بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / الحطة في ذكر الصحاح الستة
المؤلف / بو الطيب السيد صديق حسن القنوجي
عدد الأجزاء / 1
دار النشر / دار الكتب التعليمية - بيروت
- 1405هـ/ 1985م
الطبعة: الأولى(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي جعل أهل الحديث أهل النبي {صلى الله عليه وسلم} خالصة من دون الناس في أعين البصراء بل صحبه الذين صحبوا أنفاسه القدسية طول الاناء وإن لم يصحبوا نفسه الزكية كصحبة الرحماء فيا لهم من كرام أخلصهم الله بخالصة ذكرى الدار واصطفاهم لنصرة دينه وحفظ شريعته وتحمل علوم نبيه المختار وناهيك بها من علياء ومصليا ومسلما على سيدنا ومولانا محمد المبعوث بمزيد الاصطفاء إلى الأمة الأمية العرباء الناهض بأعباء الرسالة والدهر فيه السراء والضراء المعيي بآيات كتابه مصاقع الفصحاء والمفحم ببينات خطابه بواقع البلغاء غاية الإفحام والإعياء الراقي ليلة الأسراء فوق السماء مرقى ما ترقى رقية الأنبياء فأكرم به من سماء ما طاولتها سماء وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين السعداء سلالة معشر الحنفاء الكبراء وقدوة أهل التقوى والمغفرة بغير مراء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فيا للفخر والباواء وعلى أصحابه حماة حمى السنة السنية البازغة الغراء وكماة حلبة الملة الحنيفية السمحة السهلة البيضاء وأتباعهم من أهل الحديث وحملة العلم ونقلة الرواية ورواة الدراية جزاهم الله أحسن الجزاء ما سح قطر الوطفاء على الرياض الغناء
وبعد فلما من الله تعالى علي وله الحمد والثناء بتحصيل الكتب الستة في الحديث وقراءتها وأحسن إلي وله العز والبقاء بتكميل تلك الصحف العلية وروايتها انبعثت داعية الشوق مني إلى العثور على تأليف مفرد في هذا الباب مشتمل على ما لا بد من تعلمه لطالب السنة(1/2)
والكتاب فلم أحظ بمؤلف فيه خبرا ولم أجد له في الرسائل المتداولة أثرا وإن كان ذلك في الكتاب مسطورا وفي تضاعيف طبقات الفن مذكورا فخطر ببالي أن أجمع في ذلك رسالة بالخصوص مشتملة على ذكر الصحاح الستة وتراجم مؤلفيها وما يتصل بها من نفائس فوائد هذا العلم المنصوص يستعين بها الطالب المبتدئ ولا يستغني عنها الراغب المنتهي وذلك لأن كتب الحديث وإن كانت في نفسها كثيرة ولدى أهل العلم شهيرة لكن الطبقة العليا منها هي الصحاح الستة التي خصت بمزيد الصحة والشهرة والقبول وتلقتها الأمة المرحومة جميعا من السلف والخلف تلقيا لا يحول ولا يزول واعتنى بروايتها عصابة أهل الحديث عناية تامة وأذعن لضبطها ونشرها في كل عصر خاصتهم والعامة بل عليها اقتصروا في قراءة كتب الحديث وتدريسه وبها اكتفوا في تحصيل سند هذا العلم وتأسيسه فاستخرت الله تعالى في تحريرها واستقدرته في تسطيرها وجئت بها في أقل زمان على قدر وابتدرت لنيل المعاني ونظم الدرر الغرر بعدما التقطتها من الزبر الحوافل الكبار روما لاقتناص الأوابد وغب ما اقتطفتها من نفائس الرسائل والأسفار ضبطا لبعض الشوارد راجيا بأن ينتفع بها الصالحون الراغبون في علم الحديث وأهله السائرون المارون بحزنه وسهله سيما الولد الأحب الأغر الأقرب فلذة كبدي المعنى وثمرة فؤادي المضنى السيد نور الحسن طيب بارك الله في علمه وعمره ونهيه وأمره
(1/3)
لا انتظاما في سلك المؤلفين وانصباغا بصبغ المصنفين ومن أين لي ذلك والبضاعة من هذا العلم قدر منزور والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور هذا وقد سميتها ب الحطة في ذكر الصحاح الستة وضمنتها فاتحة وخمسة أبواب وخاتمة أعاذنا الله ومحصليها عن النار الحاطمة فخذها إليك رسالة مفصلة شذورها وعقائلها للمشغوف بإحيائها ودونك مقالة مشرحة أبوابها وفصولها للمستضيء بأضوائها فإنها أولى ما يحفظه قراء الصحاح الستة وطلبة علم الحديث وأحق ما يحصله أهل السنة الطاهرة وخدامها في القديم والحديث فقد استيقظت لها والناس نيام ووردت ماءها وهم صيام وأنا العبد الفقير إلى الله الغني به عمن سواه الشاكر على ما أولاه خادم علوم السنة وأهاليها ومحصل فنون الحديث ومتطفل مواليها راجي رحمة الرحيم الرحمن دائم الفكر متواصل الأحزان عبد ربه الباري وابن عبده النور الساري أبو الطيب علي بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني المدعو بصديق حسن القنوجي البخاري خصه الله تعالى بالاستفادة والإفادة وجعله من الذين لهم الحسنى وزيادة وستر عيوبه بكرمه الضافي ولم يكدر عليه ما منحه من مشرع عطائه النمير الصافي والمرجو ممن حباه الله تعالى بشيمه الفتوة وألبسه حلة المروة أن يسامح إن رأى قد زل القلم أو دحض القدم فمن ديدن الحر العفو وللخرق الرفو والله ولي التوفيق والإجابة وبيده الهداية والإصابة
فاتحة وفيها فصلان
الفصل الأول في فضيلة العلم والعلماء وما يناسبها تدرسون الفوائد العليا(1/4)
واكتفيت مما ورد فيها من الآيات والأخبار بالقليل لشهرتها وقوة الدليل قال الله تبارك وتعالى ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( ) هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ( ) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ( ) ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ( ) وقل رب زدني علما ( ) وما يعقلها إلا العالمون ( ) إن في ذلك لآيات للعالمين ( و ) إنما يخشى الله من عباده العلماء (
وعن أبي الدرداء قال إني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وأن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وأن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء وأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما
ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر رواه أحمد والترمذي وأبو داؤد وابن ماجه والدارمي والبيهقي وابن حبان والحاكم وصححوه وله طرق عديدة وألفاظ كثيرة
وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قليل العلم خير من كثير العبادة أخرجه الطبراني في الأوسط
وعن أبي أمامة قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
يجاء بالعلم والعابد فيقال للعابد ادخل الجنة ويقال للعالم قف حتى تشفع للناس رواه الأصفهاني وعن ثعلبة قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لفصل عباده إني لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم ولا أبالي رواه الطبراني
(1/5)
وعن ابن عباس قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من جاء أجله وهو يطلب العلم لقي الله تعالى ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة أخرجه الطبراني في الأوسط وعن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير رواه الترمذي وأخرجه الدارمي عن مكحول مرسلا
وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذكراته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لإنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل في السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الإخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة يقتفى آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى رأيهم يرغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب
ويابس وحيتان البحر وهو أمه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء أورده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده وقال حديث حسن جدا وفي إسناده ضعف وروى أيضا من طرق شتى موقوفا على معاذ وقد يقال الموقوف في مثل هذا كالمرفوع لأن مثله لا يقال بالرأي
(1/6)
قال النووي الاشتغال بالعلم من أفضل القرب وأجل الطاعات وأهم أنواع الخير وأكد العبادات وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات وشمر في إدراكه والتمكين فيه أصحاب الأنفس الزاكيات وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى الخيرات وسابق إلى التحلي به مستبقوا الكرمات وقد تظاهر على ما ذكرته جمل من الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة المشهورات وأقاويل السلف النيرات ولا ضرورة إلى ذكرها لكونها من الواضحات الجليات انتهى
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر ليس في الوجود شيء أشرف من العلم كيف لا وهو الدليل فإذا عدم وقع الضلال انتهى
وقال الشافعي من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن
وقال الأحنف كل عز لم يوجد بعلم فإلى ذل مصيره قيل سادات الخلق ثلاثة الملائكة والأنبياء والسلاطين وكلهم خضعوا للعلم أمر الملائكة بالسجود لآدم لفضل علمه وأما الأنبياء فحديث موسى وخضر وأما الملوك فقصة يوسف فلما كلمه قال ) إنك اليوم لدينا مكين أمين ( ويقال العلم دواء القلوب وشفاء الذنوب ونعم الحارس والفارس
ونظم
تعلم فليس المرء يولد عالما
وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
وهو قوت الأرواح والقلوب وروضة المحب والمحبوب به يفضل الذوق الروحاني على الجسماني من عالم الميثاق وليس يدرك ذاك إلا من تضلع أو ذاق شعر
( لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يدانيها
ولكن على كل خير مانع وعلى العلم موانع منها الوثوق بالمستقبل وبالذكا وبالانتقال من علم الى علم قبل أن يحصل منه قدرا يعتد به أو من كتاب إلى كتاب قبل ختمه ومنها طلب المال والجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية وضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال وإقبال الدنيا وتقليد الأعمال وكثرة التأليف في العلوم وكثرة الاختصارات فإنها مخلة عائقة ولكل منها تفصيل ذكر في محله فائدة
(1/7)
اعلم ان شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز للشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته ولذيذ لغيره فيطلب لأجله أما الأول فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية ولذا كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول لو يعلم الملوك ما نحن فيه من لذة العلم لحاربونا عليه بالسيوف
وقال الفقيه الرباني محمد بن حسن الشيباني عندما انحلت له مشكلات العلوم أين أبناء الملوك من هذه اللذة سيما إذا كانت الفكرة
في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذته التابعة لغيره أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامة لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء والصناعات متكالمة متزايدة بتلاحق الأفكار والآراء ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله وأما اللذائد الحاصلة لغيره أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائد الأخروية والسعادة الأبدية وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك والحكام ولزم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأرذال الهند وغيرهم يصادفون طبائعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم وعلمائهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها لشعورها بتمييز الإنسان بكل مجاوز لدرجتها حتى أنها تنزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان ثم السعادة منحصرة في قسمين جلب المنافع ودفع المضار وكل منهما دينوي وديني فالأقسام أربعة
الأول ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية وهو خفي وخلقي
(1/8)
الثاني ما ينجلب به من المنافع الدنيوية وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي ثم ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله سبحانه وتعالى وإما عند الملأ الأعلى وإما عند الملأ الأسفل
الثالث ما يندفع بالعلم من المضار الدينية وهو نوعان فعل النواهي وترك الأوامر
الرابع ما يندفع به من المضار الدنيوية وهو أيضا نوعان الأول دفع المصالح والمقاصد وجلب المعايب والمفاسد الثاني مضرة اجتلاب المفاسد برفض القانون الشرعي العاصم من كل ضلال
وفي الحديث السابق المروي من معاذ بن جبل إشارة إلى كل من هذه الأقسام الأربعة
فائدة أخرى
لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع لأن في كل علم منفعة إما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبريء من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها مل لا يبرأ بالمعالجة
ومنها أن يظن بالعلم فوق مرتبة في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد والكتاب والسنة أشرف منه قطعا
ومنها أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجره تداني إليه الإخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه
(1/9)
ومنها أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما اتفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصارمهانا لما تعاطاه اليهود بل زال العلم بهم وما أحسن قول أفلاطون أن الفضيلة تستحيل في النفس الرديئة رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد
ومنها أن يكون العلم عزيز المنال رفيع الرقي قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال من تمويهه غرضا كما اتفق في علوم
الكيميا والسيميا والسحر والطلسمات والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده
ومنها ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل المرء عدو لما جهله وقال تعالى ) كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ( أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين بها كالمنطق وغيره فائدة أخرى شرائط تحصيل العلم كثيرة
ومنها ما نقل عن سقراط وهو قوله ينبغي أن يكون الطالب شابا فارغ القلب غير متلفت إلى الدنيا صحيح المزاج محبا للعلم بحيث لا يختار على العلم شيئا من الأشياء مصدوقا منصفا بالطبع متدينا أمينا عالما بالوظائف الشرعية والأعمال الدينية غير مخل بواجب فيها ويحرم على نفسه ما يحرم في ملة نبيه ويوافق الجمهور في محاسن الرسوم وشرائف العادات ولا يكون فظا سيء الخلق ويرحم من دونه في المرتبة ولا يكون أكولا ولا متهتكا ولا جامعا للمال إلا بقدر الحاجة فإن الاشتغال بطلب أسباب المعيشة مانع عن التعلم انتهى
ومنها تزكية الطالب عن الأخلاق الرديئة
(1/10)
ومنها الإخلاص في مقاسات هذا المسلك وقطع الطمع عن قبول أحد وتقليل العوائق حتى الأهل والأولاد والوطن فإنها صارفة شاغلة ) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ( وترك الكسل وإيثار السهر في الليالي والعزم والثبات على التعلم إلى آخر العمر كما قيل الطلب من المهد إلى اللحد وقال تعالى لرسوله ) وقل رب زدني علما ( وقال ) وفوق كل ذي علم عليم ( فإن مراتب الكمال متفاوتة وهي في حد ذاتها كثيرة
ومنها اختيار معلم ناصح نقي الحسب كبير السنن أمين متدين لا يلابس الدنيا بحيث تشغله عن دينه ويسافر في طلب الأستاذ إلى أقصى البلاد ويقال أول ما يذكر من المرء أستاذه فإن كان جليلا جل قدره وإذا وجد يلقى إليه زمام أمره ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب
ومنها أن يأتي على ما قرأه مستوعبا لمسائله من مباديه إلى نهايته بتفهيم واستثبات بالحجج وأن يقصد فيه الكتب الجيدة المستندة وأن لا يعتقد في علم أنه حصل منه على مقدار لا يمكن الزيادة عليه فإن هذا طيش يوجب الحرمان
ومنها المذاكرة مع الأقران والمناظرة مع الإخوان لما قيل العلم غرس وماؤه درس لكن طلبا للثواب وإظهار الصواب لا لمماراة السفهاء ومجاراة العلماء قيل مطالعة ساعة خير من تكرار شهر ولكن مع منصف سليم الطبع صحيح الفكر مهذب النفس
ومنها مراعاة مراتب العلوم في القرب والبعد من المقصد فلكل منها رتبة ترتيبا ضروريا بحسب الرعاية في التحصيل إذا لبعض طريق إلى البعض ولكل علم حد لا يتعداه فعليه أن يعرفه فلا يتجاوز ذلك الحد ولهذه الشرائط تفاصيل ذكرت في محلها فائدة أخرى
(1/11)
يقدم في تعليم العلوم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني والتحقيق أن تقدم العلم على العلم لثلاثة أمور إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح وكتقديم الكتاب والسنة على الإجماع والقياس وكتقديم السنن على البدع وإما لكونه وسيلة إليه وإما لكون موضوعه جزء من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم الصرف على النحو وربما يقدم علم على علم لا لشيء بل الغرض منها التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم الحساب وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو على الصرف ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس ثم إنه يختلف فروض الكفاية في التأكيد وعدمه بحسب خلو الأعصار والأمصار فرب مصر لا يوجد فيه من يقيم الفريضة إلا واحد أو إثنان ويوجد فيه عشرون فقيها فيكون تعلم الحساب فيه أكد من أصول الفقه والواجب علمه هو فرض عين وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه وما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام واحد لسقط عن الباقين يسمى فرض كفاية والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل
علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه منهما وإزالة الشبهة ومعرفة الأوقات والفرائض والأحكام الفرعية وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العلوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها فائدة أخرى
(1/12)
الرحلة في طلب العلم مفيدة وسبب ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب تارة علما وتعليما وإلقاء وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكة ورسوخها والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وتنهض قواه إلى الرسوخ والأحكام في الملكات فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال ومن تشوق بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى ولا يجد فيها التعليم لا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار فائدة أخرى
الحفظ غير الملكة العلمية ومن كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة لا يحصل إلى طائل من ملكة التصرف في العلم ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئا من الفن وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ وإنما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال
من الدوال إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس فإن ضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب وهذا لا يتم بمجرد الحفظ من أسباب الاحتضار وهو راجع إلى جودة القوة الحافظة وضعفها وذلك من أحوال الأمزجة الخلقية وإن كان مما يقبل العلاج نقل الرازي عن الحكماء أن الفهم والحفظ لا يجتمعان على سبيل الكمال لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ والحفظ يستدعي مزيد يبوسة فيه والجمع بينهما على سبيل التساوي ممتنع عادة شعر
آه على فهم وحفظ وأن
استحضر الأشياء في وقتها
فائدة أخرى
(1/13)
تعيين العلم الذي هو فرض عين على كل مكلف أعني الذي يتضمنه قوله {صلى الله عليه وسلم} طلب العلم فريضة على كل مسلم للعلماء اختلاف عظيم فيه قال الفقهاء هو العلم بالحلال والحرام وقال المتكلمون هو العلم الذي يدرك به التوحيد الذي هو أساس الشريعة وقال الصوفية هو علم القلب ومعرفة الخواطر لأن النية التي هي شرط الأعمال لا تصح إلا بها وقال أهل الحق هو علم المكاشفة وقالوا الأقرب إلى التحقيق أنه العلم الذي يشتمل عليه قوله {صلى الله عليه وسلم} بني الإسلام على خمس الحديث لأنه الفرض على عامة المسلمين وهو اختيار الشيخ أبي طالب المكي وزاد عليه بعضهم أن وجوب المباني الخمسة إنما هو بقدر الحاجة مثلا من بلغ ضحوة النهار يجب عليه أن يعرف الله سبحانه وتعالى بصفاته استدلالا وأن يتعلم كلمتي الشهادة مع فهم معناهما وإن عاش إلى وقت الظهر يجب أن يتعلم أحكام الطهارة والصلاة وإن عاش إلى رمضان يجب أن يتعلم أحكام الصوم وإن ملك مالا يجب أن يتعلم كيفية الزكاة وإن حصل له استطاعة الحج يجب أن يتعلم أحكام الحج ومناسكه وقال المفسرون والمحدثون هو علم الكتاب والسنة ولقد صدقوا فإن العالم
بهما عالم بجملة العلوم المذكورة إذ كل الصيد في جوف الفرى وليس قربة وراء عبادان وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العلم ثلاثة آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل رواه أبو دؤاد وابن ماجه فائدة أخرى
(1/14)
إنما المقصود من العلم والتعليم والتعلم معرفة الله سبحانه وتعالى وهي غاية الغايات ورأس أنواع السعادات ويعبر عنها بعلم اليقين وهو الكمال المطلوب من العلم الثابت من الأدلة فإياك أن يكون شغلك من العلم أن تجعله صفة غلبت على قلبك حتى قضيت نحبك بتكراره عند النزع كما يحكي أن أبا طاهر الزيادي كان يكرر مسألة ضمان الدرك حالة نزعه بل ينبغي لك أن تتخذه سبيلا إلى النجاة ولهذا قيل من أراد أن يرغم عدوه فليحصل العلم وأن لا يترفه في المطعم والملبس وأن لا يتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصار في جميع الأمور ويتشبه بالسلف الصالح وكلما ازداد إلى جانب القلة ميله ازداد قربه من الله سبحانه وتعالى لأن التزين بالمباح وإن لم يكن حراما لكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه فالحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها البتة مع أنها مزرعة الآخرة ففيها الخير النافع والسم الناقع
قال السبكي في معيد النعم العلماء فرق كثيرة منهم المفسر والمحدث والفقيه والأصولي والمتكلم وغيرهم وينشعب كل فرقة من
(1/15)
هؤلاء فرقا كثيرة ويجمع الكل أنه حق عليهم إرشاد وإفتاء المستفتين ونصح الطالبين وإظهار العلم كم علما ألجمه الله بلجام من نار وأن لا يقصدوا بالعلم الرياء والمباهاة والسمعة ولا يجعلوه سبيلا إلى الدنيا فإن الدنيا أقل من ذلك وأقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخستها وكدورتها وانصرامها وعظم الاخرة ودوامها وصفاءها وحق الحق أني لاعجب من عالم يجعل علمه سبيلا إلى حطام الدنيا وهو يرى كثيرا تنال بالجهل فما بالنا نشتريها بأنفس الاشياء وهو العلم فينبغي أن يقصد به وجه الله تعالى والترقي إلى جوار الملأ الأعلى انتهى ملخصا والإفادة أفضل من العبادة ولا بد له من النية ليكون ذلك ابتغاء لمرضات الله تعالى وإرشاد عباده ولا يريد بذلك زيادة جاه وحرمه ولا يطلب على إفادته أجرا اقتداء بصاحب الشرع {صلى الله عليه وسلم} ومن بلغ رشده في العلم ينبغي أن يبث إليه حقائق العلوم وإلا فحفظ العلم وإمساكه عمن لا يكون أهلا له أولى به شعر
سأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقي
ولا أنثر الدر النفيس على الغلم
فمن منح الجهال علما أضاعه
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} واضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب رواه ابن ماجه أي يحدث من لا يفهمه أو من يريد منه عرضا دنيويا أو من لا يتعلمه لله تعالى كذا في المرقاة
فائدة أخرى
(1/16)
كانت العرب في صدر الإسلام لا تعتي بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها وبصناعة الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم لحاجة الناس طرا إليها وذلك منهم صونا لقواعد الاسلام وعقائد أهله عن تطرق الخلل من علوم الأوائل قبل الرسوخ والأحكام حتى يروى أنهم أحرقوا ما وجدوا من الكتب في فتوحات البلاد وقد ورد النهي عن النظر في التوراة والانجيل لاتحاد الكلمة واجتماعها على الأخذ والعمل بكتاب الله وسنة رسوله {صلى الله عليه وسلم} واستمر ذلك إلى اخر عصر التابعين ثم حدث اختلاف الاراء وانتشار المذاهب والأهواء فآل الأمر إلى التدوين والتحصين وكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان لخلوص عقيدتهم ببركة صحبة النبي {صلى الله عليه وسلم} وقرب العهد اليه ولقة الاختلاف والواقعات وتمكنهم من المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين علم الشرائع والأحكام حتى أن بعضهم كره كتارة العلم كابن عباس رضي الله عنه لكن لما انتشر الاسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة في الأقطار وحدثت الفنن واختلاف الراء وكثرت الفتاوي والرجوع إلى الكبراء أخذوا في تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن واشتغلوا بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبهة بأجوبتها وتعيين الأوضاع والاصطلاحات وتبيين المذاهب والاختلافات وكان ذلك مصلحة عظيمة وفكرة في الصواب مستقيمة فرأوا ذلك مستحبا بل واجبا لقضية الإيجاب المذكور في القول المأثور العلم صيد والكتابة قيد وما كتب قر وما لم يكتب فر
(1/17)
ثم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة المنورة وعبد الله بن وهب بمصر ومعمر وعبد الرزاق باليمن وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصبرة وهشيم بواسط وعبد الله بن مبارك بخراسان وكان مطمح نظرهم بالتدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما ولما اتسع ملك الملة الاسلامية ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلا فحدثت فيه الملكات وتشوقوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالمترجمة إلى علومهم وبعيت تلك الكتب والدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب واحتاج القائمون بالعلم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها
ولأول من عني بعلوم الأوائل الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع عبد الله المأمون بن الرشيد تمم ما بدأ به جده فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه فداخل ملوك الروم وسألهم وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب الحكماء وأحضر لها مهرة المترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن فنفقت له سوق العلم وقامت دولة الحكمة في عصره
فائدة أخرى
ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقا ولا وجه لانكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الاعصار ولله در القائل في نظمه نظم
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا
ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثا
وسيبقى هذا الحديث قديما
(1/18)
كيف ونتائج الأفكار لا تقف عند حد وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ليس له إنقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين قال {صلى الله عليه وسلم} مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره رواه البغوي في المصابيح عن أنس وقال أمتي أمة مباركة لا يدري أولها خير أو آخرها وقال ابن عبد ربه في العقد إني رأيت آخر طبقة واضعب كل حكمة ومؤلفي كل أدب أهذب لفظا وأسهل لغة وأحكم مذاهب وأوضح طريقة من الأول لأنه ناقص متعقب والأول باديء متقدم انتهي قال الشاعر
وإني وإن كنت الأخير زمانة لآت بما لم تستطعه الأوائل
ولا غرو في هذا فرب حديث تقدم على قديم وسبق وإن تأخر فالرجال معادن ولكل زمان محاسن والخواطر موارد لا تنزح والأفكار مصابيح لا تطفى ء والأفهام مرايا لا تتناهي صورها والعقول سحائب لا ينفذ مطرها والمعالي غير متناهية والفضائل غير متوارية وأم الليالي ولود والفضل في كل حين مشهود وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء
فائدة أخرى
(1/19)
حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم وذلك من الغريب الواقع لأن علماء الملة الإسلامية في العلوم الشرعية والعقلية أكثرهم العجم إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال البداوة وإنما أحكام الشريعة كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما نقلوه من صاحب الشرع وأصحابه والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتدوين ولا دعتهم إليه حاجة إلى آخر عصر التابعين وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله القراء فهم قراء كتاب الله سبحانه وتعالى والسنة المأثورة التي هي في غالب مواردها تفسير له وشرح فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الرواة ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها كقوانين العربية وقوانين الاستنباط والقياس والذب عن العقائد بالأدلة فصارت هذه الأمور كلها علوما محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع والعرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية والحضر هم العجم أو من في معناهم لأن أهل الحواضر تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي والزجاج كلهم عجم في أنسابهم اكتسبوا اللسان العربي بمخالطة العرب وصيروه قوانين لمن بعدهم وكذلك حملة الحديث وحفاظه أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة وكان علماء أصول الفقه كلهم عجما وكذلك حملة أهل الكلام وأكثر المفسرين ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة(1/20)
وخرجوا إليها عن
البداوة فشغلهم الرئاسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم لكونه من جملة الصنائع والرؤساء يستنكفون عن الصنائع وأما العلوم العقلية فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركها العرب فلم يحملها إلا المستعربون من العجم فائدة أخرى
العلوم الشرعية كثيرة وهي علم التفسير وعلم القراءة وعلم الحديث وعلم الفقه وعلم الكلام وعلم العقائد وغيرها وفروع هذه العلوم وأفضلها رتبة وأكملها شرافة وأعظهما نفعا علم الحديث والقرآن والنظر فيهما لا بد أن يتقدمه العلوم العربية لأنه متوقف عليها وهي علم اللغة والنحو والبيان ونحو ذلك وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وإن كانت كل ملة لا بد فيها من مثل ذلك فهي مشاركة لها من حيث أنها علوم الشريعة وأما على الخصوص فمباينة لجميع الملل لأنها ناسخة لها وكل ما قبلها من علوم الملل فمهجورة والنظر فيها محظور وإن كان في الكتب المنزلة غير القرآن كما ورد النهي عن النظر في التوراة والإنجيل ثم إن هذه العلوم الشرعية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد فيه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا فوقها وحدثت الاصطلاحات ورتبت الفنون وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه ووضاع يستفاد منهم التعليم واختص المشرق من ذلك والمغرب بما هو مشهور منها وكتب العلم كثيرة لاختلاف أغراض المصنفين في الوضع والتأليف وقد دون أسماء تدويناتهم صاحب كشف الظنون على وجه الاستقصاء ولعمري إنه أجدى من تفاريق العصا فائدة أخرى
المؤلفون المعتبرة تصانيفهم فريقان
الأول من له في العلم ملكة تامة ودراية كاملة وتجارب وثيقة
وحدس صائب وفهم ثاقب فتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي وهؤلاء أحسنو إلى الناس كما أحسن الله تعالى إليهم وهذا لا يستغنى عنه أحد
(1/21)
والثاني من له ذهن ثاقب وعبارة طلقة طالع الكتب فاستخرج دررها ومارس الصحف فأحسن نظمها وهذا ينتفع به المبتدؤن والمتوسطون ومنهم من جمع وصنف للاستفادة للإفادة فلا حجر عليه بل يرغب إليه إذا تأهل فإن العلماء قالوا ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه إذا احتاج الناس إليه بتوضيح عبارته كي يكسبه جميل الذكر وتخليده إلى آخر الدهر والتعقب على الكتب سهل بالنسبة إلى تأليفها ووضعها وترصيفها كما يشاهد في الأبنية العظيمة والهياكل القديمة حيث يعترض على بانيها من عرى في فنه عن القوى والقدر بحيث لا يقدر على وضع حجر على حجر
وقد كتب القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني إلى العماد الأصفهاني معتذرا عن كلام استدركه عليه أنه وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا وها أنا أخبرك به وذلك أني رأيت أنه لا يكتب إنسانا كتابا في يومه إلا قال في غده لو غير هذا لكان أحسن لو زيد هذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر وهذه الفوائد قد التقطتها من مقدمة كتاب كشف الظنون وغيره من كتب الفنون وإن كانت قليلة المناسبة بفن الرسالة ووضع هذه المقالة نظم
خرجت من شيء إلى غيره
كذلك الفاضل إذا ينسخ
يكتب هذا ثم هذا وذا
لعله في قلبه يرسخ
فائدة أخرى
أخذ الناس اليوم يزهدون في العلم وينتفرون منه ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة وجمع الشمل أخرى وبقلة الرغبات فيه وكثرة
الخوض فيما لا يعنيه إلى أن كاد يرتفع جملة وكذا شأن سائر الصنائع والدول فإنها تبتديء قليلا قليلا ولا يزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاد النسيان شعر
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام
(1/22)
والحق أن أعظم الأسباب في رواج العلم وكساده هو رغبة الملوك في كل عصر وعدم رغبتهم فإنا لله وإنا إليه راجعون سيما على ذهاب علم الدين والإسلام من الحديث والتفسير اللذين عليهما مدار العقائد والأحكام وقد مال أهل العصر عن شاكلة الصواب وانخدعوا بلامع السراب واقتنعوا من العلوم بالقشر عن اللباب
قال الغزالي أدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وقد شغر عنهم الزمان ولم يبق إلا المترسمون وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان واستغواهم الطغيان وأصبح كل واحد منهم يعاجل حظه مشغوفا فصار يرى المعروف منكرا والمنكر معروفا حتى ظل علم الدين مندرسا ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمسا ولقد خيلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين ثم القضاة على فصل الخصام عند تهارش الطغام أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام أو سجع مزخرف يتوسل به الواعظ إلى استدراج العوام إذ لم يروا ما سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام
فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا فقد أصبح من بين الخلق مطويا وصار نسيا منسيا ولعمري إنه لا سبب لإصرارك على النكير إلا الداء الذي عم الجم الغفير بل شمل الجماهير من القصور عن ملاحظة ذروة هذا الأمر والجهل بأن الأمر إد والخط جد والآخرة مقبلة والدنيا مدبرة والأجل قريب والسفر بعيد والزاد طفيف والخطر عظيم والطريق سد وما سوى الخالص لوجه الله
من العلم والعمل عند الناقد البصير رد وسلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكد انتهى
ولقد أنصف الذهبي في قوله ) وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( وأما اليوم فما بقي من هذه العلوم القليلة أيضا إلا القليل في أناس قليل وما أقل من يعمل منهم بذلك القليل فحسبنا الله ونعم الوكيل انتهى
(1/23)
ولقد روينا عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي {صلى الله عليه وسلم} شيئا فقال ذاك عند أو أن ذهاب العلم قلت يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه ابناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة فقال ثكلتك أمك زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أوليس هذا اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما رواه أحمد وابن ماجه وروى الترمذي نحوه وكذا الدارمي عن أبي أمامة
وعن علي كرم الله وجهه في الجنة قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى علماؤهم شر من تحت أديم السماء من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود رواه البيهقي في شعب الإيمان فيا للمسلمين ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق نظم
يا أسفي من فراق قوم
هم المصابيح والحصون
والمدن والمزن والرواسي
والخير والدين والسكون
لم تتغير لنا الليالي
حتى توفتهم المنون
بعدهم العيش ليس يصفو
كيف وقد جفت العيون
فكل جمر لنا قلوب
وكل ماء لنا عيون(1/24)
الفصل الثاني في شرف علم الحديث وفضيلة المحدثين
اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها وعمدة المناهج اليقينية ورأسها ومبنى شرائع الإسلام وأساسها ومستند الروايات الفقهية كلها ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها وأسوة جملة الأحكام وأسها وقاعدة جميع العقائد وأسطقسها وسماء العبادات وقطب مدارها ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر وهو ملاك كل نهي وأمر ولولاه لقال من شاء ما شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه يملك من العلوم النواصي ويقرب من أطرافها البعيد القاصي ومن لم يرضع من دره ولم يخض في بحره ولم يقتطف من زهره ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى مالم يعلم كيف وهو كلام رسول الله {صلى الله عليه وسلم} والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين وقد أوتى جوامع الكلم وسواطع الحكم من عند رب العالمين فكلامه أشرف الكلم وأفضلها وأجمع الحكم وأكملها كما قيل كلام الملوك ملك الكلام وهو تلو كلام الله تعالى العلام وثاني أدلة الأحكام فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها تتوقف على بيانه {صلى الله عليه وسلم} فإنها مالم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم لا يعتمد عليها ولا تصار(1/25)
إليها فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومأخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار وما كان زيفا غير جيد عند ذلك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان فهي مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير من انقاد لها فقد رشد واهتدى وأوتي الخير الكثير ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير فإنه {صلى الله عليه وسلم} نهى وأمر وأنذر وبشر وضرب الأمثال وذكر وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر وقد ارتبط بها أتباعه {صلى الله عليه وسلم} الذي هو ملاك سعادة الدارين والحياة الأبدية بلامين كيف وما الحق إلا فيما قاله {صلى الله عليه وسلم} أو عمل به أو قرره أو أشار إليه أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب والعمل العمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ( فيا له من علم سيط بدمه الحق والهدى ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى
وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين عليه السلام يقول إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة وهذا علم تعطى مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله {صلى الله عليه وسلم} ومشاهدة أوضاعه في العبادات
(1/26)
والعادات كلها وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان وإليه أشار القائل بقوله
أهل الحديث هم أهل النبي وإن
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ويروى عن بعض الصلحاء أنه قال أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فالحاصل أن أهل الحديث كثر الله تعالى سوادهم ورفع عمادهم لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي {صلى الله عليه وسلم} لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلا عن الناس أجمعين لأنهم الذين لا تزال تجري ذكر صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم ولم يبرح تمثال جماله الكريم وخيال وجهه الوسيم ونور حديثه المستبين يتردد في حلق وسط جنانهم فعلاقة باطنهم بباطنه العلى متصلة ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة فهم أهل المواليد حقا عدلا وصدقا فأكرم بهم من كرام يشاهدون عظمة المسمى حين يذكر الاسم ويصلون عليه كل لمحة ولحظة بأحسن الحد والرسم خاضوا في بحار العلوم المحمدية حتى صاروا محو المعلوم وخدموا الأحاديث الأحمدية إلى أن عادوا عين المخدوم فأولئك كما قيل بالفارسية
ذات من نقش خيال خوش تست
من مكر خود صفت ذات توام
نقش انديشة من جملة زتست
كوئي الفاظ وعبارات توام
قال الشيخ أحمد القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري في فضيلة أهل الحديث روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نضر الله أمرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه رواه الشافعي والبيهقي وكذا أبو داود والترمذي بلفظ نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع وقال الترمذي حسن صحيح
(1/27)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال في حجة الوداع نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فرب حامل فقه ليس بفقيه رواه البزار باسناد حسن وابن حبان في صحيحه من حديث زيد بن ثابت وكذا روي من حديث معاذ بن جبل ونعمان ابن بشير وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي قرصافة وغيرهم من الصحابة وبعض أسانيدهم صحيح كما قاله المنذري
وعن أبي عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اللهم إرحم خلفائي قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك قال الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس رواه الطبراني في الأوسط ولا ريب أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فمن قام بذلك كان خليفة لمن يبلغ عنه وكما لا يليق بالأنبياء أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السنن أن يمنحها صديقه ويمنعها عدوه فعلى العالم بالسنة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث فقد أمر النبي {صلى الله عليه وسلم} بالتبليغ عنه حيث قال وبلغوا عني ولو آية الحديث رواه البخاري قال المظهري أي بلغوا أحاديثي ولو كانت قليلة
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله بلغني أن العلماء يسألون عن تبليغهم العلم كما يسأل الأنبياء عليهم السلام
وقال سفيان الثوري لا أعلم علما أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام لأنه فرض كفاية
وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها
(1/28)
ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر لكن يمكن أن يقوى بتعدد طرقه ويكون حسنا كما جزم به ابن كيكلدي العلائي وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية وتعظيم لهذه الأمة المحمدية وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها
وقال النووي في أول تهذيبه هذا إخبار منه {صلى الله عليه وسلم} بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه وإن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف لا يضيع وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر وهكذا وقع ولله الحمد وهذا من أعلام النبوة ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئا من علم الحديث فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئا انتهى على أنه قد يقال ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم حقيقة لعدم عملهم كما أشار إليه المولى سعد الدين التفتازاني في تقرير قول التلخيص وقد ينزل العالم منزلة الجاهل وصرح به الإمام الشافعي في قوله ولا العلم إلا مع التقي ولا العقل إلا مع الأدب ولعمري إن هذا الشأن من أقوى أركان الدين وأوثق عرى اليقين لا يرغب في نشره إلا صادق تقي ولا يزهده إلا منافق شقي
قال ابن القطان ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث
وقال الحاكم لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال العلم ثلاثة آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما سوى ذلك فهو فضل رواه أبو داود وابن ماجة ولله در أبي بكر حميد القرطبي فلقد أحسن في المقال حيث قال نظم
نور الحديث مبين فادن واقتبس
وأخذ الركاب له نحو الرضى الندس
واطلبه بالصين فهو العلم إن رفعت
أعلامه برباها يا ابن أندلس
(1/29)
فلا تضع في سوى تقييد شارده
عمرا يفوتك بين اللخط والنفس
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل
شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر
ولا أتت عن أبي هر ولا أنس
إلا هوى وخصومات ملفقة
ليست برطب إذا عدت ولا يبس
فلا يغرك من أربابها هذر
أجدى وجدك منها نغمة الجرس
أعرهم أذنا صما إذا نطقوا
وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر
يجلو بنور هداه كل ملتبس
نور لملتبس خير لمقتبس
حمى لمحترس نعمى لمبتئس
فاعكف ببابهما على طلابهما
تمحو العمى بهما عن كل ملتمس
ورد بقلبك عذبا من حياضهما
تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
واقف النبي واتباع النبي وكن
من هديهم أبدا تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم
واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واسلك طريقهم واتبع فريقهم
تكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة إن تلمم بساحتها
فحط رحلك قد عوفيت من تعس
ومن شرف أهل الحديث ما رويناه من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة قال الترمذي حسن غريب وفي سنده موسى بن يعقوب الزمعي قال الدارقطني إنه تفرد به وقال ابن حبان في صحيحه في هذا الحديث بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله {صلى الله عليه وسلم} في القيامة أصحاب الحديث إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منها وقال غيره المخصوص بهذا الحديث نقلة الأخبار الذين يكتبون الأحاديث ويذبون عنه الكذب أناء الليل أطراف النهار
وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث قال لنا أبو نعيم
هذه منقبة شريفة تختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أكثر ما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا
(1/30)
وقال أبو اليمن ابن عساكر ليهن أهل الحديث كثرهم الله تعالى هذه البشرى فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى فإنهم أولى الناس بنبيهم {صلى الله عليه وسلم} وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات في مجالس مذاكرتهم ودروسهم فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم آمين انتهى المقصود منه ملخصا
قلت وروينا في كتاب الحاكم أبي عبدالله عن مطر الوراق في قوله تعالى ) أو أثارة من علم ( قال اسناد الحديث أي الإثارة هي الإسناد وعن مالك بن أنس في قوله تعالى ) وإنه لذكر لك ولقومك ( قال قول الرجل حدثني أبي عن جدي وقال النبي {صلى الله عليه وسلم} لا يزال الناس من أمتي منصورين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة رواه ابن ماجة سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث ما معناه قال هم أهل الحديث ولو لم يكن المحدثون تلك الطائفة المنصورة فلا أعلم من هي
وقال {صلى الله عليه وسلم} إنه سيأتي من بعدي قوم يسألونكم الحديث عني فإذا جاؤكم فالطفوا لهم وحدثوهم وقال {صلى الله عليه وسلم} سارعوا في طلب العلم فلحديث عن صادق خير من الأرض وما عليها من ذهب وفضة
وقال {صلى الله عليه وسلم} إن من أفضل الفائدة حديثا يسمعه الرجل فيحدث به أخاه
وقال سفيان الثوري الإسناد سلاح المؤمن فإذا لم يكن معه السلاح فبأي شيء يقاتل
وقال الشافعي مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل يحمل حزمة الحطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري
وقال ابن المبارك الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء
وقال داود بن علي من لم يعرف حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولم يميز بين صحيحه وسقيمه فليس بعالم
وقال ابن ذريع لكل دين فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد
وقال ابن زرمة سمعت عبدالله يقول بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد رواه مسلم
(1/31)
وقال أحمد بن سينا ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث ومن ابتدع نزعت من قلبه حلاوة الحديث قلت بل حلاوة الإيمان
وقال أبو نصر بن سلام الفقيه لا شيء أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث
وقال الحاكم من نسب إلى نوع من الإلحاد والبدع لا ينظر إلى الطائفة المنصورة إلا بعين الحقارة
وناظر رجل الشيخ أبا بكر أحمد بن إسحاق الفقيه فقال الشيخ حدثنا فلان قال الرجل إلى متى حدثنا فقال الشيخ قم يا كافر فلا يحل لك أن تدخل داري بعد هذا ثم التفت إلى أصحابه وقال ما قلت لأحد لا تدخل داري إلا لهذا
وذكر صدر الشريعة في تعديل العلوم أن مشايخ الحديث مشهورون بطول الأعمار
وذكر السبكي في طبقات الشافعية أن أبا سهل قال سمعت ابن الصلاح قال سمعت مشايخنا يقولون دليل طول عمر الرجل اشتغاله بأحاديث الرسول {صلى الله عليه وسلم} ويصدقه التجربة فإن أهل الحديث إذا تتبعت أعمارهم تجدها في غاية الطول انتهى
قلت وذلك كما يقال إن من أخذ نفسه بتعلم الحساب أول مرة يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير له ذلك خلقا ويتعود الصدق ويلازمه مذهبا وقال المولى ولي الله المحدث الدهلوي في فيوض الحرمين رأيت التشفع إليه {صلى الله عليه وسلم} بعلماء الحديث والدخول في عدادهم وبعلم الحديث وحفظه على الناس عروة وثقى وحبلا ممدودا لا ينقطع فعليك أن تكون محدثا أو متطفلا على محدث ولا خير فيما سوى ذينك فيما أرى والله أعلم
وقال في التفهيمات رأيت العلماء المحدثين العاملين بعلمهم المهذبين للطائفهم البارزة أحب عنده {صلى الله عليه وسلم} من كثير من الصوفية الذين يفضلونهم بتهذيب لطائفهم الكامنة ولا يفضلونهم في تهذيب لطائفهم البارزة انتهى
ومن قول أبي بكر بن أبي داود السجستاني رحمه الله في التحريص على علم الحديث نظم
تمسك بحبل الله واتبع الهدى
ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ولذ بكتاب الله والسنن التي
أتت عن رسول الله تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم
(1/32)
فقول رسول الله أزكى وأشرح
ولا تك في قوم تلهوا بدينهم
فتطعن في أهل الحديث وتقدح
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه
فأنت على خير تبيت وتصبح
وأحسن منه ما قال أبو محمد هبة الله بن الحسن الشيرازي نظم
عليك بأصحاب الحديث فإنهم
على منهج للدين ما زال معجما
وما النور في الحديث وأهله
إذا ما دجى الليل البهيم وأظلما
فأعلى البرايا من إلى السنن اعتزى
وأعمى البرايا من إلى البدع انتمى
ومن ترك الآثار ضلل سعيه
وهل يترك الآثار من كان مسلما
ولبعضهم ولله دره نظم
علم الحديث وسيلة مقبولة
عند النبي الهاشمي محمد
فاشغل به أوقاتك البيض التي
ملكتها تشرف بذاك وتسعد
ومن قول الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي كما رواه السيد المرتضى الزبيدي المصري بسنده إليه نظم
واظب على جمع الحديث وكتبه
واجهد على تصحيحه في كتبه
واسمعه من أربابه نقلا كما
سمعوه من أشياخهم تسعد به
واعرف ثقاة رواته من غيرهم
كيما تميز صدقه من كذبه
فهو المفسر للكتاب وإنما
نطق النبي لنا به عن ربه
وتفهم الأخبار تعرف حله
من حرمة مع فرضه من ندبه
وهو المبين للعباد بشرحه
سير النبي المصطفى مع صحبه
وتتبع العالي الصحيح فإنه
قرب إلى الرحمان تحظ بقربه
وتجنب التصحيف فيه فربما
أدى إلى تحريفه بل قلبه
واترك مقالة من لحاك بجهله
عن كتبه أو بدعة في قلبه
فكفى المحدث رفعة أن يرتضي
ويعد من أهل الحديث وحزبه
وللشيخ جلال الدين السيوطي أورده السيد المرتضى في المجالس الحنفية بسنده إليه نظم
علم الحديث أجل علم الدين
وبه علو المرء في الدارين
كالماء محياة النفوس مطهر
للقلب لا يعروه شين الرين
فاعكف عليه رواية وكتابة
واطلب معاليه ولو بالصين
يكفيه فضلا ذكره للمصطفى
في كل وقت قد مضى والحين
خيرو البرية سيد الرسل الذي
جلت محاسنه عن التدوين
ذو المعجزات الباهرات وحدها
قد زاد عن ألف وعن ألفين
فالماء سال من إصبعيعه أنهرا
والبدر شق من أجله نصفين
(1/33)
أكرم به من مصطفى فحديثه
يشفي العليل وذكره يحييني
صلى عليه وسلم الله الذي
قد خصه في الخبر بالتمكين
مادام ذكر حديثه ولآلي
في مدحه منظومة السمطين
وأنشد السيد المرتضى الحسيني لنفسه في أماليه الشيخونية نظم
عليك بأصحاب الحديث فإنهم
خيار عباد الله في كل محفل
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم
نجوم الهدى في أعين المتأمل
جهابذة شم سراة فمن أتى
إلى حيهم يوما بالأنوار يمتلي
لقد شرقت شمس الهدى في وجوههم
وقدرهم في الناس لا زال يعتلي
فلله محياهم معا ومماتهم
لقد ظفروا إدراك مجد مؤثل
وقال الإمام الشافعي مقالة
غدت منهم فخرا لكل محصل
أرى المرء من أهل الحديث كأنه
أرى المرء من صحب النبي المفضل
عليه صلاة الله ما ذر شارق
وال له والصحب أهل التفضل
وللحافظ عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله قال أنشدني أبي رحمة الله نظم
دين النبي محمد أخبار
نعم المطية للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى
والشمس بازغة لها أنوار
ولأبي العباس نظم
عليكم بالحديث فليس شيء
يعادله على كل الجهات
نصحت لكم فإن الدين نصح
ولا أخفي نصائح واجبات
وجدنا في الرواية كل فقه
وأحكام ومن علم اللغات
بذكر المسندات أنست ليلي
وحفظ العلم خير العائدات
ومن طلب الحديث أفاد ذخرا
وفضلا ثم دينا ذا ثبات
عليكم بالروايات اللواتي
رواها مالك أزكى الرواة
وشعبة وابن زيد وابن عمرو
وسفيان الثقاة عن الثقاة
ويحيى وابن حنبل المزكى
وإسحاق الرضا وابن الفرات
أئمتنا النجوم وهل رشيد
تكلم في النجوم الزاهرات
وأنشد أبو الظهير في هذا الباب نظم
إذا رمت أن تتوخى الهدى
وأن تأتي الحق من بابه
فدع كل قول ومن قاله
لقول النبي وأصحابه
فلم تنج من محدثات الأمور
بغير الحديث وأربابه
ومن كلام الشافعي كما في الأماني الشيخونية للسيد المرتضى نظم
كل العلوم سوى القرآن مشغلة
إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا
(1/34)
وما سواه فوسواس الشياطين
ومن كلام أبي الفضل جعفر بن ثعلب الشافعي رحمه الله نظم
تباين الناس فيما قد رأوا ورووا
وكلهم يدعون الفوز بالظفر
فخذ بقول يكون النص بنصره
إما عن الله أو عن سيد البشر
وكل قول يكون النص يدفعه
فارفضه رفضا وكن منه على حذر
وللخطيب أبي بكر رحمه الله نظم
إن علم الحديث علم رجال
تركوا الإبتداع للاتباع
فإذا جن ليلهم كتبوه
وإذا أصبحوا غدوا للسماع
ومن كلام الحافظ السيوطي رحمه الله نظم
إن خفت يوم الحشر أو هوله
ورمت أن تحظى بكل المرام
فعش على سنة خير الورى
مقتفيا أهل الحديث الكرام
هم الأولى ينجوك من هوله
حين يقادون لدار السلام
ومن قول الحافظ ابن حجر العسقلاني نظم
هنيئا لأصحاب خير الورى
وطوبى لأصحاب أخباره
أولئك فازوا بتذكيره
ونحن سعدنا بتذكاره
وهم سبقونا إلى نصره
وها نحن أتباع أنصاره
ولما حرمنا لقا عينه
عكفنا على حفظ آثاره
عسى الله يجمعنا كلنا
برحمة معه في داره
ومن قول الإمام أبي عبدالله محمد بن علي الحافظ الصوري
قل لمن عاند الحديث وأضحى
عائبا أهله ومن يدعيه
أبعلم تقول هذا ابن لي
أم بجهل فالجهل خلق السفيه
إيعاب الذين حفظوا الدين
عن الترهات والتمويه
وإلى قولهم وما قد رووه
راجع كل عالم وفقيه
وللسيد المرتضى الواسطي نظم
علم الحديث شريف ليس يدركه
إلا الذي فارق الأوطان مغتربا
وجاهد النفس في تحصيله فغدا
يجتاب بحرا وفي الأوعار مضطربا
يلقى الشيوخ ويروي عنهم سندا
وحافظا ما روي عنهم وما كتبا
ذاك الذي فاز بالحسنى وتم له
حظ السعادة موهوبا ومكتسبا
طوبى لمن كان هذا العلم صاحبه
لقد نفي الله عنده الهم والوصبا
وقال المنذري أنشدنا الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي نظم
لكل امريء ما فيه راحة نفسه
فيأنس إنسان بصحبة إنسان
وما راحتي إلا حديث محمد
وأصحابه والتابعين بإحسان
ولأبي عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي نظم
زين الفقيه حديث يستضاء به
عند الحجاج وإلا كان في الظلم
(1/35)
إن تاه ذو مذهب في قفر مذهبه
لاح الحديث له في الوقت كالعلم
وقال بعضهم وأجاد نظم
أصح ما قيل بعد الذكر من خبر
حديث خير البرايا سيد البشر
أعظم به هاديا زكاه خالقه
بالعدل والفضل والآيات والسور
فلو تمسك خلق الله أجمعهم
بلفظة منه نالوا أشرف الوطر
هذا هوالعلم والبحر الذي سعدت
غواصه بأعالي جوهر الدرر
تشفي الصدور به حقا وخادمه
يوم الورود تراه فاز بالصدر
تلقى ملائكة الرحمان أجنحة
له إذا سار هذا أفخر البشر
يستغفر الله حيتان البحار لمن
يرعاه بالفهم لو وقتا من العمر
الفضل لله هذا نور من شرقت
له البشائر في الآفاق بالبشر
صلى عليه إله العرش ما صدحت
ورق على فنن الأغصان والشجر
وقال السيد المرتضى في أماليه وجدت بخط المحب محمد بن الشحنة ما نصه قال أبو الحسن الأديب إملاء نظم
مداد الفقيه على ثوبه
أحب إلينا من الغالية
ومن طلب الفقه ثم الحديث
فإن له همة عالية
ولو يشتري الناس هذا العلوم
بأرواحهم لم تكن غالية
رواة الأحاديث في عصرنا
نجوم وفي الأعصر الخالية
وللحافظ أبي القاسم ابن عساكر أنشده لنفسه نظم
لقول الشيخ أنبأني فلان
وكان من الأئمة عن فلان
إلى أن ينتهي الإسناد أحلى
لقلبي من محادثة الحسان
ومشتمل على صوت فصيح
ألذ لدي من صوت القيان
وتزييني الطروس ينقش نقش
أحب إلي من نقش الغواني
وتخريج الفوائد والأمالي
وتسطير الغرائب والحسان
وتصحيح العوال من العوالي
بنيسابور أو في أصفهان
أحب إلى من أخبار ليلى
وقيس بن الملوح والأغاني
فإن كتابة الأخبار ترقى
بصاحبها إلى غرف الجنان
وحفظ حديث خير الخلق مما
ينال به الرضا بعد الأماني
فأجر العلم ينمو كل حين
وذكر المرء يبقى وهو فان
وللشيخ أبي محمد جعفر السراج اللغوي نظم
لله در عصابة
يسعون في طلب الفوائد
يدعون أصحاب الحديث
بهم تجملت المشاهد
يتتبعون من العلوم
بكل أرض كل شارد
فهم النجوم المهتدى
بهم إلى سبل المقاصد
(1/36)
وأنشد محمد بن محمد المديني لنفسه في مجلس اسماعيل السراج يمدح أصحاب الحديث نظم
أحق أناس يستضاء بهديهم
أئمة أصحاب الحديث الأفاضل
خلائف أصحاب الحديث ذوو الحمى
لهم رتب عليا وأسنى الفضائل
فلولاهم لم يعرف الشرع عالم
ولم تك فتوى في فنون المسائل
وهل نشر الآثار قوم سواهم
نعم حفظوها ناقلا عن ناقل
فدينهم من عصبة علم الهدى
لقد أحرزوا فضلا على كل فاضل
( هو القوم لا يشقى لعمري جليسهم فمن فاتهم يحظى بغير الفضائل
وللبرقاني نظم
أعلل نفسي بكتب الحديث وأجمل فيه لهم موعدا
وأشغل نفسي بتصنيفه وتخريجه أبدا سرمدا
فطورا أصنفه في الشيوخ وطورا أصنفه مسندا
وأقفو البخاري فيما نحا
وصنفه جاهدا مجهدا
ومسلما إذ كان زين الأنام
بتصنيفه مسلما مرشدا
ومالي فيه سوى أنني
أراه هوى وافق المقصدا
وأرجو الثواب بكتب الصلاة
على السيد المصطفى أحمدا
وأسأل ربي إله العباد
جريا على ما له عودا
ولأبي عبدالله محمد بن ظفير اليروني نظم
ارع الحديث وعظم أهله أبدا
واعلم بأن لهم فيه ولآيات
إن كنت تطلبه قم فأت صاحبه
فالعلم يا سيدي يؤتى ولا يأتي
وللعلامة مجد الدين محمد بن أحمد الظهير نظم
أهل الحديث فلذ بهم
أعلى الورى قدرا وأجلا
نقلوا لنا سنن الرسول
فأحسنوا عدلا فعدلا
جابوا لسعيهم لذلك
حسبة حزنا وسهلا
وسروا كما تسري النجوم
فأرشدوا من كان ضلا
آيات فضلهم المبين
بألسن الحساد تتلى
وقال السبكي أنشدنا والدي الإمام لنفسه وأورده السيد المرتضى بسنده إليه في الأمالي الشيخونية نظم
وفي دار الحديث لطيف معنى
على بسط لها أمشي وأروي
لعلي أن أمس بحر وجهي
مكانا مسه قدم النواوي
وأنشد قاضي القضاة أمين الدين محمد بن علي بن الحسن الآلقي نظم
وفي دار الحديث لطيف معنى
وفيها منتهى أربي وسؤلي
أحاديث النبي علي تروى
وتقبيلي لآثار الرسول
وللحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين من قصيدة طويلة نظم
ولولا رواة الدين ضاعت وأصبحت
معاملة في الآخرين تبيد
(1/37)
هم حفظوا الآثار من كل شبهة
وغيرهم عما اقتنوه رقود
وهم هاجروا في جمعها وتبادروا
إلى كل أفق والمرام كؤد
وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم
قيام صحيح النقل وهو جديد
بتبليغهم صحت شرائع ديننا
حدود تحروا حفظها وعهود
وصح لأهل النقل منها احتجاجهم
فلم يبق إلا عاند وحقود
إلى غير ذلك وله نظم
كتاب الله عز وجل قولي
وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءا
وعودا فهو عن حق مبين
فدع ما صد عن هذا وخذها
تكن منها على عين اليقين
وله نظم
الناس نبت وأرباب القلوب لهم
روض وأهل الحديث الماء والزهر
من كان قول رسول الله حاكمه
فلا شهود له إلا الأولى ذكروا
ولبعض أهل العلم نظم
العلم قال الله قال رسوله
قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
بين النصوص وبين رأي سفيه
( كلا ولا نصب الخلاف جهالة بين الرسول وبين رأي فقيه )
( كلا ولا رد النصوص تعمدا
حذرا من التجسيم والتشبيه )
( حاشا النصوص من الذي رميت به من فرقة التعطيل والتمويه )
ولعبد السلام الأشبيلي نظم
( ولو لم يقم أهل الحديث بديننا فمن كان يروي علمه ويفيد )
( هم ورثوا علم النبوة واحتووا
من الفضل ما عند الأنام رقود )
( وهم كمصابيح الدجى يهتدى بهم ونارهم بعد الممات خمود )
ولابن عبد البر نظم
تذكرت من يبكي علي مداوما
فلم أر إلا العلم بالدين والخبر
علوم كتاب الله والسنن التي
أتت عن رسول الله مع صحة الأثر
وعلم الأولى من ناقديه وفهم ما
له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر
وله نظم
مقالة ذي نصح وذات فوائد
إذا من ذوي الألباب كان استماعها
عليكم باثار النبي فإنه
من أفضل أعمال الرشاد اتباعها
قال الدمياطي نظم
علم الحديث له فضل ومنقبة
نال العلاء به من كان معتنيا
ما حازه ناقص إلا وكمله
أو حازه عاطل إلا به حليا
وللسيد العلامة محمد بن اسماعيل الأمير اليماني في الثناء على من تمسك بالأحاديث من السلف نظم
سلام على أهل الحديث فإنني
نشأت على حب الأحاديث من مهدي 9
(1/38)
( هم بذلوا في حفظ سنة أحمد وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد
وأعني بهم أسلاف سنة أحمد أولئك في بيت القصيد هم قصدي
أولئك أمثال البخاري ومسلم وأحمد أهل الجد في العلم والجد
بحور أحاشيهم عن الجذر إنما لهم مد ويأتي من الله بالمد
رووا وارتووا من بحر علم محمد وليس لهم تلك المذاهب من ورد
كفاهم كتاب الله والسنة التي كفت قبلهم صحب الرسول ذوي المجد
أأنتم أهدى أم صحابة أحمد وأهل الكساهيات ما الشوك كالورد
أولئك أهدى في الطريقة منكم فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي
وشتان ما بين المقلد في الهدى ومن يقتدي والضد يعرف بالضد
فمن قلد النعمان أصبح شاربا نبيذا وفيه القول للبعض بالحد
ومن يقتدي أضحى إمام معارف
وكان أويسا في العبادة والزهد
فمقتديا في الحق كن لا مقلدا
وخل أخا التقليد في الأسر بالقد
وأقبح من كل ابتداع سمعته
وأنكاه للقلب الموفق للرشد
مذاهب منرام الخلاف لبعضها
يعض بأنياب الأساود والأسد
يصب عليه سوط ذم وغيبة
ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد
ويعزى إليه كل ما لا يقوله
لتنصيصه عند التهامي والنجد
فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية
ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد
وليس له ذنب سوى أنه غدا
يتابع قول الله في الحل والعقد
ويتبع أقوال النبي محمد
وهل غيره بالله في الشرع من يهدي
لأن عده الجهال ذنبا فحبذا
به حبذا يوم انفرادي في لحدي
علام جعلتم أيها الناس ديننا
لأربعة لا شك في فضلهم عندي
هم علماء الدين شرقا مغربا
ونور عيون الفضل والحق والزهد
ولكنهم كالناس ليس كلامهم
دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي
ولا زعموا حاشاهم أن قولهم
دليل فيستهدي به كل مستهدي
بلى صرحوا أنا نقابل قولهم
إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
الباب الأول في معرفة علم الحديث ومبدأ جمعه وتدوينه ونقلته وما يتصل بذلك وفيه فصول
الفصل الأول في معرفة علم الحديث
(1/39)
وهو علم يعرف به أقوال النبي {صلى الله عليه وسلم} وأفعاله وأحواله واندرج فيه معرفة موضوعه وأما غايته فهي الفوز بسعادة الدارين وأما استمداده فمن أقوال الرسول وأحواله {صلى الله عليه وسلم} وأما أقواله فهو الكلام العربي المبين فمن لم يعرف الكلام العربي بجاته فهو بمعزل عن هذا العلم وهي كونه حقيقة ومجازا وكناية وصريحا وعاما وخاصا ومطلقا ومقيدا ومحذوفا ومضمرا ومنطوقا ومفهوما واقتضاء وإشارة وعبارة ودلالة وتنبيها وإيماء ونحو ذلك مع كونه على قانون العربية الذي بينه النحاة بتفاصيله وعلى قواعد استعمال العرب وهو المعبر عنه بعلم اللغة وأما أفعاله فهي الأمور الصادرة عنه التي أمرنا باتباعه فيها ما لم يكن طبعا أو خاصة فموضوع علم الحديث هو ذات رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من حيث أنه رسول الله ومباديه هي ما يتوقف عليه المباحث وصفاته ومسائله هي الأشياء المقصودة منه كذا في العيني وغيرها
قلت الحديث في اصطلاح جمهور المحدثين يطلق على قول النبي {صلى الله عليه وسلم} وفعله وتقريره ومعنى التقرير أنه فعل أحد أو قال شيئا في حضرته {صلى الله عليه وسلم} ولم ينكره ولم ينه عن ذلك بل سكت وقرر وكذلك
يطلق على قول الصحابي وفعله وتقريره وعلى قول التابعي وفعله وتقريره وقال أحمد بن محمد البابلي في التحريرات البابلية على الرسالة الدلجية وبعضهم أدخل في الحد ما ورد عن صحابي أو تابعي وليس بصحيح انتهى
وهذا هو الصواب المعول عليه والخبر والحديث في المشهور بمعنى واحد وبعضهم خصوا الحديث بما جاء عن النبي {صلى الله عليه وسلم} والصحابة والتابعين والخبر بما جاء عن أخبار الملوك والسلاطين والأيام الماضية وبهذا يقال لمن يشتغل بالسنة محدث ولمن يشتغل بالتاريخ اخباري وقيل بينهما عموم وخصوص مطلق فكل حديث خبر ولا عكس وهذا أشهر والثاني وجيه والأول أوجه
(1/40)
وقال ابن الأثير في جامع الأصول علوم الشريعة تنقسم إلى فرض ونقل والفرض ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ومن أصول فروض الكفايات علم أحاديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وآثار الصحابة التي هي ثاني أدلة الأحكام وله أصول وأحكام وقواعد واصطلاحات ذكرها العلماء وشرحها المحدثون والفقهاء يحتاج طالبه إلى معرفتها والوقوف عليها بعد تقديم معرفة اللغة والاعراب اللذين هما أصل لمعرفة الحديث وغيره لورود الشريعة المطهرة على لسان العرب وتلك الأشياء كالعلم بالرجال وأساميهم وأنسابهم وأعمارهم ووقت وفاتهم والعلم بصفات الرواة وشرائطهم التي يجوز معها قبول روايتهم والعلم بمستند الرواة وكيفية أخذهم الحديث وتقسيم طرقه والعلم بلفظ الرواة وإيرادهم ما سمعوه واتصاله إلى من يأخذه عنهم وذكر مراتبه والعلم بجواز نقل الحديث بالمعنى ورواية بعضه والزيادة فيه والإضافة إليه ما ليس منه وانفراد الثقة بزيادة فيه والعلم بالمسند وشرائطه والعالي منه والنازل والعلم بالمرسل وانقسامه إلى المنقطع والموقوف والمعضل وغير ذلك لاختلاف الناس في قبوله ورده والعلم بالجرح والتعديل وجوازهما ووقوعهما وبيان طبقات المجروحين والعلم بأقسام الصحيح من الحديث والكذب وانقسام الخبر إليهما وإلى الغريب والحسن
وغيرهما والعلم بأخبار التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وغير ذلك مما توافق عليه أئمة أهل الحديث وهو بينهم متعارف فمن أتقنها أتى دار هذا العلم من بابها وأحاط بها من جميع جهاتها ويقدر ما يفوته منها تنزل درجته وتنحط رتبته إلا أن معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ وإن تعلقت بعلم الحديث لكن المحدث لا يفتقر إليه لأن ذلك من وظيفة الفقيه لأنه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفة التواتر والآحاد والناسخ والمنسوخ فأما المحدث فوظيفته أن ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث كما سمعه فإن تصدى لما رواه فزيادة في الفضل انتهى كلام ابن الأثير
(1/41)
ثم الحديث متن وسند فالمتن هو ألفاظ الحديث التي يقوم بها المعنى وهو أعم من أن يكون قول الرسول {صلى الله عليه وسلم} أو الصحابي أو التابعي وفعلهم وتقريرهم فالسند إخبار عن طريق المتن وهو رجاله الذين رووه والإسناد هو رفع الحديث إلى قائله وهما متقاربان في معنى اعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليهما وقد يجيء الإسناد بمعنى ذكر السند والحكاية عن طريق المتن والمتن ما انتهى إلى الإسناد ومتن الحديث نفسه لا يدخل في الاعتبار أي في البحث عن أحواله عند أرباب الحديث إلا نادرا بل يكتسب صفة من القوة والضعف وبين بين بحسب أوصاف الرواة من العدالة والضبط والحفظ وخلافها وبين ذلك أو بحسب الإسناد من الاتصال والانقطاع والإرسال والاضطراب ونحوها من الشذوذ والموقوفية
فالحديث على هذا ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف إذا نظر إلى المتن وأما إذا نظر إلى أوصاف الرواة فقيل هو ثقة عدل ضابط أو غير ثقة أو متهم أو مجهول أو كذوب أو نحو ذلك فيكون البحث عن الجرح والتعديل وإذا نظر الى كيفية أخذهم وطرق تحملهم الحديث كان البحث عن أوصاف الطالب وإذا بحث عن أسمائهم وأنسابهم كان البحث عن تعيينهم وتشخيص ذواتهم كذا قال السيد الشريف
قال ابن خلدون في كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ومن عينه
نقلت اعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبها لهذا العهد بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها تنزلها أئمة الحديث وجهابذته وعرفوها ولم يبق طريق في تصحيح ما يصح من قبل
ولقد كان الأئمة في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها بحيث لو روي حديث بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه ولقد وقع مثل ذلك للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال لا أعرف هذه ولكني حدثني فلان ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح ورد كل متن إلى سنده وأقروا له بالإمامة
(1/42)
وقد انقطع لهذا العهد تخريج شيء من الأحاديث واستدراكها على المتقدمين إذ العادة تشهد بأن هؤلاء الأئمة على تعددهم وتلاحق عصورهم وكفايتهم واجتهادهم لم يكونوا ليغفلوا شيئا من السنة أو يتركوه حتى يعثر عليه المتأخر وهذا بعيد عنهم وإنما تنصرف العناية لهذا العهد إلى تصحيح الأمهات المكتوبة وضبطها بالرواية عن مصنفها والنظر في أسانيدها إلى مؤلفها وعرض ذلك على ما تقرر في علم الحديث من الشروط والأحكام لتتصل الأسانيد محكمة إلى منتهاها ولم يزيدوا في ذلك على العناية بأكثر من هذه الأمهات الخمسة إلا في القليل انتهى
قال السيوطي في الجامع الصغير سميته جمع الجوامع وقصدت فيه جميع الأحاديث النبوية بأسرها انتهى قال شارحه العزيزي أي جميعها
قال المناوي وهذا بحسب ما اطلع عليه المصنف لا باعتبار ما في نفس الأمر انتهى
قال ابن الجوزي حصر الأحاديث يبعد امكانه غير أن جماعة بالغوا في تتبعها وحصروها
قال الإمام أحمد صح سبعمائة ألف وكسر وقال قد جمعت
في المسند أحاديث انتخبتها من أكثر سبعمائة ألف وخمسين ألفا فما اختلفتم فيه فارجعوا إليه وما لم تجدوا فيه فليس بحجة
قال السيد الشريف المراد بهذه الأعداد الطرق لا المتون
وقال أبو المكارم علي بن شهاب الصديقي الظاهر أن هذا القول موضوع على الإمام أحمد لأن في الكتب الصحيحة من الأحاديث ما لم يوجد في المسند مع الإجماع على صحتها
الفصل الثاني في مبدأ جمع الحديث وتأليفه وانتشاره
(1/43)
فإنه لما كان من أصول الفروض وجب الاعتناء به والاهتمام بضبطه وحفظه ولذك يسر الله سبحانه وتعالى للعلماء الثقات الذين أحفظوا قوانينه وأحاطوا فيه فيناقلوه كابرا عن كابر وأوصله كما سمعه أول إلى آخر وحببه الله تعالى لهم لحكمة حفظ دينه وحراسة شريعته فلم يزل هذا العلم من عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} غض طري والدين محكم الأساس قوي أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين خلفا بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى إلا بقدر ما يحفظ منه ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث فتوفرت الرغبات فيه فما زال لهم من لدن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى أن انقطعت الهمم على تعلمه حتى لقد كان أحدهم يرحل إلى المراحل ذوات العدد ويفني الأموال والعدد ويقطع الفيافي والمفاوز ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد ليسمعه من راوية فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته ومنهم من يقرن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه وإما لعلو إسناده فانبعثت العزائم إلى تحصيله وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضبط في القلوب غير ملتفتين إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العلم كحفظهم كتاب الله سبحانه وتعالى ولا معولين على ما يسطرونه وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم
(1/44)
فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة في الأقطار وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة وتفرق أصحابهم وأتباعهم وقل الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل أن يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري إنها الأصل فإن الخاطر يغفل والقلم يحفظ فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وأجابوا في نظم قلائده أفكارهم وأنفقوا في تحصيله أعمارهم واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها ودونوا دواوين ظهرت شفوفها فاتخذها العالمون قدوة ونصبها العارفون قبلة فجزاهم الله سبحانه وتعالى عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمته وأحبار ملته
وكان أول من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز خوف إندراسه كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم أن أنظر ما كان من حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أو سنته فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصفهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق أنظروا إلى حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاجمعوه وعلقه البخاري في صحيحه فيستفاد منه كما قال الحافظ ابن حجر ابتداء تدوين الحديث النبوي
وقال الهروي في ذم الكلام ولم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظا ويأخذونها لفظا إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت أمر عبد العزيز أبا بكر محمد بن حزم فيما كتب إليه أن أنظر ماكان من سنة أوحديث فاكتبه
وفي هدي الساري مقدمة فتح الباري أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعد بن أبي عروبة وغيرهما وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة وزمن
(1/45)
جماعة من الأئمة مثل عبد الملك بن جريج ومالك بن أنس وغيرهما فدونوا الحديث حتى قيل إن أول كتاب صنف في الإسلام كتاب ابن جريج وقيل موطأ مالك وقيل أول من صنف وبوب الربيع ابن صبيح بالبصرة
وقال القسطلاني صنف مالك الموطأ بالمدينة وعبد الملك بن جريج بمكة وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام وسفيان الثوري بالكوفة وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كل على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه انتهى
وانتشر جمع الحديث وتدوينه وتسطيره في الأجزاء والكتب وكثر ذلك وعظم نفعه إلى زمن الإمامين العظيمين أبي عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري فدونا كتابيهما وأثبتا فيهما من الأحاديث ما قطعا بصحته وثبت عندهما نقله وسيما الصحيحين من الحديث ولقد صدقا فيما قالا والله مجازيهما عليه ولذلك رزقهما الله تعالى حسن القبول شرقا وغربا ثم ازداد انتشار هذا النوع من التصنيف وكثر في الأيدي وتفرقت أغراض الناس وتنوعت مقاصدهم إلى أن انقرض ذلك العصر الذي قد اجتمعوا واتفقوا فيه مثل أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي ومثل أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي وغيرهم فكان ذلك العصر خلاصة العصور في تحصيل هذا العلم وإليه المنتهى كذا في كشف الظنون
وقال ابن خلدون وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفا شمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها وكتب مالك كتاب الموطأ أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيدها المختلفة وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين وقد يقع الحديث أيضا في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها
وجاء محمد بن اسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج
(1/46)
أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال أنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب
ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري فألف مسنده الصحيح حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله وقد استدرك الناس عليهما في ذلك
ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي في السنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح كما هو معروف وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماما للسنة والعمل وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة فإنها وإن تعددت ترجع إلى هذه في الأغلب ومعرفة هذه الشروط الاصطلاحات كلها هي علم الحديث وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فنا برأسه وكذا الغريب وللناس فيه تأليف مشهوره انتهى
ثم نقص ذلك الطلب وقل الحرص وفترت الهمم وكذلك كل نوع من أنواع العلوم والصنائع والدول وغيرها فإنه يبتدئ قليلا قليلا ولا يزال ينمو ويزيد إلى أن يصل إلى غاية هي منتهاه ثم لا يعود وكان غاية هذا العلم انتهت إلى البخاري ومسلم ومن كان في عصرهما ثم نزل وتقاصر إلى ما شاء الله تعالى حتى لا يوجد اليوم ممن يعلم الحديث واحد في الجمع الجم من الناس وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الناس كالأبل المائة لا تكاد توجد فيها راحة وإنما هم كحفالة الشعير فإنا لله وإنا إليه راجعون
الفصل الثالث في اختلاف الأغراض في تصانيف علم الحديث
(1/47)
اعلم أن هذا العلم على شرفه وعلو منزلته كان علما عزيزا مشكل اللفظ والمعنى ولذلك كان الناس في تصانيفهم مختلفي الأغراض فمنهم من قصر همته على تدوين الحديث مطلقا ليحفظ لفظه ويستنبط منه الحكم كما فعله عبد الله بن موسى الضبي وأبو داود الطيالسي وغيرهما أولا وثانيا أحمد بن حنبل ومن بعده فإنهم أثبتوا الأحاديث من مسانيد رواتها فيذكرون مسند أبي بكر الصديق ويثبتون فيه كل ما رووه عنهم ثم يذكرون بعده الصحابة واحدا بعد واحد على هذا النسق
قال القسطلاني فمنهم من رتب على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع وأبي خيثمة والحسن بن سفيان وأبي بكر البزار وغيرهم انتهى
ومنهم من يثبت الأحاديث في الأماكن التي هي دليل عليها فيضعون لكل حديث بابا يختص به فإن كان في معنى الصلاة ذكروه في باب الصلاة وإن كان في معنى الزكاة ذكروه فيها كما فعل مالك في الموطأ إلا أنه لقلة ما فيه من الأحاديث قلت أبوابه ثم اقتدى به من بعده فلما انتهى الأمر إلى زمن البخاري ومسلم وكثرت الأحاديث المودعة في كتابيهما واقتدى بهما من جاء بعدهما وهذا النوع أسهل مطلبا من الأول لأن الإنسان قد يعرف المعنى وإن كم يعرف راوية بل ربما لا يحتاج إلى معرفة راويه فإذا أراد حديثا يتعلق بالصلاة طلبه من كتاب الصلاة لأن الحديث إذا أورد في كتاب الصلاة علم الناظر أن ذلك الحديث هو دليل ذلك الحكم فلا يحتاج إلى أن يفكر فيه بخلاف الأول
ومنهم من استخرج أحاديث تتضمن ألفاظا لغوية ومعاني مشكلة
فوضع لها كتابا قصره على ذكر متن الحديث وشرح غريبه وإعرابه ومعناه ولم يتعرض لذكر الأحكام كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة وغيرهما
ومنهم من رتب على العلل بأن يجمع في كل متن طرقه واختلاف الرواة فيه بحيث يتضح ارسال ما يكون متصلا أووقف ما يكون مرفوعا أو غير ذلك
(1/48)
ومنهم من قصد الى استخراج أحاديث تتضمن ترغيبا وترهيبا وأحاديث تتضمن أحكاما شرعية غير جامعة فدونها وأخرج متونها وحدها كما فعله أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في المصابيح واللؤلؤي في المشكاة وغير هؤلاء فإنهما حذفا الإسناد واقتصرا على المتن فقط
ومنهم من أضاف إلى هذا الاختيار ذكر الأحكام وآراء الفقهاء مثل أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي في معالم السنن وأعلام السنن ومنهم من قصد ذكر الغريب دون المتن من الحديث واستخرج الكلمات الغريبة ودونها ورتبها وشرحها كما فعل أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي الباشاني م 401 وغيره من العلماء
وبالجملة فقد كثرت في هذا الشأن التصانيف وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف واتسعت دائرة الرواية في المشارق والمغارب واستنارت مناهج السنة لكل طالب ولكن لما كان أولئك الأعلام هم السابقون فيه لم يأت صنيعهم على أكمل الأوضاع فإن غرضهم كان أولا حفظ الحديث مطلقا وإثباته ودفع الكذب عنه والنظر في طرقه وحفظ رجاله وتزكيتهم واعتبار أحوالهم والتفتيش عن أمورهم حتى قدحوا وجرحوا وعدلوا وأخذوا وتركوا هذا بعد الاحتياط والضبط والتدبر فكان هذا مقصدهم الأكبر وغرضهم الأول ولم يتسع الزمان لهم والعمر لأكثر من هذا الغرض الأعم والمهم الأعظم ولا رأوا في أيامهم أن يشتغلوا بغيره من لوازم هذا الفن التي هي كالتوابع بل
ولا يجوز لهم ذلك فإن الواجب أولا إثبات الذات ثم ترتيب الصفات والأصل إنما هو عين الحديث ثم ترتيبه وتحسين وضعه ففعلوا ما هو الغرض المتعين واخترمتهم المنايا قبل الفراغ والتخلي لما فعله التابعون لهم والمقتدون بهم فتعبوا الراحة من بعدهم
(1/49)
ثم جاء الخلف الصالح فأحبوا أن يظهروا تلك الفضيلة ويشيعوا تلك العلوم التي أفنوا أعمارهم في جمعها إما بإبداع ترتيب أو بزيادة تهذيب أو اختصار أو تقريب أو استنباط حكم أو شرح غريب فمن هؤلاء المتأخرين من جمع بين كتب الأولين بنوع التصرف والاختصار كمن جمع بين كتابي البخاري ومسلم مثل أبي بكر أحمد بن محمد الرماني وأبي مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمقشي وأبي عبدالله محمد الحميدي فإنهم رتبوا على المسانيد دون الأبواب كما سبق وتلاهم أبو الحسن رزين بن معاوية العبدي فجمع بين كتب البخاري ومسلم والموطأ لمالك وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي ورتب على الأبواب إلا أن هؤلاء أودعوا متون الحديث عارية من الشرح وكان كتاب رزين أكبرها وأعمها حيث حوى هذه الكتب الستة التي هي أم كتب الحديث وأشهرها وبأحاديثها أخذ العلماء واستدل الفقهاء وأثبتوا الأحكام ومصنفوها أشهر علماء الحديث وأكثرهم حفظا وإليهم المنتهى
وتلاه الإمام أبو السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري فجمع بين كتابي رزين وبين الأصول الستة بتهذيبه وترتيب أبوابه وتسهيل مطلبه وشرح غريبه في جامع الأصول فكان أجمع ماجمع فيه
ثم جاء الحافظ جلال الدين السيوطي فجمع بين الكتب الستة والمسانيد العشرة وغيرها في جمع الجوامع فكان أعظم بكثير من جامع الأصول من جهة المتون إلا أنه لم يبال بما صنع فيه من جمع الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة وكان أول ما بدأ به هؤلاء المتأخرون أنهم حذفوا الأسانيد اكتفاء بذكر من روى الحديث من الصحابي إن كان خبرا وبذكر من يرويه عن الصحابي إن كان أثرا والرمز
إلى المخرج لأن الغرض ممن ذكر الأسانيد كان أولا إثبات الحديث وتصحيحه وهذه كانت وظيفة الأولين وقد كفوا تلك المؤنة فلا حاجة بهم إلى ذكر ما فرغوا منه كذا في كشف الظنون
الفصل الرابع في أنواع كتب الحديث كثر الله سوادها
(1/50)
ذكر المولى عبد العزيز المحدث الدهلوي في العجالة النافعة ما نصه بالعربية إن كتب الحديث لها طرق متنوعة كالجوامع والجامع في اصطلاح المحدثين ما يوجد فيه جميع أقسام الحديث أي أحاديث العقائد وأحاديث الأحكام وأحاديث الرقاق وأحاديث آداب الأكل والشرب وأحاديث السفر والقيام والقعود والأحاديث المتعلقة بالتفسير والتاريخ والسير وأحاديث الفتن وأحاديث المناقب والمثالب وقد صنف علماء الحديث في كل فن من هذه الفنون الثمانية تصانيف مفردة
القسم الأول من المصنفات في الأحاديث
فأحاديث العقائد منها تسمى علم التوحيد وفيه كتاب التوحيد لأبي بكر بن خزيمة وكتاب الأسماء والصفات للبيهقي الأحكام
وأحاديث الأحكام من كتاب الطهارة إلى كتاب الوصايا على ترتيب الفقه تسمى سننا والكتب المصنفة فيها أكثر من أن تحصر
قلت وذكرت قسطا منها في كتابي المسمى ب جنان المتقين ذيل بستان المحدثين انتهى الرقاق
وأحاديث الرقاق تسمى علم السلوك والزهد وفيه كتاب الزهد للإمام أحمد وعبدالله بن المبارك وجماعة أخرى
الآداب
وأحاديث الآداب يقال لها علم الأدب وللبخاري فيه كتاب مبسوط موسوم ب الأدب المفرد التفسير
والأحاديث المتعلقة بالتفسير تسمى علم التفسير كتفسير ابن مردويه وتفسير الديلمي وتفسير ابن جرير فإنها من مشاهير تفاسير الحديث وكتاب الدر المنثور يجمعها كلها التواريخ والسير
وأما أحاديث التواريخ والسير فهي قسمان قسم يتعلق بخلق السماء والأرض والحيوانات والجن والشياطين والملائكة والأنبياء الماضين والأمم السابقين ويسمى بدء الخلق وقسم يتعلق بوجود النبي {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه الكرام وآله العظام من بدء ولادته إلى وفاته ويسمى سيرة كسيرة ابن اسحاق وسيرة ابن هشام وسيرة ملا عمر والكتب المصنفة في هذا الباب أيضا كثيرة جدا
(1/51)
قلت وجملتها مذكورة في كشف الظنون انتهى وكتاب روضة الأحباب للسيد جمال الدين المحدث أحسن السير لكن إن تيسرت نسخة صحيحة منه خالية عن الإلحاق والتحريف ومدارج النبوة للشيخ عبد الحق الدهلوي والسيرة الشامية والمواهب اللدنية من مبسوطات السير الفتن
وأحاديث الفتن تسمى علم الفتن وفيه كتاب الفتن لنعيم بن حماد وهو طويل عريض جدا أورد فيه كل رطب ويابس ومصنفات أخرى للآخرين
المناقب والمثالب
وأحاديث المناقب والمثالب تسمى علم المناقب وفيها أيضا تصانيف عديدة متنوعة وقد أفرز بعض المحدثين مناقب بعضهم عن بعض سيما مناقب الآل والأصحاب لغرض تعلق به كمناقب قريش ومناقب الأنصار ومناقب العشرة المبشرة المسماة ب الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى وحلية الكميت في مناقب أهل البيت والديباج في مناقب الأزواج وصنفت كتب كثيرة في مناقب الخلفاء الراشدين ك القول الصواب في مناقب عمر بن الخطاب والقول الجلي في مناقب علي وللنسائي رسالة طويلة الذيل في مناقبه كرم الله وجهه وعليها نال الشهادة في دمشق من أيدي نواصب الشام لفرط تعصبهم وعداوتهم معه رضي الله عنه الجامع
فالجامع ما يوجد فيه أنموذج كل فن من هذه الفنون المذكورة كالجامع الصحيح للبخاري والجامع للترمذي وأما صحيح مسلم فإنه وإن كانت فيه أحاديث تلك الفنون لكن ليس فيه ما يتعلق بفن التفسير والقراءة ولهذا لا يقال له الجامع كما يقال لأختيه
قلت ولكن أورده صاحب كشف الظنون في حرف الجيم وعبر عنه بالجامع وكذا غيره في غيره من أهل الحديث وقال المجد صاحب القاموس عند ختمه لصحيح مسلم ع قرأت بحمد الله جامع مسلم الخ
القسم الثاني من المصنفات في الحديث المسانيد
(1/52)
والمسند في اصطلاحهم ذكر الأحاديث على ترتيب الصحابة رضي الله عنهم بحيث يوافق حروف الهجاء أو يوافق السوابق الإسلامية أو يوافق شرافة النسب فإن جمع على حروف التهجي فالأحاديث المروية عن أبي بكر الصديق رضي الله تقدم عنه وكذا أحاديث أسامة
ابن زيد وأنس بن مالك ونحوهما على أحاديث الصحابة الأخر وإن جمع على السوابق الإسلامية فتقدم العشرة المبشرة بالجنة وتذكر أحاديث الخلفاء الراشدين على الترتيب ثم أحاديث أهل بدر وأهل الحديبية ثم مسلمة الفتح ثم أحاديث النسوة الصحابيات وتقدم الأزواج المطهرات على كلهن ولم تقع رواية الحديث عن البنات الطاهرات إلا القدر اليسير من سيدة النساء لأنهن متن في حياة النبي {صلى الله عليه وسلم} وماتت سيدة النساء بعده بستة أشهر ولم تجد رضي الله عنها فرصة الرواية وإن جمع على القبائل والأنساب فنكتب أولا مسانيد بني هاشم خصوصا الحسن والحسين وعلي المرتضى ثم أحاديث القبائل التي هي الأقرباء منه {صلى الله عليه وسلم} في النسب وحينئذ تقدم مرويات عثمان ذي النورين على أحاديث أبي بكر الصديق وأحاديث الصديق وطلحة بن عبيد الله على أحاديث عمر بن الخطاب وقس البواقي على هذا
والقسم الثالث منها المعجم
والمعجم في اصطلاح المحدثين ما تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ سواء يعتبر تقدم وفاة الشيخ أم توافق حروف التهجي أو الفضيلة أو التقدم في العلم والتقوى ولكن الغالب هو الترتيب على حروف الهجاء ومن هذا القسم المعاجم الثلاثة للطبراني
قلت والمشيخات في معنى المعاجم إلا أن المعاجم يرتب المشايخ فيها على حروف المعجم في أسمائهم بخلاف المشيخات قاله الحافظ ابن حجر كذا في ثبت شيخ شيوخنا محمد عابد السندي المدني رحمه الله
والقسم الرابع منها الأجزاء
والجزء في اصطلاحهم تأليف الأحاديث المروية عن رجل واحد سواء كان ذلك الرجل في طبقة الصحابة أو من بعدهم كجزء حديث أبي بكر وجزء حديث مالك وقس عليه
(1/53)
قلت وقد استوعبها صاحب كشف الظنون وأوردت طرفا منها في جنان المتقين انتهى وهذا القسم أيضا كثير جدا
وقد يختارون من المطالب الثمانية المذكورة في صفة الجامع مطلبا جزئيا ويصنفون فيه مبسوطا كما صنف أبو بكر بن أبي الدنيا في باب النية وذم الدنيا كتابين مبسوطين والآجري في باب رؤية الله وعلى هذا القياس صنفت كتب كثيرة في جزئيات تلك المطالب الثمانية بحيث لا تطيق الطاقة البشرية إحصاءها وللشيخ ابن حجر والسيوطي يد طولى في تأليف الرسائل
والقسم الآخر منها أربعون حديثا
وهو يجمع في باب واحد أو أبواب شتى بسند واحد أو أسانيد متعددة وهو أيضا كثير جدا كما يسمع ويرى فالحاصل أن أقسام التصانيف في علم الحديث ترجع إلى هذه الأنواع الستة المذكورة ويقال للرسائل الكتب أيضا انتهى ما في العجالة
قلت وليس هذا على طريق الحصر فإن من أقسامها أيضا الأفراد والغرائب وهو في اصطلاحهم عبارة عن الأحاديث التي تكون عند شيخ ولا تكون عند آخر ككتاب الأفراد للدارقطني
ومنها السنن وهو الكتاب المرتب على أبواب الفقه من الإيمان والطهارة والصلاة والصيام إلى آخرها كسنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرها
ومنها المستخرج وهو ما استخرج لإثبات أحاديث كتاب آخر مع رعاية ترتيبه ومتونه وطرق إسناده وينتهي سنده إلى شيخ ذلك المصنف أو شيخ شيخه وهلم جرا بحيث لا يحول المصنف بينه وبين هذا السند وفائدته زيادة الاعتماد والوثوق على روايات ذلك المصنف من جهة كون الطرق الأخرى لهذه الأحاديث كمستخرج أبي عوانه ويقال له الصحيح أيضا لأنه زاد طرقا أخرى على طرق صحيح مسلم وأسانيده وقليلا من المتن أيضا فكأنه في نفسه كتاب مستقل وقد انتقى منه الذهبي ثلاثين ومائتي حديث وهو المشهور بمنتقى الذهبي وكذلك المستدرك وهو استدراك ما فات من كتاب آخر على
شريطته كمستدرك الحاكم أبي عبدالله النيسابوري وغيرها وجملتها مذكورة في كشف الظنون ثم في جنان المتقين
(1/54)
الفصل الخامس في ذكر نقلة الحديث من أهل الاجتهاد والحديث
اعلم أن أحوال نقلة الحديث في عصور السلف من الصحابة والتابعين كانت معروفة عند كل أهل بلدة فمنهم بالحجاز ومنهم بالبصرة والكوفة من العراق ومنهم بالشام ومصر والجميع معروفون مشهورون في أعصارهم قيل وهم ثلاثون رجلا كما أوردهم الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث وكانت طريقة أهل الحجاز في أعصارهم في الأسنايد أعلى ممن سواهم وأمتن في الصحة لاستبدادهم في شروط النقل من العدالة والضبط وتجافيهم عن قبول المجهول الحال في ذلك وسند الطريقة الحجازية بعد السلف الإمام مالك عالم المدينة ثم أصحابه مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وأمثالهم
قال الشاه ولي الله المحدث الدهلوي في الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ثم أنشأ الله تعالى قرنا آخر فرأوا أصحابهم قد كفوا مؤنة جمع الأحاديث وتمهيد الفقه على هذا الأصل فتفرغوا لفنون أخرى كتمييز الحديث الصحيح المجمع عليه من كبراء أهل الحديث كيزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطان وأحمد وإسحاق وأحزابهم وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم وكالحكم على كل حديث بما يستحقه وكالشاذة والفاذة من الأحاديث التي لم يرووها أو طرقها التي يخرج من اجتهاد الأوائل مما فيه اتصال أو علو سند أو رواية فقيه أو حافظ عن حافظ ونحو ذلك من المطالب العالية وهؤلاء هم البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب
والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم وكان أو سعهم علما عندي وأنفعهم تصنيفا وأشهرهم ذكرا رجالا أربعة متقاربين في العصر
أولهم أبو عبد الله البخاري وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة عن غيرها واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها فصنف جامعه الصحيح فوفى بما شرط ونال من الشهرة والقبول درجة لا ترام فوقها
(1/55)
قلت وفي كتاب العبر لابن خلدون وأما البخاري وهو أعلاها رتبة فاستصعب الناس شرحه واستغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديث في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها ومن شرحه ولم يستوف هذا فيه فلم يوف حق الشرح كابن بطال وابن المهلب وابن التين ونحوهم ولقد سمعت كثيرا من المشايخ رحمهم الله تعالى يقولون شرح كتاب البخاري دين على الأمة يعنون أن أحدا من علماء الأمة لم يوف ما يجب له من الشرح بهذا الاعتبار انتهى
وقال المصطفى الشهير بحاجي خليفة في كشف الظنون لعل ذلك الدين قضى بشرح المحقق ابن حجر العسقلاني والعيني بعد ذلك انتهى
قلت ولذلك لما قيل لشيخ شيوخنا الكاملين مولانا محمد بن علي بن محمد الشوكاني أما تشرح الجامع للبخاري كما شرحه الآخرون من العلماء قال لا هجرة بعد الفتح يعني به فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني ولا يخفى ما فيه من اللطف انتهى
وثانيهم مسلم النيسابوري كان غرضه تجريد الصحاح الجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة مما يستنبط منه السنة وأراد تقريبها
إلى الأذهان وتسهيل الاستنباط منها فرتب ترتيبا جيدا وجمع كل طرق حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون وجمع بين المختلفات فلم يدع لمن له معرفة بلسان العرب قدرا في الإعراض عن السنة إلى غيرها
(1/56)
قلت وفي كتاب العبر لابن خلدون وأما صحيح مسلم فكثرت عناية علماء المغرب به وأكبوا عليه وأجمعوا على تفضيله على كتاب البخاري من غير الصحيح مما لم يكن على شرطه وأكثر ما وقع له في التراجم وأملي الإمام المارزي من فقهاء المالكية عليه شرحا وسماه المعلم بفوائد مسلم اشتمل على عيون من علم الحديث وفنون من الفقه ثم أكمله القاضي عياض من بعده وتممه وسماه إكمال المعلم وتلاهما محي الدين النووي بشرح استوفى ما في الكتابين وزاد عليهما فجاء شرحا وافيا
قلت وسيأتي ذكر هذه الشروح وغيرها في الباب الرابع إن شاء الله تعالى
وثالثهم أبو داود السجستاني وكان همه جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم وبنى عليه الأحكام علماء الأمصار فصنف سننه وجمع فيها الصحيح والحسن واللين الصالح للعمل قال أبو داود وما ذكرت في كتابي حديثا أجمع الناس على تركه وما كان منها ضعيفا صرح بضعفه وما كان فيه علة بينها بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن وترجم على كل حديث لما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب ولذلك صرح الغزالي بأنه كتاب كاف للمجتهد
ورابعهم أبو عيسى الترمذي وكان استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أبهما وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب فجمع كلتا الطريقتين وزاد عليها بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار فجمع كتابا جامعا واختصر طريق الحديث اختصارا لطيفا فذكر واحدا وأومئ إلى ما عداه وبين أمر كل حديث من أنه
صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر وبين وجهه ليكون الطالب على بصيرة من أمره فيعرف ما يصح للاعتبار عما دونه وذكر أنه مستفيض أو غريب وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار وسمى من يحتاج إلى التسمية وكنى من يحتاج إلى الكنية فلم يدع خفاء لمن هو من رجال العلم وكذلك يقال أنه كاف للمجتهد مغن للمقلد انتهى ما في الأنصاف مع ضم الضميمة
(1/57)
قال ابن خلدون وأما كتب السنن الأخرى وفيها معظم مأخذ الفقهاء فأكثر شرحها في كتب الفقه إلا ما يختص بعلم الحديث فكتب الناس عليها واستوفوا من ذلك ما يحتاج إليه من علم الحديث وموضوعاتها والأسانيد التي اشتملت على الأحاديث المعمول بها من السنة وصل
واعلم أيضا أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة والإقلال فأبو حنيفة رحمه الله يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثا أو نحوها ومالك رحمه الله إنما صح عنده ما في كتاب
(1/58)
الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث ونحوها وأحمد بن حنبل في مسنده خمسون ألف حديث ولكل ما أداه اجتهاده في ذلك وقد تقول بعض المبغضين المتعسفين إلى أن منهم من كان قليل البضاعة في الحديث فلهذا قلت روايته ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة ومن كان قليل البضاعة من الحديث فيتعين عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك ليأخذ الدين عن أصول صحيحة ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلغ لها وإنما قلل منهم من قلل الرواية لأجل المطاعن التي تعترضه فيها والعلل التي تعترض في طرقها سيما والجرح مقدم عند الأكثر فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض مثل ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد ويكثر ذلك فتقل روايته لضعف في الطرق هذا مع أن أهل الحجاز أكثر رواية للحديث من أهل العراق لأن المدينة دار الهجرة ومأوى الصحابة ومن انتقل منهم إلى العراق كان شغلهم بالجهاد أكثر والإمام أبو حنيفة إنما قلت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي وقلت من أجلها روايته فقل حديثه لا أنه ترك رواية الحديث متعمدا فحاشاه من ذلك ويدل على أنه من كبار المجتهدين في علم الحديث اعتماد مذهبه بينهم والتعويل عليه واعتباره ردا وقبولا وأما غيره من المحدثين وهم الجمهور فتوسعوا في الشروط وكثر حديثهم والكل عن اجتهاد وقد توسع أصحابه من بعده في الشروط وكثرت رواياتهم
وروى الطحاوي فأكثر وكتب مسنده وهو جليل القدر إلا أنه لا يعدل الصحيحين لأن الشروط التي اعتمدها البخاري ومسلم في
(1/59)
كتابيهما مجمع عليها بين الأمة كما قالوه وشروط الطحاوي غير متفق عليها كالرواية عن المستور الحال وغيره فلذا قدم الصحيحان بل وكتب السنن المرفوعة عليه لتأخر شرطه عن شروطهم ومن أجل هذا قيل في الصحيحين بالإجماع على قبولهما من جهة الإجماع على صحة ما فيهما من الشروط المتفق عليها فلا تأخذك ريبة في ذلك فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم والتماس المخارج الصحيحة لهم والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور انتهى كلام ابن خلدون
وقال الجلال السيوطي وقفت على فتيا رفعت إلى الحافظ الولي العراقي صورتها هل روى أبو حنيفة عن أحد من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وهل يعد في التابعين أم لا فأجاب بما نصه الإمام أبو حنيفة لم تصح روايته عن أحد من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وقد رأى أنس بن مالك فمن يكتفي في التابعي بمجرد رؤية الصحابة يجعله تابعيا ومن لا يكتفي بذلك لا يعده تابعيا ورفع هذا السؤال إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني فأجاب بما نصه أدرك الإمام أبو حنيفة جماعة من الصحابة لأنه ولد بالكوفة سنة ثمانين من الهجرة وبها يومئذ من الصحابة عبدالله بن أبي أوفى فإنه مات بعد ذلك بالاتفاق وبالبصرة يومئذ أنس بن مالك ومات سنة تسعين أو بعدها
وقد أورد ابن سعد بسند لا بأس به أن أبا حنيفة رأى أنسا وكان غير هذين من الصحابة أحياء في البلاد وقد جمع بعضهم جزءا فيما ورد من رواية أبي حنيفة عن الصحابة لكن لا يخلو إسناده من ضعف والمعتمد على إدراكه ما تقدم وعلى رؤيته لبعض الصحابة ما أورده ابن سعد في الطبقات فهو بهذا الاعتبار من طبقة التابعين ولم يثبت ذلك لأحد من أئمة الأمصار المعاصرين له كالأوزاعي بالشام والحمادين بالبصرة والثوري بالكوفة ومالك بالمدينة ومسلم بن خالد الزنجي بمكة والليث بن سعد بمصر انتهى
وقال السخاوي في شرحه لألفية العراقي المعتمد أنه لا رواية له عن أحد من الصحابة انتهى
(1/60)
وقال ابن حجر المكي في شرح المشكاة أدرك الإمام الأعظم ثمانية من الصحابة منهم أنس وعبدالله بن أبي أوفى وسهل بن سعد وأبو الطفيل انتهى
وقال الكردري جماعة من المحدثين أنكروا ملاقاته مع الصحابة وأصحابه أثبتوه بالأسانيد الصحاح الحسان وهم أعرف بأحواله منهم والمثبت العدل أولى من النافي وقد جمعوا مسنداته فبلغت خمسين حديثا يرويها الإمام عن الصحابة الكرام وإلى هذا أشار الإمام بقوله ما جاءنا عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فعلى الرأس والعين وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال لأنه ممن زاحم التابعين في الفتوى اللهم إذا كان التابعي يزاحم في الفتوى الصحابي فإنه يقلد ذلك التابعي كما يقلد الصحابي وهذا سبب صالح لتقديم مذهبه على سائر المذاهب
(1/61)
وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي في بستان المحدثين ما نصه بالعربية إعلم أنه ليس اليوم في أيدي الناس من تصانيف الأئمة الأربعة غير موطأ مالك وأما مسانيد غيره من الأئمة المشهورة في العلم فهي ليست من تأليفهم لأنهم لم يصنفوها بأنفسهم بل الذين جاءوا من بعدهم جمعوا رواياتهم وسموها مسند الفلاني والعاقل ليس يخفى عليه أن مرويات الرجل لا تخلو عن رطب ويابس ولا تكون محلا للاعتماد حتى يميزها هو بنفسه أو يطالعها بإمعان النظر والتعمق ويعلم تلامذته كمسند الإمام الأعظم الذي ألفه قاضي القضاة أبو المؤيد محمد بن محمود بن محمد الخوارزمي وروجه في سنة أربع وسبعين وستمائه وجمع فيه على زعمه جميع مسانيد أبي حنيفة التي جمعت من قبل فنسبة هذا المسند إليه كنسبة مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه من مسند الإمام أحمد بن حنبل إليه على اعتقاد أنه من تأليف سيدنا أبي بكر الصديق وإن هذا إلا مغلطة وكذا مسند الإمام الشافعي فإنه عبارة عن أحاديث مرفوعة رواها الشافعي عند تلامذته فجمعت هي على حدة مما وقع في ضمن كتاب الأم والمبسوط من مسموعات أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم من ربيع بن سليمان وسمي ب مسند الشافعي نعم مسند الإمام
أحمد بن حنبل من تصانيفه وإن كان فيه زيادات كثيرة من ابنه عبد الله ومن أبي بكر القطيعي الراوي له من عبدالله
الباب الثاني في فروع علم الحديث وذكر الكتب المصنفة فيها
وفيه فصول
الفصل الأول في علم الحديث رواية
وهو علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الحديث برسول الله {صلى الله عليه وسلم} من حيث الصحة والضعف ومن أحوال رواتها ضبطا وعدالة وأحوال رجالها جرحا وتعديلا ومن حيث كيفية السند اتصالا وانقطاعا وغير ذلك وقد اشتهر بأصول الحديث(1/62)
وقال الباجوري في حاشيته على الشمائل المحمدية أنهم عرفوا علم الحديث رواية بأنه علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} قيل أو إلى صحابي أو إلى من دونه قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة وموضوعه ذات النبي {صلى الله عليه وسلم} من حيث أنه نبي لا من حيث أنه إنسان مثلا وواضعه أصحابه {صلى الله عليه وسلم} الذين تصدوا لضبط أقواله وأفعاله وتقرراته وصفاته وغايته الفز بسعادة الدارين ومسائلة قضاياه التي تذكر ضمنا كقولك قال {صلى الله عليه وسلم} إنما الأعمال بالنيات فإنه متضمن لقضية قائلة إنما الأعمال بالنيات من أقواله {صلى الله عليه وسلم} واسمه علم الحديث رواية ونسبته أنه من العلوم الشرعية وهي الفقه والتفسير والحديث وفضله أن له شرفا عظيما من حيث أنه تعرف به كيفية الاقتداء به {صلى الله عليه وسلم} وحكمه الوجوب العيني على من انفرد والكفائي على من
تعدد واستمداده من أقوال النبي {صلى الله عليه وسلم} وأفعاله وتقريره وهمه وأوصافه الخلقية وأخلاقه المرضية فهذه هي المبادئ العشرة
الفصل الثاني في علم الحديث دراية
وهو المراد عند الإطلاق وهو علم يعرف به حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد وما يتبع ذلك وموضوعه الراوي والمروي من الحيثية المذكورة وغايته معرفة ما يقبل وما يرد من ذلك ومسائله ما يذكر في كتبه من المقاصد كقولك كل حديث صحيح يقبل وواضعه ابن شهاب الزهري في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره وقد أمر أتباعه بعد فناء العلماء العارفين بالحديث بجمعه ولولاه لضاع الحديث واسمه علم الحديث دراية وبقية المبادئ العشرة تعلم مما تقدم لأنه قد شارك فيه النوع الثاني الأول كذا في حاشية الباجوري
(1/63)
وفي كشف الظنون العلم بدراية الحديث علم باحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث وعن المراد منها مبنيا على قواعد العربية وضوابط الشريعة مطابقا لأحوال النبي {صلى الله عليه وسلم} وموضوعه أحاديث الرسول {صلى الله عليه وسلم} من حيث دلالتها على المعنى المفهوم أو المراد وغايته التحلي بالآداب النبوية والتخلي عما يكرهه وينهاه ومنفعته أعظم المنافع كما لا يخفى على المتأمل ومباديه العلوم العربية كلها ومعرفة القصص والأخبار المتعلقة بالنبي {صلى الله عليه وسلم} ومعرفة الأصلين والفقيه وغير ذلك كذا في مفتاح السعادة والصواب ما ذكر في الفوائد إذ الحديث أعم من القول والفعل والتقدير كما حقق في محله
الفصل الثالث في علم ناسخ الحديث ومنسوخه
قال ابن خلدون في كتاب العبر وذلك بما ثبت في شريعتنا من جواز النسخ ووقوعه لطفا من الله بعباده وتخفيفا عنهم باعتبار مصالحهم التي
تكفل لهم بها قال تعالى ) ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ( فإذا تعارض الخبران بالنفي والإثبات وتعذر الجمع بينهما ببعض التأويل وعلم تقدم أحدهما تعين أن المتأخر ناسخ ومعرفة الناسخ والمنسوخ من أهم علوم الحديث وأصعبها
قال الزهري أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من منسوخه وكان للشافعي رضي الله عنه فيه قدم راسخة
(1/64)
قال الملا كاتب الجلبي في كشف الظنون علم ناسخ الحديث ومنسوخه ألف فيه جمع كثير منهم أبو محمد القاسم بن أصبغ القرطبي النحوي المتوفى سنة أربعين وثلاثمائة وأبو بكر محمد بن عثمان المعروف بالجعد الشيباني أحد أصحاب ابن كيسان وأحمد بن اسحاق الأنباري المتوفى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة وأبو جعفر أحمد بن محمد النحاس النحوي المتوفى سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وأبو بكر بن محمد بن موسى الحازمي الهمداني المتوفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة وأبو القاسم هبة الله بن سلامة النحوي المتوفى سنة عشرة وأربعمائة وأبو حفص عمر بن شاهين البغدادي الواعظ المتوفى سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وقد اختصر كتاب ابن شاهين ابراهيم بن علي المعروف بابن عبد الحق في مجلد وتوفي سنة أربع وأربعين وسبعمائة وللإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري فيه كتاب وألف محمد بن بحر الأصبهاني المتوفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فيه كتابا أيضا
الفصل الرابع في علم النظر في الأسانيد
وهو معرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بوقوعه على السند الكامل الشروط لأن العمل إنما وجب بما يغلب على الظن صدقه من أخبار الرسول {صلى الله عليه وسلم} فيجتهد في الطرق التي تحصل ذلك الظن وهو بمعرفة رواة
(1/65)
الحديث بالعدالة والضبط وإنما يثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بتعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة ويكون لنا ذلك دليلا على القبول أو الترك وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم في ذلك وتمييزهم فيه واحدا واحدا وكذلك الأسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها بأن يكون الراوي لم يلق الراوي الذي نقل عنه وبسلامتها من العلل الموهنة لها وتنتهي بالتفاوت إلى طرفين فحكم بقبول الأعلى ورد الأسفل ويختلف في المتوسط بحسب المنقول عن أئمة الشأن ولهم في ذلك ألفاظ اصطلحوا على وضعها لهذه المراتب المرتبة مثل الصحيح والحسن والضعيف والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والغريب وغير ذلك من ألقابه المتداولة بينهم وبوبوا على كل واحد منها ونقلوا ما فيه من الخلاف لأئمة اللسان أو الوفاق ثم النظر في كيفية أخذ الرواة بعضهم عن بعض بقراءة أو كتابة أو مناولة أو إجازة وتفاوت رتبها وما للعلماء في ذلك من الخلاف بالقبول والرد ثم أتبعوا ذلك بكلام في ألفاظ تقع في متون الحديث من غريب أو مشكل أو تصحيف أومفترق منها أو مختلف وما يناسب ذلك
هذا معظم ما ينظر فيه أهل الحديث وغالبه وقد ألف الناس في الحديث وأكثروا ومن فحول علمائه وأئمتهم أبو عبدالله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه وأشهر كتاب للمتأخرين فيه كتاب أبي عمرو بن الصلاح كان لعهد أوائل المائة السابعة وتلاه محيى الدين النووي بمثل ذلك والفن شريف في معزاه لأنه معرفة ما يحفظ به السنن المنقولة عن صاحب الشريعة هكذا في كتاب العبر لابن خلدون
الفصل الخامس في علم الثقاة والضعفاء من رواة الحديث
وهو من أجل نوع وأفخمه من أنواع علم أسماء الرجال فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه وإلى الاحتياط في أمور الدين وتمييز مواقع الغلط والخطأ في بدء الأصل الأعظم الذي عليه مبنى الإسلام وأساس الشريعة وللحفاظ فيه تصانيف كثيرة
(1/66)
منها ما أفرد في الثقاة ككتاب الثقاة للإمام الحافظ أبي حاتم محمد ابن حيان البستي المتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وكتاب الثقاة مما لم يقع في الكتب الستة للشيخ زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة وهو كبير في أربع مجلدات وكتاب الثقاة لخليل بن شاهين وكتاب الثقاة للعجلي
ومنها ما أفرد في الضعفاء ككتاب الضعفاء للبخاري وكتاب الضعفاء للنسائي وكتاب الضعفاء لمحمد بن عمرو العقيلي المتوفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
ومنها ما جمع بينهما كتأريخ البخاري وتأريخ ابن أبي خيثمة قال ابن الصلاح وما أغزر فوائده وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
وقال صاحب كشف الظنون صنف في علم الضعفاء والمتروكين في رواة الحديث الإمام محمد البخاري المتوفي سنة ست وخمسين ومائتين يرويه عنه أبو بشر محمد بن حماد الدولابي وأبو جعفر شيخ بن سعيد وآدم بن موسى الخبازي وهو من تصانيفه الموجودة قاله ابن حجر والإمام عبد الرحمن بن أحمد النسائي والإمام حسن بن محمد الصغائي وأبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي المتوفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة
قال الذهبي في ميزان الاعتدال أنه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق وقد اختصره ثم ذيله كما قال وذيله أيضا علاء الدين مغلطاي ابن قليج المتوفي سنة اثنتين وستين وسبعمائة وصنف فيه علاء الدين علي بن عثمان المارديني المتوفي سنة خمس وسبعمائة وصنف فيه محمد ابن حيان البستي ووضع له مقدمة قسم فيها الرواة إلى نحو عشرين قسما ذكره البقاعي في حاشية الألفية
الفصل السادس في علم تلفيق الحديث
وهو علم يبحث فيه عن التوفيق بين الأحاديث المتنافية ظاهرا إما بتخصيص العام تارة أو بتقييد المطلق أخرى أو بالحمل على تعدد الحادثة إلى غير ذلك من وجوه التأويل وكثيرا ما يورده شراح الحديث أثناء شروحهم إلا أن بعضا من العلماء قد اعتنى بذلك فدونوه على حدة ذكره المولى أبو الخير من فروع علم الحديث
(1/67)
الفصل السابع في علم الجرح والتعديل
وهو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ وهذا العلم من فروع علم رجال الأحاديث ولم يذكره أحد من أصحاب الموضوعات مع أنه فرع عظيم والكلام في الرجال جرحا وتعديلا ثابت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وجوز ذلك تورعا وصونا للشريعة لاطعنا في الناس وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال وبهما يتميز صحيح الحديث وضعيفه فيجب على المتكلم التثبت فيهما فقد أخطأ غير واحد في تجريحهم بما لا يجرح ولهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في ذلك
قال مسلم في صحيحه وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الحظ إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن الصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها وأقلها أو أكثرها
أكاذيب لا أصل لها انتهى وأول من عنى بذلك من الأئمة الحفاظ شعبة ابن الحجاج ثم تبعه يحيى بن سعيد
قال الذهبي في ميزان الاعتدال أول من جمع ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان وتكلم فيه بعده تلامذته يحيى ابن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وعمرو بن علي الفلاس وأبو خيثمة زهير وتلامذتهم كأبي زرعة وأبي حاتم والبخاري ومسلم وأبي إسحاق الجوزجاني والنسائي وابن خزيمة والترمذي والدولابي والعقيلي وابن عدي وأبي الفتح الأزدي والدارقطني والحاكم إلى غير ذلك
(1/68)
وفي كشف الظنون ومن الكتب المصنفة فيه كتاب الجرح والتعديل لأبي الحسن أحمد بن عبدالله العجلي الكوفي نزيل طرابلس المغرب المتوفي سنة إحدى وستين ومائتين وكتاب الجرح والتعديل للإمام الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وهو كتاب كبير أوله الحمد لله رب العالمين بجميع محامده كلها الخ ذكر فيه أنه لم يجد سبيلا إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله سبحانه وتعالى ولا من سنن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلا من جهة النقل والرواية وجب أن يميز بين العدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الحديث الكاذب والكذب انتهى والكامل لابن عدي وهو أكمل الكتب فيه وميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي وهو أجمع ما جمع ولسان الميزان للشيخ ابن حجر العسقلاني
ولألفاظ التعديل مراتب أعلاها ثقة أو متقن أو ضابط أو حجة ثانيها خير صدوق مأمون لا بأس به وهؤلاء يكتب حديثهم ثالثها شيخ وهذا يكتب حديثه للاعتبار وابعها صالح الحديث فيكتب وينظر فيه
ولألفاظ التجريح أيضا مراتب أدناها لين الحديث يكتب وينظر اعتبارا ثانيها ليس بقوي وليس بذاك ثالثها مقارب الحديث أي رديه رابعها متروك الحديث وكذاب ووضاع ودجال وواه وواه
بموحدة مكسورة فميم مفتوحة وراء مشددة أي قولا واحدا لا تردد فيه وهؤلاء ساقطون لا يكتب عنهم
قال السيد الشريف أعرض الناس في هذه الأعصار عن مجموع الشروط المذكورة واكتفوا من عدالة الراوي بأن يكون مستورا ومن ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخطه موثوق به وروايته من أصل موافق لأصل شيخه وذلك لأن الحديث الصحيح والحسن وغيرهما قد جمعت في كتب الأئمة فلا يذهب شيء منه عن جمعهم انتهى
(1/69)
قلت وتفصيله أن من شرط الراوي للحديث أن يكون مسلما عاقلا بالغا سليما من أسباب الفسق وخوارم المروة مكلفا عدلا متقنا ويعرف إتقانه بموافقة الثقاة ولا تضر مخالفة النادر ويقبل الجرح ان بان سببه للاختلاف فيما يوجب الجرح بخلاف التعديل فلا يشترط والضبط أن يكون متيقظا حافظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء فإن حدث عن حفظه ينبغي أن يكون حافظا وإن حدث عن كتابه ينبغي أن يكون ضابطا له وإن حدث بالمعنى ينبغي أن يكون عارفا بما يختل بها المعنى ولا يشترط الذكورة ولا الحرية ولا العلم بفقهه وغريبه ولا البصر ولا العدد وتعرف العلالة بتنصيص عدلين عليهما أو بالاستفاضة ويعرف الضبط بأن يعتبر روايته بروايات الثقاة المعروفين بالضبط فإن وافقهم غالبا وكانت مخالفته لهم نادرة عرف كونه ضابطا ثبتا كما قال السيد الشريف رواية العدل عمن سماه لا تكون تعديلا وقيل إن كانت عادته أن لا يروي إلا عن عدل كالشيخين فتعديل وإلا فلا ولا يقبل مجهول العدالة وكذا مجهول العين الذي لم تعرفه العلماء وترفع الجهالة عند رواية اثنين مشهورين بالعلم
قال القسطلاني وفي رواية من أخذ على الحديث أجرة تردد وفي المتساهل في سماعه وإسماعه كمن لا يبالي بالنوم أو يحدث لا عن أصل مصحح أو كثير السهو في روايته إن حدث من غير أصل أو أكثر الشواذ والمناكير في حديثه ومن غلط في حديثه فبين له وأصر عنادا ونحوه سقطت روايته انتهى
قال السيد الشريف قال ابن الصلاح هذا إذا كان على وجه العناد وأما إذا كان على وجه التنقير في البحث فلا انتهى
(1/70)
قال القسطلاني الصحابة كلهم عدول وقبل المستور قوم ورجحه ابن الصلاح ولا يقبل حديث مبهم مالم يسم إذ شرط قبول الخبر عدالة ناقله ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته ولا يقبل من به بدعة كفر أو يدعو إلى بدعة وإلا قبل لاحتجاج البخاري وغيره بكثير من المبتدعين غير الدعاة ويقبل التائب وينبغي أن يعرف من اختلط من الثقاة في آخر عمره لفساد عقله وخرفه لتمييز من سمع منه قبل ذلك فيقبل حديثه أو بعده فيرد ومن روى عنه منهم في الصحيحين محمول على السلامة وقد أعرضوا عن اعتبار هذه الشروط في زماننا لإبقاء سلسلة الإسناد فيعتبر البلوغ والعقل والستر والاتقان ونحوه وللسيد العلامة محمد بن اسماعيل الأمير رسالة في تحقيق قبول رواية المبتدعين وعدم قبولها علقها على نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر وأجاد وأفاد ولا بد منها لطالب التحقيق والرشاد فليرجع إليها
الفصل الثامن في علم أسماء الرجال
أي رجال الأحاديث من الصحابة وتابعيهم والرواة فإن العلم بها نصف العلم بالحديث كما صرح به العراقي في شرح الألفية عن علي ابن المديني لأن الحديث سند ومتن والسند عبارة عن الرواة فمعرفة أحوالها نصف العلم على ما لا يخفى
فالصحابي من اجتمع مؤمنا بسيدنا محمد {صلى الله عليه وسلم} في الأرض في حال نبوته فخرج بقولنا مؤمنا من لقيه كافرا فليس بصاحب لعداوته ولو أسلم بعد ذلك كرسول قيصر وعبدالله بن صياد إن لم يكن هو الدجال ويؤخذ من قولهم لقي النبي {صلى الله عليه وسلم} إن الكلام مفروض فيما بعد البعثة إذ وصفه بالنبوة الظاهرة لا يكون إلا بعدها فيخرج من لقيه قبلها فليس
(1/71)
من صحابته وإن كان مؤمنا بغيره من الأنبياء وبأنه سيبعث وإن توقف فيه الحافظ ابن حجر وكذا شيخه العراقي حيث قال المراد من رآه في نبوته أو أعم من ذلك ولم أر من تعرض لذلك أي صريحا لقوله بعد ذلك ويدل على أن المراد من رآه بعد نبوته أنهم ترجموا في الصحابة لمن ولد للنبي بعد النبوة كإبراهيم ولم يترجموا لمن ولد له ومات قبلها كالقاسم أما من مات على الإسلام ولو تخللت ردته بين لقيه مؤمنا فهو صحابي إذ الردة إنما تحبط العمل بالموت عليها كما صححه الرافعي حاكيا له عن الشافعي وإن أطلق في الإسلام الإحباط لقوله تعالى ) ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ( وما في القرآن من الإطلاق في غير هذه الآية محمول على هذا التقييد سواء رجع إلى الإسلام في حال حياته {صلى الله عليه وسلم} كعبدالله بن أبي سرح ولو لم يلقه ثانيا أم بعد موته كغرة بن أبي هبيرة والأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد وأتي به إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته أسيرا فعاد إلى الإسلام فقبله منه وزوجه بأخته ولم يخلف أحد عن تخريج أحاديثه في المسانيد ومشى عليه الحافظ ابن حجر وإن استظهر شيخه العراقي أن من أسلم من ردته بعد وفاته لا يكون صحابيا
قال الشمس الصفوي والظاهر أنه لا بد من التمييز لقول الحافظ العلائي في ترجمة عبدالله بن الحارث بن نوفل وعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري كل منهما حنكه النبي {صلى الله عليه وسلم} ودعا له ولا صحبة له
وقال شيخ الإسلام زكريا دخول غير المميز في التعريف ليس مرادا على المختار لكن قال الشمس الرملي يدخل الصغير ولو غير مميز كمحمد بن أبي بكر فهو صحابي مع أنه ولد قبل وفاته {صلى الله عليه وسلم} بثلاثة أشهر وأيام لأنه {صلى الله عليه وسلم} رآه وما اشترطه بعضهم من كونه يعقل عن النبي {صلى الله عليه وسلم} ولو كلمة ضعيف انتهى
(1/72)
ويمكن الجمع بأن من اشترط التمييز فهو باعتبار التحمل ومن لم يشترطه فهو باعتبار الصحبة المطلقة ولإخفاء أن رتبة من لازمه وقاتل معه أو قتل تحت رايته أعظم ممن لم يحضر شيئا من ذلك وكذلك من ماشاه يسيرا أو رآه على بعد أو حال الطفولية وإن كان شرف الصحبة حاصلا للجميع
وقال الحافظ ابن حجر إن ثبت أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كشف له ليلة الإسراء عن جميع من في الأرض فرآهم ينبغي أن يعد في الصحابة من كان مؤمنا في حياته وإن لم يلقه لحصول الرؤية من جانبه {صلى الله عليه وسلم} لكن خالفه شيخ الإسلام زكريا بقوله شمول التعريف بمن اجتمع به من الملائكة والأنبياء ليلة الإسراء ليس مرادا لوقوعه على وجه خرق العادة بل الاجتماع المتعارف بين الناس وإن كان رتبة الكثير من هؤلاء فوق رتبة الصحبة والظاهر أن شيخ الإسلام زكريا أراد بالأنبياء عيسى عليه السلام لأنه لم يمت أما غيره من الأنبياء ولو إدريس فلا يتوهم دخولهم لأن رؤيته لهم بعد موتهم والرؤية بعد الموت لا تفيد الصحبة كما تقدم ولم يذكر في جمع الجوامع في التعريف ومات على الإسلام واعترض عليه بمن مات مرتدا وأجاب عنه شارحه المحقق الجلال المحلي بأنه يسمى قبل الردة ويكفي ذلك في صحة التعريف إذ لا يشترط فيه الاحتراز عن المنافي العارض ولذلك لم يحترز في تعريف المؤمن عن الردة العارضة في بعض أفراده
قال ومن زاد من متأخري المحدثين كالعراقي ومات مؤمنا للاحتراز عمن ذكر أراد به ما يسمى صحابيا بعد موته ولا مطلقا وإلا لزمه أن لا يسمى الشخص صحابيا حال حياته ولا يقول بذلك أحد وإن كان من أراد ليس من شأن التعريف
قال النووي الصحابي كل مسلم رأى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولو لحظة وهذا هو الصحيح في حده وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبي عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري في صحيحه والمحدثين كافة انتهى وتثبت
الصحابية بالتواتر والاستفاضة ويقول صحابي آخر وبادعائه الصحبة له إن كان عدلا ودعواه ممكنة
(1/73)
وقال أبو زرعة قبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه فمنهم أهل غزوة تبوك وهم سبعون ألفا وأهل حجة الوداع وهم أربعون ألفا وجعل الحاكم أبو عبدالله النيسابوري لهم اثنتي عشرة طبقات منهم من أسلم بمكة كالخلفاء الراشدين ثم أصحاب دار الندوة ثم المهاجرون إلى الحبشة ثم أصحاب العقبة الأولى ثم أصحاب العقبة الثانية ثم المهاجرون الواصلون إليه بقبا ثم أهل بدر ثم الذين هاجروا بين بدر والحديبية ثم أهل بيعة الرضوان ثم الذين هاجروا بين الحديبية وفتح مكة ثم مسلمة الفتح ثم الأطفال والصبيان الزائرون له {صلى الله عليه وسلم} في حجة الوداع
وأما ترتيب فضلهم وأول من أسلم وأيهم أكثر حديثا وفتيا وأيهم آخرهم موتا فذكره بطول وليس هذا موضعه وهو مبسوط في كتب القوم على اختلاف العلماء فيها كالاستيعاب لابن عبد البر المالكي وكتاب ابن الأثير وكتاب الإصابة في معرفة الصحابة
وأما صاحب الصحابي وهو المسمى بالتابعي فقال الخطيب لا يكفي فيه اجتماعه بالصحابي من غير إطالة الاجتماع نظرا للعرف في الصحبة بخلاف اجتماع الصحابي من غير إطالة الاجتماع بالنبي {صلى الله عليه وسلم} ومشى عليه في جمع الجوامع وفرق شارحه المحقق الجلال المحلي بأن الاجتماع بالمصطفى {صلى الله عليه وسلم} يؤثر من النور القلبي أضعاف ما يؤثره الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره من الأخبار فالأعرابي الجلف بمجرد ما يجتمع بالمصطفى {صلى الله عليه وسلم} مؤمنا ينطق بالحكمة ببركة طلعته {صلى الله عليه وسلم}
وقال الحاكم يكفي الاجتماع وإن لم يطل ولم يسمع منه وصححه ابن الصلاح والنووي وغيرهما وعليه العمل
قال النووي التابعي ويقال فيه التابع فهو من لقى الصحابي وقيل من صحبه كالخلاف في الصحابي والاكتفاء هنا بمجرد اللقاء أولى نظرا إلى مقتضى اللفظين انتهى
(1/74)
وقال بعضهم التابعي كل مسلم صحب صحابيا وقيل من لقيه وهو الأظهر كزين العابدين ومحمد الباقر وأويس القرني وأما الذين كانوا في زمنه {صلى الله عليه وسلم} وأدركوا الجاهلية والإسلام ولم يروا النبي {صلى الله عليه وسلم} فهم من كبار التابعين وطبقة الأصحاب الذين عدوا في التابعين وطبقة التابعين الذين لم يثبت لهم السماع من الصحابة كإبراهيم بن سويد النخعي وطبقة التبع الذين لاقوا أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} كأبي الزناد وهشام بن عروة فهي مبسوطة في كتب أسماء الرجال
قال السيد الشريف الجرجاني البحث عن تفاصيل الأسماء والكنى والألقاب والمراتب في العلم والورع لهاتين المرتبتين أي الصحابي والتابعي وما بعدهما يفضي إلى تطويل انتهى وتبع التابع مسلم رأى تابعيا وهذه طبقة ثالثة بالنسبة إليه {صلى الله عليه وسلم} ومنها الإمام جعفر الصادق وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام الأعظم ومالك والأوزاعي والثوري وابن جريج بالجيمين وشعبة وبعض تلامذتهم كيحيى بن سعيد وعبدالله بن المبارك ومحمد بن حسن الشيباني ومحمد بن إدريس الشافعي وغيرهم وهذه الطبقات الثلاث هي المشهود لها بالخير على لسان نبيها {صلى الله عليه وسلم} كما قال خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الحديث وهم الصدر الأول والسلف الصالح والمحتج بهم في كل باب وعليهم المعول وبهم المستمسك في جميع الأحوال والأعمال والأخلاق والأحكام عند أولي الألباب
وبالجملة الكتب المصنفة في أسماء الرجال على أنواع كذا في كشف الظنون منها المؤتلف والمختلف لجماعة كالدارقطني والخطيب البغدادي وابن ماكولا وابن نقطة ومن المتأخرين الذهبي والمزني وابن حجر وغيرهم ومنها الأسماء المجردة عن الألقاب والكنى صنف فيه الإمام مسلم وعلي ابن المديني والنسائي وابن بشر الدولابي وابن عبد البر لكن أحسنها ترتيبا كتاب الإمام أبي عبدالله الحاكم وللذهبي المقتنى في سرد الكنى ومنها الألقاب صنف فيه أبو بكر الشيرازي وأبو الفضل الفلكي سماه منتهى الكمال وابن الجوزي ومنها المتشابه
(1/75)
صنف فيه الخطيب كتابا سماه تلخيص المتشابه ثم ذيله بما قاله ومنها الأسماء المجردة عن الألقاب والكنى صنف فيه أيضا غير واحد فمنهنم من جمع التراجم مطلقا كابن سعد في الطبقات وابن حيثمة أحمد بن زبير والإمام أبي عبدالله البخاري في تأريخهما ومنهم من جمع الثقات كابن حبان وابن شاهين ومنهم من جمع الضعفاء كابن عدي ومنهم من جمع كليهما جرحا وتعديلا ومنهم من جمع رجال البخاري وغيره من أصحاب الكتب الستة والسنن إلى غير ذلك
الفصل التاسع في علم رجال الأحاديث أي رواتها
ويحتاج الناظر فيها إلى معرفة المواليد والتواريخ والوفيات والأسماء والكنى ومعرفة من عرف بالكنية دون اسمه كأبي مويهة ومن عرف بلقبه دون كنيته كأبي تراب فإن كنيته أبو الحسن ومعرفة من له كنيتان أو أكثر كأبي الحامد وأبي الوليد لابن جريج وأبي بكر وأبي الفتح لابن الفراوي ومعرفة مختلفي الكنى كما يقال في زيد بن أسامة أبو زيد وأبومحمد وأبو عبدالله ومن عرف بالكنية واختلف في اسمه كأبي بصرة الغفاري واسمه جميل وقيل حميل بالحاء المهملة وكأبي هريرة قيل اسمه عبد الرحمن بن صخر وقيل عبدالله ومن اختلف في اسمه وكنيته كليهما كسفينة مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قيل اسمه عمر وقيل صالح وقيل مهران وكنيته أبو عبد الرحمن وقيل أبوالبختري ومعرفة من ليس في اسمه وكنيته اختلاف كأبي حنيفة النعمان بن ثابت ومحمد بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل ومن عرف بالكنية والاسم كأبي ادريس الخولاني عائذ الله بن عبدالله يحتاج إلى معرفة الألقاب والمختلف والمؤتلف في الأسماء والأنساب والتشابه في الثلاثة ومعرفة الأسماء المفردة ومعرفة الموالي ومعرفة الصفات المختلفة ومعرفة الأسماء المبهمة ومعرفة الثقات والضعفاء ومعرفة من خلط من الثقات لخرفه أو لذهاب بصره أو غير ذلك ومعرفة أوطان
(1/76)
الرواة وبلدانهم ومعرفة إخوتهم وتفصيلها في الكتب المبسوطة المصنفة فيها كالطبقات لابن سعد وكتاب ابن المديني وكتاب مسلم وكتاب النسائي والحاكم أبي أحمد الحافظ وكتاب ابن المندي في أسماء الرواة وكناهم وكتاب الاكمال لأبي نصر بن ماكولا في المؤتلف والمختلف وكتاب عبد الغني بن سعيد وكتاب الخطيب في معرفة الأسماء المبهمة وكتاب ابن حبان في الثقات والضعفاء وفي الضعفاء فقط وكتاب البخاري في الضعفاء وكتاب النسائي والعقيلي في الضعفاء وتاريخ البخاري وابن أبي حيثمة وكتاب ابن سعد في معرفة الأوطان وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
(1/77)
ونقل صاحب كشف الظنون عن سبط أبي شامة في وصف علم التاريخ وذم من عابه وشانه وقد ألف العلماء في ذلك تصانيف كثيرة لكن قد اقتصر كثيرمنهم على ذكر الحوادث من غير تعرض لذكر الوفيات كتأريخ ابن جرير ومروج الذهب والكامل وإن ذكر اسم من توفي في تلك السنة فهو عار عما له من المناقب والمحاسن ومنهم من كتب في الوفيات مجردا عن الحوادث كتأريخ نيسابور للحاكم وتأريخ بغداد لأبي بكر الخطيب والذيل عليه للسمعاني وهذا وإن كان أهم النوعين فالفائدة إنما تتم بالجمع بين الفنين وقد جمع بينهما جماعة من الحفاظ منهم أبو الفرج ابن الجوزي في المنتظم وأبو شامة في الروضتين والذيل عليه وصل إلى سنة خمس وستين وقد ذيل عليه الحافظ علم الدين البرزالي وممن جمع بين النوعين أيضا الحافظ شمس الدين الذهبي لكن الغالب في العبر الوفيات وجمع بينهما الشيخ عماد الدين بن كثير في البداية والنهاية وأجود ما فيه السير النبوية وقد أخل بذكر خلائق من العلماء قد يكون من أخل بذكره أولى ممن ذكره مع الإسهاب المخل فيه وفيه أوهام قبيحة لا يسامح فيها وقد صار الاعتماد في مصر والشام في نقل التواريخ في هذا الزمان على هؤلاء الحفاظ الثلاثة البرزالي والذهبي وابن كثير أما تاريخ البرزالي فانتهى إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ومات في السنة الآتية وأما الذهبي فانتهى تاريخه إلى آخر سنة أربعين وسبعمائة وأما ابن كثير فالمشهور أن تأريخه انتهى
(1/78)
إلى آخر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وهو آخر ما لخصه من تأريخ البرزالي وكتب حوادث إلى قبيل وفاته بسنتين ولما لم يكن من سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ما يجمع الأمرين على الوجه الأتم شرع شيخنا مفتي الشام شهاب الدين أحمد بن يحيى السعدي في كتابة ذيل من أول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة على وجه الاستيعاب للحوادث والوفيات فكتب منه سبع سنين ثم شرع من أول سنة تسع وستين وسبعمائة فانتهى إلى أثناء ذي القعدة سنة خمس عشرة وثمانمائة وذلك قبل ضعفه ضعفة الموت غير أنه سقط منه سنة خمس وسبعين فعدمت وكان قد أوصاني أن أكمل الخرم من أول سنة ثمان وأربعين إلى آخر سنة ثمان وستين فاستخرت الله تعالى في تكميل ما أشار إليه ثم التذييل عليه من حين وفاته ثم رأيت في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة فما بعدها إلى آخر سنة ثمان وأربعين فوائد جمة من حوادث ووفيات قد أهملها شيخنا ويحتاج الكتاب إليها فألحقت كثيرا منها في الحوادث وشرعت من أول سنة إحدى وأربعين وسبعمائة جامعا بين كلامه وتلك الفوائد على أن الجميع في الحقيقة له انتهى
الفصل العاشر في علم أحوال رواة الحديث من وفياتهم وقبائلهم وأوطانهم وجرحهم وتعديلهم وغير ذلك
وهذا العلم من فروع علم التأريخ كما يلوح من الفصل التاسع من وجه ومن فروع علم الحديث من وجه ولا يخفى أنه علم أسماء الرجال في اصطلاح أهل الحديث قلت ومن شيمة المحدثين ذكر الراوي باسمه وكنيته ونسبه وصنعته وغرضهم عن المبالغة في هذا الاحتياط الكامل في رواة الحديث لئلا يلتبس بعضهم ببعض لأن الاسم المحض وكذا الكنية المحضة قد تشتركان فلا يتحقق تمييز الراوي من غيره إلا بالمبالغة وقد يشترك اسم الرواي مع اسم أبيه كما قالوا
(1/79)
أن خليل بن أحمد اسم ستة رجال وأنس بن مالك اسم خمسة رجال وقد يشترك اسمه مع اسم أبيه وجده كما قالوا أن أحمد بن جعفر اسم أربعة رجال متفقين في أسمائهم وأسماء آبائهم وجدودهم وكذا أبو عمران الخولاني اسم لرجلين أحدهما عبد الملك ابن حبيب والثاني موسى ابن سهل وأبو بكر بن عياش ثلاث رجال فتعمق أهل الحديث في أمثال هذه الأمور ليس بضائع وإنما غرضهم عنها مزيد الاحتياط لئلا يشتبه الراوي الضعيف بالراوي الثقة نعم اتفاقهما في العدالة والوثوق لا يضر في ذلك الاشتباه ومع هذا لهم قرائن وإشارات يتميزون بها هذا القسم أيضا كسفيان الثوري وسفيان بن عيينة فإن التمايز يحصل بينهم بالشيوخ والتلامذة وإن كانوا متفقين في هذه أيضا فالتمييز عسير جدا وهذه هي المواضع التي يمتحن فيها محدثيه المحدث فإنه كان بالبصرة إمامان في فن الحديث يقال لهما حمادان حماد بن زيد بن درهم وحماد بن سلمة فحيث كان في الصحيحين رواية العارم عن حماد فهو حماد بن زيد وحيث كان الراوي له موسى بن اسماعيل التبوذكي فهو حماد بن سلمة ثم عبدالله في الصحيحين في طبقة الصحابة عبدالله ابن مسعود وفي درجة أئمة الحديث عبدالله بن المبارك وأبو جمرة بالجيم والراء المهملة تلميذ ابن عباس وبالحاء المهملة والزاء أيضا تلميذ له وشعبة يروي عن كليهما فالاصطلاح أن شعبة حيث قال أبو جمرة مطلقا فالمراد به نصر بن عمران وهو بالجيم وحيث قيد النسب فالمراد أبو حمزة بالحاء المهملة والله أعلم
(1/80)
وقد يشتبه اسم الراوي مع اسم أمه ويعلم بالخوض والتعمق أنه اسم أمه لا اسم أبيه كما في الحديث معاذ ومعوذ ابني عفراء فعفراء اسم أمهما لا أبيهما واسم أبيهما حارث وجاء في بعض الروايات بلال بن حمامة وهو بلال بن رباح خادم النبي {صلى الله عليه وسلم} وحمامة اسم أمه وفي الصحيحين عبدالله بن بحينة وهي أمه واسم أبيه مالك واجتمع في بعض المواضع فقالوا عبدالله بن مالك بن بحينة ليعلم أنه صفة لعبد الله لا لمالك وكمحمد بن الحنفية فإن أباه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وحنفية نسبة إلى أمه التي اسمها خولة بنت جعفر سيد بني حنيفة ويمامة وكإسماعيل
ابن علية فإن اسم أبيه ابراهيم ونسبة الرجل إلى جده كثيرة جدا شائعة في محاورة العرب واقعة في كتب الحديث يشهد به قوله {صلى الله عليه وسلم} أنا ابن عبد المطلب
وقد ينسبون الراوي إلى جدته نحو يعلي ابن منية اسم جدته التي هي أم أبيه ومن هذا القبيل بشر بن الخصاصة والمنسوبون إلى أجدادهم كثيرون كأبي عبيدة بن الجراح فإن اسم أبيه عبدالله بن الجراح وكان جريج واسمه عبدالملك بن عبد العزيز بن جريج وكأحمد بن حنبل واسم أبيه محمد بن حنبل وقد ينسب إلى التبني أيضا كمقداد بن الأسود أصله مقداد بن عمرو بن ثعلبة الكندي لكن لما رباه أسود بن عبد يغوث الزهدي القرشي تبنيا نسب إليه وكحسن ابن دينار فإن أصله حسن بن واصل ودينار زوج أمه هكذا في العجالة النافعة للمولى عبد العزيز المحدث الدهلوي وفيها قواعد أخرى تتعلق بهذا القسم والكتب المصنفة فيه أيضا كثيرة جمعا وفرادى كما سبقت إليه الإشارة
الفصل الحادي عشر في علم غريب الحديث والقرآن
(1/81)
قال أبو سليمان محمد الخطابي رحمه الله تعالى الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم كما أن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل والغريب من الكلام يقال به على وجهين أحدهما أن يراد به أنه بعيد المعنى غامضة لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر والوجه الآخر أن يراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب فإذا وقعت إلينا الكلمة من كلامهم استغربناها انتهى
وقال ابن الأثير في النهاية وقد عرفت أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان أفصح العرب لسانا حتى قال له علي رضي الله عنه وقد سمعه يخاطب
وفد بني نمر يا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال أدبني ربي فأحسن تأديبي فكان عليه الصلاة والسلام يخاطب العرب على اختلاف شعوبهم وقبائلهم بما يفهمونه فكان الله تعالى قد أعلمه مالم يكن يعلم غيره وكان أصحابه يعرفون أكثر ما يقوله وما جهلوه سألوه عنه فيوضحه لهم واستمر عصره إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام وجاء عصر الصحابة جاريا على هذا النمط فكان اللسان العربي عندهم صحيحا لا يتداخله الخلل إلى أن فتحت الأمصار وخالط العرب غير جنسهم فامتزجت الألسن ونشأ بينهم الأولاد فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخطاب وتركوا ما عداه وتمادت الأيام إلى أن انقرض عصر الصحابة وجاء التابعون فسلكوا سبيلهم فما انقضى زمانهم إلا واللسان العربي قد استحال أعجميا فلما أعضل الداء ألهم الله سبحانه وتعالى جماعة من أولي المعارف أن صرفوا إلى هذا الشأن طرفا من عنايتهم فشرعوا فيه حراسة لهذا العلم الشريف
(1/82)
فقيل أول من جمع في هذا الفن شيئا أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المتوفي سنة عشر ومائتين فجمع كتابا صغيرا ولم تكن قلته لجهلة وإنما ذلك لأمرين أحدهما أن كل مبتدأ بشيء لم يسبق إليه يكون قليلا ثم يكثر والثاني أن الناس كان فيهم يومئذ بقية وعندهم معرفة فلم يكن الجهل قد عم وله تآليف أخر في غريب القرآن
وقد صنف عبد الواحد بن أحمد المليحي كتابا في رده المتوفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة وأبو سعيد بن خالد الضرير وموفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي المتوفى سنة تسع وعشرين وستمائة صنفا في رد غريب الحديث ثم جمع أبو الحسن نضر بن شميل المازني النحوي بعده أكثر منه المتوفى سنة أربع ومائتين ثم جمع عبد الملك ابن قريب الأصمعي كتابا أحسن فيه وأجاد وكذلك محمد بن المستنير المعروف بقطرب وغيره من الأئمة جمعوا أحاديث وتكلموا على
(1/83)
لغتها في أوراق ولم يكد أحدهم ينفرد عن غير ه بكثير حديث لم يذكره الآخر ثم جاء أبو عبيد القاسم بن سلام بعد المائتين فجمع كتابه فصار هو القدوة في هذا الشأن فإنه أفنى فيه عمره حتى لقد قال فيما يروى عنه إني جمعت كتابي هذا في أربعين سنة وربما كنت أستفيد الفائدة من الأفواه فأضعها في موضعها فكان خلاصة عمري وبقي كتابه في أيدي الناس يرجعون إليه في غريب الحديث وعليه كتاب مختصر لمحب الدين أحمد بن عبدالله الطبري المتوفي سنة أربع وستين وستمائة سماه تقريب المرام في غريب القاسم بن سلام مبوبا على الحروف ثم جاء عصر أبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفي سنة ست وسبعين ومائتين فصنف كتابه المشهور حذا فيه حذو أبي عبيد فجاء كتابه مثل كتابه أو أكثر أو أكبر وقال في مقدمته أرجو أن لا يكون بقي بعد هذين الكتابين من غريب الحديث ما يكون لأحد فيه مقال وقد كان في زمانه الإمام إبراهيم بن إسحاق الحربي الحافظ وجمع كتابه فيه وهو كبير في خمس مجلدات بسط القول فيه واستقصى الأحاديث بطريق أسانيدها وأطاله بذكر متونها وإن لم يكن فيها إلا كلمة واحدة غريبة فطال لذلك كتابه فترك وهجر وإن كان كثير الفوائد توفي ببغداد سنة خمس وثمانين ومائتين
(1/84)
ثم صنف الناس غير من ذكر منهم شمر بن حمدويه وأبو العباس أحمد بن يحي المعروف بثعلب المتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين وأبو العباس محمد بن يزيد الثمالي المعروف بالمبرد المتوفي سنة خمس وثمانين ومائتين وأبو بكر محمد بن قاسم الأنباري المتوفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وأحمد بن حسن الكندي وأبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد صاحب ثعلب المتوفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة ولم يتم وأبو محمد سلمة بن عاصم النحوي وأبو مروان عبد الملك ابن حبيب المالكي المتوفي سنة تسع وثلاثين ومائتين وأبو القاسم محمود ابن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الملقب ببيان الحق وقاسم بن محمد الأنباري المتوفي سنة أربع وثلاثمائة وأبو شجاع محمد بن علي الدهان البغدادي المتوفي سنة تسعين وخمسمائة وهو كبير في ستة عشر
(1/85)
مجلدا وأبو الفتح سليم بن العرب الرازي المتوفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وابن كيسان محمد بن أحمد النحوي المتوفي سنة تسع وستين ومائتين ومحمد بن حبيب البغدادي النحوي المتوفي سنة خمس وأربعين ومائتين وابن درستويه عبد الله بن جعفر النحوي المتوفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة واسماعيل بن عبد الغافر راوي صحيح مسلم المتوفي سنة خمس وأربعين وأربع مائة وكتابه جليل الفائدة مجلد مرتب على الحروف واستمر الحال إلى عهد الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي البستي المتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فألف كتابه المشهور سلك فيه نهج أبي عبيدة وابن قتيبة فكانت هذه الثلاثة فيها أمهات الكتب إلا أنه لم يكن كتاب صنف مرتبا يرجع الإنسان عند طلبه إلا كتاب الحربي وهو على طوله لا يوجد إلا بعد تعب وعناء فلما كان زمان أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفي سنة إحدى وأربعمائة صاحب الأزهري وكان في زمن الخطابي صنف كتابه المشهور في الجمع بين غريبي القرآن والحديث ورتبه على حروف المعجم على وضع لم يسبق فيه وجمع ما في كتب من تقدمه فجاء جامعا في الحسن إلا أنه جاء الحديث مفرقا في حروف كلماته فانتشر فصار هو العمدة فيه وما زال الناس بعد يتبعون أثره إلى عهد أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري فصنف الفائق ورتبه على وضع اختاره مقفى على حروف المعجم ولكن في العثور على طلب الحديث منه كلفه ومشقة لأنه جمع في التقفية بين إيراد الحديث مسدودا جميعه أوأكثره ثم شرح ما فيه من غريب فيجيء شرح كل كلمة غريبة يشتمل عليها ذلك الحديث في حرف واحد فرد الكلمة في غير حروفها وإذا طلبها الإنسان تعب حتى يجدها فكان كتاب الهروي أقرب متناولا وأسهل مأخذا وصنف الحافظ أبوموسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني فيه ما فات الهروي من غريب القرآن والحديث مناسبة وفائدة ورتبه كما رتبه
(1/86)
ثم قال واعلم أنه سيبقى بعد كتابي أشياء لم يقع لي ولا وقفت عليها لأن كلام العرب لم ينحصر وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمس مائة سماه كتاب الغث كمل به الغريبين ومعاصره أبو الفرج
عبد الرحمن بن علي الإمام ابن الجوزي صنف كتابا في غريب الحديث نهج فيه طريق الهروي مجردا عن غريب القرآن وكان فاضلا لكنه يغلب عليه الوعظ وقال فيه قد فاتهم أشياء فرأيت أن أبذل الوسع في جمع غريب الحديث وأرجو أن لا يشذ عني مهم من ذلك
قال ابن الأثير ولقد تتبعت كتابه فرأيته مختصرا من كتاب الهروي منتزعا من أبوابه شيئا فشيئا ولم يزد عليه إلا الكلمة الشاذة وأما أبوموسى فإنه لم يذكر في كتابه مما ذكره الهروي إلا كلمة اضطر إلى ذكرها فإن كتابه يضاهي كتاب الهروي لأن وضعه استدراك ما فات الهروي ولما وقفت على ذينك الكتابين وهما في غاية الحسن وإذا أراد أحد كلمة غريبة يحتاج إليهما وهما كبيران ذوا مجلدات عدة فرأيت أن أجمع بين ما فيهما من غريب الحديث مجردا من غريب القرآن وأضيف إلى كل كلمة أختها وتمادت بي الأيام فحينئذ أمعنت النظر في الجمع بين ألفاظهما فوجدتهما على كثرة ما أودع فيهما قد فاتهما الكثير فإني في بادئ الأمر مرت بذكري كلمات غريبة من أحاديث البخاري ومسلم لم يرو شيء منهما في هذين الكتابين فحيث عرفت نبهت لاعتبار ما سوى هذين من كتب الحديث فتتبعتها واستقصيت قديما وحديثا فرأيت فيها من الغريب كثيرا وأضفت إلى ما عثرت عليه وأنا أقول كم يكون ما قد فاتني من الكلمات الغريبة تشتمل عليها أحاديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأصحابه وتابعيهم ذخيرة لغيري انتهى كلام ابن الأثير ملخصا
قال صاحب كشف الظنون وصنف الأرموي بعده كتابا في تتمة كتابه وصنف مهذب الدين ابن الحاجب عشر مجلدات وتصنيف قاسم بن ثابت بن خرم السرقسطي المتوفي سنة ثلاثين وثلاثمائة بسرقسطة كان في عصر الحربي ذلك في الشرق وهذا في الغرب ولم يطلع أحدهما على ما وضع الآخر ذكره البقاعي
(1/87)
الفصل الثاني عشر في علم شرح الحديث
وهو من فروع علم الحديث اعتنى العلماء بجمع حديث الأربعين وشرحه لما روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال من حفظ على أمتي أربعين حديثا من السنة كنت له شفيعا يوم القيامة وفي رواية من حمل عني من أمتي أربعين حديثا من السنة لقي الله عز وجل يوم القيامة فقيها عالما وفي رواية من تعلم أربعين حديثا ابتغاء وجه الله ليعلم به أمتي في حلالهم وحرامهم حشره الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عالما وفي رواية من حفظ على أمتي أربعين حديثا في أمر دينها بعثه الله تعالى يوم القيام في زمرة الفقهاء والعلماء واتفقوا على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه
وقد صنف العلماء في هذا الباب ما لايحصى من المصنفات واختلفت مقاصدهم في جمعها وتأليفها وترتيبها فمنهم من اعتمد على ذكر أحاديث التوحيد وإثبات الصفات ومنهم من قصد ذكر أحاديث الأحكام ومنهم من اقتصر على ما يتعلق بالعبادات ومنهم من اختار حديث المواعظ والرقائق ومنهم من قصد إخراج ما صح سنده وسلم من الطعن ومنهم من قصد ما على إسناده ومنهم من أحب تخريج ما طال متنه وظهر لسامعه حين يسمعه حسنه إلى غير ذلك وسمى كل واحد منهم كتابه بكتاب الأربعين والله أعلم هكذا في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون
قلت وقد أوردت نبذة منها في كتابي المسمى بجنان المتقين وأما شروح غير الأربعينات في علم الحديث على الأمهات الست وغيرها فهي كثيرة جدا وسيأتي بيانها عند ذكر الصحاح الستة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
وأما طريقة الشرح وضوابطه فقد أفرده بالتأليف المولى رفيع الدين الدهلوي في رسالته المسماة بالتكميل وكذا والده المولى ولي الله المحدث
الدهلوي في بعض رسائله وظني أنهما منفردان في تدوين هذا العلم فإنه علم لم يسبق إليه وما يليق ذكره في هذا المقام تقريبا للمرام وتتميما للكلام فهو أن أسلوب الشرح على ثلاثة أقسام
(1/88)
الأول الشرح بقوله كشرح البخاري لابن حجر والكرماني ونحوهما وفي أمثاله لا يلتزم المتن وإنما المقصود ذكر المواضع المشروحة
والثاني الشرح يقال أقول كشرح للمقاصد والطوالع والعضد
والثالث الشرح مزجا ويقال شرح ممزوج تمزج فيه عبارة المتن والشرح ثم يمتاز إما بالميم والشين وإما بخط يخطه فوق المتن وهو طريقة أكثر الشراح المتأخرين من المحققين وغيرهم لكنه ليس بمأمون عن الخلط والغلط
ثم من شرط الشارح أن يبذل النصرة فيما قد التزم شرحه بقدر الاستطاعة ويذب عما قد تكفل إيضاحه بما يذب به صاحب تلك الصناعة ليكون شارحا غير ناقص وجارح ومفسرا غير معترض اللهم إلا إذا عثر على شيء لا يمكن حمله على وجه صحيح فحينئذ ينبغي أن ينبه عليه بتعريض أو تصريح متمسكا بذيل العدل والإنصاف متجنبا عن الغي والاعتساف لأن الإنسان محل النسيان والقلم ليس بمعصوم من الطغيان فكيف بمن جمع المطالب من محالها المتفرقة
وليس كل كتاب ينقل المصنف عنه سالما من العيب محفوظا له عن ظهر الغيب حتى يلام في خطائه فينبغي أن يتأدب عن تصريح الطعن للسلف مطلقا ويكنى بمثل قيل وظن ووهم واعترض وأجيب وبعض الشراح والمحشى أو بعض الشروح والحواشي ونحو ذلك من غير تعيين كما هو دأب الفضلاء من المتأخرين فإنهم تأنقوا في أسلوب التحرير وتأدبوا في الرد والاعتراض على المتقدمين بأمثال ما ذكر تنزيها لهم عما يفسد اعتقاد المبتدئين فيهم وتعظيما لحقهم وربما حملوا هفواتهم على الغلط من الناسخين لا من الراسخين وإن لم يكن ذلك قالوا لأنه لفرط اهتمامهم بالمباحثة والإفادة لم يفرغوا لتكرير النظر والإعادة وأجابوا
(1/89)
عن لمز بعضهم بأن ألفاظ كذا وكذا ألفاظ فلان بعبارته بقولهم إنا لا نعرف كتابا ليس فيه ذلك فإن تصانيف المتأخرين بل المتقدمين لا تخلو عن مثل ذلك إلا لعدم الاقتدار على التغيير بل حذرا عن تضييع الزمان فيه وعن مثالبهم بأنهم عزوا إلى أنفسهم ما ليس لهم بأنه إن اتفق فهو من توارد الخواطر كما في تعاقب الحوافر على الحوافر هكذا في كشف الظنون ولله در صاحب مشكاة المصابيح حيث قال فإذا وقفت عليه فأنسب القصور إلي لقلة الدراية لا إلى جناب الشيخ رفع الله قدره في الدارين حاشا لله من ذلك انتهى
الفصل الثالث عشر في علم الأدعية والأوراد
وهو علم يبحث فيه عن الأدعية المأثورة والأوراد المشهورة بتصحيحهما وضبطهما وتصحيح روايتهما وبيان خواصهما وعدد تكرارهما وأوقات قراءتهما وشرائطهما ومباديه مبينة في العلوم الشرعية والغرض منه معرفة تلك الأدعية والأوراد على الوجه المذكور لينال باستعمالها الفوائد الدينية والدنيوية ذكره المولى أبو الخير من فروع علم الحديث لما كان استمداد هذا العلم من كتب علم الحديث ومن الكتب المصنفة فيه كتاب الأذكار للنووي والحصن الحصين للجزري والورد الأفخم والحزب الأعظم للعلي القاري الهروي الملكي رحمهم الله تعالى وغير ذلك
الفصل الرابع عشر في علم طب النبي {صلى الله عليه وسلم}
وفيه تصانيف لأبي نعيم أحمد بن عبدالله الإصبهاني المتوفي سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ولجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة وكتب أبو الحسن علي بن موسى الرضا للمأمون رسالة مشتملة عليه والحبيب النيسابوري جمعه أيضا وابن السني وعبد الملك بن حبيب أيضا
الفصل الخامس عشر في علم متن الحديث
(1/90)
وهو ما اكتنف الصلب من الحيوان فمتن كل شيء ما يتقوم به ذلك فمتن الحديث ألفاظه التي يتقوم بها المعنى وله أقسام وأنواع أعلاها الصحيح وهو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله وسلم عن شذوذ وعلة وتتفاوت درجات الصحيح بحسب قوة شروطه وضعفها
وأول من صنف في الصحيح المجرد الإمام البخاري ثم مسلم وكتابهما أصح الكتب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى وأما قول الشافعي ما أعلم شيئا بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك فقبل وجود الكتابين
وأعلى أقسام الصحيح ما اتفقا عليه ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه ثم ما على شرط البخاري ثم ما على شرط مسلم ثم ما صححه غيرهما من الأئمة فهذه سبعة أقسام والمراد بشرط البخاري ومسلم أن يكون الرجال متصفين بالصفات التي تتصف بها رجال البخاري ومسلم من الضبط والعدالة وعدم الشذوذ والنكارة والغفلة وقيل المراد بشرطهما رجالها أنفسهم والكلام في هذا يطول ذكره الشيخ عبد الحق الدهلوي في مقدمة شرح سفر السعادة للمجد صاحب القاموس ثم ما حذف سنده فيهما وهو كثير في تراجم البخاري قليل جدا في كتاب مسلم فما كان منه بصيغة الجزم نحو قال فلان وفعل وأمر وروى وذكر معروفا فهو حكم بصحته
وما روي من ذلك مجهولا فليس حكما بصحته ولكن إيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله
(1/91)
والقسم الثاني منها الحسن وهوما لا يكون في إسناده متهم ولا يكون شاذا ويروى من غير وجه نحوه وفيه أقوال أخر تصدى لذكرها أهل أصول الحديث والحسن حجة كالصحيح ولذلك أدرج في الصحيح والحسن إذا روي من وجه آخر ترقى من الحسن إلى الصحيح لقوته من الجهتين فيعتضد أحدهما بالآخر ونعني بالترقي أنه ملحق في القوة بالصحيح لا أنه عينه ثم الضعيف وهو مالم تجتمع فيه شروط الصحيح والحسن ويجوز عند العلماء التساهل في أسانيد الضعيف دون الموضوع من غير بيان ضعفه في المواعظ والقصص وفضائل الأعمال لا في صفات الله تعالى وأحكام الحلال والحرام
قيل كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه وأبو داؤد كان يأخذ مأخذه ويخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره ويرجحه على رأي الرجال وعن الشعبي ما حدثك عن النبي {صلى الله عليه وسلم} هؤلاء فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش أي الكنيف وقال الرأي بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلتها وهنا عدة عبارات منها ما يشترك فيه الأقسام الثلاثة أعني الصحيح والحسن والضعيف ومنها ما يختص بالضعيف فمن الأول المسند والمتصل والمرفوع والمعنعن والمعلق والمدرج والمشهور والغريب والعزيز والمسلسل والاعتبار ومن الثاني الموقوف والمقطوع والمرسل والمنقطع والمعضل والشاذ والمنكر والمعلل
والمدلس والمضطرب والمقلوب والموضوع ولهذه كلها تعاريف وتفاصيل ذكرت في كتب الأصوليين من أهل الحديث ليس هذا موضوع بسطها
الفصل السادس عشر في علم رموز الحديث
(1/92)
فإنهم وضعوا لأصحاب الكتب الستة علامة ورمزا بالحروف فجعلوا للبخاري خ لأن نسبته إلى بلده أشهرمن اسمه وكنيته وليس في حروف باقي الأسماء خاء ولمسلم م لأن اسمه اشهر من نسبته وكنيته ولمالك ط لأن اشتهار كتابه بالموطأ أكثر ولأن الميم أول حروف اسمه وقد أعطوها مسلما وباقي حروف مشتبهة بغيرها وللترمذي ت لأن اشتهاره بنسبته أكثر ولأبي داؤد د لأن كنيته أشهر من اسمه ونسبته والدال أشهر حروفها وأبعدها من الاشتباه وللنسائي س لأن نسبته أشهر من اسمه وكنيته والسين أشهر حروف نسبته ولذلك وضعوا لأصحاب المسانيد بالأفراد والتركيب كما هو مسطور في الجوامع ومعرفتها هي العلم بها هذا ما ذكره في كشف الظنون وللسيوطي في جامعه الصغير رموز أخرى سوى ما ذكر وهي هذه خ للبخاري م لمسلم ق لهما د لأبي داؤد ت للترمذي ن للنسائي ه لابن ماجه ع لهؤلاء الأربعة 3 لهم إلا ابن ماجه حم لأحمد في مسنده عم لابنه في زوائده ك للحاكم فإن كان في مستدركه أطلق وإلا بينه خد للبخاري في الأدب تخ له في التاريخ حب لابن حبان في صحيحه طب للطبراني في الكبير طس له في الأوسط طص له في الصغير ص لسعيد بن منصور في سننه ش لابن أبي شيبة عب لعبد الرزاق في المجامع ع لأبي يعلى في مسنده قط للدارقطني فإن كان في السنن أطلق وإلا بينه فر للديلمي في مسند الفردوس حل لأبي نعيم في الحلية هب للبيهقي في شعب
الإيمان هق له في السنن عد لابن عدي في الكامل عق للعقيلي في الضعفاء خط للخطيب فإن كان في التاريخ أطلقه وإلا بينه وعلى هذا القياس لكل كتاب رموز بين مصنفوه في أوائله
الفصل السابع عشر في علم وضع الحديث
(1/93)
وهو علم يعرف به موضوع الحديث من ثابته ويعرف حال الواضع من حيث صدقه وكذبه والغرض منه تحصيل ملكة التمييز بين الصدق والكذب والصادق والكاذب وغايته التحرز عن روايته إلا مقرونا ببيان وضعه فإنه {صلى الله عليه وسلم} قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار نقله من الصحابة رضي الله عنهم الجم الغفير قيل هم أربعون وقيل اثنان وستون وفيهم العشرة المبشرة ولم يزل العدد على التوالي في ازدياد وقد جمع السيد محمد المرتضى الواسطي البلكرامي نزيل مصر رسالة في ضبط الأحاديث المتواترة مسماة باللآلي المتناثرة قال السيد الشريف ولا يحل رواية الموضوع للعالم بحاله في أي معنى كان إلا مقرونا ببيان الوضع
وقد ذهبت الكرامية والطائفة المبتدعة إلى جواز وضع الحديث في الترغيب والترهيب وقد صنف ابن الجوزي في الموضوعات مجلدات قال ابن الصلاح أودع فيها كثيرا من الأحاديث الضعيفة مما لا دليل على وضعه وحقها أن تذكر في الأحاديث الضعيفة وللشيخ حسن بن محمد الصغاني الدر الملتقط في تبيين الغلط انتهى ملخصا ثم الحديث لوضعه وكذب راوية علامات شتى تعرف بها منها ما ذكره المولى عبد العزيز الدهلوي في العجالة النافعة ما نصه بالعربية
الأول كون الرواية خلاف التاريخ كما قالوا إن عبد الله بن مسعود قال في حرب صفين كذا مع أنه رضي الله عنه توفي في خلافة عثمان وهذا القسم يعرف بأدنى تأمل وأقل تتبع
الثاني كون الراوي رافضيا يروي الحديث في مطاعن الصحابة أو ناصبيا يرويه في مطاعن أهل البيت وعلى هذا القياس وحينئذ ينظر إن كان الراوي منفردا بذلك الحديث فحديثه ينكر وإن رواه الآخرون أيضا يقبل ثم يتفكر في تأويله وتوجيهه
الثالث أن يروي حديثا يجب معرفته والعمل به على كافة المكلفين وينفرد بروايته فهي قرينة قوية على كذبه ووضعه
(1/94)
الرابع أن يكون حاله والوقت الذي فيه رواه قرينة على كذبه كما اتفق لغياث بن ميمون في مجلس الخليفة العباسي المهدي فإنه حضر عنده وكان هو مشغولا بإطارة الحمائم فروى له هذا الحديث لا سبق إلا في خلف أو نصل أو جناح فزاد لفظ الجناح من عنده لتطييب نفس المهدي انتهى
قلت وتفصيل هذه القصة في حياة الحيوان الكبرى للدميري رح وهو أن هارون الرشيد كان يعجبه الحمام واللعب به فأهدى له حمام وعنده أبو البختري وهب القاضي فروى له بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح فزاد أو جناح وهي لفظة وضعها للرشيد فأعطاه جائزة سنية فلما خرج قال الرشيد تالله لقد علمت أنه كذب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأمر بالحمام فذبح فقيل وما ذنب الحمام قال من أجله كذب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فترك العلماء حديث أبي البختري لذلك وغيره من موضوعاته فلم يكتبوا حديثه قال ابن أبي خيثمة والشيخ تقي الدين
القشيري في الاقتراح واضع حديث الحمام غياث بن ابراهيم وضعه للمهدي لا للرشيد انتهى ملخصا
الخامس كون الحديث مخالفا لمقتضى العقل والشرع بحيث تكذبه القواعد الشرعية كقضاء العمر ونحوه كحديث لا تأكلوا البطيخ حتى تذبحوه
السادس أن تكون في الحديث قصة تتعلق بأمر حسي واقع بحيث لو فرض تحققه بالحقيقة لنقله ألوف من الناس كما يروى مثلا أنهم قتلوا فلان الخطيب يوم الجمعة على المنبر وسلخوا جلده ولم يروه غيره وهو منفرد به
السابع ركاكة اللفظ والمعنى جميعا حيث يروي ألفاظا لا تنطبق على القواعد العربية أو معاني لا تناسب شأن النبوة ووقار الرسالة أو بالوقوف على غلط
قال السيد الشريف كما وقع لثابت بن موسى الزاهد في حديث من كثرت ضلالته بالليل حسن وجهه بالنهار قيل كان شيخ يحدث في جماعة فدخل رجل حسن الوجه فقال الشيخ في أثناء حديثه من كثرت الخ فوقع لثابت أنه من الحديث فرواه انتهى
(1/95)
الثامن الإفراط في الوعيد الشديد على الجناح الصغير أو على الوعد العظيم على العمل القليل نحو من صلى ركعتين فله سبعون ألف دار في كل دار سبعون ألف بيت في كل بيت سبعون ألف سرير على كل سرير سبعون ألف جارية بل أحاديث هذا النسق كلها تعد موضوعة سواء كانت في باب الثواب أو باب العقاب
التاسع ذكر ثواب الحج والعمرة على العمل القليل
العاشر أن يجعل عاملا من العاملين بالخير موعودا بثواب الأنبياء والمرسلين كما يقول ثواب سبعين نبيا وأمثال ذلك
الحادي عشر بإقرار واضعه كما اتفق لنوح بن عصمة فإنه وضع في فضائل القرآن سورة فسورة أحاديث وروجها وشهرها كما ذكرت
في تفسير البيضاوي في آخر كل سورة ولما أخذوه وسألوه عن تصحيح سندها ومن أين له هذه اعترف بوضعه لها وقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد ابن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة انتهى
قال السيد الشريف وقد أخطأ المفسرون في إيداعها في تفاسيرهم إلا من عصمه الله ومما أودعوا فيها أنه قال {صلى الله عليه وسلم} حين قرأ ) ومناة الثالثة الأخرى ( تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى ولقد أشبعنا القول في إبطاله في باب سجدة التلاوة انتهى
قال مسلم في صحيحه مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثير بذلك عند العوام ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد ومن ذهب في العلم هذا المذهب وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى العلم انتهى
ثم قال المولى عبد العزيز وكذلك وضعوا أحاديث كثيرة في التنباك والقليان والقهوة تشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها
(1/96)
قلت ولنعم ما قال الربيع بن خيثم التابعي الكبير إن للحديث ضوءا كضوء النهار يعرف وظلمة كظلمة الليل تنكر انتهى والوضاعون للحديث كثيرون وأغراضهم في الوضع متنوعة متكثرة منهم الزنادقة وغرضهم منها إبطال الشرائع والأحكام والتهكم والتمسخر بدين الإسلام كابن الراوندي الواضع لحديث الباذنجان لما أكل له فإنه عرض بهذا إلى حديث القرآن لما قريء له وماء زمزم لما شرب له وهذا تهكم
بالشريعة واستهزاء بها قيل اشتهرت أربعة عشر آلاف حديث من وضع الزنادقة
قلت ومنها ما أورده الأصوليون من قوله إذا روي عني حديث فأعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه قال الخطابي وضعته الزنادقة ويدفعه قوله {صلى الله عليه وسلم} إني قد أوتيت الكتاب وما يعدله ويروى أوتيت الكتاب ومثله معه انتهى
ثم الروافض والنواصب والكرامية من بين أهل البدع والأهواء المرتكبين لهذا الوضع نصرة لمذاهبهم الباطلة وطعنا في مذاهب مخالفيهم سابقون في هذا الأمر على الفرق الضالة الزائغة كلها ولم تبلغهم الخوارج والمعتزلة في هذا الباب
وفرقة أخرى لم يكن لهم علم الحديث ورأوا المحدثين معظمين في الناس موقرين في أعينهم فدخلوا في عدادهم تكلفا وتمحلا واختاروا هذه الصنعة الشنيعة لأنفسهم طمعا منهم في جاه أهل الحديث وعزهم كأبي البختري ووهب بن وهب القاضي وسليمان بن عمرو النخعي وحسين بن علوان وإسحاق بن نجيح وكان غالب شغلهم التذكير والوعظ
فرقة أخرى من أهل الزهد والعبادة والديانة سمعت في المنام والمعاملة شيئا من النبي {صلى الله عليه وسلم} أو الأئمة الأطهار ورووه معتمدين على جزم منامهم وصحة معاملتهم مبهما وظنه الناس حديثا بالغا إليهم من طريق الظاهر واقعا في نفس الأمر كائنا في الحقيقة واتهم بهذه العلة أبو عبد الرحمن السلمي وغيره من المتصوفة الذين لم يكونوا عارفين بمذاق الحديث وأسقطت رواياتهم عن حيز الاعتبار في القديم والحديث
(1/97)
فرقة أخرى وضعت الأحاديث من غير تعمد وقصد منهم أي سمعوا كلاما من صاحب تجربة أو صوفي أو حكيم من الحكماء السابقين ونسبوه غفلة وتوهما إلى سيد المرسلين ظنا منهم أن مثل هذا الكلام المشحون بالحكمة لا يصدر إلا من معدن النبوة والرسالة ولا نهاية لهذه الطائفة وقد ابتلى به أكثر العوام والله الموفق والعاصم انتهى
قلت وفي الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة بحث ثالث في ذكر الوضاعين المشهورين المكثرين من الكذب على رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
قال ابن الجوزي الوضاعون خلق كثير ومن كبارهم وهب بن وهب يعني القاضي أبو البختري قاضي الرشيد ومحمد بن السائب الكلبي ومحمد بن سعيد الشامي المصلوب وأبو دؤاد النخعي وإسحاق بن نجيح السلطي وغياث بن ابراهيم والمغيرة بن سعيد الكوفي وأحمد ابن عبدالله الجويباري ومأمون أحمد الهروي ومحمد بن عكاشة الكرماني ومحمد بن القاسم الطالقاني ومحمد بن زياد اليشكري انتهى
وقال النسائي والكذابون المعروفون بالوضع أربعة ابن أبي يحيى بالمدينة والواقدي ببغداد ومقاتل بن سليمان بخراسان ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام قيل وضع الجويباري وابن عكاشة ومحمد بن تميم الفاريابي أكثر من عشرة آلاف حديث فخلق الله علماء يذبون ويوضحون الصحيح ويفضحون القبيح فهم حراس الأرض وفرسان الدين كثرهم الله تعالى إلى يوم القيامة
(1/98)
قال ابن الجوزي إن من وقع في حديثه الموضوع والكذب والقلب أنواع من غلب عليهم الزهد فغفلوا عن الحفظ ومنهم من ضاعت كتبه فحدث من حفظه فغلط ومنهم قوم ثقات لكن اختلطت عقولهم في أواخر أعمارهم ومنهم من روى الخطأ سهوا فلما تبين له الصواب لم يرجع إليه أنفة من أن ينسب إلى الغلط ومنهم زنادقة وضعوا لقصد إفساد الشريعة وإيقاع الشك والتلاعب بالدين قال حماد بن زيد وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث ولما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام ومنهم من يضع نصرة لمذهبه تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول انظروا عمن تأخذون هذا الحديث فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا
ومنهم من يضع حسبة ترغيبا وترهيبا ومضمون فعلهم أن الشريعة ناقصة تحتاج إلى تتمة ومنهم من أجاز وضع الأسانيد لكلام حسن ومنهم من قصد التقرب إلى السلطان ومنهم القصاص لأنهم يروون أحاديث ترقق وتنفق وفي الصحاح نقل مثل ذلك ثم إن الحفظ شق عليهم وتنفق عدم الدين ويحضرهم جهال وما أكثر ما تعرض علي أحاديث في مجلس الوعظ قد ذكرها قصاص الزمان فأردها فيحقدون علي انتهى
(1/99)
ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله كما يطابق هواه تنفيقا لجلاله وتقويما لمقاله واستطالة على خصمه ومجيبه للغلب وطلبا للرئاسة وفرارا من الفضيحة إذا ظهر عليه من المناظرة ومن أسبابه تنفيق المدعي للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحا أو ضعيفا أو موضوعا فيقول من كان في دينه رقه وفي علمه دغل هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان وينسب ذلك إلى مؤلفات يقل وجودها يظهر للأمة بأنه قد اطلع على ما لم يطلعها عليه وعرف مالم يعرفوه وربما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسؤول عنه قبل هذه المرة فإن هذا نوع من أنواع الوضع وشعبة من شعب الكذب وقد يسمعه من لم يقف على حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسب ذلك الكلام إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويقول رواه فلان وصححه فلان كما قال ذلك المخذول انتهى
قال السيد الشريف والواضعون للحديث أصناف وأعظمهم ضررا من انتسب إلى الزهد فوضع احتسابا ووضعت الزنادقة أيضا جملا ثم نهضت جهابذة الحديث بكشف عوارها ومحو عارها ولله الحمد انتهى
قال مسلم في صحيحه قال يحيى بن سعيد لم نر الصالحين في
شيء أكذب منهم في الحديث وفي رواية لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث قال مسلم يقول يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب انتهى
قلت والكتب المصنفة في ضبط الأحاديث الموضوعة كثيرة وأجمعها وأحسنها الفوائد المجموعة للإمام تاج الإسلام محمد بن علي الشوكاني قال فيه فمن كان عنده هذا الكتاب فقد كان عنده جميع مصنفات المصنفين في الموضوعات مع زيادات وقفت عليها في كتب الجرح والتعديل وتراجم رجال الرواية وتخريجات المخرجين وتصنيفات المحققين انتهى
الباب الثالث في طبقات كتب الحديث وذكر الأحاديث المحتج بها في الأحكام الشرعية وأنواع ضبط الحديث وتحمل الحديث وتعريف المحدث وما يتصل بذلك وفيه فصول
الفصل الأول في طبقات كتب الحديث
(1/100)
اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلا خبر النبي {صلى الله عليه وسلم} بخلاف المصالح فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره {صلى الله عليه وسلم} إلا تلقي الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة سواء كانت من لفظه {صلى الله عليه وسلم} أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة من الصحابة والتابعين بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص والإشارة من الشارع فمثل ذلك رواية عنه {صلى الله عليه وسلم} دلالة وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا تتبع الكتب المدونة في علم الحديث فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة
وكتب الحديث على طبقات مختلفة ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة صفات كتب الحديث فنقول هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر واجمعت
الأمة على قبوله والعمل به ثم ما استفاض من طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة فإن الحرمين محل الفقهاء الراشدين في القرون الأولى ومحط رحال العلماء طبقة بعد طبقة يبعد أن يسلموا منهم الخطأ الظاهر أو كان قولا مشهورا معمولا به في قطر عظيم مرويا عن جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين ثم ما صح أو حسن سنده وشهد به علماء الحديث ولم يكن قولا متروكا لم يذهب إليه أحد من الأمة إما ما كان ضعيفا موضوعا أو منقطعا أو مقلوبا في سنده أو متنه أو من رواية المجاهيل أو مخالفا لما أجمع عليه السلف طبقة بعد طبقة فلا سبيل إلى القول به
(1/101)
فالصحة أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح أو حسن غير مقلوب ولا شاذ ولا ضعيف إلا مع بيان حاله فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله لا يقدح في الكتاب والشهرة أن يكون الأحاديث المذكورة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها وبعد تدوينها فيكون أئمة الحديث قبل المؤلف رووها بطرق شتى وأوردوها في مسانيدهم ومجاميعهم وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب وحفظه وكشف مشكله وشرح غريبه وبيان إعرابه وتخريج طرق أحاديثه واستنباط فقهها والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة إلى يومنا هذا حتى لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه إلا ما شاء الله ويكون نقاد الحديث قبل المصنف وبعده وافقوه في القول بها وحكموا بصحتها وارتضوا رأي المصنف فيها وتلقوا كتابه بالمدح والثناء ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون عنها ويعتمدون عليها ويعتنون بها ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها وتعظيمها
وبالجملة فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان كملا في كتاب كان مي الطبقة الأولى ثم وثم وإن فقدتا رأسا لم يكن له اعتبار وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل إلى الاستفاضة ثم إلى الصحة القطعية أعني القطع المأخوذ في علم الحديث المفيد للعمل والطبقة الثانية إلى الاستفاضة أو الصحة القطعية أو الظنية وهكذا يزال الأمر
(1/102)
فالطبقة الأولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم قال الشافعي رحمه الله تعالى أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك وقد اتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه وأما على رأي غيره فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه ووصل منقطعة مثل كتاب ابن أبي ذؤيب وابن عيينة والثوري ومعمر وغيرهم ممن شارك في الشيوخ وقد رواه عن مالك بغير واسط أكثر من ألف رجل وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد كما كان النبي {صلى الله عليه وسلم} ذكره في حديثه فمنهم المبرزون من الفقهاء كالشافعي رحمه الله تعالى ومحمد بن الحسن وابن وهب وابن القاسم ومنهم نحارير المحدثين كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق ومنهم الملوك الأمراء كالرشيد وابنيه وقد اشتهر في عصره حتى بلغ إلى جميع ديار الإسلام ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة وأقوى به عناية وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم حتى أهل العراق في بعض أمرهم ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه ويذكرون متابعاته وشواهده ويشرحون غريبه ويضبطون مشكله ويبحثون عن فقهه ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها غاية وإن شئت الحق الصراح فقس كتاب الموطأ بكتاب الآثار لمحمد والأمالي لأبي يوسف تجد بينه وبينهما بعد المشرقين فهل سمعت أحدا من المحدثين والفقهاء تعرض لهما واعتنى بهما
(1/103)
أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما وإنه كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب ابن أبي شيبة وكتاب الطحاوي ومسند الخوارزمي وغيرها تجد بينها وبينهما بعد المشرقين وقد استدرك الحاكم عليهما أحاديث هي على شرطهما ولم يذكراها وقد تتبعت ما استدركه فوجدته قد أصاب من وجه ولم يصب من وجه وذلك لأنه وجد أحاديث مروية عن رجال الشيخين بشرطهما في الصحة والاتصال فاتجه استدراكه عليهما من هذا الوجه ولكن الشيخين لا يذكران إلا حديثا قد تناظر فيه مشايخهما وأجمعوا على القول به والتصحيح له كما أشار مسلم حيث قال لم أذكر هاهنا إلا ما أجمعوا عليه وجل ما تفرد به المستدرك كالموكى عليه المخفي مكانه في زمن مشايخهما وإن اشتهر أمره من بعد أو ما اختلف المحدثون في رجاله فالشيخان كأساتذتهما كانا يعتنيان بالبحث عن خصوص الأحاديث في الوصل والانقطاع وغير ذلك حتى يتضح الحال والحاكم يعتمد في الأكثر مخرجة من صنائعهم كقوله زيادة الثقات مقبولة وإذا اختلف الناس في الوصل والإرسال والوقف والرفع وغير ذلك فالذي حفظ الزيادة حجة على من لم يحفظ والحق أنه كثيرا ما يدخل الخلل في الحفاظ من قبل رفع الموقوف ووصل المنطقع لا سيما عند رغبتهم في المتصل المرفوع وتنويههم به فالشيخان لا يقولان بكثير مما يقوله الحاكم والله أعلم وهذه الكتب الثلاثة التي اعتني
القاضي عياض في المشارق بضبط مشكلها ورد تصحيفها
(1/104)
الطبقة الثانية كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين ولكنها تتلوها كان مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث ولم يرضوا في كتبهم هذه بالتساهل فيما اشترطوا على أنفسهم فتلقاها من بعدهم بالقبول واعتنى بها المحدثون والفقهاء طبقة بعد طبقة واشتهرت فيما بين الناس وتعلق بها القوم شرحا لغريبها وفحصا عن رجالها واستنباطا لفقهها وعلى تلك الأحاديث بناء عامة العلوم كسنن أبي داؤد وجامع الترمذي ومجتبى النسائي وهذه الكتب مع الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها رزين في تجريد الصحاح وابن الأثير في جامع الأصول وكاد مسند أحمد يكون من جملة هذه الطبقة فإن الإمام أحمد جعله أصلا يعرف به الصحيح والسقيم قال ما ليس فيه فلا تقبلوه هكذا في حجة الله البالغة وقال نجله المولى عبد العزيز الدهلوي في مسند أحمد كثير من ضعفاء الأحاديث لم يبين الإمام حاله لكن الضعيف الذي فيه يحسن من كثير حديث مما يصححه المتأخرون وقد جعل علماء الحديث والفقه المسند المذكور أسوتهم في هذا الشأن وفي الحقيقة هو ركن عظيم في هذا الفن وكذا ينبغي عد ابن ماجه في هذه الطبقة وإن كان بعض أحاديثها في غاية الضعف انتهى ولم يعد ابن الأثير ابن ماجه في الصحاح وجعل سادسها الموطأ والحق معه قال في الحجة البالغة
الطبقة الثالثة مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم في زمانهما وبعدهما جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف
(1/105)
والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء كثير تداول ولم يتفحص عن صحتها وسقمها المحدثون كثير فحص ومنه ما لم يخدمه لغوي بشرح ولا فقيه بتطبيقه بمذاهب السلف ولا محدث ببيان مشكلة ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله ولا أريد المتأخرين المتعمقين وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها واختفائها وخمولها كمسند أبي يعلى ومصنف عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومسند عبد بن حميد والطيالسي وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني وكان قصدهم جمع ما وجدوه لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل انتهى قلت ورجال هذه الكتب بعضهم موصوفون بالعدالة وبعضهم مستورون وبعضهم مجهول الحال ولهذا لم يكن أكثر أحاديث هذه الكتب معمولا بها عند الفقهاء بل انعقد الإجماع على خلافها وبين هذه الكتب أيضا تفاوت وتفاضل بعضها أقوى من بعض ومنها مسند الشافعي وسنن ابن ماجه ومسند الدارمي وسنن الدارقطني وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم هكذا قال المولى عبد العزيز الدهلوي وهذا تأويل ما قاله الشيخ عبد الحق الدهلوي رحمه الله تعالى الأحاديث الصحيحة لم تنحصر في صحيح البخاري ومسلم ولم يستوعبا الصحاح كلها بل هما منحصران في الصحاح والصحاح التي عندهما وعلى شرطهما أيضا لم يورداهما في كتابيهما فضلا عما عند غيرهما
قال البخاري ما أوردت في كتابي هذا إلا ما صح ولقد تركت كثيرا من الصحاح وقال مسلم الذي أوردت في هذا الكتاب من الأحاديث صحيح ولا أقول أن ما تركت ضعيف لا بد أن يكون في هذا الترك والإتيان وجه تخصيص الإيراد والترك إما من جهة الصحة أو من جهة مقاصد أخر والحاكم أبو عبدالله النيسابوري صنف
(1/106)
كتابا سماه المستدرك يعني أن ما تركه البخاري ومسلم من الصحاح أورده في هذا الكتاب وتلافى واستدرك بعضها على شرط الشيخين وبعضها على شرط أحدهما وبعضها على غير شرطهما وقال إن البخاري ومسلما لم يحكما بأنه ليس أحاديث صحيحة غير ما خرجاه في هذين الكتابين وقال قد حدث في عصرنا هذا فرقة من المبتدعة أطالوا ألسنتهم بالطعن على أئمة الدين بأن مجموع ما صح عندكم من الأحاديث لم يبلغ زهاء عشرة آلاف ونقل عن البخاري أنه قال حفظت من الصحاح مائة ألف حديث ومن غير الصحاح مائتي ألف والظاهر والله أعلم أنه يريد الصحيح على شرطه ومبلغ ما أورد في هذا الكتاب مع تكرار سبعة آلاف ومائتان وخمس وسبعون حديثا وبعد حذف التكرار أربعة آلاف ولقد صنف الآخرون من الأئمة صحاحا مثل صحيح ابن خزيمة الذي يقال له إمام الأئمة وهو شيخ ابن حبان وقال ابن حبان في مدحه ما رأيت على وجه الأرض أحدا أحسن في صناعة السنن وأحفظ للألفاظ الصحيحة منه كان السنن والأحاديث كلها نصب عينيه ومثل صحيح ابن حبان تلميذ ابن خزيمة ثقة ثبت فاضل إمام فهام وقال الحاكم كان ابن حبان من أوعية العلم واللغة والحديث والوعظ وكان من عقلاء الرجال ومثل صحيح الحاكم الحافظ الثقة المسمى بالمستدرك وقد تطرق في كتابه هذا التساهل وأخذوا عليه وقالوا ابن خزيمة وابن حبان أمكن وأقوى من الحاكم وأحسن وألطف في الأسانيد والمتون ومثل المختارة للحافظ ضياء الدين المقدسي وهو أيضا خرج صحاحا ليست في الصحيحين وقالوا كتابه أحسن من المستدرك ومثل صحيح بن عوانة وابن السكن والمنتقى لابن جارود وهذه الكتب كلها مختصة بالصحاح ولكن جماعة انتقدوا عليهاتعصبا وإنصافا وفوق كل ذي علم عليم انتهى وقد أوردت تراجم هذه الكتب وغيرها في جنان المتقين فليعلم قال في الحجة البالغة
(1/107)
والطبقة الرابعة كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين كانت في المجاميع والمسانيد المختفية فنوهوا بأمرها وكانت على السنة من لم يكتب حديثه المحدثون ككثير
من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء أو كانت من آثار الصحابة والتابعين أو من أخبار بني إسرائيل أو من كلام الحكماء والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي {صلى الله عليه وسلم} سهوا أو عمدا أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح فرواها بالمعنى قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة أو كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة جعلوها أحاديث مستبدة برأسها عمدا أو كانت جملا شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثا واحدا بنسق واحد ومظنة هذه الأحاديث كتاب الضعفاء لابن حبان وكامل ابن عدي وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني وابن عساكر وابن نجار والديلمي وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفا محتملا وأسوؤها ما كان موضوعا أو مقلوبا شديدا لنكارة وهذه الطبقة مادة كتاب الموضوعات لابن الجوزي انتهى
قال المولى عبد العزيز الدهلوي وأحاديث هذه الطبقة التي لم يعلم في القرون الأولى إسمها ولا رسمها وتصدى المتأخرون لروايتها فهي لا تخلو عن أمرين إما أن السلف تفحصوا عنها ولم يجدوا لها أصلا حتى يشتغلوا بروايتها أو وجدوا لها أصلا ولكن صادفوا فيها قدحا أو علة موجبة لترك روايتها فتركوها وعلى كل حال ليست هذه الأحاديث صالحة للاعتماد عليها حتى يتمسك بها في إثبات عقيدة أو عمل ولنعم ما قال بعض الشيوخ في أمثال هذا شعر
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وقد أضل هذا القسم من الأحاديث كثيرا من المحدثين عن نهج الصواب حيث اغتروا بكثرة طرقها الموجودة في هذه الكتب وحكموا بتواترها وتمسكوا بها في مقام القطع واليقين وأحدثوا مذاهب تخالف أحاديث الطبقتين الأوليين على ثقتها
(1/108)
والكتب المصنفة في أحاديث هذا القسم كثيرة منها ما ذكر ومنها كتاب الضعفاء للعقيلي وتصانيف الحاكم وتصانيف ابن
مردويه وتصانيف ابن شاهين وتفسير ابن جرير وفردوس الديلمي بل سائر تصانيفه وتصانيف أبي الشيخ وغالب المساهلة ووضع الأحاديث في باب المناقب والمثالب والتفسير وبيان أسباب النزول وباب التأريخ وذكر أحوال بني إسرائيل وقصص الأنبياء السابقين وذكر البلدان والأطعمة والأشربة والحيوانات وفي الطب والرقي والعزائم والدعوات وثواب النوافل أيضا وقعت هذه الحادثة وقد جعلها ابن الجوزي في موضوعاته مجروحة مطعونة وبرهن على وضعها وكذبها وكتاب تنزيه الشريعة يكفي لدفع تلك الغائلة ثم المسائل النادرة كإسلام أبوي النبي {صلى الله عليه وسلم} وروايات المسح على الرجلين عن ابن عباس وأمثالها من النوادر أكثرها تخرج من هذه الكتب حتى أن غالب بضاعة الشيخ جلال الدين السيوطي ورأس ماله في تصنيف الرسائل ونوادرها هي الكتب المشار إليها فالاشتغال بأحاديثها واستنباط الأحكام منها لا طائل تحته ومع ذلك من كانت له رغبة في تحقيقها فعليه بميزان الضعفاء للذهبي ولسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني ومجمع البحار للشيخ محمد طاهر الكجراتي يغني لشرح غريبها وتوجيه عباراتها عن جميع المواد انتهى
قال في الحجة البالغة وههنا طبقة خامسة منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء والصوفية والمؤرخين ونحوهم وليس له أصل في هذه الطبقات الأربع ومنها ما دسه الماجن في دينه العالم بلسانه فأتى بإسناد قوي لا يمكن الجرح فيه كلام بليغ لا يبعد صدوره عنه {صلى الله عليه وسلم} فأثار في الإسلام مصيبة عظيمة لكن الجهابذة من أهل الحديث يوردون مثل ذلك على المتابعات والشواهد فتهتك الأستار ويظهر العوار
أما الطبقة الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين وحوم حماها مرتعهم ومسرحهم
(1/109)
وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليه والقول به إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد وقد جعل الله لكل شيء قدرا
وأما الرابعة فالاشتغال بجمعها والاستنباط منها نوع تعمق من
المتأخرين وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الروافضة والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم فالاقتصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث والله أعلم انتهى
قال المولى عبد العزيز الدهلوي ولما اتضح حال الطبقات وترتيب كتب الحديث وتقرر أن الطبقة العليا في هذا الباب الموطأ والصحيحان فلا بد من مزيد اهتمام بتحقيق هذه الثلاثة أولا وبالبقية من الصحاح الستة ثانيا والظن الغالب أن بعد تحقيق الموطأ وأختيه يفرغ عن الأمر بنحو ثلثين في تحقيق بقية الأصول الستة بلامين ولا يبقى إلا القدر اليسير وأيضا قال إن علم الحديث لما كان من قبيل الخبر والخبر يحتمل الصدق والكذب فلا بد من تحصيل هذا العلم من أمرين الأول ملاحظة حال الرواة والثاني الاحتياط العظيم في فهم معاني الأحاديث لأن المساهلة في الأمر الأول توجب التباس الكاذب بالصادق وعدم الاحتياط في الثاني توجب اشتباه المراد بغير المراد وعلى التقديرين لا تحصل الفائدة التي ترجى من علم الحديث بل يحصل ضدها الموجب للضلال والإضلال معاذ الله من ذلك
(1/110)
فالأمر الأول أعني ملاحظة حال الرواة المخبرين فكان لهم في الصدر الأول من التابعين وتبعهم إلى زمن البخاري ومسلم طريقا آخر حيث كانوا يبحثون عن أحوال رجال كل بلدة وزمان ويفتشون عنها فمتى شموا في أحد منهم رائحة الكذب وسوء الحفظ وعدم التدين يقبلوا حديثه ومن ثم صنفت دفاتر مبسوطة وكتب مضبوطة في أحوال الرجال وأما اليوم فحاله على طريق آخر ولذلك وجب التمييز بين الكتب المجردة الصحاح القابلة اللاعتماد وبين الكتب الواجبة الرد والترك لئلا يقع الطالب في ورطة التخليط وقد فات هذا التمييز من كثير من المحدثين المتأخرين حتى خالفوا في رسائلهم جمهور السلف الصالحين وتمسكوا بأحاديث الكتب التي لا عبرة بها عند المحققين المبرزين
والأمر الثاني أي الاحتياط في فهم معاني الأحاديث ف مشارق
الأنوار للقاضي عياض يكفي لتوضيح معاني الصحيحن والموطأ وجامع الأصول لابن الأثير يغني عن الأمهات الست كلها ومجمع البحار يفي لتحقيق جميع كتب الحديث من الطبقات الأربع المذكورة وشرح الشيخ عبد الرؤوف المناوي على الجامع الصغير للسيوطي كاف واف لشرح أكثر الأحاديث ولكن كلام الشراح تنوع في شرحهم الأحاديث وتوجيهاتها كثيرا رطبا ويابسا فليعلم الطالب رجالا عليهم الاعتماد في هذا الشأن وعلى كتبهم وتأليفهم التعويل والإيقان
منهم الإمام النووي شارح صحيح مسلم والبغوي وكتابه شرح السنة كاف في فقه الحديث وتوجيه مشكلاته حتى كاد يحصل منه شرح المصابيح والمشكاة كليهما والخطابي شارح السنن لأبي داود وهؤلاء هم الشوافع
ومنهم الطحاوي القدوة في شرح الأحاديث وكتابه معاني الآثار متمسك للحنفية
(1/111)
ومنهم ابن عبد البر المالكي مقدم هذه الجماعة وكتاباه الاستذكار والتمهيد تذكرتان عنه وبالجملة فهؤلاء الأئمة قولهم هو المعتمد عليه وكلامهم هو المرجع إليه وإلا فشراح كتب الحديث كثيرون يعسر عد أساميهم وأسامي كتبهم ولكل منهم شأن آخر ولكنهم مع ذلك آخذون من أولئك الأئمة فإن تيسرت لأحد كتب هؤلاء القوم ارتفعت حاجة الطالب عن تشويشات المتأخرين وتكلفاتهم الباردة في الدين
وللشيخ ولي الدين المحدث رضي الله عنه قواعد عجيبة وفوائد غريبة لفهم معاني الأحاديث ودفع التعارض من بينها وكتاب المغيث في مختلف الحديث حسن بسن نموذجا في هذا الباب وحصول ملكة التمييز لأحد ما بين صحيح الحديث وسقيمه واستقامة الذهن وسلامة الطبع وعدم الميل إلى الخطأ وقبول الصواب بقليل التنبيه والإيماء نعمة عظمى ودولة كبرى فإن العلم ومواده كثير في العالم وإنما العزيز هي الملكة المذكورة فإنها الكبريت الأحمر شعر
( رسائل إخوان الصفاء كثيرة
ولكن إخوان الصفاء قليل
الفصل الثاني في ذكر الأحاديث المحتج بها في الأحكام الشرعية
الاحتجاج في الأحكام بالخبر الصحيح مجمع عليه وكذلك بالحسن لذاته عند عامة العلماء وهو ملحق بالصحيح في باب الاحتجاج وإن كان دونه في المرتبة والحديث الضعيف الذي بلغ بتعدد الطرق مرتبة الحسن لغيره أيضا محتج به وما اشتهر من أن الحديث الضعيف معتبر في فضائل الأعمال لا في غيرها المراد مفرداته لا مجموعها لأنه داخل في الحسن لا في الضعيف صرح به الأئمة
وقال بعضهم إن كان الضعيف من جهة سوء حفظ أو اختلاط أوتدليس مع وجود الصدق والديانة يجبر بتعدد الطرق وإن كان من جهة إتهام الكذب أو الشذوذ أو فحش الخطأ لا يجبر بتعدد الطرق والحديث محكوم عليه بالضعف ومعمول به في فضائل الأعمال وعلى مثل هذا ينبغي أن يحمل ما قيل إن لحوق الضعيف بالضعيف لا يفيد قوة وإلا فهذا القول ظاهر الفساد هكذا قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في مقدمة المشكاة
(1/112)
وقال النووي في الأذكار ذكر الفقهاء والمحدثون أنه يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف مالم يكن موضوعا وأما الأحكام كالحلال والحرام والمعاملات فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح والحسن إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك كما إذا ورد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة فإن المستحب أن يتنزه عن ذلك ولكن لا يجب وخالف ابن العربي المالكي في ذلك فقال إن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقا
وقال السخاوي في القول البديع سمعت شيخنا ابن حجر مرارا يقول شرائط العمل بالحديث الضعيف ثلاثة
الأول متفق عليه وهوأن يكون الضعف غيرشديد كحديث من انفرد من الكذابين والمتهمين ممن فحش غلطه
والثاني أن يكون مندرجا تحت أصل عام فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا
والثالث أن لا يعتقد عند العمل ثبوته لئلا ينسب إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} ما لم يقله والأخيران عن عبد السلام وابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه وعن أحمد أنه يعمل به إذا لم يوجد غيره وفي رواية عنه ضعيف الحديث أحب إلينا من رأي الرجال
قال العلامة ابن القيم في اعلام الموقعين الأصل الرابع الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به الحديث الضعيف عنده قسم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن والضعيف بل إلى صحيح ضعيف والضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ولا اجماعا على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقة على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس
(1/113)
فقدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة على محض القياس وأجمع أهل الحديث على ضعفه وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر على القياس وأكثر أهل الحديث يضعفه وقدم حديث أكثر الحيض عشرة أيام وهو ضعيف باتفاقهم على محض القياس فإن الذي تراه في اليوم الثالث عشر مساو في الحد والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر وقدم حديث لا مهر أقل من عشرة دراهم وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه على محض القياس فإن بذل الصداق معاوضة في مقابلة بذل البضع فما تراضيا عليه جاز قليلا كان أو كثيرا
وقدم الشافعي خبر تحريم صيدوج مع ضعفه على القياس وقدم خبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد وقدم في أحد قوليه حديث من قاء أو رعف فليوضئ وليبن على صلاته على القياس مع ضعف الخبر وارساله وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص ولا قول الصحابة أوواحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى الأصل الخامس وهو القياس فاستعمله للضرورة وقد قال في كتاب الخلال سألت الشافعي عن القياس فقال إنما يصار إليه عند الضرورة انتهى
وذكر ابن حزم الإجماع على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس إذا لم يجد في الباب غيره
وقال الملا علي القاري إن أبا حنيفة قدم الحديث ولو كان ضعيفا على القياس وكذا اعتبر الحديث الموقوف وترك الرأي وكذا عمل بالمراسيل انتهى
وقال ابن القيم وأصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي وعلى ذلك بنى مذهبه فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد بن حنبل وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا انتهى
(1/114)
فتحصل أن في العمل بالحديث الضعيف ثلاثة مذاهب لا يعمل به مطلقا يعمل به في الفضائل بشروطه وقيد ابن الصلاح جواز رواية الضعيف باحتمال صدقه في الباطن وهل يشترط في الاحتمال أن يكون قويا أم لا فيه خلاف وظاهر كلام مسلم أنه إذا لم يكن قويا لا يعتد به
وللعلامة الدواني في أنموذجه على هذه المسألة إشكال أورده على القوم وحاول الجواب عنه بما زاده إشكالا وليس بشيء وهو أنه اتفقوا على
أنه لا يعمل بالحديث الضعيف ولا يثبت به الأحكام الشرعية ثم أنهم ذكروا أنه يجوز بل يستحب العمل به في فضائل الأعمال كما في الأذكار وفيه إشكال لأن جواز العمل واستحبابه من الأحكام الشرعية فإذا استحب العمل به كان ثبوت ذلك بالحديث الضعيف وهو ينافي ما تقدم ويناقضه وحاول بعضهم التقصي عنه بأن المراد أنه يجوز روايته وهو لا يرتبط بما قالوه والذي يصلح للتعويل عليه أن يقال إذا وجد حديث في فضيلة عمل من الأعمال لا يحتمل الحرمة والكراهة يجوز العمل به رجاء للثواب فإن دار بين الحرمة والصواب فهو أسهل لأن المباح يصير بالنية مستحبا فجواز العمل به ليس لأجل الحديث على أن الإباحة أيضا من الأحكام الخمسة فالحق أن الجواز معلوم من خارج والاستحباب معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في الدين فلم يثبت شيء من الأحكام بالحديث انتهى
(1/115)
وأجاب عن ذلك الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض بما نصه أقول إذا احطت خبرا بما تقدم في كلام السخاوي عرفت أن ما قاله الجلال مخالف لكلامهم برمته وما نقله من الاتفاق غير صحيح مع ما سمعته من الأقوال والاحتمالات التي أبدأها لا تفيد سوى تسويد وجه القرطاس والذي أوقعه في الحيرة توهمه أن عدم ثبوت الأحكام به متفق عليه وأنه يلزم من العمل به في الفضائل والترغيب أنه يثبت به حكم من الأحكام وكلاهما غير صحيح أما الأول فلأن من الأئمة من جوز العمل به بشروطه وقدمه على القياس وأما الثاني فلأن ثبوت الفضائل والترغيب لا يلزمه الحكم ألا ترى أنه لو روي حديث ضعيف في ثواب بعض الأمور الثابت استحبابها والترغيب فيه أو في فضائل بعض الصحابة أو الأذكار المأثورة لم يلزم مما ذكر ثبوت حكم أصلا ولا حاجة لتخصيص الأحكام والأعمال كما توهم للفرق الظاهر بين الأعمال وفضائل الأعمال وإذا ظهر عدم الصواب لأن القوس في يد باريها ظهر أنه لا إشكال ولا خلل ولا اختلال انتهى
قلت وأما الحديث المرسل الذي رواه التابعي مطلقا أو تابعي كبير إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فلا يحتج به الإمام الشافعي والجمهور واحتج به أو حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه فإن اعتضد بمجيئه من وجه آخر مسندا أو مرسلا ممن يقبل عنه العلم أو وافق قول الصحابة وأفتى أكثر العلماء بمقتضاه فإنه صحيح
قال الشافعي لا أقبل مرسل غير كبار التابعين إلا بالشرط الذي وصفته ومن ثم احتج الشافعي بمراسيل ابن المسيب لأنها وجدت مسندة من وجوه أخر
(1/116)
قال النووي إنما اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي إرسال ابن المسيب عندنا حسن على قولين أحدهما أنها حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل لأنها وجدت مستندة ثانيهما أنها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها من المراسيل وإنما رجح الشافعي بمرسله والترجيح بالمرسل جائز قال الخطيب والصواب الثاني وأما الأول فليس بشيء لأن في مراسيل سعيد ما لا يوجد بحال من وجه آخر يصح
فإن قيل قولكم يقبل المرسل إذا جاء مسندا من وجه آخر لا حاجة إلى المراسل بل الاعتماد حينئذ على الحديث المسند أجيب بأنه بالمسند تبينا صحة المرسل وصارا دليلين يرجح بهما عند معارضة دليل واحد وأما مراسيل الصحابة كابن عباس وغيره من صغار الصحابة عنه {صلى الله عليه وسلم} مما لم يسمعوه منه فهو حجة وإذا تعارض الوصل والإرسال بأن اختلف الثقات في حديث فيرويه بعضهم متصلا وآخر مرسلا كحديث لا نكاح إلا بولي رواه اسرائيل وجماعة عن أبي اسحاق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي {صلى الله عليه وسلم} ورواه الثوري وشعبة عن أبي اسحاق عن أبي بردة عن النبي {صلى الله عليه وسلم} فقيل الحكم للمسند إذا كان عدلا ضابطا قال الخطيب وهو الصحيح وسئل عنه البخاري فحكم لمن وصل وقال الزيادة من الثقة مقبولة وتقبل زيادة الثقات مطلقا على الصحيح
الفصل الثالث في ضبط الحديث ودرسه وتحمله
إعلم أن الضبط الذي يؤخذ في صحة الحديث كان له في الأمة المرحومة ثلاث أحوال
الأول أنهم كانوا يحفظون الأحاديث في زمن الصحابة والتابعين عن ظهر غيب ويقتصرون عليها وكان ضبطهم يومئذ في جودة الحفظ فقط
الثاني أنهم كانوا يكتبون الأحاديث في زمن تبع التابعين وأوائل المحدثين إلى الطبقه السابعة أو الثامنة وكان ضبط ذلك الوقت في تبيين الخط والاحتياط في الثقات والحركات والسكنات وتصوير الحروف ومقابلتها على أصولها الصحيحة وحفظ الكتاب عن العوارض الطارئة عليه ونحوها
(1/117)
الثالث أنهم أي الحفاظ صنفوا كتبا جمة في أسماء الرجال وغريب الحديث وضبط الألفاظ المشكلة وصنفوا شروحا لها حافلة وتعرضوا بما يليق به التعرض والبحث عن أحوالها
وأما اليوم فالضبط أن ينظر الطالب الراغب في تصانيف هؤلاء الأعلام وشروحها ويروي الأحاديث بحسبها مع الصحة والإتقان ومن ثم تساهل أهل الحديث وتسامحوا في هذا الزمان فيما شدد فيه المتقدمون الأعيان كما تساهل المتوسطون في الحفظ واكتفوا منه على الخط فقط ولهذا شاعت فيهم الوجادة والمنابذة المجردة ونحوها بخلاف الطبقات السابقة فإنهم اجتهدوا اجتهادا تاما في كل من هذه الأمور لتكميل هذا الشأن فاشتغال المحدث بأحوال رجال السند بعد تصحيح أساميهم وبتفرقة وثوقهم سيما في الصحيحين ومثلهما وبتأويل لفظ ليس منا من فعل كذا وإن الله قبل وجهه ونحوها وبالفروع الفقهية وبيان اختلاف مذاهب الفقهاء وبالتوفيق في اختلاف رواياتهم وترجيح بعض الأحاديث على بعضها من قبيل الإمعان والتعمق وكانت أوائل هذه الأمة المرحومة مشتغلة بها وإنما يخوض في أمثال هذه الأمور الفقهاء والمتكلمون
(1/118)
قال القسطلاني ويستحب الاعتناء بضبط الحديث وتحقيقه لفظا وشكلا وإيضاحا من غير مشق ولا تعليق بحيث يؤمن معه اللبس أو إنما يشكل المشكل ولا يشتغل بتقييد الواضح وصوب عياض شكل الكل للمبتدئ وغير المعرب ورأى بعض مشايخنا الاقتصار في ضبط البخاري على رواية واحدة لا كما يفعله من ينسخ البخاري من نسخة الحافظ شرف الدين اليونيني لما يقع في ذلك من الخلط الفاحش بسبب عدم التمييز ويتأكد ضبط الملبس من الأسماء لأنه نقل محض لا مدخل للإفهام فيه كبريد بضم الموحدة فإنه يشتبه بيزيد بالتحتية فضبط ذلك أولى لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يدل عليه ولا مدخل للقياس به وليقابل ما يكتبه بأصل شيخه أو بأصل أصل شيخه المقابل به أصل شيخه أو فرع مقابل بأصل السماع وليعن بالتصحيح بأن يكتب صح على كلام صح رواية ومعنى لكونه عرضة للشك أو الخلاف وكذا بالتضبيب ويسمى التمريض بأن يمد خطأ أوله كرأس الصاد ولا يلصقه بالممدود عليه على ثابت نقلا فاسدا لفظا أو معنى أو ضعيف أو ناقص ومن الناقص موضع الإرسال ويصلح النية في التحديث بحيث يكون مخلصا لا يريد بذلك عرضا دنيويا بعيدا عن حب الرئاسة ورعونتها وليقرأ الحديث بصوت حسن فصيح مرتل ولا يسرد سردا لئلا يلتبس أو يمنع السائل من إدراك بعضه وقد تسامح بعض الناس في ذلك وصار يعجل استعجالا يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة بل كلمات والله تعالى بمنه وكرمه يهدينا سواء السبيل انتهى
وأما درس الحديث فله ثلاثة طرق عند علماء الحرمين الشريفين
أولها السرد وهو أن يتلو الشيخ المستمع أو القارئ كتابا من كتب هذا الفن من دون تعرض مباحثه اللغوية والفقهية وأسماء الرجال ونحوها
وثانيها طريق الحل والبحث وهو أن يتوقف بعد تلاوة الحديث الواحد مثلا على لفظه الغريب وتراكيبه العويصة واسم قليل الوقوع من أسماء الإسناد وسؤال ظاهر الورود والمسألة المنصوص عليها وبحلة بكلام متوسط ثم يستمر في قراءة ما بعدها
(1/119)
وثالثها طريق الإمعان وهو أن يذكر على كل كلمة ما لها وما عليها كما يذكر مثلا على كل كلمة غريبة وتراكيب عويصة شواهدها من كلام الشعراء وأخوات تلك الكلمة وتركيبها في الاشتقاق ومواضع استعمالاتها وفي أسماء الرجال حالات قبائلهم وسيرهم ويخرج المسائل الفقهية على المسائل المنصوص عليها ويقص القصص العجيبة والحكايات الغريبة بأدنى مناسبة وما أشبهها فهذه الطرق هي المنقولة عن علماء الحرمين قديما وحديثا
قال المولى ولي الله الدهلوي ومختار الشيخ حسن العجيمي والشيخ أحمد القطان والشيخ أبي طاهر الكردي هو الطريق الأول يعني السرد بالنسبة إلى الخواص المتبحرين ليحصل لهم سماع الحديث وسلسلة روايته على عجالة ثم إحالة بقية المباحث على شروحه لأن ضبط الحديث مداره اليوم على تتبع الشروط والحواشي وبالنسبة إلى المبتدئين والمتوسطين الطريق الثاني يعني البحث والحل ليحيطوا بالضروري في علم الحديث علما ويستفيدوا منه على وجه التحقيق دركا وفهما وعلى هذا يسرحون أنظارهم في شرح من شروح كتب الحديث غالبا ويرجعون إليه أثناء البحث لحل العضال ورفع الأشكال وأما الطريق الثالث فهو طريقة القصاص القاصدين منه إظهار الفضل والعلم لأنفسهم ونحوها والله أعلم دون رواية الحديث وتحصيل العلم
وأما تحمل الحديث فيصح قبل الإسلام وكذا قبل البلوغ فإن الحسن والحسين وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم تحملوا قبل البلوغ ولم يزل الناس يسمعون الصبيان واختلف في الزمن الذي يصح فيه السماع من الصبي قيل خمس سنين وقيل يعتبر كل صغير بحاله فإذا فهم الخطاب ورد الجواب صححنا سماعه وإن كان دون خمس وإلا لم يصح ولتحمله طرق
أعلاها السماع من لفظ الشيخ سواء قرأ بنفسه أو قرأ غيره على الشيخ وهو يسمع ويقول فيه عند الأداء أخبرنا والأحوط الإفصاح
فإن قرأ بنفسه قال قرأت على فلان وإلا قال قرأ علي فلان وأنا أسمع
والثاني القراءة عليه
(1/120)
والثالث الإجازة ولها أنواع أعلاها إجازة معين لمعين كأجزتك الصحيح للبخاري مثلا وأجزت فلانا جميع ما اشتمل عليه فهرسي ونحوه وإجازة معين في غير معين كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي وإجازة العموم كأجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي أو زماني أو لأهل الإقليم الفلاني ويقول المحدث بها أنبأنا وأنبأني والصحيح جواز الرواية بهذه الأقسام وإجازة المعدوم كأجزت لمن يولد لفلان والصحيح المنع ولو قال لفلان ولمن يولد له أو لك ولعقبك جاز كالوقف والإجازة للطفل الذي لم يميز صحيحه لأنها إباحة والإباحة تصح للعاقل وغيره وإجازة المجاز كأجزت لك ما أجيز لي ويستحب الإجازة إذا كان المجيز والمجاز له من أهل العلم لأنها توسع يحتاج اليه أهل العلم وينبغي للمجيز أن يتلفظ بها فإن اقتصر على الكتاب صحت
وقال القسطلاني وشرط صحة الإجازة أن تكون من عالم بالمداز والمجاز له من أهل العلم المجاز به صناعة وعن ابن عبد البر الصحيح أن الإجازة لا تقبل إلا لماهر بالصناعة حاذق فيها يعرف كيف يتناولها وما لا يشكل إسناده لكونه معروفا معينا وإن لم يكن كذلك لم يؤمن أن يحديث المجاز عن الشيخ بما ليس من حديثه أو ينقص من إسناده الرجل والرجلين وقال ابن سيد الناس أقل مراتب المجيز أن يكون عالما بمعنى الإجازة العلم الإجمالي من أنه روى شيئا وأن معنى إجازته لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة إلا العلم التفصيلي بما روى وبما يتعلق بأحكام الإجازة وهذا العلم الإجمالي حاصل فيما رأيناه من عوام الرواة فان انحط راو في الفهم عن هذه الدرجة ولا إخال أحدا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به فلا أحسبه أهلا لأن يتحمل عنه باجازة ولا سماع قال وهذا الذي أشرت إليه من التوسع في الاجازة هو طريق الجمهور
(1/121)
قال شيخنا وما عداه من التشديد فهو مناف لما جوزت الاجازة له من بقاء السلسلة نعم لا يشترط التأهل حين التحمل ولم يقل أحد بالأداء بدون شرط الرواية وعليه يحمل قولهم أجزت له رواية كذا بشرطه ومنه ثبوت المروي من حديث المجيز وقال أبو مروان الطيبي إنها لا تحتاج بغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ وقال عياض بعد تصحيح روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها والإعتماد على الأصول المصححة وكتب بعضهم لمن علم منه التأهيل أجزت له الرواية عنى وهو لما علم من اتقانه وضبطه غني عن تقييدي ذلك بشرطه انتهى
الرابع المناولة وأعلاها ما يقرن بالاجازة وذلك بأن يدفع إليه الشيخ أصل سماعه أو فرعا مقابلا به ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عنى وأجزت لك روايته ثم يبقيه في يده تمليكا أو إلى أن ينسخه ومنها أن يناول الطالب الشيخ سماعه فيتأمله وهو عارف متيقظ ثم يناوله الطالب ويقول هو حديثي أو سماعي فارو عنى ويسمى هذا عرض المناولة ولها أقسام أخر
الخامس المكاتبة وهي أن يكتب مسموعه أو مقرره جميعه أو بعضه لغائب أو حاضر بخطه أو يأذن له بكتبه له وهي إما مقترنة بالإجازة كأن يكتب أجزت لك ومجردة عنها والصحيح جواز الرواية على التقديرين
السادس الإعلام وهو أن يعلم الشيخ الطالب أن هذا الكتاب روايته من غير أن يقول اروه عني والأصح أنه لا يجوز روايته لاحتمال أن يكون الشيخ قد عرف فيه خللا فلا يأذن فيه
وقال القسطلاني جوزها كثير من الفقهاء والأصوليين منهم ابن جريج وابن الصباغ
(1/122)
السابع الوجادة من وجد يجد موجد وهو أن يقف على كتاب بخط شيخ فيه أحاديث ليس له رواية ما فيها فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان أو في كتاب فلان بخطه حدثنا فلان يسوق باقي الإسناد والمتن وقد استمر عليه العمل قديما وحديثا وهو من باب المرسل وفيه شوب من الإتصال واعلم أن قوما شددوا فقالوا لا حجة فيما رواه حفظا وقيل يجوز من كتابه إلا إذا خرج من يده وتشاهل آخرون وقالوا تجوز الرواية من نسخ غير مقابلة بأصولها والحق أنه إذا قام في التحمل والضبط والمقابلة بما تقدم جازت الرواية عنه وكذا إن غاب الكتاب إذا كان الغالب سلامته من تغيير ولا سيما إذا كان ممن لا يخفي عليه تغيره غالبا انتهى
الثامن بأن يوصي الراوي عند موته او سفره لشخص بكتاب يرويه فجوزه محمد بن سيرين وعلله عياض بأنه نوع من الإذن والصحيح عدم الجواز إلا أن كان له من الموصي إجازة فتكون روايته بها لا بالوصية
الفصل الرابع في صفة المحدث وتقصير الناس في طلب علم الحديث وما يناسبه
قال أبو المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمداني عن قضاء الري ورد بخاري سنة ثمان عشرة وثلاثمائة لتجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي فنزل جوارنا فحملني معلمي أبو إبراهيم اسحاق بن ابراهيم الخلتي اليه فقال أسألك أن تحدث هذا الصبي عن مشايخك فقال ما لي سماع قال فكيف وأنت فقيه فما هذا قال لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى معرفة الحديث ورواية الأخبار وسماعها فقصدت محمد بن اسماعيل البخاري ببخاري صاحب التأريخ المنظور اليه في علم الحديث وأعلمته مرادي وسألته الإقبال على ذلك(1/123)
فقال يا بين لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره فقلت عرفني رحملك الله تعالى حدود ما قصدتك به مقادير وما سألتك عنه فقال لي اعلم أن الرجال لا يصير محدثا كاملا في حديثه إلا بعد أن يكتب أربعا مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع لأربع عن أربع لأربع وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع فإذا تمت له كلها هان عليه أربع وابتلي بأربع فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع وأثابه في الآخره بأربع قلت فسر لي رحمك الله تعالى ما ذكرت من أحوال هذا الرباعيات من قلب صاف بشرح كاف طلبا للآجر الوافي
(1/124)
فقال نعم الأربعة التي يحتاج إلى كتبها هي أخبار الرسول {صلى الله عليه وسلم} وشرائعه والصحابة رضي الله عنهم ومقاديرهم والتابعين وأحوالهم وسائر العلماء وتواريخهم مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمنتهم كالتحميد مع الخطب والدعاء مع التوسل والبسملة مع السورة والتكبير مع الصلوات مثل المسندات والمرسلات والموقوفات في صفره وفي إدراكه وفي شبابه وفي كهولته عند فراغه وعند شغله وعند فقره وعند غناه بالجبال والبحار والبلدان والبراري على الأحجار والأخزاف والجلود والأكتاف إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق عمن هو فوقه عمن هو مثله وعمن هو دونه عن كتاب أبيه إن تيقن أنه بخطابيه دون غيره لوجه الله تعالى طلبا لمرضاته والعمل بما وافق كتاب الله عز وجل منها ونشرها بين طالبيها ومحبيها والتأليف في إحياء ذكره بعده ثم لا تتم له هذه الاشياء إلا بأربع هي من كسب العبد أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو مع أربع هي من إعطاء الله تعالى أعني القدرة والصحة والحرص والحفظ فإذا تمت له هذه الأشياء كلها هان عليه أربع الأهل والمال والولد والوطن وابتلى بأربع بشماتة الأعداء وملامة الأصدقاء وطعن الجهلاء وحسد العلماء فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله عز وجل في الدنيا بأربع بعز القناعة وبؤيبة النفس وبدذه العلم وبحياة الأبد وأثابه في الآخرة بأربع بالشفاعة لمن أراد من إخوانه وبظل العرش يوم لا ظل إلا ظله وبسقي من أراد من حوض
نبيه {صلى الله عليه وسلم} وبمجاورة النبيين في أعلى عليين فقد أعلمتك يا بني مجملا ما سمعت من مشايخي مفصلا في هذا الباب فاقبل الآن إلى ما قصدت إليه أو دع فهالني قوله فسكت متفكرا وأطرقت متأدبا
فلما رأى ذلك مني قال وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قار ساكن لا تحتاج إلى بعد الآسغر وطي الديار وركوب البحار وهو مع هذا ثمرة الحديث وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدث في الاخرة ولا عزة بأقل من عز المحدث
(1/125)
فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدما ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من تعلمه بتوفيق الله تعالى فلذلك لم يكن عندي ما أمليه على هذا الصبي يا أبا إبراهيم فقال له أبو إبراهيم إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث يجده عند غيرك انتهى
قال الخطيب البغدادي إن علم الحديث لا يعلق إلا بمن قصر نفسه عليه ولم يضم غيره من الفنون اليه قال الشافعي أتريد أن تجمع بين السفقه والحديث هيهات كذا في إرشاد الساري
وذكر المطرزي لأهل الحديث خمس مراتب أولها الطالب وهو المبتديء ثم المحدث وهو من تحمل روايته واعتنى بدرايته ثم الحافظ وهو من حفظ ألف حديث متنا وإسنادا ثم الحجة وهو من حفظ ثلاثمائة ألف ثم الحاكم وهو من أحاط بجميع الأحاديث
وأخرج ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل عن الزهري أنه قا لا يولد الحجة إلا في كل أربعين سنة ولعل ذلك في الزمن المتقدم وأما في زماننا هذا فلا يولد فيه الحافظ أيضا بل المحدث الكامل بل الشيخ الفاضل بل عدم فيه الطالب الصادق والمبتدى ء الراغب أيضا والمراد بالحافظ ههنا الحافظ للحديث وإن لم يكن حافظا لقرآن لأن ذلك ليس مرادا هنا وفي القول الجميل ونعني
بالمحدث المشتفل بكتب الحديث بأن يكون قرأ لفظها وفهم معناها وعرف صحتها وسعمها ولو بأخبار حافظ واستنباط فقيه وكذلك بالمفسر المشتفل بشرح غريب كتاب الله وتوجيه مشكله ولما روي عن السلف في تفسيره انتهى
(1/126)
قلت وأما الشيخ فقال الراغب أصله من طعن في السن ثم عبروا به عن كل أستاذ كامل ولو كان شابا لأن شأن الشيخ أن تكثر معارفه وتجاربه ومن زعم أن المراد هنا من هو في سن يسن فيه التحديث وهو من نحو خمسين إلى ثمانين فقد أبعد وتكلف والتزم المشي على القول المزيف لأن الصحيح أن مدار التحديث على تأهل المحدث حدث البخاري وما في وجهه شعر حتى أنه رد على بعض مشايخه غلطا وقع له في سنده وقد حدث مالك وهو ابن سبعة عشر والشافعي وهو في حداثة السن والحق أن الكرامة والفضيلة إنما هي بالعلم والعقل دون العمر والكبر فكم من شيخ في سن يسن فيه التحديث وهو لا يهتدي إلى تمييز الطيب من الخبيث شعر
وعند الشيخ أجزاء كبار
مجلدة ولكن ما قراها
وكم من طفل صغير يفوق الشيخ الكبير في الدراية وملكة التحرير والله يختص برحمته من يشاء
قال المولى أبو الخير رحمه الله تعالى إن قصارى نظر أبناء هذا الزمان في علم الحديث في مشارق الأنوار فإن ترفعت إلى مصابيح البغوي ظنت أنها تصل إلى درجة المحدثين وما ذاك إلا لجهلهم بالحديث بل لو حفظهما عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثلهما لم يكن محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط وإنما الذي يعده أهل الزمان بالغا إلى النهاية وينادونه محدث المحدثين وبخارى العصر من اشتغل بجامع الأصول لابن الأثير مع حفظ علوم الحديث لابن الصلاح أو التقريب للنووي إلا أنه ليس في شيء من رتبة المحدثين
وإنما المحدث من عرف الأسانيد والمسانيد والعلل وأسماء الرجال
والعالي والنازل وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون وسمع الكتب الستة ومسند الإمام أحمد بن حنبل وسنن البيهقي ومعجم الطبراني وضم إلى هذا القدر ألف جرم الأجزاء الحديثية هذا أقل فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطبقات وزاد على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والأسانيد كان في أول درجات المحدثين ثم يزيد الله سبحانه ما يشاء هذا ماذكره تاج الدين السبكي انتهى
(1/127)
وقد ذكر هذا في وقته ولو رأى زماننا هذا الذي ذهب فيه ماؤه ونضب رواؤه وكثر جاهلوه وقل عالموه لقال ما قال فقد نبتت في هذا الزمان فرقة ذات سمعة ورياء تدعي لأنفسها علم الحديث والقرآن والعمل بهما على العلات في كل شأن مع أنها ليست في شيء من أهل العلم والعمل والعرفان لجهلها عن العلوم الآلية التي لا بد منها لطالب الحديث في تكميل هذا الشأن وبعدها من الفنون العالية التي لا مندوحة لسالك طريق السنة عنها كالصرف والنحو واللغة والمعاني والبيان فضلا عن كمالات أخرى وأن تشبهوا بالعلماء ويظهروا في زي أهل التقوى نظم
تصدر للتدريس كل مهوس
بليد يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا
ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كلاها وحتى استامها كل مفلس
ولذلك تراهم يقتصرون منها على النقل ومبانيها ولا يصرفون العاينة إلى فهم النسة وتدبر معانيها ويظنون أن ذلك يكفيهم وهيهات بل المقصود من الحديث فهمه وتدبر معانيه دون الاقتصار على مبانيه فالأول في الحديث السماع ثم الحفظ ثم الفهم ثم العمل ثم النشر وهؤلاء قد اكتفوا بالسماع والنشر من دون ثبت وفهم وإن كان لا فائدة في الاقتصار عليه والاكتفاء به فالحديث في هذا الزمان لقراءة الصبيان دون أصحاب الإيقان وهم في غفلتهم يعمهون
نقل الغزالي عن أبي سفيان أنه حضر في مجلس زائد بن أحمد فكان أول حديث سمعه قوله {صلى الله عليه وسلم} من حسن إسلام المرء تركه
(1/128)
ما لا يعنيه فقام وقال يكفيني حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره فهكذا يكون سماع الناس الأكياس وأما هؤلاء الجهلة فجل تحديثهم عبارة عن اختيار بعض المسائل المختلف فيها بين المجتهدين والمحدثين في باب الطاعات دون المعاملات الدائرة بينهم كل يوم على العلات وتمام اتباعهم حكاية خلاف أهل الاجتهاد مع أهل الحديث الواقع في العبادات دون الإرتفاقات ومن ثم لا يهتدون إلى ما انتقده أهل الحديث في الباب سبيلا ولا يعرفون من فقه السنة في المعاملات شيئا قليلا وكذلك لا يقدرون على استخراج مسألة واستنباط حكم على أسلوب السنن وأهليها ولا يوفقون للعمل بمسألة حديثية في الإرتفاقات على منهاج ذويها وكيف يوفقون له وهم اكتفوا عن العمل بها بالدعاوى اللسانية وعن اتباع السنة بالتسويلات الشيطانية ثم اعتقدوها عين الدين ورضوا أن يكونوا مع الخوالف بين المسلمين وهذه شيمة كلهم أميرهم وفقيرهم وصحيحهم وسقيمهم فقد اختبرت إياهم مرارا فما وجدت أحدا يرغب في طريق الصالحين أو يسير سيرة المؤمنين بل صادفت جملتهم منهمكين في الدنيا الدنية مستغرقين في زخارفها الرديئة جامعين للجاه والمال طامعين فيه من دون مبالاة الحرام والحلال خلاة الأذهان عن حلاوة الإسلام قساة القلب بالنسبة إلى المسلمين كالمردة الطغام شعر
أملتهم ثم تأملتهم
فلاح لي أن ليس فيهم فلاح
وكيف يفلح قوم يخالف قولهم فعلهم وفعلهم قولهم يقولون عن خير البرية وهم شر البرية إذا سئلوا عن شيء قالوا فيه قولا سديدا وإذا قدروا على شيء لم يبالوا به بل نالوا منه نيلا شديدا نظم
عجبت من شيخي ومن زهده
وذكره النار وأهوالها
يكره أن يشرب في فضة
ويسرق الفضة إن نالها )
فيا لله العجب من أين يسمون أنفسهم بالموحدين المخلصين وغيرهم بالمشركين المبتدعين وهم أشد الناس تعصبا وغلوا في الدين قد أنفقوا في غير شيء نفائس الأوقات والأنفاس واتعبوا أنفسهم وحيروا من
(1/129)
خلفهم من الناس ضيعوا الأصول فحرموا القبول وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامة الحيرة والضلالة والمقصود أن هؤلاء القوم رؤيتهم قذاء العيون وشجى الحلوق وكرب النفوس وحمى الأرواح وغم الصدور ومرض القلوب إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف وإن طلبته منه فأين الثريا لأمن يد الملتمس الوصاف قد انتكست قلوبهم وعمي عليهم مطلوبهم رضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ الفواني وحصلوا على الحرمان وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقاشق الهذيان والله ما ابتلت من وشلة أقدامهم ولا زكت به عقولهم وأحلامهم ولا ابيضت به لياليهم ولا أشرقت بنوره أيامهم ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بكت بمداد أقلامهم فما هذا دين إن هذا إلا فتنة في الأرض وفساد كبير كيف ولو كان لهؤلاء إخلاص في القول والعمل وحرص على العلم النافع عند مجيء الأجل وخيفة من الحي القيوم وحياء من النبي المعصوم لزهدوا في أوساخ الأموال ولا ستنكفوا عن التزي بزي الصلاح لصيد الجهال ولا يأكلوا أبدا مال المسلم بالباطل ولا يرضوا بالعاجل عن الآجل ولا يكتفوا من علم الحديث على رسمه ومن العمل بالكتاب على اسمه ولا يبذلوا نفائس الأوقات إلا في الطاعات ولا يصرفوا شرائف الأنفاس في غير الباقيات الصالحات ولا يصحبوا أهل الدنيا ليلا ونهارا ولا يروا غيره تعالى للمهام مدارا ولا يتقدموا للوعظ والفتيا إلا بحقها ولا يجترؤا على نصبهم للإرشاد إلا على وجهها كما فعل أهل الحديث من قبلهم وأصحاب التوحيد في عهدهم فأولئك الذين يحقق لهم العمل بالكتاب والسنة والتمسك بهما والدعاء إليهما وهما عن النار جنة لا لهؤلاء النفر المتباهين بدعواهم المتلبسين بالرياء والسمعة في أولاهم وأخراهم شعر
نعوذ بالله من أناس
تشيخوا قبل أن يشيخوا
إحدودبوا وانحنوا رياء
فاحذرهم إنهم فخوخ
لا ومقلب القلوب وعلام الغيوب أن المؤمن الذي يخاف مقامه
(1/130)
بين يدي الله تعالى لا يجتريء أبدا مثل ذلك الاجتراء ولا يرضى سرمدا من نفسه المنصفة سيرة هؤلاء وقانا الله تعالى وجميع المسلمين عن ضيغ هؤلاء الطلبة للدنيا في سرادق الدين وحفظنا وسائر المتقين عن المداهنة والنفاق والوقاحة وصحبة الجاهلين نظم
قد أرحنا واسترحنا
من غد ورواح
واتصال بأمير
ووزير ذي صلاح
لكفاف وعفاف
وقنوع وصلاح
وهذا الداء العضال إنما تولد من تعصب العلماء والفقهاء بينهم وكثرة القيل والقال حتى عمت به البلوى والجدال فجزى الله تعالى من أعان الإسلام ولو بشطر كلمة خيرا فالحق أحق بالإتباع ولمسلك الصواب اتساع شعر
ولا بد من شكوى إلى ذي مروة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وليس هذا بأول قارورة كسرت في الإسلام فقد قال الفلاني رحمه الله تعالى في إيقاظ الهمم ما نصه ومن جملة أسباب تسليط الفرنج على بلاد المغرب والتتر على بلاد المشرق كثرة التعب والتفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها وكل ذلك من اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى انتهى
وكان خروج التتار على بني العباس سنة أربع وخمسين وستمائة ومثله وقع في الهند سنة ثلاث وسبعين بعد ألف ومائتين من قبل اختلافهم وتكفيرهم فيما بينهم وهم إلى الآن في سكرتهم يعمهون
قال صاحب الإنصاف وفتنة هذا الجدال والخلاف قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا إلى الملك وانتصر كل رجل لصاحبه فكما أعقبت تلك ملكا عضوضا ووقائع صماء عمياء فكذلك عقبت هذه جهلا واختلاطا وشكوكا وهماما لها من إرجاء ونشأت من بعدهم قرون على التقليد الصرف لا يميزون الحق من الباطل ولا الجدال من الاستنباط
(1/131)
فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقوال الفقهاء قويها وضعيفها من غير تمييز وسددها بشقشقة شدقية والمحدث من عد الأحاديث صحيحها وسقيمها بقوة لحييه ولا أقول ذلك مطردا كليا فإن لله طائفة من عباده لا يضرهم من خذلهم وهم حجة الله في أرضه وإن قلوا ولم يأت قرن بعد ذلك إلا وهو أكثر فتنة وأوفر تقليدا وأشد انتزاعا للأمانة من صدور الناس حتى اطمأنوا بترك الخوض في الدين وبأن يقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون وإلى الله المشتكى انتهى
(1/132)
ومن جملة أسباب قلة علم الحديث كثرة العلوم الفلسفية اليونانية وانهماك الناس فيها كما أبان عنها أبو محمد الدمياطي حين كثر ذلك في عصره بمصر وغيرها من الأمصار وأصر الناس عليها أشد الإصرار ومن الأمر المنكر عليهم والنكر المعروف لديهم تدرسهم لعلم الفضول وتشاغلهم بالمعقول عن المنقول في إكبابهم على علم المنطق واعتقادهم أن من لا يحسنه لا يحسن أن ينطق فليت شعري هل قرأه الشافعي ومالك أو هو إضاء لأبي حنيفة المسالك وهل يعلمه أحمد بن حنبل أو كان الثوري على تعلمه قد أقبل وهل استعان به إياس في ذكائه أو بلغ به عمرو ما بلغ من دهائه أو تمرس به قس وسحبان ولولاه لما أفصح به أحدهما ولا أبان أترى عقول القوم كليلة إذ لم تشحذ على مسنة أترى فطنتهم عليلة إذا لم تكرم في أجنة كلا هي أشرف من أن تقيد في سجنه وأشف من أن يستحوذ عليها طارق جنة بالله لقد غرق القوم فيما لا يعنيهم وأظهروا بالإفتقار إلى ما لا يغنيهم بل يتعبهم إلى السامات والشيطان يعدهم ويمنيهم أما أنه قد كان أحاد من أهل العلم ينظرون فيه غير مجاهرين ويطالعونه لا متظاهرين لأن أقل افاته أن يكون شغلا بما لا يغني الإنسان وإظهار تحوج إلى ما أغنى عنه الرب المنان وأما هؤلاء فقد جعلوه من أكبر المهمات واتخذوه عدة للثوابت والمسلمات فهم يكثرون فيه الأوضاع وينفق كل واحد منهم في تحصيله العمر المضاع ويحهم أما سمعوا قول داعي الهذي لمن أمه حين رأى عمر قد كتب التوراة في لوح وضمه فغضب وقال مفهما للحافظ الواعي
لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي فلم يوسعه عذرا في الكتاب الذي جاء به موسى نورا فما ظنك بما وضعه المتخبطون في ظلام الشك وافتروا فيه كذبا وزورا فيا لله للعقول المنحرفة غرقت في بحار ضلال الفلسفة نظم
وما العلم إلا في كتاب وسنة
وما الجهل إلا في كلام ومنطق
وما الخير إلا في سكوت بحسبة
وما الشر إلا في كلام ومنطق
(1/133)
ويؤيد ذلك ما قال الإمام النووي في شرح مسلم حثا على علوم الحديث وأهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات أعنى معرفة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها ومتصلها ومرسلها ومنقطعها ومضلها ومقلوبها ومشهورها وغريبها وعزيزها ومتواترها وآحادها وأفرادها ومعروفها وشاذها ومنكرها ومعللها ومدرجها وناسخها منسوخها وخاصها وعامها ومجملها ومبينها ومختلفها وغير ذلك من أنواعها المعروفات ومعرفة علم الأسانيد أعني معرفة حال رجالها وصفاتها المعتبرة وضبط أسمائهم وأنسابهم ومواليدهم ووفياتهم وغير ذلك من الصفات ومعرفة التدليس والمدلسين وطرق الاعتبار والمتابعات ومعرفة حكم اختلاف الرواة في الأسانيد والمتون والوصل والإرسال والوقف والرفع والقطع والإنقطاع وزيادات الثقات ومعرفة الصحابة والتابعين واتباعهم واتباع اتباعهم ومن بعدهم وغير ما ذكرته عن علومها المشتهرات ودليل ما ذكرته أن شرعنا مبني على الكتاب
العزيز والسنن المرويات وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها في السنن المحكمات وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات فثبت بما ذكرنا أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على ما ذكرنا من بيان حال أفضل المخلوقات ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات حتى لقد كان يجمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقض ذلك وضعفت الهمم فلم تبق إلا آثار من آثارهم قليلات والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات
(1/134)
وقد جاء في فضل إحياء السنن المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريص عليه لما ذكرنا من الدلالات ولكونه أيضا من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله {صلى الله عليه وسلم} وللأئمة وللمسلمين والمسلمات وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات ولقد أحسن القائل أن من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات وذلك لكثرة الفوائد البارزات الكامنات وهوجدير بذلك فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطى جوامع الكلمات {صلى الله عليه وسلم} صلوات متضاعفات
الفصل الخامس في قلة علم الحديث بأرض الهند وما يناسبها
(1/135)
إعلم أن الهند لم يكن بها علم الحديث منذ فتحها أهل الإسلام بل كان غريبا كالكبريت الأحمر وعديما كعنقاء مغرب في الخبر وإنما صناعة أهلها من قديم العهد والزمان فنون الفلسفة وحكمة اليونان والإضراب عن علوم السنة والقرآن إلا ما يذكر من الفقه على القلة ولذلك تراهم إلى الآن عارين عن ذلك متحلين بما هناك وعمدة بضاعتهم اليوم هي الفقه الحنفي على طريق التقليد دون التحقيق إلا ما شاء الله تعالى في أفراد منهم ولأجل هذا يتوارثه أولهم عن آخرهم ويتناقله كابرهم عن كابرهم حتى كثرت فيهم الفتاوى والروايات وعمت البلوى بتعامل هذه التقليدات وتركت النصوص المحكمات وهجرت سنن سيد البريات ورفض عرض الفقه على الحديث وتطبيق المجتهدات بالسنن ودرج على ذلك زمان كثير حتى من الله تعالى على الهند بإفاضة هذا العلم على بعض علمائها كالشيخ عبد الحق بن سيف الدين الترك الدهلوي المتوفى سنة اثنتين وخمسين وألف وأمثالهم وهو أول من جاء به في هذا الإقليم وأفاضه على سكانه في أحسن تقويم ثم تصدى له ولده الشيخ نور الحق المتوفى سنة ثلاث وسبعين وألف وكذلك بعض تلامذته على القلة ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها كما اتفق عليه أهل الملة وتحديث هؤلاء أهل الصلاح وإن كان على طريق الفقهاء المقلدة الصراح دون المخدثين المبرزين المتبعين الإقحاح ولكن مع ذلك لا يخلو عن كثير فائدة في الدين وعظيم عائدة بالمسلمين جزاهم الله تعالى عن المسلمين خير الجزاء وأفاض عليهم رحمته السحاء
(1/136)
ثم جاء الله سبحانه وتعالى من بعدهم بالشيخ الأجل والمحدث الأكمل ناطق هذه الدورة وحكيمها وفائق تلك الطبقة وزعيمها الشيخ ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي المتوفى سنة ست وسبعين ومائة وألف وكذا بأولاده الأمجاد وأولاد أولاده أولي الإرشاد المشمرين لنشر هذا العلم عن ساق الجد والاجتهاد فعاد بهم علم الحديث غضا طريا بعدما كان شيئا فريا وقد نفع الله بهم وبعلومهم كثيرا من عباده المؤمنين ونفى بسعيهم المشكور من فتن الإشراك والبدع ومحدثات الأمور في الدين ما ليس بخاف على أحد من العالمين فهؤلاء الكرام قد رجحوا علم السنة على غيرها من العلوم وجعلوا الفقه كالتابع له والمحكوم وجاء تحديثهم حيث يرتضيه أهل الرواية ويبغيه أصحاب الدراية شهدت بذلك كتبهم وفتاواهم ونطقت به زبرهم ووصاياهم ومن كان يرتاب في ذلك فليرجع إلى ما هنالك فعلى الهند وأهلها شكرهم ما دامت الهند وأهلها شعر
من زار بابك لم تبرح جوارحه
تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن وصلة
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
ثم اليوم لم يبق في تلك العصابة أيضا من يرجع في الحديث إليه أويعول في أمر الدين عليه بيد ثنائهم الجليل وذكرهم الجميل شعر
ولا شيء يدوم فكن حديثا
جميل الذكر فالدنيا حديث
(1/137)
وأما إتقان هذا العلم في غيرهم من بيوت الهند فلم أحط به خبرا ولا سمعت له ذكرا ولكن الناس اليوم قد غلوا في أمرهم وتفوهوا في شأنهم بما لا يليق بهم فلنذكر ههنا من طريقتهم ما تتضح به حقيقة الأمر وهو هذا أن الشاه ولي الله المحدث الدهلوي قد بنى طريقته على عرض المجتهدات على السنة والكتاب وتطبيق الفقهيات بهما في كل باب وقبول ما يوافقهما من ذلك ورد ما لا يوافقهما كائنا ما كان ومن كان وهذا هو الحق الذي لا محيص عنه ولا مصير إلا إليه وكذا ابن ابنه المولى محمد اسماعيل الشهيد اقتفى أثر جده في قوله وفعله جميعا وتمم ما ابتدأه جده وأدى ما كان عليه وبقي ما كان له والله تعالى مجازيه على صوالح الأعمال وقواطع الأقوال وصحاح الأحوال ولم يكن ليخترع طريقا جديدا في الإسلام كما يزعم الجهال وقد قال تعالى ) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (
وطريقه هذا كله مذهب حنفي وشرعة حقة مضى عليها السلف والخلف الصلحاء من العجم والعرب العرباء ولم يختلف فيه اثنان ممن
قلبه مطمئن بالإيمان كما لا يخفى على من مارس كتب الدين وصحب أهل الإيقان كيف وقد ثبت في محله أن الرجل العامل بظواهر الكتاب وواضحات السنة أو بقول إمام آخر غير إمامه الذي يقلده لا يخرج عن كونه متمذهبا بمذهب إمامه كما يعتقده جهلة المتفقهة ويتفوه به الفقهاء المتقشفة من أهل الزمان المحرومين عن حلاوة الإيمان وهو رحمه الله تعالى أحيا كثيرا من السنن المماتات وأمات عظيما من الإشراك والمحدثات حتى نال درجة الشهادة العليا وفاز من بين أقرانهم بالقدح المعلى وبلغ منتهى أمه وأقصى أجله
(1/138)
قال الإمام محمد بن علي الشوكاني في القول المفيد في حكم التقليد وإذا تقرر أن المحدث لهذه المراتب والمبتدع لهذه التقليدات هم جهلة المقلدة فقد عرفت مما تقرر في الأصول أنه لا اعتداد بهم في الإجماع وأن المعتبر في الأجماع إنما هم المجتهدون وحينئذ لم يقل بهذه التقليدات عالم من العلماء المجتهدين أما قبل حدوثها فظاهر وأما بعد حدوثها فما سمعنا عن مجتهد من المجتهدين أنه سوغ صنيع هؤلاء المقلدة الذين فرقوا دين الله وخالفوا بين المسلمين بل أكابر العلماء بين منكر لها وساكت عنها سكون تقية لمخافة ضررا وفوات نفع كما يكون مثل ذلك كثيرا سيما من علماء السوء وكل عالم يعقل أنه لو صرخ عالم من علماء الإسلام المجتهدين في مدينة من مدائن الإسلام في أي محل كان بأن التقليد بدعة محدثة لا يجوز الإستمرار عليه ولا الاعتداد به لقام عليه أكثر أهلها إن لم يقم عليه كلهم وأنزلوا به من الإهانة والإضرار بماله وبدنه وعرضه ما لا يليق بمن هو دونه هذا إذا سلم من القتل على يد أول جاهل من هؤلاء المقلدة من يعضدهم من جهة الملوك والأجناد فإن طبائع الجاهلين لعلم الشريعة متقاربة وهم من أعداء أهل العلم ولهذا طبقت هذه البدعة جميع البلاد الإسلامية وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين فالجاهل يعتقد أن الدين ما زال هكذا ولن يزال إلى المحشر ولا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهكذا من كان من المشتغلين بعلم التقليد وأنه كالجاهل بل أقبح منه لأنه على جهله وإقراره على بدعتة
(1/139)
وتحسينها في عيون أهل الجهل بالازدراء بالعلماء المحققين العارفين بكتاب الله وسنة رسوله ويصول عليهم ويحول وينسبهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة والتنقيص من شأنهم فيسمع منه الملوك ومن يتصرف بالنيابة عنهم من أعوانهم فيصدقونه ويذعنون لقوله إذ هو مجانس لهم في كونه جاهلا وإن كان يعرف مسائل قد قلد فيها غيره لا يدري أهي حق أم باطل ولا سيما إذا كان قاضيا أو مفتيا فإن العامي لا ينظر إلى أهل العلم بعين مميزة بين من هو عالم على الحقيقة ومن هو جاهل وبين من هو مقصر ومن هو كامل لأنه لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل وأما الجاهل فإنما يستدل على العلم بالمناصب والقرب من المملوك واجتماع المتدرسين من المقلدين وتحرير الفتاوى للمتخاصمين وهذه الأمور إنما يقوم بها رؤوس هؤلاء المقلدة في الغالب كما يعلم ذلك كل عالم بأحوال الناس في قديم الزمن وحديثه وهذا يعرفه الإنسان بالمشاهدة لأهل عصره وبمطالعة كتب التأريخ الحاكية لما كان عليه من قبله وأما العلماء المحققون المجتهدون فالغالب على أكثرهم الخمول لأنه لما كثر التفاوت بينهم وبين أهل الجهل كانوا متقاعدين لا يرغب هذا في هذا ولا هذا في هذا نظم
ومنزلة الفقيه من السفيه
كمنزلة السفيه من الفقيه
فهذا زاهد في حق هذا
وهذا فيه أزهد منه فيه
ومما يدعو العامة إلى مهاجرة أكابر العلماء ومقاطعتهم أنهم يجدونهم غير راغبين في علم التقليد الذي هو رأس مال فقهائهم وقضاتهم والمفتين منهم بل يجدونهم مشتغلين بعلوم الاجتهاد وهي عند هؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة بل العلوم النافعة عندهم هي التي يتعجلون نفعها بقبض جرايات التدريس وأجرة الفتاوى ومفردات القضاء فالغالب على هؤلاء التعصب المفرط على علماء الاجتهاد ورميهم بكل حجر
(1/140)
ومدر وإلهام العامة بأنهم مخالفون لإمام المذهب الذي قد ضاقت أذهانهم عن تصور عظيم قدره وامتلأت قلوبهم عن هيبته حتى تقرر عندهم أنه في درجة لم تبلغها الصحابة فضلا عن من بعدهم وهذا وإن لم يصرحوا به فهو مما تكنه صدورهم ولا ينطق به لسانهم فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحدا من علماء الاجتهاد الموجودين يخالف في مسألة من المسائل كان هذا المخالف قد ارتكب أمرا شنيئا وخالف عندهم شيئا قطعيا وأخطأ خطأ لا يكفره شيء وإن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولا يرفع لما جاء به رأسا كائنا من كان ولا يزالون منقصين له بهذه المخالفة انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض ويبغضونه بغضا شديدا فوق ما يبغضونه أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء وبالجملة فهو عندهم ضال مضل ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله أو سنة رسوله {صلى الله عليه وسلم} واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله {صلى الله عليه وسلم} على قول كل عالم كائنا من كان ومن المصرحين بهذه الأئمة الأربعة فإنه صح عن كل واحد منهم هذا المعنى من طرق متجددة انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى ومن أنكر الإجمال هان عليه التفصيل
(1/141)
وأما الشيخ محمد صاحب نجد فلنذكر من حديثه ما يشفي العليل ويروي الغليل فنقول هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن أحمد بن راشد بن يزيد بن محمد بن يزيد بن مشرف هذا هو المعروف من نسبه ويذكر أنه من مضر ثم بني تميم والله به عليم ولد سنة خمسة عشر بعد المائة والألف بالعينية من بلاد نجد ونشأ بها وقرأ القرآن وأخذ عن أبيه وهم بيت فقه حنابلة ثم حج وقصد المدينة ولقي بها شيخا عالما من أهل نجد اسمه عبدالله بن ابراهيم قد لقي أبا المواهب البعلي الدمشقي وأخذ عنه وانتقل مع أبيه إلى حريملا من نجد أيضا ولما مات أبوه رجع إلى العينية وأراد نشر الدعوة فرضي أهل العينية بذلك ثم خرج عنها بسبب إلى الدرعية وأطاعه أميرها محمد بن سعود من آل
مقرن ويذكر أنهم من بني حنيفة ثم من ربيعة والله أعلم وهذا في حدود سنة تسع وخمسين بعد المائة والألف وانتشرت دعوته في نجد وشرق بلاد العرب إلى عمان ولم يخرج عنها إلى الحجاز واليمن إلا في حدود المائتين والألف وتوفي سنة ست بعد المائتين والألف
قال الشيخ شيخنا الشريف محمد بن ناصر الحازمي في فتح المنان وهو رجل عالم متبع الغالب عليه في نفسه الأتباع ورسائله معروفة
وقد بنى الشيخ محمد المذكور طريقته على اتباع ابن تيمية وابن القيم وأخذ من أقوالهما أطرافا بحسب ما وقع له من الاطلاع والإشراف وقد أحيت دعوته بعضا من الشريعة وأماتت كثيرا من الباطل في نجد والحجاز واليمن رحمه الله وجزاه أحسن ما عمل به إنه ولي ذلك والقادر عليه
(1/142)
والشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وأهله بيت علم حنابلة يتوارثه خلفهم عن سلفهم وهو من أعاظم حفاظ القرن السابع وأفضلهم والشيخ شمس الدين هو أبو عبدالله محمد بن الإمام قيم الجوزية الدرعي الحنبلي الحافظ المصنف وهما إمامان عالمان عاملان ثقتان تقيان من أفضل علماء الحنابلة وأحدهما يتبع الآخر وانفردا بأقوال واختيارات أنصفا في بعضها والله يحب الإنصاف وامتحنا بسبب بعضها وبالجملة فقد تعبا لأنفسهما وأديا ما كان عليهما وبقي ما كان لهما ولم يتعبد أحد من الخلق باتباعهما ولا بالعمل بأقوالهما وأفعالهما ولا غيرهما ممن قبلهما أو بعدهما وإنما المتعبد به ما جاء عن خاتم النبيين {صلى الله عليه وسلم} من وحي متلو أوغير متلو من قول أو فعل أو تقرير وفي ذلك ما يكفي المتبع ) ما فرطنا في الكتاب من شيء ( ولم يحوج الله الخلق إلى أحد بعد الكتاب والسنة نظم
فثبتنا الله الكريم بدينه
سواء سبيل المصطفى المتثبت
ومن ظن أن الأمر ليس بممكن
وأن وليس إلا اتباع لفرقة
فأحباره أربابه دون ربه
وقبلته ليست إليه بوجهه
وقد كرر الله الحليم منبها
بتيسيره القرآن في غير مرة
وسنة خير المرسلين علومها
مسهلة للأخذ في كل بلدة
انتهى ملخصا
(1/143)
وقد أثنى عليهما الشيخ المحدث عبد الحق الدهلوي والشاه ولي الله المحدث في تآليفهما وذكراهما بخير وما أحقهما باتباع الحق الحقيق بالاتباع وتحقيق الصدق والصواب النائي عن وجوه الابتداع كيف وهما لا يقولان شيئا إلا ومعه دليله من السنة والكتاب وهذه هي السجية الرضية لأولي الألباب وإنما المعترض عليهما بعيد عن الإنصاف قريب من التعصب والإعتساف ليس له من العلم خلاق وما له بأهل التقوى والحق من وفاق أو جاهل معاند أو مبغض حاسد وكل من له إطلاع على أحوال هؤلاء الكرام وعثور على تاليف أولئك الأعلام ولا يتفوه أبدا بأمثال هذا الكلام الناشيء عن الطعن والملام وهكذا الاعتقاد في جملة العلماء من دون تخصيص أحد من الفضلاء الصلحاء وإنما المصاب من حرم طريق الحق والصواب وإن شئت الحق الصريح والقول الصحيح
فاعلم أن المحدثين ومن يسلك مسلكهم هم المجددون للدين في الحقيقة لا غيرهم وعليهم تنطبق صفة المجددين الواردة في الحديث دون من سواهم كما قال صاحب التفهيمات وأقرب الناس إلى المجددية المحدثون القدماء كالبخاري ومسلم وأشباههم ولما تمت بي دورة الحكمة ألبسني الله تعالى خلعة المجددية فعلمت علم الجمع بين المختلفات وعلمت أن الرأي في الشريعة تحريف وفي القضاء مكرمة وأشار إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إشارة روحانية أن مراد الحق فيك أن يجمع شملا من شمل الأمة المرحومة بك انتهى
وقد وقع كما قال ولله الحمد ويؤيد هذا حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلا وهذا النفي أمر
لا يشاهد في غير أهل الحديث كما هو الظاهر على المطلع العارف بأحوالهم قديما وحديثا
(1/144)
وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها رواه أبو داود من حديث أبي هريرة قال صاحب التفهيمات المجدد رجل رزقه الله سبحانه وتعالى حظا من علم القرآن والحديث ثم ألبس لباس السكينة فجعل يضع التحليل والتحريم والوجوب والكراهة والاستحباب والإباحة موضعها وينقح الشريعة عن الأحاديث الموضوعة وأقيسة القائسين وعن كل إفراط وتفريط في الدين ثم أظمأ الله أكبادا إليه فأخذوا عنه العلم والفرق بينه وبين الوصي أنه متعلم من ظاهر العلم والوصي أخذ حظه من شرح رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم وفق بظاهر العلم وعندنا أن المائة تخمين لا تعيين ويعتبر المائة من وفاته {صلى الله عليه وسلم} انتهى
وسبب ذلك انخرام العلماء غالبا على رأس كل مائة سنة واندراس السنن وظهور البدع فيحتاج إلى تجديد الدين للأمة المرحومة بإحياء ما اندرس من العمل بالسنة والكتاب والأمر بمقتضاهما فالمبعوث على رأس المائة والمجدد للدين لا بد أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة ناصرا للسنة قامعا للبدعة
والمراد برأس المائة أولها من الهجرة فيأتي الله من الخلف بعوض من السلف إما واحدا ومتعددا في مكان واحد أو أمكنة متعددة كما وقع في رأس هذه المائة الحاضرة وقبلها بقليل زمان في الهند والعرب وغيرها من البلدان وهم أمثال الشاه ولي الله المحدث الدهلوي والمولى محمد إسماعيل الشهيد والشيخ محمد فاخر الإله آبادي والشيخ محمد حياة السندي المدني المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وألف والسيد العلامة محمد بن اسماعيل الأمير اليمني والإمام محمد بن علي الشوكاني والشيخ صالح بن عمر الفلاني والسيد محمد بن ناصر الجازمي ومن حذا حذوهم من الأقاصي والأداني فأولئك فرسان هذا الميدان ومن لهم في السباحة يدان فمن يستطيع أن ينقص طريقهم في هذا الشأن أو يسبقهم يوم الرهان
(1/145)
جزاهم الله تعالى على صنيعهم عنا وعن جميع المسلمين جزاء وفاقا وسقاهم من الرحيق المختوم كأسا دهاقا ورقنا وجميع المتبعين اتباع طريقهم الحق وسلوك منهاجهم الصدق على وجه الإنصاف وجنبنا وجملة المسلمين عن الزيغ والزلل والتعصب والتقشف والضلالة والإعتساف والله ولي التوفيق وقد بدا لي أن أختم هذا الفصل المستطاب بذكر قصيدة بديعة نظمها المولى الإمام تاج المسلمين والإسلام محمد بن اسماعيل الأمير رحمه القدير في الحث على العمل بالسنة والكتاب تتميما للكلام وتقريعا للطغام ولله دره وعلى الله أجره فقد أتى فيها بالعجب العجاب وأدخل جنات الفوائد من كل باب وهي هذه القصيدة
أما آن عما أنت فيه متاب
وهل لك من بعد البعاد إياب
تقضت بك الأعمار في غير طاعة
سوى عمل ترضاه وهو سراب
فللعمل الإخلاص شرط إذا أتى
وقد وافقته سنة وكتاب
وقد صين عن كل ابتداع وكيف ذا
وقد طبق الآفاق منه عباب
طغى الماء من بحر ابتداع على الورى
فلم ينج منه مركب وركاب
وطوفان نوح كان في الفلك أهله
فأنجاهم والكافرون تباب
فأنى لنا فلك يطير وليته
يطير بنا عما نراه غراب
وأين إلى أين المطار وكلها
على ظهرها يأتيك منه عجاب
نسائل من دار البلاد سياحة
عسى بلدة فيها هدى وصواب
فيخبر كل عن عجائب ما رأى
وليس لأهلها يكون متاب
لأنهم عدوا قبائح فعلهم
محاسن يرجى عندهن ثواب
كقوم عراة في ذرى مصر ما علا
على عورة منهم هناك ثياب
ويدورون فيها كاشفي عوارتهم
تواتر هذا لا يقال كذاب
يعدونهم في مصرهم فضلاؤهم
دعاؤهم فيما يرون مجاب
وفي كل مصر مثل مصر وإنما
لكل مسمى والجميع ذياب
ترى الدين مثل الشاة قد وثبت له
ذياب وما عنه لهن ذهاب
فقد مزقته بعد كل ممزق
فلم تبق منه جثة وإهاب
وليس اغتراب الدين إلا كما ترى
فهل بعد هذا الإغتراب إياب
فيا غربة هل ترتجى منك أوبة
فيجبر من هذا البعاد مصاب
فلم يبق للراجي سلامة دينه
سوى عزلة فيها الجليس كتاب
كتاب حوى كل العلوم وكلما
(1/146)
حواه من العلم الشريف صواب
فإن رمت تاريخا رأيت عجائبا
ترى آدما إذ كان وهو تراب
ولاقيت هابيلا قتيل شقيقه
يواريه لما أن رآه غراب
وتنتظر نوحا وهو الفلك إذ طغى
على الأرض من ماء السماء عباب
وإن شئت كل الأنبياء وقولهم
وما قال كل منهم وأجابوا
ترى كل ما تهوى وفي القوم مؤمن
وأكثرهم قد كذبوه وخابوا
( وجنات عدن حورها ونعيمها ونارا بها للمشركين عذاب
فتلك لأرباب التقاء وهذه لكل شقي قد حواه عقاب
وإن ترد الوعظ الذي إن عقلته فإن دموع العين عنه جواب
تجده وما تهواه من أي مشرب فللروح منه مطعم وشراب
وإن رمت إبراز الأدلة في الذي تريد فما تدعو إليه تجاب
تدل على التوحيد فيه قواطع بها قطعت للملحدين رقاب
وما مطلب إلا وفيه دليله وليس عليه للذكي حجاب
وفيه الدواء من كل داء فثق به فوالله ما عنه ينوب كتاب
وفي رقية الصحب اللديغ قضية وقدرها المختار حين أصابوا
ولكن سكان البسيطة أصبحوا كأنهم عما حواه غضاب
فلا يطلبون الحق منه وإنما يقولون من يتلوه فهو مثاب
فإن جاءهم فيه الدليل موافقا لما كان للآبا إليه ذهاب
رضوه وإلا قيل هذا مأول
ويركب للتأويل فيه صعاب
تراه أسيرا كل حبر يقوده
إلى مذهب قد قررته صحاب
أتعرض عنه عن رياض أريضة
وتعتاض جهلا بالرياض مضاب
يريك صراطا مستقيما وغيره
مفاوز جهل كلها وشعاب
تزيد على مر الجديدين جدة
فألفاظه مهما تلوت عذاب
وآياته في كل حين طرية
وتبلغ أقصى العمر وهي كعاب
ففيه هدى للعالمين ورحمة
وفيه علوم جمة وثواب
فكل كلام غيره القشر لا سوى
وذا كله عند اللبيب لباب
دعوا كل قول غيره وسوى الذي
أتى عن 0 رسول الله فهو صواب
وعضوا عليه بالنواجذ واصبروا
عليه ولو لم يبق في الفم ناب
تروا كل ما ترجون من أي مطلب
إذا كان فيكم همة وطلاب
أطيلوا على السبع الطوال وفوقكم
تدر عليكم بالعلوم سحاب
وكم من فصول في المفصل قدحوت
أصولا إليها للذكي مآب
وما كان في عصر الرسول وصحبه
سواه لهدي العالمين كتاب
(1/147)
تلا فصلت لما أتاه مجادل
فأبلس حتى لا يكون جواب
أقر بأن القول فيه طلاوة
ويعلو ولا يعلو عليه خطاب
وأدبر عنه هائما في ضلالة
يدبر ماذا في الأنام يعاب
وقال ابن عم المصطفى ليس عندنا
سواه وإلا ما حواه قراب
وإلا الذي أعطاه فهما إلهه
بآياته فاسئل عساك تجاب
فما الفهم إلا من عطاياه لا سوى
بل الخير كل الخير فيه وصاب
سليمان قد أعطاه فهما فناده
يجبك سريعا ما عليه حجاب
وسل منه توفيقا ولطفا ورحمة
فتلك إلى حسن الختام مآب
وقد استوفيت بحث العمل بالسنة في رسالتنا المسماة بالجنة واستوعبت بحث التقليد في مؤلفنا المسمى بالتنقيد وأرجوا من الله سبحانه وتعالى أن لا تبقى بعدهما حاجة للمنصف في تحقيق ذلك إلى غير ذلك والله أعلم بالصواب
الباب الرابع في ذكر الأمهات الست وشروحها وما يليها
وفيه فصول
الفصل الأول في ذكر موطأ مالك بن أنس رحمه الله تعالى
إمام دار الهجرة المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة وإنما قدمته في الذكر على صحيح البخاري مع علو شأنه ورفعة مكانه لتقدم الإمام مالك عليه زمانا وتأليفا فإن الموطأ كتاب قديم مبارك مجمع عليه بالصحة والشهرة والقبول وأول مولف صنف في الحديث وكل من جمع صحيحا فقد سلك على نهجه وأخذ طريقه وحذا حذوه والفضل للمتقدم كما قيل في القول المنظم نظم
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة
بسعدي شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ما أعلم شيئا بعد كتاب الله تعالى أصح من موطأ مالك وقال في المسوى هو أصح كتب الفقه وأشهرها وأقدمها وأجمعها وقد اتفق السواد الأعظم من الأمة المرحومة على العمل به والاجتهاد في روايته ودرايته والإعتناء بشرح مشكلاته ومعضلاته والإهتمام باستنباط معانيه وتشييد مبانيه ومن تتبع مذاهبهم ورزق الإنصاف من نفسه علم لا محالة أن الموطأ عدة مذهب مالك(1/148)
وأساسه وعمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه ومصباح مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ونبراسه وهذه المذاهب بالنسبة إلى الموطأ كالشروح للمتون وهو منها بمنزلة الدوحة من الغصون وإن الناس وإن كانوا من فتاوى مالك في رد وتسليم وتنكيت وتقويم ما صفا لهم المشرب ولا تأتى لهم المذهب إلا بما سعى في ترتيبه واجتهد في تهذيبه
قال الشافعي ليس أحد أمن علي في دين الله من مالك وعلم أيضا أن الكتب المصنفة في السنن كصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي وما يتعلق بالفقه من صحيح البخاري وجامع الترمذي مستخرجات على الموطأ تحوم حومه وتروم رومه ومطمح نظرهم فيها وصل ما أرسله ورفع ما أوقفه واستدراك ما فاته وذكر المتابعات والشواهد لما أسنده وأحاطه جوانب الكلام بذكر ما روي خلافه وبالجملة فلا يمكن تحقيق الحق في هذا ولا ذاك إلا باكباب على هذا الكتاب انتهى
وقال القاضي أبو بكر في القبس هذا أول كتاب ألف في شرائع الإسلام وهو آخره لأنه لم يؤلف مثله إذ بناه مالك على تمهيد الأصول للفروع ونبه فيه على معظم أصول الفقه التي يرجع إليها في مسائله وفروعه انتهى وفيه يقول القاضي عياض نظم
إذا ذكرت كتب الحديث فحي هل
يكتب الموطأ من مصنف مالك
أصح أحاديثا وأثبت حجة
وأوضحها في الفقه نهجا لسالك
عليه مضى الإجماع من كل أمة
على رغم خيشوم الحسود المماحك
فعنه فخذ علم الديانة خالصا
ومنه استفد شرع النبي المبارك
وشد به كف العناية تهتدى
فمن حاد عنه هالك في الهوالك
وفيه لسعدون الشاعر نظم
أقول لمن يروي الحدي ويكتب
ويسلك سبل الفقه فيه ويطلب
إن أحببت أن تدعي لدى الحق عالما
فلا تعد ما يحوي من العلم يثرب
أتترك دارا كان بين بيوتها
يروح ويغدو جبرئيل المقرب
ومات رسول الله فيها وبعده
بسنته أصحابه قد تأدبوا
فبادر موطأ مالك قبل فوته
فما بعده إن فات للحق مطلب
ودع للموطأ كل علم تريده
فإن الموطأ الشمس والغير كوكب
ومن لم تكن كتب الموطأ ببيته
فذاك من التوفيق بيت مخيب
(1/149)
جزى الله عنا في موطأه مالكا
بأفضل ما يجزى اللبيب المهذب
لقد فاق أهل العلم حيا وميتا
وصارت به الأمثال في الناس تضرب
فلا زال يسقي قبره كل عارض
بمندفق ظلت عزاليه تسكب
روى أبو نعيم الحلية عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه فقلت لا تفعل فإن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان وكل مصيب فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبدالله
وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك قال لما حج المنصور قال لي عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم كذا في عقود الجمان
وبالجملة فقال أبو القاسم بن محمد بن حسين الشافعي الموطآت المعروفة عن مالك أحد عشر معناها متقارب والمستعمل منها أربعة موطأ يحيى بن يحيى وموطأ ابن بكير وموطأ أبي مصعب وموطأ ابن وهب ثم ضعف الاستعمال إلا في موطأ يحيى ثم موطأ ابن بكير وفي تقديم الأبواب وتأخيرها اختلاف في النسخ وأكثر ما يوجد فيه ترتيب الباجي وهو أن يعقب الصلاة بالجنائز ثم الزكاة ثم الصيام ثم اتفقت النسخ إلى الحج ثم اختلفت بعد ذلك
وقال المولى عبد العزيز الدهلوي في بستان المحدثين اعلم أنه روى نحو ألف رجل في زمان الإمام مالك موطأه عنه وحصل طبقات الناس من المحدثين والصوفية والفقهاء والأمراء والملوك والخلفاء سنده عن الإمام تبركا به ونسخه كثيرة والميسرة منها اليوم في ديار العرب عدة نسخ
أروجها وأشهرها التي هي مخدومة طوائف العلماء نسخة يحيى بن يحيى المصمودي الأندلسي وهو المراد من الموطأ عند الإطلاق
(1/150)
أوله بسم الله الرحمن الرحيم وقوت الصلاة مالك عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو بالكوفة فدخل عليه أبومسعود الأنصاري فقال ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم صلى فصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم صلى فصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم صلى فصل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم صلى فصلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال بهذا أمرت فقال عمر بن عبد العزيز إعلم ما تحدث به يا عروة أو أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقت الصلاة قال عروة كذلك بشير بن مسعود الأنصاري يحدث عن أبيه قال عروة لقد حدثتني عائشة زوج النبي {صلى الله عليه وسلم} أن النبي كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر وقد فات يحيى ابن يحيى سماع ثلاثة أبواب أعني باب خروج المعتكف إلى العيد وباب قضاء الاعتكاف وباب النكاح في الاعتكاف بلا واسطة عن الإمام وقد رواها عن شيخه زياد بن عبد الرحمن اللخمي وهو أول من جاء بمذهب مالك في الأندلس ولذلك قال أرتاب في سماعي إياها من الإمام
والثانية ما رواها عبدالله بن وهب بن سلمة الفهري المصري عن مؤلفه الإمام مالك أوله أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم وأنفسهم إلا بحقها وحسابهم على الله وهذا الحديث من متفرداته لا يوجد في غيرها من الموطآت سوى موطأ ابن قاسم فإنه أيضا رواه
الثالثة موطأ رواية عبدالله بن مسلمة القعنبي وقد تفرد بهذا الحديث ولم يوجد في غير موطأه أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله
(1/151)
الرابعة موطأ رواية ابن القاسم الفقيه المالكي وهو أول من دون مذهبه ومن متفردات تلك النسخة هذا الحديث مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال قال الله تعالى من عمل عملا أشرك فيه معي غيري فهو له كله أنا أغني الشركاء عن الشرك قال أبو عمر قد وجدنا هذا الحديث في موطأ ابن غفير أيضا وليس في غير هاتين النسختين من الموطات
الخامسة موطأ رواية معن بن عيسى المدني القراز المكنى بأبي يحيى ومما تفرد به فيه هذا الحديث مالك عن سالم أبي النضر مولى ابن عبيد الله عن ابي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يصلي من الليل فإذا فرغ من صلاته فإن كنت يقظانة يحدث معي وإلا اضطجع حتى يأتيه المؤذن
السادسة موطأ رواية عبدالله بن يوسف التنيسي ومن متفرداته هذا الحديث مالك عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة عن عروة بن الزبير أن رجلا سأل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله قال فأى العتاقة أفضل قال أنفسها قال فإن لم أجد يا رسول الله قال تصنع لصانع أو تعين أخرق قال فإن لم استطع يا رسول الله قال تدع الناس من شرك فإنها صدقة لتصدق بها على نفسك قال أبو عمر وجدت هذا الحديث في موطأ ابن وهب أيضا وليس في غيره من الموطآت الأخرى
السابعة موطأ رواية يحيى بن بكير ومما تفرد به هو ولا يوجد في غير موطأه هذا الحديث مالك عن عبدالله بن أبي بكير عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت إنه ليورثنه قال يحيى بن بكير عرضت الموطأ على الإمام مالك أربعة عشر مرة كان أكثرها سماعا وفي موطأه أربعون حديثا ثنائيا ليس بينه {صلى الله عليه وسلم} وبين الإمام إلا واسطتين وقد كتبوا لهذه الأربعين رسالة مفردة في ديار المغرب يقرؤنها على الأستاذ في مقام تحصيل إجازة الموطأ
(1/152)
الثامنة موطأ رواية سعيد بن عضير المصري ومن تفرداته هذا الحديث أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن اسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن ثبت بن شماس أنه قال يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال بم قال نهانا الله تعالى أن نحمد بما لم نفعل وأجدني أحب الحمد ونهانا الله عن الخيلاء وأنا أمرء أحب الجمال ونهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا أمرء جهيز الصوت فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميدا أو تموت شهيدا أو تدخل الجنة قال مالك قتل ثابت ابن قيس بن شماس يوم اليمامة شهيدا
التاسعة موطأ رواية ابي مصعب الزهري وقد تفرد بهذا الحديث فيه أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} سئل عن الرقاب أيها أفضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها قال ابن عبد البر وجد هذا الحديث في نسخة يحيى بن يحيى الأندلسي أيضا
العاشرة موطأ رواية مصعب بن عبدالله الزهري قالوا وتفرد بهذا الحديث مالك عن عبدالله بن دينار عن عبدالله بن عمر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لأصحاب الحجر لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم قال ابن عبد البر وهذا الحديث في نسخة يحيى بن بكير وسلمان أيضا
الحادية عشر موطأ رواية محمد بن مبارك الصوري
الثانية عشر موطأ رواية سلمان بن يزد
الثالثة عشر موطأ رواية يحيى بن يحيى التميمي قال في باب ما جاء في أسماء النبي {صلى الله عليه وسلم} وهو آخر باب من أبواب موطأه وعليه تم كتابه مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي
يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب
الرابعة عشر موطأ رواية أبي حذافة أحمد بن اسماعيل السهمي وهو آخر أصحاب مالك وفاة توفي ببغداد يوم عيد الفطر في سنة تسع وخمسين ومائتين
(1/153)
الخامسة عشر موطأ رواية سويد بن سعيد الهروي الحدثاني ومن متفرداته هذا الحديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
السادسة عشر موطأ الإمام محمد بن الحسن الشيباني قال الشيخ محمد عابد السندي المدني وفي رواية محمد زيادات على الرواية المشهورة وخالية عن عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات وإسناد روايته غريب في الفهارس انتهى واخره هذا الحديث
أخبرنا مالك عن عبدالله بن عمر أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إن أجلكم فيما خلى من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل من نصف النهار إلى العصر إلى قيراط قيراط فعملت النصارى على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين قال فغضب اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أوتيه من أشاء وشرح الملا علي القاري هذا الموطأ وهو مروج ومشهور في هذه الديار انتهى ملخصا
(1/154)
وقد ذكر في البستان تراجم رواة الموطآت المذكورة مع ما يناسبها وله رحمة الله تعالى ولوالده الشيخ الأجل ولي الله المحدث الدهلوي إلمام عظيم ووله فخيم بالموطأ وبالعمل عليه وبتقديمه على سائر كتب الحديث حتى الصحيحين فضلا عن غيرهما والحق معه رضي الله عنه وقد قال في بعض إفاداته أن المطلوب في هذه الدورة العمل على الموطأ وتعطيل التخريجات والاكتفاء بما يترشح من ظاهر الحديث عند عالم لغة العرب كذا في القول الجلي ولذلك كتب على الموطأ شرحين حافلين أحدهما دقيق على نهج المجتهدين سماه بالمصفى وهو فارسي أوله نعمتهاي حضرت بارى جل مجده بيروت از حداحصاست الخ والآخر مختصرا اكتفى فيه على بيان مذاهب الفقهاء الحنفية والشافعية وعلى القدر الضروري من شرح الغريب وضبط المشكل وسماه بالمسوى من أحاديث الموطأ برواية يحيى بن يحيى أوله الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما وعلمه حكما وأحكاما الخ قال فيه وقد شرح الله صدري والحمد لله أن أرتب أحاديثه ترتيبا يسهل تناوله وأترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء وأضم إلى ذلك من القرآن العظيم ما لا بد للفقيه من حفظه ومن تفسيره ما لا بد له من معرفته وأذكر في كل باب مذهب الشافعية والحنفية إذ هما الفئتان العظيمتان اليوم وهم أكثر الأمم وهم المصنفون في أكثر الفنون الدينية وهم القادة الأئمة ولم أتعرض لمذهب غيرهما إلا في مواضع ولم أتعرض لذكر من أخرج الحديث من أصحاب الأصول إلا في مواضع يسيرة علما مني بأن مسند الدارمي إنما صنف لإسناد أحاديث الموطأ وفيه الكفاية لمن اكتفى وأرجو أن يكون هذا الكتاب جامعا لأنواع من الأحكام ما أخذ من نصوص الكتاب وما أثبتته الأحاديث المستفيضة أو القوية المروية في الأصول في كل باب
(1/155)
وما اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين وما استنبطه مالك وتابعه جماعات من الفقهاء المحدثين وقد استوعبت أحاديث الموطأ واثاره في هذه النسخة وما كان من قوله من السنة كذا أو كان استنباطا منه مما ذهب إليه أحد الطائفتين وقد تأكد العزم مني أن أشرحه أيضا شرحا بالفارسية وكان الفراغ من تصنيفه يوم الجمعة السادس والعشرين من جمادى الأولى سنة ألف ومائة وأربع وستين الهجرية المقدسة
(1/156)
وقال صاحب كشف الظنون شرحه أبو محمد عبدالله بن محمد النحوي البطليوسي المتوفي سنة إحدى وعشرين وخمسمائة وأبومروان عبد الملك بن حبيب المالكي المتوفي سنة تسع وثلاثين ومائتين والشيخ جلال الدين السيوطي وسماه كشف المغطا في شرح الموطأ وله تنوير الحوالك على موطأ الإمام مالك وجرد أحاديثه في كتاب أيضا وله كتاب آخر وهو المسمى بإسعاف المبطأ في رجال الموطأ وتوفي سنة إحدى عشرة وتسع مائة وصنف الحافظ أبو عمر ابن عبد البر يوسف بن عبدالله القرطبي كتابا سماه فلينظر بعد بحديث الموطأ في سنة ثلاث وستين وأربع مائة وله كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد قال ابن حزم هو كتاب في الفقه والحديث ولا أعلم نظيره واختصره وسماه الاستذكار واختصره أبوالوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفي سنة أربع وسبعين وأربع مائة وسماه المنتقى والشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي انتقله أيضا وابن رشيق القيرواني المتوفي سنة ست وخمسين وأربع مائة ولإبراهيم بن محمد الأسلمي المتوفي سنة أربع وثمانين وسبعمائة موطأ أضعاف موطأ مالك وشرح موطأ مالك القاضي الحافظ أبو بكر محمد بن العربي المغربي المالكي المتوفي سنة ست وأربعين وخمسمائة وسماه القبس في شرح موطأ مالك بن أنس وانتخبه الإمام الخطابي أبو سليمان أحمد بن محمد البستي المتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ولخصه أبو الحسن علي بن محمد خلف القابسي وهو المشهور بملخص الموطأ مشتمل على خمس مائة وعشرين حديثا متصل الإسناد واقتصر على رواية أبي عبدالله عبد الرحمن بن القاسم المصري من رواية أبي سعيد سحنون بن سعيد عنه قال وهي آثر الروايات بالتقديم لأن
(1/157)
ابن القاسم المصري امتاز بالاختصاص في صحبه مالك مع طولها وحسن العناية بمتابعته مع ما كان فيه من الفهم والعلم والورع وسلامته من التكثر في النقل من غير مالك وشرحه أعني الموطأ خاتمة المحدثين محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان الزرقاني المصري المالكي المتوفي سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف شرحا بسيطا في ثلاث مجلدات انتهى ملخصا
الفصل الثاني في ذكر صحيح البخاري وفيه أوصال
وهو المسند الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وسننه وأيامه كما سماه مؤلفه المشهور بصحيح البخاري للإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أبي عبدالله محمد بن اسماعيل الجعفي البخاري المتوفي بقرية خرتنك سنة ست وخمسين ومائتين وهذا الفصل يشمل أوصالا وصل
هو أول مصنف صنف في الصحيح المجرد وأول الكتب الستة في الحديث وأفضلها عند الجمهور على المذهب المختار المنصور قال النووي في شرح صحيح مسلم اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن الكريم الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم وتلقاهما الأئمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد منه ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث وهذا الترجيح هو المختار الذي قاله الجمهور ثم إن شرطهما أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات ويكون إسناده متصلا غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن وإن لم يكن له إلا راو واحد وصح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه والجمهور على تقديم
(1/158)
صحيح البخاري قلت وبعض المغاربة رجحوا صحيح مسلم على صحيح البخاري والجمهور يقولون أن هذا فيما يرجع إلى حسن البيان والسياق وجودة الوضع والترتيب ورعاية دقائق الإشارات ومحاسن النكات في الأسانيد وهذا خارج عن البحث والكلام في الصحة والقوة وما يتعلق بها وليس كتاب يساوي صحيح البخاري في هذا الباب بدليل كمال الصفات التي اعتبرت في الصحة في رجاله وبعضهم توقف في ترجيح أحدهما على الآخر والحق هو الأول انتهى قال الحافظ عبد الرحمن بن علي بن الديبع نظم
تنازع قوم في البخاري ومسلم
لدي وقالوا أي ذين يقدم
فقلت لقد فاق البخاري صحة
كما فاق في حسن الصناعة مسلم
وقال بعضهم نظم
قالوا لمسلم فضل
قلت البخاري جللا
قالوا البخاري يكرر
قلت المكرر أحلى
قال النووي وأما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطة أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا من رجال البخاري مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال فما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم وأما التي انتقدت عليهما فأكثرها لا يقدح في أصل موضوع الصحيح فإن جميعها واردة من جهة أخرى وقد علم أن الإجماع واقع على تلقي كتابهما بالقبول والتسليم إلا ما انتقد عليهما والجواب عن ذلك على الإجمال أنه لا ريب في تقديم الشيخين على أئمة عصرهما ومن بعدهما في معرفة الصحيح والعلل وقد روى الفربري عن البخاري أنه قال ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وثبتت صحته وكان مسلم يقول عرضت كتابي على أبي زرعة
(1/159)
فكلما أشار إلى أن له علة تركته فإذا علم هذا فقد تقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة وعلى تقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون كلامه معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة والتفصيل في محله وصل
إعلم أن البخاري قد التزم مع صحة الأحاديث استنباط الفوائد الفقهية والنكتة الحكمية فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة فرقها في أبوابه بحسب المناسبة واعتنى فيها بآيات الأحكام وسلك في الإشارات إلى تفسيرها السبل الوسيعة ومن ثم أخلى كثيرا من الأبواب من ذكر إسناد الحديث واقتصر على قوله فلان عن النبي {صلى الله عليه وسلم} وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلقا لقصد الاحتجاج إلى ما ترجم له وأشار للحديث لكونه معلوما سبق قريبا ويقع في كثير من أبوابه أحاديث كثيرة وفي بعضها آية من القرآن فقط وفي بعضها لا شيء فيه
ذكر أبو الوليد الباجي في رجال البخاري أنه استنسخ البخاري من أصله الذي كان عند الفربري فرأى أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيء وأحاديث لم ترجم لها فأضاف بعض ذلك إلى بعض قال ومما يدل على ذلك أن رواية المستملي والسرخسي والكشمهيني وابن زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع أنهم استنسخوها من أصل واحد وإنما ذلك بحسب ما قد رأى كل منهم ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلتان ليس بينهما أحاديث وفي قول الباجي نظر من حيث أن الكتاب قري على مؤلفه ولا ريب أنه لم يقرأ عليه إلا مرتبا مبوبا فالعبرة بالرواية
ثم إن تراجم الأبواب قد تكون ظاهرة وخفية فالظاهرة أن تكون دالة بالمطابقة لما يورده وقد تكون بلفظ المترجم له أو ببعضه أو بمعناه
(1/160)
وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام وبأمر ظاهر وبأمر يختص ببعض الوقائع وكثيرا ما يترجم بلفظ يؤدي إلى معنى حديث ولم يصح على شرطه أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة ويورد في الباب ما يؤدي معناه بأمر ظاهر تارة وتارة بأمر خفي فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطي ولهذا اشتهر في قول جمع من الفضلاء فقه البخاري في تراجمه وللغفلة عن هذه الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الباب بلا تبييض وبالجملة فتراجمه حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار وإنما بلغت هذه المرتبة لما روي أنه بيضها بين قبر النبي {صلى الله عليه وسلم} ومنبره وإنه كان يصلي لكل ترجمة ركعتين وأما تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته في الأبواب فإنه كان يذكر الحديث في مواضع ويستدل به في كل باب بإسناد آخر ويستخرج منه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد وإنما يورده من طريق أخرى لمعان والتي ذكرها في موضعين سندا ومتنا معا ثلاثة وعشرون حديثا وأما اقتصاره على بعض المتن من غير أن يذكر الباقي في موضع آخر فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفا على الصحابي وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي حكم لها بالرفع ويحذف الباقي لأنه لا تعلق له بموضع كتابه كذا في مقدمة فتح الباري وصل
وأما إيراد البخاري الأحاديث المعلقة مرفوعة وموقوفة فيوردها تارة مجزوما بها كقال وفعل فعلها حكم الصحيح وتارة غير مجزوم بها كيروى ويذكر وتارة يوجد في موضع آخر منه موصولا وتارة معلقة للاختصار أو لكونه لم يحصل عنده مسموعا أو شك في سماعه أو سمعه مذاكرة ولم يورده في موضع آخر فمنه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه ومنه ما هو حسن ومنه ما هو ضعيف وأما الموقوفات فإنه يجزم فيها بما صح عنده ولم يكن على شرطه ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع وإنما يورده على طريق الاستئناس والتقوية
(1/161)
لما يختاره من المذاهب والمسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة فجميع ما يورده فيه إما أن يكون مما ترجم به أو مما ترجم له فالمقصود في هذا التأليف بالذات هو الأحاديث الصحيحة وهي التي ترجم لها والمذكور بالعرض والتبع الآثار الموقوفة والمعلقة والآيات المكرمة فجميع ذلك ترجم له فقد بان أن موضوعه إنما هو المسندات والمعلق ليس بمسند انتهى من هدي الساري مقدمة فتح الباري
وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في مقدمة اللمعات التعليقات كثيرة في تراجم صحيح البخاري ولها حكم الاتصال لأنه في هذا الكتاب لا يأتي إلا بالصحيح ولكنها ليست في مرتبة مسانيدها إلا ما ذكر منها مسندا في موضع آخر من كتابه وقد يفرق فيها بأن ما ذكر بصيغة الجزم والمعلوم كقال فلان أو ذكر فلان دل على ثبوت إسناده عنده فهو صحيح قطعا وما ذكره بصيغة التمريض والمجهول كقيل ويقال وذكر ففي صحته عنده كلام ولكنه لما أورده في هذا الكتاب كان له أصل ثابت ولهذا قالوا تعليقات البخاري متصلة صحيحة انتهى
قال المولى ولي الله المحدث الدهلوي أول ما صنف أهل الحديث في علم الحديث وجعلوه مدونا في أربعة فنون في السنة أعني الذي يقال له الفقه مثل موطأ مالك وجامع سفيان وفن التفسير مثل كتاب ابن جريج وفن السير مثل كتاب محمد بن اسحاق وفن الزهد مثل كتاب ابن المبارك فأراد البخاري أن يجمع الفنون الأربعة في كتاب ويجرد ما حكم له العلماء بالصحة قبل البخاري وفي زمانه ويجرده للحديث المرفوع المسند وما فيه من الآثار وغيرها إنما جاء بتبعا لا بالأصالة لهذا سمي كتابه بالجامع الصحيح المسند وأراد أن يفرغ جهده في الاستنباط من حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ويستنبط من كل حديث مسائل كثيرة جدا وهذا أمر لم يسبقه إليه غيره غير أنه استحسن أن يفرق الأحاديث في الأبواب ويودع في تراجم الأبواب سر الاسنباط
وصل
(1/162)
وجملة تراجم أبوابه تنقسم أقساما منها أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه ويذكر في الباب حديثا شاهدا له على شرطه
ومنها أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه لمسألة استنبطها من الحديث بنحو من الاستنباط من نصه أو إشارته أو عمومه أو إيمائه أو فحواه
ومنها أنه يترجم بمذهب ذهب إليه ذاهب قبله ويذكر في الباب ما يدل عليه بنحو من الدلالة لو يكون شاهدا له في الجملة من غير قطع يترجيح ذلك المذهب فيقول باب من قال كذا
ومنها أنه يترجم بمسألة اختلف فيها الأحاديث فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها مثاله باب خروج النساء إلى البراز جمع فيه حديثين مختلفين
ومنها أنه قد يتعارض الأدلة ويكون عند البخاري وجه تطبيق بينها يحمل كل واحد محمل فيترجم بذلك المحمل إشارة إلى التطبيق مثاله باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وما يحذر من الإصرار على التقابل والعصيان ذكر فيه حديث سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
ومنها أنه قد يجمع في الباب أحاديث كثيرة كل واحد منها يدل على الترجمة ثم يظهر له في حديث واحد فائدة أخرى سوى الفائدة المترجم عليها فيعلم ذلك الحديث بعلامة الباب وليس غرضه أن الباب الأول قد انقضى بما فيه وجاء الباب الآخر برأسه ولكن قوله باب هنالك بمنزلة ما يكتب أهل العلم على الفائدة المهمة لفظ تنبيه أو لفظ فائدة أو لفظ وقف مثاله قوله في كتاب بدء الخلق باب قول الله تعالى ) وبث فيها من كل دابة ( ثم قال بعد أسطر باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال وأخرج هذا الحديث بسنده ثم ذكر حديث
الفخر والخيلاء في أهل الخيل ثم وثم ماليس من ذكر الغنم فكأنه أعلم هذا الحديث بأنه مع دخوله في الباب فيه فائدة أخرى من منقبة الغنم
(1/163)
ومنها أنه قد يكتب لفظ باب مكان قول المحدثين وبهذا الإسناد وذلك حيث جاء حديثان بإسناد واحد كما يكتب حيث جاء حديث واحد بإسنادين مثاله باب ذكر الملائكة أطال فيها الكلام حتى أخرج حديث الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار برواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ثم كتب باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه ثم أخرج حديث أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ثم وثم ماليس فيه ذكر آمين لا يعد كثير
قال الاسماعيلي في موضع الباب وبهذا الإسناد كأنه يشير إلى لفظ باب علامة لقوله وبهذا الإسناد ومنها أنه قد يترجم بمذهب بعض الناس أو بما كاد يذهب إليه بعضهم أو بحديث لم يثبت عنده ثم يأتي بحديث يستدل به على خلاف ذلك المذهب والحديث إما بعمومه أو غير ذلك
ومنها أنه يذهب في كثير من التراجم إلى طريقة أهل السير في استنباطهم خصوصيات الوقائع والأحوال من إشارات طرق الحديث وربما يتعجب الفقيه من ذلك لعدم ممارسة هذا الفن لكن أهل السير لهم اعتناء شديد بمعرفة تلك الخصوصيات
ومنها أنه يقصد التمرن على ذكر الحديث وفق المسألة المطلوبة ويهدي طالب الحديث إلى هذا النوع مثاله باب ذكر الصواغ باب ذكر الخياط وقد فرق البخاري في تراجم الأبواب علما كثيرا من شرح غريب القرآن وذكر آثار الصحابة والتابعين والأحاديث المعلقة وفيه يذكر حديثا لا يدل هو بنفسه على الترجمة أصلا لكن له طرق وبعض طرقه يدل عليها إشارة أو عموما وقد أشار بذكر الحديث إلى أن فيه أصلا صحيحا يتأكد به ذلك الطريق ومثل هذا لا ينتفع به إلا المهرة من أهل الحديث وكثيرا ما يترجم لأمر ظاهر قليل الجدوى
ولكنه إذا تحققه متأمل أجدى كقوله باب قول الرجل فإنه أشار إلى الرد على من كره ذلك
(1/164)
قلت وأكثر ذلك تعقبات وتنكبات على عبد الرزاق وابن أبي شيبة في تراجم مصنفها أو شواهد الآثار يرويان عن الصحابة والتابعين في مصنفها ومثل هذا لا ينتفع به إلا من مارس الكتابين واطلع على ما فيهما وكثير ما يخرج الأداب المفهومة بالقول من الكتاب والسنة بنحو من الاستدلال والعادات الكائنة في زمانه عليه الصلاة والسلام ومثل هذا لا يدرك حسنه إلا من مارس كتب الآداب وأجال عقله في ميدان آداب قومه ثم طلب لها أصلا من السنة وكثيرا ما يأتي بشواهد الحديث من الآيات وبشواهد الآية من الأحاديث تظاهرا أو لتعيين بعض المحتملات دون البعض فيكون المراد بهذا العام المخصوص أو بهذا الخاص العموم ونحو ذلك ومثل هذا لا يدرك إلا بفهم ثاقب وقلب حاضر فهذه مقدمة لا بد من حفظها لمن أراد أن يقرأ البخاري والحمد لله أوله وآخره وصل
وأما عدد أحاديث البخاري فقال ابن الصلاح سبعة الاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالأحاديث المكررة وتبعه النووي فذكرها مفصلة وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر بابا بابا محررا ذلك وحاصله أنه قال جميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعون حديثا فقد زاد على ما ذكروه مائة حديث واثنين وعشرين حديثا والخالص من ذلك بلا تكرير ألفا حديث وستمائة وحديثان وإذا ضم إليه المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر منه وهي مائة وتسعة وخمسون حديثا صار مجموع الخالص ألفي حديث وسبعمائة وإحدى وستين حديثا فجملة ما فيه من التعاليق ألف وثلاثمائة وأحد وأربعون حديثا وأكثرها مكرر فخرج في الكتاب أصول متونه وليس فيه من المتون التي لم تخرج من الكتاب ولو من طريق آخر إلا مائة وستون حديثا وجملة ما فيه من المكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا خارجا عن الموقوفات على
(1/165)
الصحابة والمقطوعات على التابعين وعدد كتبه كما قال في الكواكب مائة وستون وأبوابه ثلاثة الاف وأربعمائة وخمسون بابا مع اختلاف قليل في نسخ الأصول وعدد مشايخه الذين خرج عنهم فيه مائتان وتسعة وثمانون وعدد من تفرد بالرواية عنهم دون مسلم مائة وأربعة وثلاثون وتفرد أيضا بمشايخ لم تقع الرواية عنهم كبقية أصحاب الكتب الخمسة إلا بالواسطة ووقع له اثنان وعشرون حديثا ثلاثيات الإسناد وأفردها العلماء بالتأليف كالمولى علي القاري الهروي والشيخ عبد الباسط القنوجي وغيره رحمه الله تعالى من ثلاثياته
قال حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال سمعت النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار أخرجه في كتاب العلم في باب إثم من كذب على النبي {صلى الله عليه وسلم}
قال البخاري في بدئ الوحي وهو أول جامعه بسم الله الرحمن الرحيم باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقول الله عز وجل ) إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ( الآية
حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التميمي إنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه وصل
وأما روايته فقد روينا عن الفربري أنه قال سمع البخاري من مؤلفه تسعون ألف رجل فما بقي أحد يرويه عنه غيري قال الحافظ ابن حجر أطلق ذلك بناء على ما في علمه وقد تأخر بعده بتسع سنين
(1/166)
أبو طلحة منصور بن محمد بن علي بن قرنية البزدوي المتوفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وهو آخر من حدث عن البخاري بصحيحه كما جزم به أبو نصر بن ماكولا وغيره وقد عاش بعده ممن سمع من البخاري القاضي حسين بن إسماعيل المحاملي ببغداد ولكن لم يكن عنده الجامع الصحيح وإنما سمع منه مجالس أملاها ببغداد في آخر مقدمة قدمها البخاري وقد غلط من روى الصحيح من طريق المحاملي المذكور غلطا فاحشا ومن رواة الجامع الصحيح ممن اتصلت لنا روايته بالإجازة إبراهيم بن معقل النسفي الحافظ وفاته منه قطعة من آخره رواها بالإجازة وتوفي سنة أربعين ومائتين انتهى
ولذلك قيل أن رواية إبراهيم أنقص الروايات فإنها تنقص من رواية الفربري ثلاثمائة حديث قال ابن حجر هذا غير مسلم فإنهم إنما قالوا ذلك تقليدا للحموي فإنه كتب البخاري ورواه عن الفربري وعد كل باب عنه ثم جمع الجملة وقلده كل من جاء بعده نظرا منهم إلى أنه راوي الكتاب وله به العناية وليس كذلك إلا أن حماد بن شاكر فاته من آخر البخاري فوت لم يروه فبلغ مائتي حديث فقالوا روايته ناقصة عن رواية الفربري وفات ابن معقل أكثر من حماد فعدوه كما فعلوا في رواية حماد وذكره البقاعي في حاشية الألفية ومنهم حماد بن شاكر النسوي المتوفى في حدود سنة تسعين ومائتين وفي رواية طريق المستملي والسرخسي وأبي علي وأبي السكن والكشمهيني وأبي زيد المروزي وأبي علي بن سيبويه وأبي أحمد الجرجاني والكسائي وهو آخر من حدث عن الفربري والله أعلم وصل
وأما فضله فهو أصح الكتب المؤلفة في هذا الشأن والمتلقى بالقبول من العلماء في كل زمان يقول أبو زيد المروزي كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي {صلى الله عليه وسلم} في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس الشافعي وما تدرس كتابي فقلت يا رسول الله وما كتابك قال جامع محمد بن إسماعيل البخاري وقال الذهبي في
(1/167)
تأريخ الإسلام وأما جامع البخاري الصحيح فأجل كتب الإسلام وأفضلها بعد كتاب الله تعالى وهو أعلى في وقتنا هذا إسنادا للناس ومن ثلاثين سنة يفرحون بعلو سماعه فكيف اليوم فلو رحل الشخص لسماعه من ألف فرسخ لما ضاعت رحلته انتهى وهذا قاله الذهبي في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة
وروى بالإسناد الثابت عن البخاري أنه قال رأيت النبي {صلى الله عليه وسلم} وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه فسألت بعض المعبرين فقال لي أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراح الصحيح وأيضا قال البخاري كنت عند إسحاق بن راهويه فقال لي بعض أصحابه لو جمع أحد كتابا مختصرا في السنن الصحيحة عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي بلغت من الصحة أقصى درجاتها كان أحسن وتيسر العمل عليه للعاملين من دون مراجعة إلى المجتهدين قال فوقع ذلك في قلبي وأخذ بمجامع خاطري فصنفت هذا الجامع الصحيح
قال النسائي أجود هذه الكتب كتاب البخاري وقال البخاري ما كتبت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين وقال أخرجته من نحو ست مائة ألف حديث وصنفته في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى وقال ما أدخلت فيه إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر حتى يطول وقال صنفت كتابي هذا في المسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته
وقال الفربري رحمه الله تعالى قال البخاري ما وضعت في الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين وأرجو أن يبارك الله تعالى في هذه المصنفات
وروى عن عبد القدوس بن همام قال سمعت عدة من المشايخ يقولون حول البخاري تراجم جامعة بين قبر النبي {صلى الله عليه وسلم} ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين وقال يروون منهم أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي صنفه ببخارى وقيل بمكة وقيل بالبصرة وكل هذا
(1/168)
صحيح ومعناه أنه كان يصنف فيه كل بلد من هذه البلدان فإنه بقي في تصنيفه ست عشرة سنة قال الحاكم قال أبو عمرو اسماعيل حدثنا أبو عبدالله محمد بن علي قال سمعت البخاري يقول أقمت بالبصرة خمس سنين معي كتبي أصنف وأحج في كل سنة وأرجع من مكة إلى البصرة انتهى
وقال الشيخ أبو محمد عبدالله بن أبي جمرة قال لي من لقيت من العارفين عمن لقيه من السادة المقر لهم بالفضل أن صحيح البخاري ما قرئ في شدة إلا فرجت ولا ركب به في مركب إلا بخت قال وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير وكتاب البخاري الصحيح يستسقى بقراءته الغمام وأجمع على قبوله وصحة ما فيه أهل الإسلام
قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات قرأ كثير من المشايخ والعلماء والثقات صحيح البخاري لحصول المرادات وكفاية المهمات وقضاء الحاجات ودفع البليات وكشف الكربات وصحة الأمراض وشفاء المرضى عند المضايق والشدائد فحصل مرادهم وفازوا بمقاصدهم ووجدوه كالترياق مجربا وقد بلغ هذا المعنى عند علماء الحديث مرتبة الشهرة والاستفاضة
ونقل السيد جمال الدين المحدث عن أستاذه السيد أصيل الدين أنه قال قرأت صحيح البخاري نحو عشرين ومائة مرة في الوقائع والمهمات لنفسي وللناس الآخرين فبأي نية قرأته حصل المقصود وكفى المطلوب انتهى مترجما بالعربية وما أحسن قول البرهان القيراطي رحمه الله تعالى في صحيح البخاري نظم
حدث وشنف بالحديث مسامعي
فحديث من أهوى حلى مسامعي
لله ما أحلى مكرره الذي
يحلو ويعذب في مذاق السامع
بسماعه نلت الذي أملته
وبلغت كل مطالبي ومسامعي
وطلعت في أفق السعادة صاعدا
في خير أوقات وأسعد طالع
ولقد هديت لغاية القصد التي
صحت أدلته بغير ممانع
وسمعت نصا للحديث معرفا
مما تضمنه كتاب الجامع
وهو الذي يتلى إذا خطب عرى
فتراه للمحذور أعظمم دافع
كم من يد بيضاء حواها طرسه
توى إلى طرق العلى بأصابع
وإذا بدا بالليل أسود نقشه
يجلو علينا كل بدر ساطع
(1/169)
ملك القلوب به حديث نافع
مما رواه مالك عن نافع
في سادة ما إن سمعت بمثلهم
من مسمع عالي السماع وسامع
وقراءة القاري له ألفاظه
تغريدها يزري بسجع الساجع
للإمام أبي الفتوح العجلي نظم
صحيح البخاري يا ذا الأدب
قوي المتون على الرتب
قويم النظام بهيج الردا
خطير يروج كنقد الذهب
فتبيانه موضح المعضلات
وألفاظه نخبة للنخب
مفيد المعالي شريف المعالي
رشيق أنيق كثير الشعب
سما عزه فوق نجم السما
فكل جميل به يجتلب
سناء منير كضوء الضحى
ومتن مزيج لشوب الريب
كأن البخاري في جمعه
تلقى من المصطفى ما اكتتب
فلله خاطره إذ وعى
وساق فرائده وانتخب
جزاه الإله بما يرتضي
وبلغه عاليات القرب
ولأبي عامر الفضل بن اسماعيل الجرجاني الأديب رحمه الله تعالى نظم
صحيح البخاري لو أنصفوه
لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين العمى والهدى
هو السد دون العنا والعطب
أسانيده مثل نجوم السماء
أمام متون كمثل الشهب
به قام ميزان دين النبي
ودان له العجم بعد العرب
بأب من النار لا شك فيه
يميز بين الرضا والغضب
خير رفيق إلى المصطفى
ونور مبين لكشف الريب
يا عالما أجمع العالمون
على فضل رتبته في الرتب
حث الأئمة فيما جمعت
وفزت على زعمهم بالقصب
بت السقيم من الغافلين
ومن كان متهما بالكذب
حيت من عدلته الرواة
وصحت روايته في الكتب
برزت في حسن ترتيبه
وتبويبه عجبا للعجب
فأعطاك ربك ما تشتهيه
وأجزل حظك فيما يهب
يصك في عرصات الجنان
بخير يدوم ولا يقتضب
فلله دره من تأليف رفع علم علمه بمعارف معرفته وتسلسل حديثه الجامع فأكرم بسنده العالي ورفعته وللشيخ العلامة علاء الدين بن أيبك الدمشقي رحمه الله تعالى قصيدة في مدح الصحيح ومؤلفه قرأها عند ختمه وقد اعتيد قراءتها عند ختم صحيح البخاري أوردتها في هذا المقام تبركا وتيمنا بها وهي هذه القصيدة
هذا البخاري بحمد الله قد ختما
وليس فيه حديث واحد كتما
لكن قرأناه أبوابا مبوبة
مملوءة أدبا موفورة حكما
(1/170)
وقد قرعنا به الأسماع فانفتحت
من بعد ما ملئت من قبله صمما
وأصبحت كل عين من بصائرنا
للحق مبصرة ليس تخاف عما
هذا الكتاب الذي ما شاب قوته
ضعف وصحته ما تعرف السقما
هذا الكتاب الذي نرجو الشفاء به
هذا الكتاب به نستدفع الألما
هذا الكتاب الذي فيه الدواء لنا
هذا الكتاب الذي للداء قد حسما
هذا الكتاب الذي قد جاء جوهرة
غلت له قيمة لما علت قيما
من روضة كان فيها الشيخ ألفه
هبت له نسمة قد أحيت النسما
لا يستلذ به إلا الخبير ولا
يحلو مكرره إلا لمن فهما
كم قد كشفنا به من كربة عظمت
كم قد طرحنا به من حادث هجما
كأن أسطره من عنبر رقمت
كأن ألفاظه زهر قد ابتسما
ما للبخاري نظير في جلالته
ومثله حافظ ما أمسك القلما
قد كان وهو صغير السن مجتهدا
وكان ذا همة قد فاقت الهمما
كأنما صدره بحر يموج ذكا
كأنما ذهنه غيث قد انسجما
شرقا وغربا على حفظ الحديث سعى
دهرا ولا عربا أبقى ولا عجما
وألف شيخ له في الأرض وهو على
تلك المشايخ في علم الحديث سما
كم قلبوا من أسانيد الحديث له
بالأمس واقتسموها بينهم قسما
فردها مثل ما كانت وصححها
وصار في علمه قدامهم علما
وما أضر به المكر الذي مكروا
لكن أقر له بالفضل من علما
وكل حفاظ بغداد له اعترفوا
لما زكا بالذكا محفوظة ونما
ومسلم قام في عينيه قبله
ولم يدعه البخاري يلثم القدما
هما الإمامان في علم ومعرفة
كالبحر حين طمى والغيث حين هما
لو قيل من فاق أهل الإرض قاطبة
في العقل والنقل والتحرير قلت هما
الله يجزيهما خيرا بما فعلا
والله يجمعنا يوم اللقا بهما
يا سيدي يا رسول الله يا سندي
يا من بحبي له استوجب النعما
يا من بطيبه منه طيب رائحة
وحرمة لم تفارق ذلك الحرما
أنت الحبيب الذي طاب الحديث به
أنت الذي تستقي من بحرك العلما
أنت الذي للعلى فوق البراق على
أنت الذي قد سما من فوق كل سما
أنت الذي بك في دنيا وآخرة
من ربنا نرتجي الإفضال والنعما
أنت الذي لم يخب من أنت شافعه
(1/171)
أنت الذي بك كل الناس قد رحما
وأنت أفضل من صلى وصام ومن
سعى وطاف ومس الركن واستلما
ونجل أبيك عبد الرق خادمكم
مستشفع بك في الذنب الذي عظما
وها أساس القوي بالضعف منه وها
شبابه مذ عراه الشيب قد هرما
وبالثلاثة والستين لمته
قد صبحته بصبح أذهب الظلما
وقيل بالنيل داو الشيب قلت لهم
لا ينفع النيل شيخا قارب الهرما
يا من صحابته نالوا بصحبته
فضلا وأمته قد فاقت الأمما
أنت الشفيع ونحن المذنبون وما
في جمعنا مذنب إلا وقد ندما
وقد ختمنا حديثا أنت قائله
يا من به ربه للرسل قد ختما
فاشفع لنا ولكل المسلمين وما
شفعت في مسلم إلا وقد سلما
عليك صلى إله العرش ما عبست
سحابة وراءها البرق فابتسما
والآل والصحب ما غنت مطوقة
فوق الأراك ودمع العين منسجما
وأنشد الشيخ العلامة أثير الدين أبو حيان في مدحه ولله دره نظم
اسامع أخبار الرسول لك البشرى
لقد شدت في الدنيا وقد فزت في الأخرى
تشنف آذانا بعقد جواهر
تود الغواني لو تقلدنه التبرا
جواهركم حلت نفوسا نفيسة
فحلت بها صدرا وجلت بها قدرا
هل الدين إلا ما روته أكابر
لنا نقلوا الأخبار عن طيب خبرا
وأدوا أحاديث الرسول مصونة
عن الزيف والتصحيف فاستوجبوا الشكرا
وإن البخاري الإمام لجامع
بجامعه منها اليواقيت والدررا
على مفرق الإسلام تاج مرصع
أضابه به شمسا ونار به بدرا
وبحر علوم تلفظ الدر لا الحصى
فأنفس به درا وأعظم به بحرا
تصانيفه نور ونور لناظر
فقد أشرقت زهرا وقد اينعت زهرا
نحا سنة المختار ينظم سنة
يلخصها جمعا ويخلصها تبرا
وكم بذل النفس المصونة جاهدا
فجاز لها بحرا وجاز لها برا
وطورا عراقيا وطورا يمانيا
وطورا حجازيا وطورا أتى مصرا
إلى أن حوى منها الصحيح صحيحه
فوافى كتابا قد غدى الآية الكبرى
كتاب له من شرع أحمد شرعة
مطهرة تعلو السماكين والنسرا
الخ وفيه للشيخ تاج الدين السبكي نظم
علا عن المدح حتى لا يزان به
كأنما المدح من مقداره يضع
له الكتاب الذي يتلو الكتاب هدى
(1/172)
هذا السيادة طود ليس ينصدع
الجامع المانح الدين القويم وسنة
الشريعة إن تفتاله البدع
قاصي المراتب داني الفضل تحسبه
كالشمس يبدو سناها حين يرتفع
ذلت رقاب جماهير الأنام له
فكلهم وهو عال فيها خضعوا
لا تسمعن حديث الحاسدين له
فإن ذلك موضوع وينقطع
وقل لمن لام يحكيه اصطبارك لا
تعجل فإن الذي تبغيه ممتنع
وهيك تأتي كما يحكي شكالته
النقش يحكي محيا الجامع البيع
وصل
وأما الشروح فقد اعتنى الأئمة به قديما وحديثا فصنفوا له شروحا كثيرة منها شرح الإمام أبي سليمان أحمد بن محمد بن ابراهيم بن خطاب البستي الخطابي المتوفي سنة ثمان وثلاثمائة وهو شرح لطيف فيه نكت لطيفة ولطائف شريفة سماه أعلام السنن أوله الحمد لله المنعم الخ ذكر فيه أنه لما فرغ عن تأليف معالم السنن ببلخ سأله أهلها أن يصنف شرحا فأجاب وهو في مجلد واعتنى الإمام محمد التميمي بشرح مالم يذكره الخطابي مع التنبيه على أوهامه وكذا أبو جعفر أحمد بن سعيد الداؤدي وهو ممن ينقل عنه ابن التين وشرح المهلب بن أبي صفرة الأزدي وهو ممن اختصر الصحيح ومختصر شرح المهلب لتلميذه أبي عبدالله محمد بن خلف المرابط وزاد عليه فوائد ولابن عبد البر الأجوبة على المسائل المستغربة من البخاري سئل عنه المهلب وكذا لأبي محمد ابن حزم عدة أجوبة عليه وشرح أبي الزناد سراج وشرح الإمام أبي الحسن علي بن خلف الشهير بابن بطال المغربي المالكي المتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة وغالبه فقه الإمام مالك من غير تعرض لموضوع الكتاب وشرح أبي حفص عمر بن الحسن بن عمر الغوري الاشبيلي المتوفى سنة وشرح أبي القاسم أحمد بن محمد بن عمر بن در التميمي
(1/173)
المتوفى سنة وهو واسع جدا وشرح الإمام عبد الواحد بن التين بالتاء المثناة ثم الياء التحتانية السفاقسي المتوفى سنة وشرح الإمام ناصر الدين علي بن محمد بن المنير الاسكندراني المتوفي سنة وهو كبير في نحو عشر مجلدات وله حواش على شرح ابن بطال وله أيضا كلام على التراجم سماه المتواري على تراجم البخاري وشرح أبي الأصبغ عيسى ابن سهل بن عبدالله الأسدي المتوفي سنة وشرح الإمام قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور بن منير الحلبي الحنفي المتوفي سنة خمس وأربعين وسبعمائة وهو إلى نصفه في عشر مجلدات
وشرح الإمام الحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج التركي المصري المتوفي سنة اثنتين وسبعمائة وهو شرح كبير سماه التلويح وهو شرح بالقول أوله الحمد لله الذي أيقظ من خلقه الخ قال صاحب الكواكب وشرحه بتتميم الأطراف أشبه وبتصحيف تصحيح التعليقات أمثل وكان من أخلائه من مقاصد الكتاب على ضمان ومن شروح ألفاظه وتوضيح معانيه على أمان ومختصر شرح مغلطاي لجلال الدين رسولا ابن أحمد التباني المتوفي سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة وشرح العلامة شمس الدين محمد بن يوسف بن علي الكرماني المتوفي سنة ست وثمانين وسبعمائة وهو شرح وسط مشهور بالقول جامع لفرائد الفوائد وزوائد الفرائد سماه الكواكب الدراري أوله الحمد لله الذي أنعم علينا بجلائل النعم ودقائقها الخ ذكر فيه أن علم الحديث أفضل العلوم وكتاب البخاري أجل الكتب نقلا وأكثرها تعديلا وضبطا وليس له شرح مشتمل على كشف بعض ما يتعلق به فضلا عن كلها فشرح الألفاظ اللغوية ووجه الأعاريب النحوية البعيدة وضبط الروايات وأسماء الرجال وألقاب الرواة ووفق بين الأحاديث المتنافية وفرغ عنه بمكة المكرمة سنة خمس وسبعين وسبعمائة لكن قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة وهو شرح مفيد على أوهام فيه في النقل لأنه لم يأخذه إلا من الصحف انتهى وشرح ولده تقي الدين يحيى بن محمد الكرماني المتوفي سنة استمد فيه من شرح أبيه
(1/174)
وشرح ابن الملقن وأضاف إليه من شرح الزركشي وغيره وما سنح له من حواشي الدمياطي وفتح الباري والبدر وسماه بمجمع البحرين وجواهر النحرين وهو في ثمانية أجزاء كبار بخطه وشرح الإمام سراج الدين عمر بن علي الملقن الشافعي المتوفي سنة أربع وثمان مائة وهو شرح كبير في نحو عشرين مجلدا أوله ربنا آتنا من لدنك رحمة الآية أحمد الله سبحانه وتعالى على توالي أنعامه الخ قدم فيه مقدمة مهمة وذكر أنه حصر المقصود في عشرة أقسام في كل حديث وسماه شواهد التوضيح
قال السخاوي اعتمد فيه على شرح شيخه مفلطاي والقطب وزاد فيه قليلا
قال ابن حجر وهو في أوائله أقعد منه في أواخره بل هو من نصفه الباقي قليل الجدوى انتهى
وشرح العلامة شمس الدين أبي عبدالله محمد بن عبد الدائم بن موسى الرمادي الشافعي المتوفي سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وهو شرح حسن في أربعة أجزاء سماه اللامع الصبيح أوله الحمد لله المرشد إلى الجامع الصحيح الخ ذكر فيه أنه جمع بين شرح الكرماني باقتصار وبين التنقيح للزركشي بإيضاح وتنبيه ومن أصوله أيضا مقدمة فتح الباري ولم يبيض إلا بعد موته
وشرح الشيخ برهان الدين ابراهيم بن محمد الحلبي المعروف بسبط ابن العجمي المتوفي سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وسماه التلقيح لفهم قارئ الصحيح وهو بخطه في مجلدين وفيه فوائد حسنة ومختصر هذا الشرح للإمام محمد بن محمد الشافعي المتوفي سنة أربع وسبعين وثمانمائة وكذا التقط منه الحافظ ابن حجر حيث كان بحلب ما ظن أنه ليس عنده لكونه لم يكن معه إلا كراريس يسيرة من الفتح
ومن أعظم شروح البخاري شرح الحافظ العلامة شيخ الإسلام أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة وهو في عشر أجزاء ومقدمته في جزء وسماه فتح الباري
(1/175)
أوله الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإسلام بالهدى ومقدمته على عشرة فصول سماها هدي الساري وشهرته وانفراده بما يشتمل عليه من الفوائد الحديثية والنكات الأدبية والفوائد الفقهية تغني عن وصفه سيما وقد امتاز بجمع طرق الحديث التي ربما يتبين من بعضها ترجيح أحد الاحتمالات شرحا وإعرابا وطريقته في الأحاديث المكررة أنه يشرح في كل موضع ما يتعلق بمقصد البخاري يذكر فيه يحيل بباقي شرحه على المكان المشروح فيه وكذا ربما يقع له ترجيح أحد الأوجه في الإعراب أو غيره من الاحتمالات أو الأقوال في موضع وفي موضع آخر غيره إلى غير ذلك مما لا طعن عليه بسببه بل هذا أمر لا ينفك عنه أحد من الأئمة وكان ابتداء تأليفه في أوائل سنة سبع عشرة وثمانمائة على طريق الإملاء بعد أن كملت مقدمة في مجلد ضخيم في سنة ثلاث عشرة وثمان ومائة وسبق منه الوعد للشرح ثم صار يكتب بخطه شيئا فشيئا فيكتب الكراسة ثم يكتبها جماعة من الأئمة المعتبرين ويعارض بالأصل مع المباحثة في يوم من الأسبوع وذلك بقراءة العلامة ابن خضر فصار السفر لا يكمل منه إلا وقد قوبل وحرر إلى أن ينتهي في أول يوم رجب سنة اثنتين أوربعين وثمانمائة سوى ما ألحقه فيه بعد ذلك فلم ينته إلا قبيل وفاته ولما تم عمل مصنفه وليمة عظيمة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا نادرا بالمكان المسمى بالتاج والسبع وجوه في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة وقريء في المجلس الأخير وهناك حضره الأئمة كالقاياني والونائي والسعد الديري وكان المصروف في الوليمة المذكورة نحو خمسمائة دينار فطلبه ملوك الأطراف بالاستكتاب واشتري بنحو ثلاثمائة دينار وانتشر في الآفاق
(1/176)
ومختصر هذا الشرح للشيخ أبي الفتح محمد بن حسين المراغي المتوفي سنة تسع وخمسين وثمانمائة ومن الشروح المشهورة أيضا شرح العلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفي سنة خمس وخمسين وثمانمائة وهوشرح كبير أيضا في عشرة أجزاء وأزيد وسماه عمدة القاري أوله الحمد لله الذي أوضح وجوه معالم الدين ذكر فيه
أنه لما دخل إلى البلاد الشمالية قبل ثمانمائة مستصحبا فيه هذا الكتاب ظفر هناك من بعض مشايخه بغرائب النوادر المتعلقة بذلك الكتاب ثم لما عاد إلى مصر شرحه وهو بخطه في أحد وعشرين مجلدا بمدرسته التي أنشأها بحارة كتامة بالقرب من الجامع الأزهر وشرع في تأليفه في أواخر شهر رجب سنة إحدى وعشرين وثمانمائة وفرغ من نصف الثلث الأول في جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وثمانمائة واستمد فيه من فتح الباري بحيث ينقل منه الورقة بكمالها وكان يستعيره من البرهان بن خضر باذن مصنفه له وتعقبه في مواضع وطوله بما تعمد الحافظ ابن حجر حذفه من سياق الحديث بتمامه وإفراد كل من تراجم الرواة بالكلام وتباين الأنساب واللغات والإعراب والمعاني والبيان واستنباط الفوائد من الحديث والأسئلة والأجوبة
وحكي أن بعض الفضلاء ذكر لابن حجر ترجيح شرح العيني بما اشتمل عليه من البديع وغيره فقال بديهة هذا شيء نقله من شرح ركن الدين وقد كنت وقفت عليه قبله ولكن تركت النقل منه لكونه لم يتم إنما كتب منه قطعة وخشيت من تعبي بعد فراغها في الإرسال ولذا لم يتكلم العيني بعد تلك القطعة بشيء من ذلك انتهى وبالجملة فإن شرحه حافل كافل في معناه لكن لم ينتشر كانتشار فتح الباري في حياة مؤلفه وهلم جرا
(1/177)
ومنها شرح الشيخ ركن الدين أحمد بن محمد بن عبد المؤمن القريمي المتوفي سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة وهو الذي ذكره ابن حجر في الجواب عن تفصيل شرح العيني آنفا وشرح الشيخ بدر الدين محمد بن بهادر ابن عبد الله الزركشي الشافعي المتوفي سنة أربع وستين وسبع مائة وهو شرح مختصر في مجلد أوله الحمد لله ما عم بالأنعام قصد فيه إيضاح غريبه وإعراب غامضه وضبط نسب أو اسم يخشى فيه التصحيف منتخبا من الأقوال أصحها ومن المعاني أوضحها مع إيجاز العبارة والرمز بالإشارة وإلحاق فوائد يكاد يستغني به اللبيب عن الشروح لأن أكثر الحديث ظاهر لا يحتاج إلى بيان كذا قال وسماه التنقيح وعليه نكت
للحافظ ابن حجر المذكور وهي تعليقة بالقول ولم تكمل وللقاضي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي المتوفي سنة أربع وأربعين وثمانمائة نكت أيضا على تنقيح الزركشي
ومنها شرح العلامة بدر الدين محمد بن أبي بكر الدماميني المتوفي سنة ثمان وعشرين وثمانمائة وسماه مصابيح الجامع أوله الحمد لله الذي جعل في خدمة السنة النبوية أعظم سيادة الخ ذكرأنه ألفه للسلطان أحمد شاه بن محمد بن مظفر من ملوك الهند وعلقه على أبواب منه ومواضع يحتوي على غريب وإعراب وتنبيه قلت لم يذكر الدماميني في ديباجة شرحه هذا الذي نقله المؤلف لكن قال في آخر نسخة قديمة كان انتهاء هذا التأليف بزبيد من بلاد اليمن قبل ظهر يوم الثلاثاء العاشر من شهر ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وثمانمائة على يد مؤلفه محمد بن أبي بكر ابن عمر بن أبي بكرالمخزومي الدماميني انتهى
وشرح الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفي سنة إحدى عشرة وتسع مائة وهو تعليق لطيف قريب من تنقيح الزركشي سماه التوشيح على الجامع الصحيح أوله الحمد لله الذي أجزل المنة الخ وله الترشيح أيضا ولم يتم
(1/178)
وشرح الإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي المتوفي سنة ست وسبعين وستمائة وهو شرح قطعة من أول إلى آخر كتاب الإيمان ذكر في شرح مسلم أنه جمع فيه جملا مشتملة على نفائس من أنواع العلوم وشرح الحافظ عماد الدين اسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة وهو شرح قطعة من أوله أيضا وشرح الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي المتوفي سنة خمس وتسعين وتسعمائة وهو شرح قطعة من أوله أيضا سماه فتح الباري قلت وصل فيه إلى كتاب الجنائز قاله صاحب الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد وشرح العلامة سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني الشافعي المتوفي سنة خمس وثمانمائة وهو شرح قطعة
من أوله أيضا إلى كتاب الإيمان في نحو خمسين كراسة وسماه الفيض الجاري
(1/179)
وشرح العلامة مجد الدين أبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي الشيرازي المتوفي سنة سبع عشرة وثمانمائة سماه منح الباري بالسيح الفسيح المجاري كما ربع العبادات منه في عشرين مجلدا وقدر تمامه في أربعين مجلدا ذكر السخاوي في الضوء اللامع أن التقى الفاسي قال في ذيل التقييد إن المجد لم يكن بالماهر في الصنعة الحديثية وله فيما يكتبه من الأسانيد أوهام وأما شرحه على البخاري فقد ملأه من غرائب المنقولات سيما من الفتوحات المكية وقال ابن حجر في أبناء الغمر لما اشتهر باليمن مقالة ابن العربي ودعى إليها الشيخ اسماعيل الجبرتي صار الشيخ يدخل فيه من الفتوحات ما كان سببا لشين الكتاب عند الطاعنين فيه قال ولم يكن اتهم بها لأنه كان يحب المداراة وكان الناشري بالغ في الانكار على اسماعيل ولما اجتمعت بالمجد أظهر لي إنكار مقالات ابن العربي ورأيه يصدق بوجود رتن وينكر قول الذهبي في الميزان بأنه لا وجود له وذكر أنه رحل قريته ورى ذريته وهم مطبقون على تصديقه انتهى وذكر ابن حجر أنه رأى القطعة التي كملت في حياة مؤلفها قد أكلتها الأرضة بكمالها لا يقدر على قراءة شيء منها
وشرح الإمام أبي الفضل محمد الكمال بن محمد بن أحمد النويري خطيب مكة المكرمة المتوفي سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة وهو شرح مواضع منه
وشرح العلامة أبي عبدالله محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني المالكي شارح البردة المتوفي سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة وسماه المتجر الربيح والمسعى الرجيح ولم يكمل أيضا وشرح العارف القدوة عبد الله ابن سعد بن أبي جمرة بالجيم الأندلسي وهو على ما اختصره من البخاري وهو نحو ثلاثمائة حديث وسماه بهجة النفوس وغايتها بمعرفة ما لها وما عليها
(1/180)
وشرح برهان الدين ابن النعماني إلى أثناء الصلاة ولم يف بما التزمه وشرح الشيخ أبي البقاء محمد بن علي بن خلف الأحمدي المصري الشافعي نزيل المدينة وهو شرح كبير ممزوج وكان ابتداء تأليفه من شهر شعبان سنة تسع وتسعمائة أوله الحمد لله الواجب الوجود الخ ذكر أنه جعله كالوسيط برزخا بين الوجيز والبسيط ملخصا من شروح المتأخرين كالكرماني وابن حجر والعيني وشرح جلال الدين البكري الفقيه الشافعي المتوفي سنة
وشرح الشيخ شمس الدين محمد بن محمد الدلجي الشافعي المتوفي سنة خمسين وتسعمائة كتب قطعة منه وشرح العلامة زين الدين عبد الرحيم ابن عبد الرحمن بن أحمد العباسي الشافعي المتوفي سنة ثلاث وستين وتسعمائة رتبه على ترتيب عجيب وأسلوب غريب فوضعه كما قال في ديباجته على منوال مصنف ابن الأثير ونباه على مثال جامعه وجرده من الأسانيد راقما على هامشه بإزاء كل حديث حرفا أو حروفا يعلم بها من وافق البخاري عل إخراج ذلك الحديث من أصحاب الكتب الخمسة جاعلا إثر كل كتاب منه بابا لشرح غريبه واضعا للكلمات الغريبة بهيئتها على هامش الكتاب موازيا لشرحها
وقرظ عليه البرهان بن أبي شريف وعبد البر بن الشحنة المتوفي سنة والرضى الغزي وترجمان التراجم لأبي عبدالله محمد بن عمر ابن رشيد القهري السبتي المتوفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وهو على أبواب الكتاب ولم يكمله وحل اغراض البخاري المهمة في الجمع بين الحديث والترجمة وهي مائة ترجمة للفقيه أبي عبدالله محمد بن منصور بن حمامة المغراوي السلجماسي المتوفي سنة
وانتقاض الاعتراض للشيخ الإمام الحافظ ابن حجر المذكور سابقا بحث فيه عما اعترض عليه العيني في شرحه لكنه لم يجب عن أكثرها ولكنه كان يكتب الاعتراضات ويبيضها ليجيب عنها فاخترمته المنية أوله اللهم إني أحمدك الخ ذكر فيه أنه لما أكمل شرحه كثرت الرغبات فيه من ملوك الأطراف فاستنسخت نسخة لصاحب المغرب أبي الفارس
(1/181)
عبد العزيز وصاحب المشرق شاهرخ وللملك الظاهر فحسده العيني وادعى الفضيلة عليه فكتب في رده وبيان غلطه في شرحه وأجاب برمز ح ود وع إلى الفتح وأحمد والعيني والمعترض وله أيضا الاستبصار على الطاعن المعثار وهو صورة فتيا عما وقع في خطبة شرح البخاري للعيني وله الإعلام بمن ذكر في البخاري من الأعلام ذكر فيه أحوال الرجال المذكورين فيه زيادة على ما في تهذيب الكمال وله أيضا تعليق التعليق ذكر فيه تعليق أحاديث الجامع المرفوعة وآثاره الموقوفة والمتابعات ومن وصلها بأسانيدها إلى الموضع المعلق وهو كتاب حافل عظيم النفع في بابه لم يسبقه إليه أحد ولخصه في مقدمة الفتح فحذف الأسانيد ذاكرا من خرجه موصولا
وقرظ عليه العلامة المجد صاحب القاموس قيل هو أول تأليفه أوله الحمد لله الذي من تعلق بأسباب طاعته فقد أسند أمره إلى العظيم الخ قال تأملت ما يحتاج إليه طالب العلم من شرح البخاري فوجدته ثلاثة أقسام الأول في شرح غريب ألفاظه وضبطها وإعرابها
الثاني في صفة أحاديثه وتناسب أبوابها
الثالث وصل الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة المعلقة وما أشبه ذلك من قوله تابعه فلان ورواه فلان فبان لي أن الحاجة إلى وصل المنقطع ماسة فجمعت وسميته تعليق التعليق لأن الأسانيد كانت كالأبواب المفتوحة فغلقت انتهى وفرغ من تأليفه سنة سبع وثمانمائة لكن قال في انتقاضه أنه كمل سنة أربع وثمانمائة ولعل ذلك تاريخ التسويد
ومن شروح البخاري شرح الفاضل شهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني المصري الشافعي صاحب المواهب اللدنية المتوفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وهو شرح كبير ممزوج في نحو عشرة أسفار كبار أوله الحمد لله الذي شرح بمعارف عوارف السنة النبوية الخ فال فيه بعد مدح الفن والكتاب طالما خطر لي أن أعلق عليه شرحا
(1/182)
أمزجه فيه مزجا أميز فيه الأصل من الشرح بالحمرة ليكون كاشفا بعض أسراره مدلكا باللمحة موضحا مشكله مقيدا مهمله وافيا بتعليق تعليقه كافيا في إرشاد الساري إلى طريق تحقيقه فشمرت ذيل العزم وأتيت بيوت التصنيف من أبوابها وأطلقت لسان القلم بعبارات صريحة لخصتها من كلام الكبراء ولم أتحاش من الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن قصدا لنفع الخاص والعام فدونك شرحا أشرقت عليه من شراقات هذا الجامع أضواء نوره اللامع واختلفت منه كواكب الدراري كيف وقد فاض عليه النور من فتح الباري انتهى أراد بذلك أن شرح ابن حجر العسقلاني مندرج فيه وسماه إرشاد الساري وذكر في مقدمته فصولا هي لفروع قواعد هذا الشرح أصول
قال صاحب كشف الظنون وقد لخصت ما فيها من أوصاف كتاب البخاري وشروحه إلى هنا مع ضم ضميمة هي في جيد كل شرح كالتميمه وذلك مبلغه من العلم ولكن للبخاري معلقات أخرى أوردناها تتميما لما ذكره وتنبيها على ما فات عنه أو أهمله وله أسئلة على البخاري إلى أثناء الصلاة وله تحفة السامع والقاري يختم صحيح البخاري ذكره السخاوي في الضوء اللامع
ومن شروح البخاري شرح الإمام رضي الدين حسن بن محمد الصغاني الحنفي صاحب المشارق المتوفي سنة خمسين وستمائة وهو مختصر في مجلد وشرح الإمام عفيف الدين سعيد بن مسعود الكازروني الذي فرغ منه في شهر ربيع الأول سنة ست وستين وسبعمائة بمدينة شيراز وشرح المولى الفاضل أحمد بن اسماعيل بن محمد الكوراني الحنفي المتوفي سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة وهو شرح متوسط أوله الحمد لله الذي أوقد من مشكاة الشهادة الخ وسماه الكوثر الجاري على رياض البخاري رد في كثير من المواضع على الكرماني وابن حجر وبين مشكل اللغات وضبط أسماء الرواة في موضع الالتباس وذكر قبل الشروع سيرة النبي {صلى الله عليه وسلم} إجمالا ومناقب المصنف وتصنيفه وفرغ منه في جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وثمانمائة بآذرنه
(1/183)
وشرح الإمام زين الدين أبي محمد عبد الرحمن بن أبي بكر العيني الحنفي المتوفي سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة وهو في ثلاث مجلدات كتب الصحيح على هامشه
وشرح أبي ذر أحمد بن ابراهيم بن السبط الحلبي المتوفي سنة أربع وثمانين وثمانمائة لخصه من شروح ابن حجر والكرماني والبرماوي وسماه التوضيح للأوهام الواقعة في الصحيح
وشرح الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي الحنفي المتوفي سنة أربع وثمانين وثمانمائة وهو شرح مختصر وشرح الإمام نجم الدين أبي حفص عمر بن محمد النسفي الحنفي المتوفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة سماه كتاب النجاح في شرح أخبار الصحاح ذكر في أوله أسانيده عن خمسين طريقا إلى المصنف
وشرح الشيخ جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك النحوي المتوفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة وهو شرح لمشكل إعرابه سماه التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح وشرح القاضي مجد الدين اسماعيل بن ابراهيم البلبسي المتوفي سنة عشر وثمانمائة وشرح القاضي زين الدين عبد الرحيم ابن الركن أحمد المتوفى سنة أربع وستين وثمانمائة
وشرح غريبه لأبي الحسن محمد بن أحمد الجياني النحوي المتوفي سنة أربعين وخمسمائة وشرح القاضي أبي بكر محمد بن عبدالله بن العربي المالكي الحافظ المتوفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة
وشرح الشيخ شهاب الدين أحمد رسلان المقدسي الرملي الشافعي المتوفي سنة أربع وأربعين وثمانمائة وهو في ثلاث مجلدات
وشرح الإمام عبد الرحمن الأهدل اليمني المسمى بمصباح القاري
وشرح الإمام قوام السنة أبي القاسم اسماعيل بن محمد الأصبهاني الحافظ المتوفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة
(1/184)
ومن التعليقات على بعض المواضع من البخاري تعليقه المولى لطف الله ابن الحسن التوقاني المقتول سنة تسع مائة وهي على أوائله وتعليقة العلامة شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا المتوفي سنة أربعين وتسع مائة وتعليقة المولى فضل بن علي الجمال المتوفي سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وتعليقة مصلح الدين مصطفى بن شعبان السروري المتوفي سنة تسع وستين وتسعمائة وهي كبيرة إلى قريب من النصف وتعليقة مولانا حسين الكفوي المتوفي سنة اثنتي عشرة وألف
ولكتاب البخاري مختصرات غير ما ذكر منها مختصر الشيخ الإمام جمال الدين أبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي المتوفي سنة ست وخمسين وستمائة بالاسكندرية أوله الحمد لله الذي خص أهل السنة بالتوفيق ومختصر الشيخ الإمام زين الدين أبي العباس أحمد بن أحمد بن عبد اللطيف الشرجي الزبيدي المتوفي سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة جرد فيه أحاديثه وسماه التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح أوله الحمد لله الباريء المصور الخ حذف فيه ما تكرر وجمع ما تفرق في الأبواب لأن الإنسان إذا أراد أن ينظر الحديث في أي باب لا يكاد يهتدي إليه إلا بعد جهد ومقصود المصنف بذلك كثرة طرق الحديث وشهرته
قال النووي في مقدمة شرح مسلم أن البخاري ذكر الوجوه في أبواب متباعدة وكثيرا منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إليهم الفهم أنه إليه أولى به فيصعب على الطالب جمع طرقه قال وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه انتهى فجرده من غير تكرار محذوف الأسانيد ولم يذكر الأماكن مسندا متصلا وفرغ في شعبان سنة تسع وثمانين وثمانمائة ومختصر الشيخ بدر الدين حسن بن عمر بن حبيب الحلبي المتوفي سنة تسع وسبعين وسبعمائة وسماه إرشاد السامع والقاري المنتقى من صحيح البخاري
ومن الكتب المصنفة على صحيح البخاري الإفهام بما وقع في البخاري
(1/185)
من الإبهام ولجلال الدين عبد الرحمن بن عمر البلقيني المتوفي سنة أربع وعشرين وثمانمائة أوله الحمد لله العالم بغوامض الأمور الخ فرغ منه في صفر سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة وأسماء رجاله للشيخ الإمام أبي نصر أحمد بن محمد بن الحسين الكلاباذي المتوفي سنة ثمان وتسعين وثمانمائة وللقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفي سنة أربع وسبعين وأربع مائة كتاب التعديل والتجريح لرجال البخاري وجرد الشيخ قطب الدين محمد بن محمد الخيضري الدمشقي الشافعي المتوفي سنة أربع وتسعين وثمانمائة من فتح الباري أسئلة مع الأجوبة وسماها المنهل الجاري وجرد الحافظ ابن حجر التفسير من البخاري على ترتيب السور وله التشويق إلى وصل التعليق انتهى من كشف الظنون وشرح البخاري للملا أحسن الصديقي الفنجابي المعروف بحافظ درار بالفارسية وسماه منح الباري أوله حمد وسباس بي عدد وقياس مرخداي راكه سبحات جلال أو مقدس از وسمه حدوث وزوالست وسرادقات جمال أو منزه از وصمه تغير وانتقال
(1/186)
وشرحه السيد العلامة حسان الهند مولانا غلام علي بن السيد نوح الحسيني الواسطي المتخلص بآزاد البلكرامي المتوفي سنة مائتين وألف باورنق آباد المدفون بأرض الروضة وسماه ضوء الدراري أوله الحمد لمن تواترت آلاؤه وتسلسلت نعماؤه والصلاة والسلام على سيدنا محمد ما أعلى شأنه وما أحسن بيانه وعلى آله المتكئين على سرر مرفوعة وأصحابه المتجرعين من أكواب موضوعة وفيه يقول إني لما وصلت إلى المدينة المؤسسة في أوائل سنة إحدى وخمسين ومائة وألف من الهجرة المقدسة واتفق بعونه تعالى قراءتي صحيح البخاري ومطالعة شرحه المسمى بإرشاد الساري للنحرير المؤيد بالتأييد الرباني أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني هممت أن التقط منه ما يتعلق بمتن الحديث من حل المباني وتحقيق المعاني مقتصرا عليه عن أسماء الرجال ثانيا عنان القلم عن طول المقام وانتخب منه ما أقرأ كل يوم وإن كان كثيرا وأزيد عليه من الفوائد الفرائد شيئا يسيرا وما بعثني على أخذ القليل إلا حمل السفر الثقيل في السفر الطويل فإن هي إلا عدة معان وما تلك إلا عدة عجلان وسميته ضوء الدراري
شرح صحيح البخاري نستعين بالمولى الكريم ونتهدي به إلى الصراط المستقيم انتهى
وقال في آخره هذا آخر كتاب الزكاة ولما بلغت هذا المكان سكن القلم عن الجريان وقد تكاثرت العوائق عن الكتابة لكنها ما كفتني عن القراءة فالحمد لله على نعمه الوافرة وله الحمد في الأولى والآخرة انتهى
ومن خطه رحمه الله تعالى نقلت وشرح الشيخ الفاضل نور الحق ابن الشيخ عبد الحق بن سيف الدين الترك الدهلوي البخاري مفتي أكبر آباد من بلاد الهند المتوفي سنة ثلاث وسبعين وألف سماه تيسير القاري وهو بالفارسية وشرح الشيخ العلامة عبد الله بن الشيخ سالم البصري المكي المتوفي سنة أربع وثلاثين ومائة وألف وسماه بضياء الساري
(1/187)
قال السيد آزاد في تسلية الفؤاد وله شرح على صحيح البخاري سار في الأنفس والآفاق سير الروح ولعمري لقد عز أن يلفي مثله في سائر الشروح لكن ضاق الوقت عن إكماله وضن الزمان الشحيح بإفاضة نواله والنسخة التي نسخها الشيخ بيده الشريفة وهي أصل ألأصول للنسخ الشائعة في الآفاق رأيتها عند مولانا محمد أسعد الحنفي المكي من تلامذة الشيخ تاج الدين المكي ببلدة آركات أخذ الشيخ عن ولد المصنف بالاشترا فقلت للشيخ محمد أسعد هذه النسخة المباركة حقها أن تكون في الحرمين المكرمين ولا ينبغي أن ينقل منها إلى مواضع أخرى لا سيما إلى الديار الشاسعة فقال الشيخ هذا الكلام حق ولكن ما فارقتها لفرط محبتي إياها ثم أرسل الشيخ كتبه من آركات إلى أورنق اباد احتياطا لما رأى من هيجان الفتنة بتلك البلاد فوصلت النسخة إلى أورنق آباد وهي موجودة بها الآن حفظها الله تعالى انتهى وشرح السيد الأمجد الأكمل مولانا محمد بن أحمد اليمني الأهدل القاطن حالا بقرية مراوعة بقرب بندر الحديدة سماه سلم القاري بارك في إفادته وإفاضته الباري
الفصل الثالث في ذكر الجامع الصحيح للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري الشافعي المتوفى سنة إحدى وستين ومائتين
(1/188)
وهو أحد الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى والثاني من الأصول الستة وقد ذكرنا طرفا من تفضيل أحدهما على الآخر عند ذكر صحيح البخاري فلا نعيده وكان الحافظ أبو علي النيسابوري شيخ الحاكم يقدم صحيحه على سائر التصانيف وقال ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب ومستندهم أنه شرط أن لا يكتب في صحيحه إلا ما رواه تابعيان ثقتان عن صحابيين وكذا في تبع التابعين وسائر الطبقات إلى أن ينتهي إليه مراعيا في ذلك ما لزم في الشهادة وليس هذا من شرط البخاري أما حديث الأعمال بالنيات فإنما ذكره وإن لم يوجد فيه هذا الشرط لثبوت صحته وشهرته والتبرك به على أن الشرط في نفس الأمر موجود ولم يذكره اعتمادا على غيره والنادر لا حكم له
قال مسلم ألفت كتابي هذا من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة وقال لو أن أهل الأرض يكتبون الحديث مائتي سنة ما كان مدارهم إلا على هذا المسند وقال ما وضعت شيئا في كتابي هذا إلا بحجة وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة قال أحمد بن سلمة كتبت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث
قال النسائي ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب البخاري
وقال مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور سمعت مسلما يقول عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكلما أشار أن له علة تركته وكلما قال أنه صحيح وليس له علة خرجته رواه الخطيب البغدادي بإسناده
قال مسلم في أول صحيحه الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أما بعد فإنك يرحمك
(1/189)
الله بتوفيق خالقك ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في سنن الدين وأحكامه وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم فأردت أرشدك الله أن توقف على جملة مؤلفة محصاة وسألتني أن ألخصها في التأليف بلا تكرار يكثر فإن ذلك زعمت مما يشغلك عما له قصدت من التفهم فيها والاستنباط منها وللذي سألت أكرمك الله حين رجعت إلى تدبره وما تؤول به الحال إن شاء الله عاقبه محمودة ومنفعة موجودة وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه وقضى لي أتمامه كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس لأسباب كثيرة يطول بذكرها الوصف إلا أن جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن واتقانه أيسر على المرء من معالجة الكثير منه ولا سيما عند من لا تمييز عنده من العوام إلا بأن يوقفه على التمييز غيره فإذا كان الأمر في هذا كما وصف فالقصد منه إلى الصحيح القليل أولى من ازدياد السقيم وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا الشأن وجمع المكررات منه لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله فذلك إن شاء الله يهجم بما أوتي من ذلك على الفائدة في الاستكثار من جمعه فأما عوام الناس الذين هم بخلاف معاني الخاص من أهل التيقظ والمعرفة فلا معنى لهم في طلب الكثير وقد عجزوا عن معرفة القليل ثم إنا إن شاء الله لمبتدؤن انتهى
ومن رباعياته قال حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا مروان الفزاري عن أبي مالك سعد بن طارق عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله
(1/190)
وبالجملة فله المؤلفات الجليلة سيما صحيحه الذي أمتن الله به على المسلمين وأبقى له به الذكر الجميل والثناء الجليل إلى يوم الدين فإن من تأمل ما أودعه في أسانيده وحسن سياقه وأنواع الورع التام
والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط طرقها وانتشارها علم أنه إمام لا يسبق وفارس لا يلحق
قال النووي صنف مسلم في علم الحديث كتبا كثيرة منها هذا الكتاب الصحيح وهو في نهاية الشهرة وهو متواتر عنه من حيث الجملة فالعلم القطع حاصل بأنه تصنيف مسلم ومن حيث الرواية بالإسناد المتصل بمسلم وقد تفرد بفائدة حسنة وهي كونه أسهل متنا ولا من حيث أنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها فاختار ذكرها وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فيسهل على الطالب النظر في وجوهه واستثمارها ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه بخلاف البخاري انتهى ولقد أنصف الحافظ عبد الرحمن بن علي الديبع اليمني الشافعي في قوله نظم
إن صحيح مسلم يا قاري
لبحر علم ما له مجاري
سلسال ما سلسل من حديثه
ألذ من مكرر البخاري
(1/191)
قال ابن الصلاح شرط مسلم في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ والعلة قال السيوطي في الديباج والمراد الثقة عنده وإن كان غير ثقة عند غيره ولهذا أخرج لستمائة وخمسة وعشرين شيخا لم يحتج بهم البخاري كما أخرج البخاري لأربعمائة وأربعة وثلاثين شيخا لم يحتج بهم مسلم انتهى فكم من حديث صحيح على شرط مسلم وليس بصحيح على شرط البخاري لكون الرواة عنده ممن اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة ولم يثبت عند البخاري ذلك ثم إنه سلك في كتابه طريقة حسنة بحيث فضل بسببها على صحيح البخاري وذلك أنه يجمع المتون كلها بطرقها في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب ويسوقها تامة ولا يقطعها في التراجم ويحافظ على الإتيان بلفظها ولا يروي بالمعنى حتى إذا خالف راو في لفظة فرواها بلفظ آخر مرادف بينه وكذا إذا قال راو حدثنا وقال آخر أخبرنا ولم يخلط معها شيء من أقوال الصحابة ومن بعدهم حتى ولا الأبواب والتراجم
كل ذلك حرصا على أن لا يدخل في الحديث غيره فليس فيه بعد المقدمة إلا الحديث كذا في الديباج
قال ابن الصلاح جميع ما حكم مسلم بصحته في هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حكم البخاري بصحته وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه أو وفاقه في الإجماع
قال إمام الحرمين لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي {صلى الله عليه وسلم} لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما وقد اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق صدق
(1/192)
قال السيوطي في الديباج وأما قول مسلم في الصلاة من صحيحه ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا إنما وضعت ما أجمعوا عليه مع أنه فيه أحاديث كثيرة مختلف في صحتها لكونها من حديث من ذكرناه فالجواب أن مراده ما وجد عنده فيه مشروط الصحيح المجمع عليه وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم أو ما لم يختلف فيه الثقات في نفس الحديث متنا وإسنادا وإن كان فيه أحاديث قد اختلف في إسنادها ومتنها خرجها أجاز هو لا عن هذا الشرط أو بسبب آخر منتهى وقال غيره أراد إجماع أربعة من الحفاظ خاصة انتهى
قال ابن الصلاح جاء مسلم عند أبي زرعة الرازي وجلس ساعة وتذاكرا فلما قام قيل له هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح قال أبو زرعة فلمن ترك الباقي قال الشيخ أراد أن كتابه هذا أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات وبالمكررات سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا ثم إن مسلما رتب كتابه على الأبواب فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد بها حجم الكتاب أو لغير ذلك
قال النووي وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيد وبعضها
ليس بجيد إما لقصور في عبارة الترجمة وإما لركاكة لفظها وإما لغير ذلك وأنا إن شاء الله تعالى أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها
قال السيوطي في الديباج وما يوجد في نسخة من الأبواب مترجمة فليس من صنع المؤلف وإنما صنعه جماعة بعده كما قال النووي ومنها الجيد وغيره
قلت وكأنهم أرادوا التقريب على من يكشف منه وكان الصواب ترك ذلك ولهذا تجد النسخ القديمة ليس فيها أبواب البتة ومما امتاز به كتابه على كتاب البخاري أنه لم يكثر من التعليق فليس فيه شيء سوى موضعين ومواضع أخر نزره جدا اثنا عشر موضعا متابعات لا أصول بخلاف البخاري فإن فيه من التعليق كثيرا وقد بينت وصلها فيما علقته ولله الحمد انتهى
(1/193)
قال النووي وسلك مسلم في صحيحه طرقا بالغة في الاحتياط والاتقان والورع والمعرفة وذلك مصرح بكمال ورعه وتمام معرفته وغزارة علومه وشدة تحقيقه وتفقده في هذا الشأن وتمكنه من أنواع معارفه وتبريزه في صناعته وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه التي لا يهتدي إليها إلا الأفراد في الأعصار
وذكر مسلم في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام الأول ما رواه الحفاظ المتقنون والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون وإنه إذا فرغ من القسم الأول اتبعه الثاني وأما الثالث فلا يعرج عليه فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم فقال الحاكم وصاحبه البيهقي أن المنية اخترمت مسلما قبل إخراج القسم الثاني وأنه إنما ذكر القسم الأول وقال القاضي عياض ليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد بالتقليد وعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتب وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة كما نص عليه وقال ابن عساكر في الأشراف أنه رتب كتابه على قسمين وقصد أن يذكر أحاديث أهل الثقة والإتقان وفي الثاني
أحاديث أهل الستر والصدق الذين لم يبلغوا درجة المثبتين فحال حلول المنية بينه وبين هذه الأمنية فمات قبل إتمام كتابه واستيعاب تراجمه وأبوابه غير أن كتابه مع إعوازه اشتهر وسار صيته في الآفاق وانتشر انتهى ولم يذكر القسم الثالث
ثم صنف جماعات من الحفاظ على صحيح مسلم كتبا وكان هؤلاء تأخروا عن مسلم وأدركوا الأسانيد العالية وفيهم من أدرك بعض شيوخ مسلم فخرجوا أحاديث مسلم في مصنفاتهم المذكورة بأسانيدهم تلك
(1/194)
قال الشيخ أبو عمرو فهذه الكتب المخرجة تلتحق بصحيح مسلم في أن لها سمة الصحيح وإن لم تلتحق به في خصائصه كلها ويستفاد من مخرجاتهم ثلاث فوائد علو الإسناد وزيادة قوة الحديث بكثرة طرقه وزيادة ألفاظ صحيحه مفيدة ثم إنهم لم يلتزموا موافقته في اللفظ لكونهم يروونها بأسانيد أخر فيقع في بعضها تفاوت فمن هذه الكتب المخرجة على صحيح مسلم كتاب العبد الصالح أبي جعفر بن حمدان النيسابوري المتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وتخريج أبي نصر محمد بن محمد الطوسي الشافعي المتوفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة والمسند الصحيح لأبي بكر محمد بن رجاء الاسفرائيني الحافظ وهو مقدم يشارك مسلما في أكثر شيوخه ومات سنة ست وثمانين ومائتين ومختصر المسند الصحيح على مسلم للحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الاسفرائيني المتوفي سنة ست عشرة وثلاثمائة روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم وتخريج أبي حامد أحمد بن محمد الشاركي الفقيه الشافعي الهروي المتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة يروي عن أبي يعلى الموصلي والمسند الصحيح لأبي بكر محمد بن عبد البر الجوزقي النيسابوري الشافعي المتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة والمسند المستخرج على مسلم للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني المتوفي سنة ثلاثين وأربع مائة والمخرج على صحيح مسلم لأبي الوليد حسان بن محمد القرشي الفقيه الشافعي المتوفي سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
ومنهم من استدرك على البخاري ومسلم ومن هذا القبيل كتاب
الدارقطني المسمى بالاستدراكات والتتبع وذلك في مائتي حديث مما في الكتابين وكتاب أبي مسعود الدمشقي وأبي علي الغساني في كتابه تقييد المهمل في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما وفيه ما يلزمهما قال النووي وقد أجبت عن ذلك أوأكثره انتهى
(1/195)
ولصحيح مسلم شروح كثيرة منها شرح الإمام الحافظ أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف الخرامي النووي الشافعي المتوفي سنة ست وسبعين وستمائة وهو شرح متوسط مفيد يكون في مجلدين أو ثلاث غالبا سماه المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج أوله الحمد لله البر الجواد الذي جلت نعمه عن الإحصاء بالأعداد الخ قال فيه وأما صحيح مسلم فقد استخرت الله الكريم في جمع كتاب في شرحه متوسط بين المختصرات والمبسوطات لا من المختصرات المخلات ولا من المطولات المملات ولولا ضعف الهمم وقلة الراغبين وخوف عدم انتشار الكتاب لقلة الطالبين للمطولات لبسطته فبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات من غير تكرار ولا زيادات عاطلات لكني أقتصر على المتوسط وأحرص على ترك الإطالات انتهى وذكر في مقدمة فصولا متتابعات هي لجيد التحقيقات كالتميمات وقد طبع مرتين في الدهلي من ديار الهند أولا في المطبع الأحمدي وثانيا في مطبع الشيخ أحمد التاجر ومادة تاريخ طبعه أخيرا أحمده على انطباع صحيح مسلم وشرحه أي للنووي
ومختصر هذا الشرح للشيخ شمس الدين محمد بن يوسف القونوي الحنفي المتوفي سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وشرح القاضي عياض بن موسى اليحصبي المالكي المتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة سماه إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم كمل به المعلم للمارزي وهو شرح أبي عبدالله محمد بن علي المارزي المتوفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة وسماه المعلم بفوائد كتاب مسلم وشرح أبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي المتوفي سنة ست وخمسين وستمائة وهو شرح على مختصره له ذكر فيه أنه لما لخصه ورتبه وبوبه شرح غريبه ونبه على نكت
من إعرابه على وجوه الاستدلال بأحاديثه وسماه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم أوله الحمد لله كما وجب لكبريائه وجلاله الخ
(1/196)
ومنها شرح الإمام أبي عبدالله محمد بن خليفة الوشنالي الآبي المالكي المتوفي سنة سبع وعشرين وثمانمائة وهو كبير في أربع مجلدات أوله الحمد لله العظيم سلطانه سماه إكمال المعلم ذكر فيه أنه ضمنه كتب شراحه الأربعة المارزي وعياض والقرطبي والنووي مع زيادات مكملة وتنبيه ونقل عن شيخه أبي عبدالله محمد بن عرفة أنه قال ما يشق علي فهم شيء كما يشق من كلام عياض في بعض مواضع من الاكمال ولما دار أسماء هذه الشروح كثيرا أشار بالجيم إلى مارزي وبالعين إلى عياض وبالطاء إلى القرطبي وبالدال إلى محيي الدين النووي وبلفظ الشيخ إلى شيخه ابن عرفة
ومنها شرح عماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلي المصري وشرح غريبه للإمام عبد الغافر بن اسماعيل الفارسي المتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة وسماه المفهم في شرح غريب مسلم وشرح شمس الدين أبي المظفر يوسف بن قزاو على سبط ابن الجوزي المتوفي سنة أربع وخمسين وستمائة وشرح أبي الفرج عيسى بن مسعود الزواوي المتوفي سنة أربع وسبعمائة وهو شرح كبير في خمس مجلدات جمع من المعلم والإكمال والمفهم والمنهاج وشرح القاضي زين الدين زكريا بن محمد الأنصاري الشافعي المتوفي سنة ست وعشرين وتسعمائة ذكره الشعراني وقال غالب مسودته يخطي
وشرح الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة سماه الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج أوله الحمد لله الذي سلك بأصحاب الحديث أوضح نهجه وخصهم بما دعا به نبيهم {صلى الله عليه وسلم} من النضرة في وجوههم والبهجة الخ وذكر في أوله فصولا في شرط مسلم ومصطلحه في كتابه وتسمية من ذكر فيه بكنيته على ترتيب حروف الهجاء من الألف إلى الياء وتعريف من ذكر بالنبوة وضبط ما يخشى التباسه من الأسماء والألقاب كذلك وهو لطيف مختصر
(1/197)
مشتمل على ما يحتاج إليه القاري والمستمع من ضبط ألفاظه وتفسير غريبه وبيان اختلاف رواياته على قلتها وتسمية مهم وإعراب مشكل وجمع بين مختلف وإيضاح وهم بحيث لا يفوته من الشرح إلا الاستنباط
وشرح الإمام قوام الدين أبي القاسم اسماعيل بن محمد الأصبهاني الحافظ المتوفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وشرح الشيخ تقي الدين أبي بكر الحصني الشافعي الدمشقي المتوفي سنة تسع وعشرين وثمانمائة وشرح الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني الشافعي المتوفي سنة ثلاث وعشرين وتسع مائة وسماه منهاج الديباج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج بلغ إلى نصفه في ثمانية أجزاء كبار وشرح مولانا علي بن سلطان محمد الهروي القاري نزيل مكة المكرمة المتوفي سنة ست عشرة وألف أربع مجلدات
ولصحيح مسلم مختصرات منها مختصر أبي عبدالله شرف الدين محمد بن عبدالله المرسي المتوفي سنة خمس وخمسين وستمائة ومختصر زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي المتوفي سنة أربع وثمانمائة وهو كبير في أربع مجلدات ومختصر الإمام الحافظ زكي الدين عبدالعظيم بن عبد القوي المنذري المتوفي سنة ست وخمسين وستمائة وشرح هذا المختصر لعثمان بن عبد الملك الكردي المصري المتوفي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة وشرحه أيضا محمد بن أحمد الأستوي المتوفي سنة ثمان وستين وسبعمائة وعلى كل مسلم كتاب لمحمد بن أحمد بن عباد الخلاطي الحنفي المتوفي سنة تسع وسبعين ومائتين وشرحه أيضا المولى ولي الله الفرخ آبادي وسماه المطر الثجاج على صحيح مسلم بن الحجاج وهو بالفارسية ولا يخلو عن فائدة زائدة وشرحه أيضا بالفارسية بعض العلماء من أولاد الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي رحمه الله تعالى
الفصل الرابع في ذكر الجامع الصحيح للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى البوغي الترمذي رحمه الله تعالى
(1/198)
قال في أول جامعه أبواب الطهارة عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور حدثنا قتيبة بن سعيد قال ثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب وحدثنا هناد قال حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن مصعب بن سعد عن أبن عمر رضي الله عنهما عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول قال هناد في حديثه إلا بطهور قال أبو عيسى هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن انتهى وله ثلاثي واحد حدثنا اسماعيل ابن موسى قال حدثنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر انتهى
وبالجملة فهو ثالث الكتب الستة قال الترمذي صنفت هذا الكتاب فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به ومن كان في بيته فكأنما النبي في بيته يتكلم وقد اشتهر بالنسبة إلى مؤلفه فيقال جامع الترمذي ويقال له السنن أيضا والأول أكثر
قال ابن الأثير وكتابه هذا أحسن الكتب وأكثرها فائدة وأحسنها ترتيبا وأقلها تكرارا وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع الحديث والحسن والغريب وقال في بستان المحدثين تصانيف الترمذي كثيرة وأحسنها هذا الجامع الصحيح بل هو من بعض الوجوه والحيثيات أحسن جميع كتب الحديث الأول من جهة حسن الترتيب وعدم التكرار والثاني من جهة ذكر مذاهب الفقهاء ووجوه الاستدلال لكل أحد من أهل المذاهب والثالث من جهة بيان أنواع الحديث من الصحيح والحسن والضعيف والغريب والمعلل بالعلل والرابع من جهة بيان أسماء الرواة وألقابهم وكناهم ونحوها
من الفوائد المتعلقة بعلم الرجال وفي آخر الجامع المذكور كتاب العلل وفيه من الفوائد الحسنة ما لا يخفى عن الفطن ولهذا قالوا هو كاف للمجتهد ومغن للمقلد
(1/199)
وقال أبو اسماعيل الهروي هو عندي أنفع من الصحيحين لأن كل أحد يصل للفائدة منه وهما لا يصل إليهما منهما إلا العالم المتبحر قال الترمذي جميع ما في هذا الكتاب من الحديث هو معمول به وبه أخذ بعض أهل العلم ما خلا حديثين حديث ابن عباس أن النبي {صلى الله عليه وسلم} جمع بين الظهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر وحديث أنه {صلى الله عليه وسلم} قال إذا شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه انتهى قال الباجوري في حاشية الشمائل للترمذي وناهيك بجامعه الصحيح الجامع للفوائد الحديثية والفقهية والمذاهب السلفية والخلفية فهو كاف للمجتهد مغن للمقلد نعم عنده نوع تساهل في الصحيح ولا يضره فقد حكم بالحسن مع وجود الانقطاع في أحاديث من سننه وحسن فيها ما انفرد روايته به كما صرح به هو فإنه يورد الحديث ثم يقول عقبه أنه حسن غريب أو صحيح غريب لا نعرفه إلا هذا من الوجه لكنه أجيب بأنه اصطلاح جديد ولا مشاحة في الاصطلاح انتهى
قال الشيخ عبد الحق الدهلوي من عادة الترمذي أن يقول في جامعه حديث حسن صحيح حديث غريب حسن حديث حسن غريب صحيح ولا شبهة في جواز اجتماع الحسن والصحة بأن يكون حسنا لذاته وصحيحا لغيره وكذلك في اجتماع الغرابة والصحة وأما اجتماع الغرابة والحسن فيستشكلونه بأن الترمذي اعتبر في الحسن تعدد الطرق فكيف يكون غريبا ويجيبون بأن اعتبار تعدد الطرق في الحسن ليس على الإطلاق بل في قسم منه وحيث حكم باجتماع الحسن والغرابة فالمراد به قسم آخر وقال بعضهم أنه أشار بذلك إلى اختلاف الطرق بأن جاء في بعض الطرق غريبا وفي بعضها حسنا وقيل الواو بمعنى أو بأنه يشك ويتردد في أنه غريب أو حسن لعدم معرفته جزما وقيل
(1/200)
المراد بالحسن ههنا ليس معناها الاصطلاحي بل اللغوي بمعنى ما يميل إليه الطبع وهذا القول بعيدا جدا انتهى وفي إسناده ثلاثي واحد كما سبق وليس لمسلم وأبي داود ثلاثي وقد أطلق الحاكم والخطيب الصحة على ما في سنن الترمذي ذكره العلي القاري ولنعم ما قيل شعر
عليم بأسرة الأحاديث كلها
فلولاه ما يدرى الصحيح من الحسن
وقال بعضهم فيه نظم
كتاب الترمذي رياض علم
جلت أزهاره زهر النجوم
به الآثار واضحة أبينت
بألفاظ أقيمت كالرسوم
واعلاها الصحاح وقد أنارت
نجوما للخصوص وللعموم
ومن حسن يليها أو غريب
وقد بان الصحيح من السقيم
فعلله أبو عيسى مبينا
معامله لأرباب العلوم
وطرزه بآثار صحاح
تخيرها أولو النظر السليم
من العلماء والفقهاء قدما
وأهل الفضل والنهج القويم
فجاء كتابه علقا نفيسا
تفنن فيه أرباب العلوم
ويقتبسون منه نفيس علم
يفيد نفوسهم أسنى الرسوم
كتبناه رويناه لنروي
من التسنيم في دار النعيم
وغاص الفكر في بحر المعاني
فأدرك كل معنى مستقيم
جزى الرحمن خيرا بعد خير
أبا عيسى على الفعل الكريم
وله شروح منها شرح الحافظ أبي بكر محمد بن عبدالله الاشبيلي المعروف بابن العربي المالكي المتوفي سنة ست وأربعين وخمسمائة سماه عارضة الأحوذي في شرح الترمذي قال ابن خلكان أما معنى عارضة الأحوذي فالعارضة القدرة على الكلام يقال فلان شديد العارضة إذا كان ذا قدرة على الكلام والأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه وقال الأصمعي الأحوذي المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عليه منها شيء وهو بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال المعجمة وفي آخره ياء مشددة انتهى
وشرح الحافظ أبي الفتح محمد بن محمد بن سيد الناس اليعمري الشافعي المتوفي سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بلغ فيه إلى دون ثلثي الجامع في نحو عشر مجلدات ولم يتم ولو اقتصر على فن الحديث لكان تماما ثم كمله الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي المتوفى سنة ست وثمانمائة
(1/201)
وشرح زوائده على الصحيحين وأبي داود لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن المتوفي سنة أربع وثمانمائة كتب منه قطعة ولم يكمله وسماه العرف الشذي على جامع الترمذي
وشرح زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن النقيب الحنبلي المتوفي سنة وهو في نحو عشرين مجلدا وقد احترق في الفتنة
وشرح جلال الدين السيوطي سماه قوت المغتذي على جامع الترمذي وشرح الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي المتوفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة
وشرح الشيخ أبي الحسن ابن عبد الهادي السندي المدني المتوفي سنة تسع وثلاثين ومائة وألف بالحرم النبوي وهو شرح لطيف بالقول
وله مختصرات منها مختصر الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل اليالسي الشافعي المتوفي سنة تسع وعشرين وسبعمائة ومختصر الجامع أيضا لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي المتوفي سنة عشر وسبعمائة ومائة حديث منتقاة منه عوالي للحافظ صلاح الدين خليل كيكلدي العلائي كذا في كشف الظنون وغيره
الفصل الخامس في ذكر السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث بن اسحاق الأزدي السجستاني المتوفى سنة خمس وسبعين ومائتين
(1/202)
أولها باب التخلي عند قضاء الحاجة حدثنا عبدالله بن مسلمة القعنبي قال حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن محمد يعني ابن عمرو عن أبي سلمة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان إذا ذهب المذهب أبعد وبه قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا اسماعيل بن عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد انتهى وله ثلاثي واحد حدثنا مسلم ابن إبراهيم حدثنا ابن السلام بن أبي حازم أبو طالوت قال شهدت أبا برزة دخل على عبيد الله بن زياد فحدثني فلان سماه مسلم وكان في السماط فلما رآه عبيد الله قال إن محمد يكم هذا الدحداح ففهمها الشيخ فقال ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيرونني بصحبة محمد {صلى الله عليه وسلم} فقال له عبيد الله أن صحبة محمد {صلى الله عليه وسلم} لك زين غير شين ثم قال إنما بعثت اليك لأسألك عن الحوض سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يذكر فيه شيئا قال فقال أبو برزة نعم لا مرة ولا اثنتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا فمن كذب به فلا سقاه الله منه ثم خرج مغضبا انتهى
قال كتبت عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خمسمائة ألف حديث انتخبت ما ضمنته وجمعت في كتابي هذا أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث من الصحيح وما يشبهه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها إنما الأعمال بالنيات والثاني من حسن إسلام المرأ تركه ما لا يعنيه والثالث لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه والرابع الحلال بين والحرام بين وبين ذلك مشتبهات الحديث كذا في مفاتيح الدجى شرح مصابيح الهدى
قال الشاه عبد العزيز الدهلوي ومعنى الكفاية أنه بعد معرفة القواعد الكلية للشريعة ومشهوراتها لا تبقى حاجة إلى مجتهد ومرشد في جزئيات
(1/203)
الوقائع لأن الحديث الأول يكفي لتصحيح العبادات والثاني لمحافظة أوقات العمر العزيز والثالث لمراعاة حقوق الجيران والأقارب وأهل التعارف والمعاملة والرابع لدفع الشك والتردد الذي يحصل باختلاف العلماء واختلاف الأدلة فهذه الأحاديث الأربعة عند الرجل العاقل كالشيخ والأستاذ والله أعلم انتهى
قال ابن السبكي في طبقاته وهي من دواوين الإسلام والفقهاء لا يتحاشون من إطلاق لفظ الصحيح عليها وعلى سنن الترمذي انتهى
وروى الحافظ أبو طاهر السلفي بسنده إلى حسن بن محمد بن إبراهيم أنه قال رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المنام يقول من أراد أن يستمسك بالسنن فليقرأ سنن أبي داود
وروي عن يحيى بن زكريا بن يحيى الساجي أنه قال أصل الإسلام كتاب الله سبحانه وتعالى وعماده سنن أبي داود
وقال ابن الأعرابي إن حصل لأحد علم كتاب الله وسنن أبي داود يكفيه ذلك في مقدمات الدين ولهذا مثلوا في كتب الأصول لبضاعة الاجتهاد في علم الحديث بسنن أبي داود وهو لما جمع كتاب السنن قديما عرضه على الإمام أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه
وقال الحافظ أبو بكر الخطيب كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله وقد رزق القبول من كافة الناس وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم وعليه معول أهل العراق ومصر وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض فكان تصنيف علماء الحديث قبل أبي داود الجوامع والمسانيد ونحوها فيجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخبارا وقصصا ومواعظ وأدبا فأما السنن المحضة فلم يقصد أحد جمعها واستيفاءها على حسب ما اتفق لأبي داود كذلك حل هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت فيه أكباد الإبل ودامت إليه الرحل قال ابن الأعرابي لو أن رجلا لم يكن عنده من العلم إلا المصحف ثم كتاب أبي داود لم يحتج معهما
(1/204)
إلى شيء من العلم قال الخطابي وهذا كما قال لا شك فيه فقد جمع في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه مالم يعلم متقدما سبقه إليه ولا متأخرا لحقه فيه قال النووي في القطعة التي كتبها من شرح سنن أبي داود ينبغي للمشاغل بالفقه وغيره الاعتبار بسنن أبي داود بمعرفته التامة فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله وتلخيص أحاديثه وبراعة مصنفه واعتنائه بتهذيبه وقال إبراهيم الحربي لما صنف أبو داود كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد أنشد الحافظ أبو طاهر السلفي رحمه الله تعالى نظم
لأن الحديث وعلمه بكماله
لإمام أهليه أبي داود
مثل الذي لان الحديد وسبكه
لبني أهل زمانه داود
وله في مدحه نظم
أولى كتاب لذي فقه وذي نظر
ومن يكون من الأوزار في وزر
ما قد تولى أبو داود محتسبا
تأليفه فأتى كالضوء في القمر
لا يستطيع عليه الطعن مبتدع
ولو تقطع من ضغن ومن ضجر
فليس يوجد في الدنيا أصح ولا
أقوى من السنة الغراء والأثر
وكل ما فيه من قول النبي ومن
قول الصحابة أهل العلم والبصر
يرويه عن ثقة عن مثله ثقة
عن مثله ثقة كالأنجم الزهر
وكان في نفسه فيما أحق ولا
أشك فيه إماما عالي الخطر
يدري الصحيح من الآثار يحفظه
ومن روى ذلك من أنثى ومن ذكر
محققا صادقا فيما يجيء به
قد شاع في البدو عنه ذا وفي الحضر
والصدق للمرء في الدارين منقبة
ما فوقها أبدا فخر لمفتخر
وحكى أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن مندة الحافظ إن شرط أبي داود والنسائي أحاديث أقوام لم يجتمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال السند من غير قطع والإرسال وقال الخطابي كتاب أبي داود
جامع لنوعي الصحيح والحسن وأما السقيم فعلى طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول وكتاب أبي داود خلا منها بري من جملة وجهها
(1/205)
ويحكي عنه أنه قال ما ذكرت في كتابي حديثا اجتمع الناس على تركه وقال في رسالته إلى أهل مكة المكرمة إنكم سألتموني أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب وقفت على جميع ما ذكرتم فاعلموا أنه كذلك لكه إلا أن يكون قد روي من وجهين أحدهما أقوى إسنادا والآخر صاحبه أقدم في الحفظ فربما كتبت ذلك وإذا عدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة مع زيادة كلام فيه وربما فيه كلمة زائدة على الحديث الطويل لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك
أما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي فتكلم فيه وتابعه على ذلك أحمد ابن حنبل وغيره فإذا لم يكن مسند غير المراسيل ولم يوجد المرسل يحتج به وليس هو مثل المتصل في القوة وليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء وإذا كان فيه حديث منكر بينته أنه منكر وليس على نحوه في الباب غيره وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ومنه ما لا يصح سنده وما لم أذكره فيه شيئا فهو صالح وبعضها أصح من بعض وهو كتاب لا يرد عليك سنة عن النبي {صلى الله عليه وسلم} إلا وهو فيه إلا أن يكون كلام استخرج من الحديث ولا يكاد يكون هذا ولا أعلم شيئا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموا من هذا الكتاب ولا يضر رجلا أن لا يكتب من العلم بعد ما يكتب هذا الكتاب شيئا وإذا نظر فيه وتدبره وتفهمه حينئذ يعلم مقداره وأما هذه المسائل مسائل الثوري ومالك الشافعي فهذه الأحاديث أصولها ويعجبني أن يكتب الرجل مع هذه الكتب من رأى أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} ويكتب أيضا مثل جامع سفيان الثوري فإنه أحسن ما وضع الناس من الجوامع والأحاديث
(1/206)
التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير وهو عند كل من كتب شيئا من الحديث إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس والفخر بها إنها مشاهير فإنه لا يحتج بحديث غريب ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم ولو احتج رجل بحديث غريب وحديث من يطعن فيه لا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبا شاذا فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد
(1/207)
قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الغريب من الحديث وقال يزيد بن حبيب إذا سمعت الحديث فانشده كما تنشد الضالة فإن عرف وإلا فدعه وإن من الأحاديث في كتاب السننن ما ليس بمتصل وهو مرسل ومتواتر إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل وهو مثل الحسن عن جابر والحسن عن أبي هريرة والحكم عن مقسم عن ابن عباس وليس بمتصل وسماع الحكم عن المقسم أربعة أحاديث وأما أبو اسحاق عن الحارث عن علي فلم يسمع أبو اسحاق عن الحارث إلا أربعة أحاديث ليس فيها مسند واحد وما في كتاب السنن من هذا النحو فقليل ولعل ليس في كتاب السنن للحارث الأعور إلا حديث واحد وإنما كتبته بآخرة وربما كان في الحديث ما لم يثبت صحة الحديث منه أنه كان يخفي ذلك علي فربما تركت الحديث إذا لم أفقه وربما كتبته إذا لم أقف عليه وربما أتوقف عن مثل هذه لأنه ضرر على العامة أن يكشف لهم كلما كان من هذا الباب فيما مضى من عيون الحديث لأن علم العامة يقصر عن مثل هذا وعدد كتبي في هذه السنن ثمانية عشر جزء مع المراسيل منها ما لا يصح ومنها ما ينسد عند غيره وهو متصل صحيح ولعل عدد الأحاديث التي في كتبي من الأحاديث قدر أربعة آلاف حديث وثماني مائة حديث ونحو ستمائة حديث من المراسيل فمن أحب أن يميز هذه الأحاديث مع الألفاظ فربما يجيء الحديث من طريق وهو عند العامة من حديث الأئمة الذين هم مشهورون غير أنه ربما طلب اللفظة التي تكون لها معان كثيرة وممن عرفت وقد نقل من جميع هذه الكتب ممن عرفت فربما يجيء الإسناد فيعلم من
(1/208)
حديث غيره أنه متصل ولا يتنبه السامع إلا بأن يعلم الأحاديث فيكون له معرفة فيقف عليه مثل ما يروى عن ابن جريج قال أخبرت عن الزهري ويرويه البرساني عن ابن جريج عن الزهري فالذي يسمع يظن أنه متصل ولا يصح بينهم وإنما تركنا ذلك لأن أصل الحديث غير متصل وهو حديث معلول ومثل هذا كثير والذي لا يعلم يقول قد تركت حديثا صحيحا من هذا وجاء بحديث معلول وإنما لم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام ولم أصنف في الزهد وفضائل الأعمال وغيرها فهذه أربعة آلاف وثمانمائة كلها في الأحكام فأما أحاديث كثيرة صحاح من الزهد والفضائل وغيرها في غير هذا لم أخرجها انتهى ملخصا
قال الحافظ أبو جعفر بن الزبير في برنامجه روي هذا الكتاب عن أبي داود ممن اتصلت أسانيدنا به أربعة رجال أبو بكر بن محمد بن بكر ابن عبد الرزاق التمار البصري المعروف بابن داسة بفتح السين وتخفيفها نص عليه القاضي أبو محمد بن حوطة الله والفيته في أصل القاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي المالكي من كتاب القصنية مشددا وكذا وجدته في بعضها ما قيدته عن شيخنا أبي الحسن الغافقي شكلا من غير تنصيص وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر المعروف بابن الأعرابي وأبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي البصري وأبو عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي وراق أبي داود ولم يتشعب طرقه كما اتفق في الصحيحين إلا أن رواية ابن الأعرابي يسقط منها كتاب الفتن والملاحم والحروف والخاتم ونحو النصف من كتاب اللباس وفاته أيضا من كتاب الوضوء والصلاة والنكاح أوراق كثيرة ورواية ابن داسة أكمل الروايات ورواية الرملي تقاربها ورواية اللؤلؤي من أصح الروايات لأنها من آخر ما أملى أبو داود وعليها مات
(1/209)
وقال الشاه عبد العزيز الدهلوي رواية اللؤلؤي مشهورة في المشرق ورواية ابن داسة مروجة في المغرب وأحدهما يقارب الآخر وإنما الاختلاف بينهما بالتقديم والتأخير دون الزيادة والنقصان بخلاف رواية ابن الأعرابي فإن نقصانها بين بالنسبة إلى هاتين النسختين انتهى
قال الحافظ أبو بكر الخطيب كان أبو داود قدم بغداد مرة وروى كتابه السنن بها ونقله عنه أهلها
قال السيوطي كتب الناس على الصحيحين شروحا كثيرة مطولة ومتوسطة ومختصرة ولم يعتنوا بالكتابة على سنن أبي داود كاعتنائهم بالصحيحين انتهى
قال صاحب كشف الظنون قد اختصرها زكي الدين عبد العظيم ابن عبد القوي الحافظ المنذري المتوفي سنة ست وخمسين وستمائة وسماه المجتبى وألف السيوطي عليه كتابا سماه زهر الربى على المجتبى وله عليها حاشية أيضا وهذبه محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية الحنبلي المتوفي سنة إحدى وخمسين وسبع مائة وشرحها أبو سليمان أحمد بن إبراهيم الخطابي وسماه معالم السنن وهو مختصر أوله الحمد لله الذي هدانا لدينه وأكرمنا بسنة نبيه إلى آخره توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ولخصه الحافظ شهاب الدين أبو محمود أحمد بن محمد بن إبراهيم المقدسي المتوفي سنة تسع وستين وسبعمائة وسماه عجالة وشرحها الشيخ جلال الدين السيوطي المتوفي سنة إحدى عشرة وتسع مائة أيضا وسماه مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود وشرح الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي المتوفي سنة أربع وثمانمائة زوائده على الصحيحين في مجلدين وولي الدين العراقي والشيخ شهاب الدين أحمد ابن حسين الرملي المقدسي الشافعي المتوفي سنة أربع وأربعين وثمانمائة وشرحها قطب الدين أبو بكر بن أحمد بن دعين اليمني الشافعي المتوفي سنة اثنتين وخمسين وست مائة في أربع مجلدات كبار وشرحه أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي المتوفي سنة ست وعشرين وثمانمائة كتب منه سبع مجلدات إلى أثناء سجود السهو أطال فيه
(1/210)
قال الجلال السيوطي وشرح الشيخ ولي الدين العراقي شرح عليه مبسوط جدا كتب منه من أوله إلى سجود السهو في سبع مجلدات وكتب مجلدا فيه الصيام والحج والجهاد ولو كمل لجاء في أكثر من أربعين مجلدا
وذكر أن الشهاب بن رسلان شرحه شرحا كاملا ولم أقف عليه انتهى وشرحها الحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج المتوفي سنة اثنتين وستين وسبع مائة ولم يكمله وشرحها الخطابي وسماه معالم السنن ذكر في شرحه للبخاري كان معظم القصد من أبي داود فيه جمع بيان السنن والأحاديث الفقهية ولابن القيم الجوزية شرح مختصر السنن المذكورة ذكر فيه أن الحافظ زكي الدين المنذري قد أحسن في اختصاره فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها إذ لم يكملها وتصحيح أحاديثه والكلام على متون مشكلة لم يفتح معضلها وبسط الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب سواه قال في رسالته التي أرسلها إلى من سأله عن اصطلاحها في كتابه ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه وما فيه وهن شديد بينته وما لا يفهم منه وما بعضه أصح من بعض انتهى
واشتمل هذا الكلام على خمسة أنواع الأول الصحيح ويجوز أن يريد به الصحيح لذاته والثاني شبهه ويمكن أن يريد به الصحيح لغيره والثالث ما يقاربه ويحتمل أن يريد به الحسن لذاته والرابع الذي فيه وهن شديد وقوله ما لا يفهم منه الذي فيه وهن ليس بشديد فهو قسم خامس فإن لم يعتضد كان صالحا للاعتبار فقط وإن اعتضد صار حسنا لغيره أي للهيئة المجموعة للاحتجاج وكان قسما سادسا انتهى من حاشية البقاعي على شرح الألفية
(1/211)
قال ابن كثير في مختصر علوم الحديث أن الروايات لسنن أبي داود كثيرة يوجد في بعضها ما ليس في الأخرى وشرحها شهاب الدين أبو محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم بن هلال المقدسي من أصحاب المزني المتوفي بالقدس سنة خمس وستين وسبع مائة وسماه انتحاء السنن واقتفاء السنن أوله الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى وشرح قطعة منها العلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفي سنة خمس وخمسين وثمانمائة وشرحها أبو الحسن السندي المذكور آنفا وهو شرح لطيف بالقول
الفصل السادس في ذكر السنن لأبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي الحافظ المتوفي سنة ثلاث وثلاثمائة
قال في كتاب الطهارة وهو أول السنن تأويل قوله عز وجل ) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق (
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده انتهى
ومن رباعياته أخبرنا حميد قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا شعيب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد أكثرت عليكم في السواك انتهى
قال ابن الأثير وسأله بعض الأمراء عن كتابه السنن الكبرى أكله صحيح فقال لا قال فاكتب لنا الصحيح منه مجردا فصنع المجتبى من السنن ولخص منها الصغيرة وترك كل حديث أورده في الكبيرة مما تكلم في إسناده بالتعليل رواه ابن عساكر وسماه المجتبى بالنون أو الباء الموحدة والمعنى قريب والأشهر هو الأخير وإذا أطلق أهل الحديث على أن النسائي روى حديثا فإنما يريدون المجتبى لا السنن الكبرى وهي إحدى الكتب الستة
(1/212)
قال الحافظ أبو علي للنسائي شرط في الرجال أشد من شرط مسلم وكذلك الحاكم والخطيب كانا يقولان إنه صحيح وأن له شرطا في الرجال أشد من شرط مسلم لكن قولهم غير مسلم قال البقاعي في شرح الألفية عن ابن كثير أن في النسائي رجالا مجهولين إما عينا أو حالا وفيهم المجروح وفيه أحاديث ضعيفة ومعللة ومنكرة
وذكر في كشف الظنون من شروحه شرح الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي زوائده على الأربعة أعني الصحيحين وأبي داود والترمذي في مجلد وتوفي سنة أربع وثمانمائة وعلى السنن تعليقة لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة أولها الحمد لله الذي لا تحصى مننه وللشيخ أبي الحسن السندي أيضا تعليقة بالقول لكنها أبسط من تعليقة السيوطي بالقول
الفصل السابع في ذكر سنن ابن ماجه لأبي عبدالله بن يزيد بن ماجه القزويني الحافظ المتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين
وهي السادسة من الكتب الستة عند البعض قال ابن ماجه في باب اتباع سنة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو أول السنن حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما أمرتكم به فخذوه وما نهيتكم عنه فانتهوا ومن ثلاثياته حدثنا جبارة قال حدثنا كثير قال سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول من أحب أن يكثر خير بيته فليتوضأ إذا حضر غداؤه وإذا رفع انتهى
قال الشيخ عبد الحق الدهلوي كتابه واحد من الكتب الإسلامية التي يقال لها الأصول الستة والكتب الستة والصحاح الستة قلت والأمهات الست وإذا قال المحدثون رواه الجماعة يرادون به رواية هذه الرجال الستة في تلك الكتب الستة وإذا قالوا رواه الأربعة فمرادهم هذه الأربعة غير البخاري ومسلم وله عدة أحاديث ثلاثيات أوردها في سننه انتهى
(1/213)
وهذه الثلاثيات من طريق جبارة المفلس وله حديث في فضل قزوين منكر بل موضوع ولهذا طعنوا فيه وفي كتابه وواضعه رجل اسمه ميسرة قال ابن ماجه عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه
وقال أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها ثم قال لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف وجملة ما في سننه أربعة آلاف حديث وعدد كتبها اثنان وثلاثون كتابا وأبوابها خمس مائة وألف باب وفي الواقع الذي فيه من حسن الترتيب وسرد الأحاديث بالاختصار من غير تكرار ليس في أحد من الكتب وقد شهد أبو زرعة على صحته
قال ابن الأثير كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه لكن فيه أحاديث ضعيفة جدا بل منكرة حتى نقل عن الحافظ المزي أن الغالب فيما تفرد به الضعف ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ
قال الحافظ ابن حجر أول من أضاف ابن ماجه إلى الستة الفضل ابن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه وكذا في شروط الأئمة الستة ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الاكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي وقدمه على الموطأ لكثرة زوائده انتهى وإن شئت الحق الصريح فالموطأ مقدم على الكل
(1/214)
قال صاحب كشف الظنون شرح قطعة منها في خمس مجلدات الحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج المتوفي سنة اثنتين وستين وسبع مائة ولجلال الدين السيوطي المتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة تماما سماه مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجه أوله الحمد لله ذي الجلال والإكرام وشرحها الحافظ برهان الدين إبراهيم بن محمد الحلبي سبط ابن العجمي المتوفي سنة إحدى وأربعين وثمانمائة وشرحها الشيخ كمال الدين بن موسى الدميري الشافعي المتوفي سنة ثمان وثمانمائة في نحو خمس مجلدات سماه الديباجة مات قبل تحريره وشرح الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي المتوفي سنة أربع وثمانمائة زوائده على الخمسة أعني الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي في ثمان مجلدات سماه ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه وألحق في خطبته بيان من وافقه من باقي الأئمة الستة مع ضبط المشكل من الأسماء والكنى وما
يحتاج إليه من الغرائب مما لم يوافق الباقين ابتدأه في ذي القعدة سنة ثمانمائة وفرغ في شوال من السنة التي تليها وشرحه الشيخ أبو الحسن بن عبد الهادي السندي المدني المتوفي سنة تسع ومائة وألف وهو شرح لطيف بالقول انتهى وشرحه الشيخ الصالح التقي عبد الغني بن الشيخ أبي سعيد المجددي الدهلوي نزيل المدينة المنورة على صاحبها الصلاة والتحية حالا وسماه إنجاح الحاجة وهو شرح مختصر طبع في الدهلي على هوامش السنن المذكورة أوله الحمد لله نحمده ونستعينه الخ
الفصل الثامن في ذكر مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل المتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين
يشتمل على ثلاثين ألف حديث في أربعة وعشرين مجلدا وهو في تسعة عشر مجلدا من نسخة الوقف بالمستنصرية وهو كتاب جليل من جملة أصول الإسلام وقد وقع له فيه ما ينوف عن ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد
(1/215)
قال الإمام في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو أول المسند حدثنا عبد الله بن نمير قال أنا اسماعيل يعني ابن أبي خالد عن قيس قال قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ( وإنما سمعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه
ومن ثلاثياته حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم سمع ابن عمر ابن ابنه عبدالله بن واقد يا بني سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لا ينظر الله عز وجل إلى من جر إزاره خيلاء انتهى ألف مسنده وهو أصل
من أصول هذه الأمة جمع فيه من الحديث ما لم يتفق لغيره ذكروا أن أحمد بن حنبل شرط فيه أن لا يخرج إلا حديثا صحيحا عنده قال أبو موسى المديني لكن يقال إن فيه أحاديث موضوعة كما ذكره البقاعي وزوائده لولده عبدالله
قال المولى عبد العزيز الدهلوي في بستان المحدثين مسند الإمام أحمد وإن كان من تصنيف هذا الإمام العالي المقام لكن فيه زيادات جمة من ولده عبدالله وبعضها من أبي بكر القطيعي الراوي له من ولده وهو مشتمل على ثمانية عشر مسندا أوله مسند العشرة المبشرة والثاني مسند أهل البيت النبوي الثالث مسند ابن مسعود الرابع مسند ابن عمر الخامس مسند عبدالله بن عمرو العاصي وأبي رمثة السادس مسند عباس وولده السابع مسند عبدالله بن عباس الثامن مسند أبي هريرة التاسع مسند أنس بن مالك خادم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} العاشر مسند أبي سعيد الخدري الحادي عشر مسند جابر بن عبدالله الأنصاري الثاني عشر مسند المكيين الثالث عشر مسند المدنيين الرابع عشر مسند الكوفيين الخامس عشر مسند البصريين السادس عشر مسند الشاميين السابع عشر مسند الأنصار الثامن عشر مسند عائشة مع مسند النسوة الأخرى وهذا المسند كله منقسم على اثنين وسبعين ومائة جزء وصاحب تجزيته حسن ابن علي الراوي له من القطيعي
(1/216)
وكان الإمام أحمد جمعه على طريق البياض ولم يهذبه ولم يرتبه حتى رتبه بعده ولده عبدالله لكن أخطأ فيه كثيرا حيث أدخل المدنيين في الشاميين وبالعكس كما نبه عليه الحفاظ المتقنون ثم رتبه بعض محدثي أصفهان على الأبواب وما رتبت تلك النسخة ثم هذبه ورتبه الحافظ ناصر الدين بن زريق على الأبواب وقد فقدت هذه النسخة أيضا في حادثة تيمور بدمشق ثم اعتنى بترتيبه الحافظ أبو بكر بن محب الدين فرتبه على حروف المعجم وهو في أسماء المقلين خاصة وأفرد الحافظ أبو الحسن الهيثمي زوائده على الصحاح الستة ورتبها على الأبواب والمشهور أن مسند الإمام أحمد يشتمل على ثلاثين ألف حديث ومع زيادات ولده على
أربعين ألف حديث والأول هو المنقول عن الثقات المحدثين والله أعلم ويمكن التطبيق بإسقاط المكرر وتعداده فالقولان صحيحان وقد تقرر عند المحدثين أنه متى اختلف الصحابي صار الحديث حديثا آخر وإن كانت الألفاظ والمعاني والقصة واحدة خلافا لعرف الفقهاء فإن الاعتبار عندهم للمعنى دون اللفظ فما دام أصل المعنى واحد فالحديث واحد حتى لا دخل فيه للخصوصيات الزائدة فيه عندهم لأنهم إنما يرون محط الفائدة ومأخذ الحكم لا غير والحق هو هذا لأن الاستنباط يقتضي إياه
ولما فرغ الإمام أحمد عن مسودة مسنده جمع أولاده كلهم وقرأ عليهم هذا المسند وقال هو كتاب جمعته وانتخبته من سبع مائة ألف حديث وخمسين ألف حديث أي طرق فإن وقع للمسلمين اختلاف في حديث من أحاديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ينبغي لهم أن يرجعوا إليه فإن وجدوا أصله فيه فبها ونعمت وإلا فليعلموا أن الحديث غير معتبر لا أصل له قلت المراد به أحاديث بلغت درجة الشهرة أو تواتر المعنى وإلا فالأحاديث الصحيحة المشهورة كثيرة وليست هي فيه انتهى
(1/217)
وقال الشيخ الجليل أحمد بن إدريس الشهير بالشماع الصعدي المكي رحمه الله تعالى في ترجمة الشيخ عبدالله بن سالم البصري المكي رحمه الله تعالى وجمع مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى بعد أن تفرق أيادي سبأ وكاد أن يكون كالهباء وصحح منه نسخة صارت أما وكعبة لمن أما نقل منها السادة العلماء نسخا تشفى الإلما وانتشرت في الحرمين انتشارا ضاء به آفاق الخافقين وأرسل ابنه البار بوالديه برا ظهرت بركته عليه نسخة أوقفها بطيبة الشريفة وأخرى بجامع مصر المنيفة تقبل الله ذلك منه آمين
قال في كشف الظنون وجمع غريبه أبو عمر محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب في كتاب وتوفي سنة خمس وأربعين وثلاث مائة واختصره الشيخ الإمام سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن ملقن الشافعي المتوفي سنة خمس وثمانمائة وعليه تعليقه للسيوطي في إعرابه سماها عقود الزبرجد وقد شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي نزيل
المدينة المنورة المتوفي سنة تسع وثلاثين ومائة وألف شرحا كبيرا نحوا من خمسين كراسة كبارا واختصره الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي وسماه الدر المنتقد من مسند أحمد وصل
(1/218)
الكتب المصنفة في علم الحديث وفروعه كثيرة شهيرة ما بين مختصر منها ومطول كالمسانيد المشهورة والدواوين المأثورة والمعاجم والمستخرجات والمستدركات وغيرها التي ذكرناها مستوعبا في جنان المتقين على ترتيب حروف الهجاء من حرف الألف إلى حرف الياء حسب ما اطلعنا عليه وانتهى علمنا إليه وإنما المقصود ههنا ذكر الأمهات التي هي أصول الإسلام وعليها مدار الأحكام دون غيرها لأن السلف والخلف جميعا قد أطبقوا على أن أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى صحيح البخاري ثم صحيح مسلم ثم الموطأ وعند البعض الموطأ ثم الصحيحان وهو الأصح ثم بقية الكتب الستة وهي جامع الترمذي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه وعند البعض الموطأ بدل ابن ماجه كصاحب جامع الأصول يقول الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي وفي هذه الكتب الأربعة أي سوى الصحيحين أقسام من الأحاديث من الصحاح والحسان والضعاف وتسميتها بالصحاح الستة بطريق التغليب وسمى صاحب المصابيح أحاديث غير الشيخين بالحسان وهو قريب من هذا الوجه قرب المعنى اللغوي وهو اصطلاح جديد منه قال بعضهم كتاب الدارمي أحرى وأليق بجعله سادس الكتب لأن رجاله أقل ضعفا ووجود الأحاديث المنكرة والشاذة فيه نادر وله أسانيد عالية وثلاثياته أكثر من ثلاثيات البخاري وهذه المذكورات من الكتب أشهر الكتب وغيرها من الكتب كثيرة شهيرة ولقد أورد السيوطي في كتاب جمع الجوامع من كتب كثيرة تتجاوز خمسين مشتملة على الصحاح والحسان والضعاف وقال ما أوردت فيها حديثا موسوما بالوضع اتفق المحدثون على تركه أو رده والله تعالى أعلم بالصواب
الباب الخامس في تراجم أصحاب الأمهات الست والإمام مالك وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين
وفيه فصول
فإنه لا يطمئن قلب بكتاب مؤلف ولا يسكن فكر من رأى روض مصنف مالم يعرف غارس أشجاره ومفوف أزهاره إذ بذاك يتم علم مقداره وتصفو النفس بالتروح بين ورده وبهاره وكأنه نسب الكتاب ومنه المبدأ وإليه المآب(1/219)
الفصل الأول في ترجمة الإمام مالك
الإمام أبو عبدالله مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بالفتح بن الحارث بن غيمان بغين معجمة وياء تحتها نقطتان ويقال عثمان بعين مهملة وثاء مثلثة بن جثيل بجيم وثاء مثلثة وياء ساكنة تحتية كذا ضبطه الدارقطني وقال ابن سعد هو خثيل بخاء معجمة مضمومة ومثلثة مفتوحة بصيغة التصغير كذا ضبطه الحافظ ابن حجر في الإصابة في ذكر أبي عامر بن عمرو وذكره الذهبي في تجريد الصحابة وقال لم أر من ذكره من الصحابة وقد كان في زمن النبي {صلى الله عليه وسلم} ولابنه مالك رواية عن عثمان وغيره من الصحابة واكتفى الحافظ ابن حجر في الإصابة على هذا القدر وقال محمد بن إبراهيم بن خليل في شرح مختصر الخليل وهي رسالة مشهورة في فقه مالك رائجة متداولة في الديار المغربية
وأما أبو عامر فجد أبي مالك صحابي شهد المغازي كلها مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خلا بدر كذا في ديباج المذاهب لابن فرحون وهو خثيل ابن عمر بن ذي أصبح واسمه الحارث الأصبحي المدني والأصبحي بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وبعدها حاء مهملة هذه النسبة إلى ذي أصبح بن عوف بن مالك إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأعلام ولد سنة خمس وتسعين وقال يحيى بن بكير سنة ثلاث وتسعين وهو من أجل تلامذته وحملته أمه ثلاث سنين في بطنها وقيل سنتين وجلس للناس وهو ابن سبع عشرة سنة وعرفت له الامامة
قال الواقدي مات وله تسعون سنة قال ابن خلكان توفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة فعاش أربعا وثمانين سنة وقال ابن الفرات في تأريخه توفي لعشر مضين من شهر ربيع الأول وقيل أنه توفي سنة ثمان وسبعين ومائة وقيل مولده سنة تسعين من الهجرة وقال السمعاني ولد سنة ثلاث وأربع وتسعين والله أعلم بالصواب ولبعضهم في ولادته وعمره ووفاته نظم
فخر الأئمة مالك
نعم الإمام السالك
مولده نجم هدى
وفاته فاز مالك
(1/220)
قال ابن خلكان كانت وفاته بالمدينة ودفن بالبقيع وكان شديد البياض إلى الشقرة طويلا عظيم الهامة أصلع يلبس الثياب العدنية الجياد ويكره حلق الشارب ويعيبه ويراه من المثلة ولا يغير شيبه ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله نظم
سقى جدثا ضم البقيع لمالك
من المزن مرعاد السحائب مبراق
إمام موطأه الذي طبقت به
أقاليم في الدنيا فساح وآفاق
أقام به شرع النبي محمد
له حذر من أن يضام وإشفاق
له سند عال صحيح وهيبة
فللكل منه حين يرويه إطراق
وأصحاب صدق كلهم علم فسل
بهم إنهم إن أنت ساءلت حذاق
ولو لم يكن إلا بن ادريس وحده
كفاه إلا أن السعادة إرزاق
قال صاحب التيسير هو إمام أهل الحجاز بل إمام الناس في الفقه والحديث وكفاه فخرا أن الشافعي من أصحابه وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي كان ثقة مأمونا ورعا فقيها محدثا حجة من تبع التابعين قال ابن خلكان أخذ القراءة عرضا عن نافع بن أبي نعيم وسمع الزهري ونافعا مولى ابن عمر وروى عنه الأوزاعي ويحيى بن سعيد وأخذ العلم عن ربيعة الرأي وأفتى معه عند السلطان قال مالك كل رجل كنت أتعلم منه ما مات حتى يجيئني ويستفتيني وقال ابن وهب سمعت مناديا ينادي بالمدينة ألا لا يفتى الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب وفي تيسير الوصول أخذ عنه العلم خلق لا يحصون كثرة منهم الشافعي ومحمد بن إبراهيم بن دينار وابن عبد الرحمن المخزومي وعبد العزيز ابن أبي حازم وهؤلاء نظراؤه من أصحابه ومعين بن عيسى القزاز وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ويحيى بن يحيى الأندلسي وعبدالله بن مسلمة القعنبي وعبدالله بن وهب واصبغ بن الفرج وهؤلاء مشايخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم من أئمة الحديث
(1/221)
وروى الترمذي في جامعه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوشك أن يضرب الناس بأكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة قال وهذا حديث حسن قال عبد الرزاق وسفيان بن عيينه أنه مالك بن أنس ولقد حدث يوما عن ربيعة الرأي بن عبد الرحمن فاستزاد القوم من حديثه فقال ما تصنعون بربيعة وهو نائم في تلك الطاق فأتى ربيعة فقيل له أنت ربيعة الذي يحدث عنك مالك قال نعم فقيل له فكيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك قال أما علمتم أن مثقالا من دولت خير من حمل علم قال يحيى بن سعيد ما في القوم أصح حديث من مالك وقال وهب بن خالد ليس ما بين المشرق والمغرب أحد أمن على حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من مالك وقال الشافعي لولا مالك وابن عيينة لذهب علم أهل الحجاز وقال إذا ذكر العلماء فمالك النجم وأنشد الشيخ أبو طاهر إبراهيم كما أورده السيد المرتضى في المجالس الحنفية نظم
إذا قيل من نجم الحديث وأهله
أشاروا أولوا الألباب يعنون مالكا
إليه تناهى علم دين محمد
فوطأ فيه للراة المسالكا
ونظم بالتصنيف أسبل نثره
وأوضح مالولاه قد كان حالكا
وأحيى دروس العلم شرقا ومغربا
تقدم في تلك المسالك سالكا
وقد جاء في الآثار من ذاك شاهد
على أنه في العلم خص بذلكا
فمن كان ذا طعن على علم مالك
ولم يقتبس من نوره كان هالكا
قال الشافعي قال لي محمد بن الحسن أيهما أعلم صاحبنا أو صاحبكم يعني أبا حنيفة ومالكا رضي الله عنهما قلت على الانصاف قال نعم قلت ناشدتك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قلت ناشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قلت ناشدتك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم قال اللهم صاحبكم قال الشافعي فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء تقيس
(1/222)
وقال عبدالله بن المبارك كنت عند مالك وهو يحدث فلدغته عقرب ست عشرة مرة وهو يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت له يا أبا عبدالله لقد رأيت اليوم منك عجبا فقال نعم وأخبره إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقال الواقدي كان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلاة والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه وترك حضور الجنائز فكان يأتي أهلها فيعزيهم ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدا يعزيه ولا يقضي له حقا واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه وكان ربما قيل له في ذلك فيقول ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره
وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وهو عم أبي جعفر المنصور وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه بشيء فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط ومدت يده حتى انخلعت كتفه وارتكب منه أمرا عظيما فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو رفعة وكأنما كانت تلك السياط حليا حلي به وذكر ابن الجوزي في شذور العقود في سنة سبع وأربعين ومائة وفيها ضرب مالك بن أنس سبعين سوطا لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان والله أعلم
(1/223)
وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوه المقتبس قال حدث القعنبي قال دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت عليه ثم جلست فرأيته يبكي فقلت يا أبا عبدالله ماالذي يبكيك فقال لي يا ابن قعنب ومالي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها برأي بسوط سوط وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال ذكره ابن خلكان وفي إحياء علوم الدين للغزالي وأما الإمام مالك فإنه كان أيضا متحليا بهذه الخصال الخمس فإنه قيل له ما تقول يا مالك في طلب العلم فقال حسن جميل ولكن أنظر إلى الذي يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فألزمه وكان رحمه الله تعالى في تعظيم علم الدين مبالغا حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته واستعمل الطيب وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} انتهى وزاد ابن خلكان ولا أحدث به إلا متمكنا على طهارة وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائما أو مستعجلا ويقول
أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} انتهى وزاد صاحب التيسير وكان مهابا ولبعض أهل المدينة فيه نظم
يدع الجواب فلا يراجع هيبة
والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى
فهو المطاع وليس ذا سلطان
انتهى
(1/224)
ونسبهما المولى عبد العزيز الدهلوي إلى سفيان الثوري والله أعلم قال في الإحياء قال مالك العلم نور يجعله الله حيث يشاء وليس بكثرة الرواية وهذا الاحترام والتوقير يدل على قوة معرفته بجلال الله تعالى وأما إرادته وجه الله تعالى بالعلم فيدل عليه قول الجدال في الدين ليس بشيء ويدل عليه قول الشافعي إني شهدت مالكا وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري ومن يرد غير وجه الله تعالى بعلمه فلا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري ولذلك قال الشافعي إذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب وما أحد آمن علي من مالك
وروي أن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره ثم دس عليه من يسأله فروى على ملأ من الناس ليس على مستكره طلاق فضربه بالسياط ولم يترك رواية الحديث وقال مالك ما كان رجل صادقا في حديثه ولا يكذب إلا متع بعقله ولم تصبه مع الهرم آفة ولا خرف وأما زهده في الدنيا فيدل عليه ما روي أن المهدي أمير المؤمنين سأله فقال له هل لك من دار فقال لا ولكن أحدثك فيه حديثا سمعت ربيعة بن عبد الرحمن يقول نسب المرء داره وسأله الرشيد هل لك دار فقال لا فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال اشتر بها دارا فأخذها ولم ينفقها فلما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك ينبغي أن تخرج معنا قال عزمت أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن فقال أما حمل الناس على
(1/225)
الموطأ فليس إليه سبيل لأن أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند كل أهل مصر علم وقد قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اختلاف أمتي رحمة وأما الخروج معك فلا سبيل إليه قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وقال عليه الصلاة والسلام المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها يعني إنك إنما كلفتني مفارقة المدينة لما اصطنعته إلي فلا أؤثر الدنيا على مدينة الرسول {صلى الله عليه وسلم} فهكذا كان زهد مالك في الدنيا
ولما حملت إليه الأموال الكثيرة من أطراف الدنيا لانتشار علمه وأصحابه كان يفرقها في وجوه الخير ودل سخاؤه على زهده وقلة حبه للدنيا وليس الزهد فقد المال وإنما الزهد فراغ القلب عنه ولقد كان سليمان عليه السلام في ملكه من الزهاد ويدل على احتقاره للدنيا ما روي عن الشافعي أنه قال رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان وبغال مصر ما رأيت أحسن منه فقلت لمالك ما أحسنه فقال هو هدية مني إليك يا أبا عبد الله فقلت دع لنفسك منها دابة تركبها فقال إني أستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيه نبي الله {صلى الله عليه وسلم} بحافر دابة فانظر إلى سخائه إذ وهب جميع ذلك دفعة واحدة وإلى توقيره لتربة المدينة ويدل على إرادته بالعلم وجه الله تعالى واستحقاره للدنيا ما روي عنه أنه قال دخلت على هارون الرشيد فقال لي يا أبا عبدالله ينبغي أن يختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ قال فقلت أعز الله مولانا الأمير إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم اعززتموه عز وإن أنتم أذللتموه ذل والعلم يؤتى ولا يأتي فقال صدقت أخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس انتهى
وقال صاحب بستان المحدثين في ترجمته روي أنه كان يفتل سبلته إذا أهمه أمر وقال أشهب وكان إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه أي أرسل وأرخى طرفها الذي يقال لها العلاقة ولفها تحت الحنك وكان إذا اكتحل يلزم بيته ولا يخرج ويرى الاكتحال مكروها
(1/226)
إلا من علة ومرض وكان خاتمه من فضه وفصه أسود ونقشه حسبنا الله ونعم الوكيل فسأله مطرف عن اختيار هذا النقش قال سمعت الله يقول في حق المؤمنين قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فأحببت أن تكون تلك الكلمة دائما نقش ضميري ونصب عيني وكان مكتوبا على باب داره ما شاء الله فسئل عنه فقال يقول الله ) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله ( داري هذه هي جنتبي فأريد ذكرها حين أدخله وأحب أن تجري هذه على لساني
وكان بيت الإمام بيت عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وكان مجلسه من مسجد النبي {صلى الله عليه وسلم} مجلس أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وقال ما جالست مدة عمري سفيها ولا خفيف عقل قال الإمام أحمد وهذا أمر عظيم لم يتفق لغير مالك وليس في زمرة العلماء فضيلة أحسن منه فإن صحبة السفهاء تظلم نور العلم وتنزل الرجل عن ذروة التحقيق وتلقيه في حضيض التقليد ولم يره أحد آكلا ولا شاربا لأنه كان لا يأكل ولا يشرب إلا في الخلوة وهو مع ذلك التمكين والوقار
كان في مرتبة عظيمة من حسن الخلق مع الأهل والولد والخدم والحشم وكان يتأسى في ذلك سنة النبي {صلى الله عليه وسلم} وسيرة الصحابة الكرام وكان وافر الحرص في طلب العلم حتى قلع سقف بيته في بدء أمره وباع خشبه في أمر الكتاب ثم هجمت عليه الفتوح العظيمة وكان أتم الحفظ قال ما نسيت شيئا قط بعد أن حفظته وتوفت في زمانه امرأة بالمدينة فغسلتها الغسالة فحين وضعت يدها على فرجها قالت طالما عصى ربه هذا الفرج فلصقت يد الغسالة بها ولم يعلموا ما يفعلوا لتفترق يدها عنها ولما عجزوا عنها رجعوا إلى العلماء فلم يهتدوا إلى سبيل فقال الإمام مالك عندي أن تضربوا الغسالة حد القذف فضربوها حد القذف وهو ثمانون جلدة فافترقت يدها عن فرج الميت واستقرت ورسخت إمامة الإمام ورئاسته في أذهان الناس من يومئذ
(1/227)
قال مالك كتبت بيدي ألف حديث وقال الدارقطني لم يتفق لأحد ما اتفق لمالك فإنه روى عنه راويان حديثا واحدا وبين وفاتهما ثلاثون ومائة سنة أحدهما محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أستاذ الإمام فإنه روى حديث فريعة بنت مالك بن سنان في باب سكنى المعتدة عن مالك بن أنس والآخر أبو حذافة السهمي تلميذ مالك وصاحب رواية الموطأ فإنه أيضا روى هذا الحديث عنه ومات الزهري سنة خمس وعشرين ومائة وأبو حذافة سنة خمسين ومائتين ونيف قلت رواية الزهري عن مالك من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر ولا تخلو عن ندرة ولأهل الحديث كتب في هذا الباب وتفاوت الراويين عن شيخ واحد هذا القدر في الوفاة أيضا لا تخلو عن غرابة ويقال له في عرف المحدثين السابق واللاحق
قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر أكثر ما وقفنا عليه في ذلك تفاوت مائة وخمسين سنة ثم أورد له مثالا والغالب أن تفاوت هذا المقدار تحصل في صورة رواية الأكابر عن الأصاغر وكان مجلس الإمام مجلس الهيبة والوقار لم تكن فيه الأصوات ولا تسمع فيه لاغية وكان لا يقرأ لأحد بل كانوا يقرأون عليه وهو يسمع وكانت جماعة من أهل العراق في زمانه لا يرون القراءة على الشيخ من وجوه تحمل الحديث بل كانوا يطلبون السماع من لفظ الشيخ فاختار أكثر علماء المدينة والحجاز هذا الطريق دفعا لوهمهم وإلا فالمأثور في القديم هو قراءة الشيخ على التلميذ
وقد اتفق ليحيى بن بكير أنه سمع الموطأ من مالك في مجلس إفادته بقراءته أربع عشرة مرة وكان مالك لكمال أدبه مع حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لا يجلس إلا على هيئة واحدة في إسماع الحديث وإفادته وكان لا يقلب رجليه ويحتاط فيه احتياطا تاما وكان مجتنبا عن الغائط في حد الحرم مدة عمره إلا عند مرضه وشدة الضرورة
قال بشر الحافي من زينة الدنيا ونعمتها أن يقول الرجل حدثنا مالك يعني بلغت أبهة الإمام وشوكته مبلغا يعد تلميذه من جملة مفاخر
(1/228)
الدنيا مع أنه من وسائل الآخرة وأمور الدين وكثيرا ما كان يتمثل بهذا البيت شعر
وخير أمور الدين ما كان سنة
وشر الأمور المحدثات البدائع
ومن كلامه لا ينبغي للعالم أن يتكلم بالعلم عند من لا يطيقه فإنه ذل وإهانة للعلم ولما صنف كتاب الموطأ في الحديث عمل علماء المدينة الموطآت على منواله فقيل لمالك قد شاركك الناس في مثل هذا التصنيف فلم تكلف هذا القدر نفسك قال إئتوني بها أنظرها فلما نظر فيها قال عسى أن يعلموا أي عمل وقع لوجه الله تعالى فكان كذلك ولم يبق لموطآت الآخرين اسم ولا رسم إلا ما يذكر من موطأ ابن أبي ذئب وأما موطأ مالك فهو مخدوم طوائف الأنام وبضاعة الاجتهاد لعلماء الإسلام والقبول بقدر النية
وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء في ترجمة مالك بسند صحيح عن سهل بن مزاحم المروزي وكان من عباد وقته وأصحاب عبدالله بن المبارك أنه قال رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في المنام وقلت يا رسول الله قد مضى عصرك وانقضى فإن وقع لي شك وشبهة في الخاطر في أمر من أمور الدين فممن أتحققه قال ما أشكل عليك فاسأله عن مالك بن أنس
وروي أيضا عن مطرف أن أبا عبدالله من موالي الليثيين قال تشرفت بزيارة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أي في النوم فرأيته جالسا في المسجد وحوله رجال كالحلقة ورأيت مالكا قائما بين يديه وعنده {صلى الله عليه وسلم} مسك يعطيه مالكا قبضة قبضة ومالك ينثره على الناس فعبرت هذه الرؤيا بظهور العلم النبوي أولا في مالك ثم بواسطته في الآخرين
وروي أيضا عن محمد بن رمح التجيبي المصري أستاذ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أنه قال رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في النوم وقلت نحن مختلفون في مالك وليث أيهما أعلم فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مالك وارث سريري ففهمت حينئذ المراد به أنه وارث علمي
(1/229)
وروي عن يحيى بن خلف بن الربيع الطرطوسي وكان من صلحاء عصره وعباد دهره أنه قال حضرت يوما عند مالك فأتى رجل وقال ما نقول في القرآن أهو مخلوق أم لا فقال الإمام اقتلوا هذا الزنديق فإنه سيتولد في كلامه فتن كثيرة وقد عمت البلوى بعد مالك في هذه المسألة وقتلت جماعات كثيرة من أهل السنة على عدم القول بها وكذا روي عن جعفر بن عبدالله أنه قال كنا عند مالك فسأله رجل عن تفسير قوله تعالى ) الرحمن على العرش استوى ( كيف هذا الاستواء فأظهر مالك الملال الكثير من هذا السؤال وأطرق مليا وتفكر كثيرا حتى عرق جبينه ثم قال الكيف منه معقول والاستواء منه مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم أمر بإخراجه
وروي عن أبي عروبة وهو من أولاد الزبير رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند مالك يوما فإذا رجل أتى وذكر نقائص الصحابة ومساوئهم فقال مالك اسمع ثم تلا هذه الآية ) محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ( حتى بلغ إلى ) ليغيظ بهم الكفار ( ثم قال من كان في باطنه سيء الظن بالصحابة ويعيش عدوا لهم فهو داخل في هذا اللفظ فافهم انتهى المقصود منه ملخصا ومترجما من الفارسية بالعربية
وكان لا يركب في المدينة المنورة مع ضعفه وكبر سنه ويقول استحي من الله أن أطأ تربة فيها قبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد بلغ بهذا الأدب ما بلغ وكان رأس المتقين ومن كبار تبع التابعين وفيما ذكرناه كفاية ومقنع
الفصل الثاني في ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري(1/230)
الإمام حافظ الإسلام خاتمة الجهابذة النقاد الأعلام شيخ الحديث وطبيب علله في القديم والحديث أبو عبدالله محمد بن اسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بردزبه وهو بالفارسية الزراع الجعفي وكان بردزبه فارسيا على دين قومه ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفي والي بخارى فنسب إليه نسبة ولاء عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له ولذا قيل للبخاري الجعفي ويمان هذا هو جد المحدث عبدالله بن محمد بن جعفر بن يمان الجعفي المسندي
قال الحافظ بن حجر وأما إبراهيم بن المغيرة فلم نقف على شيء من أخباره وأما والد البخاري فقد ذكرت له ترجمة في كتاب الثقات لابن حبان فقال في الطبقة الرابعة اسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروي عن حماد بن زيد ومالك روى عنه العراقيون وذكره ولده في التاريخ الكبير فقال اسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سمع من مالك وحماد بن زيد وصحب ابن المبارك
وقال الذهبي في تأريخ الإسلام وكان أبو البخاري من العلماء الورعين وحدث عن أبي معاوية وجماعة وروى عنه أحمد بن جعفر ونصر بن الحسين قال أحمد بن حفص دخلت على أبي الحسن اسماعيل بن إبراهيم عند موته فقال لا أعلم في جميع مالي درهما من شبهة فقال أحمد فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك
وكان مولد أبي عبدالله البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال وقال ابن كثير ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ببخارى وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينهما وبين سمرقند ثمانية أيام وتوفى أبوه وهو صغير فنشأ يتيما في حجر والدته وكان نحيفا ليس بالطويل ولا بالقصير وكان فيما ذكره غنجار في تأريخ بخارى واللالكائي في شرح السنة في باب كرامات
الأولياء وغيرهما قد ذهبت عيناه في صغره فرأت أمه إبراهيم عليه السلام في المنام فقال لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له فأصبح وقد رد الله عليه بصره
(1/231)
قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق قلت للبخاري كيف كان بدء أمرك قال ألهمت الحديث في المكتب ولي عشر سنين أو أقل ثم خرجت من المكتب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره فقال يوما فيما كان يقرأ للناس سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم فقلت له إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم فانتهرني فقلت له ارجع إلى الأصل إن كان عندك فدخل فنظر فيه ثم خرج فقال لي كيف هو يا غلام فقلت هو الزبير بن عدي عن إبرهيم فأخذ القلم مني وأصلح كتابه وقال صدقت فقال بعض أصحاب البخاري له ابن كم كنت قال ابن احدى عشرة سنة فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء يعني أصحاب الرأي ثم خرجت مع أخي أحمد وأمي إلى مكة فلما حججت رجع أخي إلى بخارى فمات بها وكان أخوه أسن منه وأقام هو بمكة يطلب الحديث قال ولما طعنت في ثماني عشرة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وصنفت التاريخ الكبير إذ ذاك عند قبر النبي {صلى الله عليه وسلم} في الليالي المقمرة وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت تطويل الكتاب وقال أبو بكر بن أبي عتاب الأعين كتبنا عن محمد بن اسماعيل وهو أمرد على باب محمد بن يوسف الفريابي وما في وجه شعر وكان موت الفريابي سنة اثنتي عشرة ومائتين فيكون للبخاري إذ ذاك نحو من ثمانية عشر عاما أو دونها
وأما ذكاؤه وسعة حفظه وسيلان ذهنه فقيل أنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا وروي أنه كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظ ما فيه من نظرة واحدة وقال محمد بن أبي حاتم وراقة سمعت حاشد بن اسماعيل وآخر يقولان كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فكنا نقول له
(1/232)
فقال إنكما قد أكثرتما علي فأعرضا علي ما كتبتما فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد ذلك على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ثم قال أترون أني اختلف هدرا وأضيع أيامي فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد قال فكان أهل المعرفة يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع إليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه وكان شابا
وقال محمد بن أبي حاتم سمعت ابن مجاهد يقول كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال لي لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث قال فخرجت في طلبه فلقيته فقلت أن الذي تقول أنا أحفظ سبعين ألف حديث قال نعم وأكثر ولا أجيبك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا من عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم ولست أروي حديثا من حديث الصحابة والتابعين الأولى في ذلك أصل أحفظه حفظا عن كتاب الله تعالى وسنة رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وقال ابن عدي حدثني محمد بن أحمد القوسي سمعت محمد بن حمدويه يقول سمعت محمد بن اسماعيل يقول أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح وقال أخرجت هذا الكتاب من نحو ستمائة ألف حديث وقال دخلت بلخ فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه فأمليت ألف حديث عن ألف شيخ وقال تذكرت يوما من الأصحاب أنسا فحضرني في ساعة ثلاثمائة نفس وقال وراقة عمل كتابا في الهبة فيه نحو خمسمائة حديث وقال ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوها
وأما كثرة اطلاعه على علل الحديث فقد روينا عن مسلم بن الحجاج أنه قال دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله
وقال الترمذي لم أر بالعراق ولا بخراسان في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن اسماعيل
(1/233)
وقال محمد بن أبي حاتم سمعت سليم بن مجاهد يقول سمعت أبا الأزهر يقول كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطة محمد بن اسماعيل فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد العراق في إسناد الشام وإسناد الحرم في إسناد اليمن وبالعكس فما استطاعوا مع ذلك أن يتعلقوا عليه بسقطة لا في الإسناد ولا في المتن
وقال أحمد بن عدي الحافظ سمعت عدة من المشايخ يحكون أن البخاري قدم بغداد فاجتمع أصحاب الحديث وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد إلى إسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس امتحانا فاجتمع الناس من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب أحدهم فقام وسأله عن حديث من تلك العشرة فقال لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه حتى فرغ العشرة فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم ومن كان لا يدري قضى عليه بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كفعل الأول والبخاري يقول لا أعرفه إلى أن فرغ العشرة وهو لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى الأول فقال أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا وحديثك الثاني كذا وصابه كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل
(1/234)
وقال الحافظ ابن حمدون رأيت البخاري في جنازة ومحمد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والعلل والبخاري يمر فيه كالسهم كأنه يقرأ وأما تآليفه فإنها سارت مسيرة الشمس ودارت في الدنيا فما جحد فضلها إلا الذي يتخبطه الشيطان من المسالصحيح ومنها الأدب المفرد ويرويه عنه أحمد بن محمد الجليل بالجيم البزار ومنها بر الوالدين ويرويه عنه محمد بن دلويه الوراق ومنها التاريخ الكبير الذي صنفه عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام في الليالي المقمرة ويرويه عنه أبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس وأبو الحسن محمد بن سهل النسوي وغيرهما ومنها التاريخ الأوسط ويرويه عنه عبدالله بن أحمد بن عبد السلام الخفاف وزنجويه بن محمد اللباد ومنها التاريخ الصغير ويرويه عنه عبدالله بن محمد بن عبد الرحمن الأشقر ومنها خلق أفعال العباد الذي صنفه بسبب ما وقع بينه وبين الذهلي ويرويه عنه يوسف بن ريحان بن عبد الصمد والفربري أيضا
قال الحافظ ابن حجر وهذه التصانيف موجودة مروية لنا بالسماع والإجازة قال ومن تصانيفه الجامع الكبير ذكره ابن طاهر والمسند الكبير والتفسير الكبير ذكره الفربري وكتاب الأشربة ذكره الدارقطني في المؤتلف والمختلف وكتاب الهبة ذكره وراقة وأسامي الصحابة ذكره أبو القاسم بن مندة وأنه يرويه من طريق ابن فارس عنه وقد نقل عنه أبو القاسم البغوي الكثير في معجم الصحابة وكذا ابن مندة في المعرفة ونقل عنه كتاب الوحدان له وهو من ليس له إلا حديث واحد من الصحابة وكتاب المبسوط ذكره الخليل في الإرشاد وأن مهيب بن سليم رواه عنه في كتاب العلل وذكره أبو القاسم بن مندة أيضا وأنه يرويه عن محمد بن عبدالله بن حمدون عن أبي محمد بن الشرقي عنه وكتاب الكنى ذكره الحاكم أبو أحمد ونقل منه وكتاب الفوائد ذكره الترمذي في أثناء كتاب المناقب من جامعه ومن شعره مما أخرجه الحاكم في تاريخه نظم
اغتنم في الفراغ فضل ركوع
فعسى أن يكون موتك بغتة
(1/235)
كم صحيح رأيت من غير سقم
ذهبت نفسه الصحيحة فلته
ولما نعي إليه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد شعر
وأجلها وأعظمها الجامع
إن عشت تفجع بالأحبة كلهم
وفناء نفسك لا أبا لك أفجع
وأما ثناء الناس عليه بالحفظ والورع والزهد وغير ذلك فقد وصفه غير واحد بأنه كان أحفظ أهل زمانه وفارس ميدانه كلمة شهد له بها الموافق والمخالف وأقر بحقيقتها المعادي والموالف وكان لقبه في المحدثين أمير المؤمنين في الحديث وناصر الأحاديث النبوية وناشر المواريث المحمدية
قال الشيخ تاج الدين السبكي في طبقاته كان البخاري إمام المسلمين وقدوة المؤمنين وشيخ الموحدين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين قال وقد ذكره أبو عاصم في طبقات أصحابنا الشافعية وقال سمع من الزعفراني وأبي ثور والكرابيسي قال ولم يرو عن الشافعي في صحيحه لأنه أدرك أقرانه والشافعي مات مكتهلا فلا يرويه نازلا انتهى نعم ذكره البخاري في صحيحه في موضعين في الزكاة وفي تفسير العرايا
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في تاريخه البداية والنهاية كان إمام الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه
وقال قتيبة بن سعيد جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن اسماعيل وهو في زمانه كعمر في الصحابة وقال أيضا لو كان في الصحابة لكان آية
وقال أحمد بن حنبل فيما رواه الخطيب بسند صحيح ما أخرجت خراسان مثل محمد بن اسماعيل
وعن محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم قال حفاظ الدنيا أربعة أبو زرعة بالري ومسلم بنيسابور والدارمي بسمرقند والبخاري ببخارى
قال علي ابن حجر والبخاري أعلمهم وأبصرهم وأفهمهم
قال ابن المدني لم ير البخاري مثله
وقال الترمذي ما رأيت نظيره وقد جعله الله زينة هذه الأمة
قال بعضهم هو آية من آيات الله تمشي على وجه الأرض
وقال مسلم له لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك
وقال بندار بن بشار هو أفقه خلق الله في زماننا
(1/236)
وقال نعيم بن هناد وهو فقيه هذه الأمة
وقال اسحاق بن راهويه يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لاحتاج الناس إليه لمعرفته بالحديث وفقهه وقد فضله بعضهم في الفقه والحديث على أحمد وإسحاق
وقال رجا بن مرجا فضل البخاري في زمانه على العلماء كفضل الرجال على النساء
وقال الفلاس كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث
وقال يحيى بن جعفر البيكندي لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر البخاري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموته فيه ذهاب العلم
وقال الدارمي رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع منه
وقال أبو سهل محمود بن النضر الفقيه سمعت أكثر من ثلاثين عالما من علماء مصر يقولون حاجتنا في الدنيا النظر إليه وقال كنت أستملي له ببغداد فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفا
وقال ابن خزيمة ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث وأحفظ له منه
وقال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي وحسبك بإمام الأئمة ابن خزيمة يقول فيه هذا القول مع لقيه الأئمة والمشايخ شرقا وغربا
وقال عبدالله بن حماد الاملي لوددت أني كنت شعرة في جسده وكان غاية في الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في دار الدنيا دار الفناء والرغبة في العقبى دار البقاء
وكان يختم في رمضان كل يوم ختمة ويقوم بعد صلاة التراويح كل ثلاث ليال بختمة وقال وراقة كان يصلي وقت السحر ثلاث عشرة ركعة وقال أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا ويشهد لهذا كلامه في التجريح والتضعيف فإنه أبلغ مما يقول في الرجل المتروك أو الساقط فيه نظر أو سكتوا عنه ولا يكاد يقول فلان كذاب قال وراقة سمعته يقول لا يكون لي خصم في الآخرة فقلت يا أبا عبدالله إن بعض الناس ينقم عليك التاريخ يقول فيه اغتياب الناس فقال إنما روينا ذلك رواية ولم نقله من عند أنفسنا وقد قال {صلى الله عليه وسلم} بئس أخو العشيرة وقال ما اغتبت منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها
(1/237)
وكان قد ورث من أبيه مالا كثيرا فكان يتصدق به وكان قليل الأكل جدا كثير الإحسان إلى الطلبة مفرطا في الكرم ولما قدم نيسابور تلقاه أهلها من مرحلتين أو ثلاث وكان الذهلي في مجلسه فقال من أراد أن يستقبل محمد بن اسماعيل غدا فليستقبله فإني استقبله فاستقبله عامة علماء نيسابور فدخلها ولما رجع إلى بخارى نصبت له القباب على فرسخ من البلد واستقبله عامة أهلها حتى لم يبق مذكور ونثر عليه الدراهم والدنانير وبقي مدة يحدثهم فأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهلي نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدثهم في قصره فامتنع البخاري من ذلك وقال لرسوله قل له أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضر إلى مسجدي أو داري فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذرا عند الله يوم القيامة إني لا أكتم العلم فراسله أن يعقد لأولاده لا يحضر غيرهم فامتنع من ذلك أيضا وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم فحصلت بينهما وحشة واستعان خالد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل العلم
ببخارى عليه حتى تكلموا في مذهبه فنفاه عن البلد وأمر بالخروج عنه فدعا البخاري عليهم وكان من دعائه اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم وكان مجاب الدعوة فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادى على خالد في البلد فنودي عليه على أتان وحبس إلى أن مات ولم يبق أحد ممن ساعده إلا ابتلي ببلاء شديد شعر
لله قوم إذا حلوا بمنزلة
حل الرضا ويسير الجود إن ساروا
(1/238)
ولما خرج البخاري من بخارى كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه إلى بلدهم فسار إليهم فلما كان بخرتنك قرية على فرسخين من سمرقند وكان له بها أقرباء فنزل عندهم وبلغه أنه قد وقع بينهم بسببه فتنة فقوم يريدون دخوله وآخرون يكرهونه فأقام أياما حتى ينجلي الأمر فمرض ووجه إليه رسول من أهل سمرقند يلتمسون خروجه إليهم فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها إلى الدابة ليركبها قال أرسلوني فقد ضعفت فأرسلوه فدعا بدعوات منها اللهم أنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك بعدما فرغ من صلاته في ليلة من الليالي ثم اضطجع فقضى فسال عرق كثير لا يوصف وما سكن منه العرق حتى أدرج في أكفانه قال بعضهم في ولادته وعمره ووفاته نظم
كان البخاري حافظا ومحدثا
جمع الصحيح مكمل التحرير
ميلاده صدق ومدة عمره
فيها حميد وانقضى في نور
روي أنه ضجر ليلة السبت ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما وكان أوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة ففعل به ذلك ولما صلي عليه ووضع في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أياما وجعل الناس يختلفون إلى قبره مدة يأخذون منه شعر
فهذا الشذا آثار رفقته معي
ولست بورد إنما أنا تربه
وروى الخطيب البغدادي بسنده إلى عبد الواحد آدم بن الطراولسي
قال رأيت النبي {صلى الله عليه وسلم} ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت ما وقوفك هنا يا رسول الله قال انتظر محمد بن اسماعيل فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا هو في الساعة التي رأيت فيها النبي {صلى الله عليه وسلم} ولما ظهر أمره بعد وفاته خرج بعض مخالفيه إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة
قال الحافظ الديبع اليمني توفي ولم يعقب ولدا ذكرا رحل في طلب العلم إلى جميع محدثي الأمصار وكتب عن الحفاظ وأخذ عنه الحديث خلق كثير انتهى
(1/239)
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدثي الأمصار وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق والحجاز والشام ومصر وقدم بغداد واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية وكان ابن صاعد إذا ذكره يقول الكبش النطاح انتهى
وروي عن البخاري أنه قال رويت الحديث عن ألف وثمانمائة محدث وروى عنه خلق كثير قيل مائة ألف محدث وقد أطنب القسطلاني في شرحه على البخاري في ذكر رحلته ومشايخه تركتها مخافة الإطالة واكتفاء على الإحالة وبالجملة فمناقب أبي عبدالله البخاري كثيرة ومحاسنة ومفاخره شهيره وفيما ذكرته كفاية ومقنع وبلاغ ولو فتحنا باب تعديد مناقبه ومآثره الحميده لخرجنا عن غرض الاختصار
قال النووي في التهذيب ومناقبه لا تستقصى لخروجها عن أن تحصى وهي منقسمة إلى حفظ ودراية واجتهاد في التحصيل ورواية ونسك وإفادة وورع وزهادة وتحقيق واتقان وعرفان وأحوال وكرامات وغيرها من المكرمات رضي الله تعالى عنه وأرضاه
الفصل الثالث في ترجمة مسلم بن الحجاج
(1/240)
أبو الحسين عساكر الدين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري نسبا النيسابوري وطنا نسبة إلى قشير مصغرا قبيلة معروفة من العرب ونيسابور بلد بخراسان معروف بالحسن والعظمة كان أحد أئمة أعلام هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والإيقان والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقديم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان والمرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل الأزمان والمجمع عليه على تقدمه على أهل عصره كما شهد له بذلك إماما وقتهما وحافظا عصرهما أبو زرعة وأبو حاتم أجمعوا على أنه ولد بعد المائتين فقيل سنة اثنتين ومائتين وقيل سنة أربع وقيل سنة ست وتوفي عشية الأحد ودفن يوم الإثنين الخامس والعشرين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنصر آباد ظاهر مدينة نيسابور وعمره خمس وخمسون سنة رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبدالله بن مسلمة القعنبي وغيرهم وقدم بغداد غير مرة فروى عنه أهلها وآخر قدومه إليها في سنة تسع وخمسين ومائتين
قال النووي روى عنه جماعات من كبار أئمة عصره وحفاظه وفيهم جماعات في درجته فمنهم أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن سلمة وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر بن خزيمة ويحيى بن صاعد وأبو عوانة الاسفرائيني وأخرون لا يحصون انتهى
قال الديبع كان يقدم في معرفة الصحيح على أهل عصره وقال النووي ومن حقق نظره في صحيح مسلم واطلع على ما أودعه فيه علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره ) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (
(1/241)
انتهى وله المؤلفات الكثيرة الجليلة لا سيما صحيحه الذي من الله به على المسلمين فقد أودع فيه عجائب هذا الفن خاصة في سرد الأسانيد وحسن سياق المتون ولهذا كان يقدم في معرفة صحيح الحديث من سقيمه على البخاري أيضا فإن البخاري يقع له الغلط في أهل الشام حيث يذكر رجلا واحدا تارة بكنية وطورا باسمه ويراهما رجلان لكون روايته عن أكثر أهل الشام على طريق المناولة لا بطريق التحقيق الشفاهي بخلاف مسلم فإنه لا يقع له ذلك الغلط في موضع ويقع للبخاري تعقيد المتون في بعض الأحاديث بسبب التقديم والتأخير والحذف وإسقاط بعض الألفاظ وإن كان ينجلي بمراجعة الروايات الأخرى الواردة في صحيحه ولا يقع ذلك لمسلم فإنه يسوق الألفاظ ويأتي بالرجال بحيث لا يقع تحريف في نسخه وقد رأى أبو حاتم الرازي مسلما في المنام وسأل عن شأنه فقال إن الله تبارك وتعالى أباح الجنة لي أتبوأ منها حيث أشاء ورأى صالح أبا علي الزاغوني في المنام وسأله بما نجوت قال بهذا الجزء الذي بيدي فإذا هو جزء من صحيح مسلم
وله مؤلفات أخرى مفيدة جدا منها كتاب الجامع الكبير على الأبواب وكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال وكتاب الأسماء والكنى وكتاب العلل وكتاب الوحدان وكتاب التمييز وكتاب حديث عمرو بن شعيب وكتاب مشايخ مالك وكتاب مشايخ الثوري وكتاب أوهام المحدثين وكتاب من ليس له إلا راو واحد وكتاب طبقات التابعين وكتاب المخضرمين وغير ذلك
قيل سبب موته أنه عقد له مجلس للمذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فقدمت له سلة تمر فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث فكان ذلك سبب موته يعني مات بسبب الأكل الكثير ولا يخلو ذلك عن غرابة رحمه العلي الكبير
الفصل الرابع في ترجمة أبي داود السجستاني
(1/242)
أبو داود سليمان بن الأشعث بن اسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو ابن عمران الأزدي السجستاني نسبة إلى سجستان الإقليم المشهور وقيل بل نسبة إلى سجستانة قرية من قرى البصرة قاله ابن خلكان
قال المولى عبد العزيز الدهلوي وقع لابن خلكان في تلك السنة غلط مع كماله في علم التاريخ وتصحيح الأنساب كما قال السبكي بعد نقل عبارته المذكورة وهذا وهم والصواب أنه نسبة إلى الإقليم المعروف متاخم بلاد الهند انتهى يعني إلى سيستان وهو بين السند وهراة متصل قندهار ووقع فيه أيضا جشت وكان البست دار السلطنة لهذا الملك قديما وتقول العرب في نسبته سجزي أيضا انتهى
ولد سنة اثنتين ومائتين وكان أحد حفاظ الحديث وعلمه وعلله وفي الدرجة العليا من النسك والصلاح وعلم الفقه والورع والإتقان طوف البلاد وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين والثغريين وغيرهم وجمع كتاب السنن قديما وعرضه على الإمام أحمد فاستجاده واسحسنه وعده الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الفقهاء من جملة أصحاب الإمام أحمد واختلف في مذهبه فقيل حنبلي وقيل شافعي وكتب عنه شيخه أحمد بن حنبل حديث العتيرة
قال الحافظ موسى بن هارون خلق أبو داود في الدنيا للحديث وفي الآخرة للجنة وما رأيت أفضل منه وأحاديثه ما بين صحيح وحسن ودون ذلك وجاءه سهل بن عبدالله التستري فقيل له يا أبا داود هذا سهل قد جاءك زائرا قال فرحب به وأجلسه فقال يا أبا داود لي إليك حاجة قال وما هي قال حتى تقول قضيتها مع الإمكان قال قد قضيتها مع الإمكان قال أخرج لسانك الذي حدثت به عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} حتى أقبله قال فأخرج لسانه فقبله
(1/243)
قدم بغداد مرارا ونزل إلى البصرة وسكنها وتوفي بها يوم الجمعة منتصف شوال سنة خمس وسبعين ومائتين واحتج به ممن صنف الصحيح أبو علي الحافظ النيسابوري وأبو حمزة الأصفهاني أخذ الحديث عن مشايخ البخاري ومسلم كأحمد ابن حنبل وعثمان بن أبي شيبة وقتيبة بن سعيد وغيرهم من أئمة الحديث وأخذ عنه ابنه عبدالله وأبو عبد الرحمن النسائي وأبو علي اللؤلؤي وخلق سواهم وكان أحد كميه واسعا والآخر ضيقا فقيل له في ذلك فقال الكم الوسيع لأجزاء الكتاب ولا حاجة إلى سعة الآخر فإنه إسراف أخذ عن القعنبي وأبي الوليد الطيالسي وفاق من تلامذته أربعة في المحدثين أبو بكر ولده واللؤلؤي وابن الأعرابي وابن داسة
قال أبو داود في سننه في باب صدقة الزرع من كتاب الزكاة شبرت قثاء بمصر ثلاثة عشر شبرا ورأيت أترجة على بعير بقطعتين قطعت وصيرت على عدلين
الفصل الخامس في ترجمة أبي عيسى الترمذي
أبوعيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك السلمي الضرير البوغي الترمذي الحافظ المشهور أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث ولد سنة تسع ومائتين ومات سنة تسع وسبعين ومائتين ثالث عشر رجب بترمذ ليلة الإثنين
وقال السمعاني توفي بقرية بوغ في سنة خمس وسبعين ومائتين وبوغ قرية من قرى ترمذ على ستة فراسخ منها وهي قرية قديمة على طرف نهر بلخ من جهة الشاطئ الشرقي ويقال لها مدينة الرجال وكان جده مروزيا ثم انتقل بترمذ
قال السمعاني في نسبة الترمذي هذه النسبة إلى مدينة قديمة على طرق نهر بلخ الذي يقال لها جيحون والناس يختلفون في كيفية هذه
النسبة بعضهم يقول بفتح التاء وثالث الحروف وبعضهم يقول بضمها وبعضهم يقول بكسرها والمتداول على لسان أهل تلك المدينة بفتح التاء وكسر الميم وكل واحد يقول معنى لما يدعيه
قال ابن خلكان وسألت من رآها هل هي في ناحية خوارزم أم في ناحية ما وراء النهر فقال بل هي في حساب ما وراء النهر من ذلك الجانب انتهى
(1/244)
قال المولى عبد العزيز المحدث الدهلوي المراد في لفظ ما وراء النهر هو نهر بلخ
والسلمي نسبة إلى بني سليم بالتصغير قبيلة من غيلان ذكره ابن عساكر وقال ابن السمعاني ابن شداد بدل ابن الضحاك وقال هو البوغي
وكنيته أبو عيسى واسمه محمد وعيسى اسم أبيه وسورة اسم جده كما في القاموس وهو بفتح السين وسكون الواو وفتح الراء ومعناها في الأصل الحدة ففي القاموس سورة الخ 0 مر حدتها كسوارها بالضم ويكره التسمية بأبي عيسى لما روي أن رجلا سمي بأبي عيسى فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} إن عيسى لا أبا له فكره ذلك لكن حملت الكراهة على التسمية به ابتداء فأما من اشتهر به فلا يكره كما يدل عليه إجماع العلماء على تعبير الترمذي به عن نفسه للتمييز وقد عقد ابن أبي شيبة بابا في مصنفه بهذا اللفظ ما يكره لرجل اكتنى به ثم قال حدثنا الفضل بن دكين عن موسى بن علي عن أبيه أن رجلا اكتنى بأبي عيسى فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن عيسى لا أبا له
وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب ضرب ابنا له اكتنى بأبي عيسى فقال إن عيسى ليس له أب
وفي سنن أبي داود في كتاب الأدب باب الرجل يكتنى أبا عيسى عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب ضرب ابنا له تكنى أبا عيسى وأن المغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى فقال له عمر
أما يكفيك أن تكنى بأبي عبدالله فقال إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كناني فقال إن رسول الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنا في جلجتنا فلم تزل تكنى بأبي عبدالله حتى هلك الجلجلة بجيمين بينهما لام الأمر المضطرب
وبالجملة فأبو عيسى الترمذي أحد الحفاظ المشهورين والأعلام المذكورين أخذ عن البخاري وبه تخرج وعن مسلم وأبي داود وعن شيوخهم بالبصرة والكوفة والواسط والري وخراسان والحجاز
وله تصانيف كثيرة في علم الحديث صنف كتاب الجامع والعلل تصنيف رجل متقن وبه كان يضرب المثل في الحفظ وشارك البخاري في بعض شيوخه مثل قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر وابن بشار وغيرهم
(1/245)
ونقل الحاكم أن البخاري مات ولم يخلف مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد بكى حتى عمي وبقي ضريرا سنين وقيل أنه ولد أكمه وكان مكفوف البصر لقي الصدر الأول من المشايخ كمحمود بن غيلان وأحمد بن منيع ومحمد بن المثنى وسفيان بن وكيع وهو خليفة البخاري أخذ عنه خلق كثير
ومن مناقبه أن البخاري روى عنه حديثا خارج الصحيح وحسبه بذلك فخرا وله في الفقه والحديث يد صالحة وكتابه جامع الصحيح يدل على عظيم قدره واتساع حفظه وكثرة اطلاعه وغاية تبحره في هذا الفن حتى قيل أنه لم يؤلف مثله في هذا الباب ومن تصانيفه شمائل النبي {صلى الله عليه وسلم} وهو أحسن الكتب المؤلفة في هذا الباب كثير الميامن والبركات وقراءته للمهمات مجربة للأكابر الثقات وقد حصل لي بحمد الله تعالى وحسن توفيقه سنده المتصل إلى مؤلفه بعشرة واسطة وهو في نهاية العلو كما قيل ما الفخر عند الرجال إلا بالسند العال
وقد أنشد قاضي القضاة أبوالخير شمس الدين محمد بن محمد الدمشقي الشيرازي المعروف بابن الجرزي صاحب الحصن الحصين رحمه الله تعالى حين تم قراءته في مجلسه الشريف نظم
أخلاي إن شط الحبيب وربعه
وعز تلاقيه وناءت منازله
فإن فاتكم أن تبصروه بعينه
فما فاتكم بالسمع هذي شمائله
وعلى الشمائل شروح كثيرة منها شرح القسطلاني والجلال السيوطي وابن حجر المكي وعلي القاري الهروي وعبد الرؤوف المناوي والشيخ سليمان الجمل وللشيخ إبراهيم المصري الباجوري رحمه الله تعالى عليه حاشية حافلة سماها المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية وعليه شرح للفاضل القنوجي الشيخ عليم الدين القريشي سماه درر الفضائل في شرح الشمائل
الفصل السادس في ترجمة النسائي
(1/246)
أبو عبد الرحمن بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان بن دينار النسائي نسبة إلى نساء بلد بخراسان وقد يقال في نسبته نسوي بقلب الهمزة واوا ولد سنة خمس عشرة وقيل أربع عشرة ومائتين كان أحد أعلام الدين وأركان الحديث إمام أهل عصره ومقدمهم وعمدتهم وقدوتهم بين أصحاب الحديث وجرحه وتعديله معتبر بين العلماء
قال الحاكم سمعت أبا الحسن الدارقطني غير مرة يقول أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بعلم الحديث ويجرح الرواة وتعديلهم في زمانه وكان في غاية من الورع والتقى ألا ترى أنه يروي في سننه عن الحارث بن مسكين هكذا قريء عليه وأنا أسمع ولا يقول في الرواية عنه حدثنا وأخبرنا كما يقول في روايات أخرى عن مشايخه قيل وكان سببه وقوع الخشونة بينه وبين الحارث فكان لا يظهر عليه في مجلسه ويحضر وقت تحديثه مستمعا للحديث مختفيا في زاوية بحيث لا يطلع عليه الحارث وهو يسمع صوته من هناك سمع حميد بن سعدة وعمران بن موسى وهما أول من أخرج له الرباعي في المجتبى وقتيبة ابن سعيد وإسحاق بن إبراهيم وعلي بن حجر وعلي بن حشرم
ومحمد بن بشار وأبي داود السجستاني ومجاهد بن موسى وأحمد ابن عبدة وخلائق من بلاد خراسان والحجاز والعراق والجزيرة والشام ومصر وغيرها وأخذ عنه خلق كثيرمنهم أبو بشر الدولابي وأبوالقاسم الطبراني وأبو جعفر الطحاوي ومحمد بن هارون بن شعيب وأبوالميمون بن راشد وإبراهيم بن محمد بن صالح بن سنان وأبو بكر أحمد بن اسحاق السبني الحافظ
وكان شافعي المذهب وله مناسك على مذهب الإمام الشافعي وكان ورعا متحريا اجتمع به جماعة من الحفاظ والشيوخ منهم عبدالله بن الإمام أحمد بطرطوس وكتبوا كلهم انتخابه وكان أول رحلته إلى قتيبة بن سعيد البلخي وكان إذ ذاك ابن خمس عشرة سنة ومكث عنده سنة وشهرين وأخذ عنه الحديث وكان يواظب على صوم داود
(1/247)
قال أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس صاحب تاريخ مصر في تاريخه أن النسائي قدم مصر قديما وكان إماما في الحديث ثقة ثبتا حافظا وكان خروجه من مصر في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثمائة
قال الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر كان له أربع زوجات يقسم لهن وسراري وكان موصوفا بكثرة الجماع قال ابن خلكان وله كتاب السنن وسكن بمصر وانتشرت بها تصانيفه وأخذ عنه الناس
قال محمد بن اسحاق الاصبهاني سمعت مشايخنا بمصر يقولون إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في آخر عصره وخرج إلى دمشق فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضل وفي رواية أخرى ما أعرف له فضيلة إلا لا أشبع الله بطنك وكان يتشيع فما زالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد وفي رواية أخرى يدفعون في خصيه وداسوه ثم حمل إلى الرملة فمات بها
وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني لما امتحن النسائي بدمشق قال
احملوني إلى مكة فحمل إليها فتوفي بها وهو مدفون بين الصفا والمرة
وقال الحافظ أبو نعيم الاصفهاني لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو منقول قال وكان قد صنف كتاب الخصائص في فضل علي بن أبي طالب وأهل البيت وأكثر رواياته عن أحمد بن حنبل فقيل له ألا تصنف كتابا في فضل الصحابة فقال دخلت دمشق والمنحرف عن علي كثير فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب قال الدارقطني امتحن بدمشق فأدرك الشهادة وتوفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثمائة بمكة حرسها الله تعالى وقيل بالرملة من أرض فلسطين
الفصل السابع في ترجمة ابن ماجه
(1/248)
أبو عبدالله محمد بن يزيد بن عبدالله بن ماجه الربعي بالولاء نسبة إلى ربيعة القزويني الحافظ المشهور مصنف كتاب السنن في الحديث قال أبو يعلي الخليلي ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه محتج به له معرفة وحفظ والصحيح أن ماجه أمه وعلى كلا القولين يكتب الألف على لفظ ابن في الرسم ليلعم أنه وصف لمحمد لا لما يليه فهو مثل عبدالله بن مالك ابن بحينة واسماعيل بن ابراهيم ابن علية
وفي إنجاح الحاجة ماجه على ذكره المجد في القاموس والنووي في تهذيب الأسماء لقب والده لا جده انتهى والصحيح هو الأول
أخذ الحديث عن جبارة بن المفلس وإبراهيم بن المنذر وابن نمير وهشام بن عمار وغيرهم وأكثر استفادته من أبي بكر بن أبي شيبة
ومن تلامذته أبو الحسن القطان صاحب رواية سننه وعيسى الأبهري وغيرهما من الكبار
ولد سنة تسع ومائتين وارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث وله تفسير القرآن الكريم وتأريخ مليح وكتابه في الحديث أحد الصحاح الستة توفي يوم الإثنين ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين وصلى عليه أخوه أبو بكر وتولى دفنه أخواه أبو بكر وعبدالله وابنه عبدالله رحمه الله تعالى
الفصل الثامن في ترجمة الإمام أحمد
الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس الشيباني المروزي ثم البغدادي خرجت أمه من مرو وهي حامل به فولدته في بغداد في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائة وقيل أنه ولد بمرو وحمل إلى بغداد وهو رضيع
(1/249)
وكان إمام المحدثين من أصحاب الشافعي يحفظ ألف ألف حديث ومن خواصه ولم يزل مصاحبه على أن ارتحل الشافعي إلى مصر وقال في حقه خرجت من بغداد وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل رحل في طلب الحديث ودخل مكة والمدينة والشام واليمن والكوفة والبصرة والجزيرة وسمع سفيان بن عينية وإبراهيم بن سعد ويحيى القطان وهشاما ووكيعا وابن علية وابن مهدي وعبد الرزاق وروى عن خلائق لا يحصون
وقال عبد الرحمن بن مهدي انتهى العلم إلى أربعة أحمد بن حنبل وهو أفقههم في الحديث وعلي بن المديني وهو أعلمهم به ويحيى بن معين وهو أكتبهم له وابن أبي بكر بن شيبة وهو أحفظهم له
قال أبو زرعة ما رأيت أحدا أجمع من أحمد بن حنبل وما رأيت
أحدا أكمل منه وقد اجتمع فيه زهد وفقه وفضل وأشياء كثيرة وقال قتيبة هو إمام الدنيا في زمانه
قال عبدالله بن أحمد سمعت أبا زرعة يقول كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث وما رأت عيناي مثله قيل في العلم قال في العلم والزهد والفقه وجميع الحسنات قال أبو داود لقيت نحو مائتي رجل من المشايخ فما وجدت أحدا مثله وقال علي بن المديني ليس في أصحابنا أحد أحفظ من أحمد لأحاديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال إبراهيم الحربي كان الله جمع له علم الأولين والآخرين وقال إسحاق أحمد حجة بين الله وخلقه وقال الشافعي أحمد إمام في ثمان خصال إمام في الحديث إمام في الفقه إمام في القرآن إمام في اللغة إمام في السنة إمام في الزهد إمام في الورع إمام في الفقر وقال أبو ثور أجمع المسلمون على أحمد بن حنبل وكنت إذ رأيته خيل إليك أن الشريعة لوح بين عينيه
وقال علي بن المديني إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث أبو بكر يوم الردة وأحمد يوم المحنة وما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما قام أحمد لأنه قام ولا أعوان له
(1/250)
وقال علي بن شعيب الطوسي كان أحمد عندنا المثل الذي قال فيه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كان في أمتي ما كان في بني إسرائيل حتى أن المنشار لو وضع على مفرق رأسه ما يصرفه ذلك عن دينه ولولا أحمد بن حنبل قام بهذا الشأن لكان عارا علينا يوم القيامة وأصل أمر المحنة على اختصار أن القاضي أحمد بن داود أحد رؤساء المعتزلة دس إلى المأمون القول بخلق القرآن إلى أن رسخ ذلك في قلبه وأجمع رأيه في سنة ثماني عشرة ومائتين على الدعاء عليه وكتب إلى نائبه على بغداد اسحاق بن إبراهيم الخزاعي في امتحان العلماء وحملهم على القول بخلق القرآن بقهر السيف إن لم يجيبوا طوعا فكان منهم وارى ومنهم من وري ومنهم من أجاب تقية ومنهم من صمم على معتقد الحق فرزق الشهادة وأمره أن يشخص إليه جماعة منهم أحمد بن حنبل
ولما بلغ أحمد إلى الرقة وافاه خبر موت المأمون بطوس فرجع إلى بغداد وكتب المأمون وصية في تحريص الخليفة بعده على حمل الناس على خلق القرآن ولما استقر المعتصم في الخلافة سجن أحمد وضربه على يده وكان مكثه في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن خلي عنه ثمانية وعشرون شهرا ومرض سبعة أيام فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض صدر النهار سنة إحدى وأربعين ومائتين قال ابن خلكان ودعى إلى القول بخلق القرآن فلم يجب فضرب وحبس وهو مقر على الامتناع وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين
وكان حسن الوجه ربعة يخضب بالحناء خضبا ليس بالقاني في لحيته شعيرات سود
(1/251)
أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل منهم محمد بن اسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري ولم يكن في آخر عصره مثله في العلم والورع توفي ضحوة نهار الجمعة اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول وقيل بل لثلاث عشرة ليلة بقين منه وقيل من ربيع الآخر ببغداد ودفن بمقبرة باب حرب وهو منسوب إلى حرب بن عبدالله أحد أصحاب أبي جعفر المنصور وإلى حرب هذا تنسب المحلة المعروفة بالحربية وقبر أحمد مشهور بها يزار وحرز من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف ومن النساء ستين ألف وقيل أنه أسلم يوم مات عشرون ألفا من النصارى واليهود والمجوس انتهى قال ابن أبي حاتم سمعت أبا زرعة يقول بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة على الإمام أحمد فبلغ مقام ألفي ألف وخمس مائة ألف قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين وكان بها أي ببغداد إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علما وحديثا وسنة حتى أن أئمة علم الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة
وكان رضي الله عنه شديد الكراهة لتصنيف الكتب وكان يحب تجريد الحديث ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جدا فعلم الله حسن نيته
(1/252)
وقصد فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفرا ومن الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل وجمع الحلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفرا أو أكثر ورويت فتاواه ومسائله وحدث بها قرنا بعد قرن فصارت إماما وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم حتى أن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره ليعظمون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة ومن تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة على كل منها على الأخرى ورأى الجمع كأنها تخرج من مشكاة واحدة حتى أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان وكان تحريه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاواه ونصوصه حتى أنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل
وكان فتاواه مبنية على خمس أصول أحدها النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه كائنا من كان الثاني ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ولم يقل أن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول لا أعلم شيئا يدفعه أو نحو هذا الثالث إذا اختلفت الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقول الرابع الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس الخامس القياس استعمله للضرورة وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر على السلف انتهى ملخصا وفي وفيات الأعيان ذكر ابن الجوزي في كتابه الذي صنفه في أخبار بشر بن الحارث ما صورته حدث إبراهيم الحربي قال رأيت بشر الحافي في المنام كأنه خارج من باب مسجد رصافة وفي كمه شيء يتحرك فقلت ما فعل الله بك فقال غفر لي وأكرمني فقلت ما هذا الذي في كمك قال قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنثر عليه
(1/253)
الدر والياقوت فهذا مما التقطت قلت فما فعل يحيى بن معين وأحمد ابن حنبل قال تركتهما وقد زارا رب العالمين ووضعت لهما الموائد قلت فلم لم تأكل معهما أنت قال عرف هوان الطعام علي فأباحني النظر إلى وجهه الكريم انتهى
قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات ما نصه بالعربية كان أحمد قدوة في الحديث والفقه والزهد والورع والعبادة وبه عرف الصحيح من السقيم والمجروح من المعدل قال أحمد بن سعيد الدارمي ما رأيت شابا أحفظ منه لحديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقال أبو داود المجالسة مع أحمد مجالسة الآخرة لم يكن شيء يذكر من أمور الدنيا في مجلسه قيل اختار الفقر وصبر عليه سبعين سنة ولم يقبل في تلك المدة قط شيئا من أحد قال محمد بن موسى أرسل من مصر إلى حسن بن عبد العزيز ببغداد ميراثه مائة ألف دينار فأهدى منه ثلاثمائة دينار إلى أحمد وقال إن هذا المال وصل إلي ميراثا من وجه الحلال فخذه وانفقه في عيالك قال مالي إليه حاجة ولم يأخذ منه شيئا ومن أقوى الحجج وأسنى البراهين على علو مقام هذا الإمام الأجل الأكرم ورفعة مكانه وقوة مذهبه واجتهاده أن الغوث الأعظم والقطب الأفخم الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه حامل مذهبه وتابع أقواله ولذلك ثبت ذكره في الحنابلة وكان حنبليا على المشهور المقرر انتهى
وبالجملة فتصانيف أحمد كثيرة منها التفسير المبسوط وكتاب الزهد وكتاب الناسخ والمنسوخ وكتاب المنسك الكببير وكتاب المنسك الصغير وكتاب حديث شعبة وفضائل الصحابة عموما وفضائل أبي بكر الصديق وفضائل الحسين خصوصا وكتاب التاريخ وكتاب الأشربة قال صاحب البستان وهذه المصنفات كلها من قبيل الفوائد الدينية التي يشاركه فيها سائر المحدثين بل فاقوا عليه وليست في أصول المذهب ومأخذه كموطأ مالك فليعلم انتهى وقد جمع في مسنده من الحديث مالم يتفق لغيره قال ابن الجوزي مسنده ثلاثون ألفا وبزيادة ابنه عبدالله أربعون ألف حديث قال صالح ابن الإمام أحمد حججت
(1/254)
خمس مرات ثلاث منها راجلا وأنفقت في إحداهن ثلاثين درهما فما رأيت أبي قط اشترى رمانا ولا سفرجلا ولا شيئا من الفواكه إلا أن يشتري بطيخة فيأكلها بخبز أو عنب أو تمركثيرا ما كان يأتدم بالخل حرزت كتبه فبلغت اثني عشر حملا وعدلا كل ذلك يحفظه عن ظهر قلب ومناقبه أكثر من أن تحصر
ومقصودي الإشارة إلى أطراف المقاصد وهذا قليل من كثير أحوال هؤلاء الأئمة يستدل به على جلالة قدرهم وعلو مرتبتهم في هذا العلم في الأمة ولو فتحنا أبواب تعديد مناقبهم الجمة لخرجنا عن غرض الاختصار ولاستغرقت مآثرهم الجميلة الزبر الكبار شعر
وهممت أن أصف الحمى وبروقه
لكن من الأشياء ما لا يوصف
خاتمة
في ترجمتي وذكر أسانيدي للعلوم الدرسية العقلية وما أنا باد بهذا الوادي وأول مدير لذاك الرحيق في النادي بل عملت بسنة الأئمة الهداة وسلكت مسلك العلماء الثقات وأتيت بجذوة من نار موقدة في سبل السراة كالجلال السيوطي والشمس السخاوي وعبد الرحمن بن عيسى العمري وآزاد البلكرامي وغيرهم رضي الله عنهم فأقول وبالله أحول وأصول أولاني الله تعالى خلعة العناصر والوجود وأراني بعين عنايته عالم المظاهر في مناظر الشهود يوم الأحد وقت الضحى التاسع عشر من جميد الأولى سنة ثمان وأربعين بعد ألف ومائتين من هجرة سيد ولد آدم ببلدة باس بريلي موطن جدي القريب من جهة الأم شعر
بلاد بها حل الزمان تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
(1/255)
ثم جئت مع أمي الكريمة من بريلي إلى قنوج موطن آبائي الراقين سماء العلى والأوج وهي بلدة قديمة ذكرها المجد في القاموس وهذا لفظه المانوس قنوج كسنور بلد بالهند فتحه محمود بن سبكتكين انتهى وأما الهند ففتحت في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد ابن قاسم الثقفي سنة اثنتين وتسعين الهجرية وبلغت راياته المظلة على الفوج سنة خمس وتسعين من حدود السند إلى أقصى قنوج وكانت البلدة في ذلك الزمان فائقة البلدان كلها في كل شان من الماء والخضراء والريحان وكثرة الدول والصنائع والفنون وتوفر الحكماء والأعيان حتى عادت اليوم كما ترى ناضبة الماء ذاهبة الرواء خاوية على عروشها طاوية كشحها عن عزبها وعروسها كأن لم تغن بالأمس ولم تطلع عليها قط الشمس شعر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بل نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والخطوب الزواجر
فسبحان الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهي الآن في إيدي النصارى ) وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( شعر
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
(1/256)
وبالجملة فلما طعنت في السنة السادسة من عمري لبى والدي الأجل داعي الأجل وكان ربيع شبابه خضرا وريحان حياته نضرا فإنا لله وإنا إليه راجعون ) وإنا إلى ربنا لمنقلبون ( وبقيت إذا ذاك في حجر والدتي يتيما فقيرا غفر الله لي ولوالدي ولمن توالد ورحمهما كما ربياني صغيرا إلى أن طويت منازل الصبا ودخلت مسارح النشو والنما وقرأت من الفارسية والصرف والنحو بعض رسائلها وأتقنت نبذة من مسائلها ميزت بها في الغث والسمين وفرقت بين السين والشين ثم نزلت ببلدة كانبور ورتعت في مروج الشهود والحضور وقرأت هناك ما تيسر لي من أوائل الفنون وجدال تلك العيون كالفوائد الضيائية ومختصر المعاني وغيرها من من كتب المعاني والمباني حتى نشأت في داعية العلم الصادقة وحصلت لي قوة المطالعة الواثقة وطبعي أستلذ بالعلم والفضل وروعي تنفر من اللغو والجهل وعزمت على السير متوكلا على موافق الخير فجئت الأوطان وودعت الإخوان وسافرت مشمرا عن ساق الجد لتحصيل العلوم وشددت الرحل إلى دهلي دار العلم لفض الختام عن هذا الرحيق المختوم وألقيت بها عصا التسيار وحضرت مختبرا مدارس العلم ودور الكبار فاخترت من بينهم لتكميل هذا الشأن جناب من هو مخدوم الأعيان ونخبة الأزمان مولاي العلامة وأستاذي التكلامة غورة العلوم التي لا ينادى وليدها وخضارة الفنون التي لا يحصى طارفها وتليدها مستجمع الفضائل المجمع
عليها منتجع الفواضل المرجع إليها مولانا المفتي محمد صدر الدين خان بهادر لا زال بالمجد والعلى والتفاخر وطويت عنده كشح الأدب واستفدت منه بقية الكتب ومدة هذا الاكتساب سنتان ولولا السنتان لهلك النعمان ولما ختم الدرس وتم الأمر وقضي المقصد أعطاني بخاتمه بطاقة السند عدت بها إلى الوطن والعود أحمد
(1/257)
وهذه نسختها المولى السيد صديق حسن القنوجي له ذهن سليم وقوة الحافظه وفهم ثاقب ومناسبة تامة بالكتاب ومطالعة صحيحه واستعداد كامل قد اكتسب مني كتب المعقول الرسمية منطقها وحكمتها ومن علم الدين كثيرا من البخاري وقليلا من تفسير البيضاوي وهو مع ذلك ممتاز بين أماثله والأقران فائق عليهم في الحياء والرشد والسعادة والصلاح وطيب النفس وصفاء الطينة والغربة والأهلية وكل الشأن انتهى
ويعنى بكثير من البخاري نحو خمسة أجزاء منه على طريق البحث والحل دون السرد البحت في المثل وبقليل من البيضاوس سورة البقرة من تفسير ناصر الدين القاضي وهو مد ظله تلمذ على الشاه عبد العزيز والمولى رفيع الدين الدهلوي وفاق في جمع متفرقات العلوم على كل كامل ومنتهي ثم تفكرت بعد ذلك في أمر القوت الذي لا بد منه لكل حي يموت وقد قال تعالى ) فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ( فخرجت من الوطن واعتمادي على هذا النص وصدقه طالبا للرزق الحلال مجتنبا عن أكل باطل الأموال متوكلا على بركة الله مستعينا به في كل ما أهواه فطفت البلاد وجبت الأغوار والأنجاد وقطعت المنازل الواسعة وطويت المراحل الشاسعة شعر
يوما بحزى ويوما بالعقيق ويو
ما بالعذيب ويوما بالخليصاء
حتى أنزلني سائق التقدير وأقعدني قائد التدبير ببلدة بهوبال المحروسة قاعدة الآمال المحسوسة دار الحكومة لرئيستها ذات الوجاهة والكرم نواب سكندر بيكم دام مجدها المعظم ما غرد القمري وترنم شعر
بلد أغارته الحمامة طوقها
وكساه ريش جناحه الطاوس
فكأنما الأنهار فيه مدامة
وكأن ساحات الديار كؤوس
فأصبت فيها من الرزق ما كان مقسوما ميسورا ثم تزوجت بها وكان أمر الله قدرا مقدورا نظم
إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي
(1/258)
فها أنا إلى ما شاء الله تعالى نزيلها لا زال جمالها وجميلها وقد صحبت ههنا صاحبي ذي العلم المقنع والحلم البالغ والفضل اللامع والشرف البازغ صاحب الفضائل المشهودة والفواضل المحسودة كرشي وعيبتي في حضرتي وغيبتي الشيخ زين العابدين بن محسن بن محمد الأنصاري الحديدي نزيل بهوبال ومفتيها في الحال وقرأت عليه في تلك الفرصة القليلة ومدة التحديث نبذة صالحة من كتب الحديث أبقاه الله بالإفاضة وهذه نسخة الإجازة
الحمد لله الذي أجازنا بنعمة الجمة الصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أذهب الله به الغمة وعلى آله وصحبه الذين كشفوا بنور أحاديثهم حلك الليالي المدلهمة وعلى التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان وغيرهم من الأئمة وبعد فقد قرأ على السيد الجليل والعالم النبيل علم المآثر والمفاخر سلالة السادة الأكابر نخبة أهل البيت المبرى كيت وذ 0 يت حبي في الله ربي المولى السيد صديق حسن القنوجي حرسه الله عن آفات الحدثان وخصه بمزيد العلم والعرفان الجامع الصحيح لمسلم والسنن للترمذي والسنن لابن ماجه والسنن للنسائي والدراري المضيئة شرح الدرر البهية للإمام محمد بن علي الشوكاني من أولها إلى آخرها مع الضبط والاتقان على طريق أهل الإيقان والاذعان وغب ذلك طلب مني الإجازة فيما هنالك لحسن ظن منه وإن كنت لست أهلا لذلك فأقول وبالله أحول وأصول إني قد أجزت السيد الممدوح بإقراء ما قرأ علي وغير ذلك من كتب الصحاح والمسانيد ودواوين الإسلام المفصلة في أسانيد مشايخنا الكرام وأوصيه بتقوى الله ذي المنن في السر والعلن وأن يبغض لله ويحب لله
وأن لا ينساني من دعواته في خلواته وجلواته والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا
(1/259)
ثم حصل لي بعد ذلك سند القرآن العظيم وكتب الحديث وغير ذلك عن القدوة في الدين الشيخ الصالح باليقين العالم العامل والعارف الواصل بقية الصالحين وعمدة المتقين محبوب المحب ومحب المحبوب مولانا محمد يعقوب نزيل مكة المكرمة أبقاهم الله تعالى بالخير وصانهم عن كل ضير وهو هذا
الحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على خير خلقه سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين أما بعد فيقول الفقير إلى الله تعالى محمد يعقوب العمري نسبا والحنفي مذهبا والنقشبندي طريقة أني قد أجزت المولى السيد صديق حسن القنوجي تامة عامة بحق ما تجوز لي روايته ودرايته من جميع العلوم نقليها وعقليها خصوصا سند القرآن العظيم وسائركتب التفاسير والأحاديث والأخبار والآثار والأدعية والأذكار والطرائق والأشغال وما حوت اثبات شيوخي وشيوخهم فصاعدا إلى النبي الكريم {صلى الله عليه وسلم} ورضي الله عنهم أجمعين حررت في شهر صفر سنة 1281 الهجرية في مكة المشرفة انتهى بحروفه
ثم إني بحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات قرأت بقية الكتب الحديثية الآتي ذكرها على شيخي وثقتي بقية السلف الصلحاء تذكار العرب العرباء سباق الغايات صاحب الآيات عمدة الخيرة زبدة المهرة نخبة البررة ناصر السنة ماحي البدعة حاوي الكمالات الوافرة مستجمع العلوم والمبرات النافعة في الأولى والآخرة العارف الذكي عارضة الأحوذي أعز الأحبة في الله وأحب الأعزة في ذات الله عين الإنسان وإنسان العين مولانا الشيخ حسين بن القاضي العلامة محسن بن محمد السبعي الأنصاري لا زال فضلهم كالكوثر الجاري وأيضا رويت عنه بعض مسلسلات الأحاديث ومؤلفات
الإمام أبي العباس ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية رضي الله عنهما وقد أجازني بجميع مروياته من مسموعاته ومقرؤاته كما يلوح من كتابه هذه التي كتبها لي بخطه الشريف
(1/260)
نحمدك يا من إذا وقف العبد ببابه رفعه وإذا انقطع إليه وصله وجمعه وأصلي وأسلم على نبيك محمد القائل بلغوا عني ولو آية وعلى آله وصحبه حملة العلم ونقلة الدراية أما بعد فإنه لقيني وقرأ على الأخ العلامة الأكمل والفهامة المبجل صاحب الفضائل المشهورة ومحط السيادة المأثورة روح جثمان الأدب شريف النسب والحسب الجامع الشرفين السامي على الفرقدين السيد الأجل والشريف المبجل المتفرغ من دوحة الفضل والعلوم المترعرع من شنشنة صاحب السر المكتوم صديق حسن ابن السيد أولاد حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي صحيح البخاري من أوله إلى آخره وموطأ الإمام مالك بكماله وبلوغ المرام للحافظ ابن حجر العسقلاني وشمائل الترمذي وسنن أبي داود كله وأوليات الشيخ سعيد سنبل ومسلسلات شيخنا الشريف المحدث العلامة محمد بن ناصر الحسيني الحازمي فوجدته فهما عالما ذكيا ولقيته المعيا ورأيته متبعا راغبا حفيا وطلب مني الإجازة بعد القراءة والسماع ووصل سنده بسند أهل الجد والاتباع مع أني لست من فرسان هذا الميدان ولا ممن له في السباحة يدان ولكن تحقيقا لظنه ومرغوبه وإسعافا له بمطلوبه شعر
وإذا أجزت مع القصور فإنني
أرجو التشبه بالذين أجازوا
السالكين إلى الحقيقة منهجا
سبقوا إلى غرف الجنان ففازوا
فأقول وبالله أعتصم مما يصم أني قد أجزت السيد الإمام المذكور في كل ما تجوز لي روايته وتمكن مني درايته من تفسير وحديث وأحزاب وأوراد وغير ذلك كما قرأت وأخذت وأجازني بها مشايخي الأجلاء الأعلام عليهم رحمه الله العزيز العلام فأولهم شيخي ومرشدي السيد العلامة ذو المنهج الأعدل حسن بن عبد الباري الأهدل وشيخي الشريف العلامة المحدث محمد ناصر الحازمي الحسيني كلاهما عن شيخهما الشيخ
(1/261)
الإسلام مفتي الأنام بالديار اليمنية السيد العلامة الأمثل عبد الرحمن بن سليمان مقبول الأهدل بسنده المعروف في ثبته المشهور ويروي شيخنا محمد بن ناصر بالقراءة والسماع والإجازة عن شيخه العلامة خاتمة المحدثين بصنعاء اليمن محمد بن علي بن محمد الشوكاني بسنده المشهور بإسناد الدفاتر في أسانيد السادة الأكابر وشيخه العلامة المحدث بصنعاء اليمن محمد بن علي العمراني عن شيخه العلامة المحدث أحمد بن محمد قاطن بسنده المعروف في ثبته المشهور وشيخه العلامة المحدث محمد عابد بن الشيخ أحمد علي السندي نزيل المدينة المنورة بسنده المشهور بحصر الشارد فيما حواه أسانيد محمد عابد وشيخه العلامة محمد إسحاق الدهلوي بمكة المشرفة عن شيخه مولانا عبد العزيز المحدث الدهلوي عن والده مولانا الشاه ولي الله الدهلوي بسنده المعروف في ثبته المشهور وشيخي شيخ الإسلام ومفتي الأنام بمدينة زبيد حالا سليمان بن محمد بن عبد الرحمن بن سليمان وقد أجازني إجازة عامة بخطه الشريف وأحال تفصيل ذلك على تفصيل ثبت جده شيخ الإسلام عبد الرحمن بن سليمان وشيخي وأخي القاضي العلامة النور الساري محمد بن محسن بن محمد الأنصاري عن شيخه العلامة أحمد بن محمد بن علي الشوكاني عن والده بسنده المذكور سابقا وعن شيخه وشيخي السيد العلامة ذي المنهج الأعدل حسن بن عبد الباري الأهدل عن شيخه ذي القدر الأجل السيد عبد الرحمن بن سليمان مقبول الأهدل بسنده المذكور سابقا وثبت كل من المذكورين جامع لجميع أصناف العلوم من حديث وتفسير وفقه وآلاتها والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغريب اللغة والحديث وغير ذلك وأما أوليات الشيخ العلامة سعيد
سنبل فارويها بالقراءة من شيخنا الشريف المحدث محمد بن ناصر الحازمي وهو يرويها بالقراءة والإجازة من شيخه محمد عابد المدني عن مؤلفها الشيخ سعيد سنبل
(1/262)
وقد كتب السيد صديق حسن إسناد الأمهات الست واليضاوي والجلالين وبلوغ المرام وبعض مسلسلات شيخنا الشريف محمد بن ناصر ومسند الدارمي وموطأ الإمام مالك وتيسير الوصول وشمائل الترمذي إلى مؤلفيها المتيسرة الآن عندي لأن الميسور لا يسقط بالمعسور وقد أجزت السيد المذكور في كل باب وأذنت له في رواية ذلك كما أجازني بذلك المشايخ المذكورون الأعلام سلك الله بي وبه المنهج الأعدل وجنبني وإياه طريق الدحض والزلل بطريقه المعتبر عند أهل الأثر وأسأله أن لا ينساني من دعواته في خلواته وجلواته وأن لا يألوا جهدا في نشر الحديث وتعليمه بقدر طاقته وأن يحب في الله ويبغض في الله وأوصيه بتقوى الله فإنها ملاك الأمر وعليها تدور رحى الدين بالأسر والله الموفق لما هناك وبيده أزمة الهدى إلى ذلك إنه على ما يشاء قدير وبعبادة الموفق لطيف خبير ) سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ( وصلى الله تعالى على خير خلقه سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين قاله بلسانه وحرره ببنانه العبد الفقير الحقير المحتاج إلى ربه العزيز الباري حسين بن محسن بن محمد اليمني الأنصاري تاب الله عليه ووفقه للصالحات بمنه وكرمه آمين انتهى كلامه سلمه الله تعالى وأبقاه وإلى مدارج العلى رقاه
وأسانيدي هذه للعلوم الشرعية سيما الكتاب وكتب السنة السنية متصلة إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالسند الصحيح الثابت المستفيض المتصل المسلسل إليه صلوات الله وسلامه عليه كما هو الظاهر ولله الحمد
(1/263)
وأما تآلفي فيما يتعلق بالعلوم الإسلامية وغيرها فهي تعم العربية والفارسية والهندية ما بين مختصر منها ومطول ولي في كل هذه الألسنة يد صالحة وجارحة عاملة بحمده تعالى فمن العربية هذه الرسالة المسماة بالحطة والنفخة الأحمدية شرح الدرر البهية للإمام محمد الشوكاني والجنة في مسألة العمل بالسنة والتنقيد في حكم التقليد وقضاء الأرب في مسألة النسب وشرح أبيات التثبيت للشيخ جلال الدين السيوطي وربيع الأدب في إنشاء العرب وشرح مختصر الميزان المسمى بقسطاس الأذهان وغير ذلك ومن الفارسية الندية شرح الدرر البهية وهذا أكبر من ذاك وجنان المتقين في ضبط مؤلفات المحدثين والرمح المصقول على من سب الرسول وتكحيل العيون بتعاريف العلوم والفنون وإحياء الميت بمناقب أهل البيت واقتراب الساعة والصافية شرح الشافية والتذهيب في شرح التهذيب في النحو وبشنويد في مسألة الكفاءة وبرد الأكباد شرح قصيدة بانت سعاد وغير ذلك ومن الهندية عين اليقين ترجمة الأربعين في أصول الدين للغزالي وخير القرين ترجمة حبل المتين لخواجه محمد الحنفي في الحديث وتحفة الصائمين وجامع السعادات وكشف الالتباس وقطع الأوصال ترجمة قصر الآمال بذكر الحال والمآل وغير ذلك ويزيد الله في خلقه ما يشاء
(1/264)
وأما الكتب التي عثرت عليها وطالعتها واستفدت منها ومارستها فهي كثيرة جمة تزيد على آلاف وإنما المذكور ههنا الكتب التي قرأناها وحصل لنا سندها على الطريق المقرر عند أهل العلم دون جملة الكتب وقد رزقت بحمده سبحانه طبعا سليما لا اعوجاج فيه وقلبا مستقيما لا انزعاج معه أحب العلم وأهليه وعليه جبلت وأبغض الجهل وذويه وله خلقت حتى حصلت منه على ذوق لا استطيع أن أعبر عنه بلفظ مفهم وإن عبرت ولم آل جهدا لم آت بمعنى مفحم وأرى أنه ليس لعلماء الباطن ذوق في أمرهم إلا مثله فيضيقون ذرعا أن يعبروا عنه وإن عبروا عابوا أهله وقد رزقني الله تعالى محض إنصاف لا مزاج له في أمر الدين وأولاني بحت عدل لا قراح معه في سلوك الشرع المبين وظني أنه لم يرزقه إلا
القرون الأولى اللهم إلا ما شاء الله تعالى كيف وكثيرا ما يتفق لي إلى الآن أني أمتنع عن الستة الضرورية للإنسان عند غوصي في بحار العلوم ولدى خوضي في منطوقها والمفهوم كما قيل في المنظوم نظم
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
إذا شكت من كلال السير واعدها
روح القلوب فتحيي عند ميعاد
وهذا الذي يعوقني كل زمان عن صحبة أهل الزمان إلا في أوقات قليلات وساعات قصيرات تعتري فيها الحاجات وتعن الضرورات وقد طالت في هذا العصر العلة وطابت العزلة فليس في اللقاء والحركة هذا الآن نفع ولا بركة والا نقطاع أريح متاع والاجتماع جالب للصداع والاختلاط محرك الأخلاط والوحشة استئناس وأجمع للحواس فهذا زمان السكوت وملازمة البيوت فالحر حر وإن مسه الضر والعبد عبد وإن مشى على الدر نظم
صبرت على بعض الأذى خوف كله
ودافعت عن نفسي لنفسي فعزت
وجرعتها المكروه حتى تدربت
ولو لم أجرعها إذن لاشمأزت
ألا رب ذل ساق للنفس عزة
ويا رب نفس بالتذلل عزت
إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى
إلى غير من قال اسألوني شلت
فاصبر جهدي إن في الصبر عزة
وأرضي بدنياي وإن هي قلت
(1/265)
والله تعالى أسأله أن يرزقني شهادة في سبيله ويجعل موتي في بلد رسوله إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير وليكن هذا آخر ما أردت إيراده في هذه الرسالة على سبيل الارتجال والعجالة وقد انتهى إلى البياض واستراح اليراع المرتاض عن كتابة هذه المقالة في رمضان المبارك سنة اثنتين وثمانين بعد المائتين والألف من هجرة من كان يروي أمامه والخلف صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم وتابعي تابعيهم وأهل الحديث الناسجين على منواله ما تلعلع قمر وازدهى وإلى غاية كماله انتهى(1/266)