الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
طالب حماد أبو شعر *
كلية أصول الدين- الجامعة الإسلامية – غزة
ص. ب. 108 غزة - فلسطين
THE WISDOM OF USING ISNAAD NAZIL BY
AL-BUKHARI
Abstract this study deals with the meaning, types of’Ali and nazil Isnaad, the importance of these Isnaads, and the preference of Isnaad to’ Ali Isnaad sometimes. This discussion serves as an introduction to applied study of Al-Bukhari narration method of Isnaad Nazil. The study includes samples of the Hadihts that Al-Bukhari slightly lowered the narration (by one degree or more) than some narrators and sheikhsdid.
The study also computes Isnaad Nazil with other Isnaads. More focus is given to specify the number of Isnaads narrators as well of their status to find out the wisdom behind using Isnaad Nazil by Al-Bukhari.
The findings of this study have revealcd the delicate method Al-Bukhari used in narrating Hadiths through Isnaad Nazil. The study has also revealed Al-Bukhari method of narrating sheikhs particularly who are his colleagues or students.
ملخص تناول الباحث في هذه الدراسة معنى الإسناد العالي، والإسناد النازل، وأنواعهما، وأهمية علو الإسناد، وتفضيل الإسناد النازل عليه أحياناً؛ وذلك تمهيداً للدراسة التطبيقية لمنهج البخاري في الرواية بالإسناد النازل، والتي اشتملت على نماذج من الأحاديث التي نزل فيها البخاري درجة أو أكثر في الرواية عن بعض الشيوخ أو الرواة.(1/1)
وتناول الباحث بالدراسة المقارنة الإسناد النازل مع الأسانيد الأخرى العالية، ووقف على مواضع نزول البخاري في الإسناد، ودرجاته، وأسبابه. واعتمد الباحث في معرفة الحكمة من الرواية بالإسناد النازل؛ على حصر عدد الرواة في الأسانيد، والبحث في أحوال الرواة، وصيغ التحمل، وألفاظ الروايات بالقدر اللازم للكشف عن الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل.
وتوصل الباحث إلى عدد من النتائج التي كشفت عن منهج دقيق للإمام البخاري في روايته الأحاديث بالأسانيد النازلة، وذلك باعتبار ما اشتملت عليه هذه الأحاديث من فوائد في الإسناد أو المتن. كما تبين منهج الإمام البخاري في الرواية عن الشيوخ خاصة المتأخرين منهم؛ الذين هم في طبقة أقرانه أو تلاميذه.
المقدمة
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ:
فقد اجتهد المحدثون في طلب علو الإسناد، وارتحلوا إلى بلاد شتى لسماع الحديث من كبار الشيوخ، ومن الرواة الذين تحقق لهم علو الإسناد عن شيوخهم. والإمام البخاري في مقدمتهم؛ حيث رحل إلى الشام، ومصر، وذهب مراراً إلى البصرة والكوفة وبغداد، وأقام ستة أعوام بالحجاز؛ ليأخذ الحديث.([i]) وتحقق للبخاري الأخذ عن كبار الأئمة بأسانيد عالية.(1/2)
إلا أني أثناء تدريسي لمساق الحديث الشريف ومقارنتي بين الأسانيد؛ أثار اهتمامي رواية البخاري الحديث بإسنادٍ نازلٍ بالرغم من تحمله له بأسانيد عالية([ii]). ولا شك في أن الرواية بالإسناد العالي أولى من الإسناد النازل، إلا إذا كان الإسناد النازل يشتمل على فوائد. فاستعنت بالله عزوجل على دراسة هذا الموضوع، واستفدتُ من ثمرة ما خطه قلم ابن حجر رحمه الله وأجزل له المثوبة. واجتهدت في التفصيل؛ بالبحث في الأسانيد والمتون، وأحوال الرجال.
أولاً: أهداف البحث
يهدف الباحث من هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
1 ـ بيان الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل.
2 ـ بيان درجات نزول البخاري في الرواية عن عدد من كبار الأئمة من الرواة.
3 ـ الوقوف على بعض شيوخه الذين نزل في إسناده عنهم.
ثانياً: منهج الدراسة
1- إيراد نماذج من الأسانيد النازلة للبخاري؛ وحرصتُ على أن تكون من رواية كبار الأئمة المكثرين في الرواية؛ مثل الإمام مالك، والزهري، وحميد الطويل، وشعبة، وقتادة.
2- بيان أطراف الحديث في صحيح البخاري، وتخريجها منه؛ بذكر الكتاب، والباب، ورقم الحديث.
3- المقارنة بين أسانيد الحديث عند البخاري للوقوف على الأسانيد العالية والنازلة منها، وبيان مواضع نزول البخاري في الإسناد، ودرجاته.
4- البحث في تراجم الرواة -خاصة شيوخ البخاري-عند الحاجة، والمقارنة بين ألفاظ الروايات، للكشف عن علاقة ذلك بنزول الإسناد.
5 - بيان أسباب نزول البخاري في الإسناد؛ في ضوء الدراسة المقارنة للأسانيد، والمتون، وأحوال الرواة.
ثالثاً: خطة البحث
يشتمل هذا البحث على تمهيد، وفصلين، وخاتمة
تمهيد
وتشتمل على:
أولاً: أهداف البحث.
ثانياً: منهج البحث.
ثالثاً: خطة البحث.
الفصل الأول
الإسناد العالي و النازل
ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: معنى الإسناد لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني: المراد بالإسناد العالي، وأنواعه.(1/3)
المبحث الثالث: أهمية علو الإسناد.
المبحث الرابع: المراد بالإسناد النازل، وأنواعه.
المبحث الخامس: الحكمة من تفضيل الإسناد النازل ـ أحياناً ـ على الإسناد العالي.
الفصل الثاني
( الدراسة التطبيقية )
ويشتمل على دراسة نماذج من أحاديث صحيح البخاري.
ويُنهي الباحث الدراسة بخاتمة؛ تشتمل على ما توصل إليه من نتائج، وقائمة بمراجع البحث .
الفصل الأول
المبحث الأول معنى الإسناد لغة واصطلاحاً
أولاً: معنى الإسناد في اللغة : قال ابن فارس: "السين والنون والدال أصلٌ واحد يدل على انضمام الشئ إلى الشئ. يُقال: سَنَدتُ إلى الشئ أسْنُدُ سنوداً. وأسندتُ غيري إسناداً".([iii]) والسَّنَدُ: يأتي على عدة معانٍ؛ منها المعتمد، يُقال: فلانٌ سَنَدٌ أَي مُعْتَمَدٌ.([iv]) ومنه قوله تعالى في وصف المنافقين: { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } ([v])، قال الزمخشري: "شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط، ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع"([vi]) فهي معتمدة على الحائط. قال ابن منظور([vii]): "شُدِّد للكثرة". وقال في معنى السَّنَد: "وكلُّ شيءٍ أَسندتَ إِليه شيئاً، فهو مُسْنَد". ويُطلق السَّندُ؛ ويراد به ما علا وارتفع من سفح الجبل . وسَنَدَ في الجبل يَسْنُدُ سُنوداً وأَسنَد: رَقِيَ.([viii]) والإسْنَادُ في الحديث رفعه إلى قائله([ix])، ونقل ابن منظور عن ابن بُزرُخ: "يُقال أَسنَد في الشعر إِسناداً بمعنى سانَدَ مثل إِسناد الخبر".([x])
ثانياً معنى الإسناد في الاصطلاح(1/4)
نقل القاسمي عن البدر بن جماعة والطيبي في معنى السَّنَد: "هو الإخبار عن طريق المتن"،([xi]) وهو سلسلة الرجال الموصلة للمتن.([xii]) والسند في الحديث تتحقق فيه المعاني اللغوية السابقة، فإن الراوي ينضم إلى الراوي في الإسناد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والراوي يرفع القول ويُرَقّيه إلى قائله، ويعتمد عليه الحفاظ في صحة الحديث وضعفه. والإسناد بمعنى السند. نقل القاسمي عن ابن جماعة قوله: "المحدثون يستعملون السَّند والإسناد لشئ واحد".([xiii])
المبحث الثاني المراد بالإسناد العالي، وأنواعه
المراد بالإسناد العالي: عرّفه الصنعاني بقوله: "هو الذي قلَّت الوسائط في سنده، أو قَدِمَ سماع روايته وزمانه".([xiv])
أنواع الإسناد العالي: ينقسم الإسناد العالي إلى ثلاثة أقسام
القسم الأول: العلو المطلق: عرّفه ابن الصلاح ([xv])بقوله: "القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسناد نظيف غير ضعيف". ووصفه بأنه من أجل أنواع العلو. ووصفه القاسمي بالعلو الحقيقي.([xvi])
القسم الثاني: العلو النسبي: عرفه ابن الصلاح بقوله: " القرب من إمام من أئمة الحديث ، وإن كثر العدد من ذلك الإمام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".([xvii])
القسم الثالث: العلو بالنسبة إلى الصحيحين أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة. ويكون الراوي في الإسناد العالي متأخر في الزمان عن الراوي في الإسناد النازل، ويشتمل هذا القسم على عدة أنواع:
النوع الأول: الموافقة: وهو الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه، كأن يكون حديث البخاري من روايته عن قتيبة عن مالك. فيوافقه في الرواية عن شيخه قتيبة.
النوع الثاني: البدل: وهو الوصول إلى شيخ شيخ أحد المصنفين من غيرطريقه. فيوافقه في الرواية عن مالك؛ كأن تكون روايته حينئذ من طريق القعنبي عن مالك. فتكون الموافقة لشيخ شيخ البخاري.(1/5)
النوع الثالث: الاستواء: وهو أن يستوي عدد رجال الإسناد من الراوي إلى آخره بعدد إسناد أحد المصنفين. كأن يكون حديث البخاري عن أربعة رواة، فيستوي معه في روايته تاماً بهذا العدد.
النوع الرابع: المصافحة: وهو الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف([xviii]). وقال ابن كثير: "نزولك عنه بدرجة حتى كأنه صافحك به وسمعته منه".([xix])
المبحث الثالث: أهمية علو الإسناد
لقد كان علو الإسناد مطلباً عزيزاً للمحدثين؛ ينتقلون في طلبه من بلاد إلى بلاد؛ حتى أصبح سُنة لهم. نقل ابن الصلاح عن الإمام أحمد قوله:: "طلب الإسناد العالي سنة عن السلف"([xx]). وقد خرج كل من جابر بن عبدالله ، وأبي أيوب الأنصاري إلى مصر لسماع حديث من عقبة بن عامر؛ وذلك من أجل علو الإسناد. قال الحاكم النيسابوري: "… رحل إلى صحابي من أقرانه في حديث واحد، لو اقتصر على سماعه من بعض أصحابه لأمكنه".([xxi]) وتمناه الإمام يحيى بن معين بالرغم من أنه كان في مرض الموت؛ حيث سُأل: ما تشتهي؟ قال: بيت خالي، وإسناد عالي.([xxii])
وبيَّن العلماء قيمة الإسناد العالي؛ فقال ابن الصلاح: "العلو يبعد الإسناد من الخلل، لأن كل رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهواً أو عمداً، ففي قلتهم قلة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل".([xxiii]) وتبعه ابن كثير، والنووي، وابن حجر، وغيرهم في جعل الصحة مرجحاً للإسناد العالي([xxiv]). قال ابن دقيق العيد: "ولا أعلم وجهاً جيداً لترجيح العلو إلا أنه أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ…".([xxv])
وفُضّل الإسناد العالي على النازل بشرط الصحة، فإذا كان ضعيفاً فلا قيمة لهذا العلو. قال ابن المبارك: "ليس جودة الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال"، وقال السلفي: "الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة على مذهب المحققين من النقلة…".([xxvi])
المبحث الرابع: المراد بالإسناد النازل، وأنواعه.(1/6)
المراد بالإسناد النازل: هو ما يقابل الإسناد العالي، وذلك بأن يزيد عدد رجال إسناده عن إسناد آخر للحديث.
قال العراقي في الألفيه([xxvii]):
ثُمَّ عُلو قِدَم السماع وضده النزولُ كالأنواع
أنواع الإسناد النازل: ينقسم الإسناد النازل إلى أٌقسام مقابلة لأقسام العلو؛ وهي:
القسم الأول: النزول المطلق بحيث يزيد رجاله إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إسناد آخر للحديث.
القسم الثاني: النزول النسبي؛ وذلك بالنسبة لإمام من أئمة الحديث.
القسم الثالث: النزول بالنسبة إلى الصحيحين أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعتمدة. ويشتمل على عدة أنواع:([xxviii])
النوع الأول: رواية الأقران: أن يشترك الراوي والراوي عنه، في السن واللُّقيِّ. إذ يكون حينئذ راوياً عن قرينه.
النوع الثاني: المُدَبَّج: أن يشترك الراوي والراوي عنه في السن واللُّقيِّ، ويروي كل منهما عن الآخر.
النوع الثالث: رواية الأكابر عن الأصاغر: أن يروي الراوي عمن هو دونه في السن واللُّقيِّ أو في المقدار من جهة الحفظ والعلم. ومن هذا النوع؛ رواية الآباء عن الأبناء، ورواية الصحابة عن التابعين، ورواية الشيخ عن تلميذه.
النوع الرابع: السابق واللاحق: أن يشترك إثنان عن شيخ، وتقدم موت أحدهما.
المبحث الخامس: الحكمة من تفضيل الإسناد النازل ـ أحياناً ـ على الإسناد العالي:
فضَّل العلماء الإسناد العالي على النازل، ونفروا من نزول الإسناد حتى إن الإمام علي بن المديني قال: "النزول شؤم"([xxix])، وقال ابن معين: "الإسناد النازل قرحة في الوجه"([xxx]).(1/7)
إلا أن بعض أهل العلم فضل الإسناد النازل على العالي، فقد نقل ابن الصلاح ([xxxi])عن بعض أهل النظر تفضيله على الإسناد العالي؛ بحجة المشقة في تخريجه والنظر فيه. إلا أن ابن الصلاح صرح بضعف هذا المذهب. ونقل السيوطي عن ابن دقيق العيد جوابه على هذا الرأي؛ بقوله: "لأن كثرة المشقة ليست مطلوبة لنفسها، ومراعاة المعنى المقصود من الرواية وهو الصحة أولى". ([xxxii])
وبالرغم من تفضيل العلماء الإسناد العالي على الإسناد النازل؛ إلا أنهم اتفقوا على أن الإسناد النازل أفضل منه إذا اشتمل على مزايا وفوائد. فذكر ابن الصلاح ([xxxiii])أن النزول إذا تعيّن دون العلو طريقاً إلى فائدة راجحة على فائدة العلو فهو مختار، وذكر ابن كثير([xxxiv]) تفضيل الإسناد النازل إذا كان رجاله أجلّ من رجال العالي وإن كانوا جميعاً ثقات، وزاد ابن حجر([xxxv]) وجوهاً أخرى لتفضيل الإسناد النازل؛ وذلك باعتبار أن رجاله الأحفظ ـ فضلاً عن الأوثق ـ ، أو الأفقه ، أو أن الاتصال فيه أظهر. وزاد السيوطي([xxxvi]) التفضيل أيضاً بزيادة الثقة في الإسناد النازل، ومثَّل لظهور الاتصال بأن يصرح بالسماع في الإسناد النازل، بينما يكون في الإسناد العالي حضور، أو إجازة، أو مناولة، أو تساهل بعض رواته في الحمل.
قلت: واجتماع فوائد الإسناد النازل في إسناد عالٍ غاية المراد. نقل المناوي ([xxxvii])عن الحافظ السلفي قوله: "ليس حُسن الحديث قرب رجال عند أرباب عامة الثقات، بل علو الحديث بين أولي الحفظ والإتقان صحة الإسناد، وإذا ما تجمَّعا في حديث فاغتنمه فذاك أقصى المراد".(1/8)
وربما تتعيَّن الرواية بالإسناد النازل للضرورة، كما أن اختياره دون الإسناد العالي يحتاج إلى علمٍ وتبحُّر. قال الحاكم النيسابوري([xxxviii]): "فإن للنازل مراتب لا يعرفها إلا أهل الصنعة؛ فمنها ما تؤدي الضرورة إلى سماعه نازلاً، ومنها ما يحتاج طالب العلم إلى معرفة وتبحُّر فيه فلا يكتب النازل وهو موجود بإسناد أعلى منه".
قلت: وهذا يعني أن من يختاز الإسناد النازل يجب أن يكون قد اطلع على فوائد الإسناد والمتن في جميع مرويات الحديث ؛ وذلك بالنظر في أحوال الرواة، وطبقاتهم، وصفة سماعهم من الشيوخ، وصيغ الأداء في مروياتهم، والاختلاف بين ألفاظ المُتون ، ومعرفة ما اشتملت عليه من زيادات في بعض الرواة.
ونوَّه السيوطي إلى أهمية الطريق النازل إذا عزَّ ولم يجده المصنف بإسناد عالٍ، ومثّل على ذلك بحديث للبخاري ؛ حيث قال: "واعلم أن كل حديث عزَّ على المحدث ولم يجده غالباً، ولا بد له من إيراده فمن أي وجه أورده فهو عالٍ بعزته، ومثل ذلك بأن البخاري روى عن أماثل مالك، ثم روى حديثاً لأبي إسلحاق الفزاري عن مالك، لمعنى فيه، فكان فيه بينه وبين مالك ثلاثة رجال".([xxxix]) وسيأتي هذا الحديث مع تفصيل الحكمة من رواية البخاري له نازلاً في هذا البحث.
وسبق البخاري بالإشارة إلى عدم استغناء المحدث عن النزول في الإسناد أحياناً؛ فقال: "لا يكون المحدث كاملاً حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه"([xl]). لذا فقد حدث عن الطبقة الرابعة من شيوخه؛ وهم رفقاؤه في الطلب، لسماع ما فاته عن مشايخه أو ما لم يجده عند غيرهم. وحدث أيضاً عن الطبقة الخامسة من شيوخه؛ وهم في عداد طلبته في السن والإسناد، وذلك للفائدة.([xli])
الفصل الثاني
الدراسة التطبيقية
الحديث الأول(1/9)
قال الإمام البخاري([xlii]): حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمَّادٍ الآمُلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ عَنْ بَيَانٍ عَنْ وَبَرَةَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ، قَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا مَعَهُ إلا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ، وَامْرَأَتَانِ ، وَأَبُو بَكْرٍ).
أطرافه: رواه البخاري أيضاً عن أحمد بن أبي الطيب ، تابع ابن معين في الرواية عن إسماعيل، به.([xliii])
المقارنة بين الإسنادين:
إسناد البخاري عن الآملي نازلٌ درجة، فإن بين البخاري وإسماعيل راويين. بينما إسناده عن أحمد بن أبي الطيب أعلى منه، حيث يوجد بين البخاري وإسماعيل راوٍ واحدٍ فقط.
والآملي في الطبقة الخامسة من شيوخ الإمام البخاري؛ وهم في عداد طلبته في السن والإسناد؛ خرَّج عنهم البخاري للفائدة.([xliv]) وهو في الطبقة الثانية عشرة من طبقات ابن حجر في التقريب، (ت 269هـ) وقيل بعد ذلك، وهو تلميذ البخاري وورّاقه؛ كما قال ابن حجر([xlv]). وهو متأخر في الوفاة عن البخاري مدة (13 سنةً).
بينما شيخه الآخر أحمد بن أبي الطيب من الطبقة العاشرة في التقريب، وتوفي في حدود (230هـ)، عاش البخاري بعده حوالي (26 سنة)([xlvi]). لذا فإن إسناد البخاري عن ابن أبي الطيب أعلى من جهة عدد الدرجات بينه وبين إسماعيل بن مجالد، ومن جهة زمن سماعه من الشيخ.
والبخاري روى عن شيخ الآملي ـ في الإسناد النازل ؛ وهو يحين بن معين مباشرة، وذلك في غير هذا الموضع من صحيحه. فقد روى البخاري لابن معين ثلاثة أحاديث في صحيحه، هذا إحداها، والثاني بواسطة عبدالله بن محمد الجعفي ورقمه (4665)، والثالث عن ابن معين مباشرة بإسناده لابن عمر عن أبي بكر قال: (ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ) ورقمه (3751).(1/10)
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل:
لاحظ الباحث أن الإسناد العالي يمتاز على الإسناد النازل بتحديث إسماعيل بن مجالد، وسماع همام من عمار ابن ياسر، حيث ورد في الإسناد النازل في الموضع الأول بالعنعنة، وفي الثاني بلفظ (قال). وهذا يؤكد على أهمية السبب الذي دعا البخاري لرواية الحديث بالإسناد النازل.
والحكمة في إيراد البخاري الرواية النازلة بالرغم من روايته عالياً؛ هي: أن شيخه في الإسناد العالي أحمد بن أبي الطيب، تُكلم فيه، فقد قال عنه أبو حاتم: "ضعيف الحديث"، إلا أن أبا زرعة قال: "حافظ محله الصدق"، وذكره ابن حبان في الثقات، ونقل ابن حجر توثيق أبي عوانة له، وقال الذهبي في الميزان: "وُثق، وضعفه أبو حاتم وحده"، وأورد له حديثاً منكراً، وقال ابن حجر: "صدوق حافظ له أغلاط ضعفه بسببها أبو حاتم، وما له في البخاري سوى حديث واحد متابعة".([xlvii])
وأحمد بن أبي الطيب روى الحديث عن إسماعيل بن مجالد، لذا فقد أورد البخاري الإسناد النازل من رواية شيخه الآملي عن يحيى بن معين تابع ابن أبي الطيب في الرواية عن إسماعيل، به.
والبخاري لم يرو في صحيحه عن شيخه ابن أبي الطيب سوى هذا الحديث مع قدمه، فكأنه رغب عنه لِما انتُقد عليه من أحاديث، وذلك احتياطاً في الصحة، وروى هذا الحديث بمتابعة ابن معين له. قال ابن حجر في التهذيب: "وله في البخاري حديث واحد في فضل أبي بكر رضي الله عنه، وقد أخرجه أيضاً من حديث ابن معين بمتابعة أحمد هذا".([xlviii])
الحديث الثاني(1/11)
قال الإمام البخاري([xlix]): حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ([l]) حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَمُوسَى بْنُ هَارونَ قَالا: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاءِ بْنِ زَبْرٍ قال: حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قال: حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَولانِيُّ قال: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: (كَانَتْ بَيْنَ أبِي بكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ فَأَغْضَبَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ. فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -. فَقال أَبُو الدَّرْدَاءِ وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فقَدْ غَامَرَ.
قَالَ: وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْخَبَرَ. قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لأنَا كُنْتُ أَظْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي؟ إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ). قَالَ أَبُوعَبْداللَّهِ: غَامَرَ ، سَبَقَ بِالْخَيْرِ.
أطرافه: رواه البخاري عن هشام بن عمار، عن صدقة ، عن زيد ، تابع ابن العلاء في الرواية عن بُسر، به.([li])(1/12)
المقارنة بين الأسانيد: إسناد البخاري عن عبدالله بن حماد الآملي نازلٌ درجة، فإن بين البخاري وبسر، أربعة رواة. بينما إسناده الآخر عن هشام بن عمار أعلى منه، حيث يوجد بين البخاري وبسر، ثلاثة رواة. وللبخاري ـ في صحيحه ـ من طريق بُسر حديثان آخران؛ والواسطة بينهما في الحديثين ثلاثة رواة فقط.
والآملي شيخ البخاري في هذا الإسناد هو في عداد تلاميذه كما سبق بيانه، بينما شيخه الآخر هشام بن عمار متقدم على الآملي بأربع وعشرين سنة، وهشام من كبار الطبقة العاشرة؛ وعاش ثنتان وتسعين سنة؛ فسماعه قديم، بينما الآملي من الطبقة الثانية عشرة. قال أبو زرعة: "من فاته هشام بن عمار يحتاج أن ينزل في عشرة آلاف حديث".([lii])
وبناء عليه فإن رواية البخاري عن هشام بن عمار أعلى من روايته عن الآملي بدرجة، ومن جهة أخرى أعلى لقدم سماعه من شيخه هشام بن عمار. ومع ذلك فإن البخاري رواه بالإسناد النازل.
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل:
1 ـ في الإسناد النازل تحديث بُسر عن أبي إدريس؛ حيث قال: (حدثني)، وفيه سماع أبي إدريس الخولاني من أبي الدرداء. بينما في الإسناد العالي ـ عن هشام بن عمارـ الرواية عندهما بالعنعنة.
2 ـ في الإسناد العالي شيخ البخاري: هشام بن عمار، وهو مع توثيق عدد من العلماء له، إلا أن بعضهم تكلم فيه، فقد قال أبوحاتم: "لما كبر هشام تغير، فكلما دفع إليه قرأه، وكلما لُقٍّن تَلَقَّن، وكان قديماً أصح، كان يقرأ من كتابه"، وانتقده أيضاً القزاز، وعبد الله بن محمد بن سيار لأنه يُلَقَّن، وكان الأخير قد اختبره في أحاديث، وقال أحمد: "هشام طياش خفيف"، وانتقد أبو داود عدداً كثيراً من أحاديثه، فقال: "حدث هشام بأربعمائة حديث مسندة ليس لها أصل، كان فَضْلَك([liii]) يدور على أحاديث أبي مسهر وغيرها يُلقنها هشاماً فيحدث بها".([liv])(1/13)
قلت: لعلَّ ذلك كان سبباً في قلة رواية البخاري عنه في الصحيح ـ بالرغم من قدم سماعه من الشيوخ ـ فلم يرو عنه إلا حديثين موصولين؛ هذا أحدهما، وعلق له ثلاثة أحاديث أخرى.
وهذا يُفسّر رواية البخاري للرواية النازلة عن الآملي؛ حيث جاءت متابعةً لرواية هشام بن عمار متابعة ناقصة. وقد نبه ابن حجر إلى المتابعة في هذا الحديث، والمتابعة في الحديث الآخر أيضاً.([lv])
الحديث الثالث
قال الإمام البخاري([lvi]): حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: (سَتَرْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ الأرْضِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءهُ لِلصَّلاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ).
أطرافه: رواه البخاري عن شيخه محمد بن يوسف الفريابي، تابع ابن المبارك في الرواية عن الثوري؛ به.([lvii])
ورواه أيضاً من ثماني طرق أخرى؛ وذلك عن ستة من الرواة تابعوا الثوري في الرواية عن الأعمش؛ وهم: عبدالواحد، وحفص، وأبو عوانة، والفضل بن موسى، وأبو حمزة، وسفيان بن عيينة. ووزَّع البخاري طرقه التسعة على تسعة أبواب مستشهداً في كل باب منها بما يناسبه من تلك الطرق. وجاء في بعضها ذكر صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، وزاد بعضهم ستر ميمونة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضها أيضاً أنها أعطت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوباً (خرقة) فأخذها وجعل ينفض بيده. ([lviii])
المقارنة بين الأسانيد(1/14)
لقد ورد الحديث عند البخاري بإسناد عالٍ من ثماني طرق عن الأعمش؛ الواسطة فيها بين البخاري والأعمش رجلان فقط. وإحدى هذه الطرق من رواية البخاري عن شيخه عبدان.
وجاءت الطريق التاسعة أيضاً من رواية البخاري عن شيخه عبدان، إلا أن بين البخاري والأعمش ثلاثة رواة. وبذلك فإن هذه الطريق نازلة عند البخاري درجة بينه وبين الأعمش، وهي كذلك نازلة درجة بين عبدان والأعمش، حيث يروي عنه عادة بواسطة واحد فقط، وروايته هذه بواسطة اثنين.
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
بالرغم من رواية البخاري الحديث من طرق كثيرة بإسناد عالٍ إلا أنه رواه بإسناد نازل في إحدى طرقه، وقد تتبعت جميع طرقه في الصحيح وقارنت بينها، فلم أقف على تصريح بالسماع للأعمش([lix]) في الرواية النازلة، ولم أقف على زيادة في متنها عن سائر متون الروايات، ولم أجد تفسيراً لذلك سوى قول ابن حجر: "ونزل فيه هنا درجة، وكذلك نزل فيه شيخه عبدان درجة؛ لأنه سبق من روايته عن أبي حمزة عن الأعمش. والسبب في ذلك اعتناؤه بمغايرة الطرق عند تغاير الأحكام".([lx])
ولم أقنع بهذا التفسير وحده، فواصلت البحث، حتى تبين لي أن الإمام البخاري أراد متابعة شيخه محمد بن يوسف في الرواية عن الثوري. فقد رواه البخاري بإسناد عالٍ عن محمد بن يوسف عن الثوري عن الأعمش. ثم رواه بإسناد نازل عن عبدان عن ابن المبارك عن الثوري عن الأعمش. وليس له من طريق الثوري سوى هذين الإسنادين.
فأراد البخاري بذلك متابعة ابن المبارك لمحمد بن يوسف. والسبب في ذلك أن محمد بن يوسف أخطأ في أحاديث عن الثوري بالرغم من ملازمته. قال ابن أبي خيثمة: "سُئل ابن معين عن أصحاب الثوري: أيهم أثبت؟ فقال: هم خمسة: القطان، ووكيع، وابن المبارك، وابن مهدي، وأبو نعيم. وأما الفريابي ــ أي محمد بن يوسف ــ وأبوحذيفة، وقبيصة…. فهم كلهم في سفيان بعضهم أقرب من بعض، وهم ثقات، كلهم دون أولئك في الضبط والمعرفة". ([lxi])(1/15)
وقال العجلي بعد توثيقه له: "قال لي بعض البغداديين: أخطأ محمد بن يوسف في خمسين ومائة حديث من حديث سفيان". وقال ابن عدي: "له افرادات عن الثوري…".([lxii])
أما إسناد البخاري الآخر ـ العالي ـ عن عبدان، فهو من رواية عبدان عن أبي حمزة السكري عن الأعمش. فروى البخاري إسناد عبدان النازل من رواية ابن المبارك، لأهميته في متابعة محمد بن يوسف. وابن المبارك من أثبت الناس في الثوري كما نُقل عن ابن معين سابقاً.
الحديث الرابع
قال الإمام البخاري([lxiii]): حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: (أُقِيمَتْ الصّلاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا؛ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي).
أطرافه: رواه البخاري عن عمرو بن خالد، عن زهير بن معاوية، تابع زائدة في الرواية عن حميد، به. وهو بنحو حديث زائدة، إلا أن فيه زيادة من قول أنس: (وكان أحدنا يُلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه). ([lxiv]) وروى البخاري الحديث من طرق أخرى كثيرة عن أنس.
المقارنة بين الأسانيد
إسناد البخاري عن أحمد ابن أبي رجاء نازل درجة عن إسناده الآخر عن عمرو بن خالد، فإن بين البخاري وحميد ثلاثة رواة، بخلاف إسناده الثاني؛ بينهما راويان فقط. وشيخه أحمد من الطبقة العاشرة، توفي (232هـ)، وشيخه في الإسناد العالي عمرو بن خالد من الطبقة العاشرة أيضاً، وهو مقارب في السن للأول حيث توفي (229هـ).(1/16)
وبالرغم من هذا التقارب في السن، فإن إسناده عن أحمد نازل درجة، لأن البخاري روى عن شيخ أحمد ـ في هذا الإسناد ـ مباشرة؛ وهو معاوية بن عمرو، وذلك في مواضع أخرى من الصحيح. قال ابن حجر: "معاوية بن عمرو هو من قدماء شيوخ البخاري"([lxv]). ومعاوية من الطبقة التاسعة، توفي (سنة 214هـ) وعاش ستاً وثمانين عاماً.
قلت: روى البخاري لمعاوية بن عمرو ثمانية عشر حديثاً ـ بالمكرر في الصحيح، واحدٌ منها بدون واسطة ورقمه (936)، وواحد بواسطة شيخه أحمد ـ وهو هذا الحديث ـ ، وواحد بواسطة شيخه محمد بن عبد الرحيم المعروف بصاعقة ورقمه (1953)، والباقي بواسطة شيخه عبدالله بن محمد الجعفي.
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
روى البخاري الحديث عن حميد الطويل بإسناد نازل، مع أن له إسناداً عالياً عنده من هذا الطريق. وفائدة الإسناد النازل تصريح حميد الطويل وباقي الرواة بالسماع، بينما ورد في الإسناد العالي عنعنة حميد. وتصريح حميد بالسماع من أنس في الإسناد النازل نفى مظنة التدليس. ومعلوم أن حميداً مدلس، وقد اتُهم باختلاط حديثه عن أنس، وتدليسه عنه، وأن عامة أحاديثه عنه بواسطة ثابت البناني. قاله ابن سعد، وابن خراش، وحماد، وسفيان. وذكر شعبة بأنه لم يسمع من أنس إلا أربعة وعشرين حديثاً، وقال مرة: خمسة أحاديث. وقال ابن حبان: ثمانية عشر حديثاً. والباقي سمعها من ثابت. وذهب ابن عدي وغيره إلى قبول حديثه عن أنس ما دام تدليسه معلوماً عن ثابت. وذهب أبو بكر البرديجي إلى قبول حديثه الذي صرح فيه بالسماع من أنس. وردّ ابن حجر على القول بأن حميداً لم يسمع إلا أحايث من أنس، واحتج بأن البخاري روى له أحاديث كثيرة صرح فيها بالسماع من أنس([lxvi]). وقد عده ابن حجر في المرتبة الثالثة من المدلسين، الذين يقبل حديثهم حال تصريحهم بالسماع. ([lxvii])(1/17)
قلت: وحميد صرح بالسماع في هذا الحديث، مما دعا الإمام البخاري إلى رواية الحديث بالإسناد النازل لأجل هذه الفائدة الإسنادية. وقد نبه ابن حجر إلى ذلك بقوله: "وإنما نزل فيه لما وقع في الإسناد من تصريح حميد بتحديث أنس له فأمن بذلك تدليسه".([lxviii]) وقد حكم ابن حجر على عنعنة حميد - في حديث آخر - بحكمه السابق أيضاً، فقال معلقاً على ذلك الحديث: "..وسفيان هو ابن عيينة، وقد صرح بتحديث حميد له وسماع حميد عن أنس فأمن تدليسهما".([lxix])
الحديث الخامس
قال الإمام البخاري([lxx]): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلابِ،([lxxi]) فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ الأَيْسَرِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ).
أطرافه: لم يروه البخاري في صحيحه إلا في هذا الموضع.
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
نزل البخاري في إسناد هذا الحديث درجة، وذلك لأن شيخ شيخه في هذا الإسناد، أباعاصم النبيل: الضحاك ابن مخلد هو من كبار شيوخه وقد روى عنه البخاري مباشرة في مواضع أخرى من صحيحه. وقد عدّه ابن حجر في الطبقة الأولى من شيوخ البخاري؛ الذين حدثوا عن التابعين.([lxxii]) وهو في الطبقة التاسعة من طبقات ابن حجر في التقريب، توفي (سنة 218هـ).
وهذا الحديث لم يروه البخاري مباشرة عن أبي عاصم، وإنما بواسطة شيخه الآخر محمد بن المثنى العنزي، وهو في الطبقة العاشرة من طبقات ابن حجر في التقريب، توفي (سنة 252هـ). قال ابن حجر: "أبوعاصم المذكور في الإسناد هو النبيل وهو من كبار شيوخ البخاري، وقد أكثر عنه في هذا الكتاب، لكنه نزل في هذا الإسناد فأدخل بينه وبينه واسطة".([lxxiii])(1/18)
قلت: يظهر لي أن الإمام البخاري لم يسمع هذا الحديث من شيخه أبي عاصم، فنزل فيه بواسطة شيخ آخر. وقد روى البخاري في صحيحه لأبي عاصم ثمانية وسبعين حديثاً بالمكرر، منها ثلاثة وعشرون حديثاً بواسطة سبعة شيوخ ، والباقي عنه مباشرة.([lxxiv])
الحديث السادس
قال الإمام البخاري([lxxv]): حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلا خَدِيجَةُ؟ فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ).
أطرافه: روى البخاري الحديث من أربع طرق أخرى عن هشام بإسناده:
الأولى: عن سعيد بن عُفير عن ليث بن سعد.([lxxvi])
الثانية: عن أحمد ابن أبي رجاء، عن النضر بن شميل.([lxxvii])
الثالثة: عن قتيبة عن حميد بن عبدالرحمن الرؤاسي.([lxxviii]).
الرابعة: عن عبيد بن إسماعيل ، عن حماد بن أسامة.([lxxix])
المقارنة بين الأسانيد
1 ـ بالنظر في عدد الرواة بين البخاري وهشام، تبين أن هذه الطرق الأربعة بدرجة واحدة، لأن الواسطة بينهما راويان بينما إسناده من طريق حفص بن غياث، الواسطة فيه ثلاثة رواة. وبذلك يكون البخاري نزل درجة بينه وبين هشام.(1/19)
2 ـ بالنظر في سنوات وفيات شيوخ البخاري، يكون ترتيب علو الإسناد في طرق الحديث بحسب ترتيبها السابق، إلا أن الطريق الرابعة من رواية عبيد، في نفس درجة الطريق النازلة من رواية عمر بن محمد. لأنهما توفيا في سنة واحدة؛ سنة (250هـ). وقد عدَّ ابن حجر عمر بن محمد من صغار شيوخ البخاري.([lxxx])
وعلى ذلك فإن إسنادي البخاري هذين يكونان نازلين ـ بهذا الاعتبار ـ قياساً على الأسانيد الثلاثة الأخرى. وباعتبار عدد الرواة فإن إسناده عن عمر بن محمد هو النازل دون بقية الأسانيد.
3 ـ وبالنظر في مرويات البخاري في صحيحه، يتبين أنه يروى عن هشام بواسطة راوٍ واحدٍ فقط. ونبه ابن حجر([lxxxi]) على ذلك، ومثَّل عليه بحديث (رقمه 2518)، ووقف الباحث على ثلاثة أحاديث أخرى الواسطة فيها راو واحدٍ؛ هي (3901 بواسطة أبان بن يزيد، و 6793، 6908 كلاهما بواسطة عبيدالله بن موسى).
وبناء عليه؛ فإن البخاري يكون قد نزل في إسناد هذا الحديث ـ عن شيخه عمر بن محمد ـ درجتين بينه وبين هشام بن عروة، وذلك بالنظر إلى مروياته الأخرى في الصحيح.
4 ـ نزل البخاري في إسناد هذا الحديث عن حفص بن غياث درجة، لأن الواسطة بينهما راويان ، بينما أكثر مروياته عنه في الصحيح بواسطة راوٍ واحدٍ. وقد بلغت مرويات حفص في الصحيح إحدى وتسعين رواية([lxxxii])، جميعها بواسطة راوٍ واحدٍ، سوى حديثين فقط؛ هذا أحدهما ، والثاني من رواية البخاري عن غندر عن عمر بن حفص عن أبيه.
قال ابن حجر معلقاً على هذا الإسناد: "وقد نزل البخاري في هذا الإسناد بالنسبة لحديث حفص بن غياث درجة؛ فإنه يروي الكثير عن ولده عمر بن حفص وغيره من أصحاب حفص وهنا لم يصل لحفص إلا باثنين. وبالنسبة لرواية هشام بن عروة درجتين؛ فإنه قد سمع من بعض أصحابه".([lxxxiii])
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل(1/20)
نزل البخاري في إسناده عن عمر بن محمد درجة بالنسبة لحفص، ودرجتين بالنسبة لهشام بن عروة، لما اشتملت عليه الرواية النازلة من زيادة في المتن، فقد ورد فيها دون سائر الروايات قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ). ونبّه ابن حجر إلى ذلك بقوله: "والسبب في اختياره إيراد هذه الطريق النازلة ما اشتملت عليه من الزيادة على رواية غيره".
قلت: أما رواية البخاري عن عبيد؛ النازلة باعتبار تأخر زمن السماع من الشيخ ـوليس عدد الرواةـ ، فربما أوردها البخاري لكونها أفادت طريقاً جديداً عن هشام، وهي طريق حماد بن أسامة، ووافقت أيضاً رواية حميد بن عبدالرحمن الرؤاسي في زيادة بيان زمن زواج عائشة من وقت وفاة خديجة؛ فقد جاء في اللفظ: (وتزوجني بعدها بثلاث سنين)، ولم يرد هذا التحديد الزمني في باقي الروايات.([lxxxiv])
الحديث السابع(1/21)
قال الإمام البخاري([lxxxv]): حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حدثنا أَبُوإِسْحَاقَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، قَال: حَدَّثَنِي ثَوْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: (افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا ولا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى وَادِي الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِي الضِّبَابِ. فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جَاءه سَهْمٌ عَائِرٌ([lxxxvi]) حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ هَنِيئاً لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ([lxxxvii]) الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتعِلُ عَلَيْهِ نَارًا. فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ([lxxxviii])، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ).
أطرافه: رواه البخاري أيضاً عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، بإسناده ومعناه.([lxxxix])
المقارنة بين الأسانيد(1/22)
في إسناد البخاري عن عبدالله بن محمد الجعفي ثلاثة رواة بين البخاري ومالك. بينما في إسناده الآخر عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، ليس بينهما سوى إسماعيل هذا. فيكون البخاري قد نزل في إسناده الأول عن مالك درجتين. قال ابن حجر "نزل البخاري في هذا الحديث درجتين". ([xc])
قلت: وقد نظرت في أحاديث مالك في الصحيح، فوجدت كثيراً منها بواسطة راوٍ واحدٍ بينه وبين البخاري، مثل الحديث رقم (2925 و 3094 بواسطة إسحاق الفروي)، والحديث رقم (1461 بواسطة عبدالله بن يوسف)، والحديث رقم (2318 بواسطة يحيى بن يحيى)، والأحاديث (22 و 37 و 46 و 66 و 76 و 83 كلها بواسطة إسماعيل بن أبي أويس) والأحاديث (29 و 54 و 139 و 280 و 431 كلها بواسطة القعنبي).
وشيخ شيخ البخاري في هذا الإسناد - معاوية بن عمرو - هو شيخ قديم للبخاري، روى عنه حديثاً واحداً في الصحيح بدون واسطة، والباقي بواسطة، كما هو مبين في الحديث الرابع. وبذلك نزل درجة في سماع هذا الحديث منه.
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
روى البخاري الحديث عن عبدالله الجعفي بإسناد نازل، بالرغم من روايته له عالياً عن ابن أبي أويس، وذلك لما اشتملت عليه الرواية النازلة من تحديث الإمام مالك عن ثور. ونقل ابن حجر عن ابن طاهر؛ قوله: "والسرُّ في ذلك أن في رواية أبي إسحاق الفزاري وحده عن مالك " حدثني ثور بن زيد "، وفي رواية الباقين " عن ثور ". وللبخاري حرص شديد على الإتيان بالطرق المصرحة بالتحديث".([xci])
قلت: ورد في رواية البيهقي من طريق أبي إسحاق الفزاري عن مالك تحديثه عن ثور.([xcii])(1/23)
ولم أجد له تصريحاً بالسماع من طريق ابن وهب ، أو من طريق ابن القاسم ، أو من طريق القعنبي. ويبدو أن أباإسحاق الفزاري انفرد بصيغة التحديث. وهذا يدل على أن الإمام البخاري ينتخب طرقاً معينة للحديث لما تشتمل عليه من فوائد، ويؤكد ما ذكره ابن طاهر من حرص البخاري على الإتيان بالطرق المصرحة بالتحديث، ويدل على سعة اطلاعه على طرق الحديث وتحملها؛ سيما وأن البخاري لم يخرج - في صحيحه - لأبي إسحاق الفزاري عن مالك سوى هذا الحديث، فانتخب روايته لأجل فائدة تصريح مالك بالسماع في روايته دون باقي الروايات.
ونوَّه السيوطي إلى أهمية الطريق النازل إذا عزّ ولم يجده بإسناد عالٍ، ومثّل على ذلك بحديث البخاري هذا؛ حيث قال: "واعلم أن كل حديث عزَّ على المحدث ولم يجده غالباً، ولا بد له من إيراده فمن أي وجه أورده فهو عالٍ بعزته، ومثل ذلك بأن البخاري روى عن أماثل مالك، ثم روى حديثاً لأبي إسحاق الفزاري عن مالك، لمعنى فيه، فكان فيه بينه وبين مالك ثلاثة رجال".([xciii])
الحديث الثامن
قال الإمام البخاري([xciv]): حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَة،َ وَالأَعْرَجِ ،(1/24)
(ح)، وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي أَخِي([xcv]) عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: (اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ ـ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ ـ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ. فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ فلا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ).
أطرافه: رواه البخاري في موضع آخر([xcvi]) أيضاً عن يحيى بن قزعة؛ بإسناده هنا. ورواه أيضاً عن عبدالعزيز ابن أبي أويس([xcvii])، كلاهما عن إبراهيم بن سعد بن عبدالرحمن بن عوف عن الزهري، بإسناده. ورواه أيضاً عن أبي اليمان: الحكم بن نافع، عن شعيب ابن أبي حمزة، تابع إبراهيم بن سعد، وابن أبي عتيق، في الرواية عن الزهري، به.([xcviii])
ورواه البخاري أيضاً من طريق الأعرج وحده عن أبي هريرة([xcix])، وكذلك من طريق الشعبي عن أبي هريرة.([c])
وتكلم ابن حجر في اختلاف طرق الحديث على الزهري؛ مرة عن أبي سلمة والأعرج، ومرة عن أبي سلمة وسعيد ابن المسيب، فقال: "والحديث محفوظ للزهري على الوجهين".([ci])
المقارنة بين الأسانيد(1/25)
روى البخاري الحديث من ثلاث طرق عن الزهري: طريق إبراهيم بن سعد، وطريق شعيب، وطريق محمد ابن أبي عتيق. واختلفت أسانيده عنه ـ من جهة العلو والنزول ـ على النحو التالي:
1 ـ إسناده من طريقي شعيب، وإبراهيم، عالٍ؛ لأن الواسطة بين البخاري والزهري في أسانيده الثلاثة من هذا الطريق راويان فقط.
2 ـ إسناده من طريق ابن ابي عتيق نازل جداً. لأن الواسطة بين البخاري والزهري أربعة رواة.
3 ـ بالرغم من نزول الإسناد جداً إلا أن وفاة شيخ البخاري في الإسناد العالي: أبو اليمان ـ على سبيل المثال ـ مقاربة لسنة وفاة شيخه في الإسناد النازل: إسماعيل ابن أبي أويس، فإن الأخير توفي بعد سابقه بأربع سنوات فقط.
4 ـ يبدو أن شيخه أبا اليمان قديم السماع من شيوخه، فإنه روى عن شيخه شعيب، والفارق بينهما ستون سنة. أما في الإسناد النازل فالفارق الزمني بين الراوي وشيخه قصير؛ إذ الفرق بين شيخ البخاري: إسماعيل وشيخه في الإسناد: أخوه عبدالحميد أربع وعشرين سنة، والفارق بين عبدالحميد وشيخه سليمان بن بلال خمس وعشرون سنة، ويبقى الفارق بين سليمان وشيخه محمد ابن أبي عتيق (تلميذ الزهري)، إذ لم أقف على سنة وفاة ابن أبي عتيق، وهو من الطبقة السابعة، وتلميذه: سليمان من الثامنة.
5 ـ نظرت في أسانيد البخاري عن الزهري في الصحيح، فوجدت أنه يروي عنه كثيراً بواسطة رجلين.([cii])
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
الوقوف على إسناد للبخاري في الصحيح نازل جداً، بالرغم من روايته له عالياً بدرجتين يثير اهتمام الباحث، وربما استغرابه للوهلة الأولى. ولكن عند إمعان النظر في أسانيد الحديث تتضح الحكمة الظاهرة، من رواية الإسناد النازل كما الإسناد العالي. وسأوضح ذلك بالنسبة لهذا الحديث على النحو التالي:
1 ـ بالنظر في الإسناد العالي الأول عن الزهري، وذلك من طريق شعيب عنه، يتضح أنه يشتمل على فائدتين - سوى علو الإسناد - إلا أن فيه إشكالاً.(1/26)
أما الفائدتان؛ فالأولى منهما: تصريح الزهري في الإسناد بقوله: (أخبرني). ومعلوم أنه مدلس من المرتبة الثالثة كما في طبقات المدلسين لابن حجر.([ciii])
والفائدة الثانية: في شعيب نفسه، فإنه من أثبت الناس في الزهري كما قال ابن معين. وقال أبوداود: "كان أصح حديثاً عن الزهري بعد الزبيدي"، بل وجعله أحمد في درجة الزبيدي. وقدمه أبو زرعة على ابن أبي الزناد في الزهري. وكان كاتباً للزهري كما قال ابن معين والخليلي.([civ])
وأما الإشكال؛ فهو في شيخ البخاري في الإسناد: أبواليمان: الحكم بن نافع، ثقة ثبت، إلا أنه اتُهم بأن أكثر حديثه عن شعيب مناولة، وقد ذكر الإمام أحمد عن ابن شعيب قوله: "إن أبا اليمان جاءني فأخذ كتب شعيب مني بعد، وهو يقول أخبرنا"، وورد عن أبي اليمان قوله: "المناولة لم أخرجها لأحد"، إلا أنه أخطأ في حديث لشعيب فجعله عن ابن أبي حسين، وتعلل أبو اليمان ـ بعد معرفة خطئه ـ بقوله: "والذي حدثتكم عن ابن أبي حسين غلطت فيه بورقة قلبتها"، وذلك لأن كتاب شعيب عن ابن أبي حسين كان ملصقاً بكتاب الزهري. واتهمه أبو زرعة بأنه لم يسمع من شعيب إلا حديثاً واحداً، وكذا نُقل عن أبي داود نحوه.([cv])
2 ـ بالنظر في الإسناد العالي الثاني عن الزهري، وذلك من طريق إبراهيم بن سعد عنه، يتضح أنه يشتمل على فائدة تصريح الزهري في الإسناد بقوله: حدثناه". إلا أنه لم يسلم، فإن إبراهيم بن سعد مع كونه ثقة حجة، إلا أن صالح جزرة قال: "حديثه عن الزهري ليس بذاك، لأنه كان صغيراً حين سمع من الزهري".([cvi]) وقال الذهبي: "ساق له ابن عدي عدة غرائب عن الزهري مما خولف في إسنادها، يُبدِّل تابعياً بآخر".([cvii])
قلت: لكن ابن معين أثنى عليه في الزهري خاصة. ومع ما نقله الذهبي إلا أنه وثقه. ووثقه ابن عدي وأضاف: "وقول من تكلم فيه تحامل، وله أحاديث مستقيمة عن الزهري وغيره". وقال ابن حجر: ثقة حجة ، تُكلم فيه بلا قادح".([cviii])(1/27)
3 ـ بناء على ما سبق من انتقادٍ في أبي اليمان، وإبراهيم بن سعد ـ وهما من رواة الإسنادين العاليين ـ يتضح سبب إيراد البخاري للرواية النازلة، فقد تابع محمد ابن أبي عتيق ـ في الإسناد النازل ـ كلاً من إبراهيم بن سعد، وشعيب ـ شيخ أبي اليمان ـ في الرواية عن الزهري.
ومع أن محمد ابن أبي عتيق بدرجة مقبول كما قال ابن حجر، فإن الذهلي قال عنه: "وهو حسن الحديث عن الزهري كثير الرواية مقارب الحديث"([cix])، وذكره ابن حبان في الثقات([cx]). وليس الغرض في هذه الحالة الاحتجاج بحديثه، وإنما متابعة غيره ممن هو في درجة الثقة. والانتقاد القليل فيهما تنفيه المتابعة من غيرهما. ولذلك جعل البخاري روايته مقرونة براوية إبراهيم في نفس الإسناد. وهذا يدل على شدة تحري البخاري وحرصه على سلامة حديثه وصحته، ودفع مظنة الخطأ والتُهمة بغض النظر عن أهميتها أو صحتها في نظره.
الحديث التاسع(1/28)
قال الإمام البخاري([cxi]): حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنِي عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ ولا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الأَمْرَ - ثُمَّ تُسَمِّيهِ - بِعَيْنِهِ خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ، قَال:َ أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، أَوْ قَال:َ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ).([cxii])
أطرافه: رواه البخاري أيضاً عن مطرف بن عبدالله([cxiii])، وقتيبة([cxiv])،كلاهما تابع معن بن عيسى بإسناده.
المقارنة بين الأسانيد
رواه البخاري من ثلاثة طرق عن عبدالرحمن بن أبي الموالي: الطريق الأولى عن شيخه مطرف، والثانية عن شيخه قتيبة، كلاهما عن عبدالرحمن. فالواسطة بينهما راوٍ واحدٍ.(1/29)
أما في الطريق الثالثة - المثبتة في البحث - فقد نزل البخاري درجة، لأن الواسطة بينه وبين عبدالرحمن راويان؛ هما شيخه ابراهيم ، ومعن بن عيسى. قال ابن حجر: "نزل فيه البخاري درجة؛ لأنه عنده في الموضعين المذكورين بواسطة واحد عن عبدالرحمن، وهنا وقع بينه وبين عبدالرحمن إثنان".([cxv])
وبالرغم من نزول الإسناد باعتبار الدرجات وطبقات الرواة، إلا أنه موافق لإسناده العالى - تقريباً - عن شيخه قتيبة ـ باعتبار زمن السماع من الشيخ ـ ، لأن قتيبة توفي بعد شيخه في الإسناد النازل: إبراهيم بأربع سنوات؛ علماً بأن وفاة قتيبة (سنة 240هـ)، ووفاة إبراهيم (سنة 236هـ). ويبقى إسناده الثالث عن مطرف أعلى من هذين الإسنادين، لأن سماع البخاري منه قديم؛ حيث توفي (سنة 220هـ) وله ثلاثة وثمانون عاماً.([cxvi])
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
نزل البخاري في إسناده من طريق معن بن عيسى لفائدة تصريح محمد بن المنكدر بالسماع من جابر، حيث جاء فيه قوله: (أَخْبَرَنِي جَابِرُ).
ولفائدة إفصاح عبدالرحمن بالواقع في حال تحمله عن ابن المنكدر؛ حيث قال عبدالرحمن: (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيُّ) أي أن عبدالرحمن كان جالساً حين حدث ابنُ المنكدر بهذا الحديث إلى عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فسمعه عبدالرحمن منه على هذا الحال، فأفصح عن الواقع حين تحمله للحديث.(1/30)
ونوّه ابن حجر إلى الحكمة فذكر هاتين الفائدتين، ثم أجاب على من يخشى الانقطاع الذي تحتمله العنعنة الواردة في الروايات الأخرى؛ بما ورد في رواية ابن ماجة([cxvii]) من طريق خالد بن مخلد عن عبدالرحمن، قال: سمعت محمد بن المنكدر يحدث عن جابر. وأضاف: "وخالد من شيوخ البخاري , فيحتمل أن لا يكون سمع منه هذا الحديث مع أنه لم يصرح بما صرحت به الرواية النازلة من تسمية المقصود بالتحديث وهو عبدالله بن الحسن".([cxviii])
قلت: رواه أيضاً عبد بن حميد([cxix]) عن خالد بن مخلد، بمثل رواية ابن ماجه؛ فيه التصريح بالتحديث عن جابر. وعبد بن حميد في الطبقة الرابعة من شيوخ البخاري؛ وهم رفقاؤه في الطلب([cxx]). فإذا كان البخاري لم يسمع الحديث من خالد بن مخلد لأنه يعد في كبار شيوخه (توفي سنة 213هـ)، فإن احتمال سماعه من عبد بن حميد أكبر؛ لأنه في عداد رفقائه؛ توفي (سنة 249هـ). ويبقى الأرجح في نظر الباحث أن البخاري انتقى رواية شيخه ابراهيم بن المنذر عن معن - دون هاتين الروايتين - لاشتمالها على فائدة تسمية المقصود بالتحديث ، وهو عبدالله بن الحسن، فضلاً عن فائدة التصريح بالتحديث.
وورد في رواية أبي داود([cxxi]) عن عبدالرحمن بن مقاتل عن عبدالرحمن، قال: (حدثني محمد بن المنكدر، أنه سمع جابر بن عبدالله) فيه تصريح ابن المنكدر بالسماع، ولكن لم يبين عبدالرحمن حال السماع من ابن المنكدر كما بينته رواية البخاري.
واعترض ابن حجر على رواية أبي داود من جهة قول عبدالرحمن (حدثني ابن المنكدر)؛ لأن واقع الحال كما في رواية البخاري أن عبدالرحمن قال: (سمعت ابن المنكدر يحدث عبدالله بن الحسن يقول: أخبرني جابر)؛ فلم يكن هو الشخص المقصود بالحديث، فكيف يعبر بصيغة (حدثني) التي تفيد السماع وحده من الشيخ؟(1/31)
قال ابن حجر بعد إيراده رواية أبي داود: "وعليه في ذلك اعتراض لاحتمال أن يكون محمد بن المنكدر لم يقصده بالتحديث، وقد سلك في ذلك النسائي والبرقاني مسلك التحري؛ فكان النسائي فيما سمعه في الحالة التي لم يقصده المحدث فيها بالتحديث، لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا سمعت، بل يقول: فلان قرأه عليه وأنا أسمع. وكان البرقاني يقول: سمعت فلانا يقول. وجوَّز الأكثر إطلاق التحديث والإخبار لكون المقصود بالتحديث من جنس من سمع ولو لم يكن مقصوداً فيجوز ذلك عندهم لكن بصيغة الجمع فيقول: حدثنا؛ أي حدث قوما أنا فيهم فسمعت ذلك منه حين حدث ولو لم يقصدني بالتحديث. وعلى هذا فيمتنع بالإفراد بأن يقول مثلا " حدثني " بل ويمتنع في الاصطلاح أيضا؛ لأنه مخصوص بمن سمع وحده من لفظ الشيخ، ومن ثم كان التعبير بالسماع أصرح الصيغ لكونه أدل على الواقع".([cxxii])
الحديث العاشر
قال الإمام البخاري([cxxiii]): حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ. قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟! قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - .
أطرافه: لم يروه البخاري إلا في هذا الموضع.
بيان نزول البخاري في الإسناد
نزل البخاري في هذا الإسناد عن شعبة درجتين، ونزل عن معاذ بن معاذ العنبري درجة. وتوضيح ذلك كما يلي:(1/32)
1 ـ نزل البخاري عن شعبة درجتين، لأن الرواة بينهما ـ في هذا الإسناد - ثلاثة -. بينما روى عنه أحاديث كثيرة في صحيحه بواسطة راوٍ واحدٍ فقط؛ وهم شيوخه فقط، مثل: آدم بن أبي إياس (حديث 10، 15، 102، 117، 142)، وهشام الطيالسي (حديث 17، 32، 107، 150)، وسليمان بن حرب (حديث 21، 30، 151)، ومحمد بن عرعرة (حديث 48، 98)، وعلي بن الجعد (53، 106)، وحجاج بن منهال (55، 121). وروى عنه بواسطة راويين؛ كما في الأحاديث (13، 81، 65، 69، 87، 251، 255).
ويبقى أن سماع البخاري عالياً من شعبة بواسطة راوٍ، ونزل به في هذا الإسناد درجتين لأن الرواة بينهما ثلاثة. قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: "إن البخاري إذا روى حديث شعبة عاليا كان بينه وبينه راو واحد، وقد أدخل بينه وبين شعبة فيه ثلاثة".([cxxiv])
2 ـ نزل البخاري عن معاذ درجة، لأن بينهما راويين في هذا الإسناد. بينما روى له في الصحيح بواسطة شيخه فقط؛ كما في الأحاديث (1705، 2161، 3813، 3964، 4337، 6673).
وشيخ البخاري في هذا الإسناد "حماد بن حميد"، يأتي في الطبقة الثانية عشرة من طبقات الرواة في التقريب، وهو يأتي في الطبقة الرابعة من طبقات شيوخ البخاري؛ وهم رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلاً، يخرج لهم البخاري ما فاته عن مشايخه أو ما لم يجده عند غيرهم. والبخاري سمع هذا الحديث منه قبل وفاة عبيدالله بن معاذ. قال المزي: "ووجد في بعض النسخ العتيقة من الجامع، قال أبو عبدالله: حماد بن حميد، صاحب لنا، حدثنا هذا الحديث وكان عبيدالله في الأحياء حينئذ".([cxxv])
ظاهر كلام البخاري يدل على أنه من رفقائه حيث قال (صاحب لنا) ـ أي في المرتبة الرابعة من شيوخه ـ، إلا أن الذهبي ذكر بأنه أصغر من البخاري، وعلى ذلك يكون في المرتبة الخامسة الخاصة بمن هم في عداد طلبته في السن والإسناد. وفي الحالتين فإن البخاري رواه نازلاً في الطبقة المتأخرة من شيوخه.(1/33)
وقد روى مسلم([cxxvi])، وأبو داود([cxxvii]) هذا الحديث عن عبيدالله بلا واسطة؛ فالإسناد عندهما أعلى منه عند البخاري. قال ابن حجر: "وهو أحد الأحاديث التي نزل فيها البخاري عن مسلم، أخرجها مسلم عن شيخ وأخرجها البخاري بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ، وهي أربعة أحاديث" وأضاف ابن حجر: "وذلك أن مسلماً في هذه الأربعة باقٍ على الرواية عن الطبقة الأولى أو الثانية من شيوخه، وأما البخاري فإنه نزل فيها عن طبقته العالية بدرجتين. ".([cxxviii])
ويبقى إسناد البخاري عن شعبة ـ في المطلق ـ أعلى من إسناد مسلم؛ لأن مسلماً لم يرو عنه بأقل من راويين.([cxxix]) وقد ذكر السيوطي نوع العلو بالنسبة لإمام من الأئمة، ثم مثل بعلو إسناد البخاري عن شعبة، حيث قال: "وأما بالنسبة إلى بعض الأئمة؛ فلأن شعبة بن الحجاج من كبار الأئمة الذين روى الأئمة الستة عن أصحابهم، ولم يقع حديثه بعلو إلا في كتاب البخاري وأبي داود، وبينهما وبينه في كثير من الأحاديث رجل واحد".([cxxx])
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
نزل البخاري درجتين لرواية الحديث عن شعبة، ودرجة لروايته عن معاذ بن معاذ، وذلك لأن شعبة تفرد برواية هذا الحديث، وتفرد معاذ بروايته عنه، وتفرد عبيدالله بن معاذ بروايته عن أبيه. وبالرغم من أن تلاميذ شعبة في الصحيح تسعة وأربعون تلميذاً، وتلاميذه في الكتب التسعة مائة وتسعة وعشرون تلميذاً؛ إلا أن أحداً منهم لم يرو الحديث عن شعبة سوى معاذ.
وتلاميذ معاذ في الصحيح خمسة، روى البخاري عن أربعة منهم مباشرة؛ وهم عمرو بن علي الفلاس، ومحمد بن المثنى العنزي، وخليفة بن خياط، ومحمد بن بشار. إلا أن الخامس منهم؛ عبيدالله بن معاذ، هو الذي تفرد برواية الحديث، مما اضطر البخاري إلى النزول درجة لأخذ حديثه بواسطة حماد بن حميد.(1/34)
ولقد بدا للباحث السؤال الآتي: لمَ أخذ البخاري حديث معاذ بواسطة الشيوخ الأربعة المذكورين، مع إمكان تحصيله بواسطة ابنه عبيدالله، وربما يكون أولى من الآخرين؟ وربما يكمن الجواب فيما ورد عن ابن معين من ترجيحه لأخيه مثنى ابن معاذ عليه، وقوله:"وهو خير من أخيه عبيدالله بن معاذ مائة مرة"([cxxxi]). فلعل البخاري لم يعجبه عبيدالله، فلم يعتن بحديثه، وأخذ أحاديث أبيه بواسطة الشيوخ الآخرين.
وعبيدالله ليس شيخاً قديماً بحيث يتعذر على البخاري السماع منه، والاعتذار له بذلك. فهو لا يأتي في الطبقة الأولى أو الثانية من شيوخه، بل في الطبقة الثالثة (الوسطى) من شيوخه. وذلك لأن عبيدالله من الطبقة العاشرة في التقريب (توفي سنة 237هـ)، ([cxxxii]) وجميع من ذكرهم ابن حجر في الطبقة الثالثة من شيوخ البخاري([cxxxiii]) هم في الطبقة العاشرة عند ابن حجر في التقريب. كما ثبت أن البخاري سمع الحديث من حميد؛ في حياة عبيدالله.
وقد نظرت في أحاديث عبيدالله في الصحيح؛ فوجدتها قليلة جداً؛ ذكر ابن حجر أنها سبعة([cxxxiv])، وبحثت من خلال الحاسوب فوجدت أن المتصل منها ثلاثة فقط - هذا أحدها -، والباقي معلق. والحديث الثاني من الأحاديث الثلاثة المتصلة برقم 4648 وهو بواسطة شيخه أحمد بن النضر عن عبيدالله، والثالث برقم 4649 وهو بواسطة شيخه محمد بن النضر عن عبيدالله.
ويبدو أن الإمام مسلم كان على خلاف البخاري، فقد سمع منه مباشرة، وأكثر من الرواية عنه؛ فقد ذكر ابن حجر أنه روى له في صحيحه مائة وسبعة وستين حديثاً.([cxxxv]) لذا جاء إسناده أعلى من إسناد البخاري هنا.(1/35)
ويبدو أن البخاري اضطر إلى روايته نازلاً لنُدرة الحديث في هذا الباب، ومطابقته للترجمة، حيث ترجم له بعنوان: (من رأى ترك النكير من النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة، لا من غير الرسول) والشاهد من الحديث احتجاج جابر بالحلف على أن ابن الصياد هو الدجال، بما كان من حلف عمر بن الخطاب بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن ينكر عليه، فحلف جابرٌ اعتماداً على سكوت النبي فكأنه مقر له. ولم يخرج البخاري في هذا الباب سوى هذا الحديث.
الحديث الحادي عشر
قال الإمام البخاري([cxxxvi]): حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ؛ يَعْنِي الْخِنْصَرَ، والإِبْهَامَ).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ، نَحْوَهُ.
أطرافه: رواه البخاري في هذا الموضع فقط من هذين الطريقين.
المقارنة بين الإسنادين
بالنظر في الإسناد الأول للبخاري يتبين أن الواسطة بينه وبين شعبة شيخه فقط. بينما نزل البخاري في إسناده الثاني درجة؛ لوجود راويين بينهما.
وشيخ البخاري في الإسناد النازل "محمد بن بشار" متأخر في الوفاة (سنة 252هـ)، بينما شيخه في الإسناد العالى "آدم بن أبي إياس" قديم؛ حيث توفي (سنة 221هـ) ([cxxxvii])، وعدَّه ابن حجر في رأس الطبقة الثانية من شيوخ البخاري.([cxxxviii]) وربما يأتي شيخه الآخر في الطبقة الرابعة بالنظر إلى وفاته مقارنة بوفيات شيوخ هذه الطبقة. لذا فإن سماع البخاري من آدم عالٍ مقارنة بسماعه من ابن بشار.
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل(1/36)
روى البخاري الإسناد النازل متابعة للإسناد العالي، وذلك من أجل فائدة تصريح ابن عباس بالسماع؛ حيث قال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - )، بينما ورد في الإسناد العالى بلفظ: (قال). قال ابن حجر: "نزل المصنف في هذا السند درجة من أجل وقوع التصريح فيه بالسماع".
وقد روى الحديث سبعة آخرون عن شعبة، تتبعت لفظ حديثهم في الإسناد في كتب السنة فلم أجد تصريحاً بالسماع إلا في رواية ابن أبي عدي - النازلة - عند البخاري، لذا فهي عزيزة من بين سائر الروايات.
وربما تصرفَ الرواةُ في اللفظ من صيغة السماع إلى صيغة القول، لامتناع التدليس في حق الصحابة رضوان الله عليهم. إلا أن الإمام البخاري تحرى ذلك، ورواه نازلاً، بالرغم من عدم تأثيره في صحة الحديث وسلامة الإسناد.
ويلاحظ الباحث أن إسناد البخاري - من الوجهين - فيه عنعنة قتادة، وهو مدلس من الثالثة، فكان من الأولى والأجدر إيراده مصرحاً بالسماع. وبحثت لأرى هل فات البخاري رواية مُصرَّحٌ فيها بسماع قتادة، واستقصيت عشرات الروايات من طريقه في مختلف المصنفات؛ فلم أجده صرح بالسماع في أي منها. إلا أن ابن حجر احتج للبخاري في موضع آخر بأن رواية شعبة عن قتادة مأمون فيها تدليسه؛ حيث قال: "ورواية شعبة في قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة فإنه لا يسمع منه إلا ما سمعه".([cxxxix])
الحديث الثاني عشر(1/37)
قال الإمام البخاري([cxl]): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمٍ أَخْبَرَهُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (شَهِدْتُ الصَّلاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ؛ فَكُلُّهُمْ يُصَلِّيهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدُ. فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلالٍ؛ فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أَولادَهُنَّ ولا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } ([cxli]) حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. - لا يَدْرِي الْحَسَنُ([cxlii]) مَنْ هِيَ - قَال:َ فَتَصَدَّقْنَ. وَبَسَطَ بِلالٌ ثَوْبَهُ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ([cxliii]) وَالْخَوَاتِيمَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ).
أطرافه: رواه البخاري عن أبي عاصم: الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج؛ بإسناده، ولفظه مختصر؛ اقتصر على قوله: (شهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى قبل الخطبة).([cxliv]) ورواه أيضاً عن إسحاق بن إبراهيم بن نصر، عن عبدالرزاق، عن ابن جريج، بإسناده، ونحو لفظه.([cxlv])
المقارنة بين الأسانيد(1/38)
1 ـ نزل البخاري في إسناده عن محمد بن عبدالرحيم درجتين بينه وبينه ابن جريج، لأنه روى الحديث نفسه عنه بواسطة شيخه أبي عاصم فقط، وفي الرواية الأخرى - عن شيخه إسحاق بن إبراهيم - بواسطة إثنين.
وقد تتبعت أسانيد البخاري إلى ابن جريج؛ فوجدت أن أكثر مروياته عنه بواسطة راويين. ووقفت على أسانيد عالية له بواسطة راوٍ واحدٍ؛ وذلك من رواية ثلاثة من شيوخه فقط؛ هم شيخه أبوعاصم؛ كما في الأحاديث (1434، 1553، 1612، 1685، 1730، 1777، 1845، 1886، 1910)، ومن رواية شيخه المكي بن إبراهيم؛ كما في الأحاديث (1557، 1647، 2160)، ومن رواية شيخه عثمان بن الهيثم؛ وهي قليلة جداً (حديث 1770، 5930). ولم أجد أنه نزل في إسناده عن ابن جريج إلى ثلاثة رواة إلا في هذا الإسناد، وفي حديث رقم (4985). ويجدر التنبيه إلى أن البخاري روى لأبي عاصم والمكي بن إبراهيم عن ابن جريج بزيادة راوٍ ثانٍ بينهما؛ أحاديث قليلة منها (4665، 4985، 2151).
وشيخ البخاري؛ أبوعاصم متوفى (سنة 212هـ)، وشيخه الآخر مكي بن إبراهيم متوفى (سنة 219هـ)؛ فهما من قدامي شيوخ البخاري، وعدّهما ابن حجر في الطبقة الأولى من شيوخه؛ حدثوا عن التابعين. لذا فإن سماع البخاري منهما قديم، حقق به علو الإسناد غالباً.
بينما شيخه - في الإسناد النازل - محمد بن عبدالرحيم؛ متأخر الوفاة (سنة 255هـ)؛ وهو في الطبقة الرابعة من شيوخه؛ رفقاؤه في الطلب، ومن سمع قبله قليلاً.([cxlvi])
2 ـ نزل البخاري في إسناده هذا عن ابن وهب درجة، فإنه روى عنه هنا بواسطة راويين، بينما يروي له البخاري بواسطة راوٍ واحدٍ. وقد تتبعت حديث ابن وهب عن ابن جريج وغيره، فوجدت أن أكثر حديث البخاري عنه بواسطة راو واحد. وأحاديث ابن وهب عن ابن جريج في صحيح البخاري؛ جميعها بواسطة شيخ البخاري فقط، إلا هذا الحديث، زاد فيه راوياً ثانياً.(1/39)
ونبه ابن حجر إلى نزول البخاري في الإسناد درجتين بالنسبة لابن جريج، ودرجة بالنسبة لابن وهب.([cxlvii])
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
عند النظر في أسانيد البخاري - العالي منها والنازل - لا يجد الباحث فرقاً مهماً بينها؛ خصوصاً وأن ابن جريج ـ وهو مدلس من الطبقة الثالثة([cxlviii]) ـ صرح بالتحديث فيها جميعاً.
إلا أن الفرق بينها في لفظ الحديث، فقد ورد اللفظ في الإسناد العالي من رواية أبي عاصم مختصراً، اقتصر على قوله: (شهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الخطبة)، بينما ورد اللفظ في الإسنادين الآخرين تاماً؛ وفيه زيادة كبيرة. لذا نزل البخاري في الإسناد طلباً لتمام اللفظ وكماله؛ سيما وأنه احتج به في كتاب التفسير، باب قوله تعالى: { إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } ، وورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظ النساء بالآية المذكورة وقرأها بتمامها عليهن؛ ثم سألهن: أنتنَّ على ذلك؟ وذلك إشارة إلى بيعته للنساء.
وأشار ابن حجر إلى الحكمة من نزول الإسناد بقوله: "وكأن السبب فيه تصريح ابن جريج في هذه الطريق النازلة بالإخبار. وقد أخرج البخاري طرفاً من هذا الحديث في كتاب العيدين عن أبي عاصم عن ابن جريج بالعلو، وهو من أوله إلى قوله " قبل الخطبة " وصرح فيه ابن جريج بالخبر، فلعله لم يكن بطوله عند ابن أبي عاصم ولا عند من لقيه من أصحاب ابن وهب".([cxlix])(1/40)
قلت: ترَدَدَ كلام ابن حجر في عزو السبب إلى تصريح ابن جريج بالسماع، أو زيادة اللفظ. وعزوه إلى التصريح بالسماع ليس بسبب مقنع ما دام قد صرح بالسماع في الإسناد العالي؛ إلا أن يكون ذلك من قبيل المتابعة على التصريح بالسماع. في حين زيادة اللفظ - في الإسناد النازل - سبب ظاهر. وصنيع البخاري يدل عليه، من جهة التبويب كما سبق الإشارة إليه، ومن جهة أخرى أيضاً حيث علَّق البخاري عقب الإسناد العالي بقوله: وزاد ابن وهب عن ابن جريج (فأتى النساء فأمرهن بالصدقة، فجعلن يُلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال) ، فذلك دالٌ على أن البخاري اعتنى بالرواية النازلة نظراً لما اشتملت عليه من زيادة في اللفظ.
الحديث الثالث عشر
قال الإمام البخاري([cl]): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو يَحْيَى أَخْبَرَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ سَاقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ وَكَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ([cli])، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُنَادِيًا يُنَادِي: ألا إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. قَالَ فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَأَهْرِقْهَا؟ فَخَرَجْتُ فَهَرَقْتُهَا، فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ ([clii])(1/41)
أطرافه: رواه البخاري أيضاً عن أبي النعمان: محمد بن الفضل السدوسي عن حماد بن زيد، به، واقتصر لفظه على (أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي أُهْرِيقَتْ الْفَضِيخُ)، ثم رواه بلفظ تام؛ فقال: (وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ الْبِيكَنْدِيُّ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ قَالَ) فذكر الحديث بهذا الإسناد ونحو لفظه مطولاً([cliii]). ورواه البخاري أيضاً من طرق أخرى كثيرة.([cliv])
المقارنة بين الأسانيد
1 ـ نزل البخاري في هذا الإسناد درجة بينه وبين حماد بن زيد؛ فإنه روى عنه بواسطة شيخه مسدد كما في الحديث (932 )، وبواسطة شيخه قتيبة كما في الحديث (1048). بينما إسناده هنا بواسطة راويين: محمد بن عبدالرحيم، وعفان. وإسناده الثاني بواسطة راويين: محمد بن سلام البيكندي ، ومحمد بن الفضل السدوسي. ولكن رواه عالياً عن محمد بن الفضل إلا أن لفظه اقتصر على (أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي أُهْرِيقَتْ الْفَضِيخُ).
وينوّه الباحث إلى أن عفان بن مسلم شيخ قديم للبخاري روى عنه بدون واسطة كما في الحديث رقم (1368) ، ونزل البخاري في الرواية عنه هنا بواسطة شيخ آخر هو محمد بن عبدالرحيم. كما نزل في الإسناد الثاني؛ فروى الحديث تاماً عن محمد بن الفضل بواسطة شيخه البيكندي، مع أن محمد بن الفضل شيخ للبخاري روى عنه مباشرة في أحاديث كثيرة منها (58، 60، 244، 270).
2 - روى مسلم([clv]) هذا الحديث بإسناد أعلى من إسناد البخاري؛ فقد رواه مسلم عن سليمان بن داود العتكي، عن حماد بن زيد. الواسطة فيه رجل واحد بينما عند البخاري اثنان. ويلحظ الباحث أن شيخ مسلم: سليمان العتكي، هو شيخ للبخاري روى عنه مباشرة؛ كما في الحديث (52، 84).
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل:
1 ـ نزل البخاري في روايته عن شيخه عفان فرواه عنه بواسطة، لفوات سماع الحديث عليه من عفان مباشرة؛ خاصة أنه شيخ قديم للبخاري.(1/42)
2ـ نزل البخاري في الرواية عن شيخه محمد بن الفضل فرواه عنه بواسطة، لأن سماعه للحديث منه كان قاصراً على بعض لفظه، فنزل درجة حرصاً على الرواية التامة من الطريق النازلة. وقد رواه الدارمي([clvi]) عن محمد بن الفضل، بإسناده وتمام لفظه.
3ـ أما بخصوص نزول البخاري على مسلم، فقد ذكر ابن حجر ذلك في عوالي مسلم([clvii])، وعلّق على رواية البخاري بقوله: "فكأنه سمعه من مسلم" ولم يذكر ابن حجر الحكمة من ذلك.
وقد تسائل الباحث عن سبب نزول البخاري عن مسلم في هذا الإسناد مع أن شيخ مسلم: العتكي الراوي عن حماد بن زيد، هو شيخ للبخاري. فلٍمّ لم يرو الحديث عنه ليحصل بذلك على علو الإسناد؟ بل إن أبا داود([clviii]) روى الحديث عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد، وسليمان بن حرب شيخ للبخاري أيضاً.
وربما يكون من السهل الجواب عليه بأن البخاري لم يسمع هذا الحديث من العتكي أو من سليمان بن حرب، فرواه من طريق عفان، ومحمد بن الفضل. إلا أن الباحث يرى أن صنيع البخاري أعمق من ذلك.
فقد نظرت في هذه الطرق فوجدت أن أجودها طريقي: عفان بن مسلم، ومحمد بن الفضل. لذا روى البخاري هذا الحديث من هذين الطريقين دون غيرهما مع إمكان روايته من طرق أخرى أعلى منها؛ مثل العتكي أو سليمان بن حرب، فكان نزوله في الإسناد لجودته.
ولتوضيح جودة الإسناد من هذين الطريقين أنقل بعض أقوال النقاد في هؤلاء الرواة عن حماد بن زيد.(1/43)
أما عفان بن مسلم فهو أوثق هؤلاء الرواة ؛ وأثنى عليه النقاد كثيراً بما لا يتسع المجال لبسطه، فقد عدّه ابن معين في درجة مالك وشعبة والثوري. وقدمه على عبدالرحمن بن مهدي. وكان يعرض حديثه الذي سمعه من يحيى بن سعيد القطان على عفان . بل كان يحيى بن سعيد نفسه إذا تابعه عفان على شئ ثبت عليه وإن كان خطأ، وإذا خالفه عفان في حديث رجع عنه وسُأل الإمام أحمد: (من تابع عفان على كذا وكذا؟) فقال: (وعفان يحتاج إلى متابعة أحد!!)، ووصفه يحيى بن سعيد بأنه أضبط القوم للحديث، وكان إذا شك في حرف يضرب على خمسة أسطر.([clix])
أما محمد بن الفضل ولقبه عارم؛ فهو أيضاً قريب من عفان بن مسلم لولا اختلاطه، فقد قال أبوحاتم: "إذا حدثك فاحتم عليه، وعارمٌ لا يتأخر عن عفان… وهو أثبت أصحاب حماد بن زيد بعد ابن مهدي".([clx])
وأما سليمان بن حرب؛ فهو مع جلالة قدره ، وكثرة ملازمته لحماد بن زيد، إلا أنه كان يقدم محمد بن الفضل على نفسه، وإذا خالفه في شئ رجع إليه.([clxi]) وسليمان بن داود العتكي؛ مع توثيق العلماء له إلا أنه دون هؤلاء.([clxii])
ويخلص الباحث من هذه المناقشة إلى أن الإمام البخاري نزل في إسناده عن مسلم وأبي داود لجودة الإسناد من الطريق النازل عن عفان، ومحمد بن الفضل على باقي الطرق. كما إن لفظ الحديث من طريق سليمان بن حرب مختصر. والله أعلم.
الحديث الرابع عشر
قال الإمام البخاري([clxiii]): حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ هلالٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً).
أطرافه: لم يروه البخاري من حديث بريدة إلا في هذا الموضع.(1/44)
وروى البخاري الحديث عن زيد بن أرقم([clxiv]) أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا تسع عشرة غزوة. ورواه أيضاً عن البراء بن عازب،([clxv]) قال: (غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة).
بيان نزول البخاري في الإسناد
نزل البخاري في حديثه هذا درجة بينه وبين معتمر بن سليمان؛ فقد روى عنه بواسطة رجلين. ونظرت في مرويته عنه في الصحيح؛ فوجدت أن أكثرها بواسطة شيخه فقط، كما في الأحاديث (129، 311، 507، 602، 843، 1021، 1078).
وقد علا مسلم على البخاري في هذا الحديث؛ فرواه عن الإمام أحمد مباشرة. قال ابن حجر: "وهو أحد الأحاديث الأربعة التي أخرجها مسلم عن شيوخ أخرج البخاري تلك الأحاديث بعينها عن أولئك الشيوخ بواسطة…"([clxvi]). وقال في عوالي مسلم([clxvii]): "أخرجه البخاري في المغازي من صحيحه؛ عن أحمد بن الحسن الترمذي، صاحب الإمام أحمد بن حنبل، عن أحمد. فوقع بدلاً، فكأنه سمعه من مسلم".
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
سبب نزول البخاري في إسناده فوات سماع الحديث عليه من الإمام أحمد بن حنبل، فنزل درجة ليحصل له سماع الحديث بواسطة شيخ آخر. والبخاري سمع من أحمد بن حنبل. قال الإمام محمد بن إسحاق بن مندة: "سمع منه وروى عنه في كتابه عن أحمد بن الحسن الترمذي عنه حديثاً واحداً"([clxviii]).(1/45)
ونظرت في حديث البخاري عنه في الصحيح؛ فوجدت أنه روى عنه إضافة لهذا الحديث، حديثا ثانياً قال فيه: "وزادني أحمد، حدثنا… "([clxix])، وحديثاً ثالثاً قال فيه: "وقال لنا أحمد بن حنبل حدثنا…"([clxx])، ورجح ابن حجر أنهما موقوفان، وأضاف: "وأخرج عنه في آخر المغازي حديثا بواسطة، وكأنه لم يكثر عنه لأنه في رحلته القديمة لقى كثيراً من مشايخ أحمد فاستغنى بهم , وفي رحلته الأخيرة كان أحمد قد قطع التحديث فكان لا يحدث إلا نادراً، فمن ثم أكثر البخاري عن علي بن المديني دون أحمد". ([clxxi])
قلت: اعتنى البخاري بإيراد الحديث في الصحيح - بالرغم من نزول الإسناد - لكي يضيف قولاً جديداً في عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم -. فقد ترجم البخاري في كتاب المغازي، بسؤال: كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم روى حديث زيد بن أرقم؛ وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا تسع عشرة غزوة. ثم روى حديث البراء؛ وفيه أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة. ثم روى حديث بريدة؛ وفيه أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة غزوة.
وإذا استثنينا حديث زيد فإن الحديثين الآخرين لا يدلان على عدد غزواته - صلى الله عليه وسلم - ، بل يدلان فقط على عدد الغزوات التي غزاها كل من بريدة والبراء مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الحديث الخامس عشر
قال الإمام البخاري رحمه الله([clxxii]): حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ عَطَاءً حَدَّثَهُمْ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ فَصَفَّنَا وَرَاءه فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ).(1/46)
أطرافه: رواه البخاري أيضاً([clxxiii]) عن مسدد، عن أبي عوانة اليشكري، تابع قتادة، بإسناده ولفظه؛ إلا أنه لم يُذكر فيه اسم النجاشي. ورواه البخاري ([clxxiv])من طرق أخرى تُوبع فيها قتادة، وعطاء. واقتصرت على هذا الطريق لأهميته في بيان المقصود.
المقارنة بين الأسانيد
نزل البخاري في إسناده عن قتادة درجة، لأن عدد الرواة بينهما ثلاثة. أما في إسناده الثاني راويان: شيخه مسدد ، وشيخ شيخه سعيد بن أبي عروبة. والبخاري روى عدداً من الأحاديث في صحيحه بواسطة رجلين؛ كما في الحديث (15، 21، 44، 81).
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
نزل البخاري في إسناده عن قتادة درجة، لأن الإسناد العالي من رواية أبي عوانة عن قتادة جاء بالعنعنة. وقتادة مدلس من الثالثة([clxxv]). بينما ورد في الإسناد النازل تصريحه - وباقي الرواة - بالسماع؛ حيث قال: (أن عطاء حدثهم). كما إن المتن في الإسناد النازل اشتمل على فائدة أخرى؛ وهي ذكر اسم النجاشي.
الحديث السادس عشر(1/47)
قال الإمام البخاري رحمه الله([clxxvi]): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ،(ح) و حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَال: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي هِلالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَه أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَال: فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ).
أطرافه: رواه البخاري في موضع آخر([clxxvii]) بإسناده الأول عن محمد بن سنان عن فليح، به. ولفظه مختصر؛ حيث قال أبوهريرة: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ضُيِّعَتْ الأمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ).
المقارنة بين الأسانيد
نزل البخاري في إسناده الثاني درجة بينه وبين فُليح؛ فإن الواسطة بينهما راويان: شيخه إبراهيم بن المنذر، ومحمد بن فليح. بينما الواسطة في الإسناد العالي - الأول - شيخه محمد بن سنان فقط.(1/48)
وقد احتجَّ البخاري بالرواية العالية في كتاب الرقاق؛ ثم كرَّرها في هذا الموضع مقرونة بالرواية النازلة . قال ابن حجر: "ولأجل نزولها قرنها بالرواية الأخرى"([clxxviii]) ولم يذكر ابن حجر سبب نزول البخاري في الإسناد.
وأورد السخاوي هذا الحديث مثالاً لرأي جمهور المتقدمين؛ القائل بتقديم الإسناد العالي على النازل لشرفه. وذكر بأن رأي المتأخرين تقديم الإسناد النازل؛ ليكون لإيراد الأعلى بعده فرحة.([clxxix])
الحكمة من رواية البخاري بالإسناد النازل
نزل البخاري في إسناده لفائدتين
الأولى: اشتملت الرواية النازلة على سبب ورود الحديث؛ وهو سؤال الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة.
الثانية: موافقة الرواية النازلة لترجمة الباب. فقد ترجم في كتاب العلم بقوله: (من سُئل وهو مُشتغلٌ في حديثه، فأتمَّ الحديث ثم أجاب السائل). ومتن الرواية النازلة مطابق للترجمة؛ حيث ورد فيه حال السائل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجوابه له موافقاً للترجمة.
الخاتمة
لقد سعى الباحث من خلال هذه الدراسة إلى الوقوف على مسألة نزول البخاري في الأسانيد، وأسبابها، ومدى نزوله في الرواية عن بعض الرواة، وشيوخه الذين روى عنهم نازلاً. وتوصل الباحث من خلال هذه الدراسة إلى جملة من النتائج؛ وهي على قسمين:
أولاً: نتائج عامة
1) روايات البخاري بالإسناد النازل جاءت في أكثرها عنده من طرق عالية عن نفس الراوي الذي نزل في سماع حديثه.
2) نزول البخاري في الرواية يضيف مزية وفائدة لصحيحه لم تشتمل عليها الروايات العالية، كالسماع، أو زيادة في المتن ..
3) تراوح نزول البخاري في إسناده عن بعض الرواة من درجة إلى ثلاث درجات؛ كما هو مبين في الجدول التوضيحي.
4) قد يكون الإسناد النازل عند البخاري باعتبار الدرجات مساوياً أو قريباً من الإسناد العالي بحساب وفيات الشيوخ وقِدَم السماع منهم، كما في الحديث الرابع، والسادس، والتاسع.(1/49)
5) الإمام البخاري ينزل في إسناده أحياناً بالرواية عن الطبقة الرابعة من شيوخه؛ وهم رفقاؤه في الطلب، ومن سمع قبله قليلاً؛ مثل حماد بن حميد ، ومحمد بن بشار، ومحمد بن عبدالرحيم المعروف بصاعقة. وانظر ذلك في الحديث العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر. وهؤلاء يخرج لهم البخاري ما فاته من مشايخه أو ما لم يجده عند غيرهم كما سبق بيانه عن ابن حجر. والفوائد التي وقف عليها الباحث من الناحية التطبيقية بالنسبة لهؤلاء هي على النحو التالي: فوات سماع الحديث على البخاري من شيوخه سوى شيخه حماد بن حميد، والتصريح بالسماع في رواية شيخه ابن بشار، وزيادة في متن رواية شيخه محمد بن عبدالرحيم.
6) الإمام البخاري ينزل في إسناده أيضاً بالرواية عن الطبقة الخامسة من شيوخه؛ وهم في عداد طلبته في السن والإسناد، سمع منهم للفائدة كما سبق بيانه من قول ابن حجر. ومثال ذلك عبدالله بن حماد الآملي ؛ تلميذ البخاري وورَّاقه، إلا أنه روى عنه في الصحيح كما في الحديث الأول والثاني ــ من هذه الدراسة ــ والفائدة من إسناده النازل عنه في الحديث الأول متابعة شيخ آخر للبخاري مُتكلمٌ فيه، والفائدة في إسناده الثانية التصريح بالسماع.
7) قد ينزل البخاري ـ بسبب فوات الحديث عليه عن شيخ قديم له ـ فيرويه عنه بواسطة شيخ آخر أصغر منه؛ كما في الحديث الأول؛ رواه عن شيخه الآملي عن ابن معين، مع أن ابن معين شيخ للبخاري. وكما في الحديث الرابع؛ حيث سمعه من شيخه أحمد ابن أبي رجاء عن معاوية بن عمرو، ومعاوية شيخ للبخاري. وكما في الحديث الخامس؛ حيث رواه عن شيخه محمد بن المثني عن أبي عاصم، وأبو عاصم النبيل شيخ قديم للبخاري. وكما في الحديث الرابع عشر؛ رواه عن شيخه أحمد بن الحسن عن أحمد بن حنبل. والبخاري سمع من الإمام أحمد، إلا أنه فاته سماع الكثير منه لامتناع الإمام أحمد من(1/50)
التحديث في الرحلة الأخيرة للبخاري، واكتفى بمن لقي من شيوخ أحمد؛ مثل علي بن المديني.
8) الشيوخ الذين روى لهم البخاري نازلاً ــ من خلال الدراسة التطبيقية - هم: عبدالله بن حماد الآملي، وأحمد ابن أبي رجاء، ومحمد بن عبدالرحيم، وعبدالله بن محمد الجعفي، ومحمد بن المثنى، وعمر بن محمد بن حسن، وحماد بن حميد، وأحمد بن الحسن الترميذي. وفي المقابل فإن البخاري روى هذه الأحاديث عالياً عن شيوخ قدماء مثل: يحيى ابن معين، وأبي عاصم النبيل، وآدم ابن أبي إياس، ومكي بن إبراهيم.
ثانياً: نتائج خاصة بأسباب نزول البخاري في الإسناد
1) اعتناؤه بالتصريح بالسماع في الإسناد، سواء كان الراوي مدلساً كما في الحديث الرابع، والخامس عشر. أو كان غير مدلس كما في الحديث الثاني، والسابع ، والتاسع. أو كان التصريح بسماع الصحابي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بالرغم من بُعد احتمال أن يكون الصحابي سمعه من تابعي، وعدم الضرر من احتمال رواية الصحابي عن الصحابي، وإنما ذلك كله حرصاً على سلامة حديثه ومبالغة في صحته.
2) اعتناؤه في متابعة شيخ قديم له تُكلم فيه، فيأتي بحديثه نازلاً عن شيخ آخر لمتابعته؛ كما في الحديث الأول حيث رواه عن شيخه عبدالله الآملي نازلاً وذلك لمتابعة شيخه في الإسناد العالي: أحمد ابن أبي الطيب بسبب انتقاده. وكما في الحديث الثالث؛ حيث رواه نازلاً عن شيخه عبدان، وذلك لمتابعة شيخه في الإسناد العالي محمد بن يوسف.
3) اعتناؤه في متابعة راوٍ بعينه في الإسناد، لانتقاده في الرواية عن الشيخ؛ فيأتي بالمتابعة له ولو بإسناد نازل، كما في الحديث الثامن؛ حيث انتُقد أبو اليمان في سماعه من شعيب، فتابعه بإسناد نازل من طرق عن شعيب.
4) فوات سماع الحديث على البخاري من شيخ قديم له، فيرويه نازلاً بواسطة شيخ آخر متأخر من أقرانه أو في عداد طلبته، كما في الأحاديث: الرابع، والخامس، والسابع، والثالث عشر، والرابع عشر.(1/51)
5) إفصاح الراوي بالواقع حال تحمله الحديث، وتسميته المقصود بالتحديث في الإسناد النازل دون الإسناد العالي، كما في الحديث الثامن.
6) تميُّز الرواية النازلة بزيادة في متن الحديث دون لفظ الرواية العالية، فيأتي بالرواية النازلة معها لأجل هذه الفائدة، كما في الحديث السادس، والثاني عشر، والخامس عشر.
7) إضافة الحديث النازل قولاً جديداً يساعد في وضوح الموضوع، كما في الحديث الرابع عشر؛ الخاص بعدد الغزوات.
8) اعتناؤه بالرواية النازلة لاشتمالها على سبب ورود الحديث، مع عدم وجوده في الرواية العالية.
9) اعتناؤه بمغايرة الطرق عند تغاير الأحكام، كما في الحديث الثالث.
10) مناسبة الحديث النازل للترجمة مع تَعَذُّر وجوده عالياً، كما في الحديث العاشر، والسادس عشر.
وفي الختام؛ أحمد الله تبارك وتعالى على توفيقه وكرمه وفضله، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعله صائباً وسديداً، وأن يجنبي الزلل والخطأ فيما اجتهدت فيه، وأن يجعله عملاً صالحاً مقبولاً ينفعني به في الدنيا والآخرة.
ملحق
كشف بأسماء الرواة الذين نزل البخاري في سماع حديثهم، ودرجات النزول
ملاحظات
رقم الحديث
درجات النزول
عدد رواة الإسناد النازل
عدد رواة الإسناد العالي
اسم الراوي
الرقم
15
1
3
2
قتادة
1
8
2
4
2
الزهري
2
2
1
4
3
بُسْر بن عبيد الله
3
4
1
3
2
حميد الطويل
4
6
1
3
1
هشام بن عروة
5
3
1
3
2
الأعمش
6
12
2
3
1
ابن جريج
7
في ح11 نزل درجة
10،11
2
3
1
شعبة بن الحجاج
8
16
1
2
1
فُليح بن سليمان
9
9
1
2
1
عبد الرحمن ابن أبي الموالي
10
7
3
3
1
مالك بن أنس بن مالك
11
13
1
2
1
حماد بن زيد
12
14
1
2
1
معتمر بن سليمان
13
1
1
2
1
إسماعيل بن مجالد
14
6
1
2
1
حفص بن غياث
15
10
1
2
1
معاذ بن معاذ العنبري
16
12
1
2
1
عبد الله بن وهب القرشي
17
شيخ البخاري
5
1
1
عنه بدون واسطة
أبو عاصم النبيل
18
شيخ البخاري
4،7
1
1
عنه بدون واسطة(1/52)
معاوية بن عمرو
19
شيخ البخاري
13
1
1
عنه بدون واسطة
عفان بن مسلم
20
شيخ البخاري
13
1
1
عنه بدون واسطة
محمد بن الفضل السدوسي
21
شيخ البخاري
1
1
1
عنه بدون واسطة
يحيى بن معين
22
شيخ البخاري
14
1
1
عنه بدون واسطة
أحمد بن حنبل
22
توضيح: يشتمل هذا الجدول على أسماء الرواة الذين نزل البخاري في الرواية عنهم - من خلال الدراسة التطبيقية - مرتبين حسب تقدم الوفاة، ويشتمل على عدد الرواة بينه وبينهم في مروياته عنهم بالإسناد النازل ، وبالإسناد العالي أيضاً، وعدد درجات النزول، مع الإشارة إلى شيوخه منهم، وأرقام الأحاديث.(1/53)