بسم الله الرحمن الرحيم
الخلاصة في التدليس
- التدليس مأخوذ من الدلس ، وهو اختلاط الظلمة بالنهار ، وسمي بذلك لأن فيه إخفاءً للعيب ، ومنه إخفاء عيب السلعة ، والعيب الذي في الإسناد .
- أنواعه متعددة ، وصورهُ كثيرة ، ولا يمكن تعريفه إلا من خلال ذكر أنواعه :
* فمنه : تدليس الإسناد ، وهو المشهور ، وعندما يطلق التدليس انصرف إليه :
وقد اختلف في حده ، فقيل : أن يروي الراوي عمن لم يعاصره ولم يلقه أبداً ، مثاله : مالك عن سعيد بن المسيب ، ومالك ولد بعد وفاة سعيد على الأقرب . ومثال : سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي ، وسفيان ولد بعد وفاة إبراهيم . ذكر هذا ابن عبد البر في مقدمته للتمهيد
…وقيل : أن يروي الراوي عمن عاصره ، لكنه لم يلقه ، كرواية سفيان الثوري عن الزهري ، والثوري لم يسمع من الثوري ، ولا نعرف لقاءه به ، وإنما عاصره ، والذي أكثر من الرواية عن الزهري هو ابن عيينة ، فإذا أطلق سفيان عن الزهري فهو ابن عيينة .
…وقيل : رواية الراوي عمن لقيه وإن كان لم يسمع منه ، لأنه ليس كل واحد التقى بآخر يكون قد سمع ، فالأعمش التقى بأنس - رضي الله عنه - لكنه لم يسمع منه ، فروايته عنه هناك من يعدها تدليساً .(1/1)
…وقيل : رواية الراوي عمن سمع منه جملةً ولكنه لم يسمع منه هذا الخبر ، وإنما سمعه من شخص آخر ، أو من آخر عن هذا الشيخ ( بواسطة أو بأكثر ) ، مثلما قال علي بن خشرم : كنا عند ابن عيينة فقال : الزهري ، قيل له : سمعت هذا من الزهري ؟ قال : الزهري ، فقيل له : سمعته من الزهري ؟ قال : لم أسمع من الزهري ولا ممن سمع من الزهري ، ولكن حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري . فابن عيينة روى عن الزهري الكثير ، لكن هذا الخبر لم يسمعه من الزهري . ومثله : رواية قتادة عن الحسن البصري فيما لم يسمعه منه . ومثله : رواية هشيم عن الزهري ، وهو سمع منه بعض الأحاديث ، وروايته عن الزهري ليست بالقوية ، وقيل : إن صحيفته عن الزهري ضاعت ، وقيل : مزقها شعبة !
- وأما رواية الراوي عمن لم يعاصره فهو مرسل ، كأن يروي التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم ...
- أما رواية الراوي عمن عاصره أو لقيه ولم يسمع منه فهو مرسل خفي ، ولا يسمى تدليساً . وهناك من الحفاظ من سمى هذا تدليس ، ومنهم من قال إنه إرسال خفي .
- وممن حد التدليس بأنه لا بد أن يكون قد سمع من هذا الراوي ، وإذا روى عنه ما لم يسمع منه كان تدليساً ، منهم : أبو بكر البزار ، وظاهر كلام البيهقي ، وابن القطان الفاسي ، وغيرهم ...
حكم هذا النوع :
اختلف فيه :
1/ هناك ممن عد هذا جرحاً في الراوي ، وحتى لو صرح بالتحديث لم يقبل منه ، لأنه قدح فيه ، وهذا القول يحكى ولا أعرف من قال به .
2/ ومنهم من قال إن هذا لا يعتبر جرحاً بحيث ترد روايته لو كان ثقة ، وهذا هو الصحيح وعليه العمل ، لكن اختلف كلام أهل العلم في حكم الراوي الموصوف بالتدليس إذا عنعن :
أ- فهناك من قال : إن من وقع في التدليس ولو مرة واحدة ، إذا عنعن في موضع آخر ، لا تقبل عنعنته ويحتمل أنه قد دلس ، وممن قال به : الشافعي ، فلا بد عنده من التصريح بالحديث .(1/2)
ب- وذهب علي بن المديني إلى خلاف ذلك : قال يعقوب بن شيبة السدوسي : سألت علي بن المديني عن المدلس إذا قال : ( عن ) ، ولم يصرح بالتحديث ؟ فقال : إذا كان مكثراً من التدليس لا يقبل حتى يصرح بالتحديث . فهذا ما حده به ابن المديني : الإكثار من التدليس .
ج- وخالف يحيى بن معين : سأله يعقوب بن شيبة ، فقال : لا يحتج فيما دلس فيه . ومعنى ذلك : أنه إذا ثبت أنه دلس ، لا يحتج به ، وإذا لم يثبت أنه دلس وروى بالعنعنة ، فنحمله على السماع والاتصال . وهذا المعنى ، وإن كان لم يذكره صراحة .
…ولما سئل أحمد عن ذلك سكت ، ولم يجب .
…وما قاله ابن المديني ويحيى بن معين هو الأقرب ، وأما ما ذهب إليه الشافعي فهذا بعيد ، ولو طردنا هذا الحكم في باقي الرواة والأسانيد ، فلقلما يوجد شخص لم يحصل منه ولو مرة واحدة أنه روى عن راوٍ ما لم يسمع منه .
الموازنة بين قول علي بن المديني ويحيى بن معين :
هناك تفصيل في هذه القضية :
1/ إذا كان الراوي مكثراً جداً من التدليس واشتهر به كثيراً ، وبالذات إذا توفرت قرائن قد يستأنس بها أن فلاناً قد دلس هنا ، أو احتُمل احتمالٌ كبير أنه قد دلس ، فهنا لا نقبل عنعنته حتى يصرح بالتحديث ، ومثاله : بقية بن الوليد الشامي ، يكثر من التدليس ، وبالذات عن الضعفاء ، ويدلس أحياناً تدليس التسوية ، فنتوقف في روايته إذا عنعن حتى يصرح ، بالذات إذا وجد قرائن أو احتمال تدل على أنه دلس ، ومن القرائن مثلاً : غرابة المتن ، غرابة الإسناد ...
2/ وأما إذا كان الراوي لم يشتهر بالإكثار من التدليس ، وبالذات إذا كان من الحفاظ ، وروى عن راوٍ قد سمع منه الكثير ، وعنعن عنه في روايةٍ ما ، والمتن مستقيم ، ولم يخالف أحداً ، فنحمل روايته على السماع والاتصال ، وهذا جرى عليه العمل في كتب الحديث كثيراً ، وبالذات في الصحيحين ، وغيرهما ممن ألف في الصحيح ، ولكن ينبغي ملاحظة عدة أشياء ( وهي قرائن على عدم التدليس ) :(1/3)
- تأكيد على أن ذلك إذا اشتهر بالثقة والحفظ ، كقتادة والأعمش وأبي إسحاق السبيعي ، فهؤلاء من الحفاظ ، وأكثروا من السماع .
- أن لا يكثروا من التدليس وإن اشتهروا به ، لكن تدليسهم ليس مثل تدليس بقية بن الوليد ، بل بقية مكثر ، وهؤلاء أحفظ وأوثق منه ، والغالب عليهم هو السماع .
- أن يرووا عمن قد اشتهروا بالرواية عنه وبالسماع منه ، كرواية قتادة عن أنس ، وكرواية أبي إسحاق عن أصحاب ابن مسعود ، أو روايته عن البراء بن عازب ، وكرواية الأعمش عن إبراهيم النخعي .
- أنه ينبغي أن نجمع طرق الحديث ، فإذا جمعناها نبحث هل الراوي الموصوف بالتدليس وعنعن قد بين أنه قد دلس ، كأن يذكر واسطةً بينه وبين الشيخ ، أو يقول : أُخبرت ، أو : حُدِّثت ، فإذا وجد ذلك أفاد أن الراوي قد دلس وأنه لم يسمع من الشيخ ، وكثيراً ما يبين الثقة الحافظ الموصوف بالتدليس تدليسه في مكان آخر ، أو يفعل هذا بعض المرات ، فأحياناً لا يذكر من حدثه ، فيبين في روايةٍ أنه حدثه فلان عن فلان .
- إذا استقام المتن .
…فإذا اجتمعت هذه الشروط أو القرائن الخمسة ، فنحمل رواية الموصوف بالتدليس وعنعن على السماع والاتصال ، وأنت تجد من هذا الصنف في الصحيحين الشيء الكثير ، وفيما صححه الترمذي ، أو ما صححه ابن خزيمة ، وأمثالهم ممن اشترطوا الصحة ، أو أكثروا من الحكم على الأحاديث .
…وما يقال من أن العنعنة التي في الصحيحين محمولة على السماع والاتصال وأنه قد ثبت عن الراوي في أماكن أخرى تصريحه بالسماع ، هذا ليس دائماً ، هذا في الغالب ، ولذا لما سأل السبكي المزي قال : هكذا يقولون ، فهذا في الكثير والأعم ، لكن ليس دائماً .
…وأما إذا جاءت قرائن يستأنس بها على أن هذا الراوي أو احتمل أنه دلس في هذا الحديث نتوقف في عنعنته .(1/4)
…ومثال على هذا : ما رواه ابن خزيمة من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله خلق آدم على صفة الرحمن ... » . فهنا صرح بنسبة الضمير إلى الله تعالى ، وجاء في الصحيحين : «على صورته» ، وصرَّح بالضمير عند ابن خزيمة ، لكن ابن خزيمة أعلَّ هذا الإسناد ، لأن عنده قرائن تفيد تعليل الخبر ، فقال : إن الأعمش لم يصرح بالتحديث عن حبيب بن أبي ثابت ، وذلك لأن سفيان الثوري قد روى هذا الحديث عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء مرسلاً ، بينما الأعمش رواه مسنداً ، فأعله ابن خزيمة بهذا ، وذهب ابن خزيمة إلى أن الضمير لا يعود إلى الله ، لكن مذهب أهل السنة والحديث أن الضمير يعود إلى الله ، ولا شك أن الله - سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء ، والمقصود هنا : إثبات الصفات لله - عز وجل - .
…والرواية التي أعلها ابن خزيمة معلولة بما تقدم ، وبأن حبيب بن أبي ثابت قد تكلم في روايته عن عطاء ، وعطاء اختلف في سماعه من ابن عمر ، لكن يستأنس بها في عودة الضمير إلى الله مع أدلة أخرى في هذه القضية ، وليس هذا موضع بسط ذلك .
…فلأن القرائن هنا جاءت باحتمال أن الأعمش دلس أعل ابن خزيمة هذا الخبر ، بينما تجد في طول صحيح ابن خزيمة وعرضه : حديث الأعمش بالعنعنة ، والحفاظ غيره منهم من يفعل ذلك .
…وأما أن يرد خبر كل شخص موصوف بالتدليس ، فهذا خطأ . ويأتي .
* ومنه تدليس الشيوخ : وليس فيه إسقاط رواية ، بل الذي فيه : أن يصف الراوي شيخه باسم ليس مشهوراً به ، كأن يكون مشهوراً بالكنية فيسميه باسمه ، أو يكون مشهوراً باسمه فيكنيه بكنيته ، مثل حديث رواه الثوري عن معمر عن قتادة عن أنس ، فقال : عن أبي عروة عن أبي الخطاب ! ومعمر معروف باسمه ، وكنيته أبو عروة ، وقتادة معروف باسمه ، وكنيته أبو الخطاب . ومثل ذلك أن يكون مشهوراً بنسبته إلى أبيه ، فينسبه إلى جده ، فهذا هو تدليس الشيوخ .(1/5)
…ويكون الحامل على ذلك أغراض ، كأن يريد أن يوهم أنه مكثر من الشيوخ ، أو أن الشيخ ضعيف فيريد أن لا يبين اسمه ، كمحمد بن قيس المصلوب ، قلب اسمه على مسميات عديدة . أو أن الشيخ قرين أو أصغر من الراوي ، فيكنيه ، لأنه يأنف أن يروي عن أصغر أو قرين . أو يكون القصد : اختبار السامع ، مثلما قال ابن دقيق العيد لما جاء الذهبي ليسمع منه ، قال : مَن أبو محمد الهلالي ؟ قال : سفيان بن عيينة . فحدثه ، لأنه أهل للتحديث .
حكمه :
ينبغي الانتباه إلى تحديد هذا الراوي ، فإذا كان المكنى ضعيفاً ظُنَّ أنه ثقة ، فيصحح الحديث وفيه ضعيف ، أو يكون الراوي يسميه باسم غير معروف به ، فيُظَنُّ أن الإسناد متصل ، ولو عرف الراوي لعلم أنه لم يسمع ممن روى عنه .
…فلا بد من معرفة شيخ من وصف بتدليس الشيوخ ، لأنه يتعلق به حكمٌ على الحديث .
* ومنه : تدليس البلدان .
كأن يقول : حدثنا فلان فيما وراء النهر ، يقصد نهر دجلة ، وقد يُظن أنه وراء نهر جيحون ، فيوهم أنه قد رحل إلى تلك الأماكن البعيدة . وليس فيه إسقاطٌ لراوٍ .
…وقد يكون القصد : أن يوهم أنه أطال في الرحلة ...
حكمه :
ينبغي أن يتأكد أنه سمع من الراوي أين ؟ مع أنه لا ينبني عليه كبير شيء في الحكم على الحديث ما دام الراوي ثقة .
* ومنه تدليس التسوية ، وصورته : أن الراوي يسمع حديثاً من شيخه ، ويكون شيخه قد سمع هذا الحديث من شخص ضعيف ، عن شخص ثقة ، فيقول الموصوف بتدليس التسوية : حدثنا فلان ، ويحذف شيخ شيخه الضعيف وينتقل إلى شيخ شيخ شيخه الثقة ، فكأنه سوى الإسناد .(1/6)
…وممن يفعل ذلك : بقية بن الوليد ، كما ذكر ذلك أبو حاتم الرازي في «العلل» ، ووصف بقية في كتب الرجال بهذا النوع . ومنهم : الوليد بن مسلم ، ولكنه فيما يبدو أنه يفعل هذا النوع من أنواع التدليس في شيخه الأوزاعي فقط ، فالأوزاعي روى عن بعض الضعفاء ، فيسقط الوليد هؤلاء الضعفاء وينتقل إلى شيوخهم ، فيظن الظان أن الإسناد صحيح متصل رواته ثقات . وإنما حصرنا ذلك في الأوزاعي لأنه إنما ذكر أنه يفعله في روايته عن الأوزاعي فقط ، ولم يذكر أنه يفعل في غيره ، وعندما أُنكر عليه قال : أُنَبِّل الأوزاعي ، لأنه يروي الضعفاء ، فقالوا : إنك تجعل الظان يظن أن الأوزاعي أخطأ في الحديث ، فلم يلتفت إلى ذلك .
حكمه :(1/7)
ينبغي أن يتأكد ، هل ثبت أن شيخ من يدلس تسويةً سمع ممن روى عنه أم لا ؟ قد يكون لم يسمع منه بسبب حذف الضعيف بينهما ، ومما يبين هذا الشيء : جمع طرق الحديث ، فمثلاً : لما روى هشيم بن بشير عن يحيى ابن سعيد الأنصاري عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه ( ابن الحنفية ) عن أبيه علي بن أبي طالب في تحريم لحوم الحمر الأهلية ، فدلس هشيم هنا تدليس التسوية ، وعرفنا ذلك بأنه لما جمعنا طرق الحديث وجدنا أن حماد بن زيد وغيره روى هذا الحديث عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عن أبيه علي - رضي الله عنه - . وهشيم رواه عن يحيى ابن سعيد عن الزهري ، ويحيى بن سعيد سمع من الزهري ، وهو قرين له ، فيظن الظان أن متصل من رواية هشيم ، لكن بجمع الطرق وجدنا أن بين يحيى بن سعيد وبين الزهري مالك بن أنس . ولا يلزم أن بقية والوليد بن مسلم يفعلونه دائماً ، بل هو من القليل ، وأنا ما وقفت على مثال دلس فيه بقية تدليس التسوية سوى واحد ، فما ينبغي أن يرد الخبر رأساً ، ويقال إن فلان سوى الخبر ، بل لا بد من أن يكون هناك قرائن ، خاصة إذا وجدنا بجمع الطرق فوجدنا واسطة ، أو أنه قد خولف ، فيحتمل أنه دلس تدليس التسوية . وهكذا .
…وهناك ممن يفعل هذا النوع أحياناً ، وليس قصده تدليس التسوية ، فثور بن زيد روى عن عكرمة عن ابن عباس ، فلما روى الإمام مالك هذا الخبر عن ثور أسقط عكرمة ، وفعل هذا في غير هذا الحديث ، وفي النكت لابن حجر أكثر من مثال ، والإمام مالك فعل ذلك تعمداً ، لأنه لا يرتضي عكرمة ، أو من حذف من غير عكرمة لا يرتضيه ، فليس قصده تسوية الخبر ، بل إنه لا يرضى ذلك الراوي ، وإن كان الأَوْلى ذكره .
…وأما قول من قال إن تدليس التسوية بإسقاط الضعيف ، فليس دائماً ، كما ذكر من فعل هشيم حين أسقط الإمام مالكاً ، والإمام مالك من الحفاظ الأئمة .(1/8)
* ومنه : تدليس المتابعة : أن يروي الراوي عن راويين أو أكثر سمع منهما ، وتكون بين رواية شيخه الأول والثاني اختلاف إما في السند أو في المتن ، ولا يبين هذا الاختلاف .
…مثال : جرير بن حازم روى عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور كلاهما عن علي في زكاة الذهب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ( أن في عشرين مثقالاً مثقال ) . هكذا رواه جرير بن حازم . وروى هذا الحديث سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي موقوفاً عليه . وأما رواية الحارث فهي المرفوعة فقط ، بينما في رواية جرير ما هناك تمييز ، فيظن الظان أن رواية عاصم والحارث كلاهما مرفوعة ، بينما المرفوعة من رواية الحارث فقط ، وهو ضعيف ، والموقوفة جاءت من رواية عاصم بن ضمرة ، وهو على القول الراجح جيد الحديث ، فالصواب في هذا الخبر وقفه لا رفعه ، وإن كان مثله لا يقال من قبل الصحابي .
…ومثال المتن : ما رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعروة بن الزبير وغيرهم حديث الإفك ، وقال : دخل حديث بعضهم في بعض ، وهذا الحديث صحيح ، والفعل من الزهري مقبول ، لأنه إمام يميز الروايات ، لكن أن يكون ممن لا يميز ، مثلما تكلم به في حماد بن سلمة على جلالته ، إذا جمع رواية أكثر من راو من شيوخه ولم يبين رواية بعضهم عن البعض ، وحماد إمام لكنه ليس متقن . ومثل ابن إسحاق ، يجمع ولا يبين . ولو تتبعت لوجدت أمثلة كثيرة . ومتى يخشى من إعلال الخبر : إذا كان أحد الشيخين المجموعين أو الشيوخ المجموعين ضعيف ، وخالفت روايةُ الثقة أو الثقات روايةَ الضعيف ، فيصحح رواية الثقة . فينبغي الانتباه إلى ذلك ، وهذا يمكن أن يكون أدق من تدليس التسوية ، وهذا عندي يعمل أكثر من تدليس التسوية .
…وينتبه له بجمع روايات وألفاظ وطرق الحديث . ويمكن أن ينص الحفاظ على التمييز بينها .(1/9)
* ومنه : تدليس العطف : أن يقول الراوي : حدثنا فلان وفلان ، ويكون سمع من أحدهما دون الآخر ، وذكر الحاكم في كتابه ( معرفة علوم الحديث ) أن هشيم فعل هذا في مجلس من المجالس ، حيث اتفق بعض طلابه أن لا يدلس عليهم ، فانتبه ، فكان يقول في كل حديث يذكره : حدثنا حصين ومغيرة ، فلما فرغ قال لهم : هل دلست لكم اليوم؟ فقالوا : لا ، فقال : لم أسمع من مغيرة حرفاً مما ذكرته ، إنما قلت : حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي .
…لكن هذه القصة لم تثبت ، فالحاكم ذكرها دون إسناد متصل . فلم يثبت عن هشيم من تدليس العطف شيء ، ولا يمثلون إلا بهذا المثال ! ولكن هذه القصة لم تثبت ، فالحاكم بينه وبين هشيم مفاوز !
* ومنه : تدليس القطع ، أو السكوت ، وهو قريب من سابقه ، وكان يعمله عمر بن علي بن عطاء المقدمي، يقول : حدثنا ، أو : أخبرنا ، ويسكت ، ينوي القطع ، يعني : قطع الرواية ، ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . فيظن الظان أن عمر بن علي المقدمي سمع من هشام . هو قال : حدثنا ، لكنه نوى القطع ، أي : قطع هذه الرواية ، وانتقل إلى شيء آخر ، قال : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، ولذلك قال ابن سعد : كان يدلس تدليساً شديداً ، وفي النكت لابن حجر وصف عمر بن عبيد الطنافسي بهذا التدليس ، وهذا خطأ ، يبدو أنه سبق قلم من الحافظ ابن حجر ، أو من الناسخ ، وإنما عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي هو الذي كان يفعل هذا ، ولم يذكر عن الطنافسي شيء من هذا .
- لا أعرف أحداً وصف بهذا سوى عمر المقدمي .
كيف يعرف ؟
يعرف بالقرائن ، فإذا قال تلميذه مثلاً : حدثنا عمر بن علي ووقف ثم قال : فلان ، فهنا الاحتمال كبير أنه وقع فيه تدليس قطع ، وهذا ما أعرف أنه وقع ، ولكن إن كان وقع .
ويعرف كذلك بجمع طرق الحديث ، فإذا وجدنا عمر بن علي بن عطاء - وهو ثقة - قد خولف ، فالاحتمال كبير أنه عمل بهذا التدليس .(1/10)
* ومنه : الإرسال ، فإنه يسمى تدليساً : أن يروي الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه أو عمن التقى به ولكن لم يسمع منه ، فيسمى تدليساً وإرسالاً ، وهذا مهم . وذلك أن بعض الرواة يرسل كثيراً ، فيقال عنه: إنه مدلس ، فيظن الظان أنه يدلس تدليس الإسناد ، لأنه إذا أطلق التدليس انصرف إلى تدليس الإسناد ، بينما الغالب على ذلك الراوي الإرسال لا التدليس ، وممن وصف بالتدليس وهو الإرسال : الحسن بن أبي الحسن البصري ، الغالب عليه الإرسال ، وأحياناً يدلس . فعلينا مع ذلك : أن ننتبه هل هو سمع من فلان ، فإن ثبت سماعه فالأصل أن كل ما رواه عن فلان محمول على السماع والاتصال ، لأن الغالب على الحسن الإرسال لا التدليس . مثلاً : الحسن البصري روى عن جمع من الصحابة ، فعلينا هنا أن ننظر : هل ثبت سماعه من الصحابي ، مثلاً أبو هريرة ، الصواب : أنه لم يسمع أبداً من أبي هريرة ، وجاء أن الحسن روى حديث «المنافقت هن المختلعات» وقال - الحسن - : لم أسمع من أبي هريرة إلا هذا الحديث ، ولكن هذا معلول ، لم يثبت عن الحسن . ومثله عن جابر بن عبد الله ، وابن عباس ، وعتبة بن غزوان ، وعلي بن أبي طالب ، ولكن لو روى معقل بن يسار ، أو عن أنس بن مالك ، فهو متصل ، لأنه ثبت سماعه منهما . وروى الحسن عن سمرة ، وثبت أنه سمع منه ، لكنه يدلس عنه كثيراً ، ولم يثبت للحسن أنه سمع من سمرة إلا حديثاً واحداً - على خلافٍ ، وهذا الراجح - ، وهو حديث العقيقة ، ولكن الحسن روى عن سمرة مائة حديث بالمكرر ، أغلبها لم يسمعها من سمرة ، لأنها مدلسة عن سمرة ، لأن فيها نكارة ، والنكارة من الواسطة ، ومنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، وهذا خلاف ما ثبت عن عبد الله ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً للغزو ، فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل حتى تأتي الصدقة ، وثبت عن الصحابة ذلك . فالغالب على الظن أن الحسن دلسه عن(1/11)
سمرة ، وأن العلة من الواسطة بينهما .
تنبيه هام :
- كثير من أهل العلم - بالذات من تأخر - ، إذا كان الراوي موصوفاً بالتدليس ، لا يحقق في هذا النوع من التدليس ، رأساً يقول : فلان موصوف بالتدليس ، عنعن ، يرد تدليسه . لكن لا ، لا بد أولاً يحقق نوع التدليس ، هل هو مكثر أو مقل ، إن كان مقلاً فالأصل حمل روايته على السماع والاتصال في الراوي الذي ثبت سماعه منه ولو مرة واحدة . وأيضاً : هل هذا الراوي لا يدلس إلا عن الثقات في الغالب ، مثلما وصف ابن عيينة به - كما ذكر ابن عبد البر - ، لكن هناك احتمال كبير أنه دلس عن غير ثقة ، لكن غالباً أن ابن عيينة لا يدلس إلا عن ثقة . ويُحَقَّقُ نوع التدليس ، هل هو كذلك ، والتدليس أنواع ، والمدلسون مكثرون ومقلون ، فينبغي أن يُنتبه إلى ذلك .
- لا تقل : إنه دلس إلا بثبوت تدليسه عندك بالدليل ، بل قل - ما دام لم يثبت - : عنعن .(1/12)