنَاهُ حَدِيثًا "(26).
رابعا: إن في عدم قبول روايته إخماداً لبدعته وفي قبولها ترويج لأمره وتنويه بذكره . ولذا فإن كثيراً من العلماء قال: إن كان الحديث يروى من طريق أخرى غير طريق صاحب البدعة فإنه يضرَبُ الصفح عن روايته إخمادا لبدعته وإماتة لشأنه(27).
المذهب الثاني : التفريقُ بحسب شدة البدعة وخفتها في نفسها ، وبحسب الغلو فيها أو عدمه بالنسبة إلى صاحبها .
قال الإمام أحمد بن حنبل : " احتملوا المرجئة في الحديث "(28).
وقال إبراهيم الحربي : حدثنا أحمد يوماً عن أبي قطن ( يعني عمرو بن الهيثم ) ، فقال له رجل : إن هذا بعدما رجع من عندكم إلى البصرة تكلم بالقدر وناظر عليه ، فقال أحمد : " نحن نحدِّثُ عن القدرية(29)، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية "(30).
وأحمد شدد في حديث الجهمية(31)لغلظ بدعتهم ، وتوسط في القدرية ، فقبل من لم يكن داعية ، وسهل في المرجئة(32)، قال ابن رجب الحنبلي : " فيخرج من هذا : أن البدع الغليظة كالتجهم يردُّ بها الرواية مطلقاً ، والمتوسطة كالقدر إنما يردُّ رواية الداعي إليها ، والخفيفة كالإرجاء ، هل يقبل معها الرواية مطلقاً ، أو يردُّ عن الداعية ؟ على روايتين "(33).
وقال مسلم بن الحجاج : " اعْلَمْ - وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنَ الْمُتَّهَمِينَ أَنْ لاَ يَرْوِىَ مِنْهَا إِلاَّ مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ. وَالسِّتَارَةَ فِى نَاقِلِيهِ. وَأَنْ يَتَّقِىَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ "(34).
المذهب الثالث : التفريقُ بين الداعي إلى بدعته ، وغير الداعي ، فيردُّ الأول ، ويقبلُ الثاني .
قال الحاكم : " " يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ غَيْرُ خَصْلَةٍ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ ثَبْتَ الْأَخْذِ ، وَيَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ , وَيُبْصِرُ الرِّجَالَ ، ثُمَّ يَتَعَهَّدُ ذَلِكَ " قَالَ الْحَاكِمُ : وَمِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ طَالِبُ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِ الْمُحَدِّثِ أَوَّلًا ، هَلْ يَعْتَقِدُ الشَّرِيعَةَ فِي التَّوْحِيدِ وَهَلْ يُلْزِمُ نَفْسَهُ طَاعَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ ، وَوَضَعُوا مِنَ الشَّرْعِ ، ثُمَّ يَتَأَمَّلُ حَالَهُ ، هَلْ هُوَ صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْبِدْعَةِ لَا يُكْتَبُ عَنْهُ وَلَا كَرَامَةَ , لِإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِهِ ثُمَّ يَتَعَرَّفُ سِنَّهُ هَلْ يَحْتَمِلُ سَمَاعَهُ مِنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ الْمَشَايِخِ جَمَاعَةً أَخْبَرُونَا بِسِنٍّ يَقْصُرُ عَنْ لِقَاءِ شُيُوخٍ ، حَدَّثُوا عَنْهُمْ ، ثُمَّ يَتَأَمَّلُ أُصُولَهُ أَعَتِيقَةٌ هِيَ أَمْ جَدِيدَةٌ ؟ فَقَدْ نَبَغَ فِي عَصْرِنَا هَذَا جَمَاعَةٌ يَشْتَرُونَ الْكُتُبَ فَيُحَدِّثُونَ بِهَا ، وَجَمَاعَةٌ يَكْتُبُونَ سَمَاعَاتِهِمْ بِخُطُوطِهِمْ فِي كُتُبٍ عَتِيقَةٍ فِي الْوَقْتِ فَيُحَدِّثُونَ بِهَا ، فَمَنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلَ الصَّنْعَةِ فَمَعْذُورٌ بِجَهْلِهِ ، فَأَمَّا أَهْلُ الصَّنْعَةِ إِذَا سَمِعُوا مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ الْخِبْرَةِ ، فَفِيهِ جَرْحُهُمْ وَإِسْقَاطُهُمْ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ بِالصَّنْعَةِ لَا يُعْذَرُ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَعْرِفُهُ وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِين "(35).
هذا منقول عن عبد الله بن المبارك ، وعبد الرحمن بن مهدي ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين(36).
__________
(1) - وهي السبب التاسع من أسباب الطعن في الراوي . انظر قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 154) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 26) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 22) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 521) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 62) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 4 / ص 42) وجرح الرواة وتعديلهم - (ج 7 / ص 43) فما بعد
(2) - تاج العروس - (ج 1 / ص 5092) ولسان العرب - (ج 8 / ص 6)
(3) - -مختار الصحاح/ مادة (ب ر ع) .
(4) - صحيح مسلم (2042 )
قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْبِدْعَة خَمْسَة أَقْسَام : وَاجِبَة ، وَمَنْدُوبَة وَمُحَرَّمَة ، وَمَكْرُوهَة ، وَمُبَاحَة . فَمِنْ الْوَاجِبَة : نَظْم أَدِلَّة الْمُتَكَلِّمِينَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمَلَاحِدَة وَالْمُبْتَدِعِينَ وَشِبْه ذَلِكَ . وَمِنْ الْمَنْدُوبَة : تَصْنِيف كُتُب الْعِلْم ، وَبِنَاء الْمَدَارِس وَالرُّبُط وَغَيْر ذَلِكَ . وَمِنْ الْمُبَاح : التَّبَسُّط فِي أَلْوَان الْأَطْعِمَة وَغَيْر ذَلِكَ . وَالْحَرَام وَالْمَكْرُوه ظَاهِرَانِ . وَقَدْ أَوْضَحْت الْمَسْأَلَة بِأَدِلَّتِهَا الْمَبْسُوطَة فِي تَهْذِيب الْأَسْمَاء وَاللُّغَات ، فَإِذَا عُرِفَ مَا ذَكَرْته عُلِمَ أَنَّ الْحَدِيث مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوص . وَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة ، وَيُؤَيِّد مَا قُلْنَاهُ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي التَّرَاوِيح : نِعْمَتْ الْبِدْعَة ، وَلَا يَمْنَع مِنْ كَوْن الْحَدِيث عَامًّا مَخْصُوصًا . شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 247)
(5) - صحيح البخارى (2697 ) ومسلم (4589 )
وَهَذَا الْحَدِيث مَعْدُود مِنْ أُصُول الْإِسْلَام وَقَاعِدَة مِنْ قَوَاعِده ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ : مَنْ اِخْتَرَعَ فِي الدِّين مَا لَا يَشْهَد لَهُ أَصْل مِنْ أُصُوله فَلَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ .
قَالَ النَّوَوِيّ : هَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَنَى بِحِفْظِهِ وَاسْتِعْمَاله فِي إِبْطَال الْمُنْكَرَات وَإِشَاعَة الِاسْتِدْلَال بِهِ كَذَلِكَ .فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 229)
(6) - لسان العرب - (ج 8 / ص 6) والنهاية في غريب الأثر - (ج 1 / ص 267)
(7) - صحيح مسلم (6975 )
(8) - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِىِّ أَنَّهُ قَالَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّى الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وَيُصَلِّى الرَّجُلُ فَيُصَلِّى بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرَانِى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ.فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ - قَالَ - ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ فَقَالَ عُمَرُ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَالَّتِى تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِى تَقُومُونَ. يَعْنِى آخِرَ اللَّيْلِ وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. موطأ مالك (249 ) وهو صحيح
(9) - سنن أبى داود (4609 ) مطولا وهو صحيح
(10) - سنن الترمذى (4023 ) وهو حديث حسن لغيره
(11) - مقدمة فتح الباري 385 .
(12) - (انظر نخبة الفكر ذيل سبل السلام 4/230) . ونزهة النظر - (ج 1 / ص 26)
(13) - التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 21)
(14) - انظر مقدمة فتح الباري/ 385 ،
فأما الخوارج فبدعتهم أول البدع في الإسلام ، وذلك حينَ شقوا عصا الطاعة وخرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . والقدرية ، هُم القائلون بنفي القدر ، أي : أن الشر من خلق العبْد لا من خلق الله ، ومنه من يقول : لا يعلمه الله من المخلوق حتى يفعله . والرافضة : مبْغضو أبي بكر وعُمر وعثمان ، أو مكفروهم ، والغلاة في علي بن أبي طالب وأهل بيته ، والشيعة لقَبٌ يَشملهم ، لكن يدْخل فيه : مُجرد تقديم علي على أبي بكر وعُمر دونَ البُغض . والناصبة : من قابلوا الرافضة في بُغض علي وأهْل بيته . والمرجئة : من ذهب إلى أن الإيمان مُجرَّد اعتقادِ القلب وإقرار اللسان ، وأنَّ الأعمال ليست من الإيمان ، وعليه فهو لا يزيد ولا ينقص ، ومنهم من غلا فقال : لا يضرُّ مع الإيمان معصية . والجهمية : أتباع جهم بن صَفوان في نفي صِفات الباري تعالى ، واعتقاد خلق القرآن . والواقفة : هم من توقَّف في القرآن حين ظهرت المقالة فيه فقالوا : لا نقول هو مخلوق ، ولا غير مخلوق .
(15) - وهوَ من رءوس القدرية .
(16) - مقدمة صحيح مسلم ( 1 / 23 ) بإسناد صحيح .
(17) - الإحسان في تقريب صحيح ابنِ حبان ( 1 / 160 ) ومن تكلم فيه وهو موثق أو صالح الحديث - (ج 1 / ص 8)
(18) - الضعفاء/ العقيلي 1/3 وانظر مقدمة ابن الصلاح/ 228 ومقدمة فتح الباري 385 ، والجامع لأخلاق الراوي 1/137 .
(19) - أثرٌ صحيح . أخرجه مُسلم في " مُقدمة صحيحه " ( 1 / 15 ) والترمذي في ( العلل ) آخر كتاب " الجامع " ( 6 / 231 ) والجوزجاني في " أحوال الرجال " ( ص : 35 _ 36 ) وعبد الله بن أحمد في " العلل " ( النص : 3640 ) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 1 / 1 / 28 ) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " ( ص : 208 - 209 ) والعُقيلي في " الضعفاء " ( 1 / 10 ) وابنُ عدي في " الكامل " ( 1 / 214 ) وابنُ حبان في " المجروحين " ( 1 / 82 ) والخطيب في " الكفاية " ( ص : 197 ) من طريق إسماعيل بن زكريا الخُلقانيِّ ، عن عاصم الأحوال ، عن ابن سيرين ، به . وإسناده جيد .
(20) - أخرجه ابنُ عبد البرِّ في " التمهيد " ( 1 / 65 ) بإسناد صحيح .
(21) - الجامع لأخلاق الراوي 1/137 وجامع بيان العلم 1/157 والصحيحة (695) وصحيح الجامع (2207) وهو صحيح
(22) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (161)
(23) - -مقدمة ابن الصلاح 228 .
(24) - الكفاية (316 )
(25) - السابق (317 )
(26) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (163 )
(27) -انظر مقدمة فتح الباري/ 385 .
(28) - سؤالات أبي داود ( النص : 136 ) .
(29) - ( َالْقَدَرِيَّةُ ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَتُسَكَّنُ وَهُمْ الْمُنْكِرُونَ لِلْقَدَرِ ، الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَتِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ لَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ، إِنَّمَا نُسِبَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إِلَى الْقَدَرِ لِأَنَّهُمْ يَبْحَثُونَ فِي الْقَدَرِ كَثِيرًا .تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 439)
(30) - أخرجه الخطيب في " تاريخه " ( 12 / 200 ) وإسناده حَسنٌ .
(31) - هُمْ الطَّائِفَة مِنَ الْمُبْتَدِعَة يُخَالِفُونَ أَهْل السُّنَّة فِي كَثِير مِنَ الْأُصُول كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَة وَإِثْبَات الصِّفَات يُنْسَبُونَ إِلَى جَهْم بِفَتْحِ فَسُكُون هُوَ جَهْم بْنُ صَفْوَان مِنْ أَهْل الْكُوفَة .حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 1 / ص 162)
(32) - َقَالَ الطِّيبِيُّ : قِيلَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ فَيُؤَخِّرُونَ الْعَمَلَ عَنِ الْقَوْلِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْمُرْجِئَةَ هُمْ الْجَبْرِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْعَبْدِ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْجَمَادَاتِ ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَنِ الِاعْتِدَادِ بِهِمَا وَيَرْتَكِبُونَ الْكَبَائِرَ . فَهُمْ عَلَى الْإِفْرَاطِ وَالْقَدَرِيَّةُ عَلَى التَّفْرِيطِ وَالْحَقُّ مَا بَيْنَهُمَا اِنْتَهَى .تحفة الأحوذي - (ج 5 / ص 439)
(33) - شرح علل الترمذي ( 1 / 56 ) ، والرواية الأولى عن أحمد في المرجئة في القبول مُطلقاً هي التي ذكرْت ، وأما الثانية فتأتي في المذهب الثالث .
(34) - مُقدمة صحيح مُسلم ( ص : 8 ) .
(35) - مَعرفة علوم الحديث ( ص : 16 ) .رقم(21)
(36) - الكفاية ، للخطيب ( ص : 203 - 205 ) .(1/230)
وقال نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ , يَقُولُ- وَقِيلَ لَهُ تَرَكْتَ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَتُحَدِّثُ عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ وَسَعِيدٍ وَفُلَانٍ , وَهُمْ كَانُوا فِي عِدَادِهِ ؟ قَالَ : " إِنَّ عَمْرًا كَانَ يَدْعُو "(1).
وعن عبد الله بن المبارك قال : " يُكْتَبُ الْحَدِيثُ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ , غَلَّاطٍ لَا يَرْجِعُ , وَكَذَّابٍ , وَصَاحِبِ هَوًى يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ , وَرَجُلٍ لَا يَحْفَظُ فَيُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ "(2).
كما روى نعيم ، قال : قلت لا بن المبارك : لأي شيء تركوا عمرو بن عبيد ؟ قال : " إن عمراً كان يدعو " يعني إلى القدر(3).
وقال عبد الرحمن بن مهدي : " مَنْ رَأَى رَأْيًا وَلَمْ يَدْعُ إِلَيْهِ احْتُمِلَ , وَمَنْ رَأَى رَأْيًا وَدَعَا إِلَيْهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ التَّرْكَ "(4).
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: " ثَلَاثَةٌ لَا يُحْمَلُ عَنْهُمُ , الرَّجُلُ الْمُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ , وَالرَّجُلُ كَثِيرُ الْوَهْمِ وَالْغَلَطِ , وَرَجُلٌ صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو إِلَى بِدْعَةٍ "(5).
وقال أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ , قَالَ : قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : يُكْتَبُ عَنِ الْقَدَرِيِّ ؟ قَالَ : " إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاعِيًا " .
قَالَ الْخَطِيبُ : إِنَّمَا مَنَعُوا أَنْ يُكْتَبَ عَنِ الدُّعَاةِ , خَوْفًا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا عَلَى وَضْعِ مَا يُحَسِّنُهَا , كَمَا حَكَيْنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا عَنِ الْخَارِجِيِّ التَّائِبِ قَوْلَهُ : كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا "(6).
وقال أبو بكر المروذي : " كان أبو عبد الله ( يعني أحمد ) يحدِّثُ عن المرجئ إذا لم يكن داعية أو مخاصماً "(7).
وقال جعفر بن محمد بن أبان الحراني : قلت لأحمد بن حنبل : فنكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء ؟ قال :" نعم ، إذا لم يكن يدعو إليه ويكثر الكلام فيه ، فأما إذا كان داعياً فلا "(8).
وعن مَعْنَ بْنِ عِيسَى , قَالَ : كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ : " لَا تَأْخُذِ الْعِلْمَ مِنْ أَرْبَعَةٍ , وَخُذْ مِمَّنْ سِوَى ذَلِكَ , لَا تَأْخُذْ مِنْ سَفِيهٍ مُعْلِنٍ بِالسَّفَهِ وَإِنْ كَانَ أَرْوَى النَّاسِ , وَلَا تَأْخُذْ مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ , إِذَا جُرِّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَا مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ , وَلَا مِنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ " قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ : فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَسَارِيِّ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ , فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا , وَلَكِنْ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : لَقَدْ أَدْرَكْتُ بِهَذَا الْبَلَدِ يَعْنِي الْمَدِينَةَ مَشْيَخَةً لَهُمْ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ يُحَدِّثُونَ , مَا سَمِعْتُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدِيثًا قَطُّ , قِيلَ : وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَا يُحَدِّثُونَ(9)"
وقال أَبُوعَبْدِ الرَّحْمَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَلَبِيُّ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مُحَدِّثٍ كَذَبَ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ ثُمَّ تَابَ وَرَجَعَ , قَالَ : " تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى , وَلَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ أَبَدًا ".(10)
قلت : عبارات أحمد في ذلك جاءت بالتشديد في أمر الداعية ، في الكتابة عنه ، وليس في تخريج حديثه مطلقاً ، والفرق بين الصورتين : أنه عرف من منهج أحمد التشديد على المخالفين في الأصول ، والكتابة عن أحدهم تحسين لأمره عند من لا يعرفه ، وتغرير للناس به ، فكان يشدد في أمر هؤلاء تنفيراً للناس عنهم ، وهذا إنما يؤثر في حقِّ الأحياء يقصد الراوي أن يحمل عن أحدهم الحديث ، أمَّا الأموات الذين لم يعرف الناس من أمرهم إلا ما خلَّفوه من علم أو رواية ، فهؤلاء خرَّج أحمد من حديثهم الكثير في كتبه ، من شتى طوائف أهل القبلة ، وفيهم من كان غالياً ، ولا يبعد أن يكون داعية .
ولذا قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : قِيلَ لِأَحْمَدَ يَعْنِي ابْنَ حَنْبَلٍ : فِي حَدِيثِكَ أَسْمَاءُ قَوْمٍ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ ؟ فَقَالَ : " نَحْنُ هُوَ ذَا نُحَدِّثُ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ " قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ : أَكَانَ يُحَدِّثُ عَنِ الْقَدَرِيَّةِ ؟ فَقَالَ : لَا أَعْلَمُهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ قَوْمٍ عَنْهُمْ "(11).
وقال يحيى بن معين : " مَا كَتَبْتُ عَنْ عَبَّادِ بْنِ صُهَيْبٍ , وَقَدْ سَمِعَ عَبَّادٌ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ قَدَرِيٌّ يَرْوِي عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ . قُلْتُ لِيَحْيَى : هَكَذَا تَقُولُ فِي كُلِّ دَاعِيَةٍ , لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ إِنْ كَانَ قَدَرِيًّا أَوْ رَافِضِيًّا , أَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَاءِ , مِمَّنْ هُوَ دَاعِيَةٌ ؟ قَالَ : لَا يُكْتَبُ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ , وَلَا يَدْعُو إِلَيْهِ كَهِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ وَغَيْرِهِ , مِمَّنْ يَرَى الْقَدَرَ وَلَا يَدْعُو إِلَيْهِ "(12)
__________
(1) - الضعفاء ، للعقيلي ( 3 / 277 ) ومن طريقه : الخطيب في " الكفاية " ( ص : 203 - 204 ) (331) بإسناد صالح
(2) - الخطيب في " الكفاية " ( ص 227 )(397)
(3) - أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " ( ص : 273 ) وإسناده صالح .
(4) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 203 ) رقم(329) وإسناده صحيح .
(5) - أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل " ( النص : 4947 ) وعنه : العُقيلي ( 1 / 8 ) وإسناده صحيح
(6) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 204 - 205 ) رقم(335) .
(7) - العلل رواية المروذي ( النص : 213 ) .
(8) - أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين " ( 1 / 82 ) وإسناده صحيح .
(9) - الكفاية (294 )
(10) - الكفاية (295 ) وإسناده صحيح
(11) - الكفاية (340 )
(12) - الكفابة (332 )(1/231)
وقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يَخْتَلِفُ إِلَى أَيُّوبَ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهُ وَاخْتَلَفَ إِلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، فَجَاءَ إِلَى أَيُّوبَ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ : بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخْتَلِفُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ ، قَالَ : نَعَمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ، عِنْدَهُ غَرَائِبُ ، قَالَ : مِنْ تِلْكَ الْغَرَائِبِ نَفِرُّ . حَدَّثَنِي جَدِّي ، قَالَ : سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عَامِرٍ ، وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فِي شَيْءٍ قَالَهُ ، فَقَالَ : كَذَبَ ، وَكَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ الْآثِمِينَ ، وَذَكَرَ سَعِيدٌ يَوْمًا رَجُلًا لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَالَ : كَانَ الْمِسْكِينُ بِارًّا بِأُمِّهِ ، وَلَكِنْ كَانَ مُبْتَدِعًا ، فَقِيلَ لَهُ : عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ هُوَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَا كَرَامَةَ لِعَمْرٍو . وَكَانَ عَمْرٌو أَقَلَّ مِنْ ذَاكَ وَأَرْذَلَ مِنْ ذَلِكَ . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ : حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ قَالَ : سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ مُعَاذٍ ، يَصِيحُ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ لِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ : أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ تَرْوِي عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : لَوْ كَانَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ حُجَّةٌ . حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ ، قَالَا : حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ قَالَ : قُلْتُ لِحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ : يَا أَبَا سَلَمَةَ ، رَوَيْتَ عَنِ النَّاسِ ، وَتَرَكْتَ ، عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ قَالَ : إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ النَّاسَ يُصَلُّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَهُوَ مُدْبِرٌ عَنْهَا ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ عَلَى بِدْعَةٍ فَتَرَكْتُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ . حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ : سَمِعْتُ قُرَيْشَ بْنَ أَنَسٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَمَا تَصْنَعُ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ خَيْرٌ مِنْهُ . حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِيثٍ ، لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَأَبَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ ، وَقَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ : مَا تَصْنَعُ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ؟ كَانَ قَدَرِيًّا مُعْتَزِلِيًّا . حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْفَرَّاءُ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ : كَانَ أَيُّوبُ يَقُولُ : مَا فَعَلَ الْمَقِيتُ ؟ يَعْنِي عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، قَالَ لِي حُمَيْدٌ : لَا تَأْخُذَنَّ عَنْ هَذَا الشَّيْخِ شَيْئًا ، وَإِنَّهُ يَكْذِبُ عَنِ الْحَسَنِ ، يَعْنِي عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ : حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ : حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ أَيُّوبَ فَحَدَّثَهُ رَجُلٌ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ : لَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ مُسَدَّدًا مُوَفَّقًا حَتَّى حَكَّمَ الْحَكَمَيْنِ ، فَقَالَ أَيُّوبُ : كَذَبَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، مَا قَالَ الْحَسَنُ هَذَا قَطُّ ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : أَخْبَرْتُ عَمْرًا فَقَالَ : أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ ، إِنَّمَا حَدَّثَنِي بِهِ فُلَانٌ ، قَالَ : قَالَ الْهَيْثَمُ : فَذَكَرْتُهُ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ : أَنَا شَاهِدٌ لِذَلِكَ الْيَوْمِ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ : قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ، عَنْ سَمُرَةَ ، فِي السَّكْتَتَيْنِ ، فَقَالَ : مَا تَصْنَعُ بِسَمُرَةَ ، قَبَّحَ اللَّهُ سَمُرَةَ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ : سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ : قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، كَيْفَ حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ وَرَّثَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ بِسُنَّتِهِ ، . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : قُلْتُ لِأَيُّوبَ : إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ رَوَى عَنِ الْحَسَنِ : إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاقْتُلُوهُ ، فَقَالَ : كَذَبَ عَمْرٌو . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نُصَيْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ : أَتَى مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ فَنَهَيَاهُ أَنْ يُحَدِّثَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، فَقَالَا : قَدْ حَرَّكَهُ عَلَيْنَا أَهْلُ الْبِدَعِ ، فَتَرَكَهُ لِقَوْلِهِمَا . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : كَانَ يَحْيَى وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، وَكَانَ يَحْيَى يُحَدِّثُ عَنْهُ ، ثُمَّ تَرَكَهُ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا صَالِحٌ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ ، وَذُكِرَ ، عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ : كَتَبْتُ عَنْهُ كِتَابًا كَثِيرًا ، فَوَهَبْتُ كِتَابَهُ لِابْنِ أَخِي عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : سَمِعْتُ حَزْمًا يَقُولُ : سَمِعْتُ عَاصِمًا الْأَحْوَلَ قَالَ : كَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَيَقَعُ فِيهِ ، قَالَ : فَجَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ فَقُلْتُ : يَا أَبَا الْخَطَّابِ ، وَإِذَا الْفُقَهَاءُ يَقَعُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ ، فَقَالَ : يَا أَحْوَلُ ، رَجُلٌ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَنَذْكُرُ بِدْعَتَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ نَكُفَّ عَنْهَا ، قَالَ : فَرَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ مُعَلِّقٌ الْمُصْحَفَ يَحُكُّ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ ، قُلْتُ : مَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ : إِنِّي أُعِيدُهَا ، قَالَ : فَحَكَّهَا ، قُلْتُ : أَعِدْهَا ، قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرٌو ، كَانَ مُبْتَدِعًا . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : تَرَكَ يَحْيَى عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ بِآخِرَةٍ . قَالَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ : كَانَ أَبِي يُحَدِّثُنَا عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، وَرُبَّمَا قَالَ : رَجُلٌ ، وَلَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدُ ، وَكَانَ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ : سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ : عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ السَّهْمِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ : سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، فَقَالَ : لَا تَكْتُبْ حَدِيثَهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : كَانَ يَكْذِبُ ؟ فَقَالَ : كَانَ دَاعِيَةً إِلَى دِينِهِ ، فَقُلْتُ لَهُ : فَلِمَ وَثَّقْتَ قَتَادَةَ وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ وَسَلَّامَ بْنَ مِسْكِينٍ ؟ فَقَالَ : كَانُوا يَصْدُقُونَ فِي حَدِيثِهِمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ إِلَى بِدْعَةٍ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : بَلَغَنِي عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ : قَدِمَ أَيُّوبُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ مَكَّةَ فَطَافَا حَتَّى أَصْبَحَا ، قَالَ : وَقَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَطَافَ أَيُّوبُ حَتَّى أَصْبَحَ ، وَخَاصَمَ عَمْرًا حَتَّى أَصْبَحَ . حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ النَّضْرِ الْقُرَشِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ : حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ : يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَيَقُولُ لِي : أَقُلْتَ إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ ؟ فَأَقُولُ : أَنْتَ قُلْتَهُ ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ فَقُلْتُ : وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي : أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ : أَنَا قُلْتُ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ لِهَذَا ؟ فَمَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا . حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ النَّضْرِ قَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ النَّضْرِ قَالَ : حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ قَالَ : حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ الْأَعْلَمِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ الْمَكِّيُّ إِلَى ابْنِ سِيرِينَ فَسَأَلَاهُ عَنْ رَجُلٍ ، رَأَى كَأَنَّ نِصْفَ رَأْسِهِ مَجْزُوزَةٌ ، وَنِصْفَ لِحْيَتِهِ ، فَقَالَ لَهُمَا : اتَّقِيَا اللَّهَ ، لَا تُظْهِرَا أَمْرًا وَتُسِرَّا خِلَافَهُ ، قَالَ : فَقَالَ عَمْرٌو : وَاللَّهِ لَا نَأْخُذُ عَنْهُ فِي الْيَقَظَةِ ، وَكَيْفَ نَأْخُذُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ ؟ . حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ ، صَاحِبُ الْبَصْرَةِ قَالَ : حَدَّثَنَا صَاحِبٌ لَنَا ، إِسْمَاعِيلُ أَخُو عَبْدِ الْكَرِيمِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : قَالَ أَيُّوبُ : كُنْتُ أَرَى أَنَّ هَارُونَ لَهُ عَقْلٌ حَتَّى رَأَيْتُهُ ، يَعْنِي هَارُونَ بْنَ ديَابٍ وَاقِفًا مَعَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ ، عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَّةَ قَالَ : كَلَّمَنِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ أَنْ أُكَلِّمَ ، أَيُّوبَ يُحَدِّثُهُ ، قَالَ : فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ : قُلْ لَهُ يَأْتِي ، فَأَتَاهُ فَحَدَّثَهُ ، قَالَ صَخْرٌ : قُلْتُ لِأَيُّوبَ : كَيْفَ رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ : أَهْوَجُ . حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، غَيْرَ مَرَّةٍ قَالَ : شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ أَتَاهُ وَاصِلٌ الْغَزَّالُ أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ : وَكَانَ خَطِيبَ الْقَوْمِ ، يَعْنِي الْمُعْتَزِلَةَ ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : تَكَلَّمْ يَا أَبَا حُذَيْفَةَ ، فَخَطَبَ وَأَبْلَغَ ثُمَّ سَكَتَ ، فَقَالَ عَمْرٌو : تَرَوْنَ لَوْ أَنَّ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَزِيدُ عَلَى هَذَا ؟ . حَدَّثَنَا مُعَاذٌ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ قَالَ : كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَأْتِينَا السُّوقَ أَصْحَابَ الْبَصْرِيِّ إِلَى دُكَّانِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ أَبِي حَاضِرٍ ، فَكَانَ إِذَا قَامَ كُنْتُ أَتْبَعُهُ ، أَتَعَلَّمُ مِنْ هَيْئَتِهِ وَسَمْتِهِ ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ قَامَ فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ مَسْجِدَهُ فَقَعَدَ فِيهِ وَقَفَاهُ إِلَيَّ ، فَأَتَاهُ رَجُلَانِ غَرِيبَانِ مِنْ أَهْلِ الْجِبَالِ فَدَنَوْا إِلَيْهِ فَقَالَا لَهُ : يَا أَبَا عُثْمَانَ ، مَا تَرَى فِيمَا يُوطَأُ فِي بِلَادِنَا مِنَ الظُّلْمِ ؟ قَالَ : مُوتُوا كِرَامًا ، قَالَ : ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ : لَا تَزَالُ تَغُمَّنَا . حَدَّثَنَا مُعَاذٌ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ : حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قَالَ : قُلْتُ : هُمْ أَهْلُ الشَّامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . حَدَّثَنَا مُعَاذٌ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ : لَقِيَ حَوْشَبٌ الْعَابِدُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَقَالَ لَهُ حَوْشَبٌ : مَالِي أَرَى أَصْحَابَكَ جَانَبُوكَ وَخَالَفُوكَ ؟ قَالَ : كَيْفَ لَوْ تَرَى رَأْسِي عَلَى قَنَاةٍ . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مُغِيثٍ قَالَ : حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ قَالَ : مَا زَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ رَقِيعًا مُنْذُ كَانَ . حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مُغِيثٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ : كَانَ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ مِنَ الْحَسَنِ مَنْزِلَةً ، فَلَمَّا بَانَ لَهُ مَا بَانَ أَتَى إِلَى الْحَسَنِ فَكَلَّمَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ : لَا ، ثُمَّ عَاوَدَهُ ثَانِيَةً فَقَالَ الْحَسَنُ : لَا ، وَلَا كَرَامَةَ ، قَالَ : فَلَمَّا وَلَّى عَمْرٌو قَالَ الْحَسَنُ : وَاللَّهِ لَا يُفْلِحُ أَبَدًا . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسَدٍ الْخُشَنِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ : شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ أَهْلَ السُّجُونِ يَرْكَبُونَ الْفَوَاحِشَ ، وَذَكَرَ أُمُورًا قَبِيحَةً قَالَ : لَوْ بَدَأْنَا بِهَؤُلَاءِ ، يَعْنِي السُّلْطَانَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ قَالَ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ ، لَقَدْ كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَأَوَّلُ مَا تَكَلَّمَ اسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ فَلَقِيتُهُ يَوْمًا فِي الطَّرِيقِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَزَوغَ عَنْهُ فَلَمْ أَقْدِرْ فَقَالَ لِي : مَا لَكَ ؟ لَيْسَ هَاهُنَا أَيُّوبُ وَلَا يُونُسُ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الْقُرَشِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حُمَيْدٍ الطَّوِيلُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ النَّضْرِ قَالَ : مَرَرْتُ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَذَكَرَ شَيْئًا فَقُلْتُ : مَا هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا ، قَالَ : وَمَنْ أَصْحَابُكَ لَا أَبَا لَكَ ؟ قُلْتُ : أَيُّوبُ وَيُونُسُ وَابْنُ عَوْنٍ وَالتَّيْمِيُّ ، فَقَالَ : أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ أَمْوَاتٌ أَحْيَاءٌ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَجَاءَ عُثْمَانُ ، فَمَرْخَاشُ أَخَوَا الشِّمْرِيِّ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عُثْمَانَ ، سَمِعْتُ كَلَامًا ، هُوَ وَاللَّهِ الْكُفْرُ ، فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ بِالْكُفْرِ ، فَمَا سَمِعْتَ ؟ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ هَاشِمٍ الْأَوْقَصِ فَقَالَ : إِنَّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ، وَ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، فَسَكَتَ عَمْرٌو سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : لَإِنْ كَانَتَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا عَلَى أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ وَلَا عَلَى الْوَحِيدِ مِنْ لَوْمٍ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : هَذَا وَاللَّهِ الدِّينُ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْفُرَاتُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ : قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، كَيْفَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ ؟ قَالَ : أَدْعُوَهُمْ إِلَى الْهُدَى وَأَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ شُمَيْلٍ يَقُولُ : مَرَّ ابْنُ عَوْنٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ، وَرَجُلٌ جَالِسٌ مَعَهُ ، فَعَرَفَهُ ابْنُ عَوْنٍ وَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ ، مَا يُجْلِسُكَ هَاهُنَا ؟ . حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ : حَدَّثَنِي الْيَسَعُ أَبُو سَعْدَةَ قَالَ : تَكَلَّمَ وَاصِلٌ يَوْمًا فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : اسْمَعُوا ، فَمَا كَلَامُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ إِلَّا خِرَقُ حَيْضٍ مَطْرُوحَةٌ . حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ الْعَبَّاسِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الِاعْتِزَالِ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ ، ثُمَّ دَخَلَ مَعَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فِي ذَلِكَ وَأُعْجِبَ بِهِ وَزَوَّجَهُ أُخْتَهُ ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا : قَدْ زَوَّجْتُكِ رَجُلًا مَا صَلُحَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَلِيفَةً . هَذَا وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وَصِهْرُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ . حَدَّثَنِي جَدِّي رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ ، عَنْ حَرْبِ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ حُوَيْلٍ ، خَتَنِ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، تَنْهَانَا عَنْ مُجَالَسَةِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُكَ قُبَيْلُ ؟ قَالَ : ابْنِي ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى جَالَسَهُ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ ، أَلَمْ تَعْرِفْ رَأْيَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ ثُمَّ تَدْخُلُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : كَانَ عِنْدَهُ فُلَانٌ ، قَالَ : فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ ، فَقَالَ يُونُسُ : أَنْهَاكَ عَنِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَأَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِهِنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ بِرَأْيِ عَمْرٍو وَأَصْحَابِ عَمْرٍو . حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : دَفَعَ إِلَيَّ أَبِي مَالًا وَأَشْرَكَ بَيْنِي وَبَيْنَ مُعْتَمِرٍ ، فَقَدِمْنَا الْبَصْرَةَ فَجَاءَ بِيَ الْمُعْتَمِرُ إِلَى أَيُّوبَ فَقَالَ : الْزَمْ هَذَا ، قَالَ : فَمَرَّ بِي عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ رَاكِبًا عَلَيْهِ الثِّيَابُ وَالنَّاسُ ، يَعْنِي مَعَهُ ، فَقُمْتُ وَسَمِعْتُ مِنْهُ فَقَالَ لِي مُعْتَمِرٌ : أَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَيُّوبَ وَتَسْمَعُ مِنْ عَمْرٍو ؟ فَلَامَنِي . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ حُمْرَانَ الرَّقَّا قَالَ : جَلَسْتُ إِلَى عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ يَوْمًا فِي أَصْحَابِ الْبَصْرِيِّ ، فَذَكَرُوا السَّارِقَ وَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ ، قُلْتُ : فَأَيْنَ حَدِيثُ صَفْوَانَ ؟ قَالَ : تَحْلِفُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ هَذَا ؟ قُلْتُ : فَتَحْلِفُ أَنْتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقُلْهُ ؟ قَالَ : فَحَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقُلْهُ ، فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقُولُ : يَا بَكْرُ ، حَدِّثِ الْقَوْمَ . حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ : كَانَ بَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَبَيْنَ أَخِي خَالِدِ بْنِ قَيْسٍ إِخَاءٌ ، فَكَانَ بَيْنَ أَنْ يَزُورَنَا ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ كَأَنَّهُ عُودٌ ، قَالَ : فَقُلْتُ لِخَالِدٍ ، أَمَا تَرَى عَمْرًا ، مَا أَخْشَعَهُ وَأَعَبَدَهُ ، فَقَالَ : مَا تَرَاهُ إِذَا صَلَّى فِي الْبَيْتِ كَيْفَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ إِذَا صَلَّى فِي الْبَيْتِ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا.(1)
__________
(1) - الضعفاء ، للعُقيلي ( 3 / 281 )(1444 )(1/232)
وقال ابن حبان : " والدعاة يجب مجانبة رواياتهم على الأحوال ، فمن انتحل نحلة بدعة ولم يدع إليها ، وكان متقناً ، كان جائز الشهادة ، محتجاً بروايته "(1).
وقال أيضاً: " الاحتياط تركُ رواية الأئمة الداعين منهم ، والاحتجاجُ بالرواة الثقات منهم "(2).
ويبين الحافظ الخطيب السبب في هذا المذهب ، فيقول :" إِنَّمَا مَنَعُوا أَنْ يُكْتَبَ عَنِ الدُّعَاةِ , خَوْفًا أَنْ تَحْمِلَهُمُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا عَلَى وَضْعِ مَا يُحَسِّنُهَا , كَمَا حَكَيْنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا عَنِ الْخَارِجِيِّ التَّائِبِ قَوْلَهُ : كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا "(3).
قلت : وهذا تعليل معتبر في حلِّ راو لم يعرف بالصدق ، أما من ثبت صدقه وعرفت أمانته ، وكان يذهب إلى شيء من تلك المذاهب بتأويل ، وكان ينتصر إلى مذهبه ذلك ، فهذا مراد كذلك في قول هؤلاء الأئمة ، لكن لا يتنزلُ عليه تعليل الخطيب .
والذي يتحررُ من إمعان النظر في هذا المذهب أنه مذهب نظري اليوم في شأن رواة الحديث ، وذلك أن أمر الدعوة إلى البدعة مما لا يمكن حصره وضبطه ، والكلام في رواة الحديث فد فرغ منه ، وصارت العمدة في معرفة أحوال الرواة على ما بلغنا من أخبارهم ، والمتأملُ يجد في تلك الأخبار وصف عدد غير قليل من الرواة بالبدعة ، لكن يندر فيهم من يمكن القول : إنه كان داعية ، نعم ؛ وصف طائفة بالغلوِّ ، إلا أنه لا يعني بالضرورة كون الموصوف بذلك داعية إليها.
المذهب الرابع : عدم اعتبار البدعة جرحاً مسقطاً لحديث الراوي ، لما تقوم عليه من التأويل ، وإنما العبرة بالحفظ والإتقان والصدق ، والسلامة من الفسق والكذب .
وعلى هذا في التحقيق يتنزلُ مذهب من ذهب من كبار الأئمة إلى أن البدعة لا تمنع قبول حديثهم ، إلا من كان يستحلُّ الكذب .
وهذا هو منقول من مذهب أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، والشافعي(4).
قال سفيان بن عيينة : " حدثنا عبد الملك بن أعين ، وكان شيعياً ، وكان عندنا رافضياً صاحب رأي "(5).
وقال ابن دقيق العيد : " والذي تقرر عندنا : أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ، إذ لا نكفِّرُ أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة ، فإذا اعتقدنا ذلك ، وانضمَّ إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى ، فقد حصل معتمد الرواية "(6).
وهو قول يحيى بن سعيد القطان ، وعلي بن المديني ، ومحمد بن عمار الموصلي ، وإليه مال الخطيب البغدادي(7).
قَالَ ابْنُ المَدِيْنِيِّ: قُلْتُ لِيَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ: إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَقُوْلُ: اترُكْ مَنْ كَانَ رَأْساً فِي بِدعَةٍ يَدْعُو إِلَيْهَا،قَالَ: فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِقَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، وَعُمَرَ بنِ ذَرٍّ...، وَذَكَرَ قَوْماً،ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: إِنْ تَرَكَ هَذَا الضَّربَ، تَرَكَ نَاساً كَثِيْراً. "(8). قلت : يردُّ يحيى مذهب ابن مهدي ، بل مقتضى قوله أن يكون من سماهم ممن يندرج تحت رأي ابن مهدي ، وهو يحلُّ الاستشكال الذي نراه : ما هو حدُّ الداعية من غيره ؟ فهذا يحيى القطان يرى قتادة ومن ذكره معه من الدعاة ، وإلا لما صح له الاستدراك على ابن مهدي بذكرهم ، وهم من ثقات الناس ومتقنيهم وعليهم مدارُ كثير من الحديث .
يقابله ما نقله محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، قال : قلت لعلي بن عبد الله المديني : يا أبا الحسن ، إن يحيى بن معين ذكر لنا : أن مشايخ من البصريين كانوا يمرمون بالقدر، إلا أنهم لا يدعون إليه ، ولا يأتون في حديثهم بشيء منكر ، منهم : قتادة ، وهشام صاحب الدستوائي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وأبو هلال ، وعبد الوارث ، وسلام(9)، كانوا ثقات ، يكتب حديثهم ، فماتوا وهم يرون القدر ، ولم يرجعوا عنه ، فقال لي علي ، رحمه الله : " أبو زكريا كذا كان يقول عندنا ، إلا أن أصحابنا ذكروا أن هشام الدستوائي رجع قبل موته ، ولم يصح ذلك عندنا "(10).
قلت : ففي هذا نفي أن يكون قتادة داعية إلى بدعته ، لكن فيه تثبيت أن جميع هؤلاء كانوا يذكرون بالبدعة ، ويحيى اعتبر في ثقتهم أمرين : عدم الدعوة إلى البدعة ، مع الحفظ والإتقان .
وهذا عبد الرحمن بن مهدي قد ترك بعض الرواة لأجل البدعة ، ثم حدَّث عنهم قبل موته ،فقد قال ابن أخته الحافظ أبو بكر بن أبي الأسود : كان خالي عبد الرحمن بن مهدي يترك الحديث عن الحسن بن أبي جعفر الجفري وعثمان بن صهيب وغيرهما من أهل القدر ؛ للمذهب ، والضعف ، فلما كان بأخرة حدَّث عنهم ، وخرَّجهم في تصانيفه ، فقلت : يا خال ، أليس قد كنت أمسكت عن الرواية عن هؤلاء ؟ فقال : " نعم ، لكن خفت أن يخاصموني بين يدي ربي فيقولون : يا رب ، سل عبد الرحمن : لم أسقط عدالتنا ؟ "(11).
وقال الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ : وَسَأَلْتُهُ , يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ غُرَابٍ , فَقَالَ : " كَانَ صَاحِبَ حَدِيثٍ , بَصِيرًا بِهِ , قُلْتُ : أَلَيْسَ هُوَ ضَعِيفٌ ؟ قَالَ : إِنَّهُ كَانَ يَتَشَيَّعُ , وَلَسْتُ أَنَا بِتَارِكِ الرِّوَايَةِ عَنْ رَجُلٍ صَاحِبِ حَدِيثٍ يُبْصِرُ الْحَدِيثَ , بَعْدَ أَلَّا يَكُونَ كَذُوبًا , لِلتَّشَيُّعِ أَوِ الْقَدَرِ , وَلَسْتُ بِرَاو عَنْ رَجُلٍ لَا يُبْصِرُ الْحَدِيثَ وَلَا يَعْقِلُهُ , وَلَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ فَتْحٍ يَعْنِي الْمَوْصِلِيَّ "(12).
وسئل الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم " عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيِّ , فَقَالَ : صَدُوقٌ فِي الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْغَالْينَ فِي التَّشَيُّعِ , قِيلَ لَهُ : فَقَدْ حَدَّثْتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ , فَقَالَ : لِأَنَّ كِتَابَ أُسْتَاذِي مَلْآنٌ مِنْ حَدِيثِ الشِّيعَةِ يَعْنِي مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ "(13).
وفي " صحيح البخاري " عن جمع كبير من المنسوبين إلى البدع ،فهؤلاء الأعيان قدوة الناس في هذا الفن ، وممن إليهم المرجع فيه .
وقال ابن حزم : " من أقدم على ما يعتقده حلالاً ، فما لم يقم عليه في تحريمه حجة ، فهو معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيديهم وإباضيهم بهذه الصفة ، إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر ، أو من قامت عليه حجَّةٌ من نصٍّ أو إجماعٍ فتمادى ولم يرجع فهو فاسق "(14).
قلتُ : ومن أمثلة ما يتنزل عليه هذا المذهب وهم ثقات محتج بهم :
1 - عبد الله بن أبي نجيح ،قال علي بن المديني : " أمَّا الحديث فهو فيه ثقة ، وأما الرأي فكان قدرياً معتزلياً "(15)،وقال يحيى بن معين : " كان ابن أبي نجيح من رؤساء الدعاة "(16).
2 - خالد بن مخلد ،قال الجوزجاني : " كان شتاماً معلناً بسوء مذهبه "(17).
3 - سالم بن عجلان الأفطس ،قال الجوزجاني : " كان يخاصم في الإرجاء ، داعية ، وهو متماسك "(18).
4 - عبد الرحمن بن صالح الأزدي ،قال يعقوب بن يوسف المطوعي ( وكان ثقة) : كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضياً ، وكان يغشى أحمد بن حنبل ، فيقرِّبه ويدنيه ، فقيل له : يا أبا عبد الله ،عبد الرحمن رافضي، فقال: " سبحان الله ! رجلٌ أحبَّ قوما من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - نقول له :لا تحبهم ؟ ! هو ثقة "(19)، وكان يحيى بن معين يعلم تشيعه ، بل نعته بذلك ، ومع فقد كتب حديثه وروى عنه ، ووثقه ، وكذلك وثقه غيره"(20)،مع أن أبا داود السجستاني قال : " لم أر أن أكتب عنه ، وضع كتاباً مثالب في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(21).
5 - عمران بن حطان ،قال أبو داود السجستاني : " ليس في أهل الأهواء أصحُّ حديثاً من الخوارج " ثم ذكر عمران بن حطان ، وأبا حسان الأعرج(22).
6 -عباد بن يعقوب الرواجني ،وشأنه في الغلو في الرفض والدعوة إليه مشهور ، ومن أبينه ما حكاه الثقة المتقن القاسم بن زكريا المطرز ، قال : " وَرَدَتُ الْكُوفَةَ , فَكَتَبْتُ عَنْ شُيُوخِهَا كُلِّهِمْ غَيْرَ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ , فَلَمَّا فَرَغْتُ مِمَّنْ سِوَاهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ , وَكَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ يَسْمَعُ مِنْهُ , فَقَالَ لِي : مَنْ حَفَرَ الْبَحْرَ ؟ فَقُلْتُ : اللَّهُ خَلَقَ الْبَحْرَ , فَقَالَ : هُوَ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ مَنْ حَفَرَهُ ؟ فَقُلْتُ : يَذْكُرُ الشَّيْخُ , فَقَالَ : حَفَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , ثُمَّ قَالَ : مَنْ أَجْرَاهُ ؟ فَقُلْتُ : اللَّهُ مُجْرِي الْأَنْهَارِ , وَمُنْبِعُ الْعُيُونِ , فَقَالَ : هُوَ كَذَلِكَ , وَلَكِنْ مَنْ أَجْرَى الْبَحْرَ ؟ فَقُلْتُ : يُفِيدُنِي الشَّيْخُ , فَقَالَ : أَجْرَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ , قَالَ : وَكَانَ عَبَّادٌ مَكْفُوفًا , وَرَأَيْتُ فِيَ دَارِهِ سَيْفًا مُعَلَّقًا وَحَجَفَةً , فَقُلْتُ : أَيُّهَا الشَّيْخُ , لِمَنْ هَذَا السَّيْفُ ؟ فَقَالَ : هَذَا لِي , أَعْدَدْتُهُ لِأُقَاتِلَ بِهِ مَعَ الْمَهْدِيِّ , قَالَ : فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ سَمَاعِ مَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْهُ , وَعَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي كَمَا كَانَ يَسْأَلُنِي , وَقَالَ : مَنْ حَفَرَ الْبَحْرَ ؟ فَقُلْتُ : حَفَرَهُ مُعَاوِيَةُ , وَأَجْرَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ , ثُمَّ وَثَبْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ , وَجَعَلْتُ أَعْدُو , وَجَعَلَ يَصِيحُ : أَدْرِكُوا الْفَاسِقَ عَدُوَّ اللَّهِ فَاقْتُلُوهُ أَوْ كَمَا قَالَ "(23).
وجاء أنه كان يشتم عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، وقال ابن حبان : " كان رافضياً داعية إلى الرفض "(24).
قلت : ومع ذلك فخرج حديثه البخاري في الصحيح ، وحكم بثقته غير واحد .
7 - الحسين بن الحسن الأشقر ، قال إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجُنَيْدِ الْخُتُلِّيُّ ,: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ , ذَكَرَ حُسَيْنًا الْأَشْقَرَ فَقَالَ : " كَانَ مِنَ الشِّيعَةِ الْمُغَالِيَةِ الْكِبَارِ , قُلْتُ : وَكَيْفَ حَدِيثُهُ ؟ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ , قُلْتُ : صَدُوقٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ , كَتَبْتُ عَنْهُ عَنْ أَبِي كُدَيْنَةَ وَيَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ " .(25)
قلت : فهذه المناهج لهؤلاء الأعلام من أئمة الحديث صريحة في عدم الاعتداد بالبدعة قادحاً في العدالة ، ومن أجل هذا جرت ألفاظهم بالتعديل لهؤلاء الرواة مع ما عرفوا به من البدعة .
والتأويل بالبدع أوسع منه في المعاصي ؛ لأن وجه المخالفة بها للشرع خفيٌّ ، فإذا كنا عذرنا بالمخالفة تأويلاً في المنهيات الصريحة في الشرع كقتل المسلم ، كالذي حصل بين الصحابة ، فالعذر فيما كان وجه المخالفة فيه خفيًّا أولى ، وإنما تكون العبرة بالصدق والإتقان ، فإذا ثبت فحديثه مقبولٌ .
قال ابن جرير الطبري : " لو كان كل من ادُّعيَ عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به ، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك ؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار ؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبهُ قوم إلى ما يرغب به عنه "(26).
قلت : وإنما يخرَّجُ من هذا التأصيل : من كان من الرواة طعنٌ عليه لبدعته وحديثه جميعاً ، فهذا مجروح من أجل حديثه ، وذلك مثل : جابر الجعفي ، وعمرو بن عبيد البصري .
قال سُفْيَانُ : كَانَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ عَنْ جَابِرٍ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَظْهَرَ فَلَمَّا أَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ اتَّهَمَهُ النَّاسُ فِى حَدِيثِهِ وَتَرَكَهُ بَعْضُ النَّاسِ ،فَقِيلَ لَهُ :وَمَا أَظْهَرَ؟ قَالَ: الإِيمَانَ بِالرَّجْعَةِ..(27)
قلت : فكأنَّ سفيان جعل اتهامه في حديثه من أجل بدعته ، والواقع أنه لا تلازم بينهما ، لجواز أن يكون صاحب بدعة صدوقاً ، كما تقدمت له أمثلة ، وإنما المعنى أنه بعدما ظهرت منه هذه العقيدة ظهر منه في روايته ما اتهم فيه .
وكذلك القول في عمرو بن عبيد ، مع ظهور الفسق وضعف التأويل في بعض ما جاء عنه ، فقد تكلَّم بما لا يحتمل(28).
ولا ريب أن كثيراً من أهل البدع نصروا مذاهبهم برواية المنكرات إسناداً ومتناً ، وجماعاتٌ منهم عُرِفوا بوضع الحديث لأجل ذلك ،وهو المعنى الذي خافه من شدد فردَّ أحاديث أهل البدع .
لكنْ مادامت الخشيةُ محصورةً في كون صاحب البدعة قد تدفعه بدعته إلى المجيء بالمنكرات من الروايات نصرة لتلك البدعة ، فالأمر إذاً عائد إلى القول في روايته ، فإذا تحرر لنا صدقه ، وسلامة روايته من النكارة ، فقد ذهب المحذور .
فمن قال من المتأخرين : إذا روى صاحب البدعة ما تعتضد به بدعته رُدَّ ، وإن روى غير ذلك قُبِل .
فهذا مذهب -وإن تداولته كتب علوم الحديث- فليس صواباً ؛ لأن قبول روايته حيث قبلناها ، فإنما حصل لأجل كونه بريئاً من الكذب معروفاً بالصدق والأمانة ، فإذا صرنا إلى ردِّ حديثه عند روايته ما تعتضد به بدعته فقد اتهمناه ، وهذا تناقض ، مع ملاحظة أن من ذهب مذهباً كان أحرص من غيره على حفظ ما يقوي مذهبه ، فينبغي أن يقال : حفظ وأتقن ؛ لأن داعية الإتقان متوفرة فيه ، فيكون هذا مرجِّحاً لقبول تلك الرواية ما دام موصوفاً بالصدق .
وعلى مظنة أن تدعو البدعة إلى الكذب في الرواية من معروف بالصدق ، فهذا لا ينحصر في البدعة ، فإن الهوى يكون في غيرها أيضاً .
وأمَّا إطلاق القول بتكذيب طائفة من أهل البدع على التعيين ، كقول يزيد بن هارون : " لا يكتب عن الرافضة ؛ فإنهم يكذبون "(29)، فهذا مما يجري على غالب من أدرك يزيد ورأى من هؤلاء ، وأن يكون أراد غلاتهم ، غير أن واقع الأمر أن طائفة من الرواة وصفوا من قبل بعض النقاد بالرفض ، كانوا من أهل الصِّدق ، روى الأئمة عنهم الحديث وأثنوا عليهم ، كما مثلت هنا بجماعة منهم .
وخلاصة الفصل في هذا :
أن ما قيل من مجانبة حديث المبتدع ، ففيه اعتبار الزمان الذي كانت الرواية فيه قائمة ، ومرجع الناس إلى نقلة الأخبار في الأمصار ، وما كان قد حصر يومئذ بيان أحوال الرواة ، أما بعد أن أقام الله بأهل هذا الشأن القسطاس المستقيم (علم الجرح والتعديل) فميَّزوا أهل الصدق من غيرهم ، وفضح الله بهذا العلم خلائق من أهل الأهواء والبدع وافتضحوا بالكذب في الحديث ، فأسقطهم الله ، كما أصاب الهوى بعض متعصبة السنَّة ، فوقعوا في الكذب في الحديث كذلك ، وهو وإن كانوا أقل عدداً من أصحاب البدع ، إلا أنهم شاركوهم في داعية الهوى والعصبية ، ومقابل هؤلاء وأولئك من ثبت له وصف الصِّدق من الفريقين ، فأثبت أئمة الشأن له ذلك ، فلا يكون في التحقيق وصفُ من وصفوه بالصِّدق إلا من أجل ما روى .اهـ(30)
قلتُ : وعلى هذا، فالعبرةُ عند المتقدمين في باب الرواية عن أهل البدع هو اعتبارُ أحوالهم في قوة الدِّين وظهور الصِّدق، ولذلك لم يترددوا في قبول رواية الدعاة من الخوارج، وهذا البخاريُّ قد أخرج لعمران بن حطان ثلاثة أحاديث في صحيحه، بعضها في الأصول، رغم أنّه كان داعية إلى بدعته، بل كان رأساً من رؤوس الخوارج.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "العبرةُ في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه، كما أنّ المتتبع لأحوال الرواة يرى كثيرا من أهل البدع موضعا للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيرا منهم لا يُوثَق بأيّ شيء يرويه"(31).
وحتى هذا الصدق وهذه الأمانة لا يكونان مبرِّراً لقبول روايته مطلقا، وإنّما يضافُ إلى ذلك عند بعضهم إذا كان ما عنده من الحديث ممّا تشتدّ الحاجة إلى أخذه ومعرفته. ولذلك نقل الذهبي عن بعض العلماء أنّ المبتدع الداعية إذا كان صادقا، وعنده سنّةٌ تفرّد بها، فإنّه لا يسوغ ترك تلك السنّة(32).
فأنت ترى في النهاية أنّ الاعتبار يعود إلى ملاحظة جملة القرائن والأحوال في الراوي والرواية، ومن هنا فإنّنا قد لا نعدّ ما ورد عن المتقدّمين من الأقوال المتباينة اختلافا في القواعد، وإنّما هو في غالبه اختلاف في التطبيق بحسب ما يترجّح من خلال القرائن والملاحظات، ومبلغ علم كلّ واحد منهم بأحوال الرواية والرواة.
قال الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة رحمه الله: " إذا وجدنا بعض الأئمّة الكبار من أمثال البخاري ومسلم لم يتقيّد فيمن أخرج لهم في كتابه ببعض القواعد، فذلك لاعتبارات ظهرت لهم رجّحت جانبَ الصدق على الكذب والبراءةَ على التهمة. وإذا تعارض كلامُ الناقد وكلامُ صاحبي الصحيحين فيمن أخرج لهم الشيخان من أهل البدع، قُدّم كلامُهما واعتبارُهما للراوي على كلام غيرهما، لأنّهما أعرفُ بالرجال من غيرهما"(33).
وقال السيوطي(34):
" الصَّواب أنَّه لا تُقبل رواية الرَّافضة وساب السَّلف, كما ذكره المُصنِّف في «الرَّوضة» في باب القَضَاء في مسائل الإفتاء, وإن سكتَ في باب الشَّهادات عن التَّصريح باستثنائهم, إحالة على ما تقدَّم, لأنَّ سباب المُسْلم فُسوق, فالصَّحابة والسَّلف من باب أولى.
وقد صرَّح بذلكَ الذَّهبي في «الميزان»(35)فقال: البدعة على ضَرْبين: صُغرى, كالتَّشيع بلا غُلو, أو بغلو, كمن تكلَّم في حقِّ من حارب عليًّا, فهذا كثير في التَّابعين وتابعيهم مع الدِّين والورع والصِّدق, فلو رُدَّ حديث هؤلاء, لذهب جُملة من الآثار النَّبوية, وهذه مَفْسدة بينة.
ثمَّ بِدْعة كُبرى, كالرَّفض الكامل, والغُلو فيه, والحطِّ على أبي بكر وعُمر, والدُّعاء إلى ذلكَ, فهذا النَّوع لا يُحتجُّ بهم ولا كَرَامة.
وأيضًا فما أستحضرُ الآن في هذا الضَّرب رَجُلا صادقًا, ولا مأمونا, بل الكذب شعارهم, والتَّقية والنِّفاق دثارهم. فكيف يقبل نقل من هذا حاله ! حاشا وكلا.
فالشيعيُّ الغالي في زمان السَّلَف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا رضى الله عنه، وتعرَّض لسبهم.
والغالي في زماننا وعرفنا هو الذى يكفِّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضا، فهذا ضالٌّ معثرٌ انتهى.
وهذا الَّذي قاله هو الصَّواب الَّذي لا يحلُّ لمسلم أن يعتقد خلافه.
وقال في موضع آخر(36): اختلف النَّاس في الاحتجاج برواية الرَّافضة على ثلاثة أقوال: المنع مُطلقًا, والتَّرخص مُطلقًا, إلاَّ من يكذب ويضع, والثَّالث التَّفصيل بين العَارف بما يحدث وغيره.
__________
(1) - الثقات ( 6 / 284 ) .
(2) - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ( 1 / 160 ) .
(3) - الكفاية ( ص : 205 ) رقم(335)
(4) - انظر : الكفاية للخطيب ( ص : 202 - 203 ) ، كشْف الأسرار عن أصول البَزدوي ( 3 / 26 - 27 ) ، وحكى الخطيب ( ص : 194 ) عن الشافعي أنه قال : " وتُقبل شهادةُ أهْل الأهواء ، إلا الخطابية من الرافضة ؛ لأنهم يروْنَ الشهادة بالزور لموافقهم " ، وأسند البيهقي في " السنن " ( 10 / 208 - 209 ) معناه
(5) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 151 ) وإسناده صحيح .
(6) - الاقتراح في بيان الاصْطلاح ( ص : 333 - 334 ) وابنُ دقيق وإن صار إلى ترك الرواية عن المبتدع الداعية ، إلا أنه جعل ذلك من أجل الإهانة له والإخماد لبدعته ، وإن لم نَجد ما رَوى موجوداً من غير طريقه قبلْناه تقديماً لمصْلحة حفظ الحديث .
(7) - الكفاية ( ص : 200 - 201 ) .
(8) - أخرجه أبو القاسم البَغوي في " الجعديات " ( رقم : 1093 ) والعُقيلي في " الضعفاء " ( ق : 1 / ب ) وإسناده صحيح . و سير أعلام النبلاء (5/278)
(9) - أبو هلال اسمُه مُحمد بن سُليم الراسبي ، وعبْد الوارث هوَ ابنُ سعيد ، وسلاَّم هوَ ابنُ مسكين .
(10) - سؤالات ابن أبي شيبة ( ص : 45 - 46 ) .
(11) - سؤالات السلمي للدارقطني ( النص : 241 ) بإسناد صحيح .
(12) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 207 )(344) وإسناده صحيح .
(13) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 208 )(349) وإسناده صحيح .
(14) - الإحكام في أصول الأحكام ( 1 /149 ) .
(15) - سؤالات ابن أبي شيبة ( النص : 99 ) .
(16) - نقله عنه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " ( ص : 335 _ تاريخ المكيين ) .
(17) - أحوال الرجال ( النص : 108 ) قلت : ولا يصحُّ أن يُقبل جرح الجوزجاني فيمن فيه تشيُّع ؛ لِما اتُّهم به من النصب .
(18) - أحوال الرجال ( النص : 327 ) .
(19) - أخرجه الخطيب في " تاريخه " ( 10 / 262 ) وإسناده صحيح .
(20) - انظر ترجمته في : تاريخ بغداد ( 10 / 261- 263 ) وتهذيب الكمال ( 17 / 177 - 182 ) .
(21) - سؤالات الآجري ( النص : 1922 ) ، وعن الحافظ موسى بن هارون الحمَّال بمعنى هذا ، قال : " كانَ يحدث بمثالبِ أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " ( تاريخ بغداد 10 / 263 )
(22) - سؤالات الآجري ( النص : 1296 ) ومن طريقه : الخطيب في " الكفاية " ( ص : 207 ) .
(23) - أخرجها الخطيب في " الكفاية " ( ص : 209 )(351) بإسناد جيد .
(24) - المجروحين ( 2 / 172 ) .
(25) - سؤالات ابن الجنيد ( النص : 674 ) ومن طريقه : الخطيب في " الكفاية " ( ص : 208 ) (347).
(26) - هدي الساري ، للحافظ ابن حجر ( ص : 428 ) .
(27) - أخرجه مُسلمٌ في " مُقدمته " ( ص : 20 ) رقم(61) والعُقيلي في " الضعفاء " ( 1 / 194 ) وإسناده صحيح . وأما تفسير الرجْعة ، فأحسن شيء يُبيَّن ذلك ما حكاه سُفيان بنُ عيينة نفسُه قال : " إن الرافضة تقول : إنَّ علياًّ في السحاب ، فلا نَخرج مع مَن خرج من ولده حتى يُنادي مُنادٍ من السماء : اخرجوا معَ فلانٍ " ، وحكى عن جابر الجُعفي في قوله تعالى { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي } [ يوسف : 80 ] قال : لم يجئ تأويلها . قال سُفيان : كذب . أخرجه مسلم في " مُقدمته " ( ص : 21 ) وابنُ عدي ( 2 / 331 ) بإسناد صحيح إلى سُفيان .
(28) - عمرو بن عبيد بن باب بموحدتين التميمي مولاهم أبو عثمان البصري المعتزلي المشهور كان داعية إلى بدعته اتهمه جماعة مع أنه كان عابدا من السابعة مات سنة ثلاث وأربعين أو قبلها قد فق . تقريب التهذيب [ج 1 -ص 424 ] (5071 )
(29) - أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 1 / 1 / 28 ) وإسناده صحيح .
(30) - انظر تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 258-269)
(31) - الباعث الحثيث، أحمد شاكر، 84 .
(32) - انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 7/153 ـ 154 .
(33) - الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، 396 .
(34) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 256)
(35) - ميزان الاعتدال - (ج 1 / ص 5) ولسان الميزان للحافظ ابن حجر - (ج 1 / ص 3)
(36) - ميزان الاعتدال - (ج 1 / ص 27)(1/233)
وقال أشْهب: سُئلَ مالك عن الرَّافضة, فقال: لا تُكلموهم ولا ترووا عنهم.
وقال الشَّافعي(1): لم أر أشهد بالزُّور من الرَّافضة.
وقال يزيد بن هارون: يُكتب عن كلِّ صاحب بِدْعة إذا لم يَكُن داعية, إلاَّ الرَّافضة.
وقال شَريك: احمل العلم عن كلِّ من لقيت إلاَّ الرَّافضة.
وقال ابن المُبَارك: لا تُحدِّثوا عن عَمرو بن ثابت, فإنَّه كان يسب السَّلف.اهـ
وقال الحافظ ابن حجر عن التشيع عند المتقدمين: "التشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل علي على عثمان وأن عليا كان مصيبا في حروبه وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلهما، وربما اعتقد بعضهم أن عليا أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا كان معتقد ذلك ورعا دينا صادقا مجتهدا فلا تردُّ روايته بهذا، لا سيما إن كان غير داعية، وأما التشيُّع في عرف المتأخرين فهو الرفضُ المحضُ، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة"(2)
فالتشيع على هذا فيه مجال للاجتهاد وإعمال الرأي، سواء في طبيعة البدعة وحقيقتها، أو في صحّتها وثبوتها في راو من الرواة، فإذا كان الأمر كذلك، وكان الراوي مع ذلك ورعا ديّنا، صادقا، مجتهدا، فما المانع من قبول روايته والاحتجاج بحديثه؟
وأمّا من زاد على ذلك، كمن يتكلّم في عثمان وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم من أفاضل الصحابة، ويطعن فيهم ويسبّهم، فهذا هو الذي لا يقبل المتقدّمون حديثه غالباً، وهؤلاء هم الرافضة الذين ورد عن الإمام الشافعي أنّه لا تقبل شهادتهم. اهـ(3)
ومن المُلْحق بالمُبْتدع من دأبه الاشْتغال بعلوم الأوائل, كالفَلْسفة والمَنْطق, صرَّح بذلك السَّلفي في معجم السفر, والحافظ أبو عبد الله بن رشيد في رحلته.
فإن انضمَّ إلى ذلك اعتقاده, بما في عِلْم الفَلْسفة, من قِدَم العالم ونحوه فكافر, أو لما فيها مِمَّا ورد الشَّرع بخلافه, وأقامَ الدَّليل الفاسد على طريقتهم, فلا نأمن ميله إليهم.
وقد صرَّح بالحطِّ على من ذكر, وعدم قَبُول روايتهم وأقوالهم, ابن الصَّلاح في فتاويه, والمُصنِّف في «طبقاته» وخلائق من الشَّافعية, وابن عبد البر, وغيره من المالكية, خُصوصًا أهل المغرب, والحافظ سراج الدين القزويني, وغيره من الحَنفية, وابن تيمية, وغيره من الحنابلة, والذَّهبي لهجَ بذلك في جميع تصانيفه. "(4)
5- أسماء من رمي ببدعة في الصححين ؟
أردتُ أن أسْرُد هُنا من رُمي ببدعته, مِمَّن أخرجَ لهم البُخَاري ومسلم أو أحدهما, وهم:
إبراهيم بن طَهْمان, أيُّوب بن عائذ الطَّائي, ذر بن عبد الله المَرْهبي, شَبَابة بن سَوَّار, عبد الحميد بن عبد الرَّحمن أبو يحيى الحمَّاني, عبد المَجِيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد, عُثمان بن غِيَاث البَصْري, عُمر بن ذر, عَمرو بن مُرَّة, مُحمَّد بن خازم أبو مُعَاوية الضَّرير, وَرْقاء بن عُمر اليَشْكُري, يحيى بن صالح الوحَاظي, يونس بن بُكَير.
هؤلاء رُموا بالإرْجَاء, وهو تأخير القول في الحُكْم على مُرتكب الكبائر بالنَّار.
إسحاق بن سُويد العَدَوي, بهز بن أسَد, حَريز بن عُثمان, حُصَين بن نُمير الواسطي, خالد بن سَلَمة الفأفاء, عبد الله بن سالم الأشْعَري, قيس بن أبي حازم.
هؤلاء رُموا بالنَّصب, وهو بُغض علي - رضي الله عنه - وتقديم غيره عليه.
إسماعيل بن إبَان, إسماعيل بن زكريا الخلقاني, جرير بن عبد الحميد, أبان بن تَغْلب الكُوفي, خالد بن مَخْلد القَطَواني, سعيد بن فيرُوز أبو البَخْتري, سعيد بن عَمرو بن أشْوع, سعيد بن كثير بن عُفَير, عبَّاد بن العوَّام, عبَّاد بن يعقوب, عبد الله بن عيسى بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى, عبد الرزَّاق بن هَمَّام, عبد الملك بن أعين, عُبيد الله بن مُوسى العَبْسي, عَدِي بن ثابت الأنْصَاري, على بن الجَعْد, علي بن هاشم بن البَرِيد, الفَضْل بن دُكَين, فُضَيل بن مَرْزوق الكُوفي, فِطْر بن خَلِيفة, مُحمَّد بن جُحَادة الكُوفي, مُحمَّد بن فُضَيل بن غَزْوان, مالك بن إسْمَاعيل أبو غَسَّان, يحيى بن الجزَّار.
هؤلاء رُموا بالتَّشيع, وهو تقديم علي على الصَّحابة.
ثور بن زيد المدني, ثور بن يزيد الحمصي, حسَّان بن عطية المُحَاربي, الحسن بن ذكوان, داود بن الحُصَين, زكريا بن إسحاق, سالم بن عَجْلان, سلام بن مسكين, سيف بن سُليمان المكِّي, شِبْل بن عبَّاد, شَرِيك بن أبي نَمِر, صالح بن كَيْسان, عبد الله بن عَمرو أبو المُغيرة, عبد الله بن أبي لَبِيد, عبد الله بن أبي نَجِيح, عبد الأعلى بن عبد الأعلى, عبد الرَّحمن بن إسحاق المدني, عبد الوارث بن سعيد الثَّوري, عَطَاء بن أبي ميمونة, العلاء بن الحارث, عَمرو بن زائدة, عمران بن مُسْلم القصير, عُمير بن هانىء, عوف الأعْرَابي, كَهْمس بن المِنْهال, مُحمَّد بن سَوَاء البصري, هارون بن مُوسى الأعْوَر النَّحوي, هِشَام الدَّستوائي, وهب بن مُنَبِّه, يحيى بن حمزة الحضرمي.
هؤلاء رُمُوا بالقدر, وهو زعم أنَّ الشر من خلق العبد.
بِشْر بن السَّري.
رُمى برأي جهم, وهو نفي صِفَات الله تعالى, والقول بخلق القرآن.
عكرمة مولى ابن عبَّاس, الوليد بن كثير.
هؤلاء الحَرُورية, وهم الخوارج الَّذين أنكروا على عليِّ التحكيم, وتبرؤوا منه ومن عثمان وذويه, وقاتلوهم.
علي بن أبي هاشم.
رمي بالوقف, وهو أن لا يقول القرآن مخلوق, ولا غير مخلوق.
عِمْران بن حِطَّان.
من القعدية, الذين يرون الخُروج على الأئمة, ولا يباشرون ذلك.
فهؤلاء المُبْتدعة, ممَّن أخرجَ لهم الشَّيخان أو أحدهما.(5)
قلت : وبعض هذه التهم غير ثابتة على من اتهم بها، فيجب الانتباه لذلك .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - ميزان الاعتدال - (ج 1 / ص 28) ولسان الميزان للحافظ ابن حجر - (ج 1 / ص 3)
(2) - تهذيب التهذيب، ابن حجر، 1/94 .
(3) - ندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 10 / ص 23)
(4) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 258)
(5) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 260)(1/234)
سوءُ حفظ الراوي(1)
يقع سلب الضبط عن الراوي بسبب سوء حفظه ، سلباً كلياً أو جزئياً .
وهذا في الجملة قسمان :
أولهما : فساد الضبط إلى حد أن يكون الراوي متروك الحديث ، وقد يكون علامة عند بعض النقاد على سوء الظن به ، واتهامه بالكذب بما ينتقل به القدح إلى عدالته .
وثانيهما : اختلال الضبط جزئياً ، فيثبت على الراوي الوهم في بعض ما يرويه ، فإن كثر رجح به إلى جانب الرد دون القدح في أصل عدالته وصدقه ، فيبقيه في إطار من يعتبر به عند الموافقة ، وربما نزل به عن درجة المتقنين ، دون النزول به عن درجة القبول ، لكنه يكون في مرتبة دنيا منه .
وهذا قد يتميز منه أن سلب الضبط وقع للراوي في حال دون حال ، وتميز ذلك من أمره ، فهو مجروح به في الحال المتميز ، عدل مقبول فيما سواه ، كمن ضبط عن بعض الشيوخ دون آخرين ، وكالمختلط فيما حدث به بعد اختلاطه وقبله .
وسوء الحفظ لا ينافي الصدق في الأصل .
ومراجعة إلى الغفلة وضعف تيقظ الراوي .
وتارة تكون الغفلة طبعاً فيه ، وتارة عارضة لعدم الاعتناء بالمحفوظ ، وتأثير عوارض أخرى عليه ، كالاشتغال بالعبادة دون العلم ، أو ترك بثه في أهله ، أو الانشغال بالدنيا ، أو تقدم السن ، أو لغير ذلك .
وكثير من ذلك في المنسوبين للصلاح والتعبد ، حتى ربما حدَّثوا بالموضوع والكذب ، يجري على ألسنتهم دون تعمُّد ، وربما كان أحدهم سمع بعض الحديث ، فيحمل إسناد هذا على حديث هذا ، وحديث هذا على إسناد هذا ، ويحدِّث على التوهم عن الرجل بما ليس من حديثه ، وربما ألصق كلاماً حسناً بإسناد معروف ، ليس ذلك الإسناد من ذلك الكلام في شيء ، وربما أدخل عليه ما ليس من حديثه وهو لا يعلم فيحدِّث به على أنه من حديثه ، وهكذا .
لذا كان أبو الزناد عبد الله بن ذكوان يقول : " أدركت بالمدينة مئة ، كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم الحديث ، يقال : ليس من أهله "(2).
وكذلك قال مالك بن أنس : " لَا تَأْخُذِ الْعِلْمَ مِنْ أَرْبَعَةٍ , وَخُذْ مِمَّنْ سِوَى ذَلِكَ , لَا تَأْخُذْ مِنْ سَفِيهٍ مُعْلِنٍ بِالسَّفَهِ وَإِنْ كَانَ أَرْوَى النَّاسِ , وَلَا تَأْخُذْ مِنْ كَذَّابٍ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ , إِذَا جُرِّبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَإِنْ كَانَ لَا يُتَّهَمُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَا مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ , وَلَا مِنْ شَيْخٍ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ " قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ : فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَسَارِيِّ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ , فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا , وَلَكِنْ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ : لَقَدْ أَدْرَكْتُ بِهَذَا الْبَلَدِ يَعْنِي الْمَدِينَةَ مَشْيَخَةً لَهُمْ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ يُحَدِّثُونَ , مَا سَمِعْتُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدِيثًا قَطُّ , قِيلَ : وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مَا يُحَدِّثُونَ " .(3)
وعن حماد بن زيد : أن فرقداً ( يعني السبخي ) ذكر عند أيوب ( يعني السختياني) ، فقال : " لم يكن صاحب حديث ، وكان متقشفاً ، لا يقيد علماً ، ذاك لون ، والبصر بالعلم لون آخر " .(4)
وقال عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ , قَالَ : سَمِعْتُ وَكِيعًا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا سُفْيَانَ , تَعْرِفُ حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّائِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ , فِي رَجُلٍ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ , ثُمَّ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ؟ قَالَ : مَنْ يَرْوِيهِ ؟ قَالَ : وَهْبُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ , قَالَ : " ذَلِكَ رَجُلٌ صَالِحٌ , وَلِلْحَدِيثِ رِجَالٌ " .(5)
وقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ ، يَقُولُ : " مَا رَأَيْتُ الْكَذِبَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ "(6)
قال الإمام مُسْلِمٌ: " يَقُولُ يَجْرِى الْكَذِبُ عَلَى لِسَانِهِمْ وَلاَ يَتَعَمَّدُونَ الْكَذِبَ. "(7).
وعلل يحيى القطان نفسه مرة بعلة أخرى غير ما قاله مسلم ، فقال : " لأنهم يكتبون عن كل من يلقون ، لا تمييز لهم فيه "(8).
قلت : يعني يحيى أنهم يحدثون بالكذب الواقع من غير جهتهم ، وكلا العلتين صحيحتان .
وكان يحيى القطان يقول كذلك : " رب صالح لو لم يحدث كان خيراً له ، إنما هو أمانة ، إنما هو تأدية ، الأمانة في الذهب والفضة أيسر منه في الحديث "(9).
ومن أمثلته :
( ثابت بن محمد الزاهد ) ، قال ابن عدي : " هو ممن لا يتعمد الكذب ، ولعله يخطئ ، وفي أحاديثه ما يشتبه عليه فيرويه حسب ما يستحسنه ، والزهاد والصالحون كثيراً ما يشتبه عليهم فيروونا على حسن نياتهم "(10).
و ( رواد بن الجراح ) ، قال ابن عدي : " كان شيخاً صالحاً ، وفي حديث الصالحين بعض النكرة "(11).
و ( سلم بن ميمون الخواص ) ، قال ابن عدي : " روى عن جماعة ثقات ما لا يتابعه الثقات عليه : أسانيدها ومتونها " ، ثم فسر فقال : " هو في عداد المتصوفة الكبار ، وليس الحديث من عمله ، ولعله كان يقصد أن يصيب فيخطئ في الإسناد والمتن ؛ لأنه لم يكن من عمله "(12).
و ( زكريا بن يحيى الوقار ) ، قال ابن عدي : " سمعت مشايخ أهل مصر يثنون عليه في باب العبادة والاجتهاد والفضل ، وله حديث كثير ، بعضها مستقيمة ، وبعضها ما ذكرت وغير ما ذكرت موضوعات ، وكان يتهم الوقَّار بوضعها ؛ لأنه يروي عن قوم ثقات أحاديث موضوعات ، والصالحون قد رسموا بهذا الرسم أن يرووا في فضائل الأعمال أحاديث موضوعة بواطيل ، ويتهم جماعة منهم بوضعها "(13).
ومثال من كانت الغفلة طبعه ، حتى ربما حدث بالكذب وهو لا يدري : ذاك الواسطي الذي أخبر بقصته الحافظ يزيد بن هارون ، قال : " كان بواسط رجل يروي عن أنس بن مالك أحرفاً ، ثم قيل : إنه أخرج كتاباً عن أنس ، فأتيناه فقلنا له : هل عندك سوى تلك الأحرف ؟ فقال : نعم ، عندي كتاب عن أنس ، فقلنا : أخرجه إلينا ، فأخرجه إلينا ، فنظرنا فيه ، فإذا هي أحاديث شريك بن عبد الله النخعي ، فجعل يقول : حدثنا أنس بن مالك ، فقلنا له : هذه أحاديث شريك ، فقال : صدقتم ، حدثنا أنس بن مالك عن شريك " ، قال : " فأفسد علينا تلك الأحرف التي سمعناها منه ، وقمنا عنه "(14).
قلت : فهذا الشيخ إنما أتي من غفلته وجهله ، فأين شريك من أنس ، فأنس صحابي توفي سنة ( 93 ) ، وشريك من أتباع التابعين ولد سنة ( 95 ) , فكيف روى أنس عن شريك ؟ !
ومن هؤلاء ( محاضر بن المورع ) ، قال أبو سعيد أحمد بن داود الحداد الواسطي ( وكان ثقة ) : " محاضراً لا يحسن أن يصدق ، فكيف يحسن أن يكذب ! كنا نوقفه على الخطأ في كتابه ، فإذا بلغ الموضوع أخطأ "(15).
وقال أحمد بن حنبل : " سمعت منه أحاديث ، لم يكن من أصحاب الحديث ، كان مغفلاً جداً "(16).
ومنهم : ( عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد ) ، قال أبو حاتم الرازي : " الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخره عمره التي أنكروا عليه نرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح ، وكان أبو صالح يصحبه ، وكان سليم الناحية ، وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث ويضعه في كتب الناس ، ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب ، كان رجلاً صالحاً "(17).
ومنهم ( سفيان بن وكيع بن الجراح ) ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : " دَخَلْتُ الْكُوفَةَ فَحَضَرَنِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ , وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِوَرَّاقِ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ فَقَالُوا : أَفْسَدَتَ عَلَيْنَا شَيْخَنَا وَابْنَ شَيْخِنَا , قَالَ : فَبَعَثَتُ إِلَى سُفْيَانَ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ وَرَّاقُهُ ، لِيَرْجِعَ عَنْهَا , فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا , فَتَرَكْتُهُ "(18).
وهذه الحال قد تبلغ بإنسان حد الترك لحديثه في نظر بعض الأئمة ، وذلك بحسب أثر ذلك على ما روى ، كما قال أبو بكر بن أبي شيبة في ( مصعب بن سلام التميمي ) : " تركنا حديثه ، وذلك أنه جعل يملي علينا عن شعبة أحاديث : حدثنا شعبة ، حدثنا شعبة ، فذهبت إلى وكيع فألقيتها عليه ، قال : من حدثك بهذا ؟ فقلت : شيخ ههنا ، قال : هذه الأحاديث كلها حدثنا بها الحسن بن عمارة ، فإذا الشيخ قد نسخ حديث الحسن بن عمارة في حديث شعبة "(19).
وهذا ذكر يحيى بن معين أنه قد رجع عنه(20)، لكنه ينبئ أن بعض النقلة لم يكن يميز ، وهذا الرجل له حديث حسن من روايته عن غير شعبة إذ هو صدوق في الأصل ، وما وقع منه من قلب فيما ذكروه من روايته عن شعبة أو الزبرقان السراج فإنه لا يسقطه جملة ، إنما تبين أن ما حدث به عن غيرهما فيه المحفوظ ، على أنه لا ينبغي أن يحتج به لذاته ، بل يكتب حديثه للاعتبار .
ومن هؤلاء من لم يكن يفهم ما الحديث ، فكان يؤتى من جهله :
قال أبو حاتم الرازي في ( عقيل الجعدي ) : " منكر الحديث ، ذاهب ، ويشبه أن يكون أعرابياً ، إذ روى عن الحسن البصري ، قال : دخلت على سلمان الفارسي ، فلا يحتاج أن يسأل عنه "(21).
وحاصل هذا :
أن من الغفلة ينتج سوء الحفظ ، فيخطئ الراوي في الأسانيد : فيرفع الموقوف ، ويوقف المرفوع ، ويوصل المرسل ، ويرسل الموصول ، ويقلب الأسانيد ، فيجعل ما لهذا الشيخ لشيخ آخر ، ولا يضبط المتون ، ويغير فيها .
وسوء الحفظ يكون بسبب خلقي ، وهو ضعف ذاكرته ، كما يكون بتفريط من الراوي ، وعليه فهذان قسمان :
القسم الأول : الوهم والغلط بمقتضى الجبلَّة
وهو طبيعة ثابتة لكل نفس ، ولا تكون سبباً للقدح في الراوي حتى تكثر منه إلى جنب إلى ما روى ، فإن كثرت صارت به إلى مرتبة في الجرح ، تتفاوت قدراً ، وقد تبلغ بالراوي إلى ترك حديثه ، وذلك إذا فحش منه ، كما قال الشافعي : " من كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل صحيح لم يقبل حديثه ، كما يكون من كثر غلطه في الشهادة لم تقبل شهادته "(22).
ومن أمثلته :
قول الدار قطني في ( الجراح بن مليح أبي وكيع ) : " ليس بشيء ، هو كثير الوهم " ، قال البرقاني : قلت : يعتبر به ؟ قال : " لا "(23).
وقول الحافظ عمرو بن علي الفلاس في ( جعفر بن الزبير الشامي ) وكان متروك الحديث ، ومنهم من بالغ فكذبه : " متروك الحديث ، وكان رجلاً صدوقاً كثير الوهم "(24).
ومن الرواة من يكثر خطؤه إذا حدث من حفظه ، ويضبط إذا حدث من كتابه ، كما ذكرته في صور الجرح النسبي(25).
والأصل أن علة كثرة الخطأ والوهم لا تنافي الصدق ، فما لم تغلب على الراوي فإنه باق في درجة من يعتبر به ، كما قال الدار قطني في ( مبارك بن فضالة ) : " لين ، كثير الخطأ ، بصري ، يعتبر به "(26).
فهذه كثرة غير غالبة ، فلم تمنع من الاعتبار بحديثه ، وهذا يتبينه الباحث في حق الراوي من خلال النظر فيما قاله جماعة النقاد في ذلك الراوي ، وملاحظة قدر ما عليه من الخطأ .
والوهم والغلط يقع بأسباب :
أولها : المخالفة في الأسانيد .
والمقصود أن يأتي بها على غير ما يأتي بها الثقات .
مثل ( عبد الله بن عمر العمري ) ، قال أحمد بن حنبل : " كان يزيد في الأسانيد ، ويخالف ، وكان رجلاً صالحاً "(27).
ومثل ( أشعث بن عطاف ) ، قال ابن عدي : " لم أر له منكراً ، إلا أنه يخالف الثقات في الأسانيد ، ولأشعث بن عطاف أحاديث حسان عن الثوري وغيره ، وهو عندي لا بأس به "(28).
ومن صور المخالفة في الأسانيد : القلب .
مثل ( محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ) ، وقد روى الكثير ، وبلغ به سوء الحفظ إلى أن قال البخاري : " ابْنُ أَبِى لَيْلَى هُوَ صَدُوقٌ وَلاَ أَرْوِى عَنْهُ لأَنَّهُ لاَ يَدْرِى صَحِيحَ حَدِيثِهِ مِنْ سَقِيمِهِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِثْلَ هَذَا فَلاَ أَرْوِى عَنْهُ شَيْئًا. "(29)
كان من سوء حفظه يقلب الأحاديث سنداً أو متناً ، كما قال شعبة بن الحجاج : " أفادني ابن أبي ليلى أحاديث ، فإذا هي مقلوبة "(30).
وممن عرف بسوء الحفظ ، وكان من علته قلب الأحاديث ( علي بن زيد بن جدعان ) ، قال حماد بن زيد : " حدثنا علي بن زيد ، وكان يقلب الأحاديث "(31).
وقال حماد بن زيد : " كان علي بن زيد يحدث بالحديث فيأتيه من الغد فيحدث به كأنه حديث آخر "(32).
وثانيها : وصل المراسيل .
مثل ( إبراهيم بن الحكم بن أبان ) ، جرحوه ، قال ابن عدي : " بلاؤه مما ذكروه أنه يوصل المراسيل عن أبيه ، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه " ، وكان الحافظ عباس بن عبد العظيم قد قال فيه قبله : " كانت هذه الأحاديث في كتبه مراسيل ، ليس فيها ابن عباس ، ولا أبو هريرة ، يعني أحاديث أبيه عن عكرمة "(33).
وثالثها : رفع الموقوف .
ولك أن تعدها من أمثلة الزيادة في الأسانيد .
مثل ( إبراهيم بن مسلم الهجري ) ، فقد كان ضعفه من جهة أنه كان يرفع الموقوف ، قال سفيان بن عيينة : " كان رفَّاعاً "(34).
ومثله قول شعبة في ( علي بن زيد بن جدعان ) : " كان رفاعاً "(35)، وقوله في ( يزيد بن أبي زياد ) مثل ذلك(36).
ورابعها : الجمع بين الرواة في سياق واحد وحمل حديث بعضهم على بعض .
ومثاله في الضعفاء ( ليث بن أبي سليم ) :
قال أبو نعيم الفضل بن دكين : قال شعبة لليث بن أبي سليم : " كيف سألت عطاء وطاوساً ومجاهداً كلهم في مجلس ؟ " ، قال : سل عن هذا خف أبيك . قال ابن أبي حاتم : فقد دل سؤال شعبة لليث بن أبي سليم عن اجتماع هؤلاء الثلاثة له في مسألة ، كالمنكر عليه(37).
وقال الداقطني : " صاحب سنة ، يخرج حديثه ، إنما أنكروا عليه الجمع بين عطاء وطاوس ومجاهد ، وحسْب "(38).
قلت : وهذه صورة ناتجة عن تخليط الراوي واضطرابه ؛ لما علم من سوء حفظه
وقال إبراهيم الحربي : سمعت أحمد ( يعني ابن حنبل ) وذكر الواقدي ، فقال : " ليس أنكر عليه شيئاً إلا جمعه الأسانيد ، ومجيئه بمتن واحد على سياقة واحدة عن جماعة ، وربما اختلفوا " . قال إبراهيم : ولم ، وقد فعل هذا ابن إسحاق ، كان يقول : حدثنا عاصم بن عمر ، وعبد الله بن أبى بكر ، وفلان ، وفلان . والزهري أيضاً قد فعل هذا ؟
قال إبراهيم : قال بور بن أصرم(39): رآني الواقدي أمشي مع أحمد بن حنبل ، قال : ثم لقيني بعد ، فقال لي : رأيتك تمشي مع إنسان ربما تكلم في الناس . قيل لإبراهيم : لعله بلغه عنه شيء ؟ قال : نعم ، بلغني أن أحمد أنكر عليه جمع الرجال والأسانيد في متن واحد . قال إبراهيم : وهذا قد كان يفعله حماد بن سلمة ، وابن إسحاق ، ومحمد بن شهاب الزهري(40).
قلت : يعني وما أنكر عليهم ، فلم ينكر على الواقدي ؟
وقد كان أحمد ربما أطلق على صنيع الواقدي هذا قلب الأحاديث ، وهو إنما كان يحيل لفظ هذا على لفظ هذا ، قال أحمد بن حنبل : " يقلب الأحاديث ، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر ، ونحو هذا "(41).
وذكر ابن حبان هذه المسألة وكان قد ضرب مثلاً بحماد بن سلمة ، فقال في الجواب عن قول من قال : " يروي عن جماعة حديثاً واحداً ، بلفظ واحد من غير أن يميز بين ألفاظهم " : " يقال له : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون يؤدون الأخبار على المعاني بألفاظ متباينة ، وكذلك كان حماد يفعل ، كان يسمع الحديث عن أيوب وهشام وابن عون ويونس وخالد وقتادة(42)عن ابن سيرين ، فيتحرى المعنى ويجمع في اللفظ ، فإن أوجب ذلك منه ترك حديثه أوجب ذلك ترك حديث سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وأمثالهم من التابعين ؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك "(43).
وقال الخليلي(44): " ذاكرت يوما بعض الحفاظ ، فقلت : البخاري لم يخرج حماد بن سلمة في ( الصحيح ) وهو زاهد ثقة ؟ فقال : لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس ، فيقول : حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب ، وربما يخالف في بعض ذلك .
فقلت : أليس ابن وهب اتفقوا عليه ، وهو يجمع بين أسانيد ، فيقول : حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي ، بأحاديث ، ويجمع بين جماعة غيرهم ؟
فقال : ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له " .
وتكلم شعبة بن الحجاج في ( عوف بن أبي جميلة الأعرابي ) بمثل ذلك .
قال يحيى القطان : قال لي شعبة في أحاديث عوف عن خلاس عن أبي هريرة ، ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة إذا جمعهم ، قال لي شعبة : " ترى لفظهم واحد؟ " ، قال ابن حاتم : كالمنكر على عوف(45).
قلت : يحتمل فعل مثل هذا من راو متقن ؛ لأن إتقانه حائل دون خالط ، مثل الزهري ، على قلته منه ، أما من يكثر من ذلك ويتبين الغلط في روايته بسببه ، كليث بن أبي سليم ، فيكون ذلك دليلاً على ضعفه .
وخامسها : قبول التلقين .
وهذا حين يكون الشيخ قد استولت عليه الغفلة ، فيقال له : حدثك فلان بكذا ، فيما هو من حديثه وما ليس من حديثه ، وهو لا يميز ، فيحدث به على أنه من حديثه .
ومن أمثلة هؤلاء الذين جرحوا بقبول التلقين :
( عبد الحميد بن إبراهيم الحضرمي أبو تقي الحمصي ) ، قال الحافظ محمد بن عوف الحمصي : " كان شيخاً ضريراً لا يحفظ ، وكنا نكتب من نسخة الذي كان عند إسحاق بن زبريق لا بن سالم ، فنحمله إليه ونلقنه ، فكان لا يحفظ الإسناد ، ويحفظ بعض المتن ، فيحدثنا ، وإنما حملنا الكتاب عنه شهوة الحديث "(46).
وقال أبو حاتم الرازي : " ذكر أنه سمع كتب عبد الله بن سالم عن الزبيدي(47)، إلا أنها ذهبت كتبه فقال : لا أحفظها ، فأرادوا أن يعرضوا عليه ، فقال : لا أحفظ ، فلم يزالوا به حتى لان ، ثم قدمت حمص بعد ذلك بأكثر من ثلاثين سنة ، فإذا قوم يروون عنه هذا الكتاب ، وقالوا : عرض عليه كتاب ابن زبريق ، ولقنوه ، فحدثهم بهذا ، وليس هذا عندي بشيء ، رجل لا يحفظ ، وليس عنده كتب "(48).
__________
(1) - وهو السبب العاشر من أسباب الطعن في الراوي ، وهو آخرها . وانظر تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 22) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 533) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 129) ومن تكلم فيه وهو موثق أو صالح الحديث - (ج 1 / ص 79)
(2) - أسنده الرامهرمزي في المحدّث الفاصل : 407 ( 425 ) ، والخطيب في الكفاية ( 159 ه، 247 ت) جميعهم من طريق الأصمعي ، عَنْ ابن أبي الزناد ، عَنْ أبيه ، بِهِ
(3) - الكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 116) (294)
(4) - الكامل في الضعفاء[ ج 6 - ص 27 ] والجرح والتعديل[ ج 7 - ص 81 ]
(5) -أخرجه مسلم في " المقدمة " ( 1 / 17 ) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " ( ص : 64 ) والخطيب في " الكفاية " ( ص : 250 )(466) وإسناده صحيح .
(6) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 168 ) وابنُ عبد البر في " التمهيد " ( 1 / 52 ) وإسناده صحيح .
(7) - مقدمة صحيح مُسلم ( 1 / 18 ) (45).
(8) - أخرجه الخليلي في " الإرشاد " ( 1 / 171 -172 ) وإسناده جيد .
(9) - أخرجه الجوزجاني في " أحوال الرجال " ( ص : 37 ) وإسناده صحيح .
(10) - الكامل ( 2 / 301 ) .
(11) - الكامل ( 4 / 120 ) .
(12) - الكامل ( 4 / 350 ، 351 ) .
(13) - الكامل ( 4 / 176 ) ولسان الميزان[ ج 2 - ص 485 ] 1950
(14) - أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين " ( 1 / 70 - 71 ) بإسناد جيد ، ونحوه في " المدخل إلى الإكليل " للحاكم ( ص : 60 ) .
(15) - سؤالات الآجري لأبي داود ( النص : 126 ) .
(16) - العلل ومعرفة الرجال ( النص : 4110 ) .
(17) - الجرح والتعديل[ ج 5 - ص 86 ] (398)
(18) - الكفاية (427)
(19) - معرفة الرجال ، رواية ابن مُحرز ( 2 / 213 ) .
(20) - انظر : سؤالات ابن الجنيد ( النص : 253 ) .
(21) - الجرح والتعديل[ ج 6 - ص 219 ]1214
(22) - أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " ( 1 / 207 ) وإسناده صحيح .
(23) - سؤالات البَرقاني للدارقطني ( النص : 67 ) .
(24) - الكامل ، لابن عدي ( 2 / 362 ) .
(25) - وسيمر بعد قليل
(26) - سؤالات البرْقاني ( النص : 477 ) .
(27) - تاريخ بغداد ( 10 / 20 ) .
(28) - الكامل في الضعفاء[ ج 1 - ص 380 ]
(29) - نقله الترمذي في " الجامع " بعدَ الحديث ( رقم : 365 ) ونحوه بعد الحديث ( رقم : 1715 ) .
(30) - أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " ( 1 / 1 / 162 ) وابن أبي حاتم في " التقدمة " ( ص : 152 ) و" الجرح " ( 3 / 2 / 322 ) والعُقيلي ( 4 / 98 ) بإسناد صحيح .
(31) - أخرجه العُقيلي ( 3 / 230 ) بإسناد صحيح .
(32) - أخرجه العُقيلي ( 3 / 231 ) بإسناد صحيح .
(33) - الكامل في الضعفاء[ ج 1 - ص 242 ]72
(34) - أخرجه يعقوب بنُ سفيان في " المعرفة والتاريخ " ( 2 / 711 ) والعُقيلي ( 1 / 66 ) بإسناد صحيح . وكقول سُفيان فيه كذلك قولُ عددٍ من أئمة الجرح والتعديل .
(35) - أخرجه البُخاري في " التاريخ "( 3 / 2 / 275 ) والترمذي ( بعد حديث : 2678 ) وعبد الله بن أحمد في " العلل " ( النص : 4978 ) وابنُ أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " ( ص : 147 ) و " الجرح والتعديل " ( 3 / 1 / 186 ) والعُقيلي ( 3 / 229 ، 230 ) وابنُ عدي ( 6 / 334 ، 335 ) بإسناد صحيح .
(36) - أخرجه ابنُ أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " ( ص : 156 ) و " الجرح والتعديل " ( 4 / 2 / 265 ) والعقيلي ( 4 / 340 ) وابنُ عدي ( 9 / 164 ) بإسناد صحيح .
(37) - أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " ( ص : 151 ) وإسناده صحيح .
(38) - سؤالات البُرقاني ( النص : 421 ) .
(39) - مرْوَزي ثقة ، ممن رَوى عنه البخاري .
(40) - موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل - (ج 7 / ص 209) و((تاريخ بغداد)) 3/16 وإسناده جيد .
(41) - أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 4 / 1 / 21 ) بإسناد صحيح . وكذلك أخرجه الخطيب في " تاريخه " ( 3 / 16 ) .
(42) - أيوب هوَ السختياني ، وهِشام هوَ ابنُ حسان ، وابنُ عون هوَ عبد الله ، ويونس هوَ ابنُ عبيْد ، وخالدٌ هوَ الحذَّاء ، وقتادة هوَ ابن دعامَة السدوسي ، جَميعاً من حُفاظ أصْحاب مُحمد بن سيرين .
(43) - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ( 1 / 154 ) .
(44) - الخليلي في " الإرشاد " ( 1 / 417 - 418 )
(45) - أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمه الجرح والتعديل " ( ص : 147 ) بإسناد صحيح .
(46) - تهذيب التهذيب - (ج 6 / ص 99) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 6 / ص 8)
(47) - هوَ مُحمد بن الوليد .
(48) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 6 / ص 8)(1/235)
ومنهم ( سفيان بن وكيع بن الجراح ) ، قال ابن عدي : " بلاؤه أنه كان يتلقن ما لقن ، ويقال : كان له وراق يلقِّنه من حديث موقوف فيرفعه ، وحديث مرسل فيوصله ، أو يبدل في الإسناد قوماً بدل قوم(1).
وقد كان بعض نقاد المحدثين يستعملون هذا طريقاً لتبين حفظ الراوي ، مثل ما حكاه أَبُو الْمُنْذِرِ الْكُوفِيُّ قَالَ : كُنَّا بِمَكَّةَ فَقَدِمَ عَلَيْنَا عَطَاءُ بْنُ عَجْلَانَ مِنَ الْبَصْرَةِ فَأَخَذَ فِي الطَّوَافِ ، فَجَاءَ غِيَاثُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَكِدَامُ بْنُ مِسْعَرٍ وَآخَرُ قَدْ سَمَّاهُ ، فَجَعَلُوا يَكْتُبُونَ حَدِيثَ عَطَاءٍ ، فَإِذَا مَرُّوا بِعَشَرَةِ أَحَادِيثَ أَدْخَلُوا حَدِيثًا مِنْ غَيْرِ حَدِيثِهِ حَتَّى كَتَبُوا أَحَادِيثَ وَهُوَ يَطُوفُ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ : وَيْلَكُمْ ، اتَّقُوا اللَّهَ ، فَانْتَهَرُوهُ وَمَاجُوا بِهِ ، قَالَ : فَلَمَّا فَرَغَ كَلَّمُوهُ أَنْ يُحَدِّثَهُمُ ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَدِيثٍ فَمَرَّ فِيهِ فَقَرَأَهُ قَالَ : فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الثَّالِثِ ، فَانْتَبَهَ الشَّيْخُ وَاسْتَضْحَكُوا ، قَالَ : فَقَالَ لَهُمْ : إِنْ كُنْتُمْ أَرَدْتُمْ شَيْنِي فَعَلَ اللَّهُ بِكُمْ وَفَعَلَ ..(2)
وهل إطلاق العبارة على الراوي بقبول التلقين يصبح قادحاً فيه ؟
يقع قبول التلقين للراوي إما بسبب الغفلة ، أو التساهل في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمن عرف عنه ذلك من الرواة ، فلا يخلو من أن تكون هذه البلية عرضت عليه بعد حفظ وإتقان ، أو لم يعرف أصلاً بالحفظ ، فإن كان من النوع الأول وتميز حديثه الذي كان يحفظ من حديثه الذي لقن فيه ، قبل ما حفظه ورد ما لقن فيه ، وإن لم يتميز ردَّ جميع حديثه ، وأما من لزمه هذا الوصف ولم يعرف بضبط أصلاً فكل حديثه مردود من طريقه .
فقبولُ التلقين قد يصيِّرُ الرجلَ متروكَ الحديث ليس بثقة ، وذلك إذا تلقن الحديث الموضوع وحدث به ، كما وقع لمثل ( محمد بن معاوية النيسابوري ) ، قال أبو زرعة الرازي : " كان شيخاً صالحاً ، إلا أنه كلما لقن يلقن ، وكلما قيل : إن هذا من حديثك ، حدَّث به ، يجيئه الرجل فيقول : هذا من حديث معلَّى الرازي ، وكنت أنت معه ، فيحدث بها على التوهم " .
قلت : فأضر ذلك به حتى قال أحمد بن حنبل : "رأيت أحاديثه أحاديث موضوعة " ، بل اتهمه يحيى بن معين فقال : " كذاب "(3).
كما قد يكون في حديثه ما يدلُّ على رواية المنكر ، وكان قبول التلقين من أسباب ذلك ، مثل ما حكى ابن حبان عن عفان بن مسلم قال : كنت أسمع الناس يذكرون قيساً ( يعني ابن الربيع ) فلم أدر ما علته ، فلما قدمنا الكوفة أتيناه فجلسنا إليه ، فجعل ابنه يلقنه ويقول له : حصين ، فيقول : حصين ، فيقول رجل آخر : ومغيرة ، فيقول : ومغيرة ، فيقول آخر : والشيباني ، فيقول : والشيباني(4).
قال قتادة بن دعامة السدوسي : " إِذَا سَرَّكَ أَنْ تُكَذِّبَ صَاحِبَكَ فَلَقِّنْهُ "(5).
وقال الحافظ عبد الله بن الزبير الحميدي : " قَالَ الْحُمَيْدِيُّ : " وَمَنْ قَبِلَ التَّلْقِينَ تُرِكَ حَدِيثُهُ الَّذِي لُقِّنَ فِيهِ , وَأُخِذَ عَنْهُ مَا أَتْقَنَ حِفْظَهُ , إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ التَّلْقِينُ حَادِثًا فِي حِفْظِهِ لَا يُعْرَفُ بِهِ قَدِيمًا , فَأَمَّا مَنْ عُرِفَ بِهِ قَدِيمًا فِي جَمِيعِ حَدِيثِهِ فَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ , وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَا حَفِظَهُ مِمَّا لُقِّنَ "(6).
وعَنِ الْأَعْمَشِ , قَالَ : كَانَ بِالْكُوفَةِ شَيْخٌ يَقُولُ : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ , يَقُولُ : " إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ , يُرَدُّ إِلَى وَاحِدَةٍ " وَالنَّاسُ إِذْ ذَاكَ عُنُقًا وَاحِدًا يَأْتُونَهُ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ , قَالَ : فَأَتَيْتُهُ , فَقَرَعْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ , فَخَرَجَ إِلَيَّ شَيْخٌ , فَقُلْتُ لَهُ : كَيْفَ سَمِعْتَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : " إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إِلَى وَاحِدٍ , قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : أَنَّى سَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ ؟ أَخْرِجْ إِلَيَّ كِتَابَكَ ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ كِتَابَهُ ، فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , هَذَا مَا سَمِعْتُ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ : " إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ , وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " , قَالَ : قُلْتُ : وَيْحَكَ , هَذَا غَيْرُ الَّذِي تَقُولُ , قَالَ : الصَّحِيحُ هُوَ هَذَا , لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَرَادُونِي عَلَى ذَلِكَ "(7)
وقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : " كَانَ عِنْدَنَا شَيْخٌ بِوَاسِطَ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , فَخَدَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , فَاشْتَرَى لَهُ كِتَابًا مِنَ السُّوقِ فِي أَوَّلِهِ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ , وَفِي آخِرِهِ أَصْحَابُ شَرِيكٍ الْأَعْمَشُ وَمَنْصُورٌ , وَهَؤُلَاءِ , فَجَعَلَ يُحَدِّثُ يَقُولُ : ثَنَا مَنْصُورٌ , وَثَنَا الْأَعْمَشُ , قَالَ : فَقِيلَ : أَيْنَ لَقِيتَ هَؤُلَاءِ ؟ فَأَخَذَ كِتَابَهُ , فَقِيلَ : لَعَلَّكَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ شَرِيكٍ ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ : حَتَّى أَقُولَ لَكُمُ الصِّدْقَ , سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ شَرِيكٍ "(8)
وعَنِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : " دَخَلْتُ الْكُوفَةَ فَحَضَرَنِي أَصْحَابُ الْحَدِيثِ , وَقَدْ تَعَلَّقُوا بِوَرَّاقِ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ فَقَالُوا : أَفْسَدَتَ عَلَيْنَا شَيْخَنَا وَابْنَ شَيْخِنَا , قَالَ : فَبَعَثَتُ إِلَى سُفْيَانَ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ وَرَّاقُهُ ، لِيَرْجِعَ عَنْهَا , فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا , فَتَرَكْتُهُ "(9)
وقال ابن حزم : " من صح أنه قبل التلقين ولو مرة ، سقط حديثه كله "(10).
قلت : وليس كما قال ابن حزم ، وإنما العبرة بثبوت أثر التلقين على حديثه ، فإن ادعي أنه كان كذلك وكان موصوفاً بالثقة والصدق ، ولم يثبت عليه في مثال فلا يرد حديثه بمجرد الدعوى ، وإن ثبت عليه في بعض حديثه وتميز ، فلا يرد سائر حديثه الذي لم يتأثر بالتلقين :
وسادسها : التصحيف إذا حدث من كتبه .
ويقع بسبب عدم الضبط الكتاب ، فيحدث من كتابه فيخطئ الأسماء أو في المتون.
وقلة ذلك شأنها شأن الوهم اليسير من الراوي لا يقدح في ثقته إن غلب حفظه وإتقانه ، فإن كثر أضرَّ به .
سئل أبو حاتم الرازي عن ( مؤمل بن إسماعيل ) و ( أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي ) صاحبي سفيان الثوري ؟ فقال : " في كتبهما خطأ كثير ، وأبو حذيفة أقلهما خطأ " ، وقال كذلك في ( أبي حذيفة أقلهما خطأ )" ، وقال كذلك في ( أبي حذيفة ) وقد وصفه بالصدق : " كان يصحف "(11).
وممن ضعف بالتصحيف : مصعب بن سعيد المصيصي ، ضعفه بذلك ابن عدي(12).
ومن الثقات ممن ذكروا بالتصحيف جماعة ، منهم :
عبد الوارث بن سعيد ، وكان حافظاً متقناً فصيحاً ، لكن أخذ عليه الخطأ في كتابه في الإسناد وأسماء الرجال ، جاء ذلك عن علي بن المديني قال : " في كتابه في الإسناد وأسماء الرجال ، جاء ذلك عن علي بن المديني قال : " في كتاب عبد الوارث بن سعيد خطأ كثير " ، فقيل له : في الحديث ؟ قال : " في الإسناد وأسماء الرجال "(13).
ومنهم : محمد بن إسحاق صاحب " المغازي " ، فعن صاحبه يحيى بن سعيد الأموي ، قال : " كان ابن إسحاق يصحِّف في الأسماء ؛ لأنه إنما أخذها من الديوان "(14).
فالثقة إذا ذكر بالتصحيف فإنه وإن لم يقدح ذلك في صحة حديثه ، لكن يوجب الاحتياط في أسانيده ومتونه فيما حدَّث به من كتبه .
والحال أن الأخذ من الكتب يوجب الاحتياط مطلقاً ، فإن مظنة التصحيف في قراءة النصوص واردة على جميع الناس ، ولكن الثقة المتقن من يضبط كتابه إذا كان يحدث منه .
قال أحمد بن حنبل : " من يفلت من التصحيف ؟ كان يحيى بن سعيد يشكل الحرف إذا كان شديداً ، وغير ذاك لا ، وكان هؤلاء أصحاب الشكل عفان وبهز وحَبان "(15).
القسم الثاني : ما يرجع من سوء الحفظ إلى تساهل الراوي
ووقع من بعض الرواة في السماع والإسماع ، كمن لا يبالي بالنوم عند السماع ، أو يحدث من غير أصل صحيح ، أو يحمل الحديث عن الشيخ في المذاكرة .
وهذا مثل قول أبي بكر الإسماعيلي في ( أحمد بن عبد الكريم الوزان الجرجاني ) : " صدوق ، ضعف آخر عمره ، كتبت عنه في صحته ، ثم كنت أمر به يقرأ عليه وهو نائم ، أو شبه النائم "(16).
ومن التساهل : طعن بعض الأئمة على رواية من سمع " الموطأ " بقراءة حبيب بن رزيق كاتب مالك بن أنس ، فإنه كان يقرأ على مالك لبعض الغرباء ، وكان معروفاً بالكذب ووضع الحديث .
قال يحيى بن معين : " أشر السماع من مالك عرض حبيب، كان يقرأ على مالك، وإذا انتهى إلى آخر القراءة صفح أوراقا، وكتب " بلغ " وعامة سماع المصريين عرض حبيب ! "(17).
وقال : " كان ابن بكير سمع من مالك بعرض حبيب ، وهو أشر العرض "(18).
قلت : وهذا يعدُّ من التساهل في حمل الحديث أن لا يكون القارئ على الشيخ ثقة .
قال القاضي عياض : " عدم الثقة بقراءة مثله ، مع جواز الغفلة والسهو ( يعني على الشيخ ) عن الحرف وشبهه ، وما لا يخلُّ بالمعنى ، مؤثرٌّ في تصحيح السماع .. ولهذه العلة لم يخرج البخاري من حديث ابن بكير عن مالك إلا القليل ، وأكثر عنه الليث "(19).
والمذاكرة : ليست ظرفاً مناسباً لتحمل الحديث عن الشيخ ؛ لأنهم يتساهلون فيها ؛ إذ لم يقصدوا الأداء .
وكان جماعة من كبار أئمة الحديث ، ينهون أن يحمل عنهم الحديث في المذاكرة ، مثل الإمام عبد الرحمن بن مهدي ، فقد كان يقول : " حَرَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ، عَنِّي فِي الْمُذَاكَرَةِ حَدِيثًا لِأَنِّي إِذَا ذَاكَرْتُ تَسَاهَلْتُ فِي الْحَدِيثِ "(20).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - الكامل ( 4 / 482 ) .
(2) - أخرجه العُقيلي في " الضعفاء " ( 3 / 402 ) بإسناد صحيح ، ونقله المزي في " تهذيب الكَمال " ( 20 / 97 ) .
(3) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 8 / ص 104) وتهذيب التهذيب - (ج 9 / ص 410)
(4) - المجروحين ( 2 / 219 ) . قلت : ( حُصين ) كذا وَقع فيما ذكره ابنُ حبان ، فإن كانَ محفوظاً فهوَ ابنُ عبد الرحمن السلمي ، لكن في " الجرح والتعديل " ( 3 / 2 / 98 ) : ( أبو حصين ) وهو بهذا عثمان بن عاصم الأسدي ، وأما مغيرة فهو ابن مقسم ، والشيباني هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان .
(5) - أخرجه البغوي في " الجعديات " ( رقم : 1069 ، 1070 ) من طريقين عنه ، وهوَ صحيح بهما ، وربَّما حكاهُ قتادة عن أبي الأسود الدؤلي ، انظر : " الجعديات " ( رقم : 1071 ) . وأخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 324 ) بلفظ : " إذا أردْت أن تُغلطِّ صاحبك فلقِّنه " وإسناده حسنٌ .
(6) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 235 )(423) بإسناد صحيح .
(7) - الكفاية (424)
(8) - الكفاية (425 )
(9) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (427 )
(10) - الإحكام في أصول الأحكام ( 1 / 142 ) .
(11) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 8 / ص 164)
(12) - الكامل في الضعفاء[ ج 6 - ص 364 ] 1846
(13) - أخرجه العَسكري في " تصحيفات المحدثين " ( 1 / 46 ) بإسناد صالح .
(14) - أخرجه العَسكري في " أخبار المصحفين " ( ص : 41 ) بإسناد لا بأس به ، والديوان أراد بهِ السجل الذي تُكتب فيه أسماء الجُند وأصْحاب العَطية ، مما يعود إلى سُلطان الدوْلة .
(15) - أخرجه الخطيب في " تاريخه " ( 12 / 274 ) بإسناد صحيح . وعفان هوَ ابنُ مسلم ، وبهزٌ هوَ ابن أسد ، وحبانُ هوَ ابن هلال .
( 977 ) المعجم ، للإسماعيلي ( الترجمة : 32 ) سؤالات السهمي ( الترجمة : 139 ) .
(16) - لسان الميزان للحافظ ابن حجر - (ج 1 / ص 89)[ 840 ]
(17) - تهذيب الكمال للمزي - (ج 5 / ص 368) والكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 411) وإسناده صحيح
(18) - تاريخ يحيى بن معين ( النص : 5282 ) .
(19) - الإلماع ( ص : 77 ) . والليث هوَ ابن سعد .
(20) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (1119) وإسناده جيد(1/236)
المبحث الرابع : متى يترك حديث الراوي ؟
علمت مما تقدم في ( تفسير التعديل ) أن ضبط الراوي يعرف مقارنته بحديث الثقات المعروفين ، فإن وافق فيما نقل ولو معنى ، أو غلبت عليه الموافقة وندرت المخالفة وتميزت ؛ فهو ضابط .
لكن اعلم أن السلامة من الغلط والوهم ليست واردة على أحد من رواة الحديث وإن وصف بكونه " أمير المؤمنين في الحديث " .
لذا فالخطأ النادر المتميز من الثقة ، في راو أو إسناد أو متن ، لا يسقط به الثقة ، إنما يردُّ من روايته ذلك الخطأ .
قال سفيان الثوري : " لَيْسَ يَكَادُ يُفْلِتُ مِنَ الْغَلَطِ أَحَدٌ , إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الرَّجُلِ الْحِفْظُ فَهُوَ حَافَظٌ وَإِنْ غَلَطَ ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ تُرِكَ "(1).
وقال عبد الله بن المبارك : " ومن يسلم من الوهم، وَقَدْ وهّمت عائشة جَمَاعَة من الصَّحَابَة في رواياتهم للحديث "(2).
وكان يحيى بن معين يقول : " من لا يخطئ في الحديث فهو كذاب "(3).
ويقول : " لست أعجب ممن يحدث فيخطئ ، إنما العجب ممن يحدث فيصيب "(4).
وقال ابن حبان : " وفي الدنيا أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرى عن الخطأ ؟ ولو جاز ترك حديث من أخطأ لجاز ترك حديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المحدثين ؛ لأنهم لم يكونوا بمعصومين "(5).
قال الذهبي : " ليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يقر على الخطأ "(6).
قلت : فهذا شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث ، ومع ذلك فقد أخذ عليه الخطأ اليسير في أسماء الرواة .
قال أبو زرعة الرازي : " كان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال "(7)، ونحوه قال أبو حاتم كذلك(8).
وقال أبو داود السجستاني : " شعبة يخطئ فيما لا يضره ولا يعاب عليه " يعني في الأسماء(9).
وله في " علل الحديث " لا بن أبي حاتم ثمانية أو تسعة مواضع أخطأ فيها .
وما من هؤلاء الحفاظ المكثرين من يسلم من شيء يؤخذ عليه ، والإكثار مظنة العثار ، والراوي يحفظ الكثير ، فيهِمُ في اليسير ، فلا يقدح قليل خطئه في كثير صوابه .
قال ابن عدي في ( أبي داود الطيالسي ) : " حدث بأصبهان كما حكى عنه بندار أحداً وأربعين ألف حديث ابتداء ، وإنما أراد به من حفظه ، وله أحاديث يرفعها ، وليس بعجب ممن يحدث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يخطئ في أحاديث منها ، يرفع أحاديث يوقفها غيره ، ويوصل أحاديث يرسلها غيره ، وإنما أتي ذلك من قبل حفظه ، وَمَا هُوَ عِنْدِي وَعِنْدَ غَيْرِي إِلاَّ مُتَيَقِّظٌ ثَبْتٌ. "(10).
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: أَبُو الأَزْهَرِ هَذَا كتبَ الحَدِيْثَ، فَأَكْثَرَ، وَمَنْ أَكْثَرَ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي حَدِيْثِهِ الوَاحِدُ وَالاثنَانِ وَالعشرَةُ مِمَّا يُنْكَر.(11).
قلت : فالعبرة إنما هي بغلبة الحفظ والضبط والإتقان وأن يقلَّ الغلط إلى جنب ما روى .
واعلم أن ورود مظنَّة الغلط على كل راو أوجبت التحري والتثبت في قبول الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفحص أحوال النقلة وتمييز ضبطهم من عدمه ، وتمامه من نقصه ، ومقدار غلطهم بالنسبة إلى جملة ما رووا ، فراو حدث بمئة حديث وأخطأ في بضعة أحاديث ، فرفع ما هو موقوف أو وصل ما هو مرسل ، فلا تطرح المئة لأجل البضعة ، وإنما يميز ما أخطأ فيه بالحجة ، ويقبل سائره ، وآخر روى عشرة أحاديث فأخطأ في بعضها ، فقلَّة ما روى مع الخطأ تورد الريبة في سائر العشرة ، فمثله لا يقبل منه التفرد ويوصف بعدم الضبط أو خفته ، وقد يبقى في درجة من يستشهد به ، وقد يطرح كلية .
وقال نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يَقُولُ : قِيلَ لِشُعْبَةَ : " مَتَى يُتْرَكُ حَدِيثُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : إِذَا رَوَى عَنِ الْمَعْرُوفِينَ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمَعْرُوفُونَ فَأَكْثَرَ ، وَإِذَا أَكْثَرَ الْغَلَطَ ، وَإِذَا اتُّهِمَ بِالْكَذِبِ ، وَإِذَا رَوَى حَدِيثَ غَلَطٍ مُجْتَمِعٌ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ فَيَتْرُكْهُ طُرِحَ حَدِيثُهُ ، وَمَا كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَارْوِ عَنْهُ "(12).
وقال أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ , قَالَ : كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَا يَتْرُكُ حَدِيثَ رَجُلٍ إِلَّا رَجُلًا مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ أَوْ رَجُلًا الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ "(13).
وقال أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى , قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ مَهْدِيٍّ , يَقُولُ : " النَّاسُ ثَلَاثَةٌ , رَجُلٌ حَافِظٌ مُتْقِنٌ فَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ , وَآخَرُ يَهِمُ وَالْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الصِّحَّةُ , فَهَذَا لَا يُتْرَكُ حَدِيثُهُ , وَآخَرُ يَهِمُ وَالْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الْوَهْمُ , فَهَذَا يُتْرَكُ حَدِيثُهُ "(14).
وقَالَ قَاسِمٌ السَّرَّاجُ , بِطَرَسُوسَ ,: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ عِيسَى , يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ , يَقُولُ : " يُكْتَبُ الْحَدِيثُ إِلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ , غَلَّاطٍ لَا يَرْجِعُ , وَكَذَّابٍ , وَصَاحِبِ هَوًى يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ , وَرَجُلٍ لَا يَحْفَظُ فَيُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ "(15)
وقال أَبُو مُوسَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : قَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ : إِنَّكَ تُحَدِّثُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ قُلْتُ : يَا أَبَا سَعِيدٍ هُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ تُحَدِّثُ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ قَالَ : عَمَّنْ أُحَدِّثُ ؟ قَالَ : فَذَكَرْتُ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ رَاشِدٍ الْمَكْحُولِيَّ فَقَالَ لِي : احْفَظْ عَنِّي : " النَّاسُ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ حَافِظٌ مُتْقِنٌ فَهَذَا لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَآخَرُ يَهِمُ وَالْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الصِّحَّةُ فَهَذَا لَا يُتْرَكُ حَدِيثُهُ لَوْ تُرِكَ حَدِيثُ مِثْلِ هَذَا لَذَهَبَ حَدِيثُ النَّاسِ ، وَآخَرُ يَهِمُ وَالْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الْوَهْمُ فَهَذَا يُتْرَكُ حَدِيثُهُ " وَيَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يَتَشَدَّدَ فِي أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَفْصِلُ بِهَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَلَا يَرْوِيهَا إِلَّا عَنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالْحِفْظِ ، وَذَوِي الْإِتْقَانِ وَالضَّبْطِ ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فَيُحْتَمَلُ رِوَايَتُهَا عَنْ عَامَّةِ الشُّيُوخِ "(16).
وقال الحميدي : " فإن قال قائل : فما الشيء الذي ظهر لك في الحديث أو من حدث عنه لم يكن مقبولاً ؟
قلنا : أن يكون في إسناده رجل غير رضا ، بأمر يصح عليه : بكذب ، أو جرحة في نفسه ترد بمثلها الشهادة ، أو غلطاً فاحشاً لا يشبه مثله ، وما أشبه ذلك .
فإن قال : فما الغفلة التي ترد بها حديث الرجل الرضى الذي لا يعرف بكذب ؟
قلت : هو أن يكون في كتابه غلط ، فيقال له في ذلك ، فيترك ما في كتابه ويحدث بما قالوا ، أو يغيره في كتابه بقولهم ، لا يعقل فرق ما بين ذلك ،أو يصحف تصحيفاً فاحشاً ، فيقلب المعنى ، لا يعقل ذلك ، فيكف عنه .
وكذلك من لقن فتلقن ، التلقين يرد حديثه الذي لقن فيه ، وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم أن ذلك التلقين حادث في حفظه لا يعرف به قديماً ، فأما من عرف به قديماً في جميع حديثه ؛ فلا يقبل حديثه ، ولا يؤمن أن يكون ما حفظ مما لقن "(17).
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ , قَالَ : " فَمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي يُرَدُّ بِهَا حَدِيثُ الرِّضَا الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِكَذِبٍ ؟ قُلْتُ : هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِهِ غَلَطٌ , فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَيَتْرُكُ مَا فِي كِتَابِهِ وَيُحَدِّثُ بِمَا قَالُوا , أَوْ بِغَيْرِهِ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِمْ , لَا يَعْقِلُ فَرْقَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ , أَوْ يُصَحِّفُ ذَلِكَ تَصْحِيفًا فَاحِشًا , يَقْلِبُ الْمَعْنَى , لَا يَعْقِلُ ذَلِكَ فَيُكَفُّ عَنْهُ "(18)
وقَالَ ابْنُ عَمَّارٍ : " نَظَرْتُ فِي كُتُبِ أَبِي مَسْعُودٍ الزَّجَّاجِ حَتَّى أَعْلَمْتُ لَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ , وَقُلْتُ لَهُ : لَا تُحَدِّثْ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ , قَالَ : صَحِّحْهَا لِي , قَالَ : فَصَحَّحْتُهَا أَنَا وَفُلَانٌ , قَالَ : فَضَمِنَ أَلَّا يُحَدِّثَ بِهَا , قَالَ : ثُمَّ جَعَلَ يُحَدِّثُ بِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ غَيْرِي , عَلَى مَا صَحَّحْتُهَا لَهُ , وَلَمْ يَذْكُرْ تَصْحِيحِي لِتِلْكَ الْأَحَادِيثِ , فَإِذَا لَقِيتُهُ وَسَأَلْتُهُ قَالَ : لَا أُحَدِّثُ بِهَا , ثُمَّ جَعَلَ يُحَدِّثُ بِهَا غَيْرِي , قَالَ ابْنُ عَمَّارٍ : وَأَنَا أُحَدِّثُ عَنْ مِثْلِ هَذَا لَا , وَلَا بِحَرْفٍ "(19)
وقال الشافعي : " قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَجْمَعَ أُمُورًا مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ مَنْ حَدَّثَ بِهِ ثِقَةً فِي دِينِهِ ، مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ فِي حَدِيثِهِ ، عَاقِلًا لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ ، عَالِمًا بِمَا يُحِيلُ مَعَانِي الْحَدِيثِ مِنَ اللَّفْظِ ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْحَدِيثَ بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمِعَهُ ، وَلَا يُحَدِّثُ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ لَمْ يَدْرِ ، لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إِلَى الْحَرَامِ وَالْحَرَامَ إِلَى الْحَلَالِ ، وَإِذَا أَدَّى بِحُرُوفِهِ لَمْ يَبْقَ وَجْهٌ يُخَافُ فِيهِ إِحَالَةُ الْحَدِيثِ ، حَافِظًا إِنْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ ، حَافِظًا لِكِتَابِهِ إِنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ ، إِذَا شَرَكَ أَهْلَ الْحِفْظِ فِي الْحَدِيثِ وَافَقَ حَدِيثَهُمْ ، بَرِيئًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَلِّسًا ، يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَقِيَ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، أَوْ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا لَمْ يُحَدِّثُ الثِّقَاتُ خِلَافَهُ ، وَيَكُونُ هَكَذَا مَنْ فَوْقَهُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِالْحَدِيثِ مَوْصُولًا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ إِلَى مَنْ يَنْتَهِي بِهِ إِلَيْهِ دُونَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُثْبِتٌ لِمَنْ حَدَّثَهُ ، وَمُثْبِتٌ عَلَى مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ . قَالَ : وَمَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلُ كِتَابٍ صَحِيحٍ لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ ، كَمَا يَكُونُ مِنْ أَكْثَرِ الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَاتِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ . قَالَ : وَأَقْبَلُ فِي الْحَدِيثِ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا ، وَمَنْ عَرَفْنَاهُ دَلَّسَ مَرَّةً فَقَدْ أَبَانَ لَنَا عَوْرَتَهُ فِي رِوَايَتِهِ ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْعَوْرَةُ بِكَذِبٍ فَيُرَدُّ بِهَا حَدِيثُهُ ، وَلَا عَلَى النَّصِيحَةِ فِي الصِّدْقِ فَنَقْبَلُ مِنْهُ مَا قَبِلْنَا مِنْ أَهْلِ النَّصِيحَةِ فِي الصِّدْقِ ، فَقُلْنَا : لَا نَقْبَلُ مِنْ مُدَلِّسٍ حَدِيثًا حَتَّى يَقُولَ : حَدَّثَنِي أَوْ سَمِعْتُ . "(20).
قلت : هذه بعض عباراتهم الجامعة تشرح ما لخصته قبل : أن ثبوت الغلط من الراوي لا يقدح في حديثه حتى يكثر منه ، وما تميز حفظه له من الحديث فهو مقبول ، والصدق لا ينافي الغلط في الحفظ .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 227 228 ) ( 398 ) بإسناد جيد .
(2) - شرح علل الترمذي 1/436 والكامل لابن عدي - (ج 1 / ص 102) بإسناد صحيح .
(3) - تاريخ يحيى بن معين ( النص : 2682 ، 4342 ) ومن طريقه : ابنُ عدي في " الكامل " ( 1 / 191 ) والخطيب في " الجامع " ( رقم : 1124 ) .
(4) - تاريخ يحيى بن معين ( النص : 52 ) ومن طريقة : ابن عدي ( 1 / 191 ) .
(5) - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ( 1 / 153 ) .
(6) - الموقظة ( ص : 78 ) .
(7) - علل الحديث ، لابن أبي حاتم ( رقم : 45 ) .
(8) - علل الحديث ( رقم : 45 ، 1196 ، 2831 ) .
(9) - سؤالات الآجري ( النص : 1190 ) .
(10) - الكامل ( 4 / 278 ) و سير أعلام النبلاء (9/384) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 11 / ص 408)
(11) - تهذيب الكمال للمزي - (ج 1 / ص 261) وسير أعلام النبلاء (12/365)
(12) - الْمُحَدِّثُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي لِلرَّامَهُرْمُزِيِّ (372 ) بإسناد صحيح
(13) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 395)
(14) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 396)
(15) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 397)
(16) - أثر صحيح . أخرجه مسلم في " التمييز " ( رقم : 35 ) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 1 / 1 / 38 ) والرامهرمزي في " المحدث " (ص :406 ) والعقيلي في " الضعفاء " ( ق : 2 / ب ) وابن عدي في " الكامل " ( 1 / 242 ، 264 ) والخطيب في " الكفاية " (ص : 227 ) و الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ (1278).
(17) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 2 / ص 33) بسند جيد .
(18) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 416)
(19) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 417)
(20) - الرسالة ، للشافعي ( ص : 382 ) وأخرجه عنه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 228 ) و معرفة السنن والآثار (14 ) وهو صحيح.(1/237)
المبحث الخامس :درجات سوء الحفظ
سوء الحفظ باعتبار أثره على حديث الراوي درجات متفاوتة ، محصورة في الجملة في قسمين :
القسم الأول : اختلال الضبط بما لا يسقط به الراوي
وتحته أربعة أصناف من الرواة :
الصنف الأول : من غلب ضبطه ، واعتراه الوهم والخطأ في اليسير من حديثه :
تقدم أنه ليس من شرط الثقة أنه لا يخطئ ، وأن الخطأ لا تعصم منه نفس بشر ، وإنما العبرة بغلبة الحفظ ، وندرة الخطأ أو قلته .
فمن أمثلة في الثقات :
1 - فراس بن يحيى المكتب .
قال علي بن المديني : سألت يحيى بن سعيد القطان عن فراس المكتب ؟ فقال : " ما بلغني عنه شيء ، ولا أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء "(1).
ولذا اتفق على توثيقه النقاد : أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبو حاتم الرازي ، والنسائي ، ومحمد بن سعد ، والعجلي ، وابن حبان ، وغيرهم ، ولم يضعفه أحد لروايته حديثاً منكراً ؛ نظر لكثرة ما حدَّث به ، وغاية ما جرح به قول يعقوب بن سفيان : " في حديثه لين ، وهو ثقة "(2)، وكأنه اطلع على كلمة يحيى القطان فلينه قليلاً مع توثيقه .
2 - إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل المروزي .
كان ثقة في الحديث ، ما عيب عليه إلا في رأيه في مسألة القرآن(3)، لكن قال ابن أبي حاتم : سئل أبو زرعة عنه ؟ فقال : " كان عندي أنه لا يكذب " ، فقيل له : إن أبا حاتم قال : ما مات حتى حدث بالكذب ، فقال : " حدث بحديث منكر "(4).
قلت : فهذا إن سلم فإنه لم يتجاوز الحديث اليسير الذي لا يؤثر على ثقته في الجملة وصحة حديثه .
3 - الحسن بن سوار البغوي .
هو صدوق ثقة ، لكنه حدث بحديث واحد بإسناد منكر .
فقد قال الحافظ أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي : حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء الثقة الرضى وقلت له : الحديث الذي حدثتنا : ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ) أعده علي ، وكان قد حدثتني به قبل هذه المرة بسنتين . قال : نعم ، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي ، عن ضمضم بن جوس ، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت على ناقة ، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك .
قال أبو إسماعيل : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث ؟ فقال : " هذا الشيخ ثقة ثقة ، والحديث غريب " ، ثم أطرق ساعة ، وقال : " أكتبتموه من كتاب ؟ " ، قلنا : نعم(5).
وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ الْبَغَوِيُّ : حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ الْيَمَامِيُّ ، عَنْ ضَمْضَمِ بْنِ جَوْسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى نَاقَةٍ لَا ضَرَبَ وَلَا طَرَدَ وَلَا إِلَيْكِ إِلَيْكِ " وَلَا يُتَابَعُ الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ حَدَّثَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَوَّارٍ هَذَا عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثُ مُسْتَقِيمَةٌ ، وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ مُنْكَرٌ وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى النَّهْرُتِيرِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَوَّارٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ : أُلْقِيَتْ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَقَالَ : أَمَّا الشَّيْخُ فَثِقَةٌ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمُنْكَرٌ ، قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ قُرَّانُ بْنُ تَمَامٍ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَائِلٍ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيِّ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا وَلَمْ يُتَابَعُ عَلَيْهِ قُرَّانُ وَرَوَى النَّاسُ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَائِلٍ الثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى نَاقَةٍ بِهَذَا اللَّفْظِ رَوَاهُ عَنْ أَيْمَنَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ بِغَيْرِ هَذَا الْإِسْنَادِ بِإِسْنَادِ صَالِحٍ(6).
وأنكر هذا الحديث غير أحمد من الحفاظ : علي بن المديني ، وظاهر صنيع البخاري(7)، والعقيلي(8).
وذلك أن صواب الإسناد لهذا الحديث عَنْ أَيْمَنَ بْنِ نَابِلٍ ، عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ صَهْبَاءَ ، لاَ ضَرْبَ ، وَلاَ طَرْدَ ، وَلاَ إلَيْكَ إلَيْكَ.(9).
فهؤلاء النقلة وشبههم لا يتوقف عن شيء من حديثهم حتى يقوم برهان على خطأ أحدهم في شيء معين من ذلك ، ولا يلحقون بالمجروحين ، بل هم ثقات ، إنما يردُّ عين ما أخطأ فيه أحدهم ، لا سائر حديثه .
كما تقدم أن الثقات درجاتٌ ، والراوي الصدوق نازلُ عن درجة الثقة العليا لنزول درجته في الحفظ لكنا لا نسقط حديثه .
ومن أمثلة هذا الصنف : ( محمد بن مصعب القرفساني ) ، قال ابن أبي حاتم : سألت أبا زرعة عنه ؟ فقال : " صدوق في الحديث ، ولكنه حدث بأحاديث منكرة " ، قلت فليس هذا مما يضعفه ؟ قال : نظن أنه غلط فيها " . قال : سألت أبي عنه فقال : " ضعيف الحديث " ، قلت له : إن أبا زرعة قال كذا ، وحكيت له كلامه ، فقال : " ليس هو عندي كذا ، ضعف لما حدث بهذه المناكير "(10).
وقال العقيلي : مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقَرْقَسَانِيُّ كَانَ بِبَغْدَادَ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ الْقَرْقَسَانِيُّ ، فَقَالَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ : كَانَ لِي رَفِيقٌ , وَكَانَ غَزَا كَثِيرًا . فَحَدَّثَنَا يَوْمًا عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ , قَالَ : يَحْيَى , فَقُلْتُ : أَنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ هَذَا يَرْوِيهِ , عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مِنْ قَوْلِهِ , فَقَالَ هَكَذَا سَمِعْتُهُ , ثُمَّ قَالَ : إِنَّ يَحْيَى لَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , وَسَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ مُحَمَّدَ بْنَ مُصْعَبٍ , فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ . وَحَدَّثَنَا لَهُ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ , حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ , رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَشْهَبِ ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ , وَإِنَّمَا هَذَا عَنْ أَبِي رَجَاءٍ أَنَّهُ نَهَى , عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ , فَقَالَ : هُوَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَقَدْ رَوَاهُ سَلْمُ بْنُ زُرَيْرٍ , عَنْ أَبِي رَجَاءٍ , عَنْ عِمْرَانَ , وَلَمْ يَرْفَعْهُ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ ، فِي مَوْضِعٍ آخَرَ , قَالَ : سَمِعْتُ يَحْيَى ، يَقُولُ : مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الْقَرْقَسَانِيُّ لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ , لَا تُبَالِي أَنْ لَا تَرَاهُ , وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْرَفُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ بَحْرٍ السَّقَّاءِ .(11)
فمثل هذا لا يلغي وصف الراوي بالصدق ، ويبقيه في منزلة التوثيق وقبول الحديث ، لكن ينظر في حديثه ويتأنَّى فيه حتى تزول شبهة النكارة عن حديثه المعين الذي يرويه .
وهذا الشأن فيمن ثبت أنه وقعت في حديثه بعض المناكير بسبب سوء الحفظ .
أما من ادعي ذلك عليه ولم يوقف منه على شيء من ذلك ، فهذا باق على مطلق الثقة وصحة حديثه .
وهذا مثل ( محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ) ، وقد قال فيه علي بن المديني : " كان عندنا ثقة ، وقد أنكرت عليه أحاديث "(12)، فهذا الإنكار لا أثر له ، وابن المديني لم يعتد به ، وكذلك جرى غيره من النقاد على توثيقه .
الصنف الثاني : من كان ضابطاً لكتابه ، غير ضابط إذا حدَّث من حفظه .
إذا كان الراوي المعروف بسوء الحفظ رجع إلى كتاب صحيح ، فكان يحدث من كتابه ، فحديثه من الكتاب صحيح ، ويردُّ من حديثه ما كان حدَّث به من حفظه .
وذلك مثل ( شريك بن عبد الله القاضي ) ، فقد كان كثير الحديث جداً ، لكنه سيىء الحفظ ، وحديثه القديم صحيح مطلقاً ، أما ما لم يتبين منه فهو ضعيف لسوء حفظه ، إلا ما كان من كتابه فهو صحيح .
قال الحافظ قَالَ ابْنُ عَمَّارٍ : " شَرِيكٌ كُتُبُهُ صِحَاحٌ , فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ مِنْ كُتُبِهِ فَهُوَ صَحِيحٌ " قَالَ : وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ شَرِيكٍ مِنْ كِتَابِهِ إِلَّا مِنْ إِسْحَاقَ(13)الْأَزْرَقِ "(14).
قلت : وقد يتكلم في الراوي لمثل هذه العلة ، لكنه يعرف بتعاهد كتابه ، فمثل يغلب في حديثه جانب الثقة .
وذلك مثل : ( همام بن يحيى العوذي البصري ) ، فقد كان ثقة صادقاً ، لكنه كان سيىء الحفظ ، يغلط إذا حدث من حفظه .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ المِنْهَالِ: سَمِعْتُ يَزِيْدَ بنَ زُرَيْعٍ يَقُوْلُ:هَمَّامٌ حِفْظُه رَدِيْءٌ، وَكِتَابُهُ صَالِحٌ.(15)،
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرُ ,: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الرَّأْسَ , يَسْأَلُ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ : مَا تَقُولُ فِي هَمَّامٍ فَقَالَ : " كِتَابُهُ صَالِحٌ وَحِفْظُهُ لَا يَسْوَى شَيْئًا "(16)
وقال أبو حاتم الرازي : " ثقة صدوق في حفظه شيء "(17).
قلت : لكنه كان يتعاهد كتابه ويرجع إليه ، فاندفع ما يخشى من سوء حفظه .
قال أحمد بن حنبل : " من سمع من همام بأخرة هو أصح ، وذلك أنه أصابته مثل الزمانة ، فكان يحدثهم من كتابه ، فسماع عفان وحبان وبهز أجود من سماع عبد الرحمن ؛ لأنه كان يحدثهم ( يعني لعبد الرحمن ، أي أيامهم ) من حفظه .
قَالَ عَفَّانُ : ثنا هَمَّامٌ , يَوْمًا بِحَدِيثٍ , فَقِيلَ لَهُ فِيهِ , فَدَخَلَ فَنَظَرَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : " أَلَا أُرَانِي أُخْطِئُ , وَأَنَا لَا أَدْرِي ، فَكَانَ بَعْدُ يَتَعَاهَدُ كِتَابَهُ " "(18).
قلت : لكن تبقى حاجة إلى اعتبار هذا الوصف فيه ، فإن بيَّن أن ذلك الحديث من كتابه ، فهو صحيح ، لكن إن لم يبين فربما كان قد استثبته من كتابه وربما اعتمد فيه على مجرد حفظه ، غير أن هذا لا يوجب التوقف عن قبول خبره ، إنما يوجب الاحتياط فيه ، فيبحث فيه عن وهمه وخطئه ، فإن عدم فحديثه صحيح ، وهكذا ما احتج به الشيخان من حديثه ، وذلك من أجل ما عرف به من الصدق والأمانة والحرص على التثبت في الرواية ، فذلك يجعله في محل من يقبل حديثه.
الصنف الثالث : من تميز ضبطه في حال ، وسوء حفظه ولينه في حال .
وهذا جرح نسبي ، لا يسقط بالراوي جملة ، وإنما حيث تميز ما يتقنه من غيره ، قبل المحفوظ ، وطرِحَ ما سواه ، وهنا يجب أن تتنبه إلى أن بعض النقاد ربما أطلق وصف الضعف على من هذا نعته ، فظنَّ من لا خبرة له أنه ضعيف مطلقاً ، وليس كذلك .
ولهذا الصنف صور :
الصورة الأولى : أن يكون ضابطاً إلا في حديث بعض الشيوخ .
مثل ( عبد الرزاق بن عمر ) ثقة إلا عن الزهري .
قال أبو زرعة الدمشقي : قلت لأبي مسهر - أو قيل له - : فعبد الرزاق بن عمر ؟ فأخبرنا أنه سمع سعيد بن عبد العزيز يقول : " ذهبت أنا وعبد الرزاق بن عمر إلى الزهري ، فسمعنا منه " ، فحدثنا أبو مسهر أن عبد الرزاق بن عمر أخبره من بعد ما أخبرهم سعيد ما أخبرهم ، من حضوره معه عند الزهري : أنه ذهب سماعه من الزهري . قال أبو مسهر : ثم لقيني عبد الرزاق بعد ، فقال : قد جمعتها ، من بعد ماأخبره أنها ذهبت ، فقال لنا أبو مسهر : " فيترك حديثه عن الزهري ، ويؤخذ عنه ما سواه " ، قلت لأبي مسهر : يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله ، فقال : " ثقة " يعني في إسماعيل بن عبيد الله وغيره خلا الزهري ، يعني لذهابها ، أو لأنه تتبعها بعد ذهابها(19).
ومثل ( عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي ) ثقة عن شيوخه من أهل بيته ، لين عن غيرهم ، وكان أيضاً قد اختلط .
قال الدارقطني : " إذا حدث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة والأعمش فإنه يغلط ، وإذا حدث عن معن والقاسم وعون فهو صحيح ، وهؤلاء هم أهل بيته "(20).
ومثل ( عكرمة بن عمار ) ، صدوق عن إياس بن سلمة ، لين عن غيره .
قال أحمد بن حنبل : " مضطرب عن غير إياس بن سلمة ، وكأن حديثه عن إياس بن سلمة صالح "(21)، وقال : " أحاديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير ضعاف ، ليس بصحاح " قال له عبد الله ابنه : من عكرمة أو من يحيى ؟ قال : " لا ، إلا من عكرمة " ، وقال : " أتقن حديث إياس بن سلمة "(22).
ومثل ( جرير بن حازم ) ثقة إلا عن قتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري ، فكان سيىء الحفظ .
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت يحيى ( يعني ابن معين ) عن جرير بن حازم ؟ فقال : " ليس به بأس " ، فقلت له : إنه يحدث عن قتادة عن أنس أحاديث مناكير ؟ فقال : " ليس بشيء ، هو عن قتادة ضعيف "(23).
وقال ابن عدي : " وجرير بن حازم له أحاديث كثيرة عن مشايخه وهو مستقيم الحديث صالح فيه الا روايته عن قتادة فإنه يروي أشياء عن قتادة لا يرويها غيره وجرير عندي من ثقات المسلمين حدث عنه الأئمة من الناس أيوب السختياني وابن عون وحماد بن زيد والثوري والليث بن سعد ويحيى بن أيوب المصري وابن لهيعة "(24).
وقال مسلم بن الحجاج : " وجرير لم يعن في الرواية عن يحيى ، إنما روى من حديثه نزراً ، ولا يكاد يأتي بها على التقويم والاستقامة ، وقد يكون من ثقات المحدثين من تضعف روايته عن بعض رجاله "(25).
ومثل ( حماد بن سلمة ) ، فقد كان من أثبت الناس في ثابت البناني ، لكن قال مسلم : " وحماد يعد عندهم إذا حدث عن غير ثابت ، كحديثه عن قتادة وأيوب ويونس وداود بن أبي هند والجريري ويحيى بن سعيد وعمرو بن دينار وأشباههم ، فإنه يخطئ في حديثهم كثيراً "(26).
قال ابن عدي : ولحماد بن سلمة هذه الأحاديث الحسان والأحاديث الصحاح التي يرويها عن مشايخه ،وله أصناف كثيرة كتاب ومشايخ كثيرة وهو من كثرة المسلمين وهو كما قال علي بن المديني من تكلم في حماد بن سلمة فاتهموه في الدين وهكذا قول أحمد بن حنبل فيه " .(27)
وقال الذهبي(28):
" قَالَ أَحْمَدُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَثْبَتُهُم فِي حُمَيْدٍ الطَّوِيْلِ.
وَرَوَى: إِسْحَاقُ الكَوْسَجُ، عَنِ ابْنِ مَعِيْنٍ، قَالَ: حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ: ثِقَةٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: هُوَ عِنْدِي حُجَّةٌ فِي رِجَالٍ، وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ، وَعَمَّارِ بنِ أَبِي عَمَّارٍ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي حَمَّادٍ، فَاتَّهَمُوْهُ فِي الدِّيْنِ.
قُلْتُ: كَانَ بَحْراً مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وَلَهُ أَوهَامٌ فِي سَعَةِ مَا رَوَى، وَهُوَ صَدُوْقٌ، حُجَّةٌ - إِنْ شَاءَ اللهُ - وَلَيْسَ هُوَ فِي الإِتقَانِ كَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَتَحَايدَ البُخَارِيُّ إِخرَاجَ حَدِيْثِهِ، إِلاَّ حَدِيْثاً خَرَّجَه فِي الرِّقَاقِ، فَقَالَ:قَالَ لِي أَبُو الوَلِيْدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ.
وَلَمْ يَنحَطَّ حَدِيْثُه عَنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ.
وَمُسْلِمٌ رَوَى لَهُ فِي الأُصُوْلِ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ، لِكَوْنِهِ خَبِيْراً بِهِمَا. "
الصورة الثانية : أن يكون متقناً فيما حدث به في بلد ، دون ما حدث به في غيره .
وذلك من أجل عدم التمكن في غير بلده ، يخطئ لذلك .
مثل ( شبيب بن سعيد الحبطي ) ، قال علي بن المديني : " بصري ثقة ، كان من أصحاب يونس(29)، كان يختلف في تجارة إلى مصر ، وكتابه كتاب صحيح ، قد كتبته عن ابنه أحمد. "(30).
قال ابن عدي : " عنده عن يونس عن الزهري ، وهي أحاديث مستقيمة ، وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير ، وكأن شبيباً إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن الزهري إذ هي أحاديث مستقيمة ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير ، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب ومن حفظه ؛ فيغلط ويهم ، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب "(31).
وتكلم فيما حدث به ( محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ) في العراق دون الحجاز(32).
الصورة الثالثة : أن يكون متقناً فيما حمله من حديث أهل بلده دون غيرهم .
وهذا متصور من أجل اعتناء الراوي بحديث أهل بلده فيتقن حفظه ، دون ما حدث به عن غيرهم .
وذلك مثل ( إسماعيل بن عياش الحمصي ) ، قال يحيى بن معين : " إذا حدث عن الشاميين فحديثه صحيح ، وإذا حدث عن العراقيين أو المدنيين خلط ما شئت "(33).
وقال ابن عدي بعد أن ذكر طائفة من حديثه عن غير أهل بلده الشاميين : " هذه الأحاديث من أحاديث الحجاز ليحيى بن سعيد ، ومحمد بن عمرو ، وهشام بن عروة ، وابن جريج ، وعمر بن محمد ، وعبيد الله الوصافي ، وغير ما ذكرت من حديثهم ، ومن حديث العراقيين ، إذا رواه ابن عياش عنهم فلا يخلو من غلط يغلط فيه ، إما أن يكون حديثاً موصولاً يرسله ، أو مرسلاً يوصله ، أو موقوفاً يرفعه ، وحديثه عن الشاميين إذا روى عنه ثقة فهو مستقيم الحديث ، وفي الجملة : إسماعيل بن عياش ممن يكتب حديثه ويحتج به في حديث الشاميين خاصة "(34).
ومن هؤلاء ( بقية بن الوليد الشامي ) ، قال ابن عدي : " قال ابن عدي : ولبقية حديث صالح غير ما ذكرناه ففي بعض رواياته يخالف الثقات ،وإذا روى عن أهل الشام فهو ثبت ،وإذا روى عن غيرهم خلط كإسماعيل بن عياش إذا روى عن الشامين فهو ثبت وإذا روى عن أهل الحجاز والعراق خالف الثقات في روايته عنهم ،قال الشيخ قد تقدم ذكري في ذلك أن صفته في روايات الحديث كإسماعيل بن عياش إذا روى عن الشاميين فهو ثبت وإذا روى عن المجهولين فالعهدة منهم لا منه ،وإذا روى عن غير الشاميين فربما وهم عليهم وربما كان الوهم من الراوي عنه ،وبقية صاحب حديث ومن علامة صاحب الحديث أنه يروي عن الكبار والصغار ويروي عنه الكبار من الناس وهذا صورة بقية "(35).
الصورة الرابعة : أن يكون ثقة مقبولاً في أحاديث الرقائق والمواعظ ، دون الأحكام .
وهذه الصورة راجعة في الأصل إلى تسهل أهل الحديث في روايات المعروفين بالصدق في غير ما يثبت حكماً أو أصلاً ، لعلة أن الأحكام مما تتوافر الهمم على حفظه ، فكونه لا يأتي إلا من طريق من في حفظه ضعف ، فذلك شبهة على عدم إتقانه ، بخلاف أبواب الرقائق وشبهها فالشواهد لها في الأصل قائمة ، فالراوي المتكلم في حفظه لا يأتي فيها بما لا يحتمل مثله .
__________
(1) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 285) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 7 / ص 91) (514)
(2) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 285)
(3) - وَذلك أنه كان يتوقف في القرآن حينَ وقَعت المِحنةُ به ، لا يقول : مَخلوقٌ ، ولا غيرُ مخلوق .
(4) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 286) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 2 / ص 210) (715 )
(5) - موسوعة أقوال الإمام أحمد في الجرح والتعديل - (ج 2 / ص 102) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 286) وتهذيب التهذيب - (ج 2 / ص 246) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 6 / ص 170)
(6) - الضعفاء للعقيلي ( 364 )
(7) - العلل الكبير ، للترمذي ( 1 / 385 ) .
(8) - في " الضعفاء " له ( 1 / 228 ) .
(9) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 642)(13927 ) وهو صحيح
(10) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 8 / ص 103)
(11) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 8 / ص 103) الكامل لابن عدي - (ج 6 / ص 265) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 26 / ص 462) وضعفاء العقيلي - (ج 4 / ص 139)
(12) - سؤالات ابن أبي شيبة ( النص : 110 ) .
(13) - هُوَ أبو مُحَمَّد إسحاق بن يوسف بن مرداس القرشي الواسطي المخزومي المعروف بالأزرق : ثقة ، ولد سنة ( 117 هـ )، وتوفي سنة ( 195 هـ ).تهذيب الكمال 1/203 ( 389 ) ، وسير أعلام النبلاء 9/171 ، والتقريب ( 396 ) .
(14) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 332 ) ( 686 ) وإسناده صحيح .
(15) - أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ( 4 / 108 ) والعُقيلي ( 4 / 367 ) والخطيب في " الكفاية " ( ص : 332 ) وسير أعلام النبلاء (7/301) وإسناده صحيح .
(16) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 685 )
(17) - الجرح والتعديل ( 4 / 109 ) .
(18) - سؤالات أبي داود السجستاني لأحمد ( النص : 490 ) وأخرج الخطيب في " الكفاية " ( ص : 32 ) منه قصة عفان من طريق أبي داود ، ونقل عبد الله بن أحمد عن أبيه نحوَ ذلك في " العلل " ( النص : 682 - 683 ) ومن طريقه : الخطيب في " الجامع " ( رقم : 1027 ) .
قلت : عفان هوَ ابنُ مُسلم ، وحبان هوَ ابن هلال ، وبهْزٌ هوَ ابن أسد .
(19) - تاريخ أبي زُرعة الدمشقي ( 1 / 378 ) .
(20) - سؤالات السلمي للدارقطني ( النص : 255 ) .
(21) - العلل ومعرفة الرجال ، لأحمد بن حنبل ( النص : 733 ) .
(22) - العلل ( النص : 3255 ) .
(23) - العلل ومعرفة الرجال ، رواية : عبد الله عن أبيه وزياداته عن غيره ( النص : 3912 ) .
(24) - الكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 130)
(25) - التمييز ، لمسلم ( ص : 217 ) .
(26) - التمييز ، لمسلم ( ص : 218 ) .
(27) - الكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 266)
(28) - سير أعلام النبلاء (7/447) وتهذيب التهذيب - (ج 3 / ص 14)
(29) - هوَ ابنُ يزيد الأيلي .
(30) - ميزان الاعتدال - (ج 2 / ص 262) والكامل لابن عدي - (ج 4 / ص 30) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 12 / ص 361) وتهذيب التهذيب - (ج 4 / ص 269)
(31) - المصادر السابقة
(32) - التمييز ، لمسلم بن الحجاج ( ص : 191 ) .
(33) - أخرجه ابن حبان في " المجروحين " ( 1 / 77 ) وإسناده لا بأس به .
(34) - الكامل لابن عدي - (ج 1 / ص 300) و تهذيب الكمال للمزي - (ج 3 / ص 180)
(35) - الكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 80) وميزان الاعتدال - (ج 1 / ص 337) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 4 / ص 198) وتهذيب التهذيب - (ج 1 / ص 417)(1/238)
وهذا مثل : ( فليح بن سليمان المدني ) ، فقد خرج له البخاري في " صحيحه " في مواضع ، وهو لين الحديث ليس بالقوي فيه ، لكن عذر البخاري أنه لم يخرج له في الأحكام شيئاً ، إنما عامة ما أخرجه له إما ما هو معروف من غير طريقه أو رقائق .
وقال ابن عدي : "ولفليح أحاديث صالحة يرويها يروي عن نافع عن بن عمر نسخة ويروي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة أحاديث ويروي عن سائر الشيوخ من أهل المدينة مثل أبي النضر وغيره أحاديث مستقيمة وغرائب وقد اعتمده البخاري في صحيحه وروى عنه الكثير وقد روى عنه زيد بن أبي أنيسة وهو عندي لا بأس به " .(1)
وتكلم بعض النقاد في حفظ ( محمد بن إسحاق ) صاحب " السيرة " ، في روايته في غير السير .
نقل أبو الفضل عباس بن محمد الدوري عن أحمد بن حنبل قال : " أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث " كأنه يعني المغازي ونحوها " فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا " , وقبض أبو الفضل أصابع يده الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام(2).
وسئل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن ( محمد بن إسحاق ) ؟ فقال : كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيراً بالعلو والنزول ، ويخرجه في ( المسند ) ، وما رأيته اتقى حديثه قط ، قيل له : يحتج به ؟ قال : " لم يكن يحتج به في السنن "(3).
فابن إسحاق ثقة حجة في السير والمغازي ؛ لا عتنائه بها ، وهو في التحقيق صدوق في الأحكام ، يحكم لحديثه بالحسن بعد السبر والنظر وتحقق حفظه له على الوجه .
قال ابن عدي : " وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف وربما أخطأ أو وهم في الشئ بعد الشئ كما يخطئ غيره ولم يتخلف عنه في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به" .(4)
الصورة الخامسة : أن يكون متقناً في النقل لغير الحديث ، دون ذلك في الحديث.
وفي هذا أن الناقل يكون قد انصرف همه إلى الاعتناء بفن فأتقنه ، وتقحم الحديث وليس من فنه فأتى بما لا يحمد ، فحيث تميز لنا أمره وعرفنا الفصل فيما روى ، فنقتصر على جرحه في الحديث خاصة دون سائر ما روى من العلم .
وهذا مثل ( حفص بن سليمان القارئ ) ، فقد بلغ به سوء حفظه ونكارة حديثه إلى أن كان متروكاً في الحديث ، لكنه حجة في القراءة ، بل عليه المعول في قراءة عاصم ، والتي يقرأ بها اليوم أكثر أهل الإسلام .
قال الحافظ ابن حجر : " حفص بن سليمان الأسدي أبو عمر البزاز الكوفي الغاضري بمعجمتين وهو حفص بن أبي داود القارىء صاحب عاصم ويقال له حفيص متروك الحديث مع إمامته في القراءة من الثامنة مات سنة ثمانين وله تسعون ت عس ق "(5).
وقال الذهبي : " زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري البكائي عن عبد الملك بن عمير ومنصور وعنه أحمد وابن عرفة قال ابن معين لا بأس به في المغازي خاصة وقال أبو حاتم لا يحتج به وقال عبد الله بن إدريس ما أحد أثبت في بن إسحاق من البكائي أملاها عليه مرتين وقال جزرة هو على ضعفه أثبتهم في المغازي توفي 184 خ م ت ق. "(6)
و قال ابن عدي : " ولزياد بن عبد الله غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة وقد روى عنه الثقات من الناس وما أرى برواياته بأسا" .(7)
الصورة السادسة : ثقة في الأصل ، لكن اختلط وتغير حفظه بأخرة ، للكبر ، أو لعارض .
الاختلاط ، هو : فساد العقل بالخرف ، لتقدم السن غالباً ، أو لعوارض أخرى .
مثل ( صالح بن نبهان مولى التوأمة ) ، سأل محمد بن عثمان بن أبي شيبة علي بن المديني عن صالح مولى التوأمة ؟ فقال : " صالح ثقة ، إلا أنه خرف وكبر ، فسمع منه قوم وهو خرف كبير ، فكان سماعهم ليس بصحيح : سفيان الثوري منه سمع منه بعدما خرف ، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف "(8).
وقال العقيلي : " صَالِحُ بْنُ نَبْهَانَ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ مَدَينِيٌّ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، وَبِشْرُ بْنُ مُوسَى ، قَالَا : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ سُفْيَانَ ، يَقُولُ : لَقِيتُ صَالِحًا مَوْلَى التَّوْأَمَةِ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ، أَوْ نَحْوِهَا ، وَقَدْ تَغَيَّرَ ، وَلَقِيَهُ الثَّوْرِيُّ بَعْدِي فَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ : أَسَمِعْتَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؟ أَسَمِعْتَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؟ أَسَمِعْتَ مِنْ فُلَانٍ ؟ فَلَا يُجِيبُنِي بِهَا ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ : إِنَّ الشَّيْخَ قَدْ كَبِرَ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ : حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو حَاتِمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ : كَانَ شُعْبَةُ لَا يُحَدِّثُ عَنْ صَالِحٍ ، مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ، وَيَنْهَى عَنْهُ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ : سَمِعْتُ يَحْيَى ، يَقُولُ : سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ صَالِحٍ ، مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَقَالَ : لَمْ يَكُنْ مِنَ الْقُرَّاءِ . حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ : سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ صَالِحٍ ، مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَقَالَ : لَيْسَ بِثِقَةٍ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي : إِنَّ عَبَّاسًا الْعَنْبَرِيَّ حَدَّثَنَا عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَقَالَ : لَيْسَ بِثِقَةٍ ، فَقَالَ أَبِي : مَالِكٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَهُ ، وَقَدِ اخْتَلَطَ وَهُوَ كَبِيرٌ ، مَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا ، مَنْ سَمِعَ مِنْهُ مِنْ قَدِيمٍ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَكَابِرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ : سَأَلْتُ أَبِي عَنْ صَالِحٍ ، مَوْلَى التَّوْأَمَةِ فَقَالَ : صَالِحُ الْحَدِيثِ . حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ : سَمِعْتُ يَحْيَى ، يَقُولُ : صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ ثِقَةٌ ، وَكَانَ خَرِفَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ فَهُوَ ثَبْتٌ "(9).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن بشر بن عمر زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التوأمة ؟ فقال : " ليس بثقة " ؟ فقال أبي : " مالك كان قد أدرك صالحاً وقد اختلط وهو كبير ، من سمع منه قديماً فذاك ، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة ، وهو صالح الحديث ، ما أعلم به بأساً "(10).
وقال أبو أحمد بن عدي: لا بأس به، إذا سمعوا منه قديما مثل ابن أبي ذئب، وابن جريج، وزياد بن سعد، وغيرهم.
ومن سمع منه بأخرة،وهو مختلط مثل مالك والثوري، وغيرهما.
وحديثه الذي حدث به قبل الاختلاط، لا أعرف له حديثا منكرا، إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب، فيكون ضعيفا، فيروي عنه، ولا يكون البلاء من قبله، وصالح لا بأس به وبرواياته وحديثه " .(11).
أما ابن حبان ، فإنه ذكر قول يحيى بن معين من رواية الدوري عنه ، وقال بعده : " هو كذلك لو تميز حديثه القديم من حديثه الأخير ، فأما عند عدم التمييز لذلك واختلاط البعض بالبعض يرتفع به عدالة الإنسان حتى يصير غير محتج به ولا معتبر بما يرويه "(12).
قلتُ : كلام ابن حبان هذا من حيث التأصيل في شأن المختلط صحيح في الجملة ، لكن القدح في عدالته إنما أراد به الإتقان ، وعدم الاعتبار بما يرويه ليس على معنى الترك .
أما بالنظر إلى حال صالح ، فليس كما قال ؛ لأنه قد تميز أن رواية ابن أبي ذئب والأقدمين عنه كانت قبل اختلاطه ، وما مثل به ابن حبان من الحديث الذي أنكره عليه فهو من رواية ابن أبي ذئب عنه ولم يرده ابن حبان إلا من جهة معارضته في رأيه لحديث آخر صحيح ، وليس بينهما معارضة في التحقيق .
وأمثلته في الثقات عديدة ، ومن أحسن ما فيه كتاب " الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات " لأبي البركات ابن الكيال ( المتوفى سنة : 939 ) .
ومن العوارض الأخرى غير الخرف ، ما قاله أبو حاتم الرازي في ( أبي بكر بن أبي مريم ) : " ضعيف الحديث ، طرقته لصوص فأخذوا متاعه ، فاختلط "(13).
ومن علة الجرح بالاختلاط أن المختلط ربما قبل التلقين .
مثل ما حدث به أحمد بن حنبل ، قال : " رأيت سنيداً عند حجاج بن محمد ، وهو يسمع منه كتاب ( الجامع ) - يعني لابن جريج - ، فكان في الكتاب : ابن جريج ، قال : أخبرت عن يحيى بن سعيد ، و : أخبرت عن الزهري ، و : أخبرت عن صفوان بن سليم . فجعل سنيد يقول لحجاج : قل يا أبا محمد : ابن جريج عن الزهري ، و: ابن جريج عن يحيى بن سعيد ، و : ابن جريج عن صفوان بن سليم . فكان يقول له هكذا " .
قال عبد الله بن أحمد : ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج ، وذمه على ذلك .
قال أحمد : " وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة ، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذه " يعني قوله : ( أخبرت ) ، و ( حدثت عن فلان )(14).
وليس من الاختلاط قول الحاكم في ( عبد الله بن محمد بن عقيل )(15): " عمَّر ، فساء حفظه ، فحَّدث على التخمين "(16).
فهذا إنما هو ضعف للحفظ للكبر ، كالذي وقع لهشام بن عروة ، ولم يقدح في حديثه ، وليس خرفاً .
حكم حديث المختلط :
وقع كثيراً من أئمة الحديث الكبار متقدميهم ومتأخريهم تعليل الروايات بأن فلاناً إنما سمع من فلان بعد أن اختلط .
فهذا أحمد بن حنبل يعلل حديثاً من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي ، فيقول : " زهير سمع من أبي إسحاق بأخرة "(17).
قال الحازمي : " أما من زال عقله بأمر طارئ ، كالاختلاط وتغيب الذهن ؛ فلا يعتد بحديثه ، ولكن يلزم الطالب البحث عن وقت اختلاطه ، فإن كان لا يمكن الوصول إلى علمه طرح حديثه بالكلية ؛ لأن هذا عارض قد طرأ على غير واحد من المتقدمين والحفاظ المشهورين ، فإذا تميز له ما سمعه ممن اختلط في حال صحة جاز له الرواية عنه وصح العمل فيها "(18).
وجوب تحقيق تأثير الاختلاط في حديث الراوي الموصوف به :
الراوي إذا أطلق الكبار من نقاد المحدثين توثيقه ، وذكر أنه اختلط لما كبر ، فالأصل التوثيق حتى يتبين الوهم بسبب الاختلاط ، ولا يجوز ردُّ حديثه بمجرد هذا الوصف له .
فهذا ( بحر بن مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة ) وصفه يحيى بن سعيد القطان بالاختلاط ، فقال : " رأيته قد اختلط " ، وتبع بعضهم يحيى على ذلك ، وطائفة أطلقت توثيقه دون الاعتداد بوصفه بالاختلاط ، وذلك أن الرجل لم يثبت وهمه في شيء أو تحديثه بما ينكر بسبب ما قاله يحيى من اختلاطه ، مما يجيز أن يكون لم يحدث بعد اختلاطه بشيء ، ولذا قال ابن عدي : " لا أعرف له حديثاً منكراً فأذكره ، ولم أر أحداً من المتقدمين ممن تكلم في الرجال ضعفه إلا يحيى القطان ذكر أنه كان قد خولط ، ومقدار ما له من الحديث لم أر فيه حديثاً منكراً "(19).
أما إن ثبت أن الاختلاط أضرَّ بحديثه ، فلينوَّه بعد اختلاطه من أجل ذلك ، فهذا هو الذي لا يقبل من حديثه إلا ما حدث به قبل اختلاطه ، وذلك بحسب قدم السامعين منه ، وما حدَّث به بعد الاختلاط فهو صالح للاعتبار ما لم يثبت فيه وهم أو خطأ فيميز .
قال ابن حبان وقد ذكر المختلط في آخر عمره : " لا نعتمد من حديثهم إلا ما روى عنهم الثقات من القدماء الذين نعلم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم ، وما وافقوا الثقات في الروايات التي لا نشك في صحتها وثبوتها من جهة أخرى ؛ لأن حكمهم وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم ، وحمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدم عدالتهم ، حكم الثقة إذا أخطأ ، أن الواجب ترك خطئه إذا علم ، والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطئ فيه ، وكذلك حكم هؤلاء : الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات ، وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين كان سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء "(20).
كما قال ابن عدي في ( سعيد بن إياس الجريري ) و ( سعيد بن أبي عروبة ) : " سعيد الجريري مستقيم الحديث وحديثه حجة من سمع منه قبل الاختلاط ، وهو أحد من يجمع حديثه من البصريين ، وسبيله كسبيل سعيد بن أبي عروبة ، لأن سعيد بن أبي عروبة أيضاً اختلط ، فمن سمع منه قبل الاختلاط فحديثه مستقيم حجة "(21).
وقال في ( ابن أبي عروبة ) : " من سمع منه قبل الاختلاط فإن ذلك صحيح حجة ، ومن سمع بعد الاختلاط فذلك ما لا يعتمد عليه "(22).
ويخرج من هذا الأصل : ما دلَّ التحري أن راوياً ممن حدث عن المختلط بعد اختلاطه قد انتقى من حديثه المستقيم المحفوظ ؛ فهذا استثناء يلحق بالمقبول الصالح للاحتجاج من حديث ذلك المختلط .
قال يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ , يَقُولُ : قُلْتُ لِوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ : تُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَإِنَّمَا سَمِعْتَ مِنْهُ فِي الِاخْتِلَاطِ ؟ قَالَ : " رَأَيْتَنِي حَدَّثْتُ عَنْهُ إِلَّا بِحَدِيثٍ مُسْتَوٍ "(23).
ومن هذا ما خرجه الشيخان من حديث من روى عن بعض الثقات المختلطين بعد اختلاطهم ، فإنهما لم يخرجا من حديث هذا الضرب ما يمكن إنكاره ، وما خرجا منه إلا ما هو محفوظ .
وتلخيص القول في الراوي الثقة الذي ثبت أنه اختلط أن قبول ما يقبل من حديثه ورد ما يرد منه على أحوال أربعة تضبط بحسب من روى عنه :
أولها : أن يثبت أن السماع وقع منه قبل اختلاطه ، فهذا يحتج به .
وثانيها : أن يثبت أن السماع وقع منه بعد اختلاطه ، فهذا ضعيف لا يحتج به ، وإنما يصلح للاعتبار إن لم يكن مما ثبت خطؤه فيه بعينه فيجتنب الخطأ .
وثالثها : أن يثبت أن السماع وقع منه بعد اختلاطه ، ولكن من حمل عنه تحرَّى في أخذه عنه ، فلم يحمل عنه إلا صحيح حديثه ، فهذا يحتج به .
ورابعها : أن لا يتبين متى وقع السماع منه : قبل الاختلاط أو بعده ، فهذا يتحرى فيه ، ويلحق بأشبه حديثه قبل اختلاطه غالباً ألحق بمن يحتج بحديثه عنه ، وإن كان العكس فالعكس ، وإن تحيَّر الباحث توقف فيه ، وهذا يجعله صالحاً للاعتبار على أدنى تقدير .
الراوي يختلط فلا يتميز صحيح حديثه من سقيمه :
وهذه حال خارجة عن وصف الثقة ، إذ هذا الصنف من الرواة ضعفاء .
وصورته : الراوي يختلط فيأتي بالمنكرات بسبب اختلاطه ، ولا يتميز ما حدث به على الصحة من غيره .
فهذا يضعف مطلقاً ، وغاية أمره أن يصلح حديثه للاعتبار ، إذا لم يبلغ حد الترك.
ومن مثاله : ( ليث بن أبي سليم ) ، فعَنْ عِيْسَى بنِ يُوْنُسَ، وَقُلْنَا لَهُ: لِمَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْ لَيْثٍ؟
قَالَ: قَدْ رَأَيْتُه كَانَ قَدِ اخْتُلِطَ، وَكَانَ يَصعَدُ المَنَارَةَ ارْتِفَاعَ النَّهَارِ، فَيُؤَذِّنُ.(24).
قال أبو بَكْر ابن خُزَيْمَة : وَعُبَيْدَةُ بْنُ مُعَتِّبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجَ بِخَبَرِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِرِوَاة الْأَخْبَارِ . وَسَمِعْتُ أَبَا مُوسَى يَقُولُ : مَا سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ ، وَلَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ حَدَّثَا عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ بِشَيْءٍ قَطُّ . وَسَمِعْتُ أَبَا قِلَابَةَ يَحْكِي عَنْ هِلَالِ بْنِ يَحْيَى قَالَ : سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ السَّمْتِيَّ يَقُولُ : قُلْتُ لِعَبِيدَةَ بْنِ مُعَتِّبٍ : هَذَا الَّذِي تَرْوِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتَهُ كُلَّهُ ؟ قَالَ : مِنْهُ مَا سَمِعْتُهُ ، وَمِنْهُ مَا أَقِيسُ عَلَيْهِ قَالَ : قُلْتُ : فَحَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ ، فَإِنِّي أَعْلَمُ بِالْقِيَاسِ مِنْكَ ".(25)
وممن وقع له ذلك ولم يتميز من حمل عنه قبل اختلاطه ممن حمل عنه بعده ، فضعف مطلقاً ( يزيد بن أبي زياد ) ، قال ابن حبان : " كان يزيد صدوقاً ، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير ، فكان يتلقن ما لقن ، فوقع المناكير في حديثه من تلقين غيره إياه وإجابته فيما ليس من حديثه ؛ لسوء حفظه ، فسماع من سمع منه قبل دخوله الكوفة في أول عمره سماع صحيح ، وسماع من سمع منه في آخر قدومه الكوفة بعد تغير حفظه وتلقنه ما يلقن سماع ليس بشيء "(26).
قلت : ولا يكاد يتميز شيء مما حدث به قبل التغير ، إلا أن يظهر بالمتابعة ، أما لذاته فضعيف .
التخليط غير الاختلاط بأخرة :
التخليط اختلال عارض في الضبط يقع في حال الصحة لا الخرف .
ومنه قول أبي حاتم الرازي في ( أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب : " كتبنا عنه وأمره مستقيم ، ثم خلط بعد ، ثم جاءني خبره أنه رجع عن التخليط " ، وقال : " كان صدوقاً " .
قال ابن أبي حاتم : سمعت أبا زرعة وأتاه بعض رفقائي ، فحكى عن أبي عبيد الله ابن أخي ابن وهب أنه رجع عن تلك الأحاديث ، فقال أبو زرعة : " إن رجوعه مما يحسن حاله ، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك "(27).
وهذا زال تخليطه وضبط حديثه ورجع عن خطئه .
ومن الرواة من يقع ذلك له فيتمكن منه سوء الحفظ ، حتى لا يقيم الحديث .
مثل ( إسماعيل بن مسلم المكي ) ، وقد ضعفوه ، قال يحيى القطان : " لم يزل مخلطاً ، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب "(28).
ومثل ( صالح بن أبي الأخضر ) ، قال عمرو بن علي : سمعت معاذ بن معاذ العنبري ، وذكر صالح بن أبي الأخضر ، فقال : سمعته يقول : سمعت من الزهري ، وقرأت عليه ، فلا أدري هذا من هذا ، فقال يحيى بن سعيد القطان وهو إلى جنبه : " لو كان هكذا لكان خيراً ، ولكنه سمع وعرض ، ووجد شيئاً مكتوباً ، فقال : لا أدري هذا من هذا "(29).
وقال ابن حبان : " يروي عن الزهري أشياء مقلوبة .. اختلط عليه ما سمع من الزهري بما وجد عنده مكتوباً ، فلم يميز هذا من ذاك " .
قال : " من اختلط عليه ما سمع بما لم يسمع ثم لم يرع عن نشرها بعد علمه بما اختلط عليه منها ، حتى نشرها وحدَّث بها وهو لا يتيقن بسماعها ؛ لبالحري(30)أن لا يحتج به في الأخبار ؛ لأنه في معنى من يكذب وهو شاك ، أو يقول شيئاً وهو يشك في صدقه ، والشاكُّ في صدق ما يقول لا يكون بصادق "(31).
الصنف الرابع : من غلب عليه سوء الحفظ ، فغلب في حديثه احتمال خطئه ووهمه ، مع بقاء وصف الصدق له في الجملة .
وهذا كثير في الرواة المجروحين ، ممن يعتبر بحديثهم ، ولم يسقطوا ، وتقدم له أمثلة كثيرة في الرواة كليث بن أبي سليم ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعلي بن زيد بن جدعان ، وشبههم من الضعفاء الذين يكتب حديثهم ويعتبر به .
القسم الثاني : فساد الضبط إلى حد أن يكون الراوي متروك الحديث
وهذا يقع بغلبة المناكير على حديث الراوي ، فيوصف بكونه : " منكر الحديث " ، أو " متروك الحديث " .
فأما أن يكون " متروك الحديث " فلا يدخل هذا الوصف اشتباه ، إذ هو الراوي غلب عليه الوهم والخطأ حتى فحش ، وغلبت المنكرات على حديثه ، حتى ربما أورده الشبهة عليه بالكذب ، فاتهم به بناء على ذلك ، كما بينت بعض أمثلته في ( المبحث الثاني ) .
ومن مثاله ( عبد الله بن سلمة الأفطس ) اتفقوا على كونه متروك الحديث ، بل اتهم ، ويفسر ابن حبان جرحه بقوله : " كان سيىء الحفظ ، فاحش الخطأ ، كثير الوهم "(32).
ولكن يقع الاشتباه في الراوي يوصف بكونه ( منكر الحديث ) ، فإن تلك النكارة على درجات في عبارات النقاد .. .
طريق كشف النكارة :
__________
(1) - الكامل لابن عدي - (ج 6 / ص 30) وانظر سير أعلام النبلاء (7/353) (132 ) و ميزان الاعتدال - (ج 3 / ص 365)(6782 )
(2) - أخرجه الدوري في " تاريخ يحيى بن معين " ( النص : 231 ) ومن طريقه : البيهقي في " دلائل النبوة " ( 1 / 37 - 38 ) .
( 1030 ) أخرجه الخطيب في " تاريخه " ( 1 / 230 ) وإسناده جيد .
(3) - الجرح والتعديل ( 2 / 538 ) .
(4) - الكامل لابن عدي - (ج 6 / ص 112) وانظر الكاشف[ ج 2 - ص 156 ] (4718 )
(5) - تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 172 ] (1405 )
(6) - الكاشف[ ج 1 - ص 411 ] (1696 )
(7) - الكامل في الضعفاء[ ج 3 - ص 192 ]
(8) - سؤالات ابنُ أبي شيبة ( النص : 79 ) .
(9) - الكامل لابن عدي - (ج 4 / ص 56) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 13 / ص 102) وتهذيب التهذيب - (ج 4 / ص 356) و ضعفاء العقيلي - (ج 2 / ص 205)
(10) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 762) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 4 / ص 417) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 13 / ص 101)
(11) - تهذيب الكمال للمزي - (ج 13 / ص 103) والكامل لابن عدي - (ج 4 / ص 58)
(12) - المجروحين ، لابن حبان ( 1 / 366 ) .
(13) - الجرح والتعديل ( 1 / 405 ) .
(14) - العلل ومعرفة الرجال ، لأحمد ( النص : 3610 ) وسُنيدٌ هو الحسين بن داود .
(15) - عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي أبو محمد المدني أمه زينب بنت علي صدوق في حديثه لين ويقال تغير بأخرة من الرابعة مات بعد الأربعين بخ د ت ق تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 321 ](3592 )
(16) - سؤالات مَسعود السجزي ( النص : 78 ) .
(17) - مسائل الإمام أحمد ، رواية أبي داود السجستاني ( ص : 303 ) .
(18) - شُروط الأئمة ، للحازمي ( ص : 52 ) .
(19) - الكامل لابن عدي - (ج 7 / ص 139) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 4 / ص 15) وتهذيب التهذيب - (ج 1 / ص 367)
(20) - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ( 1 / 161 ) .
(21) - الكامل لابن عدي - (ج 3 / ص 393) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 10 / ص 342)
(22) - الكامل لابن عدي - (ج 3 / ص 397) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 11 / ص 11)
(23) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 745) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 135) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 297) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 3 / ص 108) ولسان المحدثين (معجم مصطلحات المحدثين) - (ج 5 / ص 97)
(24) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 7 / ص 178) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 24 / ص 285) وتهذيب التهذيب - (ج 8 / ص 418) وسير أعلام النبلاء (6/181) وابنُ حبان في " المجروحين " ( 1 / 68 ، و 2 / 232 ) بإسناد صحيح .
(25) - المسند الجامع - (ج 5 / ص 431) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 19 / ص 276)
(26) - المجروحين ( 3 / 100 ) .
(27) - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم - (ج 2 / ص 60
(28) - أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2/ 198 ) بإسناد صحيح .
(29) - المجروحين ( 1 / 368 - 369 ) ، وانظر : الجرح والتعديل ( 3/ 394 ) .
(30) - أي : جدير .
(31) - المجروحين ( 1 / 368 ، 369 ) .
(32) - المجروحين ( 2 / 20 ) .(1/239)
والمعتبر في وصف الراوي بذلك في الأصل هو ما أتى به من الروايات المنكرة التي علمت نكارتها ، بالتفرد بغير المعروف ، أو بالمخالفة للمعروف ، بالقدر الذي يغلب على حديث الراوي .
كما قال مسلم بن الحجاج : " وَكَذَلِكَ مَنِ الْغَالِبُ عَلَى حَدِيثِهِ الْمُنْكَرُ أَوِ الْغَلَطُ أَمْسَكْنَا أَيْضًا عَنْ حَدِيثِهِمْ. وَعَلاَمَةُ الْمُنْكَرِ فِى حَدِيثِ الْمُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا فَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ غَيْرَ مَقْبُولِهِ وَلاَ مُسْتَعْمَلِهِ. فَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِى أُنَيْسَةَ وَالْجَرَّاحُ بْنُ الْمِنْهَالِ أَبُو الْعَطُوفِ وَعَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ وَحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ وَعُمَرُ بْنُ صُهْبَانَ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ فِى رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْحَدِيثِ. فَلَسْنَا نُعَرِّجُ عَلَى حَدِيثِهِمْ وَلاَ نَتَشَاغَلُ بِهِ لأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالَّذِى نَعْرِفُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِى قَبُولِ مَا يَتَفَرَّدُ بِهِ الْمُحَدِّثُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ قَدْ شَارَكَ الثِّقَاتِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ فِى بَعْضِ مَا رَوَوْا وَأَمْعَنَ فِى ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لَهُمْ فَإِذَا وُجِدَ كَذَلِكَ ثُمَّ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا لَيْسَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ قُبِلَتْ زِيَادَتُهُ فَأَمَّا مَنْ تَرَاهُ يَعْمِدُ لِمِثْلِ الزُّهْرِىِّ فِى جَلاَلَتِهِ وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ لِحَدِيثِهِ وَحَدِيثِ غَيْرِهِ أَوْ لِمِثْلِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْسُوطٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ نَقَلَ أَصْحَابُهُمَا عَنْهُمَا حَدِيثَهُمَا عَلَى الاِتِّفَاقِ مِنْهُمْ فِى أَكْثَرِهِ فَيَرْوِى عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا الْعَدَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مِمَّا لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا وَلَيْسَ مِمَّنْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِى الصَّحِيحِ مِمَّا عِنْدَهُمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ حَدِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ النَّاسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ"(1).
ومن طريق كشف نكارة الحديث : أن يستغرب الحديث مما تفرد به عن الثقة ، فيبحث عن أصله في كتب ذلك الثقة وقد عرف اعتناؤه بحديثه ورجوعه إلى أصول ، فلا يوجد فيها الحديث ، فيعرف بذلك أن الحديث منكر .
قال أبو داود السجستاني : سمعت أحمد سئل عن حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الأئمة من قريش " ؟ قال : " ليس هذا في كتب إبراهيم ، لا ينبغي أن يكون له أصل "(2).
ومن أمثلته في الرواة : ( محمد بن أبي حميد الزرقي ) ، قال أحمد بن حنبل : " أحاديثه أحاديث مناكير "(3)، وفي معناه قول يحيى بن معين المجمل : " ليس بشيء "(4)، وقال أبو حاتم : " منكر الحديث ، ضعيف الحديث ، مثل ابن أبي سبرة ويزيد بن عياض ، يروي عن الثقات المناكير "(5).
قلت : وهذا منكر الحديث ، قد يتردد في بلوغه الترك .
و( مغيرة بن زياد الموصلي ) ، قال أحمد بن حنبل : " ضعيف الحديث " ، وقال : " روى عن عطاء عن ابن عباس في الرجل تحضره الجنازة ، قال : لا بأس أن يصلي عليها ويتيمم " ، قال أحمد : رواه ابن جريج وعبد الملك عن عطاء ، مرسل " ، قال أحمد : " وروى عن عطاء عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة . وهذا يروونه عن عطاء عن عنبسة عن أم حبيبة : من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة . وروى عن عطاء عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر قصر وأتم ، والناس يروونه عن عطاء ، مرسل "(6).
قال عبد الله بن أحمد: سمعتُ أَبي يقول: مغيرة بن زياد، مضطرب الأحاديث، منكره.(7)
وقال عبد الله: سألت يحيى بن معين، عن المغيرة بن زياد، فقال: ليس به بأس.
سألت أبي، فقال: ضعيف الحديث.
وقال: روى عن عطاء، عن ابن عباس في الرجل يحضر الجنازة، قال: لا بأس أن يصلي عليها ويتيمم، قال أبي: رواه ابن جريج، وعبد الملك، عن عطاء، مرسل.
قال أبي: وروى عن عطاء، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة، وهذا يرويه عن عطاء، عن عنبسة، عن أم حبيبة ؛ من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة.
وروى عن عطاء، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر قصر وأتم، والناس يروونه عن عطاء مرسل.(8).
وقال عبد الله: سألته (يعني أَباه) عن المغيرة بن زياد، فقال: ضعيف الحديث، له أحاديث منكرة.(9)
وقال عبد الله: سمعتُ أَبي يقول: حدثنا وكيع، قال: حدثني مغيرة بن زياد أبو هاشم.(10)
وقال عبد الله: سألته (يعني أَباه) عن المغيرة بن زياد ؟ قال: ضعيف الحديث، أحاديثه أحاديث مناكير.(11).
وقال عبد الله: سألت يحيى، عن مغيرة بن زياد الموصلي، فقال: ليس به بأس، سألت أبي، فقال: هو مضطرب الحديث، سمعت يحيى يقول: مغيرة له حديث واحد منكر، فقلت لأبي: كيف ؟ قال: روى عن عطاء، عن ابن عباس في الرجل تمر به الجنازة، قال: يتيم ويصلي، قال: وهذا رواه ابن جريج وعبد الملك عن عطاء قوله ليس فيه ابن عباس وهؤلاء أثبت منه، قال: وروى عن عطاء، عن عائشة: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة، قال: والناس يروونه عن عطاء، عن عنبسة، عن أم حبيبة.
قال: وروى عن عطاء، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في الصلاة فى السفر ويتم، قال: وهذا يرويه الناس عن عطاء، عن رجل آخر ليس هو عن عائشة.
سمعتُ أَبي يقول: كل حديث رفعه مغيرة بن زياد فهو منكر.(12)..
أما يحيى بن معين فقلل قدر المناكير في حديثه ، فقال : " له حديث واحد منكر " ، وفسره عبد الله بن أحمد عن أبيه بحديث ابن عباس في الرجل تمر به الجنازة يتيمم ويصلي(13).
قلت : وهذا مثال لمن يتردد بين الترك والاعتبار .
و( محمد بن معاوية النيسابوري ) ، قال أحمد بن حنبل : " رأيت أحاديثه موضوعة " ، وقال أبو حاتم الرازي : " روى أحاديث لم يتابع عليها ، أحاديثه منكرة ، فتغير حاله عند أهل الحديث " ، وكان يحيى بن معين يقول : " كذاب " ، لكن أبا زرعة الرازي يفسر تلك المنكرات منه بسبب قبوله التلقين ، فيقول : " كان شيخاً صالحاً ، إلا أنه كلما لقن يلقن ، وكلما قيل : إن هذا من حديثك حدث به ، يجيئه الرجل فيقول : هذا من حديث معلى الرازي ، وكنت أنت معه ، فيحدث بها على التوهم "(14).
وهذا التفسير من أبي زرعة يدفع عنه تعمد الكذب ، مع أن أحاديثه موضوعة ، فمثله متروك الحديث على أي حال .
والعلة في التردد في بعض هؤلاء بين الاعتبار بحديثه أو تركه كلية ، وكذلك من كان أمره إلى ترك حديثه مطلقاً ، هو قدر الغلط في حديثهم .
وحيث إن أحدهم لم يبلغ به الجرح حد التهمة ، فإن سبب الجرح يعود إلى سوء حفظه الموجب كثرة خطئه وغلبته .
مظان سياق منكرات الراوي :
كتب الجرح والتعديل قد سلك أكثرها مسلك الاختصار ، فمع أن الناقد صار إلى جرح الراوي بحسب ما ظهر له من حاله وحديثه ، إلا أنه لا يكاد يسوق مثالاً من مرويات ذلك المجروح مما كان دليلاً لديه على جرحه ، سوى أن ما تفرق من جرح للرواة في أثناء كتب علل الحديث يصلح أن يستفاد من تلك الأحاديث المعللة أمثلة على ما من أجله قدح في بعض الرواة ، فهذا طريق .
كذلك اعتنى المتأخرون الذين صنفوا في تتبع المجروحين بجمع أنكر ما للراوي المجروح ، أو مثلوا ببعض ذلك ليستدل به على ما عداه ، وذلك مثل : أبي أحمد بن عدي في كتاب " الكامل " ، وأبي جعفر العقيلي في كتاب " الضعفاء " ، وأبي حاتم بن حبان في كتاب " المجروحين " ، كما جرى على سننهم الذهبي في " ميزان الاعتدال " بحكاية بعض ما قالوا ، وبالزيادة عليه .
لكن يجدر بك أن تعلم أنهم ربما ذكروا الحديث الثابت ، يكون التمثيل له للمنكر من حديث الراوي مرجوحاً ، أو لا يكون ذكر الراوي في هذه الكتب صواباً أصلاً ، وابن عدي خاصة أكثرهم اعتناء بذكر ما ينكر على الراوي ، لكنه يزيد فيذكر من غرائبه وأفراده ، زد على ذلك أنه ربما ذكر من الرواة من الصواب فيه التعديل ، في نظر ابن عدي نفسه أو نظر غيره من أهل العلم ، وربما ساق للراوي من حديثه ما يستدل به على أن حديثه من قبيل المحتمل أو الصالح أو المستقيم المحفوظ .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مُقدمة صحيح مُسلم ( ص : 7 ) .
(2) - مسائل الإمام أحمد ، رواية أبي داود ( ص : 289 ) .
قلت : المقصود به هذه الرواية فقط وإلا فالحديث صحيح مشهور
(3) - العلل ومعرفة الرجال ( النص : 2811 ) .
(4) - تاريخ يحيى بن مَعين ( النص : 800 ) .
(5) - الجرح والتعديل ( 6/ 234 ) .
(6) - العلل ومعرفة الرجال ( النص : 835 ) .
(7) - ((العلل)) (815).
(8) - ((العلل)) (835)
(9) - ((العلل)) (1501).
(10) - ((العلل)) (2759 و5762).
(11) - ((العلل)) (3361)
(12) - ((العلل)) (4009 و4010 و4011 و4012)
(13) - العلل ( النص : 4011 ) .
(14) - الجرح والتعديل ( 7/ 103 - 104 ) .(1/240)
المبحث السادس : مسائل تتصل بالجرح بسوء الحفظ
المسألة الأولى : الراوي قد يكون لين الحديث من جهة عدم ظهور إتقانه لقلة حديثه ، أو لمجيء حديثه على غير سياق روايات الثقات ، وإن لم يكن أتى بمنكر .
مثل ( عبد الصمد بن حبيب العوذي ) ، كان قليل الحديث ، قال البخاري وأبو حاتم الرازي : " لين الحديث ، ضعفه أحمد "(1)، زاد أبو حاتم : " يكتب حديثه ، ليس بالمتروك " .
ومثل ( إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي ) ، ضعفه الأكثرون ، لكن جاء ضعفه من جهة لين فيه لا أنه روى منكراً ، ولذا قال ابن عدي : " ليس هو بمنكر الحديث ، يكتب حديثه "(2)، وقال أبو حاتم قبله : " يكتب حديثه ، وهو حسن الحديث "(3).
المسألة الثانية : الإغراب عن الثقات .
نعت الراوي برواية الغرائب سبب للجرح ، إذا كان مثله لا يحتمل مثلها ، كراو لم يرو إلا بضعة أحاديث ، فيغرب بأكثرها ، وذلك إسناداً أو متناً أو جميعاً ، فهذا يشعر بلين حديثه ، وإن لم يصل ما تفرد به إلى حد النكارة .
أما الثقة المكثر إذا أغرب ببعض حديثه عن شيخ عرف بالعناية به ، فهو من علامة تميزه وإتقانه .
لذا فحين تكلم في ( حرملة بن يحيى التجيبي المصري ) من أجل ما أغرب به عن عبد الله بن وهب ردَّ ذلك ابن عدي ، فقال : " قد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير ، فلم أجد في حديثه ما يجب أن يضعف من أجله ، ورجل توارى ابن وهب عندهم ويكون عنده حديثه كله ، فليس ببعيد أن يغرب على غيره من أصحاب ابن وهب كتباً ونسخاً "(4).
والإغراب مما تميل إليه النفوس بطبعها ، لكن من عرفوا بالإتقان كانوا يتقون الإغراب إلا بمحفوظ ، بخلاف من كان همُّه تكثير الرواية ، فهذا لا يبالي بما حدث ولا عمن حدث ، حتى ربما لحقته التهمة بسبب ذلك ، كما كان الشأن في حق ( الهيثم بن عدي ) , و ( محمد بن عمر الواقدي ) وشبههما .
قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ:" مَنْ تَتَبَّعَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ "(5).
وقال ابن حبان : " صناعة الحديث صناعة من لم يقنع بيسير ما سمع عن كثير ما فاته " ، قال : " وكل من حدَّث عن كل من سمع في الأيام وبكل ما عنده ، عرَّض نفسه للقدح والملام ، ولست أعلم للمحدث إذا لم يحسن صناعة الحديث خصلة خيراً له من أن ينظر إلى كل حديث يقال له : إن هذا غريب ليس عند غيرك ، أن يضرب عليه من كتابه ولا يحدث به ؛ لئلا يكون ممن يتفرد دائماً ، لو أراد الحاسد أن يقدح فيه تهيأ له ، ولا يسمعه أن يروي إلا عن شيخ ثقة بحديث صحيح ، يكون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنقل العدل عن العدل موصولاً "(6).
والناقد إذا روى الراوي الذي لا يحتمل الإغراب لعدم شهرته بالحفظ ، أو لقلة ما روى ، جاء عن الراوي المشهور بغير المعروف من حديثه من رواية الثقات ، كان ذلك شبهة للقدح فيه ، وتقوى حتى تثبت على ذلك الراوي بحسب نوع ما تفرد به وقدره ، ويقع هذا في شأن راو قليل الحديث أصلاً غير مشهور ربه .
ومن أمثلة هؤلاء : ( سعيد بن زربي ) ، ذكر العقيلي حديثاً من روايته عن ثابت عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود " ، قال العقيلي : " ولا يتابع عليه من حديث ثابت ، وقد روي هذا بإسناد جيد ثابت من غير هذا الوجه "(7).
وكقول ابن حبان في ( محمد بن عبيد الله(8)العصري ) : " منكر الحديث جداً ، يروي عن ثابت ما لا يتابع عليه كأنه ثابت آخر ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا الاعتبار بما يرويه إلا عند الوفاق للاستئناس به "(9).
فأمثال هذا أو ذاك ممن لم يرو إلا القليل ، ومع ذلك يتفرد بما لا يعرف عن الثقات ، فهذا يعود عليه تفرده ذلك بالجرح لا بالمحمدة .
المسألة الثالثة : الإصرار على الخطأ .
يراد به أن يبين للراوي أنه أخطأ ، فيصرُّ أنه مصيب ، ولا يرجع إذا بين له ، وهذا جعله بعض النقاد قادحاً فيمن عرف منه مطلقاً ، وبعضهم يذكره قادحاً لكن لا يطلقه ، ولذلك فقد ذكر به بعض من استقر عند الأكثرين توثيقهم .
والتحرير لهذه المسألة : أن القدح في الراوي إنما هو من جهة خطئه لا من جهة إصراره على ما يحسب نفسه مصيباً فيه .
قال حمزة السهمي : سألته ( يعني الدار قطني ) عمن يكون كثير الخطأ ؟ قال : " إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط ، وإن لم يرجع سقط "(10).
ومن أمثلته في الضعفاء ( سفيان بن وكيع ) "
قَالَ مُحَمَّدَ بْنَ يَعْقُوبَ الْحَافِظَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ " وَقِيلَ لَهُ : لِمَ رَوَيْتَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ وَتَرَكْتَ سُفْيَانَ بْنَ وَكِيعٍ ؟ فَقَالَ : " لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمَّا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ رَجَعَ عَنْهَا عَنْ آخِرِهَا إِلَّا حَدِيثَ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ إِذَا احْضِرَ الْعِشَاءُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي دَرْحٍ مِنْ كُتُبِ عَمِّهِ فِي قِرْطَاسٍ وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ فَإِنَّ وَرَّاقَهُ أَدْخَلَ عَلَيْهِ أَحَادِيثَ فَرَوَاهَا وَكَلَّمْنَاهُ فِيهَا فَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهَا فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ وَتَرَكْتُ الرِّوَايَةَ عَنْهُ "(11).
و( المسيب بن واضح ) ، قال أبو حاتم الرازي : " صدوق ، كان يخطئ كثيراً ، فإذا قيل له لم يقبل "(12).
ومن أمثلته في الثقات : ( محمد بن عبيد الطنافسي ) ، قال أحمد بن حنبل : " كان يخطئ ، ولا يرجع عن خطئه "(13).
و( محمد بن غالب تمتام ) فقد ذكر الدار قطني من أوهامه أنه حدث محمد بن جعفر الوركاني ، عن حماد بن يحيى الأبح ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عمران بن حصين ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " شيبتني هود وأخواتها " ، قال الدارقطني : " فأنكروا عليه موسى بن هارون وعبيدة ، فأخرج أصله وجاء إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي ، فأوقفه عليه ، فقال : ربما وقع على الناس الخطأ في الحداثة ، ولو تركته لم يضرك ، فقال : أنا لا أرجع عما في أصل كتابي " ، ثم بين الدارقطني كيف دخله الوهم ، ووثقه وأثنى عليه "(14).
قلت : وهذا من أمثلته الثقات ، كان إصراره حين أصر من أجل ما اعتقده من ضبطه .
المسألة الرابعة : جرح الراوي مقارنة بغيره ، من الجرح النسبي ، ولا ينافي أصل الثقة ، إلا أن تكون المقارنة بين ضعيفين .
الناقد ربما ضعف الراوي في بعض الشيوخ ، ولم يعن مطلقاً ، وإنما عند المقارنة بمن هو أتقن منه عن ذلك الشيخ ، كالشأن في تضعيف بعض أصحاب الزهري مقارنة بالمتقنين .
قال يعقوب بن شيبة : سمعت يحيى بن معين يقول : " كان جعفر بن برقان أمياً " ، فقلت له : جعفر بن برقان كان أمياً ؟ قال : " نعم " ، قلت : كيف روايته ؟ فقال : " كان ثقة صدوقاً ، وما أصح رواياته عن ميمون بن مهران وأصحابه ! " ، فقلت له : أما روايته عن الزهري ليست مستقيمة ؟ قال : " نعم " ، وجعل يضعف روايته عن الزهري(15).
هكذا ظاهر قول ابن معين أن حديثه عن الزهري ضعيف مطلقاً ، لكن قال ابن عدي : " إنما قيل ضعيف في الزهري ؛ لأن غيره عن الزهري أثبت منه ، أصحاب الزهري المعروفين : مالك ، وابن عيينة ، ويونس ، وشعيب ، وعقيل ، ومعمر ، فإنما أرادوا أن هؤلاء أخص بالزهري ، وهم أثبت من جعفر بن برقان ؛ لأن جعفراً ضعيف في الزهري لا غير "(16).
قلت : وهذا التفسير معتضد بهذه المحاورة بين عثمان الدارمي وشيخه يحيى بن معين ، قال عثمان : سألت يحيى بن معين عن أصحاب الزهري :
قلت له : معمر أحب إليك في الزهري أو مالك ؟ فقال : " مالك " .
قلت : فيونس أحب إليك وعقيل ، أم مالك ؟ فقال : " مالك " .
قلت : فابن عيينة أحب إليك ، أم معمر ؟ فقال : " معمر " .
قلت : فإن بعض الناس يقولون : سفيان بن عيينة أثبت الناس في الزهري ؟ فقال : " إنما يقول ذاك من سمع منه ، وأي شيء كان سفيان ! إنما كان غليماً أيام الزهري " .
قلت : فشعيب - أعني ابن أبي حمزة - ؟ فقال : " هو ثقة مثل يونس وعقيل " ، " شعيب بن أبي حمزة كتب عن الزهري إملاء للسلطان ، وكان كاتباً " .
قلت : فالزبيدي ؟ قال : " هو مثلهم " .
قلت : فإبراهيم بن سعد أحب إليك أو ليث ؟ فقال : " كلاهما ثقتان " .
قلت : فمعمر أحب إليك أو صالح بن كيسان ؟ فقال : " معمر أحب إلي ، وصالح ثقة " .
قلت : فالماجشوني - أعني عبد العزيز - ؟ قال : " ليس به بأس " .
قلت : فصالح بن أبي الأخضر ؟ فقال : "ليس بشيء في الزهري " .
قلت : فمحمد بن أبي حفصة ؟ قال : " صويلح ، ليس بقوي " .
قلت : فابن جريج ؟ فقال : " ليس بشيء في الزهري " .
فجعفر بن برقان ؟ فقال : " ضعيف في الزهري " .
قلت : فمحمد بن إسحاق ؟ فقال : " ليس به بأس ، وهو ضعيف الحديث عن الزهري " .
قلت له : عبد الرحمن بن إسحاق الذي يروي عن الزهري ؟ فقال : " صالح " .
وسألته عن سفيان بن حسين ؟ فقال : " ثقة ، وهو ضعيف الحديث عن الزهري ".
قلت له : فمعمر أحب إليك أو يونس ؟ فقال : " معمر " .
قلت : فيونس أحب إليك أو عقيل ؟ فقال : " يونس ثقة ، وعقيل ثقة نبيل الحديث عن الزهري " .
وسألته عن الأوزاعي : ما حاله في الزهري ؟ فقال : " ثقة " .
قلت له : أين يقع من يونس ؟ فقال : يونس أسند عن الزهري ، والأوزاعي ثقة ، ما أقل ما روى الأوزاعي عن الزهري ! " .
قلت : فزياد بن سعيد ، أي شيء حاله في الزهري ؟ فقال : " ثقة " .
قلت : فما حال سليمان بن موسى في الزهري ؟ فقال : " ثقة " .
قلت : فعبد الله بن عبد الرحمن الجمحي ، كيف حديثه عن ابن شهاب ؟ فقال : " لا أعرفه " .
قلت : فعنبسة بن مهران عن الزهري ، من عنبسة ، يروي عنه يحيى بن المتوكل ؟ فقال : " لا أعرفه " .
قلت : فعمر بن عثمان الذي يروي عن أبيه عن ابن شهاب ، ما حالهما ؟ فقال : " ما أعرفهما " .
قلت : فابن أبي ذئب ، ما حاله في الزهري ؟ فقال : " ابن أبي ذئب ثقة " .
وسألته عن أخي الزهري ، ما حاله ؟ فقال : " ضعيف "(17).
وقال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله ( يعني أحمد بن حنبل ) وذكر يونس بن أبي إسحاق ، فضعف حديثه ، وقال : " حديث إسرائيل أحب إلي منه "(18).
قلت : فهذا تضعيف ليونس مقارنة بابنه إسرائيل عن أبي إسحاق خاصة ، وليس ضعفاً مطلقاً ، فلا يصحُّ القول : يونس ضعيف عند أحمد مثلاً .
وهكذا حين قيل لأحمد : غندر وحفص بن غياث ؟ قال : " غندر أحب إليَّ من حفص ، حفص كان مخلطاً " وضعَّف أمره(19).
قلت : فالتحقيق في الجرح الوارد على هذه الصفة أنه تليين للراوي بالمقارنة بمن ذكر معه ، ولا يصلح اقتطاع لفظ الجرح في ذلك الراوي عما اقترن به ، بل الشأن عند إطلاق القول في أكثر هؤلاء المضعَّفين مقارنة بمن هو فوقهم في بعض الشيوخ أنهم ثقات عند الإطلاق .
فإن قلت : ما فائدة هذا الجرح ؟
قلت : الترجيح عند الاختلاف .
وأما المقارنة بين الضعفاء فتدلُّ على التفاوت بينهم في الضعف خفة وشدة ، وقد تساعد في تقدير درجة الراوي في حفظه .
سئل يحيى بن معين عن المثنى بن الصباح ؟ فقال : " ضعيف الحديث ، هو أقوى من طلحة بن عمرو "(20).
قلت : المثنى يعتبر به ، وطلحة متروك ، لكن هذه المقارنة تنبئ بتدني رتبة المثنى حتى صار يقارن بطلحة ، وإن كان أقوى منه ، على حد قول القائل :
ألمْ تَرَ أَنَّ السيفَ يَنْقُصُ قدرهُ إذا قيل إنَّ السّيفَ أمضى من العصا
وقال أبو عبيد الآجري : سألت أبا داود عن جويبر والكلبي ؟ فقدم جويبراً ، وقال : " جويبرٌ على ضعفه ، والكلبي متهم "(21).
قلت : هما متروكان ، وكأن أبا داود يقول : لو كان في أحد منهما خير ، ففي جويْبر .
وقال الدار قطني : " مُجالد بن سعيد الكوفي ليس بثقة ، يزيد بن أبي زياد أرجح منه ، ومجالدٌ لا يُعتبر به "(22).
قلت : بالغ الدار قطني في شأن مجالد ، لكن المقارنة له بيزيد ، ويزيد يعتبر به تجعل إمكان الاعتبار بمجالد وارداً .
وقال البرقاني : سألته عن عدي بن الفضل ؟ قال : " يترك " ، ثم قال : " وأبو جزي نصر بن طريف أسوأ حالاً منه "(23).
قلت : كأنه يقول : إن كان عدي متروكاً ، فما بالك بأبي جزي ؟(24)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - التاريخ الكبير ( 3 / 2 / 106 ) ، الجرح والتعديل ( 5/ 51 ) .
(2) - الكامل في الضعفاء[ ج 1 - ص 236 ]
(3) - الجرح والتعديل[ ج 2 - ص 148 ] 487
(4) - الكامل في الضعفاء[ ج 2 - ص 461 ]
(5) - أثرٌ صحيح . أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " ( ص : 562 ) وابنُ عدي ( 1 / 111 ) والخطيب في " الكفاية " ( ص : 225 ) بإسناد جيد . ولفظ ابن عدي : " من طلب الدين بالكلام تزندق ، ومن طلب غريب الحديث كُذِّب ، ومن طلب المالَ بالكيمياء أفْلس "
(6) - المجروحين ، لابن حبان ( 3 / 93 ) .
(7) - الضعفاء ، للعُقيلي ( 2 / 107 ) .
(8) - هكذا وقع ( عبيد الله ) مصغَّراً في بعض محال ترجمته ، و ( عبد الله ) مكبَّراً في بعض آخر ، والأول أشْبه بالصواب .
(9) - المجروحين ( 2 / 282 ) .
(10) - سؤالات السهمي ( النص : 1 ) .
(11) - أخرجه الخطيب في " الجامع " ( رقم : 1120 ) وإسناده صحيح .
(12) - الجرح والتعديل (8 / 294 ) .
(13) - الجرح والتعديل ( 8 / 10 ) .
(14) - سؤالات السلمي ( النص : 312 ) .
(15) - الكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 140) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 5 / ص 14)
(16) - الكامل لابن عدي - (ج 2 / ص 141) وتهذيب الكمال للمزي - (ج 5 / ص 17) يونس هوَ ابن يزيد الأيلي ، وشُعيبٌ هوَ ابنُ أبي حَمزة ، وعُقيلٌ هوَ ابنُ خالد الأيْلي ، ومَعْمرٌ هوَ ابنُ راشد .
(17) - ساق هذه المحاورة عثمان الدارمي في " تاريخه " ( 41 - 48 ) وحذفت ما أورده عثمان في ثناياها عن غير يحيى ، وما ليس من موضوع أصحاب الزهري .
(18) - تهذيب الكمال ، للمزي ( 32 / 491 ) .
(19) - مسائل أحمد ، رواية ابن هانئ ( 2 / 208 ) .
(20) - سؤالات ابن الجُنيد ( النص : 141 ) .
(21) - سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني ( النص : 227 ) .
(22) - سؤالات البرقاني ( النص : 484 ) .
(23) - سؤالات البرقاني ( النص : 518 ) .
(24) - انظر تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 269-309)(1/241)
الفصْلُ الرابعُ
الخبرُ المُشْتَرَك بين المقبول والمردود
المبحث الأول: تقسيم الخبر بالنسبة إلى من أُسْنِدَ إليه.
المبحث الثاني: أنواع متفرقة مشتركة بين المقبول والمردود.
المبْحَثُ الأولُ
ـ تقسيم الخبر بالنسبة إلى من أُسْنِد إليه ـ
ينقسم الخبر بالنسبة إلى من أُسْنِد إليه إلى أربعة أقسام وهي:
الحديث القدسي ـ المرفوع ـ الموقوف ـ المقطوع. وإليك بحث هذه الأقسام تفصيلا على التوالي.
الحديثُ القُدْسيُّ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: القُدْسِيُّ نسبة إلى " القُدْس " أي الطُّهْر،(2). أي الحديث المنسوب إلى الذات القدسية . وهو الله سبحانه وتعالى .
ب) اصطلاحاً : الحديث المرفوع القولي المسند من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله.
وهذه ميِّزه عن القرآن ، من جهة أن القرآن لا يقال فيه ( حديث مرفوع ) ، و ( القولي ) ميَّزه من سائر أنواع المرفوع ، و النسبة إلى الله أخرجته من عموم المرفوعات القولية التي هي مما أنشأه النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظه .
مثاله : حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِى ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِى الأَمْرُ ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ » .(3).
ومن المتأخرين من قال في تعريف ( القدسي ) : ( ما كان معناه من الله تعالى ، ولفظه من النبي صلى لله عليه وسلم ) ، وهذا فيما أرى خطأ لا مستند له إلاِّ إرادة تمييزه عن القرآن ،حاصل بالتعريف الذي ذكرته آنفاً ، وهو المتفق مع صريح عبارة الرفع النَّبويِّ ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث القدسي : ( قال الله) ، وهذا صريح منه - صلى الله عليه وسلم - في نسبة القول والذي هو الألفاظ ذاتها إلى الله، ولم يردنا في شيء من النقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتصرف في ألفاظ ما يقول فيه : ( قال الله عز جل ) ممَّا يحدث به عن ربه سوى القرآن .
ثم إنه يرد على قولهم : ( ومعناه من الله ) دخول عموم السنة في ذلك ، فإن السنن شرائعُ الله أوحاها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن ، عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ نفسه ، كما قال تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى إِنْ هُو إِلاَّ وحيٌ يوحَى } [ النجم : 4،3] ، فإن جعلنا الحديث القدسي كذلك لم نميزه عن سائر نصوص السنن المنشأة ألفاظها من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وألغينا فائدة التميز الحاصلة من قبل قوله - صلى الله عليه وسلم - في القدسي : ( قال الله ) .
2- مثالُه:
كما في صحيح مسلم(4)عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ». قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
3- الفرق بينه وبين القرآن :
الحديث القدسي فهو نسبة إلى القدس، وهي نسبة تدل على التعظيم والتنزيه والتطهير.
فالحديثُ القدسيُّ :ما كان لفظه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعناه من الله تعالى، أو هو ما أخبر الله نبيه بالإلهام أو المنام، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك المعنى بعبارة من نفسه.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - معناه، واللفظ لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه،لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله،لا سيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً و معنى؛لكان أعلى سنداً من القرآن؛لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل عليه السلام؛كما قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك )(النحل: الآية102) ، وقال: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُعَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:193-195].
الوجه الثاني:أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى،والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل،ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة ستمرُّ بعد قليل .
ويلحق بهذين النوعين من الوحي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - معبراً عن معنى أوحي إليه أو مبيناً للقرآن الكريم، ولهذا قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [لنجم:3-4].
والحديث القدسي حكمه حكم الحديث النبوي،فمنه: الصحيح،والحسن، والضعيف...
ومثاله ما ورد في البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِى بِى ،(5)وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِى ، فَإِنْ ذَكَرَنِى فِى نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى ، وَإِنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »(6).
وتعريف الحديث النبوي: هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير ونحوها من أوصاف خَلقية أو خُلقية أو همِّ.(7)
فالحديث القدسيُّ هو: ما يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تبارك وتعالى بألفاظه، ولكن دون التعبد بهذه الألفاظ، وليس للتحدي والإعجاز.
وعلى هذا، فالكلُّ من عند الله، ولكن القرآن متعبد بألفاظه لا تصح الصلاة إلا به، وهو المعجزة الكبرى التي تحدَّى الله بها الخلق أجمعين، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء:88].
وبين الحديث القدسي والقرآن عدةُ فروق منها(8):
1. أن القرآن الكريم كلام الله لفظاً ومعنى، أما الحديث القدسي فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كلام الله لفظاً ومعنى لكنه يختلف عن القرآن في طريقة تبليغه وعن الواسطة فيه وهو جبريل عليه السلام، بحيث يكون بالإلهام أو الإلقاء في الروع أو حال المنام أو غيرها من طرق الوحي غير المجلَّى، وذهب آخرون إلى القول المشهور وهو أن الحديث القدسي معناه من الله ولفظه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واختاره عامة المؤلفين في القرآن وعلومه.
2. أن القرآن متواتر كله فهو قطعي الثبوت، أما الحديث القدسي فمنه الصحيح والضعيف والموضوع، ووصفه بقدسي راجع إلى منزلته فلا يعني بالضرورة ثبوت كل مروي فيه، إذ إن موضوع الصحة والضعف المدار فيه على السند وقواعد القبول والرد المعروفة عند المحدثين.
3. أن القرآن الكريم لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه..
4. أن القرآن متعبد بتلاوته فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -(9).
بينما الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته،بمعنى أن الإنسان لا يتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات .
5. القرآن معجز بلفظه ومعناه، أما الحديث القدسي فليس كذلك.
6. القرآن تحدَّى الله به العرب - بل العالمين - أن يأتوا بمثله، وأما الحديث القدسي فليس فيه تحدٍّ .
7. ومن خصائص القرآن الكريم أنه لا يجوز مسه إلا لطاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
8. ومنها:أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن،بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
9. ومنها:أن القرآن الكريم تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
10. ومنها:أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح،بخلاف الأحاديث القدسية.
11. ومنها:أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والحاصلُ أن الفرق بين القرآن والحديث القدسي يتَّضحُ في كون القرآن نزل للإعجاز وللتعبد، وليس الحديث القدسي كذلك..(10)
قال العلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية في شرح الحديث الرابع والعشرين المسلسل بالدمشقيين وهوحديث أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى ..."(11)
" اعلم أنَّ الكلام المضاف إليه تعالى أقسامٌ ثلاثةٌ:
أولها - وهو أشرفها ((القرآن)) لتميزه عن البقية بإعجازه من أوجه كثيرة ،وكونه معجزة باقية على ممر الدهر ،محفوظة من التغيير والتبديل ،وبحرمة مسِّه لمحدِثٍ وتلاوته لنحو الجنُبِ ،وروايته بالمعنى وبتعينه في الصلاة ،وبتسميته قرآنا ،وبأن كل حرف منه بعشر حسنات، وبامتناع بيعه في رواية عند أحمد وكراهته عندنا ،وبتسمية الجملة منه آية وسورة ،وغيره من بقية الكتب والأحاديث القدسية لا يثبت لها شيء مما ذكر، فيجوز مسه وتلاوته لمن ذكر وروايته بالمعنى، ولا يجزئ في الصلاة بل يبطلها ،ولا يسمَّى قرآنا ،ولا يعطى قارئة بكل حرفٍ عشرا، ولا يمنع بيعه ولا يكره اتفاقاً، ولا يسمَّى بعضه آية ولا سورة اتفاقاً أيضاً.
ثانيهاً - كتبُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل تغييرها وتبديلها.
ثالثهاً - بقيةُ الأحاديث القدسية ،وهي ما نقل إلينا آحاداً عنه مع إسناده لها عن ربه، فهي من كلامه تعالى فتضاف إليه وهو الأغلب ،ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء، لأنه المتكلم بها أولاً ،وقد تضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه المخبر بها عن الله تعالى، بخلاف القرآن فإنه لا يضاف إلا إليه تعالى فيقال فيه ((قال الله تعالى) وفيها ((قال رسول الله فيما يروي عن ربه تعالى)) .
واختلفَ في بقية السنَّة هل هي كلها بوحيٍ أولا ؟وآيةُ ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) [النجم/3-4])) تؤيد الأول، وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ :« أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ...»(12).، ولا تنحصرُ تلك الأحاديث القدسيةُ في كيفية من كيفيات الوحي ،بل يجوز أن تنزل بأي كيفيةٍ من كيفياته؛ كرؤيا النوم ،والإلقاء في الروع ،وعلى لسان الملك، ولراويها صيغتان إحداهما أن يقول :((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،((قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله والمعنى واحد)) انتهى
4- عدد الأحاديث القدسية :
والأحاديث القدسية ليست بكثيرة بالنسبة لعدد الأحاديث النبوية ، وهي تبلغ حوالي ألف حديث.
5- صِيَغُ روايته :
وردت الأحاديث القدسية بالألفاظ التالية :
ا- بلفظ قال الله تعالى ، وهو الأكثر شهرة ،أمثلة :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِى ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ »(13).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ " ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ . فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ ؟ فَقَالَ : " اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ " ؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ "(14)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِىِّ قَالَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِنَّ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِىٍّ أَخْبَرَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّى فَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَعَهِدْتُ عِنْدِى عَهْدًا أَنَّهُ مَنْ جَاءَ يُحَافِظُ عَلَيْهِنَّ لِوَقْتِهِنَّ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَلاَ عَهْدَ لَهُ عِنْدِى ».(15)
ب-وقد يرد بلفظ قال ربكم أو يقول ربكم ، أو ربكم قال، أو ربكم يقول ،أو قال ربنا بقلَّة أمثلة :
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِى هَذِهِ الآيَةِ (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « قَالَ رَبُّكُمْ أَنَا أَهْلٌ أَنْ أُتَّقَى فَلاَ يُشْرَكَ بِى غَيْرِى وَأَنَا أَهْلٌ لِمَنِ اتَّقَى أَنْ يُشْرِكَ بِى أَنْ أَغْفِرَ لَهُ ».(16)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ أَنَّ عِبَادِى أَطَاعُونِى لأَسْقَيْتُهُمْ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ ».(17)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ تَقَرَّبَ عَبْدِى مِنِّى شِبْراً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعاً وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً وَإِنْ أَتَانِى مَاشِياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »(18).
وعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَقُولُ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي ، أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى ، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ رِزْقًا ، يَا ابْنَ آدَمَ ، لاَ تَبَاعَدْ مِنِّي ، فَأَمْلأْ قَلْبَكَ فَقْرًا ، وَأَمْلأْ يَدَيْكَ شُغْلا "(19)
وعَن أَنَس ؛ أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يقول ربكم تبارك وتعالى : إذا تقرب العبد مني شبرا , تقربت منه ذراعا ، وإذا تقرب ذراعا , تقربت باعا ، وإذا أتاني يمشي , أتيته هرولة.
ومعنى هذا الحديث يقول الله تبارك وتعالى إذا تقرب العبد مني شبرا من الطاعة تقربت منه ذراعا من القبول فإذا تقرب ذراعا تقربت باعا ، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة يقول : قبلت منه.(20)
وعن أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ « لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ ، وَالصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ » .(21)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ رَبَّكُمْ يَقُولُ :كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ وَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ إِنِّى صَائِمٌ ».(22)
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ وَهُوَ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ ».(23)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:"قَالَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ تُعْطِ الْفَضْلَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ تُمْسِكْهُ فَهُوَ شَرٌّ لَكَ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَلا يَلُومُ اللَّهُ عَلَى الْكَفَافِ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى".(24)
ج- وقد يرد بلفظ يَقُولُ اللهُ ، أمثلة :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أُرَاهُ « يَقُولُ اللَّهُ شَتَمَنِى ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِى ، وَتَكَذَّبَنِى وَمَا يَنْبَغِى لَهُ ، أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ إِنَّ لِى وَلَدًا . وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ لَيْسَ يُعِيدُنِى كَمَا بَدَأَنِى »(25).
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 22) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 23) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 23)
(2) - تاج العروس - (ج 1 / ص 4066)
(3) - صحيح البخارى (4826 ) ومسلم (6000 )
(4) - برقم (6737 )
(5) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 4346) رقم الفتوى 24371 الحديث القدسي...معناه..والفرق بينه وبين القرآن
(6) - صحيح البخارى (7405 )
(7) -انظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4995) رقم الفتوى 18457 تعريف الحديث القدسي والنبوي تاريخ الفتوى : 20 ربيع الثاني 1423
(8) - انظر فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 474) الفرق بين القرآن والحديث القدسي
(9) - برقم(2910)
(10) - قسم الحديث والمصطلح - (ج 25 / ص 2)
(11) - صحيح مسلم (6737 ) و قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص )
(12) - سنن أبى داود (4606 ) وهو صحيح يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته
(13) - صحيح البخارى (2270 )
(14) - صحيح مسلم (904 ) الخداج : النقصان
(15) - سنن أبى داود (430 ) وهو حديث حسن
(16) - سنن ابن ماجه (4441 ) وهو صحيح
(17) - مسند أحمد (8942) وهو حديث حسن
(18) - مسند أحمد (12564) صحيح
الهرولة : بين المشى والعدو وهو كناية عن سرعة إجابة الله تعالى
(19) - المستدرك للحاكم (7926) وهو حديث صحيح
(20) - مسند البزار(7129) وهو صحيح
(21) - صحيح البخارى (7538 )
(22) - سنن الترمذى (769 ) وهو حديث حسن الخلوف : تغير ريح الفم
(23) - مسند أحمد (15046) حسن
(24) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 99)(223 ) صحيح لغيره
(25) - صحيح البخارى (3193 )(1/242)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا آدَمُ . فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِى يَدَيْكَ . فَيَقُولُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ » . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ قَالَ « أَبْشِرُوا فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ » . ثُمَّ قَالَ « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، إِنِّى أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ » . فَكَبَّرْنَا . فَقَالَ « أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ » . فَكَبَّرْنَا . فَقَالَ « أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ » . فَكَبَّرْنَا . فَقَالَ « مَا أَنْتُمْ فِى النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِى جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِى جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ » .(1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، ذُخْرًا ، بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ » . ثُمَّ قَرَأَ ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(2).
د- وقد يرد بلفظ إنَّ الله يَقولُ أمثلة :
عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ « أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِى بِهِ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِى صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِى . فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ »(3).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ . يَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ . فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ . فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالُوا يَا رَبِّ وَأَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِى فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا »(4).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِى الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِى ظِلِّى يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّى »(5).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِى فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِى عِنْدَهُ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِى. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِى. قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ اسْتَسْقَاكَ عَبْدِى فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِى ».(6)
هـ - وقد يرد بلفظ فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ،أو عن ربكم أمثلة :
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ : « إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِى مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »(7).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ : « لاَ يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى » . وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ .(8)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ :« إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عَشْراً إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ أَوْ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُضَاعِفَ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ».(9)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ :« أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً فَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِى فَأَنَا بَرِىءٌ مِنْهُ وَهُوَ لِلَّذِى أَشْرَكَ ».(10)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ :« ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِى وَرَجَوْتَنِى غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ ابْنَ آدَمَ إِنْ تَلْقَنِى بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا لَقِيتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً بَعْدَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِى شَيْئاً ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تُذْنِبْ حَتَّى يَبْلُغَ ذَنْبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ تَسْتَغْفِرُنِى أَغْفِرْ لَكَ وَلاَ أُبَالِى »(11).
وعن مُحَمَّدَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ « لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ ، وَالصَّوْمُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ »(12)
و- وقد يرد بلفظ رأيت ربي أمثلة :
عَنْ مَالِكِ بْنِ يَخَامِرَ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى قَرْنَ الشَّمْسِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيعاً فَثُوِّبَ بِالصَّلاةِ وَصَلَّى وَتَجَوَّزَ فِى صَلاَتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ « كَمَا أَنْتُمْ عَلَى مَصَافِّكُمْ ». ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ « إِنِّى سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِى عَنْكُمُ الْغَدَاةَ إِنِّى قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِى فَنَعَسْتُ فِى صَلاَتِى حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ فِى أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَدْرِى فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ لاَ أَدْرِى يَا رَبِّ. قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ لاَ أَدْرِى رَبِّ. فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَىَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدْرِى فَتَجَلَّى لِى كُلُّ شَىْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى قُلْتُ فِى الْكَفَّارَاتِ. قَالَ وَمَا الْكَفَّارَاتُ قُلْتُ نَقْلُ الأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ وَجُلُوسٌ فِى الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلاَةِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ. قَالَ وَمَا الدَّرَجَاتُ قُلْتُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلاَمِ وَالصَّلاَةُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ سَلْ. قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِى وَتَرْحَمَنِى وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِى قَوْمٍ فَتَوَفَّنِى غَيْرَ مَفْتُونٍ وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِى إِلَى حُبِّكَ ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا »(13).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَلَّى لِي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، فَسَأَلَنِي فِيمَا يَخْتَصِمُ الْمَلأُ الأَعْلَى ؟ قَالَ : قُلْتُ : رَبِّي لاَ أَعْلَمُ بِهِ ، قَالَ : فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ - أَوْ وَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ كَتِفَيَّ - فَمَا سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ عَلِمْتُهُ.(14)
هـ- وقد يرد بألفاظ أخرى أمثلة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْقَ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ ، فَقَالَ : مَهْ ، قَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ ، قَالَ : أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ : فَذَلِكَ لَكِ " ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ"(15)
وعَنِ ابْنِ عَقِيلٍ ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ ، أَنَّهُ بَلَغَهُ حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا فَشَدَدْتُ إِلَيْهِ رَحْلِي شَهْرًا ، حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، فَبَعَثْتُ إِلَيْهِ أَنَّ جَابِرًا بِالْبَابِ ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَقَالَ : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَخَرَجَ فَاعْتَنَقَنِي ، قُلْتُ : حَدِيثٌ بَلَغَنِي لَمْ أَسْمَعْهُ ، خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ أَوْ تَمُوتَ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ - أَوِ النَّاسَ - عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا " ، قُلْتُ : مَا بُهْمًا ؟ قَالَ : " لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ - أَحْسَبُهُ قَالَ : كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ - : أَنَا الْمَلِكُ ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَطْلُبُهُ بِمَظْلَمَةٍ " ، قُلْتُ : وَكَيْفَ ؟ وَإِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عُرَاةً بُهْمًا ؟ قَالَ : " بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ "(16)
وعن أبي هُرَيْرَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي , فَقَالَ رَبُّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ , فَغَفَرَ لَهُ , ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ , وَرُبَّمَا قَالَ : ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ , فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي , فَقَالَ رَبُّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَغَفَرَ لَهُ ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا آخَرَ وَرُبَّمَا قَالَ : ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ , فَقَالَ : يَا رَبِّ إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي , فَقَالَ رَبُّهُ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ فَقَالَ رَبُّهُ : غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ "(17)
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ , قَالَ : هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ , رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ , وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا , حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : يَا رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ , فَقَالَ : ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا , وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً , إِنَّهُ تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي "(18)
وعَن أبي هُرَيرة ، قال : قال رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رفعه : إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه.(19)
وعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْعَلَوِيِّ قَالَ : أَتَيْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَالَ : لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - : " حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَوَاصِلِينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَصَافِينَ فِيَّ " أَوْ قَالَ : " حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ "(20)
وعن أبي هريرة قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَهُوَ أَخْبَرُ بِهِ ، فَقَالَ : ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّائِي "(21)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ : كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي النَّجْوَى ؟ ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : " يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفُهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ ، فَيَقُولُ : رَبِّ أَعْرِفُ ، قَالَ : فَيَقُولُ : فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ .(22)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : فَقَدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً أَصْحَابُهُ ، وَكَانُوا إِذَا نَزَلُوا أَنْزَلُوهُ وَسَطَهُمْ فَفَزِعُوا ، وَظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا غَيْرَهُمْ ، فَإِذَا هُمْ بِخَيَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَكَبَّرُوا حِينَ رَأَوْهُ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشْفَقْنَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ اخْتَارَ لَكَ أَصْحَابًا غَيْرَنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا بَلْ . أَنْتُمْ أَصْحَابِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّ اللَّهَ أَيْقَظَنِي فَقَالَ : " يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا إِلَّا وَقَدْ سَأَلَنِي مَسْأَلَةً أَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ ، فَسَلْ : يَا مُحَمَّدُ تُعْطَ . فَقُلْتُ : مَسْأَلَتِي شَفَاعَةٌ لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الشَّفَاعَةُ ؟ قَالَ : " أَقُولُ يَا رَبِّ شَفَاعَتِي الَّتِي اخْتَبَأْتُ عِنْدَكَ ، فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : نَعَمْ . فَيُخْرِجُ رَبِّي بَقِيَّةَ أُمَّتِي مِنَ النَّارِ فَيَنْبِذُهُمْ فِي الْجَنَّةِ "(23)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يُؤْتَى بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُوقَفُ عَلَى الصِّرَاطِ ، فَيُقَالُ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ أَنْ يُخْرَجُوا - وَقَالَ يَزِيدُ : أَنْ يُخْرَجُوا - مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ ، فَيُقَالُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ رَبَّنَا ، هَذَا الْمَوْتُ . ثُمَّ يُقَالُ : يَا أَهْلَ النَّارِ ، فَيَطَّلِعُونَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ مَكَانِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ ، فَيُقَالُ : هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، هَذَا الْمَوْتُ . فَيَأْمُرُ بِهِ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا : خُلُودٌ فِيمَا تَجِدُونَ ، لَا مَوْتَ فِيهِ أَبَدًا "(24)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، رَفَعَهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا الْتَقَى الْخَلَائِقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَدَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ : يَا أَهْلَ الْجَمْعِ ، تَتَارَكُوا الْمَظَالِمَ ، وَثَوَابُكُمْ عَلَيَّ "(25)
و- وقد يرد بقلة بلفظ أوحى الله ، أمثلة
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرِضَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَلائِكَتَهِ، فَيَقُولُ: يَا مَلائِكَتِي أَنَا قَيَّدْتُ عَبْدِي بِقَيْدٍ مِنْ قُيُودِي، فَإِنْ قَبَضْتُهُ، أَغْفِرُ لَهُ، وَإِنْ عَافَيْتُهُ فَجَسَدٌ مَغْفُورٌ لَهُ لا ذَنْبَ لَهُ".(26)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ: يَا خَلِيلِي، حَسِّنْ خُلُقَكَ، وَلَوْ مَعَ الْكَافِرِ تَدْخُلُ مَدْخَلَ الأَبْرَارِ، فَإِنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي، وَأَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ حَظِيرَةِ قُدْسِي، وَأَنْ أُدْنِيَهُ مِنْ جِوَارِي".(27)
وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَا مَرِضَ مُؤْمِنٌ قَطُّ إِلَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَاحِبِ الشِّمَالِ أَنِ ارْفَعِ الْقَلَمَ عَنْهُ ، وَأَوْحَى إِلَى صَاحِبِ الْيَمِينِ أَنِ اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنِّي أَنَا قَيَّدْتُهُ حَتَّى أُطْلِقَهُ أَوْ أُعَافِيهِ "(28)
س- وقد يرد بلفظ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى كما في الأمثلة :
عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَبْغِىَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ».(29)
__________
(1) - صحيح البخارى (3348 )
(2) - صحيح البخارى(4780 )
(3) - صحيح البخارى (3334 )
(4) - صحيح البخارى(6549 )
(5) - صحيح مسلم (6713 )
(6) - صحيح مسلم(6721 )
(7) - صحيح البخارى(7536 )
(8) - صحيح البخارى(7539 )
(9) - مسند أحمد (2881) صحيح
(10) - مسند أحمد (8220) صحيح
(11) - مسند أحمد (22089) وهو حديث حسن
القُراب : قراب الأرض أى بما يقارب ملأها
(12) - صحيح البخارى (7538 ).
(13) - مسند أحمد (22762)والمعجم الكبير للطبراني - (ج 1 / ص 406)(931) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 22)(16640 ) وهوحديث صحيح للغيره
القرن : أول الشمس عند طلوعها وأعلاها وقيل أول شعاعها وقيل ناحيتها
(14) - السنة لابن أبي عاصم (465) صحيح
(15) - الأدب المفرد (51) وهو صحيح
(16) - الأدب المفرد(1007)حسن
(17) - مسلم (7162 -7164)
(18) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ (120) صحيح
(19) - مسند البزار (8471) ومسند أحمد (8716) صحيح
(20) - الآداب للبيهقي ( 174 ) ومسند أحمد (22651) صحيح
(21) - الإيمان ابن مندة (380) وأحمد ( 8443) صحيح
(22) - الإيمان ابن مندة (807) ومسلم (7191 )
أَمَّا ( كَنَفه ) فَبِنُونٍ مَفْتُوحَة ، وَهُوَ : سَتْره وَعَفْوه ، وَالْمُرَاد بِالدُّنُوِّ هُنَا : دُنُوّ كَرَامَة وَإِحْسَان ، لَا دُنُوّ مَسَافَة ، وَاَللَّه تَعَالَى مُ ˆَه عَنْ الْمَسَافَة وَقُرْبهَا .شرح النووي على مسلم - (ج 9 / ص 148)
(23) - أحمد 5/326(23442 ) حسن
(24) - أحمد (7757 ) و البخارى (4730 )
(25) - حسن الظن (116 ) والإتحاف 8/41 ومجمع10/356 (18426 ) وطس(5144) وخط14/32 ابن عمر وموضح1/198 والمطالب العالية (4709 وفيه ضعف
(26) - المستدرك للحاكم(7871) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 183)(7601 ) والصحيحة ( 1613) وصحيح الجامع ( 1673) والشعب ( 9923) وسنده ضعيف وبنحوه ( 9929 و9933و9934و9935) حسن لغيره
(27) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 466)(1115 ) وهو ضعيف
(28) - مسند الشاميين(2439) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 232)(10925) والترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك لابن شاهين(399 ) والذرية الطاهرة للدولابي(190) من طرق وهو حسن لغيره
(29) - سنن أبى داود (4897 ) صحيح(1/243)
وعَنِ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلامُ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنَّ يَعْمَلَ بِهِنَّ ، وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، وَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ بِهِنَّ ، فَأَتَاهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ ، وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَإِمَّا أَنْ تُخْبِرَهُمْ ، وَإِمَّا أَنْ أُخْبِرَهُمْ ، قَالَ : يَا أَخِي لاَ تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ إِنْ سَبَقْتَنِي بِهِنَّ أَنْ يُخْسَفَ بِي وَأُعَذَّبَ ، قَالَ : فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلأَ الْمَسْجِدُ ، وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرُفَاتِ ثُمَّ خَطَبَهُمْ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ ، وآمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ أُولاهُنَّ أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا ، فَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ ، أَوْ وَرِقٍ ، ثُمَّ أَسْكَنَهُ دَارًا ، فَقَالَ : اعْمَلْ ، وَارْفَعْ ، إِلَيَّ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيَرْفَعُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَلا تَلْتَفِتُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ إِلَى وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةُ مِسْكٍ ، كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَجِدَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَ الصِّيَامِ كَرِيحِ الْمِسْكِ ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَمَثَلُ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَرَّبُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَجَعَلَ ، يَقُولُ : هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ ، وَجَعَلَ يُعْطِي الْقَلِيلَ ، وَالْكَثِيرَ حَتَّى فَدَى نَفْسَهُ ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا ، وَمَثَلُ ذِكْرِ اللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ حَتَّى أَتَى حِصْنًا حَصِينًا ، فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يَنْجُو مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ "(1)
وعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ : أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ : سَهَّلْتُ لَهُ طَرِيقَ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ سَلَبْتُ كَرِيمَتَيْهِ : أَثَبْتُهُ عَلَيْهِمَا الْجَنَّةَ ، وَقَصْدٌ فِي عِلْمٍ خَيْرٌ مِنْ فَضْلٍ فِي عِبَادَةٍ ، وَمِلَاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ "(2)
وهذا كله في أول الحديث ، وقد يرد في وسط الحديث النبوي أو آخره ، أمثلة
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ . وَقَالَتِ الْجَنَّةُ مَا لِى لاَ يَدْخُلُنِى إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتِى أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِى . وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِى . وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا ، فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطٍ قَطٍ قَطٍ . فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا »(3).
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِىُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ « هَلْ تُمَارُونَ فِى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « فَهَلْ تُمَارُونَ فِى الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ » . قَالُوا لاَ . قَالَ « فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الْقَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا ، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ . فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ . فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا . فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلاَّ الرُّسُلُ ، وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ . وَفِى جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللَّهُ ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، أَمَرَ اللَّهُ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ ، فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَهْوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ ، مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِى عَنِ النَّارِ ، قَدْ قَشَبَنِى رِيحُهَا ، وَأَحْرَقَنِى ذَكَاؤُهَا . فَيَقُولُ هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ . فَيُعْطِى اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ ، فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الْجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ قَدِّمْنِى عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ . فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنْتَ سَأَلْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ . فَيَقُولُ فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ . فَيُعْطِى رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا ، فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَدْخِلْنِى الْجَنَّةَ . فَيَقُولُ اللَّهُ وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِى أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِى أَشْقَى خَلْقِكَ . فَيَضْحَكُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ ، ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِى دُخُولِ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ تَمَنَّ . فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَمَنَّ كَذَا وَكَذَا . أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِىُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ لأَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنهما - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قَالَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ قَوْلَهُ « لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ « ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ »(4).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِى لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ».(5)
وقد يرد بآخره كما في الأمثلة التالية :
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، أُوتِىَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا ، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ، ثُمَّ أُوتِىَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا ، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ، ثُمَّ أُوتِينَا الْقُرْآنَ فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ أَىْ رَبَّنَا أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلاً ، قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَىْءٍ قَالُوا لاَ ، قَالَ فَهْوَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ »(6).
وعَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِى هَذَا الْمَسْجِدِ ، وَمَا نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا ، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ ، فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَادَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ »(7).
وعَنْ رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ حَدَّثَهُمْ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَقَالُوا أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا قَالَ لاَ. قَالُوا تَذَكَّرْ. قَالَ كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِى أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ - قَالَ - قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَجَوَّزُوا عَنْهُ »(8).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَوْ زَارَهُ ، قَالَ اللَّهُ لَهُ : طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ ، وَتَبَوَّأْتَ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ "(9)
وقد يكون ضعيفا كما في الأمثلة التالية :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاَثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِى عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ »(10).
وعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَ رَبُّكُمْ : مَنْ خَرَجَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِي ابْتِغَاءَ وَجْهِي فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ ، إِنْ أَنَا قَبَضْته فِي وَجْهِهِ أَدْخَلْته الْجَنَّةَ , وَإِنْ أَنَا أَرْجَعْته أَرْجَعْته بِمَا أَصَابَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ.(11)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمُودًا مِنْ نُورٍ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اهْتَزَّ ذَلِكَ الْعَمُودُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " اسْكُنْ " . فَيَقُولُ : يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَسْكُنُ وَلَمْ تَغْفِرْ لِقَائِلِهَا ؟ فَيَقُولُ : " إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ " . فَيَسْكُنُ عِنْدَ ذَلِكَ "(12)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ، قَالَ : " أَرْبَعُ خِصَالٍ ، وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لِي ، وَوَاحِدَةٌ لَكَ ، وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ ، وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي : فَأَمَّا الَّتِي لِي : يَعْبُدُنِي لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا . وَأَمَّا الَّتِي لَكَ عَلَيَّ : فَمَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ جَزَيْتُكَ بِهِ . وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ : فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ . وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي : فَارْضَ لَهُمْ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ "(13)
قلت : وقد يكون ساقطا أو موضوعاً كما في الأمثلة التالية :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ اعْتَكَفَ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ ، يَقْرَأُ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ مَرَّةً وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ، وَفِي الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ مَرَّةً ، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ مَرَّةً ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ مَلَكًا ، مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ عَشْرَةُ أَمْلَاكٍ مَعَهُمْ أَطْبَاقٌ مِنْ أَطْبَاقِ الْجَنَّةِ ، وَمَنَادِيلُ مِنْ مَنَادِيلِ الْجَنَّةِ ، فَيَحْمِلُونَ تِلْكَ الصَّلَاةَ عَلَى تِلْكَ الْأَطْبَاقِ ، ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِفَوْجٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا اسْتَغْفَرُوا لِصَاحِبِهَا . فَإِذَا وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ ، قَالَ اللَّهُ : " عَبْدِي لِي صَلَّيْتَ وَإِيَّايَ عَبَدْتَ فَاسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ "(14)
وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : قُمْ . فَقَامَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ . فَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ . فَأَقْبَلَ ، فَقَالَ لَهُ : مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَلَا أَحْسَنُ مِنْكَ وَلَا أَكْرَمُ مِنْكَ وَلَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ ، بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي ، وَبِكَ أُعْرَفُ ، وَلَكَ الثَّوَابُ وَعَلَيْكَ الْعِقَابُ "(15)
6- تنبيهان حول الحديث القدسي :
التنبيه الأول - هو منقول بطريق الآحاد كعامة الأحاديث النبوية، فإنها يعتريها ما يعتري سائر ألفاظ أحاديث الآحاد من أداء بعض الألفاظ بالمعنى ، أو باختلاف يسير في اللفظ ، وبزيادة بعض الرواة على بعض فيها ، وليس ذلك بالكثير .
وكذلك فإنه يطرأ عليه ما يطرأ عليها من صحة وحسن وضعف ووضع ، بل إنه لا قبال العامة عليه كان مجالا لاختراع الكذابين واختلاق الوضاعين ، مما يستلزم ضرورة النظر في أسانيده ، وفحص متونه ، ليعرف صحيحه من سقيمه .
التنبيه الثاني - الحديث القدسي لا يتعرض لتفصيل الأحكام الفقهية ، ولا لبيان الشرائع التعبدية كالحديث النبوي ، ولكنه يركز على بناء النفس الإنسانية وتقويمها ، وتربيتها على الأغراض الشرعية ،والمقاصد الربانية ، فتجده وارداً في حضِّ النفس على الطاعات والمندوبات ، وفي تحذيرها من المعاصي والمنكرات ، وفي الدعوة إلى الخير والفضيلة ومكارم الأخلاق ، وفي توجيه النفس إلى حبِّ الله تعالى وطلب رضاه ، وفي الترغيب في الجنة والتخويف من النار ، وبالجملة فإنه يدور في فلك الوعظ والتوجيه والتربية ..
التنبيه الثالث- ليس للحديث القدسي قوة إعجاز خاصة القرآن الكريم ، ولكنه لجلالة نسبته ، ولطف موضوعه كان له موقع خاص في السمع ، واستقبال متميز في النفس ، وأثر ظاهر في الشعور والوجدان .
7- أشهر المصنفات فيه :
لقد ألفت كتب كثيرة في الأحاديث القدسية ، ومن أشهرها :
1-الإتحافات السَّنِية بالأحاديث القدسية ، لعبد الرؤوف المُناوي المتفى عام (1025هـ) جَمَع فيه / 272/ حديثاً، وهو مرتب على حروف المعجم ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف والواهي .
2- كتاب ( الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية ) للشيخ علي المدني ، وقد ضمنه ثمان مائة وأربعة وستين حديثاً ، رتبها على ثلاثة أبواب :
أولها ماكان مبدوءاً بلفظ (قال) ، والثاني ما كان مبدوءاً بلفظ(يقول) ، والأخير ما لم يكن مبدوءاً بواحد مهما ، وهذا الأخير مرتب على الحروف مع مارعاة الحرف الثاني .
وهذه الأحاديث في هذين الكتابين - ولا سيما الثاني منهما- لم تؤخذ من مصادرها مباشرة ، وإنما أخذت من كتاب جمع الجوامع للسيوطي من وغيره قليلاً .
وهذان الكتابان للمناوي والمدني لم يقصد بهما الجمع والاستيعاب ، فقد فاتهما من الأحاديث القدسية الكثير ، فضلاً عن كون أحاديثهما غير محققة ، لا يتميز فيها المقبول من المردود ، والصحيح من الضعيف ، ولا أثبتت أسانيدها فيتتبعها الباحث المحقق بالتمحيص والنقد ، ولا حددت مواضع وجودها في مظانها التي نقلت عنها ، فيسهل العثور عليها في مصادرها الأصلية ،كما أن ترتيبها على غير النظام الموضوعي قد قلل من الاستفادة منها ، لأنها فرقت بين أحاديث الموضوع الواحد فجعلتها في مواضع متفرقة من الكتاب .
3- كتاب ( الأحاديث القدسية ) الذي أعدته لجنة القرآن والحديث بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية في الأزهر ، وعدة أحاديثه أربعمائة حديث مرتبة ترتبياً موضوعيًّا ، مما يسهل الانتفاع بها ، إلا أن أحاديثه قد جمعت من الكتب الستة ومن موطأ الإمام مالك ،دون غيرها من كتب السنة ، ففاته طائفة كثيرة جدًّا من الأحاديث القدسية ، وكذلك فإن أحاديثه التي أخذت من غير الصحيحين أكثرها يحتاج إلى معرفة صحته من ضعفه .
__________
(1) - المستدرك للحاكم (1534) وسنن الترمذى(3102) صحيح
(2) - الشعب ( 5751) و(5511 ) جامع الحديث وصحيح الجامع ( 1727) صحيح لغيره
(3) - صحيح البخارى -(4850 )
(4) - صحيح البخارى(806 )
الذكاء : لهب النار واشتعالها قشبنى : سمنى وأهلكنى امتحشوا : احترقت جلودهم حتى ظهرت العظام
(5) - صحيح مسلم(2763 ) -الخلوف : تغير ريح الفم
(6) - صحيح البخارى (557 )
(7) - صحيح البخارى (3463 )
(8) - صحيح مسلم (4076 )
(9) - الأدب المفرد ( 345) وسنن الترمذى(2139 ) وصحيح ابن حبان - (ج 7 / ص 228) (2961) حسن
(10) - مسند أحمد (9225) فيه جهالة ولكنه حسن لغيره
(11) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 5 / ص 319)(19776) صحيح مرسل
(12) - التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (1) ومسند البزار (8065) وقال :وهذا الحديث لاَ نعلمُهُ يُرْوَى عَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ من هذا الوجه بهذا الإسناد ، وعَبد اللهِ بن إبراهيم بن أبي عمرة ليس بالقوي في الحديث ، وَإنَّما ذكرنا هذا الحديث لحسن كلامه.
قلت : وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا .
(13) - التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (151) والشعب (1124 ) وأبو يعلى (2694) وفيه صالح المري ضعيف
(14) - الترغيب بفضائل الأعمال لابن شاهين (114) وفيه نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ كذاب، قال في تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 567 ](7210 ) نوح بن أبي مريم أبو عصمة المروزي القرشي مولاهم مشهور بكنيته ويعرف بالجامع لجمعه العلوم لكن كذبوه في الحديث وقال بن المبارك كان يضع من السابعة مات سنة ثلاث وسبعين ت فق
(15) - التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ (253 ) وجامع الأحاديث القدسية - (ج 1 / ص 65)(1115) وهو موضوع فيه سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ ، سُفْيَانَ كذاب ،انظر تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 262 ](2726 )(1/244)
4- من الأحاديث القدسية للداعية ياسين رشدي ، وفيه مجموعة من الأحدايث القدسية مع شرحها ، ولكنه لم يقم بتخريجها ، ولم يلتزم الصحة فيها .
وقد ابتدأها بالحديث : "«ابْنَ آدَمَ عِنْدَكَ مَا يَكْفِيكَ وَأَنْتَ تَطْلُبُ مَا يُطْغِيكَ , ابْنَ آدَمَ لاَ بِقَلِيلٍ تَقْنَعُ وَلاَ مِنْ كَثِيرٍ تَشْبَعُ , ابْنَ آدَمَ إِذَا أَصْبَحْتَ مُعَافًا فِي بَدَنِكَ آمِنًا فِي سِرْبِكَ عِنْدَكَ قُوتُ يَوْمِكَ فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ » وقال : رواه ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر ، ولم يزد على ذلك .
قلت : هو في المعجم الأوسط للطبراني (9122 ) والشعب (9975 ) والشاميين(450) كلهم من طريق أبي بَكْرٍ الدَّاهِرِيُّ ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه به ، والداهري ساقط الرواية لا يحل الاحتجاج به ، وقد تفرد به(1)
وقد تابعه من هو شر منه كما في أمالي ابن مردويه(2)من طريق سلام بن سليمان المدائني ، نا سلام الطويل ، عن إسماعيل بن رافع ، عن خالد بن المهاجر ، عن عمر ، رضي الله عنه به.
وسلام وشيخه وشيخ شيخه كلهم من الساقطين في الرواية(3)
قلت : ويغني عنه حديث « مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِى سِرْبِهِ مُعَافًى فِى جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ».(4)
قلت : وهو يستشهد في شرحه بأحاديث غير ثابتة ، وكان الواجب عليه التحري في نقل الأحاديث ، أو سؤال من هو أعلم منه بذلك ، فلو اكتفى بالصحيح والحسن والضعيف ضعفاً يسيرا لهان الخطب ، ولكنه يروي ما هبَّ ودبَّ !!
5- الصحيح المسند من الأحاديث القدسية تأليف مصطفى العدوي ، طبع دار الصحابة للتراث .
وقد اقتصر على الأحاديث الصحيحة المسندة ، والصريحة بأنها قدسية ، كما ذكر في مقدمة كتابه ، وقد قام بشرحها كذلك ، وعددها حوالي (185) حديثا ، ولكنها تحتوي على المكرر ، وقد فاته أحاديث صحيحة وحسنة أخرى
6- جامع الأحاديث القدسية ، موسوعة جامعة مشروحة ومحققة .تأليف أبو عبد الرحمن عصام الدين الضبابطي ، وهي مطبوعة في ستة أجزاء بثلاثة مجلدات
وهو كتاب جامع ، فقد تصدَّى لجمع واستيعاب الحديث القدسي من جملة دواوين السنَّة ، وكتبها المطبوعة ، وقد بلغت أحاديثه حوالي الف ومائة وخمسين حديثا ، وهو أكبر عدد ضمَّه مصنَّف في الحديث القدسي .
وهو كتاب مرتب بطريقة سهلة تيسِّر كثيرا من الفوائد ، وتحقق كثيرا من المقاصد ، فهو مرتب ترتيبا موضوعيا على الكتب والأبواب كترتيب الكتب الحديثية، ثم على رواته من الصحابة من داخل الأبواب.
وقام بتخريج أحاديثه من مصادرها ، وبذا يكون مرجعاً حديثيًّا في التخريج ..
وفيه فهارس لأطراف هذه الأحاديث في آخر الكتاب .
وهو كتاب محقق الأسانيد ، من صحيح وحسن وضعيف وغيره ...
وقد تضمن الكتاب شرح الكلمات والمعاني الغريبة شرحاً يفي بالغرض دون إطالة أو إملال ، ولا يخلو من تعليقات نفيسة منقولة عن أئمة أهل العلم ، أو من المؤلف(5)
قلت : وهو يذكر الحديث بسنده الكامل ، كما ورد في مصدره ، مما يغني عن العودة للأصل .
ولي عليه بعض الملاحظات :
الأولى - أنه قد كرر الحديث نفسه منذ بداية الكتاب ، فالحديث الأول عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ « أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا .. فقد كرره ثلاث مرات ، وإن كان هناك بعض الاختلاف في اللفظ ، ولكنه حديث واحد .مما يجعل هذا العدد الذي ذكره مبالغاً فيه .
الثانية - بعض الأحاديث التي ضعفها ، قلد فيها غيره ، والصواب أنها غير ضعيفة مثل الحديث رقم (15) والصواب أنه حسن والحديث رقم (31 ) الصواب أنه حسن ، ونحو ذلك ، فيؤخذ ما صححه أو حسنه ، ويتأكد مما ضعفه .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر لسان الميزان[ ج 3 - ص 277 ] 1164
(2) - - (ج 1 / ص 23)(22 )
(3) - وانظر كشف الخفاء من المحدث - (ج 1 / ص 38)(48) و سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (ج 2 / ص 123)(677 ) وقد حكم بوضعه
(4) - ت (2346) و هـ (4141) وحميدي (439) وعقيلي 2/146 وحب (2503) ومجمع 10/289 وحلية 5/249 وكر 2/289 وجرجان 364 والإتحاف 9/87 و 276 وصحيح الجامع (6042) وخد (300) والشعب (10360 - 10362) من طرق والإصابة(4318) والآحاد والمثاني(2126) صحيح لطرقه
(5) - انظر الجزء الأول 1-24(1/245)
الحديثُ المَرْفُوعُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: اسم مفعول من فعل " رَفعَ " ضد وَضَعَ " كأنه سُمي بذلك لنِسْبَتِهِ إلى صاحب المقام الرَّفيع، وهو النبي صلي الله عليه وسلم.
ب) اصطلاحاً: اختلفَ في حدِّ الحديثِ المرفوعِ، فالمشهورُ أنَّهُ: ما أُضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً له، أو فعلاً سواءٌ أضافَهُ إليه صحابيٌّ أو تابعيٌّ ، أو مَنْ بعدَهما ، سواءٌ اتّصلَ إسنادُهُ أم لا .
وقال الخَطيب(2): وَالْمَرْفُوعُ : مَا أَخْبَرَ فِيهِ الصَّحَابِيُّ عَنْ قَوْلِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ فِعْلِهِ.
قال الحافظ ابن حجر(3): الظَّاهر أنَّ الخَطِيب لم يَشْترط ذلكَ, وأنَّ كلامه خرج مَخْرج الغالب, لأنَّ غالب ما يُضَاف إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما يُضيفه الصَّحابي.
وقال ابن الصَّلاح(4): ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مُقَابلة المُرسل - أي: حيث يقولون مثلا: رفعهُ فُلان, وأرسله فُلان - فقد عنى بالمرفوع المُتَّصل.
2- شرحُ التعريف :
أي هو ما نُسِبَ أو ما أُسْنِدَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء كان هذا المضاف قولا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعلا أو تقريراً أو صفة وسواء كان المُضِيْفُ هو الصحابي أو من دونه ، متصلا كان الإسناد أو منقطعاً ، فيدخل في المرفوع الموصول والمرسل والمتصل والمنقطع ، هذا هو المشهور في حقيقته.(5)
ويعتاض عن اللفظ الصريح بالإضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقول مثلاً : ( عن أبي هريرة مرفوعاً ) ويساق لفظ الحديث ، دون ذكر : ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، ويقع هذا اختصاراً ، لكن لا ينبغي فيما أرى استعماله في الأحاديث الصحيحة ، من أجل ما يفوت به من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة والتسليم عليه .(6)
3- أنواعُه:
يتبين من التعريف أن أنواع المرفوع أربعة وهي:
المرفوع القولي .
المرفوع الفعلي.
المرفوع التقريري.
المرفوع الوصفي .
4- أمثلةٌ:
أ) مثال المرفوع القولي : أن يقول الصحابي أو غيره : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا ...... " .
كما في صحيح البخارى برقم (8 ) عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالْحَجِّ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ » .
وقد يرد بلفظ مرفوعاً فقط ، مثاله عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، مَرْفُوعًا إِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ، أَنْ يُكْثُرَ فِيهِمُ الْمَالُ حَتَّى يَتَنَافَسُوا فِيهِ ، فَيَقْتَتِلُوا عَلَيْهِ ، وَإِنَّ مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي ، أَنْ يُفْتَحَ لَهُمُ الْقُرْآنُ ، حَتَّى يَقْرَأْهُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيُحِلُّ حَلالَهُ الْمُؤْمِنُ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ "(7)
وعَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا :« أعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ وَأَعْلِمْهُ أَجْرَهُ وَهُوَ فِى عَمَلِهِ »(8).
وبلفظ رفعه فقط ، فعَنْ أَبِى صَالِحٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَرَّةً قَالَ « تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِى كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا »(9).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ - أُرَاهُ رَفَعَهُ - قَالَ « لاَ غِرَارَ فِى تَسْلِيمٍ وَلاَ صَلاَةٍ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ ابْنُ فُضَيْلٍ عَلَى لَفْظِ ابْنِ مَهْدِىٍّ وَلَمْ يَرْفَعْهُ.(10)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا »(11).
وجاء بلفظ يرفعه فقط ، فعَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ « أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِى الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِى بِهِ قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِى صُلْبِ آدَمَ أَنْ لاَ تُشْرِكَ بِى . فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ »(12).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ « إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِى عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ »(13).
وبلفظ يبلغ به ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِى ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ) »(14).
فهو عند أهل الحديث من قبيل المرفوع الصريح في الرفع. والله أعلم.
ب) مثال المرفوع الفعلي : أن يقول الصحابي أو غيره : " فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا ......... " .
كما في صحيح البخارى برقم (1693 )عَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهم - لأَبِيهِ أَقِمْ ، فَإِنِّى لاَ آمَنُهَا أَنْ سَتُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ . قَالَ إِذًا أَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ قَالَ اللَّهُ :( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِى الْعُمْرَةَ . فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ، قَالَ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَقَالَ مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ . ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْىَ مِنْ قُدَيْدٍ ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
وعَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ أَنَّهُمَا دَخَلاَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ أَصَلَّى مَنْ خَلْفَكُمْ قَالاَ نَعَمْ. فَقَامَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ رَكَعْنَا فَوَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جَعَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(15)
ج) مثال المرفوع التقريري: أن يقول الصحابي أو غيره " فُعِلَ بحَضْرَة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا " ولا يروي إنكاره لذلك الفعل.
كما في سنن أبى داود برقم (334 ) عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ احْتَلَمْتُ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِى الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ». فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى مَنَعَنِى مِنَ الاِغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.( وهو حديث صحيح )
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ - خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَهْدَتْ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا ، فَدَعَا بِهِنَّ فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ ، وَتَرَكَهُنَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - كَالْمُسْتَقْذِرِ لَهُنَّ ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ .(16)
د) مثال المرفوع الوصفي : أن يقول الصحابي أو غيره : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً " .
كما في صحيح مسلم برقم (1532 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ،فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلاَةُ وَهْوَ فِى بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ ثُمَّ يُنْضَحُ ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ.
5-مسائل هامة
المسألة الأولى : يقع في : إطلاق السلف من الأئمة لفظ ( المسند ) يريدون به الحديث المرفوع المتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
المسألة الثانية : إذا حدَّث صحابي بالشيء فوجد فيه من القرينة ما يدلُّ على كونه تلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو حديث مسند مرفوع .
وهل من هذا قول التابعي عن الصحابي : ( يرفع الحديث ) أو ( ينميه ) أو ( يبلغ به ) أو ما في معناه، دون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
الجواب : نعم , هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (17)
وذلك مثل : ما أخرجه أبو يعلى الموصليُّ حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، يَرْفَعُ الْحَدِيثَ قَالَ : " لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ".(18)
وقيل لأحمد بن حنبل : إذا قال : ( يرفع الحديث ) فهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " فأيُّ شيء ؟ "(19)
أي : فعمن يكون إن لم يكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
لكن يجب قصر ذلك على قول الصحابي خاصة ، فأما إذا قاله التابعي فمن دونه ، فلا ينزَّلُ منزلة المراسيل فيما أرجحه .
وذلك أني وجدتهم يعنون بتلك العبارة : يسنده إلى من فوقه ، وذلك أحد رواة الخبر .
مثل : ما حدث به مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ فِيمَا أُرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ تَرَكَ الْحَيَّاتِ مَخَافَةَ طَلَبِهِنَّ فَلَيْسَ مِنَّا مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ »(20).
فإن قلت : إنما تبين أن قوله : ( يرفع الحديث ) ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بقرينة ذكر ابن عباس ، فإن خلا من القرينة ، فينبغي أن يكون له حكم المرسل .
قلت : لما استخدموا العبارة المذكورة في مجرد الارتقاء بإسناد الخبر إلى درجة أعلى في الإسناد ، وصحَّ أن تكون تلك الدرجة هي الصحابي هنا ، مع عدم وجود تنصيص منهم يُفسر مرادهم ويحصره فيما عرفناه بالاصطلاح في معنى المرفوع ، فإن احتمال إرادة كونه عن أي قائل أو غافل فوق الراوي قائل تلك العبارة ودون النبي - صلى الله عليه وسلم - : احتمال قوي .
إلا أن نقف على ذلك الخبر من وجه معتبر مرفوعاً صراحة من قبل الراوي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وليس من هذا قول أهل العلم المتأخرين اختصاراً في نقل الأحاديث من كتب الرواية ( مرفوعاً ) مثلاً ، فإنا قد علمنا أنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياقه في مصدره من كتب الحديث المسندة ، وإن كان تحاشي ذلك خاصة في الأحاديث الثابتة أولى ، كما تقدم التنبيه عليه .
المسألة الثالثة : قول الصحابي : ( قال : قال ) دون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل هو مرفوع ؟
هذه صورة نادرة الورود في روايات الحديث .
مثالها : ما حدث به شَاذَانُ ، أنا شُعْبَةُ ، أَخْبَرَنِي إِدْرِيسُ الْأَوْدِيُّ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ : " لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ وَهُوَ يَجِدُ الْخَبَثَ "(21).
فتحرير هذه المسألة : أن هذه الصورة بمجردها لا تفيد رفع الحديث ، بل هو موقوف من هذا الوجه ، وهذا المثال المذكور مما اختلف فيه على شعبة أصلاً رفعاً ووقفاً ، ولا يكاد يوجد لهذه المسألة مثال يسلم من علة ، وعليه فيحول ذلك دون القول : إن هذه الصيغة تفيد الرفع .وما ذكر عن محمد بن سيرين بخصوص ذلك مِن تركه رفع الحديث أحياناً وهو عنده مرفوع ، فهو أمر غير مطرد على التحقيق .
وقال الخطيب في الكفاية ( 1283 ) قَرَأْتُ فِي أَصْلِ كِتَابِ دَعْلَجِ بْنِ أَحْمَدَ ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبٍ الْبَرْقَانِيُّ ، أنا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ صَغِيرَةَ ، حَدَّثَنَا دَعْلَجٌ ، ثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ , بِحَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ , عَنْ مُحَمَّدٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : قَالَ : " الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ " قَالَ مُوسَى : إِذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَالْبَصْرِيُّونَ قَالَ : قَالَ , فَهُوَ مَرْفُوعٌ قَالَ الْخَطِيبُ : لِلْبُرْقَانِيِّ : أَحْسَبُ أَنَّ مُوسَى عَنَى بِهَذَا الْقَوْلِ أَحَادِيثَ ابْنِ سِيرِينَ خَاصَّةً , فَقَالَ : كَذَا يَجِبُ . قَالَ الْخَطِيبُ : وَيُحَقِّقُ قَوْلَ مُوسَى هَذَا (1284 ) مَا أَخْبَرَناهُ ابْنُ الْفَضْلِ ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ ، ثنا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ ، ثنا بِشْرُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ خَالِدٍ , قَالَ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : " كُلُّ شَيْءٍ حَدَّثْتُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ مَرْفُوعٌ " فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ الَّذِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَالْحَدِيثُ الَّذِي بَعْدَهُ عَنْ بُرَيْدَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ لَيْسَا مِمَّا يُعَدُّ مَرْفُوعًا , وَإِنَّمَا شُبِّهَ فِيهِمَا بِالرَّفْعِ , وَقَدْ وَرَدَا مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا مَرْفُوعَيْن
قلت : فهذا المثال لايصلح أن تُبْنى عليه قاعدة ، وقول موسى بن هارون الحمَّال غير صحيح الإطْلاق ، وما حسبه الخطيب من كون ذلك هناك محصوراً فيما يرويه ابن سيرين خاصة عن أبي هريرة صواب ، ما لم تكن هناك قرينة في سياق الخبر تجعله على أصل الوقف .
وواقع الأمر أن ابن سيرين حدَّث عن أبي هريرة بأحاديث لم يكن يذكر فيها الرفع الصريح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي محفوظة من حديث أبي هريرة مرفوعاً ، أحياناً يوجد ذلك من رواية ابن سيرين نفسه عن أبي هريرة ، يكون حدَّث به عنه لا يذكر الرفع ، وتارةً يذكره ، كما يكون مرفوعاً من رواية غير ابن سيرين عن أبي هريرة .
وهذا ما جاءت به الطرق للحديث المذكور ، فإنه رواه من البصريين : أيوب السخستاني(22)، وهشام بن حسان(23)وعمران بن مسلم القصير(24)جميعاً عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به .
واستدل الخطيب لما حسب بقول ابن سيرين : " كل شيء حدثت عن أبي هريرة فهو مرفوع "(25).
وصح عن محمد بن سيرين : أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة ، فقيل له : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : " كل حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "(26).
قال الطَّحاوي : " وإنما كان يفعل ذلك ؛ لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "(27).
وفي هذا عن ابن سيرين فائدة خاصة ، وهي أن الخبر إذا جاء عنه عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً ، فإن ذلك لا يعدُّ من الاختلاف القادح في صحة الرفع ، بل الحكم بالرفع متعين .
المسألة الرابعة : ما لا يقال مثله بمجرد الاجتهاد ، فالأصلُ أن يكون مرفوعاً حكماً .
وذلك كتحديث الصحابي بما لا سبيل إلا معرفته إلا عن طريق الوحي ، مع ضميمةِ أن لا يكون الصحابي يحدِّث بالإسرائيليَّات فيما يمكن أن يكون من أخبار أهل الكتاب مثل : ما يتصل بأخبار السابقين وبدء الخلق ومستقبل الزمان ، ومن أشهر من عرف من الصحابة بالتحديث عن أهل الكتاب : عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأبو هريرة ( بقلة )، وربَّما وقع لغيرهما ، خُصوصا من نزل الشام من الصحابة .
ولما كان قد يعسرُ تبيُّن إن كان الصَّحابيُّ حمل الرواية عن أهل الكتاب ، أو كان بتوقيف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من أجل أنه ليس لدينا ما يقطع في هذا ، إنما هو قائم على المظنة ، فالتحري يوجب أن يرد في سياق الخبر قرينة غير ما تقدم تدلُّ على ضعف احتمال أن يكون من أخبار أهل الكتاب .
وذلك كقول أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ "(28)..
فأبو سعيد ليس معروفاً بالتحديث بالإسرائيليَّات ، وحدث بشيء هو مما اختُصت به هذه الأمة ، وهو فضل قراءة سورة الكهف ، وهي مما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر البيت العتيق وليس لأهل الكتاب فيه شأن .
ومما يجب أن يحتاط فيه من هذه الصورة ،ما يقوله الصحابي من إثبات تحليل أو تحريم ، فمن الناس من يدعي أن له حكم الرفع ، وهذا خطأ ، فإن الصحابة كانوا يُفتون الناس في الحلال والحرام ، وكما وسع من بعدهم من العلماء أن يحلُّوا ويحرموا باجتهادهم فيما لا نص فيه ، فعلماء الصحابة هم سادة المجتهدين لهذه الأمة ، وقد سبقوا إلى أن قالوا باجتهادهم فأحلُّوا وحرموا ، واختلفوا في المسائل بسبب ذلك .
المسألة الخامسة : بَابٌ فِي حُكْمِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا , وَمِنَ السُّنَّةِ كَذَا هَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَهْيِهِ , أَوْ يَجُوزُ كَوْنُهُ أَمْرًا وَنَهْيًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ
قال الخطيب في الكفاية :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ : " أُمِرْنَا , أَوْ قَالَ نُهِينَا أَلَّا نَزِيدَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى : وَعَلَيْكُمْ "
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ , قَالَ : " نُهِينَا أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ "
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ : " إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ".
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 268) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 1 / ص 35) والتقريرات السنية - (ج 1 / ص 20) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 60) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 124)
(2) - الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي - (ج 1 / ص 38)
(3) - النكت 1/511
(4) - علوم الحديث ص 66
(5) - انظر شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 60) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 124)
(6) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 16)
(7) - المستدرك للحاكم(3139) وصححه ووافقه الذهبي وهو حديث حسن
(8) - ابن ماجـ ( 2443) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 6 / ص 120)(11988) وطص 1/20 (34) ومطالب (1421) ومجمع 4/97و98 وترغيب 3/23 وحلية 7/142 ونصب 4/129 وتلخيص 3/59 وع (6682) والإتحاف 5/459 والشهاب(743) وخط 5/33 وعدى 4/1352 و1496و5/1820و6/2235 وأصفهان 1/221 وصحيح الجامع (1055) وهو صحيح لغيره
(9) - صحيح مسلم (6711 ) اركوا : أخروا
(10) - سنن أبى داود(930 ) صحيح الغرار : النقصان
(11) - سنن أبى داود(3385 ) حديث حسن
(12) - صحيح البخارى (3334 )
(13) - صحيح البخارى(6664 )
(14) - صحيح البخارى (4881 )
(15) - صحيح مسلم(1221)
(16) - صحيح البخارى(5389 )
الأقط : اللبن المحمض يجمد حتى يستحجر ويطبخ أو يطبخ به الأضب : جمع الضب وهو حيوان معروف
(17) - وانظر : الكفاية ، للخطيب ( ص : 587 ) .
(18) - مُسند أبي يعلى ( رقم : 720 ) و( 692 ) جامع الحديث وإسناده صَحيح . وأبو خيْثمة هو الحافظ زُهير بنُ حرب .
(19) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ( ص : 586 ) عن كتاب " العلل " للخلال .
(20) - سنن أبى داود (5252 ) صحيح
(21) - أخرجه الخطيب في " الكفاية " ص : 588 )(1280) وإسناده صحيح .
(22) - أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " رقم (2210 ) ومُسلم في " صحيحه " ( 1 / 459 ) .
(23) - أخرجه أبو نعيم في " الحلية " ( 8 / 138 رقم : 11631 ) .
(24) - أخرجه عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " ( ص : 21 ) وابن عدي في " الكامل " ( 6 / 169 ) .
(25) - أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " ( 3 / 22 ) ومن طريقه : الخطيب في " الكفاية " ( ص : 589 ) وإسناده صحيح .
(26) - أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار " ( 1 / 20 ) وإسناده جيد .
(27) - شرح معاني الآثار ( 1 / 20 ) .
(28) - فضائل القرآن لابن سلام ( 380 ) وهو صحيح ، واختلف فيه رفعاً ووقفاً ، والصواب موقوف من جهة الإسناد ، مرفوع من جهة المعنى(1/246)
قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : أُمِرْنَا بِكَذَا , عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ : يَجِبُ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ , لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَعْنِيَ بِذَلِكَ أَمَرَ الْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ , كَمَا أَنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ , وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ : أُمِرْنَا بِكَذَا فَإِنَّمَا يَقْصِدُ الِاحْتِجَاجَ لِإِثْبَاتِ شَرْعٍ , وَتَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ , وَحُكْمٍ يَجِبُ كَوْنُهُ مَشْرُوعًا , وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِأَمْرِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ , إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَمْرًا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , وَثَبَتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ لَهُمْ غَيْرُ صَحِيحٍ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ : أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا , لِيُخْبِرَ بِإِثْبَاتِ شَرْعٍ وَلُزُومِ حُكْمٍ فِي الدِّينِ , وَهُوَ يُرِيدُ أَمْرَ غَيْرِ الرَّسُولِ وَمَنْ لَا يَجِبُ طَاعَتُهُ , وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِقَوْلِهِ , وَأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَمْرَ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ لَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَمْرَ مَنْ يَثْبُتُ بِأَمْرِهِ شَرْعٌ , وَهَذِهِ الدِّلَالَةُ بِعَيْنِهَا تُوجِبُ حَمْلَ قَوْلِهِ : مِنَ السُّنَّةِ كَذَا عَلَى أَنَّهَا سُنَّةُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - , فَإِنْ قِيلَ : هَلْ تَفْصِلُونَ بَيْنَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَبَيْنَ قَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؟ قِيلَ : لَا , لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فَصَلَ بَيْنَ ذَلِكَ , فَأَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْنِيَ بِذَلِكَ أَمْرَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ , وَأَمْرُهُمْ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا , وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهَا , وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالُوهُ رَأْيًا وَاجْتِهَادًا , وَلَمْ يُسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ شَيْءٌ , فَإِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ عَلَى التَّحْلِيلِ أَوِ التَّحْرِيمِ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ كَأَمْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَقَدْ يُفْصَلُ بَيْنَ الْقَائِلِ لِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ الْقَائِلِ لَهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ , بِأَنَّ الْقَائِلَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقَدْ جُعِلَ لَهُ بِحَقِّ مُعَاصَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلَقِّيهِ عَنْهُ وَالسَّمَاعُ مِنْهُ , وَمَنْ بَعْدَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ , فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْرَ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا حُمِلَ قَوْلُ الْقَائِلِ : أُمِرْنَا بِكَذَا عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ كَوْنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - آمِرًا بِهِ , لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِفِعْلِ مَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ , وَنَهَى عَمَّا نَهَتْ عَنْهُ , وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ حَمْلِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ مَنْ لَا يَثْبُتُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ حُكْمٌ وَشَرْعٌ ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْعَمَلُ , وَلَيْسَ هَذِهِ حَالَ أَمْرِ الْأَئِمَّةِ بِالشَّيْءِ " .(1)
وذلك بناء على أن حال ما يحكيه الصحابي من ذلك إنما كان لبيان شرائع الدين ، والتبليغ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، خصوصا ولا يكاد يوجد الشيء من ذلك لا شاهد له من النصوص المسندة صراحة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال الخطيب : " والدليل عليه : أن الصحابي إذا قال : أمرنا بكذا ، فإنما يقصد الاحتجاج لإثبات شرع وتحليل وتحريم وحكم يجب كونه مشروعا.(2)
مثاله : عَنْ أَبِى يَعْفُورٍ قَالَ سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِى فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّىَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَىَّ ، فَنَهَانِى أَبِى وَقَالَ كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ .(3)
وذهب بعض أهل العلم ، كابن حزم ، إلى أن هذه الصورة ليست مسنداً مرفوعاً(4).
واعترض بعضهم باحتمال أن يكون الآمر الناهي من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا ضعيف ، فإن الصحابة فيما دلَّ عليه الاستقراء لم يكونوا يستعملون ذلك في أمر أو نهي أوسنة أحد إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ رَجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَقُولاَنِ السُّنَّةَ إلَّا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إنْ شَاءَ اللَّهُ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَخْبَرَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : السُّنَّةُ أَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَقُولُونَ بِالسُّنَّةِ , وَالْحَقِّ إلَّا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .(5).
قلت : وقول الشافعي : ( إن شاء الله ) ، من أجل مظنة أن يقول الصحابي الشيء من ذلك بمحض اجتهاده ، وليس بمنزلة المرفوع الصحيح .
وأما قصة حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ ، فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ، ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، ثُمَّ يُضْرَبَ بِهِ ، فَقُلْتُ لأَنَسٍ : فِي زَمَانِ مَنْ كَانَ هَذَا ؟ قَالَ : فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ..(6)
فهذا خبر لا يصح رواية ، فلا يتعقب بمثله(7).
وإذا حكى الصحابي أمرا شائعا ، ونسبه إلى عامة الصحابة ، كأن يقول : ( كانوا يفعلون كذا ) ولا يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ما يدل على إرادة زمانه - صلى الله عليه وسلم - ، ليس فيه إلا إضافة ذلك إلى الصحابة ، فهذا موقوف(8).
وذلك كقول أبي سعيد الخدري : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدوا يتحدثون كان حديثهم الفقه ، إلا أن يأمروا رجلاً فيقرأ عليهم سورة ، أو يقرأ رجلٌ سورة من القرآن(9).
المسألة السادسة : بَابٌ فِي حُكْمِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ : كُنَّا نَقُولُ كَذَا وَنَفْعَلُ كَذَا
قال الخطيب في الكفاية : " عَنِ الزُّهْرِيِّ ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ , قَالَ : أَنَا قَدْ كُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيُّ : " أَفْضَلُ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ "
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , قَالَ : " كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , يَعْنِي الْعَزْلَ
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ , أَنَّ عِيَاضَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ , حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ , قَالَ : " كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ تَمْرٍ , أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ , أَوْ صَاعَ أَقِطٍ , لَا نُخْرِجُ غَيْرَهُ "
قَوْلُ الصَّحَابِيِّ : كُنَّا نَقُولُ كَذَا ، مِنْ أَلْفَاظِ التَّكْثِيرِ , وَمِمَّا يُفِيدُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ وَاسْتِمْرَارَهُمْ عَلَيْهِ , فَمَتَى أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى وَجْهٍ كَانَ يَعْلَمُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا يُنْكِرُهُ , وَجَبَ الْقَضَاءُ بِكَوْنِهِ شَرْعًا , وَقَامَ إِقْرَارُهُ لَهُ مَقَامَ نُطْقِهِ بِالْأَمْرِ بِهِ , وَيَبْعُدُ فِيمَا كَانَ يَتَكَرَّرُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ لَهُ وَفِعْلُهُمْ إِيَّاهُ أَنْ يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وُقُوعُهُ , وَلَا يَعْلَمَ بِهِ , وَلَا يَجُوزُ فِي صِفَةِ الصَّحَابِيِّ أَنْ يَعْلَمَ إِنْكَارًا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ وَلَا يَرْوِيهِ ، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَالْحُجَّةَ فِي إِنْكَارِهِ لَا فِي فِعْلِهِمْ لِمَا يُنْكِرُهُ , وَرَاوِي ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي جَعْلِ الْفِعْلِ شَرْعًا , وَلَا يُمْكِنُ فِي صِفَتِهِ رِوَايَةُ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِشَرْعٍ , وَتَرْكُهُ رِوَايَةَ إِنْكَارِهِ لَهُ الَّذِي هُوَ الشَّرْعُ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَرِّرُ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ إِقْرَارِهِ شَرْعًا ثَابِتًا لِمَا قُلْنَاهُ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
وعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , قَالَ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا لَا نَرَى بِكِرَاءِ الْأَرْضِ بَأْسًا حَتَّى حَدَّثَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ " , فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : لَقَدْ نَهَى ابْنُ خَدِيجٍ عَنْ أَمَرٍ نَافِعٍ لَنَا " أَفَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَسْتَجِزْ أَنْ يَذْكُرَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ اسْتِكْرَاءِ الْأَرْضِ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّهْيِ عَنْهُ " .
وَمَتَى جَاءَتْ رِوَايَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ أَوْ يَفْعَلُونَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الرِّوَايَةِ مَا يَقْتَضِي إِضَافَةَ وُقُوعِ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ حُجَّةً وَلَا دِلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ فَيُحْكَمُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّهُ شَرْعٌ ثَابِتٌ ، تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْه"ِ(10)
قال السيوطي(11): " قول الصَّحابي: كنَّا نقول كذا, أو نفعل كذا أو نرى كذا إن لم يُضفه إلى زمنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فهو موقوف، كذا قال ابن الصَّلاح تبعًا للخطيب في الكفاية(12)
وحكاهُ المُصنِّف في «شرح مسلم»(13)عن الجُمهور من المُحدِّثين وأصْحَاب الفقه والأصُول, وأطلق الحاكم والرَّازي والآمدي أنَّه مرفوعٌ.
وحكَاهُ المُصنِّف في «شرح المُهذَّب» عن كثير من الفُقهاء, قال: وهو قوي من حيثُ المعنى, وصحَّحه العراقي وشيخ الإسلام.
ومن أمثلته: ما رواه البُخَاري(14)عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا ، وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا . , وإن أضَافهُ فالصَّحيح الذي قطعَ به الجُمهور من أهل الحديث والأصُول أنَّه مرفوعٌ.
قال ابن الصَّلاح(15): لأنَّ ظاهر ذلكَ مُشْعر بأنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - اطَّلع على ذلك, وقرَّرهُم عليه, لتوفُّر دواعيهم على سُؤالهم عن أمور دينهم, وتقريره أحد وجُوه السُّنن المرفوعة, ومن أمثلة ذلك قولُ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ لَقَدْ كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(16)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنَّا نَأْكُلُ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ..(17)
وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي : إنَّه موقوف وهو بعيد جدًّا والصَّواب الأول.
قال النووي في «شرح مسلم»(18): وقال آخُرونَ إن كان ذلك الفعل مِمَّا لا يَخْفَى غَالبًا كان مرفوعًا, وإلاَّ كان موقوفًا, وبهذا قطع الشَّيخ أبو إسْحاق الشِّيرازي, فإن كان في القِصَّة تصريحٌ باطِّلاعه - صلى الله عليه وسلم - , فمرفوعٌ إجماعًا, كقول ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، فَيَبْلُغُ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَلاَ يُنْكِرُهُ عَلَيْنَا.. رواه الطَّبراني في «الكبير»(19)والحديث في الصَّحيح بدُون التَّصريح المذكُور.
وكذا قوله أي الصَّحابي: كُنَّا لا نَرَى بأسًا بكذَا في حياةِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - , أو وهو فينَا, أو وهو بين أظْهُرنَا, أو كانُوا يَقُولون, أو يفعلون, أو لا يرون بأسا بكذا في حياته - صلى الله عليه وسلم - , فكله مرفوع مخرَّج في كُتب المَسَانيد ومن المرفوع: ما روي عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ "(20).
قال ابن الصَّلاح(21): بل هو أحْرَى باطِّلاعه - صلى الله عليه وسلم - عليهِ.
قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مُسْنَدًا لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ ، فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى صَحَابِيٍّ ، حَكَى عَنْ أَقْرَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِعْلًا ، وَلَيْسَ يُسْنِدُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْمَوْقُوفَ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُشْبِهُهُ ، فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ عَلَى الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَشَرْحُهُ أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ إِلَى الصَّحَابِيِّ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ ، وَلَا إِعْضَالٍ ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّحَابِيَّ ، قَالَ : إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : كَذَا وَكَذَا ، وَكَانَ يَفْعَلُ كَذَا ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَذَا وَكَذَا اهـ
والحديث المذكُور أخرجهُ البُخَاري في «الأدب» من حديث أنس.
وعن شيخ الإسْلام: تعبَ النَّاس في التَّفتيش عليه من حديث المُغيرة, فلم يَظْفرُوا به.
قلت: هو في الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (542) أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، فِي الْأَمَالِي ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ ، بِأَسَدَآبَادَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّيْبَقِيُّ ، ثنا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْمِنْقَرِيُّ ، قَالَ ثنا الْأَصْمَعِيُّ ، ثنا كَيْسَانُ ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانَ هُوَ أَخُو هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَزِيزِ الْحَدِيثِ ، قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْجَامِعِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَصِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قلت : رواه البخاري في الأدب المفرد 1120 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْمُنْتَصِرِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : إِنَّ أَبْوَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ تُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ "(22)
ومن المرفُوع أيضًا اتِّفاقًا: الأحاديث الَّتي فيها ذكرُ صِفة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك.
أمَّا قولُ التَّابعي ما تقدَّم فليس بمرفوع قطعًا, ثمَّ إن لم يُضفهُ إلى زمنِ الصَّحابة فمقطوع لا موقوف, وإن أضافهُ فاحتمالان للعراقي, وجه المنع أنَّ تقرير الصَّحابي قد لا يُنسب إليه بِخلافِ تَقْرير النَّبي - صلى الله عليه وسلم - , ولو قال: كانُوا يَفْعلون, فقال المُصنِّف في «شرح مسلم»(23): لا يدلُّ على فعل جميع الأمَّة, بل البعض, فلا حُجَّة فيه, إلاَّ أن يُصرِّح بنقله عن أهل الإجماع, فيَكُون نقلاً له, وفي ثُبوته بخبر الواحد خلاف.
وأما قول الصَّحابي: أُمرنا بكذا كقول أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ أَمَرَنَا - تَعْنِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - - أَنْ نُخْرِجَ فِى الْعِيدَيْنِ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَأَمَرَ الْحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ..(24)
أو نُهينَا عن كذا فعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا ..(25)
أو من السُّنة كذا فعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : " مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ فِي الصَّلَاةِ تَحْتَ السُّرَّةِ "(26).
أو أُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ. زَادَ يَحْيَى فِى حَدِيثِهِ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ فَحَدَّثْتُ بِهِ أَيُّوبَ فَقَالَ إِلاَّ الإِقَامَةَ.(27).
وما أشبههُ, كُله مرفوعٌ على الصَّحيح الَّذي قالهُ الجُمهور.
قال ابن الصَّلاح(28): لأنَّ مُطْلق ذلك يَنْصرفُ بظاهرهِ إلى من له الأمر والنَّهي, ومن يجبُ اتِّباع سُنَّته, وهو رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال غيره: لأنَّ مقصود الصَّحابي بيان الشَّرع لا اللغة ولا العادة, والشَّرعُ يتلقَّى من الكِتَاب والسُّنة والإجْمَاع والقِياس ولا يصحُّ أن يريد أمر الكتاب, لكون ما في الكتاب مَشْهورًا يعرفه النَّاس, ولا الإجماع, لأنَّ المُتكلم بهذا من أهل الإجماع, ويستحيل أمره نفسه, ولا القياس, إذ لا أمر فيه, فتعيَّن كَوْن المُرَاد أمر الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: ليسَ بمرفوعٍ, لاحتمال أن يَكُون الآمر غيره, كأمر القُرآن, أو الإجْمَاع, أو بعض الخُلفاء, أو الاستنباط, وأن يريد سنة غيره.
وأُجيب بِبُعدِ ذلك, مع أنَّ الأصل الأوَّل, وقد روى البُخَاري في «صحيحه» عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ - رضى الله عنهما - سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ - رضى الله عنه - كَيْفَ تَصْنَعُ فِى الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ سَالِمٌ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلاَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَدَقَ . إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِى السُّنَّةِ . فَقُلْتُ لِسَالِمٍ : أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ سَالِمٌ : وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِى ذَلِكَ إِلاَّ سُنَّتَهُ(29).
وأمَّا قولُ بعضهم: إن كانَ مرفوعًا, فلمَ لا يَقُولون فيه: قال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟.
__________
(1) - انظر : معرفة علوم الحديث ، للحاكم ( ص : 22 ) ، والكفاية ، للخطيب ( ص : 591 - 595 ) (1287-1289)
(2) - الكفاية ( ص : 592 ) .
(3) - صحيح البخارى (790 ) ومسلم (1222 )
طبق : جمع بين أصابع يديه وجعلهما بين ركبتيه فى الركوع.
(4) - الأحكام في أصول الأحكام ( 2 / 72 ) .
(5) - الأم ( 1 / 271 ) والأم للشافعي مشكل - (ج 3 / ص 443) ومنظومة مصباح الراوي في علم الحديث - (ج 1 / ص 86)
(6) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 50)(29276)
ثمرته : هو العُقدة التي تكون في طَرفه ، فتُقطع ، ويُدق السوط بين حجرين ليلين ليَكون أيسر على من يُضرب به .
(7) - وعلته حَنظلة فإنه ضعيف الحديث .
(8) - انظر : الكفاية ، للخطيب ( ص : 595 ) .
(9) - أثرٌ صحيح . أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات " ( 2 / 374 ) أخبرنا أبو داود الطيالسي .
(10) - الكفاية (1290-1293)
(11) - التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 3) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 125)
(12) - الكفاية ص 593-595
(13) - 1/30
(14) - صحيح البخارى (2993 )
(15) - علوم الحديث 68 -69
(16) - صحيح مسلم(3633 )
(17) - سنن النسائى (4347 ) صحيح
(18) - 1/30
(19) - السنة لابن أبي عاصم(1195,1196) ومسند الشاميين(1764) وهو صحيح
(20) - معرفة علوم الحديث (29 ) وهو صحيح
(21) - علوم الحديث 69
(22) - مسند البزار (7604) وأصفهان 2/ 110 و 365 وصحيح الجامع ( 4805 ) فالحديث حسن لغيره
(23) - 1/31
(24) - صحيح البخارى(974 ) وصحيح مسلم(2091 )
الخدور : جمع الخدر وهو الستر العواتق : جمع العاتق وهى الشابة أول ما تبلغ
(25) - صحيح البخارى (1278 ) ومسلم (2210)
(26) - أخرجه أبو داود ( 667 ) وفيه ضعف
(27) - صحيح مسلم(864 )
(28) - علوم الحديث 69
(29) - صحيح البخارى (1662 و1660)(1/247)
فجَوَابه: أنَّهم تَرَكُوا الجَزْم بذلكَ تورعًا واحتياطًا, ومن هذا ما روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ . قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ قَالَ خَالِدٌ وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (1).. أي: لو قلتُ لم أكْذِب, لأنَّ قوله: من السُّنة, هذا معناه, لكن إيراده بالصِّيغة التي ذكرهَا الصَّحابي أولَى, وخَصَّص بعضهم الخلاف بغير الصديق, أمَّا هو فإن قال ذلك فمرفوعٌ بلا خلاف.
قلت: ويُؤيد الوقف في غيره, ما أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» ، عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ ، فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ، ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، ثُمَّ يُضْرَبَ بِهِ ، فَقُلْتُ لأَنَسٍ : فِي زَمَانِ مَنْ كَانَ هَذَا ؟ قَالَ : فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.(2).فإن صرَّح الصَّحابي بالأمر, كقوله: أَمرنَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلا خِلافَ فيه, إلاَّ ما حُكي عن داود وبعض المُتكلمين: أنَّه لا يكون حُجَّة حتى ينقل لفظه, وهذا ضعيف, بل باطل, لأنَّ الصَّحابي عدلٌ عارف باللِّسان, فلا يطلق ذلك إلاَّ بعد التحقيق.
قال البَلْقيني(3): وحكم قوله: من السُّنة, قولُ ابن عبَّاس في متعة الحجِّ: سُنَّة أبي القاسم(4).
وقول عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : لاَ تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا ، عِدَّتُهَا عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا.(5).
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ خَرَجْتُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَخَلْتُ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَدَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لِى مَتَى أَوْلَجْتَ خُفَّيْكَ فِى رِجْلَيْكَ قُلْتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ فَهَلْ نَزَعْتَهُمَا قُلْتُ لاَ قَالَ أَصَبْتَ السُّنَّةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ . قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ(6).
قال: وبعضها أقرب من بعض, وأقربها للرَّفع: سُنة أبي القاسم, ويليها: سُنَّة نبينا, ويلي ذلك: أصبتَ السُّنة.
ولا فرقَ بين قوله أي: الصَّحابي ما تقدَّم في حياةِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده ، أمَّا إذا قال ذلك التَّابعي, فجزم ابن الصبَّاغ في العِدَّة أنَّهُ مرسل, وحكى فيه إذَا قالهُ ابن المُسيب وجْهين: هل يَكُون حُجَّة أو لا ؟ وللغزالي فيه احتمالان بلا ترجيح, هل يَكُون موقوفًا, أو مرفُوعًا مُرسلاً.
وكذا قوله: من السُّنة له وجْهانِ, حكاهما النووي في «شرح مسلم»(7)وغيره, وصحَّح وقفه, وحَكَى الدَّاودي الرفع عن القديم.
ومن المرفُوع أيضًا: ما جاء عن الصَّحابي, ومثلهُ لا يُقَال من قبلَ الرَّأي, ولا مَجَال للاجتهاد فيه, فيُحمل على السَّماع, جزمَ به الرَّازي في «المحصول» وغير واحد من أئمة الحديث.
وترجم على ذلك الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث بقوله( 36 ) أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ بِالْكُوفَةِ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ , ثنا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , عَنْ هُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " مَنْ أَتَى سَاحِرًا أَوْ عَرَّافًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - "(8)
قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا بَابٌ كَبِيرٌ ، يَطُولُ ذِكْرُهُ بِالْأَسَانِيدِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالصُّحْبَةِ ، أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ كَذَا وَنُهِينَا عَنْ كَذَا وَكَذَا ، وَكُنَّا نُؤْمَرُ بِكَذَا ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ كَذَا ، وَكُنَّا نَفْعَلُ كَذَا ، وَكُنَّا نَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا ، وَكُنَّا لَا نَرَى بَأْسًا بِكَذَا ، وَكَانَ يُقَالُ كَذَا وَكَذَا ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا وَأَشْبَاهَ مَا ذَكَرْنَاهُ إِذَا قَالَهُ الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالصُّحْبَةِ فَهُوَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِيد.
وقد أدخلَ ابن عبد البرِّ في كتابه «التَّقصي» عِدَّة أحاديث من ذلك, مع أنَّ موضوع الكتاب للمرفوعة, منها: حديث سهل بن أبي حَثْمة في صَلاة الخَوْفِ كما في موطأ مالك (445 ) وَحَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ أَبِى حَثْمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ أَنْ يَقُومَ الإِمَامُ وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةٌ الْعَدُوَّ فَيَرْكَعُ الإِمَامُ رَكْعَةً وَيَسْجُدُ بِالَّذِينَ مَعَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا ثَبَتَ وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُونَ وَيَنْصَرِفُونَ وَالإِمَامُ قَائِمٌ فَيَكُونُونَ وِجَاهَ الْعَدُوِّ ثُمَّ يُقْبِلُ الآخَرُونَ الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا فَيُكَبِّرُونَ وَرَاءَ الإِمَامِ فَيَرْكَعُ بِهِمُ الرَّكْعَةَ وَيَسْجُدُ ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَقُومُونَ فَيَرْكَعُونَ لأَنْفُسِهِمُ الرَّكْعَةَ الْبَاقِيَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُونَ.(9)
هذا الحديث موقوف على سهل, ومثلهُ لا يُقَال من قبل الرَّأي.
نقل ذلك العِرَاقي وأشار إلى تخصيصه بصحابي لم يأخذ عن أهل الكتاب.
وصرَّح بذلك الحافظ ابن حجر في «شرح النُّخبة»(10)حيث قال :" ومثالُ المرفوعِ مِن القولِ حُكْماً لا تَصْريحاً : أَنْ يقولَ الصَّحابيُّ - الَّذي لم يأْخُذْ عَنِ الإِسرائيليَّاتِ - ما لا مجالَ للاجْتِهادِ فيهِ ، ولا [ لهُ ] تعلُّقٌ ببيانِ لُغةٍ أَو شرحِ غريبٍ ؛ كالإِخْبارِ عنِ الأمورِ الماضيةِ مِن بدْءِ الخَلْقِ وأَخْبارِ الأنبياءِ (( عليهم الصلاة والسلام )) أَو الآتيةِ كالملاحمِ والفِتَنِ وأَحوالِ يومِ القيامةِ .
وكذا الإِخْبارُ عمَّا يحْصُلُ بفِعْلِهِ ثوابٌ مَخْصوصٌ أَو عِقابٌ مَخْصوصٌ .
وإِنَّما كانَ لهُ حُكْمُ المَرفوعِ ؛ لأنَّ إِخبارَهُ بذلك يقتَضي مُخْبِراً لهُ ، و [ ما ] لا مَجالَ للاجتِهادِ فيهِ يَقتَضي مُوقِفاً للقائلِ بهِ ، ولا مُوقِفَ للصَّحابَةِ إِلاَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ، أَو بعضُ مَن يُخْبِرُ عَن الكُتبِ القديمةِ ، فلهذا وقعَ الاحْتِرازُ عنِ القسمِ الثَّاني ، وإِذا كانَ كذلك ؛ فلهُ حُكْمُ ما لو قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ [ وآلهِ ] وسلَّمَ ؛ فهُو مَرْفوعٌ ؛ سواءٌ كانَ ممَّا سمِعَهُ منهُ أَو عنهُ بواسِطةٍ .(11)
ومِثالُ المَرفوعِ مِن الفِعْلِ حُكماً : أَنْ يفعَلَ الصَّحابيُّ ما لا مَجالَ للاجْتِهادِ فيهِ فيُنَزَّلُ على أَنَّ ذلك عندَه عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كما قالَ الشافعيُّ في صلاةِ عليٍّ في الكُسوفِ في كُلِّ ركعةٍ أَكثرَ مِن رُكوعَيْنِ "(12).
قلتُ : وقول الصحابي، أو الموقوف على الصحابي، إنما يأخذ حكم الرفع بشرطين:
الأول: أن يكون هذا الصحابي لا يأخذ عن الإسرائيليات.
الثاني: أن يكون الكلام مما لا مجال للاجتهاد فيه.
وقد تكلم الشيخ أبو عمرو على قول الصحابي: كنَّا نفعل، أو نقول كذا، إن لم يُضِفْه إلى زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - : فقال أبو بكر البَرْقاني عن شيخه أبي بكر الإسماعيلي: إنه من قَبِيل الموقوف، وحكم النَّيْسابوري برفعه، لأنه يدلُّ على التقرير، ورجَّحه ابنُ الصلاح.
قال: ومن هذا القَبيل قولُ الصحابيّ: كنَّا لا نَرى بأساً بكذا، أو كانوا يفعلون أو يقولون، أو يقال كذا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنه من قبيل المرفوع.
وقولُ الصحابي أُمِرنا بكذا، أو نُهينا عن كذا: مرفوع مسنَد عند أصحاب الحديث، وهو قول أكثر أهل العلم، وخالف في ذلك فريق، منهم أبو بكر الإسماعيلي، وكذا الكلام على قوله من السّنة كذا، وقول أنَسٍ أُمِرَ بلال أن يَشْفَع الأذانَ ويُوتر الإقامةَ.
قال: وما قيل من أن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، فإنما ذلك فيما كان سَببَ نُزولٍ، أو نحوَ ذلك.
أما إذا قال الراوي عن الصحابي: يَرفعُ الحديثَ أو يَنْميه أو يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو عند أهل الحديث من قبيل المرفوع الصريح في الرفع. والله أعلم،(13).
وعلق الشيخ أحمد شاكر على أن قول الصحابي: أُمِرنا بكذا أو نُهينا عن كذا يُعَدُّ مرفوعاً؛ فقال: وهو الصحيح، وأقوى منه قول الصحابي أُحل لنا كذا، أو حُرِّم علينا كذا، فإنه ظاهر في الرفع حكماً، لا يحتمل غيره(14).
وعلق، أيضاً، على القول بأن تفسير الصحابي في حكم المرفوع؛ فقال: أما إطلاق بعضهم أن تفسير الصحابة له حكم المرفوع، وأن ما يقوله الصحابي، مما لا مجال فيه للرأي مرفوع حكماً كذلك: فإنه إطلاقٌ غير جيد، لأن الصحابة اجتهدوا كثيراً في تفسير القرآن، فاختلفوا، وأفتوا بما يرونه من عمومات الشريعة تطبيقاً على الفروع والمسائل، ويظن كثير من الناس أن هذا مما لا مجال للرأي فيه. وأما ما يحكيه بعض الصحابة من أخبار الأمم السابقة، فإنه لا يعطى حكم المرفوع أيضاً، لأن كثيراً منهم، رضي الله عنهم، كان يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب، على سبيل الذكرى والموعظة، لا بمعنى أنهم يعتقدون صحتها، أو يستجيزون نسبتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حاشا وكلا.(15).
وقد قال ابن تيمية رحمه الله تعالى(16): " وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدِ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَأَكْثَرُ الْمَسَانِدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبًا نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ ".
وجزم بذلك أيضًا الزَّرْكشي في «مختصره» نقلاً عن ابن عبد البر.
وأمَّا البَلْقيني(17)فقال: الأقرب أنَّ هذا ليس بمرفوع, لجَوَاز إحَالة الإثم على ما ظهر من القواعد, وسبقهُ إلى ذلك أبو القاسم الجَوْهري, نقلهُ عنه ابن عبد البر, وردَّهُ عليه.
وإذا قيلَ في الحديث عند ذِكْر الصَّحابي: يرفعه أو رفع الحديث أو ينميه, أو يبلغ به كقول ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ « الشِّفَاءُ فِى ثَلاَثَةٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، وَكَيَّةِ نَارٍ ، وَأَنْهَى أُمَّتِى عَنِ الْكَىِّ » . رَفَعَ الْحَدِيثَ(18).
وروى مالك في «الموطأ» (381) وَحَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِى حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِى الصَّلاَةِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ لاَ أَعْلَمُ إِلاَّ أَنَّهُ يَنْمِى ذَلِكَ..
وكحديث الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - « النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِى هَذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ ».(19).
أو رِوَاية كحديث عَنِ الْأَعْرَجِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , رِوَايَةً : " تُقَاتِلُونَ قَوْمًا صِغَارَ الْأَعْيُنِ ذُلْفَ يَعْنِي الْأَنْفَ , كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ "(20).
قال الخطيب : "كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كِنَايَةٌ عَنْ رَفْعِ الصَّحَابِيِّ الْحَدِيثَ وَرِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَفِيمَا صَرَّحَ بِرَفْعِهِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْقَبُولِ وَالْتِزَامِ الْعَمَلِ اهـ
وإذَا قِيلَ عند التَّابعي: يَرْفعهُ, فمرفُوعٌ مُرسل, وأمَّا قولُ من قال: تفسير الصَّحابي مرفوعٌ, فذلكَ في تفسير يتعلَّق بسبب نُزول آية, أو نَحْوهُ, وغيره موقُوف.
فكلُّ هذا وشبههُ قال الحافظ ابن حجر: كيرويه, ورواهُ بلفظ المَاضي مرفوعٌ عندَ أهل العِلْمِ, وإذا قِيلَ عند التَّابعي: يرفعه أو سائر الألْفَاظ المذكورة فمرفوع مرسل.
قال الحافظ ابن حجر(21): ولم يذكروا ما حكم ذلك, لو قيل: عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - , قال: وقد ظفرتُ لذلك بمثال في «مسند» البزَّار: عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه. أي: عن ربِّه عزَّ وجلَّ, فهو حينئذ من الأحاديث القُدسية.
المسألة السابعة :الصحابيُّ إذا حدث عن شيء ممَّا كان منهم على حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن ليس فيه اطِّلاعُهُ - صلى الله عليه وسلم - ولا إقراره ، فهذا ممَّا اختلفوا فيه :هو موقوف في قول الحاكم(22).
وهذا مثل ما جاء في قصة عمرو بن سلِمة الجرمي عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ قَالَ قَالَ لِى أَبُو قِلاَبَةَ أَلاَ تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ ، قَالَ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ ، أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا . فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلاَمَ ، وَكَأَنَّمَا يُغْرَى فِى صَدْرِى ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمِ الْفَتْحَ ، فَيَقُولُونَ اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهْوَ نَبِىٌّ صَادِقٌ . فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِى قَوْمِى بِإِسْلاَمِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَقًّا فَقَالَ « صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَصَلُّوا كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا » . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّى ، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ ، فَقَدَّمُونِى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ ، سِنِينَ وَكَانَتْ عَلَىَّ بُرْدَةٌ ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّى ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَىِّ أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ . فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِى قَمِيصًا ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَىْءٍ فَرَحِى بِذَلِكَ الْقَمِيصِ .(23).
فهذا الحديث دل عند طائفة من أهل العلم على صحة إمامة الصبي ، وحقيقة الأمر أن صنيع القوم في تقديم عمرو مع صغره ليس في الرِّواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك وعلم به فأقرَّه.
غير أن محقق القولين : أن ما جاء منقولا فعله عن أحد من الصحابة في حياة النبي الله عليه وسلم فهو مرفوع حكماً ، ودليل يحتج به ، وهو لاحق بالتَّشريع التقريريِّ ، وذلك من أجل أن الله تعالى مطلع ، والوحي ينزل ، وكم نزل في القرآن في أشياء من أحوال الناس يومئذ لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمها إلا حين ينزل الوحي بخصوصها ؟
ويشهد لهذا ما صح عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كُنَّا نَتَّقِى كَثِيراً مِنَ الْكَلاَمِ وَالاِنْبِسَاطِ إِلَى نِسَائِنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا الْقُرْآنُ فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَكَلَّمْنَا.(24).
المسألة الثامنة : حكمُ تفسير الصحابي للقرآن .
قال الحاكم في معرفة علوم الحديث : "( 29 ) حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَافِظُ بِأَسَدَابَاذَ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّيْبَقِيُّ , ثنا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْمِنْقَرِيُّ , ثنا الْأَصْمَعِيُّ ، حَدَّثَنَا كَيْسَانُ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ " قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مُسْنَدًا لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ ، فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى صَحَابِيٍّ ، حَكَى عَنْ أَقْرَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِعْلًا ، وَلَيْسَ يُسْنِدُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْمَوْقُوفَ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُشْبِهُهُ ، فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ عَلَى الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ قَلَّ مَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَشَرْحُهُ أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ إِلَى الصَّحَابِيِّ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ ، وَلَا إِعْضَالٍ ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّحَابِيَّ ، قَالَ : إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : كَذَا وَكَذَا ، وَكَانَ يَفْعَلُ كَذَا ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَذَا وَكَذَا ، وَمِنَ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَا (30 ) حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي , ثنا يَزِيدُ بْنُ الْهَيْثَمِ , ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْفَيْدِيِّ , ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي سِنَانٍ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : لَوَّاحَةً لِلْبَشَرِ قَالَ : " تَلْقَاهُمْ جَهَنَّمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَلْفَحَهُمْ لَفْحَةً فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا وَضَعَتْ عَلَى الْعَرَاقِيبِ " قَالَ : وَأَشْبَاهُ هَذَا مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ تُعَدُّ فِي تَفْسِيرِ الصَّحَابَةِ ، فَأَمَّا مَا نَقُولُ فِي تَفْسِيرِ الصَّحَابِيِّ مُسْنَدٌ ، فَإِنَّمَا نَقُولُهُ فِي غَيْرِ هَذَا النَّوْعِ فَإِنَّهُ كَمَا ( 31 ) أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي , ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ : مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلُ , فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ "
__________
(1) - صحيح البخارى(5214 ) ومسلم (3699 )
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 10 / ص 50)(29276) صحيح
(3) - محاسن الاطلاع ص 123
(4) - صحيح البخارى (1688)
(5) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 5 / ص 162)(19074) صحيح
(6) - سنن الدارقطنى (772 )
(7) - 1/30
(8) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 136)(16939) وهو صحيح
(9) - التمهيد 23/165 ، وقال : قد روي مسندا بهذا الإسناد عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ـرواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، وعبد الرحمن أسنُّ من يحيى بن سعيد وأجلُّ .
(10) - ص 141-142
(11) - إذا قال الصحابي شيئاً لا يقال بالرأي وليس ممن ينقل عن بني اسرائيل فيكون له حكم الرفع مثل قول ابن عباس ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ) .
(12) - وهذا مثل ما يروى عن ابن عباس أنه يصلى للزلزلة مثل ما يصلى للكسوف فحمله بعضهم أنه في حكم المرفوع وأنه لا مجال للإجتهاد فيه لأنه عبادة فدل على أنه يصلى للزلزلة هكذا قال بعض أهل العلم فحمل ذلك على الرفع لأنه فعل لا يحتمل الاجتهاد والعبادات ليست محل اجتهاد وقال آخرون محتمل أنه اجتهاد منه رضي الله عنه وأنه قاس الزلزلة على الكسوف لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في الكسوف ( يخوف الله بها عباده فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا ) قال بعضهم فلعل ابن عباس وما يروى عن علي كذلك إنما هو للعلة . التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 22)
(13) - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص46-47
(14) - انظر شرحنا على مسند أحمد، في الحديث 5723، وانظر أيضاً الكفاية للخطيب ص 420-422. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص47، حاشية 1
(15) - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص47، حاشية 2. وهذا تحقيق نفيس
(16) - مجموع الفتاوى - (ج 13 / ص 340)
(17) - محاسن الاطلاع ص 128
(18) - صحيح البخارى (5680 )
(19) - مسند أحمد (7508) صحيح ، وهو في الصحيحين
(20) - الخطيب في الكفاية (1277) ومسند الحميدى (1150) وهو صحيح
(21) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 133)
(22) - معرفة علوم الحديث ( ص : 19 ) .
(23) - صحيح البخارى(4302 )
(24) - مسند أحمد (5408) صحيح(1/248)
قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا الْحَدِيثُ وَأَشْبَاهُهُ مُسْنَدَةٌ عَنْ آخِرِهَا ، وَلَيْسَتْ بِمَوْقُوفَةٍ ، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فَأَخْبَرَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ ، وَمِمَّا يَلْزَمُ طَالِبَ الْحَدِيثِ مَعْرِفَتُهُ نَوْعُ مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ ، وَهِيَ مُرْسَلَةٌ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الصَّحَابَةِ ، وَمِثَالُ ذَلِكَ ، مَا( 32 ) حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ , ثنا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ , عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ : قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : " إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ ، وَبَصَرُكَ مِنَ الْمَحَارِمِ ، وَلِسَانُكَ مِنَ الْكَذِبِ ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ صَوْمِكَ وَيَوْمَ فِطْرِكَ سَوَاءً "
قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ الْحَدِيثُ مِنْ صِنَاعَتِهِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ وَهُوَ مَوْقُوفٌ وَمُرْسَلٌ قَبْلَ التَّوْقِيفِ ، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى الْأَشْدَقَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ ، وَلَمْ يَرَهُ ، بَيْنَهُمَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ، وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ أَيْضًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَبَحِّرُ فِي الصَّنْعَةِ ، فَيَقُولُ : لَمْ يَلْحَقِ ابْنَ وَهْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ ، وَلَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا هُوَ الْيَافِعِيُّ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، وَلَيْسَ بِابْنِ عَلْقَمَةَ الْمَدَنِيِّ وَمِمَّا يَلْزَمُ طَالِبَ الْحَدِيثِ مَعْرِفَتُهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَوْقُوفَاتِ ، وَهِيَ مُسْنَدَةٌ فِي الْأَصْلِ يَقْصُرُ بِهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ ، فَلَا يُسْنِدُهُ مِثَالُ ذَلِكَ مَا( 33 ) حَدَّثَنَا أَبُوزَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيُّ , ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ , ثنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ , ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ، ثنا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ , ثنا مَنْصُورٌ , عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ , عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : " إِنَّمَا حَفِظَ النَّاسُ مِنْ آخِرِ النُّبُوَّةِ : إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ " قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ أَسْنَدَهُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَغَيْرُهُمَا ، عَنْ مَنْصُورٍ ، وَقَدْ قَصَّرَ بِهِ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ فَوَقَفَهُ ، وَمِثَالُ هَذَا فِي الْحَدِيثِ كَثِيرٌ ، وَلَا يَعْلَمُ سَنَدَهَا إِلَّا الْفُرْسَانُ مِنْ نُقَّادِ الْحَدِيثِ ، وَلَا تُعَدُّ فِي الْمَوْقُوفَاتِ "
قال العراقي(1): " وعَدُّ تفسيرِ الصحابةِ مرفوعاً محمولٌ على تفسيرٍ فيه أسبابُ النزولِ . ولم يعيّن ابنُ الصلاحِ القائلَ بأنَّ مطلقَ تفسيرِ الصحابيِّ مرفوعٌ ، وهو الحاكمُ وعزاهُ للشيخينِ فقال في " المستدركِ "(2): " لِيَعْلَمَ طَالِبُ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي شَهِدَ الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ " . قال ابنُ الصلاحِ إنَّما ذلك في تفسيرٍ يتعلقُ بسببِ نزولِ آيةٍ يخبرُ بها الصحابيُّ أو نحوِ ذلك ، كقولِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ ، سَمِعَ جَابِرًا ، يَقُولُ : " كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ : إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا ، كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ ، فَنَزَلَتْ : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (223) سورة البقرة .(3)
قال : فأمّا سائرُ تفاسيرِ الصحابةِ التي لا تشتمِلُ على إضافةِ شيءٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمعدودةٌ في الموقوفاتِ . "
قلتُ: وكذا يُقَال في التَّابعي, إلا أنَّ المرفوع من جهته مُرْسل.
فالحاكم أطْلق في «المُستدرك» وخصَّص في «علوم الحديث» فاعتمدَ النَّاس تخصيصه, وأظن أنَّ ما حملهُ في «المُستدرك» على التَّعميم الحِرْص على جمع الصَّحيح, حتَّى أورد ما ليسَ من شَرْط المرفُوع, وإلاَّ ففيه من الضَّرب الأوَّل الجَمُّ الغفير, على أنِّي أقول: ليس ما ذكرهُ عن أبي هُريرة من الموقُوف لِمَا تقدَّم من أنَّ ما يتعلَّق بذكر الآخرة, وما لا مَدْخلَ للرَّأي فيه من قَبِيلِ المرفوع.
وما ذكرُوه من أنَّ سبب النُّزول مرفوعٌ، قال الحافظ ابن حجر: يُعكِّر على إطلاقه ما إذا استنبط الرَّاوي السَّبب, كما في حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : " صَلَاةُ الْوُسْطَى هِيَ الظُّهْرُ "(4)،
قلت : فهذا ليس من المرفوع قطعاً .
قال السيوطي : " قد اعتنيتُ بما وردَ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في التَّفسير وعن أصحابه, فجمعت في ذلك كتابًا حافلاً فيه أكثر من عَشْرة آلاف حديث. "
قلت : وهو تفسيرٌ قيِّمٌ ، جمع ما ورد في التفسير بالمأثور ، ولكن فيه ما هبَّ ودبَّ ، الصحيح والحسن والضعيف والمنكر والموضوع .
قلت : إذا كان يتصل بسبب نزول ، فهو حديث مسند ، وإن لم يكن يذكر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من أجل أن النزول كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإن كان بيانا لمعنى ، فهو موقوف ، إلا أن يكون خبراً لا يقال مثله من قبل الرأي والا جتهاد ، فهذا يكون مرفوعاً حكماً بشرط أن يؤمن كونُ ذلك الصحابي لم يؤخذ عن أهل الكتاب ، على ما تقدم بيانه من قبل(5).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 68)
(2) - رقم( 975 و1946) وقال أيضاً :َقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ "
(3) - صحيح مسلم (3608 )
(4) - النسائي في الكبرى (359 ) وهو صحيح موقوف
(5) - انظر تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 16) فما بعدها(1/249)
الحديثُ المَوْقوفُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: اسم مفعول من " الوَقف " كأن الراوي وقف بالحديث عند الصحابي، ولم يتابع سرد باقي سلسلة الإسناد.
ب) اصطلاحاً: ما أُضِيفَ إلى الصحابي من قول أو فعل أو تقرير أو صفة ..
وأجمل ذلك الخطيب ، فقال : " الْمَوْقُوفُ مَا أَسْنَدَهُ الرَّاوِي إِلَى الصَّحَابِيِّ وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ"(2).
وقال الحاكم : " أَنْ يُرْوَى الْحَدِيثُ إِلَى الصَّحَابِيِّ مِنْ غَيْرِ إِرْسَالٍ ، وَلَا إِعْضَالٍ ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّحَابِيَّ ، قَالَ : إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : كَذَا وَكَذَا ، وَكَانَ يَفْعَلُ كَذَا ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَذَا وَكَذَا "(3).
قلت : اشتراط الحاكم عدم الانقطاع إرسالاً أو إعضالاً ، ليس هو المشهور في تعريف ( الموقوف ) .
2- شرحُ التعريف :
أي هو ما نُسِبَ أو أُسْنِدَ إلى صحابي أو جَمْع من الصحابة سواء كان هذا المنسوب إليهم قولا أو فعلا أو تقريراً ، وسواء كان السند إليهم متصلا أو منقطعاً.
3- أمثلةٌ:
أ) مثال الموقوف القولي : قول الراوي ، قال على بن أبي طالب رضي الله عنه : " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ "(4)
ب) مثال الموقوف الفعلي: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِى صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ.(5)
ج) مثال الموقوف التقريري : كقول بعض التابعين مثلاً : " فعلت كذا أمام أحد الصحابة ولم يُنْكِر عَلَيَّ ، كما روي عَنْ نَافِعٍ ؛ أَنَّ مَوْلاَةً لِصَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ لَهَا ، حَتَّى اخْتَلَعَتْ بِبَعْضِ ثِيَابِهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ.(6)
4- استعمالٌ آخرُ له :
يستعمل اسم الموقوف فيما جاء عن غير الصحابة لكن مقيداً فيقال مثلا : " هذا حديث وقفه فلان على الزهري أو على عطاء(7)ونحو ذلك .
كما في معرفة السنن والآثار للبيهقي( 1344 ) أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ سِمَاكٍ ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ الْمُخَارِقِ ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ : أَنَّهَا جَاءَتْ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ، إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ ، فَبَالَ عَلَيْهِ قَالَتْ : قُلْتُ : اخْلَعْ إِزَارَكَ ، وَالْبَسْ ثَوْبًا غَيْرَهُ ، حَتَّى أَغْسِلَهُ قَالَ : " إِنَّمَا يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ ، وَيُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ " ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصِ ، عَنْ سِمَاكٍ
( 1345 ) وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحِلُّ بْنُ خَلِيفَةَ الطَّائِيُّ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو السَّمْحِ قَالَ : كُنْتُ خَادِمَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَجِيءَ بِالْحَسَنِ ، أَوِ الْحُسَيْنِ ، فَبَالَ عَلَى صَدْرِهِ ، فَأَرَادُوا أَنْ يَغْسِلُوهُ ، فَقَالَ : " رُشُّوهُ رَشًّا ، فَإِنَّهُ يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ ، وَيُرَشُّ بَوْلُ الْغُلَامِ " ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
( 1346 ) أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : " يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ ، وَيُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ ، مَا لَمْ يَطْعَمْ " قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فَذَكَرَ مَعْنَاهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ " مَا لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ " قَالَ قَتَادَةُ : هَذَا مَا لَمْ يَطْعَمَا ، فَإِذَا طَعِمَا غُسِلَا جَمِيعًا ، هَذَا حَدِيثٌ وَقَفَهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، وَرَفَعَهُ هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ وَهُوَ حَافِظٌ ثِقَةٌ " .
5- اصطلاح فقهاء خراسان :
يسمي فقهاء خراسان :
ا ) المرفوع: خبراًٍ. ...
ب) والموقوف: أثراً.
أما المحدثون فيسمون كل ذلك " أثراً " لأنه مأخوذ من " أَثَرَتُ الشيء " أي رويته.
6- هل يحتجُّ بالموقوف ؟
الموقوف ـ كما عرفت ـ قد يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، لكن حتى ولو ثبتت صحته فهل يحتج به ؟
قال الزركشي في البحر المحيط(8):
" اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر مجتهد, إماما أو حاكما أو مفتيا. نقله القاضي, وتبعه المتأخرون, منهم الآمدي وابن الحاجب وغيرهما(9). فإن قيل: يقدح فيه قول إمام الحرمين: قال الشافعي رضي الله عنه في بعض أقواله: إذا اختلف الصحابة فالتمسك بقول الخلفاء أولى. قال الإمام: وهذا كالدليل على أنه لم يسقط الاحتجاج بأقوال الصحابة من أجل الاختلاف.
قلنا: مراده أنه حجة علينا, لا على من عاصره من الصحابة. نعم, هنا مسألتان: "إحداهما": بالنسبة إلى وجوب التقليد, و "الثانية": بالنسبة إلى جوازه, والقاضي إنما حكى الاتفاق في الأولى, وحكى الخلاف في الثانية فقال: وقد اتفق على أنه لا يجب على الصحابي تقليد مثله من الصحابة, فبذلك لا يجب تقليد غيرهم من العلماء لهم, لتساوي أحوالهم. قال: وقد أجاز بعضهم تقليد بعض الصحابة بعضا, واحتجوا بإجابة عثمان إلى تقليد أبي بكر وعمر في الأحكام, وإن لم نعتبر وجوب ذلك. انتهى.
وقد يدعي أنها مسألة واحدة. و يلزم من القول بالجواز الوجوب, وكلام الشيخ في اللمع "يقتضي ذلك, فإنه قال: إذا أجمعوا بين الصحابة على قولين بنى على القولين في أنه حجة أم لا. فإن قلنا ليس بحجة لم يكن قول بعضهم حجة على بعض, ولم يجز تقليد واحد منهما, بل يرجع إلى الدليل. وإن قلنا إنه حجة فهاهنا دليلان تعارضا فيرجح أحدهما على الآخر بكثرة العدد من الجانبين, أو يكون فيه إمام. انتهى.
ثم هذا الاتفاق صحيح بالنسبة إلى زمنهم. أما بالنسبة إلى من بعدهم إذا اختلفوا فقد ظنَّ قوم أن حجية قول الصحابي تزول إذا خالفه غيره من الصحابة, لأنه ليس اتباع قول أحدهما أولى من الآخر, وتعلقوا بما تقدم من نقل الإجماع. وهذا ضعيف, لأن ذلك إنما هو بالنسبة إلى غيره من الصحابة, وإنما الخلاف المشهور في أنه هل هو حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين؟ وفيه أقوال:
الأول : أنه ليس بحجة مطلقا, كغيره من المجتهدين, وهو قول الشافعي في الجديد, وإليه ذهب جمهور الأصوليين من أصحابنا والمعتزلة. و يومئ إليه الإمام أحمد, واختاره أبو الخطاب من أصحابه. وزعم عبد الوهاب أنه الصحيح الذي يقتضيه مذهب مالك, لأنه نص على وجوب الاجتهاد واتباع ما يؤدي إليه صحيح النظر فقال: وليس في اختلاف الصحابة سعة, إنما هو خطأ أو صواب.
الثاني : أنه حجة شرعية مقدمة على القياس, وهو قوله في القديم. ونقل عن مالك وأكثر الحنفية. قال صاحب "التقويم": قال أبو سعيد البردعي: تقليد الصحابة واجب, يترك بقوله القياس, وعليه أدركنا مشايخنا. وذكر محمد بن الحسن: إن شرى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن لا يجوز. واحتج بأثر عائشة - رضي الله عنها - والقياس, وقال: وليس عن أصحابنا المتقدمين مذهب ثابت والمروي عن أبي حنيفة: "إذا أجمعت الصحابة سلمنا لهم, وإذا جاء التابعون زاحمناهم, لأنه كان منهم, فلا يثبت لهم بدون إجماع. انتهى.
ومن كلام الشافعي في القديم, لما ذكر الصحابة رضوان الله عليهم: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك فيه علم أو استنبط, وآراؤهم لنا أجمل وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا. ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلى قولهم إن أجمعوا, وقول بعضهم إن تفرقوا. فهكذا نقول: إذا اجتمعوا أخذنا باجتماعهم, وإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله, وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج عن أقاويلهم كلهم.(10)
وقال في موضع آخر منه: فإن لم يكن على قول أحدهم دلالة من كتاب ولا سنة كان قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - أحبَّ إليَّ أن أقول من غيرهم أن أخالفهم, من قبل أنهم أهل علم وحكاية. ثم قال: وإن اختلف المفتون بعد الأئمة - يعني من الصحابة - ولا دليل فيما اختلفوا فيه, نظرنا إلى الأكثر, فإن تكافئوا نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجا عندنا.
واعلم أن هذا القول اشتهر نقله عن القديم, وقد نص عليه الشافعي في الجديد أيضا, وقد نقله البيهقي, وهو موجود في كتاب الأم(11), في باب خلافه مع مالك, وهو من الكتب الجديدة فلنذكره بلفظه, لما فيه من الفائدة:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ وَاحِدِهِمْ , ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، " إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبَّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ مَا يَلْزَمُ النَّاسَ , وَمَنْ لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَشْهَرَ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ أَوِ النَّفْرَ ، وَقَدْ يَأْخُذُ بُفُتْيَاهُ وَيدَعُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ , وَلَا يُعْنَى الْعَامَّةُ بِمَا قَالُوا عِنَايَتَهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ , وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَئِمَّةَ يُنْتَدَبُونَ فَيُسْأَلُونَ عَنِ الْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَرَادُوا , وَأَنْ يَقُولُوا فِيهِ وَيَقُولُونَ ، فَيُخْبَرُونَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فَيَقْبَلُونَ مِنَ الْمُخْبِرِ وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَرْجِعُوا لِتَقْوَاهُمُ اللَّهَ وَفَضْلِهِمْ فِي حَالَاتِهِمْ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ " قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ , ثُمَّ الثَّانِيةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سَنَةٌ , وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ , وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنْهُمْ , وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ , بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ، فَقَالَ : " وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرِعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ , وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا , وَ اللَّهُ أَعْلَمُ , وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ أَرْضِي أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ سَنَةً إِلَى قَوْلِهِمْ إِنِ اجْتَمِعُوا ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنْ تَفَرَّقُوا ، فَهَكَذَا نَقُولُ إِذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَإِنْ قَالَ وَاحِدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ , فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلَمْ نُخَرِّجْ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ نَظَرْتُ ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَشْبَهُ بِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذْتُ بِهِ , لِأَنَّ مَعَهُ شَيْئًا يَقْوَى بِمِثْلِهِ لَيْسَ مَعَ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِثْلُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دَلَالَةٌ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَرْجَحُ عِنْدَنَا مِنْ أَحَدٍ ، لَوْ خَالَفَهُمْ غَيْرُ إِمَامٍ وَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَوْلِ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سَنَةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ عُمَرَ ، أَوْ عُثْمَانَ ، أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِمْ إِنْ خَالَفَهُمْ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحُكَّامٌ ، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكَّامُ اسْتَدْلَلْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فَصِرْنَا إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَقَلَّ مَا يَخْلُو اخْتِلَافُهُمْ مِنْ دَلَائِلِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ , وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بِلَا دَلَالَةٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرْنَا إِلَى الْأَكْثَرِ , فَإِنْ تَكَافَؤُوا نَظَرْنَا إِلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا ، وَإِنْ وَجَدْنَا لِلْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا وَقَبْلَهُ اجْتِمَاعًا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَبِعْنَاهُ ، وَكَانَ أَحَدَ طُرُقِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ : كِتَابُ اللَّهِ , ثُمَّ سَنَةُ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - , ثُمَّ الْقَوْلُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ , ثُمَّ اجْتِمَاعُ الْفُقَهَاءِ , فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ لَمْ نَجِدْ فِيهَا وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ السَّبِيلُ فِي الْكَلَامِ فِي النَّازِلَةِ إِلَّا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ .(12)
وقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ(13): "مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَيْ : أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ - قَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ ، ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ ، وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ . قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ، وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ ، وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ . وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهُمَا مَوْجُودَانِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي : وَغَيْرِ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ دَهْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَبْيَنَ فَضْلًا فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنْهُ ، وَلَا يَقْضِي أَبَدًا إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ لَهُ عُلَمَاءٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوِ افْتَرَقُوا فَسَوَاءٌ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ يُدِلُّونَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْقِلَهُ كَمَا عَقَلُوهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّقْلِيدِ أَوِ الْقِيَاسِ . قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ : رُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - , فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ وَانْتَخَبَهُ بِعِلْمِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابَهُ ، فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ"
وهذا صريح منه في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على القياس, كما نقله عنه إمام الحرمين, فيكون له قولان في الجديد, وأحدهما موافق للقديم وإن كان قد غفل عن نقله أكثر الأصحاب.
ويقتضي أيضا أن الصحابة إذا اختلفوا كان الحجة في قول الخلفاء الأربعة إذا وجد عنهم, للمعنى الذي أشار إليه الشافعي, وهو اشتهار قولهم ورجوع الناس إليهم, وقد استعمل الشافعي ذلك في الأم في مواضع كثيرة "منها" قال في كتاب الحكم في قتال المشركين ما نصه(14):
" وكل من يحبس نفسه بالترهب تركنا قتله, اتباعا لأبي بكر رضي الله عنه, ثم قال: وإنما قلنا هذا اتباعا لا قياسا, وقال في كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى "في باب الغصب: أن عثمان قضى فيما إذا شرط البراءة في العيوب في الحيوان. قال: وهذا يذهب إليه, وإنما ذهبنا إلى هذا تقليدا. وإنما كان القياس عدم البراءة. وقال ابن الصباغ: إنما احتج الشافعي بقول عثمان في الجديد لأن مذهبه إذا لم ينتشر ولم يظهر له مخالف كان حجة. انتهى. وقال في عتق أمهات الأولاد: لا يجوز بيعها تقليدا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 7) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 5) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 2) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 4) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 89) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 101) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 125)
(2) - الكفاية ( ص : 58 ) ، وبنحوه تعريف ابن عبد البر في " التمهيد " ( 1 / 25 ) .
(3) - معرفة علوم الحديث ( ص : 19 ) .
(4) - صحيح البخارى برقم (127 )
(5) - صحيح البخارى برقم (848 )
(6) - مصنف ابن أبي شيبة(ج 5 / ص 125)(18845) حسن
(7) - الزهري وعطاء كلاهما من التابعين .
(8) - 4/358-377 و انظر : المستصفى - (ج 1 / ص 257) وكشف الأسرار - (ج 6 / ص 81) والتقرير والتحبير - (ج 4 / ص 312) وشرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 500) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 1 / ص 211) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 373) والفصول في الأصول - (ج 2 / ص 230)
(9) - انظر مختصر ابن الحاجب "2/287" الإحكام للآمدي "4/149" أصول السرخسي "2/109".
(10) - المدخل إلى السنن الكبرى (21)
(11) - الأم "7/265".
(12) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (21 )
(13) - معرفة السنن والآثار للبيهقي باب :أَقَاوِيلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَمَا يُقْضَى وَمَا يُفْتَى بِهِ
(14) - انظر الأم "4/240".(1/250)
الثالث : أنه حجة إذا انضم إليه قياس،فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي،نص عليه الشافعي - رحمه الله - في كتاب الرسالة "فقال(1):
" قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ عَنْهُمْ : " إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا نَصِيرُ إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ , وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْقَوْلَ لَا نَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُ مُوَافَقَةً وَلَا خِلَافًا , صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ ، إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ ". هذا نصه بحروفه.
وفي جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ - بَابُ جِامِعِ بَيَانِ مَا يَلْزَمُ النَّاظِرَ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ (1066 ) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ ثنا الْمَيْمُونُ بْنُ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ بِمِصْرَ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ ، ثنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ ، ح وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : نا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ زِيَادٍ الْمَدَائِنِيُّ ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ " فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصِيرُ مِنْهُمَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ وَقَالَ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ : إِذَا لَمْ يُحْفَظْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ صِرْتُ إِلَيْهِ وَأَخَذْتُ بِهِ إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا دَلِيلًا مِنْهَا هَذَا إِذَا وَجَدْتُ مَعَهُ الْقِيَاسَ ، قَالَ : وَقَلَّ مَا يُوجَدُ ذَلِكَ " قَالَ الْمُزَنِيُّ : " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهُ بِحُجَّةٍ فَفِي هَذَا مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي كُلِّ قَرْنٍ يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَضَاءٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنْ لَا يُقَالَ إِلَّا بِحُجَّةٍ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ : وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقُضَاةِ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَبِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ وَعَالِمًا بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ وَعَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ، حَسَنَ النَّظَرِ صَحِيحَ الْأَوَدِ وَرِعًا مُشَاوِرًا فِيمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ " ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَمَرَّةً قَالَ : أَمَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَآخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ وَلَا أَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ وَإِنَّمَا يَلْزَمُنِي النَّظَرُ فِي أَقَاوِيلِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ دُونَهُمْ " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " قَدْ جَعَلَ لِلصِّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ وَأَظُنُّهُ مَالَ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَإِلَى نَحْوِ هَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْهَبُ "
وقال ابن الرفعة في المطلب": حكى القاضي الحسين وغيره من أصحابنا عن الشافعي أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا عضده القياس. وكذا حكاه ابن القطان في كتابه فقال: نقول بقول الصحابي إذا كان معه قياس. انتهى. وكذا قال القفال الشاشي في كتابه, فقال: قال في الجديد: إنه حجة إذا اعتضد بضرب من القياس يقوى بموافقته إياه. وقال القاضي في التقريب في باب القول في منع تقليد العالم للعالم: إن الذي قاله الشافعي في الجديد, واستقر عليه مذهبه, وحكاه عنه المزني فقال في الجديد: أقول بقول الصحابي إذا كان معه قياس. وقال ابن أبي هريرة في تعليقه "في باب الربا: عندنا أن الصحابي إذا كان له قول وكان معه قياس وإن كان ضعيفا فالمضي إلى قوله أولى, خصوصا إذا كان إماما, ولهذا منع الشافعي بيع اللحم بالحيوان المأكول بجنسه وغيره, لأثر أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قلت: ويشهد له أن الشافعي استدل في الجديد على عدم وجوب الموالاة في الوضوء بفعل ابن عمر رضي الله عنهما, ثم قال: وفي مذهب كثير من أهل العلم أن الرجل إذا رمى الجمرة الأولى ثم الأخيرة ثم الوسطى أعاد الوسطى ولم يعد الأولى, وهو دليل في قولهم على أن تقطيع الوضوء لا يمنع أن يجزئ عنه, كما في الجمرة. انتهى. فاستدل بفعل الصحابي المعتضد للقياس, وهو رمي الجمار, وعلى الغسل أيضا, كما وقع في أول كلامه.
نعم, المشكل على هذا القول أن القياس نفسه حجة, فلا معنى حينئذ لاعتبار قول الصحابي فيه, ويؤول حينئذ هذا إلى القول بأنه ليس بحجة على انفراده. ولهذا حكى ابن السمعاني وجهين لأصحابنا أن الحجة في القياس, أو في قوله, بعد أن قطع أنه حجة إذا وافق القياس. ولأجل هذا الإشكال قال ابن القطان: أجاب أصحابنا بجوابين:
" أحدهما ": أن الشافعي أراد بالقياس أن يكون في المسألة قياسان, فيكون قول الصحابة مع أحد القياسين أولى من القياس المجرد. قال: وهذا كالبراءة من العيوب, فإنه اجتذبه قياسان: أحدهما يشبه. وذلك أن البراءة إنما تجوز فيما علمه, فأما البراءة مما لا يعلمه فممتنعة. وهذا الذي يوجبه القياس على غير الحيوان أن يوجب قياسا آخر, وهو أن الحيوان مخصوص بما سواه من حيث يغتذى بالصحة والسقم ويخفي عيوبه, صار إلى تقليد عثمان مع هذا القياس.
والثاني : كان الشافعي يتحرج أن يقال عنه: إنه لا يقول بقول الصحابة فاستحسن العبارة فقال بقول الصحابي إذا كان معه القياس. انتهى.
وقال ابن فورك: إن قيل: كيف قال الشافعي إنه حجة إذا كان معه قياس, والقياس في نفسه حجة وحده؟ قيل: اجتذب المسألة وجهان من القياس قوي وضعيف, فقوَّى القياس الضعيف بقول عثمان. فإن قيل: كيف ترك أقوى القياسين بقول صحابي واحد فإنه لو انفرد القياسان عن قول الصحابي كان إما أن يتساويا فيسقطا, أو يصح أحدهما فيبطل الآخر. وإن كان قول الصحابي مع الصحيح فهو تأكيد له.
قيل له: إن قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف له قوة على قول الصحابي الذي ظهر خلافه كما نقول: إن قول الصحابي إذا انتشر قوله ولم يعلم له مخالف أقوى من قول من لم ينشر ولم يعلم له مخالف فكان أدون هذه المنازل إذا عضده بعض الأشياء ملحقة بمنزلة الشبه ، وإن كان ذلك الشبه لو انفرد لم يكن حجة. فأما أولى القياسين فلا يسلم من معارضة ما تبطل معه دلالته وهو قول الصحابي الذي لا مخالف له مقترنا بالشبه الذي ذكرناه.
وقال الصيرفي في الدلائل": معنى قول الشافعي في الجديد أنه ليس بحجة, أنه إذا تجاذب المسألة أصلان محتملان يوافق أحدهما قول الصحابي, فيكون الدليل الذي معه قول الصحابي أولى في هذا على التقوية وأنه أقوى المذهبين فلا يغلط على الشافعي. هذا وجه قوله: إن تقليده لا يلزم إلا أن يوجد في الكتاب أو السنة ما يخالفه ويعضده ضرب من القياس. وعلى هذا فهو مقو للقياس ومغلبٌ له كما يغلب بكثرة الأشباه.
وظاهر نص الرسالة المذكورة يقتضي تساوي القياسين, لأنه لم يفرق بين قياس وقياس. نعم, قوله: ولا شيئا في معناه يحكم له بحكمه ظاهر في تقديم القياس الجلي على قول الصحابي, وهو مستند إمام الحرمين في قوله: إن الشافعي قال في بعض أقواله: القياس الجلي. ولما حكى الروياني في البحر "القولين الأولين قال: ومن أصحابنا من قال: القولان إذا لم يكن معه قياس أصلا, فإن كان مع قوله قياس ضعيف فقوله معه يقدم على القياس القوي وهو اختيار القفال وجماعة وهو ضعيف عندي, لأنه لا يجب الرجوع لقول الصحابي بانفراده, وكذلك القياس الضعيف, فكيف إذا اجتمع ضعيفان غلبا القوي؟ انتهى.
وما حكاه عن القفال حكاه الشيخ في اللمع "عن الصيرفي, ثم خطأه, وحكاه ابن الصباغ في العدة "عن حكاية بعض الأصحاب عن الشافعي أنه إذا كان مع قول الصحابي قياس ضعيف فهو أولى من القياس الصحيح قولا واحدا, ثم ضعفه ابن الصباغ. وحكاه الماوردي في كتاب الأقضية من الحاوي "عن القديم. لكنه قال: ذلك في القياس الخفي مع الجلي, وأن الخفي يقدم على الجلي إذا كان مع الأول قول الصحابي. قال: ثم رجع الشافعي عنه في الجديد, وقال: العمل بالقياس الجلي أولى. وقال الماوردي أيضا في الحاوي "في مسألة البيع بشرط البراءة من العيوب: مذهب الشافعي في الجديد أن قياس التقريب إذا انضم إلى قول الصحابي أولى من قياس التحقيق. وكذلك قال أبو الحسن الجوري في شرح مختصر المزني", قلت: وهو ظاهر إطلاقه في الرسالة", وقال ابن كج في كتابه: إذا قال الصحابي قولا وعارضه القياس القوي نظر: فإن كان مع الصحابي قياس خفي كان المصير إلى قول الصحابي أولى, لقضية عثمان في بيع اللحم بالحيوان. وإن كان قول الصحابي فقط وقد عارضه القياس فقال الشافعي في القديم: إن قوله يقدم, لعلمه بظواهر الكتاب, وقال في الجديد: أولى, ولأن الله أمر بالرجوع عند التنازع إلى الكتاب, ولأن الصحابي يجوز عليه السهو.
الرابع : أنه حجة إذا خالف القياس.
لأنه لا محمل له إلا التوقف, وذلك أن القياس والتحكم في دين الله باطل فيعلم أنه ما قاله إلا توقيفا. قال ابن برهان في الوجيز": وهذا هو الحق المبين. قال: ومسائل الإمامين أبي حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما - تدل عليه. فإن الشافعي غلظ الدية بالأسباب الثلاثة بأقضية الصحابة, وقدر دية المجوسي بقول عمر, وأبا حنيفة قدر الجعل في رد الآبق بأربعين درهما لأثر ابن مسعود.
وقال الإبياري في شرحه "هو أشبه المذاهب. وقال ابن المنير: هذا المذهب لا يختص الصحابي, فكل عالم عدل إذا خالف القياس ظن به المخالفة للتوقيف. والظاهر إصابته في شروطه. قلت: وقد طرده ابن السمعاني فيه كما سيأتي. ثم قال: ثم هو لا يختص غير الصحابي إذا كان المخالف صحابيا, فيجب إذا على الصحابي الاقتداء بالصحابي المخالف للقياس.
والحاصل عن الشافعي أقوال:
أحدها: أنه حجة مقدمة على القياس, كما نص عليه في اختلافه مع مالك, وهو من الجديد.
والثاني : أنه ليس بحجة مطلقا, وهو المشهور بين الأصحاب أنه الجديد.
والثالث : أنه حجة إذا انضم إليه قياس, فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي, كما أشار إليه في الرسالة", ثم ظاهر كلامه فيها أن يكون القياسان متساويين.
وتقدم في نقل إمام الحرمين عنه في قول تخصيص القياس الجلي بتقديمه على قول الصحابي. فعلى هذا يكون المراد ب "القياس يعتضد بقول الصحابي "القياس الخفي, ويكون فيما نقله الإمام قول رابع في المسألة من أصلها.
وتقدم أيضا عن الماوردي: إذا اعتضد بقياس التقريب فهو أولى من قياس التحقيق.
وعن حكاية ابن الصلاح: إذا اعتضد بقياس ضعيف فهو أولى من القياس القوي, فيتخرج من هذا قولان للشافعي إن جعلنا القياس الضعيف أعم من قياس التقريب وغيره, وإلا فقول خامس. وخص الماوردي القولين الأولين بما إذا كان موافقا لقياس جلي, فإن لم يكن معه قياس جلي قدم القياس الجلي قطعا وخص القديم بما إذا لم يظهر له مخالف, فإن ظهر خلافه من صحابي آخر فلا يكون حجة على القديم.
وفي كتاب الرضاع, في الكلام على اعتبار العدد, حكاية حكاها الماوردي تقتضي أن قول الشيخين بخصوصهما حجة, فإنه حكى عن الشافعي أنه قال(2): " مَنْ سَأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ أَخْبَرْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا فَقَالَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : فَأَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَقَالَ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ الْحَشْرِ : ] وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اقْتَدُوا بِالَّذِينِ مِنْ بَعْدِي أَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ(3)، وَسُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ قَتَلَ زُنْبُورًا ، فَقَالَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ."
قال ابن الرفعة: فإن صحت هذه الحكاية عن الشافعي لزم منها أن يكون قول كل من الشيخين عنده حجة. ومذهبه الجديد أنه ليس بحجة. انتهى.
وقال السنجي في أول شرح التلخيص": قول الواحد من الصحابة إذا انتشر ولم يعلم له مخالف وانقرض العصر عليه كان عندنا حجة مقطوعا بصحتها. وهل يسمى إجماعا؟ على وجهين: فقيل: لا, لقول الشافعي: لا ينسب إلى ساكت قول. والصحيح من المذهب أنه إجماع مقطوع على الله بصحته وهو مذهب كافة المتكلمين, ولم يخالف فيه إلا الجعل ومن تابعه فقالوا: لا يكون حجة. قال: فأما إذا لم ينتشر ولم يعرف له مخالف فللشافعي فيه قولان: القديم أنه حجة, والجديد أن القياس أولى منه.
وقال في القواطع": إذا لم ينتشر ولم يعرف له مخالف نظر: فإن كان موافقا للقياس فهو حجة. إلا أن أصحابنا اختلفوا: هل الحجة في القياس أو في قوله؟ على وجهين: وأما إذا خالف القياس أو كان مع الصحابي قياس خفي, والجلي مخالف مثله, فهذا موضع قولي الشافعي ففي القديم: قول الصحابي أولى من القياس, وفي الجديد: القياس أولى.
وقال السهيلي في أدب الجدل": إن انتشر ورضوا به فهو حجة مقطوع بها, وهل يسمى إجماعا؟ وجهان. وإن انتشر ولم يعلم منهم الرضا به فوجهان. وإن لم ينتشر فاختلف أصحابنا فيه على طريقين: "إحداهما": أن المسألة على قولين: أحدهما: وهو الجديد - أنه ليس بحجة. و "الثانية": أنه إن لن ينتشر في الباقين فهو حجة بلا خلاف, وإنما الخلاف إذا عارضه قياس جلي فحينئذ قول خفي. انتهى.
وقال إلكيا: إن لم يعرف له مخالف فهو موضع الخلاف. فإذا اختلفوا فلا شك أنه لا حجة فيه. وقيل: يحتج بأقوالهم وإن اختلفت على تقدير اتباع قول الأعلم منهم, وبه قال الشافعي في رسالته القديمة", لأنه جوز تقليد الصحابي وقال: إن اختلفوا أخذ بقول الأئمة أو بقول أعلمهم بذلك, ورجحه على القياس المخالف له. قال إلكيا: وإن لم يكن بد من تقليد الصحابة فالواجب أن لا يفصل بين أن يختلفوا أو لا, لأن فقد معرفة الخلاف لا ينتهض إجماعا. وفي جواز تقليد العالم من هو أعلم منه, خلاف, رأى محمد بن الحسن جوازه وإن لم ينقل عنه وجوب ذلك.
قال: ثم مذهب الشافعي قديما وجديدا اتباع قضاء عمر - رضي الله عنه - في تقدير دية المجوسي بثمانمائة درهم, وتغليظ الدية بالأسباب الثلاثة اتباعا لآثار الصحابة واختلف الأصحاب في سبب ذلك, فقيل: لأن الواقعة اشتهرت وسكتوا وذلك دليل الإجماع. وقيل: لأنه يرى الاحتجاج بقول الصحابي إذا خالف القياس من حيث لا محمل له سوى التوقيف. قال: ويظهر هذا في التابعي إذا علم مسالك الأحكام وكان مشهورا بالورع لا يميل إلى الأهواء, إلا أن يلوح لنا في مجاري نظره فساد في أصل له عليه بنى ما بنى.
ويخرج من هذا قول آخر أنه حجة إذا لم يكن مدركا بالقياس دون ما للقياس فيه مجال, وهذا القول هو المختار. وبه تجمع نصوص الشافعي رضي الله عنه, وهذا حكاه القاضي في التقريب والغزالي استنباطا من قول الشافعي في كتاب اختلاف الحديث "أنه روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه صلى في ليلة ست ركعات, كل ركعة بست سجدات, ثم قال: إن ثبت ذلك عن علي قلت به, فإنه لا مجال للقياس فيه, فالظاهر أنه جعله توقيفا. هذا لفظه. قال القاضي: وهذا من قوله يدل على أنه كان يعتقد أن الصحابي إذا قال قولا ليس للاجتهاد فيه مدخل فإنه لا يقوله إلا سمعا وتوقيفا وأنه يجب اتباعه عليه, لأنه لا يقول ذلك إلا عن خبر. انتهى.
لكن الغزالي جعله من تفاريع القديم. وهو مردود, لأن اختلاف الحديث من الكتب الجديدة قطعا, رواه عنه الربيع بن سليمان بمصر, وبهذا جزم ابن الصباغ في كتاب الكامل في الخلاف "وقال إلكيا في التلويح" إنه الصحيح, وكذا صاحب المحصول" في باب الأخبار. وعلى هذا ينزل كل ما وقع في الجديد من التصريح فيه بالتقليد, كاتباعه الصديق في عدم قتل الراهب, وتقليده عثمان في البراءة, وعمر في أمهات الأولاد. قال في الأم(4): إذا أصاب الرجل بمكة حماما من حمامها فعليه شاة, اتباعا لعمر وعثمان وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وقال في "اختلاف الحديث": أخذت بقول عمر في اليربوع والضبع حمل. وحكى في القديم هذا القول عن الكرخي, واختاره البزدوي وابن الساعاتي وغيرهم من الحنفية. وهذا هو الذي يعبر عنه ابن الحاجب بقوله: إنه حجة إذا خالف القياس.
نعم, تصرفات الشافعي في الجديد تقتضي أن قوله حجة بشرطين:
" أحدهما ": أن لا يكون للاجتهاد فيه مجال.
" الثاني ": أن يرد في موافقة قوله نص, وإن كان للاجتهاد فيه مجال كما فعل في مسائل الفرائض مقلدا زيدا فيها, لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "أفرضكم زيد"(5)قال إمام الحرمين في النهاية": اختار الشافعي أن يتبع مذهب زيد ولم يضع لذلك كتابا في الفرائض لعلمه بعلم الناس بمذهب زيد, وإنما نص في مسائل متفرقة في الكتاب فجمعها المزني وضم إليها مذهب زيد في المسائل, ولم يقل: "تحريت مذهب الشافعي "كقوله في أواخر كتب مضت, فإن التحري اجتهاد, ولا اجتهاد في النقل. وقد تحقق اتباع الشافعي زيدا, وتردد قول الشافعي حيث تردد قول زيد, وقرب مذهب زيد إلى القياس أن جعل الأم دون الأب في النصيب, قياس ميراث الذكر والأنثى. وكذا قوله: أولاد الأبوين يشاركون ولد الأم لاشتراكهم في القرابة, وجعل الأبوين مانعين الأخوة في رد الأم إلى السدس قياسا على جعل البنين في معنى البنات في استحقاق الثلثين. وقد أورد على هذا أنه خالف القياس في مسائل الجد والإخوة, والمعادة, وإعطاء الأم ثلث ما يبقى, وليس فيه كتاب ولا سنة ولا قياس, لأنا سوينا بين الأبوين مع الابن ومشاركة أولاد الأم خارجة عن القياس, لأنا نعطي العشرة من إخوة الأبوين نصف السدس مثلا, ونعطي الأخت الواحدة للأم السدس, فأي مراعاة لاتخاذ القرابة؟
فإن قيل: إذا كان دليل التقليد الحديث السابق فينبغي أن يتبع عليا رضي الله عنه في قضائه ومعاذا في الحلال والحرام لقوله: "أقضاكم علي, وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ"(6), والجواب - كما قال - إن القضاء يتسع, ويتعلق بما لا يسوغ التقليد فيه, وكذلك الحلال والحرام.
قال: وعندنا أن المذهب لا يستقل بتقليد زيد: وما انتحل مذهبه إلا عن أصل يجوز فيه الرأي, ولهذا خالف الصحابة. والشافعي لم يخل بمسألة عن احتجاج, وإنما اعتصم بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ترجيحا وبهذا تبين. انتهى. وجرى على ذلك الرافعي.
وأما ابن الرفعة فقال: الظاهر أن اختيار الشافعي لمذهب زيد اختيار تقليد, كما يقتضيه ظاهر لفظ الأم إذ قال الشافعي: وقلنا إذا ورث الجد مع الإخوة قاسمهم ما كانت المقاسمة خيرا له من الثلث, فإذا كان الثلث خيرا له منها أعطيه. وهذا قول زيد بن ثابت, وعنه قبلنا أكثر الفرائض وهي التي لا نص فيها ولا إجماع(7).
وجعل الرافعي موضع القولين ما إذا لم ينتشر فيهم, قال: ثم عن الصيرفي والقفال أن القول فيما إذا لم يكن معه قياس أصلا, فإن كان مع قوله قياس ضعيف احتج به وترجح على القياس القوي. قال: والأكثرون على أنه لا فرق. قال: وإن انتشر فإما أن يخالفه غيره أو يوافقه سائر أصحابه أو يسكتوا. فإن خالفه فعلى قوله الجديد هو كاختلاف المجتهدين. وعلى القديم هما حجتان تعارضتا, فترجح من خارج, وإن وافقه جميع الصحابة فهو إجماع منهم.
التفريع على أن قول الصحابي حجة
واحد منهم وفاقه لا خلافه فقد اختلف فيه. والواجب عندنا المصير إليه, لأنه في المعنى راجع إلى أن العصر قد انخرم والحق معدوم, وهذا مع اختصاص الصحابة بمشاهدة الرسول ومعرفة الخطاب منه, إذ الشاهد يعرف بالحال ما يخفى على من بعده. انتهى.
فائدة : قال ابن عبد السلام في فتاويه الموصلية: إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله, ولا يجب على المجتهدين تقليد الصحابة في مسائل الخلاف, ولا يحل لهم ذلك مع ظهور أدلتهم على أدلة الصحابة, لأن الله تعالى أمرنا باتباع الأدلة ولم يوجب تقليد العلماء إلا على العامة الذين لا يعرفون أدلة الأحكام.
__________
(1) - انظر الرسالة ص "597".
(2) - الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 11 / ص 364)
(3) - الحديث رواه الترمذي "5/609" كتاب المناقب باب في منافب أبي بكر وعمر حديث "3662" ورواه ابن ماحة "1/37" حديث "97" وهو حديث صحيح.
(4) - انظر الأم "7/147".
(5) - رواه الترمذي "5/665" كتاب المناقب باب منافب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت ...حديث "3917" وابن ماجة "1/55" في المفدمة حديث "155" وهو حديث صحيح.
(6) - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرْحَمُ أُمَّتِى بِأُمَّتِى أَبُو بَكْرٍ وَأَشَدُّهُمْ فِى أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ »سنن الترمذى (4159 ) وهو حسن لغيره .
(7) - انظر الأم "4/81".(1/251)
فائدة أخرى : ذكر الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه عن الشافعي أنه قال:الْأَصْلُ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَحَّ الْإِسْنَادُ عَنْهُ فَهُوَ سُنَّةٌ . وَالْإِجْمَاعُ أَكْثَرُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ ، وَالْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَإِذَا احْتَمَلَ الْمَعَانِيَ فَمَا أَشْبَهَ مِنْهَا ظَاهِرَهُ أَوْلَاهَا بِهِ . وَإِذَا تَكَافَأَتِ الْأَحَادِيثُ فَأَصَحُّهَا إِسْنَادًا أَوْلَاهَا . وَلَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ مَا عَدَا مُنْقَطِعُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ . وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ . وَلَا يُقَالُ لِأَصْلٍ : لِمَ وَلَا كَيْفَ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْفَرْعِ : لِمَ ، فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَصْلِ صَحَّ ، وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكُلًّا قَدْ رَأَيْتُهُ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ الْمُنْفَرِدَ ؛ اسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي التَّغْلِيسِ ، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ حَدِيثَ الْغَرَرِ . وَكُلٌّ قَدِ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا وَتَرَكُوا الْآخَرَ ، وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا وَتَرَكُوا الْآخَرَ . وَالَّذِي لَزِمَ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ ، وَأَنَا أَظْلِمُ فِي إِلْزَامِ تَقْلِيدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا نَظَرًا أَتْبَعُهُمْ لِلْقِيَاسِ ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَصْلٌ يُخَالِفُهُمْ ، أَتَّبِعُ أَتْبَعَهُمْ لِلْقِيَاسِ . قَدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ ؛ الْقِيَاسُ فِيهَا مَعَ عَلِيٍّ ، وَبِقَوْلِهِ آخُذُ ، مِنْهَا الْمَفْقُودُ ، قَالَ عُمَرُ : يُضْرَبُ الْأَجَلُ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ ، ثُمَّ تَعْتَدُّ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : امْرَأَتُهُ لَا تُنْكَحُ أَبَدًا . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ حَتَّى يَتَّضِحَ بِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ . وَقَالَ عُمَرُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي سَفَرٍ ، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا فَسَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ ، وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ حَتَّى تَحِلَّ وَتُنْكَحُ : إِنَّ زَوْجِهَا الْآخَرَ أَوْلَى بِهَا إِذَا دَخَلَ بِهَا . وَقَالَ عَلِيٌّ : هِيَ لِلْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . وَقَالَ عُمَرُ فِي الَّذِي يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فِي الْعِدَّةِ ، وَيَدْخُلُ بِهَا أَنَّهُ يفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا وَقَالَ عَلِيٌّ : يَنْحِكُهَا بَعْدُ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَقْرَاءِ ، وَأَصَحُّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ : " مُرْهُ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " . فَلَمَّا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِدَّةً كَانَ أَصَحَّ الْقَوْلِ فِيهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمَّى الْأَطْهَارَ الْعِدَّةَ " .(1)
وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب الأصول الخمسة عشر": أربعة من الصحابة تكلموا في جميع أبواب الفقه, وهم: علي وزيد وابن عباس وابن مسعود. وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا على مسألة على قول فالأمة فيها مجمعة على قولهم غير مبتدع لا يعتد بخلافه. وكل مسألة انفرد فيها علي بقول عن سائر الصحابة تبعه فيها ابن أبي ليلى والشعبي وعبيدة السلماني, وكل مسألة انفرد فيها زيد بقول تبعه الشافعي ومالك في أكثره. وتبعه خارجة بن زيد لا محالة. وكل مسألة انفرد بها ابن مسعود تبعه علقمة والأسود وأبو أيوب.
فصل [التفريع على أن قول الصحابي ليس بحجة].
وإن قلنا: ليس بحجة فلا يكون قول بعضهم حجة على البعض, ولا يجوز لأحد الفريقين تقليد الآخر, ولا يمنع من تقليدهم من ليس بمجتهد, لكن الذي صرف الناس عن تقليدهم أنهم اشتغلوا بالجهاد وفتح البلاد ونشر الدين وإعلامه فلم يتفرغوا لتفريع الفروع وتدوينها, ولا انتشر لهم مذاهب يعرف آحادهم بها, كما جرى ذلك لمن بعدهم.
وأما تقليد المجتهد لهم ففيه ثلاثه أقوال للشافعي, ثالثها: يجوز إن انتشر قوله ولم يخالف, وإلا فلا. وقد أفرد الغزالي رحمه الله هذه المسألة بالذكر بعد الكلام في أن قول الصحابة حجة أم لا؟ فقال في المستصفى": إن قال قائل: إذا لم يجب تقليدهم, هل يجوز تقليدهم؟ قلنا: أما العامي فيقلدهم. وأما العالم فإن جاز له تقليد العالم جاز له أن يقلدهم, وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي في تقليد الصحابة, فقال في القديم: يجوز إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف. وقال في موضع آخر: يقلد وإن لم ينتشر. وقال: ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد العالم عالما آخر. نقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي فيها يجوز للصحابي الفتوى, وهو الصحيح المختار عندنا(2). انتهى.
وقد تبعه على إفراد هذه المسألة وجعلها فرعا لما قبلها ابن السمعاني والرازي وأتباعه والآمدي. ويوافقه حكاية ابن القطان في كتابه قولين في الصحابي إذا قال قولا ولم ينتشر: " أحدهما ": أن تقليده واجب, وليس للتابعي مخالفته. و " الثاني ": أن له مخالفته والنظر في الأدلة. وأعرض ابن الحاجب عن إفراد هذه المسألة بالذكر, لأنها عين ما قبلها, وهو الحق, لأن الظاهر أن الشافعي حيث صرح بتقليد الصحابي لم يرد به التقليد المشهور, وهو قبول قول غيره ممن لا يجب عليه اتباعه من غير حجة, بل مراده بذلك الاحتجاج فإنه استعمله في موضع الحجة فقال في مختصر المزني, في باب القضاء في الكلام على المشاور: ولا يقبل وإن كان أعلم منه حتى يعلم كعلمه أن ذلك لازم له, فأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - . هذا نصه.
فأطلق اسم التقليد على الاحتجاج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولا سيما مع ما استقر من قوله المتكرر في غير موضع بالنهي عن التقليد والمنع منه. ويدل على ذلك قول الماوردي والجوري: إن مذهب الشافعي في القديم أن قول الصحابي حجة بمفرده إذا اشتهر ولم يظهر له مخالف. قال الماوردي: لا سيما إذا كان الصحابي إماما, وأغرب ابن الصباغ فحكى ذلك عن الجديد وقد سبق.
ثم قول الغزالي أنه رجع عنه في الجديد معارض بما نص عليه في كتاب الأم في غير موضع بتقليد الصحابة, كما سبق في البيع بشرط البراءة. وقوله: "قلته تقليدا لعثمان"(3)، نقله المزني في مختصره, والربيع في اختلاف العراقيين "فإن كان أراد الشافعي بالتقليد للصحابي في القديم معناه المعروف فهو كذلك هنا أيضا في الجديد. والأظهر أنه أراد به الاحتجاج بقول الصحابي, وأطلق اسم التقليد عليه مجازا كما أطلقه في الاحتجاج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قال الغزالي في "المستصفى"(4)بعدما سبق: فإن قيل: فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم لقول عثمان. ولذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة لقول عثمان. قلنا له: في مسألة شرط البراءة أقوال, فلعل هذا مرجوع عنه. انتهى. وهذا مردود بأنا قد بينا أنه نص عليه في غير موضع من كتبه الجديدة وقال: إنه الذي ذهب إليه, وبه قطع أبو إسحاق المروزي وابن خيران وغيرهما, ولم يجعلا للشافعي قولا في المسألة غيره, وهو الذي صححه المتأخرون. وأما مسألة تغليظ الدية فقد احتج الشافعي فيها بما روي عن عثمان أنه قضى في امرأة قتلت بالدية وثلث الدية, وروي نحوه عن عمر وابن عباس, ولا مخالف لهم من الصحابة, فيكون اعتمد ذلك بناء على أنه إجماع سكوتي, أو لأنه قضى به عثمان, وهو قد نص في الجديد على الرجوع إلى قول أحد الخلفاء الأربعة لأنه يشتهر غالبا بخلاف قول المفتى.
وقد حكى الغزالي أيضا في الموضع المشار إليه أيضا أن الشافعي اختلف قوله فيما إذا اختلف الإفتاء والحكم من الصحابة, فقال مرة: الحكم أولى, لأن العناية به أشد والمشورة فيه أبلغ. وقال مرة: الفتوى أولى, لأن سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة لأولي الأمر. وعزا هذا الاختلاف للقديم وجعله مرجوعا عنه. وفيه من النظر ما سلف نصه في كتبه الجديدة.
ظهر مما ذكرناه أن ذكر المنهاج هذا القول الثالث في أصل مسألة الحجية ليس بغلط, كما زعم شراحه, بل هو الصواب.
أما إذا انضم إلى قول الصحابي القياس ففيه مسألتان:
إحداهما : إذا تعارض قول صحابيين واعتضد أحدهما بالقياس. وقد سبقت عن النص.
الثانية : إذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بقول الصحابي, فحكى الرافعي عن الغزالي أنه قد قيل تميل نفس المجتهد إلى ما يوافق قول الصحابي ويرجح عنده. قال النووي: وقد صرح الشيخ في اللمع "وغيره من الأصحاب بالجزم بالموافق انتهى. وأنا أقول: من يرى أن قول الصحابي بمفرده حجة مقدمة على القياس يكون احتجاجه هنا بقول الصحابة بطريق الأولى. ومن يرى أنه ليس بحجة فإما أن يكون القياسان صحيحين متساويين أو لا, فإن كانا كذلك ولم يترجح أحدهما على الآخر بمرجح في الأصل أو حكمه, أو في العلة, أو دليلها, أو في الفرع, فالظاهر أن القياس المعتضد بقول الصحابي مقدم, ويكون ذلك من الترجيحات بالأمور الخارجية, كما ترجح أحد الخبرين المعارضين بعمل بعض الصحابة دون الآخر. وأما إذا كان أحد القياسين مرجحا على الآخر في شيء مما ذكرنا, ومع المرجوح قول بعض الصحابة فهذا محل النظر على القول بأن قوله ليس بحجة, والاحتمال منقدح.
وقد تقدم حكاية ابن الصباغ عن بعض أصحابنا أن القياس الضعيف إذا اعتضد بقول الصحابي يقدم على القياس القوي, وذاك هنا بطريق الأولى, وتقدم نقل الماوردي عن الشافعي أن رأيه في الجديد أن قياس التقريب إذا انضم إلى قول الصحابي كان أولى من قياس التحقيق, ومثل الماوردي قياس التقريب(5)بما ذكره الشافعي في مسألة البيع بشرط البراءة من العيوب أن الحيوان يفارقه ما سواه, لأنه يغتذى بالصحة والسقم, وتحول طبائعه, وقلما يخلو من عيب وإن خفي فلا يمكن الإخبار عن عيوبه الخفية بالإشارة إليها والوقوف عليها, وليس كذلك غير الحيوان, لأنه قد يخلو من العيوب ويمكن الإخبار فيها بالإشارة إليها لظهورها, فدل على افتراق الحيوان وغيره من جهة المعنى, مع ما روي معه من قصة عثمان.
وحاصله - على ما نقله الماوردي عن الجديد من مذهب الشافعي - أن القياس المرجوح إذا اعتضد بقول الصحابي كان مقدما على القياس الراجح, فيحتمل أن
يكون هذا تفريعا منه على أن قول الصحابي حجة, كما تقدم عنه في "الرسالة الجديدة" ويحتمل أن يكون على القول الآخر الذي اشتهر عند الأصحاب عن الجديد أنه ليس بحجة. وهو ظاهر كلام الماوردي, وقد ترجم القاضي في التقريب لهذه المسألة, وحكى خلاف القياس, وأنه هل يترجح قول الصحابي بذلك القياس الضعيف على القياس القوي, أو يجب العمل بأقوى القياسين؟ ثم رجح هذا الثاني.
مسألة فإن قال التابعي قولا لا مجال للقياس فيه لم يلتحق بالصحابي عندنا, خلافا للسمعاني كما سبق. قال صاحب الغاية من الحنابلة: "من قام من نوم الليل فغمس يده في إناء قبل أن يغسلها ذهب الحسن البصري [إلى] زوال طهوريته, وهو يخالف القياس. والتابعي إذا قال مثل ذلك كان حجة, لأن الظاهر أنه قال توقيفا عن الصحابة, أو عن نص ثبت عنده. قال صاحب المسودة": وظاهر كلام أحمد وأصحابنا أنه لا اعتبار بذلك, بل يجعل كمجتهداته.اهـ
وقال الشوكاني(6):
" أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر، وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر، والآمدي، وابن الحاجب، وغيرهم.
واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين، ومن بعدهم، على أقوال(7):
الأول: أنه ليس بحجة مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور.
الثاني: أنه حجة شرعية، مقدمة على القياس، وبه قال أكثر الحنفية، ونقل عن مالك، وهو قديم قولي الشافعي.
الثالث: أنه حجة إذا انضم إليه القياس، فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي، وهو ظاهر قول الشافعي في "الرسالة".
قال: وأقوال الصحابة إذا تفرقا نصير منها إلى ما وافق الكتاب، أو السنَّة، أو الإجماع، أو كان أصح في القياس، وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة، صرت إلى إتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا، ولا سنة، ولا إجماعا، ولا شيئًا يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس. انتهى.
وحكى القاضي حسين، وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة، إذا عضده القياس، وكذا حكاه عنه القفال الشاشي، وابن القطان.
قال القاضي في "التقريب": إنه الذي قاله الشافعي في الجديد، واستقر عليه مذهبه، وحكاه عنه المزني، وابن أبي هريرة.
الرابع: أنه حجة إذا خالف القياس؛ لأنه لا محمل له إلا التوقيف، وذلك أن القياس والتحكم في دين الله باطل، فيعلم أنه لم يقلد إلا توقيفا.
قال ابن برهان في "الوجيز": وهذا هو الحق المبين، قال: ومسائل الإمامين أبي حنيفة، والشافعي رحمهما الله تدل عليه. انتهى(8).
ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد، أما إذا لم يكن منها، ودل دليل على التوقيف، فليس مما نحن بصدده. "
والحقُّ: انه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وليس لنا إلا رسول واحد، وكتاب واحد، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه، وسنة نبيه، ولا فرق بين الصحابة "وبين" من بعدهم، في ذلك، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية، وباتباع الكتاب والسنة، فمن قال: إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله، وسنة رسوله، وما يرجع إليهما، فقد قال في دين الله بما "لم" يثبت، وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به، وهذا أمر عظيم، وتقوُّل بالغ فعن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله، أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى، مما لا يدان الله عز وجل به، ولا يحل لمسلم الركون إليه، ولا العمل عليه، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله، الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم، وإن بلغ فالعلم والدين عظم المنزلة أي مبلغ، ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم، ولكن ذلك في الفضيلة، وارتفاع الدرجة، وعظمة الشأن، وهذا مسلَّم لا شك فيه، ولهذا "صار مد"أحدهم لا "تبلغ إليه" من غيرهم الصدقة بأمثال الجبال، ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجية قوله، وإلزام الناس باتباعه، فإن ذلك مما لم يأذن الله به، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد.
وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي، مما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فهذا لم يثبت قط، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن، بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل، على أنه لو ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة، الثابتة من الكتاب والسنة، وحرصهم على اتباعها، ومشيهم "في" طريقتها، يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها، واتباعها هداية كاملة؛ لأنه لو قيل لأحدهم لِمَ قلت كذا "أو لِمَ فعلت كذا، لَمْ ٍْْْيعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة، ولَمْ يتلعثم في بيان ذلك.
وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: " اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر" وما صح عنه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين".
فاعرف هذا، واحرص عليه، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يأمرك باتباع غيره، ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ولا جعل شيئًا من الحجة عليك في قول غيره، كائنا من كان. اهـ
قلت : ويردُّ على الشوكاني من وجهين :
الأول- هذا الكلام الذي قاله الشوكاني مليء بالمغالطات ، فمن من الأئمة قال : نترك القرآن والسُّنَّة ونتبع قول الصحابي ؟
والذين قالوا بجواز العمل بقول الصحابي هو فيما إذا لم يكن في المسألة الشرعية نصٌّ صريح لا في الكتاب ولا في السنَّة النبوية، وقدمه الكثيرون على القياس .
وهل اتباع قول الصحابي في ذلك هو إيجاد شرع جديد غير شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟!!!
وهل يقارن أي مجتهد في الأرض بالصحابة في العلم والفضل ؟!!
وهل الصحابة - رضي الله عنهم- كانوا يستنبطون الأحكام الشرعية من غير الكتاب والسُّنَّة؟!!
وهل أقوالهم خارجة عما يدلُّ عليه الكتاب والسُّنَّة دلالة عامة أو خاصة ؟!
وهل نقل لنا الكتاب والسُّنَّة سوى هؤلاء ؟!!
فإذا كان الذين عاصروا التنزيل مثلهم مثل غيرهم فعلى الدنيا العفاء !
بل نصوص القرآن والسُّنَّة تدل على عكس ما ذهب إليه ، ومن راجع كلام ابن القيم - وهو ممن يمنع التقليد- لرأى تهافت كلام الشوكاني رحمه الله .
والثاني-لقد ناقض نفسه وأيد القول بحجية الصحابي في كتابه (التقليد والإفتاء والاستفتاء)(9)
قال : " منصوص الشافعي في قوله القديم والجديد أن قول الصحابي حجة.
أمَّا قوله القديم فأصحابه مقِرُّون به، وأما الجديد فحكى عنه كثير من أصحابه فيه، أن قول الصحابي ليس بحجة، إلا أن هذه الحكاية غير محرَّرة؛ إذ لا يحفظ عن الإمام قول في الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة.
وغاية ما يتعلق به هؤلاء الذين نقلوا عنه عدم حجية قول الصحابي، هو قولهم: إن الشافعي -رحمه الله- يحكي أقوال الصحابة في مذهبه الجديد، ثم يخالفها، وهذا يدل على أن أقوال الصحابة ليست بحجة عنده، ولو كانت عنده حجة لم يخالفها.
ويتعلَّق بعضهم بأن الشافعي في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة لا يعتمد عليها وحدها، كما يعتمد على النصوص وحدها، بل نراه يعضدها بضروب من الأقيسة: فنراه تارة يذكرها ويصرح بخلافها، وتراه تارة أخرى يوافقها ولا يعتمد عليها، بل يعضدها بذكر دليل آخر.
وما تعلَّق به كل من الفريقين ضعيف جدًّا.
أما ما تعلق به الفريق الأول فيجاب عنه، بأن المجتهد إذا خالف الدليل المعين لدليل هو أقوى في نظره منه، فإنه لا يدل على أنه لا يرى الأول دليلا، وهذا من حيث الجملة.
وأما ما تعلق به الفريق الثاني، فيجاب عنه: بأن الشافعي -رحمه الله- إذا عضد قول الصحابي بضروب من الأقيسة، فهذا من باب تظافر الأدلة وتناصرها، وهذا من عادة أهل العلم قديمًا وحديثًا، فلا يدل سردهم للأدلة المتتابعة على أن ما ذكروه من الأدلة مقدَّمًا ليس بدليل.
ويجاب أيضًا عن ما توهمه كل من الفريقين الذين حكوا عن الشافعي في الجديد أن قول الصحابي ليس بحجة، بأن الشافعي صرَّح في الجديد من رواية الربيع عنه، بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الْأُمُورِ ضِرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا أُحْدِثَ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سَنَةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا , فَهَذِهِ لَبِدْعَةُ الضَّلَالَةِ . وَالثَّانِيةُ : مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا , فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ : " نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ " يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ , وَإِنْ كَانَتْ فَلَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى".(10)
فقد جعل -رحمه الله- مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع، ضلالة، فكيف يقال بعد هذا إنه لا يرى قول الصحابي حجة، والربيع إنما أخذ عنه بمصر.
__________
(1) - الفقيه والمتفقه ( 457 )
(2) - انظرالمستصفى "2/267, 268".
(3) - انظر الأم "7/99".
(4) - انظر المستصفى ص "171".
(5) - الحاوي في فقه الشافعي - الماوردي - (ج 5 / ص 271)
(6) - إرشاد الفحول - (ج 2 / ص 187) فما بعد
(7) - انظر فواتح الرحموت 2/ 185 والبحر المحيط 6/ 53.
(8) - انظر تتمة البحث مفصلا في البحر المحيط 6/ 59.
(9) - التقليد والإفتاء والاستفتاء للشوكاني - (ج 1 / ص 51) فما بعدها
(10) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (190 ) صحيح(1/252)
وفي مَعْرِفَةُ السُّنَنِ وَالْآثَارِ لِلْبَيْهَقِيِّ-أَقَاوِيلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , وَمَا يُقْضَى وَمَا يُفْتَى بِهِ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ : أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَيْ : أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ - قَالَ فِي الْقَدِيمِ : أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبُّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ ، ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ ، وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ . قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ ، ثُمَّ الثَّانِيَةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ ، وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ ، وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ . وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهُمَا مَوْجُودَانِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي : وَغَيْرِ جَائِزٍ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ دَهْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَبْيَنَ فَضْلًا فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنْهُ ، وَلَا يَقْضِي أَبَدًا إِلَّا بِمَا يَعْرِفُ ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ لَهُ عُلَمَاءٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوِ افْتَرَقُوا فَسَوَاءٌ لَا يَقْبَلُهُ إِلَّا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِمْ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ يُدِلُّونَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْقِلَهُ كَمَا عَقَلُوهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عَلَى التَّقْلِيدِ أَوِ الْقِيَاسِ . قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ : رُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ وَانْتَخَبَهُ بِعِلْمِهِ ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابَهُ ، فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَأَوْهُ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ "
وقال البيهقي في كتابه: "مدخل السنن"، باب: "ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا ( 20 )": قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ : " إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا نَصِيرُ إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ ، أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ , وَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمُ الْقَوْلَ لَا نَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُ مُوَافَقَةً وَلَا خِلَافًا , صِرْتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ وَاحِدِهِمْ ، إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا شَيْئًا فِي مَعْنَاهُ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ أَوْ وُجِدَ مَعَهُ قِيَاسٌ "
قلت : وفي حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (13592) حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانٍ ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ ، ثَنَا أَبُو حَاتِمٍ ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، قَالَ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ : الْأَصْلُ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِذَا اتَّصَلَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّ الْإِسْنَادُ عَنْهُ فَهُوَ سُنَّةٌ . وَالْإِجْمَاعُ أَكْثَرُ مِنَ الْخَبَرِ الْمُنْفَرِدِ ، وَالْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَإِذَا احْتَمَلَ الْمَعَانِيَ فَمَا أَشْبَهَ مِنْهَا ظَاهِرَهُ أَوْلَاهَا بِهِ . وَإِذَا تَكَافَأَتِ الْأَحَادِيثُ فَأَصَحُّهَا إِسْنَادًا أَوْلَاهَا . وَلَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ مَا عَدَا مُنْقَطِعُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ . وَلَا يُقَاسُ أَصْلٌ عَلَى أَصْلٍ . وَلَا يُقَالُ لِأَصْلٍ : لِمَ وَلَا كَيْفَ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْفَرْعِ : لِمَ ، فَإِذَا صَحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الْأَصْلِ صَحَّ ، وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَكُلًّا قَدْ رَأَيْتُهُ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ الْمُنْفَرِدَ ؛ اسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّغْلِيسِ ، وَاسْتَعْمَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ حَدِيثَ الْغَرَرِ . وَكُلٌّ قَدِ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا وَتَرَكُوا الْآخَرَ ، وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا وَتَرَكُوا الْآخَرَ . وَالَّذِي لَزِمَ قُرْآنٌ وَسُنَّةٌ ، وَأَنَا أَظْلِمُ فِي إِلْزَامِ تَقْلِيدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا نَظَرًا أَتْبَعُهُمْ لِلْقِيَاسِ ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ أَصْلٌ يُخَالِفُهُمْ ، أَتَّبِعُ أَتْبَعَهُمْ لِلْقِيَاسِ . قَدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ ؛ الْقِيَاسُ فِيهَا مَعَ عَلِيٍّ ، وَبِقَوْلِهِ آخُذُ ، مِنْهَا الْمَفْقُودُ ، قَالَ عُمَرُ : يُضْرَبُ الْأَجَلُ إِلَى أَرْبَعِ سِنِينَ ، ثُمَّ تَعْتَدُّ امْرَأَتَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا . وَقَالَ عَلِيٌّ : امْرَأَتُهُ لَا تُنْكَحُ أَبَدًا . وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ حَتَّى يَتَّضِحَ بِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ . وَقَالَ عُمَرُ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فِي سَفَرٍ ، ثُمَّ يَرْتَجِعُهَا فَسَيَبْلُغُهَا الطَّلَاقُ ، وَلَا تَبْلُغُهَا الرَّجْعَةُ حَتَّى تَحِلَّ وَتُنْكَحُ : إِنَّ زَوْجِهَا الْآخَرَ أَوْلَى بِهَا إِذَا دَخَلَ بِهَا . وَقَالَ عَلِيٌّ : هِيَ لِلْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا . وَقَالَ عُمَرُ فِي الَّذِي يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ فِي الْعِدَّةِ ، وَيَدْخُلُ بِهَا أَنَّهُ يفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا وَقَالَ عَلِيٌّ : يَنْحِكُهَا بَعْدُ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَقْرَاءِ ، وَأَصَحُّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : " مُرْهُ - يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ - أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ " . فَلَمَّا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةً كَانَ أَصَحَّ الْقَوْلِ فِيهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّى الْأَطْهَارَ الْعِدَّةَ "(1).
وفي جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ - بَابُ جِامِعِ بَيَانِ مَا يَلْزَمُ النَّاظِرَ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ (1066) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ ثنا الْمَيْمُونُ بْنُ حَمْزَةَ الْحُسَيْنِيُّ بِمِصْرَ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ ، ثنا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ ، ح وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : نا أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ زِيَادٍ الْمَدَائِنِيُّ ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ " فِي اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصِيرُ مِنْهُمَا إِلَى مَا وَافَقَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ أَوْ كَانَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ وَقَالَ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ : إِذَا لَمْ يُحْفَظْ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ صِرْتُ إِلَيْهِ وَأَخَذْتُ بِهِ إِذَا لَمْ أَجِدْ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا دَلِيلًا مِنْهَا هَذَا إِذَا وَجَدْتُ مَعَهُ الْقِيَاسَ ، قَالَ : وَقَلَّ مَا يُوجَدُ ذَلِكَ " قَالَ الْمُزَنِيُّ : " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ قَبِلَ قَوْلَهُ بِحُجَّةٍ فَفِي هَذَا مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي كُلِّ قَرْنٍ يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ قَضَاءٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنْ لَا يُقَالَ إِلَّا بِحُجَّةٍ وَأَنَّ الْحَقَّ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقُضَاةِ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَيُفْتِيَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَبِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ وَعَالِمًا بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ وَعَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ، حَسَنَ النَّظَرِ صَحِيحَ الْأَوَدِ وَرِعًا مُشَاوِرًا فِيمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَسَائِرُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَشْتَرِطُونَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْمُفْتِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ " ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَمَرَّةً قَالَ : أَمَّا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شِئْتُ مِنْهُمْ وَلَا أَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ جَمِيعِهِمْ وَإِنَّمَا يَلْزَمُنِي النَّظَرُ فِي أَقَاوِيلِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ دُونَهُمْ " قَالَ أَبُو عُمَرَ : " قَدْ جَعَلَ لِلصِّحَابَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَجْعَلْ لِغَيْرِهِمْ وَأَظُنُّهُ مَالَ إِلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَإِلَى نَحْوِ هَذَا كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْهَبُ "
وفي الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ - بَابُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ (21 ) أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو ، فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ , أَبْنَا الرَّبِيعُ قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مَا كَانَ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ مَوْجُودَيْنِ فَالْعُذْرُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُمَا مَقْطُوعٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمَا , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِرْنَا إِلَى أَقَاوِيلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ وَاحِدِهِمْ , ثُمَّ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، " إِذَا صِرْنَا إِلَى التَّقْلِيدِ أَحَبَّ إِلَيْنَا وَذَلِكَ إِذَا لَمْ نَجِدْ دَلَالَةً فِي الِاخْتِلَافِ تَدُلُّ عَلَى أَقْرَبِ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَنَتَّبِعُ الْقَوْلَ الَّذِي مَعَهُ الدَّلَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ مَشْهُورٌ مَا يَلْزَمُ النَّاسَ , وَمَنْ لَزِمَ قَوْلُهُ النَّاسَ كَانَ أَشْهَرَ مِمَّنْ يُفْتِي الرَّجُلَ أَوِ النَّفْرَ ، وَقَدْ يَأْخُذُ بُفُتْيَاهُ وَيدَعُهَا وَأَكْثَرُ الْمُفْتِينَ يُفْتُونَ الْخَاصَّةَ فِي بُيوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ , وَلَا يُعْنَى الْعَامَّةُ بِمَا قَالُوا عِنَايَتَهُمْ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ , وَقَدْ وَجَدْنَا الْأَئِمَّةَ يُنْتَدَبُونَ فَيُسْأَلُونَ عَنِ الْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أَرَادُوا , وَأَنْ يَقُولُوا فِيهِ وَيَقُولُونَ ، فَيُخْبَرُونَ بِخِلَافِ قَوْلِهِمْ فَيَقْبَلُونَ مِنَ الْمُخْبِرِ وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَنْ يَرْجِعُوا لِتَقْوَاهُمُ اللَّهَ وَفَضْلِهِمْ فِي حَالَاتِهِمْ , فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنِ الْأَئِمَّةِ فَأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدِّينِ فِي مَوْضِعِ الْأَمَانَةِ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ وَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ أَوْلَى بِنَا مِنَ اتِّبَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ " قَالَ : وَالْعِلْمُ طَبَقَاتٌ : الْأُولَى : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ , ثُمَّ الثَّانِيةُ : الْإِجْمَاعُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابٌ وَلَا سَنَةٌ , وَالثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْهُمْ , وَالرَّابِعَةُ : اخْتِلَافُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ , وَالْخَامِسَةُ : الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ وَلَا يُصَارُ إِلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ الْقَدِيمَةِ , بَعْدَ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ ، فَقَالَ : " وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرِعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ , وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ وَأَوْلَى بِنَا مِنْ آرَائِنَا عِنْدَنَا لِأَنْفُسِنَا , وَ اللَّهُ أَعْلَمُ , وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ أَرْضِي أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ سَنَةً إِلَى قَوْلِهِمْ إِنِ اجْتَمِعُوا ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنْ تَفَرَّقُوا ، فَهَكَذَا نَقُولُ إِذَا اجْتَمَعُوا أَخَذْنَا بِاجْتِمَاعِهِمْ ، وَإِنْ قَالَ وَاحِدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ , فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَخَذْنَا بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَلَمْ نُخَرِّجْ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ كُلِّهِمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلَانِ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ نَظَرْتُ ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَشْبَهُ بِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذْتُ بِهِ , لِأَنَّ مَعَهُ شَيْئًا يَقْوَى بِمِثْلِهِ لَيْسَ مَعَ الَّذِي يُخَالِفُهُ مِثْلُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ دَلَالَةٌ بِمَا وَصَفْتُ كَانَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَرْجَحُ عِنْدَنَا مِنْ أَحَدٍ ، لَوْ خَالَفَهُمْ غَيْرُ إِمَامٍ وَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَقَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَوْلِ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سَنَةٍ كَانَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ عُمَرَ ، أَوْ عُثْمَانَ ، أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِمْ إِنْ خَالَفَهُمْ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ أَهْلُ عِلْمٍ وَحُكَّامٌ ، ثُمَّ سَاقَ الْكَلَامَ إِلَى أَنْ قَالَ : فَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكَّامُ اسْتَدْلَلْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي اخْتِلَافِهِمْ فَصِرْنَا إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَقَلَّ مَا يَخْلُو اخْتِلَافُهُمْ مِنْ دَلَائِلِ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ , وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَفْتُونَ يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ بِلَا دَلَالَةٍ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرْنَا إِلَى الْأَكْثَرِ , فَإِنْ تَكَافَؤُوا نَظَرْنَا إِلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ مَخْرَجًا عِنْدَنَا ، وَإِنْ وَجَدْنَا لِلْمُفْتِينَ فِي زَمَانِنَا وَقَبْلَهُ اجْتِمَاعًا فِي شَيْءٍ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَبِعْنَاهُ ، وَكَانَ أَحَدَ طُرُقِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ وَهِيَ : كِتَابُ اللَّهِ , ثُمَّ سَنَةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ الْقَوْلُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ , ثُمَّ اجْتِمَاعُ الْفُقَهَاءِ , فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ لَمْ نَجِدْ فِيهَا وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْبَارِ فَلَيْسَ السَّبِيلُ فِي الْكَلَامِ فِي النَّازِلَةِ إِلَّا اجْتِهَادُ الرَّأْيِ"
وقال الشافعي أيضًا: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة، الثانية: الإجماع، فيما ليس كتابًا ولا سنة، الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلاف الصحابة، الخامسة: القياس " هذا كله كلامه في الجديد.
وقال الشافعي في الجديد، في قتل الراهب: إنه القياس عنده، ولكن اتركه لقول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -(2).
ويوافق الشافعي على قبول قول الصحابة أئمة الإسلام، ففي الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ - بَابُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا فِيهَا وَيُسْتَدَلُّ بِهِ (22 )أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَإِذَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْتَارُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ زَاحَمْنَاهُمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ ، وَالتَّوْرَاةِ ، وَالْإِنْجِيلِ كَأَنَّهُ عَنَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ مَا آتَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ"
ثم قال : "لقد اختص الله الصحابة بخصائص، وميزهم بميزات لم تكن في مَن بعدهم، فقد كانوا أبرَّ الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقربها إلى الصواب.
وقد خصَّهم الله بفصاحة اللسان، وتوقد الأذهان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وقلة المعارض، وحسن القصد، وتقوى الرب سبحانه، فالعربية سليقتهم وطبيعتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، وليسوا بحاجة إلى النظر في الإسناد، وأحوال الرواة، وعلل الحديث، والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول، بل هم مستغنون عن هذا كله، وليس أمامهم إلا كتاب الله وسنة رسوله ومعاني كل منهما.
وهم أسعد الناس بهذا من المتأخرين؛ لأن قواهم متوافرة مجتمعة عليها، إلى جانب ما خُصُّوا به من قوى الأذهان وصفائها وصحتها، وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون، وقلة الصارف، وتلقيهم من مشكاة النبوة.
__________
(1) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ(457)
(2) - الأم للشافعي(ج 12 / ص 192)(1/253)
بخلاف المتأخرين فقواهم متفرقة، وهممهم متشعِّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها بشعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام المصنِّفين والمشايخ -على اختلافهم فيما أرادوا به- قد أخذ منها شعبة، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلَّت وضعفت، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب تلك القوة، وهذا أمر محسوس مشاهد.
ثم قال : " إذا وجد للصحابي قول فلا يخلو أن يخالفه صحابي آخر، أو لا يخالفه: فإن لم يخالفه صحابي آخر، فإما أن يُشْتَهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر: فإن اشْتُهر فالذي عليه جماهير الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع.
وقال شرذمة من المتكلمين والفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة. وإن لم يشتهر قول الصحابي، أو لم يعلم هل اشتهر أم لا؟
فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة، وهو قول جمهور الحنفية، وصرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًّا، وهو مذهب مالك وأصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه.
وإن خالفه صحابي آخر، فلا يخلو من أن يكون مثله في العلم، أو يكون أعلم منه: فإن كان مخالفه مماثلا له في العلم لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وإن كان مخالفه أعلم منه، كأن يكون المخالف أحد الخلفاء الراشدين أو جميعهم، فللعلماء في الأخذ بقول الأعلم قولان -وهما روايتان عن الإمام أحمد- وأصح القولين أن القول الذي ذهب إليه الخلفاء الراشدين أو بعضهم أرجح وأولى أن يؤخذ به من قول الصحابي المخالف لهم.
فإن ذهب الخلفاء الأربعة إلى قول فالراجح أن الصواب معهم دون المخالف لهم، وإن ذهب بعض الخلفاء إلى قول وبعضهم إلى قول آخر فالصواب أغلب في قول الأكثر منهم، فإن انقسموا بالتساوي فذهب اثنان من الخلفاء إلى قول واثنان إلى قول آخر، فالأقرب إلى الصواب القول الذي ذهب إليه أبو بكر وعمر.
فإن اختلف أبو بكر وعمر، وذهب كل منهما إلى قول، فالأقرب إلى الصواب قول أبي بكر؛ إذ لا يحفظ للصدِّيق خلاف نص واحد، ولا يحفظ له فتوى ولا حكم مأخذها ضعيف أبدًا، وهذا تحقيق لكون خلافته خلافة نبوة.ويكفي في ذلك معرفة رجحان قول الصدِّيق في الجد والإخوة، وأن الجد أب يُسْقط الإخوة، ورجحان قوله في كون الطلاق الثلاث بكلمة واحدة لا تقع إلا طلقة واحدة، فإن العالم المتَّصف إذا نظر في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له أن جانب الصدِّيق أرجح من الجانب الآخر، وكذك بالنسبة لفتاوى التابعين وأقوالهم".(1)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - وانظر لقاءات الباب المفتوح - (ج 74 / ص 11)-حجية قول الصحابي:(1/254)
الحديثُ المَقْطوُعُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: اسم مفعول من " قَطَعَ " ضد " وَصَلَ".
ب) اصطلاحاً: ما أُضيف إلى التابعي(2)أو من دونه من قول أو فعل أو تقرير أو صفة . ويسمى : ( الأثر ) كذلك ..
2- شرحُ التعريف :
أي هو ما نُسِبَ أو أُسنِدَ إلى التابعي أو تابع التابعي فمن دونه من قول أو فعل ، والمقطوع غير المنقطع ، لأن المقطوع من صفات المتن ، والمنقطع من صفات الإسناد ، أي أن الحديث المقطوع من كلام التابعي فمن دونه ، وقد يكون السند متصلا إلى ذلك التابعي ، على حين أن المنقطع يعني أن إسناد ذلك الحديث غير متصل ، ولا تعلق له بالمتن .
3- أمثلة:
أ) مثال المقطوع القولي : فعَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : إِذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ أَحْدَثَ أَجْزَأَهُ الْوُضُوءُ..(3)
وعَنْ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : مَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا أَحَقُّ بِالصَّلاَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ الْمَيِّتُ صَلَّى عَلَيْهِ أَفْضَلُ أَهْلِ بَيْتِهِ.(4)
ب) مثال المقطوع الفعلي : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ ، قَالَ : كَانَ مَسْرُوقٌ لاَ يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ مَعَهَا امْرَأَةٌ. "(5)
وعَنْ هِشَامٍ ، قَالَ : كَانَ مُحَمَّدٌ يَسْتَحِبُّ أَنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ حَدَثٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ : إِذَا أَحْدَثَ تَوَضَّأَ.(6)
4- حكمُ الاحتجاج به :
: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : " فَمَا الْحُجَّةُ فِي تَرْكِ الْحَدِيثِ الْمَقْطُوعِ , وَالَّذِي يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ سَاقِطٌ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ , وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ يُحَدِّثُونَ بِالْمَقْطُوعِ , وَمَا كَانَ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ سَاقِطٌ وَأَكْثَرُ ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : قُلْتُ : لِأَنَّ الْمَوْصُولَ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ فِيهِ سَمِعْتُ , حَتَّى يَنْتَهِيَ الْحَدِيثُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , فَإِنَّ ظَاهِرَهُ كَظَاهِرِ السَّامِعِ الْمُدْرِكِ , حَتَّى يَتَبَيَّنَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ , كَظَاهِرِ الشَّاهِدِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُدْرِكِ لَهُ , فَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدِي كَمَا يَشْهَدُ ؛ لِإِدْرَاكِهِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَمَا شَهِدَ فِيهِ حَتَّى أعْلَمَ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ , وَالْمَقْطُوعُ الْعِلْمُ يُحِيطُ بِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ , فَلَا يَثْبُتُ عِنْدِي حَدِيثُهُ , لِمَا أَحَطْتُ بِهِ عِلْمًا , وَذَلِكَ كَشَاهِدٍ شَهِدَ عِنْدِي عَلَى رَجُلٍ لَمْ يُدْرِكْهُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِدَارِهِ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ , فَلَا أُجِيزُ شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ "(7).
فالمقطوع لا يحتج به في شيء من الأحكام الشرعية ، أي ولو صحت نسبته لقائله ، لأنه كلام أو فعل أحد المسلمين ، لكن إن كانت هناك قرينة تدل على رفعه ، كقول بعض الرواة : ـ عند ذكر التابعي ـ " يرفعه " مثلا فيعتبر عندئذ له حكم المرفوع المرسَل .
فعَنْ مُجَاهِدٍ ، يَرْفَعُهُ ، قَالَ : لاَ تَأْتَمُّ بِنَائِمٍ ، وَلاَ مُتَحَدِّثٍ.(8)
وعْن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رَفَعُهُ ، قَالَ : ثَلاَثٌ لاَ يُفْطرن الصَّائِمَ ؛ الْحِجَامَةُ ، وَالْقَيْءُ ، وَالاِحْتِلاَمُ.(9)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، يَرْفَعُهُ ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ؟ فَقَالُ : عَنِ الصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ ، وَالْحُرِّ ، وَالْمَمْلُوكِ ، نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ شَعِيرٍ.(10)
وعَنِ الْحَسَنِ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لُعِنَ مِنَ الرِّجَالِ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ وَلُعِنَ مِنَ النِّسَاءِ الْمُتَشَبِّهَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ.(11)
5- مسائل حول الحديث المقطوع(12)
المسألة الأولى : قد تجد القول يؤثر عن التابعي مسنداًَ إليه لا يتجاوزه ، وتراه يروى من طريقه تارة عن الصحابي موقوفاً ، أو يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً ، وتارة يروى عن ذلك التابعي قوله ، ويرويه غيره بإسناد موقوفاً على صحابي أو مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فلما لم تقم الحجة في ذلك على خطأ راوٍِ فيه ، فالوجه فيه : أن التابعي حين حدث به من قوله فهو استشهاد منه بما انتهت إليه الرواية فيه عمن قبله ، وهو مقطوع لما حدث به من قوله ، وموقوف أو مرفوع من الوجه الذي انتهى إلى صحابي أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولهذا أمثلة ، منها ما يندرج تحت علم علل الحديث .
ومن مثاله فيما هو مقطوع ومرفوع ، وهو الصحيح من الوجهين :
ما صحَّ عَنْ مَسْرُوقٍ ، قَالَ : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ وَهُوَ سَاجِدٌ. "(13).
وهو حديث صحيح من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ »(14)..
وليس هذا مما يعلُّ به الآخر ، فإن أثر مسروق بإسناد كوفي ، وحديث أبي هريرة بإسناد مدني .
قلت : وروي نحوه بإسناد كوفي كما في مسند البزار (1524) كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ إِمَامُ مَسْجِدِ الأَهْوَازِ يُخْبِرُنِي فِي كِتَابِهِ ، أَنَّ أَبَا هَمَّامٍ مُحَمَّدَ بْنَ الزِّبْرِقَانِ حَدَّثَهُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللهِ وَهُوَ سَاجِدٌ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلاَّ مَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ ، وَمَرْوَانُ بْنُ سَالِمٍ هَذَا لَيِّنُ الْحَدِيثِ وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
المسألة الثانية : ربما وجدت في كلام أهل الحديث يقولون : ( وقفه فلان على عطاء ) يستخدمون الفعل من ( الموقوف ) ، مع ، أن عطاء تابعي وهو ابن أبي رباح .(15)
أمثلة :
كما في السنن الكبرى للنسائي (3164) أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " وَقَفَهُ إِبْرَاهِيمُ .
(3165) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، نَيْسَابُورِيُّ مُرْجِئٌ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، قَالَ : حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ ، هَرَوِيٌّ مُرْجِئٌ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ "
(قلت : الصواب مع من رفعه ، فلا يضرُّ وقفه )
وكما في السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شَرِيكٌ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، عَنْ أَيْمَنَ ابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ ، رَفَعَهُ قَالَ : " لَا قَطْعَ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ، وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ ،وَقَفَهُ جَرِيرٌ
7395ـ أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، عَنْ أَيْمَنَ ، قَالَ : " لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ " .
( قلت : الصواب الرفع بالرغم من وقفه ، لأن مثله لا يقال بالرأي )
المسألة الثالثة : قول التابعي : ( من السنة كذا ) .
اختلفوا فيه :
فمنهم من قال : هو مرفوع مرسل، وذلك على اعتبار أنه يريد بالسنة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومنهم من قال : هو مقطوع ، من أجل أن التابعي عنى به سُنَّة أهل البلد .
والذي أراه في ذلك التَّفصيل : فإذا وجدنا التابعي قال ذلك فيما هو معروف من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صالح ، قلنا في خبره ذلك : هو مرسل ، وأراد بالسنة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا وجدناه أطلق ذلك الوصف على مالم نجد له في المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجعله منها ، قلنا : هو قوله ، أراد به سنة البلد وما رأى عليه الناس.
وهذه أمثلة عديدة من مصنف ابن أبي شيبة (تحقيق محمد عوامة )
2174- حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : قَالَ : لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَقُولَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ : الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. (صحيح )
قلت : هذا لا يمكن حمله على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه قد ثبت هذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - (16)، فيحمل ذلك على سنَّة بعض من أدركوهم من الصحابة .
2345- حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ ، قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ الأَذَانُ فِي الْمَنَارَةِ ، وَالإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُهُ.(صحيح)
قلت : الأغلب أن المقصود بها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان يحتمل الوقف .
2731- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ ، قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَبْسُطَ كَفَّيْهِ ، وَيَضُمَّ أَصَابِعَهُ وَيُوَجِّهَهُمَا مَعَ وَجْهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ.( صحيح )
قلت : الأرجح أن ذلك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن هذا أمر تعبدي ، فلا يقال فيه من السنَّة إلا سنَّة النبي صلى اله عليه وسلم
3815- حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، قَالَ : لاَ أَعْلَمُ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الإِمَامِ مِنَ السُّنَّةِ.( صحيح)
قلت : الصواب أنه ليس من السنة النبوية ، لأن القراءة خلف الإمام قد ثبتت بأدلة صحيحة ، فيحمل على سنة الصحابة الذين أدركهم
5272- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الإِمَام يَوْمَ الْجُمُعَةِ. (صحيح)
قلت : هذا حكمه حكم الرفع ، لأنه عبادة ، وهذا هو المعروف استقبال الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بوجوههم يوم الجمعة
5637- حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَطْعَمَ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْدُوَ ، وَتُؤَخِّرَ الطَّعَامَ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى تَرْجِعَ. (صحيح)
قلت : وهذا من المرفوع ، لوردوه موصولا بنحوه من طرق أخرى .
6024- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ : كَانُوا يَعُدُّونَ مِنَ السُّنَّةِ ؛أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ .
قَالَ إِبْرَاهِيمُ : وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعُدُّونَهَا مِنَ السُّنَّةِ. (صحيح )
قلت : هذا محمول على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
8341- حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ ، قَالاَ : مَا نَعْلَمُ مِنَ السُّنَّةِ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ فِي حَضَرٍ وَلاَ سَفَرٍ إِلاَّ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ. (صحيح)
قلت : الصواب وقفه ، وليس رفعه ، لأن الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فالنفي هو لما علماه ، ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ .
وهكذا نلاحظ أننا لا يمكن أن نعطي حكما عاما بذلك ، فلا بد من إعمال النظر ، في هذا الأمر .
6- إطلاقه على المنقطع :
قال الحافظ العراقي(17):
"وقد رَأى ابنُ الصلاحِ ، فقالَ: وقد وجَدْتُ التعبيرَ بالمقطوعِ عن المنقطعِ في كلامِ الإمامِ الشافعيِّ ، وأبي القاسمِ الطبرانيِّ ، وغيرِهما . انتهى.
ووجدْتُهُ أيضاً في كلامِ أبي بكرٍ الحميديِّ، وأبي الحَسَنِ الدارقطنيِّ . وعكسُهُ اصطلاحُ البرذعي ، وهو أنَّ الحافظَ أبا بكرٍ أحمدَ بنَ هارونَ البَرْدِيجيَّ البَرْذعيَّ ، جعلَ المنقطعَ هو قولُ التابعيِّ. قال ذلك في جزءٍ له لطيفٍ. وقد ذكرَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ في آخرِ كلامهِ على المنقطعِ أنَّ الخطيبَ حكاهُ عن بعضِ أهلِ العلمِ ، واستبعدَهُ ابنُ الصلاح " .
7- من مَظِنَّات الموقوف والمقطوع :
أ) مصنف ابن أبي شيبة
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ العَبْسِيُّ (خ، م، د، س، ق)
ابْنِ القَاضِي أَبِي شَيْبَةَ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عُثْمَانَ بنِ خُوَاسْتَى، الإِمَامُ، العَلَمُ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ، وَصَاحِبُ الكُتُبِ الكِبَارِ: (المُسْنَدِ)، وَ(المُصَنَّفِ)، وَ(التَّفْسِيْرِ)، أَبُو بَكْرٍ العَبْسِيُّ مَوْلاَهُمُ، الكُوْفِيُّ.
وَهُوَ مِنْ أَقرَانِ: أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بنِ رَاهْوَيْه، وَعَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ فِي السِّنِّ وَالمَوْلِدِ وَالحِفْظِ، وَيَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ أَسَنُّ مِنْهُمْ بِسَنَوَاتٍ.
طَلَبَ أَبُو بَكْرٍ العِلْمَ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَأَكْبَرُ شَيْخٍ لَهُ هُوَ شَرِيْكُ بنُ عَبْدِ اللهِ القَاضِي.
وَكَانَ بَحْراً منْ بُحُوْرِ العِلْمِ، وَبِهِ يُضرَبُ المَثَلُ فِي قُوَّةِ الحِفْظِ.
حَدَّثَ عَنْهُ: الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَصْحَابهِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي (جَامِعِ أَبِي عِيْسَى).
قَالَ يَحْيَى بنُ عَبْدِ الحَمِيْدِ الحِمَّانِيُّ: أَوْلاَدُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، كَانُوا يُزَاحِمُونَنَا عِنْدَ كُلِّ مُحَدِّثٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: أَبُو بَكْرٍ صَدُوْقٌ، هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ منْ أَخِيْهِ عُثْمَانَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ العِجْلِيُّ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ ثِقَةً، حَافِظاً لِلْحَدِيْثِ.
وَقَالَ عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ الفَلاَّسُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَحْفَظَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَدِمَ عَلَيْنَا مَعَ عَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ، فَسَرَدَ لِلشَّيبَانِيِّ أَرْبَعَ مائَةِ حَدِيْثٍ حِفْظاً، وَقَامَ.
وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ: انْتَهَى الحَدِيْثُ إِلَى أَرْبَعَةٍ: فَأَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَسرَدُهُمْ لَهُ، وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: أَفقَهُهُمْ فِيْهِ، وَيَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: أَجْمَعُهُمْ لَهُ، وَعَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: أَعْلَمُهُمْ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ بنِ العَلاَءِ الجُرْجَانِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بنَ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَنَا مَعَهُ فِي جَبَّانَةِ كِندَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، سَمِعْتَ منْ شَرِيْكٍ وَأَنْت ابْنُ كَم؟
قَالَ: وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْفَظُ لِلْحَدِيْثِ مِنِّي اليَوْمَ.
قُلْتُ: صَدَقَ وَاللهِ، وَأَينَ حِفظُ المُرَاهِقِ مِنْ حِفْظِ مَنْ هُوَ فِي عَشْرِ الثَّمَانِيْنَ؟
وَقَالَ صَالِحُ بنُ مُحَمَّدٍ الحَافِظُ جَزَرَةُ: أَعلَمُ مَنْ أَدْرَكْتُ بِالحَدِيْثِ وَعِلَلِهِ: عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ، وَأَعْلَمُهُمْ بِتَصْحِيْفِ المَشَايِخِ: يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، وَأَحْفَظُهُمْ عِنْدَ المُذَاكَرَةِ: أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ.
قَالَ الحَافِظُ أَبُو العَبَّاسِ بنُ عُقْدَةَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ خِرَاشٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحْفَظَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ.
فَقُلْتُ: يَا أَبَا زُرْعَةَ، فَأَصْحَابُنَا البَغْدَادِيُّونَ؟
قَالَ: دَعْ أَصْحَابَكَ، فَإِنَّهُم أَصْحَابُ مَخَارِيقَ، مَا رَأَيْتُ أَحْفَظَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ بنِ أَبِي شَيْبَةَ.
قَالَ الخَطِيْبُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُتْقِناً، حَافِظاً، صَنَّفَ (المُسْنَدَ)، وَ(الأَحْكَامَ)، وَ(التَّفْسِيْرَ)، وَحَدَّثَ بِبَغْدَادَ هُوَ وَأَخَوَاهُ؛ القَاسِمُ وَعُثْمَانُ.
قُلْتُ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ قَوِيَّ النَّفْسِ بِحَيْثُ إِنَّهُ اسْتَنكَرَ حَدِيْثاً تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ، عَنْ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا؟ فَهَذِهِ كُتُبُ حَفْصٍ، مَا فِيْهَا هَذَا الحَدِيْثُ.
عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عِمْرَانَ الكَاتِبِ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ المُرَبَّعِ، سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُوْلُ: رَبَّانِيُّو الحَدِيْثِ أَرْبَعَةٌ: فَأَعلَمَهُمْ بِالحَلاَلِ وَالحَرَامِ: أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَأَحْسَنُهُمْ سِيَاقَةً لِلْحَدِيْثِ وَأَدَاءً: عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ، وَأَحْسَنُهُمْ وَضْعاً لِكِتَابٍ: أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَعلَمُهُمْ بِصَحِيْحِ الحَدِيْثِ وَسَقِيمِهِ: يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ.
قَالَ البُخَارِيُّ، وَمُطَيَّنٌ: مَاتَ أَبُو بَكْرٍ فِي المُحَرَّمِ، سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَثَلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ...(18).
وكتابه المصنف ، لم يصنف مثله ، فيه المرفوع والموقوف والمقطوع ، وفيه الصحيح والحسن والضعيف ، وله طبعات كثيرة أهمها الطبعة التي حققها العلامة محمد عوامة - حفظه الله - وعدد أحاديثه (39098 ) حديثا
وقد قام بالحكم على الأحاديث ، وذكر تفاصيل حديثية هامة جدا ونادرة مثلا :
الحديث 1- حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ ، قَالَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الْخُبُثِ
قال : سيكرره المصنف برقم(30518)
والحديث رواه عن شيخ المصنِّف هُشيم نب بَشير - وغيره - به مسلم 1/283(122) ، وهشيم مدلسٌ ، لكن يرفع تهمة تدليسه رواية مسلم له ، والمتابعات التالية .
ورواه من طرق أخرى عن عبد العزيز بن صهيب به : البخاري (142,6322) وأبو داود (4و5) والترمذي (5) وقال : (حديث أنس اصحُّ شيء في هذا الباب وأحسن) و(6) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والنسائي (19و9902) وابن ماجة (298) .
وللمصنف إسناد أخر به : رواه مسلم 1/284(قبل 123) عنه وعن زهير بن حرب كلاهما عن إسماعيل ابن علية ، عن عبد العزيز به .
وقوله ( الخُبث) جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة ، والمعنى : الاستعاذة من ذكران الشاطين وإناثهم ، ويجوز ضبط الباء بالضمِّ والسكون ، وخالف في ذلك الخطابيُّ فأكَّد نفي السكون في كتبه أعلام الحديث 1/237 والمعالم 1/11، وغريب الحديث 3/221 وإصلاح غلط المحدثين 21-22 ، يريد الردَّ على أبي عبيدة في غريبه 2/221 وغيره ، بدليل تفسيره للكلمة بالشرِّ .
وتعقبه القاضي ابن العربي في العارضة 1/21 ثم النووي في شرح صحيح مسلم 4/71 فأثبتا جواز سكون الباء .
وقوله إذا دخل الخلاء ، يريد إذا أراد أن يدخل الخلاء كما جاء صريحا في إحدى روايات الحديث التي أشار إليها البخاري (142).
وليس فيه تعليق على كل الأحاديث ، وليس كل الأحاديث بأسانيدها مشكلة
ب) مصنف عبد الرزاق
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 8) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 24) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 141) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 121) والتقريرات السنية - (ج 1 / ص 21) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 64) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 25)
(2) - التابعي هو من لقي الصحابي مسلماً ومات على الإسلام، وقد مر
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 2 / ص 99)(5089) حسن مقطوع
ومثله كما في مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 2 / ص 289) برقم (5065)حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ مُغِيرَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : كَانُوا لاَ يُجَمِّعُونَ فِي الْعَسَاكِرِ.( وهو صحيح مقطوع )
وبرقم (5069) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ ، قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ أَيُّمَا أَهْلِ قَرْيَةٍ لَيْسُوا بِأَهْلِ عَمُودٍ يَنْتَقِلُونَ فَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا يُجَمِّعُ بِهِمْ.( صحيح مقطوع )
(4) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 286)(11420) صحيح مقطوع ، ومحمد هو ابن سيرين
(5) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 284)(11403) (صحيح مقطوع )
زكما في مصنف ابن أبي شيبة مرقم ومشكل - (ج 9 / ص 52) برقم (25178)ح عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، قَالَ : كَانَ مَسْرُوقٌ سَيْفُهُ مُحَلًّى.( وهو صحيح مقطوع )
(6) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 2 / ص 99)(5088) صحيح مقطوع
(7) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (1210)
(8) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 2 / ص 257)(6527) (فيه لين)
(9) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 51)(9408) (حسن مرسل)
(10) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 3 / ص 170)(10438)(صحيح مرسل)
(11) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 9 / ص 64)(27025)(صحيح مرسل)
(12) - انظر تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 25)
(13) - أخرجه ابن أبي شيبة ( 13 / 404 ) (36019 ) وأبو نُعيم في " الحلية " ( 2 / 112 رقم : 1610 ) وإسناده صحيح .
(14) - صحيح مسلم(1111 )
(15) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 7) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 472) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 140)
(16) - انظر سنن أبى داود (500 )
(17) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 64) و مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 8) والنكت على ابن الصلاح - (ج 2 / ص 514) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 141) وندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 11 / ص 8)
(18) - سير أعلام النبلاء (11/122-128)(44 )(1/255)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بنُ هَمَّامِ بنِ نَافِعٍ الحِمْيَرِيُّ (ع) الحَافِظُ الكَبِيْرُ، عَالِمُ اليَمَنِ، أَبُو بَكْر الحِمْيَرِيُّ مَوْلاَهُمْ، الصَّنْعَانِيُّ، الثِّقَةُ، الشِّيْعِيُّ.ارْتَحَلَ إِلَى الحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالعِرَاقِ، وَسَافَرَ فِي تِجَارَةٍ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِيْنَ وَمائَةٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:لَزِمْتُ مَعْمَراً ثَمَانِيَ سِنِيْنَ، حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بنُ يَحْيَى، وَابْنُ مَعِيْنٍ.
عَبَّاسٌ: عَنِ ابْنِ مَعِيْنٍ، قَالَ:كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي حَدِيْثِ مَعْمَرٍ أَثْبَتَ مِنْ هِشَامِ بنِ يُوْسُفَ، وَكَانَ هِشَامُ بنُ يُوْسُفَ أَثْبَتَ مِنْهُ فِي حَدِيْثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَقرَأَ لِكُتُبِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِحَدِيْثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: أَتَيْنَا عَبْدَ الرَّزَّاقِ قَبْلَ المائَتَيْنِ، وَهُوَ صَحِيْحُ البَصْرِ، وَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَهُوَ ضَعِيْفُ السَّمَاعِ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ:إِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَعْمَرٍ، فَالحَدِيْثُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ.
قَالَ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: قَالَ لِي هِشَامُ بنُ يُوْسُفَ: كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَعْلَمَنَا، وَأَحْفَظَنَا.
قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ النُّظَرَاءُ يَعتَرِفُوْنَ لأَقْرَانِهِم بِالحِفْظِ.
قَالَ أَحْمَدُ العِجْلِيُّ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ: ثِقَةٌ، كَانَ يَتَشَيَّعُ.
ابْنُ أَبِي العَقِبِ، وَأَبُو المَيْمُوْنِ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنِي مَحْمُوْدُ بنُ سُمَيْعٍ، سَمِعَ أَحْمَدَ بنَ صَالِحٍ يَقُوْلُ:قُلْتُ لأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: رَأَيْتَ أَحْسَنَ حَدِيْثاً مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ؟ قَالَ: لاَ.
قَالَ كَاتِبُهُ: مَا أَدْرِي مَا عَنَى أَحْمَدُ بِحُسْنِ حَدِيْثِهِ، هَلْ هُوَ جُوْدَةُ الإِسْنَادِ، أَوِ المَتْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
آدَمُ بنُ مُوْسَى: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَا حَدَّثَ مِنْ كِتَابِهِ، فَهُوَ أَصَحُّ.
العُقَيْلِيُّ فِي كِتَابِ (الضُّعَفَاءِ) لَهُ، فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَمَّادٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ عُثْمَانَ الثَّقَفِيَّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ العَظِيْمِ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ صَنْعَاءَ، قَالَ لَنَا- وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ -: أَلَسْتُ قَدْ تَجَشَّمْتُ الخُرُوْجَ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ؟ فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، حَتَّى سَمِعْتُ مِنْهُ مَا أَرَدْتُ، وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، إِنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ كَذَّابٌ، وَالوَاقِدِيُّ أَصْدَقُ مِنْهُ.
قُلْتُ: بَلْ -وَاللهِ- مَا بَرَّ عَبَّاسٌ فِي يَمِيْنِهِ، وَلَبِئْسَ مَا قَالَ، يَعْمَدُ إِلَى شَيْخِ الإِسْلاَمِ، وَمُحَدِّثِ الوَقْتِ، وَمَنِ احْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَربَابِ الصِّحَاحِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَوهَامٌ مَغْمُورَةٌ، وَغَيْرُهُ أَبرَعُ فِي الحَدِيْثِ مِنْهُ، فَيَرْمِيهِ بِالكَذِبِ، وَيُقَدِّمُ عَلَيْهِ الوَاقِدِيَّ الَّذِي أَجْمَعَتِ الحُفَّاظُ عَلَى تَرْكِهِ، فَهُوَ فِي مَقَالَتِهِ هَذِهِ خَارِقٌ لِلإِجْمَاعِ بِيَقِيْنٍ.
قَالَ العُقَيْلِيُّ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ المُبَارَكِ الصَّنْعَانِيَّ يَقُوْلُ: كَانَ زَيْدُ بنُ المُبَارَكِ قَدْ لَزِمَ عَبْدَ الرَّزَّاقِ، فَأَكْثَرَ عَنْهُ، ثُمَّ خَرَقَ كُتُبَهُ، وَلَزِمَ مُحَمَّدَ بنَ ثَوْرٍ، فَقِيْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَحَدَّثَنَا بِحَدِيْثِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بنِ أَوْسِ بنِ الحَدَثَانِ...، الحَدِيْثَ الطَّوِيْلَ، فَلَمَّا قَرَأَ قَوْلَ عُمَرَ لِعَلِيٍّ وَالعَبَّاسِ: فَجِئْتَ أَنْتَ تَطْلُبَ مِيْرَاثَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيْكَ، وَجَاءَ هَذَا يَطلُبُ مِيْرَاثَ امْرَأَتِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: انْظُرُوا إِلَى الأَنْوَكِ، يَقُوْلُ: تَطلُبُ أَنْتَ مِيْرَاثَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيْكَ، وَيَطلُبُ هَذَا مِيْرَاثَ زَوْجَتِهِ مِنْ أَبِيْهَا، لاَ يَقُوْلُ: رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ زَيْدُ بنُ المُبَارَكِ: فَلَمْ أَعُدْ إِلَيْهِ، وَلاَ أَرْوِي عَنْهُ.
قُلْتُ: هَذِهِ عَظِيْمَةٌ، وَمَا فَهِمَ قَوْلَ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ، فَإِنَّكَ يَا هَذَا لَوْ سَكَتَّ، لَكَانَ أَوْلَى بِكَ، فَإِنَّ عُمَرَ إِنَّمَا كَانَ فِي مَقَامِ تَبْيِيْنِ العُمُوْمَةِ وَالبُنُوَّةِ، وَإِلاَّ فَعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَعْلَمُ بِحَقِّ المُصْطَفَى، وَبِتَوقِيْرِهِ، وَتَعْظِيْمِهِ مِنْ كُلِّ مُتَحَذْلِقٍ مُتَنَطِّعٍ، بَلِ الصَّوَابُ أَنْ نَقُوْلَ عَنْكَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الأَنْوَكِ الفَاعِلِ - عَفَا اللهُ عَنْهُ - كَيْفَ يَقُوْلُ عَنْ عُمَرَ هَذَا، وَلاَ يَقُوْلُ: قَالَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ الفَارُوْقُ؟ وَبِكُلِّ حَالٍ، فَنَسْتَغْفِرُ اللهَ لَنَا وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَإِنَّهُ مَأْمُوْنٌ عَلَى حَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَادِقٌ.
أَحْمَدُ بنُ زُهَيْرٍ: أَنْبَؤُوْنَا عَنْ بَرَكَاتٍ الخُشُوْعِيِّ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ اليُوْسُفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ البَرْمَكِيُّ، حَدَّثَنَا القَطِيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ، سَمِعْتُ سَلَمَةَ بنَ شَبِيْبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُوْلُ:مَا انْشَرَحَ صَدْرِي قَطُّ أَنْ أُفَضِّلَ عَلِيّاً عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَرَحِمَهُمَا اللهُ، وَرَحِمَ عُثْمَانَ وَعَلِيّاً، مَنْ لَمْ يُحِبَّهُم، فَمَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ، أَوْثَقُ عَمَلِي حُبِّي إِيَّاهُم.
أَبُو حَامِدٍ بنُ الشَّرقِيِّ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُوْلُ:أُفَضِّلُ الشَّيْخَيْنِ بِتَفْضِيْلِ عَلِيٍّ إِيَّاهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، كَفَى بِي إِزْرَاءً أَنْ أُخَالِفَ عَلِيّاً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَذَكَرَهُ: أَبُو أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ فِي (كَامِلِهِ)، فَقَالَ: نَسَبُوْهُ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَرَوَى أَحَادِيْثَ فِي الفَضَائِلِ لاَ يُوَافَقُ عَلَيْهَا، فَهَذَا أَعْظَمُ مَا ذَمُّوهُ بِهِ مِنْ رِوَايَتِهِ هَذِهِ الأَحَادِيْثَ، وَلِمَا رَوَاهُ فِي مَثَالِبِ غَيْرِهِم مِمَّا لَمْ أَذْكُرْهُ، وَأَمَّا الصِّدْقُ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ أَحَادِيْثُ فِي أَهْلِ البَيْتِ، وَمثَالِبُ آخَرِيْنَ مَنَاكِيْرُ، وَقَدْ سَمِعْتُ ابْنَ حَمَّادٍ، سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ الصِّرَارِيَّ...، فَذَكَرَ حِكَايَتَه، وَقَوْلَ يَحْيَى: لَوِ ارْتَدَّ، مَا تَرَكنَا حَدِيْثَهُ.
قَالَ مَكِّيُّ بنُ عَبْدَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ إِلَى قَرْيَتِهِ، فَبَكَّرْتُ إِلَيْهِ يَوْماً، حَتَّى خَشِيْتُ عَلَى نَفْسِي مِنَ البُكُورِ، فَوَصَلتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا خَرَجَ، رَآنِي، فَأَعْجَبَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ، دَعَانِي، وَقرَأَ عَلَيَّ هَذَا الحَدِيْثَ، وَخَصَّنِي بِهِ دُوْنَ أَصْحَابِي.
تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمائَتَيْنِ.
يَحْيَى بنُ مَعِيْنٍ: سَمِعْتُ هِشَامَ بنَ يُوْسُفَ يَقُوْلُ:كَانَ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ حِيْنَ قَدِمَ ابْنُ جُرَيْجٍ اليَمَنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ: عَنِ ابْنِ المَدِيْنِيِّ:قَالَ لِي هِشَامُ بنُ يُوْسُفَ: كَانَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَعْلَمَنَا، وَأَحفَظَنَا.
قَالَ يَعْقُوْبُ: وَكُلٌّ ثِقَةٌ، ثَبْتٌ(1).
وكتابه له طبعات عدة أهمها بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، وعدد أحاديثه (21034) حديثا مرفوعا وموقوفا ومقطوعاً ، تدور بين الصحيح والحسن والضعيف والواهي .، عليه حاشية للأعظمي قيمة . والكتاب بحاجة لتحقيق وتخريج لأحاديثه وضبط من جديد ،
ج) تفاسير ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر .
وهذه التفاسير هي عمدة التفسير بالمأثور ، وفيها المرفوع والموقوف والمقطوع ، والصحيح والحسن والضعيف والواهي والمنكر ، والموضوع بقلة
ـــــــــــــــ
__________
(1) -.سير أعلام النبلاء (9/564-580)(220 )(1/256)
المبْحَثُ الثَاني
أنواعٌ أخرى مشتركة بين المقبول والمردود
المُسْنَدُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: اسم مفعول من " أَسْنَدَ " بمعنى أضاف، أو نَسَبَ
ب) اصطلاحاً: ما اتصل سنده مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال العراقي(2):
" قالَ أبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ في " التمهيد " : هو ما رُفع إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصّةً - قال - : وقد يكونُ متّصلاً مثلُ : مالكٍ ، عن نافعِ ، عن ابنِ عمرَ ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . وقد يكونُ منقطعاً ، مثلُ : مالكٍ ، عن الزهريِّ ، عن ابنِ عبّاسٍ ، عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . قال : فهذا مسندٌ ؛ لأنَّهُ قَدْ أُسندَ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو منقطعٌ ، لأنَّ الزهريَّ لم يَسْمَعْ من ابنِ عبّاسٍ . انتهى .
فعلى هذا يستوي المسندُ والمرفوعُ . وقالَ الخطيبُ: هو عندَ أهلِ الحديثِ: الذي اتّصلَ إسنادُهُ من راويهِ إلى منتهاهُ. قالَ ابنُ الصلاحِ: وأكثرُ ما يستعملُ ذلك فيما جاءَ عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دونَ ما جاءَ عن الصحابةِ وغيرهم.وكذا قال ابنُ الصَّبَّاغِ في"العُدَّة" المسندُ: ما اتصلَ إسنادُهُ. فعلى هذا يَدخُلُ فيه المرفوعُ والموقوفُ. ومقتضى كلامِ الخطيبِ أنَّهُ يدخلُ فيه ما اتصلَ إسنادهُ إلى قائِلِهِ مَنْ كان، فيدخلُ فيه المقطوعُ، وهو قولُ التابعيِّ ، وكذا قولُ مَنْ بعدَ التابعينَ ، وكلامُ أهلِ الحديثِ يأباهُ. وقولُهُ: أو هي لتنويعِ الخلافِ ، يدلُّ عليه قولُهُ بَعدُ: (والثالثُ ) ، وهو أنَّ المسندَ لا يقعُ إلا على ما رُفِعَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ متصلٍ ، وبه جزمَ الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ النَّيْسابوريُّ في " علومِ الحديثِ " ، وحكاهُ ابنُ عبدِ البرِّ قولاً لبعضِ أهل الحديثِ . "
ورجّح ابن حجر العسقلانيّ ما ذهب إليه الحاكم، من أنّ المسند هو ما اتّصل سنده مرفوعا إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وهو اختيار لصالح الوضوح وغلق باب الاختلافات غير المجدية.(3)
2 - مثالُه:
ما أخرجه البخارى في صحيحه(4)حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ: « إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا » .
فهذا حديث اتصل سنده من أوله إلى منتهاه، وهو مرفوع إلى النبي صلي الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 7) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 5) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 2) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 2) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 79) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 96) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 5) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 7) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 72) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 609) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 145) والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 26) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 14) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 258)
(2) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 61)
(3) - ندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 11 / ص 7)
(4) - برقم (172 )(1/257)
المُتَصِلُ(1)
1- تعريفُه:
أ) لغة: اسم فاعل من " اتَّصَل " ضده " انْقَطَعَ " ويسمَّى هذا النوع بـ " الموصول " أيضاً.
ب) اصطلاحاً: المتّصلُ والموصولُ : هو ما اتّصلَ إسنادُهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أو إلى واحدٍ مِنَ الصحابةِ حيثُ كان ذلكَ موقوفاً عليهِ . وأما أقوالُ التابعينَ إذا اتصلتِ الأسانيدُ إليهم ، فلا يسمّونها متصلةً .
قالَ ابنُ الصلاحِ : ومطلقُهُ ، أي : المتصلِ ، يقعُ على المرفوعِ والموقوفِ . قلتُ : وإنّما يَمتنعُ اسمُ المتصلِ في المقطوعِ في حالةِ الإطلاقِ . أما مع التقييدِ فجائزٌ واقعٌ في كلامِهِم ، كقولِهِم : هذا متصلٌ إلى سعيدِ بنِ المسيِّبِ ، أو إلى الزهريِّ ، أو إلى مالكٍ ونحو ذلك .(2)
والنُّكتة في ذلك أنَّها تُسمَّى مَقَاطيع, فإطْلاق المُتَّصل عليها, كالوَصْف لشيء واحد بمُتضادين لغة.
2- مثالُه:
أ) مثال المتصل المرفوع : " كما في صحيح البخارى(3)حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِىَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ » . ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لاَ يُنَادِى حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ .
ب) مثال المتصل الموقوف : كما في موطأ مالك(4)حَدَّثَنِي يَحْيَى ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ، وَجَسُّهَا بِيَدِهِ ، مِنَ الْمُلَامَسَةِ ، فَمَنْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ ، أَوْ جَسَّهَا بِيَدِهِ ، فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ ".
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 7) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 5) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 2) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 80) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 24) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 81) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 138) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 70) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 111)
(2) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 62) و فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 100) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 124) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 1 / ص 35) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 260)
(3) - برقم (617 )
(4) - برقم (96 )(1/258)
زيادات الثقات(1)
1- المراد بزيادات الثقات :
إن المقصود منها: أن يروي جماعة حديثا واحدا بإسناد واحد، فيزيد بعض الثقات فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة،(2)سواء أكان ذلك في السند أم في المتن أم كان في كليهما. ولذا فإن هذه المسألة تشمل جميع صور الزيادة التي تقع من الثقة، سواء أكان الثقة واحدا أم أكثر، وسواء أكانت الزيادة صحيحة أم ضعيفة، وسواء أكانت في السند والمتن أم في أحدهما. ويستثنى منها ما يذكره الصحابي من الزيادات فإنها مقبولة دون خلاف(3).
هذا وقد نص الحافظ ابن حجر على أن في زيادة الثقة ما هو مقبول وما هو مردود تبعا للقرائن المحيطة بها، وقد يكون من القرائن ما يدلُّ على أن الزيادة مدرجة في الحديث، وأنها كانت من قول فلان، أو من حديث آخر. يقول الحافظ في صدد قبول الزيادة وردها ضمن دفاعه مجملا عن الإمام البخاري، حيث انتقده الإمام الدارقطني في ذلك :
'' ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به، إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع ، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها بحيث تكون كالحديث المستقلِّ فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته فما كان من هذا القسم فهو مؤثرٌّ كما في الحديث الرابع والثلاثين''(4)، وعليه فهذا النوع من الزيادات يكون مردودا لثبوت إدراج تلك الزيادة في الحديث، يعني أن ما أدرجه الثقة لا يكون من لفظ الحديث وغير مقبول جعله جزءا منه.
وإن كانت زيادة الثقة تشملُ السند والمتن، فمسألة تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع، والمزيد في متصل الأسانيد، وتعارض الزيادة والنقص في المتن، والشاذ والمنكر والمعلول عموما، تشكِّلُ أساسيات في زيادة الثقة. وهي إما أن تكون صحيحة أو ضعيفة، وذلك لأنه إذا تبين للناقد أن الراوي الثقة لم يكن واهما حين زاد في الحديث؛ لوجود قرائن تدلُّ على ذلك، فيكون ما زاده صحيحا. وإذا تبين أن الراوي كان واهما لكونه قد أدرج في الحديث ما ليس منه بسبب الاختلاط، أو لنقله بالمعنى، أو غير ذلك من الأسباب فتكون تلك الزيادة معلولة، وإن شئت سمها شاذة، أو منكرة(5)، أو مدرجة، أو مقلوبة. وإذا لم يتبين الخطأ ولا الصواب في تلك الزيادة التي زادها أحد الثقات فتصير مقبولة نظرا إلى الأصل في حاله. ومن ثم فإن زيادة الثقة لا تشكِّلُ نوعا مستقلا عن تلك الأنواع المذكورة، وإنما تكون متداخلة فيها. وعلى هذا الواقع ينبغي أن نعالجها ونبين تفاصيلها ونؤسس أحكامها وفق منهج المحدثين الحفاظ.
ولتكون المسألة أكثر وضوحا فإني أذكر فيما يلي مثالين فقط:
مثال توضيحي
قال الإمام مسلم :(931 ) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِىُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِىُّ - وَاللَّفْظُ لأَبِى كَامِلٍ - قَالُوا حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِىِّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ صَلاَةً فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أُقِرَّتِ الصَّلاَةُ بِالْبِرِّ وَالزَّكَاةِ - قَالَ - فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُوسَى الصَّلاَةَ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ فَقَالَ أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَأَرَمَّ الْقَوْمُ ثُمَّ قَالَ أَيُّكُمُ الْقَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَرَمَّ الْقَوْمُ فَقَالَ لَعَلَّكَ يَا حِطَّانُ قُلْتَهَا قَالَ مَا قُلْتُهَا وَلَقَدْ رَهِبْتُ أَنْ تَبْكَعَنِى بِهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَنَا قُلْتُهَا وَلَمْ أُرِدْ بِهَا إِلاَّ الْخَيْرَ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَمَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ تَقُولُونَ فِى صَلاَتِكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا وَعَلَّمَنَا صَلاَتَنَا فَقَالَ « إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَالَ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ. يُجِبْكُمُ اللَّهُ فَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا فَإِنَّ الإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَتِلْكَ بِتِلْكَ وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ.
وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا فَإِنَّ الإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَتِلْكَ بِتِلْكَ. وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمُ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ».
( 932 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِىُّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا أَبِى ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِىِّ كُلُّ هَؤُلاَءِ عَنْ قَتَادَةَ فِى هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ. وَفِى حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ « وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ». وَلَيْسَ فِى حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ « فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ». إِلاَّ فِى رِوَايَةِ أَبِى كَامِلٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِى عَوَانَةَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أُخْتِ أَبِى النَّضْرِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مُسْلِمٌ تُرِيدُ أَحْفَظَ مِنْ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَحَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ هُوَ صَحِيحٌ يَعْنِى وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا. فَقَالَ هُوَ عِنْدِى صَحِيحٌ. فَقَالَ لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَا هُنَا قَالَ لَيْسَ كُلُّ شَىْءٍ عِنْدِى صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا. إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
(933 ) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُ أَبِى عُمَرَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ وَقَالَ فِى الْحَدِيثِ « فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ».(6).
أوضح مسلم هنا أن سعيد بن أبي عروبة وهشاما الدستوائي وسليمان التيمي شاركوا مع أبي عوانة في نقل الحديث عن قتادة، وزاد سلميان فيه كلمة:''وإذا قرأ فأنصتوا''.وسليمان التيمي ثقة، كما نصَّ على أن أبا كامل زاد في حديثه عن أبي عوانة عن قتادة: ''فإن الله قال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - سمع الله لمن حمده''، غير أن مسلما أشار إلى أن هذه الزيادة لها أصل في حديث قتادة، حين رواه في آخر الباب عن طريق معمر عن قتادة.
وأما الزيادة الأولى - وهي ''وإذا قرأ فأنصتوا'' - فقد أعلَّها نقادُ الحديث قاطبة، وسبب الإعلال هو ما صرح به الإمام مسلم آنفا من مخالفة سليمان التيمي لجماعة من الثقات. ولذا يحتمل أن يكون مسلم قد ذكر هذه الزيادة هنا في معرض بيان الفرق بين سليمان التيمي وبين الثقات حين جمع بين رواياتهم، كما قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي(7)، ولم يكن غرضه في ذلك هو تصحيح هذه الزيادة والاعتماد عليها.
ويتأيد ذلك بأن الإمام مسلما لم يذكر شيئا يشير إلى ثبوتها في حديث قتادة، بعد أن أشار إلى الاختلاف، كما صنع في الزيادة الثانية، كما أنه لم يورد هذا الحديث في موضوع قراءة المأموم، بل أورده في موضوع التشهد. وهذا التوجيه محلُّ نزاع بين المتأخرين، إذ يرى بعضهم أن الإمام مسلما صحح هذه الزيادة بحجة أنه ذكره في صحيحه. وعلى كل حال فلا مانع هنا أن نجعل هذا الحديث مثالا لنوعين من زيادة الثقة: المردودة والمقبولة حسب رأي النقاد.
مثال شبيه بمسألة زيادة الثقة
أما النوع الذي يعدُّه بعض المعاصرين(8)من قبيل زيادة الثقة دون أن يكون منها حقيقة فمثاله ما روى عَنْ أَبِى قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ أَبَا قَيْسٍ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَالصَّحِيحُ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.(9).
ورواه أيضا عن المغيرة جماعة كثيرة من أهل المدينة والكوفة والبصرة، لكن بلفظ: ''أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين''(10).
وقال ابن دقيق العيد: '' وَمَنْ يُصَحِّحُهُ يَعْتَمِدُ بَعْدَ تَعْدِيلِ أَبِي قَيْسٍ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِرِوَايَةِ الْجُمْهُورِ مُخَالَفَةَ مُعَارِضَةٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا رَوَوْهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ، وَلَا سِيَّمَا، وَهُوَ طريق مستقل برواية هذيل، عَنْ الْمُغِيرَةِ لَمْ يُشَارِكْ الْمَشْهُورَاتِ فِي سَنَدِهَا، ''(11). ولعل ابن دقيق العيد قصد بذلك الإمام الترمذي لأنه هو الذي صحح هذا الحديث حيث قال في سننه: ''حسن صحيح''(12).
وقال بعض الأفاضل مؤيدا للإمام الترمذي في تصحيحه لهذا الحديث: ''أعله بعض العلماء بعلة غير قادحة، منهم أبو داود فقد قال عقبه: 'كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين'، وهذا ليس بشيء لأن السند صحيح ورجاله ثقات، وليس فيه مخالفة لحديث المغيرة المعروف في المسح على الخفين فقط، بل فيه زيادة عليه، والزيادة من الثقة مقبولة كما هو المقرر في المصطلح، فالحق أن ما فيه حادثة أخرى غير الحادثة التي فيها المسح على الخفين ، وقد أشار لهذا العلامةُ ابن دقيق العيد، وقد ذكر قوله الزيلعي في نصب الراية(13).
قلت :يعني بذلك قول ابن دقيق العيد: ''بل هو أمر زائد على ما رووه ولا يعارضه''، ووجه الإشارة: أنه لا يعقل أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح الخفين والجوربين جميعا في حادثة واحدة، فدلَّ ذلك على تعددها. ولعل هذا مجرد توجيه منه لتصحيح الترمذي ذلك الحديث.
ونحن ذكرنا هذا المثال في هذه المناسبة لأن حديث هزيل بن شرحبيل جعله البعض من قبيل زيادة الثقة، ثم أتبعه القول: ''والزيادة من الثقة مقبولة كما هو المقرر في المصطلح''(14).
أقول: ليس هذا الحديث من نوع زيادة الثقة ،لأن هزيل بن شرحبيل لم يرو عن المغيرة ''مسح الخفين'' أصلا، حتى يقال إنه زاد في لفظ الحديث، وإنما استبدل حديث المغيرة في المسح على الجوربين والنعلين، بما اشتهر عن المغيرة من حديث المسح على الخفين، ويكون بذلك قد خالف الناس في نقل الحديث من أصله عن المغيرة، وهذا هو رأي النقاد.
يقول عَلِىُّ ابْنُ الْمَدِينِىِّ : ''حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِى الْمَسْحِ رَوَاهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ ، وَرَوَاهُ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ : وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَخَالَفَ النَّاسَ"(15).
ويقول ابن معين: '' النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرْوُونَهُ عَلَى الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَبِى قَيْسٍ.(16). يعني عن المغيرة. وكذا أعلَّه سفيان وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ومسلم والبيهقي(17).
ومن هنا أصبح الفرق واضحا بين المثالين السابقين؛ لأنه إذا كان الحديث الأول مثالا لزيادة الثقة، فإن الحديث الثاني يكون نموذجا لتفرد الراوي الثقة بالحديث من أصله، فقد قال الحافظ ابن حجر: إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر(18).
وبعد تحديد المقصود من مصطلح ''زيادة الثقة'' وإزالة الغموض عن مدلوله آن الأوان لندخل في دراسة هذا النوع في كتب المصطلح، وعلاقته بالمعلول والشاذ والمنكر. وقد آثرنا في ذلك كتاب ابن الصلاح؛ لأن معظم الكتب في مصطلح الحديث التي جاءت بعده قد انتهجت منهجه في معالجة زيادة الثقة دون استدراك عليه ولا نقد يذكر.
2- العلة وعلاقتها بزيادة الثقة
قال الإمام ابن الصلاح (رحمه الله تعالى):
فالحديث المعلل هو: ''الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر السلامة منها. ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر، ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه''(19).
وقوله هذا يضم مسألة زيادة الثقة بشكل واضح، وذلك أن المخالفة بين الرواة تكون في صور أشار إليها ابن الصلاح آنفا. وهي وصل المرسَل، ورفع الموقوف، وتداخل الأحاديث، وغير ذلك من الأوهام، ومن أظهر صور هذه المخالفة وأكثرها وقوعا أن يزيد أحدهم في الحديث ما لم يذكره غيره إما في الإسناد، أو في المتن أو في كليهما. فإذا زاد الثقة راويا أو كلمة أسقطها غيره من الرواة، ظهرت المخالفة بينهم، وبذلك أصبحت مسألة زيادة الثقة داخلة في نوع العلة.
وما ذكره ابن الصلاح في هذا النوع من تفاصيل الحكم يتسم بغاية من الدقة؛ إذ جعل حكم الحديث الذي يتفرد به الراوي الثقة أو خالف فيه غيره من الثقات دائرا على القرائن المحيطة بذلك الحديث. وهذا بعينه منهج المحدثين النقاد في معالجة ظاهرة المخالفة والتفرد، التي تشهدها أحاديث الثقات والضعفاء، ليتم لهم تمييز الخطأ عن الصواب. ولذا فإن جميع الأنواع التي تشترك مع نوع ''العلة'' في نقطتي التفرد والمخالفة يجب أن يكون الحكم فيها دائرا على القرائن وحدها، ومن تلك الأنواع مسألة ''زيادة الثقة''، وفي ضوء ذلك يمكن استخلاص حكم زيادة الثقة بما يلي:
أنه إذا دلت القرينة على أن الثقة حين زاد في الحديث كلمة، كان واهما أو ناسيا،فتعد ... الزيادة معلولة،وأما إذا لم تدلَّ القرينة على ذلك فإنها قد تكون صحيحة أو حسنة؛ وذلك تبعا لدلالة القرائن المحيطة بالحديث وقوتها ووضوحها لدى النقاد.
ويتضح ذلك جليا من قول الحافظ ابن حجر وهذا نصه :
''وهذا (يعني قبول زيادة الثقة مطلقا) قول جماعة من أئمة الفقه والأصول، وجرى على هذا الشيخ محيى الدين النووي في مصنفاته. وفيه نظر كثير؛ لأنه يردُ عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتنى بمروياته كالزهري وأضرابه بحيث يقال: إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة''.
''وقد نص الشافعي في ''الأم'' على نحو هذا فقال في زيادة مالك ومن تابعه في حديث (فقد عتق منه ما عتق(20): إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه، وهم عدد وهو فرد، فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عددا أنها تكون مردودة''(21).
وبناء على ذلك فما يتعين فهمه من قول ابن الصلاح فيما يتصل بالعلة، أن زيادة الثقة لها صلة وثيقة بموضوع العلة، وأن قبول الزيادة وردها متوقفان على نوعية القرائن التي تحف بها، فإن دلت القرينة على أن الزيادة وهم من الراوي، فيحكم عليها بالرد، وإن دلت على ثبوتها فتعدّ صحيحة.
ومن الجدير بالذكر أن القرينة تختلف من حديث لآخر، وليس لها ضابط تقاس عليه الأحاديث كلها، وليست محصورة على مخالفة الثقة لعدد من الثقات أو لأوثق منه كما سبق. ولا يتأهل لإدراك نوعية القرائن وطبيعة دلالتها وأبعادها العلمية سوى نقاد الحديث كما أشار إليه ابن الصلاح حين قال: ''مع قرائن تنضمُّ إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن''، ويعني بالعارف بهذا الشأن ناقد الحديث دون غيره.
3- 'الشاذ' و'المنكر' وصلتهما بزيادة الثقة
قال ابن الصلاح في نوع ''الشاذ'' بعد ذكر الآراء المختلفة حول مدلوله:
''فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمة الحديث يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم، بل في ذلك على تفصيل نبينه فنقول: إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد: فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه، كما فيما سبق من الأمثلة''.
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 16) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 5) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 198) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 14) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 183) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 24) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 111) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 192) وألفية العراقي في علوم الحديث - (ج 1 / ص 16) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 82) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 102) وزيادة الثقة في كتب مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 3)
(2) - ابن رجب الحنبلي، شرح العلل 1/425
(3) - انظر النكت على مقدمة ابن الصلاح 2/691
(4) - - الحافظ ابن حجر، مقدمة فتح الباري، الفصل الثامن ، القسم الثالث ص: 507
(5) - - يلاحظ أن النقاد لم يخصصوا مصطلح (المنكر) بما رواه الضعيف مخالفا للثقات، بل أطلقوه فيما لم يكن معروفا عندهم من الأحاديث، سواء أكان راويه ثقة أم ضعيفا، وإن كان إطلاقهم بذلك فيما رواه الضعيف أكثر
(6) - بكع : وبخ ، أرم : سكت ولم يجب ، أقرت : استقرت معها وقرنت بها
(7) - - أنظر تفصيله في ''عبقرية الإمام مسلم في ترتيب مسنده الصحيح''ص : 75 - 76
(8) - - انظر إرواء الغليل 1/138 ، وتعليقات الشيخ أحمد شاكر على سنن الترمذي 1/167 - 168
(9) - سنن النسائى(126 ) ومصنف ابن أبي شيبة (ج 1 / ص 188)(1985 ) وانظر الروايات في المسند الجامع - (ج 15 / ص 602)(11740)
(10) - انظر المسند الجامع - (ج 15 / ص 597)(11735)عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ والمسند الجامع - (ج 15 / ص 601)(11739) عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛
(11) - - الزيلي ، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية 1/185
(12) - - سنن الترمذي 1/167 - 168 (تحقيق أحمد شاكر)
(13) - - الشيخ الألباني، محمد ناصر ، إرواء الغليل 1/138، والشيخ أحمد شاكر، تعليقه على سنن الترمذي 1/167 - 168
(14) - - نجد في المعاصرين من بنى على هذه القاعدة مسائل كثيرة يختلف بها مع الآخرين، وفيها ما يخالف جماهير العلماء، مسوغا ذلك بقوله: ''وهذه المسألة مثال من جملة الأمثلة الكثيرة على أهمية هذه الطريقة التي تفردنا بها في هذا العصر -فيما أعلم- من تتبع الزيادات من مختلف روايات الحديث وجمع شملها وضمها إلى أصل الحديث مع تحري الثابت منها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.'' (آداب الزفاف في السنة المطهرة ص: 232)
أقول باحترام وتقدير: لو كان تحري الثابت منها وفق قواعد النقاد، ومنهجهم في نقد المرويات، ويديره على القرائن لكان ذلك منهجا سليما يجب على الجميع قبوله، وأما إذا كان ذلك على أساس قبول زيادة الثقة فالأمر جلل وتكون عواقبه خطيرة، والله تعالى يعصمنا وإياه من ذلك.
(15) - - سنن البيهقي 1/284
(16) - نفسه
(17) - - المصدر السابق، وكتاب ابن القطان الفاسي، 'بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام' 4/448
(18) - النكت على مقدمة ابن الصلاح 2/691
(19) - علوم الحديث (المشهور بمقدمة ابن الصلاح) ص: 90 ، وكذا في بقية كتب المصطلح وإن كان فيما بينها بعض التفاوت في السياق فإن المعنى واحد، انظر على سبيل المثال كتاب المقنع 1/211 - 212، فتح المغيث للسخاوي 1/210-211، وتوضيح الأفكار للصنعاني 2/22 - 23، وتدريب الراوي للسيوطي 1/135
(20) - رواه البخاري في العتق باب إذا أعتق عبدا بين اثنين.. 2/892 ، ومسلم في أول كتاب العتق 2/1139 عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ - أَوْ شِرْكًا أَوْ قَالَ نَصِيبًا - وَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ ، فَهْوَ عَتِيقٌ ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ » . قَالَ لاَ أَدْرِى قَوْلُهُ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ . قَوْلٌ مِنْ نَافِعٍ أَوْ فِى الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -
(21) - النكت 2/688(1/259)
''وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارما له مزحزحا له عن حيز الصحيح، ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه: فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ، وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر. فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان : أحدهما : الحديث الفرد المخالف، والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف ، والله أعلم''.(1)
وقال في نوع المنكر: ''والصواب فيه التفصيل الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ، وعند هذا نقول: المنكر ينقسم إلى قسمين على ما ذكرناه في الشاذ فإنه بمعناه''.
''مثال الأول (وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات) رواية مالك (1086 )حَدَّثَنِى يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِىٍّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ »..
فخالف مالك غيره من الثقات في قوله 'عمر بن عثمان' بضم العين، وذكر مسلم صاحب الصحيح في كتاب التمييز: أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال فيه: 'عمرو بن عثمان' -يعني بفتح العين- وذكر أن مالكا كان يشير بيده إلى دار عمر بن عثمان، كأنه علمأنهم يخالفونه، وعمرو وعمر جميعا ولدا عثمان، غير أن هذا الحديث إنما هو عن عمرو - بفتح العين - وحكم مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه. والله أعلم ''(2)
''ومثال الثاني - وهو الفرد الذي ليسَ في راويهِ من الثقةِ والإتقانِ ما يحتملُ معهُ تفرُّدُهُ ، وهوَ ما رواهُ النسائيُّ ، وابنُ ماجه منْ روايةِ أبي زُكَيْرٍ يحيى بنِ محمّدِ بنِ قيسٍ عنْ هِشامِ بنِ عُروةَ عنْ أبيهِ عنْ عائشةَ ؛ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : (( كلوا البَلَحَ بالتَّمْرِ ، فإنَّ ابنَ آدمَ إذا أكلَهُ غَضِبَ الشيطانُ ، ... الحديثَ )) ، قالَ النسائيُّ هذا حديثٌ منكرٌ ، قالَ ابنُ الصلاحِ تفرّدَ بهِ أبو زُكيرٍ ، وهوَ شيخٌ صالحٌ أخرجَ عنه مسلمٌ في كتابِهِ غيرَ أنَّهُ لَمْ يبلغْ مبلغَ مَنْ يحتملُ تفرُّدُهُ ''(3)اهـ
إن الشاذ والمنكر نوعان آخران من أنواع علوم الحديث التي تقوم عليها مسألة زيادة الثقة بشكل أساسي، وذلك إذا كان الشاذ ينقسم عند ابن الصلاح إلى الحديث الفرد المخالف، والحديث الفرد الذي ينفرد به الضعيف دون أن تكون فيه مخالفة لما رواه غيره فإن القسم الأول يكون قد شمل ما رواه الثقة مخالفا لمن هو أولى بحفظ ذلك، وتكون لهذه المخالفة صور شتى، منها الزيادة والنقص في السند أو في المتن أو في كليهما، كما شرحنا في نوع العلة. فإذا زاد الراوي في الحديث ما أسقطه منه من هو أولى بحفظ ذلك الحديث يكون قد دخل في القسم الأول من الشاذ، وأما إذا كان راوي الزيادة أولى بالحفظ ممن لم يذكرها في الحديث فحديثه صحيح، ولا يكون شاذا، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن إطلاق القبول في زيادة الثقة ينبغي أن يكون على مراعاة الأمور والملابسات التي تجعل راويها أولى بحفظها.
وبهذا الذي فصله الإمام ابن الصلاح في نوعي ''الشاذ'' و''المنكر'' مع ذكر الأمثلة يتبين جليا أن زيادات الثقات منها ما يصدق عليه الشاذ والمنكر، وذلك في حالة مخالفة الزيادة لما رواه من هو أولى بالحفظ والضبط. وعليه فإن قوله: ''إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا''، وكذلك قوله في الأخير: ''القسم الأول: الحديث الفرد المخالف'' كلاهما يشمل زيادة الراوي في الحديث بشرط أن يكون هو مخالفا لمن هو أولى منه بحفظها.
والجدير بالذكر أن ابن الصلاح قد حدد مفهوم الشاذ والمنكر بما هو أعم مما استقر عليه كثير من اللاحقين، حيث إن الحديث الفرد المخالف سواء كان راويه ثقة أم ضعيفا، وكذا الحديث الفرد الذي انفرد به الضعيف من أصله دون وجود مخالفة فيه لما رواه الآخرون أصبحا من مدلولات الشاذ والمنكر في رأي الإمام ابن الصلاح، على حين أن كثيرا من اللاحقين وجل المعاصرين يذهبون إلى أن الشاذ خاص بما رواه الثقة أو الصدوق مخالفا للأوثق أو جماعة من الثقات. وأن المنكر مقيد بما رواه الضعيف مخالفا للثقة. ولهذا وقع تعديل طفيف في نص ابن الصلاح حين لخصه اللاحقون في كتبهم، وإليك بعض النصوص على سبيل المثال:
قال السيوطي: ''فالصحيح التفصيل فإن كان الثقة بتفرده مخالفا أحفظ منه وأضبط كان شاذا مردودا، ثم نقل عن الحافظ ابن حجر: أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه، وهذا هو المعتمد في حد الشاذ بحسب الاصطلاح''(4)، وقد أورد لذلك أمثلة من أحاديث الثقات . ثم ذكر في 'المنكر' نقلا عن الحافظ ابن حجر: ''إن الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة ، ويفترقان في أن الشاذ راويه ثقة أو صدوق ، والمنكر راويه ضعيف. وقد غفل من سوى بينهما''(5)لعله يريد به ابنَ الصلاح.
وقال العراقي في تعريف الشاذ: ''وذو الشذوذ ما يخالف الثقة فيه الملأ''(6)وبين السخاوي صورة المخالفة بما يلي: ''أي بالزيادة أو النقص في السند أو في المتن''(7).
وهذه النصوص متفقة على أن الشرط في الشاذ هو أن يكون راويه ثقة مع وجود المخالفة بينه وبين من هو أوثق منه وأحفظ، وعليه فلا يعدُّ حديث الضعيف في هذه الحالة شاذا بل يكون منكرا.
والجدير بالذكر أنه لا فائدة تذكر في التفريق بينهما بهذا الشكل، بل إن ذلك مخالف لصنيع النقاد حيث يطلقون ''المنكر'' على الحديث إذا لم يكن معروفا عن الشخص الذي أضيف إليه سواء أ كان ذلك من ثقة أم ضعيف(8).
وأما الآخرون من المتأخرين مثل ابن الملقن والصنعاني فلم يختلفوا مع ابن الصلاح في مفهوم مصطلحي الشاذ والمنكر. يقول ابن الملقن في الموضوع نفسه مختصرا كلام ابن الصلاح:-''والصواب التفصيل: وهو أن الراوي إذا انفرد بشيء فإن كان مخالفا لما رواه من هو أحفظ منه وأضبط كان تفرده شاذا مردودا''(9). وكذا جاء تلخيص ابن الوزير والصنعاني لقول ابن الصلاح دون تغيير معتبر في سياقه(10)
فالذي يهمنا في هذه المناسبة أن زيادات الثقات فيها ما يصدق عليه الشاذ والمنكر، هذا على رأي ابن الصلاح وغيره، أو الشاذ وحده على رأي الآخرين من المتأخرين. ولذلك نرى الحافظ ابن حجر يصرح بوجود علاقة وثيقة بين الشاذ وزيادة الثقة، حيث يقول تعليقا على ابن الصلاح في مبحث تعارض الوصل والإرسال: ''وهنا شيء يتعين التنبيه عليه وهو: أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذا، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عددا، ثم قالوا : تقبل الزيادة من الثقة مطلقا فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عددا أو أضبط حفظا أو كتابا على من وصل أيقبلونه أم لا؟ أم هل يسمونه شاذا أم لا؟ لا بد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض''(11).
ويؤكد الحافظ ابن حجر من خلال هذا النص وجود صلة وثيقة بين مسألة زيادة الثقة ومسألة الشاذ، لا سيما حين ألزمهم (رحمه الله) في آخر كلامه أحد الأمرين: الاعتراف بالتناقض بين قبولهم زيادة الثقة مطلقا وبين شرطهم في الصحيح أن لا يكون شاذا، أو أن يأتوا بالفرق بينهما.
ثم قال الحافظ في مبحث الشاذ: ''وعلى المصنف (يعني ابن الصلاح) إشكال أشد منه وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذا كما تقدم، ويقول: إنه لو تعارض الوصل والإرسال قدم الوصل مطلقا سواء كان رواة الإرسال أكثر أو أقل حفظا أم لا، ويختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف راويه من هو أرجح منه. وإذا كان راوي الإرسال أحفظ ممن روى الوصل مع اشتراكهما في الثقة فقد ثبت كون الوصل شاذا فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون شاذا ؟''.
وتابع الحافظ قائلا: ''هذا في غاية الإشكال، ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحة إنما يقوله المحدثون، وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك، والمصنف قد صرح باختيار ترجيح الوصل على الإرسال ولعله يرى عدم اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحيح لأنه هناك لم يصرح عن نفسه باختيار شيء، بل اقتصر على نقل ما عند المحدثين''(12).
ويتبين مما سبق أن الحديث الذي وقع فيه الاختلاف بين رواته الثقات بسبب زيادة أحدهم في سنده أو في متنه ينطوي عليه مفهوم الشاذ إذا كانت الزيادة خطأ أو وهما. إذن فلا يطلق القبول فيما زاده الثقة، وهنا حاول الحافظ ابن حجر أن يجيب عن ذلك التناقض بأن الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا هم المحدثون، والذين يقبلون الزيادات التي قد تكون شاذة عند المحدثين هم أهل الفقه والأصول.
هذا وإن أجاب الحافظ ابن حجر عن تناقض الموقف في مبحثي الصحيح و الشاذ بما سبق آنفا فإن ما ذكره ابن الصلاح في مبحث ''العلة'' من دوران الحكم في ما تفرد به الثقة أو فيما خالفه غيره على ما يحيط به من القرائن والملابسات يختلف مع طبيعة تفصيله في نوع الشاذ؛ حيث إن الشاذ هو الحديث الذي خالف فيه الثقة لمن هو أحفظ، وجعل فيه الحكم بأنه مردود بمجرد كونه مخالفا لما رواه الأوثق، ويفهم من ذلك أنه إذا كان الذي زاد في سند الحديث أو في متنه أوثق وأحفظ فزيادته مقبولة، وبذلك أصبح الحكم مخالفا لما بينه في العلة، وإذا كان معنى الشاذ هو ما خالف فيه الثقة لمن هو أوثق منه فإنه لا يوجد فرق أصلا بين هذا النوع وبين نوع العلة؛ إذ العلة تشمل حالة المخالفة وحالة التفرد .
ويمكن الإجابة عن تفاوت الحكم بين المبحثين بما قاله الحافظ ابن حجر، وهو أن ابن الصلاح كان ناقلا عن المحدثين في مبحث العلة دون أن يبرز رأيه فيه، وأما في الشاذ فلعله رجح قول الفقهاء وأئمة الأصول، والله أعلم.
فإذا قيل: إن ما قاله ابن الصلاح في نوع الشاذ يتسم بالدقة؛ حيث يكون سياق كلامه منسجما مع تفاصيل مبحث العلة، وهو اعتبار القرائن في رد زيادة الثقة، ولم يجعل أحوال الرواة معولا عليها في الرد والقبول، إذ قال (رحمه الله) : ''فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك'' أي لذلك الحديث، ولم يقل: ''لما رواه أوثق منه '' كما وقع في نصوص اللاحقين، ويوجد بين السياقين فرق واضح؛ فإن كون الراوي أولى من غيره بحفظ ذلك الحديث الذي وقع فيه الخلاف بينهم لا يعرف إلا من خلال تتبع القرائن والملابسات، وهي كثيرة وغير محددة بالنسبة إلى كل حديث، ولذلك فإن التعويل في مثل هذه المسألة على كون الراوي أثبت وأحفظ وأضبط لا يكون مطردا، وقد يكون هذا أصلا معتمدا في قبول ما رواه أو زاده لكن فقط في حالة ما إذا لم تتوفر فيه القرائن الدالة على أن ذلك خطأ ووهم كما سبق ذكره.
وكذلك كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع جاء منسجما مع نوع العلة، حيث نقل عنه السخاوي في فتح المغيث(13)أنه قال: ''فإن خولف - أي الراوي - بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالراجح يقال له المحفوظ ومقابله المرجوح ويقال له الشاذ ، والله أعلم''. وقوله: لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات دليل على أن الحافظ لم يكن معتمدا على حال الراوي وحده في قبول الزيادات وردها.
يقال : بأن تلك الجملة وإن كانت واضحة في إفادة ذلك الذي قلناه آنفا، فإن سياق النصوص يفيد أن الحكم منوط بأحوال الرواة، وليس بالقرائن، فقد قال ابن الصلاح (رحمه الله تعالى) :
''فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف، وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به، وكان من قبيل الشاذ المنكر ، فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان: أحدهما: الحديث الفرد المخالف، والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف.''
ويفهم من هذا النص أن ميزان القبول والرد هو الحال العام للراوي، حيث جاء قوله على هذا النسق: ''فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذاك، وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به''، فدل على أن أحوال الرواة هي التي تعتمد أساسا في قبول التفرد ورده.
وأما إذا كان المقصود من الفقرة الأولى هو كون الراوي مخالفا لمن هو أولى بحفظ ذلك الحديث فإن الأقسام التالية يجب أن يكون تقسيمها مبنيا على مدى ضعف الراوي في حفظ ذلك الحديث وضبطه وإن كان من أوثق الناس، وليس على تفاوته في الضبط والإتقان بشكل عام كما هو الظاهر من ذلك النص. والفرق بين هاتين الصورتين جلي حيث إن معيار القبول والرد في الصورة الأولى هو القرائن والملابسات، وفي الثانية حال الراوي فقط.
ولذلك جاء تلخيص المتأخرين لتلك الجملة مطابقا لسياق الجمل التي تليها. وانظر على سبيل المثال قول ابن الملقن وهو يلخص ذلك النص: ''أن الراوي إذا انفرد بشيء فإن كان مخالفا لما رواه من هو أحفظ منه وأضبط كان تفرده شاذا مردودا''(14)فجعل سبب الترجيح محصورا على كون الراوي أوثق وأضبط على الوجه العام، إذ لم يقل: ''أولى بحفظ ذلك''.
والذي نخلص إليه من دراسة نوعي الشاذ والمنكر أن زيادة الثقة التي سقط عنها الأوثق تعد مردودة لكونها داخلة في الشاذ أو المنكر، وأما إذا كانت الزيادة من الأوثق فهي مقبولة لخروجها من حدود هذين النوعين. وبالتالي أصبح القبول والرد في زيادة الثقة دائرين على حال الراوي، وهو خلاف ما سبق في نوع المعلول من دوران الحكم على القرائن.
ولكي تكون أحكام هذه الأنواع موحدة ومنسجمة مع منهج المحدثين النقاد في قبول الأحاديث وردِّها يجب أن يؤخذ ذلك الترابط الموضوعي الوثيق بعين الاعتبار حين يطرح كل منها للدراسة والبحث، كما يجب أن يجعل ما سبق في مبحث العلة ميزانا دقيقا لجميع أنواع علوم الحديث التي تشكل معها وحدة موضوعية. وإن كان هذا الأسلوب هو المتعين في معالجة موضوع زيادة الثقة بشكل خاص فيا ترى كيف عالج ابن الصلاح وغيره هذه المسألة حين أفردوها بالذكر كنوع مستقل؟ وكيف كان تأصيلهم لها؟ هذا ما سندرسه فيما يلي.
4- مسألة زيادة الثقة وتأصيلها عند ابن الصلاح
وقال ابن الصلاح في مبحث زيادة الثقة:
''ومذهب الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث فيما حكاه الخطيب أبو بكر أن الزيادة من الثقة مقبولة إذا تفرد بها، سواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه ناقصا مرة ورواه مرة أخرى وفيه تلك الزيادة أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصا. خلافا لمن رد من أهل الحديث ذلك مطلقا، وخلافا لمن ردَّ الزيادة منه وقبلها من غيره. وقد قدمنا عنه حكايته عن أكثر أهل الحديث فيما إذا وصل الحديث قوم وأرسله قوم: أن الحكم لمن أرسله، مع أن وصله زيادة من الثقة''.
''وقد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام:
أحدها أن يقع مخالفا منافيا لما رواه سائر الثقات فهذا حكمه الرد كما سبق في نوع الشاذ ''.
''الثاني: أن لا يكون فيه منافاة ومخالفة أصلا لما رواه غيره، كالحديث الذي تفرد برواية جملته ثقة ولا تعرض فيه لما رواه الغير بمخالفة أصلا ، فهذا مقبول، وقد ادعى الخطيب فيه اتفاق العلماء عليه وسبق مثاله في نوع الشاذ''.
''الثالث: ما يقع بين هاتين المرتبتين ، مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث. مثاله: ما رواه الترمذى (678 ) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِىُّ حَدَّثَنَا مَعْنٌ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ حَدِيثِ أَيُّوبَ وَزَادَ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِى هَذَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبِيدٌ غَيْرُ مُسْلِمِينَ لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُمْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُؤَدِّى عَنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُسْلِمِينَ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِىِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ.
ومن أمثلة ذلك حديث في صحيح مسلم (1193 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ عَنْ رِبْعِىٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ ».(15)
فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي، وسائر الروايات لفظها: "جُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ''.
''فهذا وما أشبهه يشبه القسم الأول من حيث إن ما رواه الجماعة عام، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص، وفي ذلك مغايرة في الصفة ونوع من المخالفة يختلف بها الحكم. ويشبه أيضا القسم الثاني من حيث إنه لا منافاة بينهما ''
''وأما زيادة الوصل مع الإرسال فإن بين الوصل والإرسال من المخالفة نحو ما ذكرناه، ويزداد ذلك بأن الإرسال نوع قدح في الحديث فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل. ويجاب عنه بأن الجرح قدم لما فيه من زيادة العلم، والزيادة ههنا مع من وصل. والله أعلم''(16)اهـ.
لعل من الأفضل أن نقوم بتحليل هذه النصوص لننظر: كيف كان الحكم في زيادة الثقة التي أفرد ابن الصلاح موضوعها كنوع مستقل من أنواع علوم الحديث. وهل روعيت في هذا الحكم صلتها الوثيقة بالأنواع المذكورة. أم أن الحكم مبني على أن زيادة الثقة نوع مستقل له أبعاده وخصائصه.
لقد سرد الإمام ابن الصلاح في مستهل حديثه عن هذا النوع طائفة من الآراء المتباينة حول زيادة الثقة، فحكى فيه آراء الفقهاء والمحدثين بشكل لا يصفو للقارئ من كدر الإشكال والغموض. ولعل ابن الصلاح أحس بذلك في نفسه، ولهذا تحوَّل إلى تقسيم الخبر الذي ينفرد به الثقة عموما إلى ثلاثة أقسام بعد أن ذكر في نوعي الشاذ والمنكر أقسام ما ينفرد به الراوي دون تقييده بالثقة، وذلك لترتسم في ذهن القارئ الصورة الحقيقية لهذه المسألة تمهيدا لفصل الحكم فيها، لكنه في آخر الأمر توقف عن إعطاء حكم مناسب لمسألة زيادة الثقة، حين قال:
''الثالث: ما يقع بين هاتين المرتبتين مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث،'' ثم ختمه بقوله بعد سرد الأمثلة: ''فهذا وما أشبهه يشبه القسم الأول من حيث إن ما رواه الجماعة عام، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص، وفي ذلك مغايرة في الصفة ونوع من المخالفة يختلف بها الحكم، ويشبه أيضا القسم الثاني من حيث إنه لا منافاة بينهما''.
إذن فلم يبتَّ ابن الصلاح الحكم هنا في زيادة الثقة، وهذا ما قاله الحافظ ابن حجر: ''لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشيء، والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من قبول ورد، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال''(17).
وهنا نقطتان مهمتان:
الأولى: هل يكون هذا التقسيم خاصا بزيادة الثقة أم شاملا لجميع ما ينفرد به الثقة من المرويات بما فيه زياداته؟
الذي يبدو من تحليل تلك النصوص أن الذي قسمه ابن الصلاح هو ما ينفرد به الثقة عموما بحيث تدخل فيه الزيادة، وليس التقسيم مقيدا بزيادة الثقة، إذ قال: ''وقد رأيت تقسيم ما ينفرد به الثقة إلى ثلاثة أقسام'' ولم يقل: ''تقسيم ما يزيده الثقة''، والفرق بينهما جلي إذ الأول أعم من الثاني.
ويتأيد ذلك بما ورد في القسم الثاني من قوله: ''أن لا يكون فيه منافاة ومخالفة أصلا لما رواه غيره، كالحديث الذي تفرد برواية ثقة ولا تعرض فيه لما رواه الغير بمخالفة أصلا، فهذا مقبول، وقد ادعى الخطيب فيه اتفاق العلماء عليه وسبق مثاله في نوع الشاذ''.
وسياق هذا النص الذي جعل الحديث الفرد أنموذجا للقسم الثاني دليل على أن التقسيم كان شاملا لجميع ما ينفرد به الثقة بحيث يدخل فيه الحديث الفرد، ولذا ختم القسم الثاني بقوله: ''فهذا مقبول؛ وقد ادعى الخطيب فيه اتفاق العلماء عليه، وسبق مثاله في نوع الشاذ''، إذ من المعلوم أن الخطيب إنما يدعي الاتفاق في قبول الحديث الفرد الذي ينفرد به الثقة من أصله ولم يشاركه أحد في روايته، وهذا نصه:
__________
(1) - - مقدمة ابن الصلاح ص: 78 - 79 ، والسيوطي ، تدريب الراوي 1/124، والصنعاني، توضيح الأفكار 1/344
(2) - انظر المسند الجامع - (ج 1 / ص 230)(139)
(3) - - مقدمة ابن الصلاح ص: 80 - 82، وتدريب الراوي 1/127، وتوضيح الأفكار 2/5 ، وروى الحديث ابن ماجة في الأطعمة ، باب أكل البلح بالتمر 2/1105
(4) - تدريب الراوي 1/124 - 125
(5) - المصدر السابق 1/128
(6) - - انظر فتح المغيث للسخاوي 1/185
(7) - - فتح المغيث 1/185
(8) - - انظر منهج النقد ص: 430 للأستاذ نور الدين عتر ، والحديث المعلول ص : 66 - 76 ، ونظرات جديدة في علوم الحديث ص : 31 كلاهما لحمزة المليباري
(9) - - المقنع 1/169
(10) - - توضيح الأفكار 1/345
(11) - - النكت 2/612
(12) - - النكت 2/653
(13) - - فتح المغيث - في مبحث الشاذ - 1/185
(14) - - المقنع 1/169
(15) - المسند الجامع - (ج 5 / ص 119)(3277)
(16) - - مقدمة ابن الصلاح ص: 50 - 51
(17) - - النكت 2/687(1/260)
'' بَابُ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ خَبَرِ الْعَدْلِ إِذَا انْفَرَدَ بِرِوَايَةِ زِيَادَةٍ فِيهِ لَمْ يَرْوِهَا غَيْرُهُ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : زِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ , إِذَا انْفَرَدَ بِهَا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ زِيَادَةٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيُّ أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ , وَبَيْنَ زِيَادَةٍ تُوجِبُ نُقْصَانًا مِنْ أَحْكَامٍ تَثْبُتُ بِخَبَرٍ لَيْسَتْ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ , وَبَيْنَ زِيَادَةٍ تُوجِبُ تَغْيِيرَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ , أَوْ زِيَادَةٍ لَا تُوجِبُ ذَلِكَ , وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي خَبَرٍ رَوَاهُ رَاوِيهِ مَرَّةً نَاقِصًا , ثُمَّ رَوَاهُ بَعْدُ وَفِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ , أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَدْ رَوَاهَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَرْوِهَا هُوَ , وَقَالَ فَرِيقٌ مِمَّنْ قَبِلَ زِيَادَةَ الْعَدْلِ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهَا : إِنَّمَا يَجِبُ قَبُولُهَا إِذَا أَفَادَتْ حُكْمًا يَتَعَلَّقُ بِهَا , فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمٌ فَلَا , وَقَالَ آخَرُونَ : يَجِبُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى , وَحُكِيَ عَنْ فِرْقَةٍ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا قَالَتْ : تُقْبَلُ الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الرَّاوِي , فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي رَوَى النَّاقِصَ , ثُمَّ رَوَى الزِّيَادَةَ بَعْدُ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ , وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : زِيَادَةُ الثِّقَةِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , مَا لَمْ يَرْوِهَا مَعَهُ الْحُفَّاظُ , وَتَرْكُ الْحُفَّاظِ لِنَقْلِهَا وَذَهَابُهُمْ عَنْ مَعْرِفَتِهَا يُوهِنُهَا وَيُضْعِفُ أَمْرَهَا وَيَكُونُ مُعَارِضًا لَهَا , وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْوَارِدَةَ مَقْبُولَةٌ عَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ , وَمَعْمُولٌ بِهَا إِذَا كَانَ رَاوِيهَا عَدْلًا حَافِظًا وَمُتْقِنًا ضَابِطًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أُمُورٌ ، أَحَدُهَا : اتِّفَاقُ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الثِّقَةُ بِنَقْلِ حَدِيثٍ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُهُ , لَوَجَبَ قَبُولُهُ , وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُ الرُّوَاةِ لِنَقْلِهِ إِنْ كَانُوا عَرَفُوهُ وَذَهَابُهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِهِ مُعَارِضًا لَهُ , وَلَا قَادِحًا فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ , وَلَا مُبْطِلًا لَهُ , فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الِانْفِرَادِ بِالزِّيَادَةِ , فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْتَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ سَمَاعُ الْوَاحِدِ لِلْحَدِيثِ مِنَ الرَّاوِي وَحْدَهُ , وَانْفِرَادُهُ بِهِ , وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ سَمَاعُ الْجَمَاعَةِ لِحَدِيثٍ وَاحِدٍ وَذَهَابُ زِيَادَةٍ فِيهِ عَلَيْهِمْ وَنِسْيَانِهَا إِلَّا الْوَاحِدَ , بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ مِنْهُمْ , فَافْتَرَقَ الْأَمْرَانِ ؟ قُلْتُ : هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ , أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي حَدَّثَ بِالْحَدِيثِ فِي وَقْتَيْنِ , وَكَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْوَقْتِ الْآخَرِ , وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَرَّرَ الرَّاوِي الْحَدِيثَ فَرَوَاهُ أَوَّلًا بِالزِّيَادَةِ , وَسَمِعَهُ الْوَاحِدُ , ثُمَّ أَعَادَهُ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ اقْتِصَارًا عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَتَمَّهُ مِنْ قَبْلُ , وَضَبَطَهُ عَنْهُ مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ , إِذَا رَوَاهُ عَنْهُ , وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ , وَرُبَّمَا كَانَ الرَّاوِي قَدْ سَهَا عَنْ ذِكْرِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ , لَمَّا كَرَّرَ الْحَدِيثَ وَتَرَكَهَا غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لِحَذْفِهَا , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتَدَأَ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ , وَفِي أَوَّلِهِ الزِّيَادَةُ , ثُمَّ دَخَلَ دَاخِلٌ فَأَدْرَكَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعِ الزِّيَادَةَ , فَنَقَلَ مَا سَمِعَهُ , وَيَكُونُ السَّامِعُ الْأَوَّلُ قَدْ وَعَاهُ بِتَمَامِهِ , وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا فِي خَبَرٍ جَرَى الْكَلَامُ فِيهِ بَيْنَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَبَيْنَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ''
(1295 )أَخْبَرَناهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّاهِدُ بِالْبَصْرَةِ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَادِرَائِيُّ ، ثنا جُنَيْدُ بْنُ حَكِيمٍ ، حَدَّثَنَا مُصْعَبٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ ، ثنا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ , عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : " سَمِعَ الزُّبَيْرُ , رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَلَمَّا فَرَغَ الرَّجُلُ مِنْ حَدِيثِهِ , قَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ : هَلْ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : نَعَمْ , قَالَ : صَدَقْتَ , وَلَكِنَّكَ كُنْتَ يَوْمَئِذٍ غَائِبًا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , فَجِئْتَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ , وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ , فَحَسِبْتَ أَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ نَفْسِهِ ، هَذَا وَشَبَهُهُ يَمْنَعُنَا مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - النَّهْيَ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ "
( 1296) أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُعَدِّلُ , وَأَبُو الْفَتْحِ هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَفَّارُ ـ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : حَدَّثَنَا , وَقَالَ هِلَالٌ : ـ أنا الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ الْقَطَّانُ ، ثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ ، ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ , ح وَأَخْبَرَنا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ ، ثنا أَبُو عَلِيِّ ابْنُ عَمْرٍو اللُّؤْلُؤِيُّ ، ثنا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ ، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ ـ قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وثنا مُسَدَّدٌ ، ثنا بِشْرٌ يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضَّلِ الْمَعْنِيَّ , عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ , عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ , عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ , عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , قَالَ : قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَا وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ , إِنَّمَا أَتَاهُ رَجُلَانِ ـ قَالَ مُسَدَّدٌ ـ مِنَ الْأَنْصَارِ , ثُمَّ اتَّفَقَا : قَدِ اقْتَتَلَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ " زَادَ مُسَدَّدٌ فَسَمِعَ قَوْلَهُ لَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ - وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ " وَيَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ الرَّاوِي الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَيَنْسَى اثْنَانِ مِنْهُمَا الزِّيَادَةَ وَيَحْفَظُهَا الْوَاحِدُ وَيَرْوِيهَا , وَيَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ الْجَمَاعَةُ سَمَاعَ الْحَدِيثِ فَيَتَطَاوَلُ حَتَّى يَغْشَى النَّوْمُ بَعْضَهُمْ أَوْ يَشْغَلَهُ خَاطِرُ نَفْسٍ وَفِكْرُ قَلْبٍ فِي أَمْرٍ آخَرَ فَيَقْتَطِعُهُ عَمَّا سَمِعَهُ غَيْرُهُ وَرُبَّمَا عَرَضَ لِبَعْضِ سَامِعِي الْحَدِيثِ أَمْرٌ يُوجِبُ الْقِيَامَ وَيَضْطَرُّهُ إِلَى تَرْكِ اسْتِتْمَامِ الْحَدِيثِ , وَإِذَا كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَائِزًا فَسَدَ مَا قَالَهُ الْمُخَالِفُ "
( 1297 ) أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ الْإِمَامُ بِأَصْبَهَانَ ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ ، ثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ , قَالَ ثنا سُلَيْمَانُ : وَثَنا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، قَالَا : ثنا سُفْيَانُ , عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ أَبِي صَخْرَةَ الْمُحَارِبِيِّ , عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ , عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ , قَالَ : أَتَى نَفَرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ : " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ " , فَقَالُوا : قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا , فَرُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَجَاءَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ : " اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ " , قَالُوا : قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ بِبَدْءِ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ , فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا عِمْرَانُ رَاحِلَتَكَ فَقُمْتُ , فَلَيْتَنِي لَمْ أَقُمْ "
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ , أَنَّ الثِّقَةَ الْعَدْلَ يَقُولُ : سَمِعْتُ وَحَفِظْتُ مَا لَمْ يَسْمَعِ الْبَاقُونَ , وَهُمْ يَقُولُونَ : مَا سَمِعْنَا وَلَا حَفِظْنَا , وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا لَهُ , وَإِنَّمَا إِخْبَارٌ عَنْ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِمَا عَلِمَهُ , وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ عِلْمَهُ بِهِ , وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ قَبُولُ الْخَبَرِ إِذَا انْفَرَدَ بِهِ دُونَهُمْ وَلِأَجْلِهِ أَيْضًا قُبِلَتِ الزِّيَادَةُ فِي الشَّهَادَةِ إِذَا شَهِدُوا جَمِيعًا بِثُبُوتِ الْحَقِّ وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ بِزِيَادَةِ حَقٍّ آخَرَ وَبِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَلَمْ يَشْهَدِ الْآخَرُونَ " .
فَأَمَّا عِلَّةُ مَنِ اعْتَلَّ فِي تَرْكِ قَبُولِهَا بِبُعْدِ ذَهَابِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ وَحِفْظِ الْوَاحِدِ لَهَا فَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجَوَازَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ , وَأَمَّا مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُوجِبَةً لِحُكْمٍ أَوْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ فَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ قَبُولُهَا مَعَ إِيجَابِهَا حُكْمًا زَائِدًا فَبِأَنْ تُقْبَلَ إِذَا لَمْ تُوجِبْ زِيَادَةَ حُكْمٍ أَوْلَى لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ أَشَدُّ فِي هَذَا الْبَابِ"
( 1298) مَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ بِنَيْسَابُورَ ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، ثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ , عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ ، حَدَّثَنِي رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ , عَنْ حُذَيْفَةَ , قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ , وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا , وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ " , وَذَكَرَ خَصْلَةً أُخْرَى قَوْلُهُ : وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا , زِيَادَةٌ لَمْ يَرْوِهَا فِيمَا أَعْلَمُ , غَيْرُ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ , فَكُلُّ الْأَحَادِيثِ لَفْظُهَا : وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا "
(1299)أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، أنا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ ، ثنا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمِ بْنِ حَسَّانَ ، ثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ ، ثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ , عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ , عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا " , قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : " الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : " بُرُّ الْوَالِدَيْنِ " قَوْلُهُ : فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا , زِيَادَةٌ لَا نَعْلَمُ رَوَاهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَّا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ , وَكُلُّ الرُّوَاةِ قَالُوا عَنْ مَالِكٍ الصَّلَاةُ , لِوَقْتِهَا ,.
وَأَمَّا فَصْلُ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي الْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ رَاوِيهِ بِغَيْرِ زِيَادَةٍ , وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ , لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ مُتَكَرِّرًا تَارَةً بِزِيَادَةٍ , وَتَارَةً بِغَيْرِ زِيَادَةٍ كَمَا يَسْمَعُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مِنْ رِوَايَتَيْنِ ، وَقَدْ يَنْسَى الزِّيَادَةَ تَارَةً فَيَرْوِيهِ بِحَذْفِهَا مَعَ النِّسْيَانِ لَهَا وَالشَّكِّ فِيهَا , وَيَذْكُرُهَا فَيَرْوِيهَا مَعَ الذِّكْرِ وَالْيَقِينِ , وَكَمَا أَنَّهُ لَوْ رَوَى الْحَدِيثَ وَنَسِيَهُ , وَقَالَ : لَا أَذْكُرُ أَنِّي رَوَيْتُهُ , وَقَدْ حَفِظَ عَنْهُ ثِقَةٌ , وَجَبَ قَبُولُهُ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ عَنْهُ , فَكَذَلِكَ هَذَا , وَكَمَا لَوْ رَوَى حَدِيثًا مُثْبِتًا لِحُكْمٍ , وَحَدِيثًا نَاسِخًا لَهُ , وَجَبَ قَبُولُهُمَا , فَكَذَلِكَ حُكْمُ خَبَرِهِ إِذَا رَوَاهُ تَارَةً زَائِدًا وَتَارَةً نَاقِصًا , وَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ"(1).
ومن هنا يتعين أن يكون القسم الثاني منحصرا في الحديث الفرد، وأما إذا قلنا غير ذلك وجعلنا قوله: ''كالحديث الذي تفرد برواية جملته ثقة ولا تعرض فيه لما رواه الغير بمخالفة أصلا'' مجرد تمثيل للقسم الثاني بما هو أقرب إلى فهم القارئ دون أن يدرجه في هذا القسم، وحملنا الإشارة في قوله ''فهذا مقبول'' على المثال وحده فإن السياق يصبح غير مستقيم لكون المثال محل تركيز في بيان الحكم دون القسم الثاني، والخروج من الموضوع بهذا الشكل يعد خللا في المنهج. ولو جاء النص هكذا: ''فهذا مقبول كالحديث الذي تفرد برواية ثقة'' لأصبح ذلك مقبولا جدا، يعني أن هذا القسم مقبول كقبول الحديث الفرد.
هذا إذا جعلنا الإشارة في قوله ''فهذا مقبول'' للمثال، وأما إذا كان المشار إليه هو القسم الثاني، الذي هو الزيادة غير المنافية، فيكون فيه الإشكال من وجهين:
الأول: وقوع الخطأ فيما نقله عن الخطيب؛ إذ الخطيب لم يدع الاتفاق على قبول زيادة الثقة كما أوضحنا آنفا.
الثاني: وقوع التداخل بين القسم الثاني والثالث ويكون مغزاهما واحدا، وهذا غير سليم حيث فرق بينهما وجعل الثالث مترددا بين الثاني والأول.
وكذلك أيضا ما ورد في القسم الثالث يفيد بأن تقسيم ابن الصلاح إنما كان عاما شاملا لجميع ما ينفرد به الثقة دون أن يخصص بالزيادات، حيث قال في تحديد هذا القسم:''ما يقع بين هاتين المرتبتين مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث.'' يفهم من هذا السياق أن ما سبق ذكره من الأقسام لم يكن بخصوص زيادة لفظة، إذ جعل الفاصل بين هذا القسم وبين سابقيه هو زيادة لفظة لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث، ولم يقل: زيادة لفظة تشبه الأول من جهة وتشبه الثاني من جهة أخرى.
ويتأيد ذلك بما قاله الحافظ ابن حجر تعقيبا على ابن الصلاح: ''لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشيء، والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من قبول ورد، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال''. ومن المعلوم أن هذا الذي ذكره الحافظ إنما هو فيما يخص مسألة زيادة الثقة بقضها وقضيضها بغض النظر عن وجود المنافاة فيها.
والذي شرحناه آنفا يكون مستندا قويا لحمل التقسيم على شموليته لجميع ما ينفرد به الثقة. وإلا فلا يخلو تخصيص التقسيم بالزيادة من تكلف ظاهر. وربما يثير هذا الفهم شيئا من الغرابة لدى القارئ لكون ذلك مخالفا لما في كتب المصطلح، حيث تتفق كلها على أن التقسيم كان في زيادات الثقات وليس بتقسيم شامل لجميع ما ينفرد به الراوي.
مثلا: قال الإمام النووي: ''وقسمه الشيخ أقساما :
أحدها: زيادة تخالف الثقات فترد كما سبق .
الثاني: ما لا مخالفة فيه كتفرد ثقة بجملة حديث ، قال الخطيب: يقبل باتفاق العلماء.
الثالث: زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر رواته(2).
وقال الحافظ العلائي:''وأما الشيخ تقي الدين بن الصلاح فإنه توسط بين أهل الحديث وأئمة الأصول ، وقسم الزيادة إلى ثلاثة أقسام''(3)
وقال الإمام ابن الملقن: ''أحدها زيادة تخالف الثقات فترد -كما سبق في نوع الشاذ-. ثانيها: ما لا مخالفة فيه كتفرد ثقة بجملة حديث فتقبل، وقد ادعى الخطيب فيه اتفاق العلماء وقد سبق مثاله في نوع الشاذ. ثالثها: زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر رواته''(4).
وقال الحافظ ابن حجر: ''قوله -يعني ابن الصلاح- وقد رأيت تقسيم الزيادات إلى ثلاثة أقسام''(5).
وقال الحافظ السخاوي: ''وقد قسمه أي ما ينفرد به الثقة من الزيادة''(6).
ومع ذلك فإننا نلحظ في سياق كلام الإمام النووي وابن الملقن ما يكون نصا صريحا على أن الحديث الفرد هو نموذج القسم الثاني، وإذا تقرر أن هذا التقسيم شامل لجميع ما ينفرد به الثقة دون حده بالزيادة، فالذي يفصله عما ذكره في الشاذ والمنكر هو أن التقسيم هنا مقيد بما ينفرد به الثقة، وأما هناك فيشمل الثقة والضعيف غير المتروك. وبالتالي فكل ما جاء هنا ينطبق على نوعي الشاذ والمنكر مما يتصل برواية الثقات. ولهذا قال ابن الصلاح: ''فهذا حكمه الرد كما سبق في نوع الشاذ''.
والنقطة الثانية: ماذا يعني ابن الصلاح بالمنافاة ؟ وهل هي قيد زائد على المخالفة التي أطلقها في نوعي الشاذ والمنكر؟ أو هي المنافاة نفسها التي ذكرها هنا؟ وما مصدر ابن الصلاح في إضافة هذا القيد إذا كان بينهما فرق؟
ففي ضوء ما بينه ابن الصلاح في مبحث زيادة الثقة فالحديث المخالف لا يردُّ إلا إذا كان منافيا لما رواه سائر الناس. وبهذا أصبحت المنافاة مقياسا هنا لرد الحديث المخالف لما رواه الناس، وهذا كما ترى فيه تضييق لما سبق في الشاذ الذي أطلق فيه المخالفة بقوله: ''إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا'' دون أن يضيف فيه المنافاة. وبالتالي يكون رد الحديث المخالف متوقفا على مخالفته لمن هو أضبط وأحفظ وإن لم يكن منافيا لما رواه هذا الأضبط، وبين هذين المقياسين لرد الحديث المخالف فرق واضح، إلا إذا قلنا إن المخالفة المذكورة في نوعي الشاذ والمنكر ليست هي على إطلاقها، وإنما بمعنى المنافاة؛ بدليل قوله في نوع زيادة الثقة: ''فهذا حكمه الرد كما سبق في نوع الشاذ.'' حيث سوى ابن الصلاح بين هذا القسم الأول وبين ما وقع في الشاذ والمنكر في سبب رد الحديث.
__________
(1) - - الخطيب البغدادي، الكفاية ص 425
(2) - - تدريب الراوي 1/131
(3) - - نظم الفرائد لما تضمنه حديث ذي اليدين من الفوائد ص: 215
(4) - - المقنع في علوم الحديث 1/192
(5) - - النكت 2/687
(6) - - فتح المغيث 1/202(1/261)
وعلى ذلك فما معنى المنافاة عند ابن الصلاح؟ وما الفرق بين المخالفة والمنافاة؟ لنشير إلى الفرق بينهما عموما نورد هنا مثالين: ورد عن عبد الله بن عمر في الطلاق البدعي حديث اختلف الرواة فيه؛ فروى جماعة من الثقات ما يفيد أن ابن عمر طلق تطليقة ،وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ(1)، في حين روى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عُرْوَةَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمَرَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ قَالَ كَيْفَ تَرَى فِى رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا قَالَ طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَرَدَّهَا عَلَىَّ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَقَالَ « إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَقَرَأَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - (يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) فِى قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَمَنْصُورٌ عَنْ أَبِى وَائِلٍ مَعْنَاهُمْ كُلُّهُمْ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَرُوِىَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِىِّ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ رِوَايَةِ نَافِعٍ وَالزُّهْرِىِّ وَالأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلاَفِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ(2).
وقال البيهقي عقبه : " قَالَ الشَّافِعِىُّ : وَنَافِعٌ أَثْبَتُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَبِى الزُّبَيْرِ وَالأَثْبَتُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهِ إِذَا خَالَفَهُ قَالَ وَقَدْ وَافَقَ نَافِعٌ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الثَّبَتِ فِى الْحَدِيثِ فَقِيلَ لَهُ : أَحُسِبَتْ تَطْلِيقَةُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - تَطْلِيقَةً قَالَ فَمَهْ وَإِنْ عَجَزَ يَعْنِى أَنَّهَا حُسِبَتْ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تُحْسَبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) لَمْ يُخَصِّصْ طَلاَقًا دُونَ طَلاَقٍ ثُمَّ سَاقَ الْكَلاَمَ إِلَى أَنْ قَالَ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ تُحْسَبْ شَيْئًا صَوَابًا غَيْرَ خَطَإٍ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَخْطَأَ فِى فِعْلِهِ وَأَخْطَأَ فِى جَوَابٍ أَجَابَ بِهِ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا يَعْنِى لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا صَوَابًا. أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الرُّوذْبَارِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ هُوَ السِّجِسْتَانِىُّ قَالَ الأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلاَفِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ. "(3)
وأفاد هذا الحديث أن الطلاق لم يقع، وهو ينافي حديث الجماعة الذي يدل على وقوع الطلاق. وعلى هذا الأساس أعلَّ النقاد حديث أبي الزبير. والجدير بالذكر أنه لم يكن تعليل هذا الحديث لمجرد مخالفة أبي الزبير غيره من الثقات، وإنما لدلالة القرائن على خطئه الذي كان سبب مخالفته للآخرين(4)
وأما مثال المخالفة دون المنافاة ما روي في سنن أبى داود (748 ) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَاصِمٍ - يَعْنِى ابْنَ كُلَيْبٍ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَلاَ أُصَلِّى بِكُمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَصَلَّى فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ مَرَّةً. قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَلَيْسَ هُوَ بِصَحِيحٍ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ.
وهذا يخالف ما في سنن أبى داود (747 ) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاَةَ فَكَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمَّا رَكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَقَالَ صَدَقَ أَخِى قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا يَعْنِى الإِمْسَاكَ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ.
وبين الحديثين مخالفة دون منافاة؛ حيث قال سفيان في الحديث إنه لم يرفع يديه إلا مرة واحدة، بينما قال ابن إدريس في الحديث نفسه موضوع التطبيق(5)دون تطرقه لموضوع رفع اليدين، وتعدُّ مثل هذه الحالة مخالفة في الحديث، ويكون من شأنها أن تقتضي الترجيح أو الجمع على أصول النقد عند المحدثين.
وإذا كانت المنافاة أخصَّ من المخالفة كما لمسنا في هذين المثالين فإن اعتماد هذه المنافاة كميزان لرد الحديث المخالف لا يستبعد صدوره من ابن الصلاح لكونه منتميا إلى مدرستي الفقه والأصول. ولذا كان ذلك أساس هذا التقسيم الذي آثره ابن الصلاح في زيادة الثقة، قصد الخروج من تباين الآراء حولها؛ إذ جعل حكم القسم الأول منوطا بوجود المنافاة كشرط زائد على المخالفة بينما توقف عن بيان حكم القسم الثالث المتمثل في زيادات الثقات؛ نظرا لعدم وجود المنافاة فيها.
هذا وقد جاء عن الحافظ ابن حجر أقوال مختلفة في تفسير كلمة المنافاة؛ منها قوله:''وإما أن تكون (الزيادة) منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها''(6)ومنها قوله: ''إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع''(7). وبهذا فسر الحافظ ابن حجر المخالفة حيث قال:''وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الضابط أو الصدوق شيئا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ''(8).
وإن كانت هذه الأقوال غير متفقة في ظاهرها لكنها في مجملها تكون أقرب إلى منهج المحدثين منها إلى منهج الفقهاء والأصوليين؛ لكونها تتجه نحو تحديد المخالفة التي تكون أساسا في الشاذ والمنكر بأنها ما يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، دون أن تكون المخالفة على عمومها.
وبما أن المقصود بالمنافاة هو كل ما يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فإن المنافاة لا تعد قيدا زائدا على المخالفة التي لا تكون على إطلاقها عند المحدثين النقاد. ولذا أصبح تفسير ابن حجر للمنافاة موافقا لمنهج المحدثين في النقد. هذا ولم يرد ذكر لفظ المنافاة كشرط لرد الحديث المخالف إلا في نص الإمام ابن الصلاح، وذلك لتوجهه الفقهي في معالجة بعض قضايا النقد عند المحدثين.(والله أعلم) وللأسف لم ينتبه إلى ذلك كثير من الباحثين حين قلدوا ابن الصلاح في مقدمته(9).
وعلى كل حال فإن مسألة زيادة الثقة ينبغي طرحها في ضوء صلتها الوثيقة بالأنواع التي سبق البحث فيها، لكنه (رحمه الله تعالى) حين توسط بين نهج الفقهاء والأصوليين في معالجة مسألة زيادة الثقة ، وبين طريقة المحدثين النقاد - كما نص على ذلك الحافظ العلائي -(10)جاء التقسيم والقبول والرد فيها على أساس وجود المنافاة وعدمها، وهذه النظرة تعد غريبة في منهج المحدثين النقاد الذي يقوم على تتبع الملابسات والقرائن في الرواية. ومنهجهم هذا في تحري المرويات والمنقولات يكون هو الصواب؛ إذ لو كان رد الحديث المخالف متوقفا على وجود المنافاة وحدها للزم أن نضيف إلى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ما لم يقله إذ لا يكون بالضرورة أن يكون ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد قال كل ما أضيف إليه بأي شكل كان بمجرد عدم المنافاة لما رواه الناس أو الأوثق، وكذا الأمر في كل ما يضاف إلى الرواة الذين اختلف عليهم بذلك.ونخلص أخيرا إلى أن الحكم في زيادة الثقة أو فيما ينفرد به عموما متوقف على نوعية القرائن والملابسات التي تحتف بها، وعلى هذا الأساس جاء عمل أولئك النقاد في كتب العلل والصحاح وكتب الضعفاء، وجاءت نصوص كثيرة عن كثير من المحققين تؤكد ذلك، ونذكر هنا بعضا منها.
يقول ابن دقيق العيد: ''من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنهم إذا تعارض رواية مسنِد ومرسِل أو رافع وواقف أو ناقص وزائد إن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق فإن ذلك ليس قانونا مطردا، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول''(11).
ويقول العلائي: ''كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث''(12).
ويقول في موضع آخر ''ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة ، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده -والله أعلم-''(13).
ويقول الحافظ ابن حجر: '' ... والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من قبول ورد، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال''(14)
ويقول البقاعي: ''إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرا لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون منها بحكم مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن''(15)
ويقول ابن الوزير: ''وعندي أن الحكم في هذا لا يستمر، بل يختلف باختلاف قرائن الأحوال، وهو موضع اجتهاد''(16).
وهذه النصوص كلها كانت متفقة على أن قبول زيادة الثقة أو ما ينفرد به الراوي عموما وردها يدوران على نوعية المرجحات والقرائن، بغض النظر عن وجود المنافاة وعدمها، وهو خلاف ما لاحظناه في مسألة زيادة الثقة التي تناولتها كتب المصطلح على أشكال مختلفة.
وبقي هنا شيء آخر ينبغي ذكره، وهو ما يخص الحديث الفرد الذي تفرد به الثقة من أصل الحديث، فقد نقل ابن الصلاح عن الخطيب البغدادي اتفاق العلماء على قبوله مطلقا، وهذا غير سليم؛ لأن قبول هذا النوع ليس على الإطلاق، وليس هو محل اتفاق لدى المحدثين، وقد نبه على ذلك الحافظ ابن حجر حين قال: ''ليس كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولا''(17)، على أن الإمام ابن الصلاح نفسه قد أشار إلى ذلك بقوله في مبحث العلة: ''ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي مع قرائن تنضمُّ إليه تنبه العارف بهذا الشأن''، فما أطلقه هنا من قبول ما تفرد به الثقة لا يكون سليما لتناقضه مع مبحث العلة الذي جعل الحكم فيه منوطا بنوعية القرائن التي تحف بالحديث المتفرد.(18)
5- أشهر من اعتنى بها :
هذه الزيادات من بعض الثقات في بعض الأحاديث لفتت أنظار العلماء ، فتتبعوها واعتنوا بجمعها ومعرفتها ، وممن اشتهر بذلك الأئمة :
أبو بكر عبدالله بن محمد بن زياد النيسابوري .
أبو نُعَيم الجُرْجَاني .
أبو الوليد حسان بن محمد القرشي .
6- محل وقوع زيادات الثقات:
يتبين من التعريف المتقدم لزيادة الثقة أنها تقع في الإسناد ، وتقع في المتن .
وصورها محصورة في خمس ، ثلاث في الإسناد : وصل مرسل ، ورفع موقوف أو مقطوع ، والزيادة خلال الإسناد ، ومنه : المزيد في متصل الأسانيد ، وواحدة في المتن ، وهي زيادة الكلمة ، أو الجملة أو أكثر ، ومشتركة بينهما ، وهي : الإدراج .
7- حكم الزيادة في متن الحديث:
وهي ما يقع في ألفاظ متن الحديث الواحد المتحد في أصله ، كحديث عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من مفردة ، أو مفردات ، أو جملة ، أو مقطع ، أو قصة ، أو ما يزيد حتى يبلغ أن يكون بمنزلة حديث آخر .
وهو كثير في الأحاديث ، ويمكن أن يستفاد بعض مثاله مما بينته من مثال لفوائد المستخرجات على " الصحيحين " ، وما يقع فيها من زيادات الرواة في المتون .
وربما كان تمام الحديث بتلك الزيادة ، ومن لم يذكرها اختصره ، ففوت باختصاره ما قد يدل عليه من العلم أصل سياقه .
وقد اعتنى به جماعة من فقهاء المحدثين ، كأبي داود السجستاني في " السنن " ، وأبي بكر النيسابوري في " الزيادات على كتاب المزني " ، والبيهقي في " السنن "
وجمع ألفاظ الحديث ، وتبيين ما يزيد الثقات في متنه على بعضهم يحرر أصول كثير من الأحاديث ، وربما أبان عن معنى يتحصل بتلك الزيادة ، أو بتمام السياق لم يكن ليحصل بدونه .
بل في اختلاف الفقهاء مسائل كثيرة يعود سبب اختلافهم فيها إلى هذا المعنى كاختلافهم في كفارة المواقع في رمضان ، وهل هي لإفطاره بأي سبب ، أو لإفطاره بالمواقعة خاصة ، وحكم القضاء له ، أو عدمه ، وكاختلافهم في صفة القعود للتشهد من صلاة الصبح بالتورك أو الافتراش ، لما جاء به الرواة لحديث أبي حميد السَّاعديِّ في صفة الصلاة اختصاراً وتماماً ، وغير ذلك .
ومن مثاله الذي يتنازع أئمة الحديث قبوله : زيادة " وإذا قرأ فأنصتوا " في حديثي أبي موسى الأشعري ، وأبي هريرة ، من قبل بعض الثقات في حديث كل منهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما جعل الإمام ليؤتم به " ، وهو حديث معروف الصحة ، سوى هذه الزيادة ، فقد اختلفوا فيها قبولاً وردا .
وقد أورد مسلم الحديث بها في " صحيحه " (932 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِىُّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا أَبِى ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِىِّ كُلُّ هَؤُلاَءِ عَنْ قَتَادَةَ فِى هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ. وَفِى حَدِيثِ جَرِيرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ « وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ». وَلَيْسَ فِى حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ « فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ». إِلاَّ فِى رِوَايَةِ أَبِى كَامِلٍ وَحْدَهُ عَنْ أَبِى عَوَانَةَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أُخْتِ أَبِى النَّضْرِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مُسْلِمٌ تُرِيدُ أَحْفَظَ مِنْ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَحَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ هُوَ صَحِيحٌ يَعْنِى وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا. فَقَالَ هُوَ عِنْدِى صَحِيحٌ. فَقَالَ لِمَ لَمْ تَضَعْهُ هَا هُنَا قَالَ لَيْسَ كُلُّ شَىْءٍ عِنْدِى صَحِيحٍ وَضَعْتُهُ هَا هُنَا. إِنَّمَا وَضَعْتُ هَا هُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ."
ولم يبال بما قاله غيره من تفرد سليمان التيمي بها عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن أبي موسى ، من أجل ما عرف من إتقان التيمي .
بينما أحجم مسلم أن يسوق الحديث بها في " صحيحه " من حديث أبي هريرة مع حكمه بصحته ، من أجل شدة إنكارهم لها على محمد بن عجلان ، إذ تفرد بها عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة .
أ) مثال للزيادة التي ليس فيها منافاة : ما رواه صحيح مسلم(19)وَحَدَّثَنِى عَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِىُّ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِى رَزِينٍ وَأَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ ». ، ولم يذكرها سائر الحفاظ من أصحاب الأعمش ، وإنما رووه كما في موطأ مالك(20)عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ». فتكون هذه الزيادة كخبر تفرد به علي بن مُسْهِرَ ، وهو ثقة(21)، فتقبل تلك الزيادة
ب) مثال للزيادة المنافية:
زيادة "يوم عرفة" ، كما في سنن أبى داود(22)عَنْ مُوسَى بْنِ عُلَىٍّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَهِىَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ ».
فان الحديث من جميع طرقه بدونها ، وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر ، والحديث أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهما .
جـ) مثال للزيادة التي فيها نوع منافاة : ما رواه مسلم(23)من طريق أَبِى مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ عَنْ رِبْعِىٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ ». " فقد تفرد أبو مالك الأشجعي بزيادة "تربتها" ولم يذكرها غيره من الرواة ، وإنما رووا الحديث هكذا " وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا "
كما في صحيح البخارى برقم (335 )عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ ، وَأُحِلَّتْ لِىَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِى ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً » .
والترمذى برقم (1640 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ ». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وأحمد برقم (2794) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِىٌّ قَبْلِى وَلاَ أَقُولُهُنَّ فَخْراً بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَلَم تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِى وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ فَأَخَّرْتُهَا لأُمَّتِى فَهِىَ لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً ». (وهو صحيح )
__________
(1) - - رواه البخاري في الطلاق باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق 9/436 وفي باب مراجعة الحائض ص:599
(2) - سنن أبى داود (2187 )
(3) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 7 / ص 327)(15327)
(4) - - انظر تفصيله في جامع العلوم والحكم 1/173 - 176 لابن رجب الحنبلي
(5) - - التطبيق هو أن يجعل اليدين بين الركبتين في الركوع، وكان هذا مشروعا ثم نسخ.
(6) - نزهرة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر ص: 39
(7) - - مقدمة فتح الباري ، الفصل الثامن ، القسم الثالث ص:507
(8) - - المصدر السابق في الفصل التاسع ص: 549 وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 153) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 1 / ص 53) والحديث المعلول قواعد وضوابط - (ج 1 / ص 27) وزيادة الثقة في كتب مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 11) وعلوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 22)
(9) - كتاب تحفة الأحوذي 2/82 - 85
(10) - - نظم الفرائد ص: 215
(11) - نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/343 - 344 وعلوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد - (ج 1 / ص 66)
(12) - انظر النكت 2/ 604 و توضيح الأفكار - (ج 1 / ص 344)
(13) - نقله الحافظ في النكت 2/712
(14) - النكت 2/687
(15) - - نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/339 - 340
(16) - - توضيح الأفكار 1/312
(17) - النكت على مقدمة ابن الصلاح 2/690
(18) - انظر زيادة الثقة في كتب مصطلح الحديث د- حمزة المليباري- (ج 1 / ص 1-16)
(19) - برقم (674 )
(20) - برقم (66 ) ومسلم من طريقه برقم (676 )
(21) - انظر ترجمته في تهذيب الكمال [ ج 21 - ص 135 ] برقم (4137 )
(22) - برقم (2421 ) وهو صحيح
(23) - صحيح مسلم برقم (1193 )(1/262)
وأحمد برقم (21905) عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أُوتِيتُ خَمْساً لَمْ يُؤْتَهُنَّ نَبِىٌّ كَانَ قَبْلِى نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ فَيُرْعَبُ مِنِّى الْعَدُوُّ عَنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِىَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوَراً وَأُحِلَّتْ لِىَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِى وَبُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ وَقِيلَ لِى سَلْ تُعْطَهْ فَاخْتَبَأْتُهَا شَفَاعَةً لأُمَّتِى وَهِىَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَقِىَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ». قَالَ الأَعْمَشُ فَكَانَ مُجَاهِدٌ يَرَى أَنَّ الأَحْمَرَ الإِنْسُ وَالأَسْوَدَ الْجِنُّ. (صحيح)
9- حكم الزيادة في الإسناد :
أما الزيادة في الإسناد فَتَنْصَبُّ هنا على مسألتين رئيسيتين يكثر وقوعهما، وهما تعارض الوصل مع الإرسال، وتعارض الرفع مع الوقف، أما باقي صور الزيادة في الإسناد فقد أفرد العلماء لها أبحاثاً خاصة مثل " المزيد في متصل الأسانيد "
هذا وقد اختلف العلماء في قبول الزيادة وردها على أربعة أقوال وهي :
الحُكْمُ لمن وصله أو رفعه ( أي قبول الزيادة ) وهو قول جمهور الفقهاء والأصوليين(1).
الحكم لمن أرسله أو وقفه ( أي ردُّ الزيادة ) وهو قول أكثر أصحاب الحديث .
الحكم للأكثر: وهو قول بعض أصحاب الحديث.
الحكم للأحفظ : وهو قول بعض أصحاب الحديث .
ومثاله: حديث " لا نكاح إلا بولي " فقد رواه يونس بن أبي اسحق السَّبِيعي ، وابنُه إسرائيل وقيس بن الربيع عن أبي اسحق مسنداً متصلا ، ورواه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج عن أبي اسحق مرسَلا
وقد سُئل البُخَاري عن حديث: «لا نِكَاحَ إلاَّ بولي», وهو حديث اختُلف فيه على أبي إسْحَاق السَّبيعي.
فرواهُ شُعبة والثَّوري عنه, عن أبي بُرْدة, عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مُرْسلا.
ورواه إسْرائيل بن يونس في آخرين, عن جدِّه أبي إسْحَاق, عن أبي بُرْدة, عن أبي مُوسى مُتَّصلاً. فحكم البُخَاري لمن وَصَلهُ, وقال: الزِّيادة من الثِّقة مقبُولة, هذا مع أنَّ من أرسلهُ شُعبة وسُفيان, وهُمَا جَبَلان في الحِفْظ والإتْقَان.
وقيل: لم يحكُم البُخَاري بذلكَ لمُجَرَّد الزِّيادة, بل لأنَّ لحُذَّاق المُحدِّثين نَظَرًا آخر, وهو الرُّجوع في ذلك إلى القَرَائن دونَ الحُكْم بحكم مُطَّرد, وإنَّما حكم البُخَاري لهذا الحديث بالوَصْل, لأنَّ الَّذي وصلهُ عن أبي إسْحَاق سبعة, منهم إسرائيل حفيدهُ, وهو أثبت النَّاس في حديثه, لكثرة مُمَارسته له, ولأنَّ شُعبة وسُفيان سمعاهُ في مَجْلس واحد, بدليل رِوَاية الطَّيالسي في «مسنده» قال: حدَّثنا شُعبة, قال: سمعت سُفيان الثَّوري يقول لأبي إسحاق: أحدَّثكَ أبو بُرْدة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - , فذكرَ الحديث, فرجعا كأنَّهما واحد, فإنَّ شُعبة إنَّما رواهُ بالسَّماع على أبي إسْحاق بقراءة سُفيان وحكم التِّرمذي في «جامعه» بأنَّ رواية الَّذين وصَلوهُ أصح.
قال: لأنَّ سَمَاعهم منهُ في أوقات مُختلفة, وشُعبة وسُفيان سمعاهُ في مَجْلس واحد, وأيضًا, فسُفيان لم يَقُل له: ولم يُحدِّثك به أبو بُرْدة إلاَّ مرسلا, وكان سُفيان قال له: أسمعتَ الحديث منهُ, فقَصْده إنَّما هو السؤال عن سماعه له, لا كيفية روايته له.(2)
قلت : وهنا نتكلم عن صورها في الإسناد
أولاً : وصل المرسل .
والمقصود بالمرسل هنا : ما رفعه التابعي فقط ، لأننا احترزنا بما ذكرنا من الزيادة خلال الإسناد عن وصل المنقطع ، وسيأتي . ومثاله ، قال أبو يعلي الخليلي في الإرشاد : " 4 وَمِثْلُهُ أَيْضًا : حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ الشَّيْبَانِيُّ , وَهُوَ ثِقَةٌ إِمَامٌ , عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ , فَلَا شُفْعَةَ " هَذَا مِمَّا يَتَفَرَّدُ بِهِ أَبُو عَاصِمٍ , مُسْنَدًا مُجَوَّدًا وَالنَّاقِلُونَ رَوَوْهُ عَنْ مَالِكٍ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ مُرْسَلًا , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , لَيْسَ فِيهِ أَبِي هُرَيْرَةَ , وَتَابَعَ عَلَى ذَلِكَ أَبَا عَاصِمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ , وَيَحْيَى بْنُ أَبِي قُتَيْلَةَ , مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَلَيْسَا بِذَاكَ . وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ لِأَبِي عَاصِمٍ : خَالَفَكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ : حَدَّثَنَا بِهِ مَالِكٌ بِمَكَّةَ , وَأَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِهَا , هَاتُوا مَنْ سَمِعَ مَعِي . وَرَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَبِي سَلَمَةَ , عَنْ جَابِرٍ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَهُوَ الْمَحْفُوظُ الْمُخَرَّجُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ , وَغَيْرِهِ , بَيَّنْتُ هَذَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَمْثَالِهِ فَأَمَّا مَا يُخْطِئُ فِيهِ الثِّقَةُ ، 5 فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ الْمَكِّيُّ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ . . . " وَقَدْ أَخْطَأَ فِيهِ عَبْدُ الْمَجِيدِ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنَ الثِّقَاتِ . رَوَوْهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , أَنَّهُ قَالَ : " إِذَا بَاعَ أَحَدُكُمْ أَرْضًا فَلْيَسْتَأْذِنْ شَرِيكَهُ " وَعَبْدُ الْمَجِيدِ : صَالِحٌ , مُحَدِّثٌ ابْنُ مُحَدِّثٍ , لَا يَعْمِدُ عَلَى مِثْلِهِ , لَكِنَّهُ يُخْطِئُ , وَلَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ , وَقَدْ أَخْطَأَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ مَالِكٌ وَالْخَلْقُ , عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَاضِي الْمَدِينَةِ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ " وَهَذَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ , وَمَدَارُهُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ , فَقَالَ عَبْدُ الْمَجِيدِ وَأَخْطَأَ فِيهِ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ , عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ , عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ , عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : " الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ " . رَوَاهُ عَنْهُ نُوحُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ , وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَتِيقٍ , وَهُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِوَجْهٍ , فَهَذَا مِمَّا أَخْطَأَ فِيهِ الثِّقَةُ عَنِ الثِّقَةِ , بَيَّنْتُ هَذَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَشْكَالِهِ "
ثانياً : رفع الموقوف .
مثاله : كما في السنن الكبرى للنسائي ) 7891) أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سِرَّارُ بْنُ مُجَشِّرِ بْنِ قَبِيصَةَ الْبَصْرِيُّ ، ثِقَةٌ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرَأَةٍ لَا تَشْكَرُ لِزَوْجِهَا وَهِيَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ " قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِرَّارُ بْنُ مُجَشِّرٍ : هَذَا ثِقَةٌ بَصْرِيٌّ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ يُقَدَّمَانِ فِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ؛ لَأَنَّ سَعِيدًا كَانَ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا فَحَدِيثُهُ صَحِيحٌ وَافَقَهُ عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى رَفْعِهِ وَجَعَلَ مَوْضِعَ سَعِيدٍ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ
(7892 )أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ : حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امْرَأَةٍ لَا تَشْكَرُ لِزَوْجِهَا " وَقَفَهُ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَوْلِهِ .
وذكره العقيلي(3)معلقاً دون إسناد ، وأتبعه بقوله : " وهذا أولى " يعني من المرفوع الآتي .
ورواه شعبة وغيره عن قتادة ، واختلف على شعبة فيه وقفاً ورفعاً(4):
فرواه يحيى بن سعيد القطان ، وهو من أتقن الناس ، ومحمد بن جعفر غندر ، وهو من متقني أصحاب شعبة ، وعمرو بن مرزوق ، وهو ثقة ، ثلاثتهم عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو ، قوله ، ولم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وتابع الثلاثة : عبد الله بن المبارك ، ومعاذ بن هشام ، عن شعبة ، بإسناده إلى عبد الله بن عمرو ، لكن زادا : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فرفعاه .
رواه عن ابن المبارك من ثقات أصحابه : أحمد بن جميل ، ويعمر بن بشر وهو صحيح عنه ، وكذلك هو جيد الإسناد إلى معاذ بن هشام .
وابن المبارك شيخ الإسلام ، الحافظ المتقن الإمام ، أتى عن شعبة بما لم يأت به يحيى بن سعيد القطان وهشام الدستوائي ومحمد بن جعفر ، فحفظ من العلم عليهم زيادة ، وافقه عليها عن شعبة : معاذ ، وهو صدوق جيد الحديث .
وجزم أبو علي النيسابوري بترجيح الوقف ، وتردد تلميذه الحاكم ، وجزم تلميذه البيهقي بموافقة أبي علي .
ولو نظرت إلى ما أتى به ابن المبارك وحده عن شعبة لما جاز على الأصول رده ، لإتقانه وحفظه ، فكيف وقد وافقه غيره عن شعبة ؟
ثم كيف وأن عامة أصحاب قتادة عدا ما ذكره العقيلي عن هشام الدستوائي ، يروونه عن قتادة مرفوعاً ؟
كذلك قال : سعيد بن أبي عروبة ، وهمام بن يحيى ، وعمران بن داور القطان ، وعمر بن إبراهيم العبدي ، رووه جميعاً عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا بنظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه " .
وسعيد من أتقن أصحاب قتادة قبل أن يختلط ، وهذا رواه عنه سرار بن مجشر ، ونص النسائي على تقديمه فيه ، لكونه روى عنه قبل الاختلاط .
وهمام من ثقات أصحاب قتادة .
وعمران صدوق حسن الحديث ، وهو في المتابعات أحسن ، والإسناد إليه حسن .
وعمر صدوق ، لكنه لم يكن متقناً لحديث قتادة ، كان يخالف فيه ، غير أنه ههنا جاءت روايته على الوفاق لرواية ثلاثة من ثقات أصحاب قتادة فلم يخالف ولم يتفرد ، وذلك من طريقين صحيحين عنه ، وخالف في رواية جاءت من طريق ابنه الخليل عنه ، وهي ضعيفة ، ذكر فيها ( الحسن ) بدل ( سعيد بن المسيب ) .
وحاصل هذا : أن الرفع زيادة في رواية هذا الحديث ، جاءت من طريق خمسة من أصحاب قتادة : سعيد ، وهمام ، وعمران القطان ، وعمر بن إبراهيم ، والخامس شعبة ، ولم يبق يقابل ذلك في النقص ، سوى رواية هشام الدستوائي عن قتادة ، فإن صحت فقد قصر فيها هشام ، وحفظ الزيادة عن قتادة غيره من أصحابه ، وقد اجتمع فيهم الضبط والعدد.
ثالثاً : الزيادة خلال الإسناد .
وهي غير ما يدرجه بعض الرواة من تفسير راوٍ مهمل ، أو الزيادة في اسمه ونسبه ، أو بيان درجته في الرواية ، أو شبه ذلك .
وإنما هي واقعة على صور ثلاث :
الصورة الأولى : زيادة راوٍ خلال الإسناد في موضع عنعنة .
لم يأت ذكره في رواية أخرى للحديث ، فتكشف انقطاعاً في الإسناد الناقص ، لم يكن ليظهر لولا تلك الزيادة .
مثاله : ما أخرجه أحمد بن حنبل مسند أحمد (20427) حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ، حَدَّثَنَا أَبُو هَارُونَ الْغَنَوِيُّ ، عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ : قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أَيْ مُطَرِّفُ ، وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَرَى أَنِّي لَوْ شِئْتُ حَدَّثْتُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَا أُعِيدُ حَدِيثًا ، ثُمَّ لَقَدْ زَادَنِي بُطْئًا عَنْ ذَلِكَ وَكَرَاهِيَةً لَهُ أَنَّ " رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، شَهِدْتُ كَمَا شَهِدُوا ، وَسَمِعْتُ كَمَا سَمِعُوا يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ مَا هِيَ كَمَا يَقُولُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَ عَنِ الْخَيْرِ ، فَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ ، فَكَانَ أَحْيَانًا يَقُولُ : لَوْ حَدَّثْتُكُمْ أَنِّي سَمِعْتُ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذَا وَكَذَا رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ صَدَقْتُ ، وَأَحْيَانًا يَعْزِمُ فَيَقُولُ : سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ كَذَا وَكَذَا " قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْغَنَوِيِّ قَالَ : حَدَّثَنِي هَانِئٌ الْأَعْوَرُ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، عَنْ عِمْرَانَ هُوَ ابْنُ حُصَيْنٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَحَدَّثْتُ بِهِ أَبِي فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ : زَادَ فِيهِ رَجُلًا.
قلت : فهذا الحديث ظاهر إسناده الاتصال والسلامة من العلة ، ورواته جميعاً ثقات(5).
لكن كشف بشر بن المفضل عن علته ، فقال : عن أبي هارون الغنوي ، قال حدثني هانئ الأعور ، عن مطرِّف ، عن عمران بن حصين .
قلت : فبينت رواية بشر أن الرواية الأولى كانت منقطعة ، ونظرنا من بعد إلى حلقة الوصل هانئاً هذا فوجدناها لينة ، لا تقوم معها رواية الحديث .
وزيادة بشر محفوظة ، لكونه ثقة ضابطاً .
الصورة الثانية : المزيد في متصل الأسانيد .
وهو الإسناد الصحيح الذي اتصل برواية العدل عن العدل بما لا يحتمل انقطاعاً ، يأتي من وجه آخر صحيح يكون بعض رواته تلقى بواسطة عن شيخه في السند الأول ، ولا يكون من باب الاختلاف الذي يدخله الترجيح ، والذي يقال فيه : المحفوظ إحدى الروايتين والأخرى وهم .
والصورة الثالثة : زيادة ذكر التحديث والسماع بدل العنعنة .
وهذا كثير في الأسانيد ، خصوصاً لما بينا في الكلام على العنعنة أنهم كانوا يتخففون بذكرها عن سياق ألفاظ السماع ، ولا ريب أن حفظها زيادة تدفع الشبهة عن حديث الموصوف بالتدليس من الثقات ، بل تنفي على أي حال شبهة الانقطاع.
وقبولها مشروط إضافة إلى كون الراوي الحافظ لها ثقة بأن يصح الإسناد إليه ، وأن يسلم ذلك من المعارض الراجح ، فقد تقوم الحجة على وهم الثقة في ذكر السماع .
والصور المتقدمة كان السلف من أئمة هذا العلم يعتنون بتمييزها وحفظها ، ويعيبون على من يقع له الحديث على وجهين : ظاهر الاتصال في أحدهما ، ومنقطع في الآخر ، فيحدث بما ظاهره الاتصال دون المنقطع .
قال الخطيب في الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ : " 1587 قَرَأْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْبَرْمَكِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيِّ ، قَالَ : نا أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي الْمَيْمُونِيُّ ، قَالَ : " تَعَجَّبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْإِسْنَادَ وَيَدَعُ الْمُنْقَطِعَ ثُمَّ قَالَ : وَرُبَّمَا كَانَ الْمُنْقَطِعُ أَقْوَى إِسْنَادًا وَأَكْبَرُ ، قُلْتُ : بَيِّنْهُ لِي كَيْفَ ؟ قَالَ : تَكْتُبُ الْإِسْنَادَ مُتَّصِلًا وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيَكُونُ الْمُنْقَطِعُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْهُ وَهُوَ يَرْفَعُهُ ثُمَّ يُسْنِدُهُ وَقَدْ كَتَبَهُ هُوَ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إِلَّا مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . مَعْنَاهُ لَوْ كَتَبَ الْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا عَرَفَ الْمُتَّصِلَ مِنَ الْمُنْقَطِعِ يَعْنِي ضَعْفَ ذَا وَقُوَّةً ذَا "(6)
وفي الكفاية : " 1224 حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ ، ثنا أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ ، أَخْبَرَنِي الْمَيْمُونِيُّ , قَالَ : " تَعَجَّبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْإِسْنَادَ وَيَدَعُ الْمُنْقَطِعَ , ثُمَّ قَالَ : وَرُبَّمَا كَانَ الْمُنْقَطِعُ أَقْوَى إِسْنَادًا , أَوْ أَكْثَرَ , قُلْتُ : بَيِّنْهُ لِي كَيْفَ ؟ قَالَ : يَكْتُبُ الْإِسْنَادَ مُتَّصِلًا وَهُوَ ضَعِيفٌ , وَيَكُونُ الْمُنْقَطِعُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْهُ وَهُوَ يَرْفَعُهُ ثُمَّ يُسْنِدُهُ , وَقَدْ كَتَبَهُ هُوَ عَلَى أَنَّهُ مُتَّصِلٌ , وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إِلَّا مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , مَعْنَاهُ لَوْ كَتَبَ الْإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا عُرِفَ الْمُتَّصِلُ مِنَ الْمُنْقَطِعِ يَعْنِي ضَعْفَ ذَا , وَقُوَّةَ ذَا " وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتُبُهَا مُسْنَدَةً , وَيَرْوِيهَا مُرْسَلَةً , عَلَى مَعْنَى الْمُذَاكَرَةِ وَالتَّنْبِيهِ , لِيَطْلُبَ إِسْنَادَهَا الْمُتَّصِلَ , وَيَسْأَلَ عَنْهُ , وَرُبَّمَا أَرْسَلُوهَا اخْتِصَارًا وَتَقْرِيبًا عَلَى الْمُتَعَلِّمِ , لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا , كَمَا يَفْعَلُ الْفُقَهَاءُ الْآنَ فِي تَدْرِيسِهِمْ , فَإِذَا أُرِيدَ الِاسْتِعْمَالُ احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ الْإِسْنَادِ , أَلَا تَرَى إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ , وَأَرْسَلَ لَهُ خَبَرَ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلَاةِ جِبْرِيلَ بِهِ اسْتَثْبَتَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِحَاجَتِهِ إِلَى اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ , وَقَالَ لَهُ : اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ , فَأَبَانَ لَهُ إِسْنَادَهُ لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ عُذْرَهُ , وَكَانَ ابْتِدَاءُ عُرْوَةَ عُمَرَ بِالْخَبَرِ عَلَى سَبِيلِ الْمُذَاكَرَةِ وَالتَّنْبِيهِ , لِيَسْأَلَ عُمَرُ عَنْهُ , فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ اسْتَثْبَتَهُ عُمَرُ فِيهِ فَأَسْنَدَهُ لَهُ "
ـــــــــــــــ
__________
(1) - قال الخطيب: " هذا القول هو الصحيح عندنا " الكفاية ص 411 و التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 4) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 161)
أنَّ الحُكْم لمن وصلهُ أو رفعه, سواء كان المخالف له مثله] في الحفظ والإتقان [أو أكثر] منه [لأنَّ ذلك] أي: الرفع والوصل [زيادة ثقة, وهي مَقْبولة] على ما سيأتي
(2) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 161) و الكفاية ص 409 وما بعدها.
(3) - في " الضعفاء " ( 2 / 20 ) .
(4) - انظر المسند الجامع - (ج 11 / ص 353)(8600و8601)
(5) - وإسماعيل فيه هو ابن علية ، وأبو هارون هو إبراهيم بن العلاء ، ومطرف هو ابنُ عبد الله بن الشخير .
(6) - أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " ( رقم : 1587 ) وإسناده صحيح .(1/263)