الحكم القاضي بالرد على قدح المروي بجهالة الراوي
تأليف :
أبي لؤي البليدي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن جاء بعده حاملا هم هذا الدين، ومدافعا عن المستضعفين أمام المتكبرين والمعاندين والعابثين،
أما بعد :
فلقد كتبنا هذه المقالة، ـ راجين من الله أن تحرك ما سكن، أو تظهر ما بطن، أو تقدر من غبن، ـ حيث قسمناها إلى قسمين، قسم يعنى بالحجة النظرية، وقسم يعنى بالحجة العملية.
وفي القسم الأول بينا لماذا نقبل حيث الراوي غير المنصوص على حكمه، ثم بينا معنى عدالة الراوي، فمفهوم الجهالة لا يتحدد إلا بعد تحديد مفهوم العدالة،
وبينا فيه أن الأصح أن يسمى الراوي المجهول بالراوي الذي لم ينص على حكمه،
مقابلة للراوي الذي نص على حكمه، فنحن في واقع الأمر أسقطنا عدم معرفتنا بالراوي، وهو أمر موجود في الذهن، على الراوي نفسه وهو أمر موجود بذات وعين، وتناسينا أن نفي العلم لا يلزم منه نفي المعلوم، والمنطق العلمي يلزمنا ـ ـ في هذه الحالة ـ بالبقاء على الأصل حتى يجيء الناقل .
فنحن نعلم أن الصحابة لا يكذبون، ونجزم بذالك، ولكن هل نجزم بأنهم لا يخطئون،
فهل نجعل من عدم تأكدنا من خطئهم سببا لرد أخبارهم، أم نقول :
الأصل عدم الخطأ حتى يأتي الدليل . ثم أليسواـ رضي الله عنهم ـ على مراتب مختلفة من العلم والإيمان، ففيهم أبوبكر أعلم الصحابة، وفيهم الأعرابي الذي لا يحسن الصلاة، وفيهم المشهور والمغمور، ورغم ذالك تقبل رواياتهم جميعا، بلا فرق.
فلما لانفعل ذلك مع من جاء بعدهم، وشرفهم ثابت بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم، ألا تكفي شهادة النبي لهم ونصه. ثم ألم يوصنا عمر ـ رضي الله عنه ـ بأصحابه وبالذي يلونه، وحتى لما قال بعد ذلك " ثم يفشو الكذب " قيده بكذب الناس بعضهم على بعض.
هذا وألغينا ما ذكره المتقدمون في أقسام الجهالة، وذكرنا ما يجب أن يذكر فيها،(1/1)
وبينا أنواع المجهولين، ثم وقفنا عند بن حبان وكتابيه الثقات والمجروحين. وإقترحنا أن يسمى الراوي غير المنصوص على حكمه بعد النظر في حديثه، والتبين من عدم وجود المعارض، بالراوي المقبول، وحديثه حديثا لا بأس به، وبينا أيضا المعيار الحقيقي في قبول ورد حديث الراوي غير المنصوص على حكمه.
وأما في القسم الثاني فقد إخترنا تخريج حديث [ أسلم سالمها الله ]، ففيه أمثلة توضح و تدعم ما ذهبنا إليه.
وهذه المقالة، هي مقالة إستقرائية ونقدية وتحليلية تأويلية .
إستقرائية لأنها كانت نتيجة لدراسة عدة أحاديث قمت بتخريجها تخريجا مفصلا، ونقدية لأنها عدلت مفهوم العدالة، فمن مارس علما من العلوم، ولم يميز بين ما هو من ماهية الموضوع المدروس، وما هو من خارجه وقع في الأخطاء؛ خاصة إذا كان الموضوع المدروس، يتعلق بالنواحي العاطفية للدارس، فإن كان المدروس مبغوضا، فإنه قد يعطيه أقل مما يستحق من التقدير، وكذلك إذا كان المدروس محبوبا فقد يعطيه أكثر مما يجب ويلزم.
وهذا الأمر يلاحظ بوضوح في علم الرجال، فكان لابد من التعقيب و البيان، وقد فعل ذلك غير واحد من العلماء على إختلاف أزمنتهم ، ولكننا ضبطنا ذلك بضابط نظري.
و تحليلية تأويلية، لأنها حاولت إخراج عمل بن حبان، مما وصم به من التناقض والتساهل. و غير ذلك مما هو مبثوث في فصول هذه المقالة.(1/2)
كما أننا دعونا لترقية بعض الألفاظ لدرجة الإصطلاح؛ وإن كان في هذه المقالة قسوة، فهي موجهة لمبدأ تقسيم الجهالة إلى جهالة حال وجهالة عين، وجعلهما من قوادح الرواية ، دون إعطاء الواقع المدورس أهمية في هذا التحديد، وهذا مما أدى في نظرنا إلى رد الأحاديث بغير حجة، ولهذا نجد بعض العلماء كابن القيم وغيره، لما نزلوا إلى التطبيق قالوا بتصحيح عدة أحاديث، رغم أن في رواتها مجهولون، بناءا على قرائن رأوها موجبة للقبول، ولكن الأسلم هو القول بالقبول حتى يظهر المعارض، وليس يعني هذا أن الجهالة ليست من قوادح الرواية، وإنما تكون قادحة في حالات مخصوصة كما سيأتي في ذكر أنواعها.
القسم النظري
بدأنا هذا القسم بطرح عدة تساؤلات، حيث أن السؤال يختزل الكثير من.المعاني،
وهو الأسلوب الأمثل في المواقف التي يكون فيها المتلقي معارضا لما تلقيه.
[ لماذا نقبل حديث الراوي الذي لم ينص على حكمه ]
هل إشتهار الراوي شرط ضروري لقبول حديثه ؟.
هل يجب أن يكون الراوي متوسعا في الرواية، ومشتغلا بها حتى تقبل أخباره كالزهري ومالك وأحمد ؟.
هل يجوز إهمال الحديث ورده؛ فقط لأن صاحبه غير مشتغل ولا مكثر للراوية؟.
ما ذنب الراوي إذا لم يشتهر، وما جريرته إن لم بنتشر؟.
الشهرة قوة، وهل عدمها يعدم القوة؟ .
فرب خفي أرفع، ورب ظاهر أوضع، ورب مكثر في زمن إذا قورن مع من أتى بعده عد مقلا؛ فأبو هريرة أروى الصحابة بلغ تعداد أحاديثه أكثر من خمسة آلاف للوعاء الذي بثه، وإذا جعلنا العدد نفسه للوعاء الذي لم يبث، يكون الحاصل نحو عشرة آلاف، وأين هذا العدد من ألف ألف حديث عند أحمد بن حنبل؟.
أليس الرواة للحديث، كان يزداد عددهم قرنا بعد قرن ولا يقل، فإن عجزنا عن معرفة جميع الرواة، في العصور الأولى على قلتهم، فكيف نطمع بمعرفة جميع من أتى بعدهم على كثرتهم ، وإنتشارهم في أراضي الدولة الإسلامية المترامية الأطراف؟.(1/3)
أليس في هذا الإحتياط، تعنت ومعاندة لطبيعة الأمور، بأن الناس ليسوا على رتبة واحدة؟؛ والتسوية بينهم حيث أن موجب التفريق قائم يعد تعسفا وظلما.
هل يجوز أن تعامل المرأة المأمورة بالتستر، معاملة الرجل؟.
ألم تضعف معظم النساء بالجهالة؟.
هل يجوز أن يعامل من كان متصدرا للأمارة والقضاء، معاملة من كان متصدرا ومتفرغا للحديث؟.
فهل ـ على هذا المنطق ـ أبو بكر مجهول، وأبو هريرة مشهور؟.
أليس إحتمال الخطأ بالنسبة للراوي الذي وثق، بنص معين، هو نفسه في حديث الراوي الذي لم يثبت ثوثيقه بنص؟.
أوليس يجوز مادمنا في باب أرأيت، أن يكون الراوي الذي لم ينص على حكمه، أضبط لحديثه، من الراوي الذي نص على حكمه؟. أليست الكثرة مظنة للخطأ والوهم، بخلاف القلة.
فمن تصدر للتحديث يروي ما يجزم به، وما يظنه، وأما من لم يتصدر فإنه ـ كما يقتضيه المقام ـ لا يروي إلا ما هو متأكد منه؛ فهو يرى نفسه مبلغا لا محدثا، فالأول أدى فرضه الواجب، وزاد عليه، وأما الثاني إكتفى بأداء الفرض ولم يزد عليه، وكلاهما محسن وإن كان أحدهما أرفع من الآخر بهذا الإعتبار الثوابي .
فالتوثيق لا ينفي إحتمال الخطأ، ولا يلغيه، فكم من راو وثق ثم ضعف، فالتحقبق أن الضبط متعلق بالراوي، ولا يكتسبه من غيره، وإنما يستمده من نفسه، وعليه فإن إحتمال الخطأ في خبر الراوي المنصوص على حكمه، مساو لخبر الراوي غير المنصوص على حكمه، نظرا لإشتراكهما في الطبيعة البشرية غير المعصومة.
وليس يعني هذا أن التوثيق لا فائدة منه، فعند التعارض يقدم خبر المنصوص على حكمه، على خبر الذي لم ينص على حكمه، وخبر من إستغنى عن النص لشهرته، على خبر من لم يستغن عند من يطلب ضرورة التنصيص .
وأما الكذب فالأصل عدمه على قلته وندرته، ومن إدعاه فهو مطالب بالدليل، والحكم للغالب لا للنادر .(1/4)
فعدم النص يجب أن لا يعطينا الحق بإثباته، فالمجهول ـ كما يقال ـ تجده في قائمة من ثبت فيه النص بتجريحه، وفي التسوية بينهما تجن.
فلماذا نسارع إلى إطلاق لفظ الجهالة، ونبادر بإسقاط العدالة، بينما هناك حل لهذا الإشكال، بالرجوع إلى البراءة، وهو طريق صالح في علم الإستدلال.
أليس الواجب هو قبول الأخبار، والعمل بمقتضاها، حتى يتبين خلاف ما يقتضي ذلك، عملا بقاعدة " إذا جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا "، فلا يرد الخبر إلا بدليل، ولا يتوقف فيه إلا بقرينة توجب ذلك، لا بمجرد الظن والتوهم، فلو فتحتنا هذا الباب لردت أخبار كثيرة.
كأن يقال : لو كان هذا حقا لجاء من طريق مشهور، وما يسهل أن يقال بعدها لو كان هذا حقا لجاء من طريق متواتر. وبالتالي ترد السنن كلها.
فهل نحن مطالبين بتعليل المضمون، أم مطالبين بتعليل الشكل، بمعنى هل نبحث في الخبر لندفع عنه الوهم والخطأ، أم لنبحث عن أسباب مجيئه من طريق أو طريقين، وأن هذه الطريق رواتها نص على حكمهم، عند خمسين من علماء الرجال، وأن هذه الطريق رواتها لم بنص على حكمهم، إن هذا ـ في غير حالة التعارض ـ يعد ترفا ولعبا، والإشتغال به لا طائل منه .
ثم إن الراوي الذي يغلب عليه الضبط ، وتكون له أخطاء وأوهام تمشى أحاديثه إلا إذا ظهر ما يوجب ردها، وهذا بالإعتماد على إستصحاب الأصل الغالب، بإعتبار المروي، رغم تأكدنا من أن هذا الراوي قد أخطأ، فلما لا نقوم بنفس الإستصحاب ونقول:
هل الغالب في الراوي هو الخطأ والكذب، خاصة فيما يتعلق بالقرون الثلاثة بالنسبة للأمر الثاني؟. فلماذا لا نستصحب أصل البراءة بإعتبار الراوي، ثم نفعل ذلك بإعتبار المروي ؟.
أليس الواجب عند وقوع الشك، الرجوع إلى الأصل، والأصل هو البراءة حتى تثبت الإدانة، والأصل هو الطهارة حتى تثبت النجاسة، والأصل هو الحل حتى تثبت الحرمة.(1/5)
أليس لكل علم من العلوم، بديهيات ومسلمات، ينطلق منها الباحث، و بدونها لا يمكن البحث، ونصير إلى الدور والجهل المطبق، فإذا إحتاج كل دليل إلى دليل آخر، فمتى يحصل العلم ؟.
وبناء على هذا نقول:
إن الناظر في أحوال الرجال، يجب أن يسلم بصحة أخبار الصحابة، فمع تأكدنا من عدم كذبهم، إلا أننا لم نتيقن من عدم خطئهم، ولكننا سلمنا بصحة أخبارهم إبتداءا، حتى يظهر لنا ما يوجب التوقف أو الترك، فكذلك يجب إتباع هذا المبدأ مع غيرهم بلا فرق، و إلا لكان الأصل في تلقي الأخبار هو التوقف، ولا قائل به.
فالقبول هو الأصل، والتوقف والرد هو الطارئ، و الطارئ لا يكون إلا بسب، وهذا السبب يجب أن يكون ظاهرا لا خفيا، محققا لا متوهما.
وما يطلق عليه إسم العلة الخفية، فذلك إنما يصح قبل أن يدركها الناقد، وبعد أن يدركها فلن تصير خفية.
وكل الحجج التي تذكر لرد خبر الذي لم ينص على حكمه، يمكن أن نرد بها خبر من نص على حكمه.
فإن كان الخطأ فهو على الجميع، وإن كان الكذب فما هو عدد الكاذبين في القرون الفاضلة، وإن كان إحتمال أن يكون في إسم الراوي خطأ فلذا لم يعرف، فالأصل عدمه، وكذلك قد يروي المحدث عن شخص معروف لكنه لم يسمع منه هذا الحديث، بل سمعه من غيره.
فلهذا فالأسلم هو القول بالبراءة، وأن فتح باب الظن، هو شيئ من الوسوسة، وليس شيئا من العلم .
[ عدالة الراوي ]
ثم ألم يحمل الناقل، تكليفا بالقداسة، ألم ينقل علماء الرجال قداسة المصدر ـ وهو الرسول الرحيم الكريم ـ إلى الناقل عنه من بعده، فقالوا لا نقبل من فلان حديثه لأنه يوهم حماره بالإطعام ولا يطعمه، فكيف نقبل خبره، فمن تنجس لا يحمل ما تقدس.
ثم هل يرد حديث الراوي، إذا كان شاربا للخمر، لإنه يشرب الخمر، أم يرد لأنه يذهب بعقله وضبطه؟.
أليس شرب الخمر بالنسبة للضبط كالجنون والخرف، أليست هذه من أسباب سوء الحفظ وردائته؟.(1/6)
ثم من منا لم يكذب، أو يقع في كلامه من حيث لايدري، فهل ترد الأحاديث بمجرد خطور هذا الوهم على الذهن ؟.
فلا بد من رد الحديث بالكذب من ثبوت تعمد الكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أمر إذا قورن بعدد الصادقين كان قليلا جدا .
ولا يؤخذ بالظن و التخرص، بل بالإعتراف، أو بقرائن قوية لا شك فيها ولا يمكن دفعها، فليس بمجرد التوهم وسوء الظن، ترد الأخبار، وتلقى التهم جزافا على رواة الآثار.
ثم هل إذا رأى الراوي رأيا، ورأيت أنا رأيا آخر مخالفا له حتى ولو كان في العقيدة، أرد حديثه لأنه خالف رأيي، وليس لأنه غير ضابط أو غير صادق، أو لأنه أخطأ في حديثه أو لأنه ساء حفظه، أو لأنه كاذب ؟. وحتى لو رد خبره بدعوى الزجر، فما نفع ذلك بعد وفاته، ولما كان هذا الشرط مستحيل التطبيق، إضطر أهل الحديث للراوية عن الأعمش رغم قوله بالقدر.
فلقد تصور أصحاب علم الرجال، الرواة والمحدثين، على أنهم هم الحديث نفسه؛ فجعلوا الحامل وهو الراوي والمحمول وهو المروي، شيئا واحدا لا إنفصال بينهما، فتشددوا وغالوا ـ وحق لهم ـ ولكن العدل والإعتدال والإنصاف هو الأولى.
فالنبي صلى الله عليه وسلم، علمنا أن الحامل غير المحمول، فبعض يحمل وينبت، وبعض يحمل ولا ينبت.
فالمحدث لا يجب ـ حتى يقبل حديثه ـ أن يكون صديقا من الصديقين، ويجب أن لا يكون عربيدا فاجرا مستهترا بحرمات الله، ومتلذذا ومنغمسا في الفواحش والمنكرات.
فعدم كمال المحدث لا يعني عدم كمال الحديث، فكما أن سوء خلق المحدث لا يضر بالحديث ونقبله من الأعرج و الأعمش والضرير، فكذلك إذا كان هناك سوء خلق، فإنه لا يضر بالحديث ولا بقداسته، ولكن يضر بالمحدث.(1/7)
فنحن في دار العمل حيث الأمور ممتزجة غير خالصة، ولن تصفوا إلا يوم القيامة؛ فالمعاصي هي حجاب حقيقي أمام معرفة الله ومحبته، والتلذذ بذكره وعبادته، وليست حجابا أمام حفظ كتابه وسنة نبيه، وإلا لكان الحفظ مقتصرا على قوم مخصوصين من المسلمين، فضلا عن غيرهم.
فعدالة الراوي لا تتم إلا بأمرين :
ـ السلامة العقلية .
ـ السلامة النفسية.
والمقصود بالأمر الأول أن تكون ذاكرة المحدث سليمة عما يقدح فيها من خرف وجنون، وعن كل ما يضعفها ويلحقها بحالة المرض وعدم الصحة.
وغالبا مع تقدم السن تضعف الذاكرة ويصاب الراوي بالإختلاط ، ومن هذا الباب قد تقدم رواية الشاب على رواية المسن.
والمقصود بالأمر الثاني أن لا يكون الراوي مغلوبا بهواه، ومتعصبا لمن والاه، فإذا كان كذلك، مع تمكنه من قلبه حتى أعماه، صار الكذب مركبا للثأر والإنتصار، أو الربح والإشتهار، والويل ثم الويل ثم الويل، لمن حدث عن خليل الجبار ، بما حبكه وصنعه وإفتراه.
وعليه، فإننا نقول لا يجوز إسقاط الراوي، وتركه مطلقا ، ما لم يثبت فيه وجود أحد هذين القادحين ؛ والراوي الضعيف على ضعفه لا يزال فيه نوع إعتدال وإستقامة، فلهذا تقوى وترقى أحاديثه.
[ أنواع الجهالة ]
أدنى شيء يرفع الجهالة هو ذكر الوصف المميز للراوي، وبعدم ذكره وإسقاطه من الإسناد ، وبذكره مبهما، أو بالعدول إلى وصف غير مميز، أو لإشتباهه مع راو آخر، تقع الجهالة.
فإذا وجدنا في الإسناد إنقطاعا بغض النظر عن مكانه، عد هذا جهالة، وهو من أضر أنواعها، خاصة إذا كان خفيا.
وكذلك إذا ذكر الراوي، لكن أبهم إسمه ولم يعرف، كأن يقال عن رجل، أو عن شيخ، أو عن فلان . . . إلخ ؛ عد هذا أيضا جهالة.
وكذلك إذا ذكر الراوي بوصف غير مميز للتعمية، وقعت الجهالة، وغالبا ما يكون ذلك في الرواة المجروحين حتى لا يعرفوا، وهذا ما يعرف عند المتقدمين بتدليس الأسماء.(1/8)
وكذلك إذا ذكر الراوي بوصف مميز، لكنه لم يعرف لوجود من يشبهه إسما ونسبا، مع إختلافهما ضبطا، فنحتار في تحديده، هل هو المنصوص على قوة ضبطه، أو المنصوص على ضعفه.
والفرق بين الإبهام والتعمية يظهر ب :
ـ درجة الشيوع .
ـ السبب والقصد .
ـ مكانهما من الإسناد.
فأما من حيث الشيوع، فالراوي في حالة الإبهام، يستعمل وصفا ذائعا شائعا، وأما المعمي فإنه يستعمل وصفا أقل إنتشارا من المبهم، لكنه لا يكفي لتمييز الراوي، كأن يذكر قبيلته فيقول حدثني الأسلمي، وهو يقصد محمد بن إبراهيم بن أبي يحيى، ونحو ذلك.
وقد يغالي المعمي في تعميته، ويصير إلى الإبهام التام، فكل مبهم هو معمى من غير عكس، لأن المعمي يريد أن يخفي إسم شيخه حتى لا يعرف، وأما المبهم فالأغلب أن يكون نسي الإسم فأبهم، إذا كان المبهم متأخرا عن المبهم، وأما إذا كان معاصرا له،
فالأغلب ـ في ظني والظن أكذب الحدبث ـ أن من حدثه غير مشهور بالطلب، ولا محترف للرواية، فبلغ الغبن بهؤلاء غير المحترفين للرواية، ليس برد أخبارهم، بل وأسمائهم.
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن التعمية تكون ـ غالبا ـ بين طبقة التلميذ والشيخ، وأما الإبهام فقد يقع من أي طبقة من السند حيث يتصور وقوع الإبهام .
وعليه نقول أن الجهالة أنواع أربعة :
ـ جهالة الإنقطاع . ـ جهالة الإبهام .
ـ جهالة التعمية . ـ جهالة التعيين أو الأشتباه.
وزوال هذه الجهالات ممكن، إذا جاء ما يبنها.
[ أنواع المجهولين ]
إتضح لنا من خلال نظرنا فيمن رمي بالجهالة، وردت أخبارهم لإنتفاء العدالة، أنهم أصناف ثلاثة :
ـ النساء .
ـ أبناء يرون عن الآباء عن الأجداد .
ـ قوم مشتغلين بالقضاء و الإمارة .
فبخصوص الصنف الأول، كيف تريدون من المرأة أن تشتهر، وهي مأمورة بأن تستر، وأن تستقر؟.
وكلاهما أمران منافيان للشهرة، إذ الشهرة لابد لها من بروز، ومخالطة ومجالسة وسفر ومثابرة.(1/9)
وأين المرأة من هذا كله، يمنعها الحياء، وخدمة البعل والأبناء، وما نزل في شريعة السماء؛ فلهذا نجد معظم النساء في الصدر الأول، لم يروا عنهن إلا من هو من أقاربهن، كالإبن والبنت وغيرهما.
وربما مع تقدمنا في الزمن، نجد بعض النسوة ممن إشتهرن بالتحديث ـ وعلى قلتهن ـ
فإن روايتهن تكون للصحاح والسنن والمعاجم والأجزاء وغير ذلك، مما شوركن فيه من الرجال.
فبعد هذا إذا ردت أخبار النساء بدعوى الجهالة، نكون كمن قال : " رماني في الماء مقيد اليدين قائلا إياك إياك من الماء والطين ".
وبخصوص الصنف الثاني، كيف ترد رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد، بدعوى الجهالة، فالأبناء كما يرثون الشيء المادي، من مال وضياع وديار، يرثون الشيء المعنوي من الشرف والحسب والنسب.
وأي شرف أعظم من شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم .
فهم بهذه الرواية يريدون أن يحفظوا أنسابهم، وأن يحفظوا أمجادهم، وليس هذا بغريب عن قوم هم العرب.
فهم لا يريدون من رواية الحديث أن يعرفوا به، ويشتهروا، وغالبا ما يعرفون إذا كانوا من أهل العلم والفقه والفتوى. ومن هذا الباب نقول أن أحاديث الأحكام لقت عناية أكبر بالنسبة لغيرها من الأحاديث التي لا يتعلق بها حكم تكليفي، وبالتالي فإن العناية ستكون لرواة أحاديث الأحكام أكثر من العناية الموجهة لرواة أخبار الفضائل والفتن وغير ذلك، وبالتالي فإن الجهالة ستكون حكما لازما لهم بسب ما رووا.
فهل يصح أن ترد أخبار هؤلاء؛ فقط . لأنهم رووا ما يحفظ ويخلد ويمجد ذكراهم، لا لأنهم سييؤا الحفظ، أو متعمدون للكذب، بل لأنهم لم يزاولوا حرفة التحديث؟.
وبخصوص الصنف الثالت كيف ترد رواية أمير، ولا يرد أمره وكيف ترد رواية قاض ولا ينقض أمره، بل كيف يكون الأمير أميرا والقاضي قاضيا وهو غيرمعروف للعامة والخاصة؟.(1/10)
إن هذا مما يؤكد إستحالة وقوف المتكلم في الرجال، على جميع الرواة، ومعرفتهم فردا فردا، وبالتالي إستحالة أن نجد لكل راو ترجمة خاصة به فضلا عن حكم. فردنا أخبار هؤلاء ليس لأنهم تعمدوا كذبا، أو لأنهم أخطأوا يسيرا أو فاحشا، بل لعجزنا.
فالله هو الذي أحاط بكل شيء، وليس في مقدور البشر ـ مهما بذلوا من جهود ـ أن يحيطوا بمعرفة شيء واحد من كل نواحيه، فكيف إذا كانت هناك أشياء وأشياء.
وهنا يمكن أن نضيف صنفا رابعا، وهم غير من سبق، لم يولوا قضاءا ولا إمارة، ولم يروا عنهم أحد من أقاربهم، ولم يكن للمروي علاقة بالراوي.
فالصواب هو قبول حديثهم، ما لم يظهر معارض أقوى يوجب التوقف أو الترك.
ومثال ذلك، أن يروي من لم ينص على حكمه، عن شيخ له أصحاب ملازمون خبرا تدعوا النفوس إلى نقله، فلا يقبل منه هذا التفرد، فضلا عن المخالفة.
فعلينا أن نبحث عن القرائن التي توجب رد الخبر، ولا نبحث عن القرائن التي توجب القبول إكتقاءا بالأصل؛ وعليه فمن رد خبر الراوي غير المنصوص على حكمه بدعوى الجهالة فقط، يكون كمن رد العلم بالظن، أو الظن بالوهم، أو الشهادة برجم الغيب، فخبر الواحد يوجب العلم بغض النظر عن وجود نص أو عدمه، فالتوثيق يوجب زيادة علم، ولا يلزم من عدم وجوده إنتفاء العلم.
[ بن حبان وكتابيه الثقات والمجروحين ]
أراد بن حبان من كتابه " الثقات "، تصحيح بعض الإعوجاج في طريقة معاملة رواة الآثار، الذين كان ذنبهم الوحيد في رد أخبارهم أنهم لم يشتغلوا بالحديث رواية ودراية.
فرأى بن حبان أن أمثال هؤلاء لا يجب رد أخبارهم بل يجب قبولها، ولا ترد إلا بدليل واضح، فبما أنهم قد حدثوا فيمكن أن يحكم عليهم من خلال مروياتهم سواء قلت أو كثرت؛ فأدنى درجات العدالة والقبول تتحقق بعدم وجود المعارض، وأعلى درجات العدالة والقبول تكون بالتأكد والجزم بعدم وجود المعارض، وكتاب الثقات حوى الصنفين، وهذا ينفي ـ بالنسبة لنا ـ دعوى التساهل عن بن حبان.(1/11)
وإذا وجد المعارض، وغلب على حديث الراوي، فإن هذا يعد من أعلى درجات القدح، ويستحق الراوي من أجله أن يترك، وإذا لم يبلغ المعارض درجة الغلبة ولكنه قاربها، فإن الراوي يعتبر به، ولا يسقط، وفي هذا جاء تأليف كتاب المجروحين، لبيان المتروكين، ومن قرب منهم.
وإذا وجد المعارض ولم يتمكن ولم يقارب درجة الغلبة، فإنه متردد بين منطقة القبول، ومنطقة الترك، وإن كان للأولى أقرب بخلاف سابقه، وهذا النوع المتردد، قد يفسر لنا سبب مجيء الرواة مرة في الثقات ومرة في المجروحين، وهذا مما قد ينفي شيئا من دعوى التناقض. ومن خلال ما سبق يتضح لنا وجود منطقتين، منطقة عدم المعارض، ومنطقة وجود المعارض، وفي المنطقة الأولى نلاحظ وجود مستويين، مستوى التأكد من عدم المعارض، ومستوى عدم التأكد من عدمه أو وجوده، وفي المنطقة الثانية نلاحظ وجود ثلات مستويات، مستوى وجود المعارض مع قلته، ومستوى وجود المعارض مع قربه من الغلبة، ومستوى المعارض الغالب. وهذا الترتيب من الأعلى إلى الأدنى.
وبناء على تحديدنا السابق للمراد من تأليف كتاب الثقات، نقول: أن الأصح أن يقال فلان ذكره بن حبان في الثقات، ولا يقال وثقه بن حبان، إذ هذه العبارة فيها نوع من الإجمال، فهل المقصود أن يقال أن بن حبان يقول في الراوي الذي لم ينص على حكمه أنه ثقة؟.
فهذه اللفظة من الألفاظ القوية في التعديل، فقطعا لا بن حبان يقصد ذلك ولا غيره،
فابن حبان ـكما سبق ـ أراد من كتابه الثقات أن يرسم الحد الأدنى لقبول الحديث، ويكفي لإرتسامه عدم المعارض، وعدم المعارض لا يعني بالضرورة أن فلانا ثقة أو صدوق .
[ فماذا نطلق على الراوي الذي لم ينص على حكمه بعد النظر في حديثه، والتبين من عدم وجود ما يعارض ]
بما أن هذا الراوي تتحقق عنده أدنى درجات العدالة والقبول، نقترح أن يسمى بالراوي " المقبول "، والقبول بهذا المفهوم هو أدنى درجات الإحتجاج، وهو الحد
الفاصل بين الصحيح، والضعيف.(1/12)
ونفترح أن يسمى حديثه حديثا " لا بأس به "، وإن كانت هذه اللفظة تطلق على الصحيح والحسن، إلا أننا رأينا أن تخص بهذا الموضع، وترقى إلى درجة الإصطلاح، ولا مشاحة فيه.
وننبه إلى أننا سمينا الراوي المجهول في بداية المقالة، بالراوي غير المنصوص على حكمه، وها نحن ذا نسميه هنا بالراوي المقبول، ولا تعارض بينهما، فالتسمية الأولى إنما هي قبل النظر، والثانية بعد الفحص والنظر، ومن قال بالجهالة فإنه يكتفي بها لقدح الحديث، ولا يحتاج إلى نظر ولا إستقراء.
[ كيف نعامل حديث الراوي غير المنصوص على حكمه ]
بما أن لكل بداية شرة، نلاحظ أن نهج التشدد لدى علماء الرجال كان بتعاقبهم يخف ويميل نحو الإعتدال؛ فمنهم من كان يقول في الراوي الذي روى إثنان ولم يعرف بكثرة رواية أن حديثه ليس بشيء ، أو لا يعبأ به. ولكن هناك من عبأ به، وقال هو مقبول تبعا لا أصالة، وهذا عند الحافظ بن حجر، ولكنه وافقهم فيمن روى عنه واحد، ولم يعرف بكثرة طلب، فقال هو : "مجهول"، بمعنى أن وجوده وعدمه سواء، فحديثه غير مقبول مطلقا، و لكن ماذا نستفيد من راو روى عنه ألف وحديثه كله منكر؟.
فالمعيار الحقيقي للقبول والرد، لا يكون في عدد الرواة، وإنما يكون في وجود ما ينكر وفي إنتفائه. فإذا كان هناك راو لم ينص على حكمه، ولم يظهر في حديثه ـ بعد البحث والتحري ـ ما ينكر نسمي الراوي مقبولا، ونسمي حديثه حديثا لا بأس به ، بالمعنى الموضح آنفا.
وعند ظهور نكارة، نرى مدى شدتها، ومدى إنتشارها، ثم نحكم؛ فإن كانت قوية حكمنا على الراوي الذي لم ينص على حكمه بأنه متروك، وإذا كانت متوسطة حكمنا عليه بالضعف، وإن كانت خفيفة بقي على حاله. ثم من كثرت مناكيره، ترك حديثه، وإذا كانت بين القلة والكثرة أو كانت قليلة طلب له المتابع.(1/13)
وهنا أدعو إلى جمع الرواة غير المنصوص على حكمهم، والنظر في أحاديثهم، والحكم عليهم من خلالها، فمن إستحق الترك ألحق بالمتروكين، ومن إستحق الضعف ألحق بالضعفاء، ومن لم يستحق أحدهما ألحق بالثقات في قبول أحاديثهم، وليس في درجتهم.
فملاحظة الأحاديث وتتبعها ـ لنفي المخالفة الخاصة في حال وجود من يشاركه في الرواية، ونفي المخالفة العامة المتعلقة بالنصوص والقواعد الكلية في حال عدم وجود المشاركة ـ هي الأداة التي تصدر بها الأحكام على الرواة، وحتى بعد إصدار الأحكام تبقى المتابعة مستمرة إلى آخر حديث يرويه المحدث. فإذا كانت الأداة متوفرة والنص منعدم، فلما نبحث عن النص ونجعله في مقام الأداة، وهونتجية لها، وليس منتجا بنفسه. مع العلم أنه من كان ملتزما بها كان أقرب إلى العدل والإنصاف، كابن عدي في كتابه الكامل.
القسم العملي
نختار في هذا المقام، تخريج حديث: " غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله "، تخريجا مختصرا على أن يأخذ معناه بالإعتبار، وكذلك نسبة الرواة في ضوء ما سبق بيانه في أنواع المجهولين. والمقصود من هذا التخريج إعطاء بعض الأمثلة لما سبق في القسم النظري، وليس الإستقصاء، فهذا يحتاج إلى سنوات، ويكفينا أننا بينا الأساس النظري الذي يجب أن تتبعه مثل هذه الدراسة.
هذا، وجاء هذا الحديث من عدة طرق، نختار منها ما يتلائم مع طبيعة موضوع المقالة،
1ـ حديث سمرة بن جندب بن هلال الفزاري:
رواه الطبراني في الكبير[7/187] : ثنا موسى بن هارون ثنا مروان بن جعفر السمري ثنا محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سمرة ثنا جعفر بن سعد بن سمرة عن خبيب بن سليمان عن أبيه عن سمرة بن جندب أن رسول الله كان يقول: " بنو غفار وأسلم كانوا ككثير الناس فتنة، يقولون لوكان خيرا ما جعلهم الله أول الناس فيه، وإنها غفار غفرا لله لها، وأسلم سالمها الله ".(1/14)
فسليمان بن سمرة بن جندب، ذكره بن حبان في الثقات [4/314 ]، وقال بن حجر : مقبول كما في التقريب [ ص 252] .
وأما أما خبيب بن سليمان، وكنيته أبو سليمان الكوفي، ذكره بن حبان في الثقاث [6/274]، وقال بن حجر كما في التقريب [ ص192] : مجهول.
وأما جعفر بن سعد بن جندب بن جندب أبو محمد ألسمري الفزاري، ذكره بن حبان في الثقات [ 6/137]، وقال بن حجر كما في التقريب [ص145] : ليس بالقوي إهـ .
ولا يوجد فيه نص عند المتقدمين ، وحكم بن حجر أخذه بنصه عن الحافظ بن عبد البر كما في تهذيب التهذيب [ 2/80] .
وأما محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن جندب، ذكره بن حبان في الثقات [9/58]، وقال : لا يعتبر بما إنفرد به من الإسناد إهـ.
و بن حبان وبن عبد البر، لم يسبقا بهذا القول، فمن أين أخذاه؟.
الجواب : أنهما إجتهدا، لأنه عند عدم النص، فلا بد من الإجتهاد، وليس هذا خاصا بزمن دون زمن، والوسلية التي يكون بها الإجتهاد في هذه الحالة هي بتتبع الأحاديث
والنظر فيها.
ومما يدعو إلى العجب أن آل سمرة، قد رووا نسخة كبيرة، كانت عند سليمان بن سمرة بن جندب، روى منها البزار في مسنده كما في التهذيب [ 2/80]، حوالي مئة حديث، رغم ذلك يحكم علي بعضهم بالجهالة.
2ـ حديث سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي :(1/15)
رواه عنه إنه إياس، وعن إياس رواه علي بن يزيد بن أبي حكيمة الأسلمي وغيره، وعن بن أبي حكيمة رواه عبد الله بن الزبير الحميدي عند الحاكم في المستدرك [ 2/92]، " أن النبي كان يقوم في الصلاة، فيدعو على قبائل من العرب فيقول : لعن الله رعلا وذكوانا وعصية التي عصت الله ورسوله، وبني لحيان، ويقول : غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله، لست أنا قلته، ولمن الله عز وجل قاله، ثم يكبر بعد أن يدعو على من دعى ". وبن أبي حكيمة ـ ووقع عند الحاكم بإسقاط التاء فقال: بن أبي حكيم ـ لم أقف على ذكر له إلا عند البخاري في التاريخ الكبير [ 6/311]، وبن ماكولا في الإكمال [2/493]، وسكتا عنه .
فبأي حجة يرد هذا الحديث؟.
فهل رده ، سيريحنا من شعورنا بالعجز؟.
3ـ حديث أبي قرفاصة جندرة بن خيشنة الكناني :
رواه الطبراني في الكبير [ 3/18] : ثنا محمد بن الحسن بن قتيبة ثنا أيوب بن علي بن الهيصم ثنا زياد بن سيار عن عزة بنت عياض قالت سمعت أبا قرفاصة يقول : قال : قال رسول الله : " غفارغفرالله لها و أسلم سالمها الله ".
فهذه المرأة عزة بنت عياض بن أبي قرصافة، روت عن جدها هذا الحديث، ولم يذكرها أهل التراجم إلا عرضا لما تكاموا عن جدها الصحابي، وإذا فهمنا عدم تخصيص ترجمة لها لأنها غير مهمة، فإننا لم نفهم لما يرد حديثها ، ألأنها لم تعقد مجالس التحديث بالمساجد فنرد حيثها ولا نقبله لا تبعا ولا أصالة، لشكنا في وجود المرأة من عدم وجودها؟؟.
والراوي عنها وهو مولى أبي قرصافة، مذكور في كتب التراجم، ولا يزدون على قولهم ـ إضافة لما سبق ـ عبارتي الكناني الشامي، ولكن بن حبان يذكره في الثقات [4/225]، ويضيف : " كان يسكن قرية يقال لها سناجية من كور الرملة "، ثم يضيف في مشاهير علماء الأمصار [ ص177] : " أحاديثه مستقيمة إذا كان دونه ثقة ".
4ـ حديث نضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمي :(1/16)
رواه عنه إبنه المغيرة بن أبي برزة، وعن بن أبي برزة، رواه علي بن زيد بن جدعان، وعن بن جدعان، رواه شعبة، وعن شعبة رواه :
ـ عبد الرحمن بن مهدي عند أحمد في مسنده [4/420] .
ـ أبوداود الطيالسي في مسنده [ص 125]، وعن أبي داود رواه أحمد في المسند [4/424]، وأحمد بن إبراهيم الدورقي عند أبي يعلى في مسنده [13/155] . ولفظه عند الجميع " أسلم سالمه الله، وغفار غفر الله لها، ما أنا قلته، ولكن الله قاله ".
إلا أن زيادة " ما أنا قلته . . ." لم تذكر في مسند أبي داود، وذكرها من رواه عنه، خارج مسنده.
وكما سبق، بن أبي برزة، يقول فيه بن حجر مقبول و بن حبان يذكره في الثقات. وإذا شئنا رد هذا الحديث فيجب رده بمن ثبت ضعفه، وهو بن جدعان، وليس بمن توهم ضعفه، وهو بن أبي برزة.
5ـ حيث عمر بن يزيد الكعبي :
رواه بن منده، كما في الإصابة [4/595]، عن هارون بن مسلم بن سعدان عن أبيه عن جده عن عمر بن يزيد الكعبي الخزاعي قال : " كنت جالسا مع النبي فكان مما حفظت من كلامه، أسلم سالمها الله من كل آفة إلا آفة الموت فإنه لا يسلم منه معترف به ولا غيره، وغفار غفر الله لهم، ولا حي أفضل من الأنصار".
ولم أقف على أحد ترجم لهارون وأبيه وجده، إلا ما ذكره الخطيب في تاريخه [14/23] لأحد الرواة، بإسم هارون بن مسلم بن سعدان، ووصفه ب " الكاتب "، ولكنه متأخر عن هذا الموجود في هذا الحديث.
ويظهر في هذا الحديث شيء من النكارة، في عبارة " من كل آفة إلا آفة الموت فإنه لا يسلم منه معترف به ولا غيره".
والذي يظهر أنها عبارة مقحمة على الحديث للشرح، فكأن سائلا يسأل لما سمع هذا الحديث عن معنى قوله " سالمها الله "، فأجابه بما ذكر، فأدرج الشرح مع الحديث، وعليه فيجب أن لا نسارع للحكم بالضعف على هارون أو أبيه، لعدم بلوغ النكارة الحد الموجب لذلك، وهذا بغض النظر عما بقي من الأسناد الذي لم يذكر، ولم أقف عليه.
6ـ حديث أبي ذر الغفاري :…(1/17)
رواه الحاكم في المستدرك[ 3/38] وغيره، وقال الحاكم : أنا محمد بن محمد البغدادي ثنا أحمد بن إبراهيم القرشي بدمشق ثنا محمد بن عائذ الدمشقي حدثني الوليد بن مسلم ثنا أبو طرفة عباد بن الريان اللخمي قال سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني عامر بن لدين الأشعري وكان مع عبد الملك بن مروان قال سمعت أبا ليلى الأشعري يقول حدثني أبوذر قال : " إن أول ما دعاني إلى الإسلام . . . " فذكر حديثا طويلا يقص علينا كيف أسلم هو وقومه، وفي آخره لما أسلموا وقدموا على رسول الله ـ الغفاريين وحلفاؤهم الأسلميين ـ قال لهم رسول الله : " أسلم سالمها الله وغفارغفر الله لها".
فأما أبو ليلى الأشعري فهو من الصحابة.
و أما عامر بن لدين الأشعري، ذكره بعضهم في الصحابة، ولكن الأصح أنه من التابعين، وكان قاضيا لعبد الملك بن مروان، ولعله لهذا وجدنا هذه المرة من خرج عن قاعدة التجهيل مصرحا بأن الراوي ثقة، كما قاله العجلي في ثقات [ 2/14] : عامر بن لدين الأشعري شامي تابعي ثقة . إهـ.
وهذا يحسب للعجلي،ولا يحسب عليه، وبقال متساهل.
فإذا كان قبول الخبر لأننا لم نجد ما نرده به تساهل، فهو خير من رده بالتوهم، وبلا حجة.
وأما عباد بن الريان أبو طرفة اللخمي، فلم أقف على ذكر له، إلا عند بن عساكر في تاريخه [ 26/224]، وقال أنه وفد على هشام بن عبد الملك، ودخل دمشق بآخرة، ولم ينقل فيه أي نص من نصوص علماء الرجال.
فإذا كان علماء الرجال ـ المتأخرين ـ إنصب إهتمامهم على رواة الكتب الستة، فكيف بعدها لا يحكم على هؤلاء بالجهالة؟ وترد أخبارهم بالتوهم؟.
ويكفي دليلا على هذا، أن أحد الفضلاء لما شعر بهذا النقص حاول تداركه بكتاب سماه تعجيل المنفعة.
7ـ حديث خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري :
رواه عنه إبنه الحارث وغيره، وعن الحارث رواه خالد بن عبد الله بن حرملة وعنه محمد بن عمرو بن علقمة عند مسلم في صحيحه [1/470] وغيره. بلفظ " أسلم سالمه الله وغفارغفرالله لها ".(1/18)
فالحارث لم يذكر في الرواة عنه إلا خالد، وقد إختلفوا في صحبته، فمن قال هو صحابي إحتج بخبره، ومن قال هو تابعي، قال لا يعبأ بخبره لشكنا في وجود الراوي من عدمه، فهو مجهول العين.
فأي منطق هذا ؟.
فبمجرد الإختلاف في كونه صحابيا أو تابعيا مع قرب درجتهما، يختلف حكمهما إختلافا بينا، بين الرفض الكلي والقبول الكلي.
ثم هل نريد من خالد بن عبد الله بن حرملة، وغيره من المئات الذين ردت أخبارهم بدعوى الجهالة، أن يرووا آلاف الأحاديث، إن لم يكن لديهم إلا حديث وحديثين، وحتى لو فعلوا فسوف ترد أخبارهم، كما ردت أخبار آل سمرة، لأنهم غير معرفين عند من عرفوا بالحديث.
وفي الأخير نختم بقصة وقعت بين الزهري وشيخه، حيث كان الإمام الزهري من أعلم الناس بالحديث و أكثرهم إستيعابا له في زمانه، فروى له شيخ من شيوخه حديثا، فقال الزهري : لا أعرفه، فقال له الشيخ : هل عرفت كل العلم أم نصفه، ولا سبيل للأول، فإجعل ما لم تعرف في النصف الآخر الذي يجب أن تستكمله وتأخذه لا أن ترده بدعوى عدم المعرفة، إذ هذه الدعوى تصدق إذا لم يبلغك الخبر، فإذا بلفك سقطت.
إنتهى.
فهرست الموضوعات
العنوان…صفحة
مقدمة ..................................................................................
القسم النظري :
ـ لماذا نقبل حديث الراوي غير المنصوص ........................................…
على حكمه .
ـ عدالة الراوي ..........................................................................
ـ أنواع الجهالة..........................................................................…
ـ أنواع المجهولين .....................................................................…
ـ بن حبان وكتابيه الثقات والمجروحين ............................................…
ـ تسمية الراوي غير منصوص على حكمه ........................................…
بعد النظر في خبره.(1/19)
ـ كيف نعامل حديث الراوي غير منصوص .........................................
على حكمه.
القسم العملي :
تخريج حديث "أسلم سالمها الله "
1ـ حديث سمرة بن جندب ...............................................................…
2ـ حديث سلمة بن الأكوع .............................................................
3ـ حديث أبي قرفاصة الكناني ...........................................................…
4ـ حديث أبي برزة الأسلمي ...........................................................
5ـ حديث عمر بن يزيد ..................................................................…
6ـ حديث أبي ذر الفغاري................................................................. …
7ـ حديث خفاف بن إيماء الغفاري .....................................................
خاتمة : بذكر قصة الزهري مع شيخه ..............................................(1/20)