المُفصَّلُ
في علوم الحديث
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع متاحة للهيئات العلمية والخيرية ))
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد ختم هذه الرسالة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه يعلم أنها خير الأمم فقال تعالى عنها : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (110) سورة آل عمران
وأورثها الكتاب بعد أن ضيَّعه من قبلنا ، فقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } (32) سورة فاطر
وقد تكفل الله تعالى بحفظ هذا الكتاب ، فقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (9) سورة الحجر
وأناط بالأمة الإسلامية حفظ السنَّة النبوية ، التي هي ( الحكمة ) فاختبرها من خلالها ، وهو القائل عنها ، { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ..} (143) سورة البقرة
فقامت بذلك خير قيام ،ومن هنا نشأت علوم السنَّة النبوية دراية ورواية ، وهذه العلوم قد تفردت بها الأمة الإسلامية عن سائر الأمم ، إذ لا توجد إلا فيها ، وعمدتها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (6) سورة الحجرات
ومن هنا قيل : (( الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ))
وقد كُتبتْ - بفضل الله تعالى - كتبٌ كثيرة في هذا الموضوع ، لم يخلُ منها عصر ،ولا سيما عصرنا هذا فجزى الله مؤلفيها عنا خير الجزاء .
وهذا الكتاب الذي بين يدينا ، يتحدث عن علوم الحديث كلها ، بشكل مفصَّل ، وقد استفدت من كتابات المتقدمين - وهي الأساس في هذا الموضوع - ومن تحقيقيات المتأخرين ، وغصتُ إلى أعماقها واستخرجت دررها، وذللت صعابها، فهاهي دونكم فاقطفوا ثمارها اليانعة ....
هذا وقد قسمته لستة أبواب :
الباب الأول- تاريخ السنة ونشأتها
وفيه فصلان:
الفصل الأول-تاريخُ السنَّة النبويةِ
الفصل الثاني - نشأتُ علم المصطلح وتطوره
----------------
البابُ الثاني- الخبرُ
وفيه أربعة فصول :
الفصلُ الأول-تقسيمُ الخبر باعتبار وصوله إلينا
المْبحَثُ الأولُ ... -الخبرُ المتواتر ...
المبحث الثاني ... -خبرُ الآحادِ ...
الفصلُ الثاني- الخبرُ المقبولُ
المبحثُ الأول " أقسام المقبول "الصَّحيحُ والحسن بشقيه ...
مسائلُ هامَّةٌ حول خبرِ الآحادِ
ثانيا-حُكْمُ الحديثِ الصحيحِ ...
ثالثا-هل خبرُ الآحاد يفيد القطع واليقين أم غلبة الظنِّ ؟
المبْحَث الثَاني ... ـ تقسيمُ الخبر المقبول إلى معمول به وغير معمول به ـ
الفصلُ الثالثُ ... -الخَبَرُ المَرْدوُد
الخبرُ المردودُ وأسباب ردِّه ...
أولاً- تعريفُ الحديث الضعيف
ثانياً- أقسامُ الضعيف
ثالثا- أَوْهَى الأسانيد
رابعاً- متى يقوَى الحديثُ الضعيفُ ؟
خامسا- حكمُ العملِ بالحديثِ الضعيفِ
سادساً - أمثلةٌ للحديث الضعيف الذي يجوزُ العملُ به في الفضائل بالشروط الأنفة الذكر: ...
سابعاً- سببُ الأخذ بالحديث الضعيف
ثامناً-كيفَ يروَى الحديثُ الضعيفُ ؟
تاسعاً- الجوابُ عن روايةِ بعض كبار الأئمةِ عنِ الضعفاءِ
عاشراً- مسائلُ تتعلقُ بالضعيف
المبْحَثُ الثَاني ... -المردودُ بسببِ سَقْطٍ من الإسناد ، التدليس ، الإرسال ، الإتقطاع ، الإعضال ...
المبحثُ الثالثِ-المردودُ بسببِ طعن في الراوي، كالموضوع ،المتروك ، المنكر، المعلل ، المخلفة للثقات ،المدرج ، المقلوب ، المزيد في متصل الأسانيد ،المضْطَّرِبُ،التصحيفُ والتحريفُ ،الشاذُّ والمحفوظُ،الجهَالة بالرَّاوي ، المسكوت عنه ، المبتدع ،سوءُ حفظ الراوي ، المختلط ،
الفصْلُ الرابعُ-الخبرُ المُشْتَرَك بين المقبول والمردود
المبْحَثُ الأولُ ... -ـ تقسيم الخبر بالنسبة إلى من أُسْنِد إليه ـالحديثُ القُدْسيُّ -الحديثُ المَرْفُوعُ-الحديثُ المَوْقوفُ -الحديثُ المَقْطوُعُ
المبْحَثُ الثَاني-أنواعٌ أخرى مشتركة بين المقبول والمردود
-----------------
البابُ الثالث-صفة من تُقبل روايتهُ وما يتعلق بذلك من الجرح والتعديل
وفيه ستة فصول :
الفصل الأول- في الراوي وشروط قبوله.
الفصل الثاني- علم الجرح والتعديل
الفصل الثالث-مراتب الجرح والتعديل
الفصل الرابع -منهجُ الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه التقريب
الفصل الخامس-تعارض الجرح والتعديل ...
الفصل السادس-تفسير عبارات الجرح والتعديل
------------------
البابُ الرابع -الرواية وآدابها وكيفية ضبطها
وفيه فصلان :
الفصلُ الأولُ ... -كيفية ضبط الراوية وطرق تحملها وغريبُ الحديث
الفصلُ الثاني ... -آدابُ الرواية
-----------------
البابُ الخامس ... -الإسنادُ ومَا يتعلقُ بهِ
وفيه فصلان :
الفصلُ الأولُ-لطائفُ الإسناد
الفصلُ الثاني ... -معرفة الرواة
--------------------
البابُ السادس-بحوثٌ في فقه الحديث ومعانيه
وفيه فصلان :
الفصلُ الأول-فقهُ الحديث ...
الفصلُ الثاني-قضايا كثيرةٌ حول العمل بالسنَّة النبوية
-------------------
وكانت طريقتي على الشكل التالي :
1- الكلام عن علوم الحديث كلها عند الفقهاء والمحدِّثين وعلماء الأصول
2- الإكثار من النقول من المصادر الأساسية حتى تكون هذه العلوم مفهومة لدى طلاب العلم .
3- الإكثار من الشواهد والأمثلة لهذه العلوم سواء من السنَّة النبوية أو من أقوال أهل العلم الذين تكلموا عنها .
4- تخريج الأحاديث من مصادرها الرئيسة بشكل مختصر ، والحكم على الأحاديث التي ليست في الصحيحين بما يناسبها جرحاً وتعديلاً وفق المنهج الوسط الذي سار عليه أئمة الجرح والتعديل .
5- الإسهاب في المواضع التي تحتاج لذلك.
6- التعقيب على كثير من الأقوال .
7- تحرير محل النزاع في كثير من الأحيان
8- ترجيح قول على قول
9- جمع ما تناثر حول علوم الحديث رواية ودراية
10- لم نسلك مسلك المتشددين ، ولا المتساهلين ، بل بين بين
وقد زادت هوامش الكتاب على خمسة آلاف وخمسمائة هامش ، ونافت صفحاته على الألفين وثمان مائة وثمانين صحيفة من القطع الكبير .
ومع كتبي الأخرى :
الخلاصة في علم الجرح والتعديل
والمفصل في أصول التخريج ودراسة الأسانيد
والخلاصة في أحكام الحديث الضعيف
والحافظ ابن حجر ومنهجه في تقريب التهذيب
نكون قد تكلمنا على سائر ما يتعلق بمصطلح الحديث والجرح والتعديل ودراسة الأسانيد ، فلله الحمد والمنَّةُ .
قال تعالى على لسان النبي شعيب عليه السلام : {.. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود
أسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلفه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين .
كتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 13 رمضان 1429 هـ الموافق ل 13/9/2008 م
- - - - - - - - - - - - - - -
الباب الأول
تاريخ السنَّة ونشأتها
وفيه فصلان:
الفصل الأول-تاريخُ السنَّة النبويةِ
الفصل الثاني - نشأتُ علم المصطلح وتطوره
الفصل الأول
تاريخُ السنَّة النبويةِ
المقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله وكرمه ورحمته يقبل اليسير من العمل ويغفر الكثير من الزلات، والصلاة والسلام على من اكتملت برسالته الرسالات، وختمت بنبوته النبوات سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد...
فإنه مما لا شك فيه أن تاريخ العلوم يشابه إلى حد كبير تاريخ الإنسان، فكما أن لكل إنسان تاريخه الذي يبدأ من لحظة ميلاده ثم يمر بأطوار مختلفة من طفولة وغلامية وشباب ورجولة وهكذا.
كذلك العلوم، فإن لكل علم مراحلَه التي يمر بها: ميلادًا ونشأةً ونموًّا وكمالاً.
والسُّنةُ النبوية وعلومها، ومنزلتها، وأهميتها، وشرفها، ومكانتها، تلي منزلة القرآن الكريم، وقد امتحن الله خلقه بالانقياد لها، والتسليم لأحكامها، حيث فرض الله في كتابه طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، والانتهاء لحكمه، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبفرض الله قبل.
كما جعل طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - طاعته تعالى، وحكمه حكمه، ومبايعته مبايعته، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته، كما أنّ من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه.
لأنه تعالى وضعه من دينه وفرضه وكتابه، الموضع الذي أبان جلَّ شأنه أنه جعله علمًا لدينه، بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته.
قال تعالى: ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء:80].
وقال تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7].
وقال تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:65].
وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا)) [الأحزاب:36].
لهذه الآيات وغيرها أدركت الأمة المسلمة- سلفًا وخلفًا- قيمة السنة النبوية، وضرورتها في معرفة أحكام دينها، لذلك أولوها جلّ اهتمامهم، حفظًا لها، وتطبيقًا لأحكامها، ووضع القواعد والضوابط التي تضمن سلامتها من الدسِّ والتغيير، وصيانتها من التحريف والتبديل، وقد تنوعت هذه الجهود المباركة حتى أثمرت علومًا شتى، وقواعد متعددةً، منها ما يتعلق بالمتون، ومنها ما يتعلق بالأسانيد، ومنها ما يتعلَّق بهما معًا، حتى قال بعض المستشرقين: " ليهنئ المسلمون بعلم حديثهم".
وفي هذه الزاوية سنقف على الجهود الخلاقة المبدعة التي قدّمها علماؤنا - عبر القرون المتتابعة - من أجل أن تكون السَّنةُ نقيةً للمسلمين، كي ينهلوا من وردها العذب، ومعينها الصافي، وأن أبرز أن المسلمين لا يمكن أن يكون لهم غِناء عن سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، فهي جزء من دينهم الذي أرسل الله سبحانه وتعالى به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - بأقواله وأفعاله وسلوكه وأخلاقه، وكل ما صدر عنه أساس متين من أسس هذا الدين، وباب من أبواب الرحمة المتمثلة في شرع الله ودينه، وصدق الله عز وجل، إذ يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].
نسأل الله أن يوفقنا لصدق القول وحسن العمل، وأن نكون من المتبعين غير المبتدعين، لنكون ممن قال الله فيهم: ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [الزمر:61].
ـــــــــــــــ(1/1)
المبحثُ الأولُ
تعريفُ السُّنَّةِ
جرت سنَّةُ العلماء والباحثين أن يصدروا مؤلفاتهم وبحوثهم بالتعريفات اللغوية والاصطلاحية لعلومهم، فإن التعريف يضع شمعةً أمام القارئ تظهر له ملامح هذا العلم، ويفتح نافذةً تطلُّ على خصائصه ومضمونه وأهميته، وعلى هذا السنن أسير، فأقول وبالله تعالى التوفيق.
السنَّةُ لغةً(1):
السنة في اللغة مشتقةٌ من الفعلِ " سنّ " بفتح السين المهملة وتشديد النون، ولهذا الفعل عدة معانٍ لغوية ، منها:
1. الصقلُ: يقال: سنّ فلان السكين إذا حدّها وصقلها.
2. الابتداءُ: يقال: سنّ فلان العمل بكذا، أي: ابتدأ به، وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا - لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلاً » .(2).
وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذي سنّه، ومن هذا المعنى قول نصيب(3):
كأَني سَنَنتُ الحُبَّ أَوَّلَ عاشِقٍ من الناسِ إِذ أَحْبَبْتُ من بَيْنِهم وَحْدِي
3. العناية بالشيء ورعايته: يقالُ: سنّ الإبل إذا أحسن رعايتها والعناية بها، والفعل الذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - سمي سنة بمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أحسن رعايته وإدامته(4).
4. السيرة المستمرة والطريقة المتبعة سواء كانت حسنةً أو سيئةً: وأصلها اللغوي مأخوذ من قولك: سننتُ الماء إذا واليت صبَّه، فشبهت العرب الطريقة المتبعة والسيرة المستمرة بالشيء المصبوب لتوالي أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول خالد بن عتبة الهذلي(5):
فلا تَجْزَعَنْ من سِيرةٍ أَنتَ سِرْتَها فأَوَّلُ راضٍ سُنَّةً من يَسِيرُها
وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت كلمة السنة في القرآن الكريم، قال تعالى: ((وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)) [فاطر:43].
وقال تعالى: ((وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ)) [الكهف:55].
كما جاءت في السنة النبوية بهذا المعنى، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ ».(6)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ » .(7)
وخصَّها بعضُ أهل اللغة بالطريقة المستقيمة الحسنة دون غيرها، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة(8).
وسنَّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - تحملُ هذه المعاني اللغوية لما فيها من جريان الأحكام واطرادها، وصقل الحياة الإنسانية بها، فيكون وجه المجتمع السائر على هديها ناضرًا بخيرها وبركتها، ويستفاد من المعاني اللغوية أن السنةَ فيها معنى التكرار والاعتياد، وفيها معنى التقويم، وإمرار الشيء على الشيء من أجل إحداده وصقله(9).
ومن هنا يتضح لنا: أن السنة إنما تفيد الأمر باتباع طريقة معينة والتزامها، والسير عليها حتى تكون هي الطريق والمسار الذي لا يجوز خلافه في مراد من أمر بالتزامه(10).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - ينظر: تاج العروس (9:243، 244)، لسان العرب (3:2121)، المعجم الوسيط (1:455، 456)، كلها مادة: سنن.
(2) - صحيح البخارى (7321 )
(3) - لسان العرب - (ج 13 / ص 220)
(4) - تفسير الرازي (3:54).
(5) - لسان العرب - (ج 13 / ص 220)
(6) - صحيح مسلم (2398 )
(7) - صحيح البخارى (7320 )
(8) - إرشاد الفحول (1:155)، ولسان العرب 13/225)، والمعجم الوسيط (1:455).
(9) - الفكر المنهجي عند المحدثين، ص: 27.
(10) - السنة في مواجهة أعدائها الدكتور طه الدسوقي، ص: 38.(1/2)
السُّنَّةُ اصطلاحًا
يختلف تعريف السنَّة في الاصطلاح تبعًا لاختلاف أغراض العلماء من بحوثهم حسب تخصصاتهم المختلفة، وفيما يلي تعريفها عند المحدِّثين، والأصوليين، والفقهاء.
السنَّةُ في اصطلاح المحدِّثين:
للمحدثين تعريفاتٌ متعددة للسنَّة، من هذه التعريفات:
1. هي أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
هذا هو المشهور عند جمهور المحدثين، وكأن السنَّة عندهم خاصة بالحديث المرفوع فقط، أما الموقوفُ والمقطوعُ فلا.
ولعل سند هؤلاء فيما ذهبوا إليه هو: تسميةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لكلِّ ما جاء به في مقابلة القرآن بالسنَّة مثل قوله في خطبته في حجة الوداع: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - "(1)
وعلى هذا القول يحملُ تسميةُ كثير من المحدثين لكتبهم في الحديث باسم السُّنن مثل: سننِ أبي عيسى الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وسنن الإمام أبي داود السجستاني المتوفى سنة 275هـ، وسنن النسائي المتوفى سنة 303هـ، وسنن ابن ماجه القزويني المتوفى سنة 373هـ، أو سنة 275هـ.
2. وقيل: هي - أي السنَّة- أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه المتوفى سنة 150هـ، فقد ورد عنه أنه قال: " ما جاءنا عن الصحابة اتبعناهم وما جاءنا عن التابعين زاحمناهم".
وقال: " إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم"(2).
وكأن السنَّة عند أبي حنيفة مخصوصةٌ بالمرفوع والموقوف فقط، أما ما عداهما من المقطوع فلا، ولعل سنده فيما ذهب إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ »(3).
3. وقيل: هي - أي السنة- أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته وصفاته الخَلقية والخُلقية وسائر أخباره سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم.
وممن ذهب إلى هذا القول الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين المعروف بالبيهقي المتوفى سنة 458هـ، حيث أسمى كتابه - الذي جمع فيه ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفتاوى الصحابة والتابعين وأفعالهم - بالسُّنن الكبرى، وكأن السنَّة عنده تشملُ: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
ولعله استند فيما ذهب إليه إلى: أن الصحابة خالطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشاهدوا الوحي والتنزيل، وكذلك خالط التابعون الصحابة وجالسوهم، وسمعوا منهم، فكان قولهم وفعلهم أولى بالقبول من غيرهم، وأصبح داخلاً في مفهوم السنَّة.
-----------------
السُّنَّةُ في اصطلاح الأصوليين:
عرف الأصوليون السنة بأنها: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، وأفعاله وتقريراته التي يمكن أن تكون دليلاً لحكم شرعي(4).
كأن ما صدر عنه من الأقوال والأفعال والتقريرات التي تعدُّ من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ليست داخلة في تعريف السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنها لا تفيد حكمًا شرعيًا يتعبدُ الناسُ به.
لذلك ترى الأصوليين غالبًا ما يغفلون الكلام عن الأمور التي هي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن تكلَّم منهم عنها فمن باب بيان أنها ليست ملزمة للناس.
--------------
السُّنَّةُ في اصطلاح الفقهاء:
1. هي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن مفروضًا ولا واجبًا مثل تثليث الوضوء، ومثل المضمضة، والاستنشاق عند بعضهم، ومثل تقديم اليمنى على اليسرى، ومثل الركعتين قبل فرض الصبح ونحو ذلك.
2. وقد يطلقها الفقهاء ويعنون بها، ما يقابل البدعة كقولهم فيمن طلَّق زوجته في غير حيض وفي غير طهر التقيا فيه - هذا طلاقٌ سٌنِّيٌّ - في مقابلة الطلاق البدعيِّ، وهو الذي يحدثُ في طهرٍ التقيا فيه، أو يحدثُ في حيضٍ، حيث يأبى الإسلام بنظامه العام أن يشقَّ على المطلقات بإطالة العدة(5).
ومردُّ هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلاف الأغراض التي تعني بها كل فئة من أهل العلم.
فعلماء الحديث: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الهادي الذي أخبر الله عنه أنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وخلق، وشمائل وأخبار، وأقوال وأفعال، سواء أثبت ذلك حكمًا شرعيًا أم لا.
وعلماء الأصول: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشرِّعُ الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله وأفعاله وتقريراته التي تثبت الأحكام وتقررها.
وعلماء الفقه: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعيٍّ، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوبًا أو حرمةً أو إباحةً، أو غير ذلك(6).
والذي نعنيه بالسنة هنا: هو اصطلاح المحدِّثين؛ لأننا سنعالج جهودهم في خدمتها، وعطاءهم في حفظها وصيانتها.
------------
شرحُ التعريف:
انتهينا فيما سبق إلى أن السنة عند المحدثين: "هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخَلقية والخُلقية، وسائر أخباره، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها". وإليك شرح هذا التعريف.
يقصد بأقواله - صلى الله عليه وسلم - :
كلُّ ما تلفظَ به في مختلف الظروف والمناسبات، ويسميه العلماء أيضًا بالسنَّة القولية، ويجمع فيقال: سننَ الأقوال، ومثاله:
1. قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » .(7).
2. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ ، قَالَتِ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ . قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ . وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ . قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ . قَالَ فَهْوَ لَكِ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (22) سورة محمد(8).
3. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَىْءٌ ، يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ » .(9)، وغير ذلك.
ويقصد بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - : سلوكُه وتطبيقُه العمليُّ لوحي الله تعالى المنزَّل عليه، ومثاله:
1. ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لَمِنْ حَمِدَهُ . حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ - قَالَ عَبْدُ اللَّهِ { بْنُ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ } وَلَكَ الْحَمْدُ - ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِى ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِى الصَّلاَةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا ، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ .(10).
2. ما رواهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِى شَىْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِى الاِسْتِسْقَاءِ ، وَإِنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبْطَيْهِ(11)..
3. ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ ، وَيَمْشِى أَرْبَعَةً ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ(12). وغير ذلك.
-----------------
ويقصَدُ بتقريراته - صلى الله عليه وسلم - :
كلُّ ما صدر عن بعض أصحابه من قول أو فعل, وأقرَّه - صلى الله عليه وسلم - إمَّا بسكوت منه وعدمِ إنكار، وإمَّا بموافقة وإظهار استحسان.
وقد يسأل سائلٌ: كيف يكونُ الإقرار منَ السنَّة وهي واجبةُ الاتباع مع أنه ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله؟
والجوابُ: أنَّ الإقرارَ صار من السنَّة الشريفة بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - , فهو عليه السلام لا يقرُّ باطلاً ولا يسكتُ على منكرٍ, فما أقره دلّ على أنه لا حرج فيه, - وذلك كما قال العلامة ابن حزم رحمه الله -: لأن الله - عز وجل - افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس، وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزّل إليهم؛ فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرًا فلم ينكره فقد كفرَ؛ لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلّغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه ربه تعالى، وكذّبه في قوله عليه السلام: " اللهم هل بلغت"؟(13)فقال الناس: نعم. فقال: " اللهم اشهد". قال ذلك في حجة الوداع "(14)
ومن أمثلة الإقرار:
1. إقراره - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على اجتهادهم في شأن صلاة العصر في غزوة بني قريظة: حين قال لهم: « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ » . فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ . فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .(15)
فقد فهم بعضهم من هذا النهي أنه على حقيقته وأنه تحرم صلاة العصر إلا في بني قريظة، فأخرها إلى هناك حتى خرج وقتها، وفهم البعض الآخر من هذا النهي: أنه ليس على حقيقته وأن المقصود منه الحثُّ على الإسراع، فصلاها في وقتها، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنع الفريقان لم يعنف واحدًا منهما ولم ينكره عليه، فكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - إقرارًا بصواب صنيعهما، وصار ذلك سنة تقريرية عنه - صلى الله عليه وسلم - .
2. ما روي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ احْتَلَمْتُ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِى الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ». فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى مَنَعَنِى مِنَ الاِغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّى سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.(16)
3. ما رواه عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِى ، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ ، أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ .(17).
-------------
ويقصد بصفاته - - صلى الله عليه وسلم - - الخَلقية:
ما يتعلق بذاته وتكوينه، ومن أمثلة ذلك:
1. حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ .(18).
2. حديث البراء أيضًا، قال: كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ ، لَهُ شَعَرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ ، رَأَيْتُهُ فِى حُلَّةٍ حَمْرَاءَ ، لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ . قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَبِى إِسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ إِلَى مَنْكِبَيْهِ .(19).
3. حديث أنس رضي الله عنه، قال: " مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (20).
وقد يسأل سائل: كيف نعتبر الصفات الخَلقية له - صلى الله عليه وسلم - من السنة مع أنه لا يمكن الاقتداء بها؛ لأنها من قدر الله تعالى, ونحن لا نتعلم السنَّة إلا لكي نقتدي برسولنا - صلى الله عليه وسلم - ونتبعه في هديه كله؟
والجواب من عدة وجوه:
أولاً: لكي نعلمَ الصفاتِ الخَلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يعقل أن يكون هو رسولنا الذي هدانا الله تعالى به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور ثم لا نعلم ما هي الهيئة الخَلقية التي أوجده الله تعالى عليها.
ثانيًا: حتى يتأكد لنا أن الله تعالى قد خلقه على أحسن هيئة وأكمل صورة بشرية - كما خلقه أيضًا بريئًا من العيوب الخلقية - حتى تجتمع القلوب حوله، وهذا يعتبر من الأدلة على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، لأن الله تعالى قد برأ الأنبياء جميعًا من أيِّ عيب خَلقي.
ثالثًا: لكي يتأكد لنا أن الله تعالى قد أوجده على نفس الهيئة وبنفس الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة، وفي هذا دليل واضح على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، ولعل ما ورد في كتب السيرة من قصة بحيرا الراهب الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صباه في الثانية عشرة من عمره أثناء رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب، وعرف بحيرا الراهب أنه النبي المنتظر بجملة من العلامات ذكرت له في الكتب السابقة،(21)من بينها خاتم النبوة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم - ، والخاتم هذا أمر خَلقي عرف به بحيرا أنه - صلى الله عليه وسلم - هو النبي المنتظر.
وقد ذكر القرآن الكريم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوبًا في التوراة والإنجيل، فقال عزّ من قائل: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) [سورة الأعراف: 157].
وقد نعى الله تعالى على أهل الكتاب عدم اتباعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع تأكدهم من صدق رسالته، بل ومعرفتهم به كما يعرفون أبناءهم, ومع ذلك كتموا الحق الواضح الصريح وهم يعلمون، قال تعالى: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[سورة البقرة: 46].
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: " يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ الْعُلَمَاء مِنْ أَهْل الْكِتَاب يَعْرِفُونَ صِحَّة مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - كَمَا يَعْرِف أَحَدهمْ وَلَده وَالْعَرَب كَانَتْ تَضْرِب الْمَثَل فِي صِحَّة الشَّيْء بِهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ مَعَهُ صَغِير اِبْنُك هَذَا " قَالَ نَعَمْ يَا رَسُول اللَّه أَشْهَد بِهِ قَالَ " أَمَا إِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْك وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ ..
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا التَّحَقُّق وَالْإِتْقَان الْعِلْمِيّ " لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ " أَيْ لَيَكْتُمُونَ النَّاس مَا فِي كُتُبهمْ مِنْ صِفَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " وَهُمْ يَعْلَمُونَ " "(22).
رابعًا: ومن الأسباب التي تجعلنا نعتبر الصفات الخَلقية له - صلى الله عليه وسلم - من السنة أيضًا، ما حاوله بعض أعداء الإسلام من إلصاق بعض الصفات غير الحقيقية به - صلى الله عليه وسلم - .
ومعرفتنا بصفاته الخَلقية تجعلنا ندافع عنه ونحن في موقف القوة والثبات لأنه ثبت بكل الأدلة كمال خلقته - صلى الله عليه وسلم - .
خامسًا: نتعلم صفاتِه الخَلقية ونعتبرها من السنة حتى نقتدي بكل ما يمكن الاقتداءُ به منها، مثل صفة لحيته - صلى الله عليه وسلم - "(23).
-----------------
ويقصد بصفاته الخُلُقية:
ما يتعلق بأخلاقه الشريفة - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أمثلة ذلك:
1. قول السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت للسائل: " قَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى. قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِىِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ. "(24).
2. ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِى خِدْرِهَا "(25).
3. ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال: " لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »(26).
__________
(1) - المستدرك للحاكم(318) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 114)(20833)وهو صحيح لغيره
وقال ابن عبد البر : " هذا حديث مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، الزرقاني في شرحه للموطأ (4/246) وفتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك (9/282-283)
(2) - أصول السرخسي (1/313).
(3) - عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ قُلْنَا أَوْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِى اخْتِلاَفاً كَثِيراً فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ». مسند أحمد (17608) و سنن الترمذى (2891 ) وهو حديث صحيح مشهور
(4) - ينظر: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ( 2/96)، بهامش المستصفى للغزالي، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ( 1/127)، التحرير في أصول الفقه لابن الهمام ( 3/19- 20)، إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(5) - إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
(6) - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص: 47-49.
(7) - صحيح البخارى (1 )
(8) - صحيح البخارى(5987 ) ومسلم (6682 )
(9) - صحيح البخارى (2738 )
(10) - صحيح البخارى (789 ) ومسلم (894 )
(11) - صحيح البخارى (1031 ) ومسلم (2113 )
(12) - صحيح البخارى (1617 ) ومسلم (3107 )
ومعنى: خب: أي يرمل، والرمل: الهرولة ، يسعى: يسرع، بطن المسيل: أي الوادي الذي بين الصفا والمروة، وهو قبل الوصول إلى الميل الأخضر المعلق بركن المسجد إلى أن يحاذى الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين أحدهما بفناء المسجد والآخر بدار العباس
(13) - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ . أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قَالُوا يَوْمٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا » . فَأَعَادَهَا مِرَارًا ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ - « فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » صحيح البخارى (1739 ) .
(14) - الإحكام في أصول الأحكام 1/ 146.
(15) - صحيح البخارى(946 )
(16) - سنن أبى داود (334 )صحيح
(17) - صحيح البخارى(454 ) وانظر لمحات في أصول الحديث، ص: 29، 30.
(18) - صحيح البخارى (3549 ) ومسلم (6212 )
(19) - صحيح البخارى (3551 )
الحلة : الثوب الجيد الجديد وكانت عند العرب تتكون من قميص وإزار ورداء
(20) - صحيح البخارى(3561 )
(21) - انظرها في سيرة ابن هشام - (ج 1 / ص 180) والروض الأنف - (ج 1 / ص 312) وزاد المعاد - (ج 1 / ص 70) وخبرها حسن
(22) - تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 462) و تفسير ابن كثير - (ج 1 / ص 493)
(23) - تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير الدكتور مروان شاهين 1/ 21، 22.
(24) - صحيح مسلم(1773 ) مطولا
(25) - صحيح البخارى(3562 ) ومسلم (6176 )
(26) - صحيح البخارى(3559 )(1/3)
هذه بعض أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد وصلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة الكمال البشري فاتصف بكل صفات هذا الكمال البشري، ووجدت فيه كل صفة على أعلى درجاتها وكمال هيئتها.
وامتدحه رب العزة قائلاً: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [سورة القلم: 4].
ولله در القائل(1):
يا مصطفى من قبل نشأة آدم والكون لم تفتح له أغلاق
أيروم مخلوق ثناءك بعدها أثنى على أخلاقك الخلاق
وقال البوصيري رحمه الله(2):
مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْرَابِ والعَجَمِ مُحَمَّدٌ خَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
محمدٌ باسطُ المَعْرُوف جَامَعَة ً محمدٌ صاحبُ الإحسانِ والكرمِ
محمدٌ تاجُ رُسْلِ الله قاطِبَة ً محمدٌ صادقُ الأقوالِ والكلمِ
محمدٌ ثابِتُ المِيثاقِ حافِظُهُ محمدٌ طيبُ الأخلاقِ والشيمِ
محمدٌ خبِيَتْ بالنُّورِ طِينَتُهُ محمدٌ لم يزل نوراً من القدمِ
محمدٌ حاكِمٌ بالْعَدْلِ ذُو شَرَفٍ محمدٌ معدنُ الإنعامِ والحكمِ
محمدٌ خَيْرُ خَلْقِ الله مِنْ مُضَرٍ محمَّدٌ خَيْرُ رُسْلِ الله كُلِّهِمِ
محمدٌ دِينُهُ حَقَّ النّذِيرُ بِهِ محمدٌ مجملٌ حقاً على علمِ
محمدٌ ذكرهُ روحٌ لأنفسنا محمدٌ شكرهُ فرضٌ على الأممِ
محمدٌ زينة ُ الدنيا وبهجتها محمدٌ كاشفُ الغُمَّاتِ والظلمِ
محمدٌ سيدٌ طابتْ مناقبهُ محمدٌ صاغهُ الرحمنُ بالنعمِ
محمدٌ صفوة ُ الباري وخيرتهُ محمد طاهرٌ ساترُ التهمِ
محمد ضاحكٌ للضيفِ مكرمة ً محمَّدٌ جارُهُ والله لَمْ يُضَمِ
محمدٌ طابتِ الدنيا ببعثتهِ محمَّدٌ جاء بالآياتِ والحِكَمِ
محمدٌ يومَ بعثِ الناسِ شافعنا محمدٌ نورهُ الهادي من الظلمِ
محمدٌ قائمٌ للهِ ذو هممٍ محمَّدٌ خاتِمٌ لِلرُّسُلِ كُلِّهمِ
-----------------
ويقصدُ بسائر أخباره :
ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ أحواله حركةً وسكونًا ويقظةً ومنامًا سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
أمَّا حركاته:
فهي وسائل تربوية: يقصدُ من ورائها شدّ انتباه المتلقي ولفت نظره إلى أهمية ما يلقى عليه، ومن الأمثلة على ذلك:
1. قوله - صلى الله عليه وسلم - " التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ "(3).
فهذه الحركة المتمثلة في الإشارة أفادتنا أن محلَّ التقوى هو القلب.
2. قوله - صلى الله عليه وسلم - : « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ » . ثَلاَثًا . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ » . وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ » . قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ "(4).
فتغيير النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضعه وحركته أفادت خطورة ما جاء بعدها حتى يحذره القوم ويقدرونه قدره.
3. قول عبد الله بن مسعود قَالَ : خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ « هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيماً ».
قَالَ ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ « هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلاَّ عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ». ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(5)(153) سورة الأنعام .
4. وعن ابن مسعود أيضًا قال: خَطَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا مُرَبَّعًا ، وَخَطَّ خَطًّا فِى الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِى فِى الْوَسَطِ ، مِنْ جَانِبِهِ الَّذِى فِى الْوَسَطِ وَقَالَ « هَذَا الإِنْسَانُ ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ - أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ - وَهَذَا الَّذِى هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ ، وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا » .(6).
ففي هذين الحديثين استخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسم كوسيلة إيضاح لإيصال ما يريده إلى ذهن أصحابه، وهذا ما يأخذ به علماء التربية اليوم في التعليم والتلقي، وقد سبقهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ خمسةَ عشرَ قرنًا من الزمان.
وأما سكوته:
فإننا نستفيد منه أحكامًا شرعيةً، ومثال ذلك:
ما رواه الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى جِنَازَةٍ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ..(7)
ففي هذا الحديث مشروعية السكون والسكوت عند دفن الموتى من أجل العظة والاعتبار.
وأمَّا ما كان في يقظته فلا إشكال فيه لأن أمر النبوة واضحٌ أثناء اليقظة.
لكنَّ الذي يستشكل على البعض فهو ما يراهُ - صلى الله عليه وسلم - في نومه، وكيف هو من الوحي؟ بل كيف هو من السنَّة الواجبة الاتباع ؟ خصوصًا وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علمنا أن النائم غير مكلف في ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يَفِيقَ ».(8).
وإليك الجواب:
قامتِ الأدلةُ من القرآن والسنة - على أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى إليهم، ففي القرآن الكريم نجد غلامًا حليمًا في أوائل العقد الثاني من عمره، قد فقه بالبداهة والفطرة: أن الرسولَ رسولٌ حتى في نومه، فالنوم لا يمكن أن يخرج الرسول عن رسالته ولو قال الرسول: إني أرى منامًا، فقل له: هذا أمر من الله واجب التنفيذ والطاعة والتسليم، كما قال الغلام الحليم إسماعيل لأبيه الخليل إبراهيم عليهما السلام وعلى جميع المرسلين الصلوات والتسليم حين قال له كما حكى القرآن: { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (102) سورة الصافات.
ومما يختص برسولنا - صلى الله عليه وسلم - مما جاء في القرآن الكريم، قول الله تعالى في سورة الأنفال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (43) سورة الأنفال.
فالآية واضحة الدلالة في أنّ ما يراه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في نومه من رؤيا إنما هو من عند الله تعالى وليس من أي جهة أخرى، (إذ يريكهم الله).
ومن الأدلة على ذلك أيضًا قول الله تعالى في سورة الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (27) سورة الفتح.
فإذا انتقلنا إلى السنَّة المطهَّرة فسنجد أدلةً كثيرةً على ذلك:
من بينها ما جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى بسنده عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِى النَّوْمِ ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ،(9).
فالحديث ينص صراحةً على أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي وأنه كان لا يرى شيئًا إلا جاء واضحًا جليًا مثل ضوء النهار.
ولقد لفت نظري وأنا أتتبع ما أراه الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبدأ حديثه غالبًا عن الرؤيا في نومه بقوله: " أُريت كذا" أو " أُريتكم..." فالفعل في أول الحديث يأتي بالبناء للمجهول ليدلنا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى من قبل نفسه، وإنما هناك من يريه وهو الله تعالى.
فمن أمثلة ذلك ما روي عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا: « أُرِيتُكِ فِى الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ ، أَرَى أَنَّكِ فِى سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَيَقُولُ هَذِهِ امْرَأَتُكَ فَاكْشِفْ عَنْهَا فَإِذَا هِىَ أَنْتِ فَأَقُولُ إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يُمْضِهِ »(10).
ولقد كانت هذه الرؤيا- وغيرها - من عند الله تعالى فأمضاها سبحانه، وكانت السيدة عائشة من أزواجه أمهات المؤمنين.
ومن أمثلة ذلك أيضًا ما خاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قائلاً فيما رواه البخاري ومسلم عَنْ سَالِمٍ وَأَبِى بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ صَلَّى بِنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ فِى آخِرِ حَيَاتِهِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ » .(11).
فالحديثُ كما نلاحظ قد بدأ بقوله: " أُريتكم" بالبناء للمجهول، ولأن علماء الحديث - وكل علماء الإسلام - يعلمون أن ما يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نومه هو من وحي الله تعالى، فقد أخذوا من الحديث المذكور درسًا عظيمًا، وهو أن من بين الأدلة على إثبات الصحبة أن يكون الصحابي قد عاش قبل عشرة ومائة للهجرة، فمن جاء بعدها وزعم أنه صحابي فإننا نردّ قوله أخذًا من هذا الحديث الشريف.
على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يبدأ حديثه مما يراه في نومه بقوله: " رأيت" وذلك في القليل النادر.
ومن ذلك ما رويَ عَنْ أَبِى مُوسَى - أُرَاهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ أَنِّى أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ ، فَذَهَبَ وَهَلِى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ ، فَإِذَا هِىَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ، وَرَأَيْتُ فِى رُؤْيَاىَ هَذِهِ أَنِّى هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ بِأُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ ، وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِى آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ » .(12).
ورغم التعبير بقوله: "رأيت" إلا أن ذلك أيضًا من الله تعالى؛ بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان له أن يحيد عن المدينة (كدار) للهجرة ويهاجر إلى غيرها؛ لأن المدينة هي المكان الذي اختاره الله تعالى له، فلا يتركه أبدًا إلى غيره.
وقد وردت هذه الرواية عند البخاري أيضاً : « قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ » . وَهُمَا الْحَرَّتَانِ ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "(13)وهي بذلك تتلقى مع الأمثلة التي ذكرناها سابقًا.
إن كل ما سبق يعطينا الدليل الأكيد على أن ما يراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء جميعًا أثناء النوم هو من الوحي الذي نلتزم به.
ومن الأدلة العقلية على ذلك: أن ما يراه الناس في نومهم إما أن يكون من الله تعالى أو من الشيطان؛ كما ورد بذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه « الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا ، فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ » .(14).
والشيطان - كما نعلم- ليس له سلطان على الأنبياء؛ لأن الله تعالى قد عصمهم من كيده فلن يأتيهم في نومهم، ولقد نزع الله تعالى حظَّ الشيطان من نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة مبكرة من عمره- وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، فحفظه بذلك من وسوسة الشيطان.
فقد روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ جِبْرِيلُ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِى طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِى مَكَانِهِ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِى ظِئْرَهُ - فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِى صَدْرِهِ.(15).
فنحن نرى أن الله تعالى قد طهر قلب نبيه - صلى الله عليه وسلم - منذ صغره, فلم يكن للشيطان عليه سبيل، وما دام الأمر كذلك فإن ما يراه في نومه ليس من قبيل الشيطان أبدًا، وإنما هو وحي من الله تعالى(16).
-------------------
قوله :" سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها".
أي: أن ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة أم بعدها داخلٌ في إطار السنَّة، وقد لا يستشكل الأمر بالنسبة لما كان بعد البعثة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صار بعدها رسولاً، وصرنا مأمورين بالاقتداء به امتثالاً لقوله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)) [الأحزاب:21]. أما قبل البعثة، فلم يكن الوحي ينزل عليه، ولم نكن مأمورين بالاقتداء به، فكيف تعدُّ أحواله قبل البعثة من السنَّة؟
والجوابُ:
أن أحواله وصفاتِه وأخلاقه قبل البعثة دليلٌ أكيد على نبوته وأمارةُ صدقٍ على رسالته فهي داخلة في مفهوم السنَّة، فقد كان يتحنّثُ (يتعبد) في الجاهلية في غار حراء، وكانت الأحجار والأشجار تسلِّم عليه، واشتهر بالصدق والأمانة.
وهذه الصفات وتلك الأخلاق كانت الركائز الأساسية التي اعتمد عليها وهو يدعو قومه.
فمثلاً شهرته بالصِّدق والأمانة قبل بعثته كان دليلاً قويًا على صدق رسالته، وجعل الكفار يعجزون عن اتهامه بضد هذه الصفات، ولقد قالوا عنه: إنه ساحر، أو كاهن، ولكنهم لم يجرءوا أبدًا على اتهامه بعكس الصدق والأمانة، وهذا ما اعتمد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه في إثبات صدق نبوته حينما نزل عليه الأمر الإلهي: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ))[الشعراء:214].
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ « يَا صَبَاحَاهْ » فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِى » . قَالُوا بَلَى . قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ » . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ )(17).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ حديثه معهم بالإنذار مباشرةً، وإنما أخذ منهم إقرارًا بصدقه - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته، إذن فهو صادقٌ اليوم في رسالته.
وهذا - أيضًا - هو الذي اعتمد عليه هرقل ملك الروم في إثباته لصدق نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قصة طويلة ذكرها البخاري وغيره - أثناء حديث هرقل مع أبي سفيان - حينما سأل أبا سفيان الذي كان لا يزال حتى وقت سؤال هرقل له مشركًا(18).
لقد جاء كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام - فأراد أن يعرف بعض أحوال هذا النبي الجديد - فجاءوا له بأبي سفيان فقال : كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ . قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ . قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لاَ نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا . قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ . قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ . فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ . فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ(19)..
ولقد صدقت توقعات هرقل، فبعد مضي ما لا يزيد على سبع سنوات فتح الله بلاد الشام للمسلمين بعد أن كان يحكمها الروم، وخرج هرقل من حمص التي كان يقيم بها.
والمهم في ذلك كله أن كثيرًا من أحواله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة تعطي الأدلة الواضحة على صدق رسالته بعد البعثة، وهذا ما جعل العلماء يعتبرونها جزءًا من السنة.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - (ج 5 / ص 167)
(2) - تراجم شعراء موقع أدب - (ج 9 / ص 419) رقم القصيدة : 13788
(3) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». صحيح مسلم (6706 )
(4) - صحيح البخارى (2654 ) ومسلم (269 )
(5) - مسند أحمد (4530) وهو صحيح
(6) - صحيح البخارى (6417 )
(7) - سنن ابن ماجه (1616 ) وهو صحيح
(8) - سنن النسائى (3445 ) صحيح
(9) - صحيح البخارى (3 ) مطولا
(10) - صحيح البخارى(3895 )
(11) - صحيح البخارى (116 ) ومسلم (6642 )
(12) - صحيح البخارى (3622 )- الوهل : الاعتقاد والظن
(13) - البخاري (2297 )
(14) - صحيح البخارى (3292 )
(15) - صحيح مسلم (431 )
المخيط : الإبرة الظئر : المرضعة غير ولدها ويقع على الرجل والمرأة العلقة : الدم الغليظ المنعقد لأمه : ضم بعضه إلى بعض المنتقع : المتغير اللون
(16) - انظر تيسير اللطيف الخبير، ص:25-27.
(17) - صحيح البخارى (4801 )تب : خسر
(18) - كان سؤال هرقل في السنة السابعة للهجرة وأسلم أبو سفيان بعد ذلك في السنة الثامنة عند فتح مكة.
(19) - صحيح البخارى (7 )مطولا(1/4)
التعريف ببعض المصطلحات الأخرى وعلاقتها بالسنَّة
التعريف ببقية المصطلحات الأخرى التي تشترك معها وعلاقتها بالسنة اتفاقًا واختلافًا، وتلك المصطلحات هي: الحديث - الخبر - الأثر.
أ معنى الحديث(1):
الحديثُ في اللغة له معان ثلاثة:
الأول: الحديث بمعنى الجديد الذي هو ضد القديم، تقول: لبستُ ثوبًا حديثًا، أي: جديدًا، وركبتُ سيارةً حديثةً، تعني: سيارةً جديدةً.
الثاني: الحديث بمعنى الكلام، ومنه قوله تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا)) [الزمر:23]، أي: نزل أحسن الكلام، وقوله تعالى: ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)) [المرسلات:50]، أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن الكريم، فبأي كلام بعده يؤمنون.
الثالث: الحديث بمعنى الخبر والنبأ، ومنه قوله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى)) [النازعات:15]، وقوله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)) [الغاشية:1].
الحديثُ اصطلاحًا: للعلماء في تعريفه أقوال:
1. قال جمهور المحدثين: هو: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وأفعاله وتقريراته، وصفاته الخَلقية، والخُلقية، وسائر أخباره سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(2).
وعليه يكون الحديث شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفًا للسنة على القول الثالث.
2. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم - خاصةً .
فيكون مقابلاً لتعريف السنة على رأي من يعرفها بأنها: الطريقة العملية المتواترة التي بين بها النبي - صلى الله عليه وسلم - - القرآن(3). وكأن صاحب هذا التعريف استند في تقريره إلى المعنى اللغوي الثاني وهو: أن الحديث يطلق على الكلام قلّ أم كثرَ.
3. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصةً(4).
وعليه يكون مقصورًا على المرفوع فقط، ويكون مرادفًا للسنَّة على القول الأول، لكن جرى اصطلاح المحدِّثين على أن الحديث إذا أطلق ينصرف إلى ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يستعمل في غيره إلا مقيدًا.
ب- معنى الخبر:
الخبر لغةً: مأخوذٌ من الفعل " خبر" بفتح الخاء المعجمة والباء المنقوطة بواحدة من تحت، ومعناه علم الشيء على حقيقته.
وقيل: هو مشتقٌ من " الخبار"، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه، وهو عند أهل اللغة: اسم لما ينقل ويتحدث به، والجمع أخبار، مثل: سبب وأسباب(5).
الخبر اصطلاحًا: للعلماء في تعريفه أقوال:
1. قال جمهور المحدثين: هو: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن -، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم(6).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفًا للسنَّة على القول الثالث، وللحديث على القول الأول.
2. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(7).
وعليه يكون مقصورًا على المرفوع، ويكون مرادفًا للسنَّة على القول الأول، وللحديث على القول الثالث.
3. وقيل هو: ما جاء عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين من هذه الأمة أو غيرها من الأمم السابقة، كأن الخبر في هذا الحال خاص بالتاريخ، وليس من الألفاظ المستعملة في اصطلاح المحدثين.
ومن هنا شاع إطلاق "الإخباري" على المشتغل بالتواريخ، بينما شاع إطلاق اسم "المحدِّث" على المشتغل بالسنة النبوية(8).
وعلى هذا المعنى الأخير تكون العلاقة بين الخبر، والسنة، والحديث هي التباين والتضاد.
4. وقيل هو: ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن غيره من الصحابة والتابعين فمن بعدهم(9).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، وسائر أنواع الحديث الأخرى، ويكون أعم من السنة والحديث.
ج- معنى الأثر:
الأثر لغةً: مأخوذ من أثرت الشيء - بفتح الهمزة والثاء المثلثة- أي: نقلته أو تتبعته، ومعناه عند أهل اللغة: ما بقي من رسم الشيء وضربة السيف، ويجمع على آثار، مثل: سبب وأسباب(10).
الأثر اصطلاحًا: للعلماء في تعريفه أقوال:
1. قال جمهور المحدثين: هو أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأفعالهم(11).
وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفًا للسنَّة على القول الثالث، وللحديث وللخبر على القول الأول.وبهذا المعنى سمَّى الحافظُ الطحاوي كتابه: " شرحُ معاني الآثار المختلفة المأثورة".
2. وقال فقهاء خراسان:يطلق الأثر على أقوال الصحابة،والتابعين وأفعالهم فقط(12).
وعليه يكون مقصورًا على الموقوف والمقطوع فقط، ويكون أخص من السنة على القول الثالث، ومن الحديث، والخبر، على القول الأول.وبهذا المعنى سمى الإمام محمد بن حسن الشيباني كتابه الذي ذكر فيه الآثار الموقوفة بكتاب: "الآثار".
3. وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(13).
وعليه يكون مقصورًا على المرفوع، ويكون مساويًا للسنَّة وللحديث وللخبر على بعض الأقوال.
والخلاصةُ:
أن المحدثين تارةً يستعملون الألفاظ الأربعة ويريدون منها: المرفوع فقط.وتارةً يستعملونها ويريدون منها: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.وتارةً يخصصون السنَّة: بطريقته - صلى الله عليه وسلم - العملية المتواترة التي بيّن بها القرآن الكريم.
والحديث: بأقواله - صلى الله عليه وسلم - فقط.
والخبر: بالحوادث أو بالوقائع التاريخية.
والأثر: بأقوال وفتاوى الصحابة والتابعين وأفعالهم.
والقرينة هي التي تحدد المراد في كل هذه الاستعمالات.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - ينظر: الصحاح للجوهري، مادة (حدث) 1/278، ولسان العرب، نفس المادة 2/796، والقاموس المحيط، نفس المادة 1/170.
(2) - ينظر: الخلاصة للطيبي، ص: 30، وشرح شرح النخبة لملا على القاري، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي، ص: 24، وظفر الأماني، ص: 32.
(3) - في ضوء هذا التعريف نستطيع فهم كلام عبد الرحمن بن مهدي حينما سئل عن مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان بن عيينة فقال: " الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما. وإجابة عبد الرحمن بن مهدي واضحة الدلالة على أن السنة- في مثل هذا الاستعمال - إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام، أما الحديث فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله وتقريراته. (ينظر: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك 1/3).
(4) - ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي، 1/42، ظفر الأماني، ص: 32.
(5) - ينظر: لسان العرب، مادة: خبر، المصباح المنير 1/ ، وعنها نقل الشوكاني في إرشاد الفحول، ص: 42.
(6) - ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42.
(7) - ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وظفر الأماني، ص: 32.
(8) - ينظر: المصادر السابقة.
(9) - ينظر: المصادر السابقة.
(10) - ينظر: لسان العرب، مادة: " أثر" 1/25، الصحاح للجوهري 2/574، المعجم الوسيط 1/5.
(11) - ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي 1/42، ظفر الأماني، ص: 33، قواعد في علوم الحديث، ص: 25.
(12) - ينظر: نفس المصادر السابقة.
(13) - ينظر: نفس المصادر السابقة.(1/5)
أهميَّةُ السُّنَّة ووجه الحاجة إليها
إن أهمية السنة النبوية ووجه الحاجة إليها تبرز من خلال دورها في خدمة التشريع الإسلامي، ويتجلَّى هذا الدور في أمرين:
الأمر الأول:أن القرآن الكريم - وهو المصدر الأول في التشريع - لا يمكن أن يستغني عنها، ولا يستطيع أن يؤدي دوره كاملاً بدونها.
فهما أصلان في التشريع، ودعامتان يرتكز عليهما صرح الشريعة الغراء، إنهما بمنزلة " الروح" و " الجسد" إن ضاع أحدهما ضاع الآخر، والاستمساك بهما جميعًا فيه النجاة والسلامة للإنسان، كما وضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ "(1).
وهاكم بعض الصور التي تثبت أن القرآن لا يستغنى في فهمه عنها.
الصورة الأولى:أن في القرآن الكريم آياتٍ لا يمكن فهم المراد منها إلا بعد معرفة سبب نزولها، ولا طريق لمعرفة سبب النزول إلا السنَّة.
• من هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (158) سورة البقرة.
فهذه الآية بحسب الظاهر تنفي الجناح عمن لا يطوف بالصفا والمروة، وهذا ما فهمه عروة بن الزبير، لكن سبب النزول أوضح المعنى المراد.
روى البخاري ومسلم عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ عُرْوَةُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَقُلْتُ لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِى إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّفَ بِهِمَا ، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِى الأَنْصَارِ ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِى كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) الآيَةَ . قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا . ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إِلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ ، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِى الْقُرْآنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) الآيَةَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِى الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فِى الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِى الإِسْلاَمِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ .(2)
• ومنها أيضًا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (93) سورة المائدة.
فقد حكي عن قدامة بن مظعون أنه كان يقول: الخمر مباح لمن آمن وعمل صالحًا، ويحتج بالآية المذكورة، وخفي عليه سبب نزولها(3)مع أن سبب النزول يمنع ذلك.
فعَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ مَاتَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا فَنَزَلَتْ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(4).
فأنت ترى أن سبب نزول الآيتين - وهو من السنَّة - قد أزال الإشكال عن الآيتين، وأعان على فهم المراد منهما، وأمثال هاتين الآيتين في القرآن الكريم كثير.
الصورة الثانية: أن في القرآن الكريم آيات مجملة، ولا سبيل إلى تفصيلها وبيان المراد منها إلا السنة .
من ذلك قوله تعالى في شأن الصلاة: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} (43) سورة البقرة، وقوله تعالى: {.. إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (103) سورة النساء.
فلو أخذ هذا الكلام على ظاهره لاكتفى من كل إنسان بأدنى ما يقع عليه اسم الصلاة وهي ركعة واحدة مثلاً، وتؤدى بأية كيفية كانت، مع أن هذا خلاف مراد الله تعالى.
لذلك جاءت السنة مبينة: أوقات الصلاة، وعدد ركعاتها، وكيفية أدائها، وأركانها، وشروطها، وسننها، وهيئاتها، وآدابها، ومبطلاتها، ونحو ذلك من كل ما يتعلق بها.
وكذلك الشأن في سائر الأحكام التي وردت في القرآن مجملةً غير مفصلة ولا مبينة، كالزكاة، والصيام، والحج، والنكاح، والجهاد، والطلاق وغيرها.
قال محمد بن نصر المروزي ( 294هـ ) في هذا الصدد: " وجدت أصول الفرائض كلها لا يعرف تفسيرها ولا تنكر تأديتها ولا العمل بها إلا بترجمة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفسير منه، من ذلك: الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.
قال الله عز وجل: {.. إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (103) سورة النساء. فأجمل فرضها في كتابه ولم يفسرها، ولم يخبر بعددها وأوقاتها، فجعل رسوله هو المفسِّر لها، والمبين عن خصوصها وعمومها وعددها وأوقاتها وحدودها، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن الصلاة التي افترضها الله هي خمس صلوات في اليوم والليلة، في الأوقات التي بينها وحددها، فجعل صلاة الغداة ركعتين، والظهر والعصر والعشاء أربعًا أربعًا، والمغرب ثلاثًا، وأخبر أنها على العقلاء البالغين من الأحرار والعبيد، ذكورهم وإناثهم، إلا الحيَّض فإنه لا صلاة عليهن، وفرَّق بين صلاة الحضر والسفر، وفسَّر عدد الركوع والسجود والقراءة وما يعمل فيها من التحريم بها، وهو: التكبير، إلى التحليل منها، وهو التسليم.
وهكذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة بسنَّته، فأخبر أن الزكاة إنما تجب في بعض الأموال دون بعض على الأوقات والحدود التي حدّها وبيّنها، فأوجب الزكاة في العين من الذهب والفضة والمواشي من الإبل والغنم والبقر السائمة، وفي بعض ما أخرجت الأرض دون بعض، وعفا عن سائر الأموال، فلم يوجب فيها الزكاة.
ولم يوجب الزكاة فيما أوجبها فيه من الأموال ما لم تبلغ الحدود التي حدَّها، فقال: « لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ »(5). ولا في أقل من أربعين من الغنم صدقة"(6)" ولا في أقل من ثلاثين من البقر"(7).
وبين أن الزكاة إنما تجب على من وجبت عليه إذا حال عليه الحول من يوم يملك ما تجب فيه الزكاة، ثم تجب عليه في المستقبل من حول إلى حول، إلا ما أخرجت الأرض، فإن الزكاة تؤخذ مما وجب فيه الزكاة منه عند الحصاد والجداد- صرام النخل -، وإن لم يكن الحول حال عليه، ثم إن بقي بعد ذلك سنين لم يجب عليه غير الزكاة الأولى. كل ذلك مأخوذ عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غير موجود في كتاب الله بهذا التفسير.
وكذلك الصيام، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة، فجعل - صلى الله عليه وسلم - فرض الصيام على البالغين من الأحرار والعبيد، ذكورهم وإناثهم إلا الحيَّض، فإنهن رفع عنهن الصيام، فسوَّى بين الصيام والصلاة في رفعها عن الحائض، وفرَّق بينهما في القضاء، فأوجب عليهن قضاء الصيام، ورفع عنهن قضاء الصلاة، وبين أن الصيام هو الإمساك بالعزم على الإمساك عما أمر بالإمساك عنه من طلوع الفجر إلى دخول الليل، فقال - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ ».(8)....
وكذلك الحج، افترض الله الحج في كتابه، فقال: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران.
فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله مراده أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة..., كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنته أن فرض الحج هو: الإهلال، وفسر الإهلال ومواقيت الحج والعمرة جميعًا، وبين ما يلبس المحرم مما لا يلبسه، وغير ذلك من أمور الحج مما ليس بيانه في كتاب الله.
وذكر الجهاد وما يتعلق به، ثم قال: " فهذه الفرائض كلها متفقة في أنها مفروضة ومختلفة في الخصوص والعموم، والعدة والأوقات والحدود، بين ذلك رسول الله صلى اله عليه وسلم بسنته"(9).
الصورةُ الثالثة: أن في القرآن الكريم آيات عامة، مع أن المراد منها خاص، ولا سبيل إلى تخصيصها وبيان مراد الله منها سوى السنة النبوية.
والعام هو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين على سبيل الاستغراق والشمول، سواءٌ أكانت دلالته على ذلك بلفظه ومعناه، بأن كان بصيغة الجمع، كالمسلمين والمسلمات والرجال والنساء، أم كانت بمعناه فقط: كالرهط والقوم والجن والإنس.
والخاصُّ لفظٌ وضع للدلالة على فرد واحد أو أفراد محصورين.
بعد هذا البيان لدلالة العام والخاص، نأتي على ذكر أمثلة لتخصيص السنة لعموم القرآن الكريم، فمن ذلك:
1. قول الله عز وجل: (حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخنْزيْرُ ...) [سورة المائدة: 3].
فهذه الآية تفيد أن كل ميتة وكل دم حرام، لكن جاءت السنة فخصصت من هذا التحريم نوعين من الميتة، ونوعين من الدماء يباح أكلهما.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ : الْجَرَادُ وَالْحِيتَانُ وَالْكَبْدُ وَالطِّحَالُ.(10).
2. قول الله عز وجل: (الَّذيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يَلْبسُوْا إيْمَاْنَهُمْ بظُلْم أُوْلَئكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُوْنْ) [ الأنعام: 82].
فقد فهم بعض الصحابة من هذه الآية: أن المراد بالظلم: الجور أو مجاوزة الحد، لذلك جاءوا شاكين للنبي - صلى الله عليه وسلم - قائلين: وأينا لم يظلم نفسه؟ فطمأنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : بأن المراد في الآية: هو الشرك، وبذلك صارت السنة مخصصة للعموم الواقع في لفظ الظلم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ « لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ ( لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ) بِشِرْكٍ ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لاِبْنِهِ { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان .(11).
3. قول الله عز وجل: (يُوْصِيْكُمُ اللهُ فِيْ أَوْلاَدِكُمْ لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَاْ مَا تَرَكَ وَإِنْ كَاْنَتْ وَاْحِدَةً فَلَهَا الْنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَاْنَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاْهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثْ فَإِنْ كَاْنَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُِمِّهِ الْسُّدُسْ.....)[النساء: 11].
فهذه الآية أفادت: أن كل والد يرث ولده، وكل مولود يرث والده من غير تخصيص، حتى جاءت السنة فخصصت المورث بغير الأنبياء، وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ ».(12).
وخصصت السنة الوارث أيضًا بغير القاتل، وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لَيْسَ لِلْقَاتِلِ شَىْءٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَوَارِثُهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ وَلاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا ».(13).
كما خصصت السنة الاثنين معًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلاَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ » .(14).
فكأن معنى الآية بعد التخصيص هو أن كل مورث من أب وأم يرثه أبناؤه إلا أن يكون المورث نبيًا، فإن الأنبياء لا يورثون، وإلا أن يكون الوارث قاتلاً لأصله المورث فإنه لا يرثه، وإلا أن يختلف الدِّين بين المورث والوارث، فإنه لا توارث عند اختلاف الدين.
الصورة الرابعة: إن في القرآن الكريم آياتٍ مطلقة مع أن المراد منها مقيَّد، ولا سبيل لتقييدها، وبيان وجه الحقِّ فيها غير السنَّة النبوية.
والمطلَق: هو ما دلَّ على فرد شائع غير مقيد لفظًا بأي قيد، كحيوان وطائر وتلميذ، فهذه ألفاظ وضع كل منها للدلالة على فرد واحد شائع في جنسه.
والمقيَّد: هو ما دلَّ على فرد مقيد لفظًا بقيد ما، ومن أمثلة تقييد السنة لمطلق القرآن:
1. قول الله عز وجل: (وَالسَّاْرِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاْقْطَعُوْا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمْ)[ المائدة: 38].
فقطع اليد في الآية لم يقيد بموضع خاص، وعليه فيجوز القطع إلى المفصل، أو إلى المرفق، أو إلى المنكب لإطلاق اليد على كل ذلك, ولكن السنة جاءت فقيدت القطع بأن يكون إلى الرسغ أو إلى المفصل - أي: مفصل الكوع.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، كَانُوا يَقْطَعُونَ السَّارِقَ مِنْ الْمَفْصِلِ(15)"
وفي البيهقي عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْطَعُ السَّارِقَ مِنَ الْمَفْصِلِ وَكَانَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْطَعُهَا مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ.(16).
2. قول الله عز وجل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتَ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ بِاْلْمَعْرُوْفِ حَقًا عَلَىْ الْمُتَّقِيْنْ)[البقرة: 180]. وقوله في آية النساء: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوْصِيْنَ بِهَا أَوْ دَيْنْ)[النساء: 11].
فالوصية هنا مطلقة لا يقيدها قيد، فجاءت السنة فقيدتها بما لا يزيد عن الثلث، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص عند ما أراد أن يوصي بالكثير من ماله: « الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ » .(17).
3. قول الله عز وجل: (وَلْيَطَّوْفُوْا بِاْلبَيْتِ العَتِيْقِ)[سورة الحج: 29].
فهذا الأمر من الله تعالى يوجب الطواف مطلقًا، سواءٌ أكان الطائف على طهارة، أم على غير طهارة، وقيدته سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطهارة، فلا يطوف بالبيت الحرام إلا من كان طاهرًا.
روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في آخر حجته: « خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى أَنْ لاَ أَحُجَّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ ».(18).
وقد جاء في حديث عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ(19).
فقوله: " خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ " يقتضي وجوب كل ما فعله - ومنها الطهارة للطواف - إلا ما قام دليل على عدم وجوبه.
ويؤكد حكم الطهارة حديث عائشة لما حاضت وهي محرمة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِى بِالْبَيْتِ » .(20).
الصورة الخامسة: أن في القرآن الكريم آيات مشكلة مع غيرها أو مع سنن أخرى صحيحة أو مع العقل :
ولو أخذت هذه الآيات على ظاهرها لأوقعت الإنسان في شيء من القلق أو الحيرة أو الاضطراب، ولا سبيل لرفع مثل هذه الإشكالات وإزالتها إلا السنة، ومن أمثلة ذلك:
1. قوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاْكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُوْنُوْا شُهَدَاءَ عَلَىْ النَّاسِ وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا....) [ سورة البقرة: 143].
فإنها مشكلة مع واقع أمته - صلى الله عليه وسلم - ، إذ هي متأخرة زمانًا، فكيف تكون شهيدة على الأمم السابقة؟ وكيف يكون الرسول شهيدًا على سائر الرسل السابقين أيضًا مع أنه آخرهم زمانًا؟.
فجاءت السنة فأزالت هذه الإشكالات، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« يَجِىءُ النَّبِىُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِىُّ وَمَعَهُ الرَّجُلاَنِ وأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَكُمْ هَذَا فَيَقُولُونَ لاَ. فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ فَيَقُولُ نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَيُدْعَى وَأُمَّتُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ بَلَّغَ هَذَا قَوْمَهُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ.
فَيُقَالُ وَمَا عِلْمُكُمْ فَيَقُولُونَ جَاءَنَا نَبِيُّنَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قَالَ يَقُولُ عَدْلاً (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ».(21).
2. قوله تعالى: (وَكُلُوْا وَاْشْرَبُوْا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوْا الْصِّيَامَ إِلَى الَّلْيْلْ....) [سورة البقرة: 187].
فقد فهم بعض الصحابة من الخيط الأبيض والخيط الأسود حقيقتهما وأنه يباح الأكل للصائم حتى تتبين له رؤيتهما.
فجاءت السنة فرفعت هذا الإشكال، وبينت أن الخيط الأبيض والخيط الأسود: مجازان عن بياض النهار وسواد الليل.
فعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى اللَّيْلِ ، فَلاَ يَسْتَبِينُ لِى ، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ « إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ » .(22)
3. ما جاء عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ ». فَقُلْتُ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :(فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) فَقَالَ :« لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ ».(23).
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 114)(20833)صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى (1643 ) ومسلم (3140 )
(3) - انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، 2/ 44.
(4) - سنن الترمذى (3328 ) وهو صحيح
(5) - صحيح البخارى (1459 ) الورق : الفضة
(6) - أخرجه البخاري بمعناه، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، رقم: (1454).
(7) - أخرجه أبو داود بمعناه، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، رقم: (1576).
(8) - سنن أبى داود (2456 ) وهو صحيح
(9) - السنة للمروزي، ص: 36- 45، بتصرف.
(10) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 1 / ص 254)(1241) وقال :وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَهُوَ فِى مَعْنَى الْمُسْنَدِ. وَقَدْ رَفَعَهُ أَوْلاَدُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِمْ.
(11) - صحيح البخارى (3360 )
(12) - مسلم (4676 ) وفيه قصة
(13) - سنن أبى داود(4566 ) حديث حسن
(14) - صحيح البخارى(6764 ) ومسلم (4225)
(15) - تلخيص الحبير، 4/ 71.
(16) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 271)(17712) وفيه انقطاع
(17) - صحيح البخارى (2743 )
(18) - مسند أحمد (14793) صحيح
(19) - صحيح البخارى (1641
(20) - صحيح البخارى (294 ) ومسلم (2976 )
(21) - مسند أحمد (11872) صحيح
(22) - صحيح البخارى(1916 ) العقال : الحبل الذى يعقل به البعير
(23) - صحيح مسلم (7406 )(1/6)
فأمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ظنت أن الحساب في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من حوسب يوم القيامة عذب" هو بعينه: الحساب المذكور في الآية، ومن هنا نشأ الإشكال عندها، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - مستوضحة الأمر، فبين لها النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد: بأن الحساب في الحديث يراد منه المناقشة، وفي الآية يراد منه العرض على الله تعالى.
وبالتالي فلا تعارض ولا إشكال لانفكاك الجهة، إذ التعارض أو الإشكال إنما يكون إذا اتحدت الجهة، ولا اتحاد هنا.
الصورة السادسة: أن في القرآن الكريم آيات منسوخة - أي: رفع حكمها - نسختها السنة المطهرة:
وهذا ما ذهب إليه الجمهور من العلماء، ومن أمثلة ذلك:
قول الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)[سورة البقرة: 180].
فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين، لكن هذا الحكم منسوخ بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ».(1).
فإن قيل: ثبت النسخ بآية المواريث، لا بالحديث، فإنها نزلت بعد آية الوصية باتفاق؟
أجيب: بأن الناسخ للوصية الحديث وليست آية المواريث، ذلك أن آية المواريث بينت أن لهم حقًا هو الإرث، ولم تنف وجوب الوصية لهم، فقد تدلُّ الأولى على الوصية للوالدين والأقارب، والثانية على إعطاء الإرث المقدَّر لهم شرعًا، فيكون الوالدان والأقارب يجمعون حقين: الوصية والإرث، فجاءت السنة ونسخت الوصية لهم واكتفت بالإرث المقدَّر لهم شرعًا، وقالت: « إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ » فليس له بعد ذلك في الوصية حق ما دام أخذ الميراث(2).
وهكذا يتبين بهذه الصور وغيرها عدم استغناء القرآن الكريم عن السنة النبوية، وإلا تعطلت أكثر آياته، وبطلت أحكامها، وبالتالي يتعطلُ الإسلام ويبطل العمل به.
وقد يسأل البعض: لما لم يتحدث كتاب الله عز وجل على تفصيلات هذه الأمور التي تركها لبيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟
والجواب من وجوه:
الأول: أن ذلك يعدُّ آية من آيات إعجاز القرآن الكريم حيث تضمن الأصول العامة والقواعد الكلية للأحكام الشرعية، تاركًا التعرض إلى تفاصيلها والتفريع عليها للسنة ليحقق بذلك النهضة الإنسانية الشاملة، والرقي الاجتماعي والفكري في كل أمة مهما كانت بيئتها وأعرافها، وفي كل زمان.
الثاني: أن القرآن الكريم لو اهتم بهذه التفصيلات لطال إطالة تجعل من الحرج على المؤمنين أن يستقصوه، ويحفظوه، ويرتلوه، وكل هذا واجب عليهم، هذا بالإضافة إلى أنه كتاب هداية يضمُّ كل ما يهدي المؤمنين في كل وقت، ومثل هذه التفصيلات لا أعتقد أن التالي لها - لو كانت في كتاب الله - تشع في نفسه تلك الهداية التي يستشعرها المؤمن في كل آية يتلوها من كتاب الله الكريم.
الثالث: أن القدوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تتحقق، فلا بد من الاقتناع العقلي، وهذا يتمثل في أن يرى المسلمون أن هذا الرسول ليس شخصًا فقط، وإنما هو جزء من دينهم الذي جاء به من عند الله، ولن يتحقق هذا الجزء إلا باتباع نبيهم في الصلوات وغيرها، وإلا فكيف يصلي المؤمن دون تنفيذ ما أتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجال؟ إن هذا مستحيل عقلاً. والله عز وجل أعلم(3).
الأمر الثاني الذي يبرز دور السنة في التشريع وأهميتها:
أن هناك أحكامًا كثيرةً استقلتِ السنة النبوية بتشريعها، وقد تلقت الأمة هذه الأحكام بالقبول، وإن كانت زائدةً على ما جاء في القرآن الكريم.
من هذه الأحكام: مشروعية الشفعة، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وأنه لا يقتل مسلم بكافر، وحد الرجم، وحد الردة، والنهي عن زواج المتعة، وغير ذلك كثير وكثير حتى إن ابن القيم يقول: (أَحْكَامُ السُّنَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ إنْ لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ تَنْقُصْ عَنْهَا ؛ فَلَوْ سَاغَ لَنَا رَدُّ كُلِّ سُنَّةٍ زَائِدَةٍ كَانَتْ عَلَى نَصِّ الْقُرْآنِ لَبَطَلَتْ سُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهَا إلَّا سُنَّةً دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ سَيَقَعُ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ خَبَرِهِ .)(4).
وهذا النوع - السنة المستقلة- مختلف فيه بين العلماء، إلا أن الخلاف ليس في الاعتداد بالأحكام الثابتة في السنة زيادة عن الأحكام الثابتة في القرآن الكريم، وإنما الخلاف في مخرجه وملحظه.
1. فالجمهور يسمون الأحكام الزائدة على ما في القرآن الكريم استقلالاً, ويقولون: قد ثبت لها الاستقلال من الأدلة التي وردت في القرآن الكريم الدالة على وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة مطلقة، تدلُّ على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته.
قال الشوكاني معبرًا عن هذا الاتجاه: " قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام، وإنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)(5).
أي: أوتيت القرآن، وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن"(6).
وقال ابن القيم معبرًا ومنتصرًا لرأي الجمهور: وَالسُّنَّةُ مَعَ الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ فَيَكُونُ تَوَارُدُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مِنْ بَابِ تَوَارُدِ الْأَدِلَّةِ وَتَظَافُرِهَا .
الثَّانِي : أَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِمَا أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ وَتَفْسِيرًا لَهُ .
الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِحُكْمٍ سَكَتَ الْقُرْآنُ عَنْ إيجَابِهِ أَوْ مُحَرِّمَةً لِمَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ ، وَلَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، فَلَا تُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِوَجْهٍ مَا ، فَمَا كَانَ مِنْهَا زَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ فَهُوَ تَشْرِيعٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيهِ ، وَلَا تَحِلُّ مَعْصِيَتُهُ ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، بَلْ امْتِثَالٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ ، وَلَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُطَاعُ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يَكُنْ لِطَاعَتِهِ مَعْنًى ، وَسَقَطَتْ طَاعَتُهُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ"(7). وقد قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [سورة النساء: 80].
كما يفيده أيضًا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ....)[سورة النساء: 59].
فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه...
" وَاَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَةَ رَسُولِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ هُوَ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ وَقَبُولَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ ، وَاَلَّذِي قَالَ لَنَا : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } هُوَ الَّذِي شَرَعَ لَنَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى لِسَانِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَّاهُ مَنْصِبَ التَّشْرِيعِ عَنْهُ ابْتِدَاءً ، كَمَا وَلَّاهُ مَنْصِبَ الْبَيَانِ لِمَا أَرَادَهُ بِكَلَامِهِ ، بَلْ كَلَامُهُ كُلُّهُ بَيَانٌ عَنْ اللَّهِ ، وَالزِّيَادَةُ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ الْبَيَانِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، بَلْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ الطَّيِّبُ إذَا سَمِعُوا الْحَدِيثَ عَنْهُ وَجَدُوا تَصْدِيقَهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَطُّ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَبَدًا : إنَّ هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى الْقُرْآنِ فَلَا نَقْبَلُهُ وَلَا نَسْمَعُهُ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجَلُّ فِي صُدُورِهِمْ وَسُنَّتُهُ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْبَرُ . وَلَا فَرْقَ أَصْلًا بَيْنَ مَجِيءِ السُّنَّةِ بِعَدَدِ الطَّوَافِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ وَمَجِيئِهَا بِفَرْضِ الطُّمَأْنِينَةِ وَتَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ وَالنِّيَّةِ ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ أَنَّهُ أَوْجَبَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ عَلَى عِبَادِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُرَادُ ، فَجَاءَتْ السُّنَّةُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ فِي جَمِيعِ وُجُوهِهَا ، حَتَّى فِي التَّشْرِيعِ الْمُبْتَدَأِ ، فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَيَانِ هَذَا الْمُرَادِ وَبَيْنَ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِهَا ، بَلْ هَذَا بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ شَيْءٍ وَذَاكَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْ أَعَمَّ مِنْهُ ؛"(8).
2. وذهب الشاطبي ومن نحا نحوه إلى أن الزيادة التي وردت في السنة لم يثبت بها استقلالاً، وإنما تفرعت على أصل القرآن الكريم، فما من حكم ثبت في السنة إلا هو قائم على أصل وجد في الكتاب الكريم، وأن ما في السنة يرجع إلى نصوصه وإشاراته، أو عمومه، أو قواعده الكلية التي هي أساس ما فيه من الأحكام الجزئية.
فمثلاً: الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لأن مثله قد حرمه الله - وهو الجمع بين الأختين - في كتاب الله عز وجل، فالمصلحة فيها جميعًا واحدة، وهي قطع صلة الرحم، وبث عوامل التفكك في الأسر التي يريد الإسلام لها أن تتماسك وتتراحم، ولهذا نص عليه الصلاة والسلام على هذه المصلحة عندما نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فقال: (إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ.)(9).
ولكل واحد من الفريقين أدلته وحججه فيما ذهب إليه(10).
ولكن الذي يهمنا هنا أمران:
الأمر الأول:
أن ما جاءت به السنة من هذا القبيل واجب الاتباع، وهو ما يعترف به الفريقان مع اختلاف وجهة نظرهما في كونه مندرجًا تحت ما جاء في كتاب الله عز وجل أو جديدًا لم ينص عليه فيه.
الأمر الثاني:
أن السُّنَّة على كلتا الوجهتين أضافت شيئًا نحن في حاجة إليه سواءٌ أسميناه بيانًا أم جديدًا، ولن نستطيع أن نهتدي إليه من عند أنفسنا، ومن غير هدي من نبينا - صلى الله عليه وسلم - (11).
ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لماذا يحب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتباعًا مطلقًا، فيقول: (الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا حُدِّثَ بِهِ عَنْهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ : مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ ؛ فَإِنَّ سُنَّتَهُ ثَبَتَتْ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ . فَمَا قَالَهُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ تَشْرِيعًا إيجَابًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ إبَاحَةً وَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُمْ إلَّا حَقًّا، وَهَذَا مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ اللَّهَ يُنَبِّئُهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّهُ يُنَبِّئُ النَّاسَ بِالْغَيْبِ ،وَالرَّسُولُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَتَبْلِيغِهِمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِ . ..وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَا يَقُولُهُ فَهُوَ حَقٌّ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَكْتُبُ مَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ فَلَا تَكْتُبُ كُلَّمَا تَسْمَعُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمَا إلَّا حَقٌّ - يَعْنِي شَفَتَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ - } . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْفَظُ مِنِّي إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ وَيَعِي بِقَلْبِهِ وَكُنْت أَعِي بِقَلْبِي وَلَا أَكْتُبُ بِيَدِي .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ حَدِيثَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَطُلِقَ دَخَلَ فِيهِ ذِكْرُ مَا قَالَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَذِكْرُ مَا فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّ أَفْعَالَهُ الَّتِي أَقَرَّ عَلَيْهَا حُجَّةٌ لَا سِيَّمَا إذَا أَمَرَنَا أَنْ نَتَّبِعَهَا كَقَوْلِهِ : { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقَوْلِهِ : لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَكَذَلِكَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْأُمَّةِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } وَلَمَّا أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ قَالَ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سُئِلَ عَنْ الْفِعْلِ يَذْكُرُ لِلسَّائِلِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ : قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ : { إنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى حَدِيثِهِ : مَا كَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ مِثْلَ : إقْرَارِهِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَادُونَهَا وَإِقْرَارِهِ لِعَائِشَةَ عَلَى اللَّعِبِ بِالْبَنَاتِ وَإِقْرَارِهِ فِي الْأَعْيَادِ عَلَى مِثْلِ غِنَاءِ الْجَارِيَتَيْنِ وَمِثْلَ لَعِبِ الْحَبَشَةِ بِالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِ لَهُمْ عَلَى أَكْلِ الضَّبِّ عَلَى مَائِدَتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامِ . إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الدِّينِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ إقْرَارِهِ .
وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ أَخْبَارِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْضُ سِيرَتِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِثْلَ : تَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ وَمِثْلَ : حُسْنِ سِيرَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ : مِنْ كَرَائِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ كَقَوْلِ خَدِيجَةَ لَهُ : كَلَّا وَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا : إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينَ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ،وَمِثْلُ الْمَعْرِفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ ،وَأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مُتَعَلِّمٌ مِثْلَهُ ،وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَحْوَالِهِ الَّتِي تَنْفَعُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِنُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ ،فَهَذِهِ الْأُمُورُ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كَثِيرًا ؛ وَلِهَذَا يُذْكَرُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ سِيرَتِهِ كَمَا يُذْكَرُ فِيهَا نَسَبُهُ وَأَقَارِبُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ بِمَا يُعْلَمُ أَحْوَالُهُ ،وَهَذَا أَيْضًا قَدْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْحَدِيثِ . وَالْكُتُبُ الَّتِي فِيهَا أَخْبَارُهُ مِنْهَا كُتُب التَّفْسِيرِ وَمِنْهَا كُتُبُ السِّيرَةِ وَالْمَغَازِي وَمِنْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ .
وَكُتُبُ الْحَدِيثِ هِيَ مَا كَانَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَخَصُّ وَإِنْ كَانَ فِيهَا أُمُورٌ جَرَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ لَا تُذْكَرُ لِتُؤْخَذَ وَتَشْرَعَ فِعْلَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ،بَلْ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ الْإِيمَانَ بِهِ وَالْعَمَلَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ .
وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَهُمْ مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَتَخَلَّى فِي الْغِيرَانِ وَالْجِبَالِ حَيْثُ لَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ وَزَعَمَ أَنَّهُ يَقْتَدِي بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِكَوْنِهِ كَانَ مُتَحَنِّثًا فِي غَارِ حِرَاءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فِي تَرْكِ مَا شُرِعَ لَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ وَاقْتَدَى بِمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ كَانَ مُخْطِئًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللَّه بِالنُّبُوَّةِ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ مَا فَعَلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ التَّحَنُّثِ فِي غَارِ حِرَاءٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ،وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَتَاهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَفِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَلَمْ يَقْصِدْ غَارَ حِرَاءٍ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ وَلَا يَتَخَلَّوْنَ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُنْقَطِعَةِ وَلَا عَمَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَلْوَةً أَرْبَعِينِيَّةً كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْإِيمَانَ بِهِ وَاتِّبَاعَهُ ؛ مِثْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَمِثْلَ الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ وَمِثْلَ أَنْوَاعِ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَمِثْلَ الْجِهَادِ ".)(12).
وهكذا يتبين لنا من خلال ما عرضناه في الصفحات السابقة: أهمية السنة، ووجه الحاجة الشديدة إليها، وضرورة العناية بها، والمحافظة عليها.
وقد فهم سلفُ الأمة هذا المعنى جيدًا، فعملوا على تثبيته وإقراره في النفوس.
فقد روى أبو داود من حديث حَبِيبٍ الْمَالِكِىِّ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونَنَا بِأَحَادِيثَ مَا نَجِدُ لَهَا أَصْلاً فِى الْقُرْآنِ. فَغَضِبَ عِمْرَانُ وَقَالَ لِلرَّجُلِ أَوَجَدْتُمْ فِى كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ وَمِنْ كُلِّ كَذَا وَكَذَا شَاةً شَاةٌ وَمِنْ كُلِّ كَذَا وَكَذَا بَعِيرًا كَذَا وَكَذَا أَوَجَدْتُمْ هَذَا فِى الْقُرْآنِ قَالَ لاَ. قَالَ فَعَنْ مَنْ أَخَذْتُمْ هَذَا أَخَذْتُمُوهُ عَنَّا وَأَخَذْنَاهُ عَنْ نَبِىِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هَذَا.(13).
__________
(1) - سنن أبى داود (2872 ) صحيح
(2) - أصول الفقه وابن تيمية، ص: 546. و الفصول في الأصول - (ج 2 / ص 53) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 455) وفواتح الرحموت - (ج 2 / ص 77) وشرح الورقات في أصول الفقه - (ج 4 / ص 10) وشرح التلويح على التوضيح - (ج 2 / ص 74) وتيسير علم أصول الفقه .. للجديع - (ج 3 / ص 80) والبحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 199) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 206)
(3) - انظر: المدخل إلى توثيق السنة ،رفعت فوزي عبد المطلب، ص: 16- 17.
(4) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 470) وإعلام الموقعين - (ج 2 / ص 309) وإعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 366)و إعلام الموقعين، (2/ 290).
(5) - سنن أبى داود (4606 ) صحيح
(6) - إرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 1 / ص 69) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 97)
(7) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 468)و إعلام الموقعين (2/ 307، 308).
(8) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 475) و إعلام الموقعين، (2/ 313).
(9) - أصول التشريع الإسلامي، ص: 40، والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، (6/ 263).
(10) - انظر: استقلال السنة بالتشريع بين المثبتين والمنكرين، ص: 93 - 122.
(11) - انظر: المدخل إلى توثيق السنة، ص: 15- 16.
(12) - مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 6-10) بتصرف
(13) - سنن أبى داود(1563 ) حسن(1/7)
وجاء في رواية أخرى عن الحسن: أن عمران بن حصين كان جالسًا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: "ادنه، فدنا فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعًا، وصلاة العصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعًا، والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن"(1).
وروى الخطيب عن إسماعيل بن عبيد الله قال: " ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نحفظ القرآن؛ لأن الله تعالى يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [سورة الحشر: 7]"(2).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - أخرجه الخطيب في الكفاية، رقم: (24)، وله طرق عن الحسن، أخرجها ابن حبان في الثقات، (7/ 247)، والحاكم في المستدرك (1/ 109)، والطبراني في الكبير، (18/ 165 رقم: 369)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" رقم: (238)، وهو بمجموع طرقه: حسن.
(2) - الكفاية، رقم: (17).(1/8)
شرفُ أهلِ الحديثِ
عرّفنا فيما سبق بالسنة وأبنا عن أهميتها ووجه الحاجة إليها، وفي هذا المبحث نتحدث عن شرف أهل الحديث وخدمة السنة المطهرة، يدفعنا إلى إبراز ذلك أمور:
أولها : ما نلمحه بين الفينة والفينة من إحياء لفكر الفرق الضالة ، الذين طعنوا بالصحابة رضي الله عنهم ، ورموهم بحمل الكذب ورواية المتناقص، وأسهبوا في ذمهم ، وبالغوا في انتقاصهم، الأمر الذي يدعونا إلى إنصاف المحدثين ، والانتصار لهم ببيان شرفهم وعلو قدرهم ورفعة منزلهم وإبراز جهودهم عبر العصور المختلفة في خدمة السنة النبوية والذب عنها .
ثانيها : تهيئة القارئ لما سيهوله فيما بعد من جهد مضن قد بلغ بأصحابه مبلغا بوأهم الصدارة فبارزوا أقرانهم من أرباب العلوم الأخرى شرفا وسموًّا .
وإذا كان الأمر كذلك فأقول وبالله تعالى التوفيق :
شرف العلم من شرف المعلوم , وكذا يتشرف العالمون به ، فلما كان المعلوم أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، فإن العلم بها يسمو بأهله، فينالون من الشرف أعظمه، ومن العزة أعلاها، وقد دل على ذلك أحاديث وآثار، وأقوال للعلماء وأخبار، إليك طرفا منها :
1-روى الترمذي بسنده عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ »(1).
قال المباركفوري : (وَخَصَّ مُبَلِّغَ الْحَدِيثِ كَمَا سَمِعَهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ سَعَى فِي نَضَارَةِ الْعِلْمِ وَتَجْدِيدِ السُّنَّةِ فَجَازَاهُ بِالدُّعَاءِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْحَدِيثِ وَفَضْلِهِ وَدَرَجَةِ طُلَّابِهِ حَيْثُ خَصَّهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِدُعَاءٍ لَمْ يُشْرِكْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَحِفْظِهِ وَتَبْلِيغِهِ فَائِدَةٌ سِوَى أَنْ يَسْتَفِيدَ بَرَكَةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمُبَارَكَةِ لَكَفَى ذَلِكَ فَائِدَةً وَغُنْمًا وَجَلَّ فِي الدَّارَيْنِ حَظًّا وَقَسَمًا .)(2).
وقال أبو بكر بن العربي : (قال علماء الحديث ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهة نضرة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ) الحديث. قال: وهذا دعاء منه عليه السلام لحملة علمه، ولابد بفضل الله من نيل بركته )(3).
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله(4):
أهل الحديث عصابة الحقّ ... فازوا بدعوة سيّد الخلق
فوجوههم زهرٌ منضّرةٌ ....... لألاؤها كتألّق البرق
يا ليتني معهم فيدركني ... ما أدركوه بها من السّبق
2- روى الطبراني في الشاميين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ , يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ , وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ , وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)(5).
وفي هذا الحديث تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدِّثين وعلو مرتبتهم في العالمين ، لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها .
قال الإمام النووي رحمه الله : (هذا إخبار منه - صلى الله عليه وسلم - بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وإن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئاً من علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئاً منه)(6).
وقال الحاكم: (لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد، لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد)(7).
3- روى الترمذي بسنده ُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَوْلَى النَّاسِ بِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَىَّ صَلاَةً ».(8).
وقال المباركفوري(9):
" لِأَنَّ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ مُنْبِئَةٌ عَنْ التَّعْظِيمِ الْمُقْتَضِي لِلْمُتَابَعَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران."
وقال أبو اليمن بن عساكر : ( ليهن أهل الحديث هذه البشرى، فقد أتم الله نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم، وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهم يخلِّدون ذكره في دروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكراتهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية، جعلنا الله منهم وحشرتنا في زمرتهم)(10).
4- روى الترمذي بسنده عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى مَنْصُورِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ » قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ عَلِىُّ بْنُ الْمَدِينِىِّ هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ.(11)..
وقال الإمام أحمد لما سئل عن الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث: (إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث، فلا أدري من هم).
قال الحاكم معقباً: (فلقد أحسن أحمد بن حنبل في تفسير هذا الخبر، أن الطائفة المنصورة التي يدفع الخذلان عنهم إلى قيام الساعة هم أصحاب الحديث، ومن أحق بهذا التأويل من قوم سلكوا محجة الصالحين ، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودفعوا أهل البدع والمخالفين، بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله أجمعين)(12).
لقد تشرف أصحاب الحديث، وهم نقلته ورواته، بنقله وروايته، ولم يكتفوا بل محَّصوا صحيحه من سقيمه، فعرفوا مرفوعه من موقوفه، وموصوله من مقطوعه، فأظهروا للصحيح حجته، وأبانوا للضعيف علته ، فوضعوا أسسا لعلومه، حددت الخبر من حقيره وعظيمه، فاشترطوا لذلك الأسانيد، وشدوا الرحال، ويمموا صوب المشرق والمغرب طلبا للعلو، وميلا للسماع، ودرءا للتدليس،وقطعاً للوهم،ونقبوا في عدالة الرواة، وغاية جهدهم الذبُّ عن سنة نبيهم، فقعَّدوا لذلك القواعد وأصلوا الأصول، فكان ما أنتجته قرائح عقولهم ضربا من الإبداع لم يسبقوا إليه في تاريخ الملل منذ غور الزمان حتى يومنا هذا . ومن كان ذلك شأنه فهو حسبه.
روى القاضي عياض بسنده إلى الأعمش أنه قال: (لا أعلم قوما أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث، ويحيون هذه السنة ، وكم أنتم في الناس؟ والله لأنتم أقل من الذهب )(13).
وقال الإمام النووي: (... ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات أعني معرفة متونها؛ صحيحها وحسنها، وضعيفها ومتصلها, ومرسلها ومنقطعها, ومعضلها ومقلوبها, ومشهورها وغريبها, وعزيزها ومتواترها, وآحادها وأفرادها، معروفها وشاذها, ومنكرها ومعللها , وموضوعها ومدرجها, وناسخها ومنسوخها, وخاصها وعامها, ومجملها ومبينها, ومختلفها وغير ذلك من أنواعها المعروفات .
ودليل ما ذكرته : أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهية، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات، فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات، وأفضل أنواع الخير، وآكد القربات، وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على ما ذكرناه على بيان حال أفضل المخلوقات)(14).
وقال الخطيب البغدادي: (ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها، واستنباطها من معادنها، والنظر في طرقها لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة، ومستفادة من السنن المنقولة، فمن عرف للإسلام حقه، وأوجب للدين حرمته، أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه، وأعلى مكانه، وأظهر حجته، وأبان فضيلته، ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحي وأوعية الدين، وخزنة العلم، الذين ذكرهم الله في كتابه فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [ التوبة/100]. وكفى المحدث شرفا أن يكون اسمه مقروناً باسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكره متصلاً بذكره (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) [ الحديد/21] والواجب على من خصَّه الله بهذه الرتبة، وبلغه هذه المنزلة، أن يبذل مجهوده في تتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه، وطلبها من مظانها، وحملها عن أهلها، والتفقه بها ، والنظر في أحكامها، والبحث عن معانيها، والتأدب بآدابها، ويصدف - يعرض - عما يقل نفعه وتبعد فائدته، من طلب الشواذ والمنكرات، وتتبع الأباطيل والموضوعات، ويؤتي الحديث حقه من الدراسة والحفظ ، والتهذيب والضبط ويتميز بما تقتضيه حاله ويعود عليه زينه وجماله...)(15).
وقال صديق حسن خان: (فهي - أي علوم الأحاديث - مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير ، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهى وأمر، وأنذر وبشر ، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر- يعني في تفصيل ما تقدم بيانه - وقد ارتبط بها اتباعه - صلى الله عليه وسلم - الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين.
كيف ؟ وما الحق إلا فيما قاله - صلى الله عليه وسلم - أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه،أو تفكر فيه ، أو خطر بباله، أو هجس في خلده واستقام عليه، فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل العمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء و (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) [ الحديد/21]. فياله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.
وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنه يقول: (إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث). ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق، لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة. وهذا علم تعطي مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية، لأنها في الحقيقة هي الإطلاع على جزئيات أحواله - صلى الله عليه وسلم - ، ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول،ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله:
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ويروى عن بعض العلماء أنه قال: أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فالحاصلُ أن أهل الحديث كثَّر الله تعالى سوادهم ورفع عمادهم، لهم نسبةٌ خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلا عن الناس أجمعين، لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا، وأحواله الكريمة، وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم، وخيال وجهه الوسيم، ونور حديثه المستبين يتردد في حلق وسط جنانهم ، فعلاقة باطنهم بباطنه العلى متصلة ، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقى مسلسلة، وقال الله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) [ الأسراء /71] قال بعض السلف: (هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - )(16).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ يُشَارِكُونَ كُلَّ طَائِفَةٍ فِيمَا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَمْتَازُونَ عَنْهُمْ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ . فَإِنَّ الْمُنَازِعَ لَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ فِيمَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ طَرِيقًا أُخْرَى ؛ مِثْلَ الْمَعْقُولِ وَالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَالْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَالْوَجْدِ وَالذَّوْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكُلُّ هَذِهِ الطُّرُقِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ صَفْوَتُهَا وَخُلَاصَتُهَا : فَهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا ؛ وَأَعْدَلُهُمْ قِيَاسًا وَأَصْوَبُهُمْ رَأْيًا وَأَسَدُّهُمْ كَلَامًا وَأَصَحُّهُمْ نَظَرًا وَأَهْدَاهُمْ اسْتِدْلَالًا وَأَقْوَمُهُمْ جَدَلًا وَأَتَمُّهُمْ فِرَاسَةً وَأَصْدَقُهُمْ إلْهَامًا وَأَحَدُّهُمْ بَصَرًا وَمُكَاشَفَةً وَأَصْوَبُهُمْ سَمْعًا وَمُخَاطَبَةً وَأَعْظَمُهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ وَجْدًا وَذَوْقًا .وَهَذَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْمِلَلِ)(17).
هم أمة واحدة، ونسيج واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، مهما نأت بهم البلاد، وتباعدت الأقطار ، يجرون على طريقة واحدة لا يحيدون ولا يميلون ، حتى قال أبو المظفر: لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا ؟(18).
ولعلنا بعد هذا نعلم أن شرف أصحاب الحديث مردُّه الأمور الآتيات:
1- اعتبار الحديث مصدراً شرعياً، ومن ثم ارتباط أصحاب الحديث بالأحكام الشرعية، وهذه الأصل فيها الصحة،ولا يتأتي ذلك إلا من قبل جهابذه هذا العلم الشريف.
2- معرفة ناسخ الحديث من منسوخة وهذه الأصل فيها أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، أي أن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم الشرعي متراخيا عن الخطاب المنسوخ حكمه، وإذ لم يع المحدِّث أي الخبرين متقدم عن الآخر فمن غيره يجرؤ على ذلك.
3- اكتساب أهل الحديث معنى (الصحابية) لأنها في الحقيقة الإطلاع على جزئيات أحواله - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وقد أشار إلى ذلك القائل:
أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
4- ولعل أصحاب الحديث هم أولى الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً.) ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقِيَامَةِ يَكُونُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، إِذْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ أَكْثَرَ صَلاَةٍ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ..(19).
5- وكون أصحاب الحديث أول سلسلة آخرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فذلك غاية الشرف ومنتهاه ، فأئمة الحديث جعل الله غذاءهم ولذتهم قراءة الحديث وكتابته، ودراسته وروايته ، ورزقهم حفظا يبهر العقول، ويكاد ألا يصدقه من يسمع ما حكي عنهم في ذلك من المنقول. حفظ الله تعالى بهم السنة، وبهم يتم الله على عباده كل منة، وفي مثلهم يقال:
إن علم الحديث علم رجال تركوا الابتداع للاتباع
فإذا جنَّ الليل كتبوه وإذا أصبحوا غدوا للسماع(20)
ولعل بعد هذا الكلام يتهيأ القارئ-كما قلنا سابقا -لما سيهوله فيما بعد من جهد مضن قد بلغ بأصحابه مبلغاً بوأهم الصدارة فبزوا أقرانهم من أرباب العلوم الأخرى شرفا وسموا.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سنن الترمذى (2869) و قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وهو كما قال
(2) - تحفة الأحوذي - (ج 6 / ص 457) ومقدمة تحفة الأحوذى ص 13.
(3) - مقدمة تحفة الأحوذى ص 13.
(4) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - (ج 2 / ص 36)
(5) - مسند الشاميين (599) وعدي 1/152 و153 و3/904 وبداية 10/337 وعقيلي 1/9 و10 و4/256 (12و13 و2044 )وشرف 14و 52 و 53 و 55 و 56 (10 و46 - 51)ومشكل الآثار للطحاوي (3269) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني (694 ) والإبانة الكبرى لابن بطة (34 ) والبدع لابن وضاح ( 1) والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي(135) وفوائد تمام (831) وهو حسن لغيره على الأقل
(6) - الحطة في ذكر الصحاح الستة ص 39.
(7) - الحطة ص 39، مقدمة تحفة الأحوذي ص 15.
(8) - سنن الترمذى(486 ) والفتح 11/167 حديث حسن لغيره
(9) - تحفة الأحوذي - (ج 2 / ص 20)
(10) - مقدمة تحفة الأحوذي ص 12-13.
(11) - سنن الترمذى (2351 ) صحيح
(12) - معرفة علوم الحديث للحاكم ص 107-108.
(13) - الإلماع للقاضي عياض ص 27. و الحد الفاصل - (ج 1 / ص 177)
(14) - مقدمة شرح النووي على مسلم ص 113-114 وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8)
(15) - الكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 5) و الكفاية للخطيب البغدادي (1/ 51-52).
(16) - الحطة ص 36-37 ، مقدمة تحفة الأحوذي ص 11-12و قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 10)
(17) - مجموع الفتاوى - (ج 4 / ص 9) ونقض المنطق ص 827.
(18) - صون المنطق ص 167.
(19) - تحفة الأحوذي - (ج 2 / ص 20) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 11) وصحيح ابن حبان - (ج 3 / ص 192)
(20) - إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للصنعاني. ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/9.وانظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 21-23.(1/9)
التعريفُ بتاريخ السنة ومناهج المحدثين
أولا : معنى تاريخ السنة :
التاريخ لغة : مأخوذ من الفعل (أرخ) يقال : أرخ الكتاب :حدد تاريخه، وأرخ الحادث ونحوه : فصل تاريخه وحدد وقته(1).
والتاريخ اصطلاحا : فنٌّ يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت،بل عما كان في العالم، وموضوعه : الإنسان والزمان(2).
ومن خلال هذا التعريف للتاريخ، يمكننا تعريف (تاريخ السنة) بأنه : (الأدوار التي تقلبت فيها السنَّةُ أو المراحلُ التي مرت بها من لدنْ صدورها عن صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - إلى أن وصلت إلينا : من حفظ في الصدور، وتدوين في الصحف، وجمع لمنثورها، وتهذيب لكتبها، ونفي لما اندس فيها، واستنباط من عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها... إلى غير ذلك مما يعرفه القائمون على خدمتها، والعاملون على نشر رايتها)(3).
ثانيا : معنى مناهج المحدثين.
في اللغة : المناهج جمع منهج،والمنهج - كما يقول أهل اللغة - هو الطريق أو السبيل الواضحة البينة، والمناهج والنهج : كالمنهج(4).
قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) [ المائدة /48 ]. أي سبيلا وسنة.
في الاصطلاح : الطرق أو السبل التي سلكها المحدثون في رواية الأحاديث وتصنيفها بحسب شروط معينة، والتعليق عليها.
ويدخل في قولنا : (رواية الأحاديث) طرق التحمل والأداء الشفوية والكتابية، وزدنا (تصنيفها) في التعريف على قولنا (رواية الأحاديث) لأن الرواية قد لا تكون تصنيفا، كرواية الصحابة والتابعين رضي الله عنهم قبل بدء التصنيف.
ثم إن قولنا (تصنيفه) يشمل مناهج التصنيف العامة، أي أنواع المصنفات في الحديث النبوي كالجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم.
وقلنا (بحسب شروط معينة) لتدخل الصفات التي يلتزمها كل محدث في رواة الأحاديث التي يختارها لكتابه، وفي الوجه الذي يروي به كل راو عن الآخر.
وقلنا و (التعليق عليها) لتدخل الفوائد الفقهية والإسنادية التي يبرزها أو يشير إليها كل واحد من المحدثين. (أي المنهج الخاص الذي يختصُّ به كل محدث عن أمثاله).
وهذا الشمول في التعريف أليق بمناهج المحدثين،كما أنه أوفى بالغرض من الاقتصار على المناهج في التأليف، سواء المناهج العامة في ترتيب الأحاديث،أو الخاصة الفقهية والفنية، لأن الشمول الذي ذكرناه يسلط الضوء على مناهج الرواية، وقد غفل عنها كثيرون،مع أنها ركن في معرفة انتقال الحديث عبر حلقات الإسناد انتقالا محكما محكوما بقواعد وضوابط دقيقة، تكفل سلامة النص في هذا الانتقال، وتحقق اتصال السند، كما تبين حال الراوي من مقابلة طريقته في الأداء للحديث بطريقة تلقيه لهذا الحديث،من حيث العدالة أو اختلالها،ومن حيث التوافق الصريح بينهما، أو التدليس في الأداء بما يوهم طريقة عالية في تلقي الحديث سوى التي أخذ بها الحديث، وغير ذلك(5).
---------------
مناهجُ المحدثين العامة والخاصة:
ومن هذا يتبين للقارئ أن مناهج المحدثين قسمان: مناهج عامة، ومناهج خاصة.
أما المناهج العامة: فهي الطرق التي يسير على كل منها جماعة من المحدثين، مثل كتب: المسانيد، والجوامع، والسنن، والمعاجم، وغير ذلك.
وأما المناهج الخاصة: فهي كل طريقة يختص بها المحدث عن غيره مما هو على طريقته العامة.
مثال ذلك: صحيحا البخاري ومسلم، يشتركان في المنهج العام للتصنيف، لأن كلا منهما مرتب على الموضوعات. ثم يستقلُّ البخاري بمنهجه الخاص في الاعتناء بفقه الحديث،وإفادته هذا الفقه بواسطة التراجم، أي عناوين الأبواب،وما تفرع على ذلك من تقطيع للأحاديث وتفريقها في مواضع متعددة.
ويستقلُّ مسلم بالاعتناء بصنعة الإسناد، وما ترتب عليه من فوائد، فيصدر الباب برواية الحديث عن الثقات المتقنين، ثم يرويه عمن دونهم، ويجمع طرق الحديث وشواهده في موضع واحد، يشير بذلك إلى فوائد في السند والمتن كما ذكر في مقدمة صحيحه.وهكذا نجد لكل كتاب من الأصول الستة، أو المصادر المشهورة منهجا خاصا تفيد معرفته الكثير(6).
علاقة مناهج المحدثين بتاريخ السنة:
مناهج المحدثين شيء ملازم ومقارن ومصاحب للسنة النبوية في كل أدوارها وجميع مراحلها، فقد كان لأهل كل عصر من عصور السنة، وكل دور من أدوارها مناهجهم الخاصة في خدمة السنة والذب عنها حسبما أملته طبيعة العصر، واقتضته ظروف المرحلة، كما ستقف على ذلك لاحقا بمشيئة الله تعالى.
فوائد دراسة تاريخ السنة ومناهج المحدثين
لدراسة تاريخ السنة ومناهج المحدثين فوائد عديدة،نذكر منها:
1- معرفة المراحل والأدوار التي مرت بها السنة منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى وقتنا هذا.
2- معرفة الدقة المنهجية التي أحاطت بها هذه الأمة رواية أحاديث نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، لتأمن عليه الخطأ والتحريف في أثناء تناقله بين الرواة، الأمر الذي يورثنا الثقة بالسنة، ويجعلنا نطمئن إلى حفظ هذا الدين، تصديقا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة الحجر /9].
3- إمكان الردِّ على دعاة الغزو الفكري من المستشرقين والمبشرين وكل من قلدهم،وسار في فلكهم ممن غرهم بريق الثقافة الغربية، في زعمهم: أن السنة النبوية لا يوثق بها،ولا يعتمد عليها في التشريع الإسلامي بسبب ما طرأ عليها من التحريف والوضع، وذلك ببيان الجهود التي بذلها المحدثون لحماية وصيانة السنة من هذا التحريف والوضع.
4- الإطلاع على منهج المحدثين في التأليف، والتصنيف، والنقد، ومكانة هذا المنهج بين المناهج الحديثة التي يدلُّ بها دعاة المدنية الحاضرة الآن.
5- الوقوف على دقة المنهجية العلمية التي اتبعها علماء الحديث، في الانتقاء والتصنيف، وأنهم لم يوردوا الأحاديث في كتبهم الأصول كيفما اتفق لأحدهم،بل كانوا يضعون نصب أعينهم هدفا، وقواعد يراعونها، فيما عرف بشروط الأئمة.
6- التمييز بين المناهج المقبولة في الرواية وغير المقبولة، وشروط القبول للمقبولة، ولذلك أهميته في مراتب الرواة في الجرح والتعديل، وفي الأسانيد اتصالا وانقطاعا، وفي الأحاديث قبولا أو رداً.
7- التعرف على مناهج المحدثين في اختيار الأحاديث وترتيبها بالنسبة إلى بعضها يفيدنا كثيرا في معرفة الناسخ من المنسوخ،والراجح من المرجوح، وطرق الجمع بين الأحاديث المختلفة، وشرح الغريب، وتمييز المدرج من الحديث وذلك بمقارنة الروايات ببعضها، كما يفيد فوائد فقهية كبيرة تؤخذ من تراجم الأبواب.
8- التعرف على أشهر المحدثين المصنفين، وما لهم من فضل في خدمة الحديث النبوي، وسيرتهم التي هي قدوة للمقتدين.
9- دفع التوهم للقدح في بعض الأئمة، وخصوصا البخاري ومسلما شيخي المحدثين رضي الله عنهم، وهذا يطرح بالتالي قضايا يجب على أهل الاختصاص بالحديث أن يعالجوها ويحلوا مشكلاتها، فقد وقع أناس في الشبهة في أحاديث صححها أئمة الحديث، بسبب البعد عن مناهج المحدثين الفنية في إيراد الحديث وسياق أسانيده وشروطهم، فضلا عن ضعف نفوس البعض، وفضلا عن أغراض العداوة للإسلام وللحديث النبوي، التي تستغلُّ جهل المثقَّف المسلم، بل جهد كثيرين من طلبة العلم وحملته بمناهج المحدثين وشروطهم ومقاصدهم الدقيقة في كتبهم.
10- دراسة مناهج المحدثين تساعد على تنمية التفكير العلمي والمنهج لدى الدراس، وتكسب الدراس مهارة في البحث، وتوجد عنده روح الإبداع والرغبة في التطوير وفق أسس علمية مدروسة ومناهج دقيقة(7).
أهم المصنفات في تاريخ السنة ومناهج المحدثين
لا يوجد في المصنفات القديمة مصنف يجمع بين دفتيه جميع المسائل المتصلة بتاريخ السنة ومناهج المحدثين، وإنما توجد مسائل متفرقة ومتناثرة لهذا العلم عولجت من خلال:
1- حديث المؤلف عن منهجه في كتابه في مقدمة كتابه كما في صحيح مسلم، أو ختامه كما في علل الترمذي الصغير الموجود في آخر سننه، أو في بحث مفرد كما في رسالة أبي داود لأهل مكة.
2- الكتابة عن شروط الأئمة في كتبهم، ككتاب " شروط الأئمة " لابن منده(395 هـ) وكتاب " شروط الأئمة الستة " للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي(507هـ) وكتاب " شروط الأئمة الخمسة " للإمام أبي بكر محمد بن موسى الحازمي(584هـ).
3- الكتابة عن خصائص بعض الكتب وختمها، ككتاب(خصائص المسند) للحافظ أبي موسى المديني(581 هـ) وكتاب(المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد) للإمام الجزري(832 هـ) وكتاب (عمدة القارئ والسامع في ختم الصحيح الجامع) للإمام السخاوي (902هـ) وكتاب (بغية الراغب المتمنى في ختم النسائي رواية ابن السني) للسخاوي أيضا.
4- مقدمات الشروح التي كتبت على كتب الحديث، مثل: (هدى الساري مقدمة فتح الباري) للحافظ ابن حجر العسقلاني، ومقدمة (فتح الملهم شرح صحيح مسلم) للشيخ شبير أحمد العثماني، ومقدمة (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي) للمباركفوري، وهي مقدمات فياضة.
5- بحوث في مصادر علوم الحديث، لمناسبة التعريف بكتاب من كتب الحديث المهمة الستة أو غيرها، حين يأتي ذكره في هذا المؤلف، كما في (علوم الحديث) لابن الصلاح، والنكت عليه للحافظ ابن حجر، وكتاب (فتح المغيث) للسخاوي، و (تدريب الراوي) للسيوطي.
ثم جاء العصر الحديث فرأى العلماء مسيس الحاجة إلى التعريف بأئمة الحديث ومناهجهم في مؤلفاتهم تعريفا للعالمَ بعظمة الجهود التي بذلها العلماء الأئمة لحفظ الحديث النبوي، وصيانة السنة، وتمييز صحيحها من سقيمها، فكانت الكتابات المتعددة في هذا المجال، منها ما يتعلق بمناهج المحدثين على وجه العموم، ومنها ما يتعلق بمنهج بعض كتب السنة، ومنها ما يتعلق بمنهج المحدثين في فترة زمنية معينة وهكذا ومن أهم هذه الكتب:
1- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للشيخ الكتاني.
2- الحطة في ذكر الصحاح الستة للقنوجي.
3- الحديث والمحدثون، للشيخ محمد أبو زهو.
4- أعلام المحدثين. للشيخ محمد أبي شهبة.
5- البخاري محدثا وفقيها، للدكتور الحسيني هاشم.
6- أئمة الحديث النبوي، للدكتور الحسيني هاشم.
7- جامع الترمذي والموازنة بينه وبين الصحيحين، للدكتور نور الدين عتر.
8- سنن أبي داود السجستاني، للدكتور عبد المنعم نجم.
9- سنن الدارمي، للدكتور محمد عويضة.
10- مصنف عبدالرزاق، للدكتور إسماعيل الدفتار.
11- الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين للدكتور أحمد محرم الشيخ ناجي.
12- مكانة الصحيحين، للدكتور خليل ملا خاطر.
13- السنة قبل التدوين، للدكتور محمد عجاج الخطيب.
14- تدوين الحديث، للعلامة السيد مناظر أحسن الكيلاني.
15- الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه، للدكتور محمد عبد الرحمن طوالبة.
16- توثيق السنة في القرن الثاني الهجري، أسسه واتجاهاته، للدكتور رفعت فوزي.
17- السنة النبوية وعلومها، دراسة تحليلية للسنة النبوية وعلومها في أعظم عصور التدوين، للدكتور أحمد عمر هاشم.
18- صحائف الصحابة وتدوين السنة النبوية المشرفة، لأحمد عبد الرحمن الصويان.
19- السنة النبوية، مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها. للدكتور عبد المهدي عبد الهادي.
20- شفاء الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين للدكتور السيد نوح.
ــــــــــــــ
أطوارُ تاريخ السنة
عاشت السنة النبوية منذ صدرت عن صاحب الرسالة - صلى الله عليه وسلم - إلى أن وصلت إلينا - نحن المتأخرين - عدة عصور مختلفة، وهاك تأريخاً دقيقا لكل عصر من هذه العصور المختلفة وذلك على النحو التالي:
السنة في عصر النبوة:
لقيت السنة النبوية في عصر النبوة عناية تامة،واهتماما كبيرا،بحيث أثمر ذلك أموراً ثلاثة:
الأول: الصيانة والحفظ: على معنى أن السنة جمعت في عهده - صلى الله عليه وسلم - وحوفظ عليها، بحيث لم يضع منها شيء أبدا.
الثاني: الذيوع والانتشار: على معنى أنها لم تنحصر في مكان بعينه كالمدينة أو مكة مثلا،وإنما انتشرت في سائر أنحاء شبه الجزيرة العربية بل تعدت شبه الجزيرة العربية إلى سائر الأقطار الأخرى التي وصل إليها الإسلام
الثالث: تأسيس المنهج العلمي للرواية.
وقد كانت هناك عوامل ساعدت على تحقيق هذه الأمور،وهذا ما سنتناوله بشيء من التحليل والتفصيل.
أولا:عوامل صيانة السنة وحفظها:
إن عوامل صيانة السنة وحفظها هي بعينها تلك العوامل اللازمة لنجاح أية تجربة علمية، فنجاح أية تجربة علمية يحتاج - كما يقرر التربويون،وعلماء النفس -فضلا عن الإمكانيات المادية: إلى ثمانية عوامل، أربعة منها في المعلم وهي:
1- أن يكون على درجة عالية من الأخلاق بحيث يقترب الطلاب منه فيتمكن من غرس الفضيلة في نفوسهم بفعله وسلوكه، قبل أن يغرسها فيهم بقوله وكلامه.
2- وأن يكون متمكنا من مادته العلمية، بحيث يستطيع أن يعطي الطلاب التصور الصحيح لها، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه.
3- وأن يكون محبًّا لمادته العلمية، مخلصا لها،بحيث يضحي- في سبيلها -بوقته وراحته.
4- وأن يكون ذا منهج صحيح في التربية والتعليم، كيلا يضيع الوقت سدى.
وواحدة منها في المادة العلمية، وهي:
5- أن تكون مثمرة، ومفيدة، ومهمة في حياة الفرد والجماعة.
وثلاثة منها في الطالب، وهي:
6- أن يدرك أهمية، وفائدة، وثمرة ما يتعلمه،ليقبل عليه بهمه ونشاط.
7- وأن تكون هناك مشاركة عامة من جميع أبناء المجتمع - رجالا، ونساء، صغاراً وكباراً - في طلب العلم.
8- وأن يكون هذا الطالب صاحب منهج صحيح في التلقي، والسماع، ليعي، ويحفظ كل ما يصل إلى سمعه.
هذه العوامل بعينها توافرت للسنة في عصر النبوة،وبالتالي ساعدت على حفظها وصيانتها.(8)
أما العامل الأول: وهو أن يكون المعلم على درجة عالية من الأخلاق، بحيث يقترب الطلاب منه،فيتمكن من غرس الفضيلة في نفوسهم بفعله وسلوكه قبل أن يغرسها فيهم بقوله وكلامه - فقد تمثل بصورة واضحة، وجلية في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وحسبنا في ذلك ثناء الله عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ سورة القلم/ 4 ]. وقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [ سورة آل عمران / 159 ].
وقد وصفه المحيطون به من أصحابه وغيرهم:بأنه - - صلى الله عليه وسلم - - كان على درجة عالية من الأخلاق.
عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِىَّ يَقُولُ سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَلاَ صَخَّابًا فِى الأَسْوَاقِ وَلاَ يَجْزِى بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ..(9)
وقال سعد بن هشام بن عامر: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِى عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَتْ أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قُلْتُ بَلَى. قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِىِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْقُرْآنَ.)(10).
وعن أبي الدرداء قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (كان خلقه القرآن، يرضي لرضاه، ويسخط لسخطه)(11).
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا ، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ ، إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا .(12).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »(13).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا فَرُبَّمَا تَحْضُرُ الصَّلاَةُ وَهْوَ فِى بَيْتِنَا فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ ثُمَّ يُنْضَحُ ثُمَّ يَؤُمُّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا وَكَانَ بِسَاطُهُمْ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ..(14)
وهكذا دفعت هذه الأخلاق الكريمة الصحابة أن يقتربوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيحفظوا كل ما يصدر عنه ليقتدوا وليتأسوا به.
--------------
وأما العاملُ الثاني: وهو أن يكون المعلم متمكنا من مادته العلمية بحيث يستطيع أن يعطي الطلاب التصور الصحيح لها .
وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه، فقد تمثل بجلاء ووضوح أيضا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان المرجع الأول للمسلمين في أحكام القرآن، وفي سائر تعاليم الإسلام، وفي تاريخ الأمم الغابرة، بل وفي معارف أهل الكتاب.
وكيف لا يكون كذلك، والله عز وجل هو الذي صنعه على عينه، وهو الذي علمه، فقال: (.... وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). [ سورة النساء /113 ].
بل كلُّ ما كان يصدرُ عنه - صلى الله عليه وسلم - في الرضى والغضب حقٌّ ، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ عَن ذَلِكَ وقَالُوا : تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَكَلَّمُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ قَالَ : فَأَمْسَكْت فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى فِيهِ فَقَالَ : اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ : مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلاَّ حَقٌّ.(15)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَكْتُبُ مِنْكَ مَا أَسْمَعُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا قُلْتَ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَإِنِّي لاَ أَقُولُ فِي ذَلِكَ كَلِمَةً إِلاَّ الْحَقَّ.(16)
------------------
وأما العامل الثالث: وهو أن يكون المعلم محبا لمادته العلمية، مخلصا لها، بحيث يضحي في سبيل نشرها بوقته وراحته:
فقد تمثل فيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا على نحو لا نظير له في دنيا الناس ولا مثيل، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - محبا لرسالته، متفانيا في سبيل نشرها إلى حد أنه عرضت عليه كل وسائل الإغراء من ملك، وسيادة، ومال، على أن يترك هذه الدعوة فأبى، وإلى حد أن عمه أبا طالب طلب منه تحت ضغوط أهل مكة أن يترك هذا الأمر، وإلا تخلى عن حمايته ونصرته، فلم يستجب لهذا الطلب، وقال قولته المشهورة: (" وَاللَّهِ مَا أَنَا بِأَقْدَرَ أَنْ أَدَعَ مَا بُعِثْتُ بِهِ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ أَحَدُكُمْ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ " . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : وَاللَّهِ مَا كَذَبَ ابْنُ أَخِي قَطُّ ، ارْجِعُوا رَاشِدِينَ)(17).
__________
(1) - المعجم الوسيط (1/13).
(2) - الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 7.
(3) - انظر : مفتاح السنة للخولي ص 5-6.
(4) - انظر : النهاية في غريب الحديث (4/185)، مختار الصحاح ص 681.
(5) - انظر : مناهج المحدثين العامة للدكتور نور الدين عتر ص 9-10، مناهج المحدثين العامة والخاصة للدكتور علي بقاعي ص 20.
(6) - انظر: مناهج المحدثين العامة ص 10،40.
(7) - انظر: مناهج المحدثين العامة للدكتور نور الدين عتر ص 22-23، شفاء الصدور للدكتور السيد نوح ص 30، مناهج المحدثين العامة والخاصة للدكتور علي بقاعي ص 20-23.
(8) - شفاء الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين ص 159-161.
(9) - سنن الترمذى (2148 ) صحيح
الصخاب : الصخب الصياح والجلبة وشدة الصوت واختلاطه
(10) - مسلم (1773 )
(11) - دلائل النبوة للبيهقي(244 ) ومشكل الآثار للطحاوي (3792 ) حسن
السخط : الغضب أو كراهية الشيء وعدم الرضا به
(12) - صحيح البخارى (3560 )
(13) - صحيح البخارى (3559 )
(14) - صحيح مسلم (1532 )
(15) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 9 / ص 49)(26957) صحيح
(16) - مسند البزار (2470) صحيح
(17) - المعجم الأوسط للطبراني(8791 ) ومجمع الزوائد (9809)رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ .... وَأَبُو يَعْلَى بِاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَرِجَالُ أَبِي يَعْلَى رِجَالُ الصَّحِيحِ .(1/10)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى قَالَ قُلْتُ لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشاً أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ. قَالَ حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْماً فِى الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلاَمَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ. أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَ يَمْشِى حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفاً بِالْبَيْتِ فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ. قَالَ فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ « تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ». فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَئُوهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ انْصَرِفْ رَاشِداً فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولاً. قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِى الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ فَبَيْنَمَا هُمْ فِى ذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِى تَقُولُ كَذَا وَكَذَا. لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ قَالَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ أَنَا الَّذِى أَقُولُ ذَلِكَ ». قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ. قَالَ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِى ( أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ) . ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشاً بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.(1)
وفي حديث الحديبية قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ( لعروة بن مسعود ) : إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا أَنْ نَقْضِيَ عُمْرَتَنَا وَنَنْحَرَ هَدْيَنَا ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَأْتِيَ قَوْمَكَ ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ قَتَبٍ ، وَإِنَّ الْحَرْبَ قَدْ أَخَافَتْهُمْ ، وَإِنَّهُ لاَ خَيْرَ لَهُمْ أََنْ تَأْكُلَ الْحَرْبُ مِنْهُمْ إِلاَّ مَا قَدْ أَكَلَتْ ، فَيُخَلُّونَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ ، فَنَقْضِي عُمْرَتَنَا وَنَنْحَرُ هَدْيَنَا ، وَيَجْعَلُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مُدَّةً ، نُزِيلُ فِيهَا نِسَاءَهُمْ وَيَأْمَنُ فِيهَا سَرْبُهُمْ ، وَيُخَلُّونَ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَإِنِّي وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ عَلَى هَذَا الأَمْرِ الأَحْمَرَ وَالأَسْوَدَ حَتَّى يُظْهِرَنِي اللَّهُ ، أَوْ تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي ، فَإِنْ أَصَابَنِي النَّاسُ فَذَاكَ الَّذِي يُرِيدُونَ ، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمَ اخْتَارُوا ؛ إِمَّا قَاتَلُوا مُعَدِّينَ ، وَإِمَّا دَخَلُوا فِي السِّلْمِ وَافِرِينَ.(2)
وهكذا ظل - صلى الله عليه وسلم - مواظبا على الجد، والاجتهاد في نشر هذه الدعوة، وتبليغها للناس، حتى تمت كلمة ربه الحسنى، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
-------------------
وأما العامل الرابع: وهو أن يكون المعلم ذا منهج سليم في التربية والتعليم، كيلا يضيع الوقت هباء (أو سدى)
فقد تحقق فيه - صلى الله عليه وسلم - بصورة جعلت التربويين في العصر الحديث يحاكونها، وينسجون على منوالها.بل كان - صلى الله عليه وسلم - أعظم مربٍّ في الأرض .
وقد قام هذا المنهج على الأسس التالية:
1- الترغيب في العلم، والحث عليه: ببيان فضله، وفضل العلماء والمتعلمين.
إذ يقول - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ .. »(3)..
ويقول: « مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِى جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ».(4).
وفي رواية أخرى: « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ».(5).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ: « لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهْوَ يُهْلِكُهُ فِى الْحَقِّ فَقَالَ رَجُلٌ لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلاَنٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ»(6).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّى أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ . قَالَ « ابْسُطْ رِدَاءَكَ » فَبَسَطْتُهُ . قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ « ضُمُّهُ » فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ .(7)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِى كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ، ثُمَّ يَتْلُو ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ) إِلَى قَوْلِهِ ( الرَّحِيمُ ) إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ ، وِإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْعَمَلُ فِى أَمْوَالِهِمْ ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ .(8)
إلى آخر ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن.
2- تعهدهم بالعلم والموعظة بين الحين والحين مخافة أن يسأموا أو يملوا.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأَيَّامِ ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"(9).
وعَنْ شَقِيقٍ أَبِى وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُنَا كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ وَنَشْتَهِيهِ وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. فَقَالَ مَا يَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ إِلاَّ كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِى الأَيَّامِ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.(10)
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِىِّ وَحُجْرِ بْنِ حُجْرٍ قَالاَ :أَتَيْنَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ الْعِرْبَاضُ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا فَقَالَ « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ».(11)
3- مخاطبةُ كل قوم بلهجتهم حتى يفهموا ويعوا عنه - صلى الله عليه وسلم - :
عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِىِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ السَّقِيفَةِ - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَيْسَ مِنْ أَمْبِرِّ أَمْصِيَامُ فِى أَمْسَفَرِ »(12)
يريد ليس من البر الصيام في السفر، فأبدل اللام ميما على لغة الأشعريين من أهل اليمن.
4- إعادة كل كلمة ثلاثا حتى تفهم عنه - - صلى الله عليه وسلم - -وتحفظ:
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاَثًا ، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا.(13)
5- الفصلُ بين كلمة وأخرى كيلا يقع تحريف أو تغيير في المنقول عنه - - صلى الله عليه وسلم - -.
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِى يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يُسْمِعُنِى ذَلِكَ وَكُنْتُ أُسَبِّحُ فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِىَ سُبْحَتِى وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ.(14)
وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ .(15)
6- إقناع السائل: أحيانا بالقياس، وأحيانا بضرب المثل.
فمن الأول: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِى وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ . فَقَالَ « هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ » . قَالَ نَعَمْ . قَالَ « مَا أَلْوَانُهَا » . قَالَ حُمْرٌ . قَالَ « فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ » . قَالَ نَعَمْ . قَالَ « فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ » قَالَ أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ . قَالَ « فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ »(16).
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَبِكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً ». قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِى الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ وَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ».(17)
ومن الثاني: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». قَالَ فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ « لاَ تَسْتَطِيعُونَهُ ». وَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ « مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلاَ صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ».(18)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ » .
قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « مَا يَسُرُّنِى أَنَّ عِنْدِى مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا ، تَمْضِى عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ ، إِلاَّ شَيْئًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِى عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا » . عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ . ثُمَّ مَشَى فَقَالَ « إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ - وَقَلِيلٌ مَا هُمْ » . ثُمَّ قَالَ لِى « مَكَانَكَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » . ثُمَّ انْطَلَقَ فِى سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِى « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ » فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِى ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ ، فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ « وَهَلْ سَمِعْتَهُ » . قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ « ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِى فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ » . قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ « وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ » .(19)
وعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ قَالَ َمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلاَ أَعْلاَهَا ثُمَّ نَادَى أَوْ قَالَ « يَا آلَ عَبْدِ مَنَافَاهُ إِنِّى نَذِيرٌ إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ يُنَادِى أَوْ قَالَ يَهْتِفُ يَا صَبَاحَاهُ »(20).
7- الرفقُ والرحمة بالطلاب، والتيسير عليهم:
وقصته - صلى الله عليه وسلم - مع الأعرابي الذي بال في المسجد مشهورة، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِى الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَهْ مَهْ. قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ ». فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَىْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ إِنَّمَا هِىَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ». أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.(21).
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا قَالَ فَذَلِكُمْ مَثَلِى وَمَثَلُكُمْ أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ فَتَغْلِبُونِى تَقَحَّمُونَ فِيهَا »(22).
وعن حُمَيْدِ بْنِ أَبِى حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّى أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبَدًا . وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ . وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا . فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّى لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّى أَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وَأُصَلِّى وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى »(23).
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّى أَقُولُ وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ ، مَا عِشْتُ . فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى . قَالَ « فَإِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ، فَصُمْ وَ أَفْطِرْ ، وَقُمْ وَنَمْ ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ » . قُلْتُ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ « فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ » . قُلْتُ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ « فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا ، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَهْوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ ».
فَقُلْتُ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ »(24).
8- استعمالُ العبارات الرقيقة التي تستميلُ القلوب وتؤلفها، وترغبها في التعلم والتنفيذ والتطبيق.
__________
(1) - مسند أحمد (7233) صحيح يرفئوه : يسكنوا ويرفقوا ويدعوا
(2) - مصنف ابن أبي شيبة (235) - (ج 14 / ص 429)(37994) مطولا وهو صحيح
(3) - صحيح البخارى(71 ) ومسلم (2436 )
(4) - سنن أبى داود (3643 ) صحيح
(5) - صحيح مسلم (7028 )
(6) - صحيح البخارى (5026 )
(7) - صحيح البخارى(119 )
(8) - صحيح البخارى (118 ) الصفق : التبايع
(9) - صحيح البخارى (68 )
معنى يتخولنا بالموعظة أي: يتعهدنا من قولهم فلان خائل مال، وهو الذي يصلحه ويقوم به، ويتعهده، انظر النهاية 2/6، وفتح الباري لابن حجر 1/162-163.
(10) - صحيح مسلم(7307 ) يتخول : يتعاهد السآمة : الملل والضجر
(11) - سنن أبى داود(4609 ) صحيح النواجذ : جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس
(12) - مسند أحمد (24399) صحيح
(13) - صحيح البخارى (94 )
(14) - صحيح مسلم (6554 )-أسبح : أصلى صلاة تطوع
(15) - صحيح البخارى (3567 )
(16) - صحيح البخارى(6847 ) ومسلم (3839 ) الأورق : الأسمر
(17) - مسند أحمد (22090) صحيح لغيره الدثور : جمع دثر وهو المال العظيم
(18) - صحيح مسلم(4977 )
(19) - صحيح البخارى(6444 )
(20) - مسند أحمد (16334)صحيح
يربأ : يحفظ من العدو الرضمة : صخور عظام بعضها فوق بعض
(21) - صحيح البخارى (6128 ) و صحيح مسلم (687) والفظ له
شن : صبه صبا متقطعا
(22) - صحيح مسلم (6097 ) -الحجز : جمع حجزة وهى معقد الإزار والسراويل
(23) - صحيح البخارى (5063 )
(24) - صحيح البخارى (1976 )(1/11)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْخَلاَءِ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا وَلاَ يَسْتَنْجِ بِيَمِينِهِ » وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ..(1)
وعن وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِى سَلَمَةَ يَقُولُ كُنْتُ غُلاَمًا فِى حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ » . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ(2).
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ « يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ ». فَقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ».(3)
9- التوقف عن الفتوى فيما لا يعلم جوابه - - صلى الله عليه وسلم - - من المسائل:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ « الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ » . قَالَ مَا الإِسْلاَمُ قَالَ « الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ » . قَالَ مَا الإِحْسَانُ قَالَ « أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ » . قَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ « مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ ، فِى خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ » . ثُمَّ تَلاَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) الآيَةَ . ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ « رُدُّوهُ » . فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا . فَقَالَ « هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ »(4).
10- طرحُ بعض المسائل على السامعين بغية استثارة قرائحهم، وشحذ أذهانهم.أو بيان معنى جديد غير معروف لديهم .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا ، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ ، فَحَدِّثُونِى مَا هِىَ » . فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ الْبَوَادِى . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَوَقَعَ فِى نَفْسِى أَنَّهَا النَّخْلَةُ ، فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا حَدِّثْنَا مَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « هِىَ النَّخْلَةُ » .(5).
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ».
قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ.
فَقَالَ : « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ ».(6)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - رضى الله عنه - قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ « أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَقَالَ « قَالَ اللَّهُ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِى مُؤْمِنٌ بِى وَكَافِرٌ بِى ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَبِرِزْقِ اللَّهِ وَبِفَضْلِ اللَّهِ . فَهْوَ مُؤْمِنٌ بِى ، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا . فَهْوَ مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ ، كَافِرٌ بِى »(7).
11- تخصيصُ بعض الناس بمسائل من العلم دون الآخرين، لما يرى فيهم من النبوغ، والتقدم، والفهم مع منعهم من أن يحدثوا العامة بذلك خشية ألا يفهموا فيفتتنوا.
عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ « يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . قَالَ « يَا مُعَاذُ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . ثَلاَثًا .
قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ « إِذًا يَتَّكِلُوا » . وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا .(8).
12- إرشادُ السائل إلى ما ينبغي أن يسأل عنه، بجوابه بما لا يتفق مع السؤال.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فَحَذَّرَ النَّاسَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى وَجْهِهِ فَقُلْنَا لَهُ اقْعُدْ فَإِنَّكَ قَدْ سَأَلْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ما يَكْرَهُ. قَالَ ثُمَّ قَامَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ فَبَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى وَجْهِهِ أَشَدَّ مِنَ الأُولَى قَالَ فَأَجْلَسْنَاهُ قَالَ ثُمَّ قَامَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَيْحَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا ». قَالَ أَعْدَدْتُ لَهَا حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اجْلِسْ فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ».(9).
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا لم يجبه عن موعد الساعة، لأن ذلك غيب، وإنما لفت نظره إلى أنه ينبغي أن يسأل عما ينجي من أهوال الساعة، فذلك هو ما يجب أن يهتم به العقلاء جميعا.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ». فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ - ثُمَّ قَالَ - ذَرُونِى مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَىْءٍ فَدَعُوهُ ».(10)
13- إجابة السائل عما سأل، وزيادة أمور أخرى لها صلة بسؤاله، يستعرض له في المستقبل وربما تعطله، فيجيبه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك كله توفيرا لجهده ووقته.
فقد جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ ، وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ ".(11)
14-دوامُ الجلوس مع أصحابه - - صلى الله عليه وسلم - ، ورضي الله عنهم - لاسيما الفقراء والمساكين، وهذا وحده كاف في التربية والتعليم.
فقد قال الله عز وجل لنبيه: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) [ سورة الكهف /28] .
عَنْ خَبَّابٍ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ) إِلَى قَوْلِهِ (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) قَالَ جَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِىُّ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ صُهَيْبٍ وَبِلاَلٍ وَعَمَّارٍ وَخَبَّابٍ قَاعِدًا فِى نَاسٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَقَرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ وَقَالُوا إِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِى أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَذِهِ الأَعْبُدِ فَإِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنْكَ فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ. قَالَ « نَعَمْ ». قَالُوا فَاكْتُبْ لَنَا عَلَيْكَ كِتَابًا. قَالَ فَدَعَا بِصَحِيفَةٍ وَدَعَا عَلِيًّا لِيَكْتُبَ وَنَحْنُ قُعُودٌ فِى نَاحِيَةٍ فَنَزَلَ جِبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ثُمَّ ذَكَرَ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ فَقَالَ ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ). ثُمَّ قَالَ (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ). قَالَ فَدَنَوْنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِسُ مَعَنَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومُ قَامَ وَتَرَكَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) وَلاَ تُجَالِسِ الأَشْرَافَ ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) - يَعْنِى عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعَ - ( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) - قَالَ هَلاَكًا - قَالَ أَمْرُ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ. ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلَ الرَّجُلَيْنِ وَمَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. قَالَ خَبَّابٌ فَكُنَّا نَقْعُدُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا بَلَغْنَا السَّاعَةَ الَّتِى يَقُومُ فِيهَا قُمْنَا وَتَرَكْنَاهُ حَتَّى يَقُومَ.(12)
15- من خلال الحوار بينه وبين أصحابه :
عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، جَالِسٌ وَحْدَهُ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّ لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةً ، وَإِنَّ تَحِيَّتَهُ رَكْعَتَانِ ، فَقُمْ فَارْكَعْهُمَا ، قَالَ : فَقُمْتُ فَرَكَعْتُهُمَا ، ثُمَّ عُدْتُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ ، فَمَا الصَّلاَةُ ؟ قَالَ : خَيْرُ مَوْضُوعٍ ، اسْتَكْثِرْ أَوِ اسْتَقِلَّ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إِيمَانٌ بِاللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا ؟ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَسْلَمُ ؟ قَالَ : مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الصَّلاَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : طُولُ الْقُنُوتِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا الصِّيَامُ ؟ قَالَ : فَرْضٌ مُجْزِئٌ ، وَعِنْدَ اللهِ أَضْعَافٌ كَثِيرَةٌ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ ، وَأُهْرِيقَ دَمُهُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : جَهْدُ الْمُقِلِّ يُسَرُّ إِلَى فَقِيرٍ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَيُّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : آيَةُ الْكُرْسِيِّ ثُمَّ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ مَعَ الْكُرْسِيِّ إِلاَّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلاَةٍ وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلاَةِ عَلَى الْحَلْقَةِ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمِ الأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ : مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمِ الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : ثَلاَثُ مِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَنْ كَانَ أَوَّلُهُمْ ؟ قَالَ : آدَمُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَكَلَّمَهُ قِبَلاً ثُمَّ ، قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ : آدَمُ ، وَشِيثُ ، وَأَخْنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ ، وَنُوحٌ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ : هُودٌ ، وَشُعَيْبٌ ، وَصَالِحٌ ، وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ؟ قَالَ : مِائَةُ كِتَابٍ ، وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ ، أُنْزِلَ عَلَى شِيثٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً ، وَأُنْزِلَ عَلَى أَخْنُوخَ ثَلاَثُونَ صَحِيفَةً ، وَأُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَشَرُ صَحَائِفَ ، وَأُنْزِلَ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشَرُ صَحَائِفَ ، وَأُنْزِلَ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْقُرْآنُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا كَانَتْ صَحِيفَةُ إِبْرَاهِيمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّهَا : أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ ، إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلَكِنِّي بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مِنْ كَافِرٍ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ : سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةٌ يَتَفَكَّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللهِ ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُونَ ظَاعِنًا إِلاَّ لِثَلاَثٍ : تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ ، مُقْبِلاً عَلَى شَأْنِهِ ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ ، وَمَنْ حَسَبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ ، قَلَّ كَلاَمُهُ إِلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى ؟ قَالَ : كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا : عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ ، ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ ، ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ ، عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا ، ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ ، وَذِكْرِ اللهِ ، فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ ، وَذُخْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي : قَالَ : إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ ، فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ ، فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ ، وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : أَحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَجَالِسْهُمْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي ، قَالَ : انْظُرْ إِلَى مَنْ تَحْتَكَ وَلاَ تَنْظُرْ إِلَى مَنْ فَوْقَكَ ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تُزْدَرَى نِعْمَةُ اللهِ عِنْدَكَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي ، قَالَ : قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي ، قَالَ : لِيَرُدَّكَ عَنِ النَّاسِ مَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِكَ وَلاَ تَجِدْ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ، وَكَفَى بِكَ عَيْبًا أَنْ تَعْرِفَ مِنَ النَّاسِ مَا تَجْهَلُ مِنْ نَفْسِكَ ، أَوْ تَجِدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَأْتِي ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى صَدْرِي ، فقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ لاَ عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ ، وَلاَ وَرَعَ كَالْكَفِّ ، وَلاَ حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ.(13)
ذلكم هو منهجه - صلى الله عليه وسلم - في التربية والتعليم،وقد أثمر ذلك حفظا وصيانة لكل ما يتصل بحياته - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال، والأفعال، والتقريرات، والصفات ونحوها.
----------------
العامل الخامس: وهو أن تكون المادة العلمية نافعة ومفيدة في حياة الفرد والجماعة، كي يكون هناك حماس يدفع إلى التضحية وتحمل المشاق في سبيل تحصيلها
فقد انطبق على السنة النبوية تمام الانطباق:
• إذ هي مثل القرآن، وصنوه في التشريع، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)(14).
• وهي أيضا المفسرة، والمبينة، والشارحة للقرآن مصداقا لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة النحل /44-64].
• وهي كذلك تستقل بتشريع أحكام زائدة على القرآن، مصداقا لقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [سورة النساء / 59].
وقوله: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). [سورة الحشر /7].
__________
(1) - سنن النسائى (40 ) حسن
الرمة : العظم البالى الروث : رجيع ذى الحافر
(2) - صحيح البخارى (5376 )
(3) - سنن أبى داود (1524) صحيح
(4) - صحيح البخارى(50 )
(5) - صحيح البخارى (61 )
(6) - صحيح مسلم (6744 )
(7) - صحيح البخارى(4147 )
(8) - صحيح البخارى(128 )
(9) - مسند أحمد (13040) صحيح وأصله في الصحيحين
بسر : قطب
(10) - صحيح مسلم(3321 )
(11) - صحيح البخارى(1542) -البرانس : جمع البرنس وهو كل ثوب رأسه منه ملتصق به من أدراعه
(12) - سنن ابن ماجه (4266 ) حسن
(13) - صحيح ابن حبان - (ج 2 / ص 76)(361) وحم 5/266 و طب 8/259 و مجمع 2/159 و 160 والمطالب (3454) و ابن كثير 2/424 و بداية 1/97 و طخ 1/151 و هق 9/4 وهو حسن لغيره ، وقد أفردته في كتاب وشرحته
(14) - مسند أحمد (17637) صحيح(1/12)
ومصداقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ يَنْثَنِى شَبْعَاناً عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِىِّ وَلاَ كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ أَلاَ وَلاَ لُقَطَةٌ مِنْ مَالِ مُعَاهِدٍ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِىَ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُمْ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُمْ فَلَهُمْ أَنْ يُعْقِبُوهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُمْ ».(1).
وعَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِىِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فَقَالَ « يَا غُلاَمُ إِنِّى أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَىْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَىْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ».(2)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - :« يَا مُعَاذُ أَتَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ » . قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ :« أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، أَتَدْرِى مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ » . قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ :« أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ ».(3)
----------------
وأمَّا العامل السادس: وهو أن يدرك الطالب أهمية، وفائدة ما يتعلمه ليقبل على التعليم بهمة ونشاط، مستعذبا التعب، ومستسهلا الصعب
فقد تحقق بجلاء، ووضوح في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
• إذا كانت تقع لهم حوادث خاصة في أنفسهم، أو في أهليهم، وذويهم ويبحثون عن المخرج،فلا يجدون سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ « وَمَا أَهْلَكَكَ ». قَالَ حَوَّلْتُ رَحْلِى اللَّيْلَةَ.(4)قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحِيضَةَ.(5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِىِّ رضى الله عنهما قَالاَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ صَدَقَ ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَ الأَعْرَابِىُّ إِنَّ ابْنِى كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ ، فَقَالُوا لِى عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ . فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ ، فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ - لِرَجُلٍ - فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا » . فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا .(6)
• وأيضا فالحق تبارك وتعالى أمرهم بالرجوع إليه في كل شيء، وحذر من معصيته ومخالفته قائلا: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [سورة آل عمران /31]. وقال تعالى :( فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة النور: 63].
---------------
العامل السابع: وهو أن تكون هناك مشاركة عامة من الجميع رجالا ونساءاً، صغارا، وكباراً في طلب العلم
فقد تجلَّى بوضوح في مشاركة النساء للرجال في هذا الأمر .
إذ كانت المرأةُ تأتي فتسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمور التي تتصل بحياتها، فيجيبها، فإذا لم تفهم أحالها إلى واحدة من أمهات المؤمنين،لتتولى تفهيمها.
فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ قَالَ « خُذِى فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ أَتَطَهَّرُ قَالَ « تَطَهَّرِى بِهَا » . قَالَتْ كَيْفَ قَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِى » . فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ فَقُلْتُ تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ ..(7)
بل لقد طلبت جماعة النساء منه - صلى الله عليه وسلم - :أن يجعل لهن يوما خاصا بهن في الموعظة، فأجابهن إلى ذلك:
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ جَاءَ نِسْوَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقْدِرُ عَلَيْكَ فِى مَجْلِسِكَ مِنَ الرِّجَالِ فَوَاعِدْنَا مِنْكَ يَوْماً نَأْتِيكَ فِيهِ. قَالَ « مَوْعِدُكُنَّ بَيْتُ فُلاَنٍ ». وَأَتَاهُنَّ فِى ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلِذَلِكَ الْمَوْعِدِ - قَالَ - فَكَانَ مِمَّا قَالَ لَهُنَّ يَعْنِى « مَا مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ ثَلاَثاً مِنَ الْوَلَدِ تَحْتَسِبُهُنَّ إِلاَّ دَخَلْتِ الْجَنَّةَ ». فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ أَوِ اثْنَانِ قَالَ « أَوِ اثْنَانِ ».(8).
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ ، يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ . فَقَالَ :« اجْتَمِعْنَ فِى يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا » . فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ :« مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً ، إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ » . فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ اثْنَيْنِ قَالَ فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: « وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ» .(9)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا لاَ نُذْكَرُ فِى الْقُرْآنِ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ قَالَتْ فَلَمْ يَرُعْنِى مِنْهُ يَوْماً إِلاَّ وَنِدَاؤُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ». قَالَتْ وَأَنَا أُسَرِّحُ رَأْسِى فَلَفَفْتُ شَعْرِى ثُمَّ دَنَوْتُ مِنَ الْبَابِ فَجَعَلْتُ سَمْعِى عِنْدَ الْجَرِيدِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (35) سورة الأحزاب.(10)
و عن أسماء بنت يزيد الأنصارية من بني عبد الأشهل ، أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أصحابه ، فقالت : بأبي أنت وأمي ، إني وافدة النساء إليك ، واعلم - نفسي لك الفداء - أما إنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي ، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلاهك الذي أرسلك ، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات ، قواعد بيوتكم ، ومقضى شهواتكم ، وحاملات أولادكم ، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، والحج بعد الحج ، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله ، وإن الرجل منكم إذا أخرج حاجا أو معتمرا ومرابطا حفظنا لكم أموالكم ، وغزلنا لكم أثوابا ، وربينا لكم أولادكم ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله ؟ قال : فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه بوجهه كله ، ثم قال : « هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه ؟ » فقالوا : يا رسول الله ، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها ، ثم قال لها : « انصرفي أيتها المرأة ، وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها ، وطلبها مرضاته ، واتباعها موافقته تعدل ذلك كله » قال : فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا"(11)
-------------------
وأما العاملُ الثامن: وهو أن يكون الطالب ذا منهج صحيح في التلقي والسماع - فقد تحقق كذلك في الصحابة - رضي الله عنهم - بشكل لا نظير له.
وقام هذا المنهج على الأسس التالية:
1- الحرص الشديد على حضور مجلسه - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعاشية من الرعي، أو التجارة، أو الزراعة، أو نحوها، فإن تعذر على بعضهم الحضور تناوبوا فيما بينهم مجلسه - صلى الله عليه وسلم - .
فعَنْ عُمَرَ قَالَ كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِى مِنَ الأَنْصَارِ فِى بَنِى أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهْىَ مِنْ عَوَالِى الْمَدِينَةِ ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْىِ وَغَيْرِهِ ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَنَزَلَ صَاحِبِى الأَنْصَارِىُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ ، فَضَرَبَ بَابِى ضَرْبًا شَدِيدًا . فَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ . قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِىَ تَبْكِى فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لاَ أَدْرِى . ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ « لاَ » . فَقُلْتُ اللَّهُ أَكْبَرُ ..(12)
2-تعليم الشاهد الغائب ما فاته من العلم امتثالا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ)(13)، نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءاً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ.)(14).
وعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ مَا كُلُّ الْحَدِيثِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحَدِّثُنَا أَصْحَابُنَا عَنْهُ كَانَتْ تَشْغَلُنَا عَنْهُ رَعِيَّةُ الإِبِلِ.(15)
3-الإنصات التام له - صلى الله عليه وسلم - كيلا يفوتهم شيء مما يقول:فقد جاء في وصف مجلسه - صلى الله عليه وسلم - (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَائِمَ الْبِشْرِ سَهْلَ الْخَلْقِ لَيِّنَ الْجَانِبِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ وَلا صَخَّابٍ وَلا فَحَّاشٍ وَلا غَيَّابٍ وَلا مَدَّاحٍ يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يَشْتَهِي وَلا يُوئَسُ مِنْهُ وَلا يَخِيبُ فِيهِ قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ الْمِرَاءِ وَالإِكْثَارِ وَمِمَّا لا يَعْنِيهِ وَتَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ كَانَ لا يَذِمُّ أَحَدًا وَلا يُعِيِّرُهُ وَلا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ وَلا يَتَكَلَّمُ إِلا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا وَلا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتُهُمْ، يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ، وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَيَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ مِنْ مَنْطِقِهِ وَمَسْأَلَتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ، وَيَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْشَدُوهُ، وَلا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إِلا مِنْ مُكَافِئٍ، وَلا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يُجَوِّزَهُ فَيَقْطَعُهُ بنهْيٍ أَوْ قِيَامٍ)(16).
4- السؤال عما لم يفهموا، فإذا استحيا بعضهم أمر غيره بالسؤال، كما جاء عَنْ عَلِىٍّ قَالَ كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ فَقَالَ « فِيهِ الْوُضُوءُ » .(17).
5- عدم تنازع الحديث عنده - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما حديثهم عنده حديث أولهم، ومن تكلم منهم أنصتوا له، ولم يقاطعوه حتى يفرغ.
فقد جاء الحديث السابق: (وَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا وَلا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ حَدِيثُهُمْ عِنْدَهُ حَدِيثُ أَوَّلِيَّتُهُمْ) .
6- تمنيهم أن يأتي الرجل الأعرابي يسأله عن أمور دينه ، لأنهم كانوا في بعض الحيان يستحون من سؤاله ،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَىْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِىءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ قَالَ « صَدَقَ ». قَالَ فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ قَالَ « اللَّهُ ». قَالَ فَمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ قَالَ « اللَّهُ ». قَالَ فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ. قَالَ « اللَّهُ ». قَالَ فَبِالَّذِى خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ « صَدَقَ ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِى أَمْوَالِنَا. قَالَ « صَدَقَ ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِى سَنَتِنَا. قَالَ « صَدَقَ ». قَالَ فَبِالَّذِى أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ « نَعَمْ ». قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ « صَدَقَ ». قَالَ ثُمَّ وَلَّى. قَالَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ ».(18)
ــــــــــــــ
عواملُ انتشار السنَّة وذيوعها
وكما توافرت عوامل ساعدت على صيانة السنَّة وحفظها فقد توافرت عوامل كذلك أدت إلى ذيوع السنة وانتشارها، وتتخلصُ هذه العوامل فيما يلي:
* العامل الأول: نشاطه - صلى الله عليه وسلم - ، وحده في تبليغ الدعوة ونشر الإسلام:
فمنذ اللحظة التي بُعث فيها - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي ربَّه لم يسترح ساعة واحدة ، بل قضى جميع أوقاته في نشر الدعوة، وتبليغها:
لقد مكث يدعو سِرًّا ثلاث سنين، ثم جهر بالدعوة فلما عورض أكثر من مرة توجه إلى الطائف، ولما لم يجد آذانا صاغية بدأ يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى مكة في موسم الحج، حتى قيَّض الله - عز وجل - له رجالا من أهل المدينة، فحملوه إليها بعد بيعات ثلاثة.
وفي المدينة بدأ مرحلة الجهاد والغزوات حتى دانت الجزيرة كلها، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فكان هذا التحرك المستمرُّ الذي قام به - - صلى الله عليه وسلم - - عاملاً مهما في ذيوع السنة وانتشارها.
--------------
* العامل الثاني: طبيعةُ الإسلام، ونظامه الجديد:
فقد دفعت طبيعة الإسلام ونظامه الجديد الناس إلى البحث والسؤال عنه، وعن أحكامه، وعن أهدافه، وعن رسوله، فإذا ما وقفوا على حقيقة ذلك كله: أسلموا، وانطلقوا إلى قومهم يبلغونهم ما رأوا، ويخبرونهم بما سمعوا.
-----------------
* العامل الثالث: نشاطُ الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - رجالا ونساء في طلب العلم، وحفظه، وتبليغه.
بحيث لم يهدأ لهم بال حتى صارت السنَّة في كل قلب، وعلى كل لسان، وقد حملهم على هذا النشاط:
أ- تنفيذُ أمره - - صلى الله عليه وسلم - - إذ قال: « بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(19).. وقال: « لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ »(20).
ب- الظفرُ بالثواب الذي ربطه الله عز وجل بتحصيل العلم، وتبلغيه، إذ قال - صلى الله عليه وسلم - : « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ».(21).
ج- الخروجُ من إثم كتمان العلم: قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [ سورة البقرة /159-160 ].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : "أَيُّمَا رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ"(22).
__________
(1) - مسند أحمد (17637) صحيح -يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته
(2) - سنن الترمذى(2706 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وهو كما قال
(3) - صحيح البخارى(7373 )
(4) - قَوْلُهُ : ( حَوَّلْت رَحْلِي اللَّيْلَةَ ) ، كَنَّى بِرَحْلِهِ عَنْ زَوْجَتِهِ أَرَادَ بِهِ غَشَيَانَهَا فِي قُبُلِهَا مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا لِأَنَّ الْمُجَامِعَ يَعْلُو الْمَرْأَةَ وَيَرْكَبُهَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهَا فَحَيْثُ رَكِبَهَا مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا ، كَنَّى عَنْهُ بِتَحْوِيلِ رَحْلِهِ ، إِمَّا نَقْلًا مِنْ الرَّحْلِ بِمَعْنَى الْمَنْزِلِ أَوْ مِنْ الرَّحْلِ بِمَعْنَى الْكُورِ وَهُوَ لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ كَذَا فِي الْمَجْمَعِ تحفة الأحوذي - (ج 7 / ص 300)
(5) - سنن الترمذى(3247 ) وهو حديث حسن
(6) - صحيح البخارى(2695 و 2696 )
(7) - صحيح البخارى (314 )-الفرصة : قطعة من قطن أو صوف
(8) - مسند أحمد(7560) صحيح
(9) - صحيح البخارى (7310 )
(10) - مسند أحمد (27334) صحيح
(11) - شعب الإيمان للبيهقي (8484 ) حسن
(12) - صحيح البخارى (89)
(13) - صحيح البخارى (67 )
(14) - مسند البزار (2019) وغيره وهو صحيح
(15) - مسند أحمد (18993) صحيح ،والحاكم في معرفة علوم الحديث: النوع الثالث ص 14، ولفظه عنده (ما كل الحديث سمعناه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يحدثنا أصحابنا، وكنا مشتغلين في رعاية الإبل، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يطلبون ما يفوتهم سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمعونه من أقرانهم، وممن هو أحفظ منهم، وكانوا يشددون على من يسمعون منه).
(16) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 16 / ص 26)(17868 ) عن الحسن عن خاله مطولا وفيه لين
(17) - صحيح البخارى(132 ) المذاء : كثير المذى
(18) - صحيح مسلم (111 )
(19) - صحيح البخارى ( 3461 )
(20) - صحيح البخارى (67 ) مطولا
(21) - سنن أبى داود ( 3662 ) صحيح
(22) - المعجم الكبير للطبراني(10045) و صحيح الجامع (2714) صحيح لغيره(1/13)
وعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَأَثْنَى عَلَى طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، ثُمَّ قَالَ : " مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ ، وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ ، وَلَا يَعِظُونَهُمْ ، وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ . وَمَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَلَا يَتَفَقَّهُونَ ، وَلَا يَتَّعِظُونَ . وَاللَّهُ لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ، وَيُفَقِّهُونَهُمْ وَيَعِظُونَهُمْ ، وَيَأْمُرُونَهُمْ ، وَيَنْهَوْنَهُمْ ، وَلْيَتَعَلَّمَنَّ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيَتَفَقَّهُونَ ، وَيَتَفَطَّنُونَ ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ " ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ قَوْمٌ : مَنْ تَرَوْنَهُ عَنَى بِهَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : الْأَشْعَرِيِّينَ ، هُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ ، وَلَهُمْ جِيرَانٌ جُفَاةٌ مِنْ أَهْلِ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيِّينَ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ذَكَرْتَ قَوْمًا بِخَيْرٍ ، وَذَكَرْتَنَا بِشَرٍّ ، فَمَا بَالُنَا ؟ فَقَالَ : " لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ، وَلَيُفَقِّهَنَّهُمْ ، وَلَيُفَطِّنَنَّهُمْ ، وَلَيَأْمُرَنَّهُمْ ، وَلَيَنْهَوْنَهُمْ ، وَلَيَتَعَلَّمْنَ قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيَتَفَطَّنُونَ ، وَيَتَفَقَّهُونَ ، أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا ؟ فَأَعَادَ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ : أَنُفَطِّنُ غَيْرَنَا ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَقَالُوا : أَمْهِلْنَا سَنَةً ، فَأَمْهَلَهُمْ سَنَةً لِيُفَقِّهُونَهُمْ ، وَيُعَلِّمُونَهُمْ ، وَيُفَطِّنُونَهُمْ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الْآيَةَ ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) [المائدة/78، 79]) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ كَنْزًا ، فَلَا يُنْفِقُ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ(1)
وعَنْ صَالِحٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ وَاللَّهِ لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا وَاللَّهِ لَوْلاَ آيَةٌ فِى كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يُصَلِّى الصَّلاَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الَّتِى تَلِيهَا ». قَالَ عُرْوَةُ الآيَةُ (إ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) سورة البقرة(2)
وعَنِ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنَّكُمْ تَقُولُونَ مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ لاَ يُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ وَمَا بَالُ الأَنْصَارِ لاَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ وَإِنَّ أَصْحَابِى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ صَفَقَاتُهُمْ فِى الأَسْوَاقِ وَإِنَّ أَصْحَابِى مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ أَرْضُوهُمْ وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا وَإِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُعْتَكِفاً وَكُنْتُ أُكْثِرُ مُجَالَسَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْضُرُ إِذَا غَابُوا وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا وَإِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَنَا يَوْماً فَقَالَ « مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ حَدِيثِى ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَنْسَى شَيْئاً سَمِعَهُ مِنِّى أَبَداً ».
فَبَسَطْتُ ثَوْبِى - أَوْ قَالَ طَمِرَتِى - ثُمَّ قَبَضْتُهُ إِلَىَّ فَوَاللَّهِ مَا نَسِيتُ شَيْئاً سَمِعَْتُهُ مِنْهُ وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ آيَةٌ فِى كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَىْءٍ أَبَداً. ثُمَّ تَلاَ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } (159) سورة البقرة.(3)
وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ « يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . قَالَ « يَا مُعَاذُ » . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ . ثَلاَثًا .
قَالَ « مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ « إِذًا يَتَّكِلُوا » . وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا .(4)
------------------
* العامل الرابع: نشاطُ أمهات المؤمنين في حفظ السنَّة، وتبليغها
لاسيما ما يتصلُ بأمر النساء، وقد اشتهرت عائشة - رضي الله تعالى عنها - من بين أمهات المؤمنين بعلمها الغزير، وحرصها على فهم الأحكام، حتى كانت - بعد انتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى - محط أنظار طلاب العلم، ومرجعهم في كثير من أمور دينهم.
فعَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ قَالَتْ لاَ ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً ، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَطِيعُ .(5)
وعَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو قَالَتْ كَانَ يَقُولُ « أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ ».(6)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ صَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَتْ كَانَ يُصَلِّى لَيْلاً طَوِيلاً قَائِماً وَلَيْلاً طَوِيلاً قَاعِداً فَإِذَا قَرَأَ قَائِماً رَكَعَ قَائِماً وَإِذَا قَرَأَ قَاعِداً رَكَعَ قَاعِداً.(7)
وعن أبي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِى الْجَدَلِىَّ - يَقُولُ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ لَمْ يَكُ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَلاَ صَخَّاباً فِى الأَسْوَاقِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ.(8)
وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ - رضى الله عنها - يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِى مِمَّا قُلْتَ ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ . ثُمَّ قَرَأَتْ {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103) سورة الأنعام. {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (51) سورة الشورى ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (34) سورة لقمان ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فِى صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ .(9)
وعَنْ أَبِى صَالِحٍ قَالَ سُئِلَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ أَىُّ الْعَمَلِ كَانَ أَعْجَبَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ مَا دَامَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ.(10)
وعَنْ هُنَيْدَةَ الْخُزَاعِىِّ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلْتُهَا عَنِ الصِّيَامِ فَقَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنِى أَنْ أَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهَا الاِثْنَيْنِ وَالْجُمُعَةُ وَالْخَمِيسُ.(11)
وعَنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِى عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتَا إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً ثُمَّ يَصُومُ.(12)
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ تُوُفِّىَ حَمِيمٌ لأُمِّ حَبِيبَةَ فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَمَسَحَتْ بِذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ إِنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا لِشَىْءٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَقَالَ حَجَّاجٌ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَالَ « لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ». وَحَدَّثَتْنِيهِ زَيْنَبُ عَنْ أُمِّهَا وَعَنْ زَيْنَبَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - .(13)
-----------------
* العامل الخامس: ولاته وبعوثه إلى القبائل المسلمة لتبليغها الدعوة، وتعليمها إياها:
فقد كانت القبيلة إذا أسلمت تطلب منه - صلى الله عليه وسلم - من يعلمها ويفقهها، ويقضي بينها، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث واحداً أو أكثر من الصحابة يتوسم فيه الفقه، والحكمة ليقوم بهذا الدور، وكان كثيرا ما يوصى هؤلاء بالتيسير، والتبشير، والرفق بالناس.
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِى أُنَيْسَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ « ادْعُوَا النَّاسَ وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَيَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ». قَالَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِى شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعُ وَهُوَ مِنَ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُعْطِىَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ فَقَالَ « أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاَةِ ».(14)
وعَنْ أَبِى بُرْدَةَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ ، قَالَ وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلاَفٍ قَالَ وَالْيَمَنُ مِخْلاَفَانِ ثُمَّ قَالَ « يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا » . فَانْطَلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى عَمَلِهِ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَارَ فِى أَرْضِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَحْدَثَ بِهِ عَهْدًا ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَسَارَ مُعَاذٌ فِى أَرْضِهِ قَرِيبًا مِنْ صَاحِبِهِ أَبِى مُوسَى ، فَجَاءَ يَسِيرُ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ ، وَإِذَا هُوَ جَالِسٌ ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ قَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ، أَيَّمَ هَذَا قَالَ هَذَا رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ . قَالَ لاَ أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ . قَالَ إِنَّمَا جِىءَ بِهِ لِذَلِكَ فَانْزِلْ . قَالَ مَا أَنْزِلُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ أَتَفَوَّقُهُ تَفَوُّقًا . قَالَ فَكَيْفَ تَقْرَأُ أَنْتَ يَا مُعَاذُ قَالَ أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيْتُ جُزْئِى مِنَ النَّوْمِ ، فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِى ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِى كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِى .(15)
وكذلك كان يعلمهم كيفية الدعوة، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ رُبَّمَا قَالَ وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُعَاذًا - قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ».(16)
وكان يسألهم كيف يقضون بين الناس ، فعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: « كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ؟ ». قَالَ: أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ : « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ: « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِى وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ: « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ ».(17)
وكان - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يشجع هؤلاء، ويدعو لهم بالتثبيت، والنجاح في مهمتهم.
فعَنْ عَلِىٍّ قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنِى إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَسَنُّ مِنِّى لأَقْضِىَ بَيْنَهُمْ. قَالَ « اذْهَبْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى سَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ وَيَهْدِى قَلْبَكَ ».(18).
----------------
* العامل السادس: رسلُه وكتبُه إلى الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل المجاورين يدعوهم إلى الإسلام
إذ بعد صلح الحديبية بدأ - صلى الله عليه وسلم - يوجه رسله، يحملون كتبه إلى الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل المجاورين يطالبهم فيها بالدخول في الإسلام، حتى انطلق في يوم واحد ستة نفر إلى جهات مختلفة، كل منهم يتكلم بلغة ولهجة القوم الذي بعث إليهم، لقد أرسل - صلى الله عليه وسلم - رسله إلى قيصر الروم، وإلى أمير بصري، وإلى الحارث ابن أبي شمر أمين دمشق من قبل هرقل، وإلى المقوقس أمير مصر من قبل هرقل، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المنذر بن ساوي ملك البحرين، كما أرسل رسله وكتبه إلى عمان، واليمامة وغيرها.
وكان هؤلاء الرسل يجيبون عما يسألهم عنه الملوك، والأمراء، ورؤساء القبائل، ويبينون لهم الإسلام، وأهدافه، وغاياته على ضوء ما زودهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التوجيه والإرشاد. وكانت هذه الإجابة يسمعها الحاضرون، ويخرجون فينشروها في الناس. فتذاع وتشتهر.
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني (700) وصحيح الجامع ( 5835) وهو حديث حسن
(2) - صحيح مسلم (564)
(3) - مسند أحمد (7920) صحيح الصفقات : جمع صفقة وهى البيعة الطمر : الثوب البالى
(4) - صحيح البخارى( 128 ) ومسلم (157 )
قَالَ أَهْل اللُّغَة : تَأَثَّمَ الرَّجُل إِذَا فَعَلَ فِعْلًا يَخْرُج بِهِ مِنْ الْإِثْم . وَتَحَرَّجَ أَزَالَ عَنْهُ الْحَرَج . وَتَحَنَّثَ أَزَالَ عَنْهُ الْحِنْث . وَمَعْنَى تَأَثُّمِ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظ عِلْمًا يَخَاف فَوَاته وَذَهَابه بِمَوْتِهِ فَخَشِيَ أَنْ يَكُون مِمَّنْ كَتَمَ عِلْمًا وَمِمَّنْ لَمْ يَمْتَثِل أَمْر رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِي تَبْلِيغ سُنَّته فَيَكُون آثِمًا فَاحْتَاطَ وَأَخْبَرَ بِهَذِهِ السُّنَّة مَخَافَةً مِنْ الْإِثْم وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْهَهُ عَنْ الْإِخْبَار بِهَا نَهْي تَحْرِيم . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه : لَعَلَّ مُعَاذًا لَمْ يَفْهَم مِنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - النَّهْي لَكِنْ كَسَرَ عَزْمَهُ عَمَّا عَرَضَ لَهُ مِنْ بُشْرَاهُمْ بِدَلِيلِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " " مَنْ لَقِيت يَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُسْتَيْقِنًا قَلْبه فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ " قَالَ : أَوْ يَكُون مَعْنَاهُ بَلِّغْهُ بَعْد ذَلِكَ أَمْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي هُرَيْرَة وَخَافَ أَنْ يَكْتُم عِلْمًا عَلِمَهُ فَيَأْثَم أَوْ يَكُون حَمَل النَّهْي عَلَى إِذَاعَته . وَهَذَا الْوَجْه ظَاهِر . وَقَدْ اِخْتَارَهُ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه فَقَالَ : مَنَعَهُ مِنْ التَّبْشِير الْعَامّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْمَع ذَلِكَ مَنْ لَا خِبْرَة لَهُ وَلَا عِلْم فَيَغْتَرّ وَيَتَّكِل . وَأَخْبَرَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخُصُوص مَنْ أَمِنَ عَلَيْهِ الِاغْتِرَار وَالِاتِّكَال مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَة . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهِ مُعَاذًا فَسَلَكَ مُعَاذ هَذَا الْمَسْلَك فَأَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْخَاصَّة مَنْ رَآهُ أَهْلًا لِذَلِكَ . قَالَ : وَأَمَّا أَمْرُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة بِالتَّبْشِيرِ فَهُوَ مِنْ تَغَيُّر الِاجْتِهَاد . وَقَدْ كَانَ الِاجْتِهَاد جَائِزًا لَهُ وَوَاقِعًا مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - عِنْد الْمُحَقِّقِينَ وَلَهُ مَزِيَّة عَلَى سَائِر الْمُجْتَهِدِينَ بِأَنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَى الْخَطَأ فِي اِجْتِهَاده .شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 109)
(5) - صحيح البخارى(6466 )
(6) - سنن النسائى(5542) صحيح
(7) - مسند أحمد ( 25406) صحيح
(8) - مسند أحمد( 26844) صحيح الصخاب : الصخب الصياح والجلبة وشدة الصوت واختلاطه
(9) - صحيح البخارى (4855 )ٍ-قف : اقشعر وقام من الفزع
(10) - مسند أحمد (27236) صحيح
(11) - مسند أحمد(27237) صحيح
(12) - مسند أحمد (27238) صحيح
(13) - مسند أحمد (27523) صحيح
(14) - صحيح مسلم( 5334 ) البتع : نبيذ العسل المزر : نبيذ يتخذ من الذرة أو الشعير أو الحنطة
(15) - صحيح البخارى (4341 و 4342 ) -المخلاف : الإقليم أتفوق : ألازم قراءته ليلا ونهارا
(16) - صحيح مسلم(130) -الكرائم : جمع كريمة وهى خيار المال وأفضله
(17) - سنن أبى داود( 3594 ) حديث حسن ، وقد تلقته الأمة بالقبول ،و جرى عليه العمل في كافة العصور ، وقد أفردته بكتاب ، ورددت على من ضعفه ، أو استنكره .
(18) - مسند أحمد(677) صحيح(1/14)
فعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ - فِى الْمُدَّةِ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِى مَجْلِسِهِ ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِى يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِىٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا . فَقَالَ أَدْنُوهُ مِنِّى ، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ . ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ . فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِى عَنْهُ أَنْ قَالَ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ . قَالَ فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ . قَالَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ قُلْتُ بَلْ يَزِيدُونَ . قَالَ فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ قُلْتُ لاَ . قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لاَ نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا . قَالَ وَلَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قُلْتُ نَعَمْ . قَالَ فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ قُلْتُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ . قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ . فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِى نَسَبِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ . فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّى أَعْلَمُ أَنِّى أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ . ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِى بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ . سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأَصْفَرِ . فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ . وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ . قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ . فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ . فَنَظَرُوا إِلَيْهِ ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ . فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ . ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِىٌّ ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلاَحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ .
وَقَالَ إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ ، فَقَدْ رَأَيْتُ . فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ .(1)
وعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، عَنْ خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَخَبَرِهِ عَنْ بِعْثَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْحَوَارِيِّينَ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِ ، وَشَكْيِهِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَصِيَاحِ كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثَ إِلَيْهَا ، وَقِيَامِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَوْلِهِمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مُرْنَا وَابْعَثْنَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، قَالَ : " وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحَوَارِيِّينَ : إِنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ عَزَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكُمْ عَلَيْهِ فَامْضُوا فَافْعَلُوا " فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : نَحْنُ نُؤَدِّي عَنْكَ فَابْعَثْنَا حَيْثُ شِئْتَ فَذَكَرَ أَنَّهُ بَعَثَ كِتَابًا مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ إِلَى قَيْصَرَ ، وَبَعَثَ بِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ ، وَأَنَّهُ بَعَثَ خُنَيْسَ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى ، وَبَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ ، وَأَرْسَلَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْمُنْذِرِ صَاحِبِ هَجَرَ ، وَبَعَثَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى مَلِكِ عُمَانَ ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ ، فَمَضَوْا لِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ وَفَاتِهِ "(2)
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعَةَ نَفَرٍ إِلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ : رَجُلاً إِلَى كِسْرَى ، وَرَجُلاً إِلَى قَيْصَرَ ، وَرَجُلاً إِلَى الْمُقَوْقَسِ ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ إِلَى النَّجَاشِيِّ ، فَأَصْبَحَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ ، فَلَمَّا أَتَى عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ النَّجَاشِيَّ وَجَدَ لَهُمْ بَابًا صَغِيرًا يَدْخُلُونَ مِنْهُ مُكَفِّرِينَ ، فَلَمَّا رَأَى عَمْرُو ذَلِكَ وَلَّى ظَهْرَهُ الْقَهْقَرَى ، قَالَ : فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْحَبَشَةِ فِي مَجْلِسِهِمْ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ ، حَتَّى هَمُّوا بِهِ ، حَتَّى قَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ : إِنَّ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ كَمَا دَخَلْنَا ، قَالَ : مَا مَنَعَك أَنْ تَدْخُلَ كَمَا دَخَلُوا ؟ قَالَ : إِنَّا لاَ نَصْنَعُ هَذَا بِنَبِيِّنَا ، وَلَوْ صَنَعَنَاهُ بِأَحَدٍ صَنَعَنَاهُ بِهِ ، قَالَ : صَدَقَ ، قَالَ : دَعُوهُ.
قَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ : هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى مَمْلُوكٌ ، قَالَ : فَمَا تَقُولُ فِي عِيسَى ؟ قَالَ : كَلِمَةُ اللهِ وَرُوحُهُ ، قَالَ : مَا اسْتَطَاعَ عِيسَى أَنْ يَعْدُوَ ذَلِكَ.(3)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدٍ الْقَارِيُّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ، يَعْنِي بِكِتَابِهِ مَعَهُ إِلَيْهِ ، فَقَبَّلَ كِتَابَهُ وَأَكْرَمَ حَاطِبًا ، وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ ، ثُمَّ سَرَّحَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَهْدَى لَهُ مَعَ حَاطِبٍ كِسْوَةً وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ بِسَرْجِهَا ، وَجَارِيَتَيْنِ ، إِحْدَاهُمَا أُمُّ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَمَّا الْأُخْرَى ، فَوَهَبَهَا لِجَهْمِ بْنِ قَيْسٍ الْعَبْدَرِيِّ ، وَهِيَ أُمُّ زَكَرِيَّا بْنُ جَهْمٍ الَّذِي كَانَ خَلِيفَةَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ "(4)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِىَّ أَمَّنَا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لاَ نُؤْذَى وَلاَ نَسْمَعُ شَيْئاً نَكْرَهُهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشاً ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِىِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَماً كَثِيراً وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقاً إِلاَّ أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِىِّ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِىِّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِىَّ فِيهِمْ ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِىِّ هَدَايَاهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِىِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلاَّ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِىَّ ثُمَّ قَالاَ لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَم يَدْخُلُوا فِى دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتُمْ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلاَ يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ.
__________
(1) - صحيح البخارى(7 )
يأثر : ينقل الأريسيون : الفلاحون البشاشة : مخالطة الإيمان انشراح الصدور-تجشم : تكلف الحزاء : الكاهن حاص : جال جولة يطلب الفرار الدسكرة : قصر حوله بيوت السجال : مرة لنا ومرة علينا السقف : الأسقف رئيس من رؤساء النصارى ماد : اتفق معهم على مدة
(2) - الْآحَادُ وَالْمَثَانِي لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (582 ) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 391)(16444 ) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 14 / ص 339)(37783) صحيح مرسل
(4) - مُشْكِلُ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ (3691 ) صحيح(1/15)
فَقَالُوا لَهُمَا نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِىِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالاَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَأَ إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِى دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لاَ نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِىُّ كَلاَمَهُمْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْناً وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلاَدِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ فَغَضِبَ النَّجَاشِىُّ ثُمَّ قَالَ لاَهَا اللَّهِ ايْمُ اللَّهِ إِذاً لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلاَ أَكَادُ قَوْماً جَاوَرُونِى وَنَزَلُوا بِلاَدِى وَاخْتَارُونِى عَلَى مَنْ سِوَاىَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِى أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولاَنِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِى قَالَتْ ثُمَّ أَرسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - كَائِنٌ فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِىُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِى فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِى دِينِى وَلاَ فِى دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ قَالَتْ فَكَانَ الَّذِى كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِىءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِىُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحاَرِمِ وَالدِّمَاءِ وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ - قَالَ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلاَمِ - فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً وَحَرَّمْنَا مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أُحِلَّ لَنَا فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِى جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لاَ نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنْ شَىْءٍ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِىُّ فَاقْرَأْهُ عَلَىَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْراً مِنْ (كهيعص) قَالَتْ فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِىُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلاَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِىُّ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لاَ أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَداً وَلاَ أَكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لأُنَبِّئَنَّهُ غَداً عَيْبَهُمْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. قَالَتْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى رَبِيعَةَ - وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا - لاَ تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَاماً وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا . قَالَ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً. فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ قَالَتْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ - قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ - فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَاذَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ قَالُوا نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِناً فِى ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِى طَالِبٍ نَقُولُ فِيهِ الَّذِى جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ . قَالَتْ فَضَرَبَ النَّجَاشِىُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُوداً ثُمَّ قَالَ مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِى - وَالسُّيُومُ الآمِنُونَ - مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِى دَبْراً ذَهَباَ وَأَنِّى آذَيْتُ رَجُلاً مِنْكُمْ - وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ - رَدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلاَ حَاجَةَ لَنَا بِهَا فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّى الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَىَّ مُلْكِى فُآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِىَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُوداً عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ - يَعْنِى - مَنْ يُنَازِعُهُ فِى مُلْكِهِ - قَالَتْ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْناً قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزِنٍ حَزَنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفاً أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِىِّ فَيَأْتِى رَجُلٌ لاَ يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِىُّ يَعْرِفُ مِنْهُ - قَالَتْ - وَسَارَ النَّجَاشِىُّ وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ قَالَتْ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ قَالَتْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَنَا. قَالَتْ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا - قَالَتْ - فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِى صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِى بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ - قَالَتْ - وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِىِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِى بِلاَدِهِ وَاسْتَوْسَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ فَكُنَّا عِنْدَهُ فِى خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِمَكَّةَ.(1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى النَّجَاشِىِّ وَنَحْنُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلاً فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَعْفَرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفُطَةَ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَبُو مُوسَى فَأَتَوُا النَّجَاشِىَّ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بِهَدِيَّةٍ فَلَمَّا دَخَلاَ عَلَى النَّجَاشِىِّ سَجَدَا لَهُ ثُمَّ ابْتَدَرَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالاَ لَهُ إِنَّ نَفَراً مِنْ بَنِى عَمِّنَا نَزَلُوا أَرْضَكَ وَرَغِبُوا عَنَّا وَعَنْ مِلَّتِنَا. قَالَ فَأَيْنَ هُمْ قَالَ هُمْ فِى أَرْضِكَ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ جَعْفَرٌ أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ. فَاتَّبَعُوهُ فَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْجُدْ فَقَالُوا لَهُ مَا لَكَ لاَ تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ قَالَ إِنَّا لاَ نَسْجُدُ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَنَا أَنْ لاَ نَسْجُدَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
قَالَ مَا تَقُولُونَ فِى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ قَالُوا نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِى لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ وَلَمْ يَفْتَرِضْهَا وَلَدٌ. قَالَ فَرَفَعَ عُوداً مِنَ الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَاللَّهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِى نَقُولُ فِيهِ مَا يَسْوَى هَذَا مَرْحَباً بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَإِنَّهُ الَّذِى نَجِدُ فِى الإِنْجِيلِ وَإِنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِى بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ وَاللَّهِ لَوْلاَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَأُوَضِّئُهُ. وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الآخَرِينَ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمَا ثُمَّ تَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَ بَدْراً وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَغْفَرَ لَهُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ.(2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى رَاشِدٍ قَالَ لَقِيتُ التَّنُوخِىَّ رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِمْصَ - وَكَانَ جَاراً لِى شَيْخاً كَبِيراً قَدْ بَلَغَ الْفَنَدَ أَوْ قَرُبَ - فَقُلْتُ َلاَ تُخْبِرُنِى عَنْ رِسَالَةِ هِرَقْلَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى هِرَقْلَ. فَقَالِ َلَى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَبُوكَ فَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِىَّ إِلَى هِرَقْلَ فَلَمَّا أَنْ جَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا قِسِّيسِى الرُّومِ وَبَطَارِقَتَهَا ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَاباً فَقَالَ قَدْ نَزَلَ هَذَا الرَّجُلُ حَيْثُ رَأَيْتُمْ وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَىَّ يَدْعُونِى إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ يَدْعُونِى إِلَى أَنْ أَتَّبِعَهُ عَلَى دِينِهِ أَوْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَه مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا وَالأَرْضُ أَرْضُنَا أَوْ نُلْقِىَ إِلَيْهِ الْحَرْبَ وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ فِيمَا تَقْرَءُونَ مِنَ الْكُتُبِ لَيَأْخُذَنَّ مَا تَحْتَ قَدَمَىَّ فَهَلُمَّ نَتَّبِعْهُ عَلَى دِينِهِ أَوْ نُعْطِيهِ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا. فَنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ بَرَانِسِهِمْ وَقَالُوا تَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَدَعَ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ نَكُونَ عَبِيداً لأَعْرَابِىٍّ جَاءَ مِنَ الْحِجَازِ. فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ إِنْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الرُّومَ رَفَأَهُمْ وَلَمْ يَكَدْ وَقَالَ إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لَكُمْ لأَعْلَمَ صلاَبَتَكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ ثُمَّ دَعَا رَجُلاً مِنْ عَرَبِ تُجِيبَ كَانَ عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ فَقَالَ ادْعُ لِى رَجُلاً حَافِظاً لِلْحَدِيثِ عَرَبِىَّ اللِّسَانِ أَبْعَثْهُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِجَوَابِ كِتَابِهِ فَجَاءَ بِى فَدَفَعَ إِلَىَّ هِرَقْلُ كِتَاباً فَقَالَ اذْهَبْ بِكِتَابِى إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَمَا ضَيَّعْتُ مِنْ حَدِيثِهِ فَاحْفَظْ لِى مِنْهُ ثَلاَثَ خِصَالٍ انْظُرْ هَلْ يَذْكُرُ صَحِيفَتَهُ الَّتِى كَتَبَ إِلَىَّ بِشَىْءٍ وَانْظُرْ إِذَا قَرَأَ كِتَابِى فَهَلْ يَذْكُرُ اللَّيْلَ وَانْظُرْ فِى ظَهْرِهِ هَلْ بِهِ شَىْءٌ يَرِيبُكَ. فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِهِ حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَىْ أَصْحَابِهِ مُحْتَبِياً عَلَى الْمَاءِ فَقُلْتُ أَيْنَ صَاحِبُكُمْ قِيلَ هَا هُوَ ذَا.
فَأَقْبَلْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ كِتَابِى فَوَضَعَهُ فِى حَجْرِهِ ثُمَّ قَالَ « مِمَّنْ أَنْتَ ». فَقُلْتُ أَنَا أَحَدُ تَنُوخَ. قَالَ « هَلْ لَكَ فِى الإِسْلاَمِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ ». قُلْتُ ِنِّى رَسُولُ قَوْمٍ وَعَلَى دِينِ قَوْمٍ لاَ أَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فَضَحِكَ وَقَالَ « ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يَا أَخَا تَنُوخَ إِنِّى كَتَبْتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ وَاللَّهُ مُمَزِّقُهُ وَمُمَزِّقٌ مُلْكَهُ وَكَتَبْتُ إِلَى النَّجَاشِىِّ بِصَحِيفَةٍ فَخَرَقَهَا وَاللَّهُ مُخْرِقُهُ وَمُخْرِقٌ مُلْكَهُ وَكَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ فَأَمْسَكَهَا فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْساً مَا دَامَ فِى الْعَيْشِ خَيْرٌ ». قُلْتُ هَذِهِ إِحْدَى الثَّلاَثَةِ الَّتِى أَوْصَانِى بِهَا صَاحِبِى وَأَخَذْتُ سَهْماً مِنْ جَعْبَتِى فَكَتَبْتُها فِى جِلْدِ سَيْفِى ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلاً عَنْ يَسَارِهِ قُلْتُ مَنْ صَاحِبُ كِتَابِكُمُ الَّذِى يُقْرَأُ لَكُمْ قَالُوا مُعَاوِيَةُ. فَإِذَا فِى كِتَابِ صَاحِبِى تَدْعُونِى إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فَأَيْنَ النَّارُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ ». قَالَ فَأَخَذْتُ سَهْماً مِنْ جَعْبَتِى فَكَتَبْتُهُ فِى جِلْدِ سَيْفِى. فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ كِتَابِى قَالَ « إنَّ لَكَ حَقًّا وَإِنَّكَ رَسُولٌ فَلَوْ وُجِدَتْ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ جَوَّزْنَاكَ بِهَا إِنَّا سَفْرٌ مُرْمِلُونَ ». قَالَ فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ طَائِفَةِ النَّاسِ قَالَ َنَا أُجَوِّزُهُ. فَفَتَحَ رَحْلَهُ فَإِذَا هُوَ يَأْتِى بِحُلَّةٍ صَفُورِيَّةٍ فَوَضَعَهَا فِى حَجْرِى قُلْتُ َنْ صَاحِبُ الجَائِزَةِ قِيلَ لِى عُثْمَانُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَيُّكُمْ يُنْزِلُ هَذَا الرَّجُلَ ». فَقَالَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا. فَقَامَ الأَنْصَارِىُّ وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا خَرَجْتُ مِنْ طَائِفَةِ الْمَجْلِسِ نَادَانِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ « تَعَالَ يَا أَخَا تَنُوخَ ». فَأَقْبَلْتُ أَهْوِى إِلَيْهِ حَتَّى كُنْتُ قَائِماً فِى مِجْلِسِى الَّذِى كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَلَّ حَبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ وَقَالَ « هَا هُنَا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ لَهُ ». فَجُلْتُ فِى ظَهْرِهِ فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِى مَوْضِعِ غُضُونِ الْكَتِفِ مِثْلِ الحَجْمَةِ الضَّخْمَةِ.(3)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى ، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ . فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ .(4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُنْذِرِ بن سَاوَى:مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَاكُمُ الْمُسْلِمُ، لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - .(5)
__________
(1) - مسند أحمد(1766) صحيح -الأدم : جمع أديم وهو الجلد المدبوغ الدبْر : الجبل سيوم : الآمنون كلمة حبشية -تناخرت : تكلمت كلام مع غضب ونفور
(2) - مسند أحمد(4491) صحيح
(3) - مسند أحمد (16060) حسن
حبوة : ملتقى طرفى ثوبه عند صدره المحتبى : الاحتباء أن يضم رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها الحجمة : الآلة التى يجمع فيها دم الحجامة عند المص رفأ : سكن المرمل : الذى نفد زاده الصفورية : نسبة إلى صفورية وهى بلدة من نواحى الأردن بالشام الغضون : جمع الغضن وهو كل تثن فى ثوب أو جلد الفند : الفند الكذب ويقال للشيخ إذا هرم أفند لأنه يتكلم بالمحرف من الكلام نخر : النخير صوت الأنف أهوى : أتناول باليد
(4) - صحيح البخارى(64 )
(5) - المعجم الكبير للطبراني (10138 ) وفيه جهالة(1/16)
وعَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ ، أَنَّ جَعْفَرًا وَهُوَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : " يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، ائْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ أَرْضًا أَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا لَا أَخَافُ أَحَدًا ، قَالَ : فَأَذِنَ لَهُ , فَأَتَى أَرْضَ الْحَبَشَةِ قَالَ : فَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْعَاصِ ، أَوْ قَالَ : قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : لَمَّا رَأَيْتُ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ آمِنِينَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ حَسَدْتُهُ ، قَالَ : قُلْتُ : لَأَسْتَقْبِلَنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ النَّجَاشِيَّ ، فَقُلْتُ : إِنَّ بِأَرْضِكَ رَجُلًا ابْنُ عَمِّهِ بِأَرْضِنَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاسِ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ وَأَصْحَابَهُ لَا أَقْطَعُ إِلَيْكَ هَذِهِ الْقَطِيعَةَ أَبَدًا أَنَا وَلَا أَحَدُ أَصْحَابِي ، قَالَ : اذْهَبْ إِلَيْهِ فَادْعُهُ ، قَالَ : قُلْتُ : إِنَّهُ لَا يَجِيءُ مَعِي ، فَأَرْسِلْ مَعِي رَسُولًا ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ ، قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَجِبْ ، قَالَ : فَجِئْنَا إِلَى الْبَابِ ، فَنَادَيْتُ : ائْذَنْ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ : ائْذَنْ لِحِزْبِ اللَّهِ ، قَالَ : فَسَمِعَ صَوْتَهُ ، فَأَذِنَ لَهُ قَبْلِي ، قَالَ : فَوَصَفَ لِي عَمْرٌو السَّرِيرَ ، قَالَ : وَقَعَدَ جَعْفَرٌ بَيْنَ يَدَيِ السَّرِيرِ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ عَلَى الْوَسَائِدِ قَالَ : قَالَ عَمْرٌو : فَجِئْتُ فَلَمَّا رَأَيْتُ مَجْلِسَهُ قَعَدْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّرِيرِ ، فَجَعَلْتُهُ خَلْفَ ظَهْرِي ، قَالَ : وَأَقْعَدْتُ بَيْنَ كُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِي ، قَالَ : قَالَ النَّجَاشِيُّ : نَخِّرْ يَا عَمْرُو بْنَ الْعَاصِ - أَيْ تَكَلَّمْ - قَالَ : فَقُلْتُ : ابْنُ عَمِّ هَذَا بِأَرْضِنَا يَزْعُمُ أَنْ لَيْسَ لِلنَّاسِ إِلَهٌ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّكَ وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ وَأَصْحَابَهُ لَا أَقْطَعُ إِلَيْكَ هَذَا الْقَطِيعَةَ أَبَدًا ، أَنَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي ، قَالَ : نَخِّرْ يَا حِزْبَ اللَّهِ ، نَخِّرْ ، قَالَ : فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَقَالَ : صَدَقَ ، هُوَ ابْنُ عَمِّي ، وَأَنَا عَلَى دِينِهِ ، قَالَ عَمْرٌو : فَوَاللَّهِ إِنِّي أَوَّلُ مَا سَمِعْتُ التَّشَهُّدَ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ ، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، وَوَضَعَ ابْنُ عَدِيٍّ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهِ ، وَقَالَ أَوَّهْ أَوَّهْ حَتَّى قُلْتُ فِي نَفْسِي : الْعَنِ الْعَبْدَ الْحَبَشِيَّ أَلَّا يَتَكَلَّمَ ، قَالَ : ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ ، فَقَالَ : يَا جَعْفَرُ ، مَا يَقُولُ فِي عِيسَى ؟ قَالَ : يَقُولُ : هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ، قَالَ : فَأَخَذَ شَيْئًا تَافِهًا مِنَ الْأَرْضِ ، قَالَ : مَا أَخْطَأَ مِنْهُ مِثْلَ هَذِهِ ، قُمْ يَا حِزْبَ اللَّهِ ، فَأَنْتَ آمِنٌ بِأَرْضِي ، مَنْ قَاتَلَكَ قَتَلْتُهُ ، وَمَنْ سَبَّكَ غَرَّمْتُهُ ، قَالَ : وَقَالَ : لَوْلَا مُلْكِي وَقَوْمِي لَاتَّبَعْتُكَ فَقُمْ ، وَقَالَ لِآذِنِهِ : انْظُرْ هَذَا ، فَلَا تَحْجُبْهُ عَنِّي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مَعَ أَهْلِي ، فَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ فَأْذَنْ لَهُ ، وَقُمْ أَنْتَ يَا عُمْرُو بْنَ الْعَاصِ ، فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَلَّا تَقْطِعَ إِلَيَّ هَذِهِ الْقِطْعَةَ أَبَدًا ، أَنْتَ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ ، قَالَ : فَلَمْ نَعُدْ أَنْ خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَلْقَاهُ خَالِيًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَعْفَرٍ ، قَالَ : فَلَقِيتُهُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي سِكَّةٍ ، فَنَظَرْتُ ، فَلَمْ أَرَ خَلْفَهُ فِيهَا أَحَدًا ، وَلَمْ أَرَ خَلْفِي أَحَدًا ، قَالَ : فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ ، وَقَالَ : قُلْتُ : تَعْلَمُ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : غَمَزَ يَدِي ، وَقَالَ : هَدَاكَ اللَّهُ فَاثْبُتْ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ أَصْحَابِي فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا شَهَدُونِي وَإِيَّاهُ ، قَالَ : فَأَخَذُونِي ، فَأَلْقَوْا عَلَى وَجْهِي قَطِيفَةً ، فَجَعَلُوا يَغُمُّونِي بِهَا , وَجَعَلْتُ أُمَارِسُهُمْ ، قَالَ : فَأَفْلَتُّ عُرْيَانًا مَا عَلَيَّ قِشْرَةٌ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ عَلَى حَبَشِيَّةٍ ، فَأَخَذْتُ قِنَاعَهَا مِنْ رَأْسِهَا ، قَالَ : وَقَالَتْ لِي بِالْحَبَشِيَّةِ : كَذَا وَكَذَا ، فَقُلْتُ لَهَا : لذا ولدى ، قَالَ : فَأَتَيْتُ جَعْفَرًا وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ يُحَدِّثُهُمْ ، قَالَ : قُلْتُ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ فَارَقْتُكَ ، فَعَلُوا بِي ، وَفَعَلُوا ، وَذَهَبُوا بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا هُوَ لِي ، وَمَا هَذَا الَّذِي تَرَى عَلَيَّ إِلَّا مِنْ مَتَاعِ حَبَشِيَّةٍ ، قَالَ : فَقَالَ : انْطَلِقْ ، قَالَ : فَأَتَى الْبَابَ فَنَادَى : ائْذَنْ لِحِزْبِ اللَّهِ ، قَالَ : فَخَرَجَ الْآذِنُ ، فَقَالَ : إِنَّهُ مَعَ أَهْلِهِ ، قَالَ : اسْتَأْذِنْ لِي ، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ ، قَالَ : إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدْ تَرَكَ دِينَهُ ، وَاتَّبَعَ دِينِي ، قَالَ : قَالَ : كَلَّا ، قَالَ : قُلْتُ بَلَى ، قَالَ : قَالَ : كَلَّا ، قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : كَلَّا ، قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : فَقَالَ لِآذِنِهِ : اذْهَبْ , فَإِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُ : فَلَا يَكْتُبَنَّ لَكَ شَيْئًا إِلَّا أَخَذَهُ ، قَالَ : فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَتَبْتُ الْمِنْدِيلَ ، وَحَتَّى كَتَبْتُ الْقَدَحَ ، قَالَ : فَلَوْ أَشَاءُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مَالِي فَعَلْتُ ، قَالَ : ثُمَّ كَتَبَ فِي الَّذِينَ جَاءُوا فِي سَفَرِ الْمُسْلِمِينَ "(1)
-------------------
* العامل السابع: غزوة الفتح الأعظم:
ففي العام الثامن من الهجرة النبوية نقضت قريش صلح الحديبية، فما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن سار بجيشه إلى مكة،فقوض دعائم الشرك، والوثنية، وهدم الأصنام التي كانت حول الكعبة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلاَثُمِائَةِ نُصُبٍ ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِى يَدِهِ وَيَقُولُ :"جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، جَاءَ الْحَقُّ ، وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ "(2).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ وَفَدْنَا إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ وَفِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا يَصْنَعُ طَعَامًا يَوْمًا لأَصْحَابِهِ فَكَانَتْ نَوْبَتِى فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ الْيَوْمُ نَوْبَتِى. فَجَاءُوا إِلَى الْمَنْزِلِ وَلَمْ يُدْرِكْ طَعَامُنَا فَقُلْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَوْ حَدَّثْتَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى يُدْرِكَ طَعَامُنَا فَقَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْفَتْحِ فَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ وَبَطْنِ الْوَادِى فَقَالَ « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ادْعُ لِى الأَنْصَارَ ». فَدَعَوْتُهُمْ فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ فَقَالَ « يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ ». قَالُوا نَعَمْ. قَالَ « انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا ». وَأَخْفَى بِيَدِهِ وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ وَقَالَ « مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا ». قَالَ فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَنَامُوهُ - قَالَ - وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفَا وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ فَأَطَافُوا بِالصَّفَا فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ». فَقَالَتِ الأَنْصَارُ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِى قَرْيَتِهِ. وَنَزَلَ الْوَحْىُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِى قَرْيَتِهِ. أَلاَ فَمَا اسْمِى إِذًا - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ». قَالُوا وَاللَّهِ مَا قُلْنَا إِلاَّ ضِنًّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ « فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ ».(3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سَارَ إِلَى مَكَّةَ يَسْتَفْتِحُهَا ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : فَمَا قُتِلَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا أَرْبَعَةٌ , قَالَ : " ثُمَّ دَخَلَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَعْبَةَ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ السَّيْفَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ ، فَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ ؟ قَالُوا : نَقُولُ : ابْنُ أَخٍ ، وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ ، قَالَ : وَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ " ، قَالُوا : نَقُولُ : ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ ، حَلِيمٌ رَحِيمٌ ، ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ :{ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (92) سورة يوسف ، قَالَ : فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ "(4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , حِينَ سَارَ إِلَى مَكَّةَ لِيَسْتَفْتِحَهَا , فَسَرَّحَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ , وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ , فَلَمَّا بَعَثَهُمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اهْتِفْ بِالْأَنْصَارِ فَنَادَى : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءُوا كَمَا كَانُوا عَلَى مُعْتَادٍ , ثُمَّ قَالَ : اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ إِلَّا أَيْ : قَتَلْتُمُوهُ , وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلَ يَوْمَئِذٍ الْأَرْبَعَةِ , قَالَ : ثُمَّ دَخَلَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْكَعْبَةَ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ السَّيْفَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ ثُمَّ طَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ ؟ , فَقَالُوا : نَقُولُ أَخٌ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ , قَالَ : فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ , فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْبَابِ الَّذِي يَلِي الصَّفَا فَخَطَبَ , وَالْأَنْصَارُ أَسْفَلَ مِنْهُ , فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَمَا إِنَّ الرَّجُلَ أَخَذَتْهُ الرَّأْفَةُ بِقَوْمِهِ وَأَدْرَكَتْهُ الرَّغْبَةُ فِي قَرَابَتِهِ , قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ الْوَحْيَ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَقُلْتُمْ : أَخَذَتْهُ الرَّأْفَةُ بِقَوْمِهِ وَأَدْرَكَتْهُ الرَّغْبَةُ فِي قَرَابَتِهِ فَمَا نَبِيٌّ أَنَا إِذًا كَلًّا وَاللَّهِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا إِنَّ الْمَحْيَا لَمَحْيَاكُمْ وَإِنَّ الْمَمَاتَ لَمَمَاتُكُمْ , قَالُوا : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا قُلْنَا إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ تُفَارِقَنَا إِلَّا ضِنًّا بِكَ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْتُمْ صَادِقُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا نَكَّسَ نَحْرَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ " أَفَلَا يَرَى أَنَّ قُرَيْشًا بَعْدَ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قَدْ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ السَّيْفَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ أَفَتُرَاهُمْ كَانُوا يَخَافُونَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَمَّنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ ؟ هَذَا وَاللَّهِ غَيْرُ مَخُوفٍ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ إِلَيْهِ قَتْلَهُمْ إِنْ شَاءَ وَأَنَّ إِلَيْهِ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِمْ وَصَيَّرَهُمْ فِي يَدِهِ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَبْلُ , وَمَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ , ثُمَّ قَالَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ " لَا تُغْزَى مَكَّةُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَبَدًا "(5)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ , قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ : سَمِعْتُ مُطِيعًا , يَقُولُ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقُولُ : لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " قَالَ : فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ دِمَاءَ قُرَيْشٍ إِنَّمَا حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِمَا كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُرْمَتُهُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ , ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ خُطْبَةً بَيَّنَ فِيهَا حُكْمَ مَكَّةَ قَبْلَ دُخُولِهِ إِيَّاهَا وَحُكْمَهَا وَقْتَ دُخُولِهِ إِيَّاهَا وَحُكْمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ "(6)
وعَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , قَالَ : ثنا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْكَعْبِيَّ , يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ , وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْفِكَنَّ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَنَّ فِيهَا شَجَرًا , فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ فَقَالَ قَدْ أُحِلَّتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّهَا لِي وَلَمْ يُحِلَّهَا لِلنَّاسِ وَإِنَّمَا أَحَلَّهَا لِي سَاعَةً "(7)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ ، قَالَ : لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ دَخَلَ الْبَيْتَ ، فَصَلَّى بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ ، فَقَالَ : " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ مَاذَا تَقُولُونَ ، وَمَاذَا تَظُنُّونَ ؟ " قَالُوا : نَقُولُ خَيْرًا ، وَنَظُنُّ خَيْرًا : أَخٌ كَرِيمٌ ، وَابْنُ أَخٍ ، وَقَدْ قَدَرْتَ ، قَالَ : " فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ - صلى الله عليه وسلم - : لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَلَا إِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهِيَ تَحْتَ قَدَمَيَّ ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ "(8)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ ، وَطَاوُسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ الْبَيْتَ ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ ، وَقَدْ لُبِطَ بِالنَّاسِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ ، فَقَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا تَظُنُّونَ " ؟ قَالُوا : نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنُّ خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ ، وَقَدْ قَدَرْتَ فَأَسْجِحْ قَالَ : " فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ : لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا سِدَانَةَ الْكَعْبَةِ ، وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ ، فَإِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُهُمَا لِأَهْلِهِمَا عَلَى مَا كَانَتَا عَلَيْهِ ، أَلَا إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَبُّرَهَا بِآبَائِهَا ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ، أَلَا وَفِي قَتِيلِ الْعَصَا وَالسَّوْطِ الْخَطَأ شِبْهِ الْعَمْدِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ مِائَةُ نَاقَةٍ ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا ، أَلَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " - قَالَ : يَقْصُرُهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ - " لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا تُعْضَدُ عِضَاهَا ، وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرِّبًا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِلَّا الْإِذْخِرَ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْقَيْنِ وَلِظُهُورِ الْبَيْتِ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ قَالَ : " إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ حَلَالٌ " قَالَ : فَلَمَّا هَبَطَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي : " أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، وَإِنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرَ ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا "(9)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ : " لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ النَّاسُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ لَمْ يَزَالُوا فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبَحُوا ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدَ : أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ ؟ ثُمَّ أَصْبَحَ فَغَدَا أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قُلْتَ لِهِنْدَ : أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ نَعَمْ ، هُوَ مِنَ اللَّهِ " ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ ، مَا سَمِعَ قَوْلِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهِنْدُ "(10)
__________
(1) - التَّوْحِيدُ لِابْنِ خُزَيْمَةَ (168 ) حسن
(2) - صحيح البخارى(4287)
(3) - صحيح مسلم (4724 ) - البياذقة : الرجَّالة
(4) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ(1788 ) صحيح
(5) - شَرْحُ مَعَانِي الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ ( 3555 ) صحيح
(6) - نفسه(3557 ) صحيح
(7) - نفسه(3559 ) صحيح
(8) - الْأَمْوَالُ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ(268 ) حسن مرسل
(9) - أَخْبَارُ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ (713 ) حسن مرسل
(10) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1857 ) حسن مرسل(1/17)
وعَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ: الْمُهَاجِرِينَ، وَالأَنْصَارِ، وَغِفَارٍ، وَأَسْلَمَ، وَمُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، وَبَنِي سُلَيْمٍ، وَقَادُوا الْخُيُولَ حَتَّى نَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، فَبَعَثُوا بِأَبِي سُفْيَانَ، وَحَكِيمِ بن حِزَامٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالُوا: خُذُوا لَنَا مِنْهُ جِوَارًا، أَوْ آذِنُوهُ بِالْحَرْبِ،فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بن حِزَامٍ، فَلَقِيَا بُدَيْلَ بن وَرْقَاءَ، فَاسْتَصْحَبَاهُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالأرَاكِ مِنْ مَكَّةَ، وَذَلِكَ عِشَاءَ رَأَوْا الْفَسَاطِيطَ وَالْعَسْكَرَ، وَسَمِعُوا صَهِيلَ الْخَيْلِ، فَرَاعَهُمْ ذَلِكَ، وَفَزِعُوا مِنْهُ، وَقَالُوا: هَؤُلاءِ بنو كَعْبٍ جَاشَتْهَا الْحَرْبُ، قَالَ بُدَيْلٌ: هَؤُلاءِ أَكْثَرُ مِنْ بني كَعْبٍ، مَا بَلَغَ تَأْلِيبُهَا هَذَا، أَفَتَنْتَجِعُ هَوَازِنُ أَرْضَنَا؟ وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ هَذَا أَيْضًا، إِنَّ هَذَا لَمِثْلُ حَاجِّ النَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَدْ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَيْلا يَقْبِضُ الْعُيُونَ، وَخُزَاعَةُ عَلَى الطَّرِيقِ لا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يَمْضِي، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ أَخَذَتْهُمُ الْخَيْلُ تَحْتَ اللَّيْلِ، وَأْتَوْا بِهِمْ خَائِفِينَ لِلْقَتْلِ، فَقَامَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَوَجَأَ عُنُقَهُ، وَالْتَزَمَهُ الْقَوْمُ، وَخَرَجُوا بِهِ لِيَدْخُلُوا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَحَبَسَهُ الْحَرَسُ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَخَافَ الْقَتْلَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَالِصَهُ لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ، أَلا تَأَمُّوا بِي إِلَى عَبَّاسٍ، فَأَتَاهُ وَدَفَعَ عَنْهُ، وَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، وَمَشَى فِي الْقَوْمِ مَكَانَهُ، فَرَكِبَ بِهِ عَبَّاسٌ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَسَارَ بِهِ فِي عَسْكَرِ الْقَوْمِ حَتَّى أَبْصَرُوهُ أَجْمَعُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَدْ، قَالَ لأَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَجَأَ عُنُقَهُ: وَاللَّهِ لا تَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، حَتَّى تَمُوتَ، فَاسْتَغَاثَ بِعَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي مَقْتُولٌ، فَمَنَعَهُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَنْتَهِبُوهُ، فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْجَيْشِ وَطَاعَتَهُمْ، قَالَ: لَمْ أَرَ كَاللَّيْلَةِ جَمْعًا لِقَوْمٍ، فَخَلَّصَهُ عَبَّاسٌ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: إِنَّكَ مَقْتُولٌ إِنْ لَمْ تَسْلَمْ وَتَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَجَعَلَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَأْمُرُهُ عَبَّاسٌ بِهِ، وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانُهُ، فَبَاتَ مَعَ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا حَكِيمُ بن حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بن وَرْقَاءَ، فَدَخَلا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَسْلَمَا وَجَعَلَ يَسْتَخْبِرُهُمَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَمَّا نُودِيَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ تَخَشْخَشَ الْقَوْمُ، فَفَزِعَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَاذَا تُرِيدُونَ؟ قَالَ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ تَيَسَّرُوا لِحُضُورِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَخَرَجَ بِهِ عَبَّاسٌ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ يَمُرُّونَ إِلَى الصَّلاةِ فِي صَلاتِهِمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ إِذَا سَجَدَ، قَالَ: يَا عَبَّاسُ، أَمَا يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءٍ إِلا فَعَلُوهُ؟ فَقَالَ عَبَّاسٌ: لَوْ نَهَاهُمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لأَطَاعُوهُ، فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، فَكَلِّمْهُ فِي قَوْمِكَ هَلْ عِنْدَهُ مِنْ عَفْوٍ عَنْهُمْ؟ فَانْطَلَقَ عَبَّاسٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، حَتَّى أَدْخَلَهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدِ اسْتَنْصَرْتُ إِلَهِي، وَاسْتَنْصَرْتُ إِلَهِكَ فَوَاللَّهِ، مَا لَقِيتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلا ظَهَرْتَ عَلَيَّ، فَلَوْ كَانَ إِلَهِي مُحِقًّا، وإِلَهَكَ مُبْطِلا لَظَهَرْتُ عَلَيْكَ، فَشَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي إِلَى قَوْمِكَ، فَأُنْذِرُهُمْ مَا نَزَلَ، وَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ عَبَّاسٌ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَيِّنْ لِي مِنْ ذَلِكَ أَمَانًا يَطْمَئِنُّونَ إِلَيْهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَقُولُ لَهُمْ:"مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَوَضَعَ سِلاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ".
قَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّنَا، وَأَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ مَعِي، وَلَوْ أَخْصَصْتَهُ بِمَعْرُوفٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"، فَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَسْتَفْقِهُهُ، وَدَارُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلا مَكَّةَ، وَقَالَ:"مَنْ دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بن حِزَامٍ، وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ"، وَدَارُ حَكِيمِ بن حِزَامٍ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ.
وَحَمَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًّا عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَانْطَلَقَ عَبَّاسٌ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ أَرْدَفَهُ، فَلَمَّا سَارَ عَبَّاسٌ بَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَثَرِهِ، فَقَالَ:"أَدْرِكُوا عَبَّاسًا، فَرُدُّوهُ عَلَيَّ"، وَحَدَّثَهُمْ بِالَّذِي خَافَ عَلَيْهِ فَأَدْرَكَهُ الرَّسُولُ، فَكَرِهَ عَبَّاسٌ الرُّجُوعَ، وَقَالَ: أَيَرْهَبُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرْجِعَ أَبَا سُفْيَانَ رَاغِبًا فِي قِلَّةِ النَّاسِ فَيَكْفُرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ؟ فَقَالَ:"احْبِسْهُ"، فَحَبَسَهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَغَدْرًا يَا بني هَاشِمٍ، فَقَالَ عَبَّاسٌ: إِنَّا لَسْنَا نَغْدِرُ، وَلَكِنْ لِي إِلَيْكَ بَعْضُ الْحَاجَةِ، قَالَ: وَمَا هِي، فَأَقْضِيَهَا لَكَ؟ فَقَالَ: يُعادُهَا حِينَ يَقْدَمُ عَلَيْكَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ، وَالزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ، فَوَقَفَ عَبَّاسٌ بِالْمَضِيقِ دُونَ الأَرَاكِ مِنْ مِنًى، وَقَدْ وَعَى أَبُو سُفْيَانَ عَنْهُ حَدِيثَهُ، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُبُورَ الْخَيْلِ بَعْضَهَا عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخَيْلَ شَطْرَيْنِ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ وَرِدْفَهُ خَالِدًا بِالْجَيْشِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَقُضَاعَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: رَسُولُ اللَّهِ، هَذَا يَا عَبَّاسُ؟ قَالَ: لا وَلَكِنْ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، سَعْدَ بن عُبَادَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي كَتِيبَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي كَتِيبَةِ الإِيمَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ وُجُوهًا كَثِيرَةً لا يَعْرِفُهَا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكْثَرْتَ إِذًا، أَوِ اخْتَرْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ عَلَى قَوْمِكَ؟، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ وَقَوْمُكَ، إِنَّ هَؤُلاءِ صَدَّقُونِي إِذْ كَذَّبْتُمُونِي، وَنَصَرُونِي إِذْ أَخْرَجْتُونِي"، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ الأَقْرَعُ بن حَابِسٍ وَعَبَّاسُ بن مِرْدَاسٍ، وَعُيَيْنَةُ بن بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا عَبَّاسُ؟ قَالَ: هَذِهِ كَتِيبَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَعَ هَذِهِ الْمَوْتُ الأَحْمَرُ، هَؤُلاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، قَالَ: امْضِ يَا عَبَّاسُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ جُنُودًا قَطُّ، وَلا جَمَاعَةً، فَسَارَ الزُّبَيْرُ بِالنَّاسِ حَتَّى وَقَفَ بِالْحَجُونِ، وانْدَفَعَ خَالِدٌ حَتَّى دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَلَقِيَتْهُ أَوْبَاشُ بني بَكْرٍ، فَقَاتَلُوهُمْ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ حَتَّى دَخَلُوا الدُّورَ، وَارْتَفَعَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الْخَيْلِ عَلَى الْخَنْدَمَةِ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، وَنَادَى مُنَادٍ، مَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ، وَكَفَّ يَدَهُ فَإِنَّهُ آمِنٌ، وَنَادَى أَبُو سُفْيَانَ، بِمَكَّةَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، وَكَفَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عَبَّاسٍ، وَأَقْبَلَتْ هِنْدُ بنتُ عُتْبَةَ، فَأَخَذَتْ بِلِحْيَةِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ نَادَتْ يَا غَالِبُ، اقْتُلُوا هَذَا الشَّيْخَ الأَحْمَقَ، قَالَ: فَأَرْسِلِي لِحْيَتِي، فَأُقْسِمُ لَكِ لَئِنْ أَنْتِ لَمْ تُسْلِمِي لَيُضْرَبَنَّ عُنُقُكِ، وَيْلَكِ جَاءَنَا بِالْحَقِّ فَادْخُلِي أَرِيكَتَكِ، أَحْسَبُهُ قَالَ: وَاسْكُتِي."(1)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 6 / ص 485) ( 7112 - 714) حسن مرسل(1/18)
وعَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، قَالَ : " وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا يُقَالُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَمِنْ طَوَائِفِ الْعَرَبِ : مِنْ أَسْلَمَ ، وَغِفَارٍ ، وَمُزَيْنَةَ ، وَجُهَيْنَةَ ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، وَقَادُوا الْخُيُولَ ، فَأَخْفَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَسِيرَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، حَتَّى نَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ أَبَا سُفْيَانَ ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ، وَمَعَهُمَا بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ ، فَلَمَّا طَلَعُوا عَلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ حِينَ بَلَغُوا الْأَرَاكَ ، وَذَلِكَ عِشَاءً رَأَوُا النِّيرَانَ وَالْفَسَاطِيطَ وَالْعَسْكَرَ ، وَسَمِعُوا صَهِيلَ الْخَيْلِ ، فَرَاعَهُمْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : هَذِهِ بَنُو كَعْبٍ حَشَّتْهَا الْحَرْبُ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا : هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي كَعْبٍ ، قَالُوا : فَلَعَلَّهُمْ هَوَازِنُ انْتَجَعُوا الْغَيْثَ بِأَرْضِنَا ، وَلَا وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ هَذَا أَيْضًا ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ لَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى أَخَذَهُمْ نَفَرٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُمْ عُيُونًا لَهُ بِخَطِيمِ أَبْعِرَتِهِمْ ، فَقَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : هَلْ سَمِعْتُمْ بِمِثْلِ هَذَا الْجَيْشِ نَزَلُوا عَلَى أَكْبَادِ قَوْمٍ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِمْ ؟ ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِمُ الْعَسْكَرُ لَقِيَهُمْ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَجَارَهُمْ وَقَالَ : يَا أَبَا حَنْظَلَةَ ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَعَشِيرَتُكَ ، هَذَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَمْعِ الْمُؤْمِنِينَ فَادْخِلُوا عَلَيْهِ فَأَسْلَمُوا ، فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَكَثُوا عِنْدَهُ عَامَّةَ اللَّيْلِ يُحَادِثُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ لَهُمُ : " اشْهَدُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَشَهِدُوا ، ثُمَّ قَالَ : اشْهَدُوا أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، فَشَهِدَ حَكِيمٌ ، وَبُدَيْلٌ ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : مَا أَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ ، فَلَمَّا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ ثَارَ النَّاسُ فَفَزِعَ أَبُو سُفْيَانَ وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ : مَاذَا يُرِيدُونَ ؟ قَالَ : الصَّلَاةَ ، وَرَأَى أَبُو سُفْيَانَ الْمُسْلِمِينَ يَتَلَقَّوْنَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ مُلْكًا قَطُّ كَاللَّيْلَةِ وَلَا مُلْكَ كِسْرَى ، وَلَا مُلْكَ قَيْصَرَ ، وَلَا مُلْكَ بَنِي الْأَصْفَرِ ، فَسَأَلَ أَبُو سُفْيَانَ الْعَبَّاسَ أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَدْخَلَهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : يَا مُحَمَّدُ قَدِ اسْتَنْصَرْتُ آلِهَتِي وَاسْتَنْصَرْتَ إِلَهِكَ ، فَوَاللَّهِ مَا لَقِيتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا ظَهَرْتَ عَلَيَّ ، فَلَوْ كَانَ إِلَهِي مُحِقًّا وَإِلَهُكَ مُبْطِلًا لَقَدْ غَلَبْتُكَ ، فَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ ، وَحَكِيمٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَجِئْتَ بِأَوْبَاشِ النَّاسِ مَنْ يُعْرَفُ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ إِلَى أَصْلِكَ وَعَشِيرَتِكَ ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " هُمْ أَظْلَمُ وَأَفْجَرُ ، قَدْ غَدَرْتُمْ بِعَقْدَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَظَاهَرْتُمْ عَلَى بَنِي كَعْبٍ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ " . فَقَالَ بُدَيْلٌ : قَدْ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَقَدْ غَدَرُوا بِنَا وَاللَّهِ ، لَوْ أَنَّ قُرَيْشًا خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَدُوِّنَا مَا نَالُوا مِنَّا الَّذِي نَالُوا ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ ، وَحَكِيمٌ : قَدْ كُنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَقِيقًا أَنْ تَجْعَلَ عِدَّتَكَ وَكَيْدَكَ لِهَوَازِنَ ، فَإِنَّهُمْ أَبْعَدُ رَحِمًا وَأَشَدُّ عَدَاوَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَجْمَعَهُمَا لِي رَبِّي : فَتْحَ مَكَّةَ وَإِعْزَازَ الْمُسْلِمِينَ بِهَا ، وَهَزِيمَةَ هَوَازِنَ وَغَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ادْعُ لَنَا بِالْأَمَانِ ، أَرَأَيْتَ إِنِ اعْتَزَلَتْ قُرَيْشٌ فَكَفَّتْ أَيْدِيَهَا آمِنُونَ هُمْ ؟ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " نَعَمْ ، مَنْ كَفَّ يَدَهُ وَأَغْلَقَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، قَالُوا : فَابْعَثْنَا نُؤْذِنُ بِذَلِكَ فِيهِمْ : قَالَ : " انْطَلِقُوا ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَدَارَكَ يَا حَكِيمُ ، وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ " . وَدَارُ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلَى مَكَّةَ ، وَدَارُ حَكِيمٍ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ ، فَلَمَّا تَوَجَّهَا ذَاهِبَيْنِ قَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي لَا آمَنُ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إِسْلَامِهِ ، فَيَكْفُرَ ، فَارْدُدْهُ حَتَّى نَقِفَهُ فَيَرَى جُنُودَ اللَّهِ مَعَكَ ، فَأَدْرَكَهُ عَبَّاسٌ فَحَبَسَهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَغَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ ؟ فَقَالَ الْعَبَّاسُ : سَتَعْلَمُ أَنَّا لَسْنَا نَغْدِرُ وَلَكِنْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ ، فَأَصْبِحْ حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى جُنُودِ اللَّهِ وَإِلَى مَا عَدَّ لِلْمُشْرِكِينَ فَحَبَسَهُمْ بِالْمَضِيقِ دُونَ الْأَرَاكِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى أَصْبَحُوا ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنَادِيًا فَنَادَى : لِتُصْبِحْ كُلُّ قَبِيلَةٍ قَدِ ارْتَحَلَتْ وَوَقَفَتْ مَعَ صَاحِبِهَا عِنْدَ رَايَتِهِ ، وَتُظْهِرْ مَا مَعَهَا مِنَ الْأَدَاةَ وَالْعُدَّةِ ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ عَلَى ظَهْرٍ وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ يَدَيْهِ الْكَتَائِبُ ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ ، فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ ، أَفِي هَذِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَمَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : قُضَاعَةُ ، ثُمَّ مَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا ، فَرَأَى أَمْرًا عَظِيمًا رَعَّبَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ وَخَيْلِهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ ، وَأَعْطَاهُ رَايَتَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرِزَهَا بِالْحَجُونِ وَلَا يَبْرَحُ حَيْثُ أَمَرَهُ أَنْ يَغْرِزَهَا حَتَّى يَأْتِيَهُ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِيمَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْ قُضَاعَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَنَاسًا أَسْلَمُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْرِزَ رَايَتَهُ عِنْدَ أَدْنَى الْبُيُوتِ ، وَبِأَسْفَلِ مَكَّةَ : بَنُو بَكْرٍ ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَهُذَيْلٌ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْأَحَابِيشِ قَدِ اسْتَنْصَرَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَكُونُوا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي كَتِيبَةِ الْأَنْصَارِ فِي مُقَدِّمَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَفَعَ سَعْدٌ رَايَتَهُ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَلَا يقَاتِلُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ قَاتَلَهُمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِقَتْلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ مِنْهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ ، وَابْنُ خَطَلٍ ، وَمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ أَحَدِ بَنِي لَيْثٍ وَهُوَ مِنْ كَلْبِ بْنِ عَوْفٍ ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ قَيْنَتَيْنِ لِابْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَرَّتِ الْكَتَائِبُ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمٍ وَبُدَيْلٍ لَا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ كَتِيبَةٌ إِلَّا سَأَلُوا عَنْهَا حَتَّى مَرَّتْ عَلَيْهِمْ كَتِيبَةُ الْأَنْصَارِ فِيهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَنَادَى سَعْدٌ أَبَا سُفْيَانَ ، فَقَالَ : الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ . الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرُمَةُ . فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِي سُفْيَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَرْتَ بِقَوْمِكَ أَنْ يُقْتَلُوا ؟ فَإِنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرُّوا بِي نَادَانِي سَعْدٌ فَقَالَ : الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ . الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرُمَةُ . وَإِنِّي أُنَاشِدُكَ اللَّهَ فِي قَوْمِكَ ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَعَزَلَهُ ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ مَكَانَهُ عَلَى الْأَنْصَارِ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَسَارَ الزُّبَيْرُ بِالنَّاسِ حَتَّى وَقَفَ بِالْحَجُونِ وَغَرَزَ بِهَا رَايَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَانْدَفَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتَّى دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَلَقِيَتْهُ بَنُو بَكْرٍ فَقَاتَلُوهُ فَهُزِمُوا ، وَقُتِلَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا ، وَمِنْ هُذَيْلٍ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، وَانْهَزَمُوا وَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ حَتَّى بَلَغَ قَتَلُهُمْ بَابَ الْمَسْجِدِ ، وَفَرَّ بَعْضُهُمْ حَتَّى دَخَلُوا الدُّورَ ، وَارْتَفَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى الْجِبَالِ ، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسُّيُوفِ ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَأُخْرَيَاتِ النَّاسِ ، وَصَاحَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ : مَنْ أَغْلَقَ دَارَهُ وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، فَقَالَتْ لَهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَهِيَ امْرَأَتُهُ : قَبَّحَكَ اللَّهُ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ وَقَبَّحَ عَشِيرَتَكَ مَعَكَ ، وَأَخَذَتْ بِلِحْيَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَنَادَتْ : يَا آلَ غَالِبٍ ، اقْتُلُوا الشَّيْخَ الْأَحْمَقَ ، هَلَّا قَاتَلْتُمْ وَدَفَعْتُمْ عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَبِلَادِكُمْ ، فَقَالَ لَهَا أَبُو سُفْيَانَ : وَيْحَكِ اسْكُتِي ، وَادْخُلِي بَيْتَكِ فَإِنَّهُ جَاءَنَا بِالْخَلْقِ ، وَلَمَّا عَلَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَنِيَّةَ كَدَاءٍ نَظَرَ إِلَى الْبَارِقَةِ عَلَى الْجَبَلِ مَعَ فَضَضِ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ : " مَا هَذَا ؟ وَقَدْ نَهَيْتُ عَنِ الْقِتَالِ " ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : نَظُنُّ أَنَّ خَالِدًا قُوتِلَ وَبُدِئَ بِالْقِتَالِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ ، وَمَا كَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِيَعْصِيَكَ وَلَا يُخَالِفَ أَمْرَكَ ، فَهَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الثَّنِيَّةِ فَأَجَازَ عَلَى الْحَجُونِ ، فَانْدَفَعَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ حَتَّى وَقَفَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ ، وَجُرِحَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَحُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ وَخَالِدٌ يُدْعَى الْأَشْعَرَ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ فِي قَتْلِ النَّفِيرِ أَنْ يُقْتَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ كَافِرًا ، فَاخْتَبَأَ حَتَّى اطْمَأَنَّ النَّاسُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ يُرِيدُ أَنْ يُبَايِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ لِيَقُومَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَقْتُلَهُ ، فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَشْعُرُوا بِالَّذِي كَانَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ : لَوْ أَشَرْتَ إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَضَرَبْتُ عُنُقَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا تَفْعَلْ ذَلِكَ " ، وَيُقَالُ : أَجَارَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ، وَقُتِلَتْ إِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ وَكُتِمَتِ الْأُخْرَى حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا . وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ ، زَعَمُوا بِمِحْجَنٍ ، وَكَثُرَ النَّاسُ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَاسْتَكَفَّ الْمُشْرِكُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ نَزَلَ ، وَأُخْرِجَتِ الرَّاحِلَةُ ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى زَمْزَمَ فَاطَّلَعَ فِيهَا وَقَالَ : " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبَ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى سِقَايَتِهِمْ لَنَزَعْتُ مِنْهَا بِيَدِي دَلْوًا " ثُمَّ انْصَرَفَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنَ الْمَقَامِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَكَانَ الْمَقَامُ ، زَعَمُوا ، لَاصِقًا بِالْكَعْبَةِ . فَأَخَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَانَهُ هَذَا ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِسَجْلٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشَرِبَ ، وَتَوَضَّأَ وَالْمُسْلِمُونَ يَبْتَدِرُونَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّونَهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَالْمُشْرِكُونَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ يَتَعَجَّبُونَ وَيَقُولُونَ : مَا رَأَيْنَا مُلْكًا قَطُّ بَلَغَ هَذَا وَلَا سَمِعْنَا بِهِ . وَمَرَّ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَامِدًا لِلْبَحْرِ ، وَأَقْبَلَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَمِّنَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ ، وَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ هَرَبَ فَارًّا نَحْوَ الْبَحْرِ ، وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ ، فَأَرْسِلْنِي إِلَيْهِ بِأَمَانٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَ الْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَدْرِكِ ابْنَ عَمِّكَ فَهُوَ آمِنٌ " . ، فَطَلَبَهُ عُمَيْرٌ فَأَدْرَكَهُ ، فَقَالَ : قَدْ أَمَّنَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ لَا وَاللَّهِ لَا أُقِرُّ لَكَ حَتَّى أَرَى عَلَامَةً بِأَمَانٍ أَعْرِفُهَا ، فَقَالَ عُمَيْرٌ : امْكُثْ مَكَانَكَ حَتَّى آتِيَكَ بِهَا ، فَرَجَعَ عُمَيْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : إِنَّ صَفْوَانَ أَبَى أَنْ يُوقِنَ لِي حَتَّى يَرَى مِنْكَ آيَةً يَعْرِفُهَا ، فَانْتَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَ حَبَرَةٍ كَانَ مُعْتَجِرًا بِهَا حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ ، فَدَفَعَهُ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ ، فَلَمَّا رَأَى صَفْوَانُ الْبُرْدَ أَيْقَنَ وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ وَأَقْبَلَ مَعَ عُمَيْرٍ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ صَفْوَانُ : أَعْطَيْتَنِي مَا يَقُولُ هَذَا مِنَ الْأَمَانِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " . ، قَالَ : اجْعَلْ لِي شَهْرًا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " بَلْ لَكَ شَهْرَانِ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَكَ " . وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : نَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَفْوَانَ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَمَّنْتَنِي كَمَا قَالَ هَذَا ؟ إِنْ رَضِيتَ وَإِلَّا سَيَّرْتَنِي شَهْرَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي ، قَالَ : " فَلَكَ تَسِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ " . وَأَقْبَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ يَوْمَئِذٍ ، وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي طَلَبِ زَوْجِهَا ، فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَّنَهُ ، فَخَرَجَتْ بِعَبْدٍ لَهَا رُومِيٍّ فَأَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا ، فَلَمْ تَزَلْ تُمَنِّيهِ وَتُقَرِّبُ لَهُ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَى نَاسٍ مِنْ عَكٍّ ، فَاسْتَغَاثَتْ بِهِمْ عَلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ لَهَا ، وَأَدْرَكَتْ زَوْجَهَا ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِكْرِمَةَ وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ وَأَدْرَكَتْهُ امْرَأَتُهُ بِتِهَامَةَ ، فَأَقْبَلَ مَعَهَا وَأَسْلَمَ . وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ حِينَ هُزِمَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَتِهِ فَارًّا ، فَلَامَتْهُ وَعَجَّزَتْهُ وَعَيَّرَتْهُ بِالْفِرَارِ ، فَقَالَ :
وَأَنْتِ لَوْ رَأَيْتِنَا بِالْخَنْدَمَهْ إِذْ فَرَّ صَفْوَانٌ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ
وَلَحِقَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَةْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَةْ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : قَالَهَا حِمَاسٌ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ . قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ : " لِمَ قَاتَلْتَ وَقَدْ نَهَتْيُكَ عَنِ الْقِتَالِ " ؟ ، فَقَالَ : هُمْ بَدَءُونَا بِالْقِتَالِ ، وَوَضَعُوا فِينَا السِّلَاحَ وَأَشْعَرُونَا بِالنَّبْلِ ، وَقَدْ كَفَفْتُ يَدِي مَا اسْتَطَعْتُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " قَضَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرٌ " . قَالَ : وَكَانَ دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ وَالْفَتْحُ فِي رَمَضَانَ سَنَةِ ثَمَانٍ "(1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ ، شَكَّ يَحْيَى - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ أَوْ خِبَائِكَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَأَيْضًا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ » . قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ ، فَهَلْ عَلَىَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِى لَهُ قَالَ « لاَ إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ » .(2)
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1782) حسن مرسل
(2) - صحيح البخارى( 6641 )(1/19)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَتْ مِحْنَةُ النِّسَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : قُلْ لَهُنَّ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَايِعُكُنَّ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الَّتِي شَقَّتْ بَطْنَ حَمْزَةَ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِ مُتَنَكِّرَةً فِي النِّسَاءِ ، فَقَالَتْ : إِنِّي إِنْ أَتَكَلَّمْ يَعْرِفْنِي ، وَإِنْ عَرَفَنِي قَتَلَنِي ، وَإِنَّمَا تَنَكَّرْتُ فَرَقًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَكَتَ النِّسْوَةُ اللَّاتِي مَعَ هِنْدٍ ، وَأَبَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ ؛ قَالَتْ هِنْدٌ وَهِيَ مُتَنَكِّرَةٌ : كَيْفَ يَقْبَلُ مِنَ النِّسَاءِ شَيْئًا لَمْ يَقْبَلْهُ مِنَ الرِّجَالِ ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَقَالَ لِعُمَرَ : " قُلْ لَهُنَّ وَلَا يَسْرِقْنَ " . قَالَتْ هِنْدٌ : وَاللَّهِ إِنِّي لِأُصِيبُ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ الْهِنَاتِ وَمَا أَدْرِي أَيُحِلُّهُنَّ لِي أَمْ لَا . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ مَضَى ، أَوْ قَدْ بَقِيَ ، فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَرَفَهَا ، فَدَعَاهَا فَأَتَتْهُ ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ ، فَعَاذَتْ بِهِ ، فَقَالَ : " أَنْتِ هِنْدٌ " . فَقَالَتْ : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ . فَصَرَفَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : " وَلَا يَزْنِينَ " . فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ قَالَ : " لَا وَاللَّهِ مَا تَزْنِي الْحُرَّةُ " . قَالَ : " وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ " . قَالَتْ هِنْدٌ : أَنْتَ قَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَنْتَ وَهُمْ أَبْصَرُ . قَالَ : " وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " . قَالَ : مَنَعَهُنَّ أَنْ يَنُحْنَ ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُمَزِّقْنَ الثِّيَابَ وَيَخْدِشْنَ الْوُجُوهَ ، وَيُقَطِّعْنَ الشُّعُورَ ، وَيَدْعُونَ بِالثُّبُورِ وَالْوَيْلِ "(1)
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ نِسْوَةً أَتَيْنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِنَّ هِنْدُ بْنَةُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهِيَ أُمُّ مُعَاوِيَةَ يُبَايِعْنَهُ فَلَمَّا أَنْ قَالَ : " وَلَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقْنَ " قَالَتْ هِنْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ ؟ قَالَ : فَرَخَّصَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرُّطَبِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهَا فِي الْيَابِسِ قَالَ : " وَلَا تَزْنِينَ " قَالَتْ : وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ قَالَ : " وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ " قَالَتْ : وَهَلْ تَرَكْتَ لَنَا وَلَدًا إِلَّا قَتَلْتَهُ يَوْمَ بَدْرٍ ؟ قَالَ : " وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " قَالَ مَيْمُونٌ : وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِنَّ الطَّاعَةَ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمَعْرُوفُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى "(2)
----------------
* العامل الثامن: حجَّةُ الوداع
فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحجة من العام العاشر للهجرة إلى مكة المكرمة حاجا ومعتمرا بالناس، وخرجت معه جموع غفيرة جدا من المسلمين بلغت أربعين ألفا، أو تسعين ألفا على خلاف في ذلك.
فعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَىَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ. فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِى فَنَزَعَ زِرِّى الأَعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّى الأَسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَىَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِى سَلْ عَمَّا شِئْتَ.
فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَقَامَ فِى نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِى النَّاسِ فِى الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِى بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ « اغْتَسِلِى وَاسْتَثْفِرِى بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِى ». فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِى بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَىْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ». وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِى يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَلْبِيَتَهُ قَالَ جَابِرٌ - رضى الله عنه - لَسْنَا نَنْوِى إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِى يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) « أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ». فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِىَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ». ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِى بَطْنِ الْوَادِى سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ « لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ». فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِى الأُخْرَى وَقَالَ « دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِى الْحَجِّ - مَرَّتَيْنِ - لاَ بَلْ لأَبَدٍ أَبَدٍ ». وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ فَاطِمَةَ - رضى الله عنها - مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِى أَمَرَنِى بِهَذَا. قَالَ فَكَانَ عَلِىٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِى صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّى أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ « صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّى أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ « فَإِنَّ مَعِىَ الْهَدْىَ فَلاَ تَحِلُّ ». قَالَ فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْىِ الَّذِى قَدِمَ بِهِ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِى أَتَى بِهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً - قَالَ - فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِى فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ « إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِى شَهْرِكُمْ هَذَا فِى بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِى بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِى النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى « أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ». كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ - حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ - بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِى تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِى عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِى هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِى قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ « انْزِعُوا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ». فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.(3)
وعن شُعَيْبَ بْنِ عُمَرَ قَالَ : خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ فَلَمَّا صِرْتُ بِالضَّرِيَّةِ قَالَ لِي بَعْضُ إِخْوَانِي : هَلْ لَكَ فِي رَجُلٍ لَهُ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قُلْتُ : نَعَمْ . قَالَ : صَاحِبُ الْقُبَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي : قُومُوا بِنَا إِلَيْهِ فَقُمْنَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْقُبَّةِ فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ السَّلَامَ فَقَالَ : مَنِ الْقَوْمُ ؟ قُلْنَا : قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بَلَغَنَا أَنَّ لَكَ صُحْبَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : نَعَمْ ، صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَعَدْتُ تَحْتَ مِنْبَرِهِ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ فَضْلٌ ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضٍ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا تَجِيئُونِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى أَعْنَاقِكُمْ وَيَجِيءُ النَّاسُ بِالْآخِرَةِ فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا " قُلْنَا : مَا نُسَمِّيكَ اسْمُكَ ؟ قَالَ : أَنَا الْعَدَّاءُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَارِسُ الضَّحْيَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ "(4)
وعَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ " ، قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ " ، قَالُوا : يَوْمٌ حَرَامٌ ، ثُمَّ قَالَ : " أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ " ، قَالُوا : شَهْرٌ حَرَامٌ ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ " ، قَالُوا بَلَدٌ حَرَامٌ ، قَالَ : " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ " ـ قَالَ : وَلَا أَدْرِي قَالَ : أَوْ أَعْرَاضَكُمْ ، أَمْ لَا ـ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَلَّغْتُ " ، قَالُوا : بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "(5)
وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ ، وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِى نَفْسِى مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ خَطَبَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ ، قَالَ « أَتَدْرُونَ أَىُّ يَوْمٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « أَىُّ شَهْرٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . فَقَالَ « أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « أَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا ، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ . أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ »(6)
وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَةِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِى بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ، أَىُّ شَهْرٍ هَذَا » قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا » . قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ » . قُلْنَا بَلَى . قَالَ « فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا » قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ . قَالَ « أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ » .
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيّ ( 31487 ) فيه لين
(2) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ ( 9434 و9435 ) صحيح لغيره
(3) - صحيح مسلم (3009 )
استثفرى : شدى فرجك بخرقة بعد أن تحتشى قطنا يسبح : يصلى صلاة تطوع أَسفر : أضاء الساجة : نوع من الأكسية الخضراء أو السوداء المشجب : ما تعلق عليه الثياب الظعن : جمع الظعينة وهى المرأة غبر : بقى انزع : استقوا النساجة : نوع من الملاحف المنسوجة
(4) - الْمُعْجَمُ الْكَبِيرُ لِلطَّبَرَانِيِّ( 13952 ) صحيح لغيره
(5) - مسند أحمد ( 22961) صحيح
(6) - صحيح البخارى(1741 )(1/20)
قُلْنَا بَلَى . قَالَ « فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا ، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ، فَسَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى ضُلاَّلاً ، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلَّغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ - فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ صَدَقَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ - أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ . مَرَّتَيْنِ » .(1)
ثم تفرق المسلمون كل إلى موطنه، وقد حملوا معهم علما غزيرا إلى أهليهم وذويهم، فبلغوهم إياه تحقيقا وتطبيقا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الخطبة: (أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ » . قَالُوا نَعَمْ . قَالَ « اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ).
-----------------
العامل التاسع: الوفود بعد فتح مكة، وحجة الوداع:
إذ بعد فتح مكة أقبلت الوفود من كل أنحاء الجزيرة العربية تبايع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وتنضوي تحت لواء الإسلام، وكثرت هذه الوفود كثرة عجيبة عقب الفراغ من حجة الوداع.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يرحب بهذه الوفود، ويكرمها، ويعلمها الإسلام، ويزودها بنصائحه وتوجيهاته، بل ربما أقامت عنده هذه الوفود أياما تتعلم منه الإسلام، ثم تعود إلى قبائلها فتبلغها إياه، وقد مضت قصة مالك بن الحويرث في هذا الشأن.
فعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِى فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ « ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » .(2)
وعوَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ شَبَبَةٌ ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - رَحِيمًا فَقَالَ: « لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ ، مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَصَلاَةَ كَذَا فِى حِينِ كَذَا ، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » .(3)
وعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الصِّيَامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ ». وَكَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَعَثَنِى إِلَى الطَّائِفِ قَالَ « يَا عُثْمَانُ تَجَوَّزْ فِى الصَّلاَةِ فَإِنَّ فِى الْقَوْمِ الْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ ».(4)
ومن أشهر هذه الوفود: وفد بني سعد بن بكر، فعَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْمَسْجِدِ ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِى الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ عَقَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ . فَقُلْنَا هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ . فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أَجَبْتُكَ » . فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنِّى سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِى الْمَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدْ عَلَىَّ فِى نَفْسِكَ . فَقَالَ « سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ » . فَقَالَ أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَقَالَ « اللَّهُمَّ نَعَمْ » . قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّىَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ « اللَّهُمَّ نَعَمْ » . قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ قَالَ « اللَّهُمَّ نَعَمْ » . قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « اللَّهُمَّ نَعَمْ » . فَقَالَ الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِى مِنْ قَوْمِى ، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِى سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ .(5)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: بَعَثَتْ بنو سَعْدِ بن بَكْرٍ ضِمَامَ بن ثَعْلَبَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلا جَلْدَ الشَّعْرِ، ذَا غَدِيرَتَيْنِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ"، قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قَالَ:"نَعَمْ"، قَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ:"لا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَاسْأَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ"، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نعْبُدَ اللَّهَ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ الَّتِي كَانَتْ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ؟ قَالَ:"اللَّهُمَّ، نَعَمْ"، قَالَ: فَأَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، إِلَهِكَ وَإِلَهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، وَإِلَهِ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ فَقَالَ:"اللَّهُمَّ، نَعَمْ"، ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإِسْلامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً الزَّكَاةَ، وَالصِّيَامَ، الْحَجَّ، وَشَرَائِعَ الإِسْلامِ، كُلُّهَا يُنَاشِدُهُ عِنْدَ كُلِّ فَرِيضَةٍ كَمَا نَاشَدَهُ فِي الَّتِيِ قَبْلَهَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ لا أَزِيدُ عَلَيْهِ وَلا أَنْقُصُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنْ صَدَقَ ذُو الْغَدِيرَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ".(6)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ ، جَدِّهِ وَافِدِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ ، قَالَ : انْطَلَقْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ نَجِدْهُ ، فَأَطْعَمَتْنَا عَائِشَةُ تَمْرًا ، وَعَصَدَتْ لَنَا عَصِيدَةً ، إِذْ جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَلَّعُ فَقَالَ : " هَلْ أُطْعِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟ " ، قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ رَبَعَ رَاعِي الْغَنَمِ فِي الْمُرَاحِ عَلَى يَدِهِ سَخْلَةٌ ، قَالَ : " هَلْ وَلَدَتْ ؟ " ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " فَاذْبَحْ لَنَا شَاةً " ، ثُمَّ أَقْبِلْ عَلَيْنَا فَقَالَ : " لَا تَحْسَبَنَّ ـ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَحْسَبَنَّ ـ إِنَّا ذَبَحْنَا الشَّاةَ مِنْ أَجْلِكُمَا ، لَنَا غَنَمٌ مِائَةٌ لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً أَمَرْنَاهُ بِذَبْحِ شَاةٍ "
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْوُضُوءِ ، قَالَ : " إِذَا تَوَضَّأْتَ فَأَسْبِغْ وَخَلِّلِ الْأَصَابِعَ ، وَإِذَا اسْتَنْثَرْتَ فَأَبْلِغْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا "
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي امْرَأَةً فَذَكَرَ مِنْ طُولِ لِسَانِهَا وَبَذَائِهَا ، فَقَالَ : " طَلِّقْهَا " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّهَا ذَاتُ صُحْبَةٍ وَوَلَدٍ ، قَالَ : " فَأَمْسِكْهَا وَأْمُرْهَا ، فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلْ ، وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ ضَرْبَكَ أَمَتَكَ "(7)
وعَنْ أَبِى جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يُجْلِسُنِى عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِى حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنِ الْقَوْمُ أَوْ مَنِ الْوَفْدُ » . قَالُوا رَبِيعَةُ . قَالَ « مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ - أَوْ بِالْوَفْدِ - غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِى شَهْرِ الْحَرَامِ ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا ، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ . وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ . فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ . قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ » . قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ « شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ » . وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنِ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ . وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ . وَقَالَ « احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ »(8)
وعن عَوْفَ حَدَّثَنِى أَبُو الْقَمُوصِ زَيْدُ بْنُ عَلِىٍّ قَالَ حَدَّثَنِى أَحَدُ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَالَ وَأَهْدَيْنَا لَهُ فِيمَا يُهْدَى نَوْطاً أَوْ قِرْبَةً مِنْ تَعْضُوضٍ أَوْ بَرْنِىٍّ فَقَالَ « مَا هَذَا ». قُلْنَا هَذِهِ هَدِيَّةٌ. قَالَ وَأَحْسِبُهُ نَظَرَ إِلَى تَمْرَةٍ مِنْهَا فَأَعَادَهَا مَكَانَهَا. وَقَالَ « أَبْلِغُوهَا آلَ مُحَمَّدٍ ». قَالَ فَسَأَلَهُ الْقَوْمُ عَنْ أَشْيَاءَ حَتَّى سَأَلُوهُ عَنِ الشَّرَابِ فَقَالَ « لاَ تَشْرَبُوا فِى دُبَّاءٍ وَلاَ حَنْتَمٍ وَلاَ نَقِيرٍ وَلاَ مُزَفَّتٍ اشْرَبُوا فِى الْحَلاَلِ الْمُوكَى عَلَيْهِ ». فَقَالَ لَهُ قَائِلُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ مَا الدُّبَّاءُ وَالْحَنْتَمُ وَالنَّقِيرُ وَالْمُزَفَّتُ قَالَ « أَنَا لاَ أَدْرِى مَا هِيَهْ أَىُّ هَجَرٍ أَعَزُّ ». قُلْنَا الْمُشَقَّرُ. قَالَ « فَوَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلْتُهَا وَأَخَذْتُ أَقْلِيدَهَا ». قَالَ وَكُنْتُ قَدْ نَسِيتُ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئاً فَأَذْكَرَنِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى جَرْوَةَ قَالَ وَقَفْتُ عَلَى عَيْنِ الزَّارَةِ ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَسْلَمُوا طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَوْتُورِينَ إِذْ بَعْضُ قَوْمِنَا لاَ يُسْلِمُوا حَتَّى يُخْزَوْا وَيُوتَرُوا ». قَالَ وَابْتَهَلَ وَجْهُهُ هَا هُنَا مِنَ الْقِبْلَةِ حَتَّى اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَالَ « إِنَّ خَيْرَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ عَبْدُ الْقَيْسِ ».(9)
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، قَالَ : إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، فَقَالَ : " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ " ، قَالُوا : قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَدَخَلَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، فَقَالَ : " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ " ، قَالُوا : قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جِئْنَا لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ ؟ قَالَ : " كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجلَّ ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ " ، قَالَ : وَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا عِمْرَانُ بْنَ حُصَيْنٍ رَاحِلَتَكَ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ ، فَقَدْ ذَهَبَتْ فَانْطَلَقْتُ فِي طَلَبِهَا فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُوْنَهَا ، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا ذَهَبَتْ وَأَنِّي لَمْ أَقُمْ "(10)
وعن سَعِيدَ بْنِ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ بَعَثَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِى حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِى الْمَسْجِدِ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ ، إِنْ تَقْتُلْنِى تَقْتُلْ ذَا دَمٍ ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ . حَتَّى كَانَ الْغَدُ ثُمَّ قَالَ لَهُ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . قَالَ مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ . فَتَرَكَهُ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ ، فَقَالَ « مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ » . فَقَالَ عِنْدِى مَا قُلْتُ لَكَ . فَقَالَ « أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ » ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ وَجْهِكَ ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَىَّ مِنْ دِينِكَ ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَىَّ ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَىَّ مِنْ بَلَدِكَ ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَىَّ ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِى وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، فَمَاذَا تَرَى فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ صَبَوْتَ . قَالَ لاَ ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلاَ وَاللَّهِ لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .(11)
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ أَتَيْنَا عُمَرَ فِى وَفْدٍ ، فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلاً رَجُلاً وَيُسَمِّيهِمْ فَقُلْتُ أَمَا تَعْرِفُنِى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ بَلَى ، أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا ، وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا ، وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا ، وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا . فَقَالَ عَدِىٌّ فَلاَ أُبَالِى إِذًا .(12)
__________
(1) - صحيح البخارى (4406)
(2) - صحيح البخارى(628 )
(3) - صحيح البخارى(685 )
(4) - مسند أحمد(16710) صحيح الجنة : الوقاية تجوز : خفف
(5) - صحيح البخارى(63 )
(6) - المعجم الكبير للطبراني(8076 ) حسن
(7) - مسند أحمد (16828) صحيح
البهمة : ولد الضأن الذكر والأنثى رَبع : وقف المراح : المكان الذى تأوى إليه السخلة : ولد الضأن والمعز ساعة الولادة الظعينة : المرأة تقلع : مشى كأنه ينحدر والمراد قوة مشيه وأنه يرفع رجليه ولا يمشى اختيالا
(8) - صحيح البخارى(53 )
الحنتم : جرار مدهونة خضر تسرع الشدة فيها لأجل دهنها الدباء : القرع كانوا ينتبذون فيه المزفت : الإناء المطلى بالزفت المقير : ما طلى بالقار وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها النقير : أصل النخلة ينقر وسطه ثم ينتبذ فيه
(9) - مسند أحمد(18306) صحيح
(10) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (16214 ) صحيح
(11) - صحيح البخارى(4372)
(12) - صحيح البخارى(4394 )(1/21)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بنِ حَسَّانٍ الْعَنْبَرِيُّ أبي الْجُنَيْدِ، أَخُو بني كَعْبٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَتْنِي جَدَّتَايْ: صَفِيَّةُ، وَدُحَيْبَةُ ابْنَتَا عُلَيْبَةَ، وَكَانَتَا رَبِيبَتَيْ قَيْلَةَ، أَنَّ قَيْلَةَ بنتَ مَخْرَمَةَ حَدَّثَتْهُمَا:أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ حَبِيبِ بن أَزْهَرَ أَخِي بني جَنَابٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ النِّسَاءَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَانْتَزَعَ بناتَهَا مِنْهَا ثْوَبُ بن أَزْهَرَ عَمُّهُنَّ، فَخَرَجَتْ تَبْتَغِي الصَّحَابَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ، فَبَكَتْ جُوَيْرِيَةُ مِنْهُنَّ حُدَيْبَاءَ، قَدْ كَانَتْ أَخَذْتَهَا الْفِرْصَةُ وَهِيَ أَصْغَرُهُنَّ عَلَيْهَا سُبَيِّجٌ لَهَا مِنْ صُوفٍ، فَرَحِمْتَهَا، فَاحْتَمَلَتْهَا مَعَهَا، فَبَيْنَمَا هُمَا تَرْتِكَانِ الْجَمَلَ إِذِ انْتَفَجتِ الأَرْنَبُ، فَقَالَتِ الْحُدَيْبَاءُ الْقَصَبَةُ: لا وَاللَّهِ لا يَزَالُ كَعْبُكِ أَعْلَى مِنْ كَعْبِ أَثْوَبَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبَدًا، ثُمَّ لَمَّا شَنَّحَ الثَّعْلَبُ، فَسَمَّتْهُ اسْمًا غَيْرَ الثَّعْلَبِ، نَسِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن حَسَّانٍ، ثُمَّ قَالَتْ فِيهِ مَا قَالَتْ فِي الأَرْنَبِ، فَبَيْنَمَا هُمَا تَرْتِكَانِ، إِذْ بَرَكَ الْجَمَلُ وَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ، فَقَالَتِ الْحُدَيْبَاءُ الْقَصَبَةُ: أَدْرَكَتْكِ وَاللَّهِ أَخْدَةُ أَثْوَبَ. فَقُلْتُ: وَاضْطُرِرْتُ إِلَيْهَا، وَيْحَكِ مَا أَصْنَعُ؟ قَالَتْ: قَلِّبِي ثِيَابَكَ ظُهُورَهَا لِبُطُونِهَا، وَتَدَحْرَجِي ظَهْرَكَ لِبَطْنَكِ، وَقَلِّبِي أَحْلاسَ جَمَلِكِ، ثُمَّ خَلَعَتْ سَبِيجَهَا، فقَلَّبَتْهُ، وَتَدَحْرَجَتْ ظَهْرًها لِبَطْنِهَا، فَلَمَّا فَعَلْتُ مَا أَمَرْتَنِي، انْتَفَضَ الْجَمَلُ، ثُمَّ قَامَ فَتَفَاجَّ، وَبَالَ. فَقَالَتِ الْحُدَيْبَاءُ: أَعِيدِي عَلَيْكِ أَذاتَكِ. فَفَعَلْتُ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ فَأَعَدْتُهَا، ثُمَّ خَرَجَتَا تَرْتِكُ، فَإِذَا أَثْوَبُ عَلَى إِثْرِنَا بِالسَّيْفِ مُصْلَتًا، فَوَأَلْنَا إِلَى حِوَاءٍ ضَخْمٍ، فَدَارَهُ، حَتَّى أُلْقِيَ الْجَمَلُ إِلَى رُوَاقِ الْبَيْتِ الأَوْسَطِ جَمَلٌ ذَلُولٌ، فَاقْتَحَمْتُ دَاخِلَهُ بِالْجَارِيَةِ، فَأَدْرَكَنِي بِالسَّيْفِ، فَأَصَابَ ظُبَّتَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي، وَقَالَ: أَلْقِي إِلَيَّ بنتَ أَخِي يَا دَفَارُ، فَرَمَيْتُ بِهَا إِلَيْهِ، فَجَعَلَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ، فَذَهَبَ بِهَا، وَكُنْتُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمَضَيْتُ إِلَى أُخْتٍ لِي نَاكِحٍ فِي بني شَيْبَانَ أبْتَغِي الصَّحَابَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوَّلَ الإِسْلامِ، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي تَحْسَبُ عَيْنِيَ نَائِمَةً جَاءَ زَوْجُهَا مِنَ السَّامِرِ، فَقَالَ: وَأَبِيكَ لَقَدْ وَجَدْتُ لِقَيْلَةَ صَاحِبًا صَاحِبَ صِدْقٍ. فَقَالَتْ أُخْتِي: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: حُرَيْثُ بن حَسَّانٍ الشَّيْبَانِيُّ عَادَ وَافِدَ بَكْرِ بن وَائِلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَا صَبَاحٍ. فَقَالَتْ أُخْتِي: الْوَيْلُ لِي، لا تَسْمَعُ بِهَذَا أُخْتِي، فَتَخْرُجَ مَعَ أَخِي بَكْرِ بن وَائِلٍ بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وَبَصَرِهَا لَيْسَ مَعَهَا مِنْ قَوْمِهَا رَجُلٌ. فَقَالَ: لا تَذْكُرِيهِ لَهَا، فَإِنِّي غَيْرُ ذَاكِرَةٍ لَهَا. فَسَمِعْتُ مَا قَالا، فَغَدَوْتُ فَشَدَدْتُ عَلَى جَمَلِي، فَوَجَدْتُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَسَأَلْتُهُ الصُّحْبَةَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَرَامَةً، وَرِكَابُهُ مُنَاخَةٌ عِنْدِي، فَخَرَجْتُ مَعَهُ صَاحِبَ صِدْقٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ صَلاةَ الْغَدَاةِ، وَقَدْ أُقِيمَتْ حِينَ شَقَّ الْفَجْرُ، وَالنُّجُومُ شَابِكَةٌ فِي السَّمَاءِ، وَالرِّجَالُ لا تَكَادُ تَعَارَفُ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَصَفَفْتُ مَعَ الرِّجَالِ امْرَأَةً حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، فَقَالَ لِيَ الرَّجُلُ الَّذِي يَلِينِي مِنَ الصَّفِّ: امْرَأَةٌ أَنْتِ، أَمْ رَجُلٌ؟ فَقُلْتُ: لا بَلِ امْرَأَةٌ. فَقَالَ: إِنَّكِ قَدْ كِدْتِ تَفْتِنِينِي فَصَلِّي فِي النِّسَاءِ. وَإِذَا صَفٌّ مِنَ النِّسَاءِ قَدْ حَدَثَ عِنْدَ الْحُجُرَاتِ لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُهُ حِينَ دَخَلْتُ، فَكُنْتُ فِيهِنَّ حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَنَوْتُ، فَجَعَلْتُ إِذَا رَأَيْتُ رَجُلا ذَا رِدَاءٍ وَذَا قِشْرٍ طَمَحَ إِلَيْهِ بَصَرِي لأَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوْقَ النَّاسِ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ بَعْدَمَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. وَعَلَيْهِ أَسْمَالُ مُلَيَّتَيْنِ قَدْ كَانَتَا بِزَعْفَرَانٍ، وَقَدْ نَفَضَتَا وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلَةٍ مُقَصَّرٌ مَقْشُوٌّ قَفْرٌ غَيْرُ خُوصَتَيْنِ مِنْ أَعْلاهُ قَاعِدُ الْقُرْفُصَاءِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُتَخَشِّعَ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَقَالَ لَهُ جَلِيسُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُرْعِدَتِ الْمِسْكِينَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيَّ وَأَنَا عِنْدَ ظَهْرِهِ:يَا مِسْكِينَةُ، عَلَيْكَ السَّكِينَةُ. فَلَمَّا قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَذْهَبَ اللَّهُ عَنِّي مَا كَانَ دَخَلَ فِي قَلْبِي مِنَ الرُّعْبِ، وَتَقَدَّمَ صَاحِبِي أَوَّلَ رَجُلٍ حُرَيْثُ بن حَسَّانٍ، فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ وَعَلَى قَوْمِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اكْتُبْ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ بني تَمِيمٍ بِالدَّهْنَاءِ لا يُجَاوِزُهَا إِلَيْنَا مِنْهُمْ إِلا مُسَافِرٌ أَوْ مُجَاوِزٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :اكْتُبْ بِالدَّهْنَاءِ يَا غُلامُ. فَلَمَّا أَمَرَ لَهُ بِهَا شَخَصَ بِي وَهِيَ وَطَنِي وَدَارِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يَسْأَلْكَ السَّوِيَّةَ مِنَ الأَمْرِ إِذْ سَأَلَكَ، إِنَّمَا هَذِهِ الدَّهْنَاءُ عِنْدَكَ مَقِيدُ الْجَمَلِ، وَمَرْعَى الْغَنَمِ، وَنِسَاءُ بني تَمِيمٍ وَأَبْنَاؤُهَا وَرَاءَ ذَلِكَ. فَقَالَ: امْسِكْ يَا غُلامُ، صَدَقْتِ الْمِسْكِينَةُ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ يَسَعُهُمَا الْمَاءُ وَالشَّجَرُ وَيَتَعَاوَنَانِ عَلَى الْقِيَانِ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ حُرَيْثٌ قَدْ حِيلَ دُونَ كِتَابِهِ ضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَنْتِ كَمَا قَالَ: وَحَتْفَهَا تَحْمِلُ ضَأْنٌ بِأَظْلافِهَا. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِنْ كُنْتُ لَدَلِيلا فِي الظَّلْمَاءِ تدولا لَدَى الرَّجُلِ عَفِيفًا عَنِ الرَّفِيقَةِ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَكِنْ لا تَلُمْنِي عَلَى أَنْ أَسْأَلَ حَظِّيَ إِذْ سَأَلْتَ حَظَّكَ، قَالَ: وَمَا حَظُّكِ فِي الدَّهْنَاءِ لا أَبَا لَكِ؟ قُلْتُ: مَقِيدُ جَمَلِي تَسْأَلُهُ لِجَمَلِ امْرَأَتِكَ. قَالَ: لا جَرَمَ أَنِّي أُشْهِدُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي لَكِ أَخٌ وَصَاحِبٌ مَا حَيِيتُ إِذَا ثَنَيْتَ عَلَيَّ هَذَا عِنْدَهُ. فقلتُ: إِذْ بَدَأْتُهَا فَلَنْ أُضَيِّعَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُلامُ ابْنُ هَذِهِ أَنْ يَفْصِلَ الْخُطَّةَ وَيَنْصُرَ مَنْ وَرَاءَ الْحُجْرَةِ. فَبَكَيْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ وَلَدَتْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَرَامًا، فَقَاتَلَ مَعَكَ يَوْمَ الرَّبَذَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ يَمِيرُنِي مِنْ خَيْبَرَ، فَأَصَابَتْهُ حُمَّاهَا، فَمَاتَ، فَتَرَكَ عَلَيَّ النِّسَاءَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تَكُونِي مِسْكِينَةً لَجَرَرْنَاكِ عَلَى وَجْهِكِ أَوْ لَجُرِرْتِ عَلَى وَجْهِكِ. شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ بن حَسَّانٍ أَيُّ الْحَرْفَيْنِ حَدَّثَتْهُ الْمَرْأَتَانِ، أَتُغْلَبُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ تُصَاحَبَ فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، فَإِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ اسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: رَبِّ آسِنِي مَا أَمْضَيْتُ، فَأَعِنِّي عَلَى مَا أَبْقَيْتُ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِحْدَاكُنَّ لَتَبْكِي، فَتَسْتَعِينُ لَهَا صُوَيْحِبَةً، فَيَا عِبَادَ اللَّهِ لا تُعَذِّبُوا مَوْتَاكُمْ. ثُمَّ كَتَبَ لَهَا فِي قَطِيعَةِ أَدِيمٍ أَحْمَرَ لِقَيْلَةَ وَالنِّسْوَةِ مِنْ بناتِ قَيْلَةَ، أَلا يُظْلَمْنَ حَقًّا وَلا يُكْرَهْنَ عَلَى مَنْكَحٍ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ لَهُنَّ نَصِيرٌ، أَحْسِنَّ وَلا تُسِئْنَ.(1)
وعَنْ ضِرْغَامَةَ بْنِ عُلَيْبَةَ بْنِ حَرْمَلَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْغَدَاةَ ، قَالَ : فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ نَظَرْتُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ مَا كَادَ تَسْتَبِينُ وُجُوهُهُمْ بَعْدَمَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ، فَلَمَّا قَرُبْتُ أَرْتَحِلُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي ، قَالَ : " عَلَيْكَ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِذَا قُمْتَ مِنْ عِنْدِ الْقَوْمِ فَسَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ لِكَ مَا يُعْجِبُكَ فَأْتِهِ ، وَمَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ لَكَ مِمَّا تَكْرهُ فَاتْرُكْهُ " ، قَالَ : وَكَانَ أَبِي عُلَيْبَةُ بَرًّا بِأَبِيهِ حَرْمَلَةَ ، قُلْتُ : وَمَا كَانَ بِرُّهُ بِهِ ؟ قَالَ : كَانَ إِذَا قَرَّبَ الطَّعَامَ نَظَرَ أَوْفَرَ عَظْمٍ وَأَطْيَبَهُ ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسِيرِ نَظَرَ أَوْطَى بَعِيرٍ وَأَجَلَّهُ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ هَذَا بِرَّهُ بِهِ"(2)
وعن يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ أَخَا بَنِي عِلَاجٍ كَانَ مُهَاجِرًا لِعَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو ، الّذِي بَيْنَهُمَا سُبِئَ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ ، فَمَشَى إلَى عَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرٍو ، حَتّى دَخَلَ دَارَهُ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ يَقُولُ لَك : اخْرَجْ إلَيّ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ يَالَيْلَ لِلرّسُولِ وَيْلَك أَعَمْرٌو أَرْسَلَك إلَيّ ؟ قَالَ نَعَمْ وَهَا هُوَ ذَا وَاقِفًا فِي دَارِك ، فَقَالَ إنّ هَذَا الشّيْءَ مَا كُنْت أَظُنّهُ لَعَمْرٌو كَانَ أَمْنَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : إنّهُ قَدْ نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت ، قَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا ، وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِحَرْبِهِمْ طَاقَةٌ فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ . فَعِنْدَ ذَلِكَ ائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ أَحَدٌ إلّا اُقْتُطِعَ فَأْتَمِرُوا بَيْنَهُمْ وَأَجْمَعُوا أَنْ يُرْسِلُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا ، كَمَا أَرْسَلُوا عُرْوَةَ فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَكَانَ سِنّ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَخَشِيَ أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ كَمَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ . فَقَالَ لَسْت فَاعِلًا حَتّى تُرْسِلُوا مَعِي رِجَالًا ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْلَافِ ، وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَيَكُونُوا سِتّةً فَبَعَثُوا مَعَ عَبْدِ يَالَيْلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ ، وَمِنْ بَنِي مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ ، أَخَا بَنِي يَسَارٍ وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، أَخَا بَنِي الْحَارِثِ فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالَيْلَ وَهُوَ نَابَ الْقَوْمَ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِمْ إلّا خَشْيَةَ مِنْ مِثْلِ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ لِكَيْ يَشْغَلَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الطّائِفِ رَهْطَهُ .فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَزَلُوا قَنَاةَ ، أَلْفَوْا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، يَرْعَى فِي تَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أَصْحَابِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمّا رَآهُمْ تَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَ الثّقَفِيّينَ وَضَبَرَ يَشْتَدّ ، لِيُبَشّرَ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنْ قَدْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالْإِسْلَامَ بِأَنْ يَشْرُطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - شُرُوطًا ، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللّهِ لَا تَسْبِقُنِي إلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتّى أَكُونَ أَنَا أُحَدّثُهُ فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ . فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - .فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَرَوّحَ الظّهْرَ مَعَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَفْعَلُوا إلّا بِتَحِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ . وَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ كَمَا يَزْعُمُونَ فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِي كَتَبَ كِتَابَهُمْ بِيَدِهِ وَكَانُوا لَا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدٌ حَتّى أَسْلَمُوا وَفَرَغُوا مِنْ كِتَابِهِمْ وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَدَعَ لَهُمْ الطّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللّاتِي ، لَا يَهْدِمُهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ حَتّى سَأَلُوا شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدَمِهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمّى ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَتَسَلّمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتّى يَدْخُلَهُمْ الْإِسْلَامُ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلّا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا ، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْهُ وَأَمّا الصّلَاةُ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً ،فَلَمّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابَهُمْ أَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ أَحْرَصَهُمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ رَأَيْتُ هَذَا الْغُلَامَ مِنْهُمْ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ".
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ ، عَنْ بَعْضِ وَفْدِهِمْ . قَالَ كَانَ بَلَالٌ يَأْتِينَا حِينَ أَسْلَمْنَا وَصُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ بِفِطْرِنَا وَسَحُورنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْتِينَا بِالسّحُورِ وَإِنّا لَنَقُولُ إنّا لَنَرَى الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَقُولُ قَدْ تَرَكْت رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَسَحّرُ لِتَأْخِيرِ السّحُورِ وَيَأْتِينَا بِفِطْرِنَا ، وَإِنّا لَنَقُولُ مَا نَرَى الشّمْسَ كُلّهَا ذَهَبَتْ بَعْدُ . فَيَقُولُ مَا جِئْتُكُمْ حَتّى أَكَلَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمّ يَضَعُ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ فَيَلْتَقِمُ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بِفَطُورِنَا وَسَحُورِنَا .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، قَالَ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَعَثَنِي عَلَى ثَقِيفٍ أَنْ قَالَ يَا عُثْمَانُ تُجَاوِزْ فِي الصّلَاةِ ، وَاقْدُرْ النّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ فَإِنّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالصّغِيرَ وَالضّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ"(3)
وهكذا ساعدت العوامل التي ذكرنا على ذيوع السنة وانتشارها بحيث وصلت إلى كل قلب، وجرت على كلِّ لسانٍ.(4)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 183) (20525 ) حسن
قَالَ مُحَمَّدُ بن هِشَامٍ: فَسَّرَهُ لَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، فَقَالَ: الْفِرْصَةُ: ذَاتُ الْحَدَبِ، وَالْفِرْصَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الْمِسْكِ، وَالْفِرْصَةُ: الدَّوْلَةُ، يُقَالُ: انْتَهِزْ فِرْصَتَكَ أَيْ دولتكَ. السَّبِيجُ شَمْلُ كِسَاءٍ، الرَّتْكَانُ ضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ، الانْتِفَاجُ السَّعْيُ، السَّفَرُ، شَنَّحَ أَيْ وَلاكَ مَيَامِنَهُ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يَجْعَلُ مَيَاسِرَهُ وَهُمْ يَتَطَيَّرُونَ بِأَحَدِهِمَا وَيَتَفاءَلُونَ بِالآخَرِ، تَفَاخَّ تُفْتَحُ، فَوَأَلْنَا لُحْبَأنًا إِلَى حِوَاءٍ، دَفَارُ يَا مُنْتِنَةُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي الدُّنْيَا: أُمُّ دَفْرٍ لِنَتَنِهَا، ثُمَّ نَشَدَتْ عَنْهُ اسْتَخْبَرَتْ عَنْهُ الْمَقْشُوُّ الْمَقْشُورُ، الْفُتَّانُ الشَّيَاطِينُ، وَاحِدَتُهَا قاتِنٌ، حَتْفَهَا تَحْمِلُ ضَأْنٌ بِأَظْلافِهَا، مَثَلٌ مِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ فِي شَاةٍ بَحَثَتْ بِأَظْلافِهَا فِي الأَرْضِ فَأَظَهْرَتْ مُدْيَةً فَذُبِحَتْ بِهَا فَصَارَتْ مَثَلا. الْقَضِيَّةُ: انْقَضَاءُ الأُمُورِ، وَشَخَصَ أَيِ ارْتَفَعَ بَصَرِي. فَكِبْرًا مِنْ إِكْبَارٍ، مَا سَمِعْتُ. آسِنِي أَيِ اجْعَلْ لِي أُسْوَةً بِمَا تُعْطِي بِهِ، قَالَ ابْنُ مُتَمِّمِ بن نُوَيْرَةَ: فَقُلْتُ لَهَا: طُولُ الأَسَى إِذْ سَأَلْتَنِي وَلَوْعَةُ حُزْنٍ تَتْرُكُ الْوَجْهَ أَسْفَعَاأَسْفَعُ: أَيْ أَسْوَدُ .
(2) - مُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيدٍ (435 ) حسن
(3) - سيرة ابن هشام - (ج 2 / ص 538) حسن مرسل
(4) - انظر السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب ص 68-74 بتصرف كثير.(1/22)
ثالثا
تأسيس المنهج العلمي للرواية
لم تقتصر العناية بالسنة في العصر النبوي علي الصيانة والحفظ، ولا علي الذيوع والانتشار، بل أسس المنهج العلمي للرواية: تحملا وأداء، وقد وضع أسس هذا المنهج ورسخ معالمه القرآن الكريم والسنة المطهرة، وتتلخص هذه الأسس في الآتي:
أولا: تحريم الكذب.
إن تحريم الكذب يعني فرض الأمانة العلمية من ناحية، وتحريم الخيانة العلمية من ناحية أخرى ، ولخطورة الكذب في الرواية جاءت النصوص ظاهرة في الزجر عنه وتغليظ حرمته، حتى إنه جعل من صفات الكافرين والمنافقين، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (105) سورة النحل ، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33) سورة الأعراف.
وقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (93) سورة الأنعام .
وقال تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} (60) سورة الزمر .
قَال ابْنُ حَجَرٍ : عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، بَل قَال أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ : إِنَّ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُفْرٌ ، وَقَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كُفْرٌ يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ وَلاَ رَيْبَ أَنَّ تَعَمُّدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْلِيل حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ كُفْرٌ مَحْضٌ ، وَإِنَّمَا الْكَلاَمُ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِمَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.(1)
وروى البخاري(33 ) ومسلم (220 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » .
وحذر رسول الله صلي عليه وسلم من الكذب عليه خاصة، وتوعد الكاذب عليه بمقعد من النار، فعَنِ الْمُغِيرَةِ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ، مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(2).
وعَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « تَسَمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى ، وَمَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِى ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(3)
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ و سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالاَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ ».(4)
قال النووي رحمه الله(5):
" " وَأَمَّا الْكَذِبُ فَهُوَ عِنْد الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابنَا : الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء عَلَى خِلَاف مَا هُوَ ، عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا ، هَذَا مَذْهَب أَهْل السُّنَّة ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَة : شَرْطه الْعَمْدِيَّة وَدَلِيل خِطَاب هَذِهِ الْأَحَادِيث لَنَا ، فَإِنَّهُ قَيَّدَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْعَمْدِ لِكَوْنِهِ قَدْ يَكُون عَمْدًا وَقَدْ يَكُون سَهْوًا ، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاع وَالنُّصُوص الْمَشْهُورَة فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّةِ مُتَوَافِقَة مُتَظَاهِرَة عَلَى أَنَّهُ لَا إِثْم عَلَى النَّاسِي ، فَلَوْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَذِبَ لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يَأْثَم النَّاسِي أَيْضًا فَقَيَّدَهُ .
وَأَمَّا الرِّوَايَات الْمُطْلَقَة فَمَحْمُولَة عَلَى الْمُقَيَّدَة بِالْعَمْدِ . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يَشْتَمِل عَلَى فَوَائِد وَجُمَلٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ :
إِحْدَاهَا : تَقْرِير هَذِهِ الْقَاعِدَة لِأَهْلِ السُّنَّة أَنَّ الْكَذِبَ يَتَنَاوَل إِخْبَار الْعَامِد وَالسَّاهِي عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ .
الثَّانِيَة : تَعْظِيم تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ فَاحِشَة عَظِيمَة وَمُوبِقَة كَبِيرَة وَلَكِنْ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا الْكَذِب إِلَّا أَنْ يَسْتَحِلَّهُ . هَذَا هُوَ الْمَشْهُور مِنْ مَذَاهِب الْعُلَمَاء مِنْ الطَّوَائِف . وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيّ وَالِد إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي مِنْ أَئِمَّة أَصْحَابنَا : يَكَفُرُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - ، حَكَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَنْ وَالِده هَذَا الْمَذْهَب وَأَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي دَرْسه كَثِيرًا : مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَمْدًا كَفَرَ وَأُرِيقَ دَمه ، وَضَعَّفَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ ، وَقَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَرَهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَصْحَاب وَإِنَّهُ هَفْوَةٌ عَظِيمَةٌ . وَالصَّوَاب مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور وَاَللَّه أَعْلَمُ .
ثُمَّ إِنَّ مَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَمْدًا فِي حَدِيث وَاحِد فَسَقَ وَرُدَّتْ رِوَايَته كُلّهَا وَبَطَلَ الِاحْتِجَاج بِجَمِيعِهَا ، فَلَوْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَته ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْن حَنْبَلٍ وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَصَاحِب الشَّافِعِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ فُقَهَاء أَصْحَابنَا الشَّافِعِيِّينَ وَأَصْحَاب الْوُجُوه مِنْهُمْ وَمُتَقَدِّمَيْهِمْ فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع : لَا تُؤَثِّر تَوْبَته فِي ذَلِكَ وَلَا تُقْبَل رِوَايَته أَبَدًا ، بَلْ يُحْتَمُ جَرْحُهُ دَائِمًا ، وَأَطْلَقَ الصَّيْرَفِيُّ وَقَالَ : كُلُّ مَنْ أَسْقَطْنَا خَبَره مِنْ أَهْل النَّقْل بِكَذِبٍ وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لَمْ نَعُدْ لِقَبُولِهِ بِتَوْبَةٍ تَظْهَر وَمَنْ ضَعَّفْنَا نَقْلَهُ لَمْ نَجْعَلْهُ قَوِيًّا بَعْد ذَلِكَ ، قَالَ : وَذَلِكَ مِمَّا اِفْتَرَقَتْ فِيهِ الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة وَلَمْ أَرَ دَلِيلًا لِمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَيَجُوز أَنْ يُوَجَّه بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ تَغْلِيظًا وَزَجْرًا بَلِيغًا عَنْ الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ شَرْعًا مُسْتَمِرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة بِخِلَافِ الْكَذِب عَلَى غَيْره وَالشَّهَادَة ، فَإِنَّ مَفْسَدَتَهُمَا قَاصِرَة لَيْسَتْ عَامَّة . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة ضَعِيف مُخَالِف لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّة وَالْمُخْتَار الْقَطْع بِصِحَّةِ تَوْبَته فِي هَذَا ، وَقَبُول رِوَايَاته بَعْدهَا إِذَا صَحَّتْ تَوْبَته بِشُرُوطِهَا الْمَعْرُوفَة ، وَهِيَ الْإِقْلَاع عَنْ الْمَعْصِيَة وَالنَّدَم عَلَى فِعْلهَا وَالْعَزْم عَلَى أَنْ لَا يَعُود إِلَيْهَا فَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِد الشَّرْع ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّة رِوَايَة مَنْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ وَأَكْثَر الصَّحَابَة كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَة ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُول شَهَادَته وَلَا فَرْقَ بَيْن الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فِي هَذَا . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
الثَّالِثَة : أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْن مَا كَانَ فِي الْأَحْكَام وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِ كَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب وَالْمَوَاعِظ وَغَيْر ذَلِكَ فَكُلّه حَرَام مِنْ أَكْبَر الْكَبَائِر وَأَقْبَح الْقَبَائِح بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْتَدّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاع ، خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّة الطَّائِفَة الْمُبْتَدِعَة فِي زَعْمِهِمْ الْبَاطِل أَنَّهُ يَجُوز وَضْع الْحَدِيث فِي التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب ، وَتَابَعَهُمْ عَلَى هَذَا كَثِيرُونَ مِنْ الْجَهَلَة الَّذِينَ يَنْسُبُونَ أَنْفُسهمْ إِلَى الزُّهْد أَوْ يَنْسُبهُمْ جَهَلَة مِثْلهمْ ، وَشُبْهَة زَعْمهمْ الْبَاطِل أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة : مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ بِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار . وَزَعَمَ بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا كَذِبٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الَّذِي اِنْتَحَلُوهُ وَفَعَلُوهُ وَاسْتَدَلُّوا بِهِ غَايَة الْجَهَالَة وَنِهَايَة الْغَفْلَة ، وَأَدَلّ الدَّلَائِل عَلَى بُعْدهمْ مِنْ مَعْرِفَة شَيْء مِنْ قَوَاعِد الشَّرْع ، وَقَدْ جَمَعُوا فِيهِ جُمَلًا مِنْ الْأَغَالِيط اللَّائِقَة بِعُقُولِهِمْ السَّخِيفَة وَأَذْهَانهمْ الْبَعِيدَة الْفَاسِدَة فَخَالَفُوا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْم إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَر وَالْفُؤَاد كُلّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } ، وَخَالَفُوا صَرِيح هَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُتَوَاتِرَة وَالْأَحَادِيث الصَّرِيحَة الْمَشْهُورَة فِي إِعْظَام شَهَادَة الزُّور ، وَخَالَفُوا إِجْمَاع أَهْل الْحَلّ وَالْعَقْد . وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الدَّلَائِل الْقَطْعِيَّات فِي تَحْرِيم الْكَذِب عَلَى آحَاد النَّاس فَكَيْف بِمَنْ قَوْله شَرْع وَكَلَامه وَحْي ، وَإِذَا نَظَرَ فِي قَوْلهمْ وَجَدَ كَذِبًا عَلَى اللَّه تَعَالَى ، قَالَ اللَّه تَعَالَى : { وَمَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْي يُوحَى } وَمِنْ أَعْجَب الْأَشْيَاء قَوْلهمْ : هَذَا كَذِب لَهُ ، وَهَذَا جَهْل مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْعَرَب وَخِطَاب الشَّرْع فَإِنَّ كُلّ ذَلِكَ عِنْدهمْ كَذِب عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ ؛ فَأَجَابَ الْعُلَمَاء عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا وَأَخْصَرُهَا أَنَّ قَوْله لِيُضِلَّ النَّاس ، زِيَادَة بَاطِلَة اِتَّفَقَ الْحُفَّاظ عَلَى إِبْطَالهَا وَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ صَحِيحَةً بِحَالٍ .
الثَّانِي : جَوَاب أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيّ أَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ اِفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاس } .
الثَّالِث : أَنَّ اللَّام فِي لِيُضِلَّ لَيْسَتْ لَام التَّعْلِيل بَلْ هِيَ لَام الصَّيْرُورَة وَالْعَاقِبَة ، مَعْنَاهُ أَنَّ عَاقِبَة كَذِبِه وَمَصِيرِه إِلَى الْإِضْلَال بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } وَنَظَائِره فِي الْقُرْآن وَكَلَام الْعَرَب أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَر وَعَلَى هَذَا يَكُون مَعْنَاهُ فَقَدْ يَصِير أَمْر كَذِبه إِضْلَالًا ، وَعَلَى الْجُمْلَة مَذْهَبُهُمْ أَرَكُّ مِنْ أَنْ يُعْتَنَى بِإِيرَادِهِ وَأَبْعَدُ مِنْ أَنْ يُهْتَمَّ بِإِبْعَادِهِ وَأَفْسَدُ مِنْ أَنْ يُحْتَاج إِلَى إِفْسَاده . وَاَللَّه أَعْلَمُ .
الرَّابِعَة : يَحْرُم رِوَايَة الْحَدِيث الْمَوْضُوع عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ فَمَنْ رَوَى حَدِيثًا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ وَضْعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ رِوَايَتِهِ وَضْعَهُ فَهُوَ دَاخِل فِي هَذَا الْوَعِيد ، مُنْدَرِج فِي جُمْلَة الْكَاذِبِينَ عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيث السَّابِق " مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ"
وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاء : يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ رِوَايَة حَدِيث أَوْ ذَكَرَهُ أَنْ يَنْظُر فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كَذَا أَوْ فَعَلَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْمِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَقُلْ : قَالَ أَوْ فَعَلَ أَوْ أَمَرَ أَوْ نَهَى وَشِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِ الْجَزْم بَلْ يَقُول : رُوِيَ عَنْهُ كَذَا أَوْ جَاءَ عَنْهُ كَذَا أَوْ يُرْوَى أَوْ يُذْكَرُ أَوْ يُحْكَى أَوْ يُقَالُ أَوْ بَلَغَنَا وَمَا أَشْبَهَهُ . وَاَللَّه سُبْحَانه أَعْلَمُ" .
وقَال النَّوَوِيُّ : وَكَمَا يَحْرُمُ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ يَحْرُمُ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَال رُوَاتِهِ وَوَضْعَهُ ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مُنْدَرِجٌ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ(6).
والمقصود من هذا: أن تغليظ الكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم وتشديد عقوبته يعد الأساس الأول والعامل القوي الذي كان يدفع المسلمين إلى تحرِّي الصدق في رواية الحديث وتحاشي الكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم خوفا من الوقوع في هذا الوعيد، ولذا قَالَ الْعُلَمَاء : َيَنْبَغِي لِقَارِئِ الْحَدِيث أَنْ يَعْرِف مِنْ النَّحْو وَاللُّغَة وَأَسْمَاء الرِّجَال مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنْ قَوْله مَا لَمْ يَقُلْ ، وَإِذَا صَحَّ فِي الرِّوَايَة مَا يَعْلَم أَنَّهُ خَطَأ فَالصَّوَاب الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَفِ أَنَّهُ يَرْوِيهِ عَلَى الصَّوَاب وَلَا يُغَيِّرهُ فِي الْكِتَاب ، لَكِنْ يَكْتُب فِي الْحَاشِيَة أَنَّهُ وَقَعَ فِي الرِّوَايَة كَذَا وَأَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ وَهُوَ كَذَا ، وَيَقُول عِنْد الرِّوَايَة : كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَوْ فِي رِوَايَتنَا وَالصَّوَاب كَذَا ، فَهُوَ أَجْمَعُ لِلْمَصْلَحَةِ فَقَدْ يَعْتَقِدهُ خَطَأً وَيَكُون لَهُ وَجْهٌ يَعْرِفهُ غَيْرُهُ وَلَوْ فُتِحَ بَاب تَغْيِير الْكِتَاب لَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ غَيْر أَهْله .
وقَالَ الْعُلَمَاء : وَيَنْبَغِي لِلرَّاوِي وَقَارِئ الْحَدِيث ، إِذَا اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ فَقَرَأَهَا عَلَى الشَّكِّ أَنْ يَقُول عَقِبَهُ أَوْ كَمَا قَالَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(7)
وعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ تَعَمَّدَ عَلَىَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(8).
وعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّى لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ . قَالَ أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ « مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(9).
هذا هوالأصل الأول من الأصول العديدة التي هيأها الإسلام لحماية السنة ونقلها نقلا صحيحا دونما زيادة أو تحريف.
------------------
ثانيا: رفض رواية الفاسق :
لقد أمر الله سبحانه وتعالى برد رواية الفاسق وحذر من قبولها ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات.
وفي هَذِهِ الآيةِ يَأمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ بأنْ لاَ يَتَعجَّلُوا في حَسْمِ الأمُورِ وَتَصْدِيقِ الأخْبَارِ التي يَأتِيهِمْ بها أناسٌ فَسَقَةٌ ، غَيْرُ مأمُونينَ في خُلُقِهِمْ وَدِينِهِمْ وَرِوَايَتِهِمْ ، لأنَّ مَنْ لا يُبَالي بالفِسْقِ فَهُوَ أجْدَرُ بأنْ لا يُبَالي بالكَذِبِ ، ولا يَتَحَامَاهُ ، وَقَدْ يُؤدِّي التَّعْجِيلُ في تَصْدِيقِ الأنباءِ التِي يَنْقُلُها الفُسَّاقُ إلى إصَابةِ أناسٍ أبْرياءَ بأذًى ، والمُؤْمِنُونَ يَجْهَلُونَ حَالَهم ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الإِيذاءُ سَبَباً لِنَدامَتِهِمْ عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُمْ .
بل يدخل فيه الخبر المتعلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الخبر المتعلق بغيره ، لما يترتب على الكذب عليه صلي الله عليه وسلم من المفاسد الدينية وطمس معالم الإسلام ، ولذا كان الكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم من أفحش الذنوب وأعظمها جرما وأشدها عقابا كما سبق.
قال ابن العربي مستنبطا من الآية السابقة: "مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ ، وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا ، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا"(10)..
وقال ابن كثير(11):
" " يَأْمُر تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَر الْفَاسِق لِيُحْتَاطَ لَهُ لِئَلَّا يُحْكَمَ بِقَوْلِهِ فَيَكُون فِي نَفْس الْأَمْر كَاذِبًا أَوْ مُخْطِئًا فَيَكُون الْحَاكِم بِقَوْلِهِ قَدْ اِقْتَفَى وَرَاءَهُ وَقَدْ نَهَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ اِتِّبَاع سَبِيل الْمُفْسِدِينَ , وَمِنْ هُنَا اِمْتَنَعَ طَوَائِف مِنْ الْعُلَمَاء مِنْ قَبُول رِوَايَة مَجْهُول الْحَال لِاحْتِمَالِ فِسْقه فِي نَفْس الْأَمْر وَقَبِلَهَا آخَرُونَ لِأَنَّا إِنَّمَا أُمِرْنَا بِالتَّثَبُّتِ عِنْد خَبَر الْفَاسِق وَهَذَا لَيْسَ بِمُحَقَّقِ الْفِسْق لِأَنَّهُ مَجْهُول الْحَال "
وقال السعدي(12): " وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير [من] الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا"..
قلت : ومدلول الآية عام ، وهو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق؛ فأما الصالح فيؤخذ بخبره ، لأن هذا هو الأصل في الجماعة المؤمنة ، وخبر الفاسق استثناء . والأخذ بخبر الصالح جزء من منهج التثبت لأنه أحد مصادره . أما الشك المطلق في جميع المصادر وفي جميع الأخبار ، فهو مخالف لأصل الثقة المفروض بين الجماعة المؤمنة ، ومعطل لسير الحياة وتنظيمها في الجماعة . والإسلام يدع الحياة تسير في مجراها الطبيعي ، ويضع الضمانات والحواجز فقط لصيانتها لا لتعطيلها ابتداء .(13)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - الزواجر 1 / 97 .
(2) - صحيح البخارى(1291)
(3) - صحيح البخارى (110 ) يتبوأ : يتخذ منزله
(4) - صحيح مسلم(1 )
(5) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 4)
(6) - شرح صحيح مسلم 1 / 59 .
(7) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 4)
(8) - صحيح البخارى(108) - يتبوأ : يتخذ منزله
وَإِنَّمَا خَشِيَ أَنَس مِمَّا خَشِيَ مِنْهُ الزُّبَيْر ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِكْثَار لِأَنَّهُ مَظِنَّة ، وَمَنْ حَامَ حَوْل الْحِمَى لَا يَأْمَن وُقُوعه فِيهِ ، فَكَانَ التَّقْلِيل مِنْهُمْ لِلِاحْتِرَازِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنَس مِنْ الْمُكْثِرِينَ لِأَنَّهُ تَأَخَّرَتْ وَفَاته فَاحْتِيجَ إِلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَلَمْ يُمْكِنهُ الْكِتْمَان . وَيُجْمَع بِأَنَّهُ لَوْ حَدَّثَ بِجَمِيعِ مَا عِنْده لَكَانَ أَضْعَاف مَا حَدَّثَ بِهِ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة عَتَّاب - بِمُهْمَلَةٍ وَمُثَنَّاة فَوْقَانِيَّة - مَوْلَى هُرْمُز ، سَمِعْت أَنَسًا يَقُول : " لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنْ أُخْطِئ لَحَدَّثْتُك بِأَشْيَاء قَالَهَا رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَحْمَد بِإِسْنَادٍ ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَدِّث إِلَّا مَا تَحَقَّقَهُ وَيَتْرُك مَا يَشُكّ فِيهِ . وَحَمَلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُحَافِظ عَلَى الرِّوَايَة بِاللَّفْظِ فَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " لَوْلَا أَنْ أُخْطِئ " . وَفِيهِ نَظَر ، وَالْمَعْرُوف عَنْ أَنَس جَوَاز الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى كَمَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيب عَنْهُ صَرِيحًا ، وَقَدْ وُجِدَ فِي رِوَايَاته ذَلِكَ كَالْحَدِيثِ فِي الْبَسْمَلَة ، وَفِي قِصَّة تَكْثِير الْمَاء عِنْد الْوُضُوء ، وَفِي قِصَّة تَكْثِير الطَّعَام .قَوْله : ( كَذِبًا ) هُوَ نَكِرَة فِي سِيَاق الشَّرْط فَيَعُمّ جَمِيع أَنْوَاع الْكَذِب .فتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 175)
(9) - صحيح البخارى(107 ) -يتبوأ : يتخذ منزله
(10) - أحكام القرآن لابن العربي - (ج 7 / ص 164)
(11) - تفسير ابن كثير - (ج 15 / ص 418)
(12) - تفسير السعدي - (ج 1 / ص 799)
(13) - في ظلال القرآن - (ج 6 / ص 495)(1/23)
رابعا
التثبُّت من كلِّ قضيَّةٍ
لقد ربَّى القرآنُ الأمةَ ـ وعلى رأسها جيل الصحابة ـ على التثبت في الأمور ، قال تعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (36) سورة الإسراء ، وفي هذه الآية ُ يَنْهَى اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَنِ القَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ ، وَبُدُونِ تَثَبُّتٍ ، فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الحَدِيثِ فِي أَمْرٍ عَلَى الظَّنِّ وَالشُّبْهَةِ وَالتَّوَهُّمِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ : لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ بِمَا رَأَتْ عَيْنَاكَ ، وَسَمِعَتُهُ أُذُنَاكَ ، وَوَعَاهُ قَلْبُكَ .
فقد أوجبت هذه الآية التأكد من صحة العلم النقلي، وذلك لما كان عليه حال المجتمع في عصره - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان فيه الكفار والمنافقون الذين حاولوا الدسَّ والكذب على رسول الله صلي الله عليه وسلم وأصحابه وزوجاته.
وكان من تلك الأكاذيب: واقعة الإفك التي نزل فيها القرآن الكريم تبرئة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما قال فيها أهل الإفك.
فعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ ، قَالَ الزُّهْرِىُّ ، وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِى طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ ، وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا ، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِى حَدَّثَنِى عَنْ عَائِشَةَ ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا . زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِى غَزَاةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِى ، فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِى هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ ، وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِى أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ ، فَلَمَسْتُ صَدْرِى ، فَإِذَا عِقْدٌ لِى مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِى ، فَحَبَسَنِى ابْتِغَاؤُهُ ، فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِى ، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِى فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِى الَّذِى كُنْتُ أَرْكَبُ ، وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّى فِيهِ ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ ، وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا ، فَوَجَدْتُ عِقْدِى بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ ، فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ ، فَأَمَمْتُ مَنْزِلِى الَّذِى كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِى فَيَرْجِعُونَ إِلَىَّ ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِى عَيْنَاىَ فَنِمْتُ ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِىُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِىُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِى فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِى ، وَكَانَ يَرَانِى قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ ، فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِى الرَّاحِلَةَ ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ ، وَكَانَ الَّذِى تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا ، يُفِيضُونَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ ، وَيَرِيبُنِى فِى وَجَعِى أَنِّى لاَ أَرَى مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الَّذِى كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ « كَيْفَ تِيكُمْ » . لاَ أَشْعُرُ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى نَقَهْتُ ، فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ مُتَبَرَّزُنَا ، لاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا ، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِى الْبَرِّيَّةِ أَوْ فِى التَّنَزُّهِ ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِى رُهْمٍ نَمْشِى ، فَعَثُرَتْ فِى مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ ، فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ ، أَتَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَتْ يَا هَنْتَاهْ أَلَمْ تَسْمَعِى مَا قَالُوا فَأَخْبَرَتْنِى بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِى ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِى دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ فَقَالَ « كَيْفَ تِيكُمْ » . فَقُلْتُ ائْذَنْ لِى إِلَى أَبَوَىَّ . قَالَتْ وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا ، فَأَذِنَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُ أَبَوَىَّ فَقُلْتُ لأُمِّى مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِى عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا . فَقُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا قَالَتْ فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِى دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ أَهْلِهِ ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالَّذِى يَعْلَمُ فِى نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ لَهُمْ ، فَقَالَ أُسَامَةُ أَهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ نَعْلَمُ وَاللَّهِ إِلاَّ خَيْرًا ، وَأَمَّا عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ ، وَسَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ . فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ فَقَالَ « يَا بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ » . فَقَالَتْ بَرِيرَةُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، إِنْ رَأَيْتُ مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنِ الْعَجِينَ فَتَأْتِى الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ . فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ يَوْمِهِ ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ ابْنِ سَلُولَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ يَعْذِرُنِى مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِى أَذَاهُ فِى أَهْلِى ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِى إِلاَّ خَيْرًا ، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا ، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِى إِلاَّ مَعِى » . فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا وَاللَّهِ أَعْذِرُكَ مِنْهُ ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ . فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلاً صَالِحًا وَلَكِنِ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فَقَالَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ . فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ ، وَبَكَيْتُ يَوْمِى لاَ يَرْقَأُ لِى دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ ، فَأَصْبَحَ عِنْدِى أَبَوَاىَ ، قَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِى - قَالَتْ - فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِى وَأَنَا أَبْكِى إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا ، فَجَلَسَتْ تَبْكِى مَعِى ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسَ ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِى مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِىَّ مَا قِيلَ قَبْلَهَا ، وَقَدْ مَكُثَ شَهْرًا لاَ يُوحَى إِلَيْهِ فِى شَأْنِى شَىْءٌ - قَالَتْ - فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ « يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِى عَنْكِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ » . فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِى حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً وَقُلْتُ لأَبِى أَجِبْ عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ لأُمِّى أَجِيبِى عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَالَ . قَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَتْ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ إِنِّى وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ ، وَوَقَرَ فِى أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّى بَرِيئَةٌ . وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّى لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِى بِذَلِكَ ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّى وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِى وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِى ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِى اللَّهُ ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِى شَأْنِى وَحْيًا ، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِى نَفْسِى مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِى أَمْرِى ، وَلَكِنِّى كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِى اللَّهُ ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِى يَوْمٍ شَاتٍ ، فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِى « يَا عَائِشَةُ ، احْمَدِى اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ » . فَقَالَتْ لِى أُمِّى قُومِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ ، لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) [النور/11])، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِى بَرَاءَتِى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضى الله عنه - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (22) سورة النور، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى ، وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِى ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِى كَانَ يُجْرِى عَلَيْهِ . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِى ، فَقَالَ « يَا زَيْنَبُ ، مَا عَلِمْتِ مَا رَأَيْتِ » . فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَحْمِى سَمْعِى وَبَصَرِى ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاَّ خَيْرًا ، قَالَتْ وَهْىَ الَّتِى كَانَتْ تُسَامِينِى ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ .(1)
__________
(1) - صحيح البخارى (2661 )
البرحاء : الشدة الجزع : خرز فيه بياض وسواد الجمان : اللؤلؤ الصغار وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ الداجن : ما يألف البيت من الحيوان يرقأ : ينقطع رام : فارق المُعرس : المستريح أغمص : أعيب به المرط : الكساء من صوف وغيره
وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقُرْعَة حَتَّى بَيْنَ النِّسَاء وَفِي الْمُسَافَرَة بِهِنَّ وَالسَّفَر بِالنِّسَاءِ حَتَّى فِي الْغَزْو ، وَجَوَاز حِكَايَة مَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ مِنْ الْفَضْل وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَدْح نَاسٍ وَذَمُّ نَاسٍ إِذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إِزَالَة تَوَهُّم النَّقْص عَنْ الْحَاكِي إِذَا كَانَ بَرِيئًا عِنْدَ قَصْد نُصْح مَنْ يَبْلُغهُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقَع فِيمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ سَبْق وَأَنَّ الِاعْتِنَاء بِالسَّلَامَةِ مِنْ وُقُوع الْغَيْر فِي الْإِثْم أَوْلَى مِنْ تَرْكه يَقَع فِي الْإِثْم وَتَحْصِيل الْأَجْر لِلْمَوْقُوعِ فِيهِ . وَفِيهِ اِسْتِعْمَال التَّوْطِئَة فِيمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ الْكَلَام ، وَأَنَّ الْهَوْدَج يَقُوم مَقَامَ الْبَيْت فِي حَجْب الْمَرْأَة ، وَجَوَاز رُكُوب الْمَرْأَة الْهَوْدَج عَلَى ظَهْر الْبَعِير وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَكُونُ مُطِيقًا لِذَلِكَ ، وَفِيهِ خِدْمَة الْأَجَانِب لِلْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَاب ، وَجَوَاز تَسَتُّر الْمَرْأَة بِالشَّيْءِ الْمُنْفَصِل عَنْ الْبَدَنِ ، وَتَوَجُّه الْمَرْأَة لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَحْدَهَا وَبِغَيْرِ إِذْن خَاصّ مِنْ زَوْجهَا بَلْ اِعْتِمَادًا عَلَى الْإِذْن الْعَامّ الْمُسْتَنِد إِلَى الْعُرْف الْعَامّ ، وَجَوَاز تَحَلِّي الْمَرْأَة فِي السَّفَر بِالْقِلَادَةِ وَنَحْوِهَا ، وَصِيَانَة الْمَال وَلَوْ قَلَّ لِلنَّهْيِ عَنْ إِضَاعَة الْمَال ، فَإِنَّ عِقْد عَائِشَة لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَهَب وَلَا جَوْهَر ، وَفِيهِ شُؤْم الْحِرْص عَلَى الْمَال لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُطِلْ فِي التَّفْتِيش لَرَجَعَتْ بِسُرْعَةٍ فَلَمَّا زَادَ عَلَى قَدْر الْحَاجَة أَثَّرَ مَا جَرَى . وَقَرِيب مِنْهُ قِصَّة الْمُتَخَاصِمَيْنِ حَيْثُ رُفِعَ عِلْم لَيْلَة الْقَدْر بِسَبَبِهِمَا فَإِنَّهُمَا لَمْ يَقْتَصِرَا عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ بَلْ زَادَا فِي الْخِصَام حَتَّى اِرْتَفَعَتْ أَصْوَاتهمَا فَأَثَّرَ ذَلِكَ بِالرَّفْعِ الْمَذْكُور ، وَتَوَقُّف رَحِيل الْعَسْكَر عَلَى إِذْن الْأَمِير ، وَاسْتِعْمَال بَعْض الْجَيْش سَاقَة يَكُونُ أَمِينًا لِيَحْمِل الضَّعِيف وَيَحْفَظ مَا يَسْقُط وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِح ، وَالِاسْتِرْجَاع عِنْدَ الْمُصِيبَة ، وَتَغْطِيَة الْمَرْأَة وَجْههَا عَنْ نَظَر الْأَجْنَبِيّ وَإِطْلَاق الظَّنّ عَلَى الْعِلْم ، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَر قَدَّمْته . وَإِغَاثَة الْمَلْهُوف ، وَعَوْنِ الْمُنْقَطِع ، وَإِنْقَاذ الضَّائِع ، وَإِكْرَام ذَوِي الْقَدْر وَإِيثَارهمْ بِالرُّكُوبِ وَتَجَشُّم الْمَشَقَّة لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَحُسْنِ الْأَدَب مَعَ الْأَجَانِب خُصُوصًا النِّسَاء لَا سِيَّمَا فِي الْخَلْوَة ، وَالْمَشْي أَمَام الْمَرْأَة لِيَسْتَقِرَّ خَاطِرهَا وَتَأْمَنَ مِمَّا يُتَوَهَّم مِنْ نَظَره لِمَا عَسَاهُ يَنْكَشِف مِنْهَا فِي حَرَكَة الْمَشْي ، وَفِيهِ مُلَاطَفَة الزَّوْجَة وَحُسْنُ مُعَاشَرَتهَا وَالتَّقْصِير مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ إِشَاعَة مَا يَقْتَضِي النَّقْص وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّق ، وَفَائِدَة ذَلِكَ أَنْ تَتَفَطَّنَ لِتَغْيِيرِ الْحَال فَتَعْتَذِر أَوْ تَعْتَرِف ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْمَرِيض أَنْ يُعْلِمُوهُ بِمَا يُؤْذِي بَاطِنَهُ لِئَلَّا يَزِيد ذَلِكَ فِي مَرَضه ، وَفِيهِ السُّؤَال عَنْ الْمَرِيض وَإِشَارَة إِلَى مَرَاتِب الْهِجْرَان بِالْكَلَامِ وَالْمُلَاطَفَة ، فَإِذَا كَانَ السَّبَب مُحَقَّقًا فَيُتْرَك أَصْلًا ، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَيُخَفَّف ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ أَوْ مُحْتَمَلًا فَيَحْسُن التَّقْلِيل مِنْهُ لَا لِلْعَمَلِ بِمَا قِيلَ بَلْ لِئَلَّا يُظَنّ بِصَاحِبِهِ عَدَم الْمُبَالَاة بِمَا قِيلَ فِي حَقِّهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَارِم الْمُرُوءَة . وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْأَة إِذَا خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ تَسْتَصْحِب مَنْ يُؤْنِسُهَا أَوْ يَخْدِمهَا مِمَّنْ يُؤْمَن عَلَيْهَا . وَفِيهِ ذَبّ الْمُسْلِم عَنْ الْمُسْلِم خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْفَضْل ، وَرَدْع مَنْ يُؤْذِيهِمْ وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ بِسَبِيلٍ ، وَبَيَان مَزِيد فَضِيلَة أَهْل بَدْر وَإِطْلَاق السَّبّ عَلَى لَفْظ الدُّعَاء بِالسُّوءِ عَلَى الشَّخْص . وَفِيهِ الْبَحْث عَنْ الْأَمْر الْقَبِيح إِذَا أُشِيعَ وَتُعْرَف صِحَّته وَفَسَاده بِالتَّنْقِيبِ عَلَى مَنْ قِيلَ فِيهِ هَلْ وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يَقْرَب مِنْهُ وَاسْتِصْحَاب حَالِ مَنْ اُتُّهِمَ بِسُوءٍ إِذَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ إِذَا لَمْ يَظْهَر عَنْهُ بِالْبَحْثِ مَا يُخَالِف ذَلِكَ . وَفِيهِ فَضِيلَة قَوِيَّة لِأُمِّ مِسْطَح لِأَنَّهَا لَمْ تُحَابِ وَلَدَهَا فِي وُقُوعه فِي حَقِّ عَائِشَة بَلْ تَعَمَّدَتْ سَبَّهُ عَلَى ذَلِكَ . وَفِيهِ تَقْوِيَة لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَهْل بَدْر : " أَنَّ اللَّه قَالَ لَهُمْ : اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ " ، وَأَنَّ الرَّاجِح أَنَّ الْمُرَاد بِذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوب تَقَع مِنْهُمْ لَكِنَّهَا مَقْرُونَة بِالْمَغْفِرَةِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرهمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَشْهَد الْعَظِيم وَمَرْجُوحِيَّة الْقَوْل الْآخَر أَنَّ الْمُرَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَصَمَهُمْ فَلَا يَقَع مِنْهُمْ ذَنْب ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة نَفَعَ اللَّه بِهِ . وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّسْبِيح عِنْدَ سَمَاع مَا يَعْتَقِد السَّامِع أَنَّهُ كَذِب ، وَتَوْجِيهه هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى يُنَزَّه أَنْ يَحْصُل لِقَرَابَةِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تَدْنِيس ، فَيُشْرَع شُكْره بِالتَّنْزِيهِ فِي مِثْل هَذَا ، نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ . وَفِيهِ تَوَقُّف خُرُوج الْمَرْأَة مِنْ بَيْتهَا عَلَى إِذْن زَوْجهَا وَلَوْ كَانَتْ إِلَى بَيْت أَبَوَيْهَا . وَفِيهِ الْبَحْث عَنْ الْأَمْر الْمَقُول مِمَّنْ يَدُلّ عَلَيْهِ الْمَقُول فِيهِ ، وَالتَّوَقُّف فِي خَبَرِ الْوَاحِد وَلَوْ كَانَ صَادِقًا ، وَطَلَب الِارْتِقَاء مِنْ مَرْتَبَة الظَّنّ إِلَى مَرْتَبَة الْيَقِين ، وَأَنَّ خَبَر الْوَاحِد إِذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْء أَفَادَ الْقَطْع لِقَوْلِ عَائِشَة : " لَأَسْتَيْقِنُ الْخَبَر مِنْ قِبَلِهِمَا " وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّف عَلَى عَدَد مُعَيَّن . وَفِيهِ اِسْتِشَارَة الْمَرْء أَهْل بِطَانَته مِمَّنْ يَلُوذ بِهِ بِقَرَابَةٍ وَغَيْرهَا ، وَتَخْصِيص مَنْ جُرِّبَتْ صِحَّة رَأْيه مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَيْره أَقْرَبِ ، وَالْبَحْث عَنْ حَالِ مَنْ اُتُّهِمَ بِشَيْءٍ ، وَحِكَايَة ذَلِكَ لِلْكَشْفِ عَنْ أَمْره وَلَا يُعَدّ ذَلِكَ غِيبَةً . وَفِيهِ اِسْتِعْمَال " لَا نَعْلَم إِلَّا خَيْرًا " فِي التَّزْكِيَة ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حَقِّ مَنْ سَبَقَتْ عَدَالَته مِمَّنْ يُطَّلَع عَلَى خَفِيّ أَمْره ، وَفِيهِ التَّثَبُّت فِي الشَّهَادَة ، وَفِطْنَة الْإِمَام عِنْدَ الْحَادِث الْمُهِمّ ، وَالِاسْتِنْصَار بِالْأَخِصَّاءِ عَلَى الْأَجَانِب ، وَتَوْطِئَة الْعُذْر لِمَنْ يُرَاد إِيقَاع الْعِقَاب بِهِ أَوْ الْعِتَاب لَهُ ، وَاسْتِشَارَة الْأَعْلَى لِمَنْ هُوَ دُونَهُ ، وَاسْتِخْدَام مَنْ لَيْسَ فِي الرِّقّ ، وَأَنَّ مَنْ اِسْتَفْسَرَ عَنْ حَالِ شَخْص فَأَرَادَ بَيَان مَا فِيهِ مِنْ عَيْب فَلْيُقَدِّمْ ذِكْر عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ يَعْلَمهُ كَمَا قَالَتْ بَرِيرَة فِي عَائِشَة حَيْثُ عَابَتْهَا بِالنَّوْمِ عَنْ الْعَجِينِ فَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهَا جَارِيَة . حَدِيثَة السِّنّ . وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يَحْكُم لِنَفْسِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُول الْوَحْي لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَجْزِم فِي الْقِصَّة بِشَيْءٍ قَبْلَ نُزُول الْوَحْي ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة نَفَعَ اللَّه بِهِ . وَأَنَّ الْحَمِيَّة لِلَّهِ وَرَسُوله لَا تُذَمّ . وَفِيهِ فَضَائِلُ جَمَّة لِعَائِشَةَ وَلِأَبَوَيْهَا وَلِصَفْوَانَ وَلِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبِ وَأُسَامَة وَسَعْد بْن مُعَاذ وَأُسَيْد بْن حُضَيْر . وَفِيهِ أَنَّ التَّعَصُّب لِأَهْلِ الْبَاطِل يُخْرِج عَنْ اِسْم الصَّلَاح ، وَجَوَاز سَبّ مَنْ يَتَعَرَّض لِلْبَاطِلِ وَنِسْبَته إِلَى مَا يَسُوءهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَة فِيهِ ، لَكِنْ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُشْبِه ذَلِكَ جَازَ إِطْلَاق ذَلِكَ عَلَيْهِ تَغْلِيظًا لَهُ ، وَإِطْلَاق الْكَذِب عَلَى الْخَطَأ ، وَالْقَسَم بِلَفْظِ لَعَمْر اللَّه . وَفِيهِ النَّدْب إِلَى قَطْع الْخُصُومَة ، وَتَسْكِين ثَائِرَة الْفِتْنَة ، وَسَدّ ذَرِيعَة ذَلِكَ ، وَاحْتِمَال أَخَفّ الضَّرَرَيْنِ بِزَوَالِ أَغْلَظهمَا ، وَفَضْل اِحْتِمَال الْأَذَى . وَفِيهِ مُبَاعَدَة مَنْ خَالَفَ الرَّسُول وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلٍ أَوْ فِعْل يُقْتَل لِأَنَّ سَعْد بْن مُعَاذ أَطْلَقَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - . وَفِيهِ مُسَاعَدَة مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ بَلِيَّة بِالتَّوَجُّعِ وَالْبُكَاء وَالْحُزْن . وَفِيهِ تَثَبُّت أَبِي بَكْر الصِّدِّيق فِي الْأُمُور لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْهُ فِي هَذِهِ الْقِصَّة مَعَ تَمَادِي الْحَال فِيهَا شَهْرًا كَلِمَة فَمَا فَوْقَهَا ، إِلَّا مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث أَنَّهُ قَالَ : " وَاَللَّه مَا قِيلَ لَنَا هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة ، فَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّنَا اللَّه بِالْإِسْلَامِ " وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيث اِبْنِ عُمَر عِنْدَ الطَّبَرَانِيّ . وَفِيهِ اِبْتِدَاء الْكَلَام فِي الْأَمْر الْمُهِمّ بِالتَّشَهُّدِ وَالْحَمْد وَالثَّنَاء وَقَوْل أَمَّا بَعْدُ ، وَتَوْقِيف مَنْ نُقِلَ عَنْهُ ذَنْب عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ بَعْدَ الْبَحْث عَنْهُ ، وَأَنَّ قَوْل كَذَا وَكَذَا يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْأَحْوَال كَمَا يُكَنَّى بِهَا عَنْ الْأَعْدَاد وَلَا تَخْتَصّ بِالْأَعْدَادِ ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّوْبَة وَأَنَّهَا تُقْبَل مِنْ الْمُعْتَرِف الْمُقْلِع الْمُخْلِص ، وَأَنَّ مُجَرَّد الِاعْتِرَاف لَا يُجْزِئ فِيهَا ، وَأَنَّ الِاعْتِرَاف بِمَا لَمْ يَقَع لَا يَجُوز وَلَوْ عُرِفَ أَنَّهُ يَصْدُق فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُؤَاخَذ عَلَى مَا يَتَرَتَّب عَلَى اِعْتِرَافه ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول الْحَقّ أَوْ يَسْكُت ، وَأَنَّ الصَّبْر تُحْمَد عَاقِبَته وَيُغْبَط صَاحِبُهُ . وَفِيهِ تَقْدِيم الْكَبِير فِي الْكَلَام وَتَوَقُّف مَنْ اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْر فِي الْكَلَام . وَفِيهِ تَبْشِير مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَة أَوْ اِنْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَة . وَفِيهِ الضَّحِك وَالْفَرَح وَالِاسْتِبْشَار عِنْدَ ذَلِكَ ، وَمَعْذِرَة مَنْ اِنْزَعَجَ عِنْدَ وُقُوع الشِّدَّة لِصِغَرِ سِنٍّ وَنَحْوِهِ ، وَإِدْلَال الْمَرْأَة عَلَى زَوْجهَا وَأَبَوَيْهَا ، وَتَدْرِيج مَنْ وَقَعَ فِي مُصِيبَة فَزَالَتْ عَنْهُ لِئَلَّا يَهْجُم عَلَى قَلْبه الْفَرَح مِنْ أَوَّلِ وَهْلَة فَيُهْلِكهُ ، يُؤْخَذ ذَلِكَ مِنْ اِبْتِدَاء النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ نُزُول الْوَحْي بِبَرَاءَةِ عَائِشَة بِالضَّحِكِ ثُمَّ تَبْشِيرهَا ثُمَّ إِعْلَامهَا بِبَرَاءَتِهَا مُجْمَلَة ثُمَّ تِلَاوَته الْآيَات عَلَى وَجْههَا . وَقَدْ نَصَّ الْحُكَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَش لَا يُمَكَّن مِنْ الْمُبَالَغَة فِي الرَّيّ فِي الْمَاء لِئَلَّا يُفْضِي بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْهَلَكَة بَلْ يُجَرَّع قَلِيلًا قَلِيلًا . وَفِيهِ أَنَّ الشِّدَّة إِذَا اِشْتَدَّتْ أَعْقَبَهَا الْفَرَج ، وَفُضِّلَ مَنْ يُفَوِّض الْأَمْر لِرَبِّهِ ، وَأَنَّ مَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ خَفَّ عَنْهُ الْهَمّ وَالْغَمّ كَمَا وَقَعَ فِي حَالَتَيْ عَائِشَة قَبْلَ اِسْتِفْسَارهَا عَنْ حَالِهَا وَبَعْدَ جَوَابهَا بِقَوْلِهَا : وَاَللَّه الْمُسْتَعَان . وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الْخَيْر خُصُوصًا فِي صِلَة الرَّحِم ، وَوُقُوع الْمَغْفِرَة لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ أَوْ صَفَحَ عَنْهُ ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَل شَيْئًا مِنْ الْخَيْر اُسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْث ، وَجَوَاز الِاسْتِشْهَاد بِآيِ الْقُرْآن فِي النَّوَازِل ، وَالتَّأَسِّي بِمَا وَقَعَ لِلْأَكَابِرِ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَغَيْرهمْ ، وَفِيهِ التَّسْبِيح عِنْدَ التَّعَجُّب وَاسْتِعْظَام الْأَمْر ، وَذَمُّ الْغِيبَة وَذَمّ سَمَاعهَا وَزَجْر مَنْ يَتَعَاطَاهَا لَا سِيَّمَا إِنْ تَضَمَّنَتْ تُهْمَة الْمُؤْمِن بِمَا لَمْ يَقَع مِنْهُ ، وَذَمّ إِشَاعَة الْفَاحِشَة ، وَتَحْرِيم الشَّكّ فِي بَرَاءَة عَائِشَة . وَفِيهِ تَأْخِير الْحَدّ عَمَّنْ يُخْشَى مِنْ إِيقَاعه بِهِ الْفِتْنَة ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ اِبْنُ بَطَّال مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ كَانَ مِمَّنْ قَذَفَ عَائِشَة وَلَمْ يَقَع فِي الْحَدِيث أَنَّهُ مِمَّنْ حُدَّ ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاض بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُت أَنَّهُ قَذَفَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَخْرِجهُ وَيَسْتَوْشِيه . قُلْت : وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَذَفَ صَرِيحًا ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي مُرْسَل سَعِيد بْن جُبَيْر عِنْدَ اِبْنِ أَبِي حَاتِم وَغَيْره وَفِي مُرْسَل مُقَاتِل بْن حَيَّانَ عِنْدَ الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " بِلَفْظِ " فَرَمَاهَا عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ " وَفِي حَدِيث اِبْنِ عُمَر عِنْدَ الطَّبَرَانِيّ بِلَفْظٍ أَشْنَع مِنْ ذَلِكَ ، وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ مِمَّنْ جُلِدَ الْحَدَّ ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي رِوَايَة أَبِي أُوَيْس عَنْ الْحَسَنِ بْن زَيْد وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن حَزْم وَغَيْرهمَا مُرْسَلًا أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " فَإِنْ ثَبَتَا سَقَطَ السُّؤَال وَإِنْ لَمْ يَثْبُتَا فَالْقَوْل مَا قَالَ عِيَاض فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُت خَبَرٌ بِأَنَّهُ قَذَفَ صَرِيحًا ثُمَّ لَمْ يُحَدّ ، وَقَدْ حَكَى الْمَاوَرْدِيّ إِنْكَار وُقُوع الْحَدّ بِاَلَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَة أَصْلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاعْتَلَّ قَائِله بِأَنَّ حَدَّ الْقَذْف لَا يَجِبُ إِلَّا بِقِيَامِ بَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَار ، وَزَادَ غَيْره " أَوْ بِطَلَبِ الْمَقْذُوف " قَالَ : وَلَمْ يُنْقَل ذَلِكَ . كَذَا قَالَ ، وَفِيهِ نَظَر يَأْتِي إِيضَاحه فِي كِتَاب الْحُدُود إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَلِيّ الْكَرَابِيسِيّ صَاحِبِ الشَّافِعِيّ فِي " كِتَاب الْقَضَاء " عَلَى مَنْع الْحُكْم حَالَة الْغَضَبِ لِمَا بَدَا مِنْ سَعْد بْن مُعَاذ وَأُسَيْد بْن حُضَيْر وَسَعْد بْن عُبَادَةَ مِنْ قَوْل بَعْضهمْ لِبَعْضٍ حَالَة الْغَضَب حَتَّى كَادُوا يَقْتَتِلُونَ ، قَالَ : فَإِنَّ الْغَضَب يُخْرِج الْحَلِيم الْمُتَّقِي إِلَى مَا لَا يَلِيق بِهِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْغَضَب قَوْمًا مِنْ خِيَار هَذِهِ الْأُمَّة بِحَضْرَةِ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَا لَا يَشُكّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهَا مِنْهُمْ زَلَّة إِلَى آخِر كَلَامِهِ فِي ذَلِكَ . وَهَذِهِ مَسْأَلَة نَقَلَ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهَا رِوَايَة عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَمْ تَثْبُت . وَسَيَأْتِي الْقَوْل فِيهَا فِي كِتَاب الطَّلَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَيُؤْخَذ مِنْ سِيَاق عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا جَمِيع قِصَّتهَا الْمُشْتَمِلَة عَلَى بَرَاءَتهَا بَيَان مَا أُجْمِلَ فِي الْكِتَاب وَالسُّنَّة لِسِيَاقِ أَسْبَاب ذَلِكَ ، وَتَسْمِيَة مَنْ يُعْرَف مِنْ أَصْحَاب الْقَصَص لِمَا فِي ضِمْن ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِد الْأَحْكَامِيَّة وَالْآدَابِيَّة وَغَيْر ذَلِكَ ، وَبِذَلِكَ يُعْرَف قُصُور مَنْ قَالَ : بَرَاءَة عَائِشَة ثَابِتَة بِصَرِيحِ الْقُرْآن فَأَيُّ فَائِدَة لِسِيَاقِ قِصَّتهَا ؟فتح الباري لابن حجر - (ج 13 / ص 260)(1/24)
وبما أننا نتحدث هنا عن علم الرواية وهي من العلم النقلي ، فمعنى ذلك أنه لا يقبل شيء من الراوي فيما ينقله إلا بعد أن يتثبت من صحته ، ومطابقته للأصل الذي صدر عن صاحبه.
كما أنها أوجبت عليَّ كل من سمع حديثا أن يتوثق ولا يروي حتى يتثبت ويأخذ بالاحتياط ، وهذا ما أخذ به الصحابة ومن بعدهم(1).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر: المنهج العلمي للتعامل مع السنة ص 9.(1/25)
خامسا
النهي عن التحديث بكل ما سمع الإنسان
الإنسان في العادة يسمع الصدق والكذب ، فإذا حدَّث بكل ما سمع فقد وقع في الكذب لإخباره بما لم يكن ، وقد ورد في النهي عن التحديث بكل ما يسمعه المرء قول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ».(1)
قال النووي : " وفيهِ الزَّجْر عَنْ التَّحْدِيث بِكُلِّ مَا سَمِعَ الْإِنْسَان فَإِنَّهُ يَسْمَع فِي الْعَادَة الصِّدْق وَالْكَذِب ، فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ أَنَّ الْكَذِب : الْإِخْبَار عَنْ الشَّيْء بِخِلَافِ مَا هُوَ ، وَلَا يُشْتَرَط فِيهِ التَّعَمُّد لَكِنَّ التَّعَمُّد شَرْط فِي كَوْنه إِثْمًا وَاَللَّه أَعْلَمُ ."(2)
قال القرطبي: (ومعنى الحديث : أنَّ مَنْ حدَّث بكلِّ ما سمع ، حصَلَ له الحظُّ الكافي من الكذب ؛ فإنَّ الإنسان يسمعُ الغَثَّ والسمين ، والصحيح والسقيم ، فإذا حدَّث بكل ذلك ، حدَّثَ بالسقيم وبالكذب ، ثم تُحَمِّلَ عنه ، فيَكْذِبُ في نفسه أو يُكْذَبُ بسببه.
ولهذا أشار مالك - رحمه الله - بقوله : لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَاسَمِعَ ، وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا ، أي إذا وُجِدَ الكَذِبُ في روايته ، لم يوثَقُ بحديثه ، وكان ذلك جَرْحَةً فيه ؛ فلا يصلحُ ليقتديَ به أحدٌ ولو كان عالمًا ، فلو بيَّن الصحيحَ من السقيم ، والصادقَ من الكاذب ، سَلِمَ من ذلك ، وتقصَّى عن عُهْدَةِ ما يجبُ عليه من النصيحة الدينيَّة.)(3).
وقال ابن عثيمين رحمه الله(4):
" يعني أن الإنسان إذا صار يحدث بكل ما سمع من غير تثبت وتأن، فإنه يكون عرضة للكذب، وهذا هو الواقع ولهذا يجيء إليك بعض الناس يقولون: صار كذا وكذا، ثم إذا بحثت وجدت أنه لم يكن، أو يأتي إليك ويقول: قال فلان كذا وكذا، فإذا بحثت وجدته لم يقل، وأعظم شيء أن يكون هذا فيما يتعلق بحكم الله وشريعته بأن يكذب على الله فيقول في القرآن برأيه ويفسر القرآن بغير ما أراد الله أو يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا .
وهو كاذب، أو ينقل حديثا يرى أنه كذب وهو لم يكذبه ولكن يقول: قال فلان كذا وكذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يرى أنه كذب فإنه يكون أحد الكاذبين كما بين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -
والحاصل أنه يجب على الإنسان أن يتثبت فيما يقول ويتثبت فيمن ينقل إليه الخبر، هل هو ثقة، أو غير ثقة كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات، ولاسيما إذا كثرت الأهواء وصار الناس يتخبطون ويكثرون من القيل والقال بلا تثبت ولا بينة، فإنه يكون التثبت أشد وجوبا، حتى لا يقع الإنسان في المهلكة .والله الموفق"
وقال د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني: " لا شك أن من الصفات المهمة التي ينبغي أن يلتزمها الداعية، الحرص على صحة ما يقول وينقل للناس، حتى لا يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وللحرص على هذه الصفة قال إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة في روايته لهذا الحديث : « يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرَّة- أو مثل الملوك على الأسرَّة » قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : " وهذا الشك من إسحاق، يشعر بأنه كان يحافظ على تأدية الحديث بلفظه ولا يتوسع في تأديته بالمعنى "(5)وهذا يدل على حرص السلف على تَحَرِّيهِم في النقل، وصدقهم ؛ لأنه لما أشكل على إسحاق لفظ الحديث أبدى الإشكال ولم يأخذ بقوة الظن فيخبر به .(6)
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله تعالى الحرص على ضبط الرواية والدقة في نقل الأخبار، والأقوال، وخاصة إذا كان النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا لم يتيقن ذلك قال في نهاية الحديث : أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، أو الحديث بمعناه، وكذلك الأحاديث التي يشك في صحتها يقول : ذكِرَ، أَوْ روِيَ، أو جاء، حتى لا يقع في قوله - صلى الله عليه وسلم - :(7)« كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع » .(8)"
وعَنْ أَبِي عُثْمَانَ ، قَالَ : قَالَ عُمَرُ : حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.(9)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ ، قَالَ : بحسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ.(10)
وقد تأصل هذا المنهج في الأجيال التالية.
وعن ابْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ لِى مَالِكٌ : "اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ وَلاَ يَكُونُ إِمَامًا أَبَدًا وَهُوَ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَ".(11)
فقول مالك (ولا يكون إماما أبدا) َمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ كَثُرَ الْخَطَأ فِي رِوَايَته فَتُرِكَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وَالْأَخْذ عَنْهُ .(12).
وَقَالَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِىٍّ : لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ حَتَّى يُمْسِكَ عَنْ بَعْضِ مَا سَمِعَ.(13)
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ سَأَلَنِى إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ إِنِّى أَرَاكَ قَدْ كَلِفْتَ بِعِلْمِ الْقُرْآنِ فَاقْرَأْ عَلَىَّ سُورَةً وَفَسِّرْ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا عَلِمْتَ. قَالَ فَفَعَلْتُ. فَقَالَ لِىَ احْفَظْ عَلَىَّ مَا أَقُولُ لَكَ إِيَّاكَ وَالشَّنَاعَةَ فِى الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ قَلَّمَا حَمَلَهَا أَحَدٌ إِلاَّ ذَلَّ فِى نَفْسِهِ وَكُذِّبَ فِى حَدِيثِهِ.(14)
وَمَعْنَى كَلَامه أَنَّهُ حَذَّرَهُ أَنْ يُحَدِّث بِالْأَحَادِيثِ الْمُنْكَرَة الَّتِي يَشْنُعُ عَلَى صَاحِبِهَا وَيُنْكَرُ وَيَقْبُحُ حَالُ صَاحِبِهَا فَيُكَذَّبُ أَوْ يُسْتَرَابُ فِي رِوَايَاته فَتَسْقُط مَنْزِلَته ، وَيَذِلّ فِي نَفْسه ، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَمُ .(15)
وقال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه : " اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَرَفَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِ الرِّوَايَاتِ وَسَقِيمِهَا ، وَثِقَاتِ النَّاقِلِينَ لَهَا مِنَ الْمُتَّهَمِينَ ، أَنْ لَا يَرْوِيَ مِنْهَا إِلَّا مَا عَرَفَ صِحَّةَ مَخَارِجِهِ ، وَالسِّتَارَةَ فِي نَاقِلِيهِ ، وَأَنْ يَتَّقِيَ مِنْهَا مَا كَانَ مِنْهَا عَنْ أَهْلِ التُّهَمِ وَالْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الَّذِي قُلْنَا مِنْ هَذَا هُوَ اللَّازِمُ دُونَ مَا خَالَفَهُ ، قَوْلُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ، وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ، فَدَلَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْآيِ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ سَاقِطٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَأَنَّ شَهَادَةَ غَيْرِ الْعَدْلِ مَرْدُودَةٌ ، وَالْخَبَرُ وَإِنْ فَارَقَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ ، فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي أَعْظَمِ مَعَانِيهِمَا ، إِذْ كَانَ خَبَرُ الْفَاسِقِ غَيْرَ مَقْبُولٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى نَفْيِ رِوَايَةِ الْمُنْكَرِ مِنَ الْأَخْبَارِ كَنَحْوِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نَفْيِ خَبَرِ الْفَاسِقِ "
وقال الخطيب في الكفاية : " وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ فِي أُمَّتِهِ مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ كَذَّابِينَ , فَحَذَّرَ مِنْهُمْ , وَنَهَى عَنْ قَبُولِ رِوَايَاتِهِمْ , وَأَعْلَمَنَا أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ لَيْسَ كَالْكَذِبِ عَلَى غَيْرِهِ , فَوَجَبَ بِذَلِكَ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ الْمُحَدِّثِينَ , وَالتَّفْتِيشُ عَنْ أُمُورِ النَّاقِلِينَ , احْتِيَاطًا لِلدِّينِ , وَحِفْظًا لِلشَّرِيعَةِ مِنْ تَلْبِيسِ الْمَلْحِدِين"
فهذه الآثار وغيرها كثير تفيد أن هذا الأصل كان باعثا على الاحتياط في الرواية ، وعدم الإقدام عليها إلا بعد التأكد من صحة المروي ، والتثبت من صحة ما يسمعه المرء لاسيما ما يسمعه من الأحاديث.
- - - - - - - - - - - - - -
الفصل الثاني
نشأتُ علم المصطلح وتطوره(16)
" لقد بدأت البواكير الأولى لهذا العلم منذ مرحلة مبكرة جدا منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبأمر من القرآن الكريم الذي طلب منا التثبت من نقل الرواة، وعدم إقامة الأحكام قبل التأكد من صدقها، فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات ، وتثبت الصحابة رضوان الله عليهم واشتدوا في أمر الرواية صيانةً للدِّين، وحفظا للشريعة الغراء، وكانوا يطلبون من الراوي أن يأتي لهم بشاهد على ما يرويه، فعل ذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعَنْ قَبِيصَةَ بن ذُؤَيْبٍ، قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بن شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "أَعْطَاهَا السُّدُسَ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟، فَقَامَ مُحَمَّدُ بن مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ، فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَتِ الْجَدَّةُ الأُخْرَى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ: مَا لِكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ إِلا لِغَيْرِكِ، وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا، وَلَكِنْ هُوَ ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا فِيهِ فَهُوَ بَيْنَكُمَا وَأَيُّكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا..(17)
وكذلك فعل عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كُنْتُ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، فَلْيَرْجِعْ » . فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ . أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ ، فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ(18)..
وزاد في رواية فَقَالَ عُمَرُ لأَبِى مُوسَى: أَمَا إِنِّى لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .(19)
ولم يكن موقف أبي بكر وعمر شكًّا في صدق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، كلا وحاشا، وإنما أرادوا أن يؤسسوا المنهج الدقيق هو ضرورة التثبت في أمر رواية الأحاديث؛ لأنها دين الله المتين.
ولما قامت الفتنة بعد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه اشتدوا أكثر في أمر الرواية، حتى لا تؤدي الفتنة إلى إفشاء الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتكلم من الصحابة كثيرٌ في أمر الرواية والجرح والتعديل، فتكلم أنس بن مالك، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، والسيدة عائشة، وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين.
ثم توالت حلقات هذا العلم، فتكلم عن بعض قواعده، من التابعين سعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، وابن سيرين، وغيرهم أيضا كثير. وتكلم من بعد ذلك أناس غيرهم، كالإمام مالك بن أنس والزهري، وسليمان التيمي، وغيرهم أيضا كثير. وتجد قواعد هذا العلم مبثوثة بين ثنايا أقوالهم، التي نقلت عنهم وحفظتها لنا بطون الكتب الموجودة بين أيدينا الآن.
ــــــــــــــ
• علم المصطلح في القرنين الثاني والثالث
وجاءت مرحلة أخرى تلي ذلك دخل فيها علم أصول الحديث طورا جديدا من أطوار تكوينه وتطوره، وذلك بتدوين بعض مباحثه بين طيات كتب العلماء، فممن كتب في بعض موضوعاته في ثنايا مؤلفاته الإمام الشافعي المتوفي سنة 204 هـ ، رضي الله تعالى عنه، حيث تكلم في كتابيه الرسالة والأم عن بيان السنة والقرآن الكريم، وعن الاحتجاج بالسنة وعن حجية خبر الواحد، وشرط الحفظ في الراوي، وقبول رواية المدلس إذا صرح بالسماع وغير ذلك وتكلم البخاري سنة 256 هـ في صحيحه وتواريخه عن بعض مباحث هذا العلم، كما تعرض الإمام مسلم رحمه الله تعالى المتوفي سنة 261 هـ في مقدمة صحيحه لبعض مباحث هذا الفن، ونقل تلاميذ الإمام أحمد عنه كثيرا من آرائه المتعلقة بموضوعات علم المصطلح، وسنن الترمذي المتوفي سنة 279 هـ بها أيضا حديث عن بعض قواعد علوم الحديث، ثم تلت ذلك حقبة أخرى دخل فيها هذا العلم مرحلة المصنفات المستقلة التي ألفت خصيصا لعلم مصطلح الحديث.
ــــــــــــــ
• علم المصطلح بعد القرن الثالث
ويستعرض الحافظ ابن حجر العسقلاني تلك المرحلة فيقول(20):
"فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث، قد كثرت للأئمة في القديم والحديث.
فمِن أوّلِ مَن صَنَّفَ في ذلك:
1- القاضي أبو محمد الرامَهُرْمُزِي في كتابه: "المحدِّثُ الفاصل"، لكنه لم يَستوعب.
2- والحاكم أبو عبد الله النيسابوريّ، لكنه لم يُهَذِّب، ولم يُرَتّب.
3- وتلاه أبو نعيم الأصْبهاني فعَمِل على كتابه مستخْرَجاً وأبقى أشياءَ للمُتَعَقِّب.
4- ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغداديُّ فصَنَّفَ في قوانين الرواية كتاباً سَمَّاهُ: "الكفاية"، وفي آدابها كتاباً سَمَّاهُ: "الجامع لآداب الشيخ والسامع"، وقَلَّ فَنٌّ مِن فنون الحديث إلا وقد صَنَّفَ فيه كتاباً مفْرَداً؛ فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كلُّ مَن أَنْصف عَلِم أنّ المحدِّثين بعد الخطيب عيالٌ على كُتُبِهِ.
ثم جاء بعضُ مَنْ تأخر عن الخطيب، فأَخذ مِن هذا العلم بنصيبٍ:
5- فَجَمع القاضي عياض كتاباً لطيفاً سَمَّاهُ: "الإلماع".
6- وأبو حفْصٍ الميانجي جزءاً سَمَّاهُ: "ما لا يسعُ المحدِّثَ جَهْلُهُ". وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت، وبُسِطَتْ؛ لِيَتَوَفَّر علمها، واخْتُصِرَتْ؛ لِيَتَيَسَّر فهْمها، إلى أن جاءَ:
7- الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح بن عبد الرحمن الشَّهْرَزُوْرِي نزيل دمشق فجمع -لَمّا وَلِيَ تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية- كتابَهُ المشهور، فهذَّب فُنُونَهُ، وأملاه شيئاً بعد شيء؛ فلهذا لم يَحْصُل ترتيبُهُ على الوضع المتناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المفرَّقة، فجمع شَتاتَ مقاصِدها، وضَمَّ إليها من غيرها نُخَبَ فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره؛ فلهذا عَكَف الناسُ عليه، وساروا بسيره، فلا يُحْصَى كم ناظمٍ له ومُخْتَصِرٍ، ومستدرِكٍ عليه ومُقْتَصِرٍ، ومعارِضٍ له ومنتَصِرٍ."
وقال أيضاً : إلاَّ أنَّه لم يحصل ترتيبه على الوضع المُناسب: بأن يذكر ما يتعلَّق بالمتن وحده, وما يتعلَّق بالسَّند وحده, وما يشتركان فيه معا؟ وما يختص بكيفية التحمل والأداء وحده, وما يختص بصفات الرُّواة وحدهُ لأنَّه جمع مُتفرقات هذا الفن من كُتب مُطولة في هذا الحجم اللَّطيف, ورأى أن تحصيله وإلقاءه إلى طالبيه أهم من تأخير ذلك, إلى أن تحصل العناية التامة بحُسْن ترتيبه.
وقد تبعهُ على هذا التَّرتيب جماعة, منهم المُصَنِّفُ, وابن كثير, والعراقي, والبَلْقيني, وغيره جماعة, كابن جماعة, والتبريزي, والطيبي, والزَّركشى.(21)
هذا وينبغي النظر إلى هذا العلم على أنه نظرية نقدية متكاملة، تمثل منهجا عظيما في دراسة أحوال السند والمتن. فإذا كانت ركيزة هذا العلم الأساسية تقوم على أنه به يعرف أحوال الراوي والمروي من حيث القبول والرد. فإن هذا الحديث المروي إذا توافرت فيه شروط الصحة يكون صحيحا، وإذا قلَّ فيه ضبط الرواة بدرجة محتملة يكون حسنا، فإذا فقد شروط الصحة والحسن يكون ضعيفا، والضعيف يتنوع حسب الشرط الذي فقده من شروط الصحة والحسن ومن هنا تعددت أنواع الضعيف، فمنها على سبيل المثال، المعلق، والمعضل، والمدلس، والمنقطع، والمقطوع، والشاذ، والمنكر، والمتروك، وغير ذلك مما سيأتي الحديث عنه. وهناك أنواع تشترك بين الصحيح، والحسن، والضعيف مثل المشهور، والعزيز، والغريب. فإذا انتقلنا إلى أحوال الرواة وهي الشقُّ الثاني لهذا العلم فإننا نجد مباحث العدالة وشروط الراوي، وقواعد التعديل والتجريح من أهم مباحث علوم الحديث. وإذا كانت الرواية في جوهرها ترتكز على عنصرين أساسيين، وهما شيخ يؤدي إلى تلاميذه، وتلميذ أو تلاميذ يتحملون عن هذا الشيخ، فإننا نجد أنفسنا أمام مبحث مهم جدا، وهو التحمل والأداء ووسائل ذلك. وهكذا نجد أنفسنا في النهاية كما قلنا أمام علمٍ عظيمٍ يمثلُ منهجاً نقديًّا متكاملاً توزنُ به رواية الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتميز صحيحها من سقيمها، حتى يتم الاحتياطُ لشرع الله الحنيف، فلله درُّ قرائحَ عظيمةٍ استنبطت قواعد هذا العلم واستخرجت كنوزه فابتكرت بذلك علماً تفخرُ به على سائر الأمم في الأرض .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح مسلم (7 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 6)
(3) - المفهم 1 / 117.
(4) - شرح رياض الصالحين - (ج 1 / ص 1795)
(5) - فتح الباري لابن حجر، 11 / 64، وانظر : كتاب الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، ص 265- 316 .
(6) - انظر : بهجة النفوس لابن أبي جمرة، 1 / 128 .
(7) - انظر : الباعث الحثيث لابن كثير، بقلم العلامة أحمد محمد شاكر، 2 / 377 -442 .
(8) - مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع 1 / 10 برقم 5، وانظر : الحديث رقم 3،
(9) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 8 / ص 408)(26132) صحيح
(10) - نفسه (26133) صحيح
(11) - صحيح مسلم (10 )
(12) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 7)
(13) - صحيح مسلم (12 )
(14) - صحيح مسلم(13 )
(15) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 9)
(16) - انظر :
http://www.alloghat.com/vb/showthread.php?p217
وhttp://www.offok.com/sonna/nash2a.htm
(17) - سنن أبى داود(2896 ) صحيح لغيره
(18) - صحيح البخارى (6245 )
(19) - سنن أبى داود (5186 ) وهو صحيح
(20) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 6) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 9) وندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 16 / ص 3) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 15) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 1) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 193)
(21) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 16)(1/26)
متى دوِّن هذا الفن وأشهر الكتب المؤلفة فيه
كان ظهور التدوين في هذا العلم كفنٍّ مستقلٍّ في القرن الرابع الهجري على ما نعلم وإليك أشهر ما ألف فيه :
1. أول من ألف فيه القاضي " أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن ابن خلاد الرامهرمزي"(1)المتوفى حوالي سنة 360هـ فألف كتاباً سماه " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي " ولكونه أول محاولة لم يجئ كتابه على ما ينبغي . فلم يستوعب كل أنواع هذا العلم ومباحثه . وهذه هي السنَّة في التأليف . فما من علم مبتدع إلا ويبدأ صغيراً ثم يكبر, وقليلاً ثم يكثر .
2. ثم جاء بعده الحاكم "(2)أبوعبد الله محمد بن عبد الله بن البيع النيسابوري" المتوفى سنة 405هـ فألف كتابه " علوم الحديث " ولكنه لم يهذب الفن كما ينبغي ولم يرتبه الترتيب المنشود .
3. ثم تلاه الحافظ " أبو نعيم الأصفهاني"(3)المتوفى سنة 430 هـ فعمل على كتاب الحاكم مستخرجا زاد فيه أشياء على ما في كتابه . لكنه أبقى أشياء لم يذكرها فتداركها من جاء بعده ...
4. ثم جاء بعد هؤلاء الخطيب " أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي(4)" المتوفى سنة 463هـ فألف في قوانين الرواية كتاباً سماه " الكفاية في قوانين الرواية " وفي آدابها كتاباً سماه " الجامع لآداب الشيخ والسامع " .
وقل فن من فنون الحديث إلا وقد ألف فيه كتاباً مفرداً . فكان كما قال الحافظ " أبو بكر محمد بن عبد الغني بن نقطة " البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 629هـ(5): " كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه " .
5. ثم جاء القاضي" عياض بن موسى اليحصبي"(6)المتوفى سنة 544هـ فألف كتاباً سماه " الإلماع في ضبط الرواية وقوانين السماع " .
6. وألف " أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميَانِجي " المتوفى سنة 580هـ رسالة مختصرة سماها " مالا يسع المحدث جهله " .(7)
7. ثم جاء فارس هذه الحلبة الحافظ الفقيه " تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المشهور بابن الصلاح الشّهْرَزُوري(8)" نزيل دمشق المتوفى سنة 643هـ فألف لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور " علوم الحديث " ويعرف بـ " مقدمة ابن الصلاح " .
وقد اعتنى ابن الصلاح بتصانيف الخطيب وغيره ممن سبقه فهذبها وجمعها في كتابه هذا . ولكنه أملاها على طلبته شيئاً فشيئاً من غير سبق روية وتفكير وتأمل في الترتيب والتنسيق .
فلهذا لم يجيء ترتيبه على الوضع المتناسب الدقيق كما هو الشأن في التآليف المنسقة .
فلم يذكر ما يتعلق بالمتن وحده وما يتعلق بالسند وحده ، وما يشتركان معا فيه ، وما يختص بكيفية التحمل والأداء وحده ، وما يختص بصفات الرواة وحده ، وهكذا.
وقد اعتذر عنه الإمام " السيوطي " في كتابه " التدريب " بأنه جمع متفرقات هذا الفن من كتب مطولة في هذا الحجم اللطيف ، ورأى أن تحصيله وإلقاءه إلى طالبيه أهم من تأخير ذلك إلى أن تحصل العناية التامة بحسن ترتيبه وإجادة تنسيقه.(9)وقد ذكر في كتابه خمسة وستين نوعاً وقال : وليس بآخر الممكن في ذلك فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى ......
وقد صدق فقد وصل السيوطي بأنواعه في التدريب إلى ثلاثة وتسعين نوعاً . منها ما أدمجه ابن الصلاح في غيره ، كـ " المعنعن والمعلق " . فقد ذكرهما في نوع المعضل .
ومنها ما فاته كـ " القوي ، والجيد ، والمعروف ، والمحفوظ , والثابت , والصالح , وكمن اتفق اسمه واسم شيخه ، ونحوهما .
وقد شرح كتاب ابن الصلاح الحافظ " العراقي " . وهو شرح نفيس قيم له فيه عليه إيضاحات وتفسيرات وتقييدات وزيادات , وقد سماه "التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من علوم ابن الصلاح ". وهو مطبوع
وقد اعتنى العلماء بكتاب " ابن الصلاح " ، وسار في فلكه جل ما ألف بعده في علوم الحديث . فمنهم من نظمه , ومنهم من أختصره , ومنهم من اقتصر على بعض ما جاء فيه , ومنهم من استدرك عليه بعض ما فاته , ومنهم من انتصر له ونافح عنه ...
8. فمن نظمه الحافظ " أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي(10)" المتوفى سنة 806هـ في كتابه " ألفية الحديث " وشرحها هو بنفسه ، وكذلك شرحها بعده الحافظ " السخاوي" في شرح جيد وهو أحسن شروحها.
9. وممن اختصره الإمام الحافظ " أبو زكريا محيي الدين النووي " المتوفى سنة 676هـ في كتاب سماه " الإرشاد " ثم اختصر المختصر في كتاب سماه " التقريب "(11)
__________
(1) - الرَّامَهُرْمُزِيُّ الحَسَنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ خَلاَّدٍ الإِمَامُ، الحَافِظُ، البَارعُ، مُحَدِّثُ العجمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ خَلاَّدٍ الفَارِسِيُّ الرَّامَهُرْمُزِيُّ القَاضِي، مصَنِّفُ كِتَابِ (المُحَدِّثِ الفَاصلِ بينَ الرَّاوِي وَالوَاعِي)فِي عُلومِ الحَدِيْثِ، وَمَا أَحسنَهُ مِنْ كِتَابٍ! ..سير أعلام النبلاء (16/74)(55 )
(2) - الحَاكِمُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدُوَيْه الإِمَامُ، الحَافِظُ، النَّاقِدُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ المُحَدِّثِيْنَ، أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ البَيِّع الضَّبِّيّ، الطَّهْمَانِيُّ، النَّيْسَابُوْرِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ...سير أعلام النبلاء (17/164)(100 )
(3) - أَبُو نُعَيْمٍ المِهْرَانِيُّ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ الإِمَامُ، الحَافِظُ، الثِّقَةُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو نُعَيْمٍ المِهْرَانِيُّ، الأَصْبَهَانِيُّ، الصُّوْفِيُّ، الأَحْوَلُ، سِبْطُ الزَّاهِدِ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ البَنَّاءِ، وَصَاحِبُ(الحِلْيَةِ)...سير أعلام النبلاء(17/455)(305 )
(4) - الخَطِيْبُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَلِيِّ بنِ ثَابِتٍ ،الإِمَامُ الأَوْحَدُ، العَلاَّمَةُ المُفْتِي، الحَافِظُ النَّاقِدُ، مُحَدِّثُ الوَقْتِ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَلِيِّ بنِ ثَابِتِ بنِ أَحْمَدَ بنِ مَهْدِيٍّ البَغْدَادِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وَخَاتمَةُ الحُفَّاظ...سير أعلام النبلاء (18/271)(137 )
(5) - ابْنُ نُقْطَةَ، مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الغَنِيِّ بنِ أَبِي بَكْرٍ الإِمَامُ، العَالِمُ، الحَافِظُ المُتْقِنُ، الرَّحَّالُ، مُعِيْنُ الدِّيْنِ، أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّد بنُ عَبْدِ الغَنِيِّ بن أَبِي بَكْرٍ بنِ شُجَاعِ بنِ أَبِي نَصْرٍ البَغْدَادِيُّ، الحَنْبَلِيُّ..سير أعلام النبلاء (22/348)(216 )
(6) - القَاضِي عِيَاضٌ بنُ مُوْسَى بنِ عِيَاضٍ اليَحْصَبِيُّ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ الأَوْحَدُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، القَاضِي، أَبُو الفَضْلِ عِيَاضُ بنُ مُوْسَى بنِ عِيَاضِ بنِ عَمْرِو بنِ مُوْسَى بنِ عِيَاضٍ اليَحْصَبيُّ، الأَنْدَلُسِيُّ، ثُمَّ السَّبْتِيُّ، المَالِكِيُّ...سير أعلام النبلاء (20/214)(136 )
(7) - عمر بن عبد المجيد بن عمر بن حسين القرشي، أبو حفص الميانشي: شيخ الحرم بمكة. انتقل إليها من بلده " ميانش " من قريش المهدية بإفريقية، وحدث بمصر في طريقه إلى مكة.من تآليفه " كراس " في علم الحديث سماه " مالا يسع المحدث جهله - ط " و " تعليقات على الفردوس - خ " في شستربتي 5169 و " الاختيار في الملح والاخبار - خ " أيضا 4971 و " المجالس المكية " قيل: روى فيها أحاديث باطلة، و " روضة المشتاق " في الرقائق.توفي بمكة .الأعلام للزركلي - (ج 5 / ص 53)
(8) - ابْنُ الصَّلاَحِ، أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الكُرْدِيُّ الإِمَامُ، الحَافِظُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، تَقِيُّ الدِّيْنِ، أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ ابْنُ المُفْتِي صَلاَحِ الدِّيْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بنِ عُثْمَانَ بنِ مُوْسَى الكُرْدِيُّ، الشَّهْرُزُوْرِيُّ، المَوْصِلِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ (عُلُوْمِ الحَدِيْثِ).وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدهِ بِشَهْرَزُوْرَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالمَوْصِلِ مُدَّةً، وَسَمِعَ مِنْ: عُبَيْدِ اللهِ ابْنِ السَّمِينِ، وَنَصْرِ بن سَلاَمَةَ الهِيْتِيِّ، وَمَحْمُوْدِ بنِ عَلِيٍّ المَوْصِلِيِّ، وَأَبِي المُظَفَّرِ بنِ البَرْنِيِّ، وَعَبْدِ المُحْسِنِ ابْنِ الطُّوْسِيِّ، وَعِدَّةٍ بِالمَوْصِلِ. وَمِنْ: أَبِي أَحْمَدَ بنِ سُكَيْنَةَ، وَأَبِي حَفْصِ بنِ طَبَرْزَذَ، وَطَبَقَتِهِمَا بِبَغْدَادَ، وَمِنْ أَبِي الفَضْلِ بنِ المُعَزّمِ بِهَمَذَانَ....
قُلْتُ: كَانَ ذَا جَلاَلَةٍ عَجِيْبَةٍ، وَوقَارٍ وَهَيْبَةٍ، وَفَصَاحَةٍ، وَعلمٍ نَافِعٍ، وَكَانَ مَتينَ الدّيَانَةِ، سَلفِيَّ الجُمْلَةِ، صَحِيْحَ النِّحْلَةِ، كَافّاً عَنِ الخوضِ فِي مَزلاَّتِ الأَقدَامِ، مُؤْمِناً بِاللهِ، وَبِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ مِنْ أَسمَائِهِ وَنُعوتهِ، حَسَنَ البِزَّةِ، وَافِرَ الحُرْمَةِ، مُعَظَّماً عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَقَدْ سَمِعَ الكَثِيْرَ بِمَرْوَ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ المُوْسَوِيِّ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ السَّنْجِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ المَسْعُوْدِيِّ، وَكَانَ قُدُومُهُ دِمَشْقَ فِي حُدُوْدِ سَنَةِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ بَعْدَ أَنْ فَرغَ مِنْ خُرَاسَانَ وَالعِرَاقِ وَالجَزِيْرَةِ.
وَكَانَ مَعَ تَبحُّرِهِ فِي الفِقْهِ مُجَوِّداً لِمَا يَنقُلُه، قَوِيَّ المَادَّةِ مِنَ اللُّغَةِ وَالعَرَبِيَّةِ، مُتَفَنِّناً فِي الحَدِيْثِ، مُتَصَوِّناً، مُكِبّاً عَلَى العِلْمِ، عَدِيْمَ النَّظِيْرِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ مِنْ قَوَاعِدِهِ شَذَّ فِيْهَا، وَهِيَ صَلاَةُ الرَّغَائِبِ قَوَّاهَا وَنَصَرهَا مَعَ أَنَّ حَدِيْثَهَا بَاطِلٌ بِلاَ تَرَدُّدٍ، وَلَكِنَّ لَهُ إِصَابَات وَفَضَائِل...سير أعلام النبلاء (23/141)(100 )
(9) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 15) و النكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 232)
(10) - الحافظ الإمام الكبير الشهير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين ابن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي.
حافظ العصر ولد في جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة بمنشأة المهراني بين مصر والقاهرة وكان أصل أبيه من بلدة يقال لها رازيان من عمل أربل وقدم القاهرة وهو صغير فنشأ في خدمة الصالحين ومن جملتهم الشيخ تقي الدين القنائي ويقال إنه بشره بالشيخ وقال: سمه عبد الرحيم يعني باسم جده الأعلى الشيخ عبد الرحيم القنائي أحد المعتقدين بصعيد مصر فكان كذلك.
وأول ما أسمع الحديث على سنجر الجاولي والتقي الاخنائي ثم اسمع على ابن شاهد الجيش وابن عبد الهادي والتقي السبكي واشتغل بالعلوم وأحب الحديث فأكثر من السماع وتقدم في فن الحديث بحيث كان شيوخ عصره يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة. كالسبكي والعلائي والعز بن جماعة والعماد بن كثير وغيرهم ونقل عنه الشيخ جمال الدين الإسنوي في المهمات ووصفه بحافظ العصر وكذلك وصفه في الطبقات في ترجمة ابن سيد الناس فقال:وشرح - يعني ابن سيد الناس - قطعة من الترمذي نحو مجلدين وشرع في إكماله حافظ الوقت زين الدين العراقي إكمالا مناسبا لأصله انتهى.
وله من المؤلفات في الفن الألفية التي اشتهرت في الآفاق وشرحها ونكت ابن الصلاح والمراسيل ونظم الاقتراح وتخريج أحاديث الإحياء في خمس مجلدات ومختصره سماه المغني في مجلدة وبيض من تكملة شرح الترمذي كثيراً وكان أكمله في مسودة أوكاد ونظم منهاج البيضاوي في الأصول ونظم غريب القرآن ونظم السيرة النبوية في ألف بيت وولي قضاء المدينة الشريفة.
قال الحافظ ابن حجر: وشرع في إملاء الحديث من سنة ست وتسعين فأحيا الله به سنة الإملاء بعد تأن كانت دائرة فأملى أكثر من أربعمائة مجلس قال الحافظ: وكانت أماليه يمليها من حفظه متقنة مهذبة محررة كثيرة الفوائد الحديثية قال: وكان الشيخ منور الشيبة جميل الصورة كثير الوقار نزر الكلام طارحاً للتكلف لطيف المزاج سليم الصدر كثير الحياء قل أن يواجه أحداً بما يكرهه ولو أذاه متواضعاً حسن النادرة والفكاهة وكان لا يترك قيام الليل بل صار له كالمألوف وكان كثير التلاوة إذا ركب وكان عيشه ضيقاً.
قال رفيقه الشيخ نور الدين الهيثمي: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم وعيسى عليه السلام عن يمينه والشيخ زين الدين العراقي عن يساره مات في ثامن شعبان سنة ست وثمانمائة. طبقات الحفاظ - (ج 1 / ص 114) فما بعدها وذيل تذكرة الحفاظ - (ج 1 / ص 220)
(11) - يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي العالم، محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونوى قرية من قرى حوران.
وقد قدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقد حفظ القرآن فشرع في قراءة التنبيه، فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحاً وشرحاً، فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درساً على المشايخ، ثم اعتنى بالتصنيف فجمع شيئاً كثيراً، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمما كمل (شرح مسلم)، و(الروضة)، و(المنهاج)، و (الرياض)، و(الأذكار)، و(التبيان)، و(تحرير التنبيه وتصحيحه)، و(تهذيب الأسماء واللغات)، و(طبقات الفقهاء) وغير ذلك.
ومما لم يتممه ولو كمل لم يكن له نظير في بابه: (شرح المهذب) الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد، وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه، وقد جعله نخبة على ما عن له ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنه محتاج إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه.
وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى، وقد باشر تدريس الاقبالية نيابة عن ابن خلكان، وكذلك ناب في الفلكية والركنية، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية.
وكان لا يضيع شيئاً من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم.
توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب من هذه السنة بنوى، ودفن هناك رحمه الله وعفا عنا وعنه.البداية والنهاية لابن كثير(ج/ص: 13/327) ، وله ترجمة مطولة في تاريخ الإسلام للذهبي - (ج 12 / ص 345)(330)ابتدأها بقوله : يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين .مفتي الأمة ، شيخ الإسلام ، محيي الدين ، أبو زكريا النواوي ، الحافظ ، الفقيه ، الشافعي ، الزاهد ، أحد الأعلام .(1/27)
وقد شرحه شرحاً وافياً الإمام " السيوطي"(1)المتوفى سنة 911هـ في كتاب سماه " تدريب الراوي " ويعتبر شرحاً للتقريب على الخصوص ثم لكتاب ابن الصلاح وغيره من كتب الفن على العموم . فمن ثم جاء كتاب "التدريب " أوفى ما كتب في علم مصطلح الحديث و أصوله ، وعليه المعوَّل لكل من ألف في الفن بعده . وقد أكثر فيه من النقول والنصوص . تاركاً لمن جاء بعده التحقيق والتمحيص . والموازنة والترجيح . وله طبعات كثيرة بعضها محقق بشكل جيد
10. وممن اختصره أيضا الإمام الحافظ الفقيه المفسر المؤرخ " عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي " المتوفى سنة 774هـ في كتاب سماه " اختصارعلوم الحديث " وله فيه على ابن الصلاح استدراكات مفيدة ، و تعقبات مهمة ، وزيادات وتوضيحات قيمة(2).
وممن اختصره مع الزيادات قاضي القضاة بمصر" بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني المتوفى سنة 733هـ وسمى كتابه " المنهل الروي في الحديث النبوي " .
وممن اختصره أيضا مع زيادات وتحقيقات الإمام " أبو حفص سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقيني " المتوفى سنة 805 هـ وسمى كتابه : " محاسن الاصطلاح في تضمين كتاب ابن الصلاح "(3).
__________
(1) - عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد بن ابى بكر بن عمر بن خليل بن نصر بن الخضر بن الهمام الجلال الأسيوطى الاصل الطولوى الشافعى الامام الكبير صاحب التصانيف ولد فى أول ليلة مستهل رجب سنة 849 تسع وأربعين وثمان مائة ونشأ يتميا فحفظ القرآن والعمدة والمنهاج الفرعى وبعض الأصلى وألفية النحو وأخذ عن الشمس محمد بن موسى الحنفى في النحو وعلى العلم البلقينى والشرف المناوى والشمنى والكافياجي في فنون عديدة وجماعة كثيرة كالبقاعى وسمع الحديث من جماعة وسافر إلى الفيوم ودمياط والمحلة وغيرها وأجاز له أكابر علماء عصره من ساير الأمصار وبرز فى جميع الفنون وفاق الأقران واشتهر ذكره وبعد صيته وصنف التصانيف المفيدة كالجامعين فى الحديث والدر المنثور فى التفسير والاتقان في علوم القرآن وتصانيفه فى كل فن من الفنون مقبولة قد سارت فى الأقطار مسير النهار ولكنه لم يسلم من حاسد لفضله وجاحد لمناقبه فان السخاوى في الضوء اللامع وهو من أقرانه ترجمة مظلمة غالبها ثلب فظيع وسب شنيع وانتقاص وغمط لمناقبه تصريحا وتلويحا ولا جرم فذلك دأبه في جميع الفضلاء من أقرانه وقد تنافس هو وصاحب الترجمة منافسة أوجبت تأليف صاحب الترجمة لرسالة سماها الكاوى لدماغ السخاوى فليعرف المطلع على ترجمة هذا الفاضل فى الضوء اللامع انها صدرت من خصم له غير مقبول عليه فممن جملة ما قاله فى ترجمته انه لم يمعن الطلب فى كل الفنون بل قال بعد أن عدد شيوخه انه حين كان يتردد عليه كثيرا من مصنفاته كالخصال الموجبة للظلال والاسماء النبوية والصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم وموت الانبياء ومالا يحصره قال بل أخذ من كتب المحمودية وغيرها كثيرا من التصانيف المتقدمة التى لاعهد لكثير من العصريين بها فى فنون فغير فيها يسيرا وقدم وأخر ونسبها إلى نفسه وهول في مقدماتها بما يتوهم منه الجاهل شيئا مما لا يوفى ببعضه وأول ما أبرز جزء له فى تحريم المنطق جرده من مصنف لابن تيمية واستعان فى اكثره فقام عليه الفضلاء قال وكذا درس جمعا من العوام بجامع ابن طولون بل صار يملى على بعضهم ممن لا يحسن شيئا ثم قال كل هذا مع انه لم يصل ولا كاد ولهذا قيل انه تزيب قبل ان يكون حصرما وأطلق لسانه وقلمه فى شيوخه فمن فوقهم بحيث قال عن القاضى العضد انه لا يكون طعنه فى نعل ابن الصلاح وعزر على ذلك من بعض نواب الحنابلة بحضرة قاضيهم ونقص السيد والرضى فى النحو بمالم يبد فيه مستندا مقبولا بحيث انه أظهر لبعض الغرباء الرجوع عن ذلك فانه لما اجتمعا قال له قلت السيد الجرجانى قال ان الحرف لا معنى له فى نفسه ولا فى غيره وهذا كلام السيد ناطق بتكذيبك فيما نسبته اليه فأوجدنا مستندا فيما تزعمته فقال انى لم أر له كلاما ولكنى لما كنت بمكة تجاذبت مع بعض الفضلاء الكلام فى المسئلة فنقل لى ما حكيته وقلدته فيه فقال هذا عجيب مما يتصدى للتصنيف يقلد فى مثل هذا مع هذا الاستاذ انتهى وقال من قرأ الرضى ونحوه لم يترق الى درجة ان يسمى مشاركا فى النحو ولازال يسترسل حتى قال انه رزق التبحر فى سبعة علوم التفسير والحديث والفقه والنحو والمعانى والبيان والبديع قال والذى أعتقده ان الذى وصلت إليه من الفقه والنقول التى اطلعت عليها مما لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخى فضلا عمن دونهم قال ودون هذه السبعة أصول الفقه والجدل والصرف ودونهما الانشاء والترسل والفرائض ودونها القراآت ولم آخذها عن شيخ ودونها الطب واما الحساب فأعسر شىء على وأبعده عن ذهنى واذا نظرت فى مسئلة تتعلق به فكأنما احاول جبلا أحمله قال وقد كملت عندى الات الاجتهاد بحمد الله الى ان قال ولو شئت أن اكتب فى كل مسئلة تصينف باقوالها وادلتها النقلية والقياسية ومداركها ونقوضها وأجوبتها والمقارنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك وقال ان العلماء الموجودين يرتبون له من الاسئلة الوفا فيكتب عليها أجوبة على طريقة الاجتهاد قال السخاوى بعد ان نقل هذا الكلام عن صاحب الترجمة فى وصف نفسه ما أحسن قول بعض الاستاذين فى الحساب ما اعترف به عن نفسه مما توهم به أنه متصف أول دليل على بلادته وبعد فهمه لتصريح ايمة الفن بانه فن ذكاء ونحو ذلك وكذا قول بعضهم دعواه الاجتهاد ليستر خطأه ونحو هذا وقد اجتمع به بعض الفضلاء ورام التكلم معه في مسئلة فقال ان بضاعتى فى علم النحو مزجاة وقول اخر له أعلمنى عن الات الاجتهاد ما بقى أحد يعرفها فقال له نعم ما بقى من له مشاركة فيها على وجه الاجتماع فى واحد بل مفرقا فقال له فاذكرهم لى ونحن نجمعهم لك ونتكلم معهم فان اعترف كل واحد لك بعلمه وتميزك فيه امكن ان نوافقك فى دعواك فسكت ولم يبد شيئا وذكر أن تصانيفه زادت على ثلثمائة كتاب رأيت منها ما هو فى ورقة واما ما هو دون كراسة فكثير وسمى منها شرح الشاطبية وألفية فى القراآت مع اعترفه بانه لا شيخ له فيها ومنها ما اختلسه من تصانيف شيخنا يعنى ابن حجر منها كتاب النقول فى أسباب النزول وعين الاصابة فى معرفة الصحابة والنكت البديعات على الموضوعات والمدرج الى المدرج وتذكرة المؤتسى بمن حدث ونسى وتحفة النابه بتلخيص المتشابه وما رواه الواعون فى أخبار الطاعون والاساس فى مناقب بنى العباس وجزء فى أسماء المدلسين وكشف النقاب عن الالقاب ونشر العبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير قال فكل هذه مصنفات شيخنا وليته إذا اختلسها لم يمسخها ولو مسخها على وجهها لكان أنفع ومنها ماهو لغيره وهو الكثير هذا ان كانت المسخيات موجودة كلها والا فهو كثير المجازفة جاءنى مرة فزعم أنه فرأ مسند الشافعى على القميصى فى يوم فلم يلبث ان جاء القميصى وأخبرنى متبرعا بما تضمن كذبه حيث أخبر أنه بقى منه جانب قال السخاوى وقال انه عمل النفحة المسكية والتحفة المكية فى كراسة وهو بمكة على نمط عنوان الشرف لابن المقرى فى يوم واحد وانه عمل ألفية فى الحديث فايقة على ألفية العراقى إلى غير ذلك مما يطول شرحه ثم قال كل ذلك مع كثرة ما يقع له من التحريف والتصحيف وما ينشأ عن عدم فهم المراد لكونه لم يزاحم الفضلاء فى دروسهم ولا جلس معهم فى شانهم وتعريسهم بل استند باخذه من بطون الدفاتر والكتب واعتمد ما لا يرتضيه من اللاتقان صحب وقد قام الناس عليه كافة لما ادعى الاجتهاد ثم قال وبالجملة فهو سريع الكتابة لم أزل أعرفه بالهوس ومزيد الترفع حتى على أمه بحيث كان تزيد في التشكى منه ولا يزال أمره فى تزايد من ذلك فالله يلهمه رشده ونقل عنه أنه قال تركت الافتاء والاقراء واقبلت على الله وزعم انه راى مناما يقتضى ذم النبى صلى الله عليه وآله وسلم له وأمر خليفته الصديق بحبسه سنة ليراجع الاقراء والافتاء وانه استغفر الله بعد ذلك واقبل على الافتاء بحيث لوجىء اليه بفتيا وهو مشرف على الغرق لأخذها ليكتب عليها قال ومن ذلك أنه توسل عند الامام البرهان الكركى فى تعيينه لحجة كانت تحت نظره فأجابه وزاد من عنده ضعف الاصل فما قال له جزيت خيرا ولا أبدى كلمة تؤذن بشكره قال ومن هوسه أنه قال لبعض تلامذته إذا صار الينا القضاء قررنا لك كذا وكذا بل تصير أنت الكل هذا حاصل ماذكره السخاوي فى كتابة الضوء اللامع فى ترجمة الجلال السيوطى وختمها بقوله انه ألف مؤلفا سماه الكاوى فى الرد على السخاوى وأقول لا يخفى على المنصف ما في هذا المنقول من التحامل على هذا الامام فانه ما اعترف به من صعوبة علم الحساب عليه لا يدل على ما ذكره من عدم الذكاء فان هذا الفن لا يفتح فيه على ذكى إلا نادرا كما نشاهده الآن فى أهل عصرنا وكذلك سكوته عند قول القايل له تجمع لك أهل كل فن من فنون الاجتهاد فان هذا كلام خارج عن الانصاف لأن رب الفنون الكثيرة لا يبلغ تحقيق كل واحد منها ما يبلغه من هو مشتغل به على انفراده وهذا معلوم لكل احد وكذا قوله انه مسخ كذا وأخذ كذا ليس بعيب فان هذا مازال دأب المصنفين يأتى الاخر فيأخذ من كتب من قبله فيختصر أو يوضح او يعترض أو نحو ذلك من الأغراض التى هى الباعثة على التصنيف ومن ذاك الذى يعمد الى فن قد صنف فيه من قبله فلا يأخذ من كلامه وقوله انه رأى بعضها فى ورقة لا يخالف ما حكاه صاحب الترجمة من ذكر عدد مصنفاته فانه لم يقل انها زادت على ثلثمائة مجلد بل قال انها زادت على ثلثماية كتاب وهذا الاسم يصدق على الورقة وما فوقها وقوله انه كذبه القميصى بتصريحه أنه بقى من المسند بقية ليس بتكذيب فربما كانت تلك البقية يسيرة والحكم للاغلب لاسيما والسهو والنسيان من العوارض البشرية فيمكن أنه حصل أحدهما للشيخ أو تلميذه وقوله انه كثير التصحيف والتحريف مجرد دعوى عاطلة عن البرهان فهذه مؤلفاته على ظهر البسيطة محررة أحسن تحرير ومتقنة أبلغ اتقان وعلى كل حال فهو غير مقبول عليه لما عرفت من قول أئمة الجرح والتعديل بعدم قبول الأقران فى بعضهم بعضا مع ظهور أدنى منافسة فكيف بمثل المنافسة بين هذين الرجلين التى أفضت إلى تأليف بعضهم فى بعض فان أقل من هذا يوجب عدم القبول والسخاوى رحمه الله وان كان اماما غير مدفوع لكنه كثير التحامل على أكابر أقرانه كما يعرف ذلك من طالع كتابه الضوء اللامع فانه لا يقيم لهم وزنا بل لا يسلم غالبهم من الحط منه عليه وإنما يعظم شيوخه وتلامذته ومن لم يعرفه ممن مات فى أول القرن التاسع قبل موته أو من كان من غير مصره أو يرجو خيره او يخاف شره وما أحسن ماذكره في كتابة الضوء اللامع فى ترجمة عبد الباسط بن يحيى شرف الدين فانه قال وربما صرح بالانكار على الفقهاء فيما يسلكونه من تنقيص بعضهم لبعض وقد حكى انه بينما هو عند الدوادار وبين يديه فقيه واذا باخر ظهر من الدوار فاستقبله ذلك الجالس بالتنقيص عند صاحب المجلس واستمر كذلك حتى وصل اليهم فقام إليه ثم انصرف فاستبدبره القائم حتى اكتفى ثم توجه قال فسألنى الدوادر من الصادق منهما فقلت أنتم أخبر فقال انهما كاذبان فاسقان ونحو ذلك انتهى وأما ما نقله من اقوال ما ذكره من العلماء مما يؤذن بالحط على صاحب الترجمة فسبب ذلك دعواه الاجتهاد كما صرح به ومازال هذا دأب الناس مع من بلغ إلى تلك الرتبة ولكن قد عرفناك فى ترجمة ابن تيمية أنها جرت عادة الله سبحانه كما يدل عليه الاستقراء برفع شان من عودى لسبب علمه وتصريحه بالحق وانتشار محاسنه بعد موته وارتفاع ذكره وانتفاع الناس بعلمه وهكذا كان أمر صاحب الترجمة فان مؤلفاته انتشرت فى الأقطار وسارت بها الركبان الى الأنجاد والأغوار ورفع الله له من الذكر الحسن والثناء الجميل مالم يكن لاحد من معاصريه والعاقبة للمتقين ولم يذكر السخاوى تاريخ وفاة المترجم له لانه عاش بعد موته فان السخاوى مات فى سنة 902 كما سيأتى في ترجمته ان شاء الله تعالى تجاوز الله عنهما جميعا وعنا بفضله وكرمه وكان موت صاحب الترجمة بعد أذان الفجر المسفر صباحه عن يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الاولى سنة 911 إحدى عشرة وتسعمائة اهـ البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع - (ج 1 / ص 311)(228)
(2) - إسماعيل بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن ذرع، القرشي، البصروي، الدمشقي. مولده سنة إحدى وسبعمائة، وتفقه على الشيخين برهان الدين الفزاري وكمال الدين ابن قاضي شهبة، ثم صاهر الحافظ أبا الحجاج المزي ولازمه، وأخذ عنه، وأقبل على علم الحديث، وأخذ الكثير عن ابن تيمية، وقرأ الأصول على الأصفهاني، وسمع الكثير، وأقبل على حفظ المتون، ومعرفة الأسانيد والعلل والرجال والتأريخ، حتى برع في ذلك وهو شاب. وصنف في صغره كتاب الأحكام على أبواب التنبيه، وقف عليه شيخه برهان الدين وأعجبه، وصنف التأريخ المسمى بالبداية والنهاية والتفسير. وصنف كتاباً في جمع المسانيد العشرة، واختصر تهذيب الكمال وأضاف إليه ما تأخر في الميزان سماه التكميل، وطبقات الشافعية ورتبه على الطبقات، لكنه ذكر فيه خلائق ممن لا حاجة لطلبة العلم إلى معرفة أحوالهم، فلذلك جمعنا هذا الكتاب. وخرج الأحاديث الواقعة في مختصر ابن الحاجب، وكتبه رفيقه الشيخ تقي الدين بن رافع لنفسه منه نسخة. وله سيرة صغيرة، وشرع في أحكام كثيرة حافلة كتب منها مجلدات إلى الحج، وشرح قطعة من البخاري وقطعة من التنبيه. وولي مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبي، وبعد موت السبكي ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية مدة يسيرة، ثم أخذت منه. ذكره شيخه الذهبي في المعجم المختص وقال: فقيه متفنن، ومحدث متقن، ومفسر نقال، وله تصانيف مفيدة. وقال تلميذه الحافظ شهاب الدين بن حجى: كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث، وأعرفهم بجرحها، ورجالها، وصحيحها وسقيمها. وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك. وكان يستحضر شيئاً كثيراً من التفسير والتأريخ، قليل النسيان. وكان فقيهاً جيد الفهم، صحيح الذهن، يستحضر شيئاً كثيراً، ويحفظ التنبيه إلى آخر وقت، ويشارك في العربية مشاركة جيدة، وينظم الشعر. وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إلا وأفدت منه. وقال غير الشيخ: كانت له خصوصية بابن تيمية ومناضلة عنه، واتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأوذي. توفي في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة، ودفن في مقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية..طبقات الشافعية - (ج 1 / ص 156)
(3) - عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن شهاب بن عبد الخالق بن عبد الحق، الشيخ الفقيه المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي المتكلم، النحوي اللغوي، المنطقي الجدلي، الخلافي النظار، شيخ الإسلام، بقية المجتهدين، منقطع القرين، فريد الدهر، أعجوبة الزمان، سراج الدين أبو حفص، الكناني العسقلاني الأصل، البلقيني المولد، المصري. مولده في شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة في بلقينة من قرى مصر الغريبة، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين في بلده، وحفظ الشاطبية، والمحرر للرافعي، والكافية الشافية لابن مالك، ومختصر ابن الحاجب، وقدم القاهرة سنة ست وثلاثين، واجتمع بالقاضي جلال الدين القزويني والشيخ تقي الدين السبكي، وأثنيا عليه مع صغر سنه، ثم قدمها في سنة ثمان وثلاثين وقد ناهز الاحتلام مستوطناً، ودرس الفقه على الشيخ نجم الدين الأسواني وابن عدلان وزين الدين الكتناني وشمس الدين بن التاج، وحضر عند الشيخ تقي الدين السبكي وبحث معه في الفقه. وأخذ الأصول عن الشيخ شمس الدين الأصفهاني، وأجازه بالإفتاء. وأخذ النحو والأدب عن الشيخ أبي حيان، وتخرج على غيرهم من مشايخ العصر، وسمع البخاري من الشيخ جمال الدين بن شاهد الجيش، ومسلم من القاضي شمس الدين ابن القماح، وسمع بقية الكتب الستة وغيرها من المسانيد وغيرها من جماعة. وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي، وابن الجوزي وابن نباتة وابن الخباز وغيرهم، واشتهر اسمه وعلا ذكره، وظهرت فضائله، وبهرت فوائده، واجتمعت الطلبة للاشتغال عليه بكرة وعشيا. قال ولده القاضي جلال الدين: وكان يلقى الحاوي في الأيام اليسيرة، ووصل في ذلك إلى أنه ألقاه في جامع الأزهر في ثمانية أيام. وحج في سنة أربعين مع والده، واجتمع بالشيخ صلاح الدين العلائي في القدس، ثم حج في سنة تسع وأربعين، ثم صاهر ابن عقيل في سنة اثنتين وخمسين، وناب عنه لما ولي القضاء تلك المدة اليسيرة، وولي تدريس الزاوية بعد وفاة ابن عقيل. وكان قبل ذلك قد ولي تدريس الحجازية فإن واقفتها عمرتها لأجله. ثم ولي قضاء الشام سنة سبع وستين، فباشره مدة يسيرة، ثم استعفى وعاد إلى القاهرة، وولي تدريس الملكية بعد وفاة الإسنوي، وتدريس جامع طولون بعد وفاة أبي السبكي، وقضاء العسكر بعد ابن السبكي، وكان قد ولي قبل سفره إلى الشام إفتاء دار العدل في سنة خمس وستين رفيقا لبهاء الدين السبكي وهو أول شيء وليه من المناصب. وولي تدريس الألجهية من واقفها، وولي تدريس الشافعي رضي الله عنه بعد عزل ابن جماعة. فلما عاد ابن جماعة عوضه تدريس الفقه في جامع طولون، ودرس في الظاهرية البرقوقية وولي درس لتفسير ومشيخة الميعاد فيها، ثم نزل عن بعض وظائفه لولديه، واستمر بيده الزاوية والضاهرية إلى حين وفاته، أقام مدرساً في الزاوية ستة وثلاثين سنة يقرر فيها مذهب الشافعي على أعظم وجه وأكمله، وظهر له الأتباع والأصحاب، وصار هو الإمام المشار إليه، والمعول في الإشكال والفتاوى عليه، وأتته الفتاوي من الأقطار البعيدة، ورحل الناس من الأقطار النائية للقراءة عليه، وخضع له كل من ينسب إلى علم من العلوم الشرعية، وغيرها. وخرج له الحافظ ابن حجر أربعين حديثاً عن أربعين شيخاً، وخرج له الحافظ ولي الدين ابن العراقي مائة حديث من عواليه وأبداله، وقد أثنى عليه علماء عصره طبقة بعد طبقة من قبل الخمسين إلى حسن وفاته. وكان الشيخ شمس الدين الأصفهاني كثير التعظيم له، وأجازه الشيخ أبو حيان، وكتب له في إجازته ما لم يكتب لأحد قبله، وسنه إذ ذاك دون العشرين. وكان القاضي عز الدين ابن جماعة يعظمه، ويبالغ في تعظيمه جداً، وكتب له ابن عقيل على بعض تصانيفه: أحق الناس بالفتوى في زمانه. وقال له أيضاً: لم لا تكتب على سيبويه شرحاً؟ هذا مع اتفاق الناس في ذلك الزمان على أن ابن عقيل هو المرجوع إليه في علم النحو. وذكر له ولده القاضي جلال الدين ترجمة في مجلدة مشتملة على مناقبه، وفوائدة، وأنشد قول القائل:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
قال: وقد ختم القرآن العظيم بميعاده، وأتى فيه من الوعظ ما يكون إن شاء الله تعالى، تعالى شيئاً لإسعاده. وكان من العلوم بحيث يقضى له في كل علم بالجمع، وكان كثير الصدقة، طارحاً للتكلف، قائماً في الحق، ناصراً للسنة، قامعاً لأهل البدعة، مبطلاً للمكوس والمظالم، معظماً عند الملوك. أبطل في دولة الشرف مكس الملاهي. وأبطل في دولة المنصور مكس القراريط. وكان مكس القراريط كثير البشاعة جداً. وعرض عليه الملك المنصور أيام طشتمر قضاء الديار المصرية فامتنع غاية الامتناع. وقال الحافظ شهاب الدين ابن حجى: طلب العلم في صغره، وحصل الفقه والنحو والفرائض، وشارك في الأصول وغيره، وفاق الأقران في الفقه، ثم أقبل على الحديث، وحفظ متونه، وحفظ رجاله، فحفظ من ذلك شيئاً كثيراً. وكان في الجملة أحفظ الناس لمذهب الشافعي، واشتهر بذلك، وطبقة شيوخه موجودون، وبعد صيته. ثم قدم علينا قاضياً بالشام، وهو إذ ذاك كهل، فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت، واعترفوا بفضله، ثم رجع إلى بلده، وبنى مدرسة في القاهرة، وأثرى وكثر ماله، وتصدى للفتوى والإشغال. وكان معول الناس في ذلك عليه، ورحلوا إليه، وكثرت طلبته في البلاد، وأفتوا ودرسوا، وصاروا شيوخ بلادهم في أيامه. وكان صحيح الحفظ، قليل النسيان، ثم صار له اختيارات يفتي فيها. وله نظم كثير متوسط في الحكم والمواعظ ونحو ذلك. وبه تصانيف كثيرة لم تتم، يصنف قطعاً ثم يتركها، وقلمه لا يشبه لسانه. وقال الحافظ شهاب الدين بن حجر بعد ذكر ابتداء أمر الشيخ: وصار معظماً عند الأكابر، كثير السمعة عند العامة، وتصدى لتتبع الشيخ جمال الدين الإسنوي في خطابه حتى كان يتوقى الإفتاء هيبة له، وعول الناس عليه في الإفتاء، فكان يتصدى لذلك من بعد صلاة العصر إلى المغرب غالباً، ولا يفتر غالباً من الأشغال إما مطالعة وإما تصنيفاً وإما إقراء، وكان عظيم المروءة، جميل المودة، كثير الاحتمال، كثير المباسطة مع مهابته. وكان يعمل مجلس الوعظ، ويجمع عنده الفقراء والصلحاء، ويحصل له خشوع وخضوع، وشهد جمع جم بأنه العالم الذي على رأس القرن. وممن رأيت خطه بذلك في حقه شيخنا الحافظ أبو الفضل العراقي. وقال الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي سألني الشيخ شهاب الدين الأذرعي عن مولد الشيخ سراج الدين البلقيني فذكرته له، فقال: أنا أصلح أن أكون والده. ثم ذكر لي أنه لم ير أحفظ منه لنصوص الشافعي انتهى. توفي في ذي القعدة سنة خمس وثمانمائة، ودفن في مدرسته التي أنشأها في درب بهاء الدين. رثاه تلميذه الإمام الحافظ أبو الفضل أحمد بن حجر بقصيدة ظنانة ومن تصانيفه كتاب محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث، كتاب تصحيح المنهاج أكمل منه الربع الأخير في خمسة أجزاء، وكتب من ربع النكاح تقدير جزء ونصف، الكشاف على الكشاف وصل فيه إلى أثناء سورة البقرة في ثلاثة مجلدات ضخمة، وشرح البخاري كتب منه نحو خمسين كراساً على أحاديث يسيرة إلى أثناء الإيمان، ومواضع مفرقة، سماه بالفيض الباري على صحيح البخاري، التدريب في الفقه كتب منه إلى الرضاع، والتأديب مختصر التدريب كتب منه النصف، ومنهج الأصلين أكمل منه أصل الدين، وكتب منه قريباً من نصف أصول الفقه، كتاب المنصوص والمنقول عن الشافعي في الأصول، كتب منه قطعة صالحة، ترتيب الأم على الأبواب وقد أكمله ولكن بقي منه بقايا، والفوائد المحضة على الشرح والروضة، كتب منه أجزاء مفرقة، الملمات برد المهمات، كتب منه أجزاء مفرقة، الينبوع في إكمال المجموع، كتب منه أجزاء من النكاح، العرف الشذي على جامع الترمذي، كتب منه قطعة صالحة، والسبب في عدم إكماله لغالب مصنفاته اشتغاله بالإشغال، والتدريس، والتحديث، والإفتاء.طبقات الشافعية - (ج 1 / ص 198)(1/28)
11. ومن المختصرات الجامعة في هذا الفن رسالة موجزة ألفها الإمام الحافظ الفقيه المحقق " أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المصري "(1)المتوفى سنة 852هـ سماها " نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر " وشرحها بشرح سماه " نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر " وشرح الشرح العلامة الشيخ " علي بن سلطان محمد الهروي القاري " الحنفي المتوفى سنة 1014هـ(2)وقد نهج في النخبة الحافظ ابن حجر نهجاً مبتكرا .
12. كتاب " ظفر الأماني شرح مختصر الجرجاني " , مؤلف المتن العلامة " السيد الجرجاني" المتوفى سنة 816هـ ، والشرح للعلامة " محمد عبد الحي اللكنوي " المتوفى سنة 1304هـ .
13. ومن المنظومات التي ألفت في هذا الفن ألفية الإمام الحافظ " جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال الأسيوطي " المتوفى سنة 911هـ سماها " نظم الدرر في علم الأثر " وشرحها بشرح سماه " قطر الدرر" .
14. ومن الكتب الجامعة في هذا الفن كتاب " توجيه النظر إلى علوم الأثر " للعلامة الشيخ " طاهر بن صالح الجزائري " الدمشقي المتوفى سنة 1338هـ ولتأخر مؤلفه فقد جمع فيه خلاصة ما قاله العلماء السابقون في هذا العلم . ولا سيما علماء أصول الحديث ، وأصول الفقه .
15. كتاب " قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث " ألفه العلامة الشيخ " محمد جمال الدين القاسمي " المتوفى سنة 1332هـ وهو عبارة عن نقول من كلام العلماء السابقين في هذا العلم ، وله فيها فضل الترتيب والتبويب ، والجمع والتهذيب ، وفي بعض الأحايين يناقش قولا أو يرجح رأيا على رأي ....
16. كتاب " الطراز الحديث " العلامة الشيخ" أبي الفضل الجيزاوي " شيخ الجامع الأزهر سابقاً ، وقد جاء على أوجز ما يكون.
17. كتاب" مفتاح السنة " أو " تاريخ فنون الحديث " للعلامة الشيخ " محمد عبد العزيز الخولي " وهو كتاب وسط ونافع ومفيد عرض فيه لمنزلة السنة من القرآن وابتداء التدوين ، وأشهر الكتب المؤلفة في القرون الأولى ولا سيما القرن الذهبي لتدوين كتب الحديث ودواوينه وهو القرن الثالث ، كما عرض فيه لتواريخ علوم الحديث .
18. " أحسن الحديث " . للعلامة الشيخ "عبد الرحمن المحلاوي " اختصر فيه البيقونية وشروحها وحواشيها .
19. كتاب " مصطلح الحديث " : للعلامة الشيخ " عبد الغني محمود" . اختصر فيه النخبة وشروحها .
20. كتاب " الأسلوب الحديث في علوم الحديث " للعلامة الشيخ " أمين الشيخ " . اعتمد فيه على كتب السابقين ولا سيما كتاب " ظفر الأماني " شرح مختصر الجرجاني " و" مفتاح السنة " وذكر في آخره جملة عن الأحاديث المشكلة والإجابة عنها وعدتها واحد وعشرون حديثاً . 21. كتاب " ضوء القمر في توضيح نخبة الفكر" .
22. كتاب " الموجز في علوم الحديث "
وكلا الكتابين للعلامة الشيخ " محمد بن علي أحمدين "
23. كتاب " المنهل الحديث في علوم الحديث " للعلامة الشيخ " محمد بن عبد العظيم الزرقاني .
24. كتاب " الرفع والتكميل في الجرح والتعديل " للإمام " اللكنوى " , وفيه عرض جيد لأبحاث هذا العلم . وعليه تعليقات قيمة ونادرة للعلامة عبد الفتاح أبي غدة رحمه الله .
25. كتاب " الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة " للكنوى " أيضا , وفيه إجابات على أسئلة عشرة تتعلق بعلوم الحديث , منها ما يتعلق بالصحيح والحسن في كتب السنن والمصنفات والمستدركات ، ومنها ما يتعلق بدرء التعارض بين أقوال المحدثين ....
26. كتاب " قواعد في علوم الحديث " للعلامة " ظفر أحمد العثماني " وهو كتاب عظيم النفع والإفادة , جميل الترتيب والنظام , فريد المعرفة في كثير من جوانبه وفصوله , تدارك به مؤلفه قسماً كبيراً من المباحث المغفلة في كتب مصطلح الحديث وعلومه , فنظمها خير تنظيم ، وقعدها أحسن تقعيد , تصحبها أدلتها وشواهدها .
27. كتاب " المنهج الحديث في علوم الحديث " للدكتور الشيخ " محمد محمد السماحى " , قصد فيه إلى إعداد موسوعة جامعة في علوم الحديثً .
28. كتاب " مقاصد الحديث في القديم والحديث " للدكتور الشيخ " مصطفى أمين التازى " وهو يتألف من جزأين عرض فيهما لمسائل من هذا العلم , وهو في عرضه يتميز بسلاسة العبارة وجمال الأسلوب ودقة التحقيق .
29. كتاب " الوسيط في علوم ومصطلح الحديث " للدكتور الشيخ " محمد محمد أبو شهبة " وهو خلاصات محررة لما يوجد في متفرقات كتب الفن من لدن الرامهرمزى إلى عصرنا هذا . كما يقول الشيخ رحمه الله .
30. كتاب " أصول الحديث : علومه ومصطلحه " للدكتور" محمد عجاج الخطيب " وقد تناول فيه أهم القواعد والأسس التي اتبعت في قبول الحديث ورده , وفي تحمله وأدائه , وما يلحق بهذا من علوم مختلفة تتعلق بأحوال الرواة والمرويات , وما يترتب على ذلك من أحكام بين القبول والرد .
31. كتاب " علوم الحديث ومصطلحه " للدكتور" صبحي الصالح " , وهو كتاب كما قال صاحبه يجمع طائفة من المباحث العلمية تنفض غبار السنين عن تراثنا الخالد , وتعرض أنفس روائع الفكر بأسلوب واضح بسيط أقرب إلى ذوق العصر , ثم هو يجمع في آن واحد بين التأليف والتحقيق ، ويحاول إحكام الربط بين النتاج القديم والمنهج الجديد .
32. كتاب " منهج النقد في علوم الحديث " للدكتور" نور الدين عتر", وهو يمتاز بمميزات كثيرة , منها حسن التقسيم والتفصيل , ودقة التحرير للأقوال والآراء التي كثرت فيها الخلافات , وعمق الرد على بعض الآراء الاستشراقية التي لم تقم على أساس علمي سليم ..... إلخ .
33. كتاب " لمحات في أصول الحديث " للدكتور" محمد أديب صالح " , وهو كتاب يمتاز بحسن العرض وعمق الفكرة وغزارة الفائدة .
وهناك كتب أخرى للمعاصرين في هذا الفن , وهكذا توالت سلسلة هذا العلم متواترة لحمل الحديث النبوي وتبليغه علماً وعملاً ودراسة وشرحاً , منذ عهده - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا الحاضر , ويستطيع أي إنسان في أي وقت أن يجد السبيل إلى معرفة الحديث الصحيح وتمييزه عن غير الصحيح(3)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر: من أئمة العلم والتاريخ.أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة.
ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت له شهرة فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره، قال السخاوي: (انتشرت مصنفاته في حياته وتهادتها الملوك وكتبها الأكابر) وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفاً بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين، صبيح الوجه.وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل.أما تصانيفه فكثيرة جليلة،....موسوعة الأعلام - (ج 1 / ص 123) والأعلام للزركلي - (ج 1 / ص 178)
(2) - علي القاري ( ـ 1014 هـ ) هو علي بن سلطان محمد الهروي القاري ، نور الدين من أهل هراة . نزيل مكة وبها توفي . فقيه حنفي ، مشارك في العلوم ومكثر من التصنيف . يعد أحد صدور العلم في عصره ، امتاز بالتحقيق والتنقيح .من تصانيفه : ( ( حاشية ) ) على فتح القدير ؛ و ( ( شرح الهداية ) ) للمرغيناني ؛ و ( ( شرح الوقاية في مسائل الهداية ) ) وكلها في فروع الفقه الحنفي .[ خلاصة الأثر 3 / 185 ؛ وهدية العارفين 1 / 701 ؛ ومعجم المؤلفين 7 / 100 ]والموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 1 / ص 361)
(3) - انظر : الوسيط للدكتور محمد أبو شهبة , منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نورالدين عتر(1/29)
تعريفاتٌ أوليةٌ(1)
1-علم المصطلح(2):
علم بأصول وقواعد يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد.
2- موضوعه:
السند والمتن من حيث القبول والرد.
3- ثمرته :
تمييز الصحيح من السقيم من الأحاديث.
4- الحديث:
لغة: الجديد. ويجمع على أحاديث على خلاف القياس .
اصطلاحا : ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.(3)
5- الخَبَر:
لغة: النبأ . وجمعه أخبار .
اصطلاحاً: فيه ثلاثة أقوال وهي:
1)هو مرادف للحديث: أي إن معناهما واحد اصطلاحاً.
2) مغاير له: فالحديث ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . والخبر ما جاء عن غيره .
3) أعم منه:أي إن الحديث ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخبر ما جاء عنه أو عن غيره.
6- الأثَر:
أ) لغة: بقية الشيء.
ب) اصطلاحاً: فيه قولان هما:
1) هو مٌرادف للحديث: أي أن معناهما واحد اصطلاحاً.
2) مٌغاير له: وهو ما أٌضيف إلى الصحابة والتابعين من أقوال أو أفعال.
7- الإسناد: له معنيان:
أ) عَزْو الحديث إلى قائله مسنداً .
ب) سلسلة الرجال المٌوصلة للمتن . وهو بهذا المعنى مرادف للسند .
8- السند:
أ) لغة: المعتمد. وسمي كذلك لأن الحديث يستند إليه ويعتمد عليه .
ب) اصطلاحا: سلسلة الرجال الموصلة للمتن.
9- المتن:
أ) لغة: ما صلب وارتفع من الأرض.
ب) اصطلاحاً: ما ينتهي إليه السند من الكلام.
10- المٌسْنَد: ( بفتح النون )
أ) لغة: اسم مفعول من أسند الشيء إليه بمعنى عزاه ونسبه له.
ب) اصطلاحاً: له ثلاثة معان.
1) كل كتاب جمعَ فيه مرويات كل صحابي على حِدَة .
2) الحديث المرفوع المتصل سنداً .
3) إن يٌراد به " السند " فيكون بهذا المعنى مصدراً ميمياً.
11- المٌسْنِد : ( بكسر النون )
هو من يروي الحديث بسنده . سواء أكان عنده علم به. أم ليس له إلا مجرد الرواية
12- المٌحدَّث:
هو من يشتغل بعلم الحديث رواية ودراية . ويطلع على كثير من الروايات وأحوال رواتها.
13- الحافظ : فيه قولان :
أ) مرادف للمحدث عند كثير من المحدثين.
ب) وقيل هو أرفع درجة من المحدث . بحيث يكون ما يعرفه في كل طبقة أكثر مما يجهله.
14- الحاكم(4):
هو من أحاط علماً بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير على رأي بعض أهل العلم.
- - - - - - - - - - - - -
البابُ الثاني
الخبرُ(5)
وفيه أربعة فصول :
- الفصل الأول : تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا .
- الفصل الثاني : الخبر المقبول
- الفصل الثالث : الخبر المردود .
- الفصل الرابع : الخبر المشترك بين المقبول والمردود .
الفصلُ الأول
تقسيمُ الخبر باعتبار وصوله إلينا
ينقسم الخبر باعتبار وصوله إلينا إلى قسمين:
فإن كان له طرقٌ بلا حَصْرِ عدد معين فهو المتواترُ .
وإن كان له طرقٌ محصورة بعددٍ معين فهو الآحادُ.
ولكل منهما أقسام وتفاصيل ، سأذكرها وأبسطها إن شاء الله تعالى وأبدا ببحث المتواتر.
المْبحَثُ الأولُ
الخبرُ المتواتر(6)
1-تعريفُه :
لغة: هو اسم فاعل مشتق من المتواتر أي التتابع، تقول تواتر المطر أي تتابع نزوله.
اصطلاحا: ما رواه عدد كثير تُحيلُ العادةُ تواطؤهم على الكذب.
وقال السيوطي رحمه الله(7):
" وهو ما نقلهُ من يحصل العلم بصدقهم ضرورة بأن يَكُونُوا جمعًا لا يُمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم من أوَّله أي الإسْنَاد إلى آخره ، ولذلكَ يجب العمل به من غير بَحْث عن رِجَاله "
ومعنى التعريف: أي هو الحديث أو الخبر الذي يرويه في كل طبقة من طبقات سنده رواة كثيرون يحكم العقل عادة باستحالة أن يكون أولئك الرواة قد اتفقوا على اختلاق هذا الخبر.
2-شروطُه:
يتبين من شرح التعريف أن التواتر لا يتحقق في الخبر إلا بشروط أربعة وهي:
أن يرويه عدد كثير(8).
قال القاضي الباقلاني: ولا يكفي الأربعة, وما فوقها صالح, وتوقَّف في الخمسة.
وقال الاصطخري: أقله عشرة, وهو المُخْتار, لأنَّه أوَّل جموع الكَثْرة.
وقيلَ: اثنا عشر عدَّة نُقباء بنى إسرائيل. وقيلَ: عشرُون. وقيلَ: أربَعُون.
وقيلَ: سبعون عدَّة أصحاب موسى عليه الصَّلاة والسَّلام.
وقيلَ: ثلاث مئة وبضعة عشر, عدَّة أصحاب طالوت وأهل بدر, لأنَّ كل ما ذكر من العدد المذكور أفاد العلم.(9)
أن توجد هذه الكثرة في جميع طبقات السند.
أن تٌحيلَ العادة تواطؤهم على الكذب ، وذلك كأن يكونوا من بلاده مختلفة. وأجناس مختلفة. ومذاهب مختلفة وما شابه ذلك. وبناء على ذلك فقد يكثر عدد المخبرين ولا يثبت للخبر حكم المتواتر. وقد يقل العدد نسبياً ويثبت للخبر حكم المتواتر . وذلك حسب أحوال الرواة..
أن يكون مٌسْتَنَد خبرهم الحس ،كقولهم سمعنا أو رأينا أو لمسنا أو ..... أما إن كان مستند خبرهم العقل. كالقول بحدوث العالم مثلا . فلا يسمى الخبر حينئذ متواتراً .
رأي العلامة ابن حزم رحمه الله بعدد التواتر(10):
قال رحمه الله :
" لكلِّ من حدَّ في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقلَّ منه يوجبُ تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين، أو عدد لا نحصيهم، وإن كان في ذاته محصي ذاعدد محدود، أو أهل المشرق والمغرب، ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة، ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدَّعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا، وإلا فقد ادَّعوا ما لا يعرف أبداً ولا يعقل.
فإذن لا بدَّ من تحديدِ عددٍ ضرورةً، فنقول لهم:
ما تقولون إن سقط من هذا الحدِّ الذي حددتم واحدٌ، أيبطلُ سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله ؟
فإن قال: يبطلُه، فتحكمٌ بلا برهانٍ، وكل قولٍ بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروحٌ ساقطٌ، فإنْ قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر، حتى يبلغ إلى واحد فقط، وإن حدَّ عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة.
وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر، ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون، وليس ذكر هذه الاعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار، وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه، فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك، ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها، ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شئ في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجَّة بهم، فصارفُ ذكرِها إلى ما لم يقصدْ بها مجرمٌ وقاحٌ محرِّفٌ للكلم عن مواضعه، وإن قالَ: لا يبطلُ قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حدَّ - كان قد ترك مذهبه الفاسد، ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد، وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا، فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الأشياء كانوا مدَّعين بلا دليل، ومشبهين بلا برهان، وحكمُ كل شئ يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها، إلا ما أصبح إجماعٌ أو نصٌّ أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده، وقد قال بعضهم: لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد.
قال أبو محمد: وهذا قول من غمرهُ الجهل، لأنه ليس هذا موجدا في العالم أصلا، وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن، وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك، فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في العالم وهذا كفر.
وأيضا فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمرٌ فظيعٌ يدفعه العقل ببديهته، وهو أن لا يصحَّ عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا، وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس، وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب، فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة، وهم يعرفون بضرورة حسِّهم صدقَ أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل، وخروج عدو شر واقع، وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير، ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شئ مما ذكرنا أبدا، لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير، مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب.
قال علي: فإن سألنا سائل، فقال: ما حدُّ الخبر الذي يوجب الضرورة ؟
فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول:
إن الواحدَ من غير الانبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام - قد يجوز عليه تعمد الكذب، يعلمُ ذلك بضرورة الحسِّ، وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا.
ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم، بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك.
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك، وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا، ولا دسسا، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبرا به، ولا رهبة منه، ولم يعلم أحدهما بالآخر، فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله، وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه.
وهذا الذي قلنا يعلمه حسًّا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك، وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاتهِ يمر به، ولو أنك تكلفُ إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه، يعلم ذلك بضرورة المشاهدة، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان، وكلفتَ كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره.
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلاً، وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة، والكلمتين نحو ذلك.
والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت، شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط.
وأخبرني من لا أثق به: أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد،
ولست أعلم ذلك صحيحا.
وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل، فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا.
والشعر نوع من أنواع الكلام، ولكل كلام تأليف ما، والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة، وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات، فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل.
وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض.
قال علي: وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد، ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأُ."
قلت :
وكلامه طيب في مناقشة الآراء الأخرى لولا ذلاقة لسانه ، ومعنى ذلك أن الحديث العزيز هو حديث متواترٌ حسب وجهة نظره ، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار الحديث المحتف بالقرائن وهو حديث آحاد بأنه يفيد العلم النظري ، فنجد أن لقول العلامة ابن حزم رحمه الله وجهاً قويًّا من المنطق والمعقولية .
ولكنْ هناك فرقٌ كبير بين أن يكون متواتراً بيقين يعلمه الخاص والعام ، وبين العلم النظري لدى الباحث في السنَّة النبوية .
والذي يرجح عندي أن الحديث متى ما روي من طرق أربعة صحيحة فما فوق ينبغي أن يكون متواتراً ، وهو الذي يقابل المشهور في اصطلاح الحنفية ، وذلك لأن أقصى شهادة على حكم شرعي - غير القسامة - هو أربعة على زنا المحصن . والله أعلم
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر :تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 5) و تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 9)
(2) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 28) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 4) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 3 / ص 6)
(3) - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 68) ومذكرة أصول الفقه - (ج 1 / ص 39 ) والأصول من علم الأصول - الرقمية - (ج 1 / ص 57) وبحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 54) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 3) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 83) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 156)
(4) - ندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 9 / ص 7)
(5) - انظر تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 10)
(6) - شرح الورقات في أصول الفقه - (ج 4 / ص 36) والبرهان في أصول الفقه - الرقمية - (ج 1 / ص 216) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 233) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 108) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 180) وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - (ج 1 / ص 98)
(7) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(8) - انظر المنهج المقترح لفهم المصطلح - (ج 1 / ص 83)
(9) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(10) - الأحكام لابن حزم - (ج 1 / ص 95)(1/30)
رأي الإمام الزركشي في الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدََ أَهْلِ الْحَدِيثِ(1)
قال رحمه الله :
" الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ ،قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : وَأَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ ، وَإِنْ كَانَ الْخَطِيبُ ذَكَرَهُ .(2)
فَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعََ أَهْلَ الْحَدِيثِ .
قُلْت : قَدْ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَابْنُ حَزْمٍ ، وَغَيْرُهُمْ ،وَادَّعَى ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُمْ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَشْمَلْهُ صِنَاعَتُهُمْ ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي رِوَايَاتِهِمْ ؛ لِنُدْرَتِهِ ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ مِثَالٍ لَهُ أَعْيَاهُ طَلَبُهُ .
قَالَ : وَلَيْسَ مِنْهُ حَدِيثُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ }(3)؛ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ إسْنَادِهِ .
نَعَمْ ، حَدِيثُ : { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } مُتَوَاتِرٌ ، رَوَاهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَنْهُمْ ، وَذَكَرَ الْبَزَّارُ أَنَّهُ رَوَاهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ .(4)
قُلْت : وَأَنْكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَدْرِ صَحِيحِهِ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ ، فَقَالَ : وَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَإِنَّهَا كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ ؛ لِأَنَّ لَيْسَ يُوجَدُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرٌ مِنْ رِوَايَةِ عَدْلَيْنِ ، رَوَى أَحَدُهُمَا عَنْ عَدْلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ عَدْلَيْنِ حَتَّى يَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ هَذَا وَبَطَلَ ، ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْبَارَ كُلَّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ ، وَمَنْ رَدَّ قَبُولَهُ فَقَدْ رَدَّ السُّنَّةَ كُلَّهَا ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ السُّنَنِ إلَّا مِنْ رِوَايَةِ الْآحَادِ .ا هـ .(5)
وَفِي هَذَا مَا يَرُدُّ عَلَى الْحَاكِم دَعْوَاهُ أَنَّ الشَّيْخَيْنِ اشْتَرَطَا أَنْ لَا يَرْوِيَا الْحَدِيثَ إلَّا بِرِوَايَةِ اثْنَيْنِ عَنْ اثْنَيْنِ ، وَهَكَذَا ."
وقال السيوطي(6):
" قال شيخ الإسلام(7): ما ادَّعاهُ ابن الصَّلاح من عِزَّة المتواتر, وكذا ما ادَّعَاهُ غيره من العدم ممنوع, لأنَّ ذلك نشأ عن قِلَّة الاطلاع على كثرة الطُّرق, وأحوال الرِّجَال, وصفاتهم المُقتضية لإبعاد العادة أن يَتَواطؤوا على الكذب, أو يحصل منهم اتِّفاقًا.
قال: ومن أحسن ما يُقرَّر به, كون المُتواتر موجودًا وجُود كثرة في الأحاديث, أن الكُتب المشهورة المُتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغَربًا, المقطوع عندهم بصحَّة نسبتها إلى مُؤلفيها, إذا اجتمعت على إخراج حديث, وتعدَّدت طُرقه تعدادًا تحيل العادة تواطأهم على الكذب, أفاد العلم اليَقيني بصحته إلى قائله.
قال: ومثل ذلك في الكُتب المَشْهُورة كثير.اهـ
3- حُكمُه :
المتواتر يفيد العلم الضروري، أي اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى التصديق به تصديقاً جازماً كمن يشاهد الأمر بنفسه كيف لا يتردد في تصديقه، فكذلك الخبر المتواتر. لذلك كان المتواتر كله مقبولا ولا حاجة إلى البحث عن أحوال رواته.
4-أقسامه:
ينقسم الخبر المتواتر إلى قسمين هما، لفظي ومعنوي.
المتواتر اللفظي(8): هو ما تواتر لفظه ومعناه. مثل حديث « مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(9). رواه بضعة وسبعون صحابياً(10).
مثال آخر : حديث ((إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَاهُ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَالاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ)). هذا الحديث رواه عدد من الصحابة ورواه عنهم جماعة من التابعين فرواه من الصحابة.
1 - عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه - ، وأخرج روايته: الإمام أحمد في المسند(11)، وأبو داود(12)، والدارمي(13)، ثلاثتهم من طريق: حماد بن سلمة(14)، عن يونس بن أبي إسحاق وحميد، عن الحسن البصري، عن عبد الله بن مغفل، وهذا إسناد صحيح(15).
2 - أبو هريرة - رضي الله عنه - ، أخرج روايته: ابن ماجه(16). و"النَّسائي" في "الكبرى"(17)و"ابن حِبَّان"(18)قال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى ، بعسكر مكرم ، ثلاثتهم (ابن ماجة ، والنسائي ، وابن حبان) عن أبي بكر ، إسماعيل بن حفص الأبُلِّي ، قال : حدَّثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، فذكره(19)، وهذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات كلهم.
3 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، أخرج روايته: الإمام أحمد(20)، والبخاري في التاريخ الكبير(21)كلاهما عن عبد الله بن وهب بن منبه عن أبيه، عن أبي خليفة عن علي - رضي الله عنه - .(22)
وهذا الإسناد حسن؛ لأنّ عبد الله بن وهب بن منبه وأبا خليفة مقبولان كما في التقريب(23).
4- عن عائشة رضي الله عنها أخرجه الإمام مسلم(24). والبخاري(25)
5- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه ، المعجم الصغير للطبراني حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَيُّوبَ الْمُخَرِّمِيُّ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ(26)، و مسند حَدَّثنا محمد بن إسحاق ، حَدَّثنا سعيد بن محمد الجرمي به(27)،و جزء فيه فوائد ابن حيان حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن أيوب المخرمي ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي(28)
و المعجم الأوسط للطبراني حدثنا طالب بن قرة الأذني قال : نا الحسن بن عيسى الحربي قال : نا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن أنس بن مالك(29)
و مسند البزار حَدَّثنا عمرو بن علي ، حَدَّثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ ، حَدَّثنا أبو جعفر الرازي , عن الربيع بن أنس ، عَن أَنَس(30)، وهذا حديث صحيح
6- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، مسند الشاميين و المعجم الكبير للطبراني حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى الدِّمَشْقِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ رَاشِدٍ الدِّمَشْقِيُّ ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ(31)، وهذا حديث حسن في المتابعات
7- عَنْ خَالِدِ بن مَعْدَانَ، عَنْ أَبِيهِ ، المعجم الكبير للطبراني حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن مُحَمَّدِ بن شُعَيْبٍ الرِّحَابِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بن مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ، ثنا رَوْحُ بن عُبَادَةَ، ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ زِيَادٍ، عَنْ خَالِدِ بن مَعْدَانَ به(32)،و مصنف عبد الرزاق عَنِ الثَّوْرِيِّ عن محمد بن عجلان عن أبان بن صالح عن خالد بن معدان به(33)، وهذا إسناد صحيح
8- عن جرير بن عبد الله ، المعجم الكبير للطبراني حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن مُحَمَّدِ بن أَبِي الْمَضَّاءِ الْمِصِّيصِيُّ ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بن تَمِيمٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بن إِبْرَاهِيمَ بن مُهَاجِرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بن أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ قَيْسِ بن أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ جَرِيرِ بن عَبْدِ اللَّهِ(34)
وهذا إسناد حسن في المتابعات ، وقال الهيثمي : وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ !(35)
9- عن ابن عباس ، أخبار أصبهان حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا محمد بن أحمد بن علي بن بشر ، عن جده ، ثنا محمد بن بشر ، عن الحسن بن صالح ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس(36)،وهذا إسناد فيه ضعف
10- عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ مرسلا ، مصنف ابن أبي شيبة حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَنْ ثَوْرٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ(37) - صلى الله عليه وسلم - ،وهذا إسناد صحيح مرسل
11- عن الحسن البصري مرسلا 'الزهد لهناد بن السري حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن الحسن البصري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (38)، وهذا إسناد صحيح مرسل .
فهذا الحديث متواتر ، بلا ريب
المتواتر المعنوي: وهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مُختلفة, تَشْترك في أمر يتواتر ذلك القدر المُشترك.
كما إذا نقلَ رَجُل عن حاتم مثلاً أنَّه أعْطَى جملاً, وآخر أنَّه أعْطَى فرسًا, وآخر أنَّه أعْطَى دينارًا, وهلمَّ جرًّا, فيتواتر القدر المُشترك بين أخبارهم, وهو الإعطاء, لأنَّ وجوده مشترك من جميع هذه القضايا.(39)
هو ما تواتر معناه دون لفظه.
مثل : أحاديث رفع اليدين في الدعاء(40). كأحاديث رفع اليدين في الدُّعاء, فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - نحو مئة حديث فيه رفع يديه في الدُّعاء, وقد جمعتها في جزء, لكنَّها في قضايا مُختلفة, فكل قضية منها لم تتواتر, والقدر المُشْترك فيها, وهو الرَّفع عند الدُّعاء تواتر باعتبار المَجْموع..(41)
5- وجودُه :
قال السيوطي(42): قد ألَّفتُ في هذا النَّوع كتابًا لم أُسبق إلى مثله, سمَّيتهُ «الأزْهَار المتناثرة في الأخبار المُتواترة» مُرتبًا على الأبواب, أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرَّجه وطرقه.
ثمَّ لخصتهُ في جزء لطيف سمَّيتهُ «قَطْف الأزْهَار» اقتصرتُ فيه على عزو كلِّ طريق لمن أخرجها من الأئمة, وأوردتُ فيه أحاديث كثيرة, منها:
حديث: الحَوْض, من رِوَاية نيف وخمسين صحابيًا .(43)
وحديث: المَسْح على الخُفَّين, من رواية سبعين صحابيًا(44).
وحديث: رفع اليدين في الصَّلاة, من رواية نحو خمسين(45).
وحديث: «نضَّر الله امرأ سمع مَقَالتي ...» من رواية نحو ثلاثين(46).
وحديث: «نزل القُرآن على سَبْعة أحرف ...» من رواية سبع وعشرين(47).
وحديث: «من بَنَى لله مَسْجدًا, بَنَى الله له بيتا في الجنَّة» من رواية عشرين(48)
وكذا حديث: «كُل مُسْكر حرام»(49).
وحديث: «بَدَأ الإسلام غَرِيبًا»(50).
وحديث: سُؤال مُنكر ونَكير .(51)
وحديث: «كُلٌّ مُيسَّر لما خُلقَ له»(52).
وحديث: «المَرءُ مع من أحبَّ»(53).
وحديث: «إنَّ أحدكُم ليَعْمل بعمل أهل الجنَّة(54).
وحديث: «بَشِّر المَشَّّائين في الظُّلَم إلى المَسَاجد بالنُّور التَّام يوم القيامة»(55).
كُلها مُتواترة, في أحاديث جمة أودعناها كتابنا المذكُور ولله الحمد."
، لكن لو نظرنا إلى عدد أحاديث الآحاد لوجدتا أن الأحاديث المتواترة قليلة جداً النسبة لها.
قلت : تبلغ الأحاديث المتواترة أكثر من ثلاثمائة حديث ، والأحاديث المشهورة تعادلها تقريبا ، وقد ذكرت كثيرا منها في موسوعتي ( موسوعة السنة النبوية )
6- أشهر المصنفات فيه :
لقد اعتنى العلماء بجمع الأحاديث المتواترة وجعلها في مصنف مستقل ليسهل على الطالب الرجوع إليها. فمن تلك المصنفات:
الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة : للسيوطي . وهو مرتب على الأبواب.
قطف الأزهار للسيوطي أيضاً . وهو تلخيص للكتاب السابق .
نظم المتناثر من الحديث المتواتر : لمحمد بن جعفر الكتاني ، وهو أوفاها وأجمعها ، وقد بأه بمقدمة مفصلة حول الحديث المتواتر وشروطه ، ثم رتب الأحاديث المواترة على الأبواب الفقهية، وقال في آخره :" وهذا ما تيسر الآن جمعه وذكره من الأحاديث المتواترة اللفظ أو المعنى ،على ما في بعضها ومجموعها ثلاثمائة حديث وعشرة أحاديث، وباب الزيادة فيها مفتوح للمستزيد ومنتهى العلم إلى الله المجيد، فإن الأحاديث المتواترة المعنى كثيرة جدا ،وما ذكرت منها إلا ما وقفت وقت التقييد على من نص أنه متواتر تكميلا للفائدة بضم الشئ إلى مثله أو نظيره."
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 264)
(2) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 59) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 434) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 192)
(3) - هو في صحيح البخارى(1 ) حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِىُّ قَالَ أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » .
قلت : هو حديث غريب السند(فرد) ولكن قد ورد في معناه آيات وأحاديث كثيرة ، فمطلق النية وأنها مطلوبة وأن صحة العمل تتوقف عليها ، فلا شك بتواتر ذلك . وهو ما يسمى بالتواتر المعنوي .
(4) - قال ابن الصَّلاح : رواهُ اثنان وسِتُون من الصَّحابة، وقال غيره: رواهُ أكثر من مئة نفس، وفي «شرح مسلم» للمُصنَّف: رواه نحو مئتين وقال العِرَاقي: وليسَ في هذا المتن بعينه, ولكنَّهُ في مُطْلق الكذب, والخاص بهذا المتن رواية بضعة وسبعين صحابيًا ...تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(5) - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ( 1/156) .
(6) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(7) - قلت : كل مكان يقول فيه الإمام السيوطي : (قال شيخ الإسلام ) يعني به الحافظ ابن حجر رحمه الله
(8) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 18) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 108) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 77)
(9) - صحيح البخارى برقم (107 ) ومسلم برقم (4 )
(10) - انظر : نظم المتناثر - (ج 1 / ص 7) ونظم المتناثر - (ج 1 / ص 12)رقم(2)
(11) - المسند, ج4, ص87.
(12) - في السنن برقم " 4807 " كتاب الأدب، باب في الرفق.
(13) - في السنن برقم " 2690 " كتاب الرقاق، باب في الرفق.
(14) - هو ابن دينار أبو سلمة الإمام أحد الأعلام ثقة عابد روى عنه مسلم والأربعة، ت 167هـ، التقريب (1499).
(15) - انظر تخريجه المسند الجامع - (ج 12 / ص 424)(9474)
(16) - في السنن برقم 3688 - كتاب الأدب، باب الرفق.
(17) - "النَّسائي" في "الكبرى" 7655
(18) - ابن حِبَّان" 549
(19) - المسند الجامع - (ج 17 / ص 1117)(14058)
(20) - في المسند 1/112.
(21) - البخاري, التاريخ الكبير, ج1, ص307.
(22) - انظر المسند الجامع - (ج 13 / ص 635)(10227)
(23) - فكل من قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب ( مقبول ) فهو متابع ، فحديثه يدور بين الحسن والصحيح . انظر كتابي ( الحافظ ابن حجر ومنهجه في تقريب التهذيب )
(24) - في صحيحه برقم (2593) كتاب البر، باب فضل الرفق. وانظر المسند الجامع - (ج 20 / ص 251)(16970)
(25) - صحيح البخارى (6927 )
(26) - المعجم الصغير للطبراني(221)
(27) - مسند البزار (7114)
(28) - جزء فيه فوائد ابن حيان(67 )
(29) - المعجم الأوسط للطبراني (3824 )
(30) - مسند البزار (6519)
(31) - مسند الشاميين(421) والمعجم الكبير للطبراني - (ج 7 / ص 100)(7350 )
(32) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 15 / ص 297)(17241 )
(33) - مصنف عبد الرزاق(9252)
(34) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 2 / ص 445)(2225)
(35) - مجمع الزوائد ( 12643 )
(36) - أخبار أصبهان(1447 )
(37) - مصنف ابن أبي شيبة (ج 8 / ص 324)(25819)
(38) - الزهد لهناد بن السري(1278 و1422 )
(39) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(40) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 17) ونظم المتناثر - (ج 1 / ص 18) ونظم المتناثر - (ج 1 / ص 176) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 108)
(41) - تدريب الراوي جـ2 ـ ص 180 و تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(42) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 74)
(43) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 21)
(44) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 60)32
(45) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 85)67
(46) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 33)3
(47) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 19)
(48) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 76)55
(49) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 153)165
(50) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 48)20
(51) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 124)
(52) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 18)
(53) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 202)246
(54) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 183)(216)
(55) - نظم المتناثر - (ج 1 / ص 80)60(1/31)
المبحث الثاني
خبرُ الآحادِ(1)
تعريفُه:
لغة: الآحاد جمع أحد بمعنى الواحد، وخَبَرُ الواحِدِ في اللُّغَةِ : ما يَرويهِ شَخْصٌ واحِدٌ.
اصطلاحاً: ، وفي الاصطِلاحِ : ما لَمْ يَجْمَعْ شُروط المُتواتِرِ(2)
حكمُه :
يفيد العلم النظري ، أي العلم المتوقف على النظر والاستدلال(3).
وقال الزركشي في تعريفه(4):" مَا لَا يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَذِبِهِ وَهُوَ إمَّا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ احْتِمَالَاتُ صِدْقِهِ كَخَبَرِ الْعَدْلِ أَوْ كَذِبِهِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ ، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ كَخَبَرِ الْمَجْهُولِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الْجَائِزِ الْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ وَعَدَمُهُ ، وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ،وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ فَقَطْ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي وَحْدَهُ الْمُخْبَرَ الَّذِي يُنَافِيهِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ ، لَكِنْ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ بِهِ عَلَى كُلِّ مَا لَا يُفِيدُ الْقَطْعََ ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِهِ جَمْعًا إذَا نَقَصُوا عَنْ حَدِّ التَّوَاتُرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَا لَمْ يَنْتَهِ نَاقِلُهُ إلَى حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالشُّهْرَةِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ بَرْهَانٍ .
قَالَ الْهِنْدِيُّ : وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى رَأْيِ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُفْرِدُونَ لَهُ أَحْكَامًا أُصُولِيَّةً قَرِيبًا مِنْ أَحْكَامِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ، أَمَّا أَصْحَابُنَا فَلَا ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْهِنْدِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ مِنْ جُمْلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ ."
أقسامه بالنسبة إلى عدد طرقه :
يقسمُ خبرُ الآحاد بالنسبة إلى عدد طرقه إلى ثلاثة أقسام.
مشهور.
عزيز.
غريب.
وسأتكلم على كل منها ببحث مستقل .
ــــــــــــــ
المَشهور(5)
تعريفُه:
لغة : هو اسم مفعول من " شَهَرْتٌ الأمر "(6)إذا أعلنته وأظهرته وسميَّ َ بذلك لظهوره .
اصطلاحاً: ما رواه ثلاثة ـ فأكثر في كل طبقةٍ ـ ما لم يبلغ حدَّ التواتر(7).
مثالُه:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا » .(8)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - الأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 31) والإحكام في أصول الأحكام - (ج 1 / ص 283) وكشف الأسرار - (ج 7 / ص 324) والبحر المحيط - (ج 6 / ص 73) والتقرير والتحبير - (ج 4 / ص 72)و شرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 449) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 203) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 9) وتيسير التحرير - (ج 3 / ص 52) وقواطع الأدلة فى الأصول / للسمعانى - (ج 1 / ص 348) والتلخيص فى أصول الفقه / لإمام الحرمين - (ج 2 / ص 144) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 9) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 211)
(2) - نزهة النظر - (ج 1 / ص 50)
(3) - حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 4 / ص 225) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 216- 218)
(4) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 279)
(5) - أصول السرخسي - (ج 2 / ص 64) والأحكام لابن حزم - (ج 2 / ص 143) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 2 / ص 280) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 227) وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 1 / ص 105)
(6) - مختار الصحاح - (ج 1 / ص 167) والصحاح في اللغة - (ج 1 / ص 372)
(7) - شرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 363) والمنهج المقترح لفهم المصطلح - (ج 1 / ص 173) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 1 / ص 18) والخضيرشرح نظم اللؤلؤ المكنون - (ج 1 / ص 24)
(8) - صحيح البخارى برقم (100 )عنه والمعجم الكبير للطبراني - (ج 19 / ص 465) برقم (1112) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ والمعجم الصغير للطبراني - (ج 1 / ص 279) برقم (459) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
وانظر : تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 72) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 308) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 447) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 191) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 35)(1/32)
المسْتَفِيضُ(1)
لغة: اسم فاعل من " استفاض " مشتق من فاض الماء وسمى بذلك لانتشاره.
اصطلاحاً : اختلف في تعريفه على ثلاثة أقوال وهي :
هو مرادف للمشهور .
هو أخص منه ، لأنه يشترط في المستفيض أن يستوي طرفا إسناده ، ولا يشترط ذلك في المشهور .
هو أعم منه أي عكس القول الثاني .
وقال الزركشيُّ(2):
"[ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفِيضِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ ] قِيلَ : إنَّهُ وَالْمُتَوَاتِرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَهُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ ، كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابَيْهِمَا .
وَقِيلَ : بَلِ الْمُسْتَفِيضُ رُتْبَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ(3)، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَأَتْبَاعُهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ(4)، وَجَرَى عَلَيْهِ تِلْمِيذُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ مِعْيَارِ النَّظَرِ " ، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " فَقَالَ : ضَابِطُهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ يَرْبُو عَلَى الْآحَادِ ، وَيَنْحَطُّ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ .
وَجَعَلَهُ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ قِسْمًا مِنَ الْآحَادِ .
قَالَ الْآمِدِيُّ : وَهُوَ مَا نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ تَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ(5)، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَقِيلَ : " الْمُسْتَفِيضُ " مَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ ، وَعَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ مَا اُشْتُهِرَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، وَكَأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالِاشْتِهَارِ مَعَ التَّسْلِيمِ ، وَعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ فُورَكٍ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ : مُشْكِلِ الْحَدِيثِ " إلَى هَذَا أَيْضًا ،وَمَثَّلَهُ بِخَبَرِ : { فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ ، وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ }(6).
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " : الْمُسْتَفِيضُ : أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ رُتْبَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ .
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ الشَّائِعُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَقَدْ صَدَرَ عَنْ أَصْلٍ لِيُخْرِجَ الشَّائِعَ لَا عَنْ أَصْلٍ .
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي " وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " تَقْسِيمًا غَرْبِيًّا جَعَلَا فِيهِ الْمُسْتَفِيضَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ الْمُتَوَاتِرِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ .
فَقَالَا : الْخَبَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ :
أَحَدُهَا : الِاسْتِفَاضَةُ ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَشِرَ مِنِ ابْتِدَائِهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَيَتَحَقَّقُهُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَلَا يَشُكُّ فِيهِ سَامِعٌ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ ، وَعَنَيَا بِذَلِكَ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ .قَالَا : وَهَذَا أَقْوَى الْأَخْبَارِ وَأَثْبَتُهَا حُكْمًا .
وَالثَّانِي : التَّوَاتُرُ : وَهُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ حَتَّى يَكْثُرَ عَدَدُهُمْ ، وَيَبْلُغُوا قَدْرًا يَنْتَفِي عَنْ مِثْلِهِمُ التَّوَاطُؤُ وَالْغَلَطُ فَيَكُونُ فِي أَوَّلِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي آخِرِهِ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِفَاضَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ .
أَحَدُهَا : مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَاتِّفَاقِهِمَا فِي الِانْتِهَاءِ .
الثَّانِي : أَنَّ خَبَرَ الِاسْتِفَاضَةِ لَا تُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ ، وَفِي الْمُتَوَاتِرِ يُرَاعَى ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ : أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ تَنْتَشِرُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ ، وَالْمُتَوَاتِرُ مَا انْتَشَرَ عَنْ قَصْدٍ لِرِوَايَتِهِ ، وَيَسْتَوِيَانِ فِي انْتِفَاءِ الشَّكِّ وَوُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِمَا وَلَيْسَ الْعَدَدُ فِيهِمَا مَحْصُورًا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ انْتِفَاءُ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ مِنَ الْمُخْبِرِينَ .
قَالَا : وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَخْبَارِ السُّنَّةِ مِثْلُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ ، وَالتَّوَاتُرُ مِنْهَا مِثْلُ وُجُوبِ الزَّكَوَاتِ اهـ
هَكَذَا قَالَا ، وَهُوَ غَرِيبٌ ، لَكِنَّ قَوْلَهُمَا فِي الِاسْتِفَاضَةِ مُوَافِقٌ لِمَا اخْتَارَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالِاسْتِفَاضَةِ مِنْ طُرُقِهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ عَدَدٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُتَأَخِّرِينَ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ : أَشْبَهُ بِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ ، وَأَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ ، أَنَّ أَقَلَّ مَا ثَبَتَتْ بِهِ الِاسْتِفَاضَةُ سَمَاعُهُ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ ابْنِ كَجٍّ ، وَنَقَلَ وَجْهَيْنِ : فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ؟ قَالَ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَبَرُ خَبَرُ عَدَدٍ يُؤْمَنُ فِيهِمْ التَّوَاطُؤُ .
وَالْمُسْتَفِيضُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوَاسِطَةِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ، وَأَبِي مَنْصُورٍ التَّمِيمِيِّ ، وَابْنُ فُورَكٍ ، وَمَثَّلَهُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْأُصُولِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ " : بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، وَأَخْبَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْحَوْضِ ، وَالشَّفَاعَةِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ(7)، وَمَثَّلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ بِحَدِيثِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ }(8)، وَحَدِيثِ : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا }(9)، وَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعَمَلِ ، مُقَارِبًا لِلْيَقِينِ .
وَسَبَقَهُ إلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَضَعَّفَ مَقَالَةَ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْعُرْفَ وَإِطْرَادَ الِاعْتِبَارِ لَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ قَطْعًا ، بَلْ قُصَارَاهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ : كَأَنَّ الْأُسْتَاذَ أَرَادَ أَنَّ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالتَّجْرِبَةِ يَحْصُلُ ذَلِكَ ، وَقَدْ مَالَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ ، وَلَا وَجْهَ لَهُ ،نَعَمْ ، هُوَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا الْعِلْمِ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ(10)لَا ضَرُورِيٌّ فِي قَوْلِ الْأُسْتَاذَيْنِ ".
ــــــــــــــ
المشهورُ غير الاصطلاحي(11)
1- تعريفه : ويقصد به ما اشْتُهِرَ على الألْسِنةِ من غير شروط تعتبر، فيشمل:
ما لَهُ إِسنادٌ واحِدٌ فصاعِداً
ما لا يوجَدُ لهُ إِسنادٌ أَصْلاً .
2- أنواعُ المشهور غير الاصطلاحيِّ:
له أنواعٌ كثيرةٌ أشهرُها :
المشهورُ بين أهل الحديث خاصةً :
ومثاله حديث أنس " أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِى سُلَيْمٍ "(12)
المشهورُ بين أهل الحديث والعلماء والعوام:
مثاله حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :" الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ "(13)
المشهورُ بين الفقهاءِ:
مثاله حديث :« أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللَّهِ الطَّلاَقُ »(14).
المشهورُ بين الأصوليين:
مثاله حديث: « وُضِعَ عَنْ أُمَّتِى الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ».(15).
المشهورُ بين النحاةِ :
مثاله حديث " نِعْمَ العبدٌ صٌهَيْبُ لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِهِ " لا أصل له(16).
مشهور بين العامة : مثاله حديث « الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ »(17).
3- حكمُ المشهور :
المشهورُ الاصطلاحيُّ وغيرُ الاصطلاحي لا يوصفُ بكونه صحيحاً أو غير صحيحٍ ، بل منه الصحيحُ ومنه الحسنُ والضعيفُ بل والموضوعُ ، لكن إن صحَّ المشهورُ الاصطلاحيُّ فتكون له ميزةٌ ترجحُه على العزيزِ والغريبِ .
4- أشهرُ المصنَّفات فيه :
المراد بالمصنفات في الأحاديث المشهورة هو الأحاديث المشهورة على الألسنة وليس المشهورة اصطلاحاً ، ومن هذه المصنفات .
ا-المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة :
للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902هـ
وهو كتاب جامع لكثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة ، مما ليس في غيره ، وتبلغ عدة أحاديثه 1356 حديثًا .
عُني فيه مؤلفه بفن الصناعة الحديثية ، فأتى فيه بفوائد ليست في غيره ، مع الدقة والإتقان ، فشفى وكفى في بيان حال الأحاديث ، ومن مصطلحاته في هذا الكتاب قوله في الحديث : " لا أصل له "، أي ليس له سند ، وليس في كتاب من كتب الحديث ، وقوله : " لا أعرفه " فيما عرض له التوقف ، خشية أن يكون له أصل لم يقف عليه ، وهاتان العبارتان من المحدث الحافظ من علامات الوضع .
أمثلةٌ منه :
الذي لا أصل له :(15) حديث: أبى اللَّه أن يصح إلا كتابه، لا أعرفه، ولكن قد قال اللَّه تعالى:{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء، ولذا قال إمامنا الشافعي رحمه اللَّه فيما رويناه في مناقبه لأبي عبد اللَّه ابن شاكر من طريق محمد بن عامر عن البويطي، قال: سمعت الشافعي يقول: لقد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن اللَّه تعالى يقول {ولو كان من عند غير اللَّه} الآية، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه ولبعضهم شعر:
كم من كتاب قد تصفحته وقلت في نفسي أصلحته
حتى إذا طالعته ثانيا وجدت تصحيفا فصححته
مثال الحديث الصحيح (20) حديث: اتقوا دعوة المظلوم، أحمد وأبو يعلى في مسنديهما من حديث أبي عبد اللَّه الأسدي عن أنس رضي اللَّه عنه مرفوعاً بزيادة: وإن كانت من كافر فإنه ليس دونها حجاب، والطبراني، والدينوري، ومن طريقهما القضاعي في مسنده من حديث خزيمة بن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه عن جده عن خزيمة رضي اللَّه عنه رفعه بزيادة: فإنها تحمل على الغمام، ويقول اللَّه جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين، وهما من هذين الوجهين عند الضياء في المختارة، والحاكم من حديث محارب بن دثار عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما مرفوعاً بزيادة: فإنها تصعد إلى السماء كأنها الشرار، وصححه على شرط مسلم، ورواه أبو يعلى من حديث عطية عن [ص 18] أبي سعيد رضي اللَّه عنه رفعه بلفظ: اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب، واتفق الشيخان عليه بهذا اللفظ من حديث أبي معبد نافذ عن مولاه ابن عباس رضي اللَّه عنهما مرفوعاً في حديث إرسال معاذ رضي اللَّه عنه إلى اليمن. وفي الباب عن جماعة. فلأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم - مما صححه ابن خزيمة وابن حبان - عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه رفعه: ثلاث دعوات يستجاب لهن لا شك فيهن دعوة المظلوم، وذكر الحديث، زاد بعضهم: ودعوة المظلوم يرفعها اللَّه دون الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول لها الرب بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين.
مثال الحديث الضعيف : (26) حديث: الإثنان فما فوقهما جماعة، ابن ماجه، والدارقطني في سننيهما، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وأبو يعلى في مسنده، والحاكم في صحيحه كلهم من حديث الربيع بن بدر بن عمرو عن أبيه عن جده عمرو بن جراد السعدي عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه رفعه بهذا، وهو ضعيف لضعف الربيع، لكن في الباب عن أنس عند البيهقي، وعن الحكم بن عمير عند البغوي في معجمه، وعن عبد اللَّه بن عمرو عند الدارقطني في أفراده، وعن أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط، وفي لفظ لأحمد عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وحده، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فقام رجل فصلى معه، فقال: هذان جماعة، والقصة المذكورة دون قوله "هذان جماعة" أخرجها أنو داود والترمذي من وجه آخر صحيح، وعن أبي هريرة وآخرين، واستعمله البخاري ترجمة، وأورد في الباب ما يؤدي معناه، فاستفيد كما قال شيخنا من ذلك ورود هذا الحديث في الجملة.
مثال الحديث الحسن لطرقه (46) حديث: ادرؤوا الحدود بالشبهات، الحارثي في مسند أبي حنيفة له من حديث مقسم عن ابن عباس به مرفوعاً، وكذا هو عند ابن عدي أيضاً، وفي ترجمة الحسين بن علي بن أحمد الخياط المقري من الذيل لأبي سعد بن السمعاني من روايته عنه عن أبي منصور محمد بن أحمد بن الحسين النديم الفارسي، أنا جناح بن نذير حدثنا أبو عبد اللَّه ابن بطة العكبري، حدثنا أبو صالح محمد بن أحمد بن ثابت، حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الصمد، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدسي حدثنا محمد بن علي الشامي، حدثنا أبو عمران الجوني عن عمر بن عبد العزيز فذكر قصة طويلة فيها: قصة شيخ وجدوه سكران، فأقام عمر عليه الحد ثمانين، فلما فرغ قال: يا عمر ظلمتني فإنني عبد فاغتم عمر ثم قال: إذا رأيتم مثل هذا في هيئته وسمته وفهمه وأدبه فاحملوه على الشبهة، فإن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ادرؤوا الحدود بالشبهة، قال شيخنا: وفي سنده من لا يعرف، ولابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي عن عمر قال: لأن أخطئ في الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات، وكذا أخرجه ابن حزم في الإيصال له بسند صحيح، وعند مسدد من طريق يحيى بن سعيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قال: ادرؤوا الحدود عن عباد اللَّه عز وجل، وكذا أشار إليه البيهقي من حديث الثوري عن عاصم بلفظ: ادرؤوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم، وقال: أنه أصح ما فيه، وفي الباب ما أخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي وأبو يعلى من طريق الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعاً: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم،
وانظروا إلى هذه الفائدة القيمة في الحديث (37) حديث: إحياء أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى آمنا به، أورده السهيلي عن عائشة، وكذا الخطيب في السابق واللاحق، وقال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل، وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جداً، وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة اللَّه تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه، وفي الوسيط للواحدي عند قوله تعالى {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}. قال: قرأ نافع تسأل بفتح المثناة الفوقانية، وجزم اللام على النهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أنه سأل جبريل عن قبر أبيه وأمه، فدله عليهما، فذهب إلى القبرين، ودعا لهما، وتمنى أن يعرف حال أبويه في الآخرة، فنزلت. وما أحسن قول حافظ الشام ابن ناصر الدين:
حبا اللَّه النبي مزيد فضل على فضل وكان به رؤوفا
فأحيا أمه وكذا أباه لإيمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم بذا قدير وإن كان الحديث به ضعيفا
وقد كتبت فيه جزءاً، والذي أراه الكف عن التعرض لهذا اثباتاً ونفياً اهـ(18)
قلت : فهذه مسألة دقيقة وقد خاض فيها الناس قديماً، ومما لا خلاف فيه أن أبوي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم يدركا الإسلام ، فهما من أهل الفترة بيقين ، وأهل الفترة فيهما مذاهب كثيرة ذكرها الإمام ابن القيم وغيره ، والصواب فيها الكف عن هذا الموضوع سلباً أو إيجاباً ، فليس الحساب موكولاً إلى اجتهادنا ، بل هو لله وحده دون سواه قال تعالى : {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (23) سورة الأنبياء.
وقد خاض فيها القدامى والمحدثون بما لا طائل تحته(19).
والخلاصة أنه كتاب لا يستغني عنه طالب علم ، ونلاحظ عليه استيعابه لكل طرق الحديث وشواهده لفظاً ومعنى وما قيل فيه . ولكن له طبعات محققة بعضها مليئة بالأوهام والتعليقات غير الدقيقة .!!!
ب- كشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما اشتهر من الحديث على السنة الناس
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 87) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 2 / ص 277) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 72) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 4) وألفية السيوطي في علم الحديث - (ج 1 / ص 13) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 4) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 192) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 194) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 49) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 74)
(2) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 265) والبحر المحيط - (ج 3 / ص 312)
(3) - انظر أصول السرخسي 1/291، والإحكام للآمدي 2/21، وشرح تنقيح الفصول ص: 349، فواتح الرحموت 2/111.
(4) - انظر البرهان 584.
(5) - الإحكام في أصول الأحكام - (ج 1 / ص 283)
(6) - رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، حديث 1454.
(7) - قلت : تواترت هذه الأخبار ، فصار المستفيض والمتواتر على هذا بينهما عموم وخصوص
(8) - مرَّ تخريجه
(9) - صحيح البخارى(5108 ) ومسلم (3506 ) وحم 1 / 87 و2 / 78 و 186 و 207 و 255 و 432 و 474 و 489 و 508 و 516 و 3 / 338 وش 4 / 246 و 247 وعب ( 10758 ) وتلخيص 3 / 167 ومجمع 4 / 263 و 6 / 178 و 293 و د ( 2065 ) وصحيح الجامع (7473 ) .
(10) - يعني استنباطي يعرف من خلال النظر في سند الحديث ومتنه
(11) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 86) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 2 / ص 240) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 72) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 4) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 5) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 176) والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 3) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 1 / ص 18)
(12) - صحيح البخارى برقم (3170 و ، 1002 ، 1003 ، 1300 ، 2801 ، 2814 ، 3064 ، 4088 ، 4089 ، 4090 ، 4091 ، 4092 ، 4094 ، 4095 ، 4096 ، 6394 ، 7341 ) ومسلم برقم (580 )
(13) - صحيح البخارى برقم (10 ) ومسلم برقم (171 )
(14) - سنن ابن ماجه برقم (2096 ) و السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 7 / ص 322) برقم (15292) ود (2178) وهـ (2018) وهق 7/322 وسنة 9/195 وك2/196 والفتح 9/356والإتحاف 5/391 وكثير 2/382 والترغيب 3/84 وجامع الأصول 7/623 موصولاً ومرسلاً -الصواب مرسل
(15) - السنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 6 / ص 84) برقم (11787) و فتح 5/160 و161 وعدي 2/573 أبو بكرة وتلخيص 1/281 وطب(1430) وعن ابن عباس الإحسان (7219) وقط4/170 ومعاني2/331 وطس(2137و8273) وهق7/356 وعن ابن عمر هق6/84 وعن عقبة 7/357 وعن أبي ذر ه(2043) وعن الحسن(11416) وصحيح الجامع (3515) والمجمع 6/250
(16) - حديث: نعم العبد صهيب، لو لم يخف للَّه لم يعصه، اشتهر في كلام الأصولين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي أنه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمع جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا أنه ظفر به في مشكل الحديث لأبي محمد ابن قتيبة لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسناداً وقال: أراد أن صهيباً إنما يطيع اللَّه حبالا لمخافة عقابه، انتهى المقاصد الحسنة للسخاوي - (ج 2 / ص 93)برقم (1259 ) وكشف الخفاء من المحدث - (ج 2 / ص 356) برقم (2831)
(17) - سنن الترمذى برقم (2144) والسنن الكبرى للبيهقي وفي ذيله الجوهر النقي - (ج 10 / ص 104) برقم (20767) ومسند أبي يعلى الموصلي - (ج 9 / ص 291) برقم (4143 ) عن أنس ووالصحيحة ( 1795 ) والإتحاف 5/251 و 252 و 7/278 و 8/47 وترغيب 2/437 و3/418 ومطالب ( 2812) والشعب ((4367) وصحيح الجامع ( 3011 ) صحيح
(18) - وقارنه بكلام صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس( 150 ) أحيا أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى آمنا به) لترى الفرق الكبير .
(19) - انظر : فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 316) أهل الفترة وفتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 237) والدا الرسول وفتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 5 / ص 306) مصير أهل الفترة وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4308) سؤال رقم 43045- هل أسلم والدا النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 4 / ص 269) من مات قبل أن تبلغه الدعوة وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 13 / ص 502) المقصود بأهل الفترة وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 16 / ص 277) أهل الفترة و فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 18) رقم الفتوى 1041 مصير أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - . و (ج 3 / ص 251) رقم الفتوى 10467 مصير والد النبي - صلى الله عليه وسلم - (ج 7 / ص 1730) رقم الفتوى 49293 أهل الفترة وأبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1730)
وقال الشنقيطي رحمه الله بعد أن تكلم طويلا في المسالة : الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة: هل يعذر المشركون بالفترة أو لا؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها، فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين:
الأول: أن هذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبوته عنه نص في محل النزاع، فلا وجه للنزاع معه البتة.
الثاني: أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما.
ملخصاً من تفسير أضواء البيان مبحث " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا "
هذا وقد تكلمت في كتابي (الإيمان باليوم الآخر وأهواله) عن أهل الفترة بالتفصيل ، فارجع إليه إن شئت .(1/33)
للحافظ إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى سنة 1162هـ ، وهو كتاب كثير الفوائد ، جمع فيه مؤلفه أحاديث كتاب السخاوي مع تلخيص كلامه ، وزاد أحاديث كثيرة جدًا حتى زاد عدد أحاديثه على 3250 حديثًا ، كما زاد فوائد في الصناعة الحديثية على غاية الأهمية ، وبهذا أصبح أكبر كتاب في هذا الفن ، وأكثره جمعًا للأحاديث المشتهرة على الألسنة ،ولكنه مملوء بالأحاديث والحكايات غير الثابتة ، فهو يحتاج لتحقيق دقيق وتريجل لكل أحاديثه .
أمثلة :
يقول في الحديث
6 - آخرُ منْ يدخلُ الجنةَ رجل يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين.
رواه الخطيب في رواة مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما، وفي رواية عن ابن عمر رفعه بلفظ: إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة. الحديث، ورواه الدارقطني في غريب مالك بزيادة في آخره وهي: سلوه هل بقي من الخلائق أحد يعذب؟ فيقول: لا، وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هناد.
وفي المقاصد الحسنة للسخاوي - (ج 1 / ص 399)
719 - حديث: عند جهينة الخبر اليقين، الدارقطني والخطيب في الرواة عن مالك لكل منهما، ولثانيهما عزاه الديلمي في مسنده من حديث ابن عمر رفعه: آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين، هل بقي من الخلائق أحد، وذكره الميانشي في كتابه "الاختيار في الملح من الأخبار والآثار"، والسهيلي، بل هو في ترجمة الوليد بن موسى من ضعفاء العقيلي بسنده إلى أنس مطولاً، وقال الدارقطني - وقد أخرج حديث ابن عمر في غرائب مالك له من وجهين عن جامع بن سوادة، عن زهير بن عباد عن أحمد بن الحسين اللهبي عن عبد الملك بن الحكم بسنده -: هذا الحديث باطل، وجامع ضعيف، وكذا عبد الملك انتهى.
وانظر الحديث في الكشف 1955 - كلوا الزيت وادهنوا به فإنه مبارك.
أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وفي الباب عن غيره، ومنه كما في الجامع الصغير ما رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة بلفظ كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة، ومنه كلوا الزيت وادهنوا به فإن فيه شفاء من سبعين داء منها الجذام - رواه أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وهو في المقاصد 833 - حديث: كلوا الزيت وادَّهنوا به فإنه مبارك، أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر، وابن ماجه فقط عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرطهما، وفي لفظ: فإنه من شجرة مباركة، وفي الباب عن جماعة.
فقارن بينهما تجد الفرق شاسعاً .
جـ- تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث لابن الديبغ الشيباني . وقد اختصر أبو الضياء عبد الرحمن بن الديبع الشيباني تلميذ السخاوي كتاب المقاصد ، وسمي مختصره تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على الألسنة من الحديث . ولكنه اختصار مخلٌّ فيها أرى ، لا يغني عن الأصل .
د- الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة : للحافظ جلال الدين السيوطي لخصه من كتاب التذكرة في الأحاديث المشتهرة لبدر الدين الزركشي وزاد عليه .
هـ- أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب :
للشيخ أبي عبد الله محمد بن درويش الحوت البيروتي ، وهو كتاب مختصر ولطيف ، وغزير الفوائد لا سيما ما ورد في آخره ، ولكنه مختصر جدًّا ونحى منحى المتشددين في قبول الأخبار ، فوقع في أخطاء عديدة ، وقد قمت منذ زمان بتخريج أحاديثه والتعليق عليه ، ولم ينشر بعد .
هذا وقد فصلت القول في دراسة هذه الكتب في كتابي (( المفصل في أصول التخريج ودراسة الأسانيد ))
ـــــــــــــــ(1/34)
العَزيز(1)
1-تعريفُه:
لغة: هو صفة مشبهة من " عَزَّ يَعِزّ" بالكسر أي قَلَّ و نَدَرَ، أو من "عَزَّ يَعّزُّ" بالفتح، أي قوي واشتد، وسميَ بذلك أما لقلة وجوده وندرته. وأما لقوته بمجيئه من طريق آخر.
ب- اصطلاحاً: أن لا يقل رواته عن اثنين في جميع طبقات السند(2).
2- شرحُ التعريف :
يعني أن لا يوجد في طبقة من طبقات السند أقلٌّ من اثنين، أمَّا إن وجد في بعض طبقات السند ثلاثة فأكثر فلا يضر ، بشرط أن تبقى ولو طبقة واحدة فيها اثنان ، لأن العبرة لأقل طبقة من طبقات السند .
هذا التعريف هو الراجح كما حرره الحافظ ابن حجر(3)، وقال بعض العلماء: إن العزيز هو رواية اثنين أو ثلاثة، فلم يفصلوه عن المشهور في بعض صوره.
"قال الحافظ ابن حجر :
وادَّعَى ابنُ حِبَّانَ نقيضَ دَعْواهُ ، فقالَ : إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا تُوجَدُ أَصْلاً .(4)
قُلْتُ : إِنْ أرادَ بهِ أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا تُوجَدُ أَصْلاً ؛ فيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ ، وأَمَّا صُورَةُ العَزيزِ الَّتي حَرَّرْناها فمَوْجودَةٌ بأَنْ لا يَرْوِيَهُ أَقَلُّ مِن اثْنَيْنِ عَنْ أَقَلَّ مِنَ اثْنَيْنِ."(5)
3- مثالُه:
ما رواه الشيخان من حديث أنس ، والبخاري من حديث أبي هريرة أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : « .. لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ »(6).
ورواه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب ، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن عٌلَيَّه وعبد الوارث ، ورواه عن كل جماعة .
4- أشهرُ المصنفات فيه :
لم يصنفِ العلماء مصنفات خاصة للحديث العزيز، والظاهر أن ذلك لقلته ولعدم حصول فائدة مهمة من تلك المصنفات.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 197)
(2) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 5)
(3) - انظر النخبة وشرحها له ص 21،24
(4) - شرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 206) و نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 5)
(5) - يعني في أثناء السند ليس بشرط أن تستمر اثنين اثنين بل قد يزيد ولكن المدار أن يكون على اثنين .التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 4)
(6) - صحيح البخارى برقم (14و15) وصحيح مسلم برقم (177 و178 )(1/35)
الغريبُ(1)
1-تعريفُه:
لغة: هو صفة مشبهة، بمعنى المنفرد، أو البعيد عن أقاربه.
اصطلاحاً: هو ما ينفرد بروايته راوٍ واحدٍ.
2- شرحُ التعريف :
أي هو الحديث الذي يستقل بروايته شخص واحد، إما في كل طبقة من طبقات السند. أو في بعض طبقات السند ولو في طبقة واحدة، ولا تضر الزيادة عن واحد في باقي طبقات السند، لأن العبرة للأقل.
" قالَ ابنُ الصلاحِ: (( الحديثُ الذي ينفردُ به بعضُ الرواةِ ، يوصَفُ بالغريبِ ، قالَ : وكذلكَ الحديثُ الذي ينفردُ فيهِ بعضهم بأمرٍ لا يذكرُهُ فيهِ غيرُهُ ، إمَّا في متنِهِ ، وإمَّا في إسنادِهِ )) . وروينا عَنْ أبي عبدِ اللهِ بنِ مَنْدَه قالَ(2): الغريبُ من الحديثِ كحديثِ الزهريِّ وقتادةَ وأشباهِهِمَا مِنَ الأَئِمَّةِ ممَّنْ يُجْمَعُ حديثُهُم إذا انفردَ الرجلُ عنهم بالحديثِ يُسمَّى غريباً ، فإذا روى عنهم رجلانِ ، أو ثلاثةٌ ، واشتركوا يُسمَّى عزيزاً ، فإذا روى الجماعةُ عنهم حديثاً ، يُسَمِّي مشهوراً ، وهكذا قالَ محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ ، وكأنَّهُ أخذَهُ من كلامِ ابنِ مَنْدَه ، وكذلك فإنْ وُصِفَ الحديثُ بكونِهِ مشهوراً ، أو عزيزاً ، أو غريباً ، لايُنافي الصِّحَّةَ ، ولا الضعفَ ، بل قد يكونُ مشهوراً صحيحاً ، أو مشهوراً ضعيفاً ، أو غريباً صحيحاً ، أو غريباً ضعيفاً ، أو عزيزاً صحيحاً ، أو عزيزاً ضعيفاً ..
" وأمَّا مثالُ الغريبِ الصحيحِ ، فكأفرادِ الصحيحِ ، وهي كثيرةٌ ، منها حديثُ مالكٍ عن سُمَيٍّ ، عن أبي صالحٍ ، عن أبي هريرةَ ، مرفوعاً " السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ "(3).
وأمَّا الغريبُ الذي ليسَ بصحيحٍ فهو الغالبُ على الغرائبِ . وقد روينا عن أحمدَ بنِ حنبلٍ ، قالَ : (( لا تكتبوا هذهِ الأحاديثَ الغرائبَ ، فإِنَّها مَنَاكِيرُ ، وعامَّتُها عنِ الضُّعَفَاءِ ))(4). وروينا عن مالكٍ قالَ : شرُّ العلمِ الغريبُ ، وخَيْرُ العلمِ الظاهرُ الذي قد رواهُ الناسُ(5). وروينا عن عبدِ الرزاقِ قالَ : كُنَّا نَرَى أَنَّ غريبَ الحديثِ خيرٌ ، فإذا هو شرٌ(6).
وَقَسَّمَ الحاكمُ الغريبَ إلى ثلاثةِ أنواعٍ : غرائبُ الصحيحِ ، وغَرَائبُ الشُّيُوخِ ، وغَرَائبُ المتونِ . وقَسَّمَهُ ابنُ طاهرٍ إلى خمسةِ أنواعٍ . وقالَ ابنُ الصلاحِ : إِنَّ مِنَ الغريبِ ما هو غريبٌ متناً ، وإسناداً ، وهو الحديثُ الذي تفرَّدَ بروايةِ مَتْنِهِ راوٍ واحدٌ . ومنهُ ما هو غريبٌ إسناداً لا متناً ، كالحديثِ الذي متنُهُ معروفٌ ، مرويٌّ عن جماعةٍ من الصحابةِ ، إذا تفرَّدَ بعضُهُم بروايتِهِ عن صحابيٍّ آخرَ ، كانَ غريباً مِنْ ذلكَ الوجهِ . قالَ ومِنْ ذلكَ : غرائبُ الشيوخِ في أسانيدِ المتونِ الصحيحةِ ، قالَ : وهذا الذي يقولُ فيه الترمذيُّ(7): غريبٌ من هذا الوجهِ"(8)
قالَ ابنُ الصلاحِ : ولا أرى هذا النوعَ ينعكسُ ، فلا يوجدُ إذاً ما هو غريبٌ متناً ، وليسَ غريباً إسناداً ، وإلاَّ إذا اشتهَرَ الحديثُ الفردُ عَمَّنْ تفرَّدَ بهِ ، فرواهُ عنهُ عددٌ كثيرونَ ، فإنَّ إسنادَهُ متصفٌ بالغرابةِ في طرفِهِ الأوَّلِ، متصفٌ بالشهرةِ في طرفِهِ الآخِرِ ، كحديثِ : (( إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ))(9)، وكسائرِ الغرائبِ التي اشْتَمَلَتْ عليها التصانيفُ المشتهرةُ ، هكذا قالَ ابنُ الصلاحِ : إنَّهُ لا يوجدُ ما هو غريبٌ متناً لا سنداً ، إلاَّ بالتأويلِ الذي ذكرَهُ . وقد أطلقَ أبو الفتحِ اليَعْمريُّ ذِكْرَ هذا النوعِ في جملةِ أنواعِ الغريبِ من غيرِ تقيّدٍ بآخِرِ السندِ ، فقالَ في " شرح الترمذيِّ ": (( الغريبُ على أقسامٍ : غريبٌ سنداً ومتناً ، ومتناً لا سنداً ، وسنداً لا متناً ، وغريبٌ بعضَ السندِ فقطْ ، وغريبٌ بعضَ المتنِ فقطْ )) .
فالقسمُ الأوَّلُ واضحٌ ، والقسمُ الثاني هو الذي أطلقَهُ أبو الفتحِ ، ولم يذكرْ لهُ مِثالاً ، والقسمُ الثالثُ مثالُهُ حديثٌ رواهُ عبدُ المجيدِ بنُ عبدِ العزيزبنِ أبي روَّادٍ ، عن مالكٍ ، عن زيدِ بنِ أسلمَ ، عن عطاءِ بنِ يسارٍ ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قالَ : (( الأعْمَالُ بالنِّيَّةِ ))(10). قالَ الخليليُّ في " الإرشادِ ": (( أخطأَ فيهِ عبدُ المجيدِ ، وهو غيرُ محفوظٍ من حديثِ زيدِ بنِ أسلمَ بوجهٍ ، قالَ : فهذا مِمَّا أخطأَ فيهِ الثِّقةُ عَنِ الثِّقةِ )) . وقالَ أبو الفتحِ اليعمريُّ : (( هذا إسنادٌ غريبٌ كُلُّهُ ، والمتنُ صحيحٌ )) ، والقسمُ الرابعُ مثالُهُ حديثٌ رواه الطبرانيُّ في " المعجمِ الكبيرِ " من روايةِ عبدِ العزيزِ بنِ محمدٍ الدَّراوَرْدِيِّ ، ومن روايةِ عبَّادِ بنِ منصورٍ ، فرَّقهُمَا كلاهُما عن هِشامِ بنِ عُرْوةَ ، عن أبيهِ ، عن عائشةَ بحديثِ أمِّ زَرْعٍ . والمحفوظُ ما رواه عيسى بنُ يونُسَ عن هِشامِ بنِ عُرْوةَ عن أخيهِ عبدِ اللهِ بنِ عُروةَ ، عن عُروةَ عن عائشةَ. هكذا اتفقَ عليهِ الشيخانِ . وكذا راوهُ مسلمٌ من روايةِ سعيدِ بنِ سلمَةَ بنِ أبي الْحُسَامِ ، عن هِشامٍ(11). قالَ أبو الفتحِ : (( فهذهِ غَرَابةٌ تخصُّ موضعاً من السندِ ، والحديث صحيحٌ )) قلتُ: ويصلحُ ما ذكرناهُ من عندِ الطبرانيِّ مثالاً للقسمِ الخامسِ ؛ لأنَّ عبدَ العزيزِ وعبَّاداً جعلا جميعَ الحديثِ مرفوعاً ، وإنَّما المرفوعُ مِنْهُ
قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - : (( كنتُ لكِ كأبي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ )) ، فَهَذَا غَرَاْبَةُ بعضِ المتنِ ، أيضاً .واللهُ أعلمُ(12).
3- تسميةٌ ثانية له :
يطلق كثير من العلماء على الغريب اسماً آخر هو " الفَرْدُ " على أنهما مترادفان ، وغايَرَ بعض العلماء بينهما ، فجعل كلا منهما نوعا مستقلا ، لكن الحافظ ابن حجر يعتبرهما مترادفين لغة واصطلاحاً ، إلا أنه قال : إن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته ، فـ " الفرد " أكثر ما يطلقونه على "الفَرْد المٌطْلَق" و"الغريب " أكثر ما يطلقونه على " الفرْد النَّسْبي "(13)
4- أقسامُه:
يقسم الغريب بالنسبة لموضع التفرد فيه إلى قسمين هما " غريب مطْلق " وغريب نسبى "
ا-الغريب المطلق: أو الفرد المطلق.
تعريفه: هو ما كانت الغرابة في أصل سنده، أي ما ينفرد بروايته شخص واحد في أصل سنده.
وأصل السند أي طرفه الذي فيه الصحابي، والصحابي حلقة من حلقات السند، أي إذا تفرد الصحابي برواية الحديث، فان الحديث يسمى غريب غرابة مطلقة. وأما ما فهمه الملا على القاري من كلام الحافظ ابن حجر عندما شرح أصل السند بأنه " الموضع الذي يدور الإسناد عليه ويرجع ولو تعددت الطرق إليه ، وهو طرفه الذي فيه الصحابي من أن تفرد الصحابي لا يعد غرابة ، وتعليله ذلك بأنه ليس في الصحابة ما يوجب قدحاً أو أن الصحابة كلهم عدول فما أظن أن ابن حجر أراد ذلك والله أعلم ، بدليل أنه عرف الغريب بقوله : " هو ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند " أي ولو وقع التفرد في موسع الصحابي ، لأن الصحابي حلقة من حلقات السند والعلم عند الله تعالى .(14)
مثاله : البخارى في صحيحه(1 )حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِىُّ قَالَ أَخْبَرَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ » .(15)
تفرد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هذا وقد يستمر التفرد إلى آخر السند وقد يرويه عن ذلك المتفرد عدد من الرواة.
ب- الغريبُ النسبيُّ: أو الفرد النسبيِّ.
1) تعريفه: هو ما كانت الغرابة في أثناء سنده أي أن يرويه أكثر من راو في أصل سنده ثم ينفرد بروايته راو واحد عن أولئك الرواة.
2) مثاله : حديث مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ..(16). تفرد به مالك عن الزهري .
3- سبب التسمية: وسمى هذا القسم بـ " الغريب النسبي" لأن التفرد وقع فيه بالنسبة إلى شخص معين .
5- من أنواع الغريب النّسْبي :
هناك أنواع من الغرابة أو التفرد يمكن اعتبارها من الغريب النسبي ، لأن الغرابة فيها ليست مطلقة وإنما حصلت الغرابة فيها بالنسبة إلى شيء معين ، وهذه الأنواع هي :
ا- تفرد ثقة برواية الحديث : كقولهم : لم يروه ثقة إلا فلان.
كما في السنن الكبرى للبيهقي وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا عَلِىُّ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِىُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ خِلاَسٍ عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - :« إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِى الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ ».(17)
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنْ كَانَ حَفِظَهُ مُعَاذٌ فَهُوَ حَسَنٌ لأَنَّ التُّرَابَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِهِ ثِقَةٌ غَيْرُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا رَوَاهُ غَيْرُ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
ب- تفرد راو معين عن راو معين: كقولهم: " تفرد به فلان عن فلان " وإن كان مروياً من وجوه أخرى عن غيره.
كما في سنن الترمذى برقم (126 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ أَبِى الْيَقْظَانِ عَنْ عَدِىِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِى الْمُسْتَحَاضَةِ « تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا الَّتِى كَانَتْ تَحِيضُ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّى »(18).
( 127 ) حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ نَحْوَهُ بِمَعْنَاهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ شَرِيكٌ عَنْ أَبِى الْيَقْظَانِ. قَالَ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقُلْتُ عَدِىُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ جَدُّ عَدِىٍّ مَا اسْمُهُ فَلَمْ يَعْرِفْ مُحَمَّدٌ اسْمَهُ وَذَكَرْتُ لِمُحَمَّدٍ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّ اسْمَهُ دِينَارٌ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ فِى الْمُسْتَحَاضَةِ إِنِ اغْتَسَلَتْ لِكُلِّ صَلاَةٍ هُوَ أَحْوَطُ لَهَا وَإِنْ تَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلاَةٍ أَجْزَأَهَا وَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهَا.
جـ- تفرد أهل بلد أو أهل جهة: كقولهم " تفرد به أهل مكة أو أهل الشام"
كما في سنن أبى داود(19)حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُلاَزِمُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ حَدَّثَنِى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ الْمُصْعِدُ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الأَحْمَرُ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْيَمَامَةِ.
وكما في سنن أبى داود(20)حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى سَالِمٍ الْجَيْشَانِىِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا ذَرٍّ إِنِّى أَرَاكَ ضَعِيفًا وَإِنِّى أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِى فَلاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ مِصْرَ.
د- تفرد أهل بلد أو جهة عن أهل بلد أو جهة أخرى: كقولهم: " تفرد به أهل البصرة عن أهل المدينة، أو تفرد به أهل الشام عن أهل الحجاز"
كما في سنن أبى داود(21)حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِى شُعَيْبٍ الْحَرَّانِىُّ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا دَلْهَمُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّجَاشِىَّ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ فَلَبِسَهُمَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. قَالَ مُسَدَّدٌ عَنْ دَلْهَمِ بْنِ صَالِحٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ.
وكما في سنن أبى داود(22)حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لاَ يَجِدُ الإِزَارَ وَالْخُفُّ لِمَنْ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَرْجِعُهُ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالَّذِى تَفَرَّدَ بِهِ مِنْهُ ذِكْرُ السَّرَاوِيلِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَطْعَ فِى الْخُفِّ.
و كما في سنن أبى داود(23)حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَنُّ وَعِنْدَهُ رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ فَأُوحِىَ إِلَيْهِ فِى فَضْلِ السِّوَاكِ « أَنْ كَبِّرْ ». أَعْطِ السِّوَاكَ أَكْبَرَهُمَا. قَالَ أَحْمَدُ - هُوَ ابْنُ حَزْمٍ - قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ الأَعْرَابِىِّ هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
ومنها ما رواه مسلم في صحيحه (1616 ) وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا بَهْزٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا كَانَتْ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ :مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلَّا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ "قال الحاكم(24): تفرَّد به أهل المَدِينة.
وكما في سنن أبى داود (2031 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا وَهُوَ مَسْرُورٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَىَّ وَهُوَ كَئِيبٌ فَقَالَ « إِنِّى دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا دَخَلْتُهَا إِنِّى أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِى ».(25)
وقال الحافظ العراقي(26):
" الأفرادُ منقسمةٌ إلى : ما هو فردٌ مطلقاً ، وهو ما ينفردُ به واحدٌ عن كُلِّ أحدٍ . وقد سبقَ حكمُهُ ومثالُهُ في قسمِ الشاذِّ . وإلى ما هو فردٌ بالنسبةِ إلى جهةٍ خاصّةٍ . كتقييدِ الفرديةِ بثقةٍ ، أو بلدٍ معيَّنٍ ، كمكَّةَ والبصرةِ ، والكوفةِ ، أو بكونهِ لم يروِهِ من أهلِ البصرةِ ، أو الكوفةِ - مثلاً - إلاّ فلانٌ ، أو لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ . ونحوِ ذلك .
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 60) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 22) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 19) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 3) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 88) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 78) ونزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 6) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 5) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 208) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 446) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 54) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 105)
(2) - ابْنُ مَنْدَةَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ مُحَمَّدٍ الإِمَامُ، الحَافِظُ، الجَوَّالُ، مُحَدِّثُ الإِسْلاَم، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ ابْنُ المُحَدِّثِ أَبِي يَعْقُوْبَ إِسْحَاقَ ابْنِ الحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ مَنْدَةَ - وَاسمُ مَنْدَةَ:إِبْرَاهِيْمُ بنُ الوَلِيْدِ بنِ سَنْدَةَ بنِ بطَّةَ بنِ أُسْتَنْدَارَ بنِ جِهَارَ بُخْتَ، وَقِيْلَ:إِنَّ اسْمَ أُسْتَنْدَار هَذَا:فَيْرُزَانُ، وَهُوَ الَّذِي أَسلَمَ حِيْنَ افتَتَحَ أَصْحَابُ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْبَهَانَ، وَوَلاَؤُهُ لِعَبْدِ القَيسِ، وَكَانَ مَجُوْسِيّاً فَأَسْلَمَ، وَنَابَ عَلَى بَعْضِ أَعمَالِ أَصْبَهَانَ - العَبْدِيُّ، الأَصْبَهَانِيُّ، الحَافِظُ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ....سير أعلام النبلاء(17/30)(13 )
(3) - البخاي ( 1804 )
(4) - الكامل لابن عدي - (ج 1 / ص 39)
(5) ترتيب المدارك وتقريب المسالك - (ج 1 / ص 57)
(6) - أدب الإملاء والاستملاء - (ج 1 / ص 73) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 2 / ص 80) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 2 / ص 448)
(7) - قلت : قد ذكر هذه العبارة أكثر من خمسمائة مرة في سننه
(8) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 191)
(9) - مر تخريجه
(10) - مسند الشهاب القضاعي(1086 )
(11) - صحيح البخارى(5189 ) حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ قَالاَ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَة
وصحيح مسلم (6458 ) حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِىُّ وَأَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ كِلاَهُمَا عَنْ عِيسَى - وَاللَّفْظُ لاِبْنِ حُجْرٍ - حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم(2682 ) حدثنا الحوطي ، وهشام بن عمار قالا : نا عيسى بن يونس ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة
و(2691 ) حدثنا حجاج بن يوسف ، نا عبد الملك بن إبراهيم ، نا محمد بن محمد الطائفي ، أخبرني القاسم بن عبد الواحد ، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة ،
والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 6 / ص 15)9089ـأخبرنا علي بن حجر بن إياس ، قال : أخبرنا عيسى بن يونس قال نا هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة
و(9092)أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام قال نا ريحان بن سعيد بن المثنى أبو عصمة قال نا عباد بن منصور عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة
و(9093)أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال نا عبد الملك بن إبراهيم سنة ثلاث ومائتين أملاه علينا قال نا محمد بن محمد أبو نافع ، قال : حدثني القاسم بن عبد الواحد ، قال : حدثني عمر بن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة
وانظره مفصلا بطرقه وأسانيده في المعجم الكبير للطبراني - (ج 17 / ص 5)(18789-18795)
(12) - التقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 45) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 191)
(13) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 5) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 236) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 65) والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 6)
(14) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 16)
(15) - صحيح البخارى برقم (1) ومسلم برقم (5036 )
(16) - موطأ مالك برقم (952 ) وصحيح البخارى برقم (1846 ) المغفر : ما يلبسه المقاتل على رأسه
(17) - السنن الكبرى للبيهقي(ج 1 / ص 241) برقم ( 1192)
(18) - المعجم الأوسط للطبراني (11240) وهو حسن لغيره
(19) - برقم (2350 ) وهو حديث صحيح
(20) - صحيح مسلم(4824) وسنن أبى داود برقم (2870 )
(21) - سنن أبى داود برقم (155 ) وهو حسن
(22) - سنن أبى داود برقم ( 1831 ) صحيح
(23) - سنن أبى داود برقم (50 ) صحيح
(24) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 187)
(25) - سنن أبى داود(2031 ) وسنن الترمذى (882) وغيرهما وهو حسن لغيره
(26) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 84)(1/36)
فمثالُ تقييدِ الانفرادِ بكونهِ لم يروِهِ عن فلانٍ إلاّ فلانٌ : حديثٌ رواهُ أصحابُ السُّنن الأربعةِ منِ طريق سفيانَ بنِ عُيينةَ ، عن وائلِ بنِ داودَ ، عن ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ ، عن الزهريِّ ، عن أنسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : (( أوْلَمَ على صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ ، وتَمْرٍ )) . قالَ الترمذيُّ : حديثٌ غريبٌ . وقالَ ابنُ طاهرٍ في أطرافِ الغرائبِ : غريبٌ من حديثِ بكرِ بنِ وائلٍ عنه . تفرّدَ به وائلُ بنُ داودَ ، ولم يروِهِ عنه غيرُ سفيانَ بنِ عيينةَ . انتهى(1).
فلا يلزمُ من تفرّدِ وائلٍ به عن ابنهِ بكرٍ تفرّدُهُ به مطلقاً . فقد ذكرَ الدارقطنيُّ في " العللِ " أنهُ رواهُ محمّدُ بن الصَّلْتِ التَّوَّزيُّ ، عن ابنِ عُيينةَ ، عن زيادِ بنِ سعدٍ ، عن الزهريِّ ، قال : ولم يتابعْ عليهِ . والمحفوظُ عن ابنِ عُيينةَ ، عن وائلٍ ، عن ابنِهِ . ورواهُ جماعةٌ عن ابنِ عيينةَ ، عن الزهريِّ بغيرِ واسطةٍ .
ومثالُ تقييدِ الانفرادِ بالثقةِ : حديثُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأُ في الأضحى ،والفطرِ : بِقَافْ ، واقتربتِ الساعةُ . رواه مسلمُ وأصحابُ السنَنِ من روايةِ ضَمْرةَ بنِ سعيدٍ المازنيِّ ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ ، عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديثُ لم يروِهِ أحدٌ من الثقاتِ إلا ضَمْرَةَ .(2)
قالَ شيخُنا علاءُ الدينِ ابنُ التركمانيِّ في " الدرِّ النقي " : مدارُهُ على ضَمْرةَ - يريدُ حديثَ أبي واقدٍ - . وإنّما قيّدتُ هذا الحديثَ بقولي : أحدٌ من الثقاتِ ؛ لأنَّ الدارقطنيَّ رواهُ من روايةِ ابنِ لَهِيعَةَ ، عن خالدِ بنِ يزيدٍ ، عن الزهريِّ ، عن عروةَ ، عن عائشةَ ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (3). وابنُ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ الجمهورُ .(4)
ومثالُ ما انفردَ به أهلُ بلدةٍ : ما رواهُ أبو داودَ عن أبي الوليدِ الطيالسيِّ ، عن همَّامٍ ، عن قَتَادةَ ، عن أبي نَضْرةَ ، عن أبي سعيدٍ ، قال : (( أمرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نقرأَ بفاتحةِ الكتابِ ، وما تَيَسَّرَ )) . قالَ الحاكمُ : تفرّدَ بذكرِ الأمرِ فيهِ أهلُ البصرةِ من أولِ الإسنادِ إلى آخرِه . ولم يشركْهم في هذا اللفظِ سِواهم(5).
ونحوُ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ في صِفةِ وُضوءِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( وَمَسحَ رأسَهُ بماءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ )) رواهُ مسلمٌ وأبو داودَ والترمذيُّ . قالَ الحاكمُ : هذهِ سنةٌ غريبةٌ تفرّدَ بها أهلُ مصرَ ولم يشاركهُم فيها أحدٌ(6).
وقولُهُ : ( فإنْ يُريدوا واحداً من أهلِها ) أي : فإن يريدوا بقولهم : انفردَ بهِ أهلُ البصرةِ ، أو هو من أفرادِ البصريين ، ونحوَ ذلك واحداً من أهلِ البصرةِ انفردَ به متجوّزينَ بذلك كما يضافُ فعلُ واحدٍ من قبيلةٍ إليها مجازاً فاجعلْه من القسمِ الأولِ ، وهو الفردُ المطلقُ .
مثالُهُ ما تقدّمَ عند ذكرِ المنكرِ من روايةِ أبي زُكَيْرٍ ، عن هِشامِ بنِ عروةَ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كُلُوا الْبَلَحَ بِالتَّمْرِ كُلُوا الْخَلَقَ بِالْجَدِيدِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَغْضَبُ وَيَقُولُ بَقِىَ ابْنُ آدَمَ حَتَّى أَكَلَ الْخَلَقَ بِالْجَدِيدِ ».(7). قالَ الحاكمُ : هو من أفرادِ البصريينَ عن المدنيينَ تفرّدَ به أبو زُكيرٍ ، عن هشامِ بنِ عُروة . انتهى . فجعلَهُ من أفرادِ البصريينَ ، وأرادَ به واحداً منهم .
وليس في أقسامِ الفردِ المقيّدِ بنسبةٍ إلى جهةٍ خاصّةٍ ما يقتضي الحكمَ بِضَعْفِها من حيثُ كونُها أفراداً ، لكن إذا كانَ القيدُ بالنسبةِ لروايةِ الثقةِ كقولِهِم : لم يروِهِ ثقةٌ إلاّ فلانٌ ، فإنَّ حكمَهُ قريبٌ من حكمِ الفردِ المطلقِ ؛ لأنَّ روايةَ غيرِ الثقةِ كَلا روايةٍ ، إلا أنْ يكونَ قَدْ بلغَ رتبةَ مَنْ يُعتبرُ بحديثه ."
6- تقسيمٌ آخر له :
قسم العلماء الغريب من حيث غرابة السند أو المتن إلى:
غريب متناً وإسنادا : وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راو واحد .
غريب إسنادا لا متناً : كحديث روى مَتْنَه جماعة من الصحابة ، انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر . وفيه يقول الترمذي : " غريب من هذا الوجه " .
كحديث في سنن الترمذى برقم (58 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِىُّ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاَةٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ. قَالَ قُلْتُ لأَنَسٍ فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ قَالَ كُنَّا نَتَوَضَّأُ وُضُوءًا وَاحِدًا. قَالَ أَبُو عِيسَى وَحَدِيثُ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِىِّ عَنْ أَنَسٍ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلاَةٍ اسْتِحْبَابًا لاَ عَلَى الْوُجُوبِ.
7- من مظان الغريب :
أي مكان وجود أمثلة كثيرة له.
مٌسْنَد البَزَّار(8).
طبع أخيرا كاملا ، وعدد أحاديثه (9018) حديثاً ولكنه بدون تحقيق وتخريج ، ومن خصائصه أنه يذكر علل الأحاديث من تفرد وغيره ، ولكن بعض ما يعلله به فيه نظر.
أمثلة من مسند البزار(2) وَحَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبَانَ الْقُرَشِيُّ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ اسْتَنْشَدَ طَلْحَةَ ، وَالزُّبَيْرَ ، وَعَلِيًّا ، وَالْعَبَّاسَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ.
وَقَدْ تَابَعَ عَمْرًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُهُ فَاجْتَزَأْنَا بِعَمْرٍو ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، إِذْ كَانَ ثِقَةً
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ عُمَرَ ، وَلَمْ يَذْكُرَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ حَافِظٌ ، وَقَدْ زَادَ عَلَى مَنْ سَمَّيْنَا ، وَزِيَادَةُ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ إِذَا زَادَهَا عَلَى حَافِظٍ فَإِنَّمَا زَادَهَا بِفَضْلِ حِفْظِهِ
وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَغَيْرُهُمَا
3ـ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ قَالَ : حَدَّثَنِي شَيْخٌ ، قَالَ : حَدَّثَنِي فُلانٌ ، وَفُلانٌ ، حتى عد سبعة ، أحدهم عبد الله بن الزبير ، عَنْ عُمَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا قُبِضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ.
__________
(1) - عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِسَوِيقٍ وَتَمْرٍ.
أخرجه الحُمَيْدِي (1184. وأبو داود (3744) قال : حدَّثنا حامد بن يَحيى . و"ابن ماجة" 1909 قال : حدَّثنا مُحَمد بن أَبي عُمَر العَدَنِي ، وغِيَاث بن جَعْفَر الرَّحْبِيّ . والتِّرْمِذِيّ" 1095 ، وفي (الشَّمائل) 177 قال : حدَّثنا ابن أَبي عُمَر . وفي (1096) قال : حدَّثنا مُحَمد بن يَحيى ، قال : حدَّثنا الحُمَيْدِي . و"النَّسائي" ، في "الكبرى" 6566 قال : أخبرني مُحَمد بن يَحيى بن عَبْد الله النَّيْسَابُورِي ، قال : حدَّثنا عَبْد الله بن الزُّبَيْر الحُمَيْدِي .
ثلاثتهم (الحُمَيْدِي ، وحامد ، ومُحَمد بن أَبي عُمَر) عن سُفْيان بن عُيَيْنَة ، قال : حدَّثنا وائل ابن داود ، عن ابنه بَكْر بن وائل ، عن الزُّهْرِي ، فذكره.
- قال سُفْيان : وقد سَمِعْتُ الزُّهْرِي يُحَدِّثْ به ، فلم أحفظه ، وكان بَكْر بن وائل يُجالس الزُّهْرِي معنا.
- قال أبو عِيسَى التِّرْمِذِي : هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ.
وقد روى غير واحد هذا الحديث عن ابن عُيَيْنَة ، عن الزُّهْرِي ، عن أَنَس ، ولم يذكروا فيه :عن وائل ، عن ابنه.
قال أبو عِيسَى : وكان سُفْيان بن عُيَيْنَة يُدَلِّس في هذا الحديث ، فربما لم يذكر فيه (عن وائل ، عن ابنه) وربما ذكره.
أخرجه أحمد 3/110(12102) , عن سُفْيان بن عُيَيْنَة ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ؛أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِتَمْرٍ وَسَوِيقٍ.ليس فيه :وائل بن داود ، ولا بَكْر بن وائل. المسند الجامع - (ج 2 / ص 39)(740) والحديث صحيح
(2) - عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عبد اللهِ ؛ أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَألَ أبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ ؛ مَاكَانَ يَقْرَأ بهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في الأضْحَى وَالْفِطْرِ؛ فَقَالَ :َ كَانَ يَقْرَأ فِيهِمَا ?ق وَالْقْرْآنِ المجيدِ ? ?وَاقْتَرَبَت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ?.
أخرجه مالك (الموطأ) صفحة (128) والحميدي (849) قال : حدَّثنا سُفيان . و"أحمد" 5/217(2224) قال : حدَّثنا عبد الرحمان بن مَهْدي ، قال : حدَّثنا مالك . و"مسلم" 3/21 قال : حدَّثنا يَحيى بن يَحيى , قال : قرأت على مالك . و"أبو داود" 1154 قال : حدَّثنا القعنبي ، عن مالك. و"ابن ماجة" 1282 قال : حدَّثنا محمد بن الصباح ، قال : أنبأنا سفيان . و"التِّرمِذي" 534 قال : حدَّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري ، قال : حدَّثنا مَعْن بن عيسى ، قال : حدَّثنا مالك ابن أنس . وفي (535) قال : حدَّثنا هناد, قال : حدثتا سُفيان بن عيُيْنَة . و"النسائي" 3/183 , وفي "الكبرى" 1786 قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدَّثنا سفيان . وفي "الكبرى" 11486 قال : أخبرنا قُتَيبة بن سعيد ، عن مالك .
كلاهما (سفيان بن عُيَيْنَة ، ومالك بن أنس) عن ضمرة بن سعيد المازنى ، عن عبيد اللهِ بن عبد اللهِ بن عتبة ، فذكره.
- أخرجه أحمد 5/219(22256) قال : حدَّثنا يونس وسُريج . و"مسلم" 3/21 قال : حدشا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا أبو عامر العقدي . و"النَّسائي" في "الكبرى" 11487 قال : أخبرنا أحمد بن سعيد ، قال : حدَّثنا يونس . و"ابن خُزيمة" 1440 قال : حدَّثنا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوري بالفسطاط ، قال : حدَّثنا سريج بن النعمان . (ح) وحدثناه أبو الأزهر من أصله ، قال : حدَّثنا أبو أسامة .
أربعتهم (يونس بن محمد ، وسُريج بن النعمان ، وأبو عامر العقدي ، وأبو أسامة حماد بن أسامة) عن فُليح بن سُليمان ، عن ضمرة بن سعيد ، عن عبيد اللهِ بن عَبد اللهِ بن عتبة بن مسعود ، عَنْ أَبِي واقد الليثي , قال : سالني عمربن الخطاب عما قرأ به رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في يوم العيد . . . فذكره.
- قال أبو بكر بن خُزَيمة : لم يسند هذا الخبر أحد أعلمه غير فُليح ابن سُليمان . رواه مالك بن أنس وابن عُيَيْنَة ، عن ضمرة بن سعيد ، عن عُبيد اللهِ ابن عَبد اللهِ . وقالا : إن عُمر سأل أبا واقد الليثي . المسند الجامع - (ج 18 / ص 896)805 - أبو واقد الليثي (15370)
(3) - أخرجه الحاكم في المستدرك (1108)حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سِوَى تَكْبِيرِ الافْتِتَاحِ ، وَيَقْرَأُ بِ : ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ هَذَا حَدِيثٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ مُسْلِمٌ فِي مَوْضِعَيْنِ ، وَفِي الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالطُّرُقُ إِلَيْهِمْ فَاسِدَةٌ ، وَقَدْ قِيلَ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ عُقَيْلٍ " تعليق الحافظ الذهبي في التلخيص : تفرد به ابن لهيعة
(4) - قلت : بل الصواب أنه صدوق اختلط بآخره ، فمن روى عنه قبل الاختلاط فحديثه يدور بين الصحة والحسن كالعبادلة ، ومن روى عنه بعد الاختلاط يتوقف في رويته ، قال ابن عدي رحمه الله في أخر ترجمته: وعبد الله بن لهيعة له من الروايات والحديث أضعاف ما ذكرت وحديثه أحاديث حسان وما قد ضعفه السلف هو حسن الحديث يكتب حديثه وقد حدث عن الثقات الثوري وشعبة ومالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد فأما حديث الثوري فحدثناه علي بن أحمد بن مروان وأحمد بن محمد بن سعيد قالا ثنا أحمد بن سليمان العطار وثنا محمد بن علي بن أبي خداش الموصلي ثنا معافى بن عمران عن سفيان الثوري عن بن لهيعة عن أبي قبيل عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يغزو قوم من هذه الأمة على غير عطاء ولا رزق أجورهم مثل أجور أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الشيخ وأما حديث شعبة ثناه بن قتيبة ثنا محمد بن قدامة ثنا زيد بن الحباب عن شعبة عن بن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن سالم والقاسم في الأمة تصلي ثم يدركها العتق في الصلاة قالا تقنع وتمضي في صلاتها وأما حديث مالك فأخبرنا القاسم بن مهدي ثنا أبو مصعب ثنا مالك عن الثقة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغربان قال الشيخ هكذا ذكره أبو مصعب عن مالك عن الثقة عن عمرو بن شعيب وبعض أصحاب الموطأ يذكرون عن مالك قال بلغني عن عمرو بن شعيب ويقال أن مالكا سمع هذا الحديث من بن لهيعة عن عمرو بن شعيب ولم يسمه لضعفه والحديث عن بن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور أخبرناه محمد بن حفص ثنا قتيبة ثنا بن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العربان وأما حديث عمرو بن الحارث فحدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد الحراني ثنا سعيد بن حفص النفيلي ثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث عن بن لهيعة أن مشرح بن هاعان المعافري حدثه عن عقبة بن عامر قلت يا رسول الله في سورة الحج سجدتان قال نعم فإذا لم تسجدهما فلا تقرأهما وأما حديث الليث فحدثنا عبد الله بن محمد بن نصر ثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد حدثني أبي حدثني الليث حدثني عبد الله بن لهيعة عن عبد الرحمن عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أصبح صائما فنسي فأكل وشرب فالله أطعمه وسقاه فليتم صيامه ثناه الحسن بن محمد المديني ثنا يحيى بن بكير ثنا بن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثنا عبد الملك بن محمد ثنا أبو الأحوص ثنا بن بكير حدثني الليث حدثني بن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ربوة ذات قرار ومعين قال هي دمشق قال الشيخ وهذا الذي ذكرت لابن لهيعة من حديثه وبينت جزءا من أجزاء كثيرة مما يرويه بن لهيعة عن مشايخه وحديثه حسن كأنه يستبان عن من روى عنه وهو ممن يكتب حديثه "الكامل في الضعفاء[ ج 4 - ص 152 ] فما بعدها
(5) - عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ: أَمَرَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - ، أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِِ وَمَا تَيَسَّرَ.- وفي رواية : أُمِرْنَا أَنْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِِ وَمَا تَيَسَّرَ.
أخرجه أحمد 3/3(11011) قال : حدَّثنا عَبْد الصَّمَد. وفي 3/45(11435) قال : حدَّثنا بَهْز , وعَفَّان. وفي 3/97(11944) قال : حدَّثنا عَفَّان. و"عَبد بن حُميد" 879 قال : حدَّثني أبو الوَلِيد. و"البُخَارِي" ، في (جزء القراءة خلف الإمام) 12 قال : حدَّثنا أبو الوَلِيد هِشَام. و"أبو داود" 818 قال : حدَّثنا أبو الوَلِيد الطَّيَالِسِي.
أربعتهم (عَبْد الصَّمَد بن عَبْد الوارث ، وبَهْز ، وعَفَّان ، وأبو الوَلِيد الطَّيَالِسِي) قالوا : حدَّثنا هَمَّام ، حدَّثنا قَتَادَة ، عن أَبي نَضْرَة ، فذكره.المسند الجامع - (ج 6 / ص 437)(4288)
(6) - عَنْ وَاسِعٍ بْنِ حَبَّانَ , أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِىَّ يَذْكُرُ ؛أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَضْمَضَ ثُمَّ اسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَهُ الْيُمْنَى ثَلاَثًا وَالأُخْرَى ثَلاَثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا.
أخرجه أحمد 4/39(16554) و4/40(16571) قال : حدثنا مُوسى بن داود , حدثنا ابن لَهِيعة. وفي 4/41(16573) قال : حدثنا الحسن بن مُوسى. قال : حدثنا ابن لَهِيعة. وفي 4/41(16581) قال : حدثنا سُريج بن النُّعمان. قال : حدثنا عبد الله بن وهب المِصري ، عن عَمرو بن الحارث بن يعقوب الأنَصاري. وفي 4/41(16583) قال : حدثنا علي بن إسحاق. قال : أخبرنا عبد الله (ح) وعَتَّاب. قال : حدثنا عَبد الله ، يعني ابن المُبارك. قال : أخبرنا ابن لَهِيعة. و"الدارِمِي" 709 قال : أخبرنا يحيى بن حَسان ، حدثنا ابن لهِيعة. و"مسلم" 1/146(481) قال : حدثنا هارون بن معروف (ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي , وأبو الطاهر. قالوا : حدثنا ابن وهب , أخبرني عمرو بن الحارث. و"أبو داود" 120 قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح , حدثنا ابن وهب , عن عمرو بن الحارث. والتِّرْمِذِيّ" 35 قال : حدثنا علي بن خَشرَم ، أخبرنا عَبد الله بن وهب ، حدَّثنا عَمرو بن الحارث. و"ابن خزيمة" 154 قال : حدَّثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثنا عَمِّي ، حدثني عمرو , وهو ابن الحارث.
كلاهما (ابن لَهِيعة ، وعَمرو بن الحارث) عن حَبان بن واسع ، عن أبيه ، فذكره.
- في رواية الدارمي :حَبان بن واسع ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زيد المازني ، عن عمه عاصم المازني ، قال :رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالجُحفَةِ ، فَمَضمَضَ ، وَاستَنشَقَ. الحديث.المسند الجامع - (ج 8 / ص 458)(5846)
(7) - سنن ابن ماجه (3455 ) والسنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (ج 4 / ص 361)(6690 ) والمستدرك للحاكم (7138) تعليق الحافظ الذهبي في التلخيص : حديث منكر ، قلت : هو ضعيف فيه يحيى بن محمد بن قيس مختلف فيه التهذيب 11/ 275
(8) - البَزَّارُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَمْرٍو البَصْرِيُّ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بن عَمْرِو بنِ عَبْدِ الخَالِقِ البَصْرِيُّ، البَزَّارُ، صَاحِبُ (المُسْنَدِ) الكَبِيْرِ، الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَى أَسَانيدِه.وُلِدَ: سَنَةَ نيف عَشْرَة وَمائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ: هُدْبَة بن خَالِدٍ، وَعَبْد الأَعْلَى بن حَمَّادٍ، وَعَبْد اللهِ بن مُعَاوِيَةَ الجُمَحِيّ، وَمُحَمَّد بن يَحْيَى بنِ فَيَّاض الزِّمَّانِيّ، وَمُحَمَّد بن مَعْمَر القَيْسِيّ، وَبِشْر بن مُعَاذٍ العَقَدِيّ، وَعِيْسَى بن هَارُوْنَ القُرَشِيّ، وَسَعِيْد بن يَحْيَى الأُمَوِيّ، وَعَبْد اللهِ بن جَعْفَرٍ البَرْمَكِيّ، وَعَمْرو بن عَلِيٍّ الفَلاَّس، وَزِيَاد بن أَيُّوْبَ، وَأَحْمَد بن المِقْدَامِ العِجْلِيّ، وَإِبْرَاهِيْم بن سَعِيْدٍ الجَوْهَرِيّ، وَبُندَاراً، وَابْن مُثَنَّى، وَعَبْد اللهِ بن الصَّبَّاحِ، وَعَبْد اللهِ بن شَبِيْبٍ، وَمُحَمَّد بن مِرْدَاس الأَنْصَارِيّ، وَمُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الفَضْلِ الحَرَّانِيّ، وَخلقاً كَثِيْراً.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُ قَانع، وَابْنُ نَجِيع، وَأَبُو بَكْرٍ الخُتُّلِيّ، وَأَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَأَحْمَد بن الحَسَنِ بنِ أَيُّوْب التَّمِيْمِيّ، وَعَبْد اللهِ بن جَعْفَرِ بنِ أَحْمَدَ بنِ فَارِسٍ، وَأَحْمَد بن جَعْفَرِ بنِ سَلْم الفُرْسَانِيّ، وَعَبْد اللهِ بن خَالِد بن رُسْتُم الرَّارَانِيّ، وَأَحْمَد بن إِبْرَاهِيْمَ بنِ يُوْسُفَ الضَّرِير، وَمُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ الثَّقَفِيّ، وَأَحْمَد بن جَعْفَرِ بنِ مَعْبَد السِّمْسَار، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ الكِسَائِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ بنِ الخَصِيب، وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّدِ بنِ سيَاه، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّد بن عَطَاء القَبَّاب، وَمُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ يَعْقُوْبَ، وَمُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ بنِ ممشَاذ القَارِئ، وَمُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بن حَيُّوْيَه النَّيْسَابُوْرِيّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.
وَقَدْ أَملَى أَبُو سَعِيْدٍ النَّقَّاش مَجْلِساً عَنْ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِيْنَ شَيْخاً، حدَّثوه عَنْ أَبِي بَكْرٍ البَزَّار.
وَقَدِ ارْتَحَلَ فِي الشَّيْخُوخَة نَاشِراً لحديثه، فَحَدَّثَ بِأَصْبَهَانَ عَنِ الكِبَار، وَبِبَغْدَادَ، وَمِصْر، وَمَكَّة، وَالرَّملَة.
وَأَدْرَكَهُ بِالرَّمْلَة أَجلُه، فَمَاتَ: فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، يُخْطِئ وَيَتَّكلُ عَلَى حِفْظِهِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: يُخْطِئ فِي الإِسْنَاد وَالمتن.
وَقَالَ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَأَلْتُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ البَزَّار، فَقَالَ: يُخْطِئ فِي الإِسْنَاد وَالمتن، حَدَّثَ بِالمُسْنَد بِمِصْرَ حِفْظاً، يَنْظُر فِي كُتب النَّاس، وَيُحَدِّث مِنْ حِفْظِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ كُتُب، فَأَخْطَأَ فِي أَحَادِيْث كَثِيْرَة.
جرحه النَّسَائِيّ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيْدٍ بنُ يُوْنُسَ: حَافظ لِلْحَدِيْثِ.تُوُفِّيَ بِالرَّمْلَة. سير أعلام النبلاء (13/556)(281 ) فما بعد(1/37)
وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، لاَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا سَمَّى الرَّجُلَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ.
وقال أيضاً : وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلاَ نَعْلَمُ أَيْضًا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلاَ نَعْلَمُ سَمَّى الرَّجُلَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ أَحَدٌ وَلَوْ عَرَفْنَاهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الإِسْنَادِ أَخْرَجْنَاهُ ، وَإِنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ أَجَلَّ مِنْهُ.
المعْجَم الأوسط للطبراني(1).
وعدد أحاديثه حوالي تسعة آلاف حديث ونيِّف ، وفي موقع جامع الحديث النبوي(2)،وهو أهم موقع للسنَّة النبوية ، بلغ عدد أحاديثه (11544 )
وله طبعات عديدة ومنها بتحقيق الدكتور/ محمود الطحان وفيه الصحيح والحسن والضعيف والواهي ، ويحتاج لتخريج كامل أحاديثه .
أمثلة :
1 - حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال : نا يحيى بن صالح الوحاظي قال : نا سعيد بن يزيد بن ذي عصوان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أمتي أمة مرحومة ، لا عذاب عليها في الآخرة ، فإذا كان يوم القيامة ، دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من أهل الكتابين ، فيقال : يا مسلم ، هذا فداؤك من النار »(3)لم يرو هذا الحديث عن عبد الملك إلا سعيد بن يزيد ، ولا عن سعيد بن يزيد إلا يحيى بن صالح الوحاظي
2 - حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال : نا أبو المغيرة قال : نا الضحاك بن حمرة قال : نا قتادة ، أن أبا مجلز ، أخبره عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى : أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَعِيرٍ ادَّعَيَاهُ كِلاَهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهُ وَجَاءَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ أَنَّ الْبَعِيرَ لَهُ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. لم يرو هذا الحديث عن قتادة ، عن أبي مجلز إلا الضحاك ، تفرد به : أبو المغيرة ( قلت : الضحاك ضعيف )
3 - حدثنا أحمد بن عبد الوهاب قال : نا أبو المغيرة قال : نا مبشر بن عبيد ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء ، وعمرو بن دينار ، عن جابر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ، ولا يزوجهن إلا الأولياء ، ولا مهر دون عشرة دراهم » لم يرو هذا الحديث عن عمرو إلا الحجاج ، تفرد به : مبشر بن عبيد (( قلت : وهو متروك ))
5 - حدثنا أحمد بن عبد الوهاب قال : نا أبو المغيرة قال : نا عفير بن معدان ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين ، وكان أعمى يصلي بالناس » لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا عفير . تفرد به : أبو المغيرة ( قلت : هو صحيح ))
8- أشهر المصنفات فيه :
أ) غرائب مالك للدارقطني .
ب) الأفرْاد للدارقطني أيضا .
وهو مطبوع بدار الكتب العلمية في خمس مجلدات ، وعدد أحاديثه (6400) حديث ،و غالبها غير صحيح .
أمثلة منه :
1- حديث: اطلع عمر على أبي بكر وهو يَمُدُّ لسانه فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله... الحديث .
تفرد به عبد الصمد بن عبد الوارث عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: ابن صاعد كذا قال عبد الصمد أدرج الحديث المسند بالموقوف وفَصَلهَ لنا عبد الله بن عمران العابدي عن الدراوردي عن زيد عن أبيه: أن عمر اطلع أبي بكر وهو يذلع لسانه آخذه بيده فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ فقال: وهل أوردني الموارد إلا هذا.(4)
2- حديث: بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ قَدْ تَوَضَّأَ وَبَقِيَ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ مِثْلُ ظُفُرِ إِبْهَامِهِ، فَأَبْصَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَتِمَّ وُضُوءَكَ، قَالَ: فَفَعَلَ.
غريب من حديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده عن أبي بكر تفرد به الوازع بن نافع عنه وتفرد به المغيرة بن سقلاب عن الوازع.(5)
3- حديث: أنه قام خطيبا فقال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا عام أول.. الحديث. غريب من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن عبد الله بن عباس عن عمر عنه.
وغريب من حديث سليم بن حيان عن قتادة عنه تفرد به الأصمعي عبد الملك قريب عنه وتفرد به يحيى بن سويد الحنفي عن الأصمعي.(6)
وتفرد به حاتم عن يحيى.
ورواه في موضع آخر وقال: تفرد به الأصبغ عن سليم وصلة عن ابن عباس.
ج) السنن التي تفرد بكل سنَّة منها أهل بلدة لأبي داود السجستاني .
ــــــــــــــ
الفصلُ الثاني
" الخبرُ المقبولُ "
ينقسم خبر الآحاد ـ من مشهور وعزيز وغريب ـ من حيثُ قوته وضعفه إلى قسمين وهما:
ا-مقبولٌ: وهو ما تَرَجَّح صِدْقُ المخْبِرِ به، وحكمه: وجوب الاحتجاج والعمل به
ب- مردودٌ : وهو ما لم يَتَرَجَّح صِدق المخْبِرِ به ، وحكمه : أنه لا يحتج به ولا يجب العمل به ، ولكلٍّ من المقبول والمردود أقسامٌ وتفاصيل سنذكرها في فصلين مستقلين إن شاء الله تعالى
المبحث الأول: أقسام المقبول.
المبحث الثاني: تقسيم المقبول إلى معمول به وغير معمول به.
المبحثُ الأول " أقسام المقبول "(7)
يقسمُ المقبول بالنسبة إلى تفاوت مراتبه إلى قسمين رئيسين هما: صحيح وحسن. وكلٌّ منهما يقسم إلى قسمين هما ، لذاته ولغيره ، فَتئول أقسام المقبول في النهاية إلى أربعة أقسام هي :
صحيحٌ لذاته .
حسنٌ لذاته .
صحيحٌ لغيره.
حسنٌ لغيره .
وإليك بحث هذه الأقسام تفصيلا
ــــــــــــــ
الصَّحيحُ(8)
1-تعريفُه:
لغة: الصحيح ضد السقيم، وهو حقيقة في الأجسام مجاز في الحديث وسائر المعاني.
اصطلاحاً: المتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، حتى ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو إلى منتهاه، من صحابي أو من دونه، ولا يكون شاذاً، ولا مردوداً، ولا معللاً بعلة قادحة، وقد يكون مشهوراً أو غريباً.(9).
2-شرح التعريف :
اشتمل التعريف السابق على أمور يجب توفرها حتى يكون الحديث صحيحاً،وهذه الأمور هي:
اتّصال السند: سماعُ كلِّ راوٍ من الراوي الذي يليه، من أول السند إلى منتهاه.
عدم الشذوذ: أي أن لا يكون الحديث شاذاً، والشذوذ: مخالفةُ الثّقةِ لِمَنْ هو أوثقُ منهُ أو أكثر منهُ عدداً.
العّلةَ القادحةَ وهي: سببٌ يقدحُ في صحّةِ حديثٍ ظاهرهُ الصحّةُ والخلوُّ منها، ولا تتبيّنُ إلاّ للنقّاد الجهابذة .
العدلُ: كلُّ مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ سليم من أسبابِ الفسق وخوارمِ المروءة، فأخرجَ هذا التعريفُ الكافرَ وغيرَ البالغِ، وفي المميّزِ نزاعٌ، والمجنونَ، والفاسقَ وهو: من يفعلُ الكبيرةَ ويُصرُّ على الصغيرةِ، والفسق نوعان: بشبهةٍ كالخوارج والشيعة، وبشهوةٍ كشرب الخمر والسرقة، وأخرجَ مَن يخالفُ الآدابَ الشرعيّةَ وعرفَ المجتمعِ المسلمِ.
الضبطُ: الحفظُ، وهو قسمان: ضبطُ الصدرِ وهو أن يَحفظَ ما سمعهُ حفظاً يمكنهُ من استحضاره متى شاء، وضبطُ الكتابِ وهو صيانتهُ عنده منذ سمع فيه وصحّحه إلى أن يؤدّيه.
3- شروطُه:
يتبين من شرح التعريف أن شروط الصحيح التي يجب توفرها حتى يكون الحديث صحيحاً خمسة وهي: { اتصال السند ـ عدالة الرواة ـ ضبط الرواة ـ عدم العلة القادحة ـ عدم الشذوذ }
فإذا اختلَّ شرطٌ واحدٌ من هذه الشروط الخمسة فلا يسمَّى الحديث حينئذ صحيحاً .
4- مثالُه:
ما أخرجه البخاري في صحيحه قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِى الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ(10).
فهذا الحديث صحيح لأن :
سنده متصل : إذ أن كل راو من رواته سمعه من شيخه . وأما عنعنة(11)مالك وابن شهاب وابن جبير فمحمولة على الاتصال لأنهم غير مٌدَلِّسِيْنَ .
ولأن رواته عدول ضابطون : وهذه أوصافهم عند علماء الجرح والتعديل .
-عبد الله بن يوسف التنيسي بمثناة ونون ثقيلة بعدها تحتانية ثم مهملة أبو محمد الكلاعي أصله من دمشق ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ من كبار العاشرة مات سنة ثماني عشرة خ د ت س(12)
- مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة رأس المتقنين وكبير المتثبتين حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن بن عمر من السابعة مات سنة تسع وسبعين وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقال الواقدي بلغ تسعين سنة ع(13)
- محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين ع(14)
- محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل النوفلي ثقة عارف بالنسب من الثالثة مات على رأس المائة ع(15)
- جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي صحابي عارف بالأنساب مات سنة ثمان او تسع وخمسين ع(16)
د) ولأنه غير شاذ : إذ لم يعارضه ما هو أقوى منه .
هـ) ولأنه ليس فيه علة من العلل القادحة .
5- حكمُه :
وجوب : العمل به بإجماع أهل الحديث ومن يٌعْتَدَّ به من الأصوليين والفقهاء ، فهو حجة من حجج الشرع ، لا يَسَعٌ المسلم ترك العمل به .
قال العلامة القاسميُّ رحمه الله:(17)
"بيانُ أنَّ خبرَ الواحدِ الثقةِ حجَّةٌ يلزمُ به العملُ
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مقدمة مسلم(18):(( هَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّه تَنْبِيهٌ عَلَى الْقَاعِدَة الْعَظِيمَة الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا مُعْظَمُ أَحْكَام الشَّرْع ، وَهُوَ وُجُوب الْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ فَيَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِهَا وَالِاعْتِنَاءُ بِتَحْقِيقِهَا ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْعُلَمَاء - رَحِمَهُمْ اللَّه - فِي الِاحْتِجَاج لَهَا وَإِيضَاحِهَا ، وَأَفْرَدَهَا جَمَاعَة مِنْ السَّلَف بِالتَّصْنِيفِ ، وَاعْتَنَى بِهَا أَئِمَّةُ الْمُحَدِّثِينَ وَأُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأَوَّلُ مَنْ بَلَغَنَا تَصْنِيفُهُ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّه ، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ أَدِلَّتُهَا النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ فِي كُتُبِ أُصُول الْفِقْه وَنَذْكُرُ هُنَا طُرَفًا فِي بَيَانِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْمَذَاهِبِ فِيهِ مُخْتَصَرًا .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْخَبَرُ ضَرْبَانِ : مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ .
فَالْمُتَوَاتِر ، مَا نَقَلَهُ عَدَد لَا يُمْكِنُ مُوَاطَأَتُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَنْ مِثْلِهِمْ وَيَسْتَوِي طَرَفَاهُ وَالْوَسَطُ ، وَيُخْبِرُونَ عَنْ حِسِّيٍّ لَا مَظْنُونٍ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ . ثُمَّ الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُضْبَطُ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُخْبِرِينَ الْإِسْلَامُ وَلَا الْعَدَالَةُ . وَفِيهِ مَذَاهِبُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ ، وَتَفْرِيعَات مَعْرُوفَة مُسْتَقْصَاة فِي كُتُبِ الْأُصُول .
وَأَمَّا خَبَر الْوَاحِد : فَهُوَ مَا لَمْ يُوجَد فِيهِ شُرُوطُ الْمُتَوَاتِرِ سَوَاء كَانَ الرَّاوِي لَهُ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ . وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ ؛ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ : أَنَّ خَبَر الْوَاحِد الثِّقَةِ حُجَّةٌ مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا ، وَيُفِيدُ الظَّنَّ وَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَأَنَّ وُجُوب الْعَمَل بِهِ عَرَفْنَاهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ . وَذَهَبَتْ الْقَدَرِيَّة وَالرَّافِضَة وَبَعْض أَهْل الظَّاهِر إِلَى أَنَّهُ يَجِب الْعَمَل بِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُول : مَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : مَنَعَ دَلِيلُ الشَّرْعِ . وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى أَنَّهُ يَجِب الْعَمَل بِهِ مِنْ جِهَة دَلِيل الْعَقْل . وَقَالَ مِنْ الْمُعْتَزِلَة : لَا يَجِب الْعَمَل إِلَّا بِمَا رَوَاهُ اِثْنَانِ عَنْ اِثْنَيْنِ . وَقَالَ غَيْره . لَا يَجِب الْعَمَل إِلَّا بِمَا رَوَاهُ أَرْبَعَة عَنْ أَرْبَعَة . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْحَدِيث إِلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ إِلَى أَنَّ الْآحَادَ الَّتِي فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ أَوْ صَحِيح مُسْلِم تُفِيدُ الْعِلْمَ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْآحَاد . وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْقَوْل وَإِبْطَاله فِي الْفُصُول وَهَذِهِ الْأَقَاوِيل كُلّهَا سِوَى قَوْلِ الْجُمْهُور بَاطِلَةٌ ، وَإِبْطَالُ مَنْ قَالَ لَا حُجَّةَ فِيهِ ظَاهِرٌ ؛ فَلَمْ تَزَلْ كُتُبُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَآحَادُ رُسُلِهِ يُعْمَلُ بِهَا ، وَيُلْزِمُهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعَمَلَ بِذَلِكَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ تَزَلْ الْخُلَفَاء الرَّاشِدُونَ وَسَائِر الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَف وَالْخَلَفِ عَلَى اِمْتِثَال خَبَر الْوَاحِد إِذَا أَخْبَرَهُمْ بِسُنَّةٍ ، وَقَضَائِهِمْ بِهِ ، وَرُجُوعِهِمْ إِلَيْهِ فِي الْقَضَاء وَالْفُتْيَا ، وَنَقْضِهِمْ بِهِ مَا حَكَمُوا بِهِ خِلَافه ، وَطَلَبِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَ عَدَمِ الْحُجَّة مِمَّنْ هُوَ عِنْده وَاحْتِجَاجِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ ، وَانْقِيَادِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ . وَهَذَا كُلُّهُ مَعْرُوفٌ لَا شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ . وَالْعَقْل لَا يُحِيل الْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِد وَقَدْ جَاءَ الشَّرْع بِوُجُوبِ الْعَمَل بِهِ ، فَوَجَبَ الْمَصِير إِلَيْهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ يُوجِبُ الْعِلْمَ : فَهُوَ مُكَابِرٌ لِلْحَسَنِ . وَكَيْفَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ وَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ وَالْوَهْمِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، مُتَطَرِّقٌ إِلَيْهِ ؟ وَاَللَّه أَعْلَمُ .)) انتهى
__________
(1) - الطَّبَرَانِيُّ أَبُو القَاسِمِ سُلَيْمَانُ بنُ أَحْمَدَ بنِ أَيُّوْبَ ، هُوَ:الإِمَامُ، الحَافِظُ، الثِّقَةُ، الرَّحَّالُ، الجَوَّالُ، مُحَدِّثُ الإِسلاَمِ، علمُ المعمَّرينَ، أَبُو القَاسِمِ سُلَيْمَانُ بنُ أَحْمَدَ بنِ أَيُّوْبَ بنِ مُطَيّرٍ اللَّخْمِيُّ، الشَّامِيُّ، الطَّبَرَانِيُّ، صَاحبُ المَعَاجِمِ الثَّلاَثَةِ.مَوْلِدُهُ:بِمدينَةِ عكَّا، فِي شَهْرِ صَفَرٍ، سنَةَ سِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ عَكَّاوِيَّةً.
وَأَوَّلُ سمَاعِهِ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَسَبْعِيْنَ، وَارْتَحَلَ بِهِ أَبُوْهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ حَدِيْثٍ، مِنْ أَصْحَابِ دُحَيْمٍ ، فَأَوَّلُ ارتحَالِهِ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ، فَبقِي فِي الارتحَالِ وَلقِيِّ الرِّجَالِ ستَّةَ عشرَ عَاماً، وَكَتَبَ عَمَّنْ أَقبلَ وَأَدبرَ، وَبَرَعَ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَعُمِّرَ دَهْراً طَوِيْلاً، وَازدحَمَ عَلَيْهِ المحدِّثُونَ، وَرحلُوا إِلَيْهِ مِنَ الأَقطَارِ.
وَكَانَ الطَّبَرَانِيُّ - فِيمَا بلغنَا - يَقُوْلُ عَنِ (الأَوسطِ):هَذَا الكِتَابُ رُوحي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي عَلِيٍّ:سَأَلَ أَبِي أَبا القَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ كَثْرَةِ حَدِيْثِهِ، فَقَالَ:كُنْتُ أَنَامُ عَلَى البوَارِي، ثَلاَثِيْنَ سَنَةً.
قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَةَ:أَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ أَحدُ الحُفَّاظِ المذكورينَ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي عَلِيٍّ المُعَدَّلُ:الطَّبَرَانِيُّ أَشهرُ مِنْ أَنْ يدلَّ عَلَى فضلِهِ وَعلمِهِ، كَانَ وَاسِعَ العِلْمِ كَثِيْرَ التَّصَانِيْفِ ،وَقَدْ عَاشَ الطَّبَرَانِيُّ مائَةَ عَامٍ وَعشرَةَ أَشهرٍ.سير أعلام النبلاء (16/120)(86 ) فما بعدها
(2) - http://www.alsunnah.com
(3) - سنن ابن ماجه(4433) عن أنس ومسند أحمد (20127 و20200) وهو حديث صحيح
(4) - قلت : لم يتفرد به بل تابعه عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمى مولاهم القواريرى ( وهو ثقة ثبت) في الزهد لأحمد بن حنبل(587 ) حدثنا عبد الله ، حدثني عبيد الله بن عمر ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبيه أن عمر رأى أبا بكر وهو مدل لسانه ، آخذه بيده ، فقال : « ما تصنع يا خليفة رسول الله ؟ » فقال : « وهل أوردني الموارد إلا هذا » وهذا إسناد صحيح
(5) - قلت : أخرجه أبو عوانة في مسنده(538 ) وسنن الدارقطنى (392 ) ونصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 1 / ص 75) والتلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير - (ج 1 / ص 171)(103)
وقال في البدر المنير - (ج 2 / ص 241) :" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي «سنَنه» وَقَالَ : الْوَازِع ضَعِيف . وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي «أَوسط معاجمه» لَكِن من رِوَايَة أبي بكر وَحده ، ثمَّ قَالَ : لَا يرْوَى عَن أبي بكر إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد (وَإِن ابْن السقلاب تفرد بِهِ) . وَقَالَ الْعقيلِيّ : لَا يُتَابِعه عَلَيْهِ إِلَّا من هُوَ مثله . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم : سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ : هَذَا حَدِيث بَاطِل بِهَذَا الْإِسْنَاد ، والوازع بن نَافِع ضَعِيف الحَدِيث .
قلت : والحديث أخرجه مسلم من طريق آخر (599 ) حَدَّثَنِى سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَخْبَرَنِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ ». فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى.
(6) - عَنْ عُمَرَ ، قَالَ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَنَا ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ ، فَقَالَ : أَلاَ إِنَّهُ لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَ النَّاسِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنَ الْمُعَافَاةِ بَعْدَ الْيَقِينِ ، أَلاَ إِنَّ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ فِي الْجَنَّةِ ، أَلاَ إِنَّ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ فِي النَّارِ.
أخرجه أحمد 1/9(49) قال : حدَّثنا بَهْز بن أسد . و"النَّسائي" في "عمل اليوم والليلة" 885 قال : أخبرنا إسحاق بن منصور ، عن أحمد بن حنبل ، قال : حدَّثنا بَهْز بن أسد .
كلاهما (بَهْز، وابن مهدي) قالا : حدَّثنا سليم بن حَيّأن ، قال : سمعت قتادة ، يُحَدِّث عن حُميد بن عبد الرحمان ، أن عمر قال ، فذكره. المسند الجامع - (ج 9 / ص 1133)(7124)(تعليق شعيب الأرنؤوط : صحيح لغيره وإسناده ضعيف لانقطاعه)
وفي مسند البزار (75) وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُمَيْرٍ ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ ، عَنْ أَوْسَطَ الْبَجَلِيِّ ، يَتَقَارَبَانِ فِي أَلْفَاظِهِمَا ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، قَامَ فِي النَّاسِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ فَاسْتَعْبَرَ فَبَكَى فَقَعَدَ ، ثُمَّ إِنَّهُ قَامَ أَيْضًا ، فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِينَا عَامَ أَوَّلَ ، فَقَالَ : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مِنَ الْبِرِّ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ مِنَ الْفُجُورِ ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَقَاطَعُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِنَّهُ لاَ يُعْطَى عَبْدٌ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ بَعْدَ يَقِينٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْحَدِيثُ لاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ ، وَهَذَا الإِسْنَادُ مِنَ الأَسَانِيدِ الْحِسَانِ الَّتِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَلاَ نَعْلَمُ رَوَى أَوْسَطُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ هَذَا الْحَدِيثَ.
(7) - نزهة النظر - (ج 1 / ص 67)
(8) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 6)
(9) - الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 2) والمختصر في أصول الحديث - (ج 1 / ص 1) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 33) والتعريفات الندية على المنظومة البيقونية - (ج 1 / ص 4) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 156)
(10) - صحيح البخارى برقم (765 )
(11) - العنعنة : رواية الحديث عن الشيخ بلفظ " عن " وسيأتي تفصيل حكم العنعنة في نوع المعنعن .
(12) - تقريب التهذيب [ ج 1 - ص 330 ] (3721 )
(13) - تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 516 ] (6425 )
(14) - تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 506 ] (6296 )
(15) - تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 471 ] (5780 )
(16) - تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 138 ] (903 )
(17) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 147) فما بعدها
(18) - شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 64)(1/38)
وفي حصول المأمول(1):((قد دلَّ على العمل بخبر الواحد الكتابُ والسنَّة والإجماع ولم يأت من خالف في العمل به بشيء يصلحُ للتمسك به ،ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوالِ فذلكَ لأسبابٍ خارجةٍ عن كونِه خبرَ واحدٍ من ريبة في الصحَّة أو تهمةٍ للراوي أو وجودِ معارضٍ راجحٍ أو نحو ذلك)) اهـ .
وقد جوَّد الكلامَ على قبول خبر الواحد الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله تعالى في رسالته الشهيرة في بابٍ على حدةٍ(2)، ويجدرُ بذي الهمَّةِ الوقوفُ على لطائفهِ ، وأوسع فيه أيضاً الحافظُ ابن حجر في الفتح عند قول البخاري :((باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام))
قال رحمه الله : "قَوْله ( وَقَوْله إِنْ جَاءَكُمْ فَاسْقِ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) وَجْه الدَّلَالَة مِنْهَا يُؤْخَذ مِنْ مَفْهُومَيْ الشَّرْط وَالصِّفَة فَإِنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ قَبُول خَبَر الْوَاحِد ، وَهَذَا الدَّلِيل يُورَد لِلتَّقَوِّي لَا لِلِاسْتِقْلَالِ لِأَنَّ الْمُخَالِف قَدْ لَا يَقُول بِالْمَفَاهِيمِ وَاحْتَجَّ الْأَئِمَّة أَيْضًا بِآيَاتٍ أُخْرَى وَبِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيد إِلَّا الظَّنّ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَجْمُوعهَا يُفِيد الْقَطْع كَالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيّ ، وَقَدْ شَاعَ فَاشِيًّا عَمَل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ بِخَبَرِ الْوَاحِد مِنْ غَيْر نَكِير فَاقْتَضَى الِاتِّفَاق مِنْهُمْ عَلَى الْقَبُول ، وَلَا يُقَال لَعَلَّهُمْ عَمِلُوا بِغَيْرِهَا أَوْ عَمِلُوا بِهَا لَكِنَّهَا أَخْبَار مَخْصُوصَة بِشَيْءٍ مَخْصُوص لِأَنَّا نَقُول الْعِلْم حَاصِل مِنْ سِيَاقهَا بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَمِلُوا بِهَا لِظُهُورِهَا لَا لِخُصُوصِهَا ...
وَالْأَخْبَار طَافِحَة بِأَنَّ أَهْل كُلّ بَلَد مِنْهُمْ كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الَّذِي أُمِّرَ عَلَيْهِمْ وَيَقْبَلُونَ خَبَره وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْر اِلْتِفَات إِلَى قَرِينَة ، وَفِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب كَثِير مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ بَعْض الْأَئِمَّة بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( يَا أَيّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ رَبّك ) مَعَ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا إِلَى النَّاس كَافَّة وَيَجِب عَلَيْهِ تَبْلِيغهمْ ، فَلَوْ كَانَ خَبَر الْوَاحِد غَيْر مَقْبُول لَتَعَذَّرَ إِبْلَاغ الشَّرِيعَة إِلَى الْكُلّ ضَرُورَة لِتَعَذُّرِ خِطَاب جَمِيع النَّاس شِفَاهًا ، وَكَذَا تَعَذُّر إِرْسَال عَدَد التَّوَاتُر إِلَيْهِمْ وَهُوَ مَسْلَك جَيِّد يَنْضَمّ إِلَى مَا اِحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيّ ثُمَّ الْبُخَارِيّ ، وَاحْتَجَّ مَنْ رَدَّ خَبَر الْوَاحِد بِتَوَقُّفِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَبُول خَبَر ذِي الْيَدَيْنِ وَلَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ عَارَضَ عِلْمه " وَكُلّ خَبَر وَاحِد إِذَا عَارَضَ الْعِلْم لَمْ يَقْبَل " وَبِتَوَقُّفِ أَبِي بَكْر وَعُمَر فِي حَدِيثَيْ الْمُغِيرَة " فِي الْجَدَّة وَفِي مِيرَاث الْجَنِين " حَتَّى شَهِدَ بِهِمَا مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ ، وَبِتَوَقُّفِ عُمَر فِي خَبَر أَبِي مُوسَى " فِي الِاسْتِئْذَان " حَتَّى شَهِدَ أَبُو سَعِيد ، وَبِتَوَقُّفِ عَائِشَة فِي خَبَر اِبْن عُمَر " فِي تَعْذِيب الْمَيِّت بِبُكَاءِ الْحَيّ " وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِمَّا عِنْد الِارْتِيَاب كَمَا فِي قِصَّة أَبِي مُوسَى فَإِنَّهُ أَوْرَدَ الْخَبَر عِنْد إِنْكَار عُمَر عَلَيْهِ رُجُوعه بَعْد الثَّلَاث وَتَوَعُّده فَأَرَادَ عُمَر الِاسْتِثْبَات خَشْيَة أَنْ يَكُون دَفَعَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسه ، وَقَدْ أَوْضَحْت ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي " كِتَاب الِاسْتِئْذَان " وَأَمَّا عِنْدَ مُعَارَضَة الدَّلِيل الْقَطْعِيّ كَمَا فِي إِنْكَار عَائِشَة حَيْثُ اِسْتَدَلَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى ) وَهَذَا كُلّه إِنَّمَا يَصِحّ أَنْ يَتَمَسَّك بِهِ مَنْ يَقُول لَا بُدَّ مِنْ اِثْنَيْنِ عَنْ اِثْنَيْنِ وَإِلَّا فَمَنْ يَشْتَرِط أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَجَمِيع مَا ذُكِرَ قَبْلَ عَائِشَة حُجَّة عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ قَبِلُوا الْخَبَر مِنْ اِثْنَيْنِ فَقَطْ ، وَلَا يَصِل ذَلِكَ إِلَى التَّوَاتُر وَالْأَصْل عَدَم وُجُود الْقَرِينَة إِذْ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَة مَا اُحْتِيجَ إِلَى الثَّانِي ، وَقَدْ قَبِلَ أَبُو بَكْر خَبَر عَائِشَة فِي أَنَّ " النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ " وَقَبِلَ عُمَر خَبَر عَمْرو بْن حَزْم فِي أَنَّ " دِيَة الْأَصَابِع سَوَاء " وَقَبِلَ خَبَر الضَّحَّاك بْن سُفْيَان فِي " تَوْرِيث الْمَرْأَة مِنْ دِيَة زَوْجهَا " وَقَبِلَ خَبَر عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف فِي " أَمْر الطَّاعُون ، وَفِي أَخْذ الْجِزْيَة مِنْ الْمَجُوس " وَقَبِلَ خَبَر سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص فِي " الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ " وَقَبِلَ عُثْمَان خَبَر الْفُرَيْعَة بِنْت سِنَان أُخْت أَبِي سَعِيد فِي " إِقَامَة الْمُعْتَدَّة عَنْ الْوَفَاة فِي بَيْتِهَا " إِلَى غَيْر ذَلِكَ . وَمِنْ حَيْثُ النَّظَر أَنَّ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَعَثَ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَام وَصِدْق خَبَر الْوَاحِد مُمْكِن فَيَجِب الْعَمَل بِهِ اِحْتِيَاطًا ، وَأَنَّ إِصَابَة الظَّنّ بِخَبَرِ الصَّدُوق غَالِبَة ، وَوُقُوع الْخَطَأ فِيهِ نَادِر فَلَا تُتْرَك الْمَصْلَحَة الْغَالِبَة خَشْيَة الْمَفْسَدَة النَّادِرَة ، وَأَنَّ مَبْنَى الْأَحْكَام عَلَى الْعَمَل بِالشَّهَادَةِ وَهِيَ لَا تُفِيد الْقَطْع بِمُجَرَّدِهَا وَقَدْ رَدَّ بَعْض مَنْ قَبِلَ خَبَر الْوَاحِد مَا كَانَ مِنْهُ زَائِدًا عَلَى الْقُرْآن ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ قَبِلُوهُ " فِي وُجُوب غَسْل الْمَرْفِق فِي الْوُضُوء " وَهُوَ زَائِد وَحُصُول عُمُومه بِخَبَرِ الْوَاحِد " كَنِصَابِ السَّرِقَة " وَرَدَّهُ بَعْضهمْ بِمَا تَعُمّ بِهِ الْبَلْوَى وَفَسَّرُوا ذَلِكَ بِمَا يَتَكَرَّر ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ " كَإِيجَابِ الْوُضُوء بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاة وَبِالْقَيْءِ وَالرُّعَاف " وَكُلّ هَذَا مَبْسُوط فِي أُصُول الْفِقْه اِكْتَفَيْت هُنَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ . اهـ(3)
ومما نقله فيه" وَقَدْ نَقَلَ بَعْض الْعُلَمَاء لِقَبُولِ خَبَر الْوَاحِد أَنَّ كُلّ صَاحِب وَتَابِع سُئِلَ عَنْ نَازِلَة فِي الدِّين فَأَخْبَرَ السَّائِل بِمَا عِنْدَهُ فِيهَا مِنْ الْحُكْم ، أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِط عَلَيْهِ أَحَد مِنْهُمْ أَنْ لَا يَعْمَل بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْأَل غَيْره ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسْأَل الْكَوَافّ ، بَلْ كَانَ كُلّ مِنْهُمْ يُخْبِرهُ بِمَا عِنْده فَيَعْمَل بِمُقْتَضَاهُ وَلَا يُنْكِر عَلَيْهِ ذَلِكَ،فَدَلَّ عَلَى اِتِّفَاقهمْ عَلَى وُجُوب الْعَمَل بِخَبَرِ الْوَاحِد ."(4)
وقال ابن تيمية رحمه الله في بيان حجية السنة(5):
" وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مُتَمَيِّزًا بِنَفْسِهِ - لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِعْجَازِ الَّذِي بَايَنَ بِهِ كَلَامَ النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء/88] } وَكَانَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ - لَمْ يَطْمَعْ أَحَدٌ فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ أَلْفَاظِهِ وَحُرُوفِهِ ؛ وَلَكِنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُدْخِلَ التَّحْرِيفَ وَالتَّبْدِيلَ فِي مَعَانِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّأْوِيلِ ، وَطَمِعَ أَنْ يُدْخِلَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ النَّقْصِ وَالِازْدِيَادِ مَا يُضِلُّ بِهِ بَعْضَ الْعِبَادِ . فَأَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَهَابِذَةَ النُّقَّادَ أَهْلَ الْهُدَى وَالسَّدَادِ ، فَدَحَرُوا حِزْبَ الشَّيْطَانِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبُهْتَانِ وَانْتُدِبُوا لِحِفْظِ السُّنَّةِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي ذَلِكَ وَالنُّقْصَانِ . وَقَامَ كُلٌّ مِنْ عُلَمَاءِ الدِّينِ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ - مَقَامَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِينَ فَقِهُوا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ - بِدَفْعِ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَأِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ، وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ الظَّاهِرُ الْجَلِيُّ : الَّذِي لَا يَسُوغُ عَنْهُ الْعُدُولُ ؛ وَمِنْهُ الْخَفِيُّ : الَّذِي يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لِلْعُلَمَاءِ الْعُدُولِ . وَقَامَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ وَالنُّقَّادُ بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ ، فَسَافَرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْبِلَادِ ، وَهَجَرُوا فِيهِ لَذِيذَ الرُّقَادِ ، وَفَارَقُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ ، وَأَنْفَقُوا فِيهِ الطَّارِفَ وَالتِّلَادَ ، وَصَبَرُوا فِيهِ عَلَى النَّوَائِبِ ، وَقَنَعُوا مِنْ الدُّنْيَا بِزَادِ الرَّاكِبِ ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ ، وَالْقِصَصِ الْمَأْثُورَةِ ، مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَعْلُومٌ ، وَلِمَنْ طَلَبَ مَعْرِفَتَهُ مَعْرُوفٌ مَرْسُومٌ ، بِتَوَسُّدِ أَحَدِهِمْ التُّرَابَ وَتَرْكِهِمْ لَذِيذَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَتَرْكِ مُعَاشَرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالتَّصَبُّرِ عَلَى مَرَارَةِ الِاغْتِرَابِ ، وَمُقَاسَاةِ الْأَهْوَالِ الصِّعَابِ ، أَمْرٌ حَبَّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَحَلَّاهُ لِيَحْفَظَ بِذَلِكَ دِينَ اللَّهِ . كَمَا جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا يَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، وَيَتَحَمَّلُونَ فِيهِ أُمُورًا مُؤْلِمَةً تَحْصُلُ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَمَا حُبِّبَ إلَى أَهْلِ الْقِتَالِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ حِكْمَةً مِنْ اللَّهِ يَحْفَظُ بِهَا الدِّينَ لِيَهْدِيَ الْمُهْتَدِينَ ، وَيُظْهِرَ بِهِ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ ، الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . فَمَنْ كَانَ مُخْلِصًا فِي أَعْمَالِ الدِّينِ يَعْمَلُهَا لِلَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ أَهْلِ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِنَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ثَنَاءُ الْمُثْنِينَ عَلَيْهِ . الثَّانِي : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ؛ أَوْ تُرَى لَهُ . { فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ لِنَفْسِهِ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ ؛ قَالَ : تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ } . وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ : سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَوْلِهِ { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فَقَالَ : { هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ؛ أَوْ تُرَى لَهُ } . وَالْقَائِمُونَ بِحِفْظِ الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الرُّبَّانُ الْحَافِظُونَ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ، هُمْ مِنْ أَعْظَمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ ، بَلْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَرْفَعْ اللَّهُ [ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَؤْمِنِينَ عَلَى الَّذِينَ لَمْ يُؤْتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ] .
وَعِلْمُ الْإِسْنَادِ وَالرِّوَايَةِ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَهُ سُلَّمًا إلَى الدِّرَايَةِ . فَأَهْلُ الْكِتَابِ لَا إسْنَادَ لَهُمْ يَأْثُرُونَ بِهِ الْمَنْقُولَاتِ ، وَهَكَذَا الْمُبْتَدِعُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَهْلُ الضَّلَالَاتِ ، وَإِنَّمَا الْإِسْنَادُ لِمَنْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ " أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ ، يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَالْمُعْوَجِّ وَالْقَوِيمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْكُفَّارِ إنَّمَا عِنْدَهُمْ مَنْقُولَاتٌ يَأْثُرُونَهَا بِغَيْرِ إسْنَادٍ ، وَعَلَيْهَا مِنْ دِينِهِمْ الِاعْتِمَادُ ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ فِيهَا الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَلَا الْحَالِي مِنْ الْعَاطِلِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ : فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالدِّينِ هُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى يَقِينٍ ، فَظَهَرَ لَهُمْ الصِّدْقُ مِنْ الْمَيْنِ ، كَمَا يَظْهَرُ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ . عَصَمَهُمْ اللَّهُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى خَطَأٍ فِي دِينِ اللَّهِ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ ، وَأَمَرَهُمْ إذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ عَلَى الْقَوْلِ بِحُكْمِ لَمْ يَكُنْ إلَّا حَقًّا ، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى تَصْحِيحِ حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا صِدْقًا ، وَلِكُلِّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ بِالْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ مَا يُعْرَفُ بِهِ مَنْ هُوَ بِهَذَا الْأَمْرِ حَفِيٌّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُلْهِمُهُمْ الصَّوَابَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الدَّلَائِلُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَكَمَا عُرِفَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ الْوُجُودِيَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ ، لَمَّا صَدَقُوا فِي مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَمُعَادَاةِ مَنْ عَدَلَ عَنْهُ . قَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } .
وَأَهْلُ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنْ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْظَمُ النَّاسِ قِيَامًا بِهَذِهِ الْأُصُولِ ، لَا تَأْخُذُ أَحَدَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ، وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْعَظَائِمُ ؛ بَلْ يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ ، وَيَتَكَلَّمُ فِي أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . وَلَهُمْ مِنْ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ ، وَالتَّضْعِيفِ وَالتَّصْحِيحِ مِنْ السَّعْيِ الْمَشْكُورِ وَالْعَمَلِ الْمَبْرُورِ مَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الدِّينِ ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ إحْدَاثِ الْمُفْتَرِينَ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ ، مِنْهُمْ الْمُقْتَصِرُ عَلَى مُجَرَّدِ النَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ وَالدِّرَايَةِ ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ فِيهِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعَانِيهِ.
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْأُمَّةَ أَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ شَهِدَ لِمَنْ غَابَ ، وَدَعَا لِلْمُبَلِّغِينَ بِالدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ؛ وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ ؛ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } . وَقَالَ أَيْضًا فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ} وَقَالَ أَيْضًا : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ؛ ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ } . وَفِي هَذَا دُعَاءٌ مِنْهُ لِمَنْ بَلَّغَ حَدِيثَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا وَدُعَاءٌ لِمَنْ بَلَّغَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ أَفْقَهَ مِنْ الْمُبَلِّغِ ؛ لِمَا أُعْطِيَ الْمُبَلِّغُونَ مِنْ النَّضْرَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : لَا تَجِدُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَّا وَفِي وَجْهِهِ نَضْرَةٌ ؛ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَالُ : نَضَرَ وَنَضُرَ ، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ . وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ يُعَظِّمُونَ نَقَلَةَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَكَأَنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ فِي مَقَامِ الصَّحَابَةِ مِنْ تَبْلِيغِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا أَهْلُ الْحَدِيثِ حَفِظُوا فَلَهُمْ عَلَيْنَا الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّهُمْ حَفِظُوا لَنَا اهـ ."
وقال أستاذنا د أحمد الحجي الكردي حفظه الله حول حجية السنة الشريفة:(6)
"السنة الشريفة دليل أصلي من أدلة التشريع الإسلامي، وقد ثبتت حجيتها بالقرآن والسنة والإجماع والعقل.
أما الكتاب: فآيات كثيرة تدل على أن الله فرض علينا اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يقوله ويفعله ويقره من الأعمال والتصرفات، من ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)، وقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80)، فإن في هاتين الآيتين الكريمتين أمر صريح وبيان واضح بأن طاعة الله وطاعة الرسول شيء واحد لا تقبل إحداهما إلا بالأخرى، وما طاعة الله إلا اتباع كتابه، وما طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا إتباع سنته، وقد أثبتنا حجية الكتاب قبل قليل، فلم يبق إلا اعتبار السنة الشريفة حجية بدلالة ذلك، ثم قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36)، وقوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)، فإن في هاتين الآيتين إلزام من الله تعالى باتباع حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما الحكم إلا جزء من أقواله أو أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو من السنة الشريفة.
__________
(1) - إرشاد الفحول - (ج 1 / ص 137)
(2) - الرسالة للشافعي - ( ص 370 فما بعدها)[ باب خبر الواحد ]
(3) - فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 292)
(4) - فتح الباري لابن حجر - (ج 20 / ص 303)
(5) - مجموع الفتاوى - (ج 1 / ص 7)
(6) - بحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 59) فما بعدها(1/39)
4- قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:3-4)) فيه دليل على أن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة الشريفة إنما هو وحي من عند الله تعالى، وما كان من عند الله واجب الاتباع، لأن الله هو المشرع. فلذلك كانت السنة الشريفة واجبة الاتباع، فإن قيل: إن كانت السنة الشريفة وحياً فما الفرق بينها وبين القرآن الكريم، أجيب بأن القرآن الكريم جاء عن طريق الوحي بلفظه ومعناه، أما السنة الشريفة فمعناها من الله تعالى، أما ألفاظها فمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن قيل: فما الفرق بين الحديث النبوي والحديث القدسي، إذ الحديث القدسي معناه من الله تعالى ولفظه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أجيب عنه أيضاً، بأن الحديث القدسي ألقي معناه في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق الوحي المباشر، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرح بهذا المعنى أحيانا فيقول: (نفث في روعي ... ) أما الحديث النبوي فمعناه من الله تعالى عن طريق التسديد لا عن طريق الوحي المباشر، ومثل هذه الآيات الدالة على حجية السنة الشريفة كثير في القرآن الكريم.
وأما السنة الشريفة: فأحاديث كثيرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير فيها بصراحة إلى أن طاعته واجبة، وأن أمره إنما هو من الله سبحانه وتعالى، منها:
1- قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: « تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ »(1). فإن في هذا القول النبوي الكريم تسوية بين القرآن الكريم والسنة الشريفة في الحجية.
2- ما رواه المقداد بن معديكرب من قوله - صلى الله عليه وسلم - : « يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِى وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِى فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ. أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ »(2). فإن هذا الحديث الشريف نص في الباب.
3- حديث معاذ بن جبل المتقدم في تعريف السنة الشريفة التقريرية المتضمن معنى قوله: (أقضي بالقرآن ثم بالسنة ثم اجتهد رأيي)، حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله، فإن في هذا إقراراً صريحاً بحجية السنة الشريفة .
وأما الإجماع: فهو ما ثبت لدينا بطريق لا شبهة فيه من أن الصحابة كانوا يلتزمون سنته - صلى الله عليه وسلم - وقضاءه في حياته، ولا يخالفونه في شيء، ولا يطلبون منه دليلاً غير قوله وفتواه، والتزامهم بهذا المبدأ بعد وفاته، فإنهم كانوا إذا لم يجدوا في القرآن الكريم بغيتهم لجؤوا إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يتساءلون فيما بينهم هل روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه الحادثة شيء؟ هل قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الأمر بشيء؟ فإن وجدوا قضوا بما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن لم يجدوا أعملوا عقولهم وقاسوا هذا الأمر على الأمور الأخرى المنصوص عليها في القرآن الكريم أو السنة الشريفة وقد عُلم ذلك منهم دون معارضة أو منازعة ممن له رأي معتبر، فكان ذلك إجماعاً.
وأما المعقول: فانه يتجلى في عدة أمور أهمها:
أ) كثير من الأحكام التي وردت في القرآن الكريم جاء مجملاً أو عاماً أو مطلقاً أو مشتركاً، وهذا كله يحتاج إلى بيان لمجمله ومشتركة، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعامه، إذا المعنى المراد منه لا يفهم إلا بذلك، والسنَّة هي التي تولت هذه المهمة، مهمة البيان بأمر الله تعالى حيث قال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل:44)، فكانت السنة الشريفة محتجاً إليها لفهم الكتاب، وقد اعتبرنا الكتاب حجة واتباعه واجبا فيما مضى، وما كان محتاجاً إليه لفهم الكتاب الذي هو مصدر الأمر والنهي الواجب الاتباع فهو واجب، لأن القاعدة الأًصولية تقول:مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب) إن الله تعالى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ القرآن الكريم وبيانه معاً، لأن التبليغ لا يتم إلا بالبيان والتبليغ كان بتلقين آيات القرآن، أما البيان فكان بالسنة المطهرة الموضحة له، وقد قامت الأدلة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ في التبليغ والبيان معاً والسهو فيهما، من مثل قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وقوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى:6)، وغيرها.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الناس ممن سفهوا عقولهم، ذهبوا إلى أن السنة الشريفة ليست بحجَّة، واستندوا في دعواهم هذه إلى أمور حسبوها أدلة وما هي إلى أوهام وشكوك، ولذلك رأيت أن أصرف النظر عنها ولا أتعرض لذكرها، سيما وهي موضحة ومشار إليها في كتب الأصول، ويستطيع الاطلاع عليها كل من أراد ذلك، ثم إنها أتفه من أن تبحث أو يتعرض لها." اهـ
00000000000000
قلتُ :
لا خلافَ بين أهل العلم في وجوب العملِ بخبر الواحد إذا كان صحيحاً
ولكنْ يتفرعُ عن هذه المسألة أمورٌ منها :
أنْ لا يخالفه ما هو مثله في القوة أو أقوى منه .
وأن لا يكون منسوخاً .
وأن تكون دلالتُه واضحةً على المعنى المراد الاستدلال به .
واشترط بعضُ الفقهاء شروطا أخرى مثل المالكية أن لا يخالفَ عملَ أهل المدينة.
وكذلك اشترط الحنفيةُ أن لا يعملَ الراوي بخلاف روايته ،وأن لا يكونَ مما تعمُّ به البلوى ونحو ذلك.
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله :(3)
" "وَقَالَ الْأَصَمُّ : أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ لِنُعْطِيَنَّك جُمْلَةً تُغْنِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ ، لَا تَدَعْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا أَبَدًا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلَافَهُ فَتَعْمَلَ بِمَا قُلْت لَك فِي الْأَحَادِيثِ إذَا اخْتَلَفَتْ .
قَالَ الْأَصَمُّ : وَسَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَعُوا مَا قُلْت ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَارُودِيُّ : سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : إذَا وَجَدْتُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلَافَ قَوْلِي فَخُذُوا بِالسُّنَّةِ وَدَعُوا قَوْلِي ، فَإِنِّي أَقُولُ بِهَا وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ الرَّازِيّ : سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : كُلُّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فِيهَا صَحَّ الْخَبَرُ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ بِخِلَافِ مَا قُلْت فَأَنَا رَاجِعٌ عَنْهَا فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي .
وَقَالَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى : قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا قُلْت وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَ بِخِلَافِ قَوْلِي مِمَّا يَصِحُّ فَحَدِيثُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى ، لَا تُقَلِّدُونِي ؛ وَقَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْت الْأَصَمَّ يَقُولُ : سَمِعْت الرَّبِيعَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : وَرَوَى حَدِيثًا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : تَأْخُذُ بِهَذَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَتَى رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا صَحِيحًا فَلَمْ آخُذْ بِهِ فَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ عَقْلِي قَدْ ذَهَبَ ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى رُءُوسِهِمْ .
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ : سَأَلَ رَجُلٌ الشَّافِعِيَّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَفْتَاهُ وَقَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَذَا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ قَالَ : أَرَأَيْت فِي وَسَطِي زُنَّارًا ؟ أَتَرَانِي خَرَجْت مِنْ الْكَنِيسَةِ ؟ أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ لِي : أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا أَقُولُ بِهِ ؟ وَقَالَ الْحَاكِمُ : أَنْبَأَنِي أَبُو عَمْرُونٍ السَّمَّاكُ مُشَافَهَةً أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْجَصَّاصَ حَدَّثَهُمْ قَالَ : سَمِعْت الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ يَقُولُ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ - وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا .
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ ؟ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتَقُولُ بِهَذَا ؟ فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ وَاصْفَرَّ وَحَالَ لَوْنُهُ - وَقَالَ : وَيْحَكَ ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا رَوَيْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ ؟ نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ ، نَعَمْ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنَيْنِ .
قَالَ : وَسَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَتَذْهَبُ عَلَيْهِ سُنَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَعْزُبُ عَنْهُ ، فَمَهْمَا قُلْت مِنْ قَوْلٍ أَوْ أَصَّلْت مِنْ أَصْلٍ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خِلَافَ مَا قُلْت فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهُوَ قَوْلِي ، وَجَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا الْكَلَامَ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَتْهُ عَامَّةٌ أَوْ نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ فِي أَنْ فَرَضَ اللَّهُ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ ، وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلُ رَجُلٍ قَالَ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَإِنَّ مَا سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا ، وَإِنْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى مَنْ بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَرْضُ ، وَوَاجِبٌ قَبُولُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا فِرْقَةٌ سَأَصِفُ قَوْلَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ...
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : قَالَ أَبِي : قَالَ لَنَا الشَّافِعِيُّ : إذَا صَحَّ لَكُمْ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُولُوا لِي حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : كَانَ أَحْسَنُ أَمْرِ الشَّافِعِيِّ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْخَبَرَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ قَالَ بِهِ وَتَرَكَ قَوْلَهُ ، وَقَالَ الرَّبِيعُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا نَتْرُكُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ لَا يَدْخُلَهُ الْقِيَاسُ وَلَا مَوْضِعَ لِلْقِيَاسِ لِمَوْقِعِ السُّنَّةِ ، وَقَالَ الرَّبِيعُ : وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي أَنَّهُ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ أُنْكِحَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، فَمَاتَ زَوْجُهَا ، فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ نِسَائِهَا ؛ وَقَضَى لَهَا بِالْمِيرَاثِ } ، فَإِنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَهُوَ أَوْلَى الْأُمُورِ بِنَا ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا فِي قِيَاسٍ وَلَا فِي شَيْءٍ إلَّا طَاعَةُ اللَّهِ بِالتَّسْلِيمِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ عَنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَلَمْ أَحْفَظْهُ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ مِثْلُهُ ، هُوَ مَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَمَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَنْ بَعْضِ أَشْجَعَ لَا يُسَمَّى .
وَقَالَ الرَّبِيعُ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ رَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ ، قُلْت لَهُ : فَمَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ قَوْلِنَا .
قَالَ الرَّبِيعُ : فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّا نَقُولُ يَرْفَعُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ لَا يَعُودُ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : أَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهُوَ - يَعْنِي مَالِكًا - يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ { إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ } ، ثُمَّ خَالَفْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَابْنَ عُمَرَ ، فَقُلْتُمْ : لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ .
وَقَدْ رَوَيْتُمْ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا رَفَعَاهُمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ ، أَفَيَجُوزُ لِعَالِمٍ أَنْ يَتْرُكَ فِعْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِعْلَ ابْنِ عُمَرَ لِرَأْيِ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِرَأْيِ ابْنِ عُمَرَ ، ثُمَّ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ، ثُمَّ يَأْتِي مَوْضِعٌ آخَرُ يُصِيبُ فِيهِ فَيُتْرَكُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ مَا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَكَيْفَ لَمْ يَنْهَهُ بَعْضُ هَذَا عَنْ بَعْضٍ ؟ أَرَأَيْت إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ اثْنَتَيْنِ أَنَأْخُذُ بِوَاحِدَةٍ وَنَتْرُكُ وَاحِدَةً ؟ أَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُ الَّذِي أَخَذَ بِهِ وَأَخَذَ الَّذِي تَرَكَ ؟ أَوْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقُلْت لَهُ : فَإِنَّ صَاحِبَنَا قَالَ : فَمَا مَعْنَى الرَّفْعِ ؟ قَالَ مَعْنَاهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَاتِّبَاعٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَمَعْنَى الرَّفْعِ فِي الْأُولَى مَعْنَى الرَّفْعِ الَّذِي خَالَفْتُمْ فِيهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ ، ثُمَّ خَالَفْتُمْ فِيهِ رِوَايَتَكُمْ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَابْنِ عُمَرَ مَعًا ، وَيَرْوِي ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، وَرُوِيَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، وَمَنْ تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ .
قُلْت : وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ تَارِكَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ تَارِكٌ لِلسُّنَّةِ ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَقَالَ الرَّبِيعُ : سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عَنْ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا يَبْقَى رِيحُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ وَالْحَلَّاقِ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ ؛ فَقَالَ : جَائِزٌ ، وَأُحِبُّهُ ، وَلَا أَكْرَهُهُ ؛ لِثُبُوتِ السُّنَّةِ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالْأَخْبَارُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَقُلْت : وَمَا حُجَّتُك فِيهِ ؟ فَذَكَرَ الْأَخْبَارَ فِيهِ وَالْآثَارَ ، ثُمَّ قَالَ : أَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ : قَالَ عُمَرُ : مَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، قَالَ سَالِمٌ : وَقَالَتْ عَائِشَةُ : طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي ، سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ ، فَأَمَّا مَا تَذْهَبُونَ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهَا وَتَرْكِ ذَلِكَ لِغَيْرِ شَيْءٍ بَلْ لِرَأْيِ أَنْفُسِكُمْ فَالْعِلْمُ إذًا إلَيْكُمْ تَأْتُونَ مِنْهُ مَا شِئْتُمْ وَتَدْعُونَ مَا شِئْتُمْ.
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْقَدِيمِ ،رِوَايَةُ الزَّعْفَرَانِيِّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ فِي جَوَابِ مَنْ قَالَ لَهُ : إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِك قَدْ قَالَ خِلَافَ هَذَا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَقُلْت لَهُ : مَنْ تَبِعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَافَقْته ، وَمَنْ خَلَطَ فَتَرَكَهَا خَالَفْته ، حَتَّى صَاحِبِي : الَّذِي لَا أُفَارِقُ الْمُلَازِمُ الثَّابِتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ بَعُدَ ، وَاَلَّذِي أُفَارِقُ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ قَرُبَ ....اهـ
-----------------
قلتُ :
إننا لا نلزمُ أحداً من الفقهاء العملَ بحديثٍ صحيحٍ ما، إلا إذا وافقَ القواعدَ والضوابطَ التي وضعها ذلك الإمام ُ.
وكلهُم قال: إذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي ، ولكن إذا صحَّ وفق القواعد والضوابط التي وضعها الإمام ولم يعارضْه ما هو أقوى منه ولم يكن منسوخاً ، عندئذ يلزم الإمام أو أتباعه العمل به .
وأمَّا إذا صحَّ عندي الحديثُ ولم يصحَّ وفقَ شروط الإمام الفلاني فلا يلزمُ به لا هو ولا أتباعه .
وما إمام إلا وقد ترك أحاديث صحيحة لم يحتج بها ، لمعارض لها مثلها أقوى منها .(4)
6- المرادُ بقولهم: " هذا حديث صحيح " أو هذا حديث غير صحيح ":
أ) المراد بقولهم: " هذا حديث صحيح أن الشروط الخمسة السابقة قد تحققت فيه، كما في سنن الترمذى برقم (156 ) حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحُلْوَانِىُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِى هَذَا الْبَابِ. وَفِى الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ.
لا أنه مقطوع بصحته في نفس الأمر ، لجواز الخطأ والنسيان على الثقة(5).
خلافًا لمن قال: إنَّ خبر الواحد يُوجب القَطْع, حكاهُ ابن الصبَّاغ عن قومٍ من أهل الحديث, وعزاهُ البَاجي لأحمد, وابن خُويز منداد لمالك, وإن نازعه فيه المازري بعدم وجود نص له فيه, وحكاه ابن عبد البرِّ عن حسين الكرابيسي, وابن حزم عن داود.
وحكى السُّهيلي عن بعض الشَّافعية ذلك بشرط أن يكون في إسْنَاده إمام, مثل مالك وأحمد وسفيان, وإلاَّ فلا يُوجبه.
وحكى الشَّيخ أبو إسحاق في «التبصرة» عن بعض المُحدِّثين ذلك في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر وشبهه(6).وسوف يمر التحقيق في ذلك .
ب) والمراد بقولهم: " هذا حديث غير صحيح " أنه لم تتحقق فيه شروط الصحة الخمسة السابقة كلها أو بعضها لا أنه كذب في نفس الأمر، لجواز إصابة من هو كثير الخطأ .
كما في شعب الإيمان للبيهقي برقم (9336 ) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، نا الإمام أبو بكر أحمد بن إسحاق في آخرين ، نا محمد بن عبد الله الحضرمي ، نا جعديه بن يحيى ، نا العلاء بن بشر ، نا سفيان وهو ابن عيينة ، عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ليس للفاسق غيبة »(7)، فقد قال أبو عبد الله : « هذا حديث غير صحيح ولا معتمد .. »(8)
7- هل يجْزَمُ في إسناد أنه أصحُّ الأسانيدِ مطلقاً ؟
المختارُ أنه لا يجزم في إسناد أنه أصح الأسانيد مطلقاً، لأن تفاوت مراتب الصحة مبنيٌّ على تمكن الإسناد من شروط الصحة. ويندرُ تحقق أعلى الدرجات في جميع شروط الصحة . فالأولى الإمساكُ عن الحكم لإسناد بأنه أصح الأسانيد مطلقاً،
قال السيوطي رحمه الله(9):
" فالحُكم حينئذ على إسنادٍ مُعيَّن بأنَّه أصح على الإطلاق, مع عدم اتفاقهم ترجيح بغير مرجح.
__________
(1) - موطأ مالك(1628 ) 900/2 وهو صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (17657) صحيح
(3) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 2 / ص 425) فما بعدها
(4) - راجع التفاصيل في تحقيقي لكتاب ((رفع الملام عن الأئمة الأعلام)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .، وانظر شرح هذه القادعة بالتفصيل في كتابي (( الخلاصة في بيان أسباب اختلاف الفقهاء)) من ص 49-103، والكتابان في مكتبة صيد الفوائد وغيرها .
(5) -.تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 35)
(6) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 35)
(7) - قلت : وقد ورد من طرق طب 19/418 وأصفهان 2/40 و عدي 2/596 و 5/1863 و مجمع 1/149 و الاتحاف 4/117 و 7/558 و الشعب (9665) فالحديث حسن لغير
(8) - انظر تدريب الراوي جـ 1 ـ ص 75-76
(9) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 36) فما بعدها(1/40)
قال شيخ الإسلام- يعني الحافظ ابن حجر -: مع أنَّه يمكن للنَّاظر المُتقن ترجيح بعضها على بعض, من حيث حفظ الإمام الَّذي رجَّح وإتقانه, وإن لم يتهيأ ذلكَ على الإطلاق, فلا يخلُو النَّظر فيهِ من فائدة, لأنَّ مجموع ما نُقل عن الأئمة من ذلك يُفيد ترجيح التَّراجم الَّتي حَكمُوا لها بالأصحية, على ما لم يقع له حكم من أحد منهم.
وعِبَارة ابن الصَّلاح: ولهذا نَرَى الإمْسَاك عن الحكم لإسْنَادٍ أو حديثٍ بأنَّه أصحُّ على الإطلاق.
قال العَلائي: أمَّا الإسْنَادُ فقد صرَّح جَمَاعة بذلك, وأمَّا الحديث فلا يُحفظ عن أحد من أئمة الحديث, أنَّه قال: حديث كذا أصح الأحاديث على الإطْلاق, لأنَّه لا يَلْزم من كَوْن الإسْنَاد أصح من غيره, أن يَكُون المتن كذلك, فلأجل ذلكَ ما خاضَ الأئمة إلاَّ في الحُكم على الإسْنَاد.
وكأنَّ المُصَنِّف حذفهُ لذلك, لكن قال شيخ الإسْلام : سيأتي أنَّ من لازم ما قاله بعضهم: إنَّ أصح الأسَانيد ما رواه أحمد عن الشَّافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر, أن يكون أصح الأحاديث الحديث الَّذي رواه أحمد بهذا الإسناد, فإنَّه لم يرو في «مسنده» به غيره, فيَكُون أصح الأحاديث على رأي من ذهب إلى ذلك.
قلتُ: قد جزمَ بذلكَ العلائي نفسه في عَوَالي مالك, فقال في الحديث المذكُور: إنَّه أصح حديث في الدُّنيا.
وقيل أصحُّها مطلقا ما رواه أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزُّهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه, صرح بذلك ابن الصَّلاح(1).
مثال : كما في صحيح البخارى برقم (919 ) حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ « مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ » .
وقيل أصحُّها محمَّد ابن سيرين عن عَبيدة السَّلماني بفتح العين عن علي بن أبي طالب, وهو مَذْهب ابن المديني والفلاَّس وسُليمان بن حرب, إلاَّ أن سُليمان قال: أجودها أيُّوب السِّخْتياني عن ابن سيرين, وابن المديني: عبد الله بن عون عن ابن سيرين, حكاه ابن الصَّلاح.
كما في صحيح البخارى برقم (3707 ) حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْجَعْدِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - قَالَ: اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ ، فَإِنِّى أَكْرَهُ الاِخْتِلاَفَ حَتَّى يَكُونَ لِلنَّاسِ جَمَاعَةٌ ، أَوْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِى . فَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَلَى عَلِىٍّ الْكَذِبُ .
وقيل: أصحها سليمان الأعمش عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود وهو مذهب ابن معين, صرح به ابن الصَّلاح .
كما في سنن الترمذى برقم (395 ) حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ سَجْدَتَىِ السَّهْوِ بَعْدَ الْكَلاَمِ. قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ.
وقيل أصحها [الزُّهْري عن زين العابدين علي بن الحُسين عن أبيه الحُسين عن أبيه [علي] بن أبي طالب, حكاهُ ابن الصَّلاح عن أبي بكر بن أبي شيبة, والعِرَاقي عن عبد الرزاق .
كما في مسند أحمد برقم (585) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ كَتَبَ إِلَىَّ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِخَطِّى وَخَتَمْتُ الْكِتَابَ بِخَاتَمِى يَذْكُرُ أَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُمْ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عَلِىِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِىٍّ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ « أَلاَ تُصَلُّونَ ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِين قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ « (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلاً) ».
وقيل: أصحها مالك بن أنس عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر وهذا قول البُخَاري, وصدَّر العراقي به كلامه, وهو أمر تميل إليه النفوس وتنجذب إليه القلوب.
روى الخَطِيب في «الكفاية» عن يحيى بن بُكير أنَّه قال لأبي زرعة الرَّازي: يا أبا زرعة ليس ذا زعزعة عن زوبعة, إنَّما ترفع السِّتر فتنظر إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - والصَّحابة, حدثنا مالك عن نافع عن ابن عُمر.
فعَلَى هذا قيل عِبَارة ابن الصَّلاح : وبَنى الإمام أبو منصُور عبد القاهر بن طَاهر التَّميمي: أن أجل الأسَانيد الشَّافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر واحتجَّ بإجْمَاع أهل الحديث, على أنَّه لم يكن في الرُّواة عن مالك أجل من الشَّافعي.
وبنى بعض المُتأخرين على ذلك أنَّ أجلها رواية أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك, لاتفاق أهل الحديث على أنَّ أجل من أخذ عن الشَّافعي من أهل الحديث الإمام أحمد, وتُسمَّى هذه الترجمة سلسلة الذَّهب, وليسَ في «مُسنده» على كبره بهذه الترجمة سِوَى حديث واحد, وهو في الواقع أربعة أحاديث جمعها وسَاقها مساق الحديث الواحد, بل لم يقع لنَا على هذه الشريطة غيرها ولا خارج المسند.
كما في موطأ مالك برقم (230 ) وَحَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ».
وكما في صحيح ابن حبان برقم (6174 ) أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم ، قال : حدثنا حرملة بن يحيى ، قال : حدثنا الشافعي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « الحمى من فور جهنم ، فأطفئوها بالماء »
اعترضَ مَغْلطَاي على التميمي في ذكره الشَّافعي برواية أبي حنيفة عن مالك, إن نظرنا إلى الجلالة, وبابن وهب والقعنبي, إن نظرنا إلى الإتقان.
قال البَلْقِيني في «محاسن الاصْطلاح» : فأمَّا أبو حنيفة فهو وإن روى عن مالك كما ذكره الدَّارقُطْني, لكن لم تشتهر رِوَايته عنه كاشتهار رواية الشَّافعي, وأمَّا القَعْنبي وابن وهب فأين تقع رُتبتهما من رُتبة الشَّافعي.
وقال العِرَاقي, فيما رأيته بخطِّه: رواية أبي حنيفة عن مالك فيما ذكره الدَّارقطني في «غرائبه» وفي «المُدبج» ليست من روايته عن ابن عُمر, والمسألة مفروضة في ذلك, قال: نعم ذكر الخطيب حديثًا كذلك في الرِّواية عن مالك.
وقال شيخ الإسلام : أمَّا اعتراضه بأبي حنيفة فلا يَحْسُن لأنَّ أبا حنيفة لم تثبت روايته عن مالك, وإنَّما أوردها الدَّارقطني, ثمَّ الخطيب لروايتين وقعتا لهما عنه بإسنادين فيهما مقال, وأيضًا فإنَّ رواية أبي حنيفة عن مالك إنَّما هي فيما ذكرهُ في المُذاكرة, ولم يقصد الرِّواية عنه كالشَّافعي, الَّذي لازمه مُدَّة طويلة, وقرأ عليه «الموطأ» بنفسه.
وأمَّا اعتراضه بابن وهب والقَعْنبي, فقد قال الإمام أحمد: أنَّه سمع «الموطأ» من الشَّافعي بعد سَمَاعه له من ابن مهدي الرَّاوي عن مالك بكثرة, قال لأنِّي رأيتهُ فيه ثبتًا, فعلَّل إعادته لِسَماعه وتخصيصها بالشَّافعي بأمر يرجع إلى التثبت, ولا شكَّ أنَّ الشَّافعي أعلم بالحديث منهما.
قال: نعم أطلقَ ابن المَدِيني أنَّ القعنبي أثبتَ النَّاس في «الموطأ» والظَّاهر أنَّ ذلكَ بالنسبة إلى الموجودين عندَ إطلاق تلكَ المَقَالة, فإنَّ القعنبي عاشَ بعد الشَّافعي مُدَّة, ويؤيد ذلك مُعارضة هذه المَقَالة بمثلها, فقد قال ابن معين مثل ذلك في عبد الله بن يوسف التِّنيسي.
قال: ويُحتمل أن يَكُون وجه التقديم من جهة من سمع كثيرًا من «الموطأ» من لفظ مالك, بناء على أنَّ السَّماع من لفظ الشَّيخ أتقن من القِرَاءة عليه, وأمَّا ابن وهب فقد قال غير واحد: إنَّه غير جيد التحمُّل, فيحتاج إلى صحة النقل عن أهل الحديث, إن كان أتقن الرُّواة عن مالك, نعم كان كثير اللزوم له.
قال: والعَجَب من تَرْديد المُعترض من الأجلية والأتقنية, وأبو منصُور إنَّما عبَّر بأجل, ولا يشك أحد أنَّ الشَّافعي أجل من هؤلاء, لمَا اجتمع له من الصِّفات العَلِية المُوجبة لتقديمه, وأيضًا, فزيادة إتْقَانه لا يشك فيها من له علم بأخبار النَّاس, فقد كانَ أكابر المُحدِّثين يأتُونه فيُذَاكرونه بأحاديث أشكلت عليهم, فيبين لهم ما أشكل ويُوقفهم على علل غامضة, فيقُومون وهم يتعجبون, وهذا لا يُنازع فيه إلاَّ جاهل, أو مُتغافل.
قال: لكن إيراد كلام أبي منصور في هذا الفصل فيه نظر, لأنَّ المُراد بترجيح ترجمة مالك عن نافع عن ابن عمر على غيرها, إن كان المُراد به ما وقع في «الموطأ» فرواته فيه سواء من حيث الاشتراك في رواية تلك الأحاديث, ويتم ما عبَّر به أبو منصور من أنَّ الشافعي أجلهم, وإن كان المُراد به أعم من ذلك, فلا شكَّ أنَّ عند كثير من أصحاب مالك من حديثه خارج «الموطأ» ما ليس عند الشَّافعي, فالمُقَام على هذا مقام تأمُّل, وقد نُوزع في أحمد بمثل ما نُوزع في الشافعي من زيادة المُمَارسة والمُلازمة لغيره, كالرَّبيع مثلاً, ويُجَاب بمثل ما تقدَّم."
وقال السيوطي رحمه الله(2):
" ذكر المُصنِّف - يعني الإمام النووي رحمه الله - تبعًا لابن الصَّلاح في هذه المسألة خمسة أقوال, وبقي أقوال أُخر.
فقال حجَّاج بن الشَّاعر: أصح الأسانيد شُعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب, يعني عن شيوخه, هذه عبارة شيخ الإسلام في «نكته»
كما في صحيح البخارى (1292 ) حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ » .
وعبارة الحاكم : قال حجَّاج: اجتمع أحمد بن حنبل وابن معين وابن المَدِيني في جماعة معهم, فتذاكروا أجود الأسَانيد, فقال رجل منهم: أجود الأسانيد شُعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عامر أخي أم سلمة عن أم سلمة, ثمَّ نقل عن ابن معين وأحمد ما سبق عنهما.
كما في مسند أحمد (27368) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَامِرٍ أَخِى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. قَالَ فَرَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ
وقال ابن معين: عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس إسناد أثبت من هذا, أسنده الخطيب في «الكفاية»
كما في موطأ مالك(205 ) وَحَدَّثَنِى عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ إِذَا تَشَهَّدَتِ التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. 92/1
وكما في صحيح البخارى(872 ) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّى الصُّبْحَ بِغَلَسٍ فَيَنْصَرِفْنَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ ، لاَ يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ ، أَوْ لاَ يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا .
الغلس : ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح
قال شيخ الإسلام ابن حجر: فعلى هذا لابن معين قولان.
وقال سُليمان بن داود الشَّاذكوني : أصح الأسانيد يحيى بن أبي كثير, عن أبي سلمة عن أبي هُريرة.
كما في صحيح البخارى (1914 ) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِى كَثِيرٍ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ » .
وعن خلف بن هشام البَزَّار: قال سألتُ أحمد بن حنبل: أي الأسانيد أثبت؟ قال أيُّوب عن نافع عن ابن عمر, فإن كان من رواية حمَّاد بن زيد عن أيُّوب فيالكَ
كما في صحيح البخارى (589 ) حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أُصَلِّى كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِى يُصَلُّونَ ، لاَ أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّى بِلَيْلٍ وَلاَ نَهَارٍ مَا شَاءَ ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبَهَا .
قال ابن حجر: فلأحمد قولان.
وروى الحاكم في «مستدركه» عن إسْحَاق بن راهويه قال: إذا كان الرَّاوي عن عَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه ثقة, فهو كأيُّوب عن نافع عن ابن عُمر.
وهذا مُشعر بجلالة إسناد أيُّوب عن نافع عنده.
كما في سنن أبى داود (495 ) حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ - يَعْنِى الْيَشْكُرِىَّ - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ سَوَّارٍ أَبِى حَمْزَةَ - قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ سَوَّارُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو حَمْزَةَ الْمُزَنِىُّ الصَّيْرَفِىُّ - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ ».
وروى الخطيب في «الكِفَاية» عن وكيع قال: لا أعلم في الحديث شيئا أحسن إسْنَادًا من هذا: شعبة عن عَمرو بن مُرَّة عن مرة عن أبي موسى الأشْعَري
كما في صحيح البخارى (3769 ) حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُرَّةَ عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ » .
وقال ابن المُبَارك والعِجْلي: أرْجَح الأسَانيد وأحسنها: سُفيان الثَّوري عن منصُور عن إبراهيم عن عَلْقمة عن عبد الله بن مسعود, وكذلك رجَّحها النَّسائي.
كما في صحيح البخارى( 5943 ) حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ، مَا لِى لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ فِى كِتَابِ اللَّهِ .
المتفلجات : جمع متفلجة وهى التى تطلب الفلج وهو فرجة ما بين الثنايا والرباعيات -المتنمصات : جمع المتنمصة وهى التى تأمر بنتف الشعر من وجهها
الواشمات : الوشم أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر
وقال النَّسائي: أقْوَى الأسَانيد التي تُروى... فذكر منها الزُّهري عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن ابن عبَّاس عن عُمر.
كما في سنن الترمذى (1499 ) حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْخَلاَّلُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ :إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ وَإِنِّى خَائِفٌ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ فَيَقُولَ قَائِلٌ لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ وَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَبَلٌ أَوِ اعْتِرَافٌ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ورجَّح أبو حاتم الرَّازي ترجمة يحيى بن سعيد القَطَّان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عُمر.
كما في صحيح البخارى (1644 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ، وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ . فَقُلْتُ لِنَافِعٍ أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِى إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ قَالَ لاَ . إِلاَّ أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ .
وكذا رجَّح أحمد رِوَاية عُبيد الله عن نافع على رِوَاية مالك عن نافع.
ورجَّح ابن معين ترجمة يحيى بن سعيد عن عُبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة. "
كما في مسند أبي عوانة (2225 )حَدَّثَنَا الصَّائِغُ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنِي زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ بِلالا يُنَادِي بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، حَدَّثَنَا الصَّائِغُ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنِي يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بِمِثْلِهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَلا أَعْلَمُ إِلا قَالَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْا إِلا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا.
ــــــــــــــ
تخصيص القول بأصح الأسانيد(3)
" قال الحاكم : ينبغي تَخْصيص القول في أصح الأسَانيد بصحابي أو بلد مخصُوص, بأن يُقَال أصح إسناد فُلان أو الفُلانيين كذا, ولا يُعمم.
قال: فأصح أسانيد الصِّديق: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه.
كما في سنن الترمذى (2321 و2322) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ ».
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِى خَالِدٍ نَحْوَهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ . وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَأَوْقَفَهُ بَعْضُهُمْ.
وأصح أسانيد عُمر: الزُّهري عن سالم عن أبيه عن جدِّهِ.
كما في سنن أبى داود(3251) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَهُ وَهُوَ فِى رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ « إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَسْكُتْ ».
(3252 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ مَعْنَاهُ إِلَى « بِآبَائِكُمْ ». زَادَ قَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا حَلَفْتُ بِهَذَا ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا.
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 1) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 2) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 1) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 41و45) والكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 385) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 15) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 35)
(2) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 40)
(3) - انظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 42)(1/41)
وقال ابن حزم: أصح طريق يُروى في الدُّنيا عن عُمر: الزُّهْري عن السَّائب بن يزيد عنه.
كما في مسند أحمد (16126) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنِى الزُّبَيْدِىُّ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقَصُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ أَبِى بَكْرٍ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ تَمِيماً الدَّارِىَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّاس قَائِماً فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ.
قال الحاكم: وأصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي, إذا كان الرَّاوي عن جعفر ثقة.
كما في السنن الكبرى للبيهقي (ج 10 / ص 170)(21165) وَقِيلَ عَنْ شَبَابَةَ كَمَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْعَلَوِىُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَقَضَى بِهِ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعِرَاقِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حُسَيْنُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
هذه عبارة الحاكم, ووافقه من نقلها, وفيها نظر, فإنَّ الضمير في جده إن عاد إلى جعفر فجده عليِّ لم يسمع من علي بن أبي طالب, أو إلى محمَّد فهو لم يسمع من الحُسين.
وحكى الترمذي في الدَّعوات عن سليمان بن داود أنَّه قال في رواية الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي: هذا الإسناد مثل الزُّهْري عن سالم عن أبيه.
كما في سنن أبى داود (1511 ) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ عَمِّهِ الْمَاجِشُونَ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ».
ثمَّ قال الحاكم : وأصح أسانيد أبي هُريرة: الزُّهْري عن سعيد بن المسيب عنه.
كما في صحيح البخارى(536 ) حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ » .
وروى قبل عن البُخَاري: أبو الزِّناد عن الأعرج عنه.
كما في صحيح البخارى(14) حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ » .
وحكى غيره عن ابن المديني: من أصح الأسانيد حماد بن زيد عن أيُّوب عن محمَّد بن سيرين عن أبي هُرَيْرة.
كما في صحيح البخارى (1219 ) حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ نُهِىَ عَنِ الْخَصْرِ فِى الصَّلاَةِ . وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلاَلٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - .
قال: وأصح أسانيد ابن عُمر: مالك عن نافع عنه.
كما في موطأ مالك (21 ) حَدَّثَنِى يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الَّذِى تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ ».
وأصح أسانيد عائشة: عُبيد الله بن عُمر عن القاسم عنها. قال ابن معين: هذه ترجمة مُشَبكة بالذَّهب.
كما في صحيح البخارى(623 ) وَحَدَّثَنِى يُوسُفُ بْنُ عِيسَى الْمَرْوَزِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ « إِنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ » .
قال: ومن أصح الأسانيد أيضًا الزُّهْري عن عروة بن الزُّبير عنها.
كما في صحيح البخارى (250 ) حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ .
وقد تقدَّم عن الدَّارمي قول آخر.
وأصح أسانيد ابن مسعود: سُفيان الثَّوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه.
كما في مسند أحمد (3636) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَهُمَا بَعْدَ السَّلاَمِ. وَقَالَ مَرَّةً إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ فِى السَّهْوِ بَعْدَ السَّلاَمِ.
وأصح أسانيد أنس: مالك عن الزُّهْري عنه.
كما في صحيح البخارى (5808) حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ . المغفر : ما يلبسه المقاتل على رأسه
قال شيخ الإسلام : وهذا مِمَّا يُنازع فيه, فإنَّ قتادة وثابتًا البُنَاني أعرف بحديث أنس عن الزُّهْري, ولهُمَا من الرُّواة جماعة, فأثبت أصْحَاب ثابت: حماد بن زيد,
كما في صحيح البخارى (200 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأُتِىَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ . قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ، قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ .
وكما في صحيح مسلم(873 ) وَحَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِى ابْنَ سَعِيدٍ - عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُغِيرُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَكَانَ يَسْتَمِعُ الأَذَانَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِلاَّ أَغَارَ فَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى الْفِطْرَةِ ». ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ ». فَنَظَرُوا فَإِذَا هُوَ رَاعِى مِعْزًى.
وقيل: حمَّاد بن سلمة, وأثبت أصحاب قتادة: شعبة, وقيل: هشام الدَّستوائي.
كما في صحيح البخارى (21 ) حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ »
وقال البَزَّار : رواية عليِّ بن الحسين بن علي عن سعيد بن المُسيب عن سعد بن أبي وقَّاص, أصح إسناد يُروى عن سعد.
كما في مسند البزار (1065)حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقُرَشِيُّ ، قَالَ : ثنا يُوسُفُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعْدٍ ، قَالَ سَعِيدٌ : ثُمَّ لَقِيتُ سَعْدًا فَحَدَّثَنِي ، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعَلِيٍّ : أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي.
وَلاَ نَعْلَمُ رَوَى ابْنُ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ سَعْدٍ ، إِلاَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَلاَ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، إِلاَّ يُوسُفُ الْمَاجِشُونُ وَقَدْ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ سَعْدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادٍ يُرْوَى عَنْ سَعْدٍ. (1066) حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ صَاحِبُ السَّابِرِيِّ قَالَ : ثنا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ ، قَالَ : ثنا إِسْرَائِيلُ ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ سَعْدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِنَحْوِهِ
ــــــــــــــ
أصح أسانيد البلدان(1)
"قال أحمد بن صالح المصري : أثبت أسانيد أهل المدينة: إسْمَاعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سُفيان عن أبي هُرَيْرة.
كما في صحيح مسلم (5101 ) وَحَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ - يَعْنِى ابْنَ مَهْدِىٍّ - عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِى حَكِيمٍ عَنْ عَبِيدَةَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« كُلُّ ذِى نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ ».
قال الحاكم : وأصح أسَانيد المَكِّيين: سُفيان بن عُيينة عن عَمرو بن دينار عن جابر.
كما في صحيح البخارى(5853 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِزَارٌ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَعْلاَنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ" .
وأصح أسَانيد اليَمَانين: مَعْمَر عن همَّام عن أبي هُريرة.
كما في صحيح البخارى (42 )حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا » .
وأثبت أسانيد المصريين: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عُقْبة بن عامر.
كما في صحيح البخارى (2500 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ عَنْ أَبِى الْخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا ، فَبَقِىَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « ضَحِّ بِهِ أَنْتَ » . العتود : صغير المعز إذا قوى وأتى عليه الحول
وينبغي أن يضاف له عبد الله بن عمرو
كما في صحيح البخارى (28 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى حَبِيبٍ عَنْ أَبِى الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ قَالَ « تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ »
وأثبت أسانيد الخُرَاسانيين: الحسين بن واقد عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه.
كما في سنن الترمذى (2830 ) حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ وَيُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالاَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِيهِ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالاَ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ ». وَفِى الْبَابِ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وأثبت أسانيد الشَّاميين: الأوزاعي عن حسَّان بن عَطِية عن الصَّحابة.
كما في صحيح البخارى (2631 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِىُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِى كَبْشَةَ السَّلُولِىِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلاَهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ » . قَالَ حَسَّانُ فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً .
قال شيخ الإسْلام ابن حجر : ورجَّح بعض أئمتهم رِوَاية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخَوْلاني عن أبي ذر.
كما في صحيح مسلم(6737 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِىُّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِى ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِىَّ - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ». قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.(( وهو أصح حديث يرويه اهل الشام ))
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ليسَ بالكُوفة أصح من هذا الإسْنَاد: يحيى بن سعيد القطَّان عن سُفيان الثَّوري عن سُليمان التيمي عن الحارث بن سُويد عن علي.
كما في صحيح البخارى(5594 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِى سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ . حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا .
وكان جَمَاعة لا يُقدِّمُون على حديث الحِجَاز شيئا حتَّى قال مالك: إذا خرج الحديث عن الحجاز انقطع نُخَاعه.
وقال الشَّافعي : إذا لم يُوجد للحديث من الحجاز أصل ذهب نُخَاعه, حكاهُ الأنْصَاري في كتاب «ذم الكلام».
وعنه أيضًا : كل حديث جاء من العِرَاق, وليسَ له أصل في الحجاز, فلا يُقبل وإن كان صحيحًا, ما أُريد إلاَّ نصيحتك.
قلت : هذا فيه نظر ، وذلك لأن بعض الصحابة رحل للعراق ولم يرجع للحجاز ، فغالب حديثهم في العراق ، فكيف يقال عنه ذلك ؟!!
وقال مِسْعر: قلتُ لحبيب بن أبي ثابت: أيُّما أعلم بالسُّنة, أهل الحجاز, أم أهل العراق؟ فقال: بل أهل الحِجَاز.
وقال الزُّهْري إذا سمعت بالحديث العِرَاقي فأورد به, ثمَّ أورد به.
وقال طاووس: إذا حدَّثك العراقي مئة حديث, فاطرح تسعة وتسعين.
وقال هِشَام بن عُروة: إذَا حدَّثك العِرَاقي بألف حديث, فألق تسع مئة وتسعين وكُن من الباقي في شك.
وقال الزُّهْري: إنَّ في حديث أهل الكُوفة دغلا كثيرًا.
وقال ابن المُبَارك: حديث أهل المدينة أصح, وإسنادهم أقرب.
قلت : هذا هو الراجح ، وفي الآراء التي قبله مبالغة ، وذلك لكثرة الكذب والبدع في العراق آنذاك
وقال الخطيب: أصح طُرق السُّنن ما يرويه أهل الحرمين مكَّة والمَدِينة, فإن التَّدليس عنهم قليل, والكذب ووضع الحديث عندهم عزيز.
ولأهل اليمن روايات جيدة وطرق صحيحة, إلاَّ أنَّها قليلة, ومرجعها إلى أهل الحجاز أيضًا.
ولأهل البَصْرة من السُّنن الثابتة بالأسانيد الواضحة, ما ليسَ لغيرهم مع إكثارهم.
والكُوفيون مثلهم في الكَثْرة, غير أنَّ رواياتهم كثيرة الدَّغل, قليلة السَّلامة مع العلل.
وحديث الشَّاميين أكثره مراسيل ومَقَاطيع, وما اتَّصل منهُ مِمَّا أسندهُ الثِّقات, فإنَّه صالح, والغالبُ عليه ما يتعلق بالمواعظ.
وقال ابن تيمية: اتَّفق أهل العلم بالحديث على أنَّ أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة, ثمَّ أهل البَصْرة ثمَّ أهل الشَّام.(2)
وقال أبو بكر البَرْديجي(3):
__________
(1) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 43) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 255)
(2) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 36) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 44)
(3) - البَرْدِيْجِيُّ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ هَارُوْنَ بنِ رَوْحٍ الإِمَامُ، الحَافِظُ، الحُجَّةُ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ هَارُوْنَ بنِ رَوْحٍ البَرْدِيْجِيُّ، البَرْذَعِيُّ، نَزِيْلُ بَغْدَادَ.وُلِدَ:بَعْدَ الثَّلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ أَوْ قَبْلَهَا.
حَدَّثَ عَنْ:أَبِي سَعِيْدِ الأَشَجِّ، وَنَصْرِ بنِ عَلِيٍّ الجَهْضَمِيِّ، وَالفَضْلِ الرُّخَامِيِّ، وَعَلِيِّ بنِ إِشْكَاب، وَهَارُوْنَ بنِ إِسْحَاقَ، وَبَحْرِ بنِ نَصْرٍ الخَوْلاَنِيِّ، وَالرَّبِيْعِ بنِ سُلَيْمَانَ، وَسُلَيْمَانَ بنِ سَيْفٍ الحَرَّانِيِّ، وَالعَبَّاسِ بنِ الوَلِيْدِ البَيْرُوْتِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ المَلِكِ الدَّقِيْقِيِّ، وَمُحَمَّدِ بنِ عَوْفٍ الطَّائِيِّ، وَيَزِيْدَ بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَطَبَقَتهِم بِالشَّامِ، وَالحَرَمَيْنِ، وَالعَجَمِ، وَمِصْرَ، وَالعِرَاقِ، وَالجَزِيْرَةِ.
وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَبَرَعَ فِي عِلْمِ الأَثَرِ.
حَدَّثَ عَنْهُ:أَبُو عَلِيٍّ بنُ الصَّوَّافِ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو أَحْمَدَ العَسَّالُ، وَأَبُو أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ، وَأَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، وَعَلِيُّ بنُ لُؤْلُؤٍ الوَرَّاقُ، وَآخَرُوْنَ.
ذَكَرَهُ الحَاكِمُ فِي(تَارِيْخِهِ) فَقَالَ:قَدِمَ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، فَاسْتفَادَ وَأَفَادَ، وَكَتَبَ عَنْهُ مَشَايخُنَا فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَقَدْ قَرَأْت بِخَطّ أَبِي عَمْرٍو المُسْتَمْلِي سَمَاعَهُ مِنْ أَحْمَدَ بنِ هَارُوْنَ البَرْدِيْجِيِّ فِي مَسْجِدِ الذُّهْلِيِّ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ شَيْخُنَا أَبُو عَلِيٍّ الحَافِظُ بِمَكَّةَ، وَأَظُنُّهُ جَاوَرَ بِهَا حَتَّى مَاتَ...إِلَى أَنْ قَالَ:لاَ أَعْرِفُ إِمَاماً مِنْ أَئِمَّةِ عَصْرِهِ فِي الآفَاقِ إِلاَّ وَلَهُ عَلَيْهِ انتِخَابٌ يُسْتَفَادُ.قَالَ حَمْزَةُ السَّهْمِيُّ:سَأَلْتُ الدَّارَقُطْنِيَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ البَرْدِيْجِيِّ، فَقَالَ:ثِقَةٌ، مَأْمُوْنٌ، جَبَلٌ.وَقَالَ الخَطِيْبُ:كَانَ ثِقَةً فَاضِلاً فَهْماً، حَافِظاً.قَالَ أَبُو الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ:مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاَثِ مائَةٍ بِبَغْدَادَ.وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ:مَاتَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ إِحْدَى.سير أعلام النبلاء (14/123)( 66 )(1/42)
أجْمَعَ أهل النَّقل على صِحَّة أحاديث الزُّهْري عن سَالم عن أبيه, وعن سعيد بن المُسيب عن أبي هُرَيْرة من رواية مالك وابن عُيينة ومَعْمر والزُّبيدي ويُونس وعُقيل ما لَمْ يختلفوا, فإذا اختلفوا تُوقف فيه.
قال شيخ الإسلام: وقضية ذلك أن يجري هذا الشَّرط في جميع ما تقدَّم, فيُقال: إنَّما يُوصف بالأصحية حيث لا يكون هناك مانع من اضْطراب أو شذوذ.
هذا وقد جمع الحافظ أبو الفضل العِرَاقي في الأحاديث الَّتي وقعت في «المسند» لأحمد و«الموطأ» بالتراجم الخمسة التي حكاها المُصنِّف, وهي المُطْلقة وبالتراجم الَّتي حَكَاها الحاكم, وهي المُقَيدة, ورتَّبها على أبواب الفِقْهِ وسمَّاها «تقريب الأسَانيد».
قال شيخ الإسْلام: وقد أخْلَى كثيرًا من الأبواب, لكونه لم يجد فيها تلك الشريطة, وفاتهُ أيضًا جُملة من الأحاديث على شرطهِ, لكونهِ تقيَّد بالكِتَابين للغرضِ الَّذي أرادهُ من كون الأحاديث المذكُورة تصير مُتَّصلة الأسانيد مع الاختصار البالغ, قال: ولو قدر أن يتفرَّغ عارف لجمع الأحاديث الواردة بجميع التراجم المذكُورة من غير تقييد بكتاب, ويضم إليها التَّراجم المزيدة عليه, لجَاء كتابًا حافلاً حاويًا لأصح الصَّحيح."
ــــــــــــــ
أصحُّ الأحاديث المُقيَّدة(1)
" "أصح الأحاديث المُقيدة, كقولهم: أصح شيء في الباب كذا, وهو كثير في الأبواب التي وردت فيها الأحاديث المختلفة .
كما في المستدرك للحاكم (1559) أَخْبَرَنَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَرُوبَةَ الصَّفَّارُ بِبَغْدَادَ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ ، وَحدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ ، وَعَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذَ الْعَدْلُ ، قَالاَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، أَخْبَرَنِي أَبُو قِلابَةَ ، أَنَّ أَبَا أَسْمَاءَ الرَّحَبِيَّ حَدَّثَهُ ،عن أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي فِي الْبَقِيعِ فِي رَمَضَانَ إِذْ رَأَى رَجُلا يَحْتَجِمُ ، فَقَالَ : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ ، وَالْمَحْجُومُ ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ "(2)
وفي المستدرك للحاكم(1561)(3)عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفْطَرَ الْحَاجِمُ ، وَالْمَحْجُومُ وَفِي حَدِيثِ إِسْحَاقَ الدَّبَرِيِّ وَالْمُسْتَحْجِمُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ ، سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْعَظِيمِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ ، يَقُولُ : لاَ أَعْلَمُ فِي الْحَاجِمِ ، وَالْمَحْجُومِ حَدِيثًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا.
وفي سنن الترمذى (84 ) وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَلِىُّ بْنُ حُجْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَهُ. وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ الأَوْزَاعِىُّ وَالشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَصَحُّ شَىْءٍ فِى هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ بُسْرَةَ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ فِى هَذَا الْبَابِ صَحِيحٌ وَهُوَ حَدِيثُ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَمْ يَسْمَعْ مَكْحُولٌ مِنْ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَنْبَسَةَ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحًا..
وفي سنن الترمذى (1 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ح وَحَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ(4)». قَالَ هَنَّادٌ فِى حَدِيثِهِ « إِلاَّ بِطُهُورٍ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ شَىْءٍ فِى هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ. وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِى هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ.
وفي سنن الترمذى (3 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ قَالُوا حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِىٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِىٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ شَىْءٍ فِى هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ هُوَ صَدُوقٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَالْحُمَيْدِىُّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِى سَعِيدٍ.
وفي سنن الترمذي (5 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ وَهَنَّادٌ قَالاَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ قَالَ شُعْبَةُ وَقَدْ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبِيثِ أَوِ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ عَلِىٍّ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَجَابِرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَنَسٍ أَصَحُّ شَىْءٍ فِى هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ.
وفي سنن الترمذي (32 ) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِىُّ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ وَعَائِشَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَصَحُّ شَىْءٍ فِى هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وهذه العبارة لا تفيد صحة الحديث عند قائلها ، لكن فائدتها أن جميع ما سوى ذلك الحديث عند الناقد صاحب العبارة فهو دونه في القوة ، ففيها إذا الإشارة إلى منزلة سائر الأحاديث في الباب .
والناقد يقول العبارة فيه قد يخالفه فيها غيره من النقاد ، كما بين عبارة أحمد بن حنبل وابن المديني في شأن أصح شيء في الحاجم والمحجوم ، إذ كل منهما قال غير مقالة الآخر ، ولكن المقصود أن يحيط المعتني بتمييز علل الحديث بمثل هذا كما يحيط بأقاويلهم في بيان أحوال النقلة ، ويعمل على تحرير الراجح منها ."(5)
وقال النووي في «الأذكار»(6): " بلغنا عن الإمام الحافظ أبي الحسن الدارقطني رحمه الله أنه قال : أصح شئ في فضائل السور ، فضل : (قل هو الله أحد) وأصح شئ في فضائل الصلوات فضل صلاة التسبيح ، وقد ذكرت هذا الكلام مسندا في كتاب " طبقات الفقهاء " في ترجمة أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني ، ولا يلزم من هذه العبارة أن يكون حديث صلاة التسبيح صحيحا(7)، فإنهم يقولون : هذا أصح ما جاء في الباب ، وإن كان ضعيفا ، ومرادهم أرجحه وأقله ضعفا"
ــــــــــــــ
8- ما هو أول مصَنَّف في الصحيح المجَرَّدِ ؟
أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري . ثم صحيح مسلم . وهما أصح الكتب بعد القرآن الكريم ، وقد أجمعت الأمة على تلقي كتابيهما بالقَبول .
أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ (ت، س)ابْنِ المُغِيْرَةِ بنِ بَرْدِزْبَه، وَقِيْلَ: بَذْدُزْبَه، وَهِيَ لَفْظَةٌ بخَارِيَّةٌ، معنَاهَا الزرَّاعُ.
أَسلَمَ المُغِيْرَةُ عَلَى يَدِي اليَمَان الجُعْفِيِّ وَالِي بُخَارَى، وَكَانَ مَجُوْسِيّاً، وَطَلَبَ إِسْمَاعِيْلُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ العِلْمَ.
وُلِدَ أَبُو عَبْدِ اللهِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ وَمائَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ فِيْمَا أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ الفَقِيْهُ سنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّ مائَةٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ البَاقِي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللهِ بنُ الحَسَنِ الحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَفْصٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ الفَضْلِ البَلْخِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: ذهبَتْ عينَا مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فِي صِغَرِهِ فرأَتْ وَالِدتُهُ فِي المَنَامِ إِبْرَاهِيْمَ الخَلِيْلَ - عَلَيْهِ السَّلاَم - فَقَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ، قَدْ رَدَّ اللهُ عَلَى ابْنِكِ بصرَهُ لكَثْرَةِ بُكَائِكِ، أَوْ كَثْرَةِ دُعَائِكِ - شكَّ البَلْخِيُّ - فَأَصْبحْنَا وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بصرَهُ.
وبَالسَّندِ المَاضِي إِلَى مُحَمَّدِ بنِ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمرِكَ؟
قَالَ: أُلْهِمْتُ حِفْظَ الحَدِيْثِ وَأَنَا فِي الكُتَّابِ.
فَقُلْتُ: كم كَانَ سِنُّكَ؟
فَقَالَ: عشرُ سِنِيْنَ، أَوْ أَقَلّ، ثُمَّ خرجْتُ مِنَ الكُتَّابِ بَعْد العشرِ، فَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ إلى الدَّاخلِيِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ يَوْماً فِيْمَا كَانَ يَقْرَأُ لِلنَّاسِ: سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْوِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ.
فَانْتَهَرنِي، فَقُلْتُ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى الأَصْلِ فَدَخَلَ فنظَرَ فِيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ هُوَ يَا غُلاَمُ؟
قُلْتُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بنُ عَدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، فَأَخَذَ القلمَ مِنِّي، وَأَحْكَمَ كِتَابَهُ، وَقَالَ: صدقْتَ.
فَقِيْلَ لِلْبُخَارِيِّ: ابْنُ كَمْ كُنْتَ حِيْنَ رددتَ عَلَيْهِ؟
قَالَ: ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، كُنْتُ قَدْ حفظتُ كتبَ ابْنِ المُبَارَكِ وَوَكِيْعٍ، وَعرفتُ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ، ثُمَّ خرجْتُ مَعَ أُمِّي وَأَخِي أَحْمَدَ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي بِهَا! وَتخلَّفْتُ فِي طلبِ الحَدِيْثِ.
ذِكْرُ تسمِيَة شُيوخِهِ وَأَصْحَابِهِ
سَمِعَ بِبُخَارَى و ثُمَّ سَمِعَ ببلخٍ وبِنَيْسَابُوْرَ وبِبَغْدَادَ وبِالبَصْرَةِ وبِالْكُوْفَةِ وَبِمَكَّةَ وبَالمَدِيْنَةِ وبمصرَ وبَالشَّامِ
رَوَى عَنْهُ خلقٌ كَثِيْرٌ.....
وعَنْ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرَبْرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُوْلُ: سَمِعَ كِتَابَ (الصَّحِيْحِ) لِمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ تِسْعُوْنَ أَلفَ رَجُلٍ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ يَرْوِيْهِ غَيْرِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ طَاهِرٍ المَقْدِسِيُّ: رَوَى (صَحِيْحَ) البُخَارِيِّ جَمَاعَةٌ، مِنْهُم: الفِرَبْرِيُّ، وَحَمَّادُ بنُ شَاكِرٍ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنَ مَعْقِلٍ، وَطَاهرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَخْلَدٍ النَّسَفِيَان.
وَقَالَ الأَمِيْرُ الحَافِظُ أَبُو نَصْرٍ بنُ مَاكُوْلا: آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ البُخَارِيِّ بـ (الصَّحِيْحِ) أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُوْرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ البَزْدِيُّ مِنْ أَهْلِ بَزْدَةَ.
وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
وَأَمَّا الصَّحِيْحُ فَهُوَ أَعْلَى مَا وَقَعَ لَنَا مِنَ الكُتُبِ السِّتَّةِ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعْتُ الحَدِيْثَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ.
فَمَا ظَنُّكَ بعلُوِّهِ اليَوْمَ وَهُوَ سنَة خَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعَ مائَةٍ!! لَوْ رحلَ الرَّجُلُ مِنْ مسيرَةِ سَنَةٍ لسَمَاعِهِ لمَا فَرَّطَ.
كَيْفَ وَقَدْ دَامَ عُلُوُّهُ إِلَى عَامِ ثَلاَثِيْنَ، وَهُوَ أَعْلَى الكُتُبِ السِّتَّةِ سَنَداً إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شَيْءٍ كَثِيْرٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ، وَذَلِكَ لأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ أَسنُّ الجَمَاعَةِ، وَأَقْدَمُهُم لُقِيّاً لِلْكبارِ، أَخَذَ عَنْ جَمَاعَةٍ يَرْوِي الأَئِمَّةُ الخمسَةُ، عَنْ رجلٍ عَنْهُم.
ذِكْرُ رِحلتِهِ وَطَلَبِهِ وَتَصَانِيْفِهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ البُخَارِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: حَجَجْتُ، وَرَجَعَ أَخِي بِأُمِّي، وَتخلَّفْتُ فِي طلبِ الحَدِيْث فَلَمَّا طَعنْتُ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ، جَعَلتُ أُصَنِّفُ قضَايَا الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَأَقَاويلَهُم، وَذَلِكَ أَيَّامَ عُبَيْدِ اللهِ بنِ مُوْسَى.
وصنَّفْتُ كِتَابَ (التَّارِيْخِ) إِذْ ذَاكَ عِنْدَ قَبْرِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي اللَّيَالِي المُقْمِرَةِ، وَقَلَّ اسْمٌ فِي التَّارِيْخِ إِلاَّ وَلَهُ قِصَّةٌ، إِلاَّ أَنِّي كَرِهْتُ تطويلَ الكِتَابِ.
وعن أبي الهَيْثَمِ الكُشْمِيهَنِيِّ، سَمِعْتُ الفِرَبْرِيَّ يَقُوْلُ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ: مَا وضعتُ فِي كِتَابِي (الصَّحِيْحِ) حَدِيْثاً إِلاَّ اغتسلتُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ.
وعن إِبْرَاهِيْمَ بنِ مَعْقِلٍ قالَ : سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: مَا أَدخلتُ فِي هَذَا الكِتَابِ إِلاَّ مَا صَحَّ، وَتركتُ مِنَ الصِّحَاحِ كِي لاَ يطولَ الكِتَابُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ بَغْدَادَ آخِرَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ، فِي كُلِّ ذَلِكَ أُجَالِسُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، فَقَالَ لِي فِي آخِرِ مَا وَدَّعْتُهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، تدعُ العِلْمَ وَالنَّاسَ، وَتصِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ؟! قَالَ: فَأَنَا الآنَ أَذْكُرُ قَوْلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ عَبْدَ القُدّوسِ بنَ هَمَّامٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ عِدَّةً مِنَ المَشَايِخِ، يَقُوْلُوْنَ: حَوَّلَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ ترَاجِمَ جَامِعِهِ بَيْنَ قَبْرِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمِنْبَرِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكُلِّ تَرْجَمَةٍ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَالَ:.... سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: صنّفْتُ (الصَّحِيْحَ) فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَعَلتُهُ حُجَّةً فِيْمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ مُحَمَّد: سَمِعْتُ النَّجْمَ بنَ الفُضَيْل يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ، كَأَنَّهُ يَمْشِي، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يَمْشِي خَلْفَهُ، فَكُلَّمَا رَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَمَهُ، وضعَ مُحَمَّدُ بنُ إِسمَاعيلَ قدَمَهُ فِي المكَانِ الَّذِي رَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَمَهُ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ الدُّوْرِيَّ يَقُوْلُ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً يُحْسِنُ طلبَ الحَدِيْثِ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، كَانَ لاَ يدعُ أَصْلاً وَلاَ فرعاً إِلاَّ قَلَعَهُ.
ثُمَّ قَالَ لَنَا: لاَ تَدَعُوا مِنْ كَلاَمِهِ شَيْئاً إِلاَّ كَتَبْتُمُوهُ.
ذِكْرُ حِفْظِهِ وَسَعَةِ عِلْمِهِ وَذَكَائِهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ غُنْجَار فِي (تَارِيْخِ بُخَارَى): سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ مُحَمَّدٍ المُقْرِئَ، سَمِعْتُ مَهِيبَ بنَ سُلَيْمٍ، سَمِعْتُ جَعْفَر بنَ مُحَمَّدٍ القَطَّانَ إِمَامَ كرمِيْنيَةَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْل يَقُوْلُ: كَتَبْتُ عَنْ أَلفِ شَيْخٍ وَأَكْثَر، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم عَشْرَةُ آلاَفٍ وَأَكْثَر، مَا عِنْدِي حَدِيْثٌ إِلاَّ أَذكُرُ إِسْنَادَهُ.
قَالَ غُنْجَارٌ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عِمْرَانَ الجُرْجَانِيُّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ مُحَمَّدٍ البُخَارِيَّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: لَقِيْتُ أَكْثَرَ مِنْ أَلفِ رَجُلٍ أَهْلِ الحِجَازِ وَالعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، لَقِيتُهُم كَرَّاتٍ، أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالجَزِيْرَةِ مرَّتينِ، وَأَهْلِ البَصْرَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبَالحِجَازِ سِتَّة أَعْوَامٍ، وَلاَ أُحْصِي كم دَخَلْتُ الكُوْفَةَ وَبَغْدَادَ مَعَ مُحَدِّثِي خُرَاسَانَ، مِنْهُمُ: المَكِّيُّ بنُ إِبْرَاهِيْمَ، وَيَحْيَى بنُ يَحْيَى، وَابْنُ شَقِيقٍ، وَقُتَيْبَةُ، وَشِهَابُ بنُ معمرٍ، وَبَالشَّامِ: الفِرْيَابِيُّ، وَأَبَا مُسْهِرٍ، وَأَبَا المُغِيْرَةِ، وَأَبَا اليَمَانِ، وَسَمَّى خلقاً.
ثُمَّ قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ وَاحِداً مِنْهُم يَخْتلِف فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ أَنَّ الدِّيْنَ قَوْلٌ وَعملٌ، وَأَنَّ القُرْآنَ كَلاَمُ اللهِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَدِيٍّ الحَافِظُ: سَمِعْتُ عِدَّةَ مَشَايِخٍ يحكُوْن أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ قَدِمَ بَغْدَادَ، فسَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ الحَدِيْثِ، فَاجْتَمَعُوا وَعَمَدُوا إِلَى مائَةِ حَدِيْثٍ، فَقلبُوا مُتونهَا وَأَسَانِيْدَهَا، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ هَذَا، وَإِسْنَادَ هَذَا المَتْنِ هَذَا، وَدفعُوا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَشْرَةَ أَحَادِيْثَ ليُلْقُوهَا عَلَى البُخَارِيِّ فِي المَجْلِسِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَانتَدبَ أَحَدُهُم، فَسَأَلَ البُخَارِيَّ عَنْ حَدِيْثٍ مِنْ عَشَرتِهِ، فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُهُ.وَسَأَلَهُ عَنْ آخر، فَقَالَ: لاَ أَعرِفُهُ.كَذَلِكَ حَتَّى فرغَ مِنْ عشرتِهِ.فَكَانَ الفقهَاءُ يَلْتَفِتُ بَعْضهُم إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُوْلُوْنَ: الرَّجُلَ فَهِمَ.
وَمَنْ كَانَ لاَ يَدْرِي قضَى عَلَى البُخَارِيِّ بِالعجزِ، ثُمَّ انتدبَ آخرُ، فَفَعَلَ كَمَا فعلَ الأَوَّلُ.وَالبُخَارِيُّ يَقُوْلُ: لاَ أَعرِفُهُ.
ثُمَّ الثَّالِثَ وَإِلَى تمَام العشرَةِ أَنفسٍ، وَهُوَ لاَ يزيدُهُم عَلَى: لاَ أَعرِفُهُ.
فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُم قَدْ فرغُوا، التفتَ إِلَى الأَوَّلِ مِنْهُم، فَقَالَ: أَمَّا حَدِيْثُكَ الأَوَّلُ فكذَا، وَالثَّانِي كَذَا، وَالثَّالِثُ كَذَا إِلَى العشرَةِ، فردَّ كُلَّ متنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ.
وَفعلَ بِالآخرينَ مِثْلَ ذَلِكَ.فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالحِفْظِ.فَكَانَ ابْنُ صَاعِدٍ إِذَا ذكرَهُ يَقُوْلُ: الكبشُ النَّطَّاحُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: مَا نمتُ البَارِحَةَ حَتَّى عَدَدْتُ كم أَدْخَلْتُ مُصَنَّفَاتِي مِنَ الحَدِيْثِ، فَإِذَا نَحْوُ مئَتَي أَلفِ حَدِيْثٍ مُسْنَدَةٍ.
وسَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: لاَ أَعْلَمُ شَيْئاً يُحتَاجُ إِلَيْهِ إِلاَّ وَهُوَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَقُلْتُ لَهُ: يُمكنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ كُلِّهُ.قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ القُومسِيُّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ خميرويه، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: أَحفَظُ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ صَحِيْحٍ، وَأَحفَظُ مَائَتَي أَلفِ حَدِيْثٍ غَيْرِ صَحِيْحٍ.
ذِكْرُ ثَنَاءِ الأَئِمَّةِ عَلَيْهِ
قَالَ أَبوجعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِي يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ: كُلَّمَا دَخَلَ عليَّ هَذَا الصَّبِيُّ تحيَّرْتُ، وَألبسَ عليَّ أَمر الحَدِيْثِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ أَزَالُ خَائِفاً مَا لَمْ يَخْرُجْ.
قَالَ أَبُو جعفرٍ: سَمِعْتُ أَبَا عُمُرَ سُلَيمُ بنُ مُجَاهِدٍ يَقُوْلُ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ سَلاَمٍ البِيْكَنْدِيِّ، فَقَالَ: لَوْ جِئْتَ قَبْلُ لرَأَيْتَ صَبِيّاً يَحْفَظُ سَبْعِيْنَ أَلفِ حَدِيْثٍ.
__________
(1) - انظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 45)
(2) - سنن أبى داود (2369) وأخرجه الحاكم في " المستدرك " ( 1 / 427 بعد رقم : 1559 ) وإسناده صحيح
(3) - وهو حديث صحيح
(4) - الغلول : السرقة من الغنيمة قبل أن تقسم
(5) - تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 94)
(6) - الأذكار للنووي - (ج 1 / ص 186) و قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 38) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 45)
(7) - بل هو صحيح لغيره(1/43)
قَالَ: فَخَرَجتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى لَحِقْتُهُ.
قَالَ: أَنْتَ الَّذِي يَقُوْلُ: إِنِّي أَحْفَظُ سَبْعِيْنَ أَلفَ حَدِيْثٍ؟
قَالَ: نَعَمْ، وَأَكْثَر، وَلاَ أَجيئُكَ بِحَدِيْثٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ إِلاَّ عَرَّفْتُكَ مولِدَ أَكْثَرِهِم وَوَفَاتَهُم وَمسَاكنِهِم، وَلَسْتُ أَروِي حَدِيْثاً مِنْ حَدِيْثِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِيْنَ إِلاَّ وَلِي مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ أَحْفَظُهُ حِفْظاً عَنْ كِتَابِ اللهِ، وَسُنَّةِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ جَعْفَرٍ يَقُوْلُ: لَوْ قَدرْتُ أَنْ أَزيدَ فِي عُمُرِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ مِنْ عُمُرِي لفعلْتُ، فَإِنَّ مَوْتِي يَكُوْنُ مَوْتَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَموتُهُ ذهَابُ العِلْمِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ يَحْيَى بنَ جَعْفَرٍ - وَهُوَ البِيْكَنْدِيُّ - يَقُوْلُ لمُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ: لَوْلاَ أَنْتَ مَا اسْتطبتُ العيشَ بِبُخَارَى.
وَقَالَ: سَمِعْتُ صَالِحَ بنَ مِسْمَارٍ المَرْوَزِيَّ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ نُعَيْمَ بنَ حَمَّادٍ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ فَقِيْهُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ خَالِدٍ المَرْوَزِيَّ، يَقُوْلُ: قَالَ مُسَدَّدٌ: لاَ تختَارُوا عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، يَا أَهْلَ خُرَاسَان.
وَقَالَ خَلَفٌ الخَيَّامُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بنُ أَحْمَدَ بنِ خَلَفٍ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ عَبْدِ السَّلاَمِ: قَالَ: ذَكَرْنَا قَوْلَ البُخَارِيِّ لِعَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ -يَعْنِي: مَا اسْتصغرتُ نَفْسِي إِلاَّ بَيْنَ يَدِي عَلِيِّ بنِ المَدِيْنِيِّ- فَقَالَ عَلِيٌّ: دعُوا هَذَا، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ لَمْ يَرَ مِثْلَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: ذَاكرنِي أَصْحَابُ عَمْرِو بنِ عَلِيٍّ الفَلاَّسِ بِحَدِيْثٍ، فَقُلْتُ: لاَ أَعْرِفُهُ، فَسُرُّوا بِذَلِكَ، وَصَارُوا إِلَى عَمْرٍو، فَأَخبروهُ.فَقَالَ: حَدِيْثٌ لاَ يَعْرِفُهُ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ لَيْسَ بِحَدِيْثٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ عَبْدِ اللهِ يَقُوْلُ: قَالَ لِي أَبُو مُصْعَبِ الزُّهْرِيُّ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أَفقَهُ عِنْدنَا وَأَبصرُ بِالحَدِيْثِ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ.
فَقِيْلَ لَهُ: جَاوزتَ الحدَّ.
فَقَالَ لِلرَّجُلِ: لَوْ أَدْرَكْتَ مَالِكاً، وَنظرتَ إِلَى وَجْهِهِ وَوجهِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، لقُلْتَ: كِلاَهُمَا وَاحِدٌ فِي الفِقْهِ وَالحَدِيْثِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ بنِ حنيلٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: مَا أَخرجتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيْمَ بنَ خَالِدٍ المَرْوَزِيَّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ أَبَا عَمَّارٍ الحُسَيْنَ بنَ حُرَيْثٍ يُثْنِي عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ، وَيَقُوْلُ: لاَ أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِثْلَهُ، كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ إِلاَّ لِلْحَدِيْثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: سَمِعْتُ مَحْمُوْدَ بنَ النَّضْرِ أَبَا سهلٍ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: دَخَلْتُ البَصْرَةَ وَالشَّامَ وَالحِجَازَ وَالكُوْفَةَ، وَرأَيتُ علمَاءهَا، كُلَّمَا جرَى ذكرُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنفُسِهِم.
قَالَ: وَسَمِعْتُ حَاشِدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ بَشَّارٍ يَقُوْلُ: لَمْ يَدْخُلْ البَصْرَةَ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالحَدِيْثِ مِنْ أَخينَا أَبِي عَبْدِ اللهِ.
قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ الخُرُوجَ وَدَّعَهُ مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ، وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ موعِدُنَا الحَشْرُ أَنْ لاَ نلتقِي بَعْدُ.
وَقَالَ أَبُو قُرَيْشٍ مُحَمَّدُ بنُ جمعَةَ الحَافِظُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ بَشَّارٍ يَقُوْلُ: حفَاظُ الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ: أَبُو زُرْعَةَ بِالرَّيِّ، وَالدَّارِمِيُّ بِسَمَرْقَنْدَ، وَمُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ بِبُخَارَى، وَمُسْلِمٌ بِنَيْسَابُوْرَ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَدَّثَنَا حَاشِدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الوَاحِدِ، سَمِعْتُ يَعْقُوْبَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ الدَّوْرَقِيَّ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ فَقِيْهُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ سُلَيْمَانُ بنُ مُجَالدٍ: إِنِّي سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْديًّ عَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ أَعْلَمُنَا وَأَفْقَهُنَا وَأَغْوَصُنَا، وَأَكْثَرُنَا طلباً.
وَقَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ وَرَّاقُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ عَنْ كِتَابِ (الأَدبِ) مِنْ تَصْنِيْفِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ، فَقَالَ: احمِلْهُ لأَنْظُرَ فِيْهِ، فَأَخَذَ الكِتَابَ مِنِّي، وَحَبَسَهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا أَخذتُ مِنْهُ، قُلْتُ: هَلْ رَأَيْتَ فِيْهِ حَشْواً، أَوْ حَدِيْثاً ضَعِيْفاً؟
فَقَالَ ابْنُ إِسْمَاعِيْلَ: لاَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ إِلاَّ الحَدِيْثَ الصَّحِيْحَ، وَهَلْ يُنْكَرُ عَلَى مُحَمَّدٍ؟!
وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطَّيِّبِ حَاتِمَ بنَ مَنْصُوْرٍ الكِسِّيَّ يَقُوْلُ: مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي بصرِهِ وَنفَاذِهِ مِنَ العِلْمِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو المستنيرَ بنَ عَتِيْقٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ رَجَاءَ الحَافِظَ يَقُوْلُ: فَضْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ عَلَى العُلَمَاءِ كفضلِ الرِّجَالِ عَلى النِّسَاءِ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ؟!
فَقَالَ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ يَمْشِي عَلَى ظَهرِ الأَرْضِ.
وَقَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللهِ عِنْدَ مُحَمَّدِ بنِ بَشَّارٍ، فَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ عَنْ حَدِيْثٍ، فَأَجَابَهُ، فَقَالَ: هَذَا أَفقَهُ خلقِ اللهِ فِي زَمَانِنَا.
وَأَشَارَ إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ حمدُوْن بنِ رُسْتُمَ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ، وَجَاءَ إِلَى البُخَارِيِّ فَقَالَ: دَعْنِي أُقَبِّلْ رجليكَ يَا أُسْتَاذَ الأُسْتَاذِين، وَسَيِّدَ المُحَدِّثِيْنَ، وَطبيبَ الحَدِيْثِ فِي عِلَلِهِ.
وَقَالَ أَبُو عِيْسَى التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ بِالعِرَاقِ وَلاَ بِخُرَاسَانَ فِي مَعْنَى العِلَلِ وَالتَّارِيْخِ وَمَعْرِفَةِ الأَسَانِيْدِ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيْدٍ حَاتِمُ بنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ مُوْسَى بنُ هَارُوْنَ الحَافِظُ: لَوْ أَنَّ أَهْلَ الإِسْلاَمِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُنَصِّبُوا آخَرَ مِثْلَ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ حَمَّادٍ الآمُلِيُّ: وَددْت أَنِّي شَعْرَةٌ فِي صَدْرِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
أَخبرنَي الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ بنُ عِيْسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ المهدوِيُّ، سَمِعْتُ خَالِدَ بنَ عَبْدِ اللهِ المَرْوَزِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا سهلٍ مُحَمَّدَ بنَ أَحْمَدَ المَرْوَزِيَّ، سَمِعْتُ أَبَا زيدٍ المَرْوَزِيَّ الفَقِيْهَ يَقُوْلُ: كُنْتُ نَائِماً بَيْنَ الرُّكْنِ وَالمقَامِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لِي: يَا أَبَا زيدٍ، إِلَى مَتَى تدرسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ، وَلاَ تدرُسُ كِتَابِي؟
فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ وَمَا كِتَابُكَ؟
قَالَ: (جَامِعُ) مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ.
ذِكْرُ عِبَادَتِهِ وَفَضْلِهِ وَوَرَعِهِ وَصَلاَحِهِ
قَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ خَالِدٍ المُطَّوِّعِيُّ، حَدَّثَنَا مُسَبِّحُ بنُ سَعِيْدٍ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ يختمُ فِي رَمَضَانَ فِي النَّهَارِ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَيقومُ بَعْدَ التّروَايحِ كُلَّ ثَلاَثِ لَيَالٍ بخَتْمَةٍ.
وَقَالَ بَكْرُ بنُ مُنِيْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: أَرْجُو أَنْ أَلقَى اللهَ وَلاَ يحَاسبنِي أَنِّي اغتبتُ أَحَداً.
قُلْتُ: صَدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ- وَمَن نظَرَ فَى كَلاَمِهِ فِي الجرحِ وَالتعديلِ عَلِمَ وَرعَهُ فِي الكَلاَمِ فِي النَّاسِ، وَإِنصَافَهُ فِيْمَنْ يُضَعِّفُهُ، فَإِنَّهُ أَكْثَر مَا يَقُوْلُ: مُنْكَرُ الحَدِيْثِ، سَكَتُوا عَنْهُ، فِيْهِ نظرٌ، وَنَحْو هَذَا،وَقَلَّ أَنْ يَقُوْلَ: فُلاَنٌ كَذَّابٌ، أَوْ كَانَ يَضَعُ الحَدِيْثَ،حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِذَا قُلْتُ: فُلاَنٌ فِي حَدِيْثِهِ نَظَرٌ، فَهُوَ مُتَّهَمٌ وَاهٍ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لاَ يُحَاسبُنِي اللهُ أَنِّي اغتبْتُ أَحَداً، وَهَذَا هُوَ وَاللهِ غَايَةُ الوَرَعِ.
قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ يُصَلِّي فِي وَقْتِ السَّحَرِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ لاَ يُوقظنِي فِي كُلِّ مَا يقوم،فَقُلْتُ: أَرَاكَ تحمِلُ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَمْ توقظْنِي،قَالَ: أَنْتَ شَابٌّ، وَلاَ أُحِبُّ أَنْ أُفْسِدَ عَلَيْكَ نَومَكَ.
وَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ سَعِيْدِ بنِ جَعْفَرٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ العُلَمَاءَ بِالبَصْرَةِ يَقُوْلُوْنَ: مَا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ فِي المَعْرِفَةِ وَالصَّلاَحِ.
وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ حَامِدٍ البَزَّازُ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ جَابِرٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ لَمَّا وَردَ البُخَارِيُّ نَيْسَابُوْرَ يَقُوْلُ: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ، فَاسْمَعُوا مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ عبدَ القُدُّوسِ بنَ عَبْدِ الجَبَّارِ السَّمَرْقَنْديَّ يَقُوْلُ: جَاءَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَقربَائِهِ بخَرْتَنْك، فسَمِعْتُهُ يدعُو لَيْلَةً إِذْ فرغَ مِنْ وِرْدِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عليَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ.فَمَا تمَّ الشَّهر حَتَّى مَاتَ.
وَرَوَى الخَطِيْبُ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ الفِرَبْرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي: أَيْنَ تُرِيْدُ؟
فَقُلْتُ: أُرِيْدُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ، فَقَالَ: أَقْرئْهُ مِنِّيَ السَّلاَمُ.
قَالَ: وَأَملَى يَوْماً عليَّ حَدِيْثاً كَثِيْراً، فَخَافَ مَلاَلِي، فَقَالَ: طِبْ نَفْساً، فإِن أَهْلَ الملاَهِي فِي ملاَهِيهِم، وَأَهْلَ الصّنَاعَاتِ فِي صنَاعَاتِهِم، وَالتُّجَّارَ فِي تجَارَاتِهِم، وَأَنْتَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ.
فَقُلْتُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، يرحمُكَ اللهُ إِلاَّ وَأَنَا أَرَى الحظَّ لنفسِي فِيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مكِّي الجُرْجَانِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الوَاحِدِ بنَ آدَمَ الطَّواويسِيَّ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ وَاقفٌ فِي مَوْضِعٍ، فسلَّمْتُ عَلَيْهِ، فردَّ عليَّ السَّلاَمَ، فَقُلْتُ: مَا وُقُوفُكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟
قَالَ: أَنتَظِرُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيَّ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَلَغَنِي مَوْتَهُ، فَنَظَرتُ، فَإِذَا قَدْ مَاتَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِيْهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ الحُسَيْنِ البَزَّازَ البُخَارِيَّ يَقُوْلُ: تُوُفِّيَ البُخَارِيُّ لَيْلَةَ السَّبْتِ، لَيْلَةَ الفِطْرِ، عِنْدَ صَلاَةِ العشَاءِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الفِطْرِ بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ، سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، وَعَاشَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ سَنَةً إِلاَّ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْماً.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الغَسَّانِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الفَتْحِ نَصْرُ بنُ الحَسَنِ السَّكتِيُّ السَّمرقندِيُّ، قَدِمَ عَلَيْنَا بَلَنْسِيَةَ عَامَ أَرْبَعِيْنَ وَسِتِّيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ، قَالَ: قَحطَ المَطَرُ عِنْدنَا بِسَمَرْقَنْدَ فِي بَعْضِ الأَعْوَامِ، فَاسْتسقَى النَّاسُ مِرَاراً، فَلَمْ يُسْقَوا، فَأَتَى رَجُلٌ صَالِحٌ مَعْرُوْفٌ بِالصَّلاَحِ إِلَى قَاضِي سَمَرْقَنْدَ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رأْياً أَعرضُهُ عَلَيْكَ ،قَالَ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: أَرَى أَنْ تخرجَ وَيخرجَ النَّاسُ مَعَكَ إِلَى قَبْرِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ، وَقبرُهُ بخَرْتَنْك، وَنستسقِي عِنْدَهُ، فعسَى اللهُ أَنْ يَسْقِينَا.
قَالَ: فَقَالَ القَاضِي: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ.
فَخَرَجَ القَاضِي وَالنَّاسُ مَعَهُ، وَاسْتسقَى القَاضِي بِالنَّاسِ، وَبَكَى النَّاسُ عِنْدَ القَبْرِ، وَتشفَّعُوا بصَاحِبِهِ، فَأَرسلَ اللهُ -تَعَالَى- السَّمَاءَ بِمَاءٍ عَظِيْمٍ غَزِيْرٍ أَقَامَ النَّاسُ مِنْ أَجلِهِ بِخَرْتَنْك سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَوْ نحوَهَا، لاَ يَسْتَطيعُ أَحَدٌ الوُصُوْلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ مِنْ كَثْرَةِ المَطَرِ وَغزَارتِهِ، وَبَيْنَ خرتنك وَسَمَرْقَنْد نَحْوَ ثَلاَثَةَ أَمِيَالٍ..(1)
وأما صحيحُ البخاري:
فهو أصح كتاب بعد القرآن الكريم ضمَّنَ فيه البخاريُّ أصح الأحاديث ، ووفّى بشرطه وأحاديثه بالمكرر حوالي (7563) حديث ونيّف عدا الأحاديث المعلقة والتي ليست على شرطه ، وهو مرتب على الأبواب الفقهية ... وله طبعات كثيرة جداً ، وأهمها طبعة بولاق وماصور عنها ، ثم الطبعة السلفية ، والطبعة التي قام أستاذنا الدكتور مصطفى البغا بضبطها وشرح غريبها وطبعة المكنز وهي أدقها.. وأحاديثه كلها صحيحة ، ومن انتقد بعضها كالدارقطني وغيره لا يعني أنها ليست صحيحة ، ولكنها دون الشروط العالية التي اشترطها الإمام البخاري رحمه الله . وقد وفّى شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني في الرد على النقاد وبين أن القول فيها للبخاري في مقدمة فتح الباري (هدي الساري) ولا يُغرَّنَّكَ بعض المعاصرين ، الذين ضعفوا أحاديث في صحيح البخاري - بغير حق - فهؤلاء إمّا حاقدون على السنّة إجمالاً ، وإما جاهلون بشروطه ، وقد ناقشتهم وبينت خطأهم بشكل دقيق ، في كتابي موسوعة السنة النبوية ( مخطوطة )
لذا فكل حديث موصول في صحيح البخاري فهو صحيح ،وعلى ذلك جمهور أهل العلم ، ولا يجوز لنا أن نعيد النظر في أسانيده مرة أخرى ، والا شككنا في السنة كلّها .
ويستثنى من ذلك حديث المعراج الذي تفرد به شريك بن أبي نمر، ، فقد أخطأ فيه شريك ، كما بين العلماء ، ومنهم الحافظ ابن رحمه في الفتح(2)
وهذا الكتاب له شروح ومختصرات وتعليقات وحواشي كثيرة جداً ، أهمها فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ، وعمدة القاري للعيني ، وإرشاد الساري للقسطلاني ، وفيض الباري(3)..
------------------
وأما صحيح الإمام مسلم (204 - 261 هـ)
وهو : مُسْلِمٌ أَبُو الحُسَيْنِ بنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمٍ القُشَيْرِيُّ (ت) هُوَ الإِمَامُ الكَبِيْرُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، الحُجَّةُ، الصَّادِقُ، أَبُو الحُسَيْنِ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ بنِ مُسْلِمِ بنِ وَرْدِ بنِ كوشَاذَ القُشَيْرِيُّ، النَّيْسَابُوْرِيُّ، صَاحِبُ (الصَّحِيْحِ)، فَلَعَلَّهُ مِنْ مَوَالِي قُشَيْرٍ.قِيْلَ: إِنَّهُ وُلِدَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ: بِالعِرَاقِ، وَالحَرَمَيْنِ، وَمِصْرَ.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِم يقدِّمَان مسلماً فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيْح عَلَى مَشَايِخ عَصْرهمَا.
وَسَمِعْتُ الحُسَيْن بن مَنْصُوْرٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بنَ رَاهْوَيْه ذكر مسلماً، فَقَالَ بِالفَارِسيَّة كَلاَماً مَعْنَاهُ: أَي رَجُل يَكُوْن هَذَا؟!
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: كَانَ مُسْلِم ثِقَة مِنَ الحُفَّاظِ، كَتَبْتُ عَنْهُ بِالرَّيّ، وَسُئِلَ أَبِي عنه، فَقَالَ: صَدُوْقٌ.
قَالَ أَبُو قُرَيْش الحَافِظ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ بَشَّار يَقُوْلُ:حُفَّاظ الدُّنْيَا أَرْبَعَة: أَبُو زُرْعَةَ بِالرَّيّ، وَمُسْلِم بِنَيْسَابُوْرَ، وَعَبْد اللهِ الدَّارِمِيّ بِسَمَرْقَنْدَ، وَمُحَمَّد بن إِسْمَاعِيْلَ بِبُخَارَى.
وَقَالَ الحُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ المَاسَرْجِسِي: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: سَمِعْتُ مسلماً يَقُوْلُ: صنَّفْتُ هَذَا (المُسْنَد الصَّحِيْح) مِنْ ثَلاَث مائَة أَلْف حَدِيْث مَسْمُوْعَة.
قَالَ ابْنُ مَنْدَة: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوْبَ الأَخْرَم يَقُوْلُ مَا مَعْنَاهُ: قلَّ مَا يَفُوْت البُخَارِيّ وَمسلماً مِمَّا ثَبَتَ مِنَ الحَدِيْثِ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ مَنْدَة: سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيّ الحَافِظ يَقُوْلُ:مَا تَحْتَ أَديم السَّمَاء كِتَاب أَصحّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِم.
وَقَالَ مَكِّيّ بن عبدَان: سَمِعْتُ مسلماً يَقُوْلُ:عرضت كِتَابِي هَذَا (المُسْنَد) عَلَى أَبِي زُرْعَةَ، فُكُلُّ مَا أَشَار عليّ فِي هَذَا الكِتَاب أَن لَهُ عِلَّة وَسبباً تركته، وَكُلّ مَا قَالَ: إِنَّهُ صَحِيْح لَيْسَ لَهُ علَّة، فَهُوَ الَّذِي أَخرجت.وَلَوْ أَنَّ أَهْل الحَدِيْث يَكْتُبُوْنَ الحَدِيْث مَائَتَي سنَة، فمدَارهُم عَلَى هَذَا (المُسْنَد).
وَقَالَ الحَاكِمُ: أَرَادَ مُسْلِم أَنْ يخرج (الصَّحِيْح) عَلَى ثَلاَثَة أَقسَام، وَعَلَى ثَلاَث طَبَقَات مِنَ الرُّوَاة، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا فِي صَدْر خطبته، فَلَمْ يقدّر لَهُ إِلاَّ الفرَاغ مِنَ الطَّبَقَة الأُوْلَى، وَمَاتَ.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَالَّذِي تَأَوّله الحَاكِم عَلَى مُسْلِم مِنِ اخترَام المنيَة لَهُ قَبْل اسْتيفَاء غرضه إِلاَّ مِنَ الطَّبَقَة الأُوْلَى، فَأَنَا أَقُوْل: إِنَّك إِذَا نظرت فِي تقسيم مُسْلِم فِي كِتَابِهِ الحَدِيْث عَلَى ثَلاَث طَبَقَات مِنَ النَّاس عَلَى غَيْر تكرَار، فَذَكَرَ أَنَّ القسم الأَوّل حَدِيْث الحُفَّاظ.
ثُمَّ قَالَ: إِذَا انقضَى هَذَا، أَتبعته بأَحَادِيْث مَنْ لَمْ يوصف بِالحذق وَالإِتْقَان.
وَذكر أَنَّهُم لاَحقُوْنَ بِالطَّبَقَة الأُوْلَى، فَهَؤُلاَءِ مَذْكُوْرُوْنَ فِي كِتَابِهِ لِمَنْ تدبر الأَبْوَاب.
وَالطَّبَقَة الثَّانِيَة قَوْم تَكَلَّمَ فِيْهِم قَوْم، وَزكَّاهُم آخرُوْنَ، فَخَرَجَ حَدِيْثهُم عَمَّنْ ضعّف أَوِ اتهُم بِبدعَة، وَكَذَلِكَ فعل البُخَارِيّ.
ثُمَّ قَالَ القَاضِي عِيَاض: فعِنْدِي أَنَّهُ أَتَى بطَبَقَاتِهِ الثَّلاَث فِي كِتَابِهِ، وَطرح الطَّبَقَة الرَّابِعَة.
قُلْتُ: بَلْ خَرَّجَ حَدِيْث الطَّبَقَة الأُوْلَى، وَحَدِيْث الثَّانِيَة إِلاَّ النزر القَلِيْل مِمَّا يَسْتَنكره لأَهْلِ الطَّبَقَة الثَّانِيَة.
ثُمَّ خَرَجَ لأَهْلِ الطَّبَقَة الثَّالِثَة أَحَادِيْث لَيْسَتْ بِالكَثِيْرَة فِي الشوَاهد وَالاعتبَارَات وَالمتَابعَات، وَقلَّ أَن خَرَّجَ لَهُم فِي الأُصُوْل شَيْئاً، وَلَوِ اسْتوعبت أَحَادِيْث أَهْل هَذِهِ الطَّبَقَة فِي (الصَّحِيْحِ)، لجَاءَ الكِتَاب فِي حجم مَا هُوَ مَرَّةً أُخْرَى، وَلنزل كِتَابهُ بِذَلِكَ الاسْتيعَاب عَنْ رُتْبَة الصّحَّة، وَهُم كعَطَاء بن السَّائِبِ، وَلَيْث، وَيَزِيْد بن أَبِي زِيَادٍ، وَأَبَان بن صمعَة، وَمُحَمَّد بن إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّد بن عَمْرِو بنِ عَلْقَمَةَ، وَطَائِفَة أَمْثَالهم، فَلَمْ يخرج لَهُم إِلاَّ الحَدِيْث بَعْد الحَدِيْث إِذَا كَانَ لَهُ أَصْل، وَإِنَّمَا يَسُوق أَحَادِيْث هَؤُلاَءِ، وَيُكثر مِنْهَا أَحْمَد فِي (مُسْنِدِهِ)، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيّ، وَغَيْرهُم.
فَإِذَا انحطُوا إِلَى إِخْرَاج أَحَادِيْث الضُّعَفَاء الَّذِيْنَ هُم أَهْل الطَّبَقَة الرَّابِعَة، اخْتَارُوا مِنْهَا، وَلَمْ يَسْتَوعبُوهَا عَلَى حسب آرَائِهِم وَاجْتِهَادَاتهم فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْل الطَّبَقَة الخَامِسَة، كمن أُجمع عَلَى اطرَاحه وَتركه لعدم فَهمه وضبطه، أَوْ لِكَوْنِهِ مُتهماً، فيندر أَنْ يخرّج لَهُم أَحْمَد وَالنَّسَائِيّ، وَيورد لَهُم أَبُو عِيْسَى فيبينه بحسب اجْتِهَاده، لَكِنَّه قَلِيْل، وَيورد لَهُم ابْن مَاجَهْ أَحَادِيْث قَلِيْلَة وَلاَ يبين - وَاللهُ أَعْلَمُ - وَقلّ مَا يورد مِنْهَا أَبُو دَاوُدَ، فَإِنْ أَورد بَيْنَهُ فِي غَالِب الأَوقَات.
وَأَمَّا أَهْل الطَّبَقَة السَّادِسَة كغلاَة الرَّافِضَة وَالجَهْمِيَّة الدعَاة، وَكَالكَذَّابين وَالوضَّاعِين، وَكَالمَتْرُوْكِيْنَ المهتوكين، كعمر بن الصبح، وَمُحَمَّد المَصْلُوب، وَنُوْح بن أَبِي مَرْيَمَ، وَأَحْمَد الجُويبارِي، وَأَبِي حُذَيْفَةَ البُخَارِيّ، فَمَا لَهُم فِي الكُتُب حَرْف، مَا عدَا عُمَر، فَإِنَّ ابْنَ مَاجَهْ خَرَّجَ لَهُ حَدِيْثاً وَاحِداً فَلَمْ يُصب،وَكَذَا خَرَجَ ابْن مَاجَهْ لِلْوَاقِدِيّ حَدِيْثاً وَاحِداً، فدلس اسْمه وَأَبهمه.
عَدِيّ بن عميرَة الكِنْدِيّ خَرَّجَ لَهُ مُسْلِم، مَا رَوَى عَنْهُ غَيْر قيس بن أَبِي حَازِمٍ.
وَخَرجَ مُسْلِم لقطبَة بن مَالِك، وَمَا حَدَّثَ عَنْهُ سِوَى زِيَاد بن عِلاَقَةَ.
وَخَرَجَ مُسْلِم لطَارِق بن أَشيم، وَمَا رَوَى عَنْهُ سِوَى وَلده أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (12/393-472)(171 ) وما بعدها باختصار وتذكرة الحفاظ - (ج 2 / ص 555)(9 578 ) 30 ت
(2) - انظر صحيح البخارى(7517 ) وفتح الباري لابن حجر - (ج 21 / ص 101)
(3) - انظر الباعث الحثيث 25 و35 والحديث النبوي 362-380 وأصول الحديث 309-313 ، ومنهج النقد في علوم الحديث 233-235(1/44)
وَخَرَّجَ لنبيشَة الخَيْر، وَمَا رَوَى عَنْهُ إِلاَّ أَبُو المَلِيْحِ الهُذَلِيّ.
ذكرنَا هَؤُلاَءِ نقضاً عَلَى مَا ادَعَاهُ الحَاكِم مِنْ أَنَّ الشَيْخين مَا خرجَا إِلاَّ لِمَنْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فصَاعِدَا.
الحَاكِم: سَمِعْتُ أَبَا الفَضْل مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيْمَ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ سَلَمَةَ يَقُوْلُ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِم يقدمَان مُسْلِم بن الحَجَّاجِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيْح عَلَى مَشَايِخ عَصْرهِمَا.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ مسلماً يَقُوْلُ:إِذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْج: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَسَمِعْتُ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْء أَثْبَت مِنْ هَذَا.قَالَ مَكِّيّ بن عبدَان: سَمِعْتُ مسلماً يَقُوْلُ:لَوْ أَنَّ أَهْل الحَدِيْث يَكْتُبُوْنَ الحَدِيْث مَائَتَي سَنَةٍ، فمدَارُهُم عَلَى هَذَا (المُسْنَد).قُلْتُ: عَنَى بِهِ (مسنده الكَبِيْر).
وَعَنِ ابْنِ الشَّرْقِيّ، عَنْ مُسْلِم، قَالَ:مَا وضعت فِي هَذَا (المُسْنَد) شَيْئاً إِلاَّ بحجّة، وَلاَ أَسقطت شيئاً مِنْهُ إِلاَّ بحجّة.تُوُفِّيَ مُسْلِم: فِي شَهْر رجب، سَنَة إِحْدَى وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ، بِنَيْسَابُوْرَ، عَنْ بِضْع وَخَمْسِيْنَ سَنَةً، وَقَبْره يزَار.(1)
وهو يأتي في المرتبة الثانية بعد صحيح الإمام البخاري وأحاديثه حوالي (3033) حديثاً دون المكرر ، وبالمكرر حوالي (7748) حسب طبعة المكنز ، وشروطه دون شروط الإمام البخاري ، وأخرج في المتابعات لرواة لم يخرج لهم البخاري . وهو مرتب على الأبواب الفقهية ، وكل أحاديثه صحيحة ، ومجرد العزو إليه يعني الصحة ،إلا حديثا واحدا انتقده أهل العلم ورجحوا وقفه ، ففي صحيح مسلم(7231 ) حَدَّثَنِى سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِى فَقَالَ « خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاَثَاءِ وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِى آخِرِ الْخَلْقِ وَفِى آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ ».(2)
والأحاديث التي ضعفها بعض المعاصرين ، لا يُسلّم لهم بتضعيفها لتسرعهم وعدم درايتهم الكافية بعلم الجرح والتعديل .
وله طبعات كثيرة أهمها التركية ، ثم التي قام بتحقيقها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي ، ثم طبعة المكنز وهي أدقها وأشملها ، وله مختصر للمنذري مطبوع وأهم شروحه شرح مسلم للإمام النووي ، وهو شرح نفيس ، وغيره من شروح(3)
ــــــــــــــ
أيُّهما أصحُّ؟ :
البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد، وذلك لأن أحاديث البخاري أشد اتصالا وأوثق رجالا، ولأن فيه من الاستنباطات الفقهية والنكت الحكيمة ما ليس في صحيح مسلم.
هذا وكون صحيح البخاري أصح من صحيح مسلم إنما هو باعتبار المجموع وإلا فقد يوجد بعض الأحاديث في مسلم أقوى من بعض الأحاديث في البخاري .
كما في صحيح البخارى برقم (7517 ) حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِى سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهْوَ نَائِمٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ أَيُّهُمْ هُوَ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ . فَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ . فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ فَتَوَلاَّهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ ، ثُمَّ أُتِىَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً ، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ - يَعْنِى عُرُوقَ حَلْقِهِ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا فَقَالَ جِبْرِيلُ . قَالُوا وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مَعِى مُحَمَّدٌ . قَالَ وَقَدْ بُعِثَ قَالَ نَعَمْ . قَالُوا فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلاً . فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ ، لاَ يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ فِى الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ ، فَوَجَدَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ . فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ وَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلاً بِابْنِى ، نِعْمَ الاِبْنُ أَنْتَ . فَإِذَا هُوَ فِى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا . ثُمَّ مَضَى بِهِ فِى السَّمَاءِ فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرَبَ يَدَهُ فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ قَالَ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِى خَبَأَ لَكَ رَبُّكَ . ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى مَنْ هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ . قَالُوا وَمَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - . قَالُوا وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ نَعَمْ . قَالُوا مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلاً . ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الأُولَى وَالثَّانِيَةُ ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِى الثَّانِيَةِ ، وَهَارُونَ فِى الرَّابِعَةِ ، وَآخَرَ فِى الْخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ ، وَإِبْرَاهِيمَ فِى السَّادِسَةِ ، وَمُوسَى فِى السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلاَمِ اللَّهِ ، فَقَالَ مُوسَى رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَىَّ أَحَدٌ . ثُمَّ عَلاَ بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ ، حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى اللَّهُ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلاَةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ عَهِدَ إِلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ . فَالْتَفَتَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِى ذَلِكَ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ . فَعَلاَ بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهْوَ مَكَانَهُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا ، فَإِنَّ أُمَّتِى لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا . فَوَضَعَ عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ قَوْمِى عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا ، فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ ، كُلَّ ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ فَقَالَ يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِى ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا فَقَالَ الْجَبَّارُ يَا مُحَمَّدُ . قَالَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ . قَالَ إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ، كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِى أُمِّ الْكِتَابِ - قَالَ - فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، فَهْىَ خَمْسُونَ فِى أُمِّ الْكِتَابِ وَهْىَ خَمْسٌ عَلَيْكَ . فَرَجَعَ إِلَى مُوسَى فَقَالَ كَيْفَ فَعَلْتَ فَقَالَ خَفَّفَ عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا . قَالَ مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ رَاوَدْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ ، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَا مُوسَى قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّى مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ . قَالَ فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللَّهِ . قَالَ وَاسْتَيْقَظَ وَهْوَ فِى مَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وفي صحيح مسلم برقم (432 ) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِىُّ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِى سُلَيْمَانُ - وَهُوَ ابْنُ بِلاَلٍ - قَالَ حَدَّثَنِى شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى نَمِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِىِّ وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ.
فقد أخطأ شريك بن أبي نمر في روايته وخالف الثقات عن أنس ، ولذلك فقد أشار الإمام مسلم لهذه الرواية وبين أن فيها زيادة ونقصان وأعرض عن ذكرها ، والبخاري قد ذكرها كاملة ، وقد بين العلماء أن فيها عشرة مخالفات لأحاديث المعراج(4).
وقيل : إن صحيح مسلم أصح ، والصواب هو القول الأول(5).
ــــــــــــــ
هل استوعبا الصحيح أو التزماه ؟
لم يستوعب البخاري ومسلم الصحيح في صحيحيهما ، ولا التزماه ، فقد قال البخاري : " ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح خشية أن يطول الكتاب. "(6)،
والمعنى أنه ترك رواية كثير من الأحاديث الصحيحة في كتابه خشية أن يطول الكتاب فيمل الناس من طوله .
وقال مسلم " ليسَ كل شيء عندي صحيح وضعتهُ ههنا, إنَّما وضعتُ ما أجمعُوا عليه "
يُريد ما وجد عنده فيها شرائط الصَّحيح المُجْمع عليه, وإنْ لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. قاله ابن الصَّلاح.
"ورجَّح المُصنِّف في «شرح مسلم» أنَّ المراد ما لم تختلف الِّثقات فيه في نفس الحديث متنًا وإسنادًا, لا ما لم يختلف في توثيق رُواته.
قال: ودليلُ ذلك أنَّه سُئل عن حديث أبي هُريرة: «فإذَا قَرَأ فأنْصتُوا». هل هو صحيح؟ فقال: عندي هو صحيح. فقيل: لِمَ لَمْ تضعهُ هنا؟ فأجاب بذلك.
قال: ومع هذا فقد اشْتملَ كتابه على أحاديث اختلفوا في متنها أو إسْنَادهَا, وفي ذلكَ ذهول منه عن هذا الشَّرط, أو سبب آخر.
وقال البَلْقيني : أرادَ مُسلم إجماع أربعة, أحمد بن حنبل, وابن معين, وعُثمان بن أبي شَيْبة, وسعيد بن منصور الخُرَاساني.
قال المُصنِّف في «شرح مسلم» : وقد الزمهمَا الدَّارقطني وغيره إخراج أحاديث على شَرْطهما لم يُخرجَاها, وليس بلازم لهما لعدم التزامهما ذلك.
قال: وكذلك قال البيهقي: قد اتفقا على أحاديث من صحيفة همَّام, وانفرد كل واحد منهما بأحاديث منها, مع أنَّ الإسناد واحد.
قال المُصنِّف: لكن إذا كان الحديث الذي تركاهُ أو أحدهما مع صِحَّة إسنادهِ في الظَّاهر أصلاً في بابهِ, ولم يُخرجَا له نظيرًا, ولا ما يقوم مقامهُ فالظَّاهر أنَّهُما ما اطلعا فيه على عِلَّة, ويُحتمل أنَّهُما نَسياهُ أو تَركاهُ خشية الإطالة, أو رأيا أنَّ غيره يَسُد مسده. "(7)
وقال السخاوي عنه(8):
"قال : إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل أنه ما لم أخرجه من الحديث فيه ضعيف.
وحينئذ فإلزام الدارقطني لهما في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث رجال من الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح، تركاها مع كونها على شرطهما، وكذا قول ابن حبان: ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما. ليس بلازم."
ــــــــــــــ
هل فاتهما شيء كثير أو قليل من الصحيح ؟
قال السيوطي(9):
" قال الحافظ أبو عبد الله بن الأخرم: [ولم يَفُتهما منه إلاَّ القليل وأُنكر هذا لِقَول البُخَاري فيما نقلهُ الحازمي والإسْمَاعيلي: وما تركتُ من الصِّحاح أكثر.
قال ابن الصَّلاح : و«المستدرك» للحاكم كتابٌ كبير يَشْتمل مِمَّا فاتهما على شيء كثير, وإن يكن عليه في بعضه مَقَال, فإنَّه يَصْفُو له منه صحيح كثير.(10)
قال المُصنِّف زيادة عليه: والصَّواب أنَّه لم يَفُت الأصول الخَمْسة إلاَّ اليسير, أعني «الصَّحيحين» و«سنن» أبي داود, والتِّرمذي, والنَّسائي.(11)
قال العِرَاقيُّ : في هذا الكلام نظر, لقول البُخَاري: أحفظُ مئة ألف حديث صحيح, ومئتي ألف حديث غير صحيح.
قال: ولعلَّ البُخَاري أراد بالأحاديث المُكرَّرة الأسانيد والموقُوفات, فربَّما عدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين.
زاد ابن جماعة في «المنهل الرَّوي» : أو أراد المُبَالغة في الكثرة. قال: والأوَّل أولى.
قيل: ويُؤيد أنَّ هذا هو المُراد أنَّ الأحاديث الصِّحاح التي بين أظهرنا, بل وغير الصِّحاح لو تتبعت من المَسَانيد والجَوَامع والسُّنن والأجزاء وغيرها, لمَا بلغت مئة ألف بلا تكرار, بل ولا خمسين ألفًا, ويبعد كل البُعْد أن يكون رَجُل واحد حفظَ ما فات الأمَّة جميعه, فإنَّه إنَّما حفظه من أصُول مشايخه وهي موجودة.
وقال ابن الجَوْزي: حصر الأحاديث يبعد إمكانه, غير أنَّ جماعة بالغُوا في تتبعها وحصرها.
قال الإمام أحمد : صحَّ سبع مئة ألف وكسر.
وقال: جمعتُ في «المُسند» أحاديث انتخبتها من أكثر من سبع مئة ألف وخمسين ألفًا.
قال شيخ الإسْلام: ولقد كان استيعاب الأحاديث سَهْلاً, لو أرادَ الله تعالى ذلك, بأن يجمع الأوَّل منهم ما وصلَ إليه, ثمَّ يذكر من بعده ما اطَّلع عليه مِمَّا فاتهُ من حديث مُستقل, أو زيادة في الأحاديث الَّتي ذكرهَا, فيَكُون كالدَّليل عليه, وكذَا من بعده فلا يَمْضي كثير من الزَّمان إلاَّ وقد استوعبت, وصارت كالمُصنف الواحد, ولعمري لقد كان هذا في غاية الحُسْن.
قلت: قد صنعَ المتأخِّرون ما يقرب من ذلك, فجمعَ بعض المُحدِّثين عمَّن كان في عصر شيخ الإسلام «زوائد سنن ابن ماجه» على الأصول الخمسة.
وجمع الحافط أبو الحسن الهيثمي «زوائد مسند» أحمد على الكتب الستة المذكورة في مجلدين, و«زوائد مسند البزَّار» في مجلد ضخم, و«زوائد معجم الطَّبراني الكبير» في ثلاثة, و«زوائد المُعجمين» الأوسط والصَّغير في مجلدين, و«زوائد أبي يَعْلى» في مجلد, ثمَّ جمع هذه الزوائد كلها محذوف الأسَانيد, وتكلَّم على الأحاديث, ويوجد فيها صحيح كثير, وجمع «زوائد الحِلْية» لأبي نعيم في مجلد ضخم, و«زوائد فوائد تمَّام» وغير ذلك.
وجمع شيخ الإسلام زوائد مسانيد إسحاق, وابن أبي عُمر, ومُسَدَّد, وابن أبي شيبة, والحُميدي, وعبد بن حُميد, وأحمد بن مَنِيع, والطَّيالسي في مجلدين و«زوائد مسند الفردوس» في مجلد.
وجمع صاحبنا الشَّيخ زين الدِّين قاسم الحنفي «زوائد سُنن الدَّارقطني» في مجلد.
وجمعتُ «زوائد شُعب الإيمان» للبيهقي في مجلد, وكُتب الحديث الموجودة سواها كثيرة جدَّا, وفيها الزَّوائد بكثرة فبلوغها العدد السَّابق لا يبعد والله أعلم."
ــــــــــــــ
د) أين نجد بقية الأحاديث الصحيحة التي فاتت البخاري ومسلماً ؟
نجدها في الكتب المعتمدة المشهورة كصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم والسنن الأربعة وسنن الدارقطني والبيهقي ، ومسند أبي عوانة ، وسنن الدارمي ، ومسند أحمد ومعاجم الطبراني الثلاث ، ومسند أبي يعلى ، ومسند البزار ، ومسند الحميدي والطيالسي ، وشرح معاني الآثار ومشكل الآثار للطحاوي ...
ولا يكفي وجود الحديث في هذه الكتب ، بل لا بد من التنصيص على صحته ،ولكن يجب الانتباه للطبعات المخرجة سواء من قبل الشيخ ناصر الدين الألباني ( رحمه الله ) أو من قبل الشيخ شعيب الأرناؤوط أو الشيخ عبد القادر الأرناؤوط (رحمه الله ) أو من سار على دربهم وقلدهم في الجرح والتعديل ، لأن هؤلاء جميعا من المتشددين في قبول السنَّة النبوية ، فما صححوه يقبل ، وما ضعفوه يتوقف فيه حتى يتأكد من قول العلماء الأقدمين فيه ، ويبحث عن طرق وشواهد له ثم يحكم عليه بما يناسبه دون غلو ولا شطط، فقد ضعف هؤلاء العلماء -الأجلاء - أحاديث كثيرة لا تستحق التضعيف ولا سيما الشيخ ناصر الدين الألباني (رحمه الله )
إلا في كتاب من شَرَطَ الاقتصار على إخراج الصحيح ، كصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان.
ــــــــــــــ
9- الكلام على مسْتَدْرَك الحاكم وصحيح ابن خزَيْمَةَ وصحيح ابن حِبّان :
أ) مستدرك الحاكم:
الحَاكِمُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَمْدُوَيْه الإِمَامُ، الحَافِظُ، النَّاقِدُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ المُحَدِّثِيْنَ، أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ البَيِّع الضَّبِّيّ، الطَّهْمَانِيُّ، النَّيْسَابُوْرِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.مَوْلِدُهُ:فِي يَوْم الاثنين، ثَالث شَهْر ربيع الأَوّل، سَنَة إِحْدَى وَعِشْرِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، بِنيْسَابُوْرَ.وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ، وَجَرَح وَعدَّل، وَصحَّح وَعلَّل، وَكَانَ مِنْ بُحور العِلْمِ عَلَى تشيُّعٍ قَلِيْلٍ فِيْهِ.وَأَخَذَ فُنُوْنَ الحَدِيْثِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الحَافِظ، وَالجِعَابِيّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الحَاكِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَعِدَّة.
أَخْبَرَنَا المُؤَمَّل بنُ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرهُ كِتَابَةً، قَالُوا: أَخْبَرَنَا زَيْدُ بنُ الحَسَنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُوْرٍ القَزَّاز، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ قَالَ:كَانَ أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ البَيِّع الحَاكِمُ ثِقَةً، أَوّلُ سَمَاعه سنَةَ ثَلاَثِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَكَانَ يمِيلُ إِلَى التَّشَيُّع،
عَنْ عَبْدِ الغَافِرِ بن إِسْمَاعِيْلَ قَالَ:الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ هُوَ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيْثِ فِي عَصْرِهِ، العَارِفُ بِهِ حقَّ معرفته، يُقَال لَهُ:الضَّبِّيّ، لأَنْ جدَّ جَدَّتِه هُوَ عِيْسَى بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الضَّبِّيّ، وَأُمُّ عِيْسَى هِيَ منويه بِنْتُ إِبْرَاهِيْم بن طَهْمَان الفَقِيْه، وَبَيْتُه بَيْتُ الصَّلاَحِ وَالورعِ وَالتَأَذينِ فِي الإِسْلاَمِ،
قَالَ أَبُو حَازِمٍ عُمَرُ بنُ أَحْمَدَ العَبْدُويي الحَافِظُ:سَمِعْتُ الحَاكِم أَبَا عَبْدِ اللهِ إِمَامَ أَهْلِ الحَدِيْثِ فِي عصره يَقُوْلُ: شَرِبْتُ مَاءَ زَمْزَم، وَسَأَلْتُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنِي حُسْنَ التَّصْنِيْف.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (12/559-580)(217 ) وتذكرة الحفاظ - (ج 2 / ص 588)(9 613 ) 65
(2) - وقال ابن كثير في تفسيره 1/99: هذا الحديث من غرائب (صحيح مسلم) وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري غير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه عَلى بعض الرواة، فجعله مرفوعاً. وفي فتاوى ابن تيمة بنحوه 17/236 وقال القاسمي في الفضل المبين432: هذا الحديث طعن فيه من هو أعلم من مسلم مثل يحيى بن معين ومثل البخاري وغيرهما ... وقد ثبت بالتواتر أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا عند أهل الكتاب، وعَلى ذلك تدل أسماء الأيام، وهذا المنقول الثابت في أحاديث وآثار آخر، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو خلاف ما أخبر به القرآن.
(3) - انظر الباعث ص 35 وأصول الحديث ص 314 - 318 ومنهج النقد ص 235-239
(4) - انظر فتح الباري لابن حجر - (ج 21 / ص 101)الحديث رقم (6963 )
(5) - النكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 283) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 48)
(6) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 25)
(7) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 55)
(8) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 25)
(9) - في تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 56)
(10) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 2) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 89)
(11) - قلت : وهذا فيه نظر كذلك ، فأين أحاديث أحمد والطبراني وأبي يعلى والبزار وابن حبان والحاكم والبيهقي ؟!!!
إلا إذا قصد بالصحيح العالي الصحة ، ومع هذا فلا يسلَّمُ له ذلك .(1/45)
قَالَ أَبُو حَازِمٍ:أَقَمْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ العُصْمِيّ قَرِيْباً مِنْ ثَلاَثِ سِنِيْنَ، وَلَمْ أَرَ فِي جُمْلَة مَشَايِخنَا أَتْقَنَ مِنْهُ وَلاَ أَكْثَرَ تَنْقِيْراً، وَكَانَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، أَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَى الحَاكِم أَبِي عَبْدِ اللهِ، فَإِذَا وَردَ جَوَابُ كِتَابِه، حَكَمَ بِهِ، وَقَطَعَ بِقَولِه.
رَوَى أَبوَ مُوْسَى المَدِيْنِيّ:أَنَّ الحَاكِم دَخَلَ الحَمَّام، فَاغتسل، وَخَرَجَ، وَقَالَ:آه، وَقُبِضَتْ رُوحُهُ وَهُوَ مُتَّزِرٌ لَمْ يَلْبِس قمِيصَهُ بَعْدُ، وَدُفِنَ بَعْد العَصْرِ يَوْمَ الأَرْبعَاء، وَصَلَّى عَلَيْهِ القَاضِي أَبو بكر الحِيْرِيّ.
قَالَ الحَسَنُ بنُ أَشعث القُرَشِيّ:رَأَيْت الحَاكِمَ فِي المَنَامِ عَلَى فَرَسٍ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَة وَهُوَ يَقُوْلُ:النَّجَاةَ، فَقُلْتُ لَهُ:أَيُّهَا الحَاكِم!فِي مَاذَا؟
قَالَ:فِي كِتْبَة الحَدِيْث.
قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ:سَأَلتُ سَعْدَ بن عَلِيٍّ الحَافِظ عَنْ أَرْبَعَة تَعَاصرُوا:أَيُّهُم أَحْفَظُ؟
قَالَ:مَن؟
قُلْتُ:الدَّارَقُطْنِيُّ، وَعَبْدُ الغَنِي، وَابْنُ مَنْدَةَ، وَالحَاكِم.
فَقَالَ:أَمَا الدَّارَقُطْنِيُّ فَأَعْلَمُهُم بِالعِلَل، وَأَمَّا عَبْدُ الغَنِي فَأَعْلَمُهُم بِالأَنْسَابِ، وَأَمَّا ابْنُ مَنْدَةَ فَأَكْثَرُهُم حَدِيْثاً مَعَ مَعْرِفَة تَامَّة، وَأَمَّا الحَاكِمُ فَأَحْسَنُهُم تَصْنِيْفاً.
وَسَمِعْتُ المُظَفَّر بن حَمْزَةَ بِجُرْجَانَ، سَمِعْتُ أَبَا سَعْد المَالِيْنِيّ يَقُوْلُ:طَالعتُ كِتَاب(المستدرك عَلَى الشَّيخين)، الَّذِي صَنَّفَه الحَاكِمُ مِنْ أَوله إِلَى آخره، فَلَمْ أَرَ فِيْهِ حَدِيْثاً عَلَى شَرْطِهِمَا"(1)
وعدد أحاديثه (8803) حديثاً ، وقد استدرك فيه الحاكم على الشيخين وأورد أحاديث على شرطهما أو شرط أحدهما ، أو صحيحة وليست على شرط أحدهما ، وقد انتقده من جاء بعده ، بأنه لم يوفّ بشروطه ، فأدرج في كتابه ماليس صحيحاً ،بل حكموا على بعضها بالوضع . انظر على سبيل المثال 4/415 و3/132 و2/316 و37 و4/102 و3/127 و103 و4/222 و317 و3/14 و129 و3/568 و2/300 و371 و1/566 و3/14 و15 و4/368 و3/124 .
وقد قام الإمام الذهبي بتلخيصه والحكم على أحاديثه وقد صحح أكثر من 75% ، وضعف أحاديث ، وحكم على أحاديث بالوضع . ، ويظهر على منهج الذهبي رحمه الله التشدد في التخريج ، وقد وقع في بعض الأخطاء منها :
- تصحيحه لحديث في مكان ، وتضعيفه له في آخر مثل الحديث رقم (1961) صححه هنا وضعفه برقم (3479)
والحديث رقم (1395) استنكره وعاد فصححه برقم (7941) وهو من الطريق نفسه ، ومثل ذلك عدد من الأحاديث .
- وأحاديث وافق الحاكم على تصحيحها وهي لاتستحق ذلك مثل الحديث رقم (924) فقد صححه على شرطهما ، وفيه محمد بن القاسم الأسدي واه جداً التقريب (6229)
والحديث رقم (1212) صححه وفيه أبوبكر العنسي مجهول التقريب (7998). والحديث رقم (1248) صححه وفيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي منكر الحديث التقريب (7006).
والحديث (1644) صححه وفيه عمر بن عطاء بن أبي وارة ضعيف التقريب (4949).
والحديث (1670) صححه ، وفيه محمد بن عون متروك التقريب (6203). والحديث (1812) صححه ، وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد واه التقريب (5820).
والحديث (1835) صححه ، وفيه عمر بن راشد ضعيف التقريب (4894). والحديث (1903) صححه ، وفيه محمد بن أبي حميد المدني ضعيف التقريب (5836).
والحديث (1998) صححه ، وفيه عدة متكلم فيهم ، وهذا في المجلد الأول فقط .
- وهناك أحاديث صححها على شرط الشيخين أو أحدهما وليست كذلك مثل الأحاديث رقم (929) و (1230) و(1289) و(1431 و1432) و(1908) و(2011) وهذا في المجلد الأول فقط .
- وهناك بعض الأحاديث حكم بوضعها وليست موضوعة مثل الحديث رقم (226) وأعله بعبد الجبار بن العباس ، وفاته أن له متابعة عند ابن أبي عاصم (824) وابن خزيمة (175).
ومنها الحديث رقم (1868) مال إلى وضعه ، وفاته أن له طريقاً آخر صحيح في الأدب المفرد للبخاري رقم (699).
والحديث (2090) إذ حكم بوضعه وليس كذلك وهذا في المجلد الأول فقط ، وفي غيره كذلك.
وللكتاب طبعتان الأولى بغير تحقيق ، والثانية ط دار الكتب العلمية وهي مرقمة ، وعليها تعليقات ، وفيها أخطاء كثيرة .
والكتاب بحاجة لتخريج كامل لأحاديثه دون تشدد مع ضبط للرجال والنص ، وشرح الغريب .
ب) صحيح ابن حبان:
ابْنُ حِبَّانَ مُحَمَّدُ بنُ حِبَّانَ بنِ أَحْمَدَ التَّمِيْمِيُّ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، شَيْخُ خُرَاسَانَ، أَبُو حَاتِمٍ، مُحَمَّدُ بنُ حِبَّانَ بنِ أَحْمَدَ بنِ حِبَّانَ بنِ مُعَاذِ بنِ معبدِ بنِ سَهِيدِ بنِ هَديَّةَ بنِ مُرَّةَ بنِ سَعْدِ بنِ يَزِيْدَ بنِ مُرَّةَ بنِ زَيْدِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ دَارمِ بنِ حَنْظَلَةَ بنِ مَالِكِ بنِ زَيْدِ منَاة بنِ تَمِيمٍ التَّمِيْمِيُّ الدَّارِمِيُّ البُسْتِيُّ، صَاحبُ الكُتُبِ المَشْهُوْرَةِ.
وُلِدَ سَنَةَ بِضْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
قَالَ أَبُو سَعْدٍ الإِدْرِيْسِيُّ:كَانَ عَلَى قَضَاءِ سَمَرْقَنْدَ زمَاناً، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الدِّينِ، وَحفَّاظِ الآثَارِ، عَالِماً بِالطّبِّ، وَبَالنُّجُوْمِ، وَفُنُوْنِ العِلْمِ.
صَنَّفَ المُسْنَدَ الصَّحِيْحَ، يَعْنِي بِهِ:كِتَابَ (الأَنواعِ وَالتقَاسيمِ)، وَكِتَابَ (التَّاريخِ)، وَكِتَابَ (الضُّعَفَاءِ)، وَفقَّهَ النَّاسَ بِسَمَرْقَنْدَ.
وَقَالَ الحَاكِمُ:كَانَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ أَوعيةِ العِلْمِ فِي الفِقْهِ، وَاللُّغةِ، وَالحَدِيْثِ، وَالوعظِ، وَمِنْ عقلاَءِ الرِّجَالِ.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ:كَانَ ابْنُ حِبَّانَ ثِقَةً نبيلاًَ فَهِماً.
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي أَثنَاءِ كِتَابِ (الأَنواعِ):لَعَلَّنَا قَدْ كَتَبْنَا عَنْ أَكثرَ مِنْ أَلفَي شَيْخٍ.
قُلْتُ:كَذَا فلتكنِ الهممُ، هَذَا مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الفِقْهِ، وَالعَرَبِيَّةِ، وَالفضَائِلِ البَاهرَةِ، وَكَثْرَةِ التَّصَانِيْفِ.
قَالَ أَبُو إِسْمَاعِيْلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيُّ مُؤَلّفُ كِتَابِ (ذمِّ الكَلاَمِ):سَمِعْتُ عبدَ الصَّمدِ بنَ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ:أَنكرُوا عَلَى أَبِي حَاتِمٍ بنِ حِبَّانَ قولَهُ:النُّبُوَّةُ:العِلْمُ وَالعملُ، فحكمُوا عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ، هُجرَ، وَكُتِبَ فِيْهِ إِلَى الخَلِيْفَةِ، فَكَتَبَ بِقَتْلِهِ.
قُلْتُ:
هَذِهِ حِكَايَةٌ غريبَةٌ، وَابنُ حِبَّانَ فَمِنْ كبارِ الأَئِمَةِ، وَلَسْنَا نَدَّعِي فِيْهِ العِصْمَةَ مِنَ الخَطَأِ، لَكِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ الَّتِي أَطلقَهَا، قَدْ يُطلقُهَا المُسْلِمُ، وَيُطلقُهَا الزِّنديقُ الفيلسوفُ، فَإِطلاَقُ المُسْلِمِ لَهَا لاَ يَنْبَغِي، لَكِنْ يُعتذرُ عَنْهُ، فَنَقُوْل: لَمْ يُردْ حصرَ المبتدأِ فِي الخَبَرِ، وَنظيرُ ذَلِكَ قولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - :(الحَجُّ عَرَفَةٌ) وَمعلومٌ أَنَّ الحَاجَّ لاَ يصيرُ بِمُجَرَّدِ الوُقُوْفِ بِعَرَفَةِ حَاجّاً، بَلْ بَقِيَ عَلَيْهِ فروضٌ وَواجبَاتٌ، وَإِنَّمَا ذكرَ مُهمَّ الحَجِّ.
وَكَذَا هَذَا ذكرَ مُهمَّ النُّبُوَّةِ، إِذْ مِنْ أَكملِ صفَاتِ النَّبِيِّ كمَالُ العِلْمِ وَالعملِ، فَلاَ يَكُون أَحدٌ نَبِيّاً إِلاَّ بوجودِهِمَا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ برَّزَ فِيْهِمَا نَبِيّاً، لأَنَّ النُّبُوَّةَ مَوْهِبَةٌ مِنَ الحَقِّ - تَعَالَى - ، لاَ حِيْلَةَ للعبدِ فِي اكتسَابِهَا، بَلْ بِهَا يتولَّدُ العِلْمُ اللَّدُنِّيُّ وَالعملُ الصَّالِحُ.
وَأَمَّا الفيلسوفُ فَيَقُوْلُ:النُّبُوَّةُ مكتسبَةٌ يُنْتجُهَا العِلْمُ وَالعملُ، فَهَذَا كفرٌ، وَلاَ يريدُهُ أَبُو حَاتِمٍ أَصلاًَ، وَحَاشَاهُ، وَإِنْ كَانَ فِي تقَاسيمِهِ مِنَ الأَقوَالِ، وَالتَّأَويلاَتِ البعيدَةِ، وَالأَحَادِيثِ المنكرَةِ، عجَائِبٌ، وَقَدِ اعترفَ أَنَّ (صحيحَهُ)لاَ يقدرُ عَلَى الكشفِ مِنْهُ إِلاَّ مَنْ حِفْظَهُ، كمنْ عِنْدَهُ مصحفٌ لاَ يقدرُ عَلَى مَوْضِعِ آيَةٍ يريدُهَا مِنْهُ إِلاَّ مَنْ يحفظُهُ.
وَقَالَ فِي (صَحِيْحِهِ ):شرطُنَا فِي نقلِهِ مَا أَودعنَاهُ فِي كتَابِنَا أَلاَّ نحتجَّ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ شَيْخٍ فِيْهِ خَمْسَةُ أَشيَاءَ:
العدَالةُ فِي الدِّينِ بِالسَتْرِ الجمِيلِ.
الثَّانِي:الصِّدْقُ فِي الحَدِيْثِ بِالشُّهرَةِ فِيْهِ.
الثَّالِثُ:العقلُ بِمَا يُحَدِّثُ مِنَ الحَدِيْثِ.
الرَّابِعُ:العِلْمُ بِمَا يحيلُ المعنَى مِنْ معَانِي مَا رَوَى.
الخَامِسُ:تَعرِّي خبرَهُ مِنَ التَّدْلِيسِ.
فَمَنْ جمعَ الخِصَالَ الخمسَ احتجَجْنَا بِهِ.
قَرَأْتُ بخطِّ الحَافِظِ الضِّيَاءِ فِي جُزءٍ علَّقَهُ مآخِذَ عَلَى كِتَابِ ابْنِ حِبَّانَ.
فَقَالَ:فِي حَدِيْثِ أَنَسٍ فِي الوصَالِ:فِيْهِ دليلٌ عَلَى أَنَّ الأَخبارَ الَّتِي فِيْهَا وضعُ الحَجَرِ عَلَى بطنِهِ مِنَ الجوعِ كُلُّهَا بَوَاطِيْلٌ، وَإِنَّمَا معنَاهَا الحُجَزُ، وَهُوَ طرفُ الرِّدَاءِ، إِذ اللهُ يُطعمُ رسولَهُ، وَمَا يُغنِي الحَجرُ مِنَ الجوعِ.
قُلْتُ:فَقَدْ سَاقَ فِي كِتَابِهِ حَدِيْثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي خُرُوْجِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الجوعِ، فلقِيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخبرَاهُ.
فَقَالَ:(أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا)، فدلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُطعَمُ وَيُسقَى فِي الوصَالِ خَاصَّةً.
فَوَهِمَ أَبُو حَاتِمٍ كمَا تَرَى فِي أَشيَاءَ.
تُوُفِّيَ ابْنُ حِبَّانَ بِسِجِسْتَانَ بِمدينَةِ بُسْتَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَهُوَ فِي عشرِ الثَّمَانِيْنَ(2)
هذا الكتاب ترتيبه مٌخْتَرَع ، فليس مرتباً على الأبواب ولا على المسانيد ، ولهذا أسماء " التقاسيم والأنواع " والكشف على الحديث من كتابه هذا عَسِر جداً ، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب وهو الأمير علاء الدين أبو الحسن على بن بلبان المتوفي سنة 739هـ وسمى ترتيبه "الإحسان في تقريب ابن حبان" ،
وقد اشترط في أحاديثه أن يتوفر في رواتها : العدالة في الدين بالستر الجميل . والصدق في الحديث بالشهرة فيه، والعقل بما يحدّث من الحديث والرابع العلمُ بما يحيل من معاني مايروى ، والخامس : تعري خبره عن التدليس ...
ويمتاز كتابه بدقةِ عناوينه وشمولها ، وشرحه لما غمض من السنة وما أشكل منها ، وترجمته لبعض الرواة ، وذكره الناسخ والمنسوخ .
وأحاديثه تدور بين الصحيح والحسن ، ولا يخلو من الضعيف وله طبعتان : الأولى دون تحقيق وتخريج والثانية التي قام بتخريجها والتعليق عليها أستاذنا المحقق الشيخ شعيب الأرنؤوط ، وتمتاز هذه الطبعة بأنها الأُولى من نوعها في تخريج الحديث والتعليق عليه ، وفيها دراسة تامة لكل رجال أسانيده بشكل دقيق ، والتخريج المفصَّل المسهب لكل أحاديثه ، مع التعليق الدقيق عليها مما لا يستغني عنه طالب علم ولا عالم ، ومما يؤخذ على أستاذنا أنه ضعف أحاديث بسبب ضعف رواتها وعدم وجود ما يقويها ، استناداً لما قاله الحافظ ابن حجر في التقريب عنهم ، علماً أن الحافظ ابن حجر رحمه - مع سعة علمه - أخطأ في حكمه على بعض الرواة مما سأوضحه في مكانه .. أو فهم كلامه على غير مقصده .
ومن هؤلاء : أبو الزبير المكي ووصفه بالتدليس ، وكذلك ابن اسحاق ، ورواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم ونحوها ، ...
انظر الأحاديث (1) و(2) و(248) و(193) و(309) و(347) و(368) و(398) و(403) و(422) ...
وقد بلغ عدد الأحاديث التي ضعفها حوالي (300) حديث ناقشته في أكثرها ، وبينت أن الصواب مع ابن حبان.
وقد أشرت على أخينا الفاضل (ماجد دلالعة ) بأخذ رسالة دكتوراه حول منهج ابن حبان في الصحيح وقد أخذها والحمد لله ، وقد ردَّ على من زعم أنه متساهل كما شائع ، وناقش الأحاديث التي ضعفت في صحيحه ورد أكثرها بمنهج علمي معتدل رصين بعيد عن منهج المتشددين والمتساهلين ، فجزاه الله تعالى عنا خيرا .
هذا وقد بلغ عدد أحاديث صحيح ابن حبان (7491) حسب طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق أستاذنا الشيخ شعيب الأرناؤوط ومن معه .
وفي موقع جامع الحديث النبوي : http://www.alsunnah.com
بلغ عدد الأحاديث (7615 )
ولم يتجاوز عدد الأحاديث التي ضعفها شيخنا (300) حديث ، تراجع عن بضعها في تحقيقه لمسند الإمام أحمد .
والصواب أنه كان من المتشددين فلم يسلمْ له من تضعيفاته سوى بضع وثلاثين حديثاً ليس إلا، غالبها ضعفها ضعفا يسيراً ، والباقي يدور بين الصحة والحسن بشقَّيه .
ج) صحيح ابن خزيمة :
ابْنُ خُزَيْمَةَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ صَالِحِ بنِ بَكْرٍ السُّلَمِيُّ الحَافِظُ، الحُجَّةُ، الفَقِيْهُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، إِمَامُ الأَئِمَّةِ، أَبُو بَكْرٍ السُّلَمِيُّ النَّيْسَابُوْرِيُّ، الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.وُلِدَ:سَنَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَعُنِيَ فِي حَدَاثتِه بِالحَدِيْثِ وَالفِقْهِ، حَتَّى صَارَ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ فِي سَعَةِ العِلْمِ وَالإِتْقَانِ.
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيْدُ بنُ إِسْمَاعِيْلَ الحِيْرِيُّ:حَدَّثَنَا ابْنُ خُزَيْمَةَ، قَالَ: كُنْتُ إِذَا أَرَدتُ أَنْ أُصَنِّفَ الشَّيْءَ، أَدخُلُ فِي الصَّلاَةِ مُسْتَخِيراً حَتَّى يُفْتحَ لِي، ثُمَّ أَبتَدِئُ التَّصنِيفَ ،ثُمَّ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ:إِنَّ اللهَ لَيَدفَعُ البَلاَءَ عَنْ أَهْلِ هَذِهِ المَدِيْنَةِ لِمَكَانِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ.
الحَاكِمُ:أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ وَسُئِلَ:مِنْ أَيْنَ أُوتِيتَ العِلْمَ؟فَقَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :(مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ)، وَإِنِّيْ لَمَّا شَرِبتُ، سَأَلْتُ اللهَ عِلْماً نَافِعاً.
قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُوْرِيُّ:لَمْ أَرَ أَحَداً مِثْلَ ابْنِ خُزَيْمَةَ.
وقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الحَافِظُ:كَانَ ابْنُ خُزَيْمَةَ يَحْفَظُ الفِقْهِيَّاتِ مِنْ حَدِيْثِه كَمَا يَحْفَظُ القَارِئُ السُّورَةَ.
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ بنُ حِبَّانَ التَّمِيْمِيُّ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ عَلَى وَجهِ الأَرْضِ مَنْ يَحْفَظُ صِنَاعَةَ السُّنَنِ، وَيَحْفَظُ أَلفَاظَهَا الصِّحَاحَ وَزِيَادَاتِهَا حَتَّى كَأنَّ السُّنَنَ كُلّهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، إِلاَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْحَاقَ بنِ خُزَيْمَةَ فَقَط.
قَالَ أَبُو الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ:كَانَ ابْنُ خُزَيْمَةَ إِمَاماً، ثَبْتاً، مَعْدُوْمَ النَّظِيرِ.
حَكَى أَبُو بِشْرٍ القَطَّانُ، قَالَ:رَأَى جَارٌ لاِبْنِ خُزَيْمَةَ - مِنْ أَهْلِ العِلْمِ - كَأَنَّ لَوْحاً عَلَيْهِ صُوْرَةُ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَابْنُ خُزَيْمَةَ يَصقُلُه.
فَقَالَ المُعَبِّرُ:هَذَا رَجُلٌ يُحْيي سُنَّةَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ الإِمَامُ أَبُو العَبَّاسِ بنُ سُرَيْجٍ - وَذُكِرَ لَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ - فَقَالَ:
يَسْتَخرِجُ النُّكتَ مِنْ حَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ بِالمِنقَاشِ.
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ مُحَمَّدٍ العَنْبَرِيُّ:سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُوْلُ:لَيْسَ لأَحِدٍ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلٌ إِذَا صَحَّ الخَبَرُ.
قَالَ الحَاكِمُ:سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ صَالِحِ بنِ هَانِئٍ، سَمِعْتُ ابْنَ خُزَيْمَةَ يَقُوْلُ:مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللهَ عَلَى عَرشِه قَدِ اسْتوَى فَوْقَ سَبعِ سَمَاوَاتِه، فَهُوَ كَافِرٌ حَلاَلُ الدَّمِ، وَكَانَ مَالُهُ فَيْئاً.
قُلْتُ: مَنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ تَصْدِيْقاً لِكِتَابِ اللهِ، وَلأَحَادِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَآمَنَ بِهِ مُفَوِّضاً مَعْنَاهُ إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَلَمْ يَخُضْ فِي التَّأْوِيْلِ وَلاَ عَمَّقَ، فَهُوَ المُسْلِمُ المُتَّبِعُ، وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْرِ بِثُبُوْتِ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهُوَ مُقَصِّرٌ وَاللهِ يَعْفُو عَنْهُ، إِذْ لَمْ يُوجِبِ اللهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حِفظَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ أَنكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ العِلْمِ، وَقَفَا غَيْرَ سَبِيْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَمَعقَلَ عَلَى النَّصِّ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الضَّلاَلِ وَالهَوَى.
وَكَلاَمُ ابْنِ خُزَيْمَةَ هَذَا - وَإِنْ كَانَ حَقّاً - فَهُوَ فَجٌّ، لاَ تَحْتَمِلُهُ نُفُوْسُ كَثِيْرٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي العُلَمَاءِ.
وَضَبَطُ وَفَاته:فِي ثَانِي ذِي القَعْدَةِ، سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، عَاشَ تِسْعاً وَثَمَانِيْنَ سَنَةً...(3)
هو أعلى مرتبة من صحيح ابن حبان لشدة تحريه حتى أنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد ،ولكنه قد أورد أحاديث ولم يصححها ، فتخرج عن شرطه ـ كما أنه حسَّن أحاديث مختلف في رواتها جرحا وتعديلا ، فنقبل قوله من حيث الجملة ، ولكن الذين قاموا بتخريج أحاديث الكتاب تشددوا في قبول الأخبار ، فضعفوا أحاديث لا تستحق ذلك على الراجح ، فيجب الانتباه وعدم التسرع في التضعيف وعدد أحاديثه (3079) حديثا طبعة المكتب الإسلامي
وفي موقع جامع الحديث(4): بلغ عدد الأحاديث (2841) فحذفوا بعض أرقام المكرر.
ــــــــــــــ
10- المُسْتَخْرَجَات على الصحيحين(5):
أ) موضوع المستخرج :
هو أن يأتي المصنِّف إلى كتاب من كتب الحديث ، فيخرِّج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب ، فيجتمع معه في شيخه أو من فوقه .
ب) أشهر المستخرجات على الصحيحين(6):
1- المستخرج لأبي بكر الإسماعيلي على البخاري
الإِسْمَاعِيْلِيُّ أَحْمَدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ الإِمَامُ، الحَافِظُ، الحجَّةُ، الفَقِيْهُ، شَيْخُ الإِسلاَمِ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ بنِ العَبَّاسِ الجُرْجَانِيُّ الإِسمَاعِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، صَاحبُ (الصَّحِيْحِ)، وَشيخُ الشَّافِعِيَّةِ.
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
قَالَ حَمْزَةُ:سَمِعْتُ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ الحَافِظَ بِالبَصْرَةِ يَقُوْلُ:كَانَ الوَاجبُ للشَّيخِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يصَنِّفَ لِنَفْسِهِ سُنَناً وَيختَارَ وَيجتهدَ، فَإِنَّهُ كَانَ يقدِرُ عَلَيْهِ لكَثْرَةِ مَا كَتَبَ، وَلغَزَارَةِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَجَلاَلَتِهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يتقيَّدَ بكتَابِ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيْلَ البُخَارِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ أَجلَّ مِنْ أنْ يتَّبعَ غَيْرَهُ، أَوْ كَمَا قَالَ.
قُلْتُ:مِنْ جَلاَلَةِ الإِسمَاعِيلِيِّ أَنْ عَرفَ قَدْرَ (صَحِيْحِ البُخَارِيِّ) وَتقيَّدَ بِهِ.
قَالَ الحَاكِمُ:كَانَ الإِسمَاعِيلِيُّ وَاحدَ عَصْرِهِ، وَشيخَ المُحَدِّثِيْنَ وَالفُقَهَاءَ، وَأَجلَّهُمْ فِي الرَّئَاسَةِ وَالمُروءةِ وَالسَّخَاءِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ العُلَمَاءِ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ وَعقلاَئِهِمْ فِي أَبِي بَكْرٍ.
عن حَمْزَةَ بنَ يُوْسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الإِسمَاعِيلِيُّ، قَالَ: اعْلَمُوا - رحِمَكُمُ اللهُ - أَنَّ مَذَاهبَ أَهْلِ الحَدِيْثِ الإِقرَارُ بِاللهِ وَملاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَقبولُ مَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ، وَمَا صحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لاَ مَعْدِلَ عَنْ ذَلِكَ.
وَيعتقِدُوْنَ بِأَنَّ اللهَ مدعُوٌّ بِأَسمَائِهِ الحُسْنَى، وَموصوفٌ بِصفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهَا نَبِيُّهُ، خَلَقَ آدَمَ بيَدَيْهِ، وَيدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ بِلاَ اعْتِقَادِ كَيْفٍ، وَاسْتوَى عَلَى العِرشِ بِلاَ كَيْفٍ، وَذكرَ سَائِرَ الاعْتِقَادِ.
قَالَ حَمْزَةُ:مَاتَ أَبُو بَكْرٍ فِي غرَّةِ رَجَبٍ سنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً"(7).
2- المستخرج لأبي عوانة الاسفراييني على مسلم
أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوْبُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ النَّيْسَابُوْرِيُّ الإِمَامُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، الجَوَّالُ، أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوْبُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ يَزِيْدَ النَّيْسَابُوْرِيُّ الأَصْلِ، الإِسْفَرَايِيْنِيُّ، صَاحِبُ(المُسْنَدِ الصَّحِيْحِ)؛الَّذِي خَرَّجَهُ عَلَى(صَحِيْحِ مُسْلِمٍ)، وَزَادَ أَحَادِيْثَ قَلِيْلَةً فِي أَوَاخِرِ الأَبْوَابِ. مَوْلِدُهُ:بَعْدَ الثَّلاَثِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ:بِالحَرَمَيْنِ، وَالشَّامِ، وَمِصْرَ، وَاليَمَنِ، وَالثُّغُوْرِ، وَالعِرَاقِ، وَالجَزِيْرَةِ، وَخُرَاسَانَ، وَفَارِسٍ، وَأَصْبَهَانَ.
وَأَكْثَرَ التَّرحَالَ، وَبَرَعَ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَبَذَّ الأَقرَانَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ:أَبُو عَوَانَةَ مِنْ عُلَمَاءِ الحَدِيْثِ وَأَثْبَاتِهِم، سَمِعْتُ ابْنَهُ مُحَمَّداً يَقُوْلُ:إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
تُوُفِّيَ أَبُو عَوَانَةَ فِي سَلْخِ ذِي الحِجَّةِ، سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ.
__________
(1) - .سير أعلام النبلاء 17/17-184(100 )
(2) -.سير أعلام النبلاء 16/94-105(70 )
(3) - سير أعلام النبلاء (14/366-382)(214 )
(4) - http://www.alsunnah.com
(5) - لا يختص المُستخرج بالصَّحيحين, فقد استخرجَ محمَّد بن عبد الملك بن أيمن على «سُنن» أبي داود, وأبو علي الطُّوسي على التِّرمذي, وأبو نُعيم على «التَّوحيد» لابن خُزيمة, وأملى الحافظ أبو الفضل العِرَاقي على «المستدرك» مُستخرجًا لم يُكمل.تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 70)
(6) - قواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 229) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 32)
(7) - سير أعلام النبلاء (16/294-297)(208 )(1/46)
وَقَالَ غَيْرُهُ:بُنِي عَلَى قَبْرِ أَبِي عَوَانَةَ مَشْهَدٌ بِإِسْفَرَايِيْنَ يُزَارُ، وَهُوَ فِي دَاخلِ المَدِيْنَةِ، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللهُ - أَوَّلَ مَنْ أَدخَلَ إِسْفَرَايِيْنَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَكُتُبَه، حَمَلَهَا عَلَى الرَّبِيْعِ المُرَادِيِّ، وَالمُزَنِيِّ(1).
مستخرج أبي عوانة عدد الأحاديث (7041) حديثا،وكلها تقريبا تدور بين الصحيح والحسن بشقيه ، وفيها وفوائد نادرة وقيمة .
3- المستخرج لأبي نعيم الأصبهاني على كل منهما
أَبُو نُعَيْمٍ المِهْرَانِيُّ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ أَحْمَدَ الإِمَامُ، الحَافِظُ، الثِّقَةُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو نُعَيْمٍ المِهْرَانِيُّ، الأَصْبَهَانِيُّ، الصُّوْفِيُّ، الأَحْوَلُ، سِبْطُ الزَّاهِدِ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ البَنَّاءِ، وَصَاحِبُ(الحِلْيَةِ).وُلِدَ:سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاَثِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
وَكَانَ حَافِظاً مُبَرِّزاً عَالِي الإِسْنَاد، تَفَرَّد فِي الدُّنْيَا بِشَيْءٍ كَثِيْرٍ مِنَ العوَالِي، وَهَاجر إِلَى لُقِيِّه الحُفَّاظُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ:سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الخَطِيْبَ يَقُوْلُ:لَمْ أرَ أَحداً أُطْلِقُ عَلَيْهِ اسْم الحِفْظِ غَيْرَ رَجُلَيْنِ؛أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيّ وَأَبُو حَازِمٍ العَبْدُويي.
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مَرْدَوَيْه:كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي وَقتِهِ مرحُولاً إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ أَسندُ وَلاَ أَحفظُ مِنْهُ، كَانَ حُفَّاظُ الدُّنْيَا قَدِ اجتمعُوا عِنْدَهُ، فَكَانَ كُلّ يَوْم نَوْبَة وَاحِد مِنْهُم يقرأُ مَا يُرِيْدُهُ إِلَى قَرِيْب الظُّهر، فَإِذَا قَامَ إِلَى دَاره، رُبَّمَا كَانَ يُقْرَأ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيْق جُزءٌ، وَكَانَ لاَ يَضْجَرُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ غَدَاءٌ سِوَى التَّصْنِيف وَالتَّسْمِيع.
قَالَ حَمْزَةُ بنُ العَبَّاسِ العَلَوِيُّ:كَانَ أَصْحَابُ الحَدِيْث يَقُوْلُوْنَ:بَقِيَ أَبُو نُعَيْمٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِلاَ نظير، لاَ يُوجد شرقاً وَلاَ غرباً أَعْلَى مِنْهُ إِسْنَاداً، وَلاَ أَحفَظُ مِنْهُ.
وَكَانُوا يَقُوْلُوْنَ:لَمَّا صَنَّفَ كِتَابَ(الحِلْيَة)حُمِلَ الكِتَابُ إِلَى نَيْسَابُوْرَ حَالَ حَيَاتِهِ، فَاشترَوهُ بِأَرْبَع مائَة دِيْنَارٍ.
وَقَدْ نقل الحَافِظَان ابْنُ خَلِيْل وَالضِّيَاءُ جُمْلَةً صَالِحَةً إِلَى الشَّامِ مِنْ توَالِيف أَبِي نُعَيْمٍ وَرِوَايَاتِهِ، أَخذهَا عَنْهُمَا شُيُوْخُنَا، وَعِنْد شَيْخِنَا أَبِي الحَجَّاجِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيْرٌ بِالإِجَازَةِ العَالِيَةِ(كَالحِلْيَة)، وَ(المُسْتَدرك عَلَى صَحِيْح مُسْلِم).
مَاتَ أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ:فِي العِشْرِيْنَ مِنَ المُحَرَّم سَنَة ثَلاَثِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُوْنَ سَنَةً...(2).
وقد طبع الكتاب دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان - 1417 هـ - 1996 م
وعدد أحاديثه حوالي (3516) حديثا
ــــــــــــــ
ج) هل التزم أصحاب المستخرجات فيها موافقة الصحيحين في الألفاظ ؟
لم يلتزم مصنفوها موافقتهما في الألفاظ ، لأنهم إنما يروون الألفاظ التي وصلتهم من طريق شيوخهم لذلك فقد حصل فيها تفاوت قليل في بعض الألفاظ .
وكذلك ما أخرجه المؤلفون القدامى في تصانيفهم المستقلة كالبيهقي والبغوي وشبههما قائلين : " رواه البخاري " أو " رواه مسلم " فقد وقع في بعضه تفاوت في المعنى وفي الألفاظ ، فمرادهم من قولهم " رواه البخاري ومسلم " أنهما رويا أصله .
مثل ما في مسند أبي عوانة (ج 1 / ص 203) برقم (949 ) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِشْكَابَ أَبُو الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي مَعْشَرٍ، قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سِنَانٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: لا وَجَدْتَهُ إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ قَالَ ابْنُ أَبِي مَعْشَرٍ: إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ: لِغَيْرِ هَذِهِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَن ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ مَا صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، يُقَالُ: إنَّ مُحَمَّدَ بْنَ شَيْبَةَ هُوَ أَبُو نَعَامَةَ بْنُ نَعَامَةَ، رَوَاهُ مِسْعَرٌ، وَهِشَامٌ، وَجَرِيرٌ عَنْهُ.
وهو في صحيح مسلم (1290 ) وَحَدَّثَنِى حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِىُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ فِى الْمَسْجِدِ فَقَالَ مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأَحْمَرِ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ وَجَدْتَ. إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ».
(1291 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِى سِنَانٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا صَلَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ مَنْ دَعَا إِلَى الْجَمَلِ الأَحْمَرِ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ وَجَدْتَ إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ».
(1292 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ بَعْدَ مَا صَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الْفَجْرِ. فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ. بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا. قَالَ مُسْلِمٌ هُوَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ أَبُو نَعَامَةَ رَوَى عَنْهُ مِسْعَرٌ وَهُشَيْمٌ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكُوفِيِّينَ.
وفي المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم - (ج 2 / ص 165)
1242 حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا أحمد بن علي ثنا أبو خيثمة قال عبد الله وحدثنا محمد بن العباس ثنا الأحمسي قال ثنا وكيع ح وحدثنا أبو عمرو بن حمدان ثنا الحسن بن سفيان ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ح وحدثنا أبو بكر بن مالك ثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا وكيع عن أبي سفيان وهو سعيد بن سنان الشيباني عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال صلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فهام رجل فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ( لا وجدت إنما بنيت هذه المساجد لما بنيت له ) رواه مسلم عن أبي بكر عن وكيع وهذا لفظه
1243 وروى مسلم عن قتيبة عن جرير عن محمد ابن شيبة بن نعامة عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال جاء أعرابي بعد ما صلى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) صلاة فأدخل رأسه من باب المسجد فقال من دعا إلى الجمل فذكر بمثل حديثهم قال سالم وشيبة بن نعامه هو أبو نعامة روى عنه مسعر وهشيم وجرير وغيرهم من الكوفيين .
د) هل يجوزُ أن ننقل منها حديثاً ونعزوه إليهما ؟
بناء على ما تقدم فلا يجوز لشخص أن ينقل من المستخرجات أو الكتب المذكورة آنفاً حديثاً ويقول رواه البخاري أو مسلم إلا بأحد أمرين :
1- أن يقابِل الحديث بروايتهما .
2- أو يقول صاحب المستخرَج أو المصنِّف " أخرجاه بلفظه" .
هـ) فوائد المستخرجات على الصحيحين :
للمستخرجات على الصحيحين فوائد كثيرة تقارب العشرة ، ذكرها السيوطي في تدريبه وإليك أهمها:
1-عُلو الإسْنَاد: لأنَّ مُصَنِّف المُسْتخرج, لو رَوَى حديثًا مثلاً من طريق البُخَاري, لوقع أنزلَ من الطَّريق الَّذي رواهُ به في المستخرج, مثالهُ: أنَّ أبا نُعيم لو رَوَى حديثا عن عبد الرزق من طريق البُخَاري أو مسلم, لَمْ يصل إليه إلاَّ بأربعة, وإذا رواهُ عن الطَّبراني عن الدَّبَري - بفتح المُوحدة - عنه, وصل باثنين, وكذا لو روى حديثًا في «مسند» الطَّيالسي من طريق مسلم, كان بينه وبينهُ أربعة, شيخان بينه وبين مُسلم, ومسلم وشيخه, وإذا رواه عن ابن فارس عن يونس بن حبيب عنه, وصلَ باثنين.
2- زيادة الصَّحيح, فإن تلك الزيادات صحيحة لكونها بإسنادهما .
قال الحافظ ابن حجر: هذا مُسَلَّمٌ في الرَّجل الَّذي التقى فيه إسناد المُستخرج, وإسناد مُصنف الأصل, وفيمن بعدهُ, وأمَّا من بين المُستخرج وبين ذلكَ الرَّجل فيحتاج إلى نقد, لأنَّ المُستخرج لم يلتزم الصِّحة في ذلك, وإنَّما جُل قَصْدهِ العُلو, فإنْ حصلَ وقع على غرضه, فإن كان مع ذلكَ صحيحًا, أو فيه زيادة, فزيادة حسن حصلت اتِّفاقا, وإلاَّ فليسَ ذلك هِمَّته.
قال: قد وقع ابن الصَّلاح هنا فيما فرَّ منه من عدم التَّصحيح في هذا الزَّمان, لأنَّه أطلق تصحيح هذه الزِّيادات, ثمَّ علَّلها بتعليل أخصَّ من دعواهُ, وهو كونها بذلك الإسْنَاد, وذلكَ إنَّما هو من مُلتقى الإسْنَاد إلى مُنتهاه.(3)
" والمراد بالزيادة في كلام ابن الصلاح الزيادة الواقعة في بعض المتون المذكورة في الصحيحين أو أحدهما، وأما الزيادة المستقلةُ فلا تدخل تحت ذلك الحكم على الإطلاق ،وقد وقع شيء منها في مستخرج أبي عوانة على مسلم، قال بعض أهل
الأثر : قد وقع في مستخرج أبي عوانة أحاديث كثيرة زائدة على أصله ،وفيها الصحيح والحسن بل والضعيف أيضا - ولكن بندرةٍ -، فينبغي التحرز في الحكم عليها أيضا(4).
وأما ما وقع فيه وفي غيره من المستخرجات على الصحيحين من زيادة في أحاديثهما أو تتمة لمحذوف أو نحو ذلك فهي صحيحة لكن مع وجود الصفات المشترطة في الصحيح فيما بين صاحب المستخرج والراوي الذي اجتمع فيه هو وصاحب الأصل.
قال الحافظ ابن حجر(5): "ومقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما - ممن اشترط الصحيح - بالتسليم، وكذا ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين وفي كل ذلك نظر.
أما الأول: فلم يلتزم ابن خزيمة وابن حبان في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف، لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، بل عندهما أن الحسن قسم من الصحيح لا قسيمه. وقد صرح ابن حبان بشرطه.
وحاصله: أن يكون راوي الحديث عدلا مشهورا بالطلب غير مدلس سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي.
فإن كان يروي من حفظه فليكن عالما بما يحيل المعاني فلم يشترط على الاتصال والعدالة ما اشترطه المؤلف في الصحيح من وجود الضبط ومن عدم الشذوذ والعلة. وهذا وإن لم يتعرض ابن حبان لاشتراطه فهو إن وجده كذلك أخرجه وإلا فهو ماش على ما أصّل، لأن وجود هذه الشروط لا ينافي ما اشترطه.
وسمى ابن خزيمة كتابه "المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة".
وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء، لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة مغترف من بحره ناسج على منواله.
ومما يعضد ما ذكرنا احتجاج ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات كابن إسحاق وأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن عجلان ومحمد بن عمرو بن علقمة وغير هؤلاء.
فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علة قادحة .
وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أنها جمعت الشروط المذكورة في حد الصحيح فلا. - والله أعلم -.
وأما الثاني: وهو ما يتعلق بالمستخرجات ففيه نظر - أيضا - لأن كتاب أبي عوانة وإن سماه بعضهم مستخرجا على مسلم، فإن له فيه أحاديث كثيرة مستقلة في أثناء الأبواب نبه هو على كثير منها، ويوجد فيها الصحيح والحسن والضعيف - أيضا - والموقوف .
وأما كتاب الإسماعيلي فليس فيه أحاديث مستقلة زائدة ،وإنما تحصل الزيادة في أثناء بعض المتون، والحكم بصحتها متوقف على أحوال رواتها. فربَّ حديث أخرجه البخاري من طريق بعض أصحاب الزهري عنه - مثلا - فاستخرجه الإسماعيلي وساقه من طريق آخر من أصحاب الزهري بزيادة فيه وذلك الآخر ممن تكلم فيه فلا يحتج بزيادته."(6)
3- ومِنْها: القُوة بكثرة الطُّرق للترجيح عند المُعَارضة, ذكره ابن الصَّلاح في مقدمة «شرح مسلم» وذلكَ بأن يضم المستخرج شخصًا آخر فأكثر مع الَّذي حدَّث مُصنِّف الصَّحيح عنه, وربَّما ساق له طُرقًا أُخرى إلى الصَّحابي بعد فراغه من استخراجه, كما يصنع أبو عوانة.
4- ومنها: أن يكون مُصنِّف الصَّحيح, روى عمَّن اختلط ولم يُبين, هل سَمَاع ذلك الحديث في هذه الرواية قبل الاختلاط أو بعده, فيبينه المُستخرج, إمَّا تصريحًا أو بأن يَرْويه عنه من طريق من لم يسمع منهُ إلاَّ قبل الاختلاط.
5- ومنها: أن يروى في الصَّحيح عن مُدلِّس بالعنعنة, فيرويه المستخرج بالتَّصريح بالسَّماع.
فهاتانِ فائدتان جَليلتان, وإن كُنَّا لا نتوقف في صحَّة ما رُوي في الصَّحيح من ذلك غير مبين, ونقول: لو لم يطلع مُصنِّفه على أنَّه روى عنه قبل الاختلاط, وأن المُدلس سمع لم يخرجه.
فقد سأل السُّبكي المِزِّي: هل وُجِدَ لكلِّ ما رَوَياهُ بالعنعنة طُرق مُصرَّح فيها بالتَّحديث؟ فقال: كثير من ذلك لم يُوجد, وما يسعنا إلاَّ تحسين الظَّن.
6- ومنها: أن يروي عن مُبهم, كحدَّثنا فُلان, أو رجل, أو فُلان, أوغيره, أو غير واحد, فيُعَيِّنهُ المُستخرج.
7- ومنها: أن يروي عن مُهمل, كمحمَّد من غير ذكر ما يُميِّزه, عن غيره من المُحمدين, ويكون في مشايخ من رواه كذلك من يُشاركه في الاسم, فيُميِّزه المُستخرج.
قال شيخ الإسْلام: وكل عِلَّة أعلَّ بها حديث في أحد «الصَّحيحين» جاءت رِوَاية المُستخرج سالمة منها, فهي من فوائده, وذلك كثير جدًّا.(7)
ــــــــــــــ
11- ما هو المحكوم بصحته مما رواه الشيخان ؟
مر بنا أنَّ البخاري ومسلماً لم يُدْخِلا في صحيحيهما إلا ما صحَّ ،وأن الأمة تلقت كتابيهما بالقبول . فما هي الأحاديث المحكوم بصحتها والتي تلقتها الأمة بالقبول يا ترى ؟
والجواب هو : أن ما روياه بالإسناد المتصل فهو المحكوم بصحته .
وأما ما حذف من مبدأ إسناده راو أو أكثر ـ ويسمَّى المُعَلَّقُ(8)وهو في البخاري كثير ، لكنه في تراجم الأبواب ومقدمتها ، ولا يوجد شيء منه في صلب الأبواب البتة ، أما في مسلم فليس فيه من ذلك إلا حديث واحد في باب التيمم لم يصله في موضع آخر ـ فحكمه كما يلي(9):
قال الإمام السيوطي رحمه الله(10):
" ما رَوَياه أي: الشَّيخان [بالإسْنَاد المُتَّصل فهو المحكوم بصحَّته، وأمَّا ما حذف من مُبتدأ إسناده واحد أو أكثر] وهو المُعلَّق, وهو في البُخَاري كثير جدًّا كما تقدَّم عدده, وفي مُسلم(150/1) في موضع واحد في التَّيمم (848 ) حيث قَالَ مُسْلِمٌ وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِى الْجَهْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِىِّ فَقَالَ أَبُو الْجَهْمِ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ)(11)
وفيه أيضًا موضعان في الحُدُود والبُيوع, رَوَاهُمَا بالتَّعليق عن اللَّيث, بعد روايتهما بالاتِّصال, وفيه بعد ذلك أرْبَعة عَشَرَ موضعًا, كل حديث منها رواهُ مُتَّصلاً, ثمَّ عقبه بقوله: ورواه فُلان.
وأكثر ما في البُخَاري من ذلك مَوْصُول في موضع آخر من كِتَابه, وإنَّما أوردهُ معلقًا اختصارًا, ومُجَانبة للتكرَارِ, والَّذي لم يُوصله في موضع آخر, مئة وسُتون حديثًا, وصلها شيخ الإسْلام ( الحافظ ابن حجر ) في تأليف لَطِيف سمَّاه «التَّوفيق» وله في جميع التعليق والمُتَابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سمَّاه «تغليق التعليق» واختصرهُ بلا أسانيد في آخر سمَّاه «التَّشْويق إلى وصل المُهم من التَّعليق».
فمَا كان منه بصيغة الجَزْم, كقال, وفعلَ, وأمرَ, وروى, وذَكرَ فُلان, فهو حكم بصحته عن المضاف إليه لأنَّه لا يستجيز أن يجزم بذلك عنه, إلاَّ وقد صحَّ عنده عنه, لكن لا يُحكم بصحة الحديث مُطْلقًا, بل يتوقف على النَّظر فيمن أبرزَ من رجاله, وذلك أقْسَام:
أحدها: ما يلتحق بِشَرطهِ, والسَّببُ في عدم إيصَاله, إمَّا الاستغناء بغيره عنه مع إفَادة الإشَارة إليه, وعدم إهْمَاله بإيراده مُعَلَّقا اختصارًا, وإمَّا كونه لم يسمعه من شيخه, أو سمعهُ مُذَاكرة, أو شكَّ في سَمَاعه, فما رأى أنَّه يَسُوقه مَسَاق الأصُول, ومن أمثلة ذلك قوله في الوكالة:(12)وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ : وَكَّلَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ ، فَأَتَانِى آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ ، وَقُلْتُ وَاللَّهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ إِنِّى مُحْتَاجٌ ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ ، وَلِى حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ . قَالَ فَخَلَّيْتُ عَنْهُ فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - : « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ » . قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ » . فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ سَيَعُودُ . فَرَصَدْتُهُ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ دَعْنِى فَإِنِّى مُحْتَاجٌ ، وَعَلَىَّ عِيَالٌ لاَ أَعُودُ ، فَرَحِمْتُهُ ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً وَعِيَالاً ، فَرَحِمْتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ » . فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ ، فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ ثُمَّ تَعُودُ . قَالَ دَعْنِى أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا . قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ . فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ » . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِى كَلِمَاتٍ ، يَنْفَعُنِى اللَّهُ بِهَا ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ . قَالَ « مَا هِىَ » . قُلْتُ قَالَ لِى إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِىِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ) وَقَالَ لِى لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شَىْءٍ عَلَى الْخَيْرِ . فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ » . قَالَ لاَ . قَالَ « ذَاكَ شَيْطَانٌ » وأورده في فضائل القرآن(3275 ), وذكر إبليس(5010), ولم يقل في موضع منها: حدَّثنا عثمان, فالظَّاهر عدم سَمَاعه له منه.
__________
(1) -.سير أعلام النبلاء (14/418-423)(231 )
(2) - سير أعلام النبلاء (17/455-464)(305 )
(3) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 68) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 14)
(4) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 31) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 151)
(5) - النكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 290)
(6) - انظر توجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 15)
(7) - انظر : مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 3) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 1) وقواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 87) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 68)
(8) - وسيأتي بحثه تفصيلا فيما بعد .
(9) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 70) وجـ1 ص 115 ـ 116 .فما بعد
(10) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 70) فما بعد
(11) - وصله أبو عوانة في مستخرجه برقم (683 ).
(12) - صحيح البخارى برقم (2311 )(1/47)
قال شيخ الإسْلام: وقد استعمل هذه الصِّيغة فيما لم يَسْمعهُ من مشايخه في عِدَّة أحاديث, فيُوردهَا عنهم بصيغة: قال فُلان, ثمَّ يُوردها في موضع آخر بواسطة بينهُ وبينهم, كمَا قال في « التاريخ» : قال إبراهيم بن موسى: حدَّثنا هشام بن يوسف, فذكر حديثًا, ثمَّ يقول: حدَّثوني بهذا عن إبراهيم.(1)
قال: ولكن ليسَ ذلكَ مُطردا في كلِّ ما أورده بهذه الصِّيغة, لكن مع هذا الاحتمال, لا يُحمل حمل ما أورده بهذه الصِّيغة على أنَّه سَمعهُ من شُيوخه.
وبهذا القول, يندفع اعتراض ( الحافظ) العِرَاقي على ابن الصَّلاح في تمثيله بقوله: قال عفَّان, وقال القعنبي, كونهما من شُيوخه, وأنَّ الرِّواية عنهم, ولو بصيغة لا تصرح بالسَّماع محمولة على الاتِّصال, كما سيأتي في فروع عقب المُعضل.
قلت : قال الحافظ العراقي :
"فقولُهُ : قالَ عفانُ كذا قال القعنبيُّ كذا في أمثلةِ ما سقطَ من أولِ إسنادِهِ واحدٌ مخالفٌ لكلامِهِ الذي قدّمْنَاهُ عنه ؛ لأنَّ عفانَ والقعنبيَّ كلاهما شيخُ البخاريِّ حَدَّثَ عنه في مواضعَ من صحيحِهِ متصلاً بالتصريحِ . فيكونُ قولُهُ : قال عفانُ ، قال القعنبيُّ ، محمولاً على الاتّصال ، كالحديث المعنعنِ . وعلى هذا عملُ غيرِ واحدٍ من المتأخّرينَ ، كابنِ دقيقِ العيدِ ، والمزّيِّ . فجعلا حديثَ أبي مالكٍ الأشعَرِيِّ - الآتي ذِكْرُهُ - مثالاً لهذهِ المسألةِ تعليقاً . وفي كلامِ أبي عبدِ الله بنِ منده أيضاً ما يقتضي ذلكَ ، فقالَ في جزءٍ له في اختلافِ الأئمةِ في القراءة ، والسماعِ ، والمناولةِ ، والإجازةِ : أخرجَ البخاريُّ في كتبهِ الصحيحةِ وغيرِها ، قال لنا فلانٌ ، وهي إجازةٌ . وقال فلانٌ ، وهو تدليسٌ . قال : وكذلك مسلمٌ أخرجَهُ على هذا . انتهى كلام ابنِ منده ولم يوافق عليهِ ".(2)
ثمَّ قولنا في هذا التَّقسيم: ما يَلْتحق بشرطه, ولم يَقُل إنَّه على شرطه, لأنَّهُ وإن صحَّ, فليسَ من نمط الصَّحيح المُسْند فيه, نبَّه عليه ابن كثير.
القِسْم الثَّاني: ما لا يلتحق بِشَرْطه ولكنَّه صحيحٌ على شرطِ غيره, كقوله في الطَّهارة : وقالت عائشة كانَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُر الله على كلِّ أحيانه,.(3)
الثَّالث: ما هو حسن صالح للحُجَّة, كقوله فيه : وقال بَهْز بن حكيم, عن أبيه عن جَدِّه عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - : «الله أحقُّ أن يُسْتَحيى منهُ». وهو حديث حسن مشهور, أخرجه أصحاب السُّنن(4)
الرَّابع: ما هو ضعيف, لا من جهة قدح في رجاله, بل من جهة انقطاع يسير في إسناده.
قال الإسْمَاعيلي: قد يصنع البُخَاري ذلك, إمَّا لأنَّه سمعهُ من ذلك الشَّيخ بواسطة من يثق به عنه, وهو معروفٌ مشهور عن ذلك الشَّيخ, أو لأنَّه سمعهُ مِمَّن ليسَ من شرط الكِتَاب, فنبَّه على ذلك الحديث بتسمية من حدَّث به, لا على التحديث به عنه, كقوله في الزَّكاة(5)وقال طاووس: قال مُعاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب... الحديث, فإسْنَاده إلى طاووس صحيح, إلاَّ أن طاووسًا لم يسمع من معاذ.
قلت : وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله(6): "هَذَا التَّعْلِيق صَحِيحُ الْإِسْنَادِ إِلَى طَاوُس ، لَكِنَّ طَاوُسًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذ فَهُوَ مُنْقَطِع ، فَلَا يُغْتَرُّ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ بِالتَّعْلِيقِ الْجَازِمِ فَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الصِّحَّة إِلَى مَنْ عُلِّقَ عَنْهُ ، وَأَمَّا بَاقِي الْإِسْنَادِ فَلَا ، إِلَّا أَنَّ إِيرَادَهُ لَهُ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ يَقْتَضِي قُوَّتَهُ عِنْدَهُ ، وَكَأَنَّهُ عَضَّدَهُ عِنْدَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْبَابِ " اهـ
قال السيوطي رحمه الله :
" وأمَّا ما اعترض به بعض المتأخرين من نقض هذا الحُكم, بكونه جزم في معلق وليسَ بصحيح, وذلكَ قولهُ في التَّوحيد(7): وَقَالَ الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ » .
فإنَّ أبا مَسْعود الدِّمشقي جزمَ بأنَّ هذا ليسَ بصحيحٍ, لأنَّ عبد الله بن الفضل, إنَّما رَوَاهُ عن الأعرج عن أبي هُرَيْرة, لا عن أبي سلمة, وقوَّى ذلك بأنَّه أخرجهُ في موضع آخر(8)كذلك فهو اعتراض مردُود, ولا ينقض القَاعدة, ولا مانع من أن يَكُون لعبد الله بن الفَضْل شَيْخان, وكذلك أوردهُ عن أبي سَلَمة الطَّيالسي في «مسنده»(9)وفي دلائل النبوة للبيهقي(10)فبَطلَ ما ادَّعاهُ.
وما ليسَ فيه جَزْمٌ, كيُروى, ويُذكر, ويُحْكى, ويُقَال, ورُوي, وحُكي عن فُلان كذا قال ابن الصَّلاح : أو في البَاب عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فليسَ فيه حكم بصحته عن المُضَاف إليه.
قال ابن الصَّلاح(11): لأنَّ مثل هذه العِبَارات تُستعمل في الحديث الضَّعيف أيضًا, فأشَار بقوله أيضًا إلى أنَّه رُبَّما يُورد ذلك فيما هو صحيح, إمَّا لكونه رواه بالمعنى, كقوله في الطب(12)ويُذكر عن ابن عبَّاس عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقى بفاتحة الكِتَاب, فإنَّه أسندهُ في موضع آخر بلفظ: أنَّ نفرا من الصَّحابة مّرُّوا بحي فيه لديغ... فذكر الحديث في رُقيتهم للرَّجُل بفاتحة الكتاب, وفيه: «إنَّ أحقَّ ما أخَذْتُم عليهِ أجْرًا كِتَابُ الله»"(13).
قلتُ :
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(14):
" هَكَذَا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيض ، وَهُوَ يُعَكِّر عَلَى مَا تَقَرَّرَ بَيْن أَهْل الْحَدِيث أَنَّ الَّذِي يُورِدهُ الْبُخَارِيّ بِصِيغَةِ التَّمْرِيض لَا يَكُون عَلَى شَرْطه ، مَعَ أَنَّهُ أَخْرَجَ حَدِيث اِبْن عَبَّاس فِي الرُّقْيَة بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب عَقِب هَذَا الْبَاب . وَأَجَابَ شَيْخنَا فِي كَلَامه عَلَى عُلُوم الْحَدِيث بِأَنَّهُ قَدْ يَصْنَع ذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ الْخَبَر بِالْمَعْنَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَبَر اِبْن عَبَّاس لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِالرُّقْيَة بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِيره عَلَى ذَلِكَ، فَنِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ صَرِيحًا تَكُون نِسْبَة مَعْنَوِيَّة ، وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيّ بَعْض هَذَا الْحَدِيث بِلَفْظِهِ فَأَتَى بِهِ مَجْزُومًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَة فِي " بَاب مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَة بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب " وَقَالَ اِبْن عَبَّاس " إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَاب اللَّه " ثُمَّ قَالَ شَيْخنَا : لَعَلَّ لِابْنِ عَبَّاس حَدِيثًا آخَر صَرِيحًا فِي الرُّقْيَة بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب لَيْسَ عَلَى شَرْطه فَلِذَلِكَ أَتَى بِهِ بِصِيغَةِ التَّمْرِيض . قُلْت : وَلَمْ يَقَع لِي ذَلِكَ بَعْد التَّتَبُّع " اهـ.
قال السيوطي رحمه الله :
" أوْ ليس على شَرْطهِ, كقولهِ في الصَّلاة(15): ويُذكر عن عبد الله بن السَّائب قال: قَرَأ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - المُؤمنون في صلاةِ الصُّبح, حتى إذا جَاء ذكر مُوسى وهارون أخذتهُ سعلة فركع, وهو صحيح أخرجه مُسلم موصولا(16), إلاَّ أنَّ البُخَاري لم يُخرِّج لبعض رُواته. "
أوْ لكونهِ ضَمَّ إليه ما لم يصح, فأتَى بصيغة تُستعمل فيهما, كقوله في الطَّلاق , ويُذكر عن علي بن أبي طالب وابن المُسيب, وذكر نحوا من ثلاثة وعشرين تابعيًا.( كذا قال: وفيها ما هو صحيح عنده وفيها ما هو ضعيف.)(17)
وقد يُورده أيضًا في الحسن, كقوله في البُيوع(18): ... وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ : "إِذَا بِعْتَ فَكِلْ ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ"
هذا الحديث رواه الدَّارقُطْني(19)والبيهقي في السنن(20)من طريق عُبيد الله بن المغيرة - وهو صدوق - عن مُنقذ مولى عُثمان, وقد وثِّق, عن عُثمان, وتابعه سعيد بن المُسيب, ومن طريقه أخرجه أحمد في «المسند»(21)إلاَّ أنَّ في إسْنَاده ابن لهيعة ،(22)ورواه ابن أبي شيبة في «مُصنَّفه» من حديث عَطَاء عن عُثمان, وفيه انقطاع, والحديث حسن لما عضده من ذلك.(23)
ومن أمثلة ما أورده من ذلك وهو ضعيف, قوله في الوَصَايا(24): وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّة ، وقد رواه التِّرمذي موصُولاً(25)من طريق الحارث عن علي, والحارث ضعيف.ِ(26)
وقوله في الصَّلاة(27): وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِى مَكَانِهِ . وقال عقبه : وَلَمْ يَصِحَّ .
وهذه عادتهُ في ضعيف لا عاضد له, من موافقة إجماع أو نحوه, على أنَّه فيه قليل جدًّا, والحديث أخرجه أبو داود والبغوي في شرح السنة من طريقه(28)من طريق اللَّيث بن أبي سُليم, عن الحجَّاج بن عُبيد, عن إبراهيم بن إسْمَاعيل, عن أبي هُريرة, وليث ضعيف, وإبراهيم لا يُعرف, وقد اختلف عليه فيه.(29)
و مَا أوردهُ البُخَاري في الصَّحيح مِمَّا عبَّر عنهُ بصيغة التَّمريض, وقلنا لا يحكم بصحته ليسَ بواهٍ أي: ساقط جدًّا لإدخاله إياه في الكتاب المَوسُوم بالصحيح
وعِبَارة ابن الصَّلاح : ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصَّحيح مُشعرٌ بصحة أصلهِ, إشعارًا يُؤنس به, ويُركن إليهِ.
قلتُ: ولهذَا رددتُ على ابن الجَوْزي حيث أورد في «الموضُوعات»(30)حديث ابن عبَّاس مرفوعًا: «إذَا أُتي أحدكُم بِهَديةٍ, فجُلسَاؤه شُركاؤه فيها».(31)
فإنَّه أورده من طريقين عنه, ومن طريق عن عائشة, ولم يُصب, فإنَّ البُخَاري أوردهُ في «الصَّحيح» فقال: ويُذكر عن ابن عبَّاس, وله شاهد آخر من حديث الحسن بن علي, رَوَيناهُ في «فوائد أبي بكر الشَّافعي» وقد بينتُ ذلك في «مختصر الموضوعات» ثمَّ في كتابي «القول الحسن في الذَّب عن السُّنن».(32)
قال ابن الصَّلاح : إذا تقرَّر حُكم التعاليق المَذْكورة, فقول البُخَاري : ما أدخلتُ في كِتَابي إلاَّ ما صحَّ, وقول الحافظ أبي نصر السِّجْزي: أجمعَ الفُقهاء وغيرهم أنَّ رَجُلا لو حلف بالطَّلاق: أنَّ جميع البُخَاري صحيح, قاله رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شكَّ فيه, لم يحنث, محمولٌ على مقاصد الكتاب وموضوعه, ومُتون الأبواب المُسْندة, دُون التَّراجم ونحوها.(33)
ــــــــــــــ
12- مراتبُ الصحيح:
قال العراقي(34): " اعلمْ أنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ بِحَسَبِ تَمَكُّنِ الحديثِ من شروطِ الصحةِ ، وعدمِ تَمَكُّنِهِ . وإنَّ أصحَّ كُتبِ الحديثِ : البخاريُّ ثم مسلمٌ ، كما تقدمَ أنَّهُ الصحيحُ.
وعلى هذا : فالصحيحُ ينقسمُ إلى سبعةِ أقسامٍ :
أحدُها : -وهو أصحُّها- ما أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ ، وهو الذي يُعبِّرُ عنه أهلُ الحديثِ بقولهم : (متفقٌ عليهِ)(35).
والثاني : ما انفردَ به البخاريُّ .
والثالثُ : ما انفردَ به مسلمٌ .
والرابعُ : ما هو على شَرْطِهِما ولم يخرِّجْهُ واحدٌ منهُما .
والخامسُ : ما هو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ .
والسادسُ : ما هو على شرطِ مسلمٍ وَحْدَهُ .(36)
والسابعُ : ما هو صحيحٌ عند غيرِهما من الأئمةِ المعتمدينَ ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهُما ...
ثم ما المرادُ بقولهِم : على شرطِ البخاريِّ ، أو على شرطِ مسلمٍ ؟
فقالَ محمدُ بنُ طاهرٍ في كتابه في " شروطِ الأئمة " : (شرطُ البخاريِّ ، ومسلمٍ ، أن يُخَرِّجَا الحديثَ المجمعَ على ثِقَةِ نَقَلَتِهِ إلى الصحابيِّ المشهورِ) ، وليس ما قالَهُ بجيّدٍ ؛ لأنَّ النَّسائيَّ ضَعَّفَ جماعةً أخرجَ لهم الشيخانِ ، أو أحدُهُما .
وقالَ الحازميُّ في " شروط الأئمةِ " ما حاصلُهُ : إنَّ شَرْطَ البخاريِّ أنْ يُخَرِّجَ ما اتّصلَ إسنادُه بالثقاتِ المتقنينَ الملازمينَ لمن أَخَذُوا عنه ، ملازمةً طويلةً ، وإنَّهُ قد يُخَرِّجُ أحياناً عن أعيانِ الطبقةِ التي تلي هذهِ في الإتقانِ والملازمةِ ، لمَنْ رَوَوا عنه ، فلم يَلْزَمُوهُ إلا ملازمةً يسيرةً . وإنَّ شرطَ مسلمٍ أن يُخَرِّجَ حديثَ هذهِ الطبقةِ الثانيةِ ، وقد يُخَرِّجُ حديثَ مَنْ لم يَسْلَمْ مِنْ غوائلِ الجرحِ ، إذا كانَ طويلَ الملازمةِ لمَنْ أخذَ عنه ، كحمّادِ بنِ سلمةَ في ثابتٍ البُنانيِّ ، وأيوبَ . هذا حاصلُ كلامِهِ .
وقالَ النوويُّ : (إنَّ المرادَ بقولهم : على شرطِهِما أنْ يكونَ رجالُ إسنادِهِ في كتابيهما ؛ لأنَّهُ ليس لهما شرطٌ في كتابَيْهما ، ولا في غيرهِما) . وقد أخذَ هذا من ابنِ الصَّلاحِ ، فإنَّهُ لما ذكرَ كتابَ " المستدرَكِ للحاكمِ " ، قالَ : (إنَّهُ أودَعَهُ ما رآهُ على شرطِ الشيخينِ ، وقد أخرجَا عن رواتِهِ في كتابيهِمَا) إلى آخرِ كلامِهِ . وعلى هذا عملُ ابنِ دقيقِ العيدِ ، فإنَّهُ ينقلُ عن الحاكمِ تصحيحَهُ لحديث على شرطِ البخاريِّ مثلاً ، ثم يعترضُ عليه بأنَّ فيه فلاناً ، ولم يُخَرِّجْ له البخاريُّ . وكذلك فَعَلَ الذهبيُّ في " مختصرِ المستدْرَكِ " . وليسَ ذلكَ مِنْهم بجيّدٍ ، فإنَّ الحاكمَ صَرَّحَ في خُطبةِ كتابِهِ " المستدركِ " بخلافِ ما فهموهُ عنه ، فقال : (وأَنا أَستعينُ اللهَ تعالى على إخراجِ أحاديثَ رواتُها ثقاتٌ ، قد احتجَّ بمثلِها الشيخانِ ، أو أحدُهما) .
فقولُهُ : بمثلِهَا ، أي : بمثلِ رواتِها ، لا بِهِمْ أنْفُسِهِم . ويحتملُ أنْ يُرَادَ : بمثلِ تلك الأحاديثِ . وإنّما يكونُ بمثلِها إذا كانَتْ بنفسِ رواتِهَا . وفيه نظرٌ . وقد بينتُ المثليةَ في " الشرحِ الكبيرِ " .
وعندَ ابنِ الصلاحِ : أنَّهُ تَعَذَّرَ في هذهِ الأَعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيح بِمجردِ اعتبارِ الأسانيدِ ؛ لأنَّهُ ما مِنْ إسنادٍ إلا وفيهِ مَنْ اعتمدَ على ما في كتابِهِ عَرِيًّا عن الضَّبْطِ ، والإتقانِ . قال : فإذا وَجَدنا فيما يُروى من أجزاءِ الحديثِ وغيرِها ؛ حديثاً صحيحَ الإسنادِ ، ولم نجدْهُ في أحدِ الصحيحينِ ، ولا منصوصاً على صحتهِ في شيءٍ من مصنّفاتِ أئمةِ الحديثِ المعتمَدةِ المشهورةِ ، فإنَّا لا نتجاسرُ على جزمِ الحكمِ بصحتِهِ .
وقال يحيى النوويُّ : (الأظهرُ عندِي جوازُهُ لِمَنْ تمكَّنَ ، وقَوِيَتْ معرفَتُهُ). انتهى. وهذا هو الذي عليهِ عملُ أهلِ الحديثِ، فقد صَحَّحَ غيرُ واحدٍ من المعاصرينَ لابنِ الصلاحِ، وبعدَهُ أحاديثَ لم نجدْ لِمنْ تقدمَهُم فيها تصحيحاً ، كأبي الحسنِ بنِ القطّانِ ، والضِّياءِ المقدسيِّ ، والزّكيِّ عبدِ العظيمِ ، ومَنْ بَعْدَهُم .اهـ
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله(37):
" وتتفاوَتُ رُتَبُهُ ؛ أي : الصَّحيحُ ، بِسببِ تفاوُتِ هذهِ الأوْصافِ المُقْتَضِيَةِ للتَّصحيحِ في القُوَّةِ(38)؛ فإِنَّها لمَّا كانَتْ مُفيدةً لغَلَبَةِ الظَّنِّ الَّذي عليهِ مَدارُ الصِّحَّةِ ؛ اقْتَضَتْ أَنْ يكونَ لها دَرجاتٌ بعضُها فَوْقَ بعضٍ بحَسَبِ الأمورِ المُقَوِّيةِ .
وإِذا كانَ كذلك فما يَكونُ رُواتُهُ في الدَّرجةِ العُليا مِن العدالَةِ والضَّبْطِ وسائِرِ الصِّفاتِ التي تُوجِبُ التَّرجيحَ (له) ؛ كانَ أَصحَّ ممَّا دونَهُ .
فَمِنَ المَرْتَبَةِ العُلْيا في ذلك ما أَطْلَقَ [ عليهِ ] بعضُ الأئمَّةِ أَنَّهُ أَصحُّ الأسانيدِ :
كالزُّهْريِّ عن سالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ عن أَبيهِ .
كما في صحيح البخارى (4133 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَالطَّائِفَةُ الأُخْرَى مُوَاجِهَةُ الْعَدُوِّ ، ثُمَّ انْصَرَفُوا ، فَقَامُوا فِى مَقَامِ أَصْحَابِهِمْ ، فَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً ، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَامَ هَؤُلاَءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ ، وَقَامَ هَؤُلاَءِ فَقَضَوْا رَكْعَتَهُمْ
وكمحمَّدٍ بنِ سيرينَ عن عَبيدةَ بنِ عَمْروٍ السَّلْمانِيِّ عَن عَليٍّ (بن أبي طالب)
كما في سنن أبى داود (409 ) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِى زَائِدَةَ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: « حَبَسُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا ».
وكَإِبراهيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عن ابنِ مَسعودٍ .
__________
(1) - قلت : قد ذكر ذلك في سبعة عشر موضعاً انظر تاريخ البخاري (ج 1 / ص 400)[ 2588 ] و (ج 1 / ص 425)[ 2819 ] و (ج 1 / ص 437)[ 26 ]
(2) - انظر:مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 3) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 94) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 45)
(3) - أخرجهُ مسلم في «صحيحه»برقم ( 852)
(4) - الترمذي برقم (3024 ) وابن ماجة برقم (1995) وصححه قوم
(5) - ( 33 - باب الْعَرْضِ فِى الزَّكَاةِ)
(6) - فتح الباري لابن حجر - (ج 5 / ص 57)
(7) - صحيح البخارى برقم (7428 ، 2411 ، 3408 ، 3414 ، 6517 ، 6518 ، 7472 )
(8) - برقم (3414 )
(9) - برقم (2487 )
(10) - رقم (2247 )
(11) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 3) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 357) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 5)
(12) - (33 - باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ )
(13) - صحيح البخارى (5737)
(14) - فتح الباري لابن حجر - (ج 16 / ص 260)
(15) - ( 106 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِى الرَّكْعَةِ . ( 257 )
(16) - برقم (1050)
(17) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 101) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 6)
(18) - (51 - باب الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِى)
(19) - برقم (2855 )
(20) - برقم (11012 ) وقال عقبه وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكِبَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَه
(21) - برقم (452 ) والبزار برقم (379 )
(22) - قلت : ورواه عبد بن حميد برقم (53 ) من طريق ابن المبارك عن ابن لهيعة وروايته عنه قوية قبل الاختلاط
(23) - قلت: بل صحيح لغيره
(24) - ( 9 - باب تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) . ( 9 ) وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ )
(25) - برقم (2238 و2268 )
(26) - قلت : وله شاهد تام في نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية - (ج 13 / ص 288) قال :وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ : رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي " مُسْنَدِهِ " ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ نَجِيحٍ الطَّبَّاعُ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ ، وَأَنْ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } انْتَهَى .
وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - (ج 6 / ص 107) برقم (1667) وحسنه ، وهو كما قال، فالحديث حسن لغيره
(27) - رقم ( 848 )
(28) - برقم (701 )
(29) - قلت : وذكر له فتح الباري لابن حجر - (ج 3 / ص 253) شواهد وطرق بنحوه انظرها هناك
(30) - الموضوعات - (ج 3 / ص 92)
(31) - قلت : رد عليه في اللآلي المصنوعة - (ج 2 / ص 254) وفي تنزيه الشريعة المرفوعة - (ج 2 / ص 298)
(تعقب) بأن حديث ابن عباس علقه البخاري في صحيحه وهو مشعر بأن له أصلا إشعارا يؤنس به ويركن إليه كما قاله ابن الصلاح في تعاليق البخاري التي بصيغة التمريض وليحي الحماني متابع عند أبي نعيم في الحلية وآخر عند البيهقي في سننه ولمندل وعبد السلام متابع عند ابن عساكر في تاريخه ومندل لم يتهم بكذب بل قال أبو زرعة لين وقال أبو حاتم شيخ وقال العجلي جائز الحديث يتشيع وهذا من صيغ التعديل فهذا الحديث شاهد لحديث عائشة وله شاهد آخر من حديث الحسن بن علي أخرجه أبو بكر الشافعي في فوائده والطبراني (قلت) قال الهيثمي في المجمع فيه يحيى بن سعيد العطار وهو ضعيف والله تعالى أعلم
وانظر كشف الخفاء برقم (2397 ) والمقاصد الحسنة برقم (1075 ) و النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة - (ج 1 / ص 74) برقم ( 169)
(32) - قلت : وفي النهاية فالحديث ضعيف
(33) - فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 49) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 75)
(34) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 43)
(35) - وأهم كتاب في ذلك اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله أكثر من (1900) حديث
(36) - وفي المستدرك للحاكم عَلَى شَرْطِهِمَا (77) حديثا عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ (155) حديثا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمِ (687) حديثا
(37) - نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 9) فما بعدها التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 7) و
(38) - وهذا لا شك فيه أن الصحيح تتفاوت رتبه لتفاوت صفات الرواة فتارة تكون درجتهم في أعلى الدرجات لثقة الرواة وكمال ضبطهم ، وتارة تكون وسطاً ،وتارة تكون دون ذلك فهي متفاوتة على حسب حال الرواة مالك عن نافع عن ابن عمر ، مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة فالمقصود أن الأسانيد الصحيحة متفاوتة على حسب تفاوت الرجال في الضبط والإتقان .(1/48)
كما في صحيح البخارى(7297 ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ ، وَهْوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يُسْمِعْكُمْ مَا تَكْرَهُونَ . فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنِ الرُّوحِ . فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ ، فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْىُ ، ثُمَّ قَالَ ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى ) .
قلت : وكمالك عن نافع عن ابن عمر ونحوها .
ودونَها في الرُّتبةِ : كرِوايةِ بُرَيْدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ أَبي بُرْدَةَ عن جَدِّهِ عن أَبيهِ أَبي مُوسى (الأشعري) .
كما في صحيح البخارى (5048) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِىُّ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ « يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ » .
وكَحمَّادِ بنِ سَلَمَةَ عن ثابِتٍ (البناني) عَنْ أَنسٍ .
كما في صحيح مسلم (1208 ) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِى صَلاَةِ الْفَجْرِ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلاَ إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ. فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ.
ودُونَها في الرُّتْبَةِ :
كسُهَيْلِ بنِ أَبي صالحٍ عَنْ أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ .
كما في صحيح مسلم (3333 ) حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِىُّ حَدَّثَنَا بِشْرٌ - يَعْنِى ابْنَ مُفَضَّلٍ - حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا ».
وكالعَلاءِ بنِ عبدِ الرحمن عن أَبيهِ عن أَبي هُريرةَ .
كما في صحيح مسلم (377 ) حَدَّثَنِى أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِى ابْنَ مَخْلَدٍ - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِى قَالَ « فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِى قَالَ « قَاتِلْهُ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِى قَالَ « فَأَنْتَ شَهِيدٌ ». قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ قَالَ « هُوَ فِى النَّارِ ».
فإِنَّ الجَميعَ يشمَلُهُم اسمُ العَدالَةِ والضَّبْطِ ؛ إِلاَّ أَنَّ (في) للمَرْتَبَةِ الأولى (فيهم) مِن الصِّفاتِ المُرَجِّحَةِ ما يقتَضي تقديمَ روايتِهِم على الَّتي تَليها ، وفي الَّتي تليها مِنْ قوَّةِ الضَّبْطِ ما يقتَضي تقديمَها على الثَّالِثَةِ ، وهِي مُقدَّمةٌ على رِوايةِ مَن يُعَدُّ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ حَسناً(1)؛ كمحمَّد بنِ إِسحاقَ عن عاصمِ بنِ عُمرَ (بن قتادة) عن جابرٍ قلت : الصواب مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرِ ،كما في سنن أبى داود(1675 ) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِىِّ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ هَذِهِ مِنْ مَعْدِنٍ فَخُذْهَا فَهِىَ صَدَقَةٌ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ رُكْنِهِ الأَيْسَرِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَحَذَفَهُ بِهَا فَلَوْ أَصَابَتْهُ لأَوْجَعَتْهُ أَوْ لَعَقَرَتْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَأْتِى أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ فَيَقُولُ هَذِهِ صَدَقَةٌ ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى ».( وهو صحيح )
يستكف : يأخذ ببطن كفه أو يسأل كفا من الطعام أو ما يكف الجوع
وقد ضعفه الشيخ ناصر رحمه الله وتابعه ابن باز رحمه الله ، بسبب عنعنة ابن إسحاق حيث قال : فات المؤلف أن يقول محمد بن إسحاق عن عاصم إذا صرح ابن اسحاق بالسماع .
قلت : الصواب أنه غير مدلس ، وإذا دلس لا يمكن أن يدلس على مشايخه الكبار ، وعاصم منهم ، فيحمل حديثه عنهم على الاتصال ، ولو لم يصرح بالتحديث .
و(عن) عمروِ بنِ شُعَيْبٍ عنْ أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ ،كما في سنن أبى داود (653 ) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى حَافِيًا وَمُنْتَعِلاً. وهو صحيح
وقِسْ على هذهِ المراتِبِ ما يُشبِهُها .
والمرتَبَةُ الأولى هِيَ الَّتي أَطلَقَ عليها بعضُ الأئمَّةِ أَنَّها أَصحُّ الأسانيدِ ، والمُعْتَمَدُ عدمُ الإِطلاقِ لترجَمةٍ معيَّنةٍ منها .
نعم ؛ يُستَفَادُ مِن مجموعِ ما أَطلقَ الأئمَّةُ عليهِ ذلك أَرجَحِيَّتُهُ على ما لَمْ يُطْلِقوهُ .
ويلْتَحِقُ بهذا التَّفاضُلِ(2)ما اتَّفَقَ الشَّيخانِ على تَخريجِه بالنِّسبةِ إِلى ما انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُما ، وما انْفَرَدَ بهِ البُخاريُّ بالنِّسبةِ إلى ما انْفَرَدَ بهِ مُسلمٌ ؛ لاتِّفاقِ العُلماءِ بعدِهِما على تلقِّي كِتابَيْهِما بالقَبولِ ، واختِلافِ بعضِهِم على أَيِّهِما أَرْجَحُ ، فما اتَّفقا عليهِ أَرجَحُ مِن هذهِ الحيثيَّةِ ممَّا لم يتَّفقا عليهِ .
وقد صرَّحَ الجمهورُ بتقديمِ (صحيحِ البُخاريِّ) في الصِّحَّةِ ، ولم يوجَدْ عنْ أحدٍ التَّصريحُ بنقيضِهِ(3).
وأَمّا ما نُقِلَ عَن أبي عليٍّ النَّيْسابوريِّ أَنَّهُ قالَ(4): ما تحتَ أَديمِ السَّماءِ أَصحُّ مِن كتابِ مُسلمٍ(5)؛ فلمْ يُصرِّحْ بكونِه أَصحَّ مِن صحيحِ البُخاريِّ ؛ لأَنَّهُ إِنَّما نَفَى وُجودَ كتابٍ أَصحَّ مِن كتابِ مسلم ؛ إِذ المَنْفِيُّ إِنَّما هُو ما تَقْتَضيهِ صيغَةُ أَفْعَلَ من زيادَةِ صحَّةٍ في كتابٍ شارَكَ كتابَ مُسلمٍ في الصِّحَّةِ ، يمتازُ بتلكَ الزِّيادَةِ عليه ، ولم يَنْفِ المُساواةَ .
وكذلكَ ما نُقِلَ عنْ بعضِ المَغارِبَةِ أَنَّهُ فَضَّلَ صحيحَ مُسلمٍ على صحيحِ البُخاريِّ ؛ فذلكَ فيما يرجِعُ إِلى حُسْنِ السِّياقِ وجَوْدَةِ الوَضْعِ والتَّرتِيبِ .
ولم يُفْصِحْ أَحدٌ منهُم بأَنَّ ذلكَ راجِعٌ إِلى الأصحِّيَّةِ ، ولو أَفْصَحوا به لردَّهُ عليهِمْ شاهِدُ الوُجودِ(6)، فالصِّفاتُ الَّتي تدورُ عليها الصِّحَّةُ في كتابِ البُخاريِّ أَتمُّ منها في كتابِ مسلمٍ وأَشَدُّ ، وشرطُهُ فيها أَقوى وأَسَدُّ.
أَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ الاتصالُ ؛ فلاشْتِراطِهِ أَنْ يكونَ الرَّاوِي قَدْ ثَبَتَ لهُ لِقاءُ مَنْ روى عنهُ ولو مَرَّةً ، واكْتَفى مُسْلِمٌ بمُطْلَقِ المُعاصَرَةِ ، وأَلْزَمَ البُخاريَّ بأَنَّهُ يحتاجُ إِلى أَنْ لا يقْبَلَ العَنْعَنَةَ أَصلاً !
وما أَلْزَمَهُ بهِ ليسَ بلازِمٍ ؛ لأنَّ الرَّاويَ إِذا ثبتَ لهُ اللِّقاءُ مرَّةً ؛ لا يجْري في رواياتِهِ احْتِمالُ أَنْ لا يكونَ قد سمِعَ منهُ ؛ لأنَّهُ يلزمُ مِن جَريانِهِ أَنْ يكونَ مُدَلِّساً ، والمسأَلةُ مَفروضَةٌ في غير المُدَلِّسِ .
وأَمَّا رُجْحَانُهُ مِنْ حيثُ العَدالَةُ والضَّبْطُ ؛ فلأنَّ الرِّجالَ الَّذينَ تُكُلَِّمَ فيهِم مِن رجالِ مُسلِمٍ أَكثرُ عَدداً مِن الرِّجالِ الَّذينَ تُكُلِّمَ فيهِم مِن رجالِ البُخاريِّ ، معَ أَنَّ البُخارِيَّ لم يُكْثِرْ مِن إِخراجِ حَديثِهِمْ ، بل غالِبُهُمْ مِن شيوخِهِ الذينَ أَخَذَ عنهُم ومَارَسَ حَديثَهُم ، بخِلافِ مُسلمٍ في الأمْرَينِ .
وأَمَّا رُجْحانُهُ مِن حيثُ عدمُ الشُّذوذِ والإِعلالِ ؛ فلأنَّ ما انْتُقِدَ على البُخاريِّ مِن الأحاديثِ أَقلُّ عدداً مِمَّا انْتُقِدَ على مُسْلِمٍ ، هذا مع اتِّفاقِ العُلماءِ على أنَّ البُخاريَّ كانَ أَجلَّ مِن مُسْلِمٍ في العُلومِ وأَعْرَفَ بصِناعةِ الحَديثِ مِنهُ ، وأَنَّ مُسلماً تِلْميذهُ وخِرِّيجُهُ ، ولم يزَلْ يَسْتَفيدُ منهُ ويتْبَعُ آثارَهُ حتَّى لقد قالَ الدَّارَقُطنِيُّ(7): لولا البُخاريُّ لَما راحَ مُسْلِمٌ ولا جَاءَ .(8)
ومن ثَمَّ ؛ أي : و من هذه الحيثيَّةِ - وهي أَرجحيَّةُ شَرْطِ البُخاريِّ على غيرِه - قُدِّمَ (صحيحُ البُخاريِّ) على غيرِه من الكُتُبِ المُصَنَّفةِ في الحديثِ .
ثمَّ صحيحُ مُسْلِمٍ ؛ لمُشارَكَتِه للبُخاريِّ في اتِّفاقِ العُلماءِ على تَلَقِّي كِتابِهِ بالقَبولِ أَيضاً ، سوى ما عُلِّلَ .
ثمَّ يُقَدَّمُ في الأرجحيَّةِ من حيثُ الأصحِّيَّةُ ما وافَقَهُ شَرْطُهُما ؛ لأنَّ المُرادَ به رواتُهُما معَ باقي شُروطِ الصَّحيحِ ، ورواتُهما قد حَصَلَ الاتِّفاقُ على القَوْلِ بتَعديلِهِمْ بطريقِ اللُّزومِ(9)، فهم مُقَدَّمونَ على غيرِهم في رِواياتِهم ، وهذا أَصلٌ لا يُخْرَجُ عنهُ إِلاَّ بدليلٍ .(10)
فإِنْ كانَ الخَبَرُ على شَرْطِهما معاً ؛ كانَ دونَ ما أَخرَجَهُ مسلمٌ أَو مثله(11).
وإِنْ كانَ على شَرْطِ أَحَدِهما ؛ فيُقَدَّمُ شَرْطُ البُخاريِّ وحْدَه على شرطِ مُسلمٍ وحدَه تَبَعاً لأصلِ كُلٍّ منهُما .
فخَرَجَ لنا مِن هذا سِتَّةُ أَقسامٍ تتفاوتُ دَرَجاتُها في الصِّحَّةِ .
وثَمَّةَ قسمٌ سابعٌ ، وهو ما ليسَ على شرطِهما اجتِماعاً وانْفراداً .
قلت : وبهذا تكون أقسام الصحيح من هذه الحيثية سبعة ، الأول ما اتفق عليه الشيخان ، والثاني ما رواه البخاري والثالث ما رواه مسلم والرابع ما كان على شرطهما والخامس ما كان على شرط البخاري ثم السادس ما كان على شرط مسلم ثم السابع ما صححه أحد الإئمة وهو ليس على شرط واحد منهما كالذي يصححه الدارقطني وابن حزيمة وابن حبان وغيرهم ولا يكون فيه قادح . وهذا التَّفاوتُ إِنَّما هو بالنَّظرِ إِلى الحيثيَّةِ المذكورةِ .أَمَّا لو رُجِّحَ قِسْمٌ على ما هو فَوْقَهُ بأُمورٍ أُخرى تقتَضي التَّرْجيحَ ؛ فإِنَّهُ يُقَدَّمُ على ما فَوْقَهُ - إذ قَدْ يَعْرِضُ للمَفوقِ مَا يجعَلُهُ فائقاً - كما لو كان الحديثُ عندَ مُسلم مثلاً ، وهُو مشهورٌ قاصِرٌ عن دَرَجَةِ التَّواتُرِ ، لكنْ حَفَّتْهُ قرينةٌ صارَ بها يُفيدُ العِلْمَ ؛ فإِنَّه يُقَدَّمُ بها على الحديثِ الذي يُخْرِجُهُ البُخاريُّ إِذا كانَ فَرْداً مُطْلقاً .
قلت : "الصحيحُ درجاتٌ ومراتب، ولكن هذا الترجيح إجماليٌّ؛ فليس مِنْ لازمه تفضيلُ كلِّ درجةٍ على التي بعدها مطلقاً في كلِّ حديثٍ؛ فقد يَرِدُ حديثٌ على شرط مسلم أقوى مِن حديثٍ على شرط البُخَارِيّ، وهذا لا يَنْقض القاعدة العامّة هذه."
وكما لو كانَ الحَديثُ الَّذي لم يُخْرِجَاهُ مِن ترجمةٍ وُصِفَتْ بكونِها أَصَحَّ الأسانيدِ كمالِكٍ عن نافعٍ عن ابنِ عُمرَ ؛ فإِنه يُقَدَّمُ على ما انفرَدَ بهِ أَحدُهُما مثلاً ، لا سيَّما إِذا كانَ في إِسنادِهِ مَن فيهِ مَقالٌ اهـ(12).
قلت: هذا لا يعني ردَّ الرواية على كل حال؛ فقد تكون الرواية التي فيها مَنْ فيه مقالٌ مقبولةً، وقد تكون مردودة؛ وذلك بحسب نوع الكلام في الراوي ودرجته، وهل جاء مِن طُرُقٍ أُخرى أم لا؟.
ــــــــــــــ
13- شرط الشيخين:
لم يُفصح الشيخان عن شرط شرطاه أو عيناه زيادة على الشروط المتفق عليها في الصحيح، لكن الباحثين من العلماء ظهر لهم من التتبع والاستقراء لأساليبهما ما ظنه كل منهم أنه شرطهما أو شرط واحد منهما.
قال السيوطي(13):
"وأعجب من ذلكَ ما ذَكَرهُ الميانجي في كتاب «ما لا يسع المُحدِّث جهله»: شرط الشَّيخين في «صحيحهما» أن لا يدخُلا فيه إلاَّ ما صَحَّ عندهما, وذلكَ ما رواهُ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان فصَاعدًا, وما نقلهُ عن كلِّ واحد من الصَّحابة أربعة من التَّابعين فأكثر, وأن يَكُون عن كلِّ واحد من التابعين أكثر من أربعة. انتهى.
قال شيخ الإسْلام : وهو كلام من لم يُمارس «الصَّحيحين» أدْنَى مُمَارسة, فلو قال قائل: ليس في الكتابين حديث واحد بهذه الصِّفة لما أبعد.
وقال ابن العَرَبي في «شرح الموطأ»: كان مذهب الشَّيخين أنَّ الحديث لا يثبت حتَّى يرويه اثنان, قال: وهو مذهب باطل, بل رواية الواحد عن الواحد صحيحة إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال في «شرح البُخاري» عند حديث «الأعمال...»: انفرد به عُمر, وقد جاء من طريق أبي سعيد, رواه البزَّار بإسْنَاد ضعيف.
قال: وحديث عُمر وإن كان طريقه واحدا وإنَّما بنى البُخَاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد, فهذا الحديث ليسَ من ذلك الفن, لأنَّ عُمر قاله على المنبر بمحضر الأعيان من الصحابة, فصَار كالمُجْمع عليه, فكأنَّ عمر ذكَّرهم, لا أخبر.
قال ابن رُشيد: وقد ذكر ابن حبَّان في أوَّل «صحيحه» : أنَّ ما ادَّعاه ابن العربي وغيره, من أنَّ شرط الشَّيخين ذلكَ مُستحيل الوجود.
قال: والعَجَب منه كيف يدَّعي عليهما ذلك, ثمَّ يزعم أنَّه مذهب باطل, فليت شعري من أعلمه بأنَّهما اشترطا ذلك, إن كان منقولاً فليُبين طريقه ليُنظر فيها, وإن كان عرفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك, ولقد كان يكفيه في ذلك أوَّل حديث في البُخاري, وما اعتذر به عنه فيه تقصير, لأنَّ عمر لم ينفرد به وحده, بل انفرد به عَلْقمة عنه, وانفرد به محمَّد بن إبراهيم, عن علقمة, وانفرد به يحيى بن سعيد, عن محمد, وعن يحيى تعددت رُواته.
وأيضًا: فكون عُمر قاله على المنبر لا يستلزم أن يَكُون ذكَّر السَّامعين بما هو عندهم, بل هو مُحتمل للأمرين, وإنَّما لم يُنكروه لأنَّه عندهم ثقة, فلو حدَّثهم بما لم يسمعُوه قط, لم يُنكروا عليه اهـ.(14)
" وقد ألَّف الحَازمي كتابًا في شُروط الأئمة, ذكر فيه شرط الشَّيخين وغيرهما فقال : مذهب من يُخرِّج الصَّحيح أن يُعتبر حال الرَّاوي العدل في مشايخه, وفيمن روى عنهم وهم ثقات أيضًا, وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت, يلزمه إخراجه, وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه إلاَّ في الشَّواهد والمُتَابعات, وهذا باب فيه غموض, وطريقه معرفة طباق الرُّواة عن راوي الأصل, ومراتب مداركهم.
ولنُوضح ذلك بمثال: وهو أن تعلم أنَّ أصحاب الزُّهْري مثلا على خمس طبقات, ولكلِّ طبقة منها مزية على الَّتي تليها وتفاوت:
فمن كان في الطَّبقة الأولى فهي الغاية في الصِّحة, وهو غاية قصد البُخَاري, كمالك, وابن عُيينة, ويُونس, وعقيل الأيْلِيَّين, وجماعة.
والثانية شاركت الأولى في العَدَالة, غير أنَّ الأولى جمعت بين الحِفْظ والإتْقَان وبين طُول المُلازمة للزُّهري, بحيث كان منهم من يُلازمه في السَّفر, ويُلازمه في الحَضَر, كالليث بن سعد, والأوزاعي, والنُّعمان بن راشد, والثانية لم تُلازم الزُّهْري إلا مُدَّة يَسِيرة, فلم تُمارس حديثه, وكانوا في الإتقان دون الطَّبقة الأولى, كجعفر بن بُرْقَان, وسفيان بن حُسين السُّلمي, وزمعة بن صالح المَكِّى, وهم شرط مسلم.
والثالثة: جماعة لزمُوا الزُّهْري, مثل أهل الطَّبقة الأولى, غير أنَّهم لم يَسْلمُوا من غوائل الجرح, فهم بين الرَّد والقَبُول كمُعَاوية بن يحيى الصَّدَفي, وإسْحاق بن يحيى الكَلْبي, والمُثنى بن الصَّباح, وهم شرط أبي داود, والنَّسائي.
والرابعة: قومٌ شَاركوا الثَّالثة في الجرح والتَّعديل, وتفرَّدُوا بقلَّة مُمارستهم لحديث الزُّهْري, لأنَّهم لم يُلازموه كثيرًا, وهم شرط التِّرمذي.
والخامسة: نفرٌ من الضُّعفاء والمجهولين لا يَجُوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يُخرج حديثهم إلاَّ على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود, فمن دُونه, فأمَّا عند الشَّيخين فلا.اهـ(15)
ــــــــــــــ
14- معنى قولهم: " مُتَّفَقٌ عليه ":
إذا قال علماء الحديث عن حديث " متفق عليه " فمرادهم اتفاق الشيخين ، أي اتفاق البخاري ومسلم على صحته ، لا اتفاق الأمة إلا أن ابن الصلاح قال(16): " لكن اتفاق الأمة عليه لازِمُ من ذلك وحاصل معه ، لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول .(17)
ــــــــــــــ
15- هل يشترطُ في الصحيح أن يكون عزيزاً ؟(18)
قال الحافظ ابن حجر(19):
__________
(1) - وهذا واضح لأنه إذا خف الضبط انتقل من درجة الصحيح إلى درجة الحسن .
(2) - هذا إلحاقٌ بموضوع درجات الصحيح، لا إلحاقاً بالمرتبة الأُولى.
(3) - هذا الرجحان إنما هو رجحان البُخَارِيّ في الجملة على مسلم في الجملة: وما كان على شرط البُخَارِيّ ومسلم يجب أن يُراعَى في تحديده أن يكون الرواة في السند على ترتيبهم عندهما، بالنسبة للتلاميذ والشيوخ؛ لأنهما قد يَقبلان رواية راوٍ عن شيخه ذاك، الذي جاءت روايته عندهما أو عند أحدهما، ولا يَقْبلان روايته عن شيخٍ آخر.
(4) - هو الحسين بن علي بن يزيد النيسابوريّ، أبو عليّ، 277-349هـ.
(5) - كلام أبي علي غير مسلم ،والصواب ما تحت أديم السماء أصح من صحيح البخاري ثم مسلم هذا الذي عليه جمهور أهل العلم لكن مسلم امتاز بحسن السياق ،وجمع الأحاديث وضبط طرقها ،والبخاري تساهل في هذا يقطع الأحاديث ويفرقها على حسب الحاجة إليها، ومسلم كانت له عناية بحسن السياق وجمع الأسانيد حتى يتضح للقارئ الحديث بطرقه كلها في موضع واحد .
(6) - لقد أَحْسنَ الإمام ابن حجر، رحمه الله تعالى، بهذه الطريقة في الاستدلال؛ وذلك لأنّ أقوى الأدلة لإثبات الشيء حقيقةُ وجودِهِ؛ لأنها تُفنِّد أدلة إنكاره، ولذلك كان مِن حكمة الله تعالى -في باب دعوة الله لنا إلى هُدَاه- أنه دعانا إلى الإيمان به بكلِّ سبيلٍ، ومِن ذلك أنه أَرى بعْضَ عباده عمليةَ الخَلْق والإِحياء.
وقد أشهدَ الله تعالى مَن أَشهَدَ مِن عباده، والإشهاد على الإيجاد، من أدلةِ وحججِ الله على العباد.
وهذا يَعْني أنّ مِن المنهجية المهمة، في طريقة الوصول إلى الحق، والطريقةِ المثلى للمنافحة عن الحق، وردِّ الشبهات، الاتِّساء بهذا المنهج، سواء في طريقة العرض والإقناع، أو في طريقة المناقشة ورَدِّ الشبهات. وقد قالوا: شاهدُ العِيان يُغْني عن البيان!.
وقد تعرَّض الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لهذا في كتابه الاستقامة وفي غيره، وذَكَر كلاماً جميلاً فيه.
(7) - هو عليّ بن عمر بن أحمد الدّارَقُطْنِيّ، البغدادي، أبو الحسن، 306-385هـ، يُضرب به المثل في الحفظ والإتقان في الحديث، له مصنفات في الحديث تشهد بإمامته وذكائه وقد كَتبْتُ فيه أُطروحة للدكتوراه، ونشرتها بعنوان: الإمام أبو الحسن الدَّارَقطْنيّ وآثاره العلمية-وسقط مِن العنوان عبارة: مع دراسة تفصيلية عن كتابه السنن، جدّة، دار الأندلس الخضراء، ط.الأولى، 1421هـ-2000م.(عبد الله بن ضيف الله الرحيلي)
(8) - هذا من باب المبالغة وإلا فكلاهما إمام .
ولتقرير أصحية صحيح البخاري وتقديمه على صحيح مسلم يُنظر الفصل الثاني مِن هدْي الساري، وتدريب الراوي، للسيوطي، 88-98.
(9) - قوله: بطريق اللزوم، هذا نوعٌ مِن أنواع الدلالة، إذْ أنّ أنواع الدلالة هي: دلالة اللزوم، ودلالة التضمن، ودلالة المطابقة، فكما قُبِلَ صحيحاهما فقد صار مِن لازمِ ذلك تعديل رواتهما، وهذا دليلٌ على أن ما كان على شرطهما يأتي بعد ما أخرجاه.
(10) - هذا إذا جاءت الرواية عنهم بنفس الكيفية التي رَوى لهم بها الشيخان، وهي تتناول النظر إلى أمرين:
الأول: مراعاة ذلك الترتيب بين التلاميذ والشيوخ الوارد في الصحيحين، أَيْ: مطابقة الرواية لروايته، بأن يكون التلاميذ هم التلاميذ، والشيوخ هم الشيوخ.
الثاني: التدقيق في صفة الرواية عن هذا الراوي في الصحيحين هل جاءت على وجْه الاحتجاج به أم لا؟ إذْ لا يَصْدُقُ شرطُهما إلا على ما رويا له احتجاجاً.
(11) - أَيْ: في منزلته.
(12) - انظر : فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 36) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 25) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8) وألفية العراقي في علوم الحديث - (ج 1 / ص 5) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 43) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 71) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 71)
(13) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 32)
(14) - انظر توجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 1 / ص 38)
(15) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 82)
(16) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 4) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 5)
(17) -تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 83)
(18) - تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8)
(19) - التعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 3)(1/49)
" ولَيْسَ شَرْطاً للصَّحيحِ ؛ خِلافاً لمَنْ زعَمَهُ(1)، وهو أَبو عَليٍّ الجُبَّائيُّ مِن المُعْتزلةِ(2)، وإِليهِ يُومِئُ كلامُ الحاكِمِ أَبي عبد اللهِ في (علومِ الحديثِ) حيثُ قال : الصَّحيحُ أَنْ يَرْوِيَهُ الصَّحابِيُّ الزَّائِلُ عنهُ اسمُ الجَهالةِ ؛ بأَنْ يكونَ لهُ راوِيانِ ، ثمَّ يتداوَلَهُ أَهلُ الحَديثِ إِلى وَقْتِنِا كالشَّهادَةِ عَلى الشَّهادَةِ.
وصَرَّحَ القاضي أَبو بَكْرٍ بنُ العربيِّ في (شَرْحِ البُخاريّ) بأَنَّ ذلك شَرْطُ البُخاريِّ ، وأَجاب عمَّا أُورِدَ عليهِ مِنْ ذلك بِجوابٍ فيهِ نَظرٌ ؛ لأَنَّهُ قال : فإِنْ قيلَ : حديثُ (إنما الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) فَرْدٌ ؛لم يَرْوِهِ عَنْ عُمرَ إِلاَّ عَلْقَمَةُ
قالَ قُلْنا : قَدْ خَطَبَ بِهِ عُمَرُ رضيَ اللهُ عنهُ عَلى المِنْبَرِ بحَضْرةِ الصَّحابَةِ ، فلولا أَنَّهُمْ يَعْرِفونَهُ لأنْكروهُ ! كذا قالَ !
وتُعُقِّبَ (عليه) بأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِم سَكَتُوا عنهُ أَنْ يَكُونوا سَمِعوهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وبأَنَّ هذا لو سُلِّمَ في عُمَرَ مُنِعَ في تَفَرُّدِ عَلْقَمَةَ عنهُ ، ثمَّ تَفَرُّدِ مُحَمَّدِ بنِ إِبْراهيمَ بِه عَنْ عَلْقَمَةَ ، ثُمَّ تَفَرُّدِ يَحْيَى بنِ سَعيدٍ بهِ عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ عَلى ما هُو الصَّحيحُ المُعْروفُ عِنْدَ المُحَدِّثينَ .
وقَدْ وَرَدَتْ لُهْم مُتابعاتٌ لا يُعْتَبَرُ بِها لِضَعْفِها وكَذا لا نُسَلِّمُ جَوابَهُ في غَيْرِ حَديثِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُ
قالَ ابنُ رُشَيْدٍ : ولَقَدْ كانَ يَكْفي القاضيَ في بُطْلانِ ما ادَّعَى أَنَّهُ شَرْطُ البُخاريِّ أَوَّلُ حَديثٍ مَذكورٍ فيهِ .(3)
وادَّعَى ابنُ حِبَّانَ نقيضَ دَعْواهُ ، فقالَ : إِنَّ رِوايَةَ اثنَيْنِ عَنِ اثنَيْنِ إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ لا تُوجَدُ أَصْلاً .
قُلْتُ : إِنْ أرادَ بهِ أَنَّ رِوايَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ عَنِ اثْنَيْنِ فَقَطْ لا تُوجَدُ أَصْلاً ؛ فيُمْكِنُ أَنْ يُسَلَّمَ اهـ(4)
- - - - - - - - - - - - - -
الحديثُ الحَسَنُ(5)
1- تعريفُه:
لغة: هو صفة مشبهة من " الحٌسْن " بمعنى الجَمال.
اصطلاحاً: اختلفت أقوال العلماء في تعريف الحسن نظراً لأنه متوسط بين الصحيح والضعيف، ولأن بعضهم عرَّف أحد قسميه..
تعريفُ الخطابي(6): الحسنُ: ما عُرِفَ مَخْرَجُهُ واشتهرَ رجالُهُ . قال : وعليه مدارُ أكثرِ الحديثِ ، وهو الذي يقبلُهُ أكثرُ العلماءِ ، ويستعملُهُ عامةُ الفقهاءِ(7)
قال العراقي(8):
" ورأيتُ في كلامِ بعضِ المتأخّرينَ أنَّ في قولِهِ ما عُرِفَ مخرجُهُ احترازاً عن المنقطعِ ، وعن حديثِ المُدَلِّسِ قبلَ أنْ يتبينَ تدليسُهُ . قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ : (ليسَ في عبارةِ الخطّابيِّ كبيرُ تلخيصٍ . وأيضاً فالصحيحُ قد عُرِفَ مخرجُهُ واشتُهِرَ رجالُهُ. فيدخلُ الصحيحُ في حَدِّ الحَسَنِ . قالَ : وكأنَّهُ يريدُ مما لم يبلغْ درجةَ الصحيحِ) .
قال الشيخُ تاج الدينِ التبريزيُّ: فيه نظرٌ ؛ لأنَّهُ - أي: ابنُ دقيقِ العيدِ - ذكرَ من بعدُ : أنَّ الصحيحَ أخصُّ من الحسنِ . قالَ : ودخولُ الخاصِّ في حدِّ العامِّ ضروريٌّ . والتقييدُ بما يخرجهُ عنهُ مخلٌ للحدِّ وهو اعتراضٌ متجهٌ ."
تعريفُ الترمذيُ(9): " وما ذكرنا في هذا الكتاب : حديثٌ حسنٌ ، فإنَّما أردنا به حُسْنَ إسنادِهِ عندنا .كُلُّ حديثٍ يُروى لا يكونُ في إسنادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بالكذبِ ، ولا يكونُ الحديثُ شاذاً ، ويُرْوَى من غيرِ وجهٍ نحوُ ذلك فهو عندنا حديثٌ حسنٌ ".(10)
" قال الحافظ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ أبي بكرٍ بنِ الموَّاق : إنّهُ لم يَخُصَّ الترمذيُّ الحسنَ بصفةٍ تميزُهُ عن الصحيحِ ، فلا يكونُ صحيحاً إلا وهو غير شاذٍ ، ولا يكونُ صحيحاً حَتَّى يكونَ رواتُهُ غيرَ متهمينَ ، بل ثقاتٌ . قال: فظهرَ من هذا أنَّ الحسنَ عند أبي عيسى صفةٌ لا تخصُّ هذا القسمَ بل قد يَشْركُهُ فيها الصحيحُ . قال : فَكلُّ صحيحٍ عندَهُ حسنٌ ، وليسَ كُلُّ حسنٍ عندَهُ صحيحاً . قال أبو الفتحِ اليعمريُّ : بقي عليه أنهُ اشترطَ في الحسنِ أنْ يُرْوَى من وجهٍ آخرَ ، ولم يشترطْ ذلك في الصحيحِ . قلت : وسنرى في كلامِ أبي الفتحِ بعدَ هذا بدونِ الصفحةِ أنَّهُ لا يشترطُ في كلِّ حسنٍ أنْ يكونَ كذلك ، فتأمَّلْهُ ."
" وقولُهُ : ( قلتُ وقد حَسَّن بعضَ ما انفرد ) . هذا من الزوائدِ على ابنِ الصَّلاحِ . وهو إيرادٌ على الترمذيِّ ، حيث اشترطَ في الحسنِ أنْ يُروَى من غيرِ وجهٍ نحوُه . ومع ذلك فقد حَسَّنَ أحاديثَ لا تُروَى إلا من وجهٍ واحدٍ ، كإِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ قَالَ « غُفْرَانَكَ ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ. وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِى مُوسَى اسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الأَشْعَرِىُّ. وَلاَ نَعْرِفُ فِى هَذَا الْبَابِ إِلاَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ رضى الله عنها عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - (11).. وأجاب أبو الفتحِ اليعمريُّ عن هذا الحديثِ بأنَّ الذي يحتاجُ إلى مجيئِهِ من غير وجهٍ ما كانَ راويه في درجة المستورِ ومَنْ لم تثبتْ عدالتُهُ . قال : وأكثرُ ما في البابِ أنَّ الترمذيَّ عَرّفَ بنوعٍ منه لا بكلِّ أنواعِهِ .
وهناك قولٌ ثالثٌ في حدِّ الحسنِ . قالَ ابنُ الجوزيِّ في " العللِ المتناهيةِ " وفي " الموضوعات " : الحديثُ الذي فيه ضَعفٌ قَريبٌ محتَملٌ ، هو الحديثُ الحسنُ . ولم يسمِّ ابنُ الصلاحِ قائلَ هذا القولِ ، بل عزاهُ لبعضِ المتأخِّرينَ ، وأرادَ به ابنَ الجوزيِّ . واعترضَ ابنُ دقيقِ العيدِ على هذا الحدِّ بأنهُ (ليس مضبوطاً بضابطٍ ، يتميَّزُ به القَدْرُ المحتَملُ من غيرِهِ ، قالَ : وإذا اضطربَ هذا الوصفُ لم يحصلِ التعريفُ المميِّزُ للحقيقةِ) . وقال ابنُ الصلاحِ بعد ذِكْرِ هذهِ الحدودِ الثلاثةِ : كلُّ هذا مُستبْهَمٌ ، لا يَشْفِي الغليلَ ، قالَ : وليسَ في كلامِ الترمذيِّ ، والخطّابيِّ ما يفصلُ الحسنَ من الصحيحِ . انتهى .
وقال ابنُ الصلاحِ(12): وقد أمعنْتُ النَظَرَ في ذلك ، والبحثَ ، جامعاً بين أطرافِ كلامِهِم ، ملاحظاً مواقعَ استعمالِهِم ، فتنقحَ لي واتضَحَ أنَّ الحديثَ الحسنَ قسمانِ :
أحدُهما : الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسنادهِ من مستورٍ لم تتحققْ أهليتُهُ، غيرَ أنَّهُ ليس مغفلاً ، كثيرَ الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهمٌ بالكذبِ في الحديثِ ، أي: لم يظهرْ منه تعمُّدُ الكذبِ في الحديثِ ، ولا سببٌ آخرُ مفسِّقٌ ويكونُ متنُ الحديثِ مع ذلك قد عُرِفَ ، بأنْ رُوِي مثلُهُ أو نحوُهُ من وجهٍ آخرَ ، أو أكثر ، حتى اعتضدَ بمتابعةِ مَنْ تابعَ راويهِ على مثلِهِ ، أو بما لَهُ مِنْ شاهدٍ ، وهو ورودُ حديثٍ آخرَ نحوه ، فيخرجُ بذلك عن أنْ يكونَ شاذاً ، أو منكراً . وكلامُ الترمذيِّ على هذا القسمِ يتنزلُ .
القسمُ الثاني : أنْ يكونَ راويه من المشهورين بالصدقِ والأمانةِ ، غيرَ أنَّهُ لا يبلغُ درجةَ رجالِ الصحيحِ ؛ لكونهِ يقصُرُ عنهم في الحفِظِ والإتقانِ ، وهو مع ذلك يرتفعُ عن حالِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفردُ به من حديثِهِ منكراً . قال : ويعتبرُ في كلِّ هذا مع سلامةِ الحديثِ من أنْ يكونَ شاذاً ، أو منكراً سلامتُهُ من أنْ يكونَ مُعَلّلاً . وعلى القسمِ الثاني يتنزلُ كلامُ الخطّابيِّ . قال : فهذا الذي ذكرناه جامعٌ لما تفرّقَ في كلامِ مَنْ بلغَنَا كلامُهُ في ذلك . قال : وكأنَّ الترمذيَّ ذَكَرَ أحدَ نوعَي الحَسَنِ ، وذَكَرَ الخطابيُّ النوعَ الآخرَ ، مقتصِراً كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنَّهُ مشكِلٌ ، معرضاً عمّا رأى أنَّهُ لا يُشْكِلُ أو أنَّهُ غَفَلَ عن البعضِ وذهلَ .(13)
" لَيْسَ كُلُّ ضعفٍ في الحديثِ يزولُ بمجيئِهِ من وجوهٍ ، بَلْ ذَلِكَ يختلف فمنه ضَعْفٌ يُزِيلُه ذَلِكَ ، بأنْ يكونَ ضَعْفُهُ ناشِئَاً مِنْ ضَعْفِ حفظِ راويه مَعَ كونِهِ مِنْ أهلِ الصِّدْقِ والديانة . فإذا رأينا ما رواهُ قَدْ جاءَ من وجهٍ آخرَ عرفنا أنَّهُ مِمَّا قَدْ حفظَهُ وَلَمْ يختلَّ فِيْهِ ضبطُهُ لَهُ . وَكَذَلِكَ إذا كانَ ضَعْفُهُ من حيثُ الإرسالُ زالَ بنحوِ ذَلِكَ كَمَا في المُرْسَلِ الَّذِي يُرْسِلُهُ إمامٌ حافظٌ ، إذ فِيْهِ ضعفٌ قليلٌ يزولُ بروايتهِ من وجهٍ آخرَ . - قَالَ - : ومن ذَلِكَ ضعفٌ لا يزولُ بنحوِ ذَلِكَ ؛ لقوةِ الضعفِ ؛ وتقاعدِ هذا الجابرِ عن جَبْرِهِ ومقاومتِهِ . وذلك كالضعفِ الذي ينشأُ من كونِ الراوي متهماً بالكذبِ أو كونِ الحديثِ شاذاً . قال : وهذهِ جملةٌ تفاصيلُها تدركُ بالمباشرةِ والبحثِ ، فاعلمْ ذلك فإنَّهُ من النفائِسِ العزيزةِ ، والله أعلمُ ."(14)
تعريف الحافظ ابن حَجَر(15): قال: " وخبرُ الآحادِ(16)؛ بنقلِ عَدْلٍ تامِّ الضَّبْطِ ، مُتَّصِلَ السَّنَدِ ، غيرَ مُعَلَّلٍ ولا شاذٍّ : هو الصَّحيحُ لذاتِهِ ، وهذا أَوَّلُ تقسيمٍ مقبولٍ إِلى أربعةِ أَنواعٍ ؛ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يشتَمِلَ مِن صفاتِ القَبولِ على أَعْلاها أَوْ لاَ :
الأوَّلُ: الصَّحيحُ لذاتِهِ .
والثَّاني : إِنْ وُجِدَ ما يَجْبُرُ ذلكَ القُصورَ ؛ ككثْرَةِ الطُّرُق ؛ فهُو الصَّحيحُ لذاته أَيضاً ، لكنْ لا لذاتِهِ .
وحيثُ لا جُبْرانَ ؛ فهُو الحسنُ لذاتِهِ .
وإِنْ قامَتْ قرينةٌ تُرَجِّحُ جانِبَ قَبولِ مَا يُتَوَقَّفُ فيهِ ؛ فهُو الحسنُ أيضاً ، لكنْ لا لذاتِهِ ."
قلتُ :
فكأن الحَسَنَ عند الحافظ ابن حجر هو الصحيح إذا خَفَّ ضبط راويه ، أي قَلَّ ضبطه ، وهو خير ما عرف به الحسن .
التعريف المُخْتَارُ(17): " هو الحديث الذي يتصل سنده بنقل عدل خفّ ضبطه ، من غير شذوذ ولا علّة ".
2) حكمُه :
"الحسن كالصَّحيح في الاحتجاج به, وإن كان دُونه في القُوَّة, ولهذا أدرجته طائفة في نوع الصَّحيح] كالحاكم وابن حبَّان وابن خُزيمة, مع قولهم بأنَّه دُون الصَّحيح المُبين أولاً.
"ولا بدع في الاحتجاج بحديث له طريقان, لو انفردَ كل منهما لم يَكُن حُجَّة, كما في المُرسل إذا وردَ من وجه آخر مُسند, أو وافقهُ مُرسل آخر بشرطهِ كما سيجيء. قالهُ ابن الصَّلاح .
وقال في «الاقتراح»: ما قيل من أنَّ الحسن يُحتج به فيه إشْكال, لأنَّ ثَمَّ أوصَافًا يجب معها قَبُول الرِّواية إذا وجدت, فإن كانَ هذا المُسمَّى بالحسن, مِمَّا وجدت فيه على أقلِّ الدَّرجات الَّتي يجب معها القَبُول فهو صحيح, وإن لم تُوجد لم يَجُز الاحتجاج به, وإن سُمي حسنًا, اللهمَّ إلاَّ أن يُرد هذا إلى أمر اصْطلاحي, بأن يُقَال: إنَّ هذه الصِّفات لها مراتب ودرجات, فأعْلاها وأوسطها يُسمَّى صحيحًا, وأدْنَاها يُسمَّى حسنًا, وحينئذ يرجع الأمر في ذلك إلى الاصْطلاح, ويَكُون الكل صحيحًا في الحقيقة."(18)
3) مثالُه:
__________
(1) - الصحيح يثبت ولو كان بالواحد إذا كان السند جيداً ورجاله ثقات ومتصل ليس فيه تدليس ولا انقطاع يسمى صحيحاً مثل حديث عمر بن الخطاب ( إنما الأعمال بالنيات )
(2) - هو محمد بن عبدالوهاب أبو علي المعروف بالجبَّائي، 235-303هـ، أحد أئمة المعتزلة، وإليه تُنسب فرقة الجبَّائية منهم.
(3) - قول ابن رشيد هو الصواب وقول أبي بكر بن العربي في شرح البخاري ذهول وغلط فيكفيه أول حديث عند البخاري وهو حديث عمر .
(4) - يعني في أثناء السند ليس بشرط أن تستمر اثنين اثنين بل قد يزيد ولكن المدار أن يكون على اثنين . وانظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 33)
(5) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 4) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 4) وقواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 54) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 104) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 297) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 401) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 47) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 72) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 16) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 9) ونظرات جديدة في علوم الحديث للمليباري - (ج 1 / ص 7) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 1 / ص 191) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 154)
(6) - الخَطَّابِيُّ أَبُو سُلَيْمَانَ حَمْدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، الحَافِظُ، اللُّغَوِيُّ، أَبُو سُلَيْمَانَ حَمْدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ خَطَّابٍ البُسْتِيُّ، الخَطَّابِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ. وُلِدَ:سَنَةَ بِضْعَ عَشْرَةَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الحُسَيْنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الفَقِيْهُ، وَشُهْدَةُ بِنْتُ حسَّانٍ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بنُ عَلِيٍّ المَالِكِيّ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ، قَالَ:وَأَمَّا أَبُو سُلَيْمَان الشَّارحُ لِكتَاب أَبِي دَاوُدَ، فَإِذَا وَقَفَ مُنصفٌ عَلَى مُصَنَّفَاته، وَاطَّلع عَلَى بَدِيْع تَصَرُّفَاتِه فِي مُؤَلَّفَاته، تَحقَّق إِمَامتَهَ وَديَانتَه فِيمَا يُورِدُهُ وَأَمَانتَه، وَكَانَ قَدْ رحلَ فِي الحَدِيْثِ وَقرَاءةِ العُلوم، وَطوّف، ثُمَّ أَلَّف فِي فُنُوْنٍ مِنَ العِلْم، وَصَنَّفَ، وَفِي شُيُوْخه كَثْرَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي تَصَانِيْفِه، مِنْهَا(شَرْح السُّنَن)، الَّذِي عَوّلْنَا عَلَى الشّروع فِي إِملاَئِه وَإِلقَائِه، وَكِتَابه فِي غَرِيْب الحَدِيْثِ، ذَكر فِيْهِ مَا لَمْ يذكرْهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَلاَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كتَابَيْهِمَا، وَهُوَ كِتَابٌ مُمتع مُفِيْد، وَمُحصِّلُه بِنِيَّةٍ مُوَفَّقٌ سَعِيْدٌ،
أَخْبَرَنَا أَبُو الحَسَنِ، وَشُهْدَةُ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ، أَخْبَرَنَا السِّلَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو المَحَاسِنِ الرُّويَانِي، سَمِعْتُ أَبَا نَصْرٍ البَلْخِيّ، سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الخَطَّابِي، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيْدٍ بن الأَعْرَابِيِّ وَنَحْنُ نَسْمَعُ عَلَيْهِ هَذَا الكِتَاب - يَعْنِي:(سُنَن أَبِي دَاوُدَ) - يَقُوْلُ:لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ المُصْحَفُ الَّذِي فِيْهِ كِتَابُ اللهِ، ثُمَّ هَذَا الكِتَاب، لَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا إِلَى شَيْءٍ مِنَ العِلْمِ بَتَّة.قَالَ أَبُو يَعْقُوْبَ القَرَّاب:تُوُفِّيَ الخَطَّابِي ببُسْتَ، فِي شَهْرِ رَبِيْعٍ الآخِرِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ...سير أعلام النبلاء (17/24-27)(12 )
(7) - معالم السنن جـ 1 ـ ص 11
(8) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 47)
(9) - التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بنُ عِيْسَى بنِ سَوْرَةَ بنِ مُوْسَى بنِ الضَّحَّاكِ وَقِيْلَ: هُوَ مُحَمَّدُ بنُ عِيْسَى بنِ يَزِيْدَ بنِ سَوْرَةَ بنِ السَّكَنِ: الحَافِظُ، العَلَمُ، الإِمَامُ، البَارِعُ، ابْنُ عِيْسَى السُّلَمِيُّ، التِّرْمِذِيُّ الضَّرِيرُ، مُصَنِّفُ (الجَامِعَ)، وَكِتَابَ (العِلَلِ)، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
اخْتُلِفَ فِيْهِ، فَقِيْلَ: وُلِدَ أَعْمَى، وَالصَّحِيْحُ أَنَّهُ أَضَرَّ فِي كِبَرِهِ، بَعْدَ رِحْلَتِهِ وَكِتَابَتِهِ العِلْمَ.وُلِدَ: فِي حُدُوْدِ سَنَةِ عَشْرٍ وَمائَتَيْن.وَارْتَحَلَ، فَسَمِعَ بِخُرَاسَانَ وَالعِرَاقِ وَالحَرَمَيْنِ، وَلَمْ يَرْحَلْ إِلَى مِصْرَ وَالشَّامِ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي (الثِّقَاتِ): كَانَ أَبُو عِيْسَى مِمَّن جَمَعَ، وَصَنَّفَ وحَفِظَ، وذَاكَرَ.وَقَالَ أَبُو سَعْدٍ الإِدْرِيْسِيُّ: كَانَ أَبُو عِيْسَى يُضْرَبُ بِه المَثَلُ فِي الحِفْظِ.وَقَالَ الحَاكِمُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ عَلَّك يَقُوْلُ: مَاتَ البُخَارِيُّ فَلَمْ يُخَلِّفْ بِخُرَاسَانَ مِثْلَ أَبِي عِيْسَى، فِي العِلْمِ وَالحِفْظِ، وَالوَرَعِ وَالزُّهْدِ، بَكَى حَتَّى عَمِي، وَبَقِيَ ضَرِيْراً سِنِيْنَ. وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ مَنْصُوْرِ بنِ عَبْدِ اللهِ الخَالديِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو عِيْسَى: صَنَّفْتُ هَذَا الكِتَابَ، وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الحِجَازِ، وَالعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَرَضُوا بِه، وَمَنْ كَانَ هَذَا الكِتَابُ -يَعْنِي: (الجَامِعُ)- فِي بَيْتِهِ، فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ.
قُلْت: فِي (الجَامِعِ) عِلْمٌ نَافِعٌ، وَفَوَائِدُ غَزِيْرَةٌ، وَرُؤُوْسُ المَسَائِلِ، وَهُوَ أَحَدُ أُصُوْلِ الإِسْلاَمِ، لَوْلاَ مَا كَدَّرَهُ بِأَحَادِيْثَ وَاهِيَّةٍ، بَعْضُهَا مَوْضُوْعٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا فِي الفَضَائِلِ.
وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ عَبْدُ الرَّحِيْمِ بنُ عَبْدِ الخَالِقِ: (الجَامِعُ) عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:قِسْمٌ مَقْطُوْعٌ بِصِحَّتِهِ، وَقِسْمٌ عَلَى شَرْطِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ كَمَا بَيَّنَّا، وَقِسْمٌ أَخرَجَهُ لِلضِّدِيَّةِ، وَأَبَانَ عَن عِلَّتِهِ، وَقِسْمٌ رَابِعٌ أَبَانَ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا أَخْرَجْتُ فِي كِتَابِي هَذَا إِلاَّ حَدِيْثاً قَدْ عَمِلَ بِه بَعْضُ الفُقَهَاءِ، سِوَى حَدِيْثِ: (فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوْهُ)، وَسِوَى حَدِيْثِ: (جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ بِالمَدِيْنَةِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلا سَفَرٍ).
قُلْت: (جَامعُهُ) قَاضٍ لَهُ بِإِمَامَتِهِ وَحِفْظِهِ وَفِقْهِهِ، وَلَكِنْ يَتَرَخَّصُ فِي قَبُوْلِ الأَحَادِيْثَ، وَلا يُشَدِّد، وَنَفَسُهُ فِي التَّضْعِيفِ رَخْوٌ.
وفِي (المَنثَوْرِ) لابْنِ طَاهِرٍ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْمَاعِيْلَ شَيْخَ الإِسْلامِ يَقُوْل: (جَامِعُ) التِّرْمِذِيِّ أَنْفَعُ مِنْ كِتَابِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، لأَنَّهُمَا لاَ يَقِفُ عَلَى الفَائِدَةِ مِنْهُمَا إِلاَّ المُتَبَحِّرُ العَالِمُ، وَ(الجَامِعِ) يَصِلُ إِلَى فَائِدَتِهِ كُلُّ أَحَدٍ.
قَالَ غُنْجَارٌ، وَغَيْرُهُ: مَاتَ أَبُو عِيْسَى فِي ثَالِثِ عَشَرِ رَجَبٍ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْن بِتِرْمِذَ. ..سير أعلام النبلاء (13/272-278)(132 )
(10) - جامع الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ـ كتاب العلل في آخر جامعه جـ 10 ـ ص 519
قلت : وهذا التعريف ينطبق على الحديث الحسن لغيره
(11) - سنن الترمذى (7 )
(12) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 4)
(13) - شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 47)
(14) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 5) وتحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 373) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 190) وشرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 51)
(15) - النكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 417) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 67) والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 7)
(16) - وهذا واضح فيه بيان تفصيل خبر الآحاد وإنه أقسام أربعة الصحيح لذاته والصحيح لغيره والحسن لذاته والحسن لغيره فإذا توافرت الشروط بأن كان من رواية العدل التام الضبط غير المعلل ولا الشاذ فهذا يقال له الصحيح لذاته وهذا هو أعلى مراتب الآحاد فإذا كان الضبط غير تام فيقال له الحسن لذاته . فإن كثرت الطرق لهذا الذي فيه نقص الضبط صار صحيحاً لغيره فإن كان بعض الضعف في بعض الرواة لكثرة الوهم انجبر بوجود طريق آخر فصار حسناً لغيره فإن كان معللاً بانقطاع أو شذوذ لم يكن صحيحاً ولا حسناً ولهذا قال المؤلف ( غير معلل ولا شاذ ) ، والشاذ هو ما خالف الثقة فيه من هو أوثق منه .(ابن باز)
(17) -انظر تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 8)
(18) - قواعد التحديث للقاسمي - (ج 1 / ص 66) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 106)(1/50)
ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم(17344) قال : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى بْنُ خَلَفٍ ـ كَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلاءِ ـ قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلامٍ ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ ، عَنِ الْحَارِثِ الأَشْعَرِيِّ ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى : إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ ، وَإِمَّا أُبَلِّغَهُنَّ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ ، أَوْ يُخْسَفَ بِي . قَالَ : فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، حَتَّى امْتَلأَ الْمَسْجِدُ وَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ، وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ ، أَوْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي عَمَلَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا ، وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وَقَرَّبُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ ، فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ ، وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ كَثِيرًا وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ ؛ بِالْجَمَاعَةِ ، وَبِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ : وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
هذا حديث متصل الإسناد ورواته ثقات . خلا أبو خلف موسى بن خلف العَمِّي البصري ، فإنه صدوق عابد ، لكنه لم يبلغ درجة الإتقان ، واختلفوا فيه ، وحديثه حسن إن شاء الله تعالى . قال ابن معين : ليس به بأس . وقال مرّة : ضعيف . وقال الدارقطني : ليس بالقوي ، يعتبر به . وقال أبو حاتم الرازي : صالح الحديث ، وثقه يعقوب بن شيبة والعجلي ، أخرج له البخاري تعليقا وأبو داود والنسائي .(1)
وليس ثمة ما يعارض هذا الحديث ، ولا علة فيه ؛ فهو حديث حسن إن شاء الله .
وأخرجه الترمذي بطوله عن الحارث الأشعري في كتاب الأمثال باب ما جاء مثل الصلاة والصيام والصدقة رقم (2863) وقال : حديث حسن صحيح غريب .
مثال آخر : ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده رقم(16395) قال : حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، قَالَ أَنْبَأَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ ، قَالَ : كَانَ مُعَاوِيَةُ قَلَّمَا يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا وَيَقُولُ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ قَلَّمَا يَدَعُهُنَّ ، أَوْ يُحَدِّثُ بِهِنَّ فِي الْجُمَعِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُّ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوٌ خَضِرٌ فَمَنْ يَأْخُذْهُ بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ .
هذا حديث متصل الإسناد ورواته ثقات . خلا معبد الجهني وحديثه حسن لكونه صدوقا في نفسه . قال أبو حاتم الرازي : كان صدوقا ، وكان رأسا في القدر . وقال الذهبي في الميزان : صدوق في نفسه ، ولكنه سنّ سنة سيئة ؛ فكان أول من تكلم بالقدر . وقد وثقه يحيى بن معين ، أخرج له ابن ماجه ، قتل سنة 80هـ قتله الحجاج صبرا لخروجه مع ابن الأشعث .(2)
وليس ثمة ما يخالفه ، ولا علة فيه ؛ فهو حديث حسن إن شاء الله تعالى .
مثال آخر : ما رواه الترمذي قال(3): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ، قَال : سَمِعْتُ أَبِي بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ رَثُّ الْهَيْئَةِ : أَأَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ .. وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وإنما كان هذا الحديث حسناً ؛ لأن رجال إسناده الأربعة ثقات إلا جعفر بن سليمان الضبعي ، فإنه صدوق(4)، لذلك نزل الحديث عن مرتبة الصحيح إلى الحسن .
قلتُ : وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (5025 ) بسنده ولفظه ، فهو في مرتبة أدنى درجات الصحيح
4- مراتبُه(5):
كما أن للصحيح مراتب يتفاوت بها بعض الصحيح عن بعض، كذلك فإن للحسن مراتب، وقد جعلها الذهبي مرتبتين فقال:
فأعْلَى مراتبه: بَهْز بن حَكِيم عن أبيه عن جدِّه.،مثاله ما رواه أبو داود في سننه(6)حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« فِى كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِى أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَلاَ يُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا ». قَالَ ابْنُ الْعَلاَءِ « مُؤْتَجِرًا بِهَا ». :« فَلَهُ أَجْرُهَا وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَىْءٌ "
وعَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه ، مثاله كما في سنن أبى داود برقم (135 ) حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِى عَائِشَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِى أُذُنَيْهِ وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ « هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ».
وابن إسحق عن التيمي ،مثاله كما في سنن النسائي برقم (2352 ) أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ عَنْ ابْنِ إِسْحَقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قُلْتُ أَيْ عَمِّ حَدِّثْنِي عَمَّا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَجْمَعْتُ عَلَى أَنْ أَجْتَهِدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى قُلْتُ لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَانِي حَتَّى دَخَلَ عَلَيَّ فِي دَارِي فَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ لَأَصُومَنَّ الدَّهْرَ وَلَأَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ قَدْ قُلْتُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَلَا تَفْعَلْ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قُلْتُ إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ مِنْ الْجُمُعَةِ يَوْمَيْنِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ قُلْتُ فَإِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكِ قَالَ فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ أَعْدَلُ الصِّيَامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمًا صَائِمًا وَيَوْمًا مُفْطِرًا وَإِنَّهُ كَانَ إِذَا وَعَدَ لَمْ يُخْلِفْ وَإِذَا لَاقَى لَمْ يَفِرَّ "
وأمثال ذلك ممَّا قيل إنَّه صحيح, وهو من أدْنَى مراتب الصَّحيح.
ثمَّ بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه, كحديث الحارث بن عبد الله ,ففي تقريب التهذيب [ ج1 - ص 146 ](1029 ) الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني بسكون الميم الحوتي بضم المهملة وبالمثناة الكوفي أبو زهير صاحب علي كذبه الشعبي في رأيه ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف وليس له عند النسائي سوى حديثين مات في خلافة بن الزبير 4
وفي الكاشف [ ج1 - ص 303 ](859 ) الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني عن علي وابن مسعود وعنه عمرو بن مرة والشعبي شيعي لين قال النسائي وغيره ليس بالقوي وقال ابن أبي داود كان أفقه الناس وأفرض الناس وأحسب الناس مات 65 4
وفي الكامل في الضعفاء [ ج2 - ص 186 ] قال ابن عدي : وللحارث الأعور عن علي وهو أكثر رواياته عن علي وروى عن بن مسعود القليل وعامة ما يرويه عنهما غير محفوظ.
قلتُ : فحديثه إذا تفرد به فضعيف ضعفاً يسيراً ، ما لم يكن فيه نصرة لبدعته
وعاصم بن ضَمْرة ، ففي تقريب التهذيب [ ج1 - ص 285 ] (3063 ) عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي صدوق من الثالثة مات سنة أربع وسبعين 4
وفي الكاشف [ ج1 - ص 519 ] (2504 ) عاصم بن ضمرة السلولي عن علي وعنه أبو إسحاق والحكم وعدة وثقه بن المديني وقال النسائي ليس به بأس وقال ابن عدي بتليينه وهو وسط .
وفي الجرح والتعديل [ ج6 - ص 345 ](1910 ) عاصم بن ضمرة السلولي روى عن على رضي الله عنه روى عنه أبو إسحاق الهمداني سمعت أبي يقول ذلك ،نا عبد الرحمن نا صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل نا على يعني بن المديني قال سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول قال سفيان يعني الثوري :كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث نا عبد الرحمن نا حرب بن إسماعيل الكرماني فيما كتب إليَّ قال سمعت أحمد بن حنبل يقول :عاصم بن ضمرة أعلى من الحارث ،نا عبد الرحمن نا العباس بن محمد الدوري قال قال يحيى بن معين قُدِّمَ عاصمُ بنُ ضمرةَ على الحارث الأعور، نا عبد الرحمن نا محمد بن أحمد بن البراء قال قال علي يعني بن المديني :عاصم بن ضمرة ثقة .
قلت : فحديثه حسن على الراجح إن لم يكن صحيحاً في أدنى درجات الصحيح .
وحجاجُ بن أرطاة :
ففي تقريب التهذيب[ ج1 - ص 152 ](1119 ) حجاج بن أرطاة بفتح الهمزة بن ثور بن هبيرة النخعي أبو أرطاة الكوفي القاضي أحد الفقهاء صدوق كثير الخطأ والتدليس من السابعة مات سنة خمس وأربعين بخ م 4
وفي الكاشف[ ج1 - ص 311 ](928 )حجاج بن أرطاة الكوفي أحد الأعلام على لين فيه عن عكرمة وعطاء وعنه شعبة وعبد الرزاق وخلق قال الثوري: ما بقي أحد أعلم بما يقول منه ،وقال حماد بن زيد: كان أفهم لحديثه من سفيان، وقال أحمد: كان من حفاظ الحديث وقال القطان هو وابن إسحاق عندي سواء وقال أبو حاتم صدوق يدلس فإذا قال حدثنا فهو صالح وقال النسائي ليس بالقوي مات 145 م قرنه 4
قلت : فحديثه حسن إذا تفرد ، وإذا دلَّسَ نتوقفُ فيهِ .
وكلُّ راوٍ اختلفوا فيه جرحاً وتعديلاً فحديثه - على الراجح- حسنٌ ـ إلا إذا أنكرَ عليه ذاك الحديث أو أخطأ فيه، ولم يوجد ما يتابعه أو يشهد له ، والله أعلم
ــــــــــــــ
5- ضوابط لمعرفة الحديث الحسن
الحديث الحسن قسمان: حسن لذاته، وهو: ما استوفى شروط الصحة سوى الضبط، فإن راويه أنزل من راوي الحديث الصحيح وأرفع من راوي الحديث الضعيف، وهذا هو الذي قرره الحافظ ابن حجر ومشى عليه المتأخرون بعده.
وكذلك بالنسبة للحديث الحسن لغيره، وهو الضعيف الذي ينجبر بوروده من طرق أخرى، إذا تعددت طرق هذا الحديث، فإنه يكون حسنا لغيره، وكلا النوعين تختلف فيهما أنظار الحفاظ، فالحسن لذاته يختلف النظر من جهة قياس ضبط راوي الحديث الحسن لذاته، فمنهم من يرى أن الضعف مؤثر عليه، فلا يحكم له بالحسن، ومنهم من يرى أن هذا الضعف يحط من مرتبته قليلا فيحسن حديثه.
ومنهم من يرى أن هذا الضعف لا يؤثر على مروياته، فيصحح حديثه، وأما بالنسبة للحسن لغيره، فإن نظر العلماء يختلف في نظرهم للجابر، ما هو؟، وفي نظرهم للمجبور، فبالنظر للمجبور، أو المشهود له أو المعضود أو المتابع، يختلفون في قياس الضعف الذي يتم به الانجبار، فبضع العلماء يقول: إذا لم يكن الراوي متهما، انجبر حديثه بتعدد طرقه، وبعضهم يقول: لا، إن كان كثير الغلط لم ينجبر هذا الحديث بتعدد الطرق، وأما بالنسبة للعاضد أو الشاهد أو المتابع، فهذا يختلف العلماء.
فمنهم أحيانا من يرى أن هذا الحديث يحتاج إلى شاهدين أو يكفي في ترقيته إلى شاهد أو متابع واحد فقط، ومنهم من يرى أن هذا الشاهد أو المتابع يتقاعد عن أن يجبر هذا المتابع، لحاجة المتابع إلى مزيد مما يجبره ويعضده ليرقيه إلى الحسن لغيره؛ ولهذا يقع الاختلاف بين أهل العلم في هذا القسم، فمنهم من يبقي بعض الأحاديث على أصل ضعفها ولو تعددت طرقها، لاعتقاده وظنه أن هذه الطرق لا تكفي لترقية الحديث.
ومنهم من يرى أن هذه الطرق تقوى هذا الحديث وتجبر الضعف الذي فيه فيحسنها، فتجد أن الحديث الحسن لغيره يتردد كلام العلماء فيه، بين تضعيفه وتحسينه تحسينا لغيره، والذي يعني: ينبغي التنبه له والتنبيه عليه هو مقياس ضبط الراوي بالنسبة للحسن لذاته.
ومعرفة هذا المقياس لا يتم إلا بعد ممارسة طويلة لكلام أئمة الجرح والتعديل في الموثقين وفي المضعفين، وفي المحكوم على حديثهم بأنه حديث حسن؛ لأن الإنسان إذا تمرس في هذه الأشياء الثلاثة، تبين له الوسط منها، والوسط هو الذي يحكم على حديثه بأنه حديث حسن لذاته، وهناك بعض الضوابط، أو بعض الأمور التي قد يستعين بها الإنسان في بادئ الأمر على تحديد أو معرفة من يحسن حديثه من العلماء، فمن هذه الأشياء، ما نص الحافظ الذهبي أو الحافظ ابن حجر على أن حديثه حسن.
وهذا نص في الباب؛ لأن الإنسان المطالع إلى تراجم هؤلاء الذين ينص على أن حديثهم حسن يجد فيه اختلافا كبيرا بين التوثيق والتضعيف، فإذا لم يكن لديه أهليته للنظر، احتاج إلى غيره من أئمة الفن، لترجيح أحد الجانبين، وهذا الترجيح يقع من الأئمة الحفاظ، وبخاصة الذهبي وابن حجر؛ لأنهما من المحققين المتأخرين في هذا الفن، فأحيانا الحافظ الذهبي وهو كثير، ينص على أن هذا الرجل حديثه حسن، وكذلك الحافظ ابن حجر- رحمه الله-، وإن كان الحافظ الذهبي أكثر تنصيصا من الحافظ ابن حجر.
فإذا جدت رجلا نص الحافظ الذهبي على أن حديثه حسن، وورد عند الإسناد فإنك تحسن حديثه، وكذلك بالنسبة للحافظ ابن حجر- رحمه الله- إذا حكم على رجل بأنه حسن الحديث وكان معك فيه إسناد، فإنك تحسن الإسناد اعتمادا على هذا النص من الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر- رحمهما الله-، فالحافظ الذهبي مثلا، نص على أن محمد بن عجلان حسن الحديث، فإذا ورد عندك بسند محمد بن عجلان تحسن الحديث بناء على اعتمادك على كلام الحافظ الذهبي، لعدم وجود الأهلية في الترجيح بين أقوال الأئمة المجرحين والمعدلين.
وكذلك الحافظ الذهبي مثلا حسن حديث ابن إسحاق، وكذلك الحافظ ابن حجر حسن حديث ابن إسحاق، ونص على أن حديثه حسن، وكذلك حسن الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- حديث شهر بن حوشب وحسن حديث أبي محريز وغيرهما، نصوا على أن حديثه حسن فإذا ورد عندك هذا الكلام، ووجدته في كلام الحافظين، وأنت غير مؤهل للنظر بين أقوال المجرحين والمعدلين، فإنك تعتمد هذا القول، وإنما اعتمد قول هذين الحافظين، أو اختير قول هذين الحافظين؛ لأنهما من أئمة التحقيق في هذا الشأن المتأخرين.
ولأن لهما أقوالا كثيرة في الرجال، فغيرهما قد يكون له تحسين، ولكن تجده نادرا ليس لهم كلام طويل وكثير في الرجال، وكذلك اختيار كلام الذهبي والحافظ ابن حجر على اعتبار أن اصطلاح الحديث قد استقر عندهما، فهما قد استقر عندهما تعريف الحسن لذاته، وبناء على ذلك أي رجل حكموا بأن حديثه حسن فينزل على تعريفهما للحسن لذاته، وهو ما خفَّ فيه أو قصر فيه ضبط الراوي عن درجة الحفظ والإتقان المعتمدة في رجال الصحيح.
فصار كلام الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر في التنصيص على أن هذا الرجل حسن الحديث، يعتمد عند عدم أهليته، وهذا يعني: أحد الأمور التي يعرف بها ضبط الراوي وخفته، فإذا وصفوا رجلا بأنه حسن الحديث وصفه الذهبي أو الحافظ ابن حجر، فالمراد أن ضبطه خفيف، أو أن درجته قاصرة عن درجة رجال الصحيح، ومرتفعة عن درجة حفظ من يضعف حديثه.
والأمر الثاني: ما نص الحافظ ابن حجر على أنه صدوق أو لا بأس به أو ليس به بأس، لأننا نعتمد في هؤلاء المجرحين والمعدلين، يعني: المختلف فيهم على هذه الكتب المختصرة وأقوال العلماء المختصرة، فإذا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: صدوق أو لا بأس به أو ليس به بأس، فهذا يدل على أن حديثه حسن طيب، قد يقول قائل: من أين عرف هذا الاصطلاح، وهذا استشكال أورده بعض المعاصرين، ويرى أن هذا الكلام يحتاج إلى دليل وهو إذا قال الحافظ ابن حجر: صدوق أو لا بأس به أو ليس بأس أن هذا حسن الحديث هو يقول يحتاج إلى دليل وهذا دليله ظاهر في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن الحافظ ابن حجر في مراتب الجرح والتعديل التي ذكرها في أول التقريب، ذكر المرتبة الثالثة، وهو من قال فيه ثقة، أو متقن، أو ثبت أو عدل، وهذه الألفاظ كما تقدم لنا، ألفاظ تدلُّ على ضبط الراوي وأنه من رجال الصحيح، أي الرجال الذين يصحح حديثهم، ثم جاء في المرتبة التي تليها، وذكر أن أصحاب هذه المرتبة من قصر عن درجة المرتبة الثالثة.
وذكروا في هذه المرتبة هذه الأوصاف الثلاثة: الصدوق، وليس به بأس، أو لا بأس به، فهذا يدلنا على القاعدة التي ذكرها الحافظ ابن حجر في الحسن لذاته، وهو أنه الذي خف ضبطه عن درجة رجال الصحيح، والمرتبة الثالثة: هم رجال الصحيح بلا كلام بين أهل العلم، فمن قصر عن هذه المرتبة مباشرة هم أصحاب المرتبة الرابعة، ليس بينهم وبين أصحاب المرتبة الثالثة مرتبة أخرى.
فها هم قد قصروا عن أصحاب المرتبة الثالثة الذين يصحح حديثهم، إذاً لم يبق إلا تحسين حديث أصحاب هذه المرتبة، فهذا كأنه تنصيص من الحافظ ابن حجر- رحمه الله- على أن من قال فيه صدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس، أنه يحسن حديثه.
والدليل الثاني: أن الحافظ ابن حجر- في النخبة وشرحها- لما ذكر أن زيادة راوي الصحيح والحسن مقبولة، بين أن هذا القبول ما لم تقع هذه الزيادة منافية، ثم بين أن هذه المنافاة أنها إذا وقعت منافية، فإنها تكون شاذة، والشاذ عرفه بأنه رواية المقبول عمن هو أولى منه، وكلمة المقبول هذه بيَّن في أثناء كلامه، أنها تنطبقُ على الثقة والصدوق.
فالثقة والصدوق إذا خالفا سميت مخالفتها شاذة؛ لأنه يصدق عليها أنهما مقبول ، فإذا ربطته مع أن زيادة راويهما يعني: الحسن والصحيح مقبولة، تبين لك أن كلمة ثقة هذه راجعة إلى راوي الصحيح، وأن كلمة صدوق راجعة إلى راوي الحديث الحسن، فمجموع كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذه المسألة في النخبة وشرحها، يبين أن كلمة صدوق عائدة إلى حسن الحديث ... ؛ لأن هذه كلمة صدوق فمن قال فيه صدوق فهو يحسن حديثه وهو مقبول.
والثقة يصحح حديثه، وهو داخل تحت لفظ المقبول
__________
(1) - انظر ترجمته في : التهذيب 10/341(296)، والتقريب 2/282](1736).
(2) - تهذيب التهذيب[ ج 10 - ص 203 ] (416) ولسان الميزان [ ج 7 - ص 393 ] (4884) والجرح والتعديل[ ج 8 - ص 280 ] (1282 )
(3) - الترمذي في سننه : في الجهاد رقم (1659)
(4) - تهذيب التهذيب[ ج 2 - ص 81 ](145) وتقريب التهذيب[ ج 1 - ص 140 ] (942) والكاشف[ ج 1 - ص 294 ] (792)
(5) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 105)
(6) - برقم (1577 ) -العزمة : الجد والحق فى الأمر بنت لبون : ما أتى عليه سنتان ودخل فى الثالثة فصارت أمه لبونا بوضع الحمل(1/51)
والدليل الثالث: التطبيق العملي لهذه القاعدة من قبل الحافظ ابن حجر نفسه، فهناك أحاديث كثيرة حسنها الحافظ ابن حجر- رحمه الله-، فإذا فحصت رجالها وجدت أن فيهم من وصفه الحافظ بأحد هذه الأوصاف الثلاثة، فمثلا حديث بُرَيْدَةَ ، قَالَ : خَرَجْتُ يَوْمًا أَمْشِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَظَنَنْتُهُ يُرِيدُ حَاجَةً فَعَارَضْتُهُ حَتَّى رَآنِي فَأَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي جَمِيعًا فَإِذَا رَجُلٌ بَيْنَ أَيْدِينَا يُصَلِّي يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : تُرَاهُ مُرَائِيًا ؟ قُلْتُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَأَرْسَلَ يَدِي فَقَالَ : عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا فَإِنَّهُ مِنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ.(1).
هذا الحديث حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه حديث حسن، وإذا فتشت عن رجال إسناده وجدت أنهم ثقات، إلا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن الغطفاني، فإن هذا إذا راجعت ترجمته عند الحافظ وجدته يصفه بصدوق، فإذا ربطته بين هذه الكلمة أو بين هذا الرجل ووصف حاله بأنه صدوق، مع تحسين الحافظ ابن حجر للحديث وليس فيه راو غير ثقة إلا هذا الراوي،تبين لك أن كلمة صدوق عند الحافظ تدلُّ على أن هذا الرجل حديثه حسن، وقد صححه غيره .
وكذلك أيضا حديث معاوية -رضي الله عنه- في تفرق هذه الأمة، فعَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى ، قَالَ : حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ ، أُخْبِرَ بِقَاصٍّ يَقُصُّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَوْلًى لِبَنِي فَرُّوخٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ : أُمِرْتَ بِهَذِهِ الْقِصَصِ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُصَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، قَالَ : نُنْشِئُ عِلْمًا عَلَمَنَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ لَقَطَعْتُ مِنْكَ طَائِفَةً ، ثُمَّ قَامَ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ، فَقَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ ، فَلا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلاَّ دَخَلَهُ ، وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لَغَيْرُ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لاَ تَقُومُوا بِهِ "(2)
هذا الحديث رجاله ثقات إلا الأزهر بن عبد الله الهوزني، ومع ذلك حكم الحافظ ابن حجر على هذا الحديث بأنه حسن، والتحسين جاء؛ لأن هذا الراوي عبد الله بن أزهر؛ وصفه الحافظ ابن حجر بأنه صدوق، فإذا ربطت صدوق مع تحسين الحديث، ظهر لك أن كلمة صدوق عند الحافظ ابن حجر -رحمه الله- تدلُّ على تحسين حديث هذا الراوي.
وكلمة لا بأس به، أو ليس به بأس، الحافظ ابن حجر جمعها مع كلمة صدوق في هذه المرتبة، فهي والصدوق سواء ، فكلمة صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس، هذه درجة واحدة، فإذا كان يحسِّن للصدوق فهو أيضا يحسِّن لمن قيل فيه لا بأس به، أو ليس به بأس، وقد وقع التطبيق العملي لهذا من الحافظ ابن حجر- رحمه الله- في حديث مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى عَائِشَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ وَالإِمَامُ يَقْرَأُ؟ ». قَالُوا : إِنَّا لَنَفْعَلُ. قَالَ :« فَلاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُكُمْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ »(3).
هذا الحديث رجال إسناده ثقات إلا محمد بن أبي عاشة، فإن الحافظ ابن حجر قال فيه: ليس به بأس، فهذا تطبيقٌ عملي من الحافظ ابن حجر أيضا لهذه المرتبة، أو لهذه اللفظة ، فإن لفظة ليس به بأس تعطي تحسين حديث الراوي، وهذه النتيجة أشار إليها باقتضاب ولم يذكر أمثلة عليها الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحديث،وإن كان أهل هذه المرتبة وهي الصدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس أصحابها ممن يعني: يحسن حديثهم.
والأمر الثالث: مما يستعان به على معرفة من يحسن حديثه الراوي الذي يصفه الحافظ الذهبي بأنه صدوق أو صالح الحديث، فهاتان المرتبتان عند الحافظ الذهبي يحسن حديثهما، لكن ينبغي أن ينتبه في الحافظ ابن حجر والحافظ الذهبي -رحمهما الله- أنا نشترط أن تكون هذه العبارات عبارة الحافظ نفسه، لا منقولة عن غيره، فلو نقل لنا الذهبي عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس، أو نقل لنا عن ابن أبي حاتم أنه قال: صدوق أو غيرهما من الأئمة.
فهذه الأحكام المذكورة لا تأتي هنا، وكذلك الحافظ ابن حجر، وإنما يعني: به من تلخص من حاله للحافظ ابن حجر بأنه صدوق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس، أو تلخص من حال الرجل للحافظ الذهبي بأنه صدوق، أو صالح الحديث، وليس منقولا عن غيرهما من الأئمة الحفاظ ،فمن وصفه الحافظ الذهبي بأنه صدوق أو صالح الحديث فالتطبيق العملي في كتب الذهبي ظاهر جدا.
فمثلا: يونس بن بكير حكم عليه في موضع أنه صدوق، ثم جاء في الكتاب الآخر وقال: حسن الحديث، فإذا ربطت بين هذه وهذه، تبين لك صدوق أنها بمعنى حسن الحديث، وإذا قال الذهبي حسن الحديث، فإننا نصرفه على ما قرره من خفة ضبط راوي الحسن وتقاعده عن رتبة راوي الصحيح، مع ارتفاعه عن رتبه راوي الحديث الضعيف.
وكذلك في ترجمة الهوزني المتقدمة، ذكر الحافظ الذهبي -رحمه الله- أنه صدوق، ثم جاء في كتاب آخر وقال: إنه حسن الحديث، وفي ترجمة يحيى بن يمان العجلي ذكر في موضع: إنه صالح الحديث، ثم قال في موضع آخر: وحديثه من قبيل الحسن، فهذه التطبيقات العملية وهي كثيرة جدا من الحافظ الذهبي- رحمه الله-، تعطي أن هاتين اللفظين أي رجل يصفه الحافظ الذهبي بأحدهم، أو بهما فإن حديثه يكون حسنا، وهذه كما تقدم يستعان بها عند عدم القدرة على الترجيح بين كلام الأئمة.
والأمر الرابع: وهو قاعدة ذكرها التهانوي في "علوم الحديث" وعليها تطبيقات لأهل العلم، وهي أن الرجل المختلف فيه، أو الراوي المختلف فيه بين التوثق والتضعيف يحسَّن حديثه، إذا اختلف في الراوي بين التضعيف والتوثيق، فإنه يحسن حديثه، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، لكن ينبغي تقييده بشرطين.
الشرط الأول: أن يكون كل من الجارح والمعدل ممن له اعتبار في هذا الشأن، فإذا قابل قول أبي زرعة يضعف رجلا، وأحمد يوثق رجلا، مثل هذا يحسن حديثه، لكن إذا كان المجرِّح أو الموثق ليس له اعتبار عند الشأن وخالف الأئمة، فإن قوله يعتبر شاذا، ولا التفات إليه، كما لو وثق الأزدي رجلا قد ضعفه الأئمة، فلا التفات إلى توثيقه، أو ضعَّف رجلا وثقه الأئمة، كذلك فلا التفات إلى تضعيفه.
لو ضعفه يوسف بن عبد الرحمن بن خراش، فإنه لا يلتفت إليه، وكذلك ما يصنعه ابن حزم أحيانا، من أنه يخالف الأئمة فيضعف رجلا اتفقوا على توثيقه، أو العكس فهاهنا لا التفات؛ لأنه لا اعتبار لهذه الأقوال أو لأقوال هؤلاء، أو من كان مثلهم مع كلام الأئمة، وإنما المعتبر في هذا الباب كلام الأئمة، فهذا الشرط الأول: أن يكون الجارح والمعدل ممن لهم اعتبار في هذا الباب، ومن أئمة الشأن.
والأمر الثاني: ألا يكون هناك مرجحٌّ ظاهر قويٌّ لأحد الجانبين، إما جانب التضعيف أو جانب التوثيق، بل يكون الأمر مترددا ولا مرجح.
أما إذا وجد مرجح لأحد الجانبين، فإنه يحكم للجانب المرجح، أو الجانب الذي جاء له ما يرجحه مجيئا ظاهرا، فمثلا أحمد بن صالح هذا وثقه جمهور العلماء وضعفه النسائي- رحمه الله-، وإذا اطلعت على كلام أهل العلم، وجدت أن كلام الحافظ النسائي فيه تحامل وتعنت على أحمد بن صالح؛ لكونه أبعده من مجلسه، فهنا المرجح الظاهر لكلام الجمهور.
أولاًً: لأن هذا الرجل واسع الرواية جدا، وبعد سبر مروياته من قبل الأئمة، تبين أنه ليس له مناكير تذكر، مع سعة روايته.
والثانية: أن الإمام البخاري اعتمده في الصحيح وخرَّج عنه كثيرا في الاحتجاج.
والثالث: أن كلام النسائي في هذا الرجل من باب التعنت والتحامل، ولا وجه له، وحينئذ في مثل هذه الحالة ها هنا يردُّه كلام أهل العلم بمطالبتهم بتفسير الجرح، والحافظ النسائي ليس عنده جرح مفسر ظاهر، ينزل به هذه الرجل عن هذه المرتبة، بل إن العلماء وصفوا هذا الرجل بأنه ثقة حافظ، وهذه من أعلى مراتب التوثيق.
وكذلك مثلا الوليد بن شجاع اختلف الأئمة فيه، ولكن هناك مرجح ظاهر لتوثيقه، وهو أن الحافظ أو الإمام ابن معين- رحمه الله- ذكر: أنه يروي عن شيوخ ثقات مائة ألف حديث، فإذا قرنت هذا، مع قول الذهبي، وقلَّ أن يوجد له حديث منكر مع سعة روايته، دلَّ كذلك على أن كلام من تكلم فيه، فيه تشدد وغلظة، لا يصلح مع هذا الكلام، وهو كلام الحافظ الذهبي، وتقريره بأنه قلَّ أن يوجد له حديث منكر.
وليس من شرط الثقة ألا يخطئ، بل الثقة يقع منه الخطأ، لكن يكون هذا الخطأ على وجه القلة والندرة، في المقابل إذا وجدنا في الرجل ما يرجح أنه ضعيف، وكان هذا الترجيح ظاهرا، حكمنا عليه بأنه ضعيف، مثل المؤمل بن إسماعيل هذا اختلف فيه أهل العلم منهم من يوثقه، ومنهم من يضعفه.
لكن إذا نظرنا إلى المرجح الظاهر في تضعيفه لوجدنا أنه مرجحٌ قويٌّ، هذا المرجح ما هو؟ المرجح هو: أن سليمان بن حرب، وهو مشارك له في الطبقة وفي الأخذ عن الشيوخ، ذكر: إن مؤمل بن إسماعيل يروي عن شيوخهم الثقات المناكير، وهذا يدلُّ على أن ضبط المؤمل بن إسماعيل هو الذي حصل فيه أن هذا الخطأ.
وهذه المناكير إنما هي من قبل ضبط المؤمل بن إسماعيل، فكان هذا قولاً فصلا في حال المؤمل بن إسماعيل ممن عرفه وعرف شيوخه؛ لأن سليمان بن حرب وهو ثقة حافظ يعرف ما يرويه شيوخه، وهؤلاء الشيوخ شيوخ المؤمل بن إسماعيل، فكون المؤمل بن إسماعيل يروي أحاديث مناكير عن هؤلاء الشيوخ لا يرويها إلا هو، يدلُّ على أن ضبطه فيه أو حفظه فيه شيء، وأن رواية هذه المناكير جاءت من قبل سوء حفظه، فترجَّح فيه جانب الضعف، فهذا لا يحكم لحديثه بأنه حسنإذا خالف الثقات،وإنما يحكم له بأنه ضعيف، كما في حديث وضع اليدين في الصلاة على صدره ، فهي ضعيفة من أوهامه ، بخلاف المثالين السابقين، يحكم لحديثهما بأنه صحيح، ولا يقال بأنه حديث حسن، وهذا طبعا الكلام كله باعتبار الناظر في أحوال الرجلين، وليس على سبيل العموم؛ لأنه قد يظهر لأحد الأشخاص أن- مثلا- حديث المؤمل حسن، أو أن حديث الوليد بن شجاع حسن أو غير ذلك، فالشاهد أن هذا الكلام إنما هو باعتبار الناظر في أقوال المجرحين والمعدلين.
فهذه بعض الضوابط التي قد يستعان بها على فهم أو معرفة من خفَّ ضبطه، وهذه القاعدة الرابعة بالذات لها تطبيق عملي كثير عند الذهبي وعند الحافظ ابن حجر، وعند ابن القطان الفاسي وعند الحافظ المنذري وعند البوصيري في" مصباح الزجاجة" وقد أكثر من ذلك وعلل كثيرا بالاختلاف، علل تحسين الراوي بكونه مختلفا فيه، ومن أراد أن يطالع" مصباح الزجاجة" يجد ذلك ظاهرا جليا، والله تعالى أعلم.(4)
قلت : الصواب من القول أن حديث المختلف فيه حسن إذا لم يكن أنكر عليه هذا الحديث بعينه ، وسيمر زيادة تفصيل لهذا(5)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مسند أحمد(23665) ومسند الطيالسي(847) والسنن الكبرى للبيهقي (ج 3 / ص 18) (4930) وفتح الباري لابن حجر - (ج 1 / ص 94) وهو حديث صحيح لغيره
(2) - المستدرك للحاكم(443) وهو صحيح لغيره
(3) - مسند أحمد (18557) وصححه الشيخ شعيب والسنن الكبرى للبيهقي(ج 2 / ص 166) (3039) وقال : هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. و التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير - (ج 1 / ص 566) وقال : إسْنَادُهُ حَسَنٌ ، وهو صحيح لغيره
(4) - انظر مذكرة الجرح والتعديل أستاذ المقرر:د. عبد المحسن بن عبد الله التخيفي
(5) - هذا وقد فصلت القول في الرواة المختلف فيهم ، في مبحث الجرح والتعديل ، وفي كتابي ((الخلاصة في علم الجرح والتعديل ))، وفي كتابي (( الحافظ ابن حجر ومنهجه في تقريب التهذيب)) أثناء الكلام على أصحاب المرتبة الخامسة ، وكلاهما في مكتبة صيد الفوائد ، ومشكاة(1/52)
6- مرتبة قولهم: " حديث صحيح الإسناد " أو " حسن الإسناد "
أ) قول المحدثين : " هذا حديث صحيح الإسناد " دون قولهم : " هذا حديث صحيح"
مثال الأول كما في المستدرك للحاكم (241) حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ هَانِئٍ ، حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبِيِّينَ وَخَطِيبَهُمْ وَصَاحِبَ شَفَاعَتِهِمْ غَيْرُ فَخْرٍ "
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ لِتَفَرُّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَلِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ سُوءِ الْحِفْظِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتِنَا ثِقَةٌ مَأْمُونٌ
ومثال الثاني كما في سنن الترمذى برقم (156 ) حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحُلْوَانِىُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِى هَذَا الْبَابِ. وَفِى الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ.
ب) وكذلك قولهم: " هذا حديث حسن الإسناد" دون قولهم: " هذا حديث حسن "
مثال الأول كما في المستدرك للحاكم برقم (1987) حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ الْفَقِيهُ ، إِمْلاءً بِبُخَارَى ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مَيْمُونٍ مَوْلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو : اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِطَاعِ عُمْرِي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ الإِسْنَادِ ، وَالْمَتْنِ غَرِيبٌ فِي الدُّعَاءِ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَشَايِخِ إِلاَّ أَنَّ عِيسَى بْنَ مَيْمُونٍ لَمْ يَحْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ
ومثال الثاني كما في سنن أبى داود برقم (2720 ) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ - يَعْنِى يَوْمَ حُنَيْنٍ - « مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ». فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلاَبَهُمْ وَلَقِىَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا مَعَكِ قَالَتْ أَرَدْتُ وَاللَّهِ إِنْ دَنَا مِنِّى بَعْضُهُمْ أَبْعَجُ بِهِ بَطْنَهُ. فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَرَدْنَا بِهَذَا الْخِنْجَرَ وَكَانَ سِلاَحَ الْعَجَمِ يَوْمَئِذٍ الْخِنْجَرُ. أبعج : أشق
لأنه قد يصحُّ أو يحسنُ الإسنادُ .دون المتن لشذوذٍ أو علةٍ . فكأن المحدِّث إذا قال : " هذا حديث صحيح " قد تكفَّل لنا بتوفر شروط الصحة الخمسة في هذا الحديث أما إذا قال : " هذا حديث صحيح الإسناد " فقد تكفل لنا بتوفر شروط ثلاثة من شروط الصحة وهي : اتصال الإسناد ، وعدالة الرواة وضبطهم ، أما نفي الشذوذ ونفى العلة عنه فلم يتكفل بهما لأنه لم يتثبت منهما.
لكن لو اقتصر حافظ مُعْتَمَد على قوله: " هذا حديث صحيح الإسناد " ولم يُذْكَرْ له علة، فالظاهر صحة المتن، لأن الأصل عدم العلة وعدم الشذوذ.
كما فعل كثير من المتأخرين لتحرُّجهم من التصحيح المطلق ، كالهيثمي في مجمع الزوائد والمنذري في الترغيب والحافظ العراقي ونحوهم ، فيحمل قولهم (صحيح الإسناد أو حسن الإسناد ) على الصحة العامة والحسن العام ، الذي استوفى الشروط الخمسة المشار إليها أعلاه
ـــــــــــــــ(1/53)
7- معنى قول الترمذي وغيره " حديث حسن صحيح "
قال السيوطي(1):
"وأمَّا قولُ التِّرمذي وغيره، كعليِّ بن المَدِيني(2)ويعقُوب بن شَيْبة(3): هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وهو مِمَّا استشكل, لأنَّ الحسنَ قاصرٌ عن الصَّحيح, فكيف يجتمع إثبات القُصُور ونفيه في حديث واحد ،فمعناه أنَّه رُوي بإسْنَادين أحدهما يقتضي الصحَّة والآخر يَقْتضي الحسن ، فصحَّ أن يُقَال فيه ذلك, أي حسن باعتبار إسناد, صحيح باعتبار آخر.
قال ابن دقيق العيد: يَرُد على ذلك الأحاديث الَّتي قيل فيها ذلكَ, مع أنَّه ليس لها إلاَّ مخرج واحد, كحديث خرَّجه التِّرمذي من طريق الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا بَقِىَ نِصْفٌ مِنْ شَعْبَانَ فَلاَ تَصُومُوا ». قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ.(4)
وأجاب بعض المتأخِّرين: بأنَّ التِّرمذي, إنَّما يَقُول ذلك مُريدًا تفرُّدُ أحدِ الرُّواة عن الآخر, لا الفرد المُطْلق.
قال: ويُوضح ذلكَ ما ذكرهُ في الفتن من خَالِدِ الْحَذَّاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ لَعَنَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ أَبِى بَكْرَةَ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُسْتَغْرَبُ مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ..(5)
فاسْتغربهُ من حديث خالد, لا مُطْلقًا.
قال العِرَاقي: وهذا الجَوَاب لا يَمْشِي في المَوَاضع الَّتي يقول فيها: لا نعرفهُ إلاَّ من هذا الوجه, كالحديث السَّابق.
وقد أجابَ ابن الصَّلاح بِجَوابٍ ثانٍ هو: أنَّ المُراد بالحَسَن اللُّغوي دُون الاصْطلاحي, كمَا وقع لابن عبد البرِّ, حيثُ روى في كتاب «العِلْم» حديث مُعاذ بن جبل مَرْفُوعًا: « تعلموا العلم ؛ فإن تعليمه لله خشية وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ؛ لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة ، والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاء ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة يقتص آثارهم ، ويقتدى بأفعالهم وينتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه ؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة ، والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء » وقال: هذا حديث حسنٌ جدًّا, ولكن ليس له إسْنَاد قوِّي.(6)
فأراد بالحَسَن حُسن اللَّفظ, لأنَّه من رِوَاية مُوسى البَلْقاوي, وهو كذَّاب نُسِبَ إلى الوَضْع, عن عبد الرَّحيم العَمِّي, وهو مَتْروك.
وروينَا عن أُمَية بن خَالد قال: قلتُ لِشُعبة تُحدِّث عن محمَّد بن عُبيد الله العَرْزمي, وتدع عبد الملك بن أبي سُليمان(7), وقد كان حسن الحديث؟ فقال: من حُسْنها فررتُ. يعني أنَّها مُنْكرة.
" قلت : هذه هي القصة فعن أمية بن خالد قال قلت أو قيل لشعبة لم تركت الرواية عن عبد الملك بن أبى سليمان وهو حسن الحديث قال من حسن حديثه أفر روى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا ».
نا عبد الرحمن حدثني أبى نا أبو بكر بن أبى عتاب الاعين قال سمعت نعيم بن حماد قال سمعت وكيعا يقول سمعت شعبة يقول لو روى عبد الملك بن أبى سليمان حديثا آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه " الجرح والتعديل[ ج 5 - ص 367 ]
قلت : والحديث أخرجه سنن الترمذى (1423 ) من طريقه وقال عقبه : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ،وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِى سُلَيْمَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ. وَقَدْ تَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِى سُلَيْمَانَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرَ شُعْبَةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِى سُلَيْمَانَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَرُوِىَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِى سُلَيْمَانَ مِيزَانٌ. يَعْنِى فِى الْعِلْمِ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الرَّجُلَ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَإِذَا قَدِمَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ."
وقال النَّخعي: كانُوا يكرهون إذا اجتمعُوا أن يُخرج الرَّجل أحسن ما عندهُ.
قال السَّمعاني: عَنَى بالأحسن الغريب.
قال ابن دقيق العيد: ويلزم على هذا الجَوَاب أن يُطلق على الحديث المَوْضُوع إذا كان حسَنَ اللفظ أنَّه حسنٌ, وذلكَ لا يَقُوله أحد من المُحدِّثين, إذا جَرُوا على اصْطلاحهم.
قال شيخ الإسْلام: ويلزم عليه أيضًا أنَّ كل حديث يُوصف بصفةٍ, فالحسن تابعه, فإنَّ كل الأحاديث حَسَنةُ الألفاظ بليغةُ المَعَاني, ولمَّا رأينا الَّذي وقعَ له هذا كثير الفَرْق, فتارة يقول: حسن فقط, كما في سنن الترمذى (33 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ بَدَأَ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ وَبِأُذُنَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا ». قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَصَحُّ مِنْ هَذَا وَأَجْوَدُ إِسْنَادًا. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْهُمْ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ.
وتارة صحيحٌ فقط, كما في سنن الترمذى(156 ) حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحُلْوَانِىُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَهُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِى هَذَا الْبَابِ. وَفِى الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ.
وتارة حسنٌ صحيحٌ, كما في س سنن الترمذى (31 ) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَامِرِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أَبِى وَائِلٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وتارة صحيحٌ غريبٌ، كما في سنن الترمذى (2000 ) حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ الْكُوفِىُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ نَمْشِى وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُدَيْرٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِى الْبَزَرِىِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَبُو الْبُزَرِىُّ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عُطَارِدٍ.
قلت : وكذلك قوله حسن صحيح غريب كما في سنن الترمذى(210 ) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ الْحُكَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ ». قَالَ أَبُو عِيسَى وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ حُكَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ.
وتارة حسنٌ غريبٌ, كما في سنن الترمذى (28 ) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِىُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثًا. قَالَ أَبُو عِيسَى وَفِى الْبَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
فعرفنا أنَّه لا مَحَالة جارٍ مع الاصْطلاح, مع أنَّه قال في آخر «الجامع» وما قُلنا في كتابنا: حديث حسن, فإنَّما أردنا به حُسن إسْنَاده عندنَا, فقد صرَّح بأنَّه أرادَ حُسْن الإسناد, فانتفى أن يُريد حُسْن اللَّفظ.
وأجاب ابن دقيق العيد بِجَوابٍ ثالثٍ, وهو: أنَّ الحسَنَ لا يُشْترط فيه القُصُور عن الصحَّة, إلاَّ حيثُ انفردَ الحَسَن, أمَّا إذا ارتفعَ إلى درجة الصِّحة, فالحَسَن حاصلٌ لا مَحَالة تبعًا للصحَّة, لأنَّ وجُود الدَّرجة العُليا, وهي الحفظ والإتْقان, لا يُنَافي وجُود الدُّنيا كالصِّدق, فيصح أن يُقَال: حسنٌ, باعتبار الصِّفة الدُّنيا, صحيحٌ باعتبار العُليا, ويلزم على هذا أنَّ كل صحيح حسن, وقد سبقهُ إلى نحو ذلك ابن المَوَاق.
قال شيخُ الإسْلام: وشبهُ ذلك قولهم في الرَّاوي: صدوق فقط, وصدوق ضابط, فإنَّ الأوَّل قاصرٌ عن درجة رِجَال الصَّحيح, والثَّاني منهم, فكمَا أنَّ الجمع بينهما لا يَضُر ولا يُشْكل, فكذلك الجمعُ بين الصِّحة والحسن.
ولابن كثيرٍ جوابٌ رابعٌ هو: أنَّ الجمع بين الصحَّة والحُسْن درجة متوسطة بين الصَّحيح والحَسَن. قال: فما يقول فيه: حسنٌ صحيحٌ, أعلى رُتبة من الحَسَنِ ودون الصَّحيح.
قال العِرَاقي : وهذا تحكُّمٌ لا دليلَ عليه, وهو بعيد.
ولشيخ الإسْلام جوابٌ خامسٌ, وهو التوسط بين كلام ابن الصَّلاح وابن دقيق العيد, فيخص جواب ابن الصَّلاح بما له إسنادان فصاعدًا, وجواب ابن دقيق العيد بالفرد.
قال: وجَوَابٌ سادس وهو الَّذي أرتضيه, ولا غُبَار عليه, وهو الَّذي مشى عليه في النُّخبة وشرحها: أنَّ الحديثَ إن تعدَّد إسْنَادُه, فالوصفُ راجعٌ إليه باعتبار الإسْنَادين, أو الأسانيد.
قال: وعلى هذا, فمَا قيل فيه ذلك, فوق ما قيل فيه: صحيح فقط, إذا كان فَرْدًا, لأنَّ كَثْرة الطُّرق تُقَوِّي, وإلاَّ فبحسب اختلاف النقاد في راويه, فيرى المُجتهد منهم بعضهم يَقُول فيه: صَدُوق, وبعضهم يقول: ثقة, ولا يترجَّح عندهُ قول واحد منهمَا, أو يترجَّح, ولكنَّه يُريد أن يُشَير إلى كلام النَّاس فيه فيقول ذلك, وكأنَّه قال: حسنٌ عندَ قومٌ, صحيحٌ عند قَوْم.
قال: وغاية ما فيه أنَّه حذف منه حرف التردد, لأنَّ حقَّه أن يقول: حسن, أو حسنٌ صحيح, قال: وعلى هذا ما قيل فيه ذلك, دُون ما قيل فيه: صحيح, لأنَّ الجَزْم أقوى من التردد. انتهى.(8)
وهذا الجواب مُركَّب من جواب ابن الصَّلاح وابن كثير.".
قلتُ :
يتحصل من كلامهم أن الإمام الترمذي رحمه الله له اصطلاحات خاصة في كتابه اجتهد العلماء في فهمها ، وخلاصتها :
أنه إذا قال هذا حديث حسن ، فهو يعني به الحسن لغيره
وإذا قال : هذا حديث حسن غريب ، فهو يعني به الحسن لذاته
وإذا قال : هذا حديث حسن صحيح ، فله أكثر من معنى :
منها أنه يعني حسن عند قوم صحيح عند آخرين
أوحسن السند صحيح المتن ، وهو الصحيح لغيره
أوأن هناك راويا اختلفوا في الحكم عليه ما بين صدوق إلى ثقة
أو أنه ذكرها لزيادة القوة ، أي حسن بل صحيح ، ونحو ذلك . والله أعلم
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر : مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 5و6) والباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 5) والتقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 2) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 86) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 106و107)
(2) - علي بن عبد الله بن جعفر بن المديني الحافظ أبو الحسن عن أبيه وحماد بن زيد وجعفر بن سليمان والطبقة وعنه البخاري وأبو داود والبغوي وأبو يعلى ،قال شيخه ابن مهدي :علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاصة بحديث ابن عيينة وقال ابن عيينة :يلومونني على حبِّ ابن المديني والله لأ تعلم منه أكثر مما تعلم مني وكذا قال يحيى القطان فيه ،وقال البخاري :ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي ،قال النسائي: كأن الله خلقه لهذا الشأن مات بسامراء في ذي القعدة سنة 234 وله ثلاث وسبعون سنة .خ د ت س "الكاشف[ ج 2 - ص 42 ] (3937 )
(3) - يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ بنِ الصَّلْتِ بنِ عُصْفُورٍ البَصْرِيُّ الحَافِظُ، الكَبِيْرُ، العَلاَّمَةُ، الثِّقَةُ، أَبُو يُوْسُفَ، السَّدُوْسِيُّ، البَصْرِيُّ، ثُمَّ البَغْدَادِيُّ، صَاحِبُ (المُسْنَدِ الكَبِيْرِ)، العديمُ النَّظيرِ المعلّل، الَّذِي تمَّ مِنْ مسَانيدِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِيْنَ مجلَّداً، وَلَوْ كَمُلَ لَجَاءَ فِي مائَةِ مُجَلَّدٍ.مَوْلِدُهُ: فِي حُدُوْدِ الثَّمَانِيْنَ وَمائَةٍ، وَسَمَاعَاتُهُ عَلَى رَأْسِ المائَتَيْنِ.
وَيُخَرِّجُ العَالِي وَالنَّازلَ، وَيذكرُ أَوَّلاً سِيْرَةَ الصَّحَابِيِّ مُستوَفَاةً، ثُمَّ يَذْكُرُ مَا رَوَاهُ، وَيوضِّحُ عِلَلَ الأَحَادِيْثِ، وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الرِّجَالِ، وَيُجَرِّحُ وَيعدِّلُ بكَلاَمٍ مُفِيْدٍ عَذْبٍ شَافٍ، بِحَيْثُ إِنَّ النَّاظرَ فِي (مُسْنَدِهِ) لاَ يَمَلُّ مِنْهُ، وَلَكِنْ قَلَّ مَنْ رَوَى وَثَّقَهُ: أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ، وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَوْ كَانَ كِتَابُ يَعْقُوْبَ بنِ شَيْبَةَ مَسطوراً عَلَى حَمَّامٍ لَوَجَبَ أَنْ يُكْتَبَ، يَعْنِي: لاَ يفتقرُ الشَّخْصُ فِيْهِ إِلَى سَمَاعٍ.قَالَ أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ القَاضِي: كَانَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بنِ المُعَدَّلِ، وَالحَارِثِ بنِ مِسْكِيْنَ، فَقِيْهاً، سَرِيّاً، وَكَانَ يَقِفُ فِي القُرْآنِ.
قُلْتُ: أَخذَ الوَقْفَ عَنْ شَيْخِهِ أَحْمَدَ المَذْكُوْرِ، وَقَدْ وَقَفَ عَلِيُّ بنُ الجَعْدِ، وَمُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ بنُ أَبِي إِسْرَائِيْلَ، وَجَمَاعَةٌ.وخَالفَهُم نَحْوٌ مِنْ أَلفِ إِمَامٍ، بَلْ سَائِرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالخَلَفِ عَلَى نَفْي الخليقَةِ عَنِ القُرْآنِ، وَتَكْفِيْرِ الجَهْمِيَّةِ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلاَمَةَ فِي الدِّيْنِ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرُّوْذِيُّ: أَظهرَ يَعْقُوْبُ بنُ شَيْبَةَ الوَقْفَ فِي ذَلِكَ الجَانبِ مِنْ بَغْدَادَ، فحذَّرَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ المُتَوَكِّلُ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ يَحْيَى بنِ خَاقَانَ أَنْ يَسْأَلَ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ عَمَّنْ يُقَلِّدُ القَضَاءَ ،قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ يَعْقُوْبَ بنِ شَيْبَةَ،فَقَالَ: مُتَبَدِّعٌ، صَاحِبُ هوَى،قَالَ الخَطِيْبُ: وَصفَهُ أَحْمَدُ بِذَلِكَ لأَجلِ الوَقْفِ.
قُلْتُ: قَدْ كَانَ يَعْقُوْبُ صَاحِبُ أَمْوَالٍ عَظِيْمَةٍ، وَحِشْمَةٍ، وَحُرْمَةٍ وَافرَةٍ، بِحَيْثُ إِنَّ حَفِيْدَهُ حَكَى، قَالَ: لَمَّا وُلِدْتُ عَمدَ أَبواي فَمَلآ لِي ثَلاَثَةَ خوَابِي ذَهباً، وَخبَّآهَا لِي، فذكَرَ أَنَّهُ طَالَ عُمُرُهُ، وَأَنفقهَا، وَفَنِيَتْ، وَاحْتَاجَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ قَبْلَ مَوْتِ جدِّهِ بنيِّف عَشْرَةَ سَنَةً. مَاتَ يَعْقُوْبُ الحَافِظُ: فِي شَهْرِ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّيْنَ وَمائَتَيْنِ... سير أعلام النبلاء (12/478-480)(174 )
(4) - سنن الترمذى(743 ) وسنن أبى داود(2339 ) وهو حديث حسن
وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُفْطِرًا فَإِذَا بَقِىَ مِنْ شَعْبَانَ شَىْءٌ أَخَذَ فِى الصَّوْمِ لِحَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
(5) - صحيح مسلم (6832 ) وسنن الترمذى (2314 )
(6) - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (219 ) وقال : وهو حديث حسن جدا ولكن ليس له إسناد قوي
والترغيب والترهيب للمنري (107) وقال عقبه :رواه ابن عبد البر النمري في كتاب العلم من رواية موسى بن محمد بن عطاء القرشي حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن الحسن عنه وقال هو حديث حسن ولكن ليس له إسناد قوي وقد رويناه من طرق شتى موقوفا كذا قال رحمه الله ورفعه غريب جدا والله أعلم
وانظر : فتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 86) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 125) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 56) ونظرات جديدة في علوم الحديث للمليباري - (ج 1 / ص 29) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 5)
(7) - قلت : بل هو ثقة أخطأ في بعض الأحاديث ولا سيما عن عطاء ، ففي تقريب التهذيب (4184 ) عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العرزمي بفتح المهملة وسكون الراء وبالزاي المفتوحة صدوق له أوهام من الخامسة مات سنة خمس وأربعين خت م 4
وفي الكاشف (3455 ) عبد الملك بن أبي سليمان الكوفي الحافظ عن أنس وسعيد بن جبير وعطاء وعنه القطان ويعلى بن عبيد قال أحمد ثقة يخطىء من أحفظ أهل الكوفة رفع أحاديث عن عطاء توفي 145 م 4
(8) - نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 79) والتعليقات البازية على نزهة النظر شرح نخبة الفكر - (ج 1 / ص 10) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 80) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 109) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 24) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 302) ومعجم المصطلحات الحديثية - (ج 1 / ص 20)(1/54)
8- تقسيم البَغَويُّ أحاديثَ مصابيح السنة(1):
البَغَوِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الحُسَيْن بن مَسْعُوْدِ بنِ مُحَمَّدٍ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، القُدْوَةُ، الحَافِظُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، مُحْيِي السُّنَّة، أَبُو مُحَمَّدٍ الحُسَيْن بن مَسْعُوْدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الفَرَّاء البَغَوِيّ، الشَّافِعِيّ، المُفَسِّرُ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، كَـ(شرح السُّنَّةِ) وَ(مَعَالِم التَّنْزِيل) وَ(المصَابيح)، وَكِتَاب(التَّهْذِيب) فِي المَذْهَب، وَ(الجمع بَيْنَ الصَّحِيْحَيْنِ)، وَ(الأَرْبَعِيْنَ حَدِيْثاً)، وَأَشيَاء.
تَفقَّه عَلَى شَيْخِ الشَّافعيَة القَاضِي حُسَيْن بن مُحَمَّدٍ المَرْوَرُّوْذِيّ صَاحِب(التَّعليقَةِ) قَبْل السِّتِّيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
وَكَانَ البَغَوِيُّ يُلَقَّبُ بِمُحْيِي السُّنَّةِ وَبِرُكْنِ الدِّين، وَكَانَ سَيِّداً إِمَاماً، عَالِماً علاَّمَة، زَاهِداً قَانِعاً بِاليَسِيْرِ، كَانَ يَأْكُلُ الخبز وَحْدَه، فَعُذِلَ فِي ذَلِكَ، فَصَارَ يَأْتَدِمُ بزَيْت، وَكَانَ أَبُوْهُ يَعمل الفِرَاء وَيبيعُهَا، بُورِكَ لَهُ فِي تَصَانِيْفه، وَرُزِقَ فِيْهَا القبولَ التَّام، لِحُسن قصده، وَصِدق نِيَّتِه، وَتنَافس العُلَمَاءُ فِي تَحصيلهَا، وَكَانَ لاَ يُلقِي الدّرسَ إِلاَّ عَلَى طهَارَةٍ، وَكَانَ مقتصداً فِي لباسه، لَهُ ثَوْب خَام، وَعِمَامَةٌ صغِيرَة عَلَى مِنْهَاج السَّلَف حَالاً وَعقداً، وَلَهُ القدمُ الرَّاسخ فِي التَّفْسِيْر، وَالبَاعُ المديد فِي الفِقْه - رَحِمَهُ اللهُ - .تُوُفِّيَ:بِمَرْو الرُّوذ - مدينَةٍ مِنْ مَدَائِن خُرَاسَانَ - فِي شَوَّالٍ، سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِ مائَة، وَدُفِنَ بِجنب شَيْخه القَاضِي حُسَيْن، وَعَاشَ بِضْعاً وَسَبْعِيْنَ سَنَةً - رَحِمَهُ اللهُ -(2)
دَرَجَ الإمام البغوي في كتابه "المصابيح" على اصطلاح خاص له، وهو أنه يرمز إلى الأحاديث التي في الصحيحين أو أحدهما بقوله:" صحيح" وإلى الأحاديث التي في السنن الأربعة بقوله"حسن" وهو اصطلاح لا يستقيم مع الاصطلاح العام لدى المحدثين، لأن في السنن الأربعة الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، لذلك نبه ابن الصلاح والنووي على ذلك، فينبغي على القارئ في كتاب " المصابيح" أن يكون على علم من اصطلاح البغوي الخاص في هذا الكتاب عند قوله عن الأحاديث:"صحيح" أو "حسن".
قال السيوطي رحمه الله(3):
"وأما تقسيم البَغَوي أحاديث «المصابيح» إلى حِسَان وصحاح مُريدًا بالصحاح ما في «الصَّحيحين» وبالحِسَان ما في «السُّنن» فليسَ بصوابٍ, لأنَّ في «السنن» الصَّحيح والحسن, والضعيف والمُنكر ، كما سيأتي بيانه, ومن أطلق عليها الصحاح, كقول السَّلفي في الكتب الخمسة: اتفق على صحتها عُلماء المشرق والمغرب, وكإطلاق الحاكم على الترمذي: الجامع الصَّحيح, وإطلاق الخطيب عليه وعلى النَّسائي اسم الصحيح, فقد تساهل.
قال التاج التبريزي: ولا أزال أتعجَّب من الشَّيخين - يعني ابن الصَّلاح والنووي - في اعتراضهما على البَغَوي, مع أنَّ المُقرَّر أنَّه لا مشاحة في الاصْطلاح, وكذا مشى عليه عُلماء العجم, آخرهم شيخنا العَلاَّمة الكافيجي في «مختصره».
قال العِرَاقي: وأُجيب عن البَغَوي بأنَّه يُبيِّن عقب كل حديث الصَّحيح والحسن والغريب.
قال: وليسَ كذلك, فإنَّه لا يُبين الصَّحيح من الحَسَن فيما أوردهُ من السُّنن, بل يسكت ويُبيِّن الغريب والضعيف غالبًا, فالإيراد باق في مَزْجهُ صحيح ما في السَّنن بما فيها من الحسن.
وقال شيخ الإسْلام : أراد ابن الصَّلاح أن يعرف أنَّ البغوي اصْطَلح لنفسه أن يُسمِّي «السنن» الأربعة: الحسان, ليستغني بذلكَ عن أن يقول عقب كل حديث أخرجه أصحاب «السنن» فإنَّ هذا اصطلاح حادثٌ ليس جاريًا على المُصطلح العُرْفي."(4)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - وهو كتاب جمع فيه مؤلفه أحاديث منتقاة من الصحيحين والسنن الأربعة وسنن الدارمي ، وهو الذي زاد عليه وهذبه الخطيب التبريزي وسماه " مشكاة المصابيح " انظر تيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 9) وندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 11 / ص 6) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 99)
(2) -.سير أعلام النبلاء (19/440-443)(258 )
(3) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 110)
(4) - وانظر : توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار - دار الكتب العلمية - (ج 1 / ص 111)(1/55)
9- الكتبُ التي من مظانِّها الحسَنِ(1):
لم يفرد العلماء كتباً خاصة بالحديث الحسن المُجَرَّد كما أفردوا الصحيح المجرد في كتب مستقلة لكن هناك كتباً يكثر فيها وجود الحديث الحسن. فمن أشهر هذه الكتب :
جامع الترمذي : المشهور بـ " سنن الترمذي "
" كتاب أبي عيسى التِّرمذي أصلٌ في معرفة الحسن, وهو الَّذي شهره وأكثر من ذكره.
قال ابن الصَّلاح(2): ويُوجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطَّبقة التي قبله, كأحمد والبُخَاري وغيرهما.
قال الحافظُ العِرَاقي(3): وكذا مشايخ الطَّبقة الَّتي قبل ذلك كالشَّافعي, قال في اختلاف الحديث عند ذكر حديث ابن عُمر: لقد ارتقيتُ على ظهرِ بيت لنَا... الحديث. حديث ابن عُمر مسند حسن الإسناد.(4)
وقال فيه أيضًا: وسمعتُ من يروي بإسْنَاد حسن: أنَّ أبا بكرة ذكرَ للنبَّي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ركعَ دُونَ الصَّف... الحديث.(5)
وكذا يعقوب بن شَيْبة في «مسنده» وأبو علي الطُّوسي أكثرا من ذلك, إلاَّ أنَّهما ألَّفا بعد الترمذي.
وتختلفُ النُّسخ منهُ في قوله: حسنٌ, أو حسنٌ صحيحٌ, ونحوه, فيَنْبغي أن تعتني بِمُقابلة أصْلكَ بأصُول مُعتمدةٍ. وتَعتمد ما اتَّفقتْ عليه. "(6)
قلت : وجامع الترمذي ، قد رتبه على الأبواب الفقهية ، وعدد أحاديثه حوالي (3891)حسب برنامج حرف (دون العلل، فلم يرقموها)، وحسب طبعة المكنز وهي أشملها وأدقها (4415 ) مع العلل .
وقد جمع في كتابه بين طريقة الإمام البخاري وطريقة الإمام مسلم ، حيث يذكر الحديث في مكانه المناسب ثم يشير للأحاديث المشابهة له بذيله ، ويبين درجة الحديث من حيث الصحة والضعف ، وله مصطلحات خاصة به ، ثم يذكر من أخذ به من الصحابة والتابعين ، وفقهاء الأمصار، فغدا كتابه هذا من الكتب الهامة جدا في هذه الأمور ، وقد عرضه على الإمام البخاري والإمام مسلم وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي فقبلوه ، وهو إمام حجة في الجرح والتعديل ، وقد طعن بعض أهل العلم في بعض ما حسَّنه أو صححه ، ويجاب عن هذا إما باختلافِ النسخ ، فنسخةٌ يقول عن حديث حسن غريب ، وأخرى غريب ، أو أنه حسّن الحديث لشواهده ، أو كان له رأيٌ في راو مختلف فيه رجحت عنده عدالته ، كرأيه في دراج أبي السمح عن أبي الهيثم مثلاً فقد حسَّن أحاديثه كلها حسب رأي الإمام يحيى بن معين رحمه الله . وقد لقي كتابه القبول لدى عامة أهل العلم ، وقام بشرحه كثيرون كابن رجب الحنبلي ، والحافظ العراقي ، وابن العربي والمباركفوري وغيرهم ، وله طبعات متعددة أهمها التي قام بتحقيقها العلامة أحمد محمد شاكر ولكن المنية اخترمته قبل إكماله .. ، والطبعة التي حققها الأستاذ عزت عبيد دعاس . والطبعة التي حققها الدكتور عواد بشار معروف وهي أفضلها ، ولكنه نحى منحى المتشددين في الجرح والتعديل ، وكلُّ دور النشر تتبارى بطبعه لأهميته البالغة .
وقد قام الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بتحقيقه وفصل الأحاديث الصحيحة والحسنة في كتاب ، والأحاديث الضعيفة في كتاب آخر ،(( وإن كنا لا نقره على هذا التقسيم الذي لم يسبق إليه ))
فبلغ عدد الأحاديث التي صححها وحسنها أكثر من (3400) حديثا ، والأحاديث التي ضعفها عددها حوالي (553 ) وبعضها ضعفه الترمذي نفسه ، وبعضها ضعفه الشيخ ، وفي بعض ما ضعفه الشيخ ناصر نظر ، لأنه كان من المتشددين في الجرح والتعديل ، فلا بد من مقارنة كلامه بكلام غيره حتى نصل إلى حكم دقيق على الحديث .
وما يشاع بأن الإمام الترمذي رحمه الله كان من المتساهلين في الجرح والتعديل ، ففيه نظر ، بل من المعتدلين في الجرح والتعديل ، ولكن قد يحسِّن حديث راوٍ مختلف فيه فيخالفه غيره ، أو أن الحكم الوارد عن الترمذي رحمه الله مختلف حسب النسخ الخطية ، فتارة يرد في نسخة حسن غريب ، وفي أخرى غريب ، فالأولى تعديل والثانية جرح ، فيجب الانتباه لذلك أثناء نقل حكم الترمذي على حديث ، وعند اختلاف النسخ الخطية لا بد من النظر في سند الحديث وفق قواعد الجرح والتعديل التي سار عليها الأئمة المعتدلون في الجرح والتعديل ، ثم الحكم على الحديث بما يناسبه من صحةٍ وضعفٍ .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - المَظانُّ جمع مَظِنَّة بكسر الظاء وهي موضع الشيء ومَعْدِنه مَفْعِلَةٌ من الظن بمعنى العلم قال ابن الأَثير وكان القياس فتح الظاء وإِنما كسرت لأَجل الهاء المعنى طلبتها في المواضع التي يعلم فيها الحلال . لسان العرب - (ج 13 / ص 272) والنهاية في غريب الأثر - (ج 3 / ص 362)
(2) - مقدمة ابن الصلاح - (ج 1 / ص 5)
(3) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 116) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 11)
(4) - اختلاف الحديث(156 )
(5) - اختلاف الحديث(109)
(6) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 110) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 116) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 11)(1/56)
سننُ أبي داودَ:
أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بنُ الأَشْعَثِ بنِ شَدَّادِ (ت، س) وَابْنه ابْنِ عَمْرِو بنِ عَامِرٍ، كَذَا أَسْمَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ الهَاشِمِيُّ: سُلَيْمَانُ بنُ الأَشْعَثِ بنِ بِشْرِ بنِ شَدَّادٍ.وَقَالَ ابْنُ دَاسَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الآجُرِّيُّ: سُلَيْمَانُ بنُ الأَشْعَثِ بنِ إِسْحَاقَ بنِ بَشِيْرِ بنِ شَدَّادٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ فِي (تَارِيْخِهِ)، وَزَادَ: ابْنَ عَمْرِو بنِ عِمْرَانَ.
الإِمَامُ، شَيْخُ السُّنَّةِ، مُقَدَّمُ الحُفَّاظِ، أَبُو دَاوُدَ الأَزْدِيُّ، السِّجِسْتَانِيُّ، مُحَدِّثُ البَصْرَةِ.
وُلِدَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَمائَتَيْنِ، وَرَحَلَ، وَجَمَعَ، وَصَنَّفَ، وَبَرَعَ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَسَكَنَ البَصْرَةَ بَعْدَ هَلاَكِ الخَبِيْثِ طَاغِيَةِ الزِّنْجِ، فَنَشَرَ بِهَا العِلْمَ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى بَغْدَادَ.
قَالَ الخَطِيْبُ أَبُو بَكْرٍ: يُقَالُ: إِنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَهُ (السُّنَنَ) قَدِيْماً، وَعَرَضَهُ عَلَى أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، فَاسْتَجَادَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ دَاسَةَ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُوْلُ: كَتَبْتُ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَمْسَ مائَةَ أَلْفِ حَدِيْثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا ضَمَّنْتُهُ هَذَا الكِتَابَ -يَعْنِي: كِتَابَ (السُّنَنِ)- جمعتُ فِيْهِ أَرْبَعَةَ آلاَفِ حَدِيْثٍ وثمَانِي مائَةِ حَدِيْثٍ، ذَكَرْتُ الصَّحِيْحَ، وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَيَكْفِي الإِنسَانَ لِدِيْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَربعةُ أَحَادِيْثَ:
أَحَدُهَا: قَوْله - صلى الله عليه وسلم - : (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ).
وَالثَّانِي: (مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ).
وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: (لاَ يَكُوْنُ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً حَتَّى يَرْضَى لأَخِيْهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ).
وَالرَّابِع: (الحَلاَلُ بَيِّنٌ)... الحَدِيْثَ.
قَوْلُهُ: يَكْفِي الإِنْسَانَ لِدِيْنِهِ، ممنُوعٌ، بَلْ يَحْتَاجُ المُسْلِمُ إِلَى عَدَدٍ كَثِيْرٍ مِنَ السُّنَنِ الصَّحِيْحَةِ مَعَ القُرْآنِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَلاَّلُ: أَبُو دَاوُدَ الإِمَامُ المُقَدَّمُ فِي زَمَانِهِ، رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِتَخْرِيجِ العُلُوْمِ، وَبَصَرِهِ بِمَوَاضِعِهِ أَحَدٌ فِي زَمَانِهِ، رَجُلٌ وَرِعٌ مُقَدَّمٌ،
وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَاسِيْنَ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ أَحَدَ حُفَّاظِ الإِسْلاَمِ لِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِلْمِهِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ، فِي أَعْلَى دَرَجَةِ النُّسْكِ وَالعَفَافِ، وَالصَّلاَحِ وَالوَرَعِ، مِنْ فُرْسَانِ الحَدِيْثِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ، وَإِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ: لَمَّا صَنَّفَ أَبُو دَاوُدَ كِتَابَ (السُّنَنِ) أُلِيْنَ لأَبِي دَاوُدَ الحَدِيْثُ، كَمَا أُلِيْنَ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، الحَدِيْدُ.
الحَاكِمُ: سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ بنَ عَبْدِ اللهِ بنِ مُوْسَى، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ مَخْلَدٍ، يَقُوْلُ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَفِي بِمُذَاكرَةِ مائَة أَلْفِ حَدِيْثٍ، وَلَمَّا صَنَّفَ كِتَابَ (السُّنَنِ)، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، صَارَ كِتَابُهُ لأَصْحَابِ الحَدِيْثِ كَالمُصْحَفِ، يَتَّبِعُونَهُ وَلاَ يُخَالِفُوْنَهُ، وَأَقَرَّ لَهُ أَهْلُ زَمَانِهِ بِالحِفْظِ وَالتَّقَدُّم فِيْهِ.
وَقَالَ الحَافِظُ مُوْسَى بنُ هَارُوْنَ: خُلِقَ أَبُو دَاوُدَ فِي الدُّنْيَا لِلْحَدِيْثِ، وَفِي الآخِرَةِ لِلجَنَّة.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ بنُ حِبَّانَ: أَبُو دَاوُدَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا فِقْهاً وَعِلْماً وَحِفْظاً، وَنُسْكاً وَوَرَعاً وَإِتْقَاناً، جَمَعَ وَصَنَّفَ وَذَبَّ عَنِ السُّنَنِ.
قَالَ الحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَةَ: الَّذِيْنَ خَرَّجُوا وَمَيَّزُوا الثَّابِتَ مِنَ المَعْلُولِ، وَالخَطَأَ مِنَ الصَّوَابِ أَرْبَعَةٌ: البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، ثُمَّ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ: أَبُو دَاوُدَ إِمَامُ أَهْلِ الحَدِيْثِ فِي عَصْرِهِ بِلاَ مُدَافَعَةٍ،
قَالَ ابْنُ دَاسَةَ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ، يَقُوْلُ: ذَكَرْتُ فِي (السُّنَنِ) الصَّحِيْحَ وَمَا يُقَارِبَهُ، فَإِنْ كَانَ فِيْهِ وَهْنٌ شَدِيدٌ بَيَّنْتُهُ.
قُلْتُ: فَقَدْ وَفَّى -رَحِمَهُ اللهُ- بِذَلِكَ بِحَسَبِ اجتِهَادِهِ، وَبَيَّنَ مَا ضَعْفُهُ شَدِيْدٌ، وَوَهْنُهُ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، وَكَاسَرَ عَنْ مَا ضَعْفُهُ خَفِيْفٌ مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يَلْزَمُ مِنْ سُكُوْتِهِ - وَالحَالَةِ هَذِهِ - عَنِ الحَدِيْثِ أَنْ يَكُونَ حَسَناً عِنْدَهُ، وَلاَ سِيَمَا إِذَا حَكَمْنَا عَلَى حَدِّ الحَسَنِ بِاصطِلاَحِنَا المولَّد الحَادِث، الَّذِي هُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ يَعُودُ إِلَى قِسمٍ مِنْ أَقسَامِ الصَّحِيْحِ، الَّذِي يَجِبُ العَمَلُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُوْرِ العُلَمَاءِ، أَوِ الَّذِي يَرْغَبُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيُّ، وَيُمَشِّيَهُ مُسْلِمٌ، وَبَالعَكْسِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَدَانِي مَرَاتِبِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْ انْحَطَّ عَنْ ذَلِكَ لخَرَجَ عَنِ الاحْتِجَاجِ، وَلَبَقِيَ مُتَجَاذَباً بَيْنَ الضَّعْفِ وَالحَسَنِ، فَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ أَعْلَى مَا فِيْهِ مِنَ الثَّابِتِ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ، وَذَلِكَ نَحْو مِنْ شَطْرِ الكِتَابِ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحَدُ الشَّيْخَيْنِ، وَرَغِبَ عَنْهُ الآخَرُ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا رَغِبَا عَنْهُ، وَكَانَ إِسْنَادُهُ جَيِّداً، سَالِماً مِنْ عِلَةٍ وَشُذُوْذٍ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا كَانَ إِسْنَادُهُ صَالِحاً، وَقَبِلَهُ العُلَمَاءُ لِمَجِيْئِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ لَيِّنَيْن فَصَاعِداً، يَعْضُدُ كُلُّ إِسْنَادٍ مِنْهُمَا الآخَرُ، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا ضُعِّفَ إسنَادُهُ لِنَقْصِ حِفْظِ رَاوِيهِ، فَمِثْلُ هَذَا يُمَشِّيْهِ أَبُو دَاوُدَ، وَيَسْكُتُ عَنْهُ غَالِباً، ثُمَّ يَلِيْهِ مَا كَانَ بَيِّنَ الضَّعْفِ مِنْ جِهَةِ رَاوِيْهِ، فَهَذَا لاَ يَسْكُتُ عَنْهُ، بَلْ يُوْهِنُهُ غَالِباً، وَقَدْ يَسْكُتُ عَنْهُ بِحَسْبِ شُهْرَتِهِ وَنَكَارَتِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الحَافِظُ زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ: كِتَابُ اللهِ أَصْلُ الإِسْلاَمِ، وَكِتَابُ أَبِي دَاوُدَ عَهْدُ الإِسْلاَمِ.
قُلْتُ: كَانَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ إِمَامَتِهِ فِي الحَدِيْثِ وَفُنُوْنِهِ مِنْ كِبَارِ الفُقَهَاءِ، فَكِتَابُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ نُجَبَاءِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، لاَزَمَ مَجْلِسَهُ مُدَّةً، وَسَأَلَهُ عَنْ دِقَاقِ المَسَائِلِ فِي الفُرُوْعِ وَالأُصُوْلِ.
وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالتَّسْلِيمِ لَهَا، وَتَرْكِ الخَوْضِ فِي مَضَائِقِ الكَلاَمِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ: خَيْرُ الكَلاَمِ مَا دَخَلَ الأُذُنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
قَالَ الحَاكِمُ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ بنُ حِبَّانَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي دَاوُدَ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُوْلُ:أَدْرَكْتُ مِنْ أَهْلِ الحَدِيْثِ مَنْ أَدْرَكْتُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِم أَحْفَظُ لِلْحَدِيْثِ، وَلاَ أَكْثَرُ جَمْعاً لَهُ مِنِ ابْنِ مَعِيْنٍ، وَلاَ أَوْرَعُ وَلاَ أَعْرَفُ بِفِقْهِ الحَدِيْثِ مِنْ أَحْمَدَ، وَأَعْلَمُهُمُ بِعِلَلِهِ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ، وَرَأَيْتُ إِسْحَاقَ - عَلَى حِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ - يُقَدِّمُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الآجُرِّيُّ: تُوُفِّيَ أَبُو دَاوُدَ: فِي سَادِسِ عَشر شَوَّال، سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.....(1)
" وقد جَاء عنه أنَّه يذكر فيه الصَّحيح وما يُشبههُ ويُقَاربه, وما كان فيه وهن شديد بيَّنه, وما لم يذكر فيه شيئا فهو صالح قال وبعضها أصح من بعض.
فعَلَى هذا مَا وجدنا في كتابه مُطلقًا ، ولم يكن في أحد «الصَّحيحين» ولم يُصحِّحه غيره من المُعتمدين الَّذين يُميزون بين الصَّحيح والحسن ولا ضعفهُ, فهو حسنٌ عندَ أبي داود ، لأنَّ الصَّالح للاحْتجاج لا يَخْرج عنهما, ولا يَرْتقي إلى الصِّحة إلاَّ بنص, فالأحوط الاقتصار على الحسن, وأحوط منه التعبير عنه بصالح.(2)
وبهذا التَّقرير يندفع اعتراضُ ابن رشيد بأنَّ ما سكتَ عليه قد يَكُون عنده صحيحًا, وإن لم يَكُن كذلك عند غيره.
وزادَ ابن الصَّلاح(3): أنَّه قد لا يَكُون حَسَنًا عند غيره, ولا مُْندرجًا في حدِّ الحَسَن, إذ حَكَى ابن مَنْده أنَّه سمعَ مُحمَّد بن سعد الباوردي يَقُول: كان من مذهب النَّسائي أن يُخرِّج عن كلِّ من لم يُجْمع على تَرْكه.(4)
قال ابن منده: وكذلك أبو داود يأخذ مأخذه, ويُخرِّج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره, لأنَّه أقوى عنده من رأى الرجال.(5)
وهذا أيضًا رأي الإمام أحمد, فإنَّه قال: إنَّ ضعيف الحديث أحبُّ إليه من رأي الرِّجال, لأنَّه لا يُعدلُ إلى القياس, إلاَّ بعد عدم النصِّ.
فعلى ما نُقل عن أبي داود يُحتمل أن يُريد بقوله: صالح, الصَّالح للاعتبار دُون الاحْتجاج, فيَشْملُ الضَّعيف أيضًا, لكن ذكر ابن كثير أنَّه روي عنه: وما سكت عنه فهو حسنٌ, فإن صحَّ ذلك فلا إشْكَال.(6)
( وقد )اعترض ابن سيِّد النَّاس(7)ما ذكِرَ في شأن «سنن» أبي داود, فقال: لم يَسِم أبو داود شيئا بالحسن, وعمله في ذلك شبيه بعمل مسلم, الَّذي لا ينبغي أن يحمل كلامه على غيره, أنَّه اجتنب الضَّعيف الواهي, وأتى بالقِسْمين الأول والثاني, وحديثُ مَنْ مثَّلَ به من الرُّواة من القسمين الأول والثَّاني موجود في كتابه, دون القسم الثالث, قال: فهلا أُلزِمَ مسلمٌ من ذلك ما ألزِمَ به أبو داود, فمعنى كلامهما واحدٌ.
قال: وقول أبي داود: وما يُشبهه, يعني في الصِّحة, ويُقاربه يعني فيها أيضًا هو نحو قول مسلم: ليسَ كل الصَّحيح نجدهُ عند مالك وشُعبة وسُفيان, فاحتاج أن يَنزلَ إلى مثل حديث ليثَ بن أبي سُليم وعَطَاء بن السَّائب ويزيد بن زياد, لما يَشْملُ الكلَّ من اسم العَدَالة والصِّدق, وإن تَفاوتُوا في الحِفْظِ والإتقان, ولا فرقَ بين الطَّريقين, غير أنَّ مُسلمًا شرطَ الصَّحيحَ, فتحرَّجَ من حديث الطَّبقة الثَّالثة, وأبا داود لم يَشْترطه, فذكر ما يشتدُّ وهنهُ عنده, والتزم البيان عنه.
قال: وفي قول أبي داود:" إنَّ بعضها أصحُّ من بعض ما يُشير إلى القَدْر المُشترك بينهما في الصِّحة وإن تَفاوتت لِمَا يقتضيه صيغةُ أفْعَل في الأكثر.
وأجابَ الحافظ العِرَاقي(8): بأنَّ مُسلمًا التزمَ الصَّحيح بل المُجْمع عليه في كتابهِ, فليسَ لنا أن نحكم على حديث خرَّجه بأنَّه حسن عنده, لما عرف من قُصُور الحسن عن الصَّحيح, وأبو داود قال: ما سكتَ عنه فهو صالح, والصَّالح يشمل الصَّحيح والحسن, فلا يرتقي إلى الأوَّل إلاَّ بيقين."
وثَمَّ أجْوبة أُخرى:
منها: أنَّ العملين إنَّما تشابها في أنَّ كُلاًّ أتى بثلاثة أقْسَام, لكنها في «سُنن» أبي داود راجعة إلى مُتون الحديث, وفي مسلم إلى رجاله, وليس بين ضعف الرَّجل وصحة حديثه مُنافاة.
ومنها: أنَّ أبا داود قال: ما كان فيه وهن شديد بينتُه, ففهم أنَّ ثَمَّ شيئا فيه وهن غير شديد لم يلتزم بيانه.
ومنها: أنَّ مسلما إنَّما يروي عن الطَّبقة الثَّالثة في المُتَابعات لينجبر القُصُور الَّذي في رواية من هو من الطَّبقة الثانية, ثُمَّ إنه يُقِلُّ من حديثهم جدَّا, وأبو داود بخلاف ذلك."(9)
قلتُ :
وكتابه هذا مرتب على الأبواب الفقهية ، ويركز على أحاديث الأحكام ، وفيه حوالي (5208) حديثاً بالمكرر حسب طبعة عزت عبيد دعاس رحمه الله .
وفي طبعة المكنز وهي أهم طبعة له عدد أحاديثه (5276) حديثاً
وكل ماسكت عليه فهو مقبول عنده ، وما كان فيه نكارة شديدة ذكره ، وأحاديثه تدور بين الصحيح والحسن والضعيف ، وقد وفّى بشرطه ، والأحاديث الضعيفة في كتابه موجودة ، كالمنقطع ، ورواية سيء الحفظ ، والمجهول ، والمختلط .. وله شروح كثيرة منها معالم السنن للخطابي ، وعون المعبود وبذل المجهود وله طبعات كثيرة منها الطبعة التي حققها الأستاذ عزت عبيد دعاس ، والطبعة التي حققها محمد محيى الدين عبد الحميد وغيرها ،
وقد قام الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بتخريج أحاديثه وقد صحح وحسن منها ( 4325 ) حديثاً، وضعف حوالي ( 1127 )،ولكنه كان من المتشددين بالجرح والتعديل فلا يقبل تضعيفه حتى يوافقه غيره عليه .
والكتاب بحاجة لتخريج كامل لأحاديثه بشكل منضبط .(10)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (13/204-222)(117 )
(2) - قلت : هذا الحكم بشكل عام ، وإلا فهناك أحاديث سكت عنها وهي منكرة ، نبه عليها العلماء ، ولكنه في الحقيقة ينتقي أقوى الموجود في الباب ، وغالب أحاديثه في الأحكام .
(3) - علوم الحديث ص 53
(4) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 218) والغاية فى شرح الهداية فى علم الرواية - (ج 1 / ص 84)
(5) - سيمر تفصيل ذلك في حكم العمل بالحديث الضعيف
(6) - النكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 432) وشرح اختصار علوم الحديث - (ج 1 / ص 96) وعلم مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 39) وقسم الحديث والمصطلح - (ج 45 / ص 39)
(7) - الفتح الشذي 1/207-213
(8) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 117) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 19) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 11) وقارن شرح التبصرة والتذكرة - (ج 1 / ص 54)
(9) - انظر تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 110) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 116) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 11)
(10) - انظر الباعث ص 41 و42 وأصول الحديث 320-322 والأجوبة الفاضلة ص 67 و73(1/57)
سنن الدار قطني :
الدَّارَقُطْنِيُّ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ عُمَرَ بنِ أَحْمَدَ الإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، شَيْخُ الإِسلاَمِ، عَلَمُ الجهَابذَةِ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ عُمَرَ بنِ أَحْمَدَ بنِ مَهْدِيِّ بنِ مَسْعُوْدِ بنِ النُّعْمَانِ بنِ دِيْنَارِ بنِ عَبْدِ اللهِ البَغْدَادِيُّ، المُقْرِئُ، المُحَدِّثُ، مِنْ أَهْلِ مَحَلَّةِ دَارِ القُطْنِ بِبَغْدَادَ.وُلِدَ:سَنَةَ سِتٍّ وَثَلاَثِ مائَةٍ، هُوَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ.
وَكَانَ مِنْ بُحُورِ العِلْمِ، وَمِنْ أَئِمَّةِ الدُّنْيَا، انْتَهَى إِلَيْهِ الحِفْظُ وَمَعْرِفَةُ عِلَلِ الحَدِيْثِ وَرجَالِهِ، مَعَ التَّقَدُّمِ فِي القِرَاءاتِ وَطُرُقِهَا، وَقوَّةِ المشَاركَةِ فِي الفِقْهِ، وَالاخْتِلاَفِ، وَالمَغَازِي، وَأَيَّامِ النَّاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ فِي كِتَابِ (مُزكِّي الأَخبارِ):أَبُو الحَسَنِ صَارَ وَاحدَ عَصْرِهِ فِي الحِفْظِ وَالفَهْمِ وَالوَرَعِ، وَإِمَاماً فِي القُرَّاءِ وَالنَّحْوِيِّيْنَ، أَوَّلَ مَا دَخَلتُ بَغْدَادَ، كَانَ يَحضرُ المجَالسَ وَسِنُّهُ دُوْنَ الثَّلاَثِيْنَ، وَكَانَ أَحَدَ الحُفَّاظِ.
قُلْتُ: وَهِمَ الحَاكِمُ، فَإِنَّ الحَاكِمَ إِنَّمَا دَخَلَ بَغْدَادَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعينَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَسنُّ أَبِي الحَسَنِ خَمْسٌ وثلاَثُونَ سَنَةً.قَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ:كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ فَريدَ عَصْرِهِ، وَقريعَ دَهْرِهِ، وَنَسِيْجَ وَحْدِهِ، وَإِمَامَ وَقْتِهِ، انْتَهَى إِلَيْهِ عُلُوُّ الأَثرِ وَالمعرفَةِ بِعِلَلِ الحَدِيْثِ وَأَسمَاءِ الرِّجَالِ، مَعَ الصِّدْقِ وَالثِّقَةِ، وَصِحَّةِ الاعْتِقَادِ، وَالاضطلاعِ مِنْ عُلُومٍ، سِوَى الحَدِيْثِ، مِنْهَا القِرَاءاتُ، فَإِنَّهُ لَهُ فِيْهَا كِتَابٌ مُختَصرٌ، جَمعَ الأُصُولَ فِي أَبْوابٍ عَقَدَهَا فِي أَوَّلِ الكِتَابِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ يَعْتَنِي بِالقِرَاءاتِ يَقُوْلُ:لَمْ يُسبقُ أَبُو الحَسَنِ إِلَى طريقتِهِ فِي هَذَا، وَصَارَ القُرَّاءُ بَعْدَهُ يسلكُونَ ذَلِكَ.قَالَ:وَمِنْهَا المعرفَةُ بِمذَاهبِ الفُقَهَاءِ، فَإِنَّ كِتَابَهُ (السُّنَنُ) يدلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَبلَغَنِي أَنَّهُ دَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي سَعِيْدٍ الإِصْطَخَرِيِّ، وَقِيْلَ:عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهَا المَعرفَةُ بِالأَدبِ وَالشِّعرِ
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطَيِّبِ الطَّبَرِيُّ:كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ فِي الحَدِيْثِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ البَرْقَانِيُّ:كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ يُمْلِي عَلَيَّ (العِلَلَ) مِنْ حِفْظِهِ.
قُلْتُ:إِنْ كَانَ كِتَابُ (العِلَلِ) الموجودُ قَدْ أَمْلاَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حِفْظِهِ كَمَا دلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الحكَايَةُ، فَهَذَا أَمرٌ عظيمٌ، يُقْضَى بِهِ للدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ أَحفظُ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَمْلَى بعضَهُ مِنْ حِفْظِهِ فَهَذَا مُمْكِنٌ، وَقَدْ جَمعَ قبلَهُ كِتَابَ (العِلَلِ)عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ حَافظُ زَمَانِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِيمَا نقلَهُ عَنْهُ الحَاكِمُ، وَقَالَ:شَهِدْتُ بِاللهِ إِنَّ شيخَنَا الدَّارَقُطْنِيَّ لَمْ يُخَلِّفْ عَلَى أَدِيمِ الأَرضِ مِثلَهُ فِي مَعْرِفَةِ حَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكذَلِكَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ وَأَتْبَاعِهِم.
قَالَ:وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الخَمِيْسِ، لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ، وَكَذَا أَرَّخَ الخَطِيْبُ وَفَاتَهُ.
وَصَحَّ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ:مَا شَيْءٌ أَبغضُ إِلَيَّ مِنْ عِلمِ الكَلاَمِ.
قُلْتُ: لَمْ يَدْخلِ الرَّجُلُ أَبداً فِي علمِ الكَلاَمِ وَلاَ الجِدَالِ، وَلاَ خَاضَ فِي ذَلِكَ، بَلْ كَانَ سلفيّاً، سَمِعَ هَذَا القَوْلَ مِنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:اختلفَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، فَقَالَ قَوْمٌ:عُثْمَانُ أَفضلُ، وَقَالَ قَوْمٌ:عليٌّ أَفضلُ.فَتَحَاكَمُوا إِليَّ، فَأَمسكتُ، وَقُلْتُ:الإِمْسَاكُ خَيْرٌ.ثُمَّ لَمْ أَرَ لِدِيْنِي السُّكُوتَ، وَقُلْتُ لِلَّذِي اسْتَفْتَانِي:ارْجِعْ إِلَيْهِم، وَقُلْ لَهُم:أَبُو الحَسَنِ يَقُوْلُ:عُثْمَانُ أَفضَلُ مِنْ عَلِيٍّ بِاتِّفَاقِ جَمَاعَةِ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، هَذَا قَولُ أَهْلِ السُّنَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ عَقْدٍ يَحلُّ فِي الرَّفْضِ.
قُلْتُ:لَيْسَ تَفْضِيْلُ عَلِيٍّ بِرَفضٍ، وَلاَ هُوَ ببدعَةٌ، بَلْ قَدْ ذَهبَ إِلَيْهِ خَلقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيْنَ، فَكُلٌّ مِنْ عُثْمَانَ وَعلِيٍّ ذُو فضلٍ وَسَابِقَةٍ وَجِهَادٍ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي العِلْمِ وَالجَلاَلَة، وَلعلَّهُمَا فِي الآخِرَةِ مُتسَاويَانِ فِي الدَّرَجَةِ، وَهُمَا مِنْ سَادَةِ الشُّهَدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ، وَلَكِنَّ جُمُهورَ الأُمَّةِ عَلَى تَرَجيْحِ عُثْمَانَ عَلَى الإِمَامِ عَلِيٍّ، وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ.وَالخَطْبُ فِي ذَلِكَ يسيرٌ، وَالأَفضَلُ مِنْهُمَا - بِلاَ شكٍّ - أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، مَنْ خَالفَ فِي ذَا فَهُوَ شِيعِيٌّ جَلدٌ، وَمَنْ أَبغضَ الشَّيْخَيْنِ وَاعتقدَ صِحَّةَ إِمَامَتِهِمَا فَهُوَ رَافضيٌّ مَقِيتٌ، وَمَنْ سَبَّهُمَا وَاعتقدَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِإِمَامَيْ هُدَى فَهُوَ مِنْ غُلاَةِ الرَّافِضَةِ - أَبعدَهُم اللهُ - ...(1)
ومن مظان الحَسَن أيضًا «سنن» الدَّارقُطْني, فإنَّه نصَّ على كثير منه قاله في «المَنْهل الرَّوي»(2)
قلتُ :
هو مرتبٌ على الأبواب ، وفي أحاديث الأحكام ،وقد قام الإمام الدارقطني ببيان الحكم على معظم أحاديثه ،وهو من المعتدلين في الجرح والتعديل ،وله طبعة في أربعة أجزاء وعليها حاشية قيمة لعبد العظيم الآبادي . والكتاب بحاجة لضبط وتخريج لكامل أحاديثه .
وقد صدرت له طبعة قيمة وهي طبعة المكنز عدد أحاديثها حوالي (4898 ) حديثاً
وقال في السنن : إسْنَادٌ حَسَنٌ(31) مرة ، مثاله (81 ) حَدَّثَنَا ابْنُ مَنِيعٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِىُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُخْتَارِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ أَبِى هِنْدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلاَ طَهَّرَهُ اللَّهُ ». إِسْنَادٌ حَسَنٌ. 1/36
وكالحديث رقم (151 ) حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ وَالْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبِى عَنْ مُسْلِمٍ وَهُوَ ابْنُ قُرْطٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ ». إِسْنَادٌ حَسَنٌ. 1/55
وحكم على أحاديث بالصحة كذلك ، كما في الحديث رقم(88 ) حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ غُرَابٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُسَخَّنُ لَهُ مَاءٌ فِى قُمْقُمَةٍ وَيَغْتَسِلُ بِهِ. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. 1/38
وفيه أحاديث ضعيفة عديدة ، كالحديث رقم(2287 ) حَدَّثَنَا الْقَاضِى أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَوْفِىُّ حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلاَءِ الرَّازِىُّ عَنْ يَاسِينَ بْنِ مُعَاذٍ الزَّيَّاتِ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعِجْلِىِّ عَنِ ابْنٍ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ مَا قَالَ « أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ ». هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ. وَاخْتُلِفَ عَنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وكالحديث رقم(4818 ) حَدَّثَنَا ابْنُ مُبَشِّرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِىُّ حَدَّثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ هُرَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِى عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَدِينُ وَأُضَحِّى قَالَ « نَعَمْ فَإِنَّهُ دَيْنٌ مَقْضِىٌّ ». هَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ. وَهُرَيْرٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يُدْرِكْهَا..
وقد يحكم عليه بالضعف الشديد ، كالحديث رقم(468 ) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَوْكَرِ بْنِ رَافِعٍ الطُّوسِىُّ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الضَّرِيرُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ زَكَرِيَّا حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ عَلِىِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ أَتَى عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا عَلَى بِئْرٍ أَدْلُو مَاءً فِى رِكْوَةٍ لِى فَقَالَ يَا عَمَّارُ مَا تَصْنَعُ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِى وَأُمِّى أَغْسِلُ ثَوْبِى مِنْ نُخَامَةٍ أَصَابَتْهُ فَقَالَ « يَا عَمَّارُ إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْقَىْءِ وَالدَّمِ وَالْمَنِىِّ يَا عَمَّارُ مَا نُخَامَتُكَ وَدُمُوعُ عَيْنَيْكَ وَالْمَاءُ الَّذِى فِى رِكْوَتِكَ إِلاَّ سَوَاءٌ ». لَمْ يَرْوِهِ غَيْرُ ثَابِتِ بْنِ حَمَّادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَإِبْرَاهِيمُ وَثَابِتٌ ضَعِيفَانِ.
وكالحديث رقم(89 ) حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَآخَرُونَ قَالُوا حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِىُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ سَخَّنْتُ مَاءً فِى الشَّمْسِ فَقَالَ « لاَ تَفْعَلِى يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ ». غَرِيبٌ جِدًّا. خَالِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مَتْرُوكٌ.(3)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (16/450)(332 )
(2) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 113) و المنهل الروي ص 83
(3) - انظر الأجوبة الفاضلة ص 77-78 (2) ومعجم فقه ابن حزم المقدمة وقواعد في علوم الحديث 262-263 و265 و268-272 و407 و409 و426(1/58)
كتبُ الحديث الأخرى
" قال أبو جعفر بن الزُّبير: أولى ما أرشدُ إليه ما اتَّفق المُسلمون على اعتماده, وذلكَ الكُتب الخمسة, و«المُوطأ»(1)الَّذي تقدَّمها وضعًا, ولم يتأخَّر عنها رُتبة, وقد اختلفت مقاصدهم فيها, وللصَّحيحين فيها شُفوف, وللبُخاري لمن أرادَ التَّفقُّه مقاصد جليلة, ولأبي داود في حصر أحاديث الأحكام واستيعابها ما ليسَ لغيره, وللتِّرمذي في فُنون الصِّناعة الحديثية ما لم يُشَاركه غيره, وقد سلكَ النَّسائي أغمض تلكَ المَسَالك وأجلها.
وقال الذَّهبي: انحطتْ رُتبةُ «جامع» التِّرمذي(2)عن «سُنن» أبي داود والنَّسائي لإخراجه حديث المَصْلوب(3)والكَلْبي(4)وأمثالهما.(5)
وأمَّا «مسند» الإمام أحمد بن حنبل, وأبي داود الطَّيالسي وغيرهما من المَسَانيد.
قال ابن الصَّلاح : كمُسند عُبيد الله بن مُوسى, وإسْحَاق بن راهويه, والدَّارمي, وعبد بن حُميد, وأبي يَعْلى المَوْصلي, والحسن بن سُفيان, وأبي بكر البَزَّار, فهؤلاء عادتهم أن يُخرجوا في مسند كلِّ صحابي ما رووه من حديثه, غير مُقيدين بأن يكون مُحتجًّا به أولا, فلا تلتحق بالأصُول الخمسة وما أشْبهها.
قال ابن جَمَاعة: من الكُتب المبوبة كسنن ابن ماجة في الاحتجاج بها والرُّكون إلى ما فيها لأنَّ المُصنَّف على الأبواب إنَّما يُورد أصح ما فيه, ليصلح للاحتجاج.
قلت : فيها أكثر من (4243) حديث طبعة محمد فؤاد عبد الباقي ، وفي طبعة المكنز وهي أدق طبعة له (4485) .
وفيها الصحيح والحسن والضعيف ، والواهي ، وبعض الموضوع كحديث : (إذا كانتْ ليلةُ النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ...) أخرجه ابن ماجه (1451 ) وفي سنده أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبى سبرة وهو متهم كذاب
وقد انفرد عن الكتب الستة بحوالي (1334) حديثاً وقد قام عدد من العلماء بفصلها وتخريجها كالبوصيري والسندي ... وغالبها غير صحيح .
ولكتابه طبعات كثيرة أشهرها الطبعة حققها محمد فؤاد عبد الباقي ، ثم التي بحاشية السندي ، ثم التي حققها د. مصطفى الأعظمي .
وقد حققه الشيخ ناصر رحمه الله وفصل الصحيح من الضعيف وقد حكم على (42) حديثا بالوضع وعلى (121) حديثا بالضعف الشديد ، وحكم على أكثر من (600) حديث بالضعف ، ولكنه تشدد في كثير من أحكامه .
فالكتاب بحاجة لتخريج كامل لكل أحاديثه من جديد بشكل معتدل منضبطٍ.(6)
تنبيهاتٌ:
الأوَّلُ: اعْتُرضَ على التمثيل «بمسند» أحمد بأنَّه شرط في «مسنده» الصَّحيح.
قال العِرَاقي(7): ولا نُسَلِّم ذلك, والَّذي رواه عنه أبو موسى المَديني: أنَّه سُئلَ عن حديث فقال: انظرُوه, فإن كان في «المسند» وإلاَّ فليسَ بحجَّة, فهذا ليس بصريح في أنَّ كل ما فيه حُجَّة, بل ما ليس فيه ليس بحجَّة.
قال: على أنَّ ثَمَّ أحاديث صحيحة مُخرَّجة في «الصَّحيحين» وليست فيه, منها حديث عائشة في قِصَّة أمِّ زَرْع(8).
قال: وأمَّا وجُود الضَّعيف فيه فهو مُحققٌ, بل فيه أحاديث موضُوعة جمعتُها في جُزء, ولعبد الله ابنه فيه زيادات, فيها الضَّعيفُ والموضُوع. انتهى.(9)
وقال الإمام ابن الجوزي في المصعد الأحمد 1/31 :
" أما قوله :فما اختلف فيه من الحديث رجع إليه وإلا فليس بحجة ،يريد أصول الأحاديث ، وهو صحيح ، فإنه ما من حديث - غالباً- إلا وله أصل في هذا المسند ، والله تعالى أعلم ".
وقال العلامة ابن القيم في كتابه الفروسية[صفحة 271 ] :
"قلت: هذه الحكاية قد ذكرها حنبل في تاريخه وهي صحيحة بلا شك لكن لا تدل على أن كل ما رواه في المسند فهو صحيح عنده ،فالفرق بين أن يكون كل حديث لا يوجد له أصل في المسند فليس بحجة ،وبين أن يقول كل حديث فيه فهو حجة ،وكلامه يدلُّ على الأول لا على الثاني ،وقد استشكل بعض الحفاظ هذا من أحمد وقال في الصحيحين أحاديث ليست في المسند ،وأجيب عن هذا بأن تلك الألفاظ بعينها وإن خلا المسند عنها فلها فيه أصول ونظائر وشواهد ،وأما أن يكون متن صحيح لا مطعن فيه ليس له في المسند أصل ولا نظير فلا يكاد يوجد ألبتة "
وقد ألَّف شيخ الإسْلام( الحافظ ابن حجر ) كتابًا في ردِّ ذلك سمَّاه «القول المُسَدَّد في الذَّبِّ عن المُسْند» قال في خُطْبته(10): فقد ذكرتُ في هذه الأوراق ما حضرني من الكلام على الأحاديث, التي زعم بعض أهل الحديث أنَّها موضوعة, وهي في «مسند» أحمد ذبًّا عن هذا التَّصنيف العظيم, الذي تلقته الأمَّة بالقَبُول والتَّكريم, وجعله إمامهم حجة يرجع إليه ويعوَّل عند الاختلاف عليه. ثمَّ سردَ الأحاديث التي جمعها العِرَاقي, وهي تسعة وأضافَ إليها خمسة عشر حديثًا أوردهَا ابن الجوزي في «الموضُوعات» وهي فيه, وأجَاب عنها حديثًا حديثًا.
قلتُ: وقد فاتهُ أحاديث أُخر أوردها ابن الجوزي, وهي فيه وجمعتها في جُزء سمَّيتهُ «الذيل الممهد» مع الذبِّ عنها, وعدتها أربعة عشر حديثاً.
وقال شيخ الإسلام في كتابه «تعجيل المنفعة في رجال الأربعة»: ليس في «المسند» حديث لا أصل له, إلاَّ ثلاثة أحاديث أو أربعة, منها: حديث « قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْواً ». .
قال: والاعتذار عنهُ, أنَّه مِمَّا أمر أحمد بالضَّرب عليه, فتُركَ سهوًا, أو ضُرب وكتب من تحت الضَّرب.
قلت : ففي مسند أحمد (25584) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ قَالَ أَخْبَرَنَا عُمَارَةُ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ بَيْنَمَا عَائِشَةُ فِى بَيْتِهَا إِذْ سَمِعَتْ صَوْتاً فِى الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ مَا هَذَا قَالُوا عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ. قَالَ فَكَانَتْ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ - قَالَ - فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ مِنَ الصَوْتِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْواً ». فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ إِنِ اسْتَطَعْتُ لأَدْخُلَنَّهَا قَائِماً . فَجَعَلَهَا بِأَقْتَابِهَا وَأَحْمَالِهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الأقتاب : جمع قتب وهو رحل صغير على قدر السنام كالسَّرج للخيل والبردعة للحمار.
قال الشيخ شعيب الأرنؤوط : حديث منكر باطل
وفي القول المسدد - (ج 1 / ص 9) :الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال قال أحمد هذا الحديث كذب منكر قال وعمارة يروي أحاديث مناكير وقال أبو حاتم الرازي عمارة بن زاذان لا يحتج به
وفي الترغيب والترهيب للمنذري [ ج 4 - صفحة 64 ]:قال الحافظ وقد ورد من غير وجه ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة حبوا لكثرة ماله ولا يسلم أجودها من مقال ولا يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن ولقد كان ماله بالصفة التي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم المال الصالح للرجل الصالح فأنى تنقص درجاته في الآخرة أو يقصر به دون غيره من أغنياء هذه الأمة، فإنه لم يرد هذا في حق غيره إنما صح سبق فقراء هذه الأمة أغنياءهم على الإطلاق والله أعلم"
وفي تنزيه الشريعة المرفوعة - (ج 2 / ص 13) :"(تعقب) في حديث أنس بأن الحافظ ابن حجر قال في القول المسدد عمارة لم ينفرد به بل تابعه أغلب ابن تميم بلفظ أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف والذي نفس محمد بيده لم يدخلها إلا حبوا أخرجه البزار، وأغلب شبيه عمارة في الضعف ولكن لم أر من اتهمه بكذب انتهى .
وفي حديث عبد الرحمن بأن الحافظ ابن حجر جعله شاهدا لحديث أنس وقد رواه البزار في مسنده من غير طريق الجراح ،وله شاهد من حديث محمد بن محمد بن عوف أخرجه السراج في تاريخه بسند رجاله ثقات.
وورد أيضا من حديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه البزار والطبراني وقال المنذري في الترغيب :ورد من حديث جماعة من الصحابة ولم يسلم أجودها من مقال ولا يبلغ شيء منها بانفراده درجة الحسن،قلت: قال بعض أشياخي المتأخرين قضية هذا أن الحديث يبلغها بمجموع طرقه وفيه نظر والله أعلم"
وقال في كتابه «تجريد زوائد مُسند البزَّار»(11): إذا كان الحديث في «مسند» أحمد لم نَعْزُه إلى غيره من المسانيد.
وقال الهيثمي في «زوائد المسند»: «مسند» أحمد أصح صحيحًا من غيره.
وقال ابن كثير(12): لا يُوازي «مسند» أحمد كتابٌ مسندٌ في كثرته وحُسْن سياقاته, وقد فاتهُ أحاديث كثيرة جدًّا, بل قيل: إنَّه لم يقع له جماعة من الصحابة الذين في «الصَّحيحين» قريبًا من مئتين.
وقال الحُسيني في كتابه «التذكرة في رجال العشرة»: عِدَّة أحاديث «المسند» أربعون ألفا بالمُكرَّر .(13)
الثاني: قيل: وإسحاق يُخرِّج أمثل ما ورد عن ذلك الصحابي, فيما ذكره أبو زرعة الرَّازي عنه.
قال العِرَاقيُّ(14): ولا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما فيه صحيحًا, بل هو أمثله بالنسبة لما تركه, وفيه الضَّعيف.
----------------
قلتُ :
المسند للإمام أحمد: وفيه حوالي (27634) حديثاً بالمكرر حسب طبعة المكتب الإسلامي ،وقد جمع فيه معظم السنة القولية والفعلية ، وأكثر أحاديثه تدور بين الصحيح والحسن والضعيف ضعفاً محتملاً ، ولا يخلو من أحاديث واهية ، ولكنها قليلة ، ونوزع في وجود الموضوع فيه ،وقد ذكر ابن الجوزي في الموضوعات عدداً من الأحاديث ووافقه الحافظ العراقي عليها -وغالبها في الفضائل - ونازعهما الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه النفيس القول المسدد في الذب عن مسند أحمد . وقد قام بعض أهل العلم بترتيبه على الأبواب الفقهية كما في كتاب الكواكب الدراري والفتح الرباني للساعاتي ، وقد قام بتخريج أحاديثه وشرح غريبه وحذف الأحاديث المكررة .(15)
وأما المسند فقد قام العلامة أحمد محمود شاكر بتخريج أحايثه وتحقيقه إلا أن المنية اخترمته قبل إكماله ، وتخريجه دقيق ونفيس ، ويمكن الإعتماد عليه ، وحُقّ له ذلك ، ولكنه في بعض الأحيان يميل للتساهل ، وطبع أخيراً عدة طبعات مرقمة أهمها نشر المكتب الإسلامي ولا تخلو من أخطاء في الضبط ، وهي خالية من الشرح .
وقد قام شيخنا الشيخ شعيب الأرناؤوط حفظه الله تعالى بتحقيق المسند وتخريج أحاديثه بشكل مفصل ودقيق ، ولكنه نحى منحى المتشددين في الجرح والتعديل ، فضعف أحاديث لا تستحق التضعيف .
وقد حكم على سبعة أحاديث بأنها شبه موضوعة وهذه أرقامها في طبعة مؤسسة الرسالة (461 و530 و605 و4294 و22221 و23068 و24967)!!
وحكم على مائة وأربعة وثلاثين حديثا بالضعف الشديد !!!
وحكم على أكثر من ألف وستمائة وثمانين حديثاً بالضعف !!
وفي كثير مما يقول نظر .
ويقوم أحد الأخوة الأفاضل بعمل رسالة دكتوراه يقارن فيها بين عمل الشيخ أحمد شاكر والشيخ شعيب - يسر الله له إكمالها - وفق المنهج الوسطي في الجرح والتعديل .
----------------
قال السيوطي(16):
"الثالث: قيل: و«مسند» الدَّارمي(17)ليسَ بمسند, بل هو مُرتب على الأبواب, وقد سمَّاه بعضهم بالصَّحيح.
قال شيخ الإسلام: ولم أر لمغلطاي سلفًا في تسمية الدَّارمي «صحيحًا» إلاَّ قوله أنَّه رآه بخط المُنذري, وكذا قال العلائي.
وقال شيخ الإسْلام: ليسَ دُون «السُّنن» في الرُّتبة, بل لو ضُمَّ إلى الخمسة لكان أولى من ابن ماجه, فإنَّه أمثل منه بكثير.
وقال العِرَاقيُّ(18): اشتهر تسميته بالمسند, كما سمَّى البُخَاري كتابه بالمسند, لكون أحاديثه مسندة.
قال: إلاَّ أنَّ فيه المُرسل, والمُعضل, والمُنقطع, والمقطُوع كثيرًا, على أنَّهم ذكروا في ترجمة الدَّارمي أنَّ له «الجامع» و«المسند» و«التفسير» وغير ذلك, فلعلَّ الموجود الآن هو «الجامع» و«المسند» فُقِدَ.
قلت: وهو مرتب على الأبواب الفقهية ، وهو كالسنن الأربعة فيه الصحيح والحسن والضعيف والمرسل ، وهو أمثل من سنن ابن ماجه ولايحتوي على أحاديث منكرة ولا شاذة ، وعدد أحاديثه حسب أحدث وأدق طبعة وهي طبعة المكنز (3567 ) حديثاً.
وله طبعات متعددة بعضها مخرجة بشكل لا بأس به وهو بحاجة لتخريج كامل لأحاديثه مع شرح غريبها من جديد .
الرابع: قيل: و«مسند» البزَّار يُبين فيه الصَّحيح من غيره.
قال العِرَاقيُّ(19): فإنه لا يبين الصحيح من الضعيف إلا قليلا إلا أنه يتكلم في تفرد بعض رواة الحديث به ومتابعة غيره عليه.
قال الإمام الذهبي رحمه الله :
"البَزَّارُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ عَمْرٍو البَصْرِيُّ الشَّيْخُ، الإِمَامُ، الحَافِظُ الكَبِيْرُ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَد بن عَمْرِو بنِ عَبْدِ الخَالِقِ البَصْرِيُّ، البَزَّارُ، صَاحِبُ (المُسْنَدِ) الكَبِيْرِ، الَّذِي تَكَلَّمَ عَلَى أَسَانيدِه. وُلِدَ: سَنَةَ نيف عَشْرَة وَمائَتَيْنِ.
وَسَمِعَ: هُدْبَة بن خَالِدٍ، وَعَبْد الأَعْلَى بن حَمَّادٍ، وَعَبْد اللهِ بن مُعَاوِيَةَ الجُمَحِيّ، وَمُحَمَّد بن يَحْيَى بنِ فَيَّاض الزِّمَّانِيّ، وَمُحَمَّد بن مَعْمَر القَيْسِيّ، وَبِشْر بن مُعَاذٍ العَقَدِيّ، وَعِيْسَى بن هَارُوْنَ القُرَشِيّ، وَسَعِيْد بن يَحْيَى الأُمَوِيّ، وَعَبْد اللهِ بن جَعْفَرٍ البَرْمَكِيّ، وَعَمْرو بن عَلِيٍّ الفَلاَّس، وَزِيَاد بن أَيُّوْبَ، وَأَحْمَد بن المِقْدَامِ العِجْلِيّ، وَإِبْرَاهِيْم بن سَعِيْدٍ الجَوْهَرِيّ، وَبُندَاراً، وَابْن مُثَنَّى، وَعَبْد اللهِ بن الصَّبَّاحِ، وَعَبْد اللهِ بن شَبِيْبٍ، وَمُحَمَّد بن مِرْدَاس الأَنْصَارِيّ، وَمُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الفَضْلِ الحَرَّانِيّ، وَخلقاً كَثِيْراً.
حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُ قَانع، وَابْنُ نَجِيع، وَأَبُو بَكْرٍ الخُتُّلِيّ، وَأَبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَأَحْمَد بن الحَسَنِ بنِ أَيُّوْب التَّمِيْمِيّ، وَعَبْد اللهِ بن جَعْفَرِ بنِ أَحْمَدَ بنِ فَارِسٍ، وَأَحْمَد بن جَعْفَرِ بنِ سَلْم الفُرْسَانِيّ، وَعَبْد اللهِ بن خَالِد بن رُسْتُم الرَّارَانِيّ، وَأَحْمَد بن إِبْرَاهِيْمَ بنِ يُوْسُفَ الضَّرِير، وَمُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ الحَسَنِ الثَّقَفِيّ، وَأَحْمَد بن جَعْفَرِ بنِ مَعْبَد السِّمْسَار، وَعَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّدِ بنِ جَعْفَرٍ الكِسَائِيّ، وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ الفَضْلِ بنِ الخَصِيب، وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْد الرَّحْمَنِ بن مُحَمَّدِ بنِ سيَاه، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّد بن عَطَاء القَبَّاب، وَمُحَمَّد بن أَحْمَدَ بنِ يَعْقُوْبَ، وَمُحَمَّد بن عَبْدِ اللهِ بنِ ممشَاذ القَارِئ، وَمُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بن حَيُّوْيَه النَّيْسَابُوْرِيّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.
وَقَدْ أَملَى أَبُو سَعِيْدٍ النَّقَّاش مَجْلِساً عَنْ نَحْوٍ مِنْ عِشْرِيْنَ شَيْخاً، حدَّثوه عَنْ أَبِي بَكْرٍ البَزَّار.
وَقَدِ ارْتَحَلَ فِي الشَّيْخُوخَة نَاشِراً لحديثه، فَحَدَّثَ بِأَصْبَهَانَ عَنِ الكِبَار، وَبِبَغْدَادَ، وَمِصْر، وَمَكَّة، وَالرَّملَة.
وَأَدْرَكَهُ بِالرَّمْلَة أَجلُه، فَمَاتَ: فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ وَمائَتَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، يُخْطِئ وَيَتَّكلُ عَلَى حِفْظِهِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ: يُخْطِئ فِي الإِسْنَاد وَالمتن.
وَقَالَ الحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللهِ: سَأَلْتُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ البَزَّار، فَقَالَ: يُخْطِئ فِي الإِسْنَاد وَالمتن، حَدَّثَ بِالمُسْنَد بِمِصْرَ حِفْظاً، يَنْظُر فِي كُتب النَّاس، وَيُحَدِّث مِنْ حِفْظِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ كُتُب، فَأَخْطَأَ فِي أَحَادِيْث كَثِيْرَة. جرحه النَّسَائِيّ....
__________
(1) - هو أول كتاب في السنة ، وفيه شيء من فقه الإمام مالك وروي عن الإمام مالك أكثر من موطأ أشهرها : موطأ يحيى الليثي ، وموطأ محمد بن الحسن الشيباني .. والأحاديث الموصولة فيه صحيحة ، وكذلك المرسلة وكان من أعلم الناس في أحاديث الحجازيين . وأحسن طبعاته التي قام بتحقيقها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي ،وأما موطأ محمد بن الحسن فأحسنها ماحققها الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف وماشرحها العلامة اللكنوي وقام بتحقيقها الدكتور : تقي الدين الندوي ، انظر الباعث الحثيث ص 30 ومنهج النقد في علوم الحديث ص 232 و233 والحديث النبوي ص 404 - 406 والأجوبة الفاضلة ص 93 - 95
(2) - قلت : في هذا الحكم نظر
(3) - هو : محمد بن سعيد بن حسان بن قيس الأسدي الشامي المصلوب ويقال له بن سعد بن عبد العزيز أو بن أبي عتبة أو بن أبي قيس أو بن أبي حسان ويقال له بن الطبري أبو عبد الرحمن وأبو عبد الله وأبو قيس وقد ينسب لجده قيل إنهم قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى، كذَّبوه وقال أحمد بن صالح وضع أربعة آلاف حديث، وقال أحمد: قتله المنصور على الزندقة وصلبه ،من السادسة ت ق .تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 480 ](5907 )
(4) - هو : محمد بن السائب بن بشر الكلبي أبو النضر الكوفي النسابة المفسر متهم بالكذب ورمي بالرفض من السادسة مات سنة ست وأربعين ت فق .تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 479 ] (5901 )
(5) - قلت : لكنه أخرج لهما القليل ، وقد نص على تضعيفهما ، فالمصلوب روي له في سنن الترمذى حديث واحد رقمه(3895 ) وضعفه ، والكلبي روي له في سنن الترمذى الحديث رقم(3336 ) وضعفه
(6) - انظر الأجوبة الفاضلة 74-76 وقواعد في علوم الحديث 71 و72 و37 و38 و74 و75 و76 و179 و222 و358 و359
(7) - توجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 21) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 119) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 12)
(8) - صحيح البخارى(5189) وصحيح مسلم (6458)
(9) - التقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 12) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 21)
(10) - ص 1-2
(11) - 1/59
(12) - في اختصار علوم الحديث ص 25-26
(13) - قلت : بل أحدث طبعة وهي طبعة المكنز وهي أدقها ، وعدد أحاديثها (28464 ) حديثاً بالمكرر
(14) - في التقييد والإيضاح ص 57-58
(15) - انظر الباعث ص 31 وأصول الحديث ص 328-330 والأجوبة ص 95-100 والحديث النبوي 406-410
(16) - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 116)
(17) - الدَّارِمِيُّ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الفَضْلِ (م، د، ت) ابْنِ بَهْرَامَ بنِ عَبْدِ اللهِ، الحَافِظُ، الإِمَامُ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيْمِيُّ، ثُمَّ الدَّارِمِيُّ، السَمَرْقَنْدِيُّ.وَدَارِمٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ بنِ حَنْظَلَةَ بنِ زَيْدِ مَنَاةَ بنِ تَمِيْمٍ.
طَوَّفَ أَبُو مُحَمَّدٍ الأَقَالِيمَ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيْفَ.قَالَ إِسْحَاقُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ الوَرَّاقُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللهِ المُخَرِّمِيَّ يَقُوْلُ: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ! مَا دَامَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَيْنَ أَظهُرِكُمْ، فَلاَ تَشتَغِلُوا بِغَيْرِهِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيْدٍ الأَشَجَّ يَقُوْلُ: عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِمَامُنَا.وَرَوَى: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيْهِ، قَالَ: عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِمَامُ أَهْلِ زَمَانِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مَنْصُوْرٍ الشِّيْرَازِيُّ: كَانَ عَبْدُ اللهِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ العَقلِ وَالدِّيَانَةِ، مَنْ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ فِي الحِلمِ وَالدِّرَايَةِ وَالحِفْظِ وَالعِبَادَةِ وَالزُّهَّادَةِ، أَظهَرَ عِلْمَ الحَدِيْثِ وَالآثَارِ بِسَمَرْقَنْدَ، وَذَبَّ عَنْهَا الكَذِبَ، وَكَانَ مُفَسِّراً كَامِلاً، وَفَقِيْهاً عَالِماً.وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ بنُ حِبَّانَ: كَانَ الدَّارِمِيُّ مِنَ الحُفَّاظِ المُتْقِنِيْنَ، وَأَهْلِ الوَرَعِ فِي الدِّيْنِ مِمَّنْ حَفِظَ وَجَمَعَ، وتَقَفَّهَ، وَصَنَّفَ وَحَدَّثَ، وَأَظهَرَ السُّنَّةَ بِبَلَدِهِ، وَدَعَا إِلَيْهَا، وَذَبَّ عَنْ حَرِيْمِهَا، وَقَمَعَ مَنْ خَالفَهَا.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيْبُ: كَانَ أَحَدَ الرَّحَّالِيْنَ فِي الحَدِيْثِ، وَالمَوصُوفِينَ بِحِفْظِهِ وَجَمْعِهِ وَالإِتْقَانِ لَهُ، مَعَ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ، وَالوَرَعِ وَالزُّهْدِ، وَاسْتُقْضِيَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ، فَأَبَى، فَأَلَحَّ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَلِّدَهُ، وَقَضَى قَضِيَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ اسْتَعْفَى، فَأُعْفِيَ، وَكَانَ عَلَى غَايَةِ العَقلِ، وَنِهَايَةِ الفَضْلِ، يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ فِي الدَّيَانَةِ وَالحِلْمِ وَالرَّزَانَةِ، وَالاجْتِهَادِ وَالعِبَادَةِ، وَالزَّهَادِةِ وَالتَّقَلُّلِ، وَصَنَّفَ (المُسْنَدَ) وَ(التَّفْسِيْرَ) وَ(الجَامِعَ).مَاتَ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَمائَتَيْنِ، يَوْمَ التَّروِيَةِ بَعْدَ العَصرِ، وَدُفِنَ يَوْمَ عَرَفَةَ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ سَنَةً.
قُلْتُ: قَدْ كَانَ الدَّارِمِيُّ رُكْناً مِنْ أَركَانِ الدِّيْنِ، قَدْ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَالنَّاسُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ بُنْدَارٌ وَالكِبَارُ، وَبَلَغَنَا عَنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ، وَذَكَرَ الدَّارِمِيَّ، فَقَالَ: عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَقْبَلْ. سير أعلام النبلاء (12/228-232)(78 )
(18) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 119) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 21) والتقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 12) وتوضيح الأفكار - (ج 1 / ص 231)
(19) - الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 123) و التقييد والإيضاح للحافظ العراقي - (ج 1 / ص 13)(1/59)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ سَلاَمَةَ، إِجَازَةً، عَنْ مَسْعُوْد الجَمَّال، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ المُقْرِئ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ أَيُّوْبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عَمْرٍو البَزَّار، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيْمُ بنُ يُوْسُفَ الصَّيْرَفِيّ الكُوْفِيّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّيْمِيّ، حَدَّثَنَا سَيْف بن وَهْب، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ:قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَبُو القَاسِمِ، وَالمَاحِي، وَالحَاشِرُ).(1)
ويعتبر هذا المسند من المسانيد النادرة ، حيث قام الإمام البزار بترتيبه على على المسانيد ، وبدأ بالعشرة المبشرين بالجنة ، وقد علق على أكثر الأحاديث وعللها بشكل رائع وممتاز، وعدد أحاديثه (9018) حديثاً مسنداً .
مثال :( 2) - وَحَدَّثَنَا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبَانَ الْقُرَشِيُّ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ اسْتَنْشَدَ طَلْحَةَ ، وَالزُّبَيْرَ ، وَعَلِيًّا ، وَالْعَبَّاسَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ : هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : لاَ نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ.
وَقَدْ تَابَعَ عَمْرًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ غَيْرُهُ فَاجْتَزَأْنَا بِعَمْرٍو ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، إِذْ كَانَ ثِقَةً
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ عُمَرَ ، وَلَمْ يَذْكُرَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ .
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ حَافِظٌ ، وَقَدْ زَادَ عَلَى مَنْ سَمَّيْنَا ، وَزِيَادَةُ الْحَافِظِ مَقْبُولَةٌ إِذَا زَادَهَا عَلَى حَافِظٍ فَإِنَّمَا زَادَهَا بِفَضْلِ حِفْظِهِ .
وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَائِشَةُ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَغَيْرُهُمَا "
فنلاحظُ تعليقاً قيما جدا على هذا الحديث الشريف ، وقد سميَ (المسند المعلل)
ولكن في بعض تعليلاته نظر .
وقال العِرَاقيُّ(2): يقال: إنَّ أوَّل مسند صُنِّفَ «مسند الطَّيالسي»
الطَّيَالِسِيُّ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ بنِ الجَارُوْدِ (م، 4) الحَافِظُ الكَبِيْرُ، صَاحِبُ (المُسْنَدِ)، أَبُو دَاوُدَ الفَارِسِيُّ، ثُمَّ الأَسَدِيُّ، ثُمَّ الزُّبَيْرِيُّ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ الحَافِظُ، البَصْرِيُّ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: أَبُو دَاوُدَ هُوَ أَصْدَقُ النَّاسِ.
قُلْتُ: كَانَا رَفِيْقَيْنِ فِي الطَّلَبِ بِالبَصْرَةِ، فَاسْتَعْمَلاَ البَلاَذُرَ، فَجُذِمَ أَبُو دَاوُدَ، وَبَرِصَ الآخَرُ.
قَالَ عَامِرُ بنُ إِبْرَاهِيْمَ الأَصْبَهَانِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُوْلُ: كَتَبْتُ عَنْ أَلفِ شَيْخٍ.
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ: أَنَّهُ كَانَ يَسرُدُ مِنْ حِفْظِهِ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ حَدِيْثٍ.
قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ: كَانَ شُعْبَةُ يُحَدِّثُ، فَإِذَا قَامَ، قَعَدَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَملَى مِنْ حِفْظِهِ مَا مَرَّ فِي المَجْلِسِ.
قَالَ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ النَّضْرِ: سَمِعْتُ ابْنَ المَدِيْنِيِّ يَقُوْلُ:مَا رَأَيْتُ أَحْفَظَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ.
وَقَالَ عُمَرُ بنُ شَبَّةَ: كَتَبُوا عَنْ أَبِي دَاوُدَ - بِأَصْبَهَانَ - أَرْبَعِيْنَ أَلْفَ حَدِيْثٍ، وَلَيْسَ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيْهِ مُحَمَّدُ بنُ المِنْهَالِ الضَّرِيْرُ، وَقَالَ: كُنْتُ أَتَّهِمُهُ، قَالَ لِي: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَوْنٍ، ثُمَّ سَأَلْتُه بَعْدُ: أَسَمِعْتَ مِنِ ابْنِ عَوْنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، نَحْوَ عِشْرِيْنَ حَدِيْثاً.
قُلْتُ: الجَمْعُ بَيْنَ القَوْلَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْهُ شَيْئاً مَا ضَبَطَهُ، وَلاَ حَفِظَهُ، فَصَدَقَ أَنْ يَقُوْلَ: مَا سَمِعْتُ مِنْهُ، وَإِلاَّ، فَأَبُو دَاوُدَ أَمِيْنٌ، صَادِقٌ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيْثَ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتَّكِلُ عَلَى حِفْظِهِ، وَلاَ يَرْوِي مِنْ أَصْلِهِ، فَالوَرَعُ أَنَّ المُحَدِّثَ لاَ يُحَدِّثُ إِلاَّ مِنْ كِتَابٍ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ وَيُوْصِي بِهِ إِمَامُ المُحَدِّثِيْنَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَلَمْ يُخَرِّجِ البُخَارِيُّ لأَبِي دَاوُدَ شَيْئاً؛ لأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عِدَّةٍ مِنْ أَقْرَانِهِ، فَمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ.
قَالَ الفَلاَّسُ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُوْلُ: أَسرُدُ ثَلاَثِيْنَ أَلْفَ حَدِيْثٍ - وَلاَ فَخْرَ - وَفِي صَدْرِي اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً لِعُثْمَانَ البُرِّيِّ، مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، فَخَرَجتُ إِلَى أَصْبَهَانَ، فَبَثَثْتُهَا فِيْهِم.
قَالَ حَجَّاجُ بنُ يُوْسُفَ بنِ قُتَيْبَةَ: سُئِلَ النُّعْمَانُ بنُ عَبْدِ السَّلاَمِ - وَأَنَا حَاضِرٌ - عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، فَقَالَ: ثِقَةٌ، مَأْمُوْنٌ.وَقَالَ خَلِيْفَةُ: مَاتَ فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمائَتَيْنِ(3).
قيل: والَّذي حمل قائل هذا القول عليه, تقدُّم عصر أبي داود على أعْصَار من صنَّف المَسَانيد, فظنَّ أنَّه هو الَّذي صنَّفه وليس كذلك, فإنَّما هو من جمع بعض الحُفَّاظ الخُراسانيين, جمعَ فيه ما رواه يُونس بن حبيب خاصة عنه, وشذَّ عنهُ كثير منه, ويُشْبه هذا «مُسند» الشَّافعي(4), فإنَّه ليس تصنيفه, وإنَّما لقطه بعض الحُفَّاظ النيسابوريين من مسمُوع الأصم من «الأم» وسمعهُ عليه, فإنَّه كان سمع الأم أو غالبها على الرَّبيع عن الشافعي, وعَمَّر فكان آخر من روى عنه, وحصل له صَمَم, فكان في السَّماع عليه مشقَّة.(5)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سير أعلام النبلاء (13/556-558)(281 ) وقارن بلسان الميزان [ج 1 - ص 237 ](750)
(2) - التبصرة 1/106
(3) -.سير أعلام النبلاء (9/380-385)(123 )
(4) - الشافعي: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب الهاشمي المكي المصري روى عن مالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وسفيان بن عيينة ومسلم بن خالد ومحمد بن علي بن شافع وغيرهم مات سنة أربع ومائتين. روى عنه ابنه أبو عثمان محمد والإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور وأبو عبيد القاسم بن سلام والمزني والربيع بن سليمان وغيرهم قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنن وينفي عن رسول الله الكذب فنظرنا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي. (طبقات الحفاظ 1/158).وجرح الرواة وتعديلهم - (ج 14 / ص 26)
(5) - وعدد أحاديث مسند الإمام الشافعي حسب موقع جامع الحديث وهو أشملها (http://www.alsunnah.com )حوالي (1457 ) حديثا ، وهي تدور بين الصحيح والحسن والضعيف ، وفيه بعض الواهي ، فقد أكثر عن شيخه إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي وهو متروك ، ولكن غالب رواياته متابع عليها كما في معرفة السنن والآثار للبيهقي .(1/60)
الصحيحُ لغيره(1)
تعريفُه:
هو الحسن لذاته إذا رُويَ من طريق آخر مِثْلُهُ أو أقوى منه . وسُميَ صحيحاً لغيره لأن الصحة لم تأت من ذات السند ، وإنما جاءت من انضمام غيره له .
قال السيوطي رحمه الله(2):
" إذا كان راوي الحديث متأخرًا عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورا بالصِّدق والستر ، وقد علم أنَّ من هذا حاله فحديثه حسن ،فرُوي حديثه من غير وجه، ولو وجهًا واحدًا كما يُشير إليه تعليل ابن الصَّلاح، قوي بالمُتابعة, وزال ما كُنَّا نخشاهُ عليه من جهة سوء الحفظ, وانجبر بها ذلك النَّقص اليسيرُ وارتفع حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصَّحيح.
" مثاله كما في سنن الترمذى (22 ) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ ».
قَالَ أَبُو عِيسَى وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَحَدِيثُ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - كِلاَهُمَا عِنْدِى صَحِيحٌ لأَنَّهُ قَدْ رُوِىَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْحَدِيثُ. وَحَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ إِنَّمَا صَحَّ لأَنَّهُ قَدْ رُوِىَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَزَعَمَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَصَحُّ " .
فمحمَّد بن عَمرو بن عَلْقمة(3)من المَشْهورين بالصِّدق والصِّيانة, لكنَّهُ لم يكن من أهل الإتقان, حتَّى ضعَّفه بعضهم من جهة سُوء حفظه, ووثَّقه بعضهم لِصْدقه وجَلالتهِ, فحديثهُ من هذه الجهة حسن, فلمَّا انضمَّ إلى ذلك كونه رُويَ من أوجه أُخر حكمنا بصحَّته, والمتابعة في هذا الحديث ليست لمحمَّد عن أبي سلمة, بل لأبي سلمة عن أبي هُريرة, فقد رواه عنه أيضًا الأعرج وسعيد المقبُري وأبوه وغيرهم.
ومثَّل غير ابن الصَّلاح بحديث كما في صحيح البخارى(2855 ) حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ . -, فإنَّ أُبيًّا هذا ضعفه لِسُوء حِفْظه أحمد وابن معين والنَّسائي, وحديثه حسن, لكن تابَعهُ عليه أخُوه عبد المُهيمن, فارْتقَى إلى دَرْجة الصحة.
وأورده الألبانى فى ضعيف الجامع ( 4484 ) بحجة أن فيه أبي بن عباس بن سهل وهو ضعيف كما فى التقريب ( 281 )
قلت : وتابعه الشيخ ربيع المدخلي فقال : "في الحكم لهذا الحديث بالصحة - ومداره على أبي بن العباس وأخيه عبد المهيمن وهما ضعيفان - نظر وهو خلاف المقرر في علوم الحديث؛ لأن ما هذا حاله يحكم له بالحسن إن كان هناك تسامح لأن عبد المهيمن في هذا الحديث شديد الضعف حيث قال الذهبي: "إنه واه"، وعلى هذا فمن يتحرى الدقة لا يعتبر بمثله ولا يعضد به غيره."(4)
أقول:
وهو مختلف فيه، قال ابن عدي عنه(5):" يكتب حديثه وهو فرد المتون والأسانيد"
وفي الكاشف (229 ) أبي بن عباس بن سهل عن أبيه وأبي بكر بن حزم وعنه معن وابن أبي فديك وعدة ضعفوه قال أحمد منكر الحديث وقال يحيى بن معين ضعيف، وقد احتج البخاري به خ ت ق
قلت : إذا كان منكر الحديث بالمعنى الاصطلاحي فلم أخرج من طريقه الإمام أحمد حديثاً مسند أحمد (22315)!!!!
ففي التاريخ الكبير[ ج 2 - ص 40 ](1617 ) أبي بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري المدني عن أبيه سمع منه زيد بن الحباب
وفي الجرح والتعديل[ ج 2 - ص 290 ](1060 ) أبى بن عباس بن سهل بن سعد مدني روى عن أبيه عباس بن سهل وعن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم روى عنه معن بن عيسى وزيد بن حباب العكلي وعتيق بن يعقوب الزبيري يعد في المدينيين ولجده صحبة سمعت أبي يقول ذلك.
قلت : ويكفي أبيا أن إمامي الجرح والتعديل البخاري وأبي حاتم الرازي قد سكتا عليه .
وفي تقريب التهذيب (281 ) أبي بن العباس بن سهل بن سعد الأنصاري الساعدي فيه ضعف من السابعة ما له في البخاري غير حديث واحد خ ت ق(6)
قلت : فأبي مختلف فيه ، فهو حسن الحديث ما لم ينكر عليه ذلك الحديث بعينه
وله متابعة عند اليهقي في السنن الكبرى 10/ 25 فيها ضعف
فالصواب أنه حديث حسن على الأقل .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 34) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 9) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 245) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 78) وندوة علوم الحديث علوم وآفاق - (ج 11 / ص 18) ومحاضرات في علوم الحديث - (ج 1 / ص 3و7) وتوجيه النظر إلى أصول الأثر - (ج 2 / ص 18) وتوضيح الأفكار - (ج 2 / ص 120) وقفو الأثر - (ج 1 / ص 50)
(2) - التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث - (ج 1 / ص 2) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 117) والنكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 71) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 114)
(3) - وفي تقريب التهذيب[ ج 1 - ص 499 ] (6188 ) محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني صدوق له أوهام من السادسة مات سنة خمس وأربعين على الصحيح ع
(4) - النكت على ابن الصلاح - (ج 1 / ص 418)
(5) - الكامل 1/ 421
(6) - وانظر مقدمة الفتح - (ج 1 / ص 386)(1/61)
الحَسَنُ لِغَيْره(1)
تعريفُه:(2)
هو الضعيف ضعفاً يسيراً إذا تعددت طرقه، ولم يكن سببُ ضعفه فِسْقَ الراوي أو كَذِبَهُ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله(3):
" ومَتى تُوبِعَ السَّيِّءُ الحِفْظِ بِمُعْتَبَرٍ(4)؛ (( أي )) كأَنْ يكونَ فوقَهُ أَو مِثْلَه لا دُونَه(5)، وكَذا المُخْتَلِطُ الَّذي لم يتَمَيَّزْ و (( كذا )) المَسْتورُ والإِسنادُ المُرْسَلُ وكذا المُدَلَّسُ إِذا لم يُعْرَفِ المحذوفُ منهُ صارَ حديثُهُم حَسناً(6)؛ لا لذاتِهِ ، بل وَصْفُهُ بذلك باعتبارِ المَجْموعِ من المتابِعِ والمتَابَعِ ؛ لأنَّ [ معَ ] كلِّ واحدٍ منهُم احْتِمالَ كونِ روايتِه (( معه )) صواباً أَو غيرَ صوابٍ على حدٍّ سواءٍ .
فإِذا جاءَتْ مِنَ المُعْتَبَرينَ روايةٌ مُوافِقةٌ لأحدِهِم ؛ رُجِّحَ أَحدُ الجانِبينِ مِن الاحْتِمالينِ المَذكورَيْنِ ، ودلَّ ذلك على أَنَّ الحَديثَ مَحْفوظٌ ، فارْتَقى مِن درَجَةِ التوقُّفِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ ، [ واللهُ أَعلمُ ]
ومعَ ارْتِقائِهِ إِلى دَرَجَةِ القَبولِ ؛ فهُو مُنْحَطٌّ عنْ رُتْبَةِ الحَسَنِ لذاتِه ، ورُبَّما توقَّفَ بعضُهم عنْ إِطلاقِ اسمِ الحَسَنِ عليهِ ." اهـ
أمثلة :
أخرج ابن حبان في صحيحه (5601) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ لِلنِّسَاءِ وَسَطُ الطَّرِيقِ.
فهذا الحديث بهذا الإسناد ليس بالقوي ، اختلَّ فيه من شروط القبول شرط الضبطِ في أحد رواته ، وهو مسلم بن خالد ، وهو المعروف بالزنجي ، كان صدوقا كثير الأوهام كما في التقريب .
لم نجد بعد النظر في الإسناد علة سوى ذلك ، فقلنا : ما نخشاه من سوء حفظ مسلم فجائز أن يندفع بالوقوف على الحديث لفظاً أو معنى من غير طريقه .
فوجدنا الحديث أخرجه الدولابي (240 ) والبيهقي في شعب الإيمان (7575 ) من طريق محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان الثوري ، عن ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن الحكم ، عن أبي عمرو بن حماس ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس للنساء سراة الطريق " .
والسراة فسرها بعض الرواة : وسط الطريق .
وهذه طريق ثابته إلى ابن أبي ذئب .
لكن أدخل مرة بينه وبين الحارث : ابن شهاب الزهري ، كما أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد فيه لين ( 3136 ) ، ولو صحت الزيادة فالزهري هو الحافظ الإمام ، والحارث بن الحكم هو الضمري يعتبر بحديثه ، صالح للاعتبار ، لم يجرح ، ووثقه ابن حبان في الثقات ( 7216 ) ، وإن كان المحفوظ رواية ابن أبي ذئب عنه لا الزهري ، فابن أبي ذئب لم يكن يروي إلا عن ثقة سوى رجل واحد ، ليس الحارث بن الحكم به ، وابن حماس غير مشهور ، ففيه لين بهذا الاعتبار ، ثم إن شرط الاتصال إلى منتهى الإسناد قد تخلف ، فهذا مرسل ، ولم يصب من جعل لابن حماس صحبة . وروي متصلا ولا يصح .
فالعبرة برواية ابن حماس المرسلة ، فهي العاضد الذي يدفع عن رواية مسلم بن خالد أثر سوء حفظه ، وبها يكون حديث أبي هريرة حسناً .(7)
مثال آخر :
كالحديث الوارد عَنْ حَرْبِ بْنِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ وَحْشِيٍّ ؛أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ ، قَالَ : فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ.ق
- وفي رواية : أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّا نَأْكُلُ وَمَا نَشْبَعُ ، قَالَ : فَلَعَلَّكُمْ تَأْكُلُونَ مُفَرَّقِينَ ، اجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ ، وَاذْكُروا اسْمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ. حم
- وفي رواية : أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ ؟ قَالَ : فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ ، وَاذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ. د
أخرجه أحمد 3/501(16176) قال : حدَّثنا يَزِيد بن عَبْد رَبِّه. و"أبو داود"3764 قال : حدَّثنا إبراهيم بن مُوسَى الرَّازِي. و"ابن ماجة"3286 قال : حدَّثنا هِشَام بن عَمَّار ، وداود بن رُشَيْد ، ومُحَمد ابن الصَّبَّاح.
خمستهم (يَزِيد ، وإبراهيم ، وهِشَام ، وداود ، وابن الصَّبَّاح) قالوا : حدَّثنا الوَلِيد بن مُسْلم، قال : حدَّثنا وَحْشِي بن حَرْب بن وَحْشِي بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جَدِّه وَحْشِي ، فذكره(8).
قلت : وعلة هذا الحديث أنه من طريق وَحْشِي بن حَرْب بن وَحْشِي وهو وأبوه فيهما جهالة .
وقصارى أمر الحديث ما قاله الحافظ العراقي أن إسناده حسن (لغيره) ، وقال الحافظ ابن حجر : في صحته نظر ، فإن وحشي الأعلى هو قاتل حمزة ، وثبت أنه لما أسلم قال له المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : غيِّب وجهك عني ، فيبعد سماعه منه بعد ذلك إلا أن يكون أرسل وقول ابن عساكر : إن صحابي هذا الحديث غير قاتل حمزة يردُّه ورود التصريح بأنه قاتله في عدة طرق للطبراني وغيره " .
أقولُ :
وبالجملة فالإسناد ضعيف لما ذكرناه ، و أما ما نظر فيه الحافظ ابن حجر فلا
طائل تحته ، فإن غاية ما فيه أن وحشيا أرسله ومرسل الصحابي حجةٌ كما تقرر في المصطلح، على أنه لا تلازم عندي بين قوله - صلى الله عليه وسلم - : " غيب وجهك عني " وبين عدم سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - . و الله أعلم .
لكن الحديث حسن لغيره لأن له شواهد في معناه فانظر : " إن الله يحب كثرة الأيدي في الطعام " . و" إن أحب الطعام .... " و" كلوا جميعا " .
ولذلك أورده الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب للمنري (3228) بصيغة الجزم . والله أعلم .(9)
مثال آخر :
كما في مسند أحمد (66) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ كَانَ رُبَّمَا سَقَطَ الْخِطَامُ مِنْ يَدِ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَ فَيَضْرِبُ بِذِرَاعِ نَاقَتِهِ فَيُنِيخُهَا فَيَأْخُذُهُ. قَالَ فَقَالُوا لَهُ أَفَلاَ أَمَرْتَنَا نُنَاوِلُكَهُ. فَقَالَ إِنَّ حَبِيبِى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنِى أَنْ لاَ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً.
قلت : وهذا إسناد منقطع ابن أبي مليكة لم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ فيه كلام
ولكن للحديث شواهد بنحوه ولا سيما عن أبي ذر رضي الله عنه كما في المعجم الصغير للطبراني (758) والشعب (7321 ) وفي مسلم مطولا (2450)عن عَوْف بْن مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ ،فيحسن الحديث لأجل ذلك ، وحسنه الشيخ شعيب لغيره في تعليقه على المسند (65)
مثال آخر :
كما في مسند أحمد(82) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَمَرَنِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُولَ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِى مِنَ اللَّيْلِ « اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكُهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِى سُوءاً أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ ».
قلت : هذا الحديث فيه علتان الأولى ليث بن أبي سليم صدوق اختلط ، والثاني الانقطاع بين مجاهد بن جبر وبين أبي بكر رضي الله عنه فهو ضعيف بهذا الإسناد
ولكن الحديث ورد من طريق آخر في مسند أحمد (7028) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الأَلْهَانِىِّ عَنْ أَبِى رَاشِدٍ الْحُبْرَانِىِّ قَالَ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَىَّ صَحِيفَةً فَقَالَ هَذَا مَا كَتَبَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِى مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا أَبَا بَكْرٍ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَىْءٍ وَمَلِيكَهُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِى سُوءاً أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ ».
وهذا الطريق قوي موصول وليس فيه علة ، فيشهد للحديث الأول ، فيصبح حسناً لغيره على الأقلِّ ،وحسنه الشيخ شعيب لغيره (81 )
مثال آخر :
كما في مسند أحمد (99) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ - يَعْنِى الأَحْمَرَ - عَنْ مُطَرِّفٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حَذَفَ رَجُلٌ ابْناً لَهُ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ لَوْلاَ أَنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ يُقَادُ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ ». لَقَتَلْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَبْرَحَ.
قلت : هذا الحديث رجاله ثقات ولكن فيه انقطاعاً ، مجاهد لم يسمع من عمر ، فهو حديث ضعيف
ولكنه جاء من طريق آخر موصول كما في مسند أحمد (149) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يُقَادُ وَالِدٌ مِنْ وَلَدٍ ». وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَرِثُ الْمَالَ مَنْ يَرِثُ الْوَلاَءَ ».
وهو في السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 72)(16566) من طريقه الْحَجَّاجِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وفيه القصة مفصلة
والحجاج فيه كلام ، وروي عن ابن عباس بنحوه مرفوعاً المعجم الكبير للطبراني - (ج 9 / ص 220)(10690)
فهذا الحديث بطوله حسن لغيره ، ونص متنه صحيح لغيره
مثال آخر :
كما في مسند أحمد (134) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِى عَمَّارٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى فِى يَدِ رَجُلٍ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ « أَلْقِ ذَا ». فَأَلْقَاهُ فَتَخَتَّمَ بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ « ذَا شَرٌّ مِنْهُ ». فَتَخَتَّمَ بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ فَسَكَتَ عَنْهُ.
قلت : وفيه انقطاع عمار بن أبي عمار لم يدرك عمر رضي الله عنه ، فالحديث ضعيف الإسناد
لذا قال في مجمع الزوائد عقبه ( 8720 ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ ، إِلَّا أَنَّ عَمَّارَ بْنَ أَبِي عَمَّارٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ .
قلت :
وقد ورد نحوه من طريقين كما في مسند أحمد (6674)حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَأَلْقَاهُ وَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ « هَذَا شَرٌّ هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ ». فَأَلْقَاهُ فَاتَّخَذَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنْهُ.
وفيه (7165) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ عَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِى أَنَّهُ لَبِسَ خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّهُ كَرِهَهُ فَطَرَحَهُ ثُمَّ لَبِسَ خَاتَماً مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ « هَذَا أَخْبَثُ وَأَخْبَثُ ». فَطَرَحَهُ ثُمَّ لَبِسَ خَاتَماً مِنْ وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنْهُ.
وكلاهما قويٌّ ،فالحديث حسنٌ لغيره على الأقلِّ ، والله أعلم .
مثال آخر :
كما في مسند أحمد (2744) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِى أَبِى حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِىِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِى نَضْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ إِلاَّ لَهُ دَعْوَةٌ تَنَجَّزَهَا فِى الدُّنْيَا وَإِنِّى اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلاَ فَخْرَ وَبِيَدِى لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلاَ فَخْرَ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِى - قَالَ - وَيَطُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِى الْبَشَرِ فَيَشْفَعَ لَنَا إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِى خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَدْ أُخْرِجْتُ مِنَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِى وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحاً رَأْسَ النَّبِيِّينَ. فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ يَا نُوحُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَدْ دَعَوْتُ دَعْوَةً غَرَّقَتْ أَهْلَ الأَرْضِ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. قَالَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ يَا إِبْرَاهِيمُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَدْ كَذَبْتُ فِى الإِسْلاَمِ ثَلاَثَ كِذْبَاتٍ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنْ حَاوَلَ بِهِنَّ إِلاَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ قَوْلُهُ (إِنِّى سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَقَوْلُهُ لاِمْرَأَتِهِ إِنَّهَا أُخْتِى - وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ الَّذِى اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلاَمِهِ. فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَكَلَّمَكَ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا . فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَتَلْتُ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ يَا عِيسَى أَنْتَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا. فَيَقُولُ إِنِّى لَسْتُ هُنَاكُمْ إِنِّى قَدِ اتُّخِذْتُ إِلَهاً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَإِنَّهُ لاَ يُهِمُّنِى الْيَوْمَ إِلاَّ نَفْسِى - ثُمَّ قَالَ - أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِى وِعَاءٍ قَدْ خُتِمَ عَلَيْهِ أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِى الْوَعَاءِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ فَيَقُولُونَ لاَ. فَيَقُولُ إِنَّ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - خَاتَمُ النَّبِيِّينَ قَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْتُونِى فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا فَأَقُولُ نَعَمْ أَنَا لَهَا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ فَنَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ فَتُفْرِجُ لَنَا الأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا فَنَمْضِى غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ وَتَقُولُ الأُمَمُ كَادَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا. قَالَ ثُمَّ آتِى بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ بَابِ الْجَنَّةِ فَأَقْرَعُ الْبَابَ فَيُقَالُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَيُفْتَحُ لِى فَأَرَى رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أو سَرِيرِهِ فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِداً وَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِى وَلاَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِى فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ - قَالَ - فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ لِى أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا. فَأُخْرِجُهُمْ ثُمَّ أَعُودُ فَأَخِرُّ سَاجِداً وَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِى وَلاَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِى فَيُقَالُ لِى ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِى فَأَقُولُ أَىْ رَبِّ أُمَّتِى أُمَّتِى. فَيُقَالُ أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ كَذَا وَكَذَا. فَأُخْرِجُهُمْ ». قَالَ وَقَالَ فِى الثَّالِثَةِ مِثْلَ هَذَا أَيْضا ً" .
قلت : وفي سنده علي بن زيد بن جدعان فيه كلام
قال ابن عدي في نهاية ترجمته :" ولعلي بن زيد غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة ولم أر أحدا من البصريين وغيرهم امتنعوا من الرواية عنه وكان يغالي في التشيع في جملة أهل البصرة ومع ضعفه يكتب حديثه " الكامل في الضعفاء[ ج5 - ص 200 ]
__________
(1) - انظر قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 66) وفتح المغيث بشرح ألفية الحديث - (ج 1 / ص 66) وتدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - (ج 1 / ص 105) وتيسير مصطلح الحديث - (ج 1 / ص 9) وشرح شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر - (ج 1 / ص 246) والشذا الفياح من علوم ابن الصلاح - (ج 1 / ص 127) ونزهة النظر - (ج 1 / ص 129)
(2) - قواعد التحديث ج:1 ص:108
(3) - نزهة النظر - (ج 1 / ص 129)
(4) - جَبْرُ الرواية بتعدد الطرق:شَرْطها في المتابَعِ، بالفتح، أن يكون ضعفه محتمَلاً، بحيث يمكن جبره بتعدد الطرق؛ وذلك إذا لم يكن الطعن منصباً على العدالة، كسوء الحفظ، والاختلاط الذي لم يتميز، والمستور، والمرسَل، والمدلَّس.
وشَرْطها في المتابِعِ، بكسر الباء، أن يكون المتابِعُ معتَبَراً في المتابعة، أو معتَبَراً به في هذا الباب، وذلك بأن يكون -في درجة الثقة- أعلى من المتابَع، أو مثلَهُ، لا دُونَهُ.
(5) - إذا توبع بمعتبر مثله أو أحسن منه صار حديثه حسناً فإذا روى ابن لهيعة حديثاً وروى شريك القاضي أو غيره حديثاً مثله أو أحسن منه يكون من باب الحسن إذا كان المتابع مثله أو أحسن منه . - التعليقات البازية
(6) - فيكون حديثهم من باب الحسن لغيره لا لذاته .
(7) انظر تحرير علوم الحديث لعبدالله الجديع - (ج 3 / ص 121)
(8) - المسند الجامع - (ج 15 / ص 1073)(690 )( 12098)
(9) - انظر السلسلة الصحيحة 2 / 272(664 )(1/62)
وقد أورده الشيخ ناصر رحمه الله في الضعيفة ( 1579) وقال عقبه :ضعيف ، وقد أشار إلى رواية قواها بعض أهل العلم لكنه لم يطلع عليها ، وهذه هي في تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي ( 234) حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ ، ثنا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ إِلَّا لَهُ دَعْوَةٌ يَتَنَجَّزُهَا فِي الدُّنْيَا ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي ، وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ ، وَآدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي ، فَيَطُولُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ فَيَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا ، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ : يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، إِنِّي أُخْرِجْتُ مِنَ الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِي ، وَإِنَّهُ لَا يُهِمُّنِي إِلَّا نَفْسِي ، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا رَأْسَ النَّبِيِّينَ ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ : يَا نُوحُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، إِنِّي دَعَوْتُ دَعْوَةً أَغْرَقَتْ أَهْلَ الْأَرْضِ ، وَإِنِّي لَا يُهِمُّنِي إِلَّا نَفْسِي ، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ : اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، إِنِّي كَذَبْتُ فِي الْإِسْلَامِ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ ، وَإِنَّهُ لَا يُهِمُّنِي الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَإِنْ حَاوَلَ بِهِنَّ إِلَّا عَنْ دِينِ اللَّهِ : قَوْلُهُ : إِنِّي سَقِيمٌ ، وَقَوْلُهُ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَوْلُهُ لَامْرَأَتِهِ : إِنَّهَا أُخْتِي ، وَأَنَّهُ لَا يُهِمُّنِي الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ : يَا مُوسَى أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكَ ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ، وَإِنَّهُ لَا يُهِمُّنِي الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رَوْحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ ، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ : يَا عِيسَى ، أَنْتَ رَوْحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَيَقُولُ : إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ ، إِنِّي اتَّخَذْتُ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَإِنِّي لَا يُهِمُّنِي الْيَوْمَ إِلَّا نَفْسِي ، وَلَكِنْ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ مَتَاعٌ فِي وِعَاءٍ مَخْتُومٍ عَلَيْهِ ، أَكَانَ يُقْدَرُ عَلَى مَا فِي الْوِعَاءِ حَتَّى يُفَضَّ الْخَاتَمُ ؟ فَيَقُولُونَ : لَا ، فَيَقُولُ : إِنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ، وَقَدْ حَضَرَ الْيَوْمَ ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا ، فَأَقُولُ : نَعَمْ ، أَنَا لَهَا ، حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَصْدَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ نَادَى مُنَادٍ : أَيْنَ أَحْمَدُ وَأُمَّتُهُ ، فَنَحْنُ الْآخِرُونَ وَالْأَوَّلُونَ ، آخِرُ الْأُمَمِ وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ ، فَيُفْرَجُ لَنَا الْأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا ، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ ، فَتَقُولُ الْأُمَمُ : كَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ كُلَّهَا ، فَآتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَأَقْرَعُ الْبَابَ فَيُقَالُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ ، فَيُفْتَحُ لِي ، فَأَرَى رَبِّي وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ أَوْ كُرْسِيِّهِ فَأَخِرُّ سَاجِدًا ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي ، فَيُقَالُ لِي : " ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ " ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ : أَيْ رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : " أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثَالُ شَعِيرَةٍ " ، فَأُخْرِجُهُمْ ثُمَّ أَعُودُ فَأَخِرُّ سَاجِدًا ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، وَلَنْ يَحْمَدَهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي ، فَيُقَالُ : " ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ " ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ : " أَيْ رَبِّ ، أُمَّتِي أُمَّتِي " ، فَيُقَالُ : " أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثَالُ بُرَّةٍ " ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَخِرُّ سَاجِدًا ، فَأَحْمَدُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَيُقَالُ : " ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ " ، فَأَقُولُ : " أَيْ رَبِّ أُمَّتِي " ، فَيُقَالُ : أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ "
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ الْبَغْدَادِيُّ ، ثنا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ ، ثنا حَمَّادٌ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى - صلى الله عليه وسلم - بِمِثْلِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : " أَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ كَذَا وَكَذَا " ، وَلَمْ يَحْفَظْ حَمَّادٌ ، وَفِي الثَّانِيَةِ كَذَا وَكَذَا ، وَلَمْ يَحْفَظْ حَمَّادٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجُنَيْدِ ، ثنا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ ، ثنا حَمَّادٌ ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ ، عَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ثَابِتٍ "(1)
قلت : فالحديثُ صحيح لغيره ، وحديث علي بن زيد حسن لغيره على الأقل ، وقد أخطأ من ضعَّف هذا الحديث .
مرتبتُه:
الحسن لغيره أدنى مرتبة من الحسن لذاته .
وينبني على ذلك أنه لو تعارض الحسن لذاته مع الحسن لغيرهِ قُدِّمَ الحسنُ لذاته .
حكمُه:
هو من المقبول الذي يُحْتَجُّ به عند جمهور السلف والخلف .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - الغر : جمع الأغر من الغرة وبياض الوجه المحجلون : الذين يسطع النور في أيديهم وأرجلهم من أثر الوضوء كأنه تحجيل فرس(1/63)
مسائلُ هامَّةٌ حول خبرِ الآحادِ
أولا
حول قبول الخبر وردِّهِ
شَرْطُ الْفِعْلِ بِخَبَرِ الْآحَادِ(1)
"مِنْهَا : مَا هُوَ فِي الْمُخْبِرِ ، وَهُوَ الرَّاوِي ، وَمِنْهَا : مَا هُوَ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ .
وَمِنْهَا : مَا هُوَ فِي الْخَبَرِ نَفْسِهِ وَهُوَ اللَّفْظُ .
[ الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الْمُخْبِرِ ] أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ شُرُوطٌ :
الْأَوَّلُ : التَّكْلِيفُ ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ لَا ؛ لِعَدَمِ الْوَازِعِ عَنْ الْكَذِبِ ، وَاعْتَمَدَ الْقَاضِي فِي رَدِّ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ الْإِجْمَاعَ ، وَقَالَ الْمُعَلِّقُ عَنْهُ : وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ يَحْكِي وَجْهًا فِي صِحَّةِ رِوَايَةِ الصَّبِيِّ ، فَلَعَلَّهُ أَسْقَطَهُ .ا هـ .
وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ ، حَكَاهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ مُعْتَرِضًا بِهِ عَلَى الْقَاضِي ، بَلْ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ فِي إخْبَارِهِ عَنْ الْقُبْلَةِ ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ .
وَلِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ ، بَلْ قَالَ الْفُورَانِيُّ فِي الْإِبَانَةِ " فِي كِتَابِ الصِّيَامِ : الْأَصَحُّ قَبُولُ رِوَايَتِهِ ، وَحَكَى إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ خَبَرًا فِي مُسْتَنَدِ رَدِّ أَحَادِيثِ الصَّبِيِّ ، فَقِيلَ هُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ ؛ لِأَنَّ مُلَابَسَةَ الْفِسْقِ تُهَوِّنُ عَلَيْهِ تَوَقِّي الْكَذِبِ ، وَالصَّبِيُّ أَوْلَى بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يَخْلُو عَنْ خِيفَةٍ يَسْتَوْحِشُهَا ، وَالصَّبِيُّ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ آثِمٍ ، وَقِيلَ : بَلْ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ الْإِجْمَاعِ .
قَالَ : وَهَذَا أَسَدُّ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُرَاجِعُوا صَبِيًّا قَطُّ ، وَلَمْ يَسْتَخْبِرُوهُ ، وَقَدْ رَاجَعُوا النِّسَاءَ وَرَاءَ الْخُدُورِ ، وَكَانَ فِي الصِّبْيَانِ مَنْ يَلِجُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَحْوَالٍ لَهُ بِحَيْثُ لَوْ نَقَلَهَا لَمْ يَخْلُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ مِنْ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، ثُمَّ لَمْ يُرَاجَعُوا قَطُّ .ا هـ .
وَجَعَلَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي الْمُرَاهِقِ الْمُتَثَبِّتِ فِي كَلَامِهِ ، قَالَ : أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا ، كَالْبَالِغِ الْفَاسِقِ ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ " قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْمُرَاهِقِ وَمَنْ دُونَهُ وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ اخْتَلَفُوا ، هَلْ ذَلِكَ مَظْنُونٌ أَوْ مَقْطُوعٌ بِهِ ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَظْنُونٌ .
هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى فِي حَالِ صِبَاهُ ، فَإِنْ تَحَمَّلَ فِي صِبَاهُ ، ثُمَّ أَدَّاهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَقَوْلَانِ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " وَ مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " ، وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْبَلُ ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُعَاذِ بْنِ بَشِيرٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَبَعْدَهُ ، وَقَدْ رَوَى مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدِيثَ الْمَجَّةِ الَّتِي مَجَّهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ(2)، وَاعْتَمَدَ الْعُلَمَاءُ رِوَايَتَهُ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، وَجَعَلُوهُ أَصْلًا فِي سَمَاعِ الصَّغِيرِ ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى إحْضَارِ الصِّبْيَانِ مَجَالِسَ الرِّوَايَاتِ .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَلَوْ قِيلَ : هَذَا لِقَبُولِ الْأُمَّةِ رِوَايَاتِ مَنْ سَبَقَ كَانَ عِنْدِي أَوْلَى ؛ لِتَوَقُّفِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَصَاغِرَ رَوَوْا لِلْأَكَابِرِ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ ، فَقَبِلُوهُ ، وَثُبُوتُ مِثْلِ هَذَا عَنْ كُلِّ الصَّحَابَةِ قَدْ يَتَعَذَّرُ ، وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ بَعْدَهُمْ قَدْ قَبِلُوا رِوَايَةَ هَؤُلَاءِ .
قَالَ : وَالتَّمْثِيلُ بِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ ، وَفِي مُطَابَقَتِهِ لِحَالِ بَعْضِهِمْ نَظَرٌ ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ : وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ تَحَمُّلُ الرِّوَايَةِ ، ثُمَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ مُمَيِّزًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ ثُمَّ بَلَغَ ، لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ ، وَهَذَا إجْمَاعٌ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ سَمِعَ الْمَجْنُونُ ، ثُمَّ أَفَاقَ لَمْ تُسْمَعْ رِوَايَتُهُ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ إلَّا مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ ، وَمَا سَمِعَهُ الصَّبِيُّ فِي حَالِ صِبَاهُ لَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ ، وَكَذَا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ ، ثُمَّ رَوَى وَهُوَ عَدْلٌ مُسْلِمٌ ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ، وَحَكَاهُ فِي الْقَوَاطِعِ " عَنْ الْأُصُولِيِّينَ : الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمُعْتَبَرُ هُنَا التَّيَقُّظُ ، وَكَثْرَةُ التَّحَفُّظِ ، وَلَا يَكْفِي الْعَقْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ .
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ : فَإِنْ كَانَ يُفِيقُ يَوْمًا ، وَيُجَنُّ يَوْمًا ، فَإِنْ أَثَّرَ جُنُونُهُ فِي زَمَنِ إفَاقَتِهِ لَمْ يُقْبَلْ ، وَإِلَّا قُبِلَ .
الثَّانِي : كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إجْمَاعًا ، سَوَاءٌ عُلِمَ مِنْ دِينِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْكَذِبِ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي دِينِهِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَنْصِبٌ شَرِيفٌ ، وَمَكْرُمَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ .
الثَّانِي [ مَتَى تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ ؟] إنَّمَا لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْكَافِرِ إذَا رَوَى فِي حَالِ كُفْرِهِ ، أَمَّا لَوْ تَحَمَّلَ وَهُوَ كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّى فِي الْإِسْلَامِ قُبِلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ .
قَالَهُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " ، وَجَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَالرُّويَانِيُّ ، قَالَا : وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَى وَهُوَ فَاسِقٌ ، ثُمَّ أَدَّى وَقَدْ اعْتَدَلَ ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جُبَيْرٍ بْنِ مُطْعِمٍ { أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ، وَلَمَّا سَمِعَ هَذَا كَانَ كَافِرًا عَقِبَ أَسْرِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ }(3)، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ ، ثُمَّ أَنَّهُ رَوَاهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ [ الْعَدَالَةُ فِي الدِّينِ ] فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كَمَا لَا يَوْثُقُ بِشَهَادَتِهِ ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْعَادِلُ تَوَسُّعًا ، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ : مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيُحْكَمُ بِهَا .
وَالْعَدَالَةُ فِي الْأَصْلِ هِيَ الِاسْتِقَامَةِ ، يُقَالُ : طَرِيقٌ عَدْلٌ ، لِطَرِيقِ الْجَادَّةِ ، وَضِدُّهَا الْفِسْقُ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَوَاهُ غَالِبٌ عَلَى تَقْوَاهُ ، فَلَا تَصِحُّ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ ، ثُمَّ ضَابِطُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ ، فَلَوْ لَاحَ بِالْمَخَايِلِ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ رِوَايَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُخَالِفُ ضَابِطَ الشَّرْعِ ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ ظَنٍّ ، بَلْ ظَنٍّ لَهُ أَصْلٌ شَرْعًا .
هَذَا إذَا رَجَعَ الْفِسْقُ إلَى الدِّيَانَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ رَجَحَ إلَى الْعَقِيدَةِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ اُتُّفِقَ عَلَى فِسْقِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا .
[ تَعْرِيفُ الْعَدَالَةِ ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ ، وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ ، وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّرِيقِ ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقِ بِوَاحِدَةٍ ، لَا حَاجَةَ ؛ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً .
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ : وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْحُضُ الطَّاعَةَ ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ ، وَلَا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَمْحُضُ الْمَعْصِيَةَ ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ .فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّ الْكُلِّ ، وَلَا إلَى قَبُولِ الْكُلِّ ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْتهَا .وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَرْيِ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ مَجْرًى وَاحِدًا ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَاضِي .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ : مَنْ قَارَفَ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَمَنْ اقْتَرَفَ صَغِيرَةً لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ ، وَلَا رِوَايَتُهُ .
قَالَ : وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمُقَارَفَةِ الْكَبِيرَةِ ، وَقَالَ : لَوْ ثَبَتَ كَذِبُ الرَّاوِي رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ الْكَذِبَ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِحٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ بِالرِّوَايَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي مَا مَعْنَاهُ : الْمَعْنِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الثِّقَةُ ، فَكُلُّ مَا لَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ لَا يَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ ، وَإِنَّمَا الْقَادِحُ مَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ .ا هـ .
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " : الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ مَنْ كَانَ مُطِيعًا ؛ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا هَفَوَاتٍ وَزَلَّاتٍ ، إذْ لَا يَعْرَى وَاحِدٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ ، فَكُلُّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَاسِقٌ ، أَوْ صَغِيرَةً فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) [النساء/31، 32] ، وَمَنْ تَتَابَعَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ وَكَثُرَتْ وُقِفَ خَبَرُهُ ، وَكَذَا مَنْ جُهِلَ أَمْرُهُ .
قَالَ : وَمَا ذَكَرْتُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعَاصِي أَنَّهَا عِلْمُ الْإِصْرَارِ ؛ لِعِلْمِ الظَّاهِرِ ، كَالشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَعَلَى أَنِّي عَلَى حَقِّ النَّظَرِ لَا أَجْعَلُ الْمُقِيمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا ، مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا .
قَالَ : فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ فَمَقْبُولٌ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ يُحَاطُ بِهَا وَأَنَّهُ عَدْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ .ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " : لَا بُدَّ فِي الْعَدْلِ مِنْ أَرْبَعِ شَرَائِطَ :
1 - الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ .
2- وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ مِنْ الصَّغَائِرِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينٍ أَوْ عِرْضٍ .
3 - وَأَنْ لَا يَفْعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُسْقِطُ الْقَدْرَ ، وَيُكْسِبُ النَّدَمَ .
4 - وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ .
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : الثِّقَةُ مِنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا ، فَمَتَى حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي ، الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ عَلَامَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي بَدَنِهِ وَلَا لَفْظِهِ ، وَإِنَّمَا عَلَامَةُ صِدْقِهِ بِمَا يُخْتَبَرُ مِنْ حَالِهِ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ ظَاهِرَ الْخَيْرِ قُبِلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى أَحَدٌ رَأَيْنَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ ، فَإِذَا خَلَطَ الذُّنُوبَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الِاجْتِهَادُ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَمْرِهِ ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ حُسْنِهِ وَقُبْحِهِ .ا هـ .وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَنَا شَرْطًا بِلَا خِلَافٍ ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْتَهِي إلَى الْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ .
أَحَدُهُمَا : أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ الْحَاكِمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ ، أَوْ زَكَّاهُ مُزَكِّيَانِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نَاقِلِ الْخَبَرِ ، وَعَدَالَتِهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ ، بَلْ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ ، هَذَا كَلَامُهُ .
قُلْت : وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ شَهَادَتُهُمَا إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ .ا هـ .
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مَنْ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ [ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَتَحَقَّقَ فِي الْمُخْبِرِ ] أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ ، ضَابِطًا لِمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيَرْوِيهِ ؛ لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ فِي ضَبْطِهِ ، وَقِلَّةِ غَلَطِهِ .
فَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْغَلَطِ قُبِلَ خَبَرُهُ ، إلَّا فِيمَا نَعْلَمُهُ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الْغَلَطِ ، رُدَّ إلَّا فِيمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَغْلَطْ فِيهِ .
قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ : لَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ الْغَفْلَةِ ، فَكَوْنُ الرَّاوِي مِمَّنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ لَا يُوجِبُ رَدَّ حَدِيثِهِ ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِيهِ ، بِعَيْنِهِ ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يَخْلُونَ مِنْ جَوَازِ يَسِيرِ الْغَفْلَةِ ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ إذَا غَلَبَتْ الْغَفْلَةُ عَلَى أَحَادِيثِهِ ، وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، قَالَ : إنَّهُ كَانَ سَيِّئَ الْحِفْظِ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ غَيْرِ الشَّامِيِّينَ ، وَعَنَى بِهِ أَنَّ الْغَفْلَةَ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَاخْتَلَطَتْ رِوَايَاتُهُ ، وَلَكِنْ إذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَاتُ مَنْ تَنَاهَى بِحِفْظِهِ ، وَمَنْ تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ ، رُجِّحَ الْأَوَّلُ ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " .
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا لِكُلِّ مَا حَدَّثَ بِهِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ الضَّبْطِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ ، كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إنْ كَانَ الرَّاوِي تَلْحَقُهُ الْغَفْلَةُ فِي حَالَةٍ لَا يُرَدُّ حَدِيثُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ لَحِقَتْهُ الْغَفْلَةُ فِي حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ : مَنْ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى الْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ حَدِيثُهُ ، وَمَنْ كَثُرَ خَطَؤُهُ وَغَلَطُهُ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حِفْظِ الْحِكَايَةِ .ا هـ .
وَهَذَا مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ " عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : كُلُّ مَنْ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الْحَدِيثِ بِالْكَذِبِ ، أَوْ كَانَ مُغَفَّلًا يُخْطِئُ الْكَثِيرَ ، فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ لَا يُشْتَغَلَ مِنْهُ بِالرِّوَايَةِ .اهـ
وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " : الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ ، لِأَنَّهُ إنْ غَلَبَ خَطَؤُهُ وَسَهْوُهُ عَلَى حِفْظِهِ فَمَرْدُودٌ قَطْعًا ، وَإِنْ غَلَبَ حِفْظُهُ عَلَى اخْتِلَالِهِ فَيُقْبَلُ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى خَطَئِهِ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَخِلَافٌ .
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ : يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الصِّدْقِ رَاجِحَةٌ فِي خَبَرِهِ ، لِعَقْلِهِ وَدِينِهِ "
قُلْت : وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مِمَّنْ غَلَبَ غَلَطُهُ ، وَأَطْلَقَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ رَدَّ خَبَرِهِ إذَا كَثُرَ مِنْهُ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ مُفَسَّرًا ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ، وَيُعَيِّنَ وَقْتَ السَّمَاعِ مِنْهُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
قُلْت : وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ تَعْلِيقِهِ ، وَذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّهَادَةِ ، فَفِي الرِّوَايَةِ أَوْلَى.
قَالَ : وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ الْفُورَانِيُّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَالْغَزَالِيُّ .(4)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ أَنْ لَا يُعْرَفَ بِالتَّسَاهُلِ فِيمَا يَرْوِيهِ ، وَبِالتَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِهِ فَرُبَّمَا أَحَالَ الْمَعْنَى بِتَأَوُّلِهِ ، وَرُبَّمَا يَزِيدُ فِي مَوْضِعٍ زِيَادَةً يُصَحِّحُ بِهَا فَاسِدَ مَذْهَبِهِ ، فَلَمْ يُوثَقْ بِخَبَرِهِ ، قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ ، وَلَوْ رَوَى الْحَدِيثَ وَهُوَ غَيْرُ وَاثِقٍ بِهِ لَمْ يُقْبَلْ ، وَإِنْ كَانَ يَتَسَاهَلُ فِي غَيْرِ الْحَدِيثِ ، وَيَحْتَاطُ فِي الْحَدِيثِ ، قُبِلَتْ رِوَايَاتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : الرَّاوِي إنْ عُرِفَ مِنْهُ التَّسَاهُلُ فِي حَدِيثِهِ وَالتَّسَامُحُ لَمْ يُقْبَلْ قَطْعًا ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَكِنْ نَرَى مِنْهُ غَفْلَةً وَسَهْوًا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَادِرًا لَمْ يُؤَثِّرْ ، مَا لَمْ يَلُحْ لِلسَّامِعِ فِيهِ ظُهُورُ مَخَايِلِ الْغَفْلَةِ .
وَإِنْ كَثُرَتْ فَاخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : لَا يُمْنَعُ مِنْ قَبُولِهِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَخَايِلُ الْغَفْلَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يُقْبَلُ .
وَالثَّالِثُ : يُجْتَهَدُ وَيُبْحَثُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ ، حَتَّى يَظْهَرَ ضَعْفُهُ مِنْ قُوَّتِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ عِيسَى بْنِ أَبَانَ .
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ ، لَكِنَّهُ مَثَّلَ بِمِثَالٍ فِيهِ نَظَرٌ .
[ مَسْأَلَةٌ رُوَاةٌ لَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُمْ ] لَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ ، كَمَا لَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ قَلَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَلَا يُرَدُّ خَبَرُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَمِعَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ .
قَالَ ابْنُ فُورَكٍ ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ : نَعَمْ ، إنْ رَوَى كَثِيرًا لَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَقْوَى فِيهِ ، فَيَضْعُفُ الظَّنُّ بِقَوْلِهِ " .
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول(5):
"الشرط الخامس : أن لا يكون الراوي مدلساً وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد . أمَّا التدليسُ في المتنِ فهو أن يزيدَ في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلامَ غيره فيظنُّ السامعُ أنَّ الجميع من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأمَّا التدليسُ في الإسناد فهو على أنواع :
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 289) فما بعدها و إرشاد الفحول الي تحقيق الحق من علم الاصول - (ج 1 / ص 106) فما بعدها
(2) - كما في صحيح البخارى (77 ) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً مَجَّهَا فِى وَجْهِى وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ . المجة : اللفظة مج : لَفَظ ما فى فمه
(3) - صحيح البخارى (3050 )عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ جَاءَ فِى أُسَارَى بَدْرٍ - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِى الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ .
(4) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 357)
(5) - 1/106 فما بعدها(1/64)
أحدها : أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب .
وثانيهما : أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي، وذلك مثل مَنْ يكون مشهوراً باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهاماً للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل، فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفاً وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف . فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي، وإمَّا أنْ يكون مقصدُ الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلاً على كل حال ، فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح .
وثالثهما : أن يكون التدليسُ باطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه ، مثلَ أن يتركَ شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه، فإن كان المتروك ضعيفاً فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة ، وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرضٍ من الأغراضِ التي لا تنافي الأمانة والصدق ، ولا تتضمنُ التغرير على السامع فلا يكونُ ذلك قادحاً في عدالة الراوي ، لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملَة نحو أنْ يقول : قال فلان أو روي عن فلان أو نحو ذلك . أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدِّثْه ولم يخبرْه ، بل الذي حدثه أو أخبره هو من تركَ ذكرهُ فذلكَ كذبٌ يقدحُ في عدالتِه ، والحاصلُ أن من كان ثقة واشتهرَ بالتدليس فلا يقبلَ إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت .
ـــــــــــــــ(1/65)
الشروطُ التي ترجعُ إلى مدلول الخبر
فالأول : منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإنْ أحاله العقل ردَّ .
والشرط الثاني : أن لا يكون مخالفاً لنصٍّ مقطوعٍ به على وجه لا يمكن الجمعُ بينهما بحالٍ .
والشرطُ الثالث : أن لا يكون مخالفاً لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعيةٌ ، وأمَّا إذا خالف القياسَ القطعيَّ فقال الجمهورُ إنه مقدمٌ على القياس ، وقيلَ إن كانت مقدماتُ القياس قطعيةً قدِّمَ القياسُ ،وإنْ كانت ظنيةً قدِّمَ الخبرُ ،وإليه ذهب أبو بكر الأبهري ،وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنهما متساويان ،وقال عيسى بن أبان : إن كان الراوي ضابطاً عالماً قدِّمَ خبرهُ وإلا محلَّ اجتهادٍ، وقال أبو الحسين البصري : إن كانت العلةُ ثابتةً بدليلٍ قطعيٍّ فالقياسُ مقدَّمٌ ، وإن كان حكمُ الأصول مقطوعاً به خاصةً دون العلَّة فالاجتهادُ فيهُ واجبٌ حتى يظهرَ ترجيحُ أحدهِما فيعملُ به وإلا فالخبرُ مقدَّمٌ ، وقال أبو الحسين الصيمري: لا خلافَ في العلَّةِ المنصوصِ عليها وإنما الخلافُ في المستنبطة ، قال الكيا : قدَّمَ الجمهورُ خبرَ الضابطِ على القياس ، لأنَّ القياسَ عرضةً للزلل انتهى . والحقُّ تقديمُ الخبرِ الخارجِ منْ مخرجٍ صحيحٍ أو حسنٍ على القياسِ مطلقاً إذا لم يمكنِ الجمعُ بينهما بوجهٍ من الوجوهِ كحديث المصراة(1)وحديث العرايا(2)فإنهما مقدمان على القياس، وقد كان الصحابةُ التابعون إذا جاءهم الخبرُ لم يلتفتوا إلى القياسِ ولا ينظروا فيه ، وما رويَ عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضُه غيرُ صحيحٍ وبعضُه محمولٌ على أنه لم يثبتِ الخبر عند منْ قدَّم القياسَ بوجهٍ من الوجوهِ .
ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنَّة على اجتهاده(3). ومما يرجحُ تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين : عدالة الراوي . ودلالة الخبر ، والقياسُ يحتاجُ إلى النظر في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع ، هذا إذا لم يكن دليلُ الأصل خبراً ، فإن كان خبراً كان النظرُ في ثمانية أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ، ولا شكَّ أنَّ ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمالُ الخطأ فيه أكثرَ مما يحتاج إلى النظر في أقل منها .
واعلم أنه لا يضرُّ الخبرُ عملُ أكثر الأمة بخلافِه، لأنَّ قول الأكثر ليس بحجةٍ . ولا يضرُّه عملُ أهل المدينة بخلافِه خلافاً لمالك وأتباعه ، لأنهم بعضُ الأمة ،ولجواز أنه لم يبلغْهُم الخبرُ . ولا يضرُّه عملُ الراوي لهُ بخلافِه خلافاً لجمهورِ الحنفيةِ وبعضِ المالكية ، لأننا متعبدونَ بما بلغَ إلينا من الخبرِ ، ولم نتعبدْ بما فهمَهُ الراوي ، ولم يأتِ مَنْ قدَّم عملَ الراوي على روايتِه بحجةٍ تصلُحُ للاستدلالِ بها ، ولا يضرُّه كونُه مما تعمُّ به البلوَى خلافاً للحنفيةِ وأبي عبد اللهِ البصري لعملِ الصحابةِ والتابعينَ بأخبارِ الآحادِ في ذلك."
وقال الإمام الغزاليُّ(4):
""مَسْأَلَةٌ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَقْبُولٌ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ ، فَمَسُّ الذَّكَرِ مَثَلًا نَقَلَهُ الْعَدْلُ وَصِدْقُهُ فِيهِ مُمْكِنٌ فَإِنَّا لَا نَقْطَعُ بِكَذِبِ نَاقِلِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِنَقْلِ مَا تُحِيلُ الْعَادَةُ فِيهِ أَنْ لَا يَسْتَفِيضَ كَقَتْلِ أَمِيرٍ فِي السُّوقِ وَعَزْلِ وَزِيرٍ وَهُجُومٍ فِي الْجَامِعِ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ الْجُمُعَةِ أَوْ كَخَسْفٍ أَوْ زَلْزَلَةٍ أَوْ انْقِضَاضِ كَوْكَبٍ عَظِيمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَجَائِبِ ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ وَيَسْتَحِيلُ انْكِتَامُهُ ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ لِعِلْمِنَا بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَعَبَّدَ بِإِشَاعَتِهِ وَاعْتَنَى بِإِلْقَائِهِ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ ، فَإِنَّ الدَّوَاعِيَ تَتَوَفَّرُ عَلَى إشَاعَتِهِ وَنَقْلِهِ لِأَنَّهُ أَصْلُ الدِّينِ ، وَالْمُنْفَرِدُ بِرِوَايَةِ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ كَاذِبٌ قَطْعًا ، فَأَمَّا مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَا نَقْطَعُ بِكَذِبِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِرَارًا وَكَانَتْ الطَّهَارَةُ تَنْتَقِضُ بِهِ لَا يَحِلُّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا يَشِيعَ حُكْمَهُ وَيُنَاجِيَ بِهِ الْآحَادَ ؛ إذْ يُؤَدِّي إلَى إخْفَاءِ الشَّرْعِ وَإِلَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاةُ الْعِبَادِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، فَتَجِبُ الْإِشَاعَةُ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ، وَكَذَلِكَ مَسُّ الذَّكَرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَيْفَ يَخْفَى حُكْمُهُ ؟ قُلْنَا : هَذَا يَبْطُلُ أَوَّلًا بِالْوَتْرِ وَحُكْمِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِفْرَادِ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَقَدْ أَثْبَتُوهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
فَإِنْ زَعَمُوا أَنْ لَيْسَ عُمُومُ الْبَلْوَى فِيهَا كَعُمُومِهَا فِي الْأَحْدَاثِ ، فَنَقُولُ : فَلَيْسَ عُمُومُ الْبَلْوَى فِي اللَّمْسِ وَالْمَسِّ كَعُمُومِهَا فِي خُرُوجِ الْأَحْدَاثِ ، فَقَدْ يَمْضِي عَلَى الْإِنْسَانِ مُدَّةٌ لَا يَلْمِسُ وَلَا يَمَسُّ الذَّكَرَ إلَّا فِي حَالَةِ الْحَدَثِ كَمَا لَا يَفْتَصِدُ وَلَا يَحْتَجِمُ إلَّا أَحْيَانًا فَلَا فَرْقَ .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي وَهُوَ التَّحْقِيقُ : أَنَّ الْفَصْدَ وَالْحِجَامَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَكِنَّهُ يَكْثُرُ ، فَكَيْفَ أُخْفِيَ حُكْمُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاةِ خَلْقٍ كَثِيرٍ ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَكْثَرَ فَكَيْفَ وَكُلُّ ذَلِكَ إلَى الْآحَادِ ؟ وَلَا سَبَبَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - إشَاعَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، بَلْ كَلَّفَهُ إشَاعَةَ الْبَعْضِ وَجَوَّزَ لَهُ رَدَّ الْخَلْقِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَعْضِ ، كَمَا جَوَّزَ لَهُ رَدَّهُمْ إلَى الْقِيَاسِ فِي قَاعِدَةِ الرِّبَا ، وَكَانَ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ : لَا تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ أَوْ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ ، حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَنْ جُمْلَةِ مَا تَقْتَضِي مَصْلَحَةُ الْخَلْقِ أَنْ يَرُدُّوا فِيهِ إلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ صِدْقُ الرَّاوِي مُمْكِنًا فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ ، وَلَيْسَ عِلَّةُ الْإِشَاعَةِ عُمُومَ الْحَاجَةِ أَوْ نُدُورَهَا ، بَلْ عِلَّتُهُ التَّعَبُّدُ وَالتَّكْلِيفُ مِنْ اللَّهِ ، وَإِلَّا فَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرٌ كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَكْثَرُ فِي كَوْنِهِ شَرْعًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الضَّابِطُ لِمَا تَعَبَّدَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ؟ قُلْنَا : إنْ طَلَبْتُمْ ضَابِطًا لِجَوَازِهِ عَقْلًا فَلَا ضَابِطَ بَلْ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ فِي تَكْلِيفِ رَسُولِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ وُقُوعَهُ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَإِذَا اسْتَقْرَيْنَا السَّمْعِيَّاتِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ، الْأَوَّلُ : الْقُرْآنُ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عُنِيَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي إشَاعَتِهِ .
الثَّانِي : مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ ، كَكَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَقَدْ أَشَاعَهُ إشَاعَةً اشْتَرَكَ فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ .
الثَّالِثُ : أُصُولُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً مِثْلُ أَصْلِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا قَدْ تَوَاتَرَ ، بَلْ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنَّ هَذَا تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ إمَّا بِالتَّوَاتُرِ وَإِمَّا بِنَقْلِ الْآحَادِ فِي مَشْهَدِ الْجَمَاعَاتِ مَعَ سُكُوتِهِمْ ، وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَوَامَّ لَمْ يُشَارِكُوا الْعُلَمَاءَ فِي الْعِلْمِ ، بَلْ فَرْضُ الْعَوَامّ فِيهِ الْقَبُولُ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
الرَّابِعُ : تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأُصُولِ ، فَمَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَالْعِبَادَاتِ وَيَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مِنْ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَالْقَيْءِ وَتَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ ، فَهَذَا الْجِنْسُ مِنْهُ مَا شَاعَ وَمِنْهُ مَا نَقَلَهُ الْآحَادُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، فَمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ ، فَإِنَّ مَا أَشَاعَهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ، وَمَا وَكَّلَهُ إلَى الْآحَادِ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهِ بِالْإِشَاعَةِ ، لَكِنَّ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ وَقَعَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ يُخَالِفُ أَمَرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي الْأَخْبَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ
وقال الشوكاني :
" ولا يضرُّه كونُه في الحدودِ والكفاراتِ خلافاً للكرخي منَ الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحدِ قوليه(5)، ولا وجهَ لهذا الخلافِ ، فهو خبرُ عدلٍ في حكمٍ شرعيٍّ ، ولم يثبتْ في الحدودِ والكفاراتِ دليلٌ يخصُّها منْ عموم الأحكامِ الشرعيةِ ، واستدلالهم بحديث إدرأوا الحدود بالشبهات(6)باطلٌ فالخبرُ الموجبُ للحدِّ يدفعُ الشبهةَ على فرضِ وجودها ، ولا يضرُّه أيضاً كونُه زيادةٌ على النصِّ القرآنيِّ أو السنَّةِ القطعيةِ خلافاً للحنفيةِ فقالوا :إنَّ خبرَ الواحد إذا وردَ بالزيادةِ في حكمِ القرآنِ أو السنَّة القطعيةِ كانَ نسخاً لا يقبلُ ، والحقُّ القبولُ لأنها زيادةٌ غيرُ منافيةٍ للمزيدِ(7)، فكانتْ مقبولةً ودعوى أنها ناسخةٌ ممنوعةٌ ،وهكذا إذا وردَ الخبرُ مخصصاً للعامِّ منْ كتابٍ أو سنَّةٍ ، فإنّهُ مقبولٌ ويبنىَ العامُّ على الخاصِّ خلافاً لبعض الحنفيةِ، وهكذا إذا وردَ مقيِّداً لمطلقِ الكتابِ أو السنَّةِ القطعيةِ .
ولا يضرُّه كونُ راويِه انفردَ بزيادةٍ فيه على ما رواهُ غيرُه إذا كان عدلاً ، فقد يحفظُ الفردُ ما لا يحفظُه الجماعةُ ،وبه قال الجمهورُ إذا كانتْ تلكَ الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للمزيدِ . أمَّا إذا كانتْ منافيةً فالترجيحُ ، وروايةُ الجماعةِ أرجحُ من روايةِ الواحدِ ، وقيلَ: لا تقبلُ روايةُ الواحدِ إذا خالفتْ روايةَ الجماعةِ وإنْ كانتْ تلك الزيادةُ غيرَ منافيةٍ للمزيدِ إذا كان مجلسُ السَّماعِ واحداً وكانتِ الجماعةُ بحيثُ لا يجوزُ عليهمُ الغفلةُ عن مثلِ تلك الزيادةِ ، وأمَّا إذا تعددَ مجلسُ السَّماع فتقبلُ تلكَ الزيادةُ بالاتفاقِ ، ومثلُ انفرادِ العدلِ بالزيادةِ انفرادُه برفعِ الحديثِ إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الذي وقفَهُ الجماعةُ ، وكذا انفرادُه بإسنادِ الحديثِ الذي أرسلوهُ وكذا انفرادُه بوصلِ الحديثِ الذي قطعوه ، فإنَّ ذلك مقبولٌ منه لأنهُ زيادةٌ على ما رووهُ وتصحيحٌ لما أعلُّوه ، ولا يضرُّه أيضاً كونُه خارجاً مخرجَ ضربِ الأمثالِ . ورويَ عن إمامِ الحرمين أنهُ لا يقبلُ لأنهُ موضعُ تجوُّزٍ ، فأجيبَ عنه بأنهُ وإنْ كانَ موضعَ تجوُّزٍ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يقولُ إلا حقًّا لمكانِ العصمةِ .اهـ
قال الزركشي رحمه الله(8):
"[ أَخْذُ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ ] قِيلَ : الْأَحْكَامُ لَا تُؤْخَذُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَأْتِي لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ .
فَإِنَّهُ مَوْضِعُ تَجَوُّزٍ ، حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَأَنَّهُ رَدَّ بِذَلِكَ احْتِجَاجَ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ بِحَدِيثِ عَمِلْنَا مَعَ عَمَلِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَنَا .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْضِعَ تَجَوُّزٍ وَتَوَسُّعٍ كَمَا قَالَ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا تَمَثَّلَ أَوْ تَوَسَّعَ .
قُلْت : وَالتَّعْلِيلُ بِالتَّوَسُّعِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ ، وَلَوْ قَالَ : لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ التَّشْرِيعِ ، فَيَكُونُ قَرِينَةً صَارِفَةً عَنْ الْحُكْمِ لَمْ يَبْعُدْ ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ فِي الْعَامِّ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ التَّعْمِيمِ ، لَا يَكُونُ عَامًّا ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْصُودٍ .
وَقِيلَ : لَا يُؤْخَذُ الْجَوَازُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا ، كَاحْتِجَاجِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَجِّ بِحَدِيثِ { لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهُ } قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْت ذَلِكَ .رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .(9)
وَقَدَحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بَعْدُ ، وَلَمْ يَقُلْ : إنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ ، وَفِي الْحَدِيثِ ( المرفوع) : « لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى مَكَانَهُ »(10).
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَمَّنِي الْمَوْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِجَوَازِهِ ، كَالْإِخْبَارِ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَنَحْوِهَا .
__________
(1) - كما في صحيح مسلم (3907 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَلْيَنْقَلِبْ بِهَا فَلْيَحْلُبْهَا فَإِنْ رَضِىَ حِلاَبَهَا أَمْسَكَهَا وَإِلاَّ رَدَّهَا وَمَعَهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ ».
المصراة : الشاة يجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن
(2) - كما في صحيح البخارى (2189 ) عَنْ جَابِرٍ - رضى الله عنه - قَالَ نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ ، وَلاَ يُبَاعُ شَىْءٌ مِنْهُ إِلاَّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ إِلاَّ الْعَرَايَا .
العرايا : الرطب أو العنب على الشجر
(3) - سنن أبى داود (3594 ) عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَخِى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ :« كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ :« فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ :« فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلاَ فِى كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ :أَجْتَهِدُ رَأْيِى وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ وَقَالَ :« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ ». ( وهو حسن لغيره )
ولكنه من الأحاديث التي تلقتها الأمة بالقبول، وهذا كاف لتقويته والعمل به. وأخطأ الألباني في فهم هذا الحديث في ضعيفته (881) حيث قال بعد أن ضعفه: ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر بالكتاب والسنَّة معاً وعدم التفريق بينهما، لما علم من أن السنَّة تبين مجمل القرآن وتقيد مطلقه وتخصص عمومه كما هو معلوم ... اهـ
أقول: وهذه القضية التي أثارها لا وجود لها أصلاً، ولم يقل أحد ممن فسر هذا الحديث بذلك. ومعنى الحديث: إذا عرضت علي قضية أنظر هل لها جواب في كتاب الله، فإن كان لها جواب في كتاب الله تعالى صريح كالمواريث مثلاً أحكم بها مباشرة دون الرجوع للسنَّة، لأنَّ السنَّة في هذه الحال تكون ـ إن وجدت ـ مؤكدة للحكم فقط، وإن كان لها حكمٌ مجمل في الكتاب يرجع إلى السنَّة المفصلة لهذا الحكم ،وإذا لم يكن لها حكمٌ في الكتاب فنرجع إلى السنَّة ،لأن فيها أحكاماً زائدة عَلى القرآن كتحريم الحمر الأهلية مثلاً: فهذا مقصد معاذ ـ وإن لم يوجد نصٌّ صريحٌ لا في الكتاب ولا في السنَّة نجتهد وفق القواعد والضوابط الشرعية ... وقد أفردت حديث معاذ بكتاب سأنشره قريباً بإذن الله .
(4) - في المستصفى - (ج 1 / ص 342) وانظر :أصول السرخسي - (ج 1 / ص 369) والأحكام للآمدي - (ج 2 / ص 113) والمحصول - (ج 5 / ص 442) والتقرير والتحبير - (ج 4 / ص 268) وكتب وليد بن راشد السعيدان - (ج 3 / ص 18) القاعدة الثانية ( خبر الآحاد معتمد فيما تعم به البلوى) وتيسير التحرير - (ج 3 / ص 160-164) والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد - الرقمية - (ج 1 / ص 103) والمسودة - الرقمية - (ج 1 / ص 238)
(5) - وفي البحر المحيط - (ج 5 / ص 418): مَسْأَلَةٌ [ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، وَاخْتَارَهُ الْجَصَّاصُ . قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ : وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ ، وَخَالَفَ الْكَرْخِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ رَاوِيَهُ كَذَبَ أَوْ سَهَا أَوْ أَخْطَأَ ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِإِثْبَاتِ الْحَدِّ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَقَوْلِ الْمُفْتِي .
(6) - وردعن عائشة ت (1424) وهق 8/238 وك4/384 وقط 3/84 وبنحوه عب (18698 و13641 و13640)إبراهيم وابن مسعود وعمر ، فهو حسن لغيره
(7) - وفي البحر المحيط - (ج 5 / ص 419): مَسْأَلَةٌ [ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ ] وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ بِالزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَطْعِيَّةِ كَانَ نَسْخًا لَا يُقْبَلُ ، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَحْوِهِ ، وَسَبَقَ فِي النَّسْخِ .
(8) - في البحر المحيط - (ج 5 / ص 427)
(9) - أخرجه البخاري في صحيحه(3595 ) عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ ، فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ . فَقَالَ « يَا عَدِىُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ » . قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا . قَالَ « فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ ، لاَ تَخَافُ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ » - قُلْتُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِى فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلاَدَ « وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى » . قُلْتُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ قَالَ « كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، فَلاَ يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ . فَيَقُولَنَّ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَيُبَلِّغَكَ فَيَقُولُ بَلَى . فَيَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالاً وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ فَيَقُولُ بَلَى . فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ جَهَنَّمَ » . قَالَ عَدِىٌّ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ » . قَالَ عَدِىٌّ فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ ، لاَ تَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِىُّ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - « يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ » .
قلت : ولم أجده بهذا اللفظ في مسلم
(10) - صحيح البخارى (7115 ) ومسلم (7485 )(1/66)
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالِامْتِنَانِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِنْفَاقِ كُنُوزِ كِسْرَى فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « هَلْ لَكُمْ مِنْ أَنْمَاطٍ » . قُلْتُ وَأَنَّى يَكُونُ لَنَا الأَنْمَاطُ قَالَ « أَمَا إِنَّهُ سَيَكُونُ لَكُمُ الأَنْمَاطُ » . فَأَنَا أَقُولُ لَهَا - يَعْنِى امْرَأَتَهُ - أَخِّرِى عَنِّى أَنْمَاطَكِ . فَتَقُولُ أَلَمْ يَقُلِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّهَا سَتَكُونُ لَكُمُ الأَنْمَاطُ » . فَأَدَعُهَا .(1).
فَتَقُولُ لَهُ : أَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَتَكُونُ لَكُمْ الْأَنْمَاطُ ؟ فَأَدَعُهَا .
وَالْأَنْمَاطُ ضَرْبٌ مِنْ الْبُسُطِ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ .
فَفَهِمَ الصَّحَابِيُّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ الْأَشْرَاطِ الْجَوَازَ أَيْضًا .اهـ
ـــــــــــــــ
__________
(1) - صحيح البخارى (3631 ) ومسلم (5570 )
الأنماط : جمع نمط وهو نوع من البُسُط رقيق كالقطيفة(1/67)
[ رَدُّ الْحَدِيثِ بِدَعْوَى مُخَالَفَتِهِ الْأُصُولَ ](1)
"وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْأُصُولِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا ، أَوْ إجْمَاعٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلِهَذَا رَدُّوا خَبَرَ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ(2)؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ ، وَرَدُّوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ(3)وَالْقُرْعَةِ(4)، وَخَبَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِي نَفْيِ السُّكْنَى لِلْمُتَغَرِّبَةِ(5)، وَلِذَلِكَ زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ كَمَا لَا يَنْسَخُهُ .
[ السِّرُّ فِي رَدِّ الْحَنَفِيَّةِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ ] قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ : وَهَذِهِ أُصُولٌ مَهَّدُوهَا مِنْ أَجْلِ أَخْبَارٍ احْتَجَّ بِهَا أَصْحَابُنَا عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ عَجَزُوا عَنْ دَفْعِهَا ، فَرَدُّوهَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَقَالُوا بِأَمْثَالِهَا فِي الضَّعْفِ كَخَبَرِ نَبِيذِ التَّمْرِ(6)مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ ، إذْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ، وَلِلْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ مَا امْتَنَعَ التَّوَضُّؤُ بِهِ فِي الْحَضَرِ امْتَنَعَ فِي السَّفَرِ .
وَقَبِلُوا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ ضَعْفِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ(7)، لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوجِبُ أَنَّ مَا كَانَ حَدَثًا فِي الصَّلَاةِ كَانَ حَدَثًا فِي غَيْرِهَا ، وَمَا لَمْ يَنْقُضْ الطُّهْرَ فِي غَيْرِهَا لَا يَنْقُضُ فِيهَا ، وَقَبِلُوا خَبَرًا ضَعِيفًا فِي إيجَابِ رُبُعِ قِيمَةِ الْبَقَرَةِ فِي عَيْنِهَا تَخْصِيصًا لَهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَطْرَافِهَا ؟ وَقَالُوا أَيْضًا : بِإِلْزَامِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْقَتْلَ الدِّيَةَ مَعَ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ(8)، تَخْصِيصًا لَهَا مِنْ بَيْنِ الْأَيْمَانِ ، فَكَيْفَ أَنْكَرُوا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مَعَ صِحَّتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ ؟ .
أَتَرَاهُ أَعْظَمَ مِنْ تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ ، وَلَا أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهُ(9)، وَقَالُوا لَنَا مَا لَا بِهِ نَقْلٌ :{ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ }(10)فَزِدْتُمْ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ.
فَقُلْنَا لَهُمْ : وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}(11)فَنَقَلَ مِنْ الْمَاءِ إلَى التُّرَابِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةً فَزِدْتُمْ نَبِيذَ التَّمْرِ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ ، وَقُوَّةِ حَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ .
فَنَحْنُ لَمْ نَجْعَلْ وَاسِطَةً بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ ، وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إذَا عُدِمَ ذَلِكَ جَازَ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَالْقُرْآنُ لَا يَنْفِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَدَلًا مِنْ الشَّاهِدَيْنِ .
وَقَالُوا بِحَدِيثِ الْعِينَةِ(12)، وَتَرَكُوا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(13)فَخَصَّصُوا ظَاهِرَ الْقُرْآنِ(14).اهـ
وَقَسَّمَ الْهِنْدِيُّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا خَصَّصَ عُمُومَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَوْ قَيَّدَ مُطْلَقَهُمَا إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ .
أَحَدُهَا : إلَى مَا لَا يُعْلَمُ مُقَارَنَتُهُ لَهُ ، وَلَا تَرَاخِيهِ عَنْهُ .
فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ : يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَفَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَلَمْ يَسْأَلُوا أَنَّهَا هَلْ كَانَتْ مُقَارِنَةٍ أَمْ لَا ؟ .
قَالَ : وَهُوَ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَصِّصًا مَقْبُولًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَاسِخًا مَرْدُودًا .
الثَّانِي : أَنْ يُعْلَمَ مُقَارَنَتُهُ لَهُ ، فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْمَقْطُوعِ بِالْمَظْنُونِ.
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُعْلَمَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ ، فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ لَمْ يَقْبَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَبِلَهُ لَقَبِلَ نَاسِخًا ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَمَنْ جَوَّزَهُ قَبِلَهُ إنْ كَانَ وَرَدَ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَأَمَّا إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا يُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ : لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ رَاوِيهِ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمُجَالَسَتِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ تَنْقُلُ الْأَخْبَارَ عَنِ الْأَعْرَابِ ، وَعَمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِمُجَالَسَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - (15).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 420) فما بعد
(2) - صحيح مسلم (4569 )عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ.
(3) - صحيح مسلم (3907 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَلْيَنْقَلِبْ بِهَا فَلْيَحْلُبْهَا فَإِنْ رَضِىَ حِلاَبَهَا أَمْسَكَهَا وَإِلاَّ رَدَّهَا وَمَعَهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ».
المصراة : الشاة يجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن
(4) - سنن أبى داود (2272 ) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ أُتِىَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - بِثَلاَثَةٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِى طُهْرٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ قَالاَ لاَ. حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالاَ لاَ. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِى صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَىِ الدِّيَةِ قَالَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. (صحيح)
(5) - صحيح مسلم (3770 )عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَىْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ « لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ ». فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ ثُمَّ قَالَ « تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِى اعْتَدِّى عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِى ». قَالَتْ فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتَقِهِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ انْكِحِى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ».فَكَرِهْتُهُ ثُمَّ قَالَ « انْكِحِى أُسَامَةَ ». فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ.
(6) - مسند أحمد (3855) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْجِنِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَبْدَ اللَّهِ أَمَعَكَ مَاءٌ ». قَالَ مَعِى نَبِيذٌ فِى إِدَاوَةٍ. فَقَالَ « اصْبُبْ عَلَىَّ ». فَتَوَضَّأَ قَالَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ شَرَابٌ وَطَهُورٌ». (حديث ضعيف) الإداوة : إناء صغير من جلد
(7) - المعجم الصغير للطبراني (999) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَهْدِيٍّ ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ الْكَشْرُ وَلَكِنْ تَقْطَعُهَا الْقَهْقَهَةُ ،لَمْ يَرْوِهِ مَرْفُوعًا عَنْ سُفْيَانَ ، إِلَّاثَابِتٌ. ( وهو ضعيف)
(8) - انظر شرح معاني الآثار - (ج 4 / ص 185-188)
(9) - قلت : بل لهم أدلة قوية في أكثرها، وهذا من التعصب المذهبي المقيت
انظر التفاصيل في كتاب بحوث في علم أصول الفقه - (ج 1 / ص 102) لأستاذنا أحمد الحجي الكردي
وكشف الأسرار - (ج 7 / ص 101- 133) وشرح الكوكب المنير - (ج 3 / ص 29) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع - (ج 5 / ص 368) والفصول في الأصول - (ج 3 / ص 73- 94)
(10) - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (282) سورة البقرة
(11) - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (43) سورة النساء
(12) - سنن أبى داود (3464 )عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ». وهو حديث صحيح
قلت : الصواب مع السادة الحنفية في هذه المسألة .
(13) - {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة
(14) - قلت : الصواب التخصيص هنا لصحة الحديث
(15) - وهو من رواية الصحابي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي مقبولة، لأن الصحابة كلهم عدول(1/68)
[ رَدُّ الْحَدِيثِ إذَا كَانَ أَحَدُ رَاوِيهِ وَاحِدًا ]
"وَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِكَوْنِ أَحَدِ رُوَاتِهِ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ ، خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي تَعْلِيقِهِ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ ، فَإِنَّهُ طَعَنَ فِي حَدِيثِ : { أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ } ، فَقَالَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَحْدَهُ ، عَنْ أَبِي الْمُعْتَمِرِ(1).
قَالَ : وَالْحَدِيثُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ رَاوِيهِ وَاحِدًا ، فَهُوَ مَجْهُولٌ .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : وَهَذَا لَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا يَلْزَمُ قَبُولُ خَبَرِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةِ الْوَاحِدِ .(2)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سنن ابن ماجه (2450) من طريق ابْنِ أَبِى ذِئْبٍ عَنْ أَبِى الْمُعْتَمِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ عَنِ ابْنِ خَلْدَةَ الزُّرَقِىِّ وَكَانَ قَاضِيًا بِالْمَدِينَةِ قَالَ جِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِى صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ فَقَالَ هَذَا الَّذِى قَضَى فِيهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ ». وهو حسن لغيره
(2) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 407)(1/69)
[ عَرْضُ الْحَدِيثِ عَلَى الْقُرْآنِ ](1)
" لَا يَجِبُ عَرْضُ الْخَبَرِ عَلَى الْكِتَابِ ، قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ " : وَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى وُجُوبِ عَرْضِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ فِي أُصُولِهِ : خَبَرُ الْوَاحِدِ يُعْتَقَدُ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : الْعَرْضُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، وَرَوَاجُهُ بِمُوَافَقَتِهِ ، فَالْتَبَسَ بِمُخَالَفَتِهِ ، ثُمَّ عَلَى السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهِيَ الثَّابِتَةُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ ، ثُمَّ الْعَرْضُ عَلَى الْحَادِثَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا ، وَالْخَبَرُ شَاذٌّ كَانَ ذَلِكَ وَمُحْرِبُ ، وَكَذَا إنْ كَانَ حُكْمُ الْحَادِثَةِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ السَّلَفُ ، خِلَافًا ظَاهِرًا ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ الْمُحَاجَّةُ بِالْحَدِيثِ كَانَ عَدَمُ ظُهُورِ الْحِجَاجِ وَمُحْرِبُ فِيهِ .
قَالَ : وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَتَاكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ }(2).
فَلَوْ صَحَّتْ لَاحْتِيجَ إلَى عَرْضِهَا عَلَى الْكِتَابِ ، وَقَدْ عَرَضْنَاهَا عَلَيْهِ ، فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا بَلْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهَا ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) سورة الحشر.
وَرَدَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ كَلَامَهُ ، وَقَالَ : الْخَبَرُ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ إذَا ثَبَتَ ، وَلَا يَجِبُ عَرْضُهُ ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ .ا هـ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ : قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى اتِّبَاعَ نَبِيِّهِ ، وَالْخَبَرُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى عَامًّا لَهُ بِقَبُولِهِ وَاعْتِقَادِ صِحَّتِهِ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَهُ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ مِنْ اللَّهِ ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ ذَهَبَ عَنَّا وَجْهُهُ .
قَالَ : فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ : إذَا رَوَيْت سُنَّةً عَرَضْتهَا عَلَى الْقُرْآنِ .
قَالَ : فَإِنْ خَالَفَتْهُ عَلَى مَعْنَى وُرُودِ الْكِتَابِ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَوْ إبَاحَتِهِ ، وَفِي السُّنَّةِ النَّهْيُ عَنْهُ ، أَوْ حَظْرُهُ ، فَهَذَا لَمْ يُوجَدْ صَحِيحًا ، إلَّا فِيمَا نَسَخَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ سُنَّتِهِ .
قُلْت : وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ "(3)وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : { مَا جَاءَكُمْ عَنِّي فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ، فَمَا وَافَقَهُ فَأَنَا قُلْته ، وَمَا خَالَفَهُ فَلَمْ أَقُلْهُ } : مَا رَوَى هَذَا أَحَدٌ يَثْبُتُ حَدِيثُهُ فِي شَيْءٍ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ ، وَعَمَّنْ لَا يُقْبَلُ [ عَنْهُ ] مِثْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ .انْتَهَى .
ثُمَّ ذَكَرَ قَوْله تَعَالَى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (23) سورة النساء وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا }(4)، الْحَدِيثَ .
ثُمَّ قَالَ : فَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي اتِّبَاعِهِ ، وَكَانَتْ مَعَهُ دَلَالَتَانِ : دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ بِحَالٍ ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةٌ عَامًّا وَخَاصًّا وَدَلَالَةً ، عَلَى أَنَّهُمْ قَبِلُوا فِيهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، فَلَا نَعْلَمْ أَحَدًا رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .ا هـ .
وَفِي ظَنِّي أَنَّهُ فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ(5).
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 407)
(2) - وفي الإبانة الكبرى لابن بطة - (ج 1 / ص 109)
قال ابن الساجي : قال أبي رحمه الله : هذا حديث موضوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : وبلغني عن علي بن المديني ، أنه قال : ليس لهذا الحديث أصل ، والزنادقة وضعت هذا الحديث قال الشيخ : « وصدق ابن الساجي ، وابن المديني رحمهما الله ، لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ، ويكذب قائله وواضعه ، والحديث الصحيح ، والسنة الماضية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترده قال الله عز وجل : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) » والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع ، ولا نضرب لمقالته عليه السلام المقاييس ، ولا نلتمس لها المخارج ، ولا نعارضها بالكتاب ، ولا بغيره ، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية .
(3) - معرفة السنن والآثار للبيهقي (6)
(4) - صحيح مسلم (3506 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا ».
(5) - صحيح البخارى (5108 ) عَنِ الشَّعْبِىِّ سَمِعَ جَابِرًا رضى الله عنه قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا .(1/70)
[ جُمْلَةُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي رُدَّتْ بِهَا أَحَادِيثُ الْآحَادِ ](1)
" لَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِنِسْيَانِ الرَّاوِي ، وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ ، أَوْ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي : ضَعِيفٌ ، وَلَا يُبَيِّنُ سَبَبَ الضَّعْفِ ، أَوْ كَوْنَهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا ، أَوْ أَنْ يَقُولَ : بَعْضُ الْأَلْفَاظِ أَدْرَجَهُ الرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ ، كَمَا قَالَهُ الرَّازِيَّ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُرَتَّبٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ يَأْبَاهُ ، وَلَا أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ تُنْقَلْ نَقْلَ الْأَصْلِ ؛ لِاحْتِمَالِ ذِكْرِهَا فِي وَقْتٍ لَمْ يَحْضُرْهُ الْجَمَاعَةُ ، وَلَا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ فِي الرَّفْعِ ، كَقَوْلِ سُهَيْلٍ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ(2)؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ سُنَّةِ الرَّسُولِ ، وَلَا بِاحْتِمَالِ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا ، كَقَوْلِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَذَا أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ .
قَالَ : يُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ قَوْلًا فَظَنَّهُ أَمْرًا ، وَلَمْ يَكُنْ أَمْرًا ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَهْلُ اللِّسَانِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فَلَنَا وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ ، فَالْعَمَلُ بِالنَّاسِخِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى النَّسْخِ ، فَيَذْهَبُ إلَى أَثْبَتِ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنْ تَكَافَأَتَا ذَهَبَ إلَى أَشْبَهِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ سُنَّتِهِ ، وَلَا نَقْلُهُ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُوجَدَ فِيهِمَا هَذَا أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْأَثْبَتِ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُرْوَى مِنْ دُونِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ يُخَالِفُهُ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ ".اهـ
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 409)
(2) - صحيح البخارى (4746 )عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمَا مَا ذُكِرَ فِى الْقُرْآنِ مِنَ التَّلاَعُنِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ قُضِىَ فِيكَ وَفِى امْرَأَتِكَ » . قَالَ فَتَلاَعَنَا ، وَأَنَا شَاهِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَفَارَقَهَا فَكَانَتْ سُنَّةً أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَكَانَتْ حَامِلاً ، فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا وَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا ، ثُمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِى الْمِيرَاثِ أَنْ يَرِثَهَا ، وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا .(1/71)
الشروطُ التي ترجِعُ إلى لفظِ الخبر
فَلِلرَّاوِي فِي نَقْلِ مَا سَمِعَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ :(1)
أَحَدُهَا : أَنْ يَرْوِيَهُ بِلَفْظِهِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : وَيَنْظُرُ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ ابْتِدَاءً أَوْ جَوَابًا ، فَإِنْ كَانَ قَالَهُ ابْتِدَاءً وَحَكَاهُ ، فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ كَقَوْلِهِ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ }(2)، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا ، فَإِنْ كَانَ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ كَقَوْلِهِ : { الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ}(3).
فَالرَّاوِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَتَرْكِهِ .
فَإِنْ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى ذِكْرِ السُّؤَالِ كَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ ، فَقَالَ : أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا جَفَّ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .قَالَ : فَلَا إذَنْ }(4).
فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السُّؤَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ ، فَإِذَا نَقَلَ السُّؤَالَ تَعَيَّنَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ ، كَمَا { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّاقَةِ تُذْبَحُ ، فَيُوجَدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ ، فَقَالَ : ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ }(5)، وَلَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ .
فَإِذَا ذَكَرَ السُّؤَالَ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ ، فَالْإِخْلَالُ بِالسُّؤَالِ نَقْصٌ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُهُ .
قَالَ : وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذِكْرُ السَّبَبِ حَسَنٌ .
وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ : أَكْثَرُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِسَبَبِ السَّبَبِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ .
وَهِيَ مَسْأَلَةُ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرْبَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْقُرْآنُ ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ نَقْلِ لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ .
وَالثَّانِي : الْأَخْبَارُ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى ، وَإِذَا نَقَلَهَا بِالْمَعْنَى وَجَبَ قَبُولُهُ كَالنَّقْلِ بِاللَّفْظِ .
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبَ عَشَرَةٍ سَتَأْتِي .
وَنُقِلَ عَنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِشَرَائِطَ .
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَوَاقِعِ الْكَلَامِ امْتَنَعَ بِالْإِجْمَاعِ .قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " .
قَالَ : وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ "(6): يَجِبُ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمِعَهُ ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ ، أَوْ الْحَرَامَ إلَى الْحَلَالِ ، وَإِذَا أَدَّاهُ بِحُرُوفِهِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ إحَالَةً .
قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى الْجَاهِلِ .
قُلْت : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ " : الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ مَعَ مَا أَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ سَرَدَهُ .
قَالَ الْأَصْحَابُ فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْحَدِيثِ ، فَذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى .
وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى عَنْهُ ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ " : يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : صَادَفَ أَوْ قَاصَّ الْغَنَمَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَأَنَّقَ فِي نَقْلِ لَفْظِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ قَوْلٌ بَيْنَ أَنْ يَقْوَى بِدَلِيلٍ آخَرَ فَيَجُوزُ ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ .
ثَانِيهَا : أَنْ يُبَدِّلَ اللَّفْظَ بِمَا يُرَادِفُهُ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ ، وَالِاسْتِطَاعَةِ بِالْقُدْرَةِ ، وَالْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ ، وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ هَذَا مَحَلَّ وِفَاقٍ فِي الْجَوَازِ ، وَلَيْسَ كَالْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ ، وَشَرْطُ هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ فِي التَّرَادُفِ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ ، فَلَوْ اُحْتِيجَ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا .
ثَالِثُهَا : أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأَصْلِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ ، فَيُبْدِلُ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ فِي الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِهِ ، وَلَا يُبْدِلُ الْأَجْلَى بِالْجَلِيِّ وَعَكْسُهُ ، وَلَا الْعَامَّ بِالْخَاصِّ ، وَلَا الْمُطْلَقَ بِالْمُقَيَّدِ ، وَلَا الْأَمْرَ بِالْخَبَرِ ، وَلَا الْعَكْسُ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَارَةً يَقَعُ بِالْمُحْكَمِ ، وَتَارَةً يَقَعُ بِالْمُتَشَابِهِ ، لِحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا .
رَابِعُهَا : أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا تُعُبِّدَ بِلَفْظِهِ ، فَأَمَّا مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ بِاللَّفْظِ قَطْعًا ، كَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ .
وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ ، نَقَلَهُ إلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ بَرْهَانٍ ، وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَعَبَّرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ سَامِعَ لَفْظِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِمَوْضُوعِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي اللِّسَانِ ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ بِهِ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ ، فَإِنْ عُلِمَ تَجَوُّزُهُ بِهِ ، وَاسْتَعَارَ تَرْكَهُ ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ ، لِيَنْظُرَ فِيهِ .
خَامِسُهَا : : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهِ ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ ، أَمَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى بِالْإِجْمَاعِ ، حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ مَا أَطْلَقَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ ، لَا نَدْرِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ هَلْ يُسَاوِيهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْمُشَكِّكُ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ بِالْمَعْنَى ؛ لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ .
سَادِسُهَا : : أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ، فَإِنْ كَانَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ }(7)، { وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي }(8)، { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ }(9)، { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ }(10)، وَنَحْوُهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَرْكُ جَمِيعِ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ .حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ .
قَالَ : وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى كَغَيْرِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ .
وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ صُوَرٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُبْدِلَ اللَّفْظَ بِمُرَادِفِهِ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ .
وَثَانِيهَا : أَنْ يَظُنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ ، فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ .
ثَالِثُهَا : أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى ، وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ .
فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إلَى اللَّفْظِ إمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَوْ بِهِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْتَحَقَ بِالْمُرَادِفِ ، وَكَلَامُ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْأُولَى ، وَعَلَى الْمَنْعِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " : يَجُوزُ لِلْعَالِمِ فِيمَا عَلِمَهُ قَطْعًا لَا فِي عِلْمِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ ، وَفِي حَقِّ مَنْ يُقَلِّدُهُ مِنَ الْعَوَامّ خَاصَّةً .
قَالَ : وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ تَفْسِيرُ مَقَالِ الشَّرْعِ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لَهُمْ.
وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ حَتَّى يَنْقُلَ إلَيْهِ لَفْظَ الشَّارِعِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَبِلَهُ بِالْمَعْنَى صَارَ مُقَلِّدًا ، وَفِي الصَّحَابِيِّ إذَا نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ.اهـ .
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي : الْمَنْعُ مُطْلَقًا ، بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ ، سَوَاءٌ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ.
وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ ، وَأَهْلِ التَّحَرِّي فِي الْحَدِيثِ .
وَقَالَ : إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ .
وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ، مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ، وَوَهَمَ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ " ، فَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ثَعْلَبٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ ، أَيْ لِأَجْلِ إنْكَارِ أَصْلِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ .
وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ : لَا يُنْقَلُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَعْنَى ، بِخِلَافِ حَدِيثِ النَّاسِ ، لَكِنْ قَالَ الْبَاجِيُّ : لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ ، فَقَدْ نَجِدُ الْحَدِيثَ عَنْهُ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْعَالِمِ النَّقْلُ عَلَى الْمَعْنَى .
وَالثَّالِثُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ ، فَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى ، وَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ ، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْهَا ، فَمِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِلَفْظِهِ ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ }(11)، { خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِى الْحَرَمِ }(12).
حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا .قَالَ : وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ بِكُلِّ حَالٍ .
الرَّابِعُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا ، فَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا مَجَالٌ ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا أَدَاءُ اللَّفْظِ ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ .
وَالْخَامِسُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ اللَّفْظَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ مِنْ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ اللَّفْظَ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ : اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى .
فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ.
وَبِهَذَا الْقَوْلِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَجَعَلَ الْخِلَافَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ .
قَالَ : أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي ، فَيَجُوزُ رِوَايَتُهُمَا بِالْمَعْنَى ، كَقَوْلِهِ : { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ }(13)، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ(14).
وَقَوْلُهُ : { اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ }(15)وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ.(16)
قَالَا : فَهَذَا جَائِزٌ يَعْنِي بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ " أَمْرٌ ، وَ " لَا تَفْعَلْ " نَهْيٌ ، فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَفِيَّ الْمَعْنَى مُحْتَمِلًا ، كَقَوْلِهِ : { لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ}(17)، وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ ، وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ .
فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا إلَّا لِلْمَصْلَحَةِ ، وَلِيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ إلَى الْعُلَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَهُ ، وَيَنْقُلَ مَعْنَاهُ .
وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ .
وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ .ا هـ .
وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصَّحَابِيِّ ، وَبِالْجَلِيِّ مِنْ غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَالْجَزْمُ فِي الْجَلِيِّ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ لَكِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا : الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذْ الطِّبَاعُ قَدْ تَغَيَّرَتْ ، وَالْفُهُومُ قَدْ تَبَايَنَتْ ، وَالْعَوَارِفُ قَدْ اخْتَلَفَتْ قَالَ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ .ا هـ .
وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبٌ آخَرُ هُوَ السَّابِعُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ .
وَالثَّامِنُ : إنْ كَانَ مُحْكَمًا فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِلْعَارِفِ بِاللُّغَةِ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ ، أَوْ حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ .
وَإِنْ كَانَ وَجَبَّارُ أَوْ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى أَصْلًا ، إذْ الْمُرَادُ بِهِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ .
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ ، وَالْمُتَشَابِهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِالْكَفِّ عَنْ طَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى : قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ .
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 411)
(2) - كما في سنن أبى داود (61 )عَنْ عَلِىٍّ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ». ( وهو صحيح )
(3) - كما في موطأ مالك (42 ) عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ - وَهُوَ مِنْ بَنِى عَبْدِ الدَّارِ - أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ». ( وهو صحيح)
(4) - شرح معاني الآثار - (ج 4 / ص 435) صحيح
(5) - كما في سنن أبى داود (2829 ) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْجَنِينِ فَقَالَ « كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَنْحَرُ النَّاقَةَ وَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ وَالشَّاةَ فَنَجِدُ فِى بَطْنِهَا الْجَنِينَ أَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ قَالَ « كُلُوهُ إِنْ شِئْتُمْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ ». (صحيح)
(6) - الرسالة للشافعي - (ج 1 / ص 144)
(7) - سنن أبى داود (3510 ) صحيح
(8) - سنن الترمذي (1391 و1392) صحيح
(9) - صحيح البخاري (1499 ) -الجبار : هدر أى لا دية له العجماء : البهيمة
(10) - موطأ مالك (1435) صحيح لغيره
(11) - سنن أبى داود (61 )عَنْ عَلِىٍّ رضى الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ ».صحيح
(12) - صحيح البخارى (3314 )عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عَنْهَا - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِى الْحَرَمِ الْفَأْرَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْحُدَيَّا ، وَالْغُرَابُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» .
العقور : كل سبع يجرح ويقتل ويفترس
(13) - صحيح البخارى (2177 ) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ »
تشف : تزيد وتفضل الناجز : الحاضر
(14) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 5 / ص 278) (10794)عَنْ نَافِعٍ قَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَقَدِمَ أَبُو سَعِيدٍ فَنَزَلَ هَذِهِ الدَّارَ فَأَخَذَ بِيَدِى حَتَّى أَتَيْنَاهُ فَقَالَ : مَا يُحَدِّثُ هَذَا عَنْكَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : بَصُرَ عَيْنِى وَسَمِعَ أُذُنِى قَالَ فَمَا نَسِيتُ قَوْلَهُ بِإِصْبَعِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَبَيْعِ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا أَحَدَهُمَا عَلَى الآخَرِ وَلاَ تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ مِنْ حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
(15) - سنن أبى داود (922 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اقْتُلُوا الأَسْوَدَيْنِ فِى الصَّلاَةِ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ ».صحيح
(16) - سنن النسائى (1211 ) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الأَسْوَدَيْنِ فِى الصَّلاَةِ.صحيح
(17) - سنن ابن ماجه (2124 )عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ حَدَّثَتْنِى عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« لاَ طَلاَقَ وَلاَ عَتَاقَ فِى إِغْلاَقٍ » صحيح لغيره .
وفي حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 4 / ص 289) :
فَسَّرَهُ بَعْضهمْ بِالْغَضَبِ وَهُوَ مُوَافِق لِمَا فِي الْجَامِع غَلِقَ إِذَا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَكِنْ غَالِب أَهْل الْغَرِيب فَسَّرُوهُ بِالْإِكْرَاهِ وَقَالُوا كَأَنَّ الْمُكْرِه أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَاب حَتَّى يَفْعَل بَلْ رُوِيَ فِي مَجْمَع الْغَرَائِب تَفْسِيره بِالْغَضَبِ وَقَالَ إِنَّهُ غَلَطٌ لِأَنَّ أَكْثَر طَلَاق النَّاس فِي الْغَضَب قَالَ وَإِنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاه وَفِي التَّنْقِيح وَقَدْ فُسِّرَ الْإِغْلَاق بِالْغَضَبِ كَمَا ظَنَّهُ أَبُو دَاوُدَ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَام أَحْمَد قَالَهُ شَيْخنَا إِنَّهُ يَعُمُّ الْغَضَب وَالْجُنُون كُلّ أَمْر أُغْلِقَ عَلَى صَاحِبه عِلْمه وَقَصْده مَأْخُوذٌ مِنْ غَلَقَ الْبَاب بِخِلَافِ مَنْ عَلِمَ مَا يَتَكَلَّم بِهِ وَقَصَدَهُ وَأَرَادَهُ فَإِنَّهُ اِنْفَتَحَ بَابه وَلَمْ يُغْلَق عَلَيْهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُغْلِق التَّطْلِيقَات فِي دَفْعَة وَاحِدَة حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْء لَكِنْ يُطَلِّقُ طَلَاق السُّنَّة وَاَللَّه أَعْلَم .(1/72)
قَالَ : وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كَقَوْلِهِ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ }(1)، وَ{ الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ }(2)وَنَحْوُهُ ، فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا نَقْلَهُ بِالْمَعْنَى بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا النَّظْمِ ، وَكَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا )(3)، وَذَكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ : اللَّفْظُ الْمَسْمُوعُ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ضَرْبَانِ .
أَحَدُهُمَا : لَا تَأْوِيلَ فِيهِ ، كَقَوْلِهِ : لَا تَقْرَبْ كَذَا ، وَافْعَلْ كَذَا ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ ، يَنْكَرُهُمَا وَقَعَدَ ، وَقَامَ وَمَضَى ، وَذَهَبَ وَصَبَّ ، وَأَرَاقَ ، وَهَذَا يَجُوزُ تَأْدِيَتُهُ بِالْمَعْنَى .
وَالثَّانِي : مُودَعٌ فِي جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ إلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ .
وَيَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَظُنُّهُ الْحَاكِي قَائِمًا ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَعَلَّقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَعْنَى إلَى لَفْظٍ آخَرَ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يُقْبَلُ خَبَرٌ حَتَّى يَكُونَ رَاوِيهِ عَدْلًا عَاقِلًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي فَحُكْمُهُ فِي الْأَدَاءِ عَلَى الْأَلْفَاظِ ، وَكُلُّ مَنْ أَدَّى إلَيْنَا شَيْئًا قَبِلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَفْظُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُ ، حَتَّى عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكِيَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ حَدِيثٍ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ فَيُحْذَفُ فَيَذْهَبُ مَعْنَاهُ .ا هـ .
وَالتَّاسِعُ : التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يُورِدَهُ عَلَى قَصْدِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْفُتْيَا ، فَيَجُوزُ لَهُ رِوَايَتُهُ بِالْمَعْنَى ، إذَا كَانَ عَارِفًا بِمَعْنَاهُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ التَّبْلِيغَ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ ، وَيَتَعَيَّنُ اللَّفْظُ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَرَاءِ ، { وَآمَنْتُ بِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْتَ }(4)قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ " .
وَالْعَاشِرُ :التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الطِّوَالِ ، فَيَجُوزُ فِيهَا الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ ، دُونَ الْقِصَارِ .
حَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ ، ثُمَّ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ خَصَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي أَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَجَوَّزَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فِي كَلَامِ النَّاسِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِشْكَالِ " عَنْ مَالِكٍ تَجْوِيزَهُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ، وَمَنْعَهُ فِي كَلَامِ النُّبُوَّةِ .
فَرْعٌ إذَا قُلْنَا بِالْمَنْعِ وَرُوِيَ بِالْمَعْنَى لَا تَسْقُطُ رِوَايَتُهُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اخْتِلَافٍ وَاجْتِهَادٍ ، فَلَا تَسْقُطُ بِهِ الرِّوَايَةُ ، قَالَهُ سُلَيْمٌ فِي " التَّقْرِيبِ " .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يُنْقِصَ مِنْ لَفْظِهِ وَيَحْذِفَهُ ، فَيُنْظَرُ إنْ تَعَلَّقَ بِهِ الْمَحْذُوفُ تَعَلُّقًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا لَمْ يَجُزْ بِالِاتِّفَاقِ ، كَمَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ وَالْإِبْيَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَالتَّعَلُّقُ اللَّفْظِيُّ كَالتَّقْيِيدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ .
وَالْمَعْنَوِيِّ كَمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَلَّقُ مَذْكُورًا بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، لَا يَتَعَلَّقُ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ بِهَا ، كَمَا فِي بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ بِجُمْلَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، وَكَلَامِ ابْنِ الْقُشَيْرِيّ فَيَنْقُصُ عَنْ الْخِلَافِ الْآتِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَلَى الْخِلَافِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ، فَالْمَانِعُونَ ثَمَّ مَنَعَ أَكْثَرُهُمْ هَاهُنَا ، وَأَمَّا الْمُجَوَّزُونَ ثَمَّ فَاخْتَلَفُوا هَاهُنَا عَلَى أَقْوَالٍ .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - مر تخريجه
(2) - مر تخريجه
(3) - مسند البزار 1-14 - (ج 5 / ص 69) (3416) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، أَنَّهُ قَالَ : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِيَ فَحَفِظَهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. ( صحيح)
(4) - صحيح البخارى (247 ) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِى إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ . فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ » . قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا بَلَغْتُ « اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ » . قُلْتُ وَرَسُولِكَ . قَالَ « لاَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ » .(1/73)
[ الْمَذَاهِبُ فِي جَوَازِ حَذْفِ شَيْءٍ مِنْ الْحَدِيثِ ](1)
أَحَدُهَا : أَنَّهُ إنْ كَانَ نَقَلَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مَرَّةً بِتَمَامِهِ ، جَازَ أَنْ يَنْقُلَ الْبَعْضَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ ، هَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " ، وَالشَّيْخُ فِي " اللُّمَعِ " ، وَغَيْرُهُمَا ، وَقَيَّدَ الْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِ سُوءُ الظَّنِّ بِالتُّهْمَةِ بِاضْطِرَابِ النَّقْلِ .
وَالثَّانِي : الْجَوَازُ مُطْلَقًا ، سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَمْ لَا ، كَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي " اللُّمَعِ " ، وَكَذَا الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ ، وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى مَا حَكَيَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ أَوَّلًا ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُجَوِّزَ حَذْفَ الْغَايَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ، وَالِاقْتِصَارَ عَلَى أَصْلِ الْكَلَامِ ، وَحَكَى سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ طَرِيقَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : إجْرَاءُ خِلَافِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى .
وَالثَّانِيَةُ : الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ ، قَالَ : وَهِيَ الْمَذْهَبُ .
قَالَ : أَمَّا إذَا رَوَى بَعْضَ الْخَبَرِ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهُ بِتَمَامِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُفْهَمُ بِأَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِهِ قُبِلَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِهِ الزِّيَادَةَ وَكِتْمَانِهَا .
وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " : مَتَى خَافَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّمَامِ أَنَّهُ إذَا رَوَاهُ مَرَّةً نَاقِصًا أَنْ يُتَّهَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ رِوَايَتُهُ عَلَى التَّمَامِ ، دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ التُّهْمَةَ الْمُسْقِطَةَ لِلرِّوَايَةِ .وَشَرَطَ أَيْضًا لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ السَّامِعُ مُتَذَكِّرًا لِتَمَامِهِ ، فَإِنْ خَافَ غَفْلَتَهُ أَوْ نِسْيَانَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ تَامًّا .
قَالَ : فَإِنْ شَارَكَهُ فِي السَّمَاعِ غَيْرُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ ؛ لِئَلَّا يُفْسِدَ عَلَى السَّامِعِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا تَامًّا .
وَالثَّالِثُ : الْمَنْعُ مُطْلَقًا .
وَالرَّابِعُ : الْحَدِيثُ إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِتَمَامِهِ جَازَ نَقْلُ بَعْضِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ " .
وَالْخَامِسُ : إنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ نُظِرَ ، فَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ فَقِيهًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ فَقِيهٍ امْتَنَعَ .قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ ، فِي كِتَابَيْهِمَا .
قَالَا : وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الِاكْتِفَاءُ بِالْبَعْضِ ، كَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إلَى آيَةِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ : تَكْفِيَك آيَةُ الصَّيْفِ }(2)، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كِفَايَةٌ لَمَا وَكَّلَهُ إلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فِي حَدِيثِ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ اكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ ، وَلِحَدِيثِ { ابْنِ مَسْعُودٍ : أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ ، فَرَمَى الرَّوْثَةَ وَتَرَكَ نَقْلَ الْحَجَرِ الْآخَرِ اكْتِفَاءً }(3)، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُسْنَدًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { ائْتِنِي بِحَجَرٍ ثَالِثٍ }(4).
وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ : الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ حُكْمًا مُتَمَيِّزًا عَمَّا قَبْلَهُ ، وَالنَّاقِلُ فَقِيهٌ عَالِمٌ بِوَجْهِ التَّمْيِيزِ فَيَجُوزُ ، كَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْ الْحَجَرَ الثَّالِثَ كَانَ مَقْصُودُهُ مَنْعَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُرَاعَاةَ الْعَدَدِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ نَقْلُ جَمِيعِهِ .
وَإِنْ كَانَ النَّاقِلُ ظَاهِرُ حَالِهِ الِاعْتِنَاءُ بِنَقْلِهِ وَاسْتِيفَاءُ رِوَايَتِهِ ، فَظَاهِرُ حَالِهِ أَنْ لَا يَنْقُلَ سِوَاهُ كَقَضِيَّةِ مَاعِزٍ(5)، فَإِنَّ الرَّاوِيَ اسْتَوْفَاهَا وَلَمْ يَذْكُرْ رَجْمَهُ .
قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَسْأَلَةُ نَقْلِ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى فِي الْمَأْخَذِ وَالْمَنْشَأِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِمَا إلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا كَمَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّاوِي الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ أَنْ يَرْوِيَهُ نَاقِصًا لِمَنْ رَوَاهُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَامًّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ حَافِظٌ لِتَمَامِهِ ، فَيَذْكُرُ لَهُ ، فَإِنْ بَانَتْ غَفْلَتُهُ وَنِسْيَانُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ عَلَى الْكَمَالِ .
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : إنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مُسْتَقِلًّا بِمَفْهُومِ الْحُكْمِ ، كَقَوْلِهِ : { الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ(6)} ، فَيَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَا عَلَيْهِ لِلْإِبْلَاغِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، فَيَلْزَمُهُ الْجَمْعُ ، كَالشَّهَادَةِ .
فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ ، فَلَا يَجُوزُ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِتَتِمَّ فَائِدَةُ الْخَبَرِ ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ ، كَقَوْلِهِ : { أَعِدْ أُضْحِيَّتَك ، فَقَالَ : لَيْسَ عِنْدِي إلَّا جَذَعَةٌ مِنْ الْمَعْزِ ، فَقَالَ : تُجْزِئُكَ ، وَلَمْ تُجْزِئْ لِأَحَدٍ بَعْدَك }(7)، فَلَوْ رَوَى أَنَّهُ قَالَ : يُجْزِئُك ، لَفُهِمَ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ .ا هـ .
وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ اخْتِصَارِهِ بِشَرْطِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ فِي صِفَةِ الْحَجِّ ، سَاقَهُ جَابِرٌ سِيَاقًا وَاحِدًا عِنْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى أَنْ دَخَلَهَا .ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد عَلَى هَذَا السِّيَاقِ(8)، وَجَزَّأَهُ مَالِكٌ ، وَالْبُخَارِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى الْأَبْوَابِ .
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ : هُوَ عِنْدِي جَائِزٌ ، إذَا كَانَ مُفِيدًا وَمُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ وَغَيْرَ مُحْتَاجٍ فِي فَهْمِهِ إلَى مَا قَبْلَهُ ، أَوْ كَانَ لَيْسَ يُوجِبُ صِدْقَ مَا حُذِفَ مِنْهُ ، تَرَدَّدَ الْمَفْهُومُ عَنْهُ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، وَسَوَاءٌ جَوَّزْنَا الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى أَوْ لَا ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْعَبْدَرِيّ .
أَمَّا إذَا كَانَ تَرْكُ بَعْضِهِ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ بَيَانِ مَا أَوَّلَهُ ، وَيُوهِمُ مِنْهُ شَيْئًا يَزُولُ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا ، مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَقَالَ : نَقَلَ بَعْضُ النَّقَلَةِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَنْجِي ، فَرَمَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : إنَّهَا رِكْسٌ }(9).
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَمَى الرَّوْثَةَ ، ثُمَّ قَالَ : ابْغِ لَنَا ثَالِثًا(10)، وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الثَّالِثِ لَيْسَ يُخِلُّ بِذِكْرِ رَمْيِ الرَّوْثَةِ وَبَيَانِ أَنَّهَا رِكْسٌ ، لَكِنْ يُوهِمُ النَّقْلُ كَذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِنْجَاءِ بِحَجَرَيْنِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فَلَا يَجُوزُ مَعَ هَذَا الْإِيهَامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ الْحَدِيثِ ، وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْمُقْتَصِرِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ الزِّيَادَةُ .
وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذَلِكَ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ ، فَيَجُوزُ ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ .
وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، بِأَنَّ الْإِيهَامَ حَاصِلٌ ، وَإِنْ قَصَدَ الرَّاوِي مَنْعَ اسْتِعْمَالِ الرَّوْثِ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ( { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ ) }(11)وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يُنْقَلْ إلَّا الرَّجْمُ(12).
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَتَلَقَّى سُقُوطَ الْجَلْدِ عَنْ الثَّيِّبِ مِنْ اقْتِصَارِ الرَّاوِي إذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، فَاسْتَحْضَرَ الرَّاوِي الرَّجْمَ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَضِيَّةِ مَاعِزٍ ، وَفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
أَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الزَّوَائِدِ مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي لَا تُغَيِّرُ الْمَعْنَى وَكَانَ عَالِمًا بِمَصَادِرِ الْكَلَامِ وَمَوَارِدِهِ جَازَ إنْ قُلْنَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى ، وَإِلَّا فَلَا .قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 418)
(2) - صحيح مسلم (1286 )عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِى طَلْحَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَبِىَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَكَرَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ إِنِّى رَأَيْتُ كَأَنَّ دِيكًا نَقَرَنِى ثَلاَثَ نَقَرَاتٍ وَإِنِّى لاَ أُرَاهُ إِلاَّ حُضُورَ أَجَلِى وَإِنَّ أَقْوَامًا يَأْمُرُونَنِى أَنْ أَسْتَخْلِفَ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيُضَيِّعَ دِينَهُ وَلاَ خِلاَفَتَهُ وَلاَ الَّذِى بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ عَجِلَ بِى أَمْرٌ فَالْخِلاَفَةُ شُورَى بَيْنَ هَؤُلاَءِ السِّتَّةِ الَّذِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ وَإِنِّى قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَطْعَنُونَ فِى هَذَا الأَمْرِ أَنَا ضَرَبْتُهُمْ بِيَدِى هَذِهِ عَلَى الإِسْلاَمِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأُولَئِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ الضُّلاَّلُ ثُمَّ إِنِّى لاَ أَدَعُ بَعْدِى شَيْئًا أَهَمَّ عِنْدِى مِنَ الْكَلاَلَةِ مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى شَىْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِى الْكَلاَلَةِ وَمَا أَغْلَظَ لِى فِى شَىْءٍ مَا أَغْلَظَ لِى فِيهِ حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِى صَدْرِى فَقَالَ « يَا عُمَرُ أَلاَ تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِى فِى آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ ».
وَإِنِّى إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِى بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّى أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ وَإِنِّى إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ وَيَرْفَعُوا إِلَىَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لاَ أَرَاهُمَا إِلاَّ خَبِيثَتَيْنِ هَذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِى الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا.
(3) - مسند أحمد (4137) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْخَلاَءَ وَقَالَ « ائْتِنِى بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ ». فَالْتَمَسْتُ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَلَمْ أَجِدِ الثَّالِثَ فَأَتَيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ « إِنَّهَا رِكْسٌ ». صحيح
(4) - مسند أحمد (4387)عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَأَمَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْ يَأْتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ فَجَاءَهُ بِحَجَرَيْنِ وَبِرَوْثَةٍ فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ « إِنَّهَا رِكْسٌ ائْتِنِى بِحَجَرٍ » . صحيح
(5) - صحيح البخارى (6824 )َ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ « لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ » . قَالَ لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « أَنِكْتَهَا » . لاَ يَكْنِى . قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ .
(6) - صحيح وقد مر
(7) - صحيح البخارى (5556 )عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ ضَحَّى خَالٌ لِى يُقَالُ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلاَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ » . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عِنْدِى دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعَزِ . قَالَ « اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ » . ثُمَّ قَالَ « مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ » .
الجَذعة : ما استكمل سنة ولم يدخل فى الثانية العناق : الأنثى من ولد المعز أتى عليها أربعة أشهر
(8) - مسلم برقم (3009 ) وسنن أبى داود (1907)
(9) - مسند أحمد (3757) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ خَرَجَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَتِهِ فَقَالَ « الْتَمِسْ لِى ثَلاَثَةَ أَحْجَارٍ ». قَالَ فَأَتَيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ. قَالَ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ « إِنَّهَا رِكْسٌ ». صحيح لغيره
(10) - مسند أحمد (4387)عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَأَمَرَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنْ يَأْتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ فَجَاءَهُ بِحَجَرَيْنِ وَبِرَوْثَةٍ فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ « إِنَّهَا رِكْسٌ ائْتِنِى بِحَجَرٍ» صحيح
(11) - سنن أبى داود (4417 ) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خُذُوا عَنِّى خُذُوا عَنِّى قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَمْىٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْىُ سَنَةٍ ».صحيح
(12) - ففي مجمع الزوائد - ( 10592) وَعَنْ الْعَجْمَاءِ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَاجْلِدُوهُمَا الْبَتَّةَ بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ .(1/74)
[ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ لَفْظٌ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ ](1)
" أَطْلَقَ صَاحِبُ " الْمُعْتَمَدِ " أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْخَبَرِ لَفْظٌ لَا يُفِيدُ إلَّا التَّأْكِيدَ لَمْ يَجُزْ لِلرَّاوِي إسْقَاطُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَا ذَكَرَهُ إلَّا لِفَائِدَةٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْخِلَافُ ".
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 421)(1/75)
[ الْجَزْمُ بِمَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ ](1)
" مَا جَزَمُوا بِهِ مِنْ مَنْعِ حَذْفِ الصِّفَةِ مُشْكِلٌ ، فَقَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ نَظِيرُهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { غَيْرِ أُولِي الضَّرَرِ }(2)وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا }(3)وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ .
وَكَذَلِكَ ، { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }(4)فِي سُبْحَانَ(5)، وَفِي الْحِجْرِ ، { إلَّا مَنْ اتَّبَعَك }(6)وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { آيَتُك أَلَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا }(7)فَقَدْ يُقَالُ : إنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي جَوَازَ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْخَبَرِ أَيْضًا ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمَحْذُوفِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي آلِ عِمْرَانَ { إلَّا رَمْزًا } وَجَوَابُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ؛ لِأَنَّ الرَّمْزَ لَيْسَ بِكَلَامٍ ، فَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ إطْلَاقِ امْتِنَاعِ حَذْفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُتَّصِلِ".
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط - (ج 5 / ص 444)
(2) - لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) [النساء/95]
(3) - فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) [الحجر/65، 66]
(4) - قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) [الحجر/41-43]
(5) - يعني سورة الإسراء
(6) - إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) [الحجر/42، 43]
(7) - قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) [آل عمران/41](1/76)
[ هَلْ يَجُوزُ إسْقَاطُ حَرْفِ الْعَطْفِ مِنْ الْآيَةِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا ؟ ](1)
"وَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ إذَا اسْتَدَلَّ بِآيَةٍ ، هَلْ يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظِهَا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْعَطْفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِدُونِهِ ؟ ظَاهِرُ تَصَرُّفِ الْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ ، فَفِي " الْوَسِيطِ " فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ }(2)، وَفِي كِتَابِ الْبَيْعِ { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا }(3)وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ :مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }(4)وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ : { إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ }(5)وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ : ( وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ )(6).
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَزِيدَ فِي لَفْظِهِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ شَرْطًا [ لِبَيَانِ ] الْحَالِ كَنَهْيِهِ عَنْ تَلَقِّي الرَّكْبَانِ(7)، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ(8)، فَيَزِيدُ ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي دَعَاهُ إلَى هَذَا الْقَوْلِ .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ ، وَالرُّويَانِيُّ : فَهَذَا يَجُوزُ مِنْ الصَّحَابِيِّ ؛ لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ مِنْ التَّابِعِيِّ ، وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ ، كَنَهْيِهِ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ ، فَيُفَسَّرُ مَعْنَاهَا فِي رِوَايَتِهِ ، قَالَا : فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ ، لَكِنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ يَلْزَمُ فِيهِ قَوْلُهُ ، بِخِلَافِ تَفْسِيرِ التَّابِعِيِّ .
قَالَا : وَإِنْ خَرَجَتْ الزِّيَادَةُ عَنْ شَرْحِ السَّبَبِ ، وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى ، فَلَا يَجُوزُ ، وَهِيَ كَذِبٌ صَرِيحٌ .ا هـ .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 421)
(2) - وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) [الأنعام/72، 73]
(3) - الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) [البقرة/275]
(4) - عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ ، لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ ، فَأَمَّا الَّذِى لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ فِى الْمَرْجِ وَالرَّوْضَةِ ، كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِىَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ فَهْىَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِى رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا فَهْىَ لَهُ سِتْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً فَهْىَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ . فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْحُمُرِ . قَالَ « مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) صحيح البخارى (4962 )
استنت : جرت وعدت الطيل : حبل يشد به قائمة الدابة المرج : الأرض الواسعة ذات نبات كثير تخلى فيه الدواب تسرح مختلطة كيف شاءت النواء : العداوة
(5) - سنن الترمذى (1107 )عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ». وهو حديث حسن
(6) - صحيح مسلم (1848 )عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ « وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِى فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِى يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ». وَإِذَا رَكَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ خَشَعَ لَكَ سَمْعِى وَبَصَرِى وَمُخِّى وَعَظْمِى وَعَصَبِى ». وَإِذَا رَفَعَ قَالَ « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَىْءٍ بَعْدُ ». وَإِذَا سَجَدَ قَالَ « اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِى لِلَّذِى خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ». ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ».
(7) - مسند البزار (5503) عَن ابن عُمَر ، عَن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عَن تلقي الركبان وأن يبيع حاضر لباد ، وعَن النجاش.صحيح
(8) - صحيح البخارى (2150)عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ ، وَلاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، وَلاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا ، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ » .
تصر : تجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن(1/77)
[ فِي الرَّجُلِ يَرْوِي خَبَرًا فَيَجْتَهِدُ فِيهِ ](1)
" كَقَوْلِهِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ : فَلَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا(2)، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ : فَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إلَى الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ : إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيَّ قَالَ : رَجَعَ الشَّافِعِيُّ بِبَغْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى مِصْرَ عَنْ الْمَسْحِ بِغَيْرِ تَوْقِيتٍ ، وَقَالَ : إنَّهُ يُؤَقِّتُ حِينَئِذٍ ، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ الْمُؤَقَّتِ .
وَقَوْلُ خُزَيْمَةَ لَوْ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ، ظَنٌّ مِنْهُ أَنْ يَزِيدَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَزِيدَ .
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَسْمَعَهُ مَلْحُونًا أَوْ مُحَرَّفًا فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ : أَحَدُهَا : أَنْ يَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُ ، مِمَّنْ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى .
وَالثَّانِي : أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُصْلِحَهُ لِلصَّوَابِ .
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : إنَّهُ مَذْهَبُ الْمُحَصِّلِينَ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ .
وَالثَّالِثُ : إنْ كَانَ لَهُ وَجْهٌ سَائِغٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ لُغَةِ قُرَيْشٍ لَمْ يُغَيِّرْ وَإِلَّا غَيَّرَهُ ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " الْإِلْمَاعِ " عَنْ النَّسَائِيّ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْإِحْكَامِ .
وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يَرْوِيهِ أَصْلًا ، لَا عَلَى الصَّوَابِ ، وَلَا عَلَى الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الشَّيْخِ عَلَى الصَّوَابِ ، وَلِعِصْمَةِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مِنْ اللَّحْنِ ، وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَحَدِ سَلَاطِينِ الْعُلَمَاءِ .
ـــــــــــــــ
__________
(1) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 422)
(2) - سنن أبى داود (157 ) عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ». قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىِّ بِإِسْنَادِهِ قَالَ فِيهِ وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا.صحيح(1/78)
ثانيا
حُكْمُ الحديثِ الصحيحِ
أجمعَ العلماءُ من أهل الحديث ومن يعتدُّ به من الفقهاء والأصوليين على أنَّ الحديث الصحيح حجةٌ يجبُ العملُ به , سواءٌ كان راويهِ واحداً لم يروه غيرُه , أو رواهُ معه راو آخر, أو اشتُهرَ بروايةِ ثلاثةٍ فأكثرَ ولم يتواترْ .
وهذا أمرُ بدَهيٌّ في نظرنا تقضي به الفطرةُ الإنسانيةُ ، لا يحتاجُ إلى كثيرٍ منَ الاستدلالات والبراهين، فما منْ إنسانٍ إلا وهو يُعوِّلُ في إبرامِ شؤونهِ في العملِ أو التجارةِ أو الدراسةِ أو غيرِها على ما يخبرُه بهِ واحدٌ موثوقٌ منَ الناسِ حيثُ يقعُ في نفسهِ صِدْقُ المخبرِ ، ويغلبُ على احتمال الغلط أو احتمالِ الكذبِ، بل إنَّ الشؤون الكبرى في مصير الأمم يعتمدُ فيها على أخبارِ الآحاد الثقاتِ كالسفراءِ أو المبعوثينَ من قبلِ الحكوماتِ، فالتوقفُ عن قبولِ خبرِ الواحدِ يُفضي إلى تعطيلِ مصالحِ الدين والدنيا.
ومعَ اتفاقِ العلماءِ على وجوبِ العملِ بالحديثِ الصحيحِ الأحاديِّ في أحكامِ الحلالِ والحرامِ فقدِ اختلفوا في إثباتِ العقائدَ ووجوبِها بهِ.(1)
ـــــــــــــــ
__________
(1) - انظر منهج النقد في علوم الحديث - (ج 1 / ص 245)(1/79)
ثالثا
هل خبرُ الآحاد يفيد القطع واليقين أم غلبة الظنِّ ؟
اختلف العلماءُ في هذه المسألة على مذاهبَ ثلاثٍ :
الأول - ذهب أكثر العلماء إلى أن الاعتقاد لا يثبت إلا بدليلٍ يقينيٍّ قطعيٍّ ، وهو نصُّ القرآن أو الحديثِ المتواترِ ..
قال الإمام الغزالي(1):
"خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لَا نُصَدِّقُ بِكُلِّ مَا نَسْمَعُ ، وَلَوْ صَدَّقْنَا وَقَدَّرْنَا تَعَارُضَ خَبَرَيْنِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُ بِالضِّدَّيْنِ وَمَا حُكِيَ عَنْ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ ؛ إذْ يُسَمَّى الظَّنُّ عِلْمًا ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ : يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَالْعِلْمُ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ وَإِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ .
وَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ }(2)وَإِنَّهُ أَرَادَ الظَّاهِرَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ دُونَ الْبَاطِنِ الَّذِي لَمْ يُكَلَّفْ بِهِ ، وَالْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ يُسَمَّى إيمَانًا مَجَازًا .
وَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ }(3)وَأَنَّ الْخَبَرَ لَوْ لَمْ يُفِدْ الْعِلْمَ لَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَنْعُ الشَّاهِدِ عَنْ جَزْمِ الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَا يَتَحَقَّقُ .
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَمَعْلُومُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ أَوْجَبَ الْعَمَلَ عِنْدَ ظَنِّ الصِّدْقِ ، وَالظَّنُّ حَاصِلٌ قَطْعًا وَوُجُوبُ الْعَمَلِ عِنْدَهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا ، كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
ثُمَّ الشَّهَادَةُ قَدْ يُقْطَعُ بِهَا كَشَهَادَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ صَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَشَهَادَةِ مُوسَى وَهَارُونَ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ يُظَنُّ ذَلِكَ كَشَهَادَةِ غَيْرِهِمْ .
ثُمَّ أُلْحِقَ الْمَظْنُونُ بِالْمَقْطُوعِ بِهِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ ، وَكَذَلِكَ فَتْوَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحُكْمُهُ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَفَتْوَى سَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَحُكْمُ سَائِرِ الْقُضَاةِ مَظْنُونٌ وَأُلْحِقَ بِالْمَعْلُومِ وَالْكَعْبَةُ تُعْلَمُ قَطْعًا بِالْعِيَانِ وَتُظَنُّ بِالِاجْتِهَادِ ، وَعِنْدَ الظَّنِّ يَجِبُ الْعَمَلُ كَمَا يَجِبُ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ ، فَكَذَلِكَ خَبَرُ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ التَّوَاتُرِ .
فَلِمَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُلْحَقَ الْمَظْنُونُ بِالْمَعْلُومِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ خَاصَّةً وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ فِي مَفْسَدَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ أَصْلًا؟ فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ ؟ قُلْنَا قَالَ قَوْمٌ يَجُوزُ بِشَرْطِ ظَنِّ الصِّدْقِ .
وَهَذَا الشَّرْطُ عِنْدَنَا فَاسِدٌ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ عَلَامَةَ التَّعَبُّدِ بِالصَّلَاةِ فَحَرَكَةُ لِسَانِ الْفَاسِقِ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَةً ، فَتَكْلِيفُ الْعَمَلِ عِنْدَ وُجُودِ الْخَبَرِ شَيْءٌ وَكَوْنُ الْخَبَرِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا شَيْءٌ آخَرُ .
والصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا وَلَا يَجِبُ التَّعَبُّدُ بِهِ عَقْلًا وَأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهِ وَاقِعٌ سَمْعًا وَقَالَ جَمَاهِيرُ الْقَدَرِيَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ كَالْقَاشَانِيِّ بِتَحْرِيمِ الْعَمَلِ بِهِ سَمْعًا .
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ مَسْلَكَانِ قَاطِعَانِ : أَحَدُهُمَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ : عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَالثَّانِي : تَوَاتُرُ الْخَبَرِ بِإِنْفَاذِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْوُلَاةَ وَالرُّسُلَ إلَى الْبِلَادِ وَتَكْلِيفِهِ إيَّاهُمْ تَصْدِيقَهُمْ فِيمَا نَقَلُوهُ مِنْ الشَّرْعِ .
وَنَحْنُ نُقَرِّرُ هَذَيْنِ الْمَسْلَكَيْنِ : الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ : مَا تَوَاتَرَ وَاشْتَهَرَ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي وَقَائِعَ شَتَّى لَا تَنْحَصِرُ وَإِنْ لَمْ تَتَوَاتَرْ آحَادُهَا فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِمَجْمُوعِهَا ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا : فَمِنْهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ ، مِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ الْجَنِينِ وَقِيَامُهُ فِي ذَلِكَ يَقُولُ : أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فِي الْجَنِينِ فَقَامَ إلَيْهِ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ وَقَالَ : { كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ - فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ }(4).
فَقَالَ عُمَرُ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا ، أَيْ لَمْ نَقْضِ بِالْغُرَّةِ أَصْلًا.
وَقَدْ انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا لِلشَّكِّ فِي أَصْلِ حَيَاتِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَرَى تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ يُورِثَ امْرَأَةَ أَشْيَمِ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ رَجَعَ إلَى ذَلِكَ(5).
وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ الْمَجُوسِ أَنَّهُ قَالَ : " مَا أَدْرِي مَا الَّذِي أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالَ : " أَنْشُدُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ فِيهِ شَيْئًا إلَّا رَفَعَهُ إلَيْنَا " فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ }(6)فَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ .
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ مِنْهُ وَمِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْ سُقُوطِ فَرْضِ الْغُسْلِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِخَبَرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَوْلِهَا { فَعَلْتُ ذَلِكَ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - } فَاغْتَسَلْنَا.(7)
وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي السُّكْنَى بِخَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَ إلَيْهَا وَسَأَلَهَا(8).
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَبُولِهِ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَاسْتِظْهَارِهِ بِالْيَمِينِ ، حَتَّى قَالَ فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ : كُنْتُ إذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ أَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ - وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : { مَا مِنْ عَبْدٍ يُصِيبُ ذَنْبًا } الْحَدِيثَ(9)، فَكَانَ يُحَلِّفُ الْمُخْبِرَ لَا لِتُهْمَةٍ بِالْكَذِبِ وَلَكِنْ لِلِاحْتِيَاطِ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ نَقْلًا بِالْمَعْنَى وَلِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَى الرِّوَايَةِ بِالظَّنِّ بَلْ عِنْدَ السَّمَاعِ الْمُحَقَّقِ .
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الْحَائِضَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَصْدُرَ حَتَّى يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَأَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ هَلْ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ ، فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَضْحَكُ وَيَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا أُرَاكَ إلَّا قَدْ صَدَقْتَ وَرَجَعَ إلَى مُوَافَقَتِهِ بِخَبَرِ الْأَنْصَارِيَّةِ .(10)
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخِ تَمْرٍ ، إذْ أَتَانَا آتٍ فَقَالَ : إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْت إلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ .(11)
وَمِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ قُبَاءَ فِي التَّحَوُّلِ عَنْ الْقِبْلَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُمْ أَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ فَانْحَرَفُوا إلَى الْكَعْبَةِ بِخَبَرِهِ(12).
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ قِيلَ إنَّ فُلَانًا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ ، أَخْبَرَنِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ { : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى وَالْخَضِرَ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ هُوَ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ }(13)، فَتَجَاوَزَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبَادَرَ إلَى التَّكْذِيبِ بِأَصْلِهِ وَالْقَطْعِ بِذَلِكَ لِأَجْلِ خَبَرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمِنْهَا أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ مَا أَرَى بِمِثْلِ هَذَا بَأْسًا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ يَعْذِرُنِى مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنَا أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيُخْبِرُنِى عَنْ رَأْيِهِ لاَ أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا. ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لاَ تَبِيعَ ذَلِكَ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ.(14).
وَمِنْهَا مَا اشْتَهَرَ عَنْ جَمِيعِهِمْ فِي أَخْبَارٍ لَا تُحْصَى الرُّجُوعُ إلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَمَيْمُونَةَ وَحَفْصَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِنَّ وَإِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ وَفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ مِمَّنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةً وَإِلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَالِي وَعَلَى ذَلِكَ جَرَتْ سُنَّةُ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَجَدْنَا عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَوِّلُ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَعَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ .
وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ طَاوُوسٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّرْفِ ، فَيُثْبِتُ حَدِيثُهُ سُنَّةً ، وَيَقُولُ : حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ .
وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ : حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ }(15)وَيَعْتَرِضُ بِذَلِكَ عَلَى قَضِيَّةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَيَنْقُضُ عُمَرُ قَضَاءَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ مَيْسَرَةُ بِالْيَمَنِ وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ فُقَهَاءُ الْبَصْرَةِ كَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، وَفُقَهَاءُ الْكُوفَةِ وَتَابِعُوهُمْ كَعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ ، وَعَلَيْهِ جَرَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فِي عَصْرٍ ، وَلَوْ كَانَ نَكِيرٌ لَنُقِلَ وَلَوَجَبَ فِي مُسْتَقَرِّ الْعَادَةِ اشْتِهَارُهُ وَتَوَفَّرَتْ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ كَمَا تَوَفَّرَتْ عَلَى نَقْلِ الْعَمَلِ بِهِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ السَّلَفِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ حَدَثَ بَعْدَهُمْ ....
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِأَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا .
قُلْنَا : ذَلِكَ لِفَقْدِهِمْ شَرْطَ قَبُولِهَا كَمَا سَيَأْتِي ، وَكَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِأَخْبَارٍ مُتَوَاتِرَةٍ لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِهَا أَوْ فَوَاتِ الْأَمْرِ وَانْقِرَاضِ مَنْ كَانَ الْخِطَابُ الثَّانِي مُتَعَلِّقًا بِهِ .
الدَّلِيلُ الثَّانِي : مَا تَوَاتَرَ مِنْ إنْفَاذِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُمَرَاءَهُ وَقُضَاتَهُ وَرُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ إلَى الْأَطْرَافِ وَهُمْ آحَادٌ وَلَا يُرْسِلُهُمْ إلَّا لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَحَلِّ الْعُهُودِ وَتَقْرِيرِهَا وَتَبْلِيغِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَمِنْ ذَلِكَ تَأْمِيرُهُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ تِسْعٍ ، وَإِنْفَاذُهُ سُورَةَ بَرَاءَةٍ مَعَ عَلِيٍّ ، وَتَحْمِيلُهُ فَسْخَ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ - صلى الله عليه وسلم -
وَمِنْ ذَلِكَ تَوْلِيَتُهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَتَوْلِيَتُهُ مُعَاذًا قَبْضَ صَدَقَاتِ الْيَمَنِ وَالْحُكْمَ عَلَى أَهْلِهَا .
__________
(1) - المستصفى - (ج 1 / ص 290)
(2) - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) [الممتحنة/10، 11]
(3) - وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) [الإسراء/36، 37]
(4) - السنن الكبرى للبيهقي (ج 8 / ص 114) (16847و16848) عَنْ طَاوُسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْجَنِينِ شَيْئًا فَقَامَ حَمَلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّابِغَةِ فَقَالَ : كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِى يَعْنِى ضَرَّتَيْنِ فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِمِسْطَحٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِغُرَّةٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا وَقَالَ فِى مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ عَمْرٍو وَحْدَهُ وَقَالَ فِى الْحَدِيثِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِىَ فِى مِثْلِ هَذَا بِرَأْيِنَا. وَقَدْ رُوِّينَاهُ مَوْصُولاً عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. (صحيح لغيره)
(5) - سنن أبى داود (2929 ) عَنْ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ الدِّيَةُ لِلْعَاقِلَةِ وَلاَ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا شَيْئًا حَتَّى قَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِىِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. فَرَجَعَ عُمَرُ. صحيح
(6) - موطأ مالك (619 )عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِىٍّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ مَا أَدْرِى كَيْفَ أَصْنَعُ فِى أَمْرِهِمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ ».صحيح لغيره
(7) - صحيح ابن حبان - (ج 3 / ص 451) (1175 ) صحيح
(8) - مسند أحمد (27846) عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَتْنِى زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبٍ عَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ قَالَتْ خَرَجَ زَوْجِى فِى طَلَبِ أَعْلاَجٍ لَهُ فَأَدْرَكَهُمْ بِطَرَفِ الْقَدُومِ فَقَتَلُوهُ فَأَتَانِى نَعْيُهُ وَأَنَا فِى دَارٍ شَاسِعَةٍ مِنْ دُورِ أَهْلِى فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقُلْتُ إِنَّ نَعْىَ زَوْجِى أَتَانِى فِى دَارٍ شَاسِعَةٍ مِنْ دُورِ أَهْلِى وَلَمْ يَدَعْ لِى نَفَقَةً وَلاَ مَالاً لِوَرَثَتِهِ وَلَيْسَ الْمَسْكَنُ لَهُ فَلَوْ تَحَوَّلْتُ إِلَى أَهْلِى وَأَخْوَالِى لَكَانَ أَرْفَقَ بِى فِى بَعْضِ شَأْنِى. قَالَ « تَحَوَّلِى ». فَلَمَّا خَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى الْحُجْرَةِ دَعَانِى أَوْ أَمَرَ بِى فَدُعِيتُ فَقَالَ « امْكُثِى فِى بَيْتِكِ الَّذِى أَتَاكِ فِيهِ نَعْىُ زَوْجِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ». - قَالَتْ - فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً - قَالَتْ - فَأَرْسَلَ إِلَىَّ عُثْمَانُ فَأَخْبَرْتُهُ فَأَخَذَ بِهِ. (حسن)
الأعلاج : جمع العلج وهو الشديد القوى على العمل
(9) - مسند أحمد (2) عَنْ عَلِىٍّ قَالَ كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثاً نَفَعَنِى اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ وَإِذَا حَدَّثَنِى عَنْهُ غَيْرِى اسْتَحْلَفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ لِى صَدَّقْتُهُ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِى وَصَدَق أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْباً فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ». قَالَ مِسْعَرٌ « وَيُصَلِّى ». وَقَالَ سُفْيَانُ « ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ غَفَرَ لَهُ ». صحيح
(10) - صحيح مسلم (3285 ) عَنْ طَاوُسٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ تُفْتِى أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَّا لاَ فَسَلْ فُلاَنَةَ الأَنْصَارِيَّةَ هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ مَا أَرَاكَ إِلاَّ قَدْ صَدَقْتَ.
(11) - صحيح مسلم (5253 ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَسْقِى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا أَنَسُ قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجَرَّةِ فَاكْسِرْهَا،فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ.
الفضيخ : شراب يتخذ من البسر المهراس : صخرة منقورة تسع كثيرا من الماء
(12) - صحيح مسلم (1204 ) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا حَتَّى نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِى فِى الْبَقَرَةِ (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فَنَزَلَتْ بَعْدَ مَا صَلَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَمَرَّ بِنَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَحَدَّثَهُمْ فَوَلَّوْا وُجُوهَهُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.
(13) - صحيح البخارى (4725)
(14) - موطأ مالك (1324 ) صحيح السقاية : برادة يبرد فيها الماء
(15) - سنن الترمذى (1332 ) صحيح(1/80)
وَمِنْ ذَلِكَ إنْفَاذُهُ - صلى الله عليه وسلم - عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ مُتَحَمِّلًا وَرَسُولًا مُؤَدِّيًا عَنْهُ ، حَتَّى بَلَغَهُ أَنَّ قُرَيْشًا قَتَلَتْهُ ، فَقَلِقَ لِذَلِكَ وَبَايَعَ لِأَجْلِهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَقَالَ : { وَاَللَّهِ لَئِنْ كَانُوا قَتَلُوهُ لِأُناجزنَّهمْ }(1).
وَمِنْ ذَلِكَ تَوْلِيَتُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْجِبَايَاتِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَمَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ وَالزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَغَيْرهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ .
وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُلْزِمُ أَهْلَ النَّوَاحِي قَبُولَ قَوْلِ رُسُلِهِ وَسُعَاتِهِ وَحُكَّامِهِ ، وَلَوْ احْتَاجَ فِي كُلِّ رَسُولٍ إلَى تَنْفِيذِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ مَعَهُ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ وَخَلَتْ دَارُ هِجْرَتِهِ عَنْ أَصْحَابِهِ وَأَنْصَارِهِ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ وَفَسَدَ النِّظَامُ وَالتَّدْبِيرُ ، وَذَلِكَ وَهْمٌ بَاطِلٌ قَطْعًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَجِبْ عَلَيْهِمْ قَبُولُ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَلْ أَصْلِ الدَّعْوَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْمُعْجِزَةِ .
قُلْنَا : أَمَّا أَصْلُ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ فَكَانَ يَجِبُ قَبُولُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْفُذُونَ لِشَرْحِ وَظَائِفِ الشَّرْعِ بَعْدَ انْتِشَارِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ ، وَأَمَّا أَصْلُ الرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ فَلَا ، إذْ كَيْفَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ تَصْدِيقِي وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا بِرِسَالَتِهِ ؟ أَمَّا بَعْدَ التَّصْدِيقِ بِهِ فَيُمْكِنُ الْإِصْغَاءُ إلَى رُسُلِهِ بِإِيجَابِهِ الْإِصْغَاءَ إلَيْهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا دَلَّ قَاطِعٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ كَمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ عِنْدَكُمْ ، فَأُولَئِكَ بِمَاذَا صَدَّقُوا الْوُلَاةَ فِي قَوْلِهِمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ الْعَمَلُ بِقَوْلِنَا ؟ قُلْنَا : قَدْ كَانَ تَوَاتَرَ إلَيْهِمْ مِنْ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يُنْفِذُ الْوُلَاةَ وَالرُّسُلَ آحَادًا كَسَائِرِ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ ، وَلَوْلَا عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ لَجَازَ لِلْمُتَشَكِّكِ أَنْ يُجَادِلَ فِيهِ إذَا عَرَضَ لَهُ شَكٌّ ، وَلَكِنْ قَلَّ مَا يَعْرِضُ الشَّكُّ فِيهِ مَعَ الْقَرَائِنِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُ بِلَادَنَا مَعَ مَنْشُورِ الْقَضَاءِ قَدْ لَا يُخَالِجُنَا رَيْبٌ فِي صِدْقِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ إلَيْنَا ، وَلَكِنْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ لِخَطِّ الْكَاتِبِ وَبِبُعْدِ جُرْأَتِهِ عَلَى الْكَذِبِ مَعَ تَعَرُّضِهِ لِلْخَطَرِ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ .
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْعَامِّيَّ بِالْإِجْمَاعِ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الْمُفْتِي وَتَصْدِيقِهِ مَعَ أَنَّهُ رُبَّمَا يُخْبِرُ عَنْ ظَنِّهِ ، فَاَلَّذِي يُخْبِرُ بِالسَّمَاعِ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ أَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ ، وَالْكَذِبُ وَالْغَلَطُ جَائِزَانِ عَلَى الْمُفْتِي كَمَا عَلَى الرَّاوِي ، بَلْ الْغَلَطُ عَلَى الرَّاوِي أَبْعَدُ لِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا فَإِنَّمَا يَكُونُ مُصِيبًا إذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي إتْمَامِ النَّظَرِ ، وَرُبَّمَا يُظَنُّ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ وَيَكُونُ قَدْ قَصَّرَ .
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مُقَلِّدِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا نَقَلَ مَذْهَبَهُ أَوْقَعُ لِأَنَّهُ يَرْوِي مَذْهَبَ غَيْرِهِ فَكَيْفَ لَا يَرْوِي قَوْلَ غَيْرِهِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : هَذَا قِيَاسٌ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأُصُولِ بِالظَّنِّ وَالْقِيَاسِ ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَصْلٌ ، كَيْفَ وَلَا يَنْقَدِحُ وَجْهُ الظَّنِّ ؟ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ مِمَّا يُضْطَرُّ إلَيْهِ ، وَلَوْ كُلِّفَ آحَادُ الْعَوَامّ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى تَقْلِيدِ الْمُفْتِي .
قُلْنَا : لَا ضَرُورَةَ فِي ذَلِكَ ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى الْمَعْرِفَةِ ، كَمَا وَجَبَ عَلَى الْمُفْتِي بِزَعْمِكُمْ إذَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَنْ يَرُدَّ الْخَبَرَ فَيَرْجِعَ إلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّوَاتُرُ .
ثُمَّ نَقُولُ : لَيْسَ هَذَا قِيَاسًا مَظْنُونًا بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ بِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَنْكِحَةِ لَقَطَعْنَا بِهِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْأَمْرُ بِاخْتِلَافِ الْمَرْوِيِّ ، وَهَهُنَا لَمْ يَخْتَلِفْ إلَّا الْمُخْبَرُ عَنْهُ فَإِنَّ الْمُفْتِيَ يُخْبِرُ عَنْ ظَنِّ نَفْسِهِ وَالرَّاوِيَ عَنْ قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا لَمْ يُفَرِّقْ فِي حَقِّ الشَّاهِدَيْنِ بَيْنَ أَنْ يُخْبِرَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَنْ غَيْرِهِمَا إذَا شَهِدَا عَلَى عَدَالَةِ غَيْرِهِمَا أَوْ يُخْبِرَا عَنْ ظَنِّ أَنْفُسِهِمَا الْعَدَالَةَ فِي غَيْرِهِمَا.
الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : قَوْله تَعَالَى : وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) [التوبة/122] فَالطَّائِفَةُ نَفَرٌ يَسِيرٌ كَالثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ .
وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاطِعًا فَهُوَ فِي وُجُوبِ الْإِنْذَارِ لَا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَى الْمُنْذَرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُنْذِرِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ لَا لِيَعْمَلَ بِهَا وَحْدَهَا ، لَكِنْ إذَا انْضَمَّ غَيْرُهَا إلَيْهَا .
وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ هُوَ الَّذِي يُضَعِّفُ أَيْضًا التَّمَسُّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) [البقرة/159، 160] } وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا }(2)الْحَدِيثَ وَأَمْثَالُهُمَا .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَهُ شُبْهَتَانِ :
الشُّبْهَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُمْ : لَا مُسْتَنَدَ فِي إثْبَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إلَّا الْإِجْمَاعَ ، فَكَيْفَ يَدَّعِي ذَلِكَ وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إلَّا وَقَدْ رَدَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ؟ فَمِنْ ذَلِكَ تَوَقُّفُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَبُولِ خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ حَيْثُ سَلَّمَ عَنْ اثْنَتَيْنِ حَتَّى سَأَلَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَشَهِدَا بِذَلِكَ وَصَدَّقَاهُ ، ثُمَّ قَبِلَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ .
وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ مِنْ مِيرَاثِ الْجَدِّ حَتَّى أَخْبَرَهُ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ .
وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا رَوَاهُ مِنْ اسْتِئْذَانِهِ الرَّسُولَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَطَالَبَاهُ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَهُ بِذَلِكَ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اُشْتُهِرَ مِنْ رَدِّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى شَهِدَ لَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ عَلَى الْحَدِيثِ .
وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ .
وَظَهَرَ مِنْ عُمَرَ نَهْيُهُ لِأَبِي مُوسَى وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ الْحَدِيثِ عَنْ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ .
وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُ عَدَدًا فِي الرَّاوِي لَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّوَاتُرَ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فَيَنْتَظِرُوا التَّوَاتُرَ .
لَكِنَّا نَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ : الَّذِي رَوَيْنَاهُ قَاطِعٌ فِي عَمَلِهِمْ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ رَدٌّ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ تَقْتَضِي الرَّدَّ وَلَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ ، كَمَا أَنَّ رَدَّهُمْ بَعْضَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَتَرْكَهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وَرَدَّ الْقَاضِي بَعْضَ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ .
وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى جِنْسِ الْمَعَاذِيرِ فِي رَدِّ الْأَخْبَارِ وَالتَّوَقُّفِ فِيهَا : أَمَّا تَوَقُّفُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ فَيَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ جَوَّزَ الْوَهْمَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ وَبَعْدَ انْفِرَادِهِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مَعَ غَفْلَةِ الْجَمِيعِ إذْ الْغَلَطُ عَلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ الْغَفْلَةِ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ ، وَحَيْثُ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْوَهْمِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ وَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ تَوَقُّفِهِ أَنْ يُعْلِمَهُمْ وُجُوبَ التَّوَقُّفِ فِي مِثْلِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ لَصَارَ التَّصْدِيقُ مَعَ سُكُوتِ الْجَمَاعَةِ سُنَّةً مَاضِيَةً ، فَحَسَمَ سَبِيلَ ذَلِكَ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا لَوْ عُلِمَ صِدْقًا لَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ وَاشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُمْ فَأُلْحِقَ بِقَبِيلِ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ ، وَالْأَقْوَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
نَعَمْ لَوْ تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ يَشْتَرِطُ عَدَدَ الشَّهَادَةِ فَيَلْزَمُهُ اشْتِرَاطُ ثَلَاثَةٍ وَيَلْزَمُهُ أَنْ تَكُونَ فِي جَمْعٍ يَسْكُتُ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ .
أَمَّا تَوَقُّفُ أَبِي بَكْرٍ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ فِي تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ فَلَعَلَّهُ كَانَ هُنَاكَ وَجْهٌ اقْتَضَى التَّوَقُّفَ ، وَرُبَّمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، أَوْ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ أَوْ لِيَعْلَمَ هَلْ عِنْدَ غَيْرِهِ مِثْلُ مَا عِنْدَهُ .
لِيَكُونَ الْحُكْمُ أَوْكَدَ أَوْ خِلَافَهُ فَيَنْدَفِعَ ، أَوْ تَوَقَّفَ فِي انْتِظَارِ اسْتِظْهَارٍ بِزِيَادَةٍ كَمَا يَسْتَظْهِرُ الْحَاكِمُ بَعْدَ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَى جَزْمِ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يُصَادِفْ الزِّيَادَةَ لَا عَلَى عَزْمِ الرَّدِّ أَوْ أَظْهَرَ التَّوَقُّفَ لِئَلَّا يَكْثُرَ الْإِقْدَامُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْ تَسَاهُلٍ ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ إذْ ثَبَتَ مِنْهُ قَطْعًا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَتَرْكُ الْإِنْكَارِ عَلَى الْقَائِلِينَ بِهِ .
وَأَمَّا رَدُّ حَدِيثِ عُثْمَانَ فِي حَقِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ فَلِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ إثْبَاتِ حَقٍّ لِشَخْصٍ فَهُوَ كَالشَّهَادَةِ لَا تَثْبُتُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ ، أَوْ تَوَقَّفَ لِأَجْلِ قَرَابَةِ عُثْمَانَ مِنْ الْحَكَمِ وَقَدْ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ كَلِفٌ بِأَقَارِبِهِ فَتَوَقَّفَ تَنْزِيهًا لِعِرْضِهِ وَمَنْصِبِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ مُتَعَنِّتٌ : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقَرَابَتِهِ حَتَّى ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ ، أَوْ لَعَلَّهُمَا تَوَقَّفَا لِيَسُنَّا لِلنَّاسِ التَّوَقُّفَ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ الْمُلَاطَفِ لِيُتَعَلَّمَ مِنْهُمَا التَّثَبُّتُ فِي مِثْلِهِ .
وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ فَقَدْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ لِيَدْفَعَ بِهِ سِيَاسَةَ عُمَرَ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ بَابِهِ بَعْدَ أَنْ قَرَعَ ثَلَاثًا كَالْمُتَرَفِّعِ عَنْ الْمُثُولِ بِبَابِهِ ، فَخَافَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِغَيْرِهِ إلَى أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَلَى حَسَبِ غَرَضِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مَعَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَشَهِدَ لَهُ قَالَ عُمَرُ : إنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّوَقُّفُ مَعَ انْتِفَاءِ التُّهْمَةِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ ،كَيْفَ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا تُسَاوِي فِي الشُّهْرَةِ وَالصِّحَّةِ أَحَادِيثَنَا فِي نَقْلِ الْقَوْلِ عَنْهُمْ ؟ وَأَمَّا رَدُّ عَلِيٍّ خَبَرَ الْأَشْجَعِيِّ فَقَدْ ذَكَرَ عِلَّتَهُ وَقَالَ : كَيْفَ نَقْبَلُ قَوْلَ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ ؟ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ وَضَبْطَهُ ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِالْجَفَاءِ وَتَرْكِ التَّنَزُّهِ عَنْ الْبَوْلِ ، كَمَا قَالَ عُمَرُ فِي فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي حَدِيثِ السُّكْنَى : لَا نَدَعْ كِتَابَ رَبّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ .
فَهَذَا سَبِيلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُنْقَلُ مِنْ التَّوَقُّفِ فِي الْأَخْبَارِ .
الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ : تَمَسُّكُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وقَوْله تَعَالَى : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } وَالْجَهَالَةُ فِي قَوْلِ الْعَدْلِ حَاصِلَةٌ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ إنْكَارَهُمْ الْقَوْلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ بَلْ يَجُوزُ الْخَطَأُ فِيهِ ، فَهُوَ إذًا حُكْمٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ .
الثَّانِي : أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ مَعْلُومٌ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْآيَاتِ مَنْعُ الشَّاهِدِ عَنْ جَزْمِ الشَّهَادَةِ بِمَا لَمْ يُبْصِرْ وَلَمْ يَسْمَعْ وَالْفَتْوَى بِمَا لَمْ يُرْوَ وَلَمْ يَنْقُلْهُ الْعُدُولُ .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا لَوْ دَلَّ عَلَى رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَدَلَّ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ وَالْأَرْبَعَةِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ وَالْحُكْمِ بِالْيَمِينِ ، فَكَمَا عُلِمَ بِالنَّصِّ فِي الْقُرْآنِ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ مَعَ تَجْوِيزِ الْكَذِبِ فَكَذَلِكَ بِالْأَخْبَارِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ يَجِبُ تَحْرِيمُ نَصْبِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ إيمَانَهُمْ عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ فَلْيَمْتَنِعْ الِاقْتِدَاءُ ".
وقال الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:(3)
"أَخْبَرَنِي أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَالِكِيُّ , قَالَ : قَرَأْتُ عَلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الطَّيِّبِ , قَالَ : " فَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ : إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ , فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ لَا يُحَصِّلُ عِلْمَ هَذَا الْبَابِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ حَقِّهِ أَلَّا يَكُونَ عِلْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ , إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مَعْلُومُهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ " قَالَ : وَتَعَلُّقُهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ بَعِيدٌ , لِأَنَّهُ أَرَادَ تَعَالَى _ وَهُوَ أَعْلَمُ _ : فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ فِي إِظْهَارِهِنَّ الشَّهَادَتَيْنِ وَنُطْقِهِنَّ بِهِمَا , وَظُهُورُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ مَعْلُومٌ يُدْرَكُ إِذَا وَقَعَ , وَإِنَّمَا سُمِّيَ النُّطْقُ بِهَا إِيمَانًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ , وَعَلَمٌ فِي اللِّسَانِ عَلَى إِخْلَاصِ الِاعْتِقَادِ وَمَعْرِفَةِ الْقَلْبِ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا , وَلِذَلِكَ نَفَى تَعَالَى الْإِيمَانَ عَمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَهُ , فِي قَوْلِهِ : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا , أَيْ : قُولُوا : اسْتَسْلَمْنَا فَزَعًا مِنْ أَسْيَافِهِمْ . قَالَ : وَأَمَّا التَّعَلُّقُ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِهِ وَجَبَ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ , لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ , وَقَوْلِهِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّهُ أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَنَى تَعَالَى بِذَلِكَ أَنْ لَا تَقُولُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ إِيجَابَهُ , وَالْقَوْلُ وَالْحُكْمُ بِهِ عَلَيْكُمْ , وَلَا تَقُولُوا سَمِعْنَا وَرَأَيْنَا وَشَهِدْنَا , وَأَنْتُمْ لَمْ تَسْمَعُوا وَتَرَوْا وَتُشَاهِدُوا , وَقَدْ ثَبَتَ إِيجَابُهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَتَحْرِيمِ الْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ صَدَقَ أَوْ كَذَبَ , فَالْحُكْمُ بِهِ مَعْلُومٌ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ , وَشَهَادَةٌ بِمَا يَعْلَمُ وَيَقْطَعُ بِهِ , وَلَوْ كَانَ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَدَلَّ عَلَى صِدْقِ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ صِدْقِ يَمِينِ الطَّالِبِ لِلْحَقِّ , وَأَوْجَبَ الْقَطْعَ بِإِيمَانِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي , إِذْ لَزِمَنَا الْمَصِيرُ إِلَى أَحْكَامِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ , لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ , وَهَذَا عَجْزٌ مِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهِ , فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ "
وفي فتاوى الرملي(4):
"( سُئِلَ ) عَنْ رَجُلٍ أَعْمَى يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ الشَّرِيفِ الْمَكِّيِّ بَعِيدًا عَنْ الْكَعْبَةِ يَدُلُّهُ شَخْصٌ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ لَهَا حِينَئِذٍ فَهَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى يَلْمِسَهَا وَيَسْتَقْبِلَهَا وَيَحْصُلَ الْيَقِينُ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى مَا عَلَّلُوا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ أَمْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَلَا نَظَرَ إلَى الْمَشَقَّةِ فِيهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَائِلِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمَا ؟
( فَأَجَابَ ) بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَعْمَى الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْجِدِ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِمَنْ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ إذَا قَدَرَا عَلَى الْقَطْعِ بِالتَّحْسِيسِ أَنْ يَرْجِعَا إلَى قَوْلِ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ عِلْمٍ ، وَلَا أَنْ يَجْتَهِدَا ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْآحَادِ وَالِاجْتِهَادَ إنَّمَا يُفِيدَانِ الظَّنَّ وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْحِجْرِ بِكَسْرِ الْحَاءِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ الْبَيْتِ أَخْبَارُ آحَادٍ ، وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَ الْقِبْلَةِ جَازَ لَهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ ثِقَةٍ يُخْبِرُ عَنْ عِلْمٍ إذَا شَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَ الْكَعْبَةَ قِيَاسًا عَلَى مَا إذَا حَالَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ خِلْقِيٌّ وَكَذَا طَارِئٌ لَمْ يُحْدِثْهُ بِلَا حَاجَةٍ وَإِنْ كَانَ خَارِجَ مَكَّةَ بِقُرْبِهَا فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ ."
وفي البحر المحيط(5):
__________
(1) - دلائل النبوة للبيهقي (1468) صحيح مرسل
(2) - سنن الترمذى (2870 ) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلاَثٌ لاَ يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومِ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ ». حسن لغيره
(3) - الكفاية في علم الرواية - (ج 1 / ص 25)( 39 )
(4) - (ج 1 / ص 306)
(5) - البحر المحيط في أصول الفقه - (ج 3 / ص 322)(1/81)
"مَسْأَلَةٌ [ إفَادَةُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ ] إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، فَهَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُهُ .
وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِحْكَامِ " عَنْ دَاوُد وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيِّ ، وَالْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَغَيْرِهِمْ .قَالَ : وَبِهِ نَقُولُ .قَالَ : وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .ا هـ .
وَفِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْحَارِثِ نَظَرٌ ، فَإِنِّي رَأَيْت كَلَامَهُ فِي كِتَابِ فَهْمِ السُّنَنِ " ، نَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ أَقَلُّهُمْ : يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَلَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا ، وَاحْتَجَّ بِإِمْكَانِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ مِنْ نَاقِلِهِ كَالشَّاهِدَيْنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا لَا الْعِلْمُ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْكَرَابِيسِيِّ وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ أَحْمَدَ ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ .
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : ذَهَبَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ إلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ ، وَنَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ وَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ .
لَكِنْ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ ، وَنَازَعَهُ الْمَازِرِيُّ ، وَقَالَ : لَمْ يُعْثَرْ لِمَالِكٍ عَلَى نَصٍّ فِيهِ ، وَلَعَلَّهُ رَأَى مَقَالَةً تُشِيرُ إلَيْهِ ، وَلَكِنَّهَا مُتَأَوَّلَةٌ .
قَالَ : وَقِيلَ : إنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ ، وَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُثْمِرُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ .
وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ لَهُ قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي إسْنَادِهِ إمَامٌ مِثْلُ مَالِكٍ ، وَأَحْمَدَ وَسُفْيَانَ ، وَإِلَّا فَلَا يُوجِبُهُ .
وَعَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ يُوجِبُهُ مُطْلَقًا .
وَنَقَلَ الشَّيْخُ فِي التَّبْصِرَةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ كَحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ قَطْعًا بِخِلَافِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْمُتَوَاتِرِ ، وَهَلْ يُوجِبُ الظَّاهِرَ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْعِلْمِ مِنْ نَتَائِجِ بَاطِنِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقَا .
وَالثَّانِي : يُوجِبُهُ ؛ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إلَيْهِ مُوجِبٌ لَهُ ، وَلَوْلَاهَا كَانَ ظَنًّا .اهـ .
وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ وَكَأَنَّ مُرَادَهُ غَالِبُ الظَّنِّ ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ لَا يَتَفَاوَتُ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ ، فَقَالَ : قَائِلُ هَذَا أَرَادَ غَلَبَةَ الظَّنِّ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعِلْمِ ظَاهِرٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْلُومٌ .
وَجَزَمَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فَقَالَ : خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ .
وَقَالَ : يَعْنِي بِالْعِلْمِ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ لَا عِلْمَ الظَّاهِرِ .وَنَقَلَهُ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ .
قَالَ : وَالْقَائِلُ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ ، إنْ أَرَادَ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ فَقَدْ أَصَابَ ، وَإِنْ أَرَادَ الْقَطْعَ حَتَّى يَتَسَاوَى مَعَ التَّوَاتُرِ فَبَاطِلٌ ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ : إنَّا نَقْطَعُ عَلَى اللَّهِ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ النَّصِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَنْقُضُ حُكْمَ مَنْ تَرَكَ أَخْبَارَ الْآحَادِ .
وَحَكَى عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ أَمْ لَا ؟ ثُمَّ قَالَ : إنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ ، فَصَارَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى عِلْمًا أَمْ لَا ؟ وَقَالَ الْهِنْدِيُّ : إنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ : يُفِيدُ الْعِلْمَ ، أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ ، أَوْ أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الظَّنِّ ، فَلَا نِزَاعَ فِيهِ ؛ لِتَسَاوِيهِمَا ، وَبِهِ أَشْعَرَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ أَوْ قَالُوا : يُورِثُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ الظَّنُّ ، وَإِنْ أَرَادُوا مِنْهُ أَنَّهُ يُفِيدُ الْجَزْمَ صَدَقَ مَدْلُولُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاطِّرَادِ ، كَمَا نَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ ، أَوْ لَا عَلَى وَجْهِ الِاطِّرَادِ ، بَلْ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ دُونَ الْكُلِّ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ ، فَهُوَ بَاطِلٌ .ا هـ .
وَلَعَلَّ مُرَادَ أَحْمَدَ إنْ صَحَّ عَنْهُ إفَادَةُ الْخَبَرِ ؛ لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ مَا إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ ، وَسَلِمَتْ عَنْ الطَّعْنِ فَإِنَّ مَجْمُوعَهَا يُفِيدُ ذَلِكَ .
وَلِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَوْ لَمْ نَكْتُبْ الْحَدِيثَ مِنْ ثَلَاثِينَ وَجْهًا مَا عَقَلْنَاهُ .
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى قَوْلَ أَحْمَدَ فِي أَحَادِيثِ الرُّؤْيَةِ : نُؤْمِنُ بِهَا ، وَنَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ يَقْطَعُ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا .
قَالَ : فَذَهَبَ إلَى ظَاهِرِ هَذَا الْكَلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَقَالُوا : خَبَرُ الْوَاحِدِ إنْ كَانَ شَرْعِيًّا أَوْجَبَ الْعِلْمَ .
قَالَ : وَعِنْدِي هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ ، لَا مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ ، وَأَنَّ الْقَطْعَ حَصَلَ اسْتِدْلَالًا بِأُمُورٍ انْضَمَّتْ إلَيْهِ مِنْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهَا بِالْقَبُولِ ، أَوْ دَعْوَى الْمُخْبِرِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ بِحَضْرَتِهِ ، فَيَسْكُتُ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ ، أَوْ دَعْوَاهُ عَلَى جَمَاعَةٍ حَاضِرِينَ السَّمَاعَ مِنْهُ ، فَمَا يُنْكِرُونَهُ .
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : قَدْ أَكْثَرَ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ حِكَايَةِ إفَادَتِهِ الْقَطْعَ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ ، أَوْ بَعْضِهِمْ ، وَتَعَجَّبَ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّا نُرَاجِعُ أَنْفُسَنَا فَنَجِدُ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُحْتَمِلًا لِلْكَذِبِ وَالْغَلَطِ ، وَلَا قَطْعَ مَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ ، لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ لَهُ مُسْتَنَدٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْأَكْثَرُونَ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ مَا صَحَّ مِنْ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ مُحْتَمِلٌ ؛ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ .
وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يُقْطَعَ بِصِحَّتِهِ ؛ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَحْفُوظَةٌ ، وَالْمَحْفُوظُ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ ، فَلَوْ كَانَ مَا ثَبَتَ عِنْدَنَا مِنْ الْأَخْبَارِ كَذِبًا لَدَخَلَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَالْحِفْظُ يَنْفِيهِ ، وَالْعِلْمُ بِصِدْقِهِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، لَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ ، فَصَارَ هَذَا كَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَحُكْمُهُمْ لَا يَقْتَضِي الْعِصْمَةَ ، لَكِنْ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ قَوْلًا لَهُمْ وَحُكْمًا ، وَأَخَذُوا الْحِفْظَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَرَّرُوهُ يَقَعُ فِيهِ الْبَحْثُ مَعَهُمْ .
قَالَ : وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ خَارِجٌ عَنْ ضُرُوبِ الْعَقْلِ ، فَبَيَّنَّا هَذَا دَفْعًا لِهَذَا الْوَهْمِ ، وَتَنْبِيهًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ ، وَيُبْحَثَ مَعَهُمْ فِيهِ ، وَهُوَ الْمَحَلُّ الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنْ قِيَامِ الْقَاطِعِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ لَهُمْ فِيهِ : إنَّ هَذَا الْقَاطِعَ ، أَعْنِي الْعِلْمَ بِصِحَّةِ كُلِّ مَا صَحَّ عِنْدَنَا وَبِكَذِبِ كُلِّ مَا لَمْ يَصِحَّ ، إمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوْ إلَى بَعْضِهَا ، فَإِنْ أُخِذَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجَمِيعِ فَمُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ فَرْدٍ هُنَا إلَّا إذَا أَثْبَتْنَا الْعَزْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْأُمَّةِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ .
وَإِنْ أَخَذْنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَعْضِ لَمْ يُفِدْ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأُمَّةِ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ ، وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى حَدِيثٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَإِنْ قَالَ : إذَا لَمْ أَطَّلِعْ عَلَيْهِ ، فَالْأَصْلُ عَدَمُ اطِّلَاعِ غَيْرِي عَلَيْهِ ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ .
قُلْنَا : أَنْتَ تَدَّعِي الْقَطْعَ ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ .
تَنْبِيهَاتٌ .
الْأَوَّلُ : هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرِينَةٌ لِغَيْرِ التَّعْرِيفِ ، فَإِنْ كَانَ ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ ، فَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ قَدْ سَبَقَتْ.
مِنْهَا الْإِخْبَارُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا يُنْكِرُهُ ، أَوْ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَيُقِرُّوهُ ، أَوْ بِأَنْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَوْ الْعَمَلِ ، أَوْ بِأَنْ يَحْتَفَّ بِقَرَائِنَ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ .
الثَّانِي : لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَابِطِ الْقَرَائِنِ ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَيْهَا بِعِبَارَةٍ تَضْبِطُهَا .
قُلْت : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مَا لَا يَبْقَى مَعَهَا احْتِمَالٌ ، وَتَسْكُنُ النَّفْسُ عِنْدَهُ ، مِثْلُ سُكُونِهَا إلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ .
الثَّالِثُ : زَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مَعْنَوِيٌّ .وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ .
إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ هَلْ يَكْفُرُ جَاحِدُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؟ إنْ قُلْنَا : يُفِيدُ الْقَطْعَ كَفَرَ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَامِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي تَكْفِيرِهِ وَجْهَيْنِ ، وَلَعَلَّ هَذَا مَأْخَذُهَا .
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ هَلْ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ ؟ فَمَنْ قَالَ : يُفِيدُ الْعِلْمَ قَبِلَهُ ، وَمَنْ قَالَ : لَا يُفِيدُ لَمْ يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِهِ إذْ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْقَطْعِ مُمْتَنِعٌ .
ـــــــــــــــ(1/82)
والقولُ الثاني أنه يفيد القطع واليقين ، بعكس القول الأول
قال ابن جبرين(1):
" هذا القول هو مذهب جمهور السلف، وأكثر المحدثين والفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم(2)، وهو الصحيح عن الإمام أحمد رحمه الله فقد اشتهر عنه القطع بأَحاديث الرؤية والعلم بمدلولها، وذلك يحتمل أنها عنده من المتواتر المعنوي لكثرتها، ويحتمل أنه يقطع بالآحاد.
والصحيح المشهور عنه القطع بثبوت الحديث متى توفرت فيه شروط الصحة؛ فقد حكى عنه غير واحد القطع المطرد في خبر الثقة بإفادة العلم.
ويتأيد ذلك بما اشتهر عنه من الشهادة للعشرة بالجنة مع أن الخبر فيهم آحاد، ولم يخرجه أهل الصحيحين، ولكنه مما تلقي بالقبول. والشهادة لا تكون إلا بعد العلم بالمشهود به.
وقال المروذي: قلت لأبي عبدالله: ها هنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، فعابه وقال: لا أدري ما هذا؟ فإنكاره لهذا القول صريح في أنه يُسوي بين العلم والعمل.
ونص في رواية أحمد بن الحسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما الرواية الثانية عنه بترك الجزم فغير صحيحة عنه، وإن اشتهرت عند الأصوليين؛ وعمدتها ما حكاه الأثرم عنه أنه قال: إذا جاء الحديث بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض، عملت به ودنت الله به، ولا أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك.
وهذه الرواية انفرد بها الأثرم، وليست في مسائله، ولا في كتاب السنة، وإنما نقلها شيخ الإسلام ابن تيمية من خط القاضي، على ظهر المجلد الثاني من العمدة، والقاضي ذكر أنه نقلها من كتاب معاني الحديث للأثرم، بخط أبي حفص العكبري. ولم يذكر الأثرم أنه سمع ذلك من الإمام أحمد، ولعله بلغه من واهم وهم عليه في لفظه وعلى تقدير ثبوتها فلعل توقفه عن الشهادة بها على سبيل التورع، فقد كان رحمه الله يجزم بتحريم أشياء وبوجوب أشياء، ويتورع عن إطلاق لفظ التحريم أو الوجوب، بل يقول: أكره كذا، أو أستحب كذا.
فأما ما روي عنه أنه قال: ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله، ولا على أحد أنه في الجنة لصالح عمله، إلا أن يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء، ولا ننص الشهادة فقد فسر القاضي أبو يعلى قوله: ولا ننص الشهادة. بأن معناه: ولا نقطع على ذلك. ورد عليه شيخ الإسلام وبين أن مراده: لا نشهد على معين. وأبطل تفسير القاضي بقوله في شأن الحديث: ونعلم أنه كما جاء، فإنه يقتضي صريحاً إفادة العلم عنده.
فتحقق بذلك ضعف الرواية بعدم القطع، وترجحت الرواية الأولى والحمد لله، وقد عرفت بهذا مستند من أثبت عن أحمد فيه روايتين، ومن رجح عنه إفادة الظن، وهو ما فهموه من هذه الرواية الموهمة، فلا تنخدع بتتابع أهل الأصول على ترجيحهم عنه ما اختاروه، فعذرهم كما قدمنا عدم التمكن في علم الحديث، وعدم الرجوع إلا إلى كتب أهل الكلام.
فأما ما نقل الآمدي عن أحمد من القول بإفادة الخبر العلم اليقيني من غير قرينة، واطراد ذلك في كل خبر. فإن هذا القول ليس على إطلاقه، لما فيه من المجازفة، ولا يظن بعاقل أنه يصدق كل ما سمعه من خبر، مع ما عهد في الناس من كثرة الكذب، واختلاق الأخبار التي لا حقيقة لها.
وقد اشتهر عن الإمام أحمد ما لا يحصى من كلامه في الجرح والتعديل، ورده لأخبار الضعفاء، فهو لا يقبل الخبر للعلم به والعمل بمقتضاه إلا بعد توفر شروط القبول فيه.
وقد نقل السخاوي في فتح المغيث له حكاية الجزم بكل خبر متلقى بالقبول، عن جمهور المحدِّثين وعامة السلف. وذكر الإسفرائيني إجماع أهل الصنعة على القطع بصحة ما في الصحيحين وأن من حكم بخلاف ما فيهما بغير تأويل سائغ نقض حكمه.
ونقل السيوطي في التدريب عن الحافظ السجزي إجماع الفقهاء أن من حلف على صحة ما في البخاري لم يحنث. ونقل عن إمام الحرمين أنه قال: لو حلف بطلاق زوجته أن ما في الصحيحين من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألزمته بالطلاق.
وقال أبو عمرو ابن الصلاح بعد ذكر الحديث الصحيح المتلقى بالقبول: وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفى ذلك؛ محتجاً بأنه لا يفيد إلا الظن .. قال: وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح، لأن ظن من هو معصوم عن الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعاً بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول .. سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدار قطني وغيره. انتهى.
فقد اختار هذا الإمام القطع بثبوت ما في الصحيحين، لما اتضح له الدليل، ولم يبال بكثرة المخالفين، وكأنه لم يطلع على أقوال السلف والأئمة، وموافقتهم لما رجحه ليتقوى بهم، وقد تعقبه بعض المشايخ من أهل العلم والصلاح، كالنووي وغيره، وظنوا أنه قد انفرد بهذا القول عن الجمهور والمحققين؛ وهم معذورون في ذلك على اجتهادهم، حيث إنه ليس لهم بهذا الباب خبرة تامة، وإنما يرجعون فيه إلى ما يجدونه في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة كابن الحاجب، والرازي، والغزالي، والباقلاني، والجبائي، وأبي الحسين البصري، ونحوهم.
وقد رد البلقيني على النووي، وذكر أن اختيار ابن الصلاح هو المحكي عن فضلاء أهل المذاهب وأهل الحديث، وعامة السلف. وتعقبه أيضاً ابن حجر بأن كثيراً من المحققين وافقوا ابن الصلاح. وقد اختار ذلك أيضاً ابن كثير والسيوطي.
وذكر في شرح الكوكب أن أكثر الأصحاب قالوا: إنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن التي تسكن إليها النفس؛ وأن المسلسل بالأئمة الحفاظ يفيد العلم، وهو المذهب، وظاهر كلام الأصحاب، وجزم به ابن أبي موسى في الإرشاد.
قال القاضي في مقدمة المجرد: خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف فيه الرواية، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه، وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول، قال: والمذهب على ما حكيت لا غير أهـ.
وقال الشيخ تقي الدين: أكثر أهل الأصول وعامة الفقهاء من الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية قالوا: يفيد العلم، ويقطع بصحته إذا تلقته الأمة بالقبول، أو عملت به، إلا فرقة تبعت أهل الكلام، وذكر أن بعض المحدثين قال: إن فيه ما يوجب العلم اليقيني، كرواية مالك عن نافع عن ابن عمر.
وقد نص مالك على إفادته العلم، وقطع به ابن خويز منداد، وحكاه عن مالك، وهو قول عامة الفقهاء من المالكية ذكره عبدالوهاب.
وعليه الشافعية بلا نزاع، فقد صَّرح به الشافعي في الرسالة، وفي اختلاف مالك.
وعليه أيضاً أصحاب أبي حنيفة، وداود وأصحابه، كما نصره ابن حزم في الأحكام، ونص عليه الحسين الكرابيسي، وأبو إسحاق الشيرازي في كتبه الأصول، سواء عمل به الكل أو البعض، وقد صَّرح الحنفية بأن المستفيض يوجب العلم كحديث: (لا وصية لوارث) وحديث أخذ الجزية من المجوس، وحديث ميراث الجدة السدس، ونحوها مما عمل به السلف والخلف، وكلها آحاد. فقد رأيت إجماع السلف على القطع بصحتها، ورأيت كيف تناقل هذا القول أصحاب الأئمة الأربعة، وجزموا به في مؤلفاتهم، وكذا من اختاره من المتكلمين، كأبي إسحاق الإسفرائيني، وابن فورك وغيرهما. اهـ
قلتُ :
من هذه النقول يتبين لنا أن مجرد خبر الآحاد لا يفيد العلم اليقيني، بل لا بد من احتفاف القرائن به حتى يفيد العلم .
وهذا ينقض ما ذهب إليه المؤلف ، وقد ورد عن الإمام أحمد وغيره عكس ما يقول ويدَّعي .
وأمَّا اتهامه لعلماء الأصول بأنهم لا يرجعون إلى السنَّة، ولكن إلى علم الكلام فقولٌ باطلٌ عريٌّ عن الدليل ، ففيهم المحدِّثُ وفيهم المفسِّرُ وفيهم النظارُ
فهذا القول تهمة خطيرة لعلماء الأصول، والذين نتطفل على موائدهم ،بل طعن بالدِّين الذي حموه وقعَّدوا قواعدَهُ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(3):
" وَالْمُرْسَلُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَهُ مَنْ دُونَ الصَّحَابَةِ , وَلَا يَذْكُرُ عَمَّنْ أَخَذَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ . ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي مُرْسَلًا إلَّا مَا أَرْسَلَهُ التَّابِعِيُّ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّ مَا أَرْسَلَهُ غَيْرُ التَّابِعِيِّ مُرْسَلًا . وَكَذَلِكَ مَا يَسْقُطُ مِنْ إسْنَادِهِ رَجُلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّهُ بِاسْمِ الْمُنْقَطِعِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يُدْرِجُهُ فِي اسْمِ الْمُرْسَلِ , كَمَا أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُسَمِّي كُلَّ مُرْسَلٍ مُنْقَطِعًا , وَهَذَا كُلُّهُ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ . وَأَمَّا الْغَرِيبُ : فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ , ثُمَّ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا كَحَدِيثِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } . وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ . وَحَدِيثِ أَنَّهُ { دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ } , فَهَذِهِ صِحَاحٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ , وَهِيَ غَرِيبَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ . فَالْأَوَّلُ : إنَّمَا ثَبَتَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ , عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ , عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ . وَالثَّانِي : إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَالثَّالِثُ : إنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ , عَنْ الزُّهْرِيِّ , عَنْ أَنَسٍ , وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْغَرَائِبِ ضَعِيفَةٌ . وَأَمَّا الْحَسَنُ فِي اصْطِلَاحِ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ مَا رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ , وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ , وَلَا هُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ , فَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ الَّتِي شَرَطَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَسَنِ , لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ قَدْ يُسَمَّى حَسَنًا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثٍ يَقُولُ فِيهِ : حَسَنٌ غَرِيبٌ , فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ إلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَقَدْ سَمَّاهُ حَسَنًا , وَقَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا لَمْ يُرْوَ إلَّا عَنْ تَابِعِيٍّ وَاحِدٍ , لَكِنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَصَارَ حَسَنًا لِتَعَدُّدِ طُرُقِهِ عَنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ , وَهُوَ فِي أَصْلِهِ غَرِيبٌ . وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ الْحَسَنُ الْغَرِيبُ , قَدْ يَكُونُ لِأَنَّهُ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ غَرِيبٍ , ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الرَّاوِي الْأَصْلِيِّ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ وَطَرِيقٍ آخَرَ , فَيَصِيرُ بِذَلِكَ حَسَنًا مَعَ أَنَّهُ صَحِيحٌ غَرِيبٌ , لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا تَعَدَّدَ طُرُقُهُ , وَلَيْسَ فِيهَا مُتَّهَمٌ , فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فَهَذَا صَحِيحٌ مَحْضٌ , وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الطَّرِيقِينَ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَهَذَا حَسَنٌ . وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبَ الْإِسْنَادِ فَلَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ , وَهُوَ حَسَنُ الْمَتْنِ , لِأَنَّ الْمَتْنَ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ , وَلِهَذَا يَقُولُ : وَفِي الْبَابِ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ , فَيَكُونُ لِمَعْنَاهُ شَوَاهِدُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَتْنَهُ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ إسْنَادُهُ غَرِيبًا . وَإِذَا قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ , فَيَكُونُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ , وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ حَسَنٍ , فَاجْتَمَعَ فِيهِ الصِّحَّةُ وَالْحُسْنُ . وَقَدْ يَكُونُ غَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا يُعْرَفُ بِذَلِكَ الْإِسْنَادِ إلَّا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ . وَإِنْ كَانَ هُوَ صَحِيحًا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ فَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا غَرِيبًا , وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ , وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي اجْتِمَاعِ الْحَسَنِ وَالْغَرِيبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَرِيبًا حَسَنًا ثُمَّ صَارَ حَسَنًا , وَقَدْ يَكُونُ حَسَنًا غَرِيبًا كَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ : فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ , بَلْ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عَنْ إخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا , وَكَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعِلْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ . فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِمَا يُوجِبُ صِدْقَهُمْ , وَأَضْعَافِهِمْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ , وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ . وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ , وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ : تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ , وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ . وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ كَالإسْفَرايِينِيّ وَابْنِ فُورَكٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ , لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَلَقِّيه بِالتَّصْدِيقِ , كَانَ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ عَلَى حُكْمٍ , مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرِ وَاحِدٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَصِيرُ قَطْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ , فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى تَحْلِيلِ حَرَامٍ , وَلَا تَحْرِيمِ حَلَالٍ , كَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى التَّصْدِيقِ بِكَذِبٍ , وَلَا التَّكْذِيبِ بِصِدْقٍ , وَتَارَةً يَكُونُ عِلْمُ أَحَدِهِمْ لِقَرَائِنَ تَحْتَفِي بِالْأَخْبَارِ تُوجِبُ لَهُمْ الْعِلْمَ , وَمَنْ عَلِمَ مَا عَلِمُوهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا حَصَلَ لَهُمْ .اهـ
وهذا الذي نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين أن خبر الواحد لا يفيد القطعَ واليقينَ إلا بقرائنَ ، وهو المذهب الثالث فكيف تقولُ عليهم ما لم يقولوا ؟؟
قلتُ :
وهذا قول صاحب كتاب شرح الكوكب المنير وهو من أوثق كتب الحنابلة في الأصول :
قال في شرح الكوكب المنير(4):
"( وَيُفِيدُ ) الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ الْمَشْهُورُ ( عِلْمًا نَظَرِيًّا ) نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فُورَكٍ . وَقِيلَ : يُفِيدُ الْقَطْعَ ( وَغَيْرُهُ ) أَيْ وَغَيْرُ الْمُسْتَفِيضِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ( يُفِيدُ الظَّنَّ فَقَطْ وَلَوْ مَعَ قَرِينَةٍ ) عِنْدَ الْأَكْثَرِ لِاحْتِمَالِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا دُونَ عَدَدِ رُوَاةِ الْمُسْتَفِيضِ لِقُرْبِ احْتِمَالِ السَّهْوِ وَالْخَطَإِ عَلَى عَدَدِهِمْ الْقَلِيلِ . وَقَالَ الْمُوَفَّقُ وَابْنُ حَمْدَانَ وَالطُّوفِيُّ وَجَمْعٌ : إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْقَرَائِنِ . قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ : وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَصَحُّ , لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : الْقَرَائِنُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُضْبَطَ بِعَادَةٍ . وَقَالَ غَيْرُهُ : يُمْكِنُ أَنْ تُضْبَطَ بِمَا تَسْكُنُ إلَيْهِ النَّفْسُ , كَسُكُونِهَا إلَى الْمُتَوَاتِرِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا احْتِمَالٌ عِنْدَهُ .
( إلَّا إذَا نَقَلَهُ ) أَيْ نَقَلَ غَيْرَ الْمُسْتَفِيضِ ( آحَادُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى إمَامَتِهِمْ ( مِنْ طُرُقٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَتُلُقِّيَ ) الْمَنْقُولُ ( بِالْقَبُولِ فَالْعِلْمُ ) أَيْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ ( فِي قَوْلٍ ) قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : هَذَا الْمَذْهَبُ . قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا . وَاخْتَارَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ . وَقَالَ : الَّذِي عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً اتَّبَعُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ . وَالْأَوَّلُ : ذَكَرَهُ أَبُو إسْحَاقَ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالسَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ , وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ . انْتَهَى قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ : الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ النَّظَرِيُّ وَاقِعٌ بِهِ , خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي أَصْلِهِ إلَّا الظَّنَّ . وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ , وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ , قَالَ : وَقَدْ كُنْت أَمِيلُ إلَى هَذَا , وَأَحْسِبُهُ قَوِيًّا , ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ ظَنَّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَإِ لَا يُخْطِئُ , وَالْأُمَّةُ فِي إجْمَاعِهَا مَعْصُومَةٌ مِنْ الْخَطَإِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : خَالَفَ ابْنَ الصَّلَاحِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ , وَقَالُوا : يُفِيدُ الظَّنَّ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ , انْتَهَى . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبُو حَامِدٍ وَابْنُ بُرْهَانٍ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ : لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَا نَقَلَهُ آحَادُ الْأُمَّةِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمْ إذَا تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ , وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ : يُفِيدُهُ عَمَلًا لَا قَوْلًا ( وَيُعْمَلُ بِآحَادِ الْأَحَادِيثِ فِي أُصُولِ ) الدِّيَانَاتِ . وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعًا , قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه : لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ . وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : يُعْمَلُ بِهِ فِيهَا فِيمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ , وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه : قَدْ تَلَقَّتْهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ . وَقَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ : مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْمُتَلَقَّاةَ بِالْقَبُولِ تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ . ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مُقَدِّمَةِ الْمُجَرَّدِ . وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينُ فِي عَقِيدَتِهِ , انْتَهَى . وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا : لَا يُعْمَلُ بِهِ فِيهَا
( وَلَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ ) أَيْ مُنْكِرُ خَبَرِ الْآحَادِ فِي الْأَصَحِّ . حَكَى ابْنُ حَامِدٍ الْوَجْهَيْنِ عَنْ الْأَصْحَابِ . وَنُقِلَ تَكْفِيرُهُ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ . وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْنَا : يُفِيدُ الْعِلْمَ , كُفِّرَ مُنْكِرُهُ وَإِلَّا فَلَا ذَكَرَهُ الْبِرْمَاوِيُّ وَغَيْرُهُ , لَكِنَّ التَّكْفِيرَ بِمُخَالَفَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ , كَمَا سَبَقَ آخِرَ الْإِجْمَاعِ . إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَطْعِ أَنْ يُكَفَّرَ مُنْكِرُهُ ".
ـــــــــــــــ
__________
(1) - في رسالته حول خبر الآحاد
(2) - قلت : في هذا النقل نظر شديد
(3) - مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 38)
(4) - شرح الكوكب المنير - (ج 1 / ص 450)(1/83)
الأدلةُ على أنَّ خبرَ الواحدِ العدلِ تفيدُ القطعَ واليقينَ ، ومناقشتُها
قلت: من هذه النقول يتبين لنا أن مجرد خبر الآحاد لا يفيد العلم اليقيني، بل لا بد من احتفاف القرائن به حتى يفيد العلم.
وهذا ينقض ما ذهب إليه المؤلف، وقد ورد عن الإمام أحمد وغيره عكس ما يقول ويدَّعي.
وأمَّا اتهامه لعلماء الأصول بأنهم لا يرجعون إلى السُّنَّة، ولكن إلى علم الكلام فقولٌ باطلٌ عريٌّ عن الدليل، ففيهم المحدِّثُ وفيهم المفسِّرُ وفيهم النظارُ. فهذا القول تهمة خطيرة لعلماء الأصول، والذين نتطفل على موائدهم، بل طعن بالدِّين الذي حموه وقعَّدوا قواعدَهُ.
قال ابن تيمية رحمه الله:"... وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ: فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ, بَلْ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عَنْ إخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا, وَكَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعِلْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ. فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِمَا يُوجِبُ صِدْقَهُمْ, وَأَضْعَافِهِمْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ, وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ. وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ, وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَهُ: تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ, وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ.
وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ, وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ كَالإسْفَرايِينِيّ وَابْنِ فُورَكٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ, لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَلَقِّيه بِالتَّصْدِيقِ, كَانَ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ عَلَى حُكْمٍ, مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرِ وَاحِدٍ, فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَصِيرُ قَطْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ, وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ, فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى تَحْلِيلِ حَرَامٍ, وَلَا تَحْرِيمِ حَلَالٍ, كَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى التَّصْدِيقِ بِكَذِبٍ, وَلَا التَّكْذِيبِ بِصِدْقٍ, وَتَارَةً يَكُونُ عِلْمُ أَحَدِهِمْ لِقَرَائِنَ تَحْتَفِي بِالْأَخْبَارِ تُوجِبُ لَهُمْ الْعِلْمَ, وَمَنْ عَلِمَ مَا عَلِمُوهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا حَصَلَ لَهُمْ.(1)
وهذا الذي نقلته عن ابن تيمية رحمه الله بيَّن أنّ خبر الواحد لا يفيد القطعَ واليقينَ إلا بقرائنَ، وهو المذهب الثالث فكيف تقولُ عليهم ما لم يقولوا؟؟.
قلتُ: وهذا قول صاحب كتاب "شرح الكوكب المنير" وهو من أوثق كتب الحنابلة في الأصول:
قال: "وَيُفِيدُ الْحَدِيثُ الْمُسْتَفِيضُ الْمَشْهُورُ عِلْمًا نَظَرِيًّا نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ مُفْلِحٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فُورَكٍ. وَقِيلَ: يُفِيدُ الْقَطْعَ وَغَيْرُهُ أَيْ وَغَيْرُ الْمُسْتَفِيضِ مِنَ الْأَحَادِيثِ يُفِيدُ الظَّنَّ فَقَطْ وَلَوْ مَعَ قَرِينَةٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِ لِاحْتِمَالِ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا دُونَ عَدَدِ رُوَاةِ الْمُسْتَفِيضِ لِقُرْبِ احْتِمَالِ السَّهْوِ والخطأ عَلَى عَدَدِهِمْ الْقَلِيلِ. وَقَالَ الْمُوَفَّقُ وَابْنُ حَمْدَانَ وَالطُّوفِيُّ وَجَمْعٌ: إنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْقَرَائِنِ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: وَهَذَا أَظْهَرُ وَأَصَحُّ, لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْقَرَائِنُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُضْبَطَ بِعَادَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُمْكِنُ أَنْ تُضْبَطَ بِمَا تَسْكُنُ إلَيْهِ النَّفْسُ, كَسُكُونِهَا إلَى الْمُتَوَاتِرِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهَا احْتِمَالٌ عِنْدَهُ.
إلَّا إذَا نَقَلَهُ أَيْ نَقَلَ غَيْرَ الْمُسْتَفِيضِ آحَادُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى إمَامَتِهِمْ مِنْ طُرُقٍ مُتَسَاوِيَةٍ وَتُلُقِّيَ الْمَنْقُولُ بِالْقَبُولِ فَالْعِلْمُ أَيْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي قَوْلٍ ،قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هَذَا الْمَذْهَبُ. قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. وَقَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْأُصُولِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ وَعَمَلًا بِهِ يُوجِبُ الْعِلْمَ إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً اتَّبَعُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. وَالْأَوَّلُ: ذَكَرَهُ أَبُو إسْحَاقَ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالسَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ, وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ, وَأَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ. انْتَهَى
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: مَا أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: الْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ النَّظَرِيُّ وَاقِعٌ بِهِ, خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي أَصْلِهِ إلَّا الظَّنَّ. وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ, وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ, قَالَ: وَقَدْ كُنْت أَمِيلُ إلَى هَذَا, وَأَحْسِبُهُ قَوِيًّا, ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّحِيحُ; لِأَنَّ ظَنَّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَإِ لَا يُخْطِئُ, وَالْأُمَّةُ فِي إجْمَاعِهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَإِ(2).
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: خَالَفَ ابْنَ الصَّلَاحِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ, وَقَالُوا: يُفِيدُ الظَّنَّ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ, انْتَهَى.(3)
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَأَبُو حَامِدٍ وَابْنُ بُرْهَانٍ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُمْ: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَا نَقَلَهُ آحَادُ الْأُمَّةِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمْ إذَا تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ.(4)
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ: يُفِيدُهُ عَمَلًا لَا قَوْلًا وَيُعْمَلُ بِآحَادِ الْأَحَادِيثِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ. وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعًا.(5)
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: يُعْمَلُ بِهِ فِيهَا فِيمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ, وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قَدْ تَلَقَّتْهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ. وَقَالَ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الْمُتَلَقَّاةَ بِالْقَبُولِ تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مُقَدِّمَةِ الْمُجَرَّدِ. وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينُ فِي عَقِيدَتِهِ(6).
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: لَا يُعْمَلُ بِهِ فِيهَا.(7)
وَلَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ أَيْ مُنْكِرُ خَبَرِ الْآحَادِ فِي الْأَصَحِّ. حَكَى ابْنُ حَامِدٍ الْوَجْهَيْنِ عَنِ الْأَصْحَابِ.(8)
وَنُقِلَ تَكْفِيرُهُ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.(9)
وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْنَا: يُفِيدُ الْعِلْمَ, كُفِّرَ مُنْكِرُهُ وَإِلَّا فَلَا ذَكَرَهُ الْبِرْمَاوِيُّ وَغَيْرُهُ.(10)
لَكِنَّ التَّكْفِيرَ بِمُخَالَفَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ, كَمَا سَبَقَ آخِرَ الْإِجْمَاعِ. إذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَطْعِ أَنْ يُكَفَّرَ مُنْكِرُهُ".(11)
ومن الأدلةُ التي ساقها الشيخ ابن جبرين على أنَّ خبرَ الواحدِ العدلِ يفيدُ القطعَ واليقينَ حيث قال : "أدلة إفادة خبر الواحد العلم :
أ حيث اعتقد المسلمون وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولزوم امتثال طلبه، وتقبل كل ما جاء به عن ربه.
ب وبعد أن عرفت أن الحكمة التي هي سنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة القرآن، في كونها وحياً منزلاً من الله، كما في قوله تعالى: { وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} النساء: 113.
ج وحيث إن السُّنَّة مما يتلى على الأمة ليعملوا بما فيها كالقرآن، لقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} الأحزاب: 34.
د وأنها من الشرع المنزل كالقرآن، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ"(12).
فإن كل ذلك ونحوه يؤكد أن لهذه الأخبار النبوية حكمَ الشرع، من حفظ الله وحمايته؛ لتقوم حجته على العباد، لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر: 9 ، فلا بد أن تكون السُّنَّة داخلة في اسم الذكر الذي تكفل الله بحفظه، فمن جعلها ظنية الثبوت أجاز أن تكون في نفس الأمر كذباً مع نسبتها إلى شرع الله، وأجاز أن يكون قد دخلها التغيير والتبديل والتحويل مما كانت عليه، والزيادة والنقص، والنسيان والإهمال ونحو ذلك، ولا شك أن في هذا تكذيباً لله في خبره بحفظها، ثم هو وصف له بما لا يليق بحكمته وعدله من إضاعة دينه، وتضليل عباده، وغير ذلك مما يتعالى عنه جلاله وكبرياؤه سبحانه.(13)
قُلتُ:
هذه الأدلةُ تدلُّ على وجوبِ العمل بالسُّنَّة، وليس على أنها تفيدُ اليقين، كما أنَّ السُّنَّة دخلَها ما هبَّ ودبَّ، وإلَّا فلمَ وجدَ علمُ الجرحِ والتعديلِ إذاً؟!.
ولا شكَّ أنَّ السُّنَّة منَ الذِّكرِ، وقد أناطَ اللهُ تعالى بالأمةِ الإسلامية حفظَها، وليس بنفسه كما قالَ عن القرآنِ الكريم، فاختبرَ الأمةَ بذلك. ولذلكَ نشأتْ علومُ السُّنَّة النَّبويةِ والتَّثبُّت في نقلِها منذُ الأعصرِ الأولى. ولا نستطيعُ الجزمَ بأنَّ أخبارَ الآحادِ تفيدُ اليقينَ إلا بقرينةٍ، وهذا قولُ أكثرِ أهل العلمِ بعكس ما يقول المؤلف تماماً.
وقالَ أيضاً: "أن أغلب أحاديث السُّنَّة جاءت مكملة ومبينة للأصول المذكورة في القرآن الذي أجمل الله فيه أغلب الأحكام، ووكل إيضاحها وتمثيلها إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، بل كلفه بذلك حيث قال: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } النحل: 44.
وكذلك أمره بتعليم الناس والحكم بينهم حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} النساء: 105.
كما أمره بإبلاغ ما أنزله إليه بما فيه السُّنَّة بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} المائدة:67.
وقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - هذه الأوامر من ربه، حيث بلَّغ الرسالة وأوضح الأحكام المجملة في القرآن، ثم تقبَّل صحابته بعده جميع ما بيَّن وبلغ إليهم فعملوا به ونقلوه لمن بعدهم كما هو.
فلو جاز أن يتطرق إلى ذلك البيان شيء من الوهم والخطأ لبقي المسلمون في حيرة من مراد الله بتلك الأحكام، ولم يعلموا على أي وجه يوقعونها، ...".(14)
قلتُ:
الحجَّةُ قامتْ بالقرآن الكريم وبالسُّنَّة المتواترةِ بيقينٍ، وأمَّا أحاديثُ الآحادِ فمكمِّلةٌ لذلك، وليستْ أصلاً مستقلًّا كما قد يُظَنُّ، فالدِّينُ محفوظٌ.
وقال أيضاً: "إنَّ الذين جعلوه مظنوناً -ولو مع القرائن- يجوِّزون أن يكون في نفس الأمر كذباً أو خطأ، ثم هم مع ذلك يوجبون العمل به مع ما يخالج نفوسهم من احتمال كونه باطلاً، والعمل به ضلالاً وأمراً مبتدعاً.
ولا شكَّ أن هذا التوقف في ثبوته مع كونه خلاف الظاهر يدفع الثقة بأصول الدين وفروعه التي تلقيَ أغلبُها عن طريق الآحاد؛ ويفتح الباب على مصراعيه لكل من أراد الطعن في شعائر الإسلام وتعاليمه بكون أدلته متوهمة مشكوكاً فيها، ويجلب لنا سوء الظن بسلفنا الصالح الذين تقبَّلوا هذه الأخبار وحكموا بها، واستباحوا بها الحرام، وسفكوا بها الدماء، وتصرفوا بها في سائر الأحكام، حيث اعتمدوا أدلة غير متحققة الثبوت...
وكلُّ هذا مما يحققُ لنا أن قد تبينوا ثبوتها، واستفادوا منها العلم اليقيني الذي لا تردد فيه البتة.(15)
قلتُ:
قولهُ هذا مردودٌ، فهناك انفكاكٌ بين العملِ بالسُّنَّة للاحتياطِ وبينَ وجوبِ اعتقادها، فلا تلازم بينهما بتاتاً.
وإلا فلمَ جَوَّزوا العملَ بالحديثِ الضعيف مع غالبِ ظنِّهم بعدمِ صحتِه وثبوته؟!! كما أنَّ الأئمةَ أنفسَهُم هذا يقبلُ خبراً وآخرُ يردُّهُ وهذا يضعُ شروطاً كثيرةً لقبولِه، وذاك يخففُ في الشُّروطِ.
فالقولُ بأنه يفيدُ اليقين تأثيمٌ للأمةِ، وتكفيرٌ لها بتركِ خبرِ الآحادِ، وهذا لا يقولُ به أحدٌ يعوَّلُ على قولِه.
بل إنَّ خبرَ الآحادِ الذي احتفتْ به القرائنُ هو الذي يفيد اليقينَ - عند الكثيرين - لا أنه يفيدُ ذلك بحدِّ ذاتِه ؛ بلْ بدليلٍ خارجيٍّ كما هو معلومٌ.
وقال أيضاً: "إن هؤلاء المخالفين لما رأوا شهرة قبولها، والرجوع إليها عن السلف وفي مؤلفات أئمتهم الذين قلدوهم في الفروع - لم يجدوا بداً من الحكم بقبولها في الأعمال، وهذا تناقض ومخالفة لما اعتقدوه من كونها ظنية الثبوت.
وما ذاك إلا لأن الأصل براءة الذمة، فلا تثبت التكاليف بخبر يمكن أن يكون موضوعاً مختلقاً.
وقد اعتقدوا أن السلف إنما عملوا بها- وإن كانت مظنونة- لأن أدلة العمل يجوز أن تكون ظنية.
وهذا خطأ على السلف، فإنهم لو لم يكونوا يقطعون بصحتها لم يقدموا على العمل بموجبها، وإثبات الأحكام بها أصولاً وفروعاً كما سيجيء إن شاء الله.
وما أدري ما حال عبادات هؤلاء التي فعلوها وقد قارن أنفسهم من الشك والريب في صحة أدلتها ما لابدَّ لهم منه بموجب مذهبهم. ولا شك أن من كان بهذا الاعتقاد لن ينفك من الوساوس في كل قربة يأتي بها، أو أمر يمتثله، من كون ذلك بدعة أو مغيراً عن وضعه الأصلي.
ولا بد أيضاً أن يعتقد أن شريعة الله قد اختلط بها ما ليس منها، وامتزجت بما هو كذب، وأنه ليس في الإمكان تخليص دين الله من تلك البدع التي دخلت فيه بموجب تلك الأخبار التي يمكن كونها مكذوبة، ومن ظن شيئاً من ذلك فقد أجاز على المؤمنين أن تكون قرباتهم صادرة عن جهل، ومبعدة لهم عن الله، وجوز على الدين أن يكون قد تنوسي منه الكثير، وتغير ما فيه عما كان عليه، وعبثت به الأيدي، وكل هذا خلاف ما تقتضيه حكمة الله، وخلاف اعتقاد المسلمين جميعاً، وهو من لازم قول هؤلاء شاءوا أم أبوا.(16)
قلتُ:
هو يقوِّلُ السَّلفَ ما لم يقولوا، فلم ينصُّوا على أنها تفيدُ اليقينَ، بدليلِ ردِّ بعضِ الصحابةِ وكذا التابعينَ ومن بعدهم لبعضِها. بل هناك نصوص كثيرة بردِّ خبر الواحد الثقة الذي هو أوثق منا جميعاً؛ فقد ردَّ بعضُ الصحابة على بعضِهم أخباراً صحيحةً، وهم خيرةُ الأمة على الإطلاق، وذلك لأنها إما معارضة للقرآن ظاهراً أو لما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو لظنهم أو الراوي وهم في نقل الحديث أو لم يضبطه بشكل صحيح وهذه أمثلة لذلك :
ففي البخاري (6245 ) عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ كُنْتُ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأْذَنْتُ ثَلاَثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِى فَرَجَعْتُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، فَلْيَرْجِعْ » . فَقَالَ وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ . أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ ، فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ . وبرقم(3476 ) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ ، وَسَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ خِلاَفَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِى وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ « كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا » .
وفي مسلم( 846 ) عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ إِنِّى أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً. فَقَالَ لاَ تُصَلِّ. فَقَالَ عَمَّارٌ أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِى سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِى التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ ». فَقَالَ عُمَرُ اتَّقِ اللَّهَ يَا عَمَّارُ. قَالَ إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ. قَالَ الْحَكَمُ وَحَدَّثَنِيهِ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ حَدِيثِ ذَرٍّ قَالَ وَحَدَّثَنِى سَلَمَةُ عَنْ ذَرٍّ فِى هَذَا الإِسْنَادِ الَّذِى ذَكَرَ الْحَكَمُ فَقَالَ عُمَرُ نُوَلِّيكَ مَا تَوَلَّيْتَ.
وفي مسلم( 2196 ) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَنَازَةُ يَهُودِىٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ « أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ ».
وفي البخاري( 3325 )عن سُفْيَانَ بْنِ أَبِى زُهَيْرٍ الشَّنَئِىَّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لاَ يُغْنِى عَنْهُ زَرْعًا وَلاَ ضَرْعًا ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ » . فَقَالَ السَّائِبُ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إِىْ وَرَبِّ هَذِهِ الْقِبْلَةِ .
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 18 / ص 38)
(2) - مقدمة ابن الصلاح ص 14.
(3) - تدريب الراوي شرح تقريب النواوي 1/ 132، شرح النووي على مسلم 1/ 20.
وانظر: توضيح الأفكار 1/ 124.
(4) - انظر: الإحكام للآمدي 2/ 41، المستصفى 1/ 142، فواتح الرحموت 2/ 123، توضيح الأفكار 1/ 96، 124".
(5) - انظر: المسودة ص 245.
(6) - انظر: المسودة ص 247، 248.
(7) - وهو رأي الجمهور.انظر تفصيل ذلك في "شرح تنقيح الفصول ص 372، كشف الأسرار 3/ 27، المعتمد 2/ 577، الكفاية ص 432".
(8) - انظر: المسودة ص 245.
الفرق بين الخبر المتواتر والخبر المشهور أن جاحد الخبر المتواتر كافر باتفاق، وجاحد الخبر المشهور مختلف فيه. فقال الجرجاني يكفر، وهو ما نقله الكمال بن الهمام عن الجصاص، بينما نقل ابن عبد الشكور وصدر الشريعة عنه أنه لا يكفر. وقال ابن عبد الشكور: "والاتفاق على أن جاحده لا يكفر، بل يضلل". وهو ما جاء فيه "كشف الأسرار" أيضاً، وأساس الاختلاف هو اختلافهم في المشهور هل يفيد علم يقين أم علم طمأنينة؟ على قولين. أما جاحد خبر الآحاد فلا يكفر عند الأكثرين. هامش شرح الكوكب المنير - (ج 2 / ص 347)
(9) - انظر: جامع بيان العلم 2/ 230-236، المسودة ص 245.
(10) - انظر: المسودة ص 245.
(11) - محمد بن أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار, شرح الكوكب المنير , المسمى بمختصر التحرير أو المختصر المبتكر شرح المختصر, تحقيق: محمد الزحيلي، نزيه حماد, مكتبة العبيكان, الرياض, 1993م, (ج 2 / ص 353)
(12) - مسند أحمد (17637) صحيح
(13) عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين , أخبار الآحاد في الحديث النبوي, ص282-286
(14) عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين , أخبار الآحاد في الحديث النبوي, ص 284-286.
(15) عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين , أخبار الآحاد في الحديث النبوي, ص287-288.
(16) عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الجبرين , أخبار الآحاد في الحديث النبوي, ص287.(1/84)