الحديث المعلول قواعد وضوابط
الحديث المعلول
قواعد وضوابط
بقلم
د. حمزة عبدالله المليباري
الطبعة الثانية
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لقد سبق في القسم الأول من هذا الكتاب إشارة سريعة إلى مواضيع ذات أهمية بالغة، ومنها: ترتيب علوم الحديث ومصطلحاتها حسب وحداتها الموضوعية، وإذا نظرنا في حقيقة هذا الترتيب المقترح، وبعده العلمي والمنهجي، نجده مطلبا ملحا للجميع، إذ تكمن في ذلك حلول مقنعة لكثير من الإشكالات والشبهات التي تكتنف مجموعة كبيرة من المصطلحات والمسائل في علوم الحديث، نتيجة تناولها في مواطن مختلفة بحيث لا تظهر للقارئ صلة بعضها ببعض .
ولكي يتجسد هذا الموضوع بأبعاده الحقيقية أمام القارئ رأيت أن أجعل في آخر الكتاب مسألة (العلة) أول الملحقين؛ كنموذج تطبيقي، تتضح من خلاله ضرورة ترتيب مسائل علوم الحديث على وحداتها الموضوعية، وأهمية ذلك في فهم ما تضمنت مصطلحاتها من الأبعاد النقدية فهما صحيحا؛ وذلك لأن مسائل العلة كانت مرتبة في هذا الملحق حسب وحدتها الموضوعية، بعد أن كانت مفرقة في مواطن مختلفة من كتب المصطلح، بحيث يصعب على القارئ معرفة الصلة فيما بينها. ولا شك في أن علوم الحديث تزداد تعقيدا حين تكون مصطلحاتها وتعريفاتها محل تركيز واهتمام في الطرح والتحليل لدى كثير من المؤلفين، بعيدا عن قضاياها الجوهرية، ومعانيها المشتركة، وصلة بعضها ببعض، الأمر الذي يجعل المتفق منها مفترقا، والمفترق منها متفقا، والمطلق منها مقيدا، والمقيد مطلقا.
ولهذه الأهمية آثرت كتاب ( الحديث المعلول ) - وإن كان طويلا - بعد مزيد من التنقيح لوضعه أول ملحقي كتاب (نظرات جديدة في علوم الحديث)، حيث كان هذا الملحق قد عالج جميع ما يتصل بمسألة ( العلة ) من المصطلحات، في ضوء وحدتها العلمية، بحيث يبرز للقارئ معناها المشترك من خلال هذا التنسيق الموضوعي، وقد كانت هذه المصطلحات مفرقة في كتب المصطلح ، الأمر الذي يخيل إلى القارئ أن كلا من هذه المصطلحات قسيم للآخر، أو أنها أنواع مستقلة ؛ فـ''العلة'' تصبح عنده غير '' الشاذ ''، و''المنكر'' يعده نوعا آخر لا صلة له بشيء منهما.
معنى العلة لغة .
معنى العلة عند نقاد الحديث .
ميدان وقوع العلة .
التلازم بين العلة وبين القدح في الصحة .
حديث الضعيف وتعريف العلة .
الدقة والتكامل من سمات منهج المحدثين في نقد الأحاديث .
أمثلة تطبيقية لمعنى العلة :
أ - المثال الأول .
ب - المثال الثاني .
ج - المثال الثالث .
دلائل العلة وما يتصل بها من المصطلحات :
أ - المخالفة وما يتصل بها من المسائل والمصطلحات .
ب - التفرد وما يتصل به من المسائل والمصطلحات .(1/2)
معنى كلمة العلة في اللغة
'' المعلول '' اسم مفعول من ''عَلََّه'' يعُله و يعِله ، إذا سقاه السقية الثانية، و يتعدى بنفسه، كما في الأمثلة، و لا يتعدى، كـ''علّ'' ''يَعِلّ'' و''يَعُلّ'' ، وعلّت الإبل تَعِلّ و تَعُلّ إذا شربت الشَّربة الثانية. فمعنى ''علّه'' سقاه مرة بعد أخرى، ومنه قوله : ''جزيل عطائك المعلول '' ، يعني عطاء الله مضاعف يَعُلّ به عباده مرة بعد أخرى .
وعلى هذا فما مدى صحة إطلاق المحدثين وغيرهم ''المعلول'' على الحديث الذي فيه خطأ ؟ وهل هو لحن كما صرح به كثير من المتأخرين ؟ إذ لا تلاقي بين المعنى الاصطلاحي والمعنى اللغوي ؟ ففي القاموس: العلة المرض ، علّ واعتلّ ، وأعلّه الله فهو معلّ و عليل و لا يقال : ''معلول''
وكان المحدثون يقولون في الفعل: ''أعلّه فلان بكذا '' و قياسه ''معلّ'' ، وهو المعروف في اللغة ، قال الجوهري :''لا أعلّك الله '' ، أي لا أصابك بعلّة .
غير أنه يظهر مما قاله صاحب المحكم ابن سيده وجه يمكن اعتماده في تصحيح الاستعمال الذي اشتهر به المحدثون؛ كالبخاري و الترمذي و الدار قطني و غيرهم من إطلاقهم ''المعلول''، وهذا نصه :
(واستعمل أبو إسحاق لفظة '' المعلول'' في المتقارب من العَرُوض ،فقال: وإذا كان بناء المتقارِب على فَعُولُن فلا بد من أن يبقى فيه سبب غير معلول. والمتكلمون يستعملون لفظة ''المعلول'' في مثل هذا كثيرا ، وبالجملة فلست منها على ثقة و لا ثَلَج ، لأن المعروف إنما هو '' أعلّه الله فهو معلّ ''، اللهم إلا أن يكون على ما ذهب إليه سيبويه من قولهم : ''مجنون''، و''مسلول'' ، من أنهما جاءا على ''جننته'' و''سللته'' ولم يستعملا في الكلام، استغنى عنهما بأفعلت، وإذا قالوا جُنَّ وسُلّ فإنما يقولون : جعل فيه الجنون و السُّلُّ، كما قالوا : حُزِن وفُسِل)(1).
وقال الجوهري في الصحاح : ''والعلة : المرض، وحدث يشغل صاحبه عن وجهه، كأن تلك العلة صارت شغلا ثانيا منعه شغله الأول، واعتل ، أي مرض ، فهو عليل، ولا أعلك الله ، أي لا أصابك بعلة ، وعل الشيء فهو معلول''(2)، يعني من العلة ، ونص جماعة من اللغويين أن المعلول ثلاثي ، علَّ الإنسان علة مرض ، وعلَّ الشيءُ أصابته العلة، عل يعل واعتل أي مرض فهو عليل، وأعله الله ، ولا أعلك الله أي لا أصابك بعلة .انتهى فبهذا أصبح المعلول استعمالا صحيحا لغويا.
و أما قول بعضهم ''معلّل'' فهو على سبيل الاستعارة و إلا فهو من علله ، بمعنى ألهاه بالشيء و شغله به (3) .
__________
(1) - انظر لسان العرب 11/471
(2) - الصحاح ، مادة علل ، 5/1773 - 1774
(3) - انظر فتح المغيث للسخاوي 1/259-260 471 .(1/3)
معنى العلة عند النقاد
من تتبع كتب العلل وأمعن النظر في محتواها وجد معنى العلة في هذه الكتب يدور على نقطة واحدة، وهي خطأ الراوي - سواء أكان ثقة أم ضعيفا ، سواء أكان الوهم فيما يتعلق بالإسناد أم في المتن - ، وذلك لأن هذه الكتب كانت مرتكزة على ذكر الأحاديث التي أخطأ فيها الثقة والضعيف غير الوضاع، سواء بسواء . وبالتالي يمكن تحديد معنى العلة في ضوء عمل النقاد بأنه عبارة عن خطأ الراوي، وأنه لا ينبغي حصر العلة في أحاديث الثقات وحدها، بل تنطبق العلة على ما رواه الضعيف أيضا .
غير أن خطأ الراوي الثقة يكون أغمض، وأخفى من خطأ الضعيف، وذلك واضح وجلي إذا اعتبرنا الأمر الغالب فيهما، وهو بالنسبة إلى الثقة كثرة الصواب، وبالنسبة إلى الضعيف كثرة الخطأ، وكل يقدر بقدر مروياته؛ ولذلك فإن ما تفرد به الثقة أو خالفه فيه غيره من الأحاديث، يميل القلب إلى تصديقه، ولا يكون خطؤه في ذلك سهل التسليم بالنسبة إلى الباحث العادي، حيث إن الأمر الغالب فيه هو الصواب، وأما الضعيف فلا يكون كذلك نظرا لكونه كثير الخطأ والوهم.
وبهذا يتجلى تفاوت رتبهما في سلم الجرح والتعديل؛ إذ أساس تفاوتهما في ذلك هو أن يكون الوهم والخطأ من الثقة قليلا ونادرا بخلاف الضعيف. ومن الجدير بالذكر أن قلة الخطأ في الحديث وكثرته هي المعول عليه عموما لدى علماء الجرح والتعديل في تمييز الثقات من الضعفاء، بل في تحديد درجات كل منهم في سلم الجرح والتعديل بدقة متناهية.
ومع ذلك فهناك فرق آخر بين الثقة والضعيف من حيث قبول الحديث ورده؛ حيث إن الثقة يكون حديثه مقبولا ومحتجا به إذا لم يحف به ما يدل على وهمه من القرائن وملابسات الرواية، وذلك نظرا للأمر الغالب في أحاديثه، وهو أن يكون حديثه صوابا، وأما الضعيف فيكون حديثه في هذه الحال التي لا تظهر فيها القرائن مردودا غير مقبول لعدم الاطمئنان إلى كون ما رواه صوابا؛ إذ هو معروف بكثرة الأخطاء والأوهام. وعلى الرغم من وجود فرق بين الثقة والضعيف فإنه لا يصح إطلاق قبول ما تفرد به الثقة.
وإذا كان معنى العلة يدور على نقطة الخطأ، فإن العلة لا تخلو من كونها قادحة؛ غير أن آثارها تختلف باختلاف نوعية الخطأ، وموقع وقوعه؛ فكل ما وقع فيه الخطأ فهو معلول باطل، دون أن يعكر على صحة ما سواه من الإسناد أو المتن، وقد يكون ذلك في كلمة، أو اسم، أو حرف، أو إسناد، أو حديث بكامله.
وقد يطرح القارئ في هذه المناسبة سؤالا، وهو : أليس هذا الأمر متناقضا مع التصور العام لدى كثير من المتأخرين والمعاصرين حول العلة وما يتعلق بها من المسائل؟ إذ العلة لا تطلق إلا على مرويات الثقات، وأنها تنقسم إلى قادحة وغير قادحة.
وللإجابة عن هذا السؤال أقول: إن هذا التصور مبني على خلفيات علمية، قد لا تتفق مع منهج المحدثين النقاد، وتفصيلها فيما يلي؛ أولا : ميدان وقوع العلة .(1/4)
ميدان وقوع العلة
يظن كثير من المتأخرين أن العلة لا تطلق على مرويات الضعفاء، وأن ميدانها مرويات الثقات، وفي تعريفهم للعلة إشارة إلى ذلك، وهو فيما قاله ابن الصلاح:
''عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة في صحة الحديث''
والحديث المعلل: ''هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها'' (1).
فإذا كان القصد من سلامة الظاهر، وغموض السبب وخفائه أن يكون الحديث المعلول من مرويات الثقات، كما هو واضح من كتب المصطلح، فإن حديث الضعيف يخرج من تعريف العلة، وذلك بسبب هذا القيد، لكون الراوي ضعيفا، وبالتالي يتعين أن تكون مرويات الثقات هي ميدان وقوع العلة.
ولعل مستندهم في ذلك، هو ما قد يفهم من ظاهر قول الإمام الحاكم، وهذا نصه:
'' وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات؛ أن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير '' اهـ(2)
ولا شك في أنه يفهم من ظاهر هذا النص أن ميدان العلة هو أحاديث الثقات، دون أحاديث الضعفاء، إذ قال ''ليس للجرح فيها مدخل '' أي ليس لضعف الراوي مدخل في تعليل الحديث؟
بيد أنه تترتب على هذا الفهم بعض الإشكالات. ولتوضيح ذلك أطرح التساؤلات الآتية:
ما معنى كلمة '' الثقة '' هنا في هذا السياق؛ هل معناها هو الذي يتبادر إليه الذهن الآن، وهو كون الراوي حافظا متقنا، أو أن معناها أعم من ذلك؟ وهو أن يكون الراوي حسن السلوك وصدوق اللهجة، غير متعمد الخطأ، وبالتالي قد يكون الراوي الموصوف بأنه ثقة: متقنا وضابطا، وقد يكون ضعيفا غير متقن.
ماذا يعني بالمجروح؛ هل هو الضعيف عموما أو المتروك خاصة دون الضعيف غير المتروك؟
ماذا يعني بالكثرة في قوله ''وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات'' ؟
ما معنى لفظة '' الجرح '' في قوله: ''ليس للجرح فيها مدخل''
ومن خلال الإجابة عن هذه التساؤلات تتجلى الإشكالات الواردة في حمل قول الحاكم على أن مرويات الثقات هي التي تكون ميدانا لوقوع العلة، دون مرويات الضعفاء.
وإذا كان من الممكن تفسير كلمة ''الثقة'' بأنه العدل الضابط القليل الأخطاء، فإن هذا التفسير لا يتسق مع قوله ''وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات''، إلا إذا حمل هذا القول على غير ظاهره، وذلك لأن العلة إذا كانت كثيرة في أحاديث الراوي فإن هذا الراوي لا يكون ثقة، إذ الثقة عدل ضابط قليل الخطأ، أي قليل الروايات المعلولة، ولذلك فإن قوله ''وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات'' لا ينبغي حمله على ظاهره، وإنما يكون معناه كما أوضحه الحاكم نفسه بقوله '' أن يحدثوا بحديث له علة فيخفى عليهم علمه فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير''.
يعني بذلك أن العلة تكثر عادة في أحاديث الثقة من جهة كون العلة بعيدة عن شعور من يتلقى الحديث منه ثم يرويه عنه لثقته بحاله، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار حديثه وشهرته بين الحفاظ، وهذا معنى قول الحاكم '' وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات''، ولا يعني بذلك أن مرويات الثقات كثيرة العلل حقيقة، وإلا فإن الراوي الذي كثرت في مروياته العلل لا يكون ثقة أبدا، وإنما يكون ضعيفا.
بيد أن هذا المعنى لن يستقيم إلا إذا حملت كلمة ''الجرح'' في قوله ''ليس للجرح فيها مدخل'' على مطلق الضعف، وجعلت كلمة المجروح في قوله '' حديث المجروح ساقط واه '' تشمل جميع أصناف الضعفاء، مع أن هذا التفسير لا يقره سياق كلام الإمام الحاكم، إذ ورد في السياق ذكر المجروح مقيدا بكونه ساقط الحديث، ومن المعلوم أن المجروحين ليسوا كلهم ساقطي الحديث، فمنهم من يكتب حديثه، ومنهم من يسقط حديثه، ولذلك يكون المقصود بالمجروح الراوي المتروك الساقط الحديث دون غيره من الضعفاء الذين يكتب حديثهم للاعتبار والمقارنة.
وإذا كان المجروحون ليسوا كلهم ساقطي الحديث، فإن نص الحاكم - في ضوء التأويل السابق، وهو أن المقصود بالثقة العدل المتقن- لا يشمل إلا أحاديث الثقة وأحاديث المتروك، لورود المجروح في هذا النص بمقابل الثقة مقيدا بكونه ساقط الحديث، وعليه فإن الحاكم لم يكن من خلال نصه نافيا ولا مثبتا لمدى إطلاق العلة على أحاديث الضعفاء غير الساقطين، وبهذا أصبح كلامه ناقصا وغير مستوعب الجوانب. كما أن هذا التفسير لا يقره منهج كتب العلل في ذكر الأحاديث المعلولة عموما، إذ كانت تضم أحاديث الضعفاء أكثر من أحاديث الثقات.
وبما أن كلمة الثقة جاء ذكرها في نص الحاكم بمقابل المجروح الساقط حديثه، فإنه ينبغي أن يكون معناها أوسع مما سبق، بحيث يشمل جميع أنواع الرواة المقبولين غير المتروكين، إذ يكون معنى هذه الكلمة عندئذ كل راو صالح عدل ، سواء أ كان ثقة أم ضعيفا، وإن كان تفسيرها بهذا المعنى غير معهود لدينا فإنه ليس بغريب على المحدثين النقاد، بل كان مألوفا لديهم.
وبما أن الإمام الحاكم قد أخرج حديث المجروح الساقط من مفهوم العلة، وأصبح معنى الثقة في قوله ''والعلة تكثر في أحاديث الثقات'' هو كل عدل لم يعرف في سيرته ما يوجب ترك حديثه وسقوطه من فسق وغيره، فإن هذا القول يكون بمثابة تخصيص العلل بما يرويه الراوي المقبول، سواء أ كان ثقة أم ضعيفا، دون المتروك، وأن الكثرة هنا لن تكون بالنسبة إلى أحاديث المتروكين، وإنما معناها كما جاء في سياق كلامه، وبالتالي فإن المفهوم المخالف ليس مقصودا هنا، وهو أن العلة تقل في أحاديث المتروكين، إذ ليس للعلة صلة بما يرويه المجروح الساقط حديثه، لكون حديثه قد سقط مباشرة، دون أن يتوقف ذلك على دراسة ومقارنة.
وأما وجه كثرة العلة في أحاديث الثقات فإن أحاديثهم المعلولة تنتشر ضمن الأحاديث الصحيحة رواية ونقلا بين المحدثين، لكونهم مقبولين عموما، مع بروز تفاوت بين العدل المتقن وبين العدل الضعيف، من حيث كثرة العلة وقلتها، ويكون لبعض المحدثين تحفظ شديد في تلقي الأحاديث عندما يكون راويها ضعيفا، وإذا تبين لهم وهمه في حديث ما فإنهم يضعفون ذلك الحديث، وأما حديث المجروحين المتروكين فلا يكتب ولا يتلقى، بل يسقط تلقائيا. وبذلك يكون نص الإمام الحاكم مطابقا للأمر الواقع في كتب العلل، كما يكون مستوعب الجوانب، إذ عالج نصه ما يتصل بجميع أنواع الرواة الذين ينقسمون إلى قسمين عريضين؛ وهما المقبولون، والمتروكون، وجعل العلة خاصة بالقسم الأول دون الثاني.
وفي ضوء ذلك يتعين أن يكون معنى الثقة هنا هو كل من يصلح أن يكون بمقابل المتروك الذي يسقط حديثه تلقائيا دون بحث وتتبع.
ومن هنا يمكن أن نقول إن الإمام الحاكم لم يربط العلل بمرويات الحافظ المتقن دون غيره، وإنما جعل ميدان وقوعها متسعا وعريضا؛ إذ شملت العلة مرويات المقبولين عموما، وهذا ما قصده الحاكم بقوله:'' وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه ''، كما يؤيد ذلك الواقعُ الملموسُ في كتب العلل؛ إذ لم تكن خاصة بمرويات الثقات، بل حوت مرويات الضعفاء أيضا. والله أعلم. (3)
وقد يقال: إن إطلاق العلة - بغض النظر عن فحوى كلام الحاكم، وبعيدا عن سياقه - على أحاديث الثقة أمر اصطلاحي، ولا مشاحة في ذلك، ولا يعني بذلك أن أحاديث الضعفاء ليس فيها خطأ، لكن يعبر عن خطئهم فيها بمصطلح آخر، كمنكر، أو باطل أو غير ذلك.
أقول: لا مانع من ذلك، إذا كان الأمر يخص عمل هؤلاء الذين فرقوا بين المصطلحات وحدهم، وأما إذا كان الأمر في معالجة مصطلحات أهل التخصص فلا ينبغي حملها إلا فيما استخدموه، دون تغيير في منهجهم أو تبديل في ألفاظهم، وإلا فسيؤدي ذلك إلى خلل كبير في بناء تصوراتنا حول منهج المحدثين النقاد، وكتبهم في العلل التي تضم أحاديث الضعفاء والثقات، لمعالجة عللها وبيان صوابها، ودون تفريق بينها بتلك المصطلحات.
وبعد أن تم تحرير ميدان وقوع العلة يأتي الحديث عن القضية الثانية، وهي التلازم بين العلة وبين القدح في الصحة .
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح، ص: 90
(2) - معرفة علوم الحديث، ص:211 .
(3) - ههنا لفتة علمية لا بد من التلويح إليها، وهي أن كثيرا من المتأخرين والمعاصرين يجعلون أحاديث الثقات ميدان العلة والشذوذ، ويفرقون بينهما في المفهوم، وفي الوقت ذاته يصححون الحديث الذي رواه الثقة، على الرغم من مخالفته من هو أوثق منه، أو تفرده به، تمهيدا للاستدلال به على الأحكام الفقهية أو العقدية، أو للدفاع عن مذهب أو رأي يذهبون إليه، وإذا وقفوا على أن الحديث قد أعله ناقد بالتفرد أو المخالفة يعقبون عليه بقولهم: ''كلا! إنه ثقة لا يضر تفرده ''، أو ''زيادة الثقة مقبولة '' أليس هذا مفارقة عجيبة بين الحكم النظري والتطبيقي!! إذ يجعلون العلة والشذوذ خاصتين بما رواه الثقة نظريا، بينما يجعلونهما خاصتين بما رواه الضعيف دون غيره عمليا، فإنهم لا يرفضون الحديث إلا إذا كان راويه ضعيفا ، سواء تفرد به أم خالفه الثقات. وهنا شيء يلفت الانتباه ؛ وهو أن بعض إخواننا المعاصرين يقبلون حديث الراوي الضعيف مع تفرده به أو مخالفته الثقات، ويحكمون بأنه حسن لغيره بموجب الشواهد أو المتابعات القاصرة، أي إنهم يقومون - دون أن يشعروا - بإلغاء مصطلحات العلة ونفيها من الوجود.(1/5)
التلازم بين العلة وبين القدح في الصحة
ما ينبغي ذكره هنا أنه يمكن أن نستخلص مما سبق أن العلة كلها قادحة، لأنها دالة على وهم الراوي وخطئه، ويكون الخطأ قادحا في صحة ما وقع فيه الخطأ، وقد يكون ذلك في الإسناد أو في المتن أو في كليهما، ولا تخرج العلة عن أن تكون قادحة، ولهذا جاء تعريف العلة متضمنا ذلك حين قالوا : ''إن العلة عبارة عن سبب غامض يقدح في صحة الحديث''.
وعلى الرغم من اتفاق المتأخرين على ذكر القدح في تعريف العلة كقيد وشرط، فإنهم في الوقت ذاته يقسمونها إلى قادحة وغير قادحة!! ولعل هذا التقسيم لخلفيتهم العلمية المزدوجة، التي لا تتفق مع منهج المحدثين في نقد الحديث، كما سيتضح لنا من المثال الآتي.
روى مخلد ويعلى بن عبيد عن سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عيه وسلم حديثا في خيار البَيِّعين(1). يقول النقاد: هذا وهم من مخلد ويعلى إذ أضافا الحديث إلى عمرو بن دينار، وهو لم يحدث به، والصواب: أن هذا الحديث إنما رواه عبد الله بن دينار، وليس عمرو بن دينار. وهذه العلة في الإسناد غير قادحة في صحة المتن، لأنه صح عن سفيان من طرق أخرى.
وبهذا وغيره قالوا: العلة قد تكون غير قادحة، أي لا تقدح في صحة المتن، والواقع أن ذلك لا ينفي كون تلك العلة قادحة، إذ لا يختلف اثنان على عدم صحة روايتهما، وأن العلة هنا أصبحت قادحة في صحة الحديث عن عمرو بن دينار، وإن كان المتن صحيحا.
كما أن الاضطراب حول اسم الصحابي الذي روى الحديث، أو راويه الثقة لا يعدونه علة قادحة أيضا، لأنه أيا كان هذا الراوي فالحديث لا يخرج من رواية الثقة، سواء أ كان هو هذا الثقة أم ذاك الثقة، أو هذا الصحابي أو ذاك الصحابي، بخلاف الاضطراب الذي يكون حول الراوي الثقة والضعيف؛ فإنه يضر حينئذ في صحة الحديث.
وهذا أيضا لا ينفي كون العلة قادحة لتأثيرها في ثبوت الراوي الثقة بعينه، ويكون السؤال مطروحا: من صاحب هذا الحديث؟ فهذا النوع من الاضطراب أصبح علة قادحة، وإن لم تقدح في صحة الحديث عموما.
وكان أبو يعلى الخليلي - صاحب كتاب الإرشاد - ممن قسم العلة إلى قادحة وغير قادحة؛ فقد قال في الإرشاد:
''الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم على أقسام كثيرة، صحيح متفق عليه ، وصحيح معلول …فأما الحديث الصحيح المعلول فالعلة تقع للأحاديث من أنحاء شتى لا يمكن حصرها ، فمنها أن يروي الثقات حديثا مرسلا وينفرد به ثقة مسندا فالمسند صحيح وحجة، ولا تضره علة الإرسال'' (2).
ومن تتبع عمل النقاد في هذا الجانب علم أنه لا ينبغي إطلاق القول بأن الإرسال لا يضر المسند، وعلى كل حال فإن هذا النص يعطيك صورة واضحة عن طبيعة منهج الإمام الخليلي في التصحيح والتضعيف، وهي تشكل نقطة تباين منهجي بينه وبين نقاد الحديث.
توضيح ذلك أن المحدثين النقاد - في حالة وجود خلاف بين رواة الحديث وصلا وإرسالا، كغيره من الاختلاف - يعتمدون في الحكم القرائن التي تحف بالحديث، كما سيأتي في نص الإمام ابن الصلاح حول العلة، وأنهم لا يطلقون القبول على المتصل، وأما الخليلي فأطلق الحكم بالقبول في تلك الصورة التي ذكرها. وعلى مذهب الخليلي نجد معظم الفقهاء المتأخرين(3)، كما يأتي تفصيله (إن شاء الله) .
ويمكن أن نبرر موقف الخليلي تجاه هذا النوع من الاختلاف بأن بعض الثقات قد يروي الحديث مرسلا بعد أن رواه متصلا حسب نشاطه في التحديث، دون أن يكون ذلك اضطرابا منه، وقد يقع للمحدث شك حول اسم الصحابي، أو وصل الحديث، فيتحفظ عن روايته متصلا، ويرويه مرسلا بالاحتياط، بعد أن رواه متصلا ، كما حدث ذلك لمالك وأيوب السختياني وغيرهما من الثقات الذين يكون من عادتهم أن لا يرووا الحديث على التوهم والشك. ولاحتمال أن يكون ذلك سبب الاختلاف في الوصل والإرسال فلعل الخليلي قد أطلق القول بأن الإرسال لا يضر المسند. ( والله أعلم )
وإن كان هذا الأمر قد وقع بالنسبة إلى بعض الروايات المختلفة، فإنه لا ينبغي الحمل على ذلك السبب كلما وقع الاختلاف في الوصل والإرسال، ولا يقال إذن إن الوصل مقبول، ولا يضره الإرسال، وإنما يتوقف الحكم في ذلك قبولا وردا على معرفة القرائن التي تدل على سبب الاختلاف.
وبعد هذا التعقيب الاستطرادي أعود إلى موضوع كون العلة قادحة لأقول:
هذه بعض الخلفيات التي اعتمدها القائلون بتقسيم العلة إلى قسمين: قادحة وغير قادحة، والواقع هو أن العلة كلها قادحة تقدح في صحة ما وقعت فيه العلة، قد يكون ذلك في الإسناد أو فيما يخص راويا من رواته، أو في المتن، أو زيادة كلمة فيه، أو تغيير سياقه أو في الحديث سندا ومتنا، أعني بذلك أن القدحية قد تكون نسبية أو مطلقة، لأن العلة عند نقاد الحديث عبارة عن خطأ الراوي. والله أعلم.
__________
(1) - رواه النسائي في 7/250 من طريق مخلد به ، والطبراني في الكبير 12/448 من طريق يعلى بن عبيد به .
(2) - الإرشاد للخليلي 1/187 .
(3) - انظر مقدمة كتاب الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين ، للمؤلف(1/6)
العلة وصلتها بمعرفة حال الراوي
سبق لنا ذكر تعريف العلة، وقد لاحظنا فيه بعض القيود التي تحدد مفهوم العلة عند المحدثين، ومن تلك القيود أن يكون السبب غامضا وخفيا، وأن يكون ظاهر السند سليما.
فإن قيل: إن ضعف الراوي سبب ظاهر، فكيف يدخل في المعلول ما رواه الضعيف، وقد خرج من التعريف بقيدي (الغموض) و(سلامة الظاهر) ؟ فيجاب بأن العلة هي عبارة عن وهم الراوي، ثقة كان أو ضعيفا، كما سبق تحريره، وخطأ الراوي الضعيف فيما رواه لا يدرك إلا بالبحث عن القرائن التي تحيط به، ولا تكون رواية الضعيف دالة بمجردها على خطئه ووهمه، فقد يصيب الضعيف وقد يخطئ، فالوقوف على ذلك ليس أمرا هينا، لأنه يقتضي معرفة القرائن، كما يأتي بالأمثلة إن شاء الله تعالى.
والواقع أن أحوال الراوي - ضبطا وإتقانا أوضعفا - إنما تعرف بمدى موافقته الثقات، ومخالفته لهم، أو بتفرده بما له أصل، أو بما ليس له أصل، يقول الإمام مسلم في هذا الخصوص: ''وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله'' (1).
ولهذا نرى في ثنايا كتب الضعفاء اهتمام المحدثين في جانب ذكر بعض الأحاديث، ليبرهنوا بها على ضعف رواتها، مثل كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي ، والكامل لابن عدي ، والميزان للذهبي، وكذا التاريخ الكبير للإمام البخاري.
وعلى سبيل المثال؛ فابن عدي حين ترجم لقرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل (2) في كتابه (الكامل) أورد بعض أحاديثه ليشير بها إلى أن هذه الأحاديث قد أخطأ فيها قرة، الأمر الذي دفع علماء الجرح والتعديل إلى تضعيفه، ويتجلى ذلك بوضوح حين دراسة حديث ''من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ''.
وتوضيح ذلك أن قرة بن عبد الرحمن قد خالف في هذا الحديث أصحاب الزهري، حيث قال قرة عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، والصحيح الثابت عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وبسبب هذا الخلاف على هذا الشكل الذي رأيناه صدر من النقاد تعليل حديث قرة، ولما وقع قرة في مثل هذا الخطأ، وكثرت مخالفته للثقات دل ذلك على حاله العام في مدى الإتقان والضبط.
يقول مسلم: ''فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها، وتتبين رواة ضعاف الأخبار من أضدادهم من الحفاظ، ولذلك أضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبد الله بن أبي خثعم، وأشباهه من نقلة الأخبار لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ''(3) .
ومن الجدير بالذكر أن قولهم '' فلان ضعيف '' معناه كثير الخطأ، وعليه فما تفرد به عن شيخه لا يحتج به إذا لم تحف بحديثه قرينة تدل على صوابه، وذلك لغلبة احتمال الخطأ عليه، وليس معنى هذا أن كل ما يرويه هو يعد ضعيفا، وأنه قد أخطأ فيه، فمن أحاديثه ما يصح ومنها ما يضعف، ولا يمكن تمييز ذلك إلا بالبحث والموازنة في ضوء القرائن، وأنت ترى في الصحيحين أحاديث صحيحة من رواية الضعفاء، وقد أوردها كل من الشيخين من أجل الاحتجاج بها، مثل حديث فليح بن سليمان، ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي وغيرهما عند البخاري وحديث سويد بن سعيد، وحماد بن سلمة وغيرهما عند مسلم.
وينبغي أن نفهم من هذا الصنيع أن مقصد البخاري ومسلم ذكر الأحاديث الصحيحة من طريق الثقات، لكن قد يخرج كل منهما عن هذا المقصد فيرويان الحديث الصحيح عن طريق اسناد فيه ضعيف، وذلك لأغراض علمية يحددها منهجهما المتبع في سياق تلك الأنواع من الأحاديث في الصحيحين، وليس معنى ذلك أن جميع ما يرويه ذلك الضعيف من الأحاديث محتج به، وأنه خال من الخطأ، كما أنه لا ينبغي أن نفهم من ذلك سوى أن الراوي قد تجاوز قنطرة العدالة الدينية.
__________
(1) -مقدمة صحيح مسلم 1/56-57 من شرح النووي -ط:دار إحياء التراث ، بيروت ، سنة 1392 (الطبقة الثانية - .
(2) - 6/2076 .
(3) - التمييز ص:162 .(1/7)
تصحيح حديث لا يعني بالضرورة توثيق راويه
ومن هنا أود أن ألفت الانتباه إلى شبهة وقع فيها بعض الباحثين اليوم، يقول بعضهم: ''فما تصحيح أحدهم لأحد الرواة إلا كالتصريح بعدالة وضبط الراوي المصَحَّح له عند المصحِّح''(1)، وقد سبقهم في ذلك بعض المتأخرين. ولو استدل بالتصحيح على عدالة الراوي وضبطه ذلك الحديث دون تعرض لمدى إتقانه لبقية الأحاديث عموما لكان أمرا مسلما. وأما أن يستدل به على ثقته كتعديل عام فتنقصه الدقة، ولعل ذلك مبني على تعريف الصحيح الذي تضمن ثقة الراوي كشرط أساسي، وبالتالي فما من صحيح عند هؤلاء الباحثين إلا وقد كان راويه ثقة يعني ضابطا متقنا، وفي هذا الإطلاق خطأ يتضح بجلاء حين يعرض ذلك على نصوص النقاد وعملهم التطبيقي.
ومن المعلوم بداهة أن العدالة غير الإتقان والضبط، ولا تلازم بينهما، ولمعرفة كل منهما وسائل خاصة لا ينبغي الخلط بينها (2). ولذا فالذي يتعين علينا فهمه من خلال تصحيح إمام حديثا أن راوي ذلك الحديث المصحح عدل عنده، وأنه قد ضبط ذلك الحديث، بغض النظر عن مدى حفظه وإتقانه لبقية مروياته، وقد يكون الراوي ضعيفا عموما لكن أتقن ذلك الحديث، وقد يكون ثقة متقنا، وربما يصرح الناقد بأنه ثقة، وهو لا يقصد بذلك توثيقا عاما، وإنما توثيقه يكون بالنسبة إلى ذلك الحديث الذي صححه، ويعني بذلك أن ذلك الراوي قد ضبط هذا الحديث فحسب.
ويفهم هذا المعنى الدقيق عند وجود اختلاف في ألفاظ ذلك الناقد في الجرح والتعديل، أو وجود اختلاف بينه وبين غيره من النقاد. والواقع أن أحوال الرواة - جرحا وتعديلا - لا تعرف إلا من خلال سبر مروياتهم، كما سبق في نص الإمام مسلم، وكما تقرر في كتب المصطلح، وأما توثيق الراوي بمجرد تصحيح حديث واحد له فغير سليم (3)، اللهم إلا في حالة تفرد الراوي بحديث، فإن تصحيح الناقد له في هذا الحال يعني أن الرجل ثقة ، ومن المعلوم أن التفرد لا يقبل إلا من ثقة .
ومن تتبع كتب النقاد، وأمعن النظر فيها علم أن الثقة لم يكن شرطا يذكر في تعريف مصطلح الصحيح لاحتراز ما رواه الضعيف، بل يعد شرطا أغلبيا؛ إذ ما رواه الثقات يكون هو الأغلب في الأحاديث الصحيحة، ولذلك لا ينبغي أن يعتبر ما رواه الضعيف ضعيفا إلا إذا كان غريبا قد تفرد به، وقد يتفق هو مع الثقات الآخرين، وبالتالي يكون حديثه صحيحا لخلوه من الشذوذ والعلة، ولذلك فلا يكون التصحيح فرع التوثيق، كما لا يعني تضعيف حديث أن راويه ضعيف عموما، وإنما كان ضعيفا فقط في ذلك الحديث، يعني بذلك أنه قد أخطأ فيه. فرب ثقة يعل حديثه ويضعف(4)، ورب ضعيف يصحح حديثه ويقبل !!!.
وبما أن الراوي الضعيف إذا أخطأ في حديث لا يتضح خطؤه إلا من خلال دراسة ذلك الحديث دراسة علمية ونقدية، فإن تعريف العلة لا بد أن يتضمن ذلك، ولا داعي لإخراج ما رواه الضعيف من مضمون تعريف العلة أيضا، كما سبق بيان ذلك مفصلا في المباحث السابقة. ومن هنا كان نقاد الحديث يذكرون في كتب العلل أحاديث الضعفاء التي أخطؤوا في روايتها سندا أو متنا، كما أنهم يوردون ما صح منها في الصحاح، أو ينصون في غيرها على أنه صحيح.
ويستخلص مما سبق أن العلة تتمثل في خطأ الراوي، سواء أكان ثقة أم ضعيفا غير متروك ويبقى ذلك خفيا وغامضا بالنسبة إلى غير المتخصصين، وأما بالنسبة إلى نقاد الحديث ممن جمع بين الحفظ والفهم والمعرفة فتكون العلة واضحة وجلية، ولا يكون للأسباب الظاهرة - كفسق الراوي، وكذبه، أو انقطاع الإسناد بجميع أنواعه - صلة بمفهوم العلة التي نحن بصددها.
كما يظهر ذلك جليا من قول الحاكم ( رحمه الله ) السابق نقله: ''وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات، أن يحدثوا بحديث له علة فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير'' (5).
ويقول الحافظ ابن رجب ( رحمه الله ): ''حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان ولا يشبه حديث فلان فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره، وإنما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم'' (6).
__________
(1) - التعريف بأوهام من قسم السنن 1/204، للشيخ محمود سعيد .
(2) - قد شرحت هذا الموضوع بشئ من التفصيل في كتابي (كيف ندرس علم الحديث ) ، ولا يزال في طور الإعداد.
(3) - هذه نقطة مهمة تكشف الخلل في طريقة بعض المعاصرين في استدلالهم بتصحيح إمام حديثا على أن راويه ثقة ، وهذا خطأ منهم، إذ إن معنى تصحيحه أن الراوي عدل وأن السند متصل، وأن الراوي قد ضبط ذلك الحديث ، وليس في ذلك إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى أن حاله فيما يرويه من الأحاديث أن يضبط ويتقن. وهذا الحكم لا يصدر من الناقد إلا بعد نقد مروياته، وليس بنقد حديث واحد فقط. ومن المعلوم لدى الجميع أن الحافظ ابن حجر قد عقد فصلا مستقلا لترجمة من تكلم فيه من رواة البخاري ، ولم يكن الحافظ ابن حجر يستنتج من تصحيح البخاري لأحاديث هؤلاء المتكلم فيهم أنهم ثقات. نعم قد قال الحافظ :'' ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته ..'' يعني لذلك الحديث ، وليس ذلك حكما عاما كما فهم مؤلف كتاب التعريف. وهذا الإمام مسلم لما سئل عن رواية جماعة من الضعفاء في صحيحه لم يرد عليهم بأنهم ثقات عنده، ونصه الصريح لا يقاومه استنتاج بعض من ذهب إلى خلاف ذلك من المتأخرين ، وفيما أرى أن منشأ هذه الشبهة هو الاعتقاد بأن الحكم تابع لأحوال الرواة بناء على خطأ آخر في فهم تعريف الصحيح.
(4) - قال ابن القيم: ''ثقة الراوي شرط للصحيح وليس موجبه'' (تهذيب السنن 3/273 ، مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري).
(5) - معرفة علوم الحديث ص : 112 ( منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ).
(6) -شرح علل الحديث ، ص: 390 ( تحقيق صبحي السامرائي )(1/8)
الدقة والتكامل من أهم سمات منهج المحدثين في نقد الأحاديث
ما ينبغي تلخصيه في ضوء ما سبق، هو أن خطأ الراوي لا يدرك من ظاهر الإسناد حتى وإن كان راويه ضعيفا، وإنما بمخالفته الأمر الواقع، أو بتفرده بما ليس له أصل، وبالتالي يكون مقتضى ذلك أن يكون لدى الناقد الذي يتصدى لتصحيح حديث أو تضعيفه رؤية واضحة حول واقع ذلك الحديث من حيث الرواية والعمل به، بحيث يستطيع أن يستحضر الروايات التي وردت فيه مع ملابساتها، أو ما يتعلق بموضوع الحديث من الجوانب العملية، من أجل مقارنة بعضها ببعض، وملاحظة ما يمكن وجوده فيما بينها من فوارق جوهرية، حتى يتم التمييز بين الخطأ والصواب في ضوء القرائن والدلائل الواقعية بعيدا عن التخمين.
ولذلك يتعين القول إن الحكم على الحديث تصحيحا أو تضعيفا لم يكن تابعا لأحوال الرواة إلا في بعض الحالات التي تقتضي اعتمادها، بعد تتبع ما يمكن أن يحف به من القرائن، كما جاء بسط ذلك في مقدمة كتاب (الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين(1) ). ومن هنا يتجلى ما تضمنه قول الحاكم:’’والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير‘‘ من الأبعاد العلمية والنقدية والمنهجية. والله تعالى أعلم.
وعلى كل فالذي نصل إليه في ضوء ما سبق أن العلة لا تظهر، دون جمع الروايات واستحضارها، ومقارنة بعضها ببعض، وفقه ما يحيط بالحديث من قرائن، وأما قولهم في التعريف ’’مع أن ظاهره السلامة منها‘‘ فلا يعني بالضرورة أن يكون رواة الحديث كلهم ثقات، كما سبق؛ إذ تتحقق السلامة أيضا حين يكون في السند راو ضعيف، فإن معنى السلامة هنا هو أن يكون ظاهر السند سليما من الأسباب الظاهرة التي لها تأثير مباشر في صحة الحديث؛ كأنواع الانقطاع: التدليس، والإعضال، والإرسال، وليس معنى ذلك أن يكون سليما من ضعف الراوي، فإنه لا يلزم من كون الراوي ضعيفا أن يكون حديثه خطأ.
نعم قد يعل الحديث بالتدليس أو بالإرسال أو بالإعضال، لكن في حالة وجود خطأ في وصل ذلك الحديث المنقطع من قبل بعض رواته.
وبعد فقد بان لك ( أيها القارئ رحمك الله) أن حالة المخالفة والتفرد تمثلان نقطتي انطلاق في كشف خطأ الراوي، وأن المخالفة لم تكن محصورة في أن تكون بين ثقة وأوثق، كما يوهم ذلك ما ورد في تعريف بعض المصطلحات المتصلة بالعلة؛ كالشاذ والمنكر، بل تأخذ المخالفة أبعادا أخرى، ويكون مجالها أوسع مما قد يتصوره بعضنا، ليشمل ذلك مخالفة الراوي الواقع العملي أو التاريخي أو ما ثبت عقليا، أو ما ثبت بالإجماع، غير أن عرض الحديث على ذلك كله يكون وفق منهجية منضبطة بمقتضى طبيعة الحديث وروايته، وليس على طريقة لا تقوم على توازن علمي، ولا على معرفة الواقع الحديثي والفقهي، كما يدعو بعض المفكرين إلى مقارنة كل ما يروى من الأحاديث، حتى وإن كانت مما تلقته الأمة بالقبول، مع خلفيات علمية عامة تتكون منها ثقافاتهم، أو عرضها على مقتضى عقولهم، دون مراعاة طبيعة الحديث وروايته (2).
وكذلك التفرد؛ فإن معناه أن يتفرد الراوي بما ليس له أصل، وليس على إطلاقه، ولذلك فاعلم – أخي الفاضل - أن كلا من هاتين النقطتين: المخالفة والتفرد، تشكلان في الواقع قاعدة عريضة لنقد المرويات من جميع زواياها، الأمر الذي يؤكد على دقة منهج المحدثين وشموليته في النقد، وأن المستشرقين لم يأتوا بشيء جديد ينبغي إملاؤه على الأمة الإسلامية لاستدراك ما فاتهم طوال هذه القرون الغابرة.
ولكي يتجسد أمام القارئ ما سبق ذكره من معنى العلة عند نقاد الحديث، وما يتعلق به من النقاط الجوهرية تأتي الفقرات لسرد بعض الأمثلة.
__________
(1) - الكتاب للمؤلف ( ط: 2 دار ابن حزم ، بيروت )
(2) - انظر تفصيل ذلك في كتاب نظرات جديدة في علوم الحديث .(1/9)
الأمثلة التطبيقية لمعنى العلة(1/10)
المثال الأول
هذه جملة من الأمثلة، أسوقها لتكون العلة بأبعادها المختلفة واضحة المعالم، وسهلة التصور؛ فالمثال الأول لحديث معلول رواه الثقة: وهو ما رواه شعبة بن الحجاج عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس عن علقمة بن وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( فقال ''آمين ''وخفض بها صوته (1).
يقول الإمام مسلم : ''أخطأ شعبة في هذه الرواية، حين قال: وأخفى صوته''، وكذا أعله الإمام البخاري وأبو زرعة الرازي وأبو عيسى الترمذي والدار قطني وغيرهم(2)بل قال البخاري وغيره :''وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث ، فقال : (عن حجر أبي العنبس)، وإنما هو (حجر بن عنبس) ويكنى أبا السكن ، وزاد فيه : (عن علقمة بن وائل)، وليس فيه (عن علقمة)، وإنما هو (عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر)، وقال : (وخفض بها صوته)، و إنما هو (ومد بها صوته) (3) .
إسناد هذا الحديث ظاهره سليم، بل مكون من الثقات المعروفين، لا سيما أنه قد رواه شعبة بن الحجاج الذي عرف بتشدده وتحفظه ودقته في تلقي الحديث وروايته، حتى اشتهر بين المحدثين أنه لم يكن يحدث حديثا عن شيخ إلا بعد التأكد من أنه قد حفظه، ومع ذلك أطبق الحفاظ على أن شعبة أخطأ في مواضع من الحديث المذكور، ولم يدركوا ذلك إلا عن طريق حفظهم وفهمهم ومعرفتهم وممارستهم الحديثية الطويلة.
هذا وقد صرح بعض الحفاظ بمجموعة من الأسباب الدالة على خطأ شعبة؛ وهي:
أ - أن شعبة قد خالف أصحاب سلمة بن كهيل ، ومن أثبتهم سفيان بن سعيد الثوري الذي اتفق النقاد على أنه أحفظ الناس لأحاديثه، فإذا وقع خلاف بينه وبين شعبة فإن قول سفيان هو الذي يترجح.
ب - كما أنه قد خالف السنة العملية التي تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه كان يجهر بآمين .
ج - كذلك خالف شعبة عبد الجبار بن وائل الذي روى عن وائل ما يؤيد قول سفيان، إذ قال فيه:''مد بها صوته''(4). وقد صرح بذلك كله الإمام مسلم في كتابه التمييز(5) .
وأما الجمع بين هذه الروايات بناء على التجويز العقلي فمنهج انتهجه كثير من الفقهاء المتأخرين، وتبعهم في ذلك الباحثون المعاصرون (6).
فبهذا المثال تبين أن العلة عبارة عن خطأ الراوي، وقد عبر الإمام مسلم عنه في أثناء شرحه علة ذلك الحديث، وهذا الخطأ لا يظهر من ظاهر السند دون جمع طرقه ومقارنة بعضها ببعض، ولا يكتشفه الباحث، أو لا يقتنع به، إلا إذا انتهج منهج المحدثين النقاد.
__________
(1) - أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة ، باب ما جاء في التأمين 2/27-29 ، ومسلم في التمييز ص: 133-"تحقيق الدكتور / مصطفى الأعظمي) ، والإمام الدار قطني في سننه ، كتاب الصلاة ، باب التأمين في الصلاة … 1/334 (تحقيق الشيخ عبد الله هاشم ، ط : دار المحاسن للطباعة ، القاهرة) .
(2) - سنن الترمذي 2/27-29 " تحقيق أحمد شاكر " وعلله الكبير 1/217-218 ( تحقيق حمزة ديب) والتمييز لمسلم ص : :33 .
(3) - المصدر نفسه .
(4) - رواه الدار قطني في سننه 1/334-335، وصحح إسناده ، غير أنه منقطع لأن عبد الجبار لم يسمع من أبيه كما في التهذيب .
(5) - ص :133 .
(6) - راجع ما حرره الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على حديث شعبة المعلول من سنن الترمذي 2/29 .(1/11)
المثال الثاني :
إذا كان المثال الأول للحديث المعلول من مرويات الثقات فإن المثال الثاني يكون لما رواه الضعيف، وهو ما رواه ابن أبي ليلى عن سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي عن علي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (آمين) حين يفرغ من قراءة فاتحة الكتاب (1).
يقول أبو حاتم في كتاب أسماه (علل الحديث) : ''هذا خطأ عندي، إنما هو سلمة عن حجر أبي العنبس (2) عن وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم '' .
هذا إسناد لا يلمس في ظاهره أن ابن أبي ليلى أخطأ في حديثه هذا، مع كونه ضعيفا، وبهذا تحققت سلامة ظاهر الحديث عن الخطأ، ولم يكن أبو حاتم قد أدرك ذلك لمجرد كونه ضعيفا، بل اكتشف خطأه من خلال القرائن المحيطة بروايته.
ومن القرائن مخالفة ابن أبي ليلى لأصحاب سلمة بن كهيل، إذ قال عنه ما لا يعرفونه، بل كان الجميع من أصحابه قد اتفقوا على أن سلمة بن كهيل إنما حدث بهذا الحديث عن حجر عن وائل ، ولو حدث سلمة بن كهيل عن حجية بن عدي أيضا لسمعه سفيان وشعبة وأمثالهما، وما غاب عنهم هذا العلم الجديد، باعتبارهم ألزم الناس لسلمة، وأجمعهم لأحاديثه، ومن المستبعد عادة أن يقع هذا الحديث عن سلمة عند ابن أبي ليلى دون غيره من الثقات، وقول أبي حاتم : ''هذا خطأ، إنما هو سلمة عن حجر عن وائل'' يدل على معرفته بالواقع الحديثي بالنسبة إلى سلمة.
وصنيع أبي حاتم في علله هو ذاته صنيع الأئمة النقاد في كتبهم في العلل عموما، لم تكن أحاديث الضعفاء مبعدة عنها، بل هي تشكل موضوعات هذه الكتب كأحاديث الثقات.
__________
(1) - أخرجه ابن أبي حاتم في علله 1/93 .
(2) - كذا في العلل ، والصواب فيه حجر بن العنبس كما حقق النقاد .(1/12)
المثال الثالث:
يكون المثال الثالث لعلة المتن من رواية الضعيف ، وهو حديث رواه إسحاق بن عيسى ، حدثنا ابن لهيعة ، قال : كتب إِليَّ موسى بن عقبة، يقول:حدثني بسر بن سعيد ، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد، قلت لابن لهيعة: ''مسجد في بيته''؟ قال: ''مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم'' (1).
يقول الإمام مسلم:'' وهذه الرواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعا. وابن لهيعة المصحف في متنه، المغفل في إسناده. وإنما الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في مسجد بخُوصة أو حصير يصلي فيها ،… وابن لهيعة إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر، وهي الآفة التي نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو عرض عليه'' (2).
ومن الواضح أن الإمام مسلما لم يحكم على حديث ابن لهيعة بالخطأ سندا ومتنا نظرا إلى كونه ضعيفا، وإنما لمخالفته الأمر الواقع في حديث موسى بن عقبة.
أما الخطأ في الإسناد فقد قال ابن لهيعة فيه :''عن موسى بن عقبة حدثني بسر بن سعيد''، إذ إن موسى بن عقبة لم يقل: ''حدثني بسر''، و إنما قال : ''سمعت أبا النضر يحدث عن بسر بن سعيد''، وصار هذا الحديث مشهورا عن أبي النضر، حتى أصبح لدى الحفاظ أن صاحب هذا الحديث هو أبو النضر لا غير، وما من راو يقول غير ذلك إلا وقد خالف الواقع، ولا يدرك ذلك إلا من لديه معرفة تامة عن هذا الواقع الحديثي.
وبهذه الأمثلة تبين لنا جليا أن العلة عبارة عن خطأ الراوي، سواء أكان ثقة أم ضعيفا، سواء أكان الوهم في الإسناد أم في المتن أم في كليهما.
__________
(1) - أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/185 ، ومسلم في التمييز ص : 139 .
(2) - التمييز ص :14 .(1/13)
الدلائل على العلة
لقد مضى أن العلة لا تعرف إلا بالقرائن والملابسات التي تحيط بالحديث، ويتوقف ذلك على قدر كبير من الحفظ والفهم والمعرفة، ومن هنا قال بعضهم :''معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل''، وقال آخر: ''هي إلهام، لو قلت للقيم بالعلل: من أين لك هذا ؟ لم تكن له حجة'' ، يعني حجة يقتنع بها العوام، وإلا فلدى النقاد قرائن وحجج قد تفيد اليقين.
وحسب الخلفيات العلمية التي يتميز بها الناقد تتفاوت العلل في مستوى الظهور والغموض، ففي العلل ما هو أغمض وأدق ولا يدركه إلا الجهبذ الفطن لما يتميز به من ذوق حديثي، ولا يملك فيه عبارة توفي بإحساسه في ذلك، أو أسلوبا يقتنع به الباحثون العاديون، وهنا يتحقق القول بأن العلة إلهام أو كهانة، وكثيرا ما يتجسد ذلك في مسألة التفرد بشكل أوضح.
يقول أبو حاتم: ''جاءني رجل من جِلَّة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي، فقلت في بعضها:هذا حديث خطأ، قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح''.
''فقال لي : من أين علمت أن هذا خطأ ، وأن هذا باطل ، وأن هذا كذب ؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا ؟ فقلت :لا ، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو ؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ ، وأن هذا الحديث باطل ، وأن هذا الحديث كذب، فقال: تدعي الغيب؟ قال قلت:ما هذا ادعاء الغيب، قال :فما الدليل على ما تقول ؟ قلت:سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقا علمت: أنا لم نجازف، ولم نقله إلا بفهم''.
''قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن ؟ قلت : أبو زرعة ، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت ؟ قلت : نعم ، قال : هذا عجب ، فأخذ فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إلي، وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث ، فما قلت إنه باطل قال أبو زرعة : هو كذب ، قلت : الكذب والباطل واحد، وما قلت : إنه منكر قال هو منكر كما قلت ، وما قلت : إنه صحاح قال أبو زرعة : هو صحاح ، فقال : ما أعجب هذا ، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما''.
''فقلت : فقد ذلك(1) أنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقول بأن دينارا نَبهَرجا يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج ؟ ويقول لدينار : هو جيد، فإن قيل له من أين قلت أن هذا نبهرج ؟ هل كنت حاضرا حين بهرج هذا الدينار ؟ قال : لا ، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار ؟ قال : لا ، قيل : فمن أين قلت : إن هذا نبهرج ؟ قال: علما رُزِقتُ ، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك'' .
''قلت له : فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول :هذا زجاج ويقول لمثله : هذا ياقوت ، فإن قيل له : من أين علمت أن هذا زجاج و أن هذا ياقوت ؟ هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج ؟ قال : لا ، قيل له : فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغَ هذا زجاجا ؟ قال : لا ، قال : فمن أين علمت ؟ قال : هذا علم رزقت ، وكذا نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه'' اهـ (2).
وهذه القصة يجب أن تلفت انتباهنا إلى ما تضمنته من النقاط، وهي :
أولا : منهج المحدثين النقاد في التصحيح والتضعيف واحد، إذ يقوم هذا المنهج على الخلفية العلمية الحديثية.
ثانيا : معرفة صحة الحديث وضعفه لا تكون مجازفة ، بل تكون كمعرفة الصيرفي بالأحجار الكريمة
ثالثا: موقف هذا الفقيه الجليل من فقهاء أهل الرأي تجاه الأحكام التي صدرت من أبي حاتم وأبي زرعة، واعترافه بالتخصص الحديثي؛ حيث رأيناه قد سلم لهما الأمر في تصحيح الحديث وتضعيفه، بعد أن أدرك هذا الفقيه حقيقة علم الحديث، وما يتميز به كل من أبي حاتم وأبي زرعة الرازي من قدرة خاصة على فهم ملابسات الحديث، وكشف ما يقع فيه من الأخطاء .
ولعلنا قد انتبهنا إلى ذلك الخلق النبيل، والتواضع العلمي، والأدب الجم !!
وأنا أسوق هنا بعض النصوص التي تدلنا على عمق هذا العلم، وأن أصحابه هم المحدثون النقاد، دون غيرهم من أصحاب العلوم الشرعية الأخرى:
يقول الإمام مسلم (رحمه الله ): ''واعلم (رحمك الله ) أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة؛ لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفون بها دون غيرهم… وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح''(3) اهـ.
يقول الحاكم :'' فرب إسناد يسلم من المجروحين غير مخرج في الصحيح، ثم أورد من طريق أبي حاتم الرازي حدثنا نصر بن علي حدثنا أبي عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل). هذا حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت، وذكر (النهار) فيه وهم و الكلام عليه يطول'' (4).
وساق أيضا من طريق محمد بن حيان التمار حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وقال الحاكم : هذا إسناد تداوله الأئمة والثقات وهو باطل من حديث مالك، وإنما أريد بهذا الإسناد : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله بها.
ولقد جهدت جهدي أن أقف على الواهم فيه من هو فلم أقف عليه، اللهم إلا أن أكبر الظن على ابن حيان البصري، على أنه صدوق مقبول . اهـ (5).
وساق أيضا من طريق الحسن بن عيسى حدثنا ابن المبارك حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن القاسم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: اللهم صَيِّبا هنيئا.
وقال الحاكم : هذا الحديث تداوله الثقات هكذا، وهو في الأصل معلول واه، ففي هذه الأحاديث الثلاثة قياس على ثلاث مائة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك. إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما خفي من علة الحديث .
فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته اهـ (6) .
وهذا الجانب العلمي الدقيق هو من سمات منهج المحدثين في تنقية الأخبار والأحاديث ، وهذا الحافظ السخاوي يسلط الضوء على ذلك بقوله :
''وهو - يعني ما تضمنته قصة أبي حاتم مع أحد جلة فقهاء أهل الرأي- أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده ، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم، بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يطالبه الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة'' .
''هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله ، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعنٍّ، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين''.
''فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تواليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم، وجودة التصور، ومداومة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضع ، يوجب لك - إن شاء الله - معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله'' اهـ (7)
__________
(1) - كذا في الكتاب، وهو غير مستقيم المعنى ولعله (فقد علمت ذلك) .
(2) - تقدمه الجرح والتعديل 1/349-351 .
(3) - مسلم بن الحجاج، التمييز ص: 218
(4) -معرفة علوم الحديث ص : 58 .
(5) - معرفة علوم الحديث ص:59-60 .
(6) - المصدر السابق .
(7) - فتح المغيث 1/274 ( إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس ، ط: 1 ، سنة 1407هـ .
قول السخاوي فيه تلميح إلى دور النقاد في تنقية الأحاديث ونظرتهم الشاملة والثاقبة في خفايا الأمور الإسنادية والحديثية، وإلى تبعية الفقهاء المتأخرين لهم في معرفة الصحيح و السقيم من الأحاديث.
لكن صاحب كتاب " السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث " نازع هذا الواقع الملموس في منهج المحدثين في نقد الأحاديث ، إذ يجعل دور المحدثين محصورا في الأسانيد، وأن الفقهاء هم الذين أكملوا دراسة المتون التي قصر عنها نظر النقاد المحدثين، ولا يخفى أنه يلزم من ذلك أن الفقهاء هم الذين يكتشفون الشذوذ والعلة ، لأن الشيخ يجعل هذين الأمرين من علوم المتن دون الإسناد.
إن الواقع التاريخي للمحدثين النقاد يشهد أنهم جمعوا بين الحديث وفقهه، ولهذا قاموا بنقد المرويات أسانيدها ومتونها، وإذا أردت التأكد من هذا فعليك مراجعة كتاب التمييز للإمام مسلم ، وسائر كتب العلل ومصادر تراجم الضعفاء. وهذا الإمام الحاكم يشرح لنا هذه الحقيقة؛ حين يقول:
''فأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والاستنباط والجدل والنظر فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد ، ونحن ذاكرون - بمشيئة الله - في هذا الموضوع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث إذ هو نوع من أنواع هذا العلم :''
'' فممن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وسفيان بن عيينة وعبد الله بن مبارك ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن يحيى التميمي وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه الحنظلي ومحمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وإبراهيم بن إسحاق الحربي ومسلم بن حجاج وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو عبد الله محمد بن نصر المروزي ، وأبو عبد الرحمن النسائي وابن خزيمة'' . انتهى كلام الحاكم بتصرف ( معرفة علوم الحديث ص :63-85 ).
وقد ذكر الحاكم مع كل واحد منهم شيئا من فقههم ، وهناك كثير من النقاد الذين جمعوا الحديث والفقه كالإمام مالك والشافعي وأبي داود والترمذي وسفيان الثوري ومنصور بن المعتمر و الإمام الدار قطني والبيهقي وغيرهم، وهم كثر يحتاج ذكرهم إلى تأليف مستقل .
نعم، إن المحدثين فيهم من لم يتفقه وكان جل همهم حفظ الأحاديث وروايتها، لكنهم لم يتصدوا لنقدها، ولعل فضيلة الشيخ ( رحمه الله ) أخذ هذا الواقع وعممه على نقاد الحديث جميعا، وذلك تقصير خطير منه، لأنه يؤدي إلى إنكار جهودهم المتكاملة وتميزهم بالنظر الثاقب إلى الإسناد والمتن جميعا، ولم تكن دراستهم محصورة في الأسانيد أبدا ، كما روجها المستشرقون لإثارة الشكوك في نفوس المسلمين حول مكانة السنة النبوية التي هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ، والله المستعان .
والكتاب فيه ملاحظات علمية كثيرة وليس هذا مجال بيانها، لكن الجدير بالذكر أنه وقع منه أخطاء فادحة، نتيجة تدخله المباشر في فن الحديث تضعيفا وتصحيحا، الذي لم يكن من تخصصاته ، مع أنه عاب على كل من يتعاطى فنا غير فنه ، ولهذا كان مخطئا حتى في تحرير أيسر القضايا في علم الحديث؛ حيث جعل الشذوذ و العلة من خصائص المتون حصرا، وليس الأمر كذلك إذ الإسناد موضع الشذوذ والعلة أيضا .(1/14)
.
وإذا كانت العلل تدرك بالمخالفة والتفرد إلا أن ذلك متوقف على تتبع الناقد القرائن التي تنضم إليهما، وقدرته على تحديد نوعيتها التي لا تنضبط عادة بقواعد محددة، وفهمه ما تشير إليه من دقائق الأمور، مما يجعل علم العلل من أدق العلوم تطبيقا، وأصعبها معالجة. ومن هنا تبرز الأهمية لمعرفة نقطتي المخالفة والتفرد في ضوء منهج نقاد الحديث، وقد سبق أن الحكم على الأحاديث – تصحيحا أو تعليلا – لا يمكن إلا بعد معرفة هاتين النقطتين، وفهم مقتضى ما يحف بهما من القرائن. وإن كان الوقوف على تفرد الراوي ومخالفته لغيره ممكنا بالنسبة إلينا نحن المعاصرين عن طريق جمع الروايات والمقارنة بينها إلا أن معالجتهما تتوقف على قدر كبير من الفهم والخلفية العلمية الواسعة.
وبذلك يفسر قول ابن معين :’’لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه ‘‘، وقول الإمام أحمد : ’’الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا‘‘. وقول ابن المديني :’’الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه (1) .
وعليه فإن مسألتي التفرد والمخالفة من أهم دلائل العلة، حين تنضم إليهما القرائن تنبه العارف بهذا الشأن أن ذلك التفرد أو المخالفة هو نتيجة خطأ ووهم من الراوي ، ولذا تكون هاتان المسألتان بحاجة إلى مزيد من الشرح حتى يزول عنهما الغموض، فإنه إذا لم يعرف الباحث عناية النقاد بمعرفة تفرد الراوي ومخالفته، وأهمل تفاصيلهم فيهما، يكون قد أبعد النجعة، وبالتالي يصعب عليه الوقوف على حقيقة منهجهم في التصحيح والتضعيف، وفهم ما تضمنته مصطلحاتهم في ذلك من الأبعاد النقدية، كالتفرد والمنكر والغريب وزيادة الثقة، كما يأتي بيانها في مسألة المخالفة إن شاء الله.
ولذلك فإن هاتين النقطتين، وما يتعلق بهما من المسائل والمصطلحات تكون المحور الرئيس في المباحث الآتية، وإن كان بين المخالفة والتفرد نوع من التلازم، بحيث نرى بعض المتقدمين يكتفي بذكر أحدهما مستغنيا عن الآخر، كالإمام مسلم في مقدمته؛ حيث اكتفى بذكر المخالفة في مناسبة شرح المنكر، والإمام أبي داود في رسالته إلى أهل مكة إذ ركز على التفرد (2) فإن الفصل بينهما لدى البحث والتقعيد يساعد القارئ على اهتمامه بالنقاط الجوهرية التي تكمن فيهما، دون أن يكون أمامه التباس وتداخل، ولذا فأول نقطة سأتطرق لها هي المخالفة.
__________
(1) – نقله عنهم الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي 2/212 .
(2) - رسالة أبي داود إلى أهل مكة 1/29( تحقيق محمد الصباغ ، دار العربية ، بيروت )(1/15)
مسألة المخالفة وما يتصل بها من المصطلحات
قال الإمام مسلم ( رحمه الله تعالى ) :''فاعلم ! (أرشدك الله ) أنأن أن الذي يدور به معرفة الخطأ في رواية ناقلي الحديث - إذا هم اختلفوا فيه - من جهتين :
إحداهما: أن ينقل الناقل حديثا بإسناد فينسب رجلا مشهورا بنسب في إسناد خبره خلاف نسبته التي هي نسبته، أو يسميه باسم سوى اسمه، فيكون خطأ ذلك غير خفي على أهل العلم حين يرد عليهم(1).
والجهة الأخرى : أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثا عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد ومتن واحد مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه فيخالفهم في الإسناد أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ، دون الواحد المنفرد وإن كان حافظا، على المذهب الذي رأينا أهل العلم بالحديث يحكون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل العلم"اهـ (2).
يعد هذا النص نفيسا جدا إذ يصدر من الإمام مسلم الناقد الجهبذ وهو يرسم للقارئ منهج النقاد في معرفة الخطأ، والذي ينبغي أن نفهم من هذا النص أن المخالفة ليست على إطلاقها ، وإنما هي ما يكون مخالفا للأمر الواقع، وقد جاء عن الإمام ابن الصلاح هذا المعنى حين قال في مقدمته :
''ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه'' (3) .
وقد اتضح بذلك أن المخالفة لا تكون دائما دليلا على خطأ الراوي، وإنما الذي يخالف الأمر الواقع والثابت فقط.
لعل من طبيعة الأمور أن يختلف رواة الحديث، سندا ومتنا، أو في أحدهما أو في جزء منهما، ولا غرابة في ذلك، إذ يستحيل عرفا أن يكون الرواة في مستوى واحد من الاهتمام والتيقظ والتثبت والدقة والضبط، فمنهم من يعتمد الكتاب في الرواية، ومنهم من يعتمد ذاكرته، ومنهم من يروي الحديث بنصه، ومنهم من يرويه بالمعنى، وكل هذا يؤدي إلى وقوع اختلاف بين الرواة، حيث إن حالة الاهتمام والعناية تختلف باختلاف الأشخاص، كما تختلف مواهبهم الطبيعية، والعلمية، فمنهم من بلغ إلى أوجها، ومنهم من نزل إلى أدناها ، ومنهم من يكون بين هذا وذاك على تفاوت الدرجات، ومن هنا ينبغي أن نعرف أن الحديث من طبيعته أن يختلف بتعدد رواته، وكلما يكثر عددهم تتوفر فرص الاختلاف حول لفظ الحديث وسياقه بل في معناه.
فالرواة الذين اشتركوا في سماع الحديث من أحد شيوخهم، ثم حدثوا به عنه بعد فترة من الزمن ، ضمن جملة ما سمعوا من مصادر شتى من المرويات، فمدى الاتفاق والاختلاف بينهم يتوقف على قدر تيقظهم واهتمامهم ومذاكرتهم ودقتهم وحفظهم، والتزامهم بنقل ما تلقوا حرفيا، فكلما تتنوع مجالس التحديث ويزداد عدد روادها تكون فرص الخلاف بينهم أوفر.
ومن الجدير بالذكر أن أوهام بعض الرواة، وما يحدث لهم أحيانا من تردد، أو رواية بالمعنى تعد من أهم الأسباب التي تؤدي إلى وقوع اختلاف في الأحاديث بين رواتها، وإن كانوا ثقات، الأمر الذي يجب أخذه بعين الاعتبار لدى معالجة نقطتي المخالفة والتفرد.
كما يتضح ذلك جليا مما سيأتي .
لقد اشتهرت كل بلدة من البلدان الإسلامية بحفاظ الحديث، يدور عليهم أحاديث بلادهم الصحيحة، ويعتبرون مخارج لتلك الأحاديث، بمعنى إذا ورد الحديث عن طريقهم أصبح قوي الإسناد، وصحيح المخرج .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - :''فسر القاضي أبو بكر بن العربي مخرج الحديث بأن يكون من رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل بلده ،كقتادة في البصريين وأبي إسحاق السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين وأمثالهم ، فإن حديث البصريين مثلا إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفا ، وإذا جاء عن غير قتادة ونحوه كان شاذا .والله أعلم'' (4) .
فالمدينة المنورة عرف بها حفاظ مشهورون في مختلف العصور، مثل سالم ونافع، وعبد الله بن دينار، والزهري ، وهشام بن عروة ، ومالك ، وأمثالهم .
وكذلك مكة المكرمة اشتهر فيها حفاظ كعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وابن جريج وابن عيينة وأمثالهم .
وكذا عرف بالبصرة حفاظ أمثال الحسن البصري ومحمد بن سيرين وثابت البناني وقتادة وأيوب السختياني وشعبة بن الحجاج .
كما أن الكوفة قد اشتهرت بأمثال الشعبي وأبي إسحاق السبيعي وإبراهيم بن يزيد النخعي والأعمش ومنصور وسفيان الثوري .
وفي الشام حفاظ أمثال مكحول والأوزاعي ، وفي مصر بكير بن عبد الله الأشج ويزيد بن أبي حبيب والليث ومن يشبههم وهكذا …،
ولكل منهم أصحاب يهتمون بأحاديثه، ويعتنون بها، وكلما اشتهر الراوي يكثر عدد أصحابه، ومن يهتم بحفظ أحاديثه، على اختلاف مستوياتهم في ذلك؛ ففيهم من يلازمه ملازمة طويلة، ليسمع أحاديثه، مع ضبط وإتقان، ثم يحدث عنه كما سمعه منه، حتى يقال : فلان أعلم الناس بأحاديثه، أو يقال فلان أحفظهم لها، أو يقال فلان أثبت الناس بأحاديثه، وفيهم من لا يكون كذلك لخلل وقع في ضبطه، أو في جمعه، أو في ملازمته، فهذه المجموعة تشمل الثقات والضعفاء، وكذا الحال بالنسبة إلى الغرباء من أصحاب ذلك الراوي المحدث.
فأصحاب الإمام الزهري - مثلا - متفاوتو المستوى في التيقظ والدقة والاهتمام والملازمة والحفظ والجمع والمذاكرة، وعلى هذا الأساس فقد قسمهم العلماء إلى خمس طبقات:
الطبقة الأولى : قوم جمعوا الحفظ والإتقان وطول الصحبة له ، والعلم بأحاديثه والضبط لها ، كمالك ومعمر وعبيد الله بن عمر ويونس وعقيل وشعيب ونحوهم.
والطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان لكن لم تطل صحبتهم له وإنما صحبوه مدة يسيرة ولم يمارسوا حديثه ، وهم بالنسبة إليه دون الأولى ، كالأوزاعي وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر والنعمان بن راشد وأمثالهم .
والطبقة الثالثة: قوم لازموا الزهري وصحبوه ورووا عنه لكن لم يتقنوا أحاديثه لسوء حفظهم، كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق وزمعة بن صالح وأشباههم .
والطبقة الرابعة : قوم لم تطل صحبتهم ، ولم يتقنوا أحاديثه، مثل معاوية بن يحيى الصدفي وإسحاق بن أبي فروة والمثنى بن الصباح وأمثالهم.
والطبقة الخامسة : قوم من المتروكين والمجهولين مثل محمد بن سعيد المصلوب وعبد القدوس بن حبيب و الحكم الأيلي ونحوهم(5) .
وهكذا تختلف أحوال الرواة - قبولا وردا - بالنسبة إلى شيوخهم الحفاظ الذين تدور عليهم الأحاديث، فحين يشتركون في رواية حديث عن واحد من هؤلاء الحفاظ، فإنهم بطبيعة الحال، يختلفون - سندا أو متنا - لا سيما الضعفاء الذين لا يتقنون الأحاديث، وقد يكون الاختلاف بين الثقات أنفسهم لخطأ بعضهم.
فبذلك يمكن القول إن الاختلاف بين الرواة بسبب الأوهام أمر طبيعي، ولا غرابة فيه.
__________
(1) - هذا نص واضح على أن العلة ليست خفية ولا غامضة بالنسبة إلى أهل العلم من النقاد، وكلما تتعمق المعرفة الحديثية تكون العلة أكثر وضوحا، وجلاء ، ولا ينبغي أن يزاحمهم من لم يبلغ درجتهم فيها، ويرفض حكمهم بحجة أنه لم يتضح له ذلك ، وقد قال بعض المعاصرين غرورا : ''ولا أقبل العلة إلا إذا ظهر ت مثل الشمس'' ، وهو يرد بهذه الحجة الواهية ما صدر عن الإمام البخاري وغيره من الأئمة من التعليل .
(2) - التمييز ص : 124-126 .
(3) - ابن الصلاح، علوم الحديث (المشهور بمقدمة ابن الصلاح) ص: 90
(4) - النكت على كتاب ابن الصلاح 1/405 .
(5) - لمزيد من التفصيل في مجال تقسيم الرواة بالنسبة إلى شيوخهم يرجع إلى مقدمة كتاب علل الحديث لعلي بن المديني ، وكتاب شرح العلل لا بن رجب الحنبلي .(1/16)
صور المخالفة
لعل من الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن الاختلاف قد يكون مؤثرا على صحة الرواية، وقد لا يكون ، أما الأول فسيأتي شرحه مفصلا (إن شاء الله) لكونه يشكل الموضوع الرئيس لهذا الكتاب، وأما الثاني فكاختلافهم في العبارات والألفاظ المترادفة، بحيث لا يغير المعنى المقصود، ولا يزيد فيه شيئا، وكذا التفاوت في سياق الحديث بالتقديم والتأخير، وصيغ تلقي الحديث وروايته؛ كحدثنا و أخبرنا ونحوهما.
بيد أن الاختلاف في صيغ التلقي قد يقتضي بحثا وتحقيقا لكونه أساسا لمعرفة اتصال السند، وصحته، كالذي يقع بين الرواة من الاختلاف حول تصريح الراوي بالسماع في حالة ما إذا وصف بالتدليس أو بالإرسال.
يقول ابن وهب : ''ذكروا لأحمد قول من قال (عن عراك بن مالك سمعت عائشة)، فقال: هذا خطأ، وأنكره ، وقال: عراك من أين سمع من عائشة ؟ إنما يروي عن عروة عن عائشة''(1).
وكذا ذكر أبو حاتم: أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه، فيظن أصحابه أنه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث، ويصرحون بسماعه لها من شيوخه، ولا يضبطون ذلك (2).
وعلق عليه الحافظ ابن رجب ، فقال : ''فحينئذ ينبغي التفطن لهذه الأمور، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد، وذكر أحمد: أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أخبرنا منصور بن زاذان ؟ قال أحمد: ولم يسمعه هشيم من منصور'' (3) .
أما الاختلاف المؤثر الذي تتمحور حوله مباحث هذا الكتاب فيكون ضمن مصطلح من المصطلحات التالية : زيادة الثقة ، الشاذ ، المنكر ، المعلول ، المصحف ، المقلوب ، المدرج، سواء أكان ذلك في السند، أم في المتن، فالذي في السند يتنوع أنواعا:
كتعارض الوصل والإرسال.
تعارض الوقف والرفع.
تعارض الاتصال والانقطاع.
تعارض الرواة في اسم الشيخ، كأن يروي أحد الرواة حديثا عن رجل عن تابعي عن صحابي، ويرويه غيره عن ذلك الرجل عن تابعي آخر عن الصحابي بعينه.
تعارضهم في زيادة رجل في أحد الإسنادين.
تعارضهم في اسم الراوي ونسبه إذا كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفا.
تعارضهم في الجمع والإفراد في الرواية، مثلا: أن يروي بعضهم الحديث عن رجل عن فلان وفلان وفلان، ويرويه الآخر عن ذلك الرجل عن فلان مفردا (4)
و أما الاختلاف في المتن فيتنوع أيضا أنواعا، منها:
تعارض الإطلاق والتقييد.
تعارض العموم و الخصوص.
تعارض الزيادة والنقص، وغير ذلك.
ومن الجدير بالذكر أنه يتعين في ذلك كله أن يكون مخرج الروايات المختلفة واحدا، وإلا فتعد الوجوه المختلفة طرقا مستقلة.
بيد أن التعارض في الوصل والإرسال، أو الوقف والرفع يكون كثير الوقوع نسبيا، ولذا قال بعض المتأخرين: ''كثر تعليل الوصل بالإرسال، و تعليل الرفع بالوقف''. ووضعوا لمعالجة هذا التعارض عنوانا خاصا في كتب المصطلح، رغم دخوله في موضوع زيادة الثقة، أو الشاذ والمنكر (5) .
__________
(1) - حكاه ابن رجب الحنبلي في شرح العلل ص:218 .
(2) - شرح العلل ص:218 .
(3) - المصدر نفسه .
(4) - اعتمدت فيه على قول الحافظ ابن حجر في النكت 2/777-778 .
(5) - انظر مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح ص: 94 (التفريع الخامس) ص: 117(ط:دار الفكر العربي ، بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان) .(1/17)
زيادة الثقة وصلتها بأنواع العلة
رغم أن صور وقوع الاختلاف مما يصعب سرده لكثرة تنوعها، بيد أنه يمكن معالجتها من خلال المصطلحات العامة التي تدور على معنى الاختلاف أو التفرد، وهي: زيادة الثقة، والاضطراب، والشاذ والمنكر، وما يتفرع عنهما من الأنواع؛ كالمقلوب والمدرج والمصحف، ولذا تتمحور المباحث الآتية على هذه المصطلحات.
ولعل من المفيد أن نبدأ المباحث الآتية بمعالجة مسألة زيادة الثقة، وذلك لصلتها الوثيقة بمصطلحات العلة المذكورة آنفا، وستأتي البرهنة على أن زيادة الثقة يتوقف قبولها ورفضها على قرائن تحيط بها، وفي حالة كونها مرفوضة في ضوء قرينة من تلك القرائن فإنها تندرج تحت مفهوم العلة عموما، أو الشاذ أو المنكر أو المدرج أو غيرها من أنواع العلة بالتحديد، وهذا الأمر مما قد غاب عن أذهان كثير من الباحثين، مما جعلهم يكثرون إطلاق الحكم بقبول زيادة الثقة، ولذلك تقتضي مناسبة الحديث عن العلل بيان خيط يربطها بتلك الأنواع، حتى يتم لنا معالجة ما يسود بين الباحثين من مشكلة علمية جوهرية جاءت - في نظري - نتيجة إهمالهم دراسة وافية حول مسألة زيادة الثقة، وعدم معرفتهم لها من جميع جوانبها وأبعادها المختلفة.
ولعل من المفيد جدا أن نطرح بعض التساؤلات حول مسألة زيادة الثقة:
ما مناسبة ذكر مسألة زيادة الثقة هنا في كتاب يعالج علم العلل؟
أليست هي مقبولة مطلقا، كما هو الشائع لدى كثير من المعاصرين؟
أم تكون لهذه المسألة صلة بموضوع العلة ؟
ما هي الخيوط التي تربطها بالعلة إذن ؟
أليس الأمر في قبول زيادة الثقة ورفضها متوقفا على ما يحيط بها من القرائن؟
وستأتي الإجابة عن هذه التساؤلات في الفقرات الآتية.
بما أن مسألة زيادة الثقة قد تتداخل مع مسائل العلل التي تشكل موضوع هذا الكتاب؛ كالمعلول، والشاذ، والمنكر، والمدرج، فإن معالجة هذه المسألة ينبغي أن تكون على هذا الأساس وبالتالي تتوضح المسألة بجميع أبعادها، دون غموض أو أدنى شبهة.
من تتبع كتب الفقه المتأخرة، والأبحاث المعاصرة وجد فيها ظاهرة إطلاق القول بقبول زيادة الثقة لمعالجة تعارض الوصل والإرسال، وتعارض الوقف والرفع ، والواقع أن هذا الإطلاق لم يكن سليما على منهج النقاد، وأن الترجيح أو الجمع بينهما إنما يكون عندهم حسب القرائن والأدلة.
ومن هنا أصبح من الضروري معالجة مسألة زيادة الثقة من جميع جوانبها، ومن أهمها البحث عن مدى تداخلها مع أنواع العلل، حتى يتم لنا تحقيق منهج المحدثين فيها قبولا وردا، دون خلطه بمذاهب أخرى تنظر في مثل هذه المسألة من زاوية العقل وعلم المنطق، كمتأخري المحدثين والفقهاء، والأصوليين، ولعل ذلك نتيجة تأثرهم بمستجدات الأمور التي عاصروها في مجال التربية والتعليم.
وحين تتبع كلام العلماء حول مسألة زيادة الثقة، ومراحلها التاريخية، يمكن الوصول إلى أن الخطيب البغدادي كان من أوائل المحدثين الذين تأثر تفكيرهم بعلم المنطق، ولذا يكون عصره بداية مرحلة جديدة تطورت فيها الأساليب في طرح مسائل علوم الحديث، وبرزت فيها أمورلم تعرف عن الحفاظ المتقدمين، وهذا جانب تاريخي يجب أخذه بعين الاعتبار عند تحرير القواعد المتصلة بمنهج المحدثين، ونجد فيما قاله الحافظ ابن رجب الحنبلي إشارة إلى ذلك، وهذا نصه:
'' ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب (الكفاية)، للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين '' (1).
وسنرى ذلك مجسدا في مسألة زيادة الثقة، يقول الخطيب:
''قال الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث: زيادة الثقة مقبولة إذا انفرد بها، ولم يفرقوا بين زيادة يتعلق بها حكم شرعي أو لا يتعلق بها حكم ، وبين زيادة توجب نقصانا من أحكام تثبت بخبر ليست فيه تلك الزيادة ، وبين زيادة توجب تغيير الحكم الثابت أو زيادة لا توجب ذلك، وسواء كانت الزيادة في خبر رواه راويه مرة ناقصا ثم رواه بعد - وفيه تلك الزيادة - أو كانت الزيادة قد رواها غيره ولم يروها هو'' .
''وقال فريق ممن قبل زيادة العدل التي ينفرد بها: إنما يجب قبولها إذا أفادت حكما يتعلق بها، وأما إذا لم يتعلق بها حكم فلا''.
''وحكي عن فرقة ممن ينتحل مذهب الشافعي أنها قالت : تقبل الزيادة من الثقة إذا كانت من جهة غير الراوي، فأما إن كان هو الذي روى الناقص، ثم روى الزيادة بعد فإنها لا تقبل''.
''وقال قوم من أصحاب الحديث: زيادة الثقة إذا انفرد بها غير مقبولة ما لم يروها معه الحفاظ، وترك الحفاظ لنقلها وذهابهم عن معرفتها يوهنها ويُضعِّف أمرها، ويكون معارضا لها''.
''والذي نختاره من هذه الأقوال أن الزيادة الواردة مقبولة على كل الوجوه، ومعمول بها إذا كان راويها عدلا حافظا ومتقنا ضابطا، والدليل عليه أمور'':
'' أحدها: اتفاق جميع أهل العلم على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره لوجب قبوله، ولم يكن ترك الرواة لنقله إن كانوا عرفوه، وذهابهم عن العلم به معارضا له، ولا قادحا في عدالة راويه ولا مبطلا له، وكذلك سبيل الانفراد بالزيادة''.
''فإن قيل: ما أنكرت أن يكون الفرق بين الأمرين أنه غير ممتنع سماع الواحد الحديث من الراوي وحده وانفراده به، ويمتنع في العادة سماع الجماعة لحديث واحد، وذهاب زيادة فيه عليهم ونسيانها إلا الواحد، بل هو أقرب إلى الغلط والسهو منهم فافترق الأمران'' ؟
''قلت : هذا باطل من وجوه، غير ممتنع ، أحدها أن يكون الراوي حدث بالحديث في وقتين، كانت الزيادة في أحدهما دون الوقت الآخر، ويحتمل أيضا أن يكون قد كرر الراوي الحديث فرواه أولا بالزيادة وسمعه الواحد ثم أعاده بغير زيادة اقتصارا على أنه قد كان أتمه من قبل وضبطه عنه من يجب العمل بخبره إذا رواه عنه وذلك غير ممتنع'' .
''وربما كان الراوي قد سها عن ذكر تلك الزيادة لما كرر الحديث وتركها غير متعمد لحذفها ، ويجوز أن يكون ابتدأ بذكر ذلك الحديث وفي أوله الزيادة ، ثم دخل داخل فأدرك بقية الحديث ولم يسمع الزيادة فنقل ما سمعه فيكون السامع الأول قد وعاه بتمامه وقد روي مثل هذا في خبر جرى الكلام فيه بين الزبير بن العوام وبين بعض الصحابة'' .
''(عن) عروة قال سمع الزبير رجلا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ الرجل من حديثه قال له الزبير : هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . قال : صدقت، ولكنك كنت يومئذ غائبا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن رجال من أهل الكتاب فجئت في آخر الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ، فحسبت أنه يحدث عن نفسه، هذا ومثله يمنعنا من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم'' .
''(وعن) زيد بن ثابت أنه قال لرافع بن خديج في روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن كراء المزارع ،قال زيد بن ثابت : يغفر الله لرافع بن خديج أنا - والله - أعلم بالحديث منه ، إنما أتاه رجلان - قال مسدد:من الأنصار - ثم اتفقا قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع) ، زاد مسدد: فسمع قوله (لا تكروا المزارع)''.
''ويجوز أن يسمع من الراوي الاثنان و الثلاثة فينسى اثنان منهما الزيادة ويحفظها الواحد و يرويها ، ويجوز أن يحضر الجماعة سماع الحديث فيتطاول حتى يغشى النوم بعضهم أو يشغل سامعي الحديث أمر يوجب القيام ويضطره إلى ترك استتمام الحديث ، وإذا كان ما ذكرناه جائزا فسد ما قاله المخالف'' .
''وعن عمران بن حصين قال : أتى نفر من بني تميم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اقبلوا البشرى، يا بني تميم ، فقالوا : قد بشرتنا فأعطنا ، فرئي ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء نفر من أهل اليمن فقال : أقبلوا البشرى، إذ لم يقبلها بنو تميم ، قالوا : قد قبلنا يا رسول الله ، فأخذرسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ببدء الخلق والعرش ، فجاء رجل فقال : يا عمران راحلتك فقمت ، فليتني لم أقم (2) . ويدل أيضا على صحة ما ذكرناه أن الثقة العدل يقول سمعت وحفظت ما لم يسمعه الباقون ، وهم يقولون : ما سمعنا ولا حفظنا وليس ذلك بتكذيب له ، وإنما هو إخبار عن عدم علمهم بما علمه ، وذلك لا يمنع علمه به''.
''ولهذا المعنى وجب قبول الخبر إذا انفرد به دونهم ولأجله أيضا قبلت الزيادة في الشهادة إذا شهدوا جميعا بثبوت الحق وشهد بعضهم بزيادة حق آخر، وبالبراءة منه ولم يشهد الآخرون''.
''وأما علة من اعتل في ترك قبولها ببعد ذهابها عن الجماعة وحفظ الواحد لها فقد بينا فساده فيما تقدم وجواز ذلك من غير وجه'' .
''وأما فصل من فصل بين أن تكون الزيادة موجبة لحكم أو غير موجبة له فلا وجه له لأنه إذا وجب قبولها مع إيجابها حكما زائدا فبأن تقبل إذا لم توجب زيادة حكم أولى لأن ما يثبت به الحكم أشد في هذا الباب'' .
''ومن الأحاديث التي تفرد بعض رواتها بزيادة فيها توجب زيادة حكم (ما ورد ) عن سعد بن طارق حدثني ربعي بن حراش عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء …) و ذكر خصلة أخرى .
قوله : ( وجعلت تربتها لنا طهورا ) زيادة لم يروها فيما أعلم غير سعد بن طارق عن ربعي بن حراش ، فكل الأحاديث لفظها (و جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا ) .
وعن عبد الله بن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال : الصلاة في أول وقتها قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين .
وقوله : (في أول وقتها ) زيادة لا نعلم رواها في حديث ابن مسعود إلا عثمان بن عمر ، عن مالك بن مغول ، وكل الرواة قالوا عن مالك : ( الصلاة لوقتها ) .
و أما فصل من فصل بين أن تكون الزيادة في الخبر من رواية راويه بغير زيادة وبين أن تكون من رواية غيره فإنه لا وجه له لأنه قد يسمع الحديث متكررا تارة بزيادة وتارة بغير زيادة كما يسمعه على الوجهين من روايتين ، وقد ينسى الزيادة تارة فيرويه بحذفها مع النسيان لها والشك فيها ويذكرها فيرويها مع الذكر و اليقين ، وكما أنه لو روى الحديث ونسيه فقال :"لا أذكر أني رويته وقد حفظ عنه ثقة " وجب قبوله برواية الثقة عنه ، فكذلك هذا وكما لو روى حديثا مثبتا لحكم وحديثا ناسخا له وجب قبولها فكذلك حكم خبره إذا رواه تارة زائدا وتارة ناقصا وهذه جملة كافية . انتهى قول الخطيب (رحمه الله تعالى) (3).
هذا قول الخطيب البغدادي في مسألة زيادة الثقة، وإن كان يمكن أن اقتصره هنا لكني آثرت نقله بحروفه لأهميته، إذ هذا النص بالنسبة إلى كثير من المتأخرين ممن ألف كتابا في مصطلح الحديث، يعد مصدرا في معالجة مسألة زيادة الثقة.
وقد رأينا قول الخطيب قد تضمن عدة نقاط مهمة ينبغي نقاشها وتحريرها في ضوء الأدلة والأمثلة الواقعية، ولا ينبغي قبولها دون نظر وتحليل.
__________
(1) - ابن رجب الحنبلي، شرح العلل 1/427 - 428
(2) - رواه البخاري في مواضع من صحيحه ، منها كتاب بدء الخلق باب ما جاء في قول الله تعالى :"وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده …"6/286 . من فتح الباري .
(3) - الكفاية ص: 464 .(1/18)
وبإمعان النظر في سياق كلام الخطيب وأسلوبه في الاستدلال والاستنتاج يبدو أنه ينظر في مسألة زيادة الثقة من زاوية جديدة لم تعرف إلا عن أهل الكلام، وهي بناء الحكم على التجويز العقلي، وكأنه يواجه من يدعو إلى امتناع قبول زيادة الثقة مطلقا، وبما أن الخطيب بصدد ترجيح قبول زيادة الثقة مطلقا، فإن مقتضى ذلك أن يسوق أدلة تثبت ذلك الترجيح، لكننا رأيناه يسعى جاهدا إلى تأييد رأيه من خلال استدلاله بأمور وقعت في بعض الروايات، وكيف يتم له الاستدلال بما ذكر؟ فإنه إذا ثبت سبب لوقوع الزيادة في بعض الروايات فإنه لا يعني بالضرورة أن كل الزيادات إنما تقع لذلك السبب، ومن المعلوم أن الزيادة قد تقع لأسباب أخرى لم يتطرق لها الخطيب، ومن أهمها وهم الراوي واختلاط المسموع عليه، أو روايته بالمعنى الذي فهمه ورسخ في ذهنه، وقد يكون فهمه خطأ وغير مطابق للواقع، وبالتالي لا يتم بما ذكره من الأدلة إلا الاستدلال على أن قبولها ممكن عموما وأنه غير ممتنع فحسب ، والفرق واضح بين قبول الزيادة مطلقا، وبين كونه غير ممتنع عموما.
ولذلك أصبحت النتيجة التي خرج بها الخطيب البغدادي، وهي قبول زيادة الثقة مطلقا، بعيدة عن الدقة التي ألفناها في منهج المحدثين. وكل من يعرف شخصية الخطيب وإمامته في الحديث وعلومه يستغرب منه اعتماد ذلك الأسلوب الذي سلكه في الاستدلال، ودفاعه المستميت عن إطلاق قبول زيادة الثقة بناء على التجويز العقلي.
وبما أن أسباب الاختلاف بين الثقات بالزيادة والنقص لا يمكن حصرها في الحيثيات التي بينها الخطيب فإن إطلاق قبول الزيادة - كحكم عام – يكون غير سديد، إذ يحتمل أن يحدث الاختلاف بين الثقات حول الزيادة لوهم أحدهم، أو بروايته بالمعنى الذي رسخ في ذهنه، وما أكثر ذلك! ثم يأتي دور الناقد لينظر فيها من خلال القرائن المحيطة بها، وما أسباب وقوعها في الحديث، وهل لهذه الزيادة أصل، أو هي مدرجة في الحديث وهما.
ولو تتبعت تراجم الرواة الثقات، وآراء النقاد حول اختيار أثبت الناس وأضبطهم بالنسبة إلى المدارس الحديثية المعينة لوجدت فيها ما يؤكد لك أن أكثر الاختلافات التي تقع بينهم – وصلا و إرسالا ، أو رفعا ووقفا، أو زيادة ونقصا – تعود إلى الأوهام والأخطاء ، أو روايتهم بالمعنى، مما يمنعنا من قبول ما اعتمده الخطيب من الأدلة العقلية، والدليل إذا وقع فيه الاحتمال بطل الاستدلال به.
لقد كان من الرواة الثقات من يقف على خطئه في الحديث عندما يرى غيره من الثقات قد خالفه، وهذا حماد بن زيد – أحد الأئمة الأجلاء – يقول : ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، فإذا خالفني شعبة في شيء تركته (1) .
وعن عفان : ’’كان حماد بن زيد ربما قال لي: كيف قال أبو سلمة ، يعني حماد بن سلمة ، في حديث أيوب، لأنه كان يخالفه‘‘
قال أحمد : ’’كان حماد بن زيد لا يعبأ إذا خالفه الثقفي ووهيب ، وكان يهب أو يتهيب إسماعيل بن علية إذا خالفه‘‘(2)
فحماد بن زيد مع إمامته وجلالته في الحديث وحفظه كان يذكر خطأه في حديثه إذا خالفه شعبة، ثم يبادر إلى تصحيحه، وكان يهب إسماعيل بن علية إذا خالفه.
وفي ضوء ذلك لو صححنا زيادات الثقة، وأطلقنا قبولها، لمجرد كونه ثقة حافظا، لأبينا إلا أن يبقى على خطئه .
ويقول يحيى القطان: ’’ليس أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان‘‘ (3) .
فالخلاصة: أن ما يقتضيه حل الخلاف بين الثقات بالجمع أو بالترجيح أو بالاضطراب هو أن يكون ذلك وفق ما يتمخض عنه تتبع القرائن وفقه دلالاتها، وإلا فسيكون الأمر في ذلك فوضى، قد لا يحتاج الباحث إلى فهم ومعرفة وحفظ، بل يحفز ذلك كل من هب ودب إلى الخوض في أغوار هذا المجال العلمي الدقيق دون تأهل لذلك.
وإن كان موقف الخطيب مسلما لدى كثير من المتأخرين، لكنه لم يحظ بموافقة الجميع، فقد عقب عليه الحافظ ابن رجب قائلا:
’’وقد صنف في ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفا حسنا سماه (تمييز المزيد في متصل الأسانيد ) وقسمه قسمين : أحدهما ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد و تركها، والثاني ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها، ثم إن الخطيب تناقض فذكر في كتاب (الكفاية ): للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين، ثم إنه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقا ، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء وهذا يخالف تصرفه في كتاب تمييز المزيد، وقد عاب تصرفه في كتاب تمييز المزيد بعض محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب الكفاية‘‘.
’’وذكر في الكفاية حكاية عن البخاري أنه سئل عن حديث أبي إسحاق في النكاح بلا ولي قال : "الزيادة من الثقة مقبولة ، وإسرائيل ثقة" ، وهذه الحكاية إن صحت فإن مراده الزيادة في هذا الحديث وإلا فمن تأمل كتاب (تاريخ البخاري) تبين له أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة‘‘ .
’’وهكذا الدار قطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في تلك المواضع الخاصة، وهي إذا كان الثقة مبرزا في الحفظ‘‘اهـ(4).
كما عقب على الخطيب الحافظ ابن حجر بقوله ، وهذا نصه:
’’واحتج من قبل الزيادة من الثقة مطلقا بأن الراوي إذا كان ثقة وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولا، فكذلك انفراده بالزيادة ، وهو احتجاج مردود، لأنه ليس كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولا، كما سبق بيانه في نوع الشاذ‘‘ .
’’ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر ، لأن تفرده بالحديث لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات إذ لا مخالفة في روايته لهم ، بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هم أتقن منه حفظا أو أكثر عددا فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته، ومبني هذا الأمر على غلبة الظن‘‘ .
’’واحتج بعض أهل الأصول بأنه من الجائز أن يقول الشارع كلاما في وقت، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر فيحضره غير الأول ويؤدي كل منهما ما سمع، وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام فيسمع ناقصا ويضبطه الآخر تاما أو ينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام ويتأخر الآخر، وبتقدير حضورهما فقد يذهل أحدهما أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل أو غير ذلك من الشواغل ولا يعرض لمن حفظ الزيادة ونسيان الساكت محتمل والذاكر مثبت‘‘ .
’’والجواب عن ذلك أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة إنما هو في زيادة بعض الرواة من التابعين فمن بعدهم أما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها‘‘ .
’’كحديث أبي هريرة – رضي الله عنه-الذي في الصحيحين في قصة آخر من يخرج من النار ، وأن الله تعالى يقول له – بعد أن يتمنى – (لك ذلك ومثله معه ) ، وقال أبو سعيد الخدري: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لك ذلك وعشرة أمثاله ) ‘‘.
’’وكحديث ابن عمر (رضي الله عنه) الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ، متفق عليه ، وفي حديث ابن عباس (رضي الله عنهما) عند البخاري بماء زمزم‘‘ .
’’وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه ، كمالك عن نافع عن ابن عمر (رضي الله عنهما) إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها فتفرد واحد عنه بها دونهم مع توفر دواعيهم على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها‘‘ .
’’وأما ما حكاه ابن الصلاح عن الخطيب فهو – وإن نقله عن الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث – فقد خالف في اختياره، فقال بعد ذلك : والذي نختاره أن الزيادة مقبولة إذا كان راويها عدلا حافظا ومتقنا ضابطا‘‘ .
’’قلت : وهو توسط بين المذهبين، فلا نرد الزيادة من الثقة مطلقا، ولا نقبلها مطلقا، وقد تقدم مثله عن ابن خزيمة وغيره، وكذا قال ابن طاهر: الزيادة إنما تقبل عند أهل الصنعة من الثقة المجمع عليه‘‘ . انتهى كلامه(5) .
أقول: استخلص الحافظ ابن حجر من قول الخطيب أن مذهبه توسط بين الرد مطلقا والقبول مطلقا، وفيه نظر، لمخالفة هذا الملخص صريح كلامه، وطبيعة أدلته التي استدل بها، فقد قال الخطيب:
’’والذي نختاره من هذه الأقوال أن الزيادة الواردة مقبولة على كل الوجوه ومعمول بها إذا كان راويها عدلا حافظا متقنا ضابطا‘‘.
يعني الخطيب قبول الزيادة مطلقا إذا كان راويها ثقة، وإلا فغير مقبولة، كما يفهم من الأدلة التي ساقها، إذ ليس فيها ما يدل على ضرورة التفريق في قبول الزيادة بين ثقة وأوثق، بل كان يدور الاستدلال على قبول الزيادة من الثقة مطلقا، لا سيما قوله في سياق الاستدلال بالأمر الأول، وهو:
’’اتفاق جميع أهل العلم على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره لوجب قبوله ، ولم يكن ترك الرواة لنقله إن كانوا عرفوه ، وذهابهم عن العلم به معارضا له ولا قادحا في عدالة راويه ولا مبطلا له ، وكذلك سبيل الانفراد بالزيادة‘‘ .
ويبدو من هذا الاستدلال أنه يقيس زيادة الثقة على الحديث الذي تفرد به، فإن كان تفرده مجمعا على قبوله فزيادته تكون مقبولة أيضا، ولم يشر الخطيب في أثناء استدلاله بالقياس إلى ضرورة التفريق بين ثقة وأوثق، بل دل صنيعه في الاستدلال على عموم الثقات، والله أعلم .
أما قول الخطيب إن جمهور المحدثين يذهبون إلى قبول زيادة الثقة مطلقا ففيه نظر قوي لمخالفته الواقع الملموس في التطبيقات العملية لدى المحدثين، كما سيأتي بيانه ( إن شاء الله)، وإن أيد الإمام النووي رأي الخطيب، وهذا نصه:
’’زيادة الثقة مقبولة مطلقا عند الجماهير من أهل الحديث والفقه والأصول، وقيل لا تقبل، وقيل: تقبل إن زادها غير من رواه ناقصا، ولا تقبل إن زادها هو، وأما إذا روى العدل الضابط المتقن حديثا انفرد به فمقبول بلا خلاف، نقل الخطيب البغدادي اتفاق العلماء عليه، وأما إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلا وبعضهم مرسلا أو بعضهم موقوفا وبعضهم مرفوعا ، أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت فالصحيح الذي قاله المحققون وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول ، وصححه الخطيب البغدادي‘‘ :
’’أن الحكم لمن وصله أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر وأحفظ ، لأنه زيادة ثقة ، وهي مقبولة ، وقيل الحكم لمن أرسله أو وقفه ، قال الخطيب : وهو قول أكثر المحدثين وقيل : الحكم للأكثر ، وقيل للأحفظ ‘‘ اهـ (6) .
نعم من المحدثين من يقبل زيادة الثقة مطلقا، فقد قال الحافظ ابن حجر:
__________
(1) – التهذيب 4/344 .
(2) - علل أحمد 1/264
(3) – التهذيب 4/113 .
(4) – شرح العلل ص :243-244 .
(5) – النكت 2/690-693 .
(6) – المقدمة لشرح النووي على صحيح مسلم 1/32 .(1/19)
’’جزم ابن حبان والحاكم وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقا في سائر الأحوال، وسواء اتحد المجلس، أو تعدد ، سواء أكثر الساكتون، أو تساووا ، وهذا قول جماعة من أئمة الفقه والأصول وجرى على هذا الشيخ محيى الدين النووي في مصنفاته (1).
قلت : وإن كان الحاكم قد صرح بقبول زيادة الثقة مطلقا في كتابه (المستدرك(2)، وصحح فيه أحاديث بناء على ذلك، فإنه يبدو من خلال تتبع كتابه (معرفة علوم الحديث) أنه على رأي المحدثين النقاد، فقد قال في نوع المدرج ومعرفة الصحيح والسقيم ما يدل على ذلك.
أما في نوع المدرج - بعد أن قال الحاكم بأن جملة (قال فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك...) زيادة مدرجة في المتن، وليس لها أصل في الحديث المرفوع، بل إنه من قول ابن مسعود- فيقول:
’’ فقد ظهر لمن رزق الفهم أن الذي ميز كلام عبد الله بن مسعود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد أتى بالزيادة الظاهرة، والزيادة من الثقة مقبولة. وقد أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد العنبري حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي قال : سمعت عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي يقول : عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ثقة‘‘(3).
يعني بذلك أن من جعل تلك الجملة مرفوعة فهو واهم، والصواب أنها موقوفة على ابن مسعود، وهذا التمييز بين المرفوع والموقوف في أثناء الرواية يدل بحد ذاته على إتقان الراوي للحديث، وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان الثقة.
ويقول الحاكم في معرفة الصحيح والسقيم : ’’... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل ، ثم قال الحاكم : هذا حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت ، وذكر النهار فيه وهم ، والكلام عليه يطول ‘‘ (4).
وأما في مسألة زيادة الثقة فقد اكتفى الحاكم بذكر الأمثلة دون بيان حكمها (5)
ومن خلال المقارنة بين هذه المواطن من كتاب (معرفة علوم الحديث) يبدو أن الحاكم على رأي المحدثين، وهو قبول زيادة الثقة في ضوء القرائن . والله أعلم .
وإن كان بعض المحدثين القدامى ممن عرف بالتساهل قد صرحوا بقبول زيادة الثقة مطلقا، وأصبح ذلك مسلكا عاما سلكه المتأخرون من الفقهاء والأصوليين، فإن المحدثين النقاد لهم فيها منهج علمي دقيق، ونرى بعض المحققين من المتأخرين يؤكدون على ذلك في ثنايا كلامهم، وهذا ابن دقيق العيد يقول:
’’من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مسند ومرسل، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانونا مطردا، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول‘‘ (6)
وللحافظ ابن حجر نصوص كثيرة في أكثر من موطن، ومنها :
’’بهذا جزم الحافظ العلائي ، فقال: كلام الأئة المتقدمين في هذا الفن – كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم – يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي ، بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث ‘‘(7).
ومن نصوص الحافظ: ’’واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل ، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه ، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح‘‘ اهـ (8) .
ومنها قوله في مناسبة الرد على جماعة من الفقهاء والأصوليين الذي يقبلون زيادة الثقة :
’’وفيه نظر كثير لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه ، ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادة تخالف ما رووه إما في المتن وإما في الإسناد‘‘ .
’’فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم ، ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتني بمروياته – كالزهري وأضرابه – بحيث يقال : إنه لو رواها لسمعها منه حفاظ أصحابه ، ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها ، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة‘‘،
’’وقد نص الشافعي في الأم على نحو هذا، فقال - في زيادة مالك ومن تابعه في حديث فقد عتق منه ما عتق – : إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفطه عنه وهم عدد وهو منفرد. فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عددا أنها تكون مردودة. وهذه الزيادة التي زادها مالك لم يخالف فيها من هم أحفظ منه ولا أكثر عددا فتقبل، وقد ذكر الشافعي – رضي الله عنه – هذا في مواضع، وكثيرا ما يقول : العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ‘‘ (9).
ومنها : ’’ والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه ( أي ما زاده الثقة ) بحكم مستقل من القبول والرد ، بل يرجحون بالقرائن‘‘(10)
ومنها : ’’وسئل الدارقطني عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات، قال: ينظر ما اجتمع عليه ثقتان فيحكم بصحته، أو ما جاء بلفظة زائدة فتقبل تلك الزيادة من متقن، ويحكم لأكثرهم حفظا وثبتا على من دونه، وقد استعمل الدار قطني ذلك في العلل والسنن كثيرا، فقال في حديث رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) في النهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة‘‘:
’’قد رواه مالك وإسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد والضحاك بن عثمان عن أبي عياش ، فلم يقولوا : "نسيئة " واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه ‘‘ اهـ (11) .
ورأينا الإمام الدارقطني لم يقبل زيادة يحيى بن أبي كثير، مع كونه مشهورا بإمامته في الحديث بل حكم عليه بالوهم، وذلك لمخالفته الجماعة.
ويقول الحافظ ابن حجر أيضا : ’’فحاصل كلامهم أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظا متقنا حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عددا منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقا فإن زيادته لا تقبل ، وهذا مغاير لقول من قال زيادة الثقة مقبولة و أطلق " اهـ (12) .
ويقول البقاعي : إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرا لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وذلك أنهم لا يحكمون منها بحكم مطرد، وإنما يديرون ذلك على القرائن اهـ (13) .
__________
(1) – النكت 2/687-688 .
(2) - المستدرك 1/3 ، 109 ، 341 – 342 . وهذا مما أفادني مشكورا أحد الإخوة من الجزائر المحبوبة ، جزاه الله عني خير الجزاء
(3) - معرفة علوم الحديث ص : 40
(4) - المصدر السابق ص : 58 - 59
(5) – معرفة علوم الحديث ص :130 .
(6) – نقله الصنعاني في توضيح الافكار 1/343- 344 .
(7) - النكت 2 / 604
(8) - هدي الساري مقدمة فتح الباري ص: 384 - 385
(9) – النكت 2/688 .
(10) - المصدر السابق 2/687
(11) – شرح النخبة ص:31 والنكت 2/689 .
(12) – النكت 2/ 690 .
(13) – نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/339 – 340 .(1/20)
خلاصة القول
وبعد فإن الذي يتلخص مما سبق أن قبول زيادة الثقة وردها عند نقاد الحديث متوقف على القرائن، وهي كثيرة ومتنوعة ، منها كون الراوي أحفظ الناس، ومنها كثرة عدد الرواة، ومنها سلوك الجادة ، ومنها رواية الحديث بالمعنى ، ومنها اعتماد الراوي على حفظه، ومنها تداخل الأحاديث، وغير ذلك، بل لكل حديث قرينة خاصة، فلا تكون الأحفظية سببا يعتمد دائما للترجيح، وكذا كثرة العدد، وكذا بقية القرائن، وبذلك يصبح الترجيح من أصعب المسائل التي لا يمكن القيام بها إلا لمن لديه ما يسمى فقه القرائن، ولذا قال الحاكم: الحجة عندنا الفهم والمعرفة والحفظ لا غير.
والذي ينقل عن بعض الأئمة القدامى في بعض المناسبات من قبول زيادة الثقة بحيث يوهم أن ذلك عندهم يكون مطلقا ينبغي تفسيره بأنه في حالة ما إذا كان الحديث مجردا عن القرائن الأخرى التي يحس بها الناقد الجهبذ، وليس ذلك على إطلاقه.
قال الإمام البخاري: ''في حديث أبي إسحاق في النكاح بلا ولي : "الزيادة من الثقة مقبولة ، وإسرائيل ثقة''(1)
وقال ابن خزيمة في صحيحه : ''لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحافظ، ولكنا نقول: إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان، فروى حافظ عالم بالأخبار زيادة في خبر قبلت زيادته، فإذا تواردت الأخبار فزاد - وليس مثلهم في الحفظ - زيادة لم تكن تلك الزيادة مقبولة''. (2)
وقال الترمذي: ''وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه'' اهـ (3) .
وقال ابن عبد البر : ''إنما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبت عنه، وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ، لأنه كأنه حديث آخر مستأنف، وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ ولا متقن فإنها لا يلتفت إليها'' اهـ (4).
فهذه الأقوال التي توهم بظاهرها أنهم يقبلون الزيادة من المتقن مطلقا قد لخصها الحافظ ابن حجر بقوله :
''فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظا متقنا حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك ، فإن كانوا أكثر عددا منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقا فإن زيادته لا تقبل ، وهذا مغاير لقول من قال : زيادة الثقة مقبولة و أطلق ، والله أعلم'' (5) .
__________
(1) - شرح العلل ص: 244
(2) - حكاه الحافظ في النكت 2/688-689 .
(3) - المصدر نفسه .
(4) - المصدر نفسه 2/690 .
(5) - النكت 2/690 .(1/21)
مسألة زيادة الثقة عند علماء الأصول
أما علماء الأصول فقد لخص الحافظ ابن حجر أقوالهم وتفاصيل حكمهم في مسألة زيادة الثقة، بقوله :
''قال إمام الحرمين في البرهان - بعد أن حكى عن الشافعي و أبي حنيفة - رضي الله عنهما - قبول زيادة الثقة، فقال : هذا عندي فيما إذا سكت الباقون، فإن صرحوا بنفي ما نقله هذا الراوي مع إمكان اطلاعهم فهذا يوهن قول قائل الزيادة .
و فصل أبو نصر ابن الصباغ في ( العدة ) تفصيلا آخر بين أن يتعدد المجلس فيعمل بهما لأنهما كالخبرين، أو يتحد فإن كان الذي نقل الزيادة واحدا و الباقون جماعة لا يجوز عليهم الوهم سقطت الزيادة ، و إن كان بالعكس وكان كل من الفريقين جماعة فالقبول ، وكذا إن كان كل منهما واحدا حيث يستويان و إلا فرواية الضابط منهما أولى بالقبول .
و قال الإمام فخر الدين الرازي : إن كان الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها فلا تقبل ، وكذا إن صرح بنفيها وإلا قبلت .
وقال الآمدي : - وجرى عليه ابن الحاجب - إن اتحد المجلس فإن كان من لم يروها قد انتهوا إلى حد لا تقتضي العادة غفلة مثلهم عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فاتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على قبول الزيادة خلافا لجماعة من المحدثين.
قلت : - القائل الحافظ ابن حجر - وللأصوليين تفاصيل غير هذه'' اهـ (1) .
__________
(1) - النكت 2/693- 694 .(1/22)
ما هي صور زيادة الثقة
بقي هنا أمر ينبغي توضيحه، وهو متى يقال إنها زيادة ثقة، وما هي صورها، وذلك لأننا وجدنا عند بعض المعاصرين الأفاضل من خلط، فحكم بصحة الرواية، مع مخالفتها لما رواه الناس ، اعتبارا منه بأن تلك الرواية من زيادة الثقة، وهاك الأمثلة:
أولا: حديث رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجورين و النعلين (1) .
ورواه أيضا عن المغيرة جماعة كثيرة من أهل المدينة والكوفة والبصرة ، لكن بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين (2) .
فبجمع روايات هذا الحديث وألفاظها ومقارنة بعضها ببعض يتجلى تغاير صريح بين هزيل والجماعة في سياق الحديث، وهو أمر ينبغي النظر فيه قبل التصحيح، فهل المتن كما ساقه الناس، أم كما أورده هزيل ؟ أم روى المغيرة بلفظين جميعا، مرة بلفظ، وأخرى بلفظ، فحدث كل كما سمع؟
أما حسم هذا الخلاف بأن المغيرة بن شعبة حدث هكذا وهكذا، دون مرجح يرجحه، بل لكون راويه ثقة، وأن ما ذكره محتمل، فهو مسلك غير مألوف لدى النقاد - كما سيأتي بيانه إن شاء الله - وذلك لأن هذا الخلاف قد يكون منشؤه هو وهم بعض الرواة، وخلطه في الرواية، وقد يكون تعدد مجالس التحديث، وقد يكون غير ذلك، ولذلك ينبغي النظر والبحث عن أسباب ذلك الخلاف، لا سيما أن النقاد أعلوا حديث هزيل بن شرحبيل.
يقول علي بن المديني : ''حديث المغيرة رواه عن المغيرة أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة، ورواه هزيل بن شرحبيل، إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس'' (3) .
ويقول ابن معين: ''الناس كلهم يروونه المسح على الخفين غير أبي قيس'' (4).
وقال النسائي : ''ما نعلم أحدا تابع أباقيس على هذه الرواية ، والصحيح عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. والله أعلم''(5)
وقال أبو محمد يحيى بن منصور: رأيت مسلم بن الحجاج ضعف هذا الخبر، وقال: أبو قيس الأودي، وهزيل لا يحتملان هذا مع مخالفتهما الأجلة الذين رووا هذا الخبر عن المغيرة (6).
وكذا سفيان وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل كلهم يرون الخطأ في حديث أبي قيس عن هزيل، فيما حكاه البيهقي مؤيدا لهم بقوله: والمعروف عن المغيرة حديث المسح على الخفين اهـ(7)
غير أن الإمام الترمذي صحح هذا الحديث، وأيده بعض المعاصرين حيث قال:
''أعله بعض العلماء بعلة غير قادحة، منهم أبو داود فقد قال عقبه: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، وهذا ليس بشيء لأن السند صحيح ورجاله ثقات، وليس فيه مخالفة لحديث المغيرة المعروف في المسح على الخفين فقط، بل فيه زيادة عليه، والزيادة من الثقة مقبولة كما هو المقرر في المصطلح، فالحق أن ما فيه حادثة أخرى غير الحادثة التي فيها المسح على الخفين، وقد أشار لهذا العلامة ابن دقيق العيد، وقد ذكر قوله في ذلك الزيلعي في نصب الراية …اهـ (8) .
أقول : إنه ليس من قبيل زيادة الثقة، وإنما هو حديث تفرد به هزيل أو تلميذه أبو قيس عنه مخالفا للآخرين، إذ إنه لم يذكر مع حديثه المسح على الخفين الذي رواه غيره ليصح القول إنه زاد في حديثهم شيئا لم يذكروه، ولتوضيح هذا الخلط ذكرت هنا هذا المثال.
يقول الحافظ ابن حجر: ''ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر'' (9).
ويقول أيضا: ''وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه.. .إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ، وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها''(10).
أما قوله ''فالحق أن ما فيه حادثة أخرى غير الحادثة التي فيها المسح على الخفين'' فأسلوب ألفناه لدى كثير من الفقهاء والأصوليين والباحثين المعاصرين، وهذا الأسلوب - كما أشرت إليه آنفا - يتمثل في محاولة التوفيق بين الوجوه المختلفة بحملها على تعدد الحادثة، وما الدليل على ذلك ؟ ومبنى هذا التوفيق هو كون الراوي ثقة مع احتمال تعدد الحادثة، دون ذكر عواضد له، وهذا - كما ترى - مسلك سهل يخطر على البال في أول وهلة من البحث ، ولا يحتاج إلى حفظ ولا معرفة ولا فهم، والواقع أن الحمل على تعدد الحادثة عند اختلاف الرواة فرع عن ثبوت رواياتهم المختلفة عن شيخهم، ولا يكفي في ذلك كون الراوي الذي خالف الآخرين ثقة (11). والنقاد حين أعلوا حديث هزيل بن شرحبيل صرحوا بمخالفته الواقع الحديثي الذي كان يحفظه الناس في مختلف المدن العلمية، وأن هذه المخالفة لا تحتمل من أمثال هزيل ولا أبي قيس .
وأما تصحيح الترمذي لذلك الحديث فلعله من بعض مظاهر تساهله الذي لم يسلم منه كبير أحد، هذا وقد قال الإمام النووي : واتفق الحفاظ على تضعيف حديث أبي هزيل، ولا يقبل قول الترمذي إنه حسن صحيح (12) .
ثانيا : حديث رواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس عن علقمة بن وائل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) . فقال : آمين، وخفض بها صوته (13) بينما قال الجماعة: يمد بها صوته. وقد وردت الروايات المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر بآمين ، وهي تؤيد صحة رواية الجماعة.
وحكم النقاد على رواية شعبة بالخطأ ، كما سبق تفصيله (14) ، ولا يقال هنا إنه زيادة على لفظ الآخرين زادها شعبة وهو ثقة إمام ، لأنه لم يسق لفظ الآخرين مع حديثه .
ثالثا : ما رواه الإمام مسلم بسنده عن سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي وسليمان التيمي كلهم عن قتادة … وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا … )(15) .
فصرح الإمام مسلم هنا في حديث سليمان التيمي بزيادة لفظ ( وإذا قرأ فأنصتوا )، لأنه ذكره مع لفظ الآخرين، فأصبح زيادة على لفظ الآخرين.
فاتضح لنا بهذه الأمثلة ما هي الصور التي يصح فيها القول إنها زيادة ثقة، وبعد فننتقل إلى مسألة ذات أهمية كبرى لكثرة تعليل الأحاديث بها ، وخطورة الجهل بها ، ألا وهي مسألة تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف .
__________
(1) - أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب المسح على الجورين 1/25 " دار الكتاب العربي - بيروت - " والترمذي في الطهارة باب المسح على الحورين والنعلين 1/167 " تحقيق أحمد شاكر " وصححه الترمذي وغيرهما .
(2) - أخرجه البخاري في الوضوء باب المسح على الخفين 1/306-307 ، 309 "من فتح الباري " ومسلم في الطهارة ، باب المسح على الخفين 3/168-173 من طريق عروة عنه ، وزاد مسلم من طريق مسروق " من شرح النووي " والنسائي في الطهارة باب المسح على الخفين 1/82 -83 من طريق مسروق وحمزة وعروة جميعهم عنه " دار الكتب العلمية - بيروت - " .
(3) - سنن البيهقي 1/284 .
(4) - المصدر نفسه .
(5) - السنن الكبرى للنسائي، الطهارة ، باب المسح على الجوربين 1/93 (تحقيق البنداري ، ط: 1 ، سنة 1411هـ ، دار الكتب العلمية، بيروت )
(6) - سنن البيهقي 1/284 .
(7) - المصدر نفسه .
(8) - إرواء الغليل 1/138 ، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على حديث هزيل الذي رواه الترمذي وصححه 1/167 - 168 من سنن الترمذي .
(9) - النكت 2/691 .
(10) - المصدر نفسه 2/692 .
(11) - وقد أشرنا سابقا إلى أن إخواننا المعاصرين يربطون العلة والشاذ برواية الثقات، ويعرفونهما بما يدل على ذلك، وحين تطبيقاتهم العملية يبدو للمتأمل أن العلة والشاذ عندهم لا ينطبقان إلا على مرويات الضعفاء، وإلا فلماذا صححوا حديث أبي هزيل مع مخالفته للناس، ألا يكفيهم أن النقاد قد أعلوه، أليس هذا الحديث شاذا حسب التعريف ؟ وإذا لم يكن هذا شاذا فأي نوع من المخالفة يكون شاذا عندهم؟
(12) - حكاه الزيلعي في نصب الراية 1/184-185 .
(13) - سبق تخريجه في ص :12 .
(14) - ص:12-13 .
(15) - في كتاب الصلاة باب التشهد في الصلاة 4/119 - 122 (من شرح النووي ) .(1/23)
تعارض الوصل والإرسال وتعارض الوقف والرفع
فلما فرغنا من تحقيق أن زيادة الثقة قد تكون مقبولة وقد تكون مردودة حسب دلالة القرائن المحيطة بروايتها على مذهب نقاد الحديث ناسب تناولنا مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف، إذ إن الوصل يعتبر زيادة بالنسبة إلى الإرسال وكذا الرفع بالنسبة إلى الوقف .
وحين يعل النقاد حديثا موصولا على أساس أن الأمر الواقع والثابت في ذلك الحديث هو إرساله ، فإن كثيرا من المعاصرين يردونه بحجة أن الوصل زيادة ، وهي مقبولة من الثقة، ومذهب المحدثين النقاد فيها معروف بأنهم لا يقبلونها مطلقا ولا يردونها مطلقا ، بل يكون ذلك وفق ما تدل عليه القرائن التي كانوا يعرفونها بفضل خلفياتهم العلمية الحديثية، لكن الخطيب تناقض في نقل مذهبهم .
يقول الخطيب: إذا تعارض الوصل والإرسال فإن الأكثر من أهل الحديث يرون أن الحكم لمن أرسل (1) ثم تناقض بقوله : إن الجمهور من أئمة الفقه والحديث يرون أن الحكم لمن أتى بالزيادة إذا كان ثقة (2) .
ذلك لأنه إذا كان قوله '' الأكثر من أهل الحديث بقبول المرسل الذي رواه الآخر متصلا '' فكيف يكون قول الجمهور من أئمة الحديث بقبول الزيادة ؟ ، وهل بين المسألتين فرق؟
ويقول الحافظ ابن حجر تعقيبا على الخطيب:
''وهذا ظاهره التعارض ومن أبدى فرقا بين المسألتين فلا يخلو من تكلف وتعسف ، وقد جزم ابن الحاجب أن الكل بمعنى واحد، فقال: وإذا أسند الحديث وأرسلوه ، أو رفعه ووقفوه ، أو وصله وقطعوه فحكمه حكم الزيادة في التفصيل السابق'' .
''ويمكن الجواب عن الخطيب بأنه لما حكى الخلاف في المسألة الأولى من أهل الحديث خاصة عبر بالأكثر، وهو كذلك'' (؟) .
''ولما حكى الخلاف في المسألة الثانية عنهم وعن أهل الفقه والأصول صار الأكثر في جانب مقابله، ولا يلزم من ذلك دعوى فرق بين المسألتين'' اهـ (3) .
فالوصل بالنسبة إلى الإرسال، زيادة في السند وكذا الرفع بالنسبة إلى الوقف ، ولا يوجد فرق بين مسألة زيادة الثقة وبين مسألة تعارض الوصل والإسال وتعارض الوقف والرفع.
إلا أن الحافظ العلائي نقل عن شيخه ابن الزملكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل، وليس الرفع زيادة في المتن فيكون علة.
وتقرير ذلك أن المتن إنما هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان من قول صحابي فليس بمرفوع فصار منافيا له، لأن كونه من قول الصحابي مناف لكونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأما الموصول والمرسل فكل منهما موافق للآخر في كونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وتعقبه العلائي وقال : ''وهذه التفرقة قد تقوى في بعض الصور أكثر من بعض ، فأما إذا كان الخلاف في الوقف والرفع على الصحابي بأن يرويه عنه تابعي مرفوعا ويوقفه عليه تابعي آخر لم يتجه هذا البحث لاحتمال أن يكون حين وقفه أفتى بذلك الحكم وحين رفعه رواه، إلا أن يتبين أنهما مما سمعاه في مجلس واحد فيفزع حينئذ إلى الترجيح '' (4) .
أقول : إنك ترى في هذه النصوص - أيها القارئ الكريم- أنموذجا واضحا لتداخل الآراء، وحكايتها كأنها صادرة من المصادر الأصيلة، دون تفريق بين المصدر الأصيل في علوم الحديث وبين المرجع المساعد، إذ يستقل كل من المحدثين النقاد القدامى والفقهاء وعلماء الأصول المتأخرين بمنهج يختلفون فيه جوهريا.
فإذا كان علماء الحديث ينظرون في الحديث من واقع معرفتهم الحديثية، وعلم قد أوتوه، فإن الآخرين ينظرون من زاوية منطقية تقوم على التجويز العقلي، وهذا النوع من التداخل في أثناء معالجة المسائل المهمة يؤدي إلى كثرة الاختلافات، وتفاوت الترجيحات، وبالتالي يجد الطلاب صعوبة في الفهم والاستيعاب، ويفقدون فرص الاطلاع على حقيقة منهج المحدثين النقاد، ودقته.
وكان ينبغي معالجة مسألة التعارض من زاوية منهج المحدثين، فإنها من تخصصاتهم، ولذا تكون نظرة العلامة ابن الزملكاني فيها غريبة، لاعتماده فيهاعلى مقتضى العقل، ولذا جاء من تلميذه العلائي تعقيبه بما سبق .
وأما المحدثون النقاد الذين يحفظون الأحاديث من مصادرها المختلفة، ويعاينون أصولها ويعرفون ملابسات كل رواية من روايات أصحابها، فإذا روى راو عن شيخ معروف حديثا موقوفا، ورواه عنه غيره مرفوعا، فينظرون: هل قال شيخهم ذلك الحديث مرفوعا ؟ أو موقوفا ؟ أو مرفوعا في مجلس وموقوفا في آخر ؟ وكذا الأمر بالنسبة إلى التعارض في الوصل والإرسال، وكل ذلك أمر محتمل في حق الراوي، فآل الأمر عندهم في معالجة مثل هذا الاختلاف إلى مرجح واقعي، بغض النظر عن مدى وجود تناف بين الروايات المختلفة.
وأما العلامة ابن الزملكاني فعالج مسألة هذا التعارض من جهة وجود تناف وعدمه، فذهب إلى تفريقه بين مسألة التعارض في الوصل والإرسال، ومسألة التعارض في الوقف والرفع، حين قال بأن الوصل مقبول لعدم وجود تناف بينه وبين الإرسال بالنسبة إلى ما يخص المتن، حيث تتفق الروايتان على رفعه، بخلاف الأمر في التعارض بين الرفع والوقف، فإن بينهما تنافيا في ذلك، فلذا لا يقبل الرفع.
وفي حالة وجود اختلاف بين الرواة في الزيادة والنقص في المتن، ينبغي النظر فيما صدر عن شيخهم : هل ذكر المتن بالزيادة أو بدونها، فالحكم على تلك الزيادة بقبولها أو بردها ينبغي أن يكون على معرفة أسباب هذا الاختلاف، قد يكون سببه وهما أو تلفيقا، أو رواية بالمعنى ، وقد يكون سببه ما ذكره الخطيب، وأما أن يكون ذلك على أساس وجود التنافي وعدمه، - أي إذا كانت الزيادة تتنافى مع ما رواه الآخرون فترد، وإلا فتقبل مطلقا - فأمر يستبعده الذوق الحديثي.
وننهي هذا الموضوع بشرح سريع لمعنى قولهم (كثر تعليل الوصل بالإرسال، وتعليل الرفع بالوقف).
__________
(1) - الكفاية ص : 411 وانظر الكلام على حديث " لا نكاح إلا بولي " .
(2) - الكفاية ص:424 .
(3) - النكت 2/ 695 .
(4) - النكت 2/605 .(1/24)
معنى قولهم (كثر تعليل الوصل بالإرسال وتعليل الرفع بالوقف)
قد يخيل إلى من يقرأ قولهم (كثر تعليل الوصل بالإرسال وتعليل الرفع بالوقف) أن الإرسال يكون هو الراجح عند اختلاف الرواة في الوصل والإرسال، كما يترجح الوقف على الرفوع، لكن الأمر الواقع هو أن الإرسال أو الوقف لم يكن بمجرده معيارا لتعليل الموصول ولا المرفوع، ولذا ينبغي فهم هذا النص في ضوء منهج النقاد في مجال التعليل والتصحيح.
ومن المعلوم أن الحديث المتصل يكون معلولا إذا خالف المرسل لكونه هو المشهور بين الثقات أو الأمر الثابت، وكما أن إرسال بعض الرواة لا يقدح فيما روى الآخر متصلا، لكن فقط إذا ثبت عن شيخهم أنه قد روى أيضا متصلا.
وكذا الأمر في الرفع والوقف، فإنه يعل الرفع إذا تبين للناقد من خلال ما لديه من خلفيات علمية واسعة أن هذا الرفع وهم من الراوي، والصحيح عن الشيخ وقفه على التابعي أو غيره، ولذا فإنه لا بد من التفطن إلى أن التعليل والترجيح دائما يدوران على ما يحيط بالحديث من قرائن علمية.
ولما كان وصل المرسل أو رفع الموقوف كثير الوقوع من الثقات والضعفاء، لسهولة الانتقال إليهما على الألسنة كالجادة، بخلاف الإرسال والوقف، قالوا: ''كثر تعليل الوصل بالإرسال وتعليل الرفع بالوقف''، يعني بذلك أن أكثر الأخطاء التي يقع فيها الرواة الثقات والضعفاء المقبولون هو وصل المرسل بل رفع الموقوف.
ومن تتبع كتب العلل وجد صورا عديدة لظاهرة الاختلاف بين الرواة، مرة في الوصل والإرسال، وأخرى في الرفع والوقف، وثالثة في الزيادة والنقص، أو غير ذلك، وبدراسة صورة من صور الاختلاف دراسة نقدية يتبين أنها لا تخرج عن مضمون مصطلح من المصطلحات الآتية: الشاذ ، والمنكر، والمدرج ، والمقلوب ، والمصحف ، والمضطرب، ولهذا أصبح الترابط بين هذه المصطلحات والعلة جليا، وفي الفقرات الآتية يأتي مصطلح الشاذ .(1/25)
الشاذ
الشذوذ معناه في اللغة التفرد (1) أما في الاصطلاح فقد اختلفوا قديما في تحديد مدلوله، غير أنهم اتفقوا في الحكم عليه بالرد .
وجدير بالذكر أن لفظة "الشاذ" لم يقع إطلاقها في مصادر العلل، في حدود تتبعي لها ، والذي كثر إطلاقه فيها عوضا عن هذا المصطلح هو لفظ "الوهم" و"الخطأ" و "غير محفوظ" وأحيانا "المنكر" .
قال الخليلي : ''وأما الشواذ فقد قال الشافعي وجماعة من أهل الحجاز: الشاذ عندنا ما يرويه الثقات على لفظ واحد ويرويه ثقة خلافه زائدا أو ناقصا، والذي عليه حفاظ الحديث، الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة فما كان من غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان من ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به'' اهـ (2) .
وقال الحاكم : الشاذ غير المعلول فإن المعلول ما يوقف على علته : أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل بمتابع لذلك الثقة (3) .
وإن كانوا قد اختلفوا في معنى الشاذ لكنهم متفقون عموما على أن الحديث الذي خالف فيه راويه ما ثبت عن مصدره، وكذا الحديث الذي تفرد به راو وليس لذلك الحديث أصل، كل ذلك مردود لا يحتج به، كما يتبين ذلك جليا من الفقرات الآتية:
أما الإمام الشافعي - رحمه الله - فقد اشترط في صحة الحديث والاحتجاج به سلامته من مخالفة الراجح، والتفرد بما ليس له أصل.
أما المخالفة فيقول فيها الإمام الشافعي -رحمه الله - :
''ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا
منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه،
معروفا بالصدق في حديثه،
عاقلا لما يحدث به،
عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، ولا يحدث به على المعنى ، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام ، وإذا أدى بحروفه لم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث.
حافظا إن حدث من حفظه
حافظا لكتابه إن حدث من كتابه
إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم
بريا من أن يكون مدلسا يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه ، ويحدث(4) عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث الثقات خلافه ،
ويكون هكذا من فوقه ممن حدث حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى من انتهى به إليه دونه ، لأن كل واحد مثبت لمن حدثه ومثبت على من حدث عنه . اهـ (5) .
والذي يهمنا هنا هو قوله : '' أن يكون ( يعني الراوي الثقة ) بريا من أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث الثقات خلافه''، إذ جعل الإمام الشافعي سلامة الحديث من مخالفة الثقات فيه من شروط الاحتجاج به، وذلك معنى الشذوذ عنده ، كما أوضحه ابن رجب الحنبلي الحافظ بما يلي :
'' الخامس (6) : أن يكون في حديثه الذي لا ينفرد به يوافق الثقات في حديثهم ولا يحدث بما لا يوافق الثقات ، وهذا الذي ذكره معنى قول كثير من أئمة الحفاظ في الجرح في كثير من الرواة يحدث بما يخالف الثقات ، أو يحدث بما لا يتابعه الثقات عليه ، لكن الشافعي اعتبر أن لا يخالفه الثقات ، ولهذا قال بعد هذا الكلام: (بريا أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يحدث الثقات خلافه) ، وقد فسر الشافعي الشاذ من الحديث بهذا '' اهـ (7) .
وأما التفرد فقد قال فيه الإمام الشافعي: '' فعليك من الحديث بما تعرفه العامة، وإياك والشاذ منه'' (8)، وعلى هذا القول فما لا تعرفه عامة الحفاظ من الحديث يعده الشافعي شاذا مردودا، سواء تفرد الراوي به أم خالفهم فيه، ويبدو لي أن هذا القول لا يتناقض مع قوله السابق حول المقصود بالشاذ، فإنه لم يذكر ذلك كتعريف عام لمصطلح الشاذ، وليس ذلك من شأنه ولا من شأن علماء تلك العصور، وإنما ذلك في مناسبة علمية لها صلة بدفاعه عن موقف أهل السنة والجماعة، وإنكاره على أهل البدع الذين اشترطوا تعدد الرواة ليحتج بالحديث.(9)
ثم إن الإمام الشافعي كان من عادته أن يثبت ما أثبته المحدثون النقاد من الأحاديث، ويترك ما تركه الحفاظ، ولم يعرف عنه ( رحمه الله تعالى ) منهج جديد مناقض لمنهج المحدثين عموما في قبول الأحاديث الشاذة الغريبة التي ليس لها أصل.
يقول الإمام أحمد : ''قال لنا الشافعي : أنتم أعلم بالحديث والرجال مني ، فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني، إن شاء يكون كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا''(10)
فائدة :
لا بد أن يفهم أن قول الإمام الشافعي (رحمه الله ) ليس فيه دلالة على أن كل ما خالف فيه الثقة لغيره من الثقات أو الأوثق منه يعتبر شاذا ينبغي الاحتراز منه في الحديث الصحيح، وإنما يدل على ما ترجح بالقرائن أنه مرجوح ووهم .
ولهذا قال (رحمه الله) في زيادة مالك ومن تابعه في حديث (فقد عتق منه ما عتق ) :إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو بأن يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه وهم عدد وهو منفرد ، وكان يقول في مواضع مثل هذا : العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد (11).
وقال الحافظ ابن حجر: لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح - يعني الشاذ - وأن الرواية الراجحة أولى (12).
وهنا وقفة قصيرة لننظر ما مدى صحة قول بعض الفقهاء المتأخرين بأن الشاذ لا يطلق إلا على الحديث المخالف المنافي لما رواه الأوثق، وما مصدر قيد التنافي في الشاذ.
__________
(1) - لسان العرب 3/454 ومختار الصحاح ص:355 .
(2) - الإرشاد 1/188 ، وحكاه ابن عدي بسياق آخر في الكامل 1/124 .
(3) - معرفة علوم الحديث ص:119 .
(4) - عطف على قوله ''أن يكون مدلسا '' والمعنى : بريا من أن يكون يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه .
(5) - الرسالة للإمام الشافعي ص:369-372(ط:دار الفكر ، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر -سنة 1309 ( ) .
(6) - الحافظ ابن رجب في مناسبة التحليل لما ذكره الإمام الشافعي من تعريف الصحيح .
(7) - شرح العلل ص:208 .
(8) - كتاب الأم 7/307 - 308
(9) - وقد شرحت هذا الأمر بشئ من التفصيل في كتابي كيف ندرس علوم الحديث
(10) - كتاب العلل للإمام أحمد 1/462
(11) - حكاه الحافظ في النكت 2/688 .
(12) - المصدر نفسه 2/653 .(1/26)
هل يشترط في الشاذ التنافي مع المخالفة
لم يشترط الإمام الشافعي للشاذ أن يكون منافيا لما رواه غيره بحيث يتعذر الجمع بينهما، لا تصريحا ولا تلميحا، بل اشترط مخالفة الراجح، وهي أعم من أن تكون المخالفة منافية للرواية الأخرى، أو غير منافية لها ، أي أن تكون المخالفة بحيث يتعذر الجمع فيها على قواعد نقاد الحديث، ويشهد له ما ذكر من أمثلة الشاذ.
وإنما عرف هذا الشرط عن بعض الفقهاء والأصوليين – كابن الصلاح ، وابن حجر الهيتمي الفقيه والزرقاني والأهدل وغيرهم – إلا إن فيهم من أطلق القول بتعذر الجمع، من غير تقييد بكونه على قواعد نقاد الحديث، وإن كان مقصوده به هو المنافاة التي تجعل الجمع متعذرا ، فيأتي النقاش حول ذلك الشرط في الفقرات التالية:
لقد ناقش هذه المسألة المباركفوري (رحمه الله) في مناسبة تصحيح كلمة (على صدره) التي زادها أحد الرواة في حديث قبيصة بن هلب عن أبيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه، حتى انتهى إلى ضرورة تقييد المخالفة بالمنافاة بحيث يتعذر الجمع (1) .
وكان قد استدل على ذلك بما ذكره الحافظ ابن حجر:
’’وأما المخالفة فينشأ عنها الشذوذ والنكارة، فإذا روى الضابط أو الصدوق شيئا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ‘‘ (2) .
يقول المباركفوري معلقا عليه:
فهذا التعريف هو الذي عليه المحققون وهو المعتمد، قال الحافظ في شرح النخبة : فإن خولف بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالراجح يقال له : ( المحفوظ) ومقابله – وهو المرجوح – يقال له :"الشاذ " – إلى أن قال – وعرف من هذا التقرير أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه وهو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح اهـ(3) .
ثم قال المباركفوري: ’’المراد من المخالفة في قوله : ( مخالفا ) المنافاة دون المطلق، يدل عليه قول الحافظ في هذا الكتاب ( يعني نخبة الفكر ) وزيادة راويهما - أي الصحيح والحسن - مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقا؛ لأنها في حكم الحديث المستقل الذي يتفرد به الثقة ، ولا يرويه عن شيخه غيره ، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح ‘‘ (4) .
أقول: لقد سبق أن مجرد المخالفة بين ثقة وأوثق، أو بين واحد وجماعة لا تستدعي الشذوذ في رواية الثقة، إلا بعد أن تم ترجيح رواية الأوثق أو رواية الجماعة وفق منهج النقاد، وأما قيد المنافاة فلم يرد في نصوص المتقدمين الذين أوضحوا معنى الشاذ - لا تصريحا ولا تلميحا – .
وأما كلام الحافظ ابن ححر الذي استدل به المباركفوري على مراعاة قيد المنافاة في تعريف الشاذ ففيه النقاط التالية :
أولا : إن الأمثلة التي ساقها الحافظ ابن حجر وغيره للحديث الشاذ ليس في معظمها إلا المخالفة دون المنافاة .
ثانيا : نصوص الحافظ ابن حجر غير الأخير فيما يتعلق بالشاذ، كلها صريحة في عدم التقييد بالمنافاة، وهي المعتمدة؛ لأنها في صدد تعريف مصطلح الشاذ، وأما النص الأخير فهو فيما يتعلق بمسألة زيادة الثقة، حتى إنه أكد بقوله ’’ وعرف من هذا التقرير أن الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه ، وهو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح ‘‘ .
وأما النص الأول، وهو ’’ فإذا روى الضابط أو الصدوق شيئا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددا بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ‘‘ فليس فيه ما يدل على قيد المنافاة، إذ إن معنى قوله : ’’ بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين ‘‘ أي يتعذر الجمع بين الوجوه المختلفة، لعدم دلالة القرائن على ذلك.
ثالثا: لو كانت المنافاة مقصودة ومتعينة في المخالفة التي يدور عليها الشاذ لخرج من الشاذ ما خالف الثقة لمن هو أرجح في وصل المرسل، أو رفع الموقوف، وذلك لعدم استكماله شرط المنافاة بينهما، ولأن الجمع فيها ممكن، وذلك خلاف الواقع.
رابعا: لو جمعنا بين الوجوه المختلفة على غير قواعد المحدثين، وقلنا بصحة جميع الوجوه المختلفة بمجرد كونها غير متنافية، لاحتمل أن يكون ذلك كذبا على الشيخ الذي اختلفوا عليه، ذلك لأنه إذا لم يكن بينها تناف لا يعني بالضرورة أن ذلك الشيخ قد ذكر الوجهين جميعا، وقد لا يكون ذكر إلا وجها واحدا.
ولكي يكون الحكم بالجمع أو بالترجيح في حالة الاختلاف بين الرواة منطقيا ومنهجيا فإنه ينبغي البحث عن القرائن والمناسبات التي تحف الروايات، وفقه دلالاتها، ومن الجدير بالذكر أن المحدثين النقاد لم يضعفوا حديث ثقة لمجرد أنه خالف فيه أوثق أو جماعة، بل بحسب الأدلة والقرائن والمرجحات، ولهذا قال الحاكم : الحجة عندنا الحفظ و الفهم والمعرفة لا غير.
يقول الحافظ ابن حجر: ’’واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريقة المحدثين الذين يشترطون في الصحيح والحسن أن لا يكون شاذا، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه‘‘ ،
’’والمنقول عن أئمة المحدثين المتقدمين كابن مهدي ويحيى القطان وأحمد وابن معين وابن المديني والبخاري وأبي زرعة و أبي حاتم والنسائي والدار قطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة، وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة، مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك‘‘ اهـ (5).
غير أن الحافظ قال: ’’وزيادة الثقة راويهما – الصحيح والحسن – مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقا … وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى فهذه هي التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح‘‘ اهـ (6) .
ويفهم من ظاهر هذا القول أن التفصيل في قبول الزيادة وردها هو وجود المنافاة وعدمها، بينما يدل القول السابق على تفصيل آخر، وهو أن يكون القبول والرد وفق دلالة القرائن، بغض النظر عن المنافاة وعدمها، وهو الصواب الذي عليه نقاد الحديث. والله أعلم .
__________
(1) – تحفة الأحوذي 1/216- 217 .
(2) – شرح النخبة ص: 28 .
(3) - تحفة الأحوذي 1/217
(4) – تحفة الأحوذي 1/217 . وجاء هذا الموضوع بشيء من التفصيل في بحث مستقل حول زيادة الثقة .
(5) – انظر النكت 2/692 والنخبة ص:13 .
(6) – انظر نخبة الفكر ص:37 .(1/27)
خلاصة القول
فالخلاصة : أن المنافاة ليست قيدا في المخالفة التي تكون بين الثقة والأرجح ليكون حديث الثقة شاذا مردودا، ولا هي معروفة في نصوص الإمام الشافعي ولا غيره من القدماء، ولا في تطبيقاتهم العملية.
كما يستخلص مما سبق أن الشاذ لدى الإمام الشافعي مردود، سواء أكان الشاذ هو الحديث الذي لا تعرفه العامة، أم الحديث الذي خالف فيه الثقة غيره من الثقات، وذلك لأن الشذوذ ناتج من خطأ الراوي، ولهذا اشترط الإمام الشافعي وغيره سلامة الحديث من الشذوذ لكي يكون محتجا به.(1/28)
حكم الشاذ عند الخليلي
أما ما ذكره الخليلي في معنى الشاذ عند الحفاظ فقد ورد نحوه عن غير واحد من الحفاظ .
عن صالح بن محمد الحافظ :’’الحديث الشاذ المنكر الذي لا يعرف ‘‘،
وعن إبراهيم بن أبي عبلة: ’’من حمل شاذ العلم حمل شرا كثيرا ‘‘،
وعن معاوية بن قرة: ’’ إياك والشاذ من العلم‘‘ ،
وعن شعبة : ’’لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ‘‘ ،
وعن ابن مهدي : ’’لا يكون إماما في العلم من يحدث بالشاذ ‘‘،
وعن الإمام أحمد : أنه قال في حديث أسماء بنت عميس : تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما بدا لك: ’’إنه من الشاذ المطروح‘‘ (1) .
والشاذ على هذا الإطلاق مما ينبغي الاحتراز عنه ليكون الحديث صحيحا ومحتجا به ، حسبما فصله الحافظ الخليلي بقوله :
’’فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به ‘‘
__________
(1) – حكاها ابن رجب الحنبلي في شرح العلل ص : 236 . معناه : البسي ثياب الحداد السود . (انظر لسان العرب، مادة: سلب )(1/29)
ما المراد بالتفرد عند الخليلي
إن الحافظ الخليلي لم يقصد بالتفرد تفردا مطلقا بحيث يتضمن ما تفرد به إمام متقن ومن دونه، وإنما أراد به تفردا خاصا ينفرد به شيخ، وهو دون مرتبة الأئمة والحفاظ، يقول الحافظ ابن رجب :
’’ولكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ، والشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره ، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فردا، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات أو أفراد إمام عن الحفاظ والأئمة صحيح متفق عليه، ومثله بحديث مالك في المغفر. اهـ (1).
فالحافظ الخليلي لا يعتبر تفردات الأئمة أو الثقات الحفاظ المشهورين شواذ ، كما هو ظاهر من تعريفه للشاذ ، ويشهد له ما صرح به في مسألة الأفراد : وأما الأفراد فما يتفرد به حافظ مشهور ثقة أو إمام عن الحفاظ والأئمة فهو صحيح متفق عليه – كحديث مالك عن الزهري في قصة المغفر – فهذا وأمثاله من الأسانيد متفق عليها (2) .
على أنه لم يشترط في صحة الحديث والاحتجاج به تعدد الرواة في كل طبقة من طبقات السند ، وهذا لم يعرف إلا عن الخوارج وطوائف من أهل البدع .
فمراده واضح بقوله في تعريف الشاذ، إنه تفرد خاص ينفرد به الشيوخ، ويثير ذلك التفرد في قلب الناقد ريبة حول ضبط الراوي المتفرد .
وعليه فلا يبقى هنا مجال للاعتراض عليه بأنه يلزم من تعريفه للشاذ أن يدخل تفردات الثقات المعروفين التي اتفق على صحتها والاحتجاج بها الشيخان، كحديث : ’’إنما الأعمال بالنيات ‘‘وغيره من الأحاديث الكثيرة المخرجة في الصحيحين ، مع أنها أفراد تفرد بها الثقات،
وقد اعترض عليه بها بعض المتأخرين كابن الصلاح والنووي والحافظ ابن حجر وغيرهم، حين نظروا إلى قول الخليلي كتعريف ، إذ التعريف ينبغي أن يكون جامعا مانعا وواضحا وموجزا، كما هو معروف في علم المنطق، ولا ينفع القول في التعريف أن صاحبه قصد المعنى المطلوب، وإن لم يكن ذلك واضحا من التعريف.
وهذا النوع من التفرد لا يختلف الإمام الشافعي مع غيره من الحفاظ في عدم الاحتجاج به، كما أن الحفاظ الذين نقل عنهم الخليلي معنى الشاذ لا يختلفون مع الإمام الشافعي في عدم الاحتجاج بالحديث الشاذ الذي فيه مخالفة لما هو أرجح ، لأنه إذا كان الحديث الغريب الذي ليس له أصل غير مقبول عندهم فإن الذي خالف الواقع يكون من باب أولى أن لا يقبلوا ذلك الحديث لظهور خطأ فيه، وأما الخليلي فقد يقبله، إذ من رأيه أن يقبل زيادة الثقة مطلقا (3).
__________
(1) – شرح العلل ص:256 .
(2) – الإرشاد1/187 .
(3) – سبق البيان بأن الخليلي ممن يقبل زيادة الثقة مطلقا كوصل ثقة ضابط لما أرسله الجماعة ، فإنه يقبله لكون الوصل زيادة ثقة .(1/30)
حكم الشاذ عند الحاكم
أما الحاكم فقد أراد بالشاذ ما هو أدق وأغمض من الحديث المعلول، إذ إنه فرق بينهما بقوله:
’’الشاذ غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل بمتابع لذلك الثقة ‘‘ .
يقول الحافظ ابن حجر معلقا عليه : ’’وهو على هذا أدق من المعلل بكثير ، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة وكان في الذروة العليا من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة ورزقه الله نهاية الملكة، وأسقط الزين العراقي من قول الحاكم قيدا لا بد منه ، وهو أنه قال: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك‘‘ (1) .
وهذا القيد – وإن لم يصرح به الحاكم – فإنه يفهم من سياق كلامه، والأمثلة التي ساقها للحديث الشاذ.
يقول السخاوي: والشاذ لم يوقف له على علة ، وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذاك (يعني المعلول) في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه، وأنه من أغمض الأنواع وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله الفهم الثاقب والحفظ الواسع والمعرفة التامة بمراتب الرواة والملكة القوية بالأسانيد والمتون ، وهو كذلك، بل الشاذ أدق من المعلل بكثير اهـ (2) .
فمقصود الحاكم بقوله: ’’الشاذ غير المعلول‘‘ أنه غير واضح العلة، ولا يعني أنه نوع منفصل عن العلة.
كما أن الحاكم ( رحمه الله ) لم يرد بقوله في الشاذ تفردا مطلقا، وإنما أراد نوعا خاصا من تفردات الثقات مما يتوقف الناقد الجهبذ عن قبوله والاحتجاج به لوجود الوهم فيه ، والدليل على ذلك ما شرحه في قسم الغريب والأفراد ، وهذا نصه:
’’ فنوع منه غرائب الصحيح - ثم ذكر المثال من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر بن عبد الله يقول : كنا يوم الخندق نحفر … الحديث ، رواه البخاري في الجامع الصحيح - فهذا حديث صحيح وقد تفرد به عبد الواحد بن أيمن عن أبيه وهو من غرائب الصحيح‘‘ (3) .
وذكر حديثا آخر، وهو ما رواه عبد الله بن عمرو قال : (لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فلم ينل …) ثم قال الحاكم : رواه مسلم في المسند الصحيح، وهو غريب صحيح فإني لا أعلم أحدا حدث به عن عبد الله بن عمرو غير أبي العباس السائب بن فروخ، ولا عنه غير عمرو بن دينار، ولا عنه غير سفيان بن عيينة، فهو غريب صحيح اهـ (4) .
وإن كانت الشبهة التي أثارها الإمام ابن الصلاح وغيره حول التعريف لكونه غير مانع لدخول الأحاديث الصحيحة الغريبة فيه قد يجاب عنها بأنه لم يقصد بالشاذ التفرد المطلق كما سبق بيد أن قول الحاكم باعتباره تعريفا يبقى مشكلا فنيا لعدم استيفائه شروط التعريف، إذ لا ينفع القول في مناسبة التعريف إنه قصد المعنى المراد، وإن لم يفهم ذلك من ظاهر العبارة، وقد يقال إن الحاكم ليس من أهل المنطق، وبالتالي لا ينبغي النظر في نصوصه بزاوية المنطق. (5).
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أنه قد يرد لفظ الشاذ في نصوص بعض الأئمة، مثل الخليلي، والحاكم والبيهقي في غير ما ذكروا من المعنى، ألا وهو مجرد الغرابة، فكما يقال هذا حديث غريب صحيح يقال هذا شاذ صحيح، ومعنى الشاذ هنا غريب فقط(6) .
وعلى العموم فالحديث الشاذ مردود لدى الجميع، ولا يعني بما سبق من اختلافهم في التعريف أن كل واحد منهم يصحح الحديث الشاذ حسب تعريف الآخر، ولا يرده إلا إذا كان حسب تعريفه، فإنهم ليسوا على حدود أهل المنطق. والله أعلم.
وبقي لنا شيء آخر يقتضي منا النظر فيه، وهو ما ذكره ابن الصلاح تلخيصا لموضوع الشاذ.
__________
(1) – نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/379 .
(2) – فتح المغيث 1/232(تحقيق الشيخ علي حسن علي ، ط:إدارة البحوث الإسلامية – الهند ، سنة 1407 ( ) .
(3) – معرفة علوم الحديث ص:94 .
(4) - معرفة علوم الحديث ص:95 .
(5) - يقول الحافظ ابن حجر (رحمه الله ) : والحاصل من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق فيلزم على قوله أن يكون في الشاذ الصحيح وغير الصحيح فكلامه أعم ، وأخص منه كلام الحاكم لأنه يقول : إنه تفرد الثقة فيخرج تفرد غير الثقة ، فيلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ، وأخص منه كلام الشافعي ، لأنه يقول : إنه تفرد الثقة بمخالفة من هو أرجح منه ، ويلزم عليه ما يلزم على قول الحاكم ، لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح ، وأن الرواية الراجحة أولى ، لكن هل يلزم من ذلك عدم الحكم عليه بالصحة ؟ محل توقف اهـ ( النكت 2/652 – 653).
أقول : فيه أمور لا بد من التأمل فيها ، أولا : إن الخليلي لم يسو بين الشاذ والفرد المطلق كما سبق تحقيقه. وثانيا : إن الحاكم لم يعرف الشاذ بما يشمل الغريب الصحيح ، وإنما عرفه بما يخرجه منه ، واستشهدنا عليه بقوله ، فإذا هو الآن يعقب على تعريف الحاكم بقوله :" إنه يلزم عليه أن يكون في الصحيح الشاذ وغيره " ، وثالثا : إن الشاذ عند الشافعي مردود وغير محتج به ، كما سبق تحقيقه ، لأنه اشترط في الخبر المحتج به عدم المخالفة لما رواه الناس ، فلا مجال للتساؤل هل يلزم منه عدم الحكم عليه بالصحة أو لا ؟
(6) - قد أجاد أخونا الفاضل الشيخ حاتم الشريف (حفظه الله تعالى ) حين عالج هذا المصطلح في كتابه ( المنهج المقترح ) ، جزاه الله خير الجزاء(1/31)
تلخيص ابن الصلاح لموضوع الشاذ
يقول ابن الصلاح ( رحمه الله تعالى)
’’إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا،
وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره ، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه، كما سبق من الأمثلة ،
وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده خارجا له مزحزحا له عن حيز الصحيح ، ثم هو بعد ذلك بين مراتب متفاوتة بحسب الحال ،
فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف ،
وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر.
فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان :
أحدهما الحديث الفرد المخالف ،
والثاني الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجب التفرد والشذوذ من النكارة والضعف‘‘. والله أعلم اهـ (1) .
أقول : إنه تحرير وتلخيص جيد ، ويكون للعمل به مجال خاص، ينبغي أن يحدد هذا المجال في ضوء ما شرحه في نوع العلة(2)، ولا يصلح أن يعتبر كقاعدة مطردة، كما جعلها كثير من المعاصرين ، وبنوا على ذلك دراساتهم الحديثية، فصححوا حديثا إذا كان رواته ثقات، متساهلين في مدى استيفائه بقية شروط الصحة ، لا سيما سلامته من الشذوذ والعلة، وإن كان فيهم صدوق حسنه ، وإن كان فيه ضعيف ضعفه.
ومما يدل على أن ما لخصه ابن الصلاح إطلاق فيما ينبغي تقييده قول ابن رجب الحنبلي :
’’وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يتابع عليه ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه، كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه‘‘ (3) .
__________
(1) – مقدمة ابن الصلاح ص:104 (مع التقييد والإيضاح بتحقيق عبد الرحمن ) .
(2) - وهو قوله الدقيق : ’’ويستعان على إدراك العلة بالتفرد والمخالفة ... ‘‘
(3) – شرح ابن رجب الحنبلي ص:208 .(1/32)
المنكر
المنكر لغة : نَكِرَ الأمرَ نكيرا وأنكره إنكارا ونُكرا جهله، (1) ويكون معنى المنكر المجهول وغير المعروف ، والنَّكِرَة ضد المعرفة، وجاء إطلاقه على هذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم .
كقوله تعالى :" وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون " (2) .
وقوله تعالى :" فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون " (3).
وقوله تعالى : " … إذ دخلوا عليه فقالوا سلما قال سلم قوم منكرون "(4) .
وقوله تعالى :" يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها " (5) .
أما في الاصطلاح فقد تنوعت الأقوال في تحديد مدلول المنكر، ومع ذلك فقد استقر معناه عند كثير من المتأخرين بأنه حديث رواه الضعيف مخالفا فيه الثقات، كما حرره الحافظ ابن حجر في مؤلفاته مثل نخبة الفكر، والنكت على ابن الصلاح، والذي يظهر من خلال تتبع مصادر العلل والتراجم واستقرائها أن هذا المعنى الذي استقر عليه رأي المتأخرين فيه تضييق لما وسعه نقاد الحديث؛ إذ معنى المنكر عندهم " كل حديث غير معروف عن مصدره " ، سواء أ كان من رواية الثقة أم الضعيف ، سواء تفرد به الراوي مع المخالفة أو بدون المخالفة ، وللنقاد ألفاظ أخرى يعبرون بها عن معنى المنكر، وهي :" خطأ " "وهم" ، "غير محفوظ" ، "غير صحيح"، "لا يشبه" ، "غريب" ، "لا يثبت " ، "لا يصح" ، وهذه الكلمات هي أكثر استعمالا بالنسبة إلى كلمة المنكر.
وإليك من نصوصهم ما يؤيد ذلك :
قال ابن عدي : ’’وهذا الحديث ينفرد به إسماعيل بن عياش عن الزبيدي ، وهو منكر من حديث الزبيدي ، وكان ابن عياش حمل حديث الزبيدي على حديث ابن سمعان، فأخطأ، والزبيدي ثقة وابن سمعان ضعيف "(6) ،فأطلق ابن عدي على ما تفرد به ابن عياش عن الزبيدي منكرا ، لأنه لا يعرف هذا الحديث في أحاديث الزبيدي فروايته عنه خطأ ووهم ، ولعله تداخل عليه حديث ابن سمعان .
وقال أيضا حديث : ’’حديث إسماعيل بن أبي أويس عن مالك عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: (فإذا وضع بين يدي أحدكم طعام…) حديث منكر عن مالك لا أعرفه إلا من حديث ابن أبي أويس عنه ، وابن أبي أويس هذا روى عن خاله مالك أحاديث غرائب لا يتابعه أحد عليها ‘‘ (7) .
وقال أيضا : ’’ وإسرائيل بن يونس كثير الحديث مستقيم الحديث في حديث أبي إسحاق وغيره ، وهذه الأحاديث التي ذكرتها من أنكر أحاديث رواها ، وكل ذلك محتمل ‘‘ (8) .
وقال أيضا : ’’ وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن أيوب بن مسكين أبي العلاء هي أحاديث معروفة ولم أجد في سائر أحاديثه غير ما ذكرت أيضا شيئا منكرا ، ولهذا قال ابن حنبل: لا بأس به لأن أحاديثه ليست بالمناكير ‘‘ (9) .
وقال أيضا :" وهذه الأحاديث مع غيرها مما يرويه إسحاق بن بشر هذا غير محفوظة كلها وأحاديثه منكرة إما إسنادا أو متنا لا يتابعه أحد عليها " (10) .
فهذه المجموعة من نصوص الحافظ ابن عدي تؤيد ما قلنا من أن نقاد الحديث يطلقون المنكر على معنى أن الحديث غير معروف عن مصدره، سواء تفرد به راويه – ثقة كان أم ضعيفا – أو خالفه غيره من الثقات، يعني أنه خطأ أو وهم أو غير محفوظ أو غريب لا يتابعه عليه أحد .
قال الإمام البخاري :" روى عن زهير – بن محمد الخراساني – الوليد بن مسلم وعمرو بن أبي سلمة مناكير "(11) يعني ما لا يعرف عنه من الأحاديث .
وقال الإمام أحمد : " الشاميون يروون عن زهير بن محمد الخراساني أحاديث مناكير "(12) .
وقال النسائي :"عند المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير غير حديث منكر " (13).
وقال يحيى بن معين :" ما أنكر حديثه – يعني حديث المغيرة – عن أبي الزبير " (14) .
وقال البخاري :" عمرو بن أبي عمرو صدوق لكن روى عن عكرمة مناكير " (15) .
وقال البخاري :" روى أحمد بن الحارث عن السراء بنت نبهان أحاديث لا يتابع منها على شيء مناكير، وليس يعرف لسراء بنت نبهان إلا حديث واحد " (16) .
وقال أيضا :" حديث أيوب بن واقد ليس بالمعروف منكر الحديث " (17) .
وقال العقيلي :" في حديث رواه إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة : هذا حديث باطل أنكره أحمد على إسماعيل بن عياش، يعني أنه وهم من إسماعيل " (18) .
وقال علي بن المديني :" في أحاديث معمر – هو ابن راشد – عن ثابت أحاديث غرائب ومنكرة " (19) .
وقال أيضا :" أكثر جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت، وكتب مراسيل، وكان فيها أحاديث مناكير عن ثابت " (20) .
وقال العقيلي :" أنكرهم رواية عن ثابت معمر "(21) .
وقال ابن معين :" لم يزل عبد الرزاق يحدث بها عن عبيد الله بن عمر ، ولكنها كانت منكرة " (22) .
وقال الإمام أحمد : روى عبد الرزاق عن سفيان عن عبيد الله أحاديث مناكير ، هي من حديث العمري (23) يعني عبد الله بن عمر العمري أخوه ، وهو ضعيف .
وقال ابن عدي : " روى ابن وهب عن شبيب بن سعيد الحبطي أحاديث مناكير " (24) .
وقال أيضا:" أحاديث يزيد بن إبراهيم التستري مستقيمة إنما أنكرت عليه أحاديث رواها عن قتادة عن أنس"(25).
وقال النسائي : حديث الدراوردي عن عبيد الله بن عمر منكر (26) ، وقال أبو حاتم : ونعرف سقم الحديث وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته (27) .
وقال أبو داود بعد روايته لحديث همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل الخلاء وضع خاتمه:
" هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه ، والوهم فيه من همام ولم يروه إلا همام " (28) .
وقال أيضا عن حديث رواه أبو خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ ، قال فقلت له : صليت ولم تتوضأ وقد نمت، فقال : إنما الوضوء على من نام مضطجعا :
وقال أبو داود: قوله: "الوضوء على من نام مضطجعا " هو حديث منكر لم يروه إلا يزيد الدالاني عن قتادة ، وروى أوله جماعة عن ابن عباس، لم يذكروا شيئا من هذا " (29) .
فأطلق الإمام أبو داود على حديث همام عن ابن حريج منكرا مع كونه ثقة ، كما أطلق على حديث أبي خالد الدالاني الضعيف .
قال الإمام النسائي : بعد روايته حديث أبي الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اشربوا في الظروف ولا تسكروا :
"وهذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم ، لا نعلم أن أحدا تابعه عليه من أصحاب سماك بن حرب ،… وقال أحمد بن حنبل : كان أبو الأحوص يخطئ في هذا الحديث " (30) .
أبو الأحوص ثقة متقن، ومع ذلك فأطلق على حديثه الذي أخطأ فيه منكرا .
وهذا الإمام مسلم يوضح لنا أحسن توضيح عن المنكر وهذا نصه :
"… وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط أمسكنا أيضا عن حديثهم ، وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله " . (31)
خلاصته أن الراوي يصبح منكر الحديث ومهجور الرواية إذا كثرت في مروياته المناكير، وتعرف النكارة بمخالفة الراوي للآخرين من الحفاظ المعروفين ، ويفهم من هذا النص أنه إذا لم تكثر في أحاديثه المناكير فلا يكون هو منكر الحديث ولا مهجور الرواية، بل إما ضعيف أو ثقة تبعا لقدر أخطائه في الرواية، ولهذا أطلق الإمام مسلم لفظة (المحدث) في قوله : ’’وعلامة المنكر في حديث المحدث ‘‘، دون أن يقول ( المحدث الضعيف).
فالخلاصة أنه قد يطلق المنكر على رواية الثقة، إذا أخطأ فيها، ولا يكون الراوي منكر الحديث إلا إذا كثر ذلك في أحاديثه.
وقال الإمام مسلم أيضا :" … ولذلك ضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وأشباههم من نقلة الأخبار لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ "اهـ (32) .
وقال أيضا : ’’ استنكر أهل العلم من رواية أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان أخبارا غير هذا الخبر (يعني حديث المسح على الجوربين والنعلين )‘‘. (33)
وعبد الرحمن بن ثروان أبو قيس ليس بمتروك الحديث بل هو صدوق، من رجال البخاري (34) .
وبعد فإن نقاد الحديث يطلقون المنكر على حديث غير معروف، وغير محفوظ، وغير صحيح ، سواء رواه ثقة أو ضعيف ، ويكون المعنى: في الحديث خطأ وغلط، وعلى هذا يتبلور التطابق بين المنكر والشاذ.
ومن الجدير بالذكر أن معنى المنكر الذي سبق ذكره آنفا لا يتناقض مع ما ورد عن الأئمة كأحمد ويحيى القطان والبرديجي ، من إطلاق المنكر على التفرد، وإن كان ظاهر ذلك يوهم مطلق التفرد، حتى ولو كان المتفرد إماما؛ وذلك لأنهم لا يعتبرون الحديث منكرا إلا إذا أوقع ذلك التفرد في نفوسهم شيئا من الريبة (والله أعلم) . فإن المنكر مردود لدى الجميع، ولم يعرف عن أحد من هؤلاء الأئمة أنه أطلق المنكر على الحديث الصحيح الغريب، ثم ضعفه، وإنما فقط إذا لم يعرف ذلك الحديث إلا عن شخص واحد وليس له أصل لا رواية ولا عملا. كما يتضح ذلك من الفقرات التالية:
يقول الحافظ أبو بكر البرديجي (رحمه الله تعالى ): إن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة أو عن التابعين عن الصحابة، لا يعرف ذلك الحديث – وهو متن الحديث – إلا من طريق الذي رواه فيكون منكرا (35) .
ذكره البرديجي في سياق كلامه إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) – لسان العرب 5/233 .
(2) – سورة يوسف:الآية58 .
(3) – سورة الحجر :الآية 62 .
(4) – سورة الذاريات : الآية 25 .
(5) – سورة النحل : الآية 83 .
(6) – الكامل 1/292 إسماعيل بن عياش ثقة في روايته عن الشاميين والزبيدي محمد بن الوليد حمصي شامي ثقة معروف .
(7) – الكامل 1/318 . إسماعيل بن أبي أويس فيه كلام .
(8) – المصدر نفسه 1/614 .
(9) المصدر نفسه 1/347 .
(10) المصدر نفسه 1/331 .
(11) – التاريخ الكبير 3/427 وشرح ابن رجب ص:344 .
(12) – من شرح ابن رجب الحنبلي ص:344 .
(13) – المصدر نفسه .
(14) – المصدر نفسه .
(15) – العلل الكبير للترمذي 2/622 وشرح ابن رجب ص:346 .
(16) – الضعفاء الكبير للعقيلي 1/126 .
(17) – الضعفاء الكبير للعقيلي 1/115 ، والتاريخ الكبير 1/426 .
(18) – الضعفاء الكبير للعقيلي 1/90 .
(19) – شرح ابن رجب الحنبلي ص:280 .
(20) - شرح ابن رجب الحنبلي ص:280 .
(21) – المصدر نفسه .
(22) - المصدر نفسه . ص:354 .
(23) – شرح ابن رجب الحنبلي ص:331-332 .
(24) – الكامل 1/1347 ، ابن وهب وشبيب كلاهما ثقتان .
(25) – المصدر السابق 7/2736 .
(26) – شرح ابن رجب ص:355 ، 397 .
(27) - شرح ابن رجب ص:355 ، 397 .
(28) – في كتاب الطهارة ، باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء 1/157 (تحقيق محمد عوامة ، ط: 1 ، الريان ، بيروت )
(29) – في الطهارة ، باب الوضوء من النوم 1/248.
(30) – كتاب الأشربة ، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر 8/319 من السنن .
(31) – مقدمة صحيح مسلم 1/56 – 57 ( مع شرح النووي ) .
(32) – التمييز ص:162 .
(33) – المصدر نفسه ص:156 .
(34) – مهدي الساري ص:417 ، 462 والتهذيب 6/152 .
(35) – حكاه كثير من المتأخرين ، انظر شرح ابن رجب الحنبلي ص : 252 .(1/33)
يقول ابن رجب الحنبلي : وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الولاء وهبته (1) .
وقال أحمد في حديث مالك عن الزهري عن عائشة : إن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى، قال : لم يقل هذا أحد إلا مالك، وقال : ما أظن مالكا إلا غلط فيه لم يجئ به أحد غيره ، وقال مرة : لم يروه إلا مالك ، ومالك ثقة (2).
وعلق عليه الحافظ ابن رجب بقوله : ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته للأحاديث في أن القارن يطوف طوافا واحدا (3) .
قال الإمام أحمد : قال لي يحيى بن سعيد : لا أعلم عبيد الله يعني ابن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام …" فأنكره يحيى بن سعيد عليه ، قال أحمد: فقال لي يحيى بن سعيد : فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله ، قال أحمد : لم يسمعه إلا من عبيد الله فلما بلغه عن العمري صححه (4) .
وقال ابن رجب معلقا عليه : وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر، وكلام أحمد قريب من ذلك (5) .
قال عبد الله سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت ؟ فقال : هو أخو أبي جعفر محمد بن علي ، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره (6).
والحق الذي أميل إليه أن الإمام أحمد ويحيى والبرديجي لا يستنكرون الحديث بمجرد تفرد ثقة من الثقات ، وإنما يستنكرونه إذا لم يعرف ذلك المتن من مصادر أخرى ، إما برواية ما يشهد له من معنى الحديث، أو بالعمل بمقتضاه ، ومما يمكن الاستئناس به في هذا المجال قول الحافظ البرديجي نفسه:
إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثا لا يصاب إلا عند الرجل الواحد لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفا ولا يكون منكرا ولا معلولا، (7)
ويؤيده قول الإمام أحمد: شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها (8).
أما إطلاق المنكر على كل ما تفرد به ثقة عن ثقة فلا أظن أنه وقع ذلك في كلامهم ، وإن كان بعض ما نقل عنهم يوهم خلاف ذلك، فإنه ينبغي حمله على أن ذلك على حدود معرفتهم لتفادي التناقض بين التصريح والعمل.
كحديث عمرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أصبت حدا فأقمه علي … الحديث، قال فيه الحافظ البرديجي :
" هذا عندي حديث منكر ، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم "
وقال أبو حاتم :" هذا حديث باطل بهذا الإسناد "(9) .
وقال ابن رجب معلقا عليه: وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه، وخرج مسلم معناه أيضا من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا شاهد لحديث أنس ، ولعل أبا حاتم والبرديجي إنما أنكرا الحديث لأن عمرو بن عاصم ليس هو عندهما في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد، والله أعلم (10) .
والذي أميل إليه أن ذلك الاستنكار إنما هو على حدود استحضارهما للحديث، لأنه إذا كان الحديث معروفا من جهة أخرى فليس بمنكر حسب تصريح الحافظ البرديجي حتى ولو كان الراوي المتفرد به من الشيوخ الذين هم دون مرتبة الثقات.
يقول البرديجي : فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة وهمام وأبان والأوزاعي ينظر في الحديث فإن كان الحديث لا يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك كان منكرا (11) .
وحديث عمرو بن عاصم الذي أنكره البرديجي وأبو حاتم كان مرويا بمعناه من طريق أخرى ، ولعل كلا منهما لم يستحضر هذا الحديث كشاهد. ( والله أعلم )
خلاصة القول:
وعلى كل حال فإذا كان المنكر قد تباينت فيه الآراء، فإن تفسيره ينبغي أن يكون على منهج قائله، ولا ينبغي الخلط في التفسير،كأن يفسر المنكر الذي وقع في كلام النقاد بالمعنى الذي استقر عليه عند المتأخرين ، أو بالعكس، وإلا فيكون بعيدا عن المنطق والإنصاف، وأما الترجيح بين الآراء المختلفة فلا فائدة فيه، لأنه لا مشاحة في الاصطلاح.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية المصطلحات المستخدمة في نقد الرواة ومروياتهم، تتباين فيها الآراء بين المتقدمين والمتأخرين. وقد وجدنا تخليطا وتلفيقا بين الآراء فيها في بحوث بعض المعاصرين حين فسروا كلام المتقدمين بتعريفات المتأخرين، فوقعوا بذلك في تحير وتناقض، بل فيهم من يخرج من المشكلة بجرأته على تخطئة المتقدمين.
وبعد الكلام حول الشاذ والمنكر ننظر في بعض الصور التي يتجسد فيها كل منهما، أو في بعض أسباب وقوع الراوي فيهما، وجاءت مصطلحات تغطي ذلك بوضوح؛ كالمقلوب، والمدرج، والمصحف.
__________
(1) – المصدر السابق ص:252 .
(2) – شرح ابن رجب الحنبلي ص:253 .
(3) – المصدر نفسه .
(4) – من شرح العلل لابن رجب الحنبلي ص:254 .
(5) – المصدر السابق .
(6) – من شرح العلل لابن رجب الحنبلي ص:254 .
(7) – المصدر نفسه ص:253 .
(8) – الكفاية ص : 172 .
(9) – شرح العلل لابن رجب ص : 253 .
(10) – المصدر السابق .
(11) – شرح العلل لابن رجب ص :253 .(1/34)
المقلوب
يقع الشذوذ أو النكارة أو العلة عموما، في صور مختلفة، ولأسباب معينة، وتعرف كل منها بأسماء خاصة، ومن الضروري معرفة حقيقتها لكي تكون الصلة بين مسألة العلة وغيرها من المصطلحات واضحة وجلية من جميع الجوانب، وهذه المصطلحات كالآتي:
أولا: المقلوب ، وهو أن يجعل الراوي حديثا لغير صاحبه، إما عمدا – كأن يقصد به الإغراب أو الامتحان – وإما وهما وخطأ .
فممن كان يفعل ذلك عمدا لقصد الإغراب حماد بن عمرو النصيبي ، وهو من المذكورين بالوضع ، ومن أحاديثه المقلوبة عمدا ما رواه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة (رضي الله تعالى عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدءوهم بالسلام … الحديث،
يقول العقيلي : هذا الحديث لا يعرف من حديث الأعمش، وإنما يعرف من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة (1) .
فجعل حماد بن عمرو حديث سهيل بن أبي صالح للأعمش ليغرب به ويرغب الناس إليه ، فظهرت النكارة أو العلة في صورة القلب.
وممن كان يفعل ذلك لقصد اختبار حفظ الراوي شعبة، فإذا قلب على محدث أحاديثه ينظر فإن وافقه على الحديث المقلوب علم أنه غير حافظ، وإن خالفه تبين أنه ضابط متقن.
وأما من وقع منه القلب دون تعمد ففيهم الثقات والضعفاء ، ويوجد بيان ما وقع لهم من ذلك في كتب العلل وكتب الضعفاء والسؤالات.
__________
(1) – الضعفاء الكبير 1/308 وأخرجه مسلم من طريق سهيل به في كتاب السلام ، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب … 14/148.(1/35)
الأمثلة :
المثال الأول :
روى إسحاق بن عيسى الطباع عن جرير بن حازم عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " (1) .
ورواه بلفظه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق متعددة تدور كلها على يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2)
ولعل الباحث المستعجل يفهم منه أن الحديث صحيح من الطريقين جميعا، إذ إن الإسناد الأول ظاهره سليم، ويوحي بصحته، ولا يظهر للناظر فيه صلة بينه وبين الإسناد الثاني حتى يقوم بالمقارنة بينهما.
لكن الواقع شيء آخر فإن الإسناد الأول أخطأ فيه جرير بن حازم، رغم كونه من ثقات المسلمين - على حد تعبير الحافظ ابن عدي - ، والحديث غير ثابت عن أنس ولا عن ثابت عنه أصلا، إذ لم يروه أحد من أصحاب ثابت عنه إلا جرير، ولا شك أن تفرده عنه بما لا يعرفه أصحابه يشكل نقطة استفهام حول مدى صحة روايته وضبطه.
فلما كان هذا الحديث عند الثقات من معاصري جرير، مشهورا عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه تبين أن ما رواه جرير مقلوب ، وكان عليه أن يرويه كما يروي غيره من معاصريه.
ثم وجدنا عند إسحاق بن عيسى الطباع ما يؤكده وهو يقول : حدثت حماد بن زيد بحديث جرير بن حازم عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني " فأنكره ، وقال : إنما سمعه من حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في مجلس ثابت وظن أنه سمعه من ثابت (3).
ويحكيه ابن عدي بسياق آخر أكثر وضوحا ويقول:
''وعن حماد بن زياد : كنا جلوسا يوما ، ومعنا حجاج الصواف ، ومعنا جرير بن حازم وثابت البناني ، فحدث حجاج بحديث عبد الله بن أبي قتادة هذا الحديث ، فاحتمل أبو النضر (يعني جرير) الحديث عن ثابت''(4).
وتوضيح ذلك: أنه حين سمع جرير وزملاؤه من ثابت أحاديثه، جاءت مناسبة دعت حجاجا الصواف أحد حاضري المجلس ، أن يفيد شيخهم، وهو ثابت، بهذا الحديث ، فحدث به في مجلس ثابت، فظن جرير فيما بعد أن هذا الحديث من جملة ما سمعه من ثابت من الأحاديث، فرواه عنه دون أن يشعر بأنه قد انقلب عليه الحديث.
والواقع أن هذا الحديث سمعه من زميله حجاج في مجلس ثابت، وهذا ما قاله حماد بن زيد: '' إنما سمعه من حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في مجلس ثابت وظن أنه سمعه من ثابت''. وينبغي أن يلفت انتباهنا هذا الحادث إلى طبيعة القرائن التي يعتمدها النقاد عادة في التعليل والتصحيح.
فاتضح لنا جليا شذوذ رواية جرير لهذا الحديث، أو نكارته أو علته في صورة القلب.
وقال الحافظ ابن حجر : كل مقلوب لا يخرج عن كونه معللا أو شاذا ، لأنه إنما يظهر أمره بجمع الطرق واعتبار بعضها ببعض ومعرفة من يوافق ممن يخالف (5) .
__________
(1) - البخاري في كتاب الأذان ، باب : متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة 2/119 وأماكن أخرى منه (الفتح) ومسلم في المساجد باب : متى يقوم الناس للصلاة 5/101 (شرح النووي ) .
(2) - البخاري في الأذان ، باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة 2/119، وأماكن أخرى منه ( الفتح ) ، ومسلم في المساجد ، باب متى يقوم الناس للصلاة 5/101 ( شرح النووي )
(3) - حكاه العقيلي في الضعفاء 1/198-199 وابن عدي في الكامل 1/551 ، وابن الصلاح في مقدمته ص:135 (مع التقييد والإيضاح ) .
(4) - الكامل 2/127
(5) - النكت 2/874 .(1/36)
المثال الثاني :
وروى ابن حبان في صحيحه من طريق مصعب بن المقدام عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر (رضي الله عنه) قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمس الرجل ذكره بيمينه (1) .
قال أبو حاتم وأبو زرعة : هذا خطأ، إنما هو الثوري عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والوهم من مصعب بن المقدام (2) .
__________
(1) - ذكره الحافظ في النكت 2/874 .
(2) - العلل1/22 .(1/37)
المثال الثالث:
وروى البيهقي من طريق يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن منصور عن مقسم عن ابن عباس -(رضي الله عنه ) قال :ساق النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل (1) .
قال أبو زرعة : هذا خطأ إنما هو " الثورى عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس "رضي الله عنهما، فالخطأ فيه من يعلى بن عبيد (2).
فهذه الأمثلة للأسانيد المقلوبة من غير تعمد من رواتها، ويمكن التعبير عنها بتداخل الأسانيد، أو بتداخل الأحاديث على الراوي، وكتب العلل وتراجم الضعفاء، كالضعفاء الكبير للعقيلي والكامل لابن عدي تزخر بأمثلتها، وأما المثال لوقوع القلب في المتن فهو:
ما رواه ابن خزيمة من حديث عائشة (رضي الله عنها) قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر .
قال الحافظ ابن حجر نقلا عن ابن دقيق العيد: هذا مقلوب والصحيح من حديث عائشة '' ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ، وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت ، كما رواه الإمام البخاري ومسلم وغيرهما (3) .
غير أن ابن خزيمة وابن حبان تأولا تعارض الحديث بأنه نوبة بين بلال وابن أم مكتوم، بدون أن يذكرا من الروايات ما يعضد هذا التأويل، ولذا يكون صنيع الإمامين في الجمع بين الحديثين المختلفين غير مسلم لدى كثير من المتأخرين، لا سيما ومخرج الحديث واحد. (4)
وعلى كل حال فالذي وقع فيه القلب من جهة الراوي يعد معلولا يعني أنه حديث فيه خطأ.
يقول الحافظ ابن حجر (رحمه الله): فإن قيل إذا كان الراوي ثقة فلم لا يجوز أن يكون للحديث إسنادان عند شيخه حدث بأحدهما مرة وبالآخر مرة ؟ قلنا: هذا التجويز لا ننكره، لكن مبنى هذا العلم على غلبة الظن، وللحفاظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا، وإنما يعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم، ولهذا كان كثير منهم يرجعون عن الغلط إذا نبهوا عليه (5).
__________
(1) - في سننه 5/230 .
(2) - المصدر نفسه ص:253 .
(3) - البخاري في كتاب الأذان باب الأذان قبل الفجر 2/104 ، ومسلم في كتاب الصيام باب صفة الفجر …7/202 - 206 عن ابن عمر وابن مسعود وسمرة بن جندب . (شرح النووي ) وانظر النكت 2/879 .
(4) - ذكره الحافظ ابن حجر في النكت 2/879 .
(5) - النكت 2/875 .(1/38)
المدرج
المدرج : هو الحديث الذي أدرج فيه الراوي ما ليس منه سواء أكان من كلام الراوي أم من حديث آخر مرفوع ، من غير أن يفصل بينهما بحيث يتوهم أنه طرف من الحديث الذي رواه.
فالمدرج نوع من أنواع المعلول لأن الإدراج خطأ، ولا يعرف خطأ الإدراج في الحديث إلا بالجمع والمقارنة والحفظ والمعرفة، إضافة إلى رصيد معتبر من الخلفيات الحديثية.
فإذا وجدت الروايات الأخرى الصحيحة متفقة على فصل القدر المدرج عن بقية الحديث، أو على تركه وإسقاطه منه ، أو على تصريح الصحابي بأنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو على تصريح الراوي الذي المدار عليه بأنه لم يسمعه من شيخه ، أو استحالة إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك من القرائن التي تدل على أن ذلك القدر من الحديث مدرج فيه فيحكم بالإدراج وخطإ الراوي ووهمه في جعله طرفا منه.
ويقع الإدراج تارة في المتن وتارة في الإسناد، فأما الذي في المتن فتارة يدرج الراوي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من كلام غيره مع الإيهام بأنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على ثلاثة أنواع باعتبار موقعه في المتن:
أحدها: أن يكون ذلك في أول المتن، وهو نادر جدا ، مثاله ما رواه الخطيب بإسناده من طريق أبي قطن وشبابة بن سوار عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " .
وحين نقوم بتتبع طرق هذا الحديث مع مقارنة بعضها ببعض نجد معظم هذه الطرق متفقة على أن جملة (أسبغوا الوضوء ) من كلام أبي هريرة .
يقول الخطيب في هذا الصدد: ''وهم أبو قطن وشبابة بن سوار في روايتهما هذا الحديث عن شعبة على ما سقناه ، وذلك أن قوله : (أسبغوا الوضوء ) كلام أبي هريرة ، وقوله : (ويل للأعقاب من النار ) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد رواه جمع كثير من الثقات عن شعبة وجعلوا الكلام الأول من قول أبي هريرة، والكلام الثاني مرفوعا، كما رواه البخاري من طريق آدم بن أبي إياس عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : أسبغوا الوضوء ، فإن أبا القاسم صلى الله عليه وسلم قال : ( ويل للأعقاب من النار ) (1).
فطرف الحديث الأول مقحم في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أقحمه فيه أبو قطن وشبابة، وجعلاه مرفوعا فيه، ولم يدل على ذلك إلا مخالفتهما لجميع الثقات الذين رووا هذا الحديث عن شعبة، فبهذا أصبح معلولا، ورفعه في حديث أبي هريرة غير محفوظ، وربما اشتبه عليهما لكون هذه الجملة جاءت صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رواية غير أبي هريرة. ومثل هذا يؤدي إلى وقوع تداخل بين الأحاديث إذا لم يكن راويها عند أدائها في دقة مطلوبة، ويقظة تامة، وبإمكان الراوي أن يتفادى مثل هذا التداخل إذا قام بالتحضير قبل التحديث.
ثانيا: أن يكون الإدراج في آخر الحديث، وهو الأكثر ومثاله: ما رواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا زهير حدثنا الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة قال أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله فعلمه التشهد في الصلاة … وفي آخره : إذا قلت هذا، أو قضيت هذا، فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد. (2)
يقول الدار قطني: الجملة الأخيرة أدرجها بعضهم عن زهير في الحديث ووصلها بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفصله شبابة عن زهير وجعلها من كلام عبد الله بن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجها في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. (3)
ومما ينبغي فهمه في هذا الصدد أن مجرد المخالفة لا يعني علة في الحديث، وإنما لقرينة تنبه العالم بهذا الشأن أن هذه المخالفة إنما جاءت لخطأ وقع من الراوي المخالف، والقرينة في مثل هذا تتمثل في سلوك الجادة، فإن الجادة هي أن يسوق الحديث في مساق واحد، وهو عادة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا وجدنا الراوي يقوم بالفصل بين القدر المرفوع والقدر الموقوف فذلك دليل على يقظة ذلك الراوي، بخلاف من خلط بينهما، ولا ينقدح ذلك إلا في ذهن من مارس هذا الفن حق الممارسة. والله أعلم
ومثال آخر: مارواه الدار قطني من طريق بشر بن عمر حدثنا شعبة عن أنس بن سيرين قال : سمعت ابن عمر يقول : طلقت امرأتي وهي حائض ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها إن شاء ، قال فقال عمر : يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة ؟ قال : نعم (4).
قوله: ( فقال عمر يا رسول الله …) إلى آخره مدرج، لم يرفعه إلا بشر بن عمر ، وهو خطأ ووهم ، والصواب أن الاستفهام جاء من طرف ابن سيرين ، والجواب إنما هو من ابن عمر رضي الله عنهما . بين ذلك محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد القطان والنضر بن شميل وخالد بن الحارث وبهز بن أسد وسليمان بن حرب في روايتهم عن شعبة، وحديث بعضهم في الصحيحين (5).
ثالثا : أن يكون الإدراج في الوسط، وهو قليل الوقوع.
مثاله :ما رواه الدارقطني في سننه من رواية عبد الحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة بنت صفوان قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغه فليتوضأ ).
وقال الدارقطني : كذا رواه عبد الحميد عن هشام ووهم في ذكر (الأنثيين والرفغ) وإدراجه ذلك في حديث بسرة، والمحفوظ أن ذلك من قول عروة غير مرفوع ، هكذا رواه الثقات عن هشام مفصولا بين المرفوع والموقوف (6).
وأما مدرج الإسناد فهو على أقسام، أحدها أن يكون المتن مختلف الإسناد بالنسبة إلى أفراد رواته، فيرويه راو واحد منهم فيحمل بعض رواياتهم على بعض ولا يميز بينها، فيدرج ما روي مرسلا في الموصول، وما رواه منقطعا في المسند المتصل، وما رواه موقوفا في المرفوع، وله أمثلة:
منها ما رواه عثمان بن عمر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن حلام عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت سودة ( رضي الله عنها ) فإذا امرأة على الطريق قد تشوفت، ترجو أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم …الحديث، وفي هذا الحديث ( إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه فليأت أهله ، فإن معها مثل الذي معها) اهـ (7) .
يقول الحافظ: فظاهر هذا السياق يوهم أن أبا إسحاق رواه عن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن حلام جميعا عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه) وليس كذلك ، وإنما رواه أبو إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وعن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلام عن ابن مسعود ( رضي الله تعالى عنه ) متصلا ، بينه عبيد الله بن موسى وقبيصة ومعاوية بن هشام عن الثوري متصلا (8).
فحديث إسرائيل معلول بإدراج المرسل في الموصول، أو بإدراج الموقوف في المرفوع، إذ إن جملة (إذا رأى أحدكم امرأة … ) لم يرفعها سفيان، بل وقفها على ابن مسعود، على ما رجحه أبو حاتم في العلل (9).
يعني بذلك أن أبا إسحاق رواها موقوفة، وجاء إسرائيل ليدرجها من غير شعور بذلك في المرفوع بحيث يتوهم أنها مرفوعة أيضا عند أبي إسحاق. ويمكن أن نسمي هذا النوع من الإدراج تلفيقا بين الروايات سندا ومتنا. وقد عرف بهذا النوع من التلفيق المفسرون وأصحاب السير والتاريخ، كما عرف به كثير من الضعفاء ، وبعض من الثقات.
ثانيها : أن يكون المتن عند الراوي له بالإسناد إلا طرفا منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه بعضهم عنه تاما بالإسناد الأول .
مثاله : حديث رواه سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا … " الحديث (10) .
فقوله : "لا تنافسوا " أدرجه سعيد بن أبي مريم من حديث آخر رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، فحديث مالك مختلف الإسناد، فرواه سعيد بن أبي مريم عنه مدرجا بعضه في بعض بدون أن يبين ذلك.
هذا المثال يذكر في كتب المصطلح للإدراج في السند، وليس الأمر كذلك وإنما هو مثال للإدراج في المتن.
ثالثها: أن يكون المتن عند الراوي إلا طرفا منه فإنه لم يسمعه من شيخه، وإنما سمعه من واسطة بينه وبين شيخه فيدرجه بعض الرواة في حديث ذلك الشيخ ، فكأنه سمعه كله منه.
مثاله: حديث إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس رضي الله عنه في قصة العرنيين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : " لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من ألبانها وأبوالها " (11) .
ولفظة :" وأبوالها " إنما سمعها حميد من قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه ، بينه يزيد بن هارون ومحمد بن أبي عدي ومروان بن معاوية وآخرون ، كلهم يقولون :"فشربتم من ألبانها " قال حميد :قال قتادة عن أنس : "وأبوالها " فرواية إسماعيل على هذا فيها إدراج وتدليس تسوية (12) .
رابعها : أن لا يذكر المحدث متن الحديث بل يسوق إسناده فقط ثم يقطعه قاطع فيذكر كلاما، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد.
مثاله ما رواه ابن ماجه وغيره عن ثابت بن موسى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار(13).
يقول الحافظ الخليلي: وقع لشيخ زاهد ثقة بالكوفة يقال له ثابت بن موسى ، دخل على شريك بن عبد الله القاضي فكان يقرأ عليه حديث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بصر به ورأى عليه أثر الخشوع قال: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
فظن ثابت أن ما تكلم به شريك من قبل نفسه هو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد ، فرواه عن شريك بعده وسمعه منه الكبار، وسرقه جماعة من الضعفاء فرووه عن شريك، وصار هذا حديثا كان يسأل عنه، والأصل فيه ما شرحناه (14).
__________
(1) - نقلته من التقييد والإيضاح ص:128 .
(2) - في كتاب الصلاة باب التشهد 1/153 والدارقطني كذلك في باب صفة الجلوس للتشهد وبين السجدتين 1/352 - 353 .
(3) - سنن الدارقطني 1/353 .
(4) - المصدر نفسه في كتاب الطلاق 4/5-6 .
(5) - انظر النكت 2/815-816 .
(6) - في سننه - كتاب الطهارة باب ما روي في لمس القبل والدبر -100/148 .
(7) - من النكت 2/833 ، وقد أورد ابن أبي حاتم حديث إسرائيل هذا مختصرا في العلل 1/394 ليبين خطأ إسرائيل في رفعه : إذا رأى أحدكم …
(8) - النكت 2/833 .
(9) - 1/394 .
(10) - انظر فتح الباري 1/484 .
(11) - أخرجه النسائي في كتاب تحريم الدم ، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حميد عن أنس بن مالك 7/96 .
(12) - من النكت 2/834-835 ، وسنن النسائي 7/95-98 .
(13) - في سننه كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب ما جاء في قيام الليل 1/422 .
(14) - الإرشاد1/170 ، وذكر نحوه الحافظ ابن عدي في الكلام 2/526 وساق الحديث من رواية السراق في 2/753 و 6/2305 ، 2347 ، وهي رواية العدوي عن الحسن بن علي بن راشد حدثنا شريك به ، ورواية محمد بن أحمد بن سهل حدثنا زكريا بن يحيى بن صبيح عن شريك به ، ورواية موسى بن محمد بن عطاء عن شريك به .(1/39)
المصحَّف
يقول الصنعاني: قد كان المتقدمون يطلقون المصحف والمحرف جميعا على شيء واحد، وعلى إطلاقهم اعتبرهما ابن الصلاح ومن تابعه فنا واحدا ، ولكن الحافظ ابن حجر رحمه الله جعلهما شيئين وقد تبعه السيوطي رحمه الله على ذلك .
ومنشأ التسمية بالمصحف أن قوما كانوا قد أخذوا العلم عن الصحف والكتب ، ولم يأخذوه من أفواه العلماء، وأنت خبير بأن الكتابة العربية قد كانت تكتب عهدا طويلا من غير إعجام للحروف ولا عناية بالتفرقة بين المشتبه منها ، لهذا وقع هؤلاء في الخطأ عند القراءة ، فكانوا يسمونهم الصحفيين أي الذين يقرؤون في الصحف، ثم شاع هذا الاستعمال حتى اشتقوا منه فعلا فقالوا صحف أي قرأ الصحف ، ثم كثر ذلك على ألسنتهم، فقالوا لمن أخطأ قد صحف، أي فعل مثل ما يفعل قراء الصحف اهـ (1).
اختلف العلماء في تعريف التصحيف والتحريف ، غير أن المعنى المشترك بينهما - وهو التغيير في الكلمة الصحيحة - يتبلور في أقوالهم المختلفة.
قيل: التصحيف هو تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط، مثل "قحمة " ، " فخمة " ، والتحريف هو العدول بالشيء عن جهته، وحرف الكلام تحريفا أي عدل به عن جهته ، وهو قد يكون بالزيادة فيه ، أو النقص منه ، أو بتبديل بعض كلماته، أو بحمله على غير المراد منه، فالتحريف أعم من التصحيف .
وخص الأدباء التصحيف بتبديل الكلمة بكلمة أخرى تشابهها في الخط وتخالفها في النقط، كتبديل "العذل" بـ "العدل" والتحريف بتبديل الكلمة بكلمة أخرى تشابهها في الخط والنقط وتخالفها في الحركات، كتبديل "الخَلق" بـ"الخُلق" (2).
فالمصحف نوع من المعلول، لأن الذي صحفه الراوي لا يكون إلا خطأ، وبذلك أصبح مخالفا للواقع، أو متفردا بما لا أصل له، ولا يظهر ذلك إلا من خلال الجمع والمقارنة.
ويقع التصحيف في الإسناد تارة وفي المتن تارة أخرى.
وكثيرا ما يقع التصحيف ممن يأخذ الحديث من الصحيفة دون سماعها من راويها أو القراءة عليه، ولهذا لم يقبلوا ممن يحدث منها ما لم يسمع من صاحبها، كعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأبي الزبير عن جابر .
يقول الحافظ الذهبي : وأما تعليل بعضهم بأنها صحيفة وروايتها وجادة بلا سماع فمن جهة أن الصحف يدخل في روايتها التصحيف، لا سيما في ذلك العصر، إذ لا شكل بعد في الصحف ولا نقط بخلاف الأخذ من أفواه الرجال (3) .
أما التصحيف في الإسناد فمن أمثلته ما صحفه يحيى بن معين في حديث شعبة عن العوام بن مراجم -بالراء والجيم - عن أبي عثمان النهدي عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤدن الحقوق إلى أهلها … الحديث ، إذ قال ابن معين في الإسناد "ابن مزاحم " - بالزاي والحاء - وإنما هو"ابن مراجم " (4) .
ومنها ما رواه شعبة عن مالك بن عرفطة عن عبد خير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت ، قال الإمام أحمد : صحف شعبة فيه فإنما هو خالد بن علقمة (5).
ومنها حديث عاصم الأحول رواه بعضهم فقال: عن واصل الأحدب.
يقول الدار قطني: هذا من تصحيف السمع، لا من تصحيف البصر، كتصحيف شيبان بسفيان، وشعبة بسعيد ، وبسر ببشر (6).
أما في المتن فكحديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجر في المسجد بخوصة أو حصير يصلي فيها ، فرواه ابن لهيعة وصحف فيه، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد، وقيل له : مسجد في بيته ؟ قال: مسجد الرسول.
يقول الإمام مسلم: وهذه رواية فاسدة من كل جهة، فاحش خطؤها في المتن والإسناد جميعا، إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر، وهي الآفة التي نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو عرض عليه (7) .
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأنواع المذكورة - المقلوب والمدرج ، والمصحف - إنما هي في حالة ما إذا ترجح وجه من الوجوه المختلفة، فيكون المرجوح إما مقلوبا أو مدرجا أو مصحفا، لكن النقاد قليلا ما يسمونه بهذه الأسماء، وكثيرا ما يطلقون عليه الخطأ أو الوهم أو غير محفوظ أو لا يصح أو غريب أو منكر.
وأما إذا لم يترجح شيء منها ولم يجمع بينها على طريقة المحدثين النقاد فيقال: هذا حديث مضطرب، وها نحن الآن نفصله في الفقرات التالية .
__________
(1) - توضيح الأفكار 2/419-420 .
(2) - انظر توجيه النظر ص:365 وما بعدها .
(3) - سير أعلام النبلاء 5/174 .
(4) - مقدمة ابن الصلاح ص:228 (مع التقييد والإيضاح).
(5) - مقدمة ابن الصلاح ص:282 (مع التقييد والإيضاح).
(6) - توجيه النظر ص:365 .
(7) - التمييز ص:139-140 .(1/40)
المضطرب
المضطرب هو الحديث الذي تختلف فيه الرواة مع اتحاد مصدرهم، ولم يستقم التوفيق بينهم ولا الترجيح على طريقة المحدثين النقاد، وإن كان ذلك ممكنا على التجويز العقلي المجرد، وأما إذا كان مصدر الروايات متعددا، أو أمكن التوفيق بينها أو ترجيح رواية من الروايات المختلفة على القواعد النقدية الحديثية فلا يعد الحديث مضطربا.
وإن كانت أمثلة الترجيح قد سبق ذكرها في ضمن مصطلحات العلة، وأمثلة الاضطراب سيأتي ذكرها قريبا، فإن صورة الجمع بين الروايات المختلفة وأمثلتها بحاجة إلى معرفتها في هذه المناسبة حتى يكون منهج المحدثين في معالجة ظاهرة الاختلاف في رواية الحديث واضحا بجميع جوانبها وأبعادها.
وأما مثال الجمع بين الروايات المختلفة فحديث: أفطر الحاجم والمحجوم الذي رواه جماعة من الرواة عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس ، وخالفهم بعض الرواة فرووه عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان (1) .
هذا الاختلاف الذي ظهر بين الرواة عن شيخهم أبي قلابة مما يجعل الناقد يتأمل فيه، ويبحث عما قاله أبو قلابة : فهل قال عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس؟ أو عن أبي أسماء عن ثوبان ؟ أو رواه هكذا مرة وهكذا أخرى .
وعلى الرغم من وجود الاختلاف في حديث أبي قلابة فإن النقاد لم يحكموا عليه بالاضطراب، بل حكموا بصحته على الوجهين، وذلك لقرينة تدل على أنه حدث بهما جميعا.
يقول الإمام الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فصححه فقلت : وكيف ما فيه من اضطراب ؟ فقال :كلاهما عندي صحيح ، لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان وعن أبي الأشعث عن شداد بن أوس ، روى الحديثين جميعا . وهكذا ذكروا عن علي بن المديني أنه قال : حديث شداد بن أوس وثوبان صحيحان (2).
ورواية يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة على الوجهين جميعا تعتبر قرينة قوية، على أن أبا قلابة قد حدث بهما ، والجمع بين الوجوه المختلفة بناء على القرائن هو طريقة المحدثين النقاد ، وليس ذلك على التجويز العقلي، ولم يشر أحد من الأئمة النقاد إلى ذلك عند تصحيح الروايتين عن أبي قلابة.
ويمكن لنا أن نستخلص أن الاضطراب ينتفي عن الحديث إذا تم الجمع بين الوجوه المختلفة أو ترجيح وجه منها على طريقة النقاد، كما أنه لا يعد كل اختلاف اضطرابا، وأن شروط الاضطراب هي : الاتحاد في المصدر ، وعدم إمكانية التوفيق بين الوجوه المختلفة، ولا الترجيح على منهج النقاد، وإن كان ممكنا على التجويز العقلي.
وقد يقع الاضطراب من راو واحد، أو من رواة ، لخلل طرأ لأحدهم في ضبط ذلك الشيء المضطرب فيه وحفظه، ولذا أصبح المضطرب نوعا من المعلول، وأنت تعرف أن الحديث المضطرب لا يخلو من وجود خطأ فيه، بيد أن هذا الخطأ لا يدرى بالتحديد، وإلا يكون الحديث صحيحا من جيع الوجوه الواردة في روايته، ولا يعرف هذا الاضطراب إلا بالجمع والمقارنة.
وقد يكون الاضطراب في الإسناد، وقد يكون في المتن، وقد يكون فيهما جميعا، وما وقع فيه الاضطراب لا يصح، وإن لم يؤثر في صحة غيره من السند والمتن.
مثلا إذا اختلف الرواة حول شيخهم ، واضطربوا في اسمه، فذكر بعضهم شخصا، والآخرون شخصا غيره، وكلاهما ثقة، فإن هذا النوع من الاضطراب يقدح فقط في ثبوت شخص بعينه، بدون أن يؤثر ذلك في صحة المتن، لأنه أيا كان هذا الشيخ فالمتن دائر على رواية ثقة، وأما إن كان الاختلاف حول ثقة وضعيف فإنه قادح في تعيين الراوي؛ هل هو هذا الثقة أو ذلك الضعيف، كما أنه يقدح في المتن، لأنه إذا كان راويه ضعيفا، فالحديث يكون حينئذ مما تفرد به الضعيف.
وكحديث أبي حازم عن سهل بن سعد ( رضي الله عنه) قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت لك نفسي ، فقال رجل : زوجنيها، قال :قد زوجناكها بما معك من القرآن (3) .
واختلف الرواة على أبي حازم؛ فقال مالك وجماعة : فقد زوجناكها
وقال ابن عيينة : أنكحتكها،
وقال ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن : ملكتكها،
وقال الثوري :أملكتكها ،
وقال أبو غسان :أمكناكها(4) .
فصيغة العقد اضطرب فيها الرواة على أبي حازم، فذلك مما يقدح في تحديد الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الألفاظ، دون أن يؤثر ذلك في صحة المتن عموما، ولهذا رواه البخاري في مواضع من الصحيح معتمدا على ما لم يختلف فيه الرواة، كما هو ظاهر من أبواب الحديث.
يقول الحافظ ابن حجر: فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظا منها، وعبر عنه بقية الرواية بالمعنى (والله أعلم) اهـ (5).
وبهذا ينتهي الكلام عن المخالفة وما يترتب عليها من مسائل ومصطلحات وصلة كل منها بالعلل وبقى لنا الكلام عن التفرد الذي تعرف به العلة.
__________
(1) - انظر سنن أبي داود -كتاب الصوم ، باب في الصائم يحتجم 1/372 وإرواء الغليل 4/65-71 .
(2) - العلل الكبير للترمذي 1/360-364 .
(3) - رواه البخاري في الوكالة باب وكالة المرأة في النكاح 4/486 (من فتح الباري ) ومواضع أخرى ، انظر أرقام الحديث فيه 5030 ، 5087 ،5121 ،5126 ،5132 ،5135 ،5141 ،5149 ،5150 .
(4) - هذا الحديث أورده الحافظ ابن حجر في نكته 2/808 مثالا للاضطراب ، لكن فيه نظر لأنه يمكن الترجيح لقول الإمام مالك وجماعة مثل حماد بن زيد وفضل بن سليمان وزائدة بن قدامة وسفيان الثوري لكثرتهم وإمامتهم .
(5) - النكت 2/809 -810 .(1/41)
مسألة التفرد
وإن كان التفرد له صلة وثيقة بما سبق من الأنواع والمصطلحات المنبثقة من المخالفة، فإنه بحاجة ملحة إلى إفراده بالبحث، نظرا لكونه موضع غموض كثيف، حتى جاء الإمام الحاكم ليقول ''الشاذ غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته، أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راو أو أرسله واحد فوصله واهم ، فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات ، وليس للحديث أصل بمتابع لذلك الثقة''.
وفسر الحافظ ابن حجر ذلك بقوله :
''وهو على هذا أدق من المعلول بكثير، فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة وكان في الذروة العليا من الفهم الثاقب ورسوخ القدم في الصناعة ورزقه الله نهاية الملكة، وأسقط الزين العراقي من قول الحاكم قيدا لا بد منه، وهو أنه قال: وينقدح في نفس الناقد أنه غلط ولا يقدر على إقامة الدليل على ذلك'' (1) .
وهذا القيد - وإن لم يصرح به الحاكم - فإنه يفهم من سياق كلامه، والأمثلة التي ساقها للحديث الشاذ.
كما فسره السخاوي بقوله : والشاذ لم يوقف له على علة، وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذاك (يعني المعلول) في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه، وأنه من أغمض الأنواع وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله الفهم الثاقب والحفظ الواسع والمعرفة التامة بمراتب الرواة والملكة القوية بالأسانيد والمتون ، وهو كذلك، بل الشاذ أدق من المعلل بكثير اهـ (2) .
وقد قال الحاكم في الشاذ، إنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل بمتابع لذلك الثقة''، وعلى الرغم من وضوح كلامه أي إن المقصود بالتفرد في معنى الشاذ ليس على إطلاقه، وإنما المقصود به ما ليس له أصل.
وبناء على هذه النصوص التي تجمع على أن التعليل بالتفرد ليس في متناول الجميع، وإنما يحتاج إلى الملكة القوية، والنظر الثاقب، والاطلاع الواسع، فإن إثارة هذا الموضوع إنما هي لتوعية الباحثين المعاصرين بضرورة احترام النقاد في تعليلهم للحديث بالتفرد ، وتسليم الأمر لهم دون توقف، ولا تعقيب بأنه لا يدري سبب التعليل، والحديث صحيح للغاية.
وقد سبق عن ابن الصلاح قوله في هذا الصدد، وهذا نصه:
''ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك، تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه'' (3).
ولعل مما يلفت النظر إلى أهميتها عند نقاد الحديث ظهور التصنيفات الخاصة بذكر الغرائب والأفراد، فقد ألف الإمام الدار قطني عدة كتب فيها ، كـ "الأفراد" ، و"الفوائد المنتخبة"، و"غرائب مالك"، وكذا الطبراني ألف كتابه المعجم الأوسط لذكر الأفراد وكذا كتابه المعجم الصغير،
وهذا الإمام البخاري قد اهتم بهذا الموضوع في كتابه التاريخ الكبير، كما اهتم به الحافظ ابن عدي والعقيلي وأبو نعيم في كتبهم: الكامل، والضعفاء الكبير وحلية الأولياء، وكذا الإمام البزار في مسنده المعلل ، بل أصبح التفرد موضوعا عاما يولي له عناية بالغة كل من يؤلف تواريخ الرواة المحليين، كابن عساكر والخطيب البغدادي ، وغيرهما من الأئمة ، ولذا نراهم يوردون في تراجم الرواة ما تفردوا به من الغرائب، كما أن هناك كتبا كثيرة بعنوان "الفوائد" وهي مخصصة لبيان الغرائب.
ومسألة التفرد ينبغي أن نقرأها في نصوص النقاد وتطبيقاتهم العملية، لمعرفة أحوالها المختلفة، ولبناء تصور صحيح راسخ حول حقيقة هذه المسألة التي لا تخضع لضابط محدد، وقانون كلي، ولا تكفي قراءتها في كتب المتأخرين قراءة عابرة وفما يلي بيان تفاوت أحوال التفرد:
__________
(1) - نقله الصنعاني في توضيح الأفكار 1/379 .
(2) - فتح المغيث 1/232(تحقيق الشيخ علي حسن علي ، ط:إدارة البحوث الإسلامية - الهند ، سنة 1407 ( ) .
(3) - ابن الصلاح، علوم الحديث (المشهور بمقدمة ابن الصلاح) ص: 90(1/42)
حالات التفرد المتفاوتة
بتتبع صنيع النقاد في تطبيقاتهم العملية، ونصوصهم الواردة في معالجة التفرد يتبين بجلاء أن التفرد له أحوال مختلفة وأحكام متفاوتة، ومن أخذ الحكم بقبول تفرد الثقة، ورفض تفرد الضعيف، كضابط كلي، يطبق في كل حديث يتفرد به ثقة أو ضعيف، دون التفريق بين حالاته المختلفة فقد انزلق انزلاقا خطيرا، وابتعد عن منهج المحدثين النقاد.
وكان ينبغي أن نبني المعلومات حول هذه المسألة وأبعادها النقدية على تتبع مباشر لكلام النقاد، وصنيعهم في معالجتها، أو جمع ما تناثر في تضاعيف كتب المصطلح مما له صلة بمسألة التفرد من نصوص الأئمة السابقين، دون اختطاف بعضها من موطن واحد، ولذا فإن الكثيرين من الباحثين الجدد ممن اختطفوا من كتب المصطلح فكرة قاصرة حول مسألة التفرد يطلقون القول بقبول ما تفرد به الثقة، ورد ما انفرد به الضعيف، بدون استثناء بعض الحالات التي تجعل مفاريد الثقة غير مقبولة حتى ولو كان المتفرد إماما.
يقول الإمام أبو داود: أحاديث السنن مشاهير، ولا يحتج بالغريب، والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير، وهي عند كل من كتب شيئا من الحديث، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس، والفخر بها أنها مشاهير، فإنه لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم، ولو احتج رجل بحديث غريب وجدت من يطعن فيه، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان الحديث غريبا شاذا، فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده عليك أحد. وقال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الغريب من الحديث. (1)
ويقول الحافظ ابن رجب الحنبلي: وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه :"إنه لايتابع عليه" ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه ، كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضا، ولهم في كل حديث نقد خاص وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه (2) .
فهذا فهم دقيق وتحقيق نفيس يوحي بسعة الاطلاع وطول الممارسة لكلام النقاد بحيث يجعل الحافظ ابن رجب يقف على حقيقة منهج النقاد ودقتهم في التصحيح والتعليل، لم لا يتبنه إخواننا الباحثون إلى مثل هذا التحقيق؟ ولم يتهمون من ينبههم إلى ذلك بالبدعة وعدم استقامة المنهج ؟ والله المستعان.
ونقرأ أيضا للإمام أحمد ما يشير إلى حقيقة التفرد حين قال : إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون :هذا حديث غريب أو فائدة، فاعلم أنه خطأ، أو دخل حديث في حديث، أو خطأ من المحدث، أو حديث ليس له إسناد، وإن كان قد روى شعبة وسفيان، فإذا سمعتهم يقولون: هذا لا شيء، فاعلم أنه حديث صحيح(3) .
وقد سبق في موضوع الشاذ والمنكر ما يدل على أن للتفرد حالات مختلفة، وأحكاما متفاوتة، وأن قبول ما يتفرد به الثقة متوقف على القرائن، ولذا فإن إطلاق القبول أو الرد فيما يتفرد به الثقة غير منهجي .
ويمكن استخلاص الأمر في التفرد من الواقع الملموس في عمل النقاد تعليلا وتصحيحا، بما يأتي :
أما الحديث الذي تفرد به الراوي من الطبقات المتقدمة التي يكون من شأنها التفرد وعدم تعدد الرواة في الغالب - مثل طبقة الصحابة وطبقة كبار التابعين - فمقبول ومحتج به إن كان المتفرد ثقة معروفا (4)،
وذلك لأن التفرد في هذه الطبقات لا يشكل شيئا يوقع في قلب الناقد نوعا من الريبة والتردد حول احتمال صحة ما تفرد به الثقة، إلا إذا خالف الثابت.
وإن كان المنفرد فيها ضعيفا ، أو مجهولا فأمره بين، ولا خلا ف في رده بين النقاد، إلا المتساهلين من المحدثين كابن حبان فإنهم يحتجون بالمجاهيل، لكن بالشروط التي شرحها ابن حبان .
وأما إذا كان التفرد في الطبقات المتأخرة التي من شأنها التعدد والشهرة لا سيما فيما يخص المراكز الحديثية، التي يشترك في سماع أحاديثها وحفظها ورواياتها عنهم جماعة كبيرة، فذلك أمر يأخذه النقاد بعين الاعتبار للنظر في علاقة المتفرد مع الراوي الذي تفرد عنه، وكيف كان يتلقى منه الأحاديث عموما، وهذا الحديث الذي تفرد به خصوصا ، وحالة ضبطه لما يرويه عنه عامة، وهذا الحديث خاصة، ثم للحكم عليه بحسب مقتضى نظرهم، وأما أن يطلقوا القول بقبول تفرد الثقة فلا ، كما قرأنا آنفا ما صدر عن النقاد بهذا الصدد من النصوص.
وذلك أن الثقة يختلف حاله في الضبط باختلاف الأحوال والأماكن والشيوخ لخلل طارئ في كيفية التلقي للأحاديث، أو لعدم توافر الوسائل التي تمكنه من ضبط ما سمعه من بعض شيوخه، أو لحدوث ضياع في بعض ما كتبه عن البعض ، حتى ولو كان من أثبت أصحابهم وألزمهم لهم.
ولذا فإن النقاد إذا أعلوا حديثا بالتفرد، فعلينا- نحن الباحثين - أن نتأمل فيه كثيرا ليتسنى لنا الوقوف على أسرار هذا التعليل، ولا ينبغي لنا التسرع إلى التعقيب عليه "بلى إنه ثقة لا يضر تفرده " ، فإنه لا يتصور في حقهم الغفلة عن ثقة الراوي، حتى يتم لنا الاستدراك على هؤلاء الجهابذة بمثل هذه البدهيات التي لا تخفى على طالب عادي.
ولمزيد من التوضيح أحب أن أنقل بعض الأمثلة التي أعلها النقاد من أحاديث الثقات.
__________
(1) - رسالة أبي داود ، 1 / 29
(2) - شرح العلل ص: 208
(3) - الكفاية للخطيب ص:172. وهو موقف أهل السنة والجماعة المتمثل في أن الثقة عن الثقة حجة، ولم يخالف فيه إلا المعتزلة والخوارج،
(4) - هذا بالنسبة إلى غير الصحابة .(1/43)
نصوص الأئمة
قال الإمام أحمد في حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، رأى على عمر ثوبا جديدا …الحديث :
" هذا كان يحدث به من حفظه ولم يكن في الكتب "،
كما أنكر الإمام أحمد على عبد الرزاق حديثه عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا : الخيل معقود في نواصيها الخير، ووافقه في الاستنكار يحيى بن محمد الذهلي والدارقطني ، وقال هذا الأخير: عبد الرزاق يخطئ عن معمر في أحاديث لم تكن في الكتاب اهـ(1) .
هذا دليل واضح على أن الثقة - ولو كان إماما - يكون له أحوال مختلفة حتى ولو حدث عن أقرب شيوخه، وأنت لاحظت آنفا أن الإمام أحمد وغيره يستنكرون ما تفرد به عبد الرزاق عن معمر بحجة أن ذلك الحديث لم يكن في كتابه، (يعني به أصوله) وأنه وهم فيه، مع كونه قد حدث به قبل أن يختلط.
فإذا وجدت الناقد يقول في حديث عبد الرزاق عن معمر - مثلا - "تفرد به عبد الرزاق " فينبغي لك تفسيره بأنه خطأ، وأما أن تعقب بأن عبد الرزاق ثقة من أثبت أصحاب معمر ولا يضر تفرده ، فلا ينبغي أن يصدر ممن تخصص في الحديث. ولو كان الاستدراك عليه بإثبات متابعة تامة صحيحة لكان ذلك موضوعيا وعلميا لدى الجميع .
وتكلم يحيى القطان في بعض أحاديث إبراهيم بن سعد الزهري أحد الأعيان الثقات المتفق على تخريج حديثهم، وأنكرها بحجة أنه حدث بها من حفظه .
سئل الإمام أحمد عن حديث رواه إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"الأئمة من قريش" فقال: ليس هذا في كتب إبراهيم لا ينبغي أن يكون له أصل.
أ ليس مما ينبغي أن نطرح سؤالا في حقنا في أثناء قراءة مثل هذا التعليل:
أين نحن من أصول المحدثين التي عاينها النقاد، واعتمدوها في التعليل وحل الخلافات ؟
ولم لا نأخذ بعين الاعتبار ما قاله أمثال الذهبي في هذا الصدد ؟
يقول الذهبي: وهذا في زماننا يعسر نقده على المحدث، فإن أولئك الأئمة، كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود، عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد، وفقدت العبارات المتيقنة، وبمثل هذا ونحوه دخل الدَّخَل على الحاكم في تصرفه في المستدرك'' (2).
وأيهما الإنصاف والعدل: احترامنا لنقاد الحديث، وتسليم الأمر لهم في مجال تخصصاتهم الحديثية، أو رفض أحكامهم بحجة أننا لا ندري سببها ؟
وهذا يونس بن زيد الأيلي وإن كان من أثبت أصحاب الزهري لكنه لم يكن متقنا لأحاديث غيره من المحدثين، مما يدل على أن حاله تختلف باختلاف الشيوخ .
وكذا الوليد بن مسلم الدمشقي صاحب الأوزاعي إذا حدث بغير دمشق يكون في حديثه شيء يقتضي التوقف، يقول أبو داود : سمعت أبا عبد الله، سئل عن حديث الأوزاعي عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :"عليكم بالباءة " قال : هذا من الوليد، يخاف أن يكون ليس بمحفوظ عن الأوزاعي، لأنه حدث به الوليد بحمص ليس هو عند أهل دمشق (3)
وإن كان هذا تعليلا بالتفرد فإنه لم يعلله بمجرد تفرده ، كما يفهمه الكثيرون، وإنما بتفرده بما لا يعرفه أصحابه من أهل دمشق، ومن المعلوم لدى الجميع أن مثل هذا السبب لا ينقدح إلا في ذهن العالم بهذا الشأن دون غيره، كما سبق عن ابن الصلاح.
وتكلم أحمد أيضا فيما حدث به الوليد من حفظه بمكة (4) .
فإذا أعل النقاد من أحاديث الوليد ما تفرد به، فربما يكون ذلك لمثل تلك الملابسات والقرائن التي سبق الإشارة إليها عموما، وليس لأن تفرد الثقة غير مقبول عندهم مطلقا، ولا لأن الناقد يشترط التعدد لصحة الحديث.
وهذه بعض النصوص التي تفيد أن الثقة تختلف حاله باختلاف شيوخه أو باختلاف مواطن تحديثه ، أو باختلاف أوقاته، كما تلقي هذه النصوص، وهي ليست إلا غيضا من فيض ، الأضواء الكاشفة على أمور خفية قد تكون هي من أسرار تعليل النقاد بعض ما تفرد به الثقة من الأحاديث .
وما أروع ما قاله الشيخ العلامة عبد الرحمن المعلمي (رحمه الله ) ولله دره، يقول :
إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة فإنهم يتطلبون له علة فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقا حيث وقعت أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر. (وذكر أمثلة له ) .
وحجتهم في هذا أن عدم القدح بتلك العلة مطلقا إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكرا يغلب على ظن الناقد بطلانه فقد تحقق وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها .
وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة وأنهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث، مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق ، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر.
القواعد المقررة في مصطلح الحديث منها ما يذكر فيه خلاف، ولا يحقق الحق فيه تحقيقا واضحا، وكثيرا ما يختلف الترجيح باختلاف العوارض التي تختلف في الجزئيات كثيرا، وإدراك الحق في ذلك يحتاج إلى ممارسة طويلة لكتب الحديث والرجال والعلل مع حسن الفهم وصلاح النية. انتهى بتصرف(5) .
ولعل القارئ استفاد مما سبق من النصوص أن التفرد من أهم الوسائل التي يتم بها الكشف عن العلة وأنه من أغمض ما يكون في مجال التعليل، وإن كان ما تفرد به الضعيف ظاهرا وواضحا في كونه معلولا فإن تعليل ما تفرد به الثقة قد لا يقنع كثيرا من الناس الذين لا يسلمون لهم التعليل بالمخالفة.
كما وقع ذلك في حديث قتيبية بن سعيد حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر …الحديث.
رواة هذا الحديث كلهم أئمة ثقات بل روى عن قتيبة موسى بن هارون وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وابن معين والنسائي وغيرهم من الأئمة ، ومع ذلك فالحديث غير ثابت عن الليث، وقد أعله النقاد بأن قتيبة تفرد به عن الليث، واستبعده كثير من الناس لأن قتيبة إمام معروف، ولم يقنعهم ما قاله الإمام البخاري :
" قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ فقال : كتبته مع خالد المدائني " .
قال البخاري: "وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ " (6) .
كما لم يرضوا قول الإمام الحاكم في هذا الحديث - وقد ساقه مثالا للحديث الشاذ - وهذا نصه:
هذا حديث رواته ثقات وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها ، ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا به (7).
ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ بن جبل فقلنا : الحديث شاذ .
فأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه ، فنظرنا فإذا الحديث موضوع وقتيبة ثقة مأمون (8) .
__________
(1) - شرح العلل ص : 323 .
(2) - الموقظة : ص : 46 (تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط:2 ، سنة 1412هـ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت)
(3) - شرح العلل ص:332 .
(4) - شرح العلل ص:332 .
(5) - مقدمة المحقق للفوائد المجموعة ص:(ح) .
(6) - معرفة علوم الحديث ص:119 -131 ، وهذا الحديث أشار إليه العلامة المعلمي مثالا لما حرره سابقا .
(7) - يعني بذلك أن الحديث مما تفرد به قتيبة بن سعيد عن الليث، ولو كانت له مخالفة لما ثبت عن الليث أو عن شيخه يزيد بن أبي حبيب لكان إعلاله بها ظاهرا، وقد سبق أن الحاكم يفرق بين الشاذ والمعلول من حيث الغموض في الشاذ والظهور بالأدلة في المعلول.
(8) - معرفة علوم الحديث ص:119-131 .(1/44)
موقف الأئمة تجاه الغرائب
يقول ابن رجب : وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة .
ومنه قول ابن المبارك :"العلم هو الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا " ، يعني المشهور ، وعن علي بن الحسين : " ليس من العلم ما لا يعرف ، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن " ، وعن مالك : " شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس " .
وعن الأعمش :"كانوا يكرهون غريب الحديث وغريب الكلام "،وعن أبي يوسف :"من طلب غرائب الحديث كذب " .
وقال أبو نعيم : " كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة سقط حديثه في الغرائب "، وقال عمرو بن خالد :" سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى بن يونس : ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث ، فإني أعرف رجلا كان يصلي في اليوم مائتي ركعة ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث " .
وذكر مسلم في مقدمة كتابه من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل : لزمت عمرا ؟ قال : نعم إنه يجيئنا بأشياء غرائب ، قال يقول له أيوب : إنما نفر أو نفرق من تلك الغرائب (1) .
وقال رحل لخالد بن الحارث : أخرج لي حديث الأشعت لعلي أجد فيه شيئا غريبا فقال : لو كان فيه شيء غريب لمحوته ، وعن أحمد : تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم ، وعنه أيضا : لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء .
قال الخطيب : أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا والثابت مصدوفا عنه مطرحا وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ونقصان علمهم بالتمييز وزهدهم في تعلمه ، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين الأعلام من أسلافنا الماضين .
وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيرا ممن ينتسب إلى الأحاديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها ، يعنى بالأجزاء الغربية وبمثل مسند البزار ، ومعاجم الطبراني وإفراد الدار قطني وهي مجمع الغرائب والمناكير ومن جملة الغرائب المنكرة الأحاديث الشاذة المطروحة وهي نوعان : ما هو شاذ الإسناد ، وما هو شاذ المتن (2) .
__________
(1) - 1/109-110 من شرح النووي .
(2) - شرع العلل ص:234-236 .(1/45)
معنى الغريب عند أهل الحديث
إن الغريب عند أهل الحديث يطلق بمعان : أحدها أن يكون الحديث لا يروى من وجه واحد ، وقد يكون إسناده مشهورا وقد يكون غريبا ، وقد تكون الغرابة مطلقا وقد تكون نسبية كحديث "إنما الأعمال بالنيات " ، وكحديث قتيبة عن الليث السابق ذكره فإنه غريب مطلقا سندا ومتنا كما صرح به الحاكم .
والثاني : أن يكون الإسناد لا يعرف إلا برواية حديث واحد ، وقد يكون الحديث مشهورا وقد يكون غريبا لكن الإسناد غريب غير مرفوع ، كقول الإمام الترمذي في حديث الذكاة:
"لا يعرف لأبي العشراء عن أبيه إلا هذا الحديث ، وإن كان هذا الحديث مشهورا" (1) .
وقد طولنا الكلام عن مسألة التفرد ، وربما أثار ذلك في نفس القارئ استغرابا ونفرة ، وذلك لأمر جد مهم ، ألا وهو لفت الطالب أو الباحث إلى أن الناقد إذا أعل حديثا بتفرد راويه الثقة- ولو كان إماما - ووافقه الآخرون من النقاد على اختلاف عصورهم فإنما هو لأمور خفية وغامضة يهتدي إليها النقاد وحدهم كما لاحظناه سابقا ،وليس لأن تفرد الثقة غير مقبول عندهم ولا لأنهم يشترطون التعدد والشهرة في جميع طبقات السند ، والله جل جلاله هو الموفق ، وله الحمد والشكر ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
__________
(1) - علل الترمذي 1/758، ( تحقيق أحمد شاكر ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ) ، وانظر سنن الترمذي 4/75(1/46)
الخاتمة
لعل من المفيد استخلاص أهم النتائج التي تمخض عنها هذا البحث، ونحن في نهاية الجولة العلمية التي أتاحت للقارئ فرصا عديدة للاطلاع على جوانب علمية شتى ، تحقيقا وتحليلا واستدراكا وتصحيحا، الأمر الذي قد يجعل من الصعب أن يخرج القارئ بفكرة واضحة حول الموضوع الذي من أجله جاء هذا البحث.
وها أنا أذكر في هذه الخاتمة أهم نتائج البحث ، وهي كالآتي :
تكون العلة عنوانا عاما يشمل كل أنواع الخطأ، سواء صدر من الثقة أم من الضعيف غير المتروك، وأيا كان سبب ذلك الخطأ؛ كالمضطرب، والشاذ والمنكر، وما تفرع عنهما من المقلوب ، والمصحف ، والمدرج.
المصطلحات التي يطلقها الناقد في الغالب، تعبيرا عن شعوره بوجود خطأ في الحديث كانت واضحة المعاني، منها قوله: ’’هذا خطأ‘‘ ، و’’فيه وهم‘‘ ، و’’هذا غير محفوظ‘‘ ، و’’هذا باطل‘‘ ، و’’موضوع‘‘ ، و’’منكر‘‘ ، و’’هذا غريب‘‘ ، و’’تفرد به فلان‘‘ ، و’’غير معروف‘‘ ، و’’هذا لا يشبه‘‘ و’’ هذا لا يجيء‘‘، و’’سلك فلان الجادة‘‘ وغير ذلك من العبارات التي يمر عليها الباحث في أثناء بحثه ودراسته في مجال الحديث.
يندر اطلاق الناقد في أثناء نقده للأحاديث ’’هذا شاذ‘‘، ولا يكاد يوجد هذا المصطلح في كتب العلل.
منهج المحدثين النقاد في التعليل منهج متكامل ودقيق ، لكونه قائما على معرفتهم لملابسات الروايات، وأحوال رواتها، ومعاينة أصولهم فيها.
المعيار العلمي في هذا المنهج هو شعور الناقد بمخالفة الحديث الأمر الواقع، أو تفرد الراوي بما لا أصل له.
ضرورة تسليم الأمر لهم في هذا المجال النقدي، ولا ينبغي لنا مزاحمة صفوفهم باعتماد ظواهر السند.
ترتيب المصطلحات والأنواع حسب الوحدة الموضوعية ، وإن أدى ذلك إلى تكرار ذكر مصطلح أكثر من مرة ، يعد أهم وسائل تسهيل موضوعات علم الحديث على الطلبة. وجاء هذا الملحق لتحقيق هذا الهدف من خلال دراسة موضوع العلة كنموذج تجريبي.
تعريف المصطلحات بطريقة منطقية، مما انشغل به المتأخرون، لتكون لديهم تلك المصطلحات أكثر وضوحا وتحديدا.
كلام النقاد حول معاني بعض المصطلحات لا ينبغي النظر فيه بعقلية المنطق، وذلك لأنهم كانوا يتوسعون في ذلك بعيدا عما ألفه المتأخرون من أساليب منطقية، ولذا ينبغي فهم نصوصهم وتوضيحاتهم في ضوء تطبيقاتهم العملية.
وغيرها من النتائج .
وإذ أقدم هذا الكتاب إلى قرائي الأعزاء – زادهم الله علما وفهما وعطاء – فإني أتضرع إلى الله عزوجل أن يتقبل مني هذا الجهد، ويجعله من صالح الأعمال الخالد عطائها ونفعها، وإن أخطأت فيما كتبت فمن تقصيري، وقلة علمي، وأسأل الله أن يقيني وإياكم من شره، وإن أصبت ، فمن الله تعالى، وأسأل الله تعالى أن يوفقني لأن أشكره على ذلك.
ولا يفوتني أن أذكر إخوتي ممن مد إلي يد العون، وقدم إلي نصيحة ، حفظهم الله تعال جميعا، وجزاهم خير الجزاء.
والله من وراء القصد . وله الحمد أولا وآخرا.(1/47)
فهرس المصادر والمراجع
الإرشاد للخليلي
التمييز "تحقيق الدكتور / مصطفى الأعظمي
تهذيب السنن ، مطبوع مع مختصر سنن أبي داود للمنذري).
التقييد والإيضاح (ط:دار الفكر العربي ، بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان)
لسان العرب
الصحاح ، مادة علل
فتح المغيث للسخاوي
مقدمة ابن الصلاح
معرفة علوم الحديث
سنن النسائي
معجم الطبراني الكبير
الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين ، للمؤلف
شرح مسلم للنووي – ط:دار إحياء التراث ، بيروت ، سنة 1392 (الطبقة الثانية - .
معرفة علوم الحديث ( منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ).
شرح علل الحديث ، ( تحقيق صبحي السامرائي )
سنن الدار قطني (تحقيق الشيخ عبد الله هاشم ، ط : دار المحاسن للطباعة ، القاهرة) .
سنن الترمذي 2" تحقيق أحمد شاكر "
علل الترمذي الكبير ( تحقيق حمزة ديب)
علل ابن أبي حاتم
مسند الإمام أحمد
الجرح والتعديل
فتح المغيث ( إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية ببنارس ، ط: 1 ، سنة 1407هـ
الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي 2
علوم الحديث (المشهور بمقدمة ابن الصلاح)
النكت على كتاب ابن الصلاح
شرح العلل
.
صحيح البخاري (فتح الباري) .
الكفاية
التهذيب
المستدرك
توضيح الافكار الصنعاني
النكت
هدي الساري مقدمة فتح الباري
شرح النخبة
سنن أبو داود دار الكتاب العربي – بيروت – "
صحيح مسلم شرح النووي "
سنن النسائي " دار الكتب العلمية – بيروت – " .
سنن البيهقي
السنن الكبرى للنسائي، الطهارة ، باب المسح على الجوربين 1/93 (تحقيق البنداري ، ط: 1 ، سنة 1411هـ ، دار الكتب العلمية، بيروت )
إرواء الغليل
مختار الصحاح
الكامل ابن
الرسالة للإمام الشافعي (ط:دار الفكر ، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر –سنة 1309 ) .
كتاب الأم
تحفة الأحوذبي
شرح النخبة
نخبة الفكر
– فتح المغيث 1/232(تحقيق الشيخ علي حسن علي ، ط:إدارة البحوث الإسلامية – الهند ، سنة 1407 ( ) .
المنهج المقترح
التاريخ الكبير
الضعفاء الكبير للعقيلي
سنن الدار قطني
توجيه النظر
سير أعلام النبلاء
رسالة أبي داود
الموقظة (تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، ط:2 ، سنة 1412هـ، دار البشائر الإسلامية ، بيروت)
مقدمة المحقق للفوائد المجموعة
تدريب الراوي(1/48)