بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد: فلا شك أن خير ما قُضيتْ فيه الأعمار، ولا سيما في هذا الزمان: طلب العلم الشرعي؛ فإننا في زمن قَلَّ فيه العلم، وكَثُر فيه الجهل.
وإن الذي يتعلم العلوم الشرعية لله عزوجل، ويبثها في الناس داعيًا إلى الله عزوجل على نور وبصيرة من أمره، مجاهد في سبيل الله، وإن بث العلم في الناس من أوثق الأعمال التي نتقرب بها إلى الله عزوجل(1).
__________
(1) روى ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/123-124) عن سفيان الثوري قال: "ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحت فيه النية" وسنده حسن إن شاء الله تعالى، ورواه الخطيب في "شرف أًًصحاب الحديث" ص 211 رقم 264،265 بنحوه.
وقال ابن المبارك: "لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم" ذكره الذهبي في النبلاء (8/387) وقال مهنا: "قلت لأحمد: حدثنا ما أفضل الأعمال؟ قال: "طلب العلم" قلت: لمن؟ قال: لمن صدقت نيته، قلت: وأي شيء يصحح النية؟ قال: "ينوي يتواضع فيه، وينفي عنه الجهل" وقال بشر الحافي: "لا أعلم على وجه الأرض عملاً أفضل من طلب العلم والحديث، لمن اتقى الله، وحسنت نيته". وقال ابن المبارك: "ما من شيء أفضل من طلب العلم لله، وما من شيء أبغض إلى الله من طلب العلم لغير الله".ا.هـ من "الآداب الشرعية" (2/126-127) لابن مفلح، وانظر "مفتاح دار السعادة" (1/391-393) و"شرف أصحاب الحديث" للخطيب ص150 رقم 163، وقال وكيع: "ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من الحديث" رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" ص150 رقم 162، وسنده صحيح، وانظر ص48-51 بأرقام 159، 160، 161، 164.(1/1)
هذا ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفقهاء أصحابه، وقد درج على ذلك العلماء من لدن التابعين إلى هذا الزمان، فليس هناك أفضل من هذا الأمر الجليل، فإن الله عزوجل يقول: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين).
وإذا كان طلب العلم وبثه في الناس بهذه المنزلة العظيمة: حتى إن الحيتان في البحر لتستغفر لمعلمي الناس الخير، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإذا كان من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فإذا كان طلب العلم عموماً بهذه المثابة؛ فإن طلب علم الحديث خاصة، له من ذلك أوفر الحظ، وأعظم النصيب، فإن من طلب الحديث قويت حجته، ونبُل قدره(1)، ونضّر الله وجهه.
__________
(1) ويشهد لهذا ما قاله الشافعي "من تعلم القرآن؛ عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه؛ نبل مقداره، ومن كتب الحديث؛ قويت حجته" انظر "مناقب الشافعي" (1/281-282) للبيهقي، و"شرف أصحاب الحديث" ص130-131 للخطيب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه فرب مبلغ أحفظ له من سامع" رواه أخمد (1/437) والترمذي (2657،2658) وابن ماجه (232/المقدمة) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وسنده حسن، وقد صححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (6764)، وقد جاء الحديث عن غيره من الصحابة بعدة ألفاظ، وقد جمع طرقه الشيخ العلامة عبد المحسن العباد في جزء مفرد مطبوع فليراجعه من شاء المزيد، والله أعلم.(1/2)
وأهل الخديث الذين اعتنوا بخدمة الحديث النبوي: علماً، وعملاً، ودعوة، هم أول الداخلين في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"(1).
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟!!"(2)
__________
(1) جاء عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، نحو العشرين، منهم: معاوية رضي الله عنه، ولفظه: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، ما يضرهم من كذبهم، ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" رواه البخاري برقم (3641) ومسلم برقم (1037)، ومنهم: المغيرة بن شعبة، ولفظه: "لا يزال أناس من أمتي ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" رواه أيضاً البخاري برقم (3640) ومسلم برقم (1921)، ومنهم: ثوبان، ولفظه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" رواه مسلم برقم (1920).
وهو حديث متواتر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الإقتضاء" (1/34) والسيوطي في "الأزهار المتناثرة" ص216، والكتاني في "نظم المتناثر" ص93، والزبيدي في "سقط اللآلي" ص(68-71) والعلامة الألباني في "صلاة العيدين" ص(39-40) وانظر "اللآليء المنثورة في أوصاف الطائفة المنصورة" و"بصائر ذوي الشرف" ص(97-98) كلاهما للشيخ سليم الهلالي.
(2) وقد جاء تفسيرها بأهل الحديث، وبأهل العلم عن جمع من السلف، منهم –زيادة على أحمد-: عبد الله بن المبارك، وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان، والإمام البخاري، ويزيد بن هارون، وجمع آخرون من العلماء يبلغون حو العشرين، بل قال الإمام النووي رحمه الله في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/17): "وجملة العلماء أو جمهورهم على أنهم حَمَلةُ العلم".
وانظر "السلسلة الصحيحة" تحت رقم (270) و"اللآليء المنثورة بأوصاف الطائفةالمنصورة" للشيخ سليم الهلالي، وكتابه الآخر: "الجماعات الإسلامية" ص(47).
قلت: ومما يجدر التنبية عليه أن تفسير العلماء للطائفة المنصورة بأنهم أهل الحديث أو نحو ذلك لا يراد به الإقتصار على العلماء منهم فقط، بل الأمر كما قال القاضي عياض في شرحه على صحيح مسلم المسمى: "إكمال المعلم" (6/350) فقد قال: "وقول أحمد بأنهم أهل الحديث، أراد به: أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث".ا.هـ.(1/3)
وكيف لا يكونون كذلك وهم قد جمعوا بين المعتقد الصحيح والذب عن الدين؟! فصفاء معتقداتهم ومشاربهم أمر واضح جلي في أئمة السلف المشتغلين بالحديث، وهذا بخلاف غيرهم ممن اشتغلوا بعلوم أخرى، فقد اشتغل بالفقه وغيره أناس كثيرون، ولم تسلم معتقدات كثير منهم، ولما كانت بضاعة أئمة الحديث مأخوذة من قول الله عزوجل، وحديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وآثار الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم؛ قلَّ أن تجد فيهم من زلت قدمه في باب العقيدة، بخلاف كثير من القراء، والفقهاء، والمؤرخين، واللغويين، وغيرهم، فقد زلت أقدام كثير منهم، فعلم الحديث فيه عصمة ونجاة لمن وفقه الله تعالى إليه، واعتصم بمنهج أئمته علماًً، وعملاً، وحالاً.
وأهمية الاشتغال بعلوم الحديث فرع عن تصور مدى الحاجة إليها، ومعرفة من تتعلق به هذه العلوم، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالعلوم تنبل وتعظم في نفوس محصليها، بقدر حاجة الناس إليها، فإن العلم الذي لا يحتاج الناس إليه، لا يكون عظيماً في النفوس، بخلاف ما يحتاجون إليه، فإنه يعظم في نفوسهم، ويجل قدره في أعينهم، ومن ثمَّ فينشطون فيه: جمعاً، وترتيباً، وتهذيباً، ورواية، ودراية، إلى غير ذلك.(1/4)
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن علم الحديث ما انتشر في بلد، إلا قلَّتْ فيه البدع، وعكسه عكسه، وذلك أن علم الحديث عبارة عن ميزان وقواعد يُعْرف بها الصحيح من الضعيف، ومنشأ كثير من أهل البدع إنما هو من الأحاديث الضعيفة، والمنكرة، فإذا غربلت الأحاديث، وعُمل بالثابت منها دون الضعيف الساقط؛ صحت العقيدة، وسلمت العبادة، وزكت النفوس، وكسدت بضاعة المفاليس، وقد ألمح الحاكم النيسابوري رحمه الله(1)إلى هذا المعنى في بداية مقدمة كتابه "معرفة علوم الحديث" قائلاًَ:
" أما بعد: فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت، ومعرفة الناس بأصول السنن قلَّتْ، مع إمعانهم في كتابة الأخبار، وكثرة طلبها على الإهمال والإغفال؛ دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل على ذكر أنواع علوم الحديث..."إلخ.
وعلم الحديث: هو علم بقواعد يُعرف بها أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأفعاله، وأحواله، هذا هو الصحيح في تعريفه؛ خلافاً لمن قال: إنه علم يشتغل بذاته –صلى الله عليه وآله وسلم-!! إذِ الاشتغال بذاته صلى الله عليه وآله وسلم أمر يتصل بالطب، فلما كان علم الحديث يهتم بمعرفة أقواله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وأحواله، وهو أمر شريف عظيم كان هذا العلم شريفاً عظيماً، وتبوأ بذلك منزلاً كريماً، لا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال، وصدق من قال:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
__________
(1) وقبله الإمام أحمد رحمه الله، فقد قال الحسن بن ثواب: قال لي أحمد بن حنبل: "ما أعلمُ الناسَ اليوم في زمان أحوج منهم إلى طلب الحديث من هذا الزمان، قلتُ: ولم؟ قال: ظهرت بدع؛ فمن لم يكن عنده حديث وقع فيها".ا.هـ من "الآداب الشرعية" لابن مفلح رحمه الله (2/126) وانظر مقدمة "صحيح الترغيب والترهيب" (1/54) فقد صحح الشيخ الألباني رحمه الله بنحو هذا.(1/5)
ومما يدل على أهمية علم الحديث ومسيس الحاجة إليه: أنه علم متداخل في العلوم الأخرى، وأنها محتاجة إليه، فالتفسير وهو قائم على تفسير القرآن بالقرآن، أو بالسنة، أو بالأثر، أو اللغة، محتاج إلى علم الحديث، ليُعْلم: هل هذا الحديث المرفوع، أو ذاك الأثر الموقوف، أو مادون ذلك في تفسير كلام الله عزوجل؛ صحيح أم ضعيف؟ وكذلك الفقه محتاج إليه، إذ الفقه عبارة عن حكم مستنبط من آية أو حديث، فالآية يُعرف معناها بتفسير القرآن أو الحديث أو الأثر لها، وقد مضت حاجة التفسير إلى علم الحديث، والحديث يحتاج إلى معرفة صحته من ضعفه، وهذا كله راجع إلى معرفة قواعد علم الحديث، ولهذا كان الشافعي يقثول لأحمد: "أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني به، أي شيء يكون كوفياًَ، أو بصرياً، أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً"(1).ا.هـ.
بل حتى العقيدة وهي أجل العلوم وأولاها بالعناية محتاجة أيضاً إلى علم الحديث، فإن العقيدة الصحيحة عند السلف ليست هي عقيدة المتكلمين، ولا عقيدة الفلاسفة، ولا العقيدة القائمة على الرأي والقياس!! إنما هي عقيدة مأخوذة من الآيات والأحاديث والآثار، وما أجمع عليه سلف وأئمة هذه الأمة، وكل هذا يحتاج إلى علم الحديث حاجة أكيدة كما لا يخفى، وقل مثل ذلك في القراءات، والسيرة، والتاريخ، وغير ذلك.
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ص94-95، وأبو نعيم في الحلية (9/106) والخطيب في الإحتجاج بالشافعي (8/1).ا.هـ من صفة الصلاة للعلامة الألباني ص(27).(1/6)
وقد صرح ابن الصلاح كما في خطبة كتابه "علوم الحديث" المشهور بـ"مقدمة ابن الصلاح" بما سبق من كون علم الحديث أكثر العلوم تولجاً في العلوم الأخرى، فقال: "... هذا وإن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة، يحبه ذكور الرجال وفحولتُهُم، ويُعْنى به محقِّقُو العلماء وكَمَلتُهم، ولا يكرهه من الناس إلا رُذالتهم وسَفِلتهم، وهو من أكثر العلوم تولجاً في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المخلين به من العلماء".ا.هـ.
وقد ذكر الحاكم أيضاً في معرفةعلوم الحديث(1)عن أحمد وإسحاق أنهما قالا: " إن العالم إذا لم يعرف الصحيح والسقيم، والناسخ والمنسوخ من الحديث، لا يُسمى عالماً".ا.هـ.
__________
(1) ص (60).(1/7)
ولما كان علم الحديث بهذه الأهمية؛ فقد رفع الأولون به رؤوسهم، وعَلَتْ فيه هممهم؛ فرحلوا وتحملوا المشاق في سبيل تحصيله، وجمعه من صدور الرجال، ومن بطون الكتب، من البوادي والقفار، والمدن والأمصار، وقطعوا في سبيل ذلك الفيافي والصحاري، وركبوا لذلك البحر الأخضر، والبر الأجرد، وهذا لأنهم يعلمون قدر هذا الفن، ومدى الحاجة إليه، وشرف من يتعلق به، ولذا قال ابن الصلاح رحمه الله بعد كلامه السابق في المقدمة: " ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيماً، عظيمةٌ جموع طلبته، رفيعة مقادير حفاظه وحملته، وكانت علومه بحياتهم حيَّة، وأفنان فنونه(1)ببقائهم غضة، ومغانية بأهله آهله(2)، فلم يزالوا في انقراض، ولم يزل في اندراس، حتى آضت به الحال، إلى أن صار أهله إنما هم شرذمة قليلة العَددْ، ضعيفة العُدَد، لا تُعْنى على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غُفْلاً(3)،
__________
(1) الأفنان: جمع فنن، بفتحتين، وهو الغصن، والفنون: جمع فن، وهو الضرب من الشيء، أي: النوع، ويجمع أيضاً على أفنان.ا.هـ من نكت الحافظ (1/227) وانظر نكت الزركشي (1/38-39).
(2) المغاني بالغين المعجمة جمع مغنى مقصور، وهو المكان الذي كان مسكوناً، ثم انتقل أهله عنه، فكأنه أطلق عليه مغنى باعتبار ما آل غليه الأمر، وكان قبل ذلك مسكوناًَ بأهله المستحقين له لا بغيرهم.ا.هـ من المصدر السابق (1/228) وانظر نكت الزركشي أيضاً (1/39).
(3) . غُفْلاً بضم الغين المعجمة وسكون الفاء: وهي استعارة يقال: أرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، فكأنه شبه الكتاب بالأرض، والتقييد بالنقط والشكل، والضبط بالعمران. المصدر السابق (1/228) ونكت الزركشي (1/40)..(1/8)
ولا تتعنى في تقييده بأكثر من كتابته عُطْلا(1)، مطرحين علومه التي جل بها قدره، مباعدين معارفه التي ضخم بها أمره".ا.هـ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبذكر هذا الحال الذي كان عليه أئمة الحديث وطلبته؛ يتضح قدْر هذا العلم عند اهل الشأن، أما الذين لا يعرفون ذلك: فإنهم يعدون المحدث أبله أحمق، مشتغلاً بما لا فائدة منه، حريصاً على ما ينبغي أن يعرض عنه!! وهذا والعياذ بالله من قلة الفهم، ومن الجهل الذي أورث أهله المهالك، فنسأل الله السلامة.
ولما كان علم الحديث بهذه المثابة المتقدم ذكرها اشتغل بعض العلماء فيه بالتصنيف، وما كانت همم العلماء لتتضافر وتتواتر على الاعتناء بما لا حاجة إلهي، فإن8هم رحمهم الله أعظم الناس معرفة بقيمة الوقت، وأضن الناس ببذله فيما لا فائدة فيه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله(2)مراحل التصنيف في هذا الفن، فذكر ما ملخصه:
"أن من أول من صنف فيه القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي المتوفَّى سنة 360هـ في كتابه "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب، وذلك لأن أي علم يُبتدأ بالتصنيف فيه، لا يكون الحال في أوله كما هو في آخره، وإنما يكون التصنيف في اوله عبارة عن محاولة لفتح الباب، فلا شك أنه لا يكون مستوعباً لجميع المسائل، ولا مرتباً للفصول والدلائل، ولا تسهل الاستفادة منه، أو الوقوف على الفائدة فيه كما هو الحال فيما بعد ذلك إذا رتبت الكتب ورويت.
__________
(1) في الصحاح ص440 مع مختاره "عطلت المرأة: من باب طرب، وتعطلت إذا خلا جيدها من القلائد، فهي عُطُل بضمتين، وعاطل ومعطال، وقد يستعمل العَطَل في الخلو من الشيء وإن كان أصله في الحلي يقال: عَطِل الرجل من المال والأدب فهو عُطلٌ، بضم الطاء وسكونها.ا.هـ وانظر اللسان (11/453-454) ونكت الزركشي (1/40-41).
(2) في كتابه نزهة النظر ص46-51 مع نكت الشيخ علي بن حسن.(1/9)
ثم جاء الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، فألف في ذلك كتاباً سماه "معرفة علوم الحديث" لكنه لم يهذَّب ولم يرتب، وله أيضاً كتاب آخر، أسماه "المدخل إلى الإكليل" وكان الداعي إلى تأليفه أن أمير الجيوش قد طلب منه أن يؤلف كتاباً في أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشمائله، وأزواجه، وأيامه، فألف "الإكليل" ثم رأى أن هذا الكتاب لا يستفاد منه إلا بمعرفة الصحيح من الضعيف، فألف كتابه "المدخل" وهو عبارة عن مقدمة لكتاب "الإكليل"، وقد ذكر فيه أنواع الصحيح وشروطه...إلى غير ذلك.
ثم تلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل مستخرجاً على كتاب "المعرفة" للحاكم، ولكنه أبقى أشياء للمتعقب، إلا أن هذه الكتب السابق ذكرها، لم تأتِ بالشيء على ما يريده طالب العلم، فجاء بعدهم أبو بكر الخطيب أحمد بن علي بن ثابت رحمه الله فصنف كتابين عظيمين: أحدهما في قوانين الرواية، وسماه "الكفاية في علوم الرواية" والثاني: في آدابها وسماه "الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" ففجر فنون هذا العلم وأبوابه، وألف في كل باب من الأبواب، فقلَّ أن تجد باباً إلا وقد صنف فيه كتاباً مفرداً، فكان كما قال الحافظ ابن نقطة رحمه الله: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه"(1).
__________
(1) كذا نقله الحافظ عنه والذي في كتابه "التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد" ص154 "وله –أي الخطيب- مصنفات في علوم الحديث لم يسبق إلى مثلها، ولا شبهة عند كل لبيب أن المتأخرين من أصحاب الحديث عيال على أبي بكر الخطيب" وكذا في تكملة الإكمال له (1/103) وانظر النكت على نزهة النظر ص48.(1/10)
إلا أن هذه التصانيف التي صنفها الخطيب لا يكاد يستفيد منها إلا العالم المتخصص إلى أن جاء بعد ذلك الحافظ أبو عمرو بن الصلاح الشهرزوري الشافعي رحمه الله فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور "معرفة علوم الحديث" فهذب فنونه، وأملاه شيئاً بعد شيء، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب، واعتنى بتصانيف الخطيب المتفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم إليها من غيرها نُخَب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عطف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يُحْصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر".ا.هـ ما ذكره الحافظ مع تصرف وزيادة.
والسبب في بقاء كتاب ابن الصلاح على أملاه دون ترتيب كما قال الحافظ هو ما نقله صاحب كشف الظنون(1)عن الحافظ البقاعي رحمه الله أنه قال في النكت الوفية: "قيل: إن ابن الصلاح أملى كتابه إملاءً، فكتبه في حال الإملاء جَمْعٌ جَمٌّ، فلم يقع مرتباً على ما في نفسه، وصار إذا ظهر له أن غير ما وقع له أحسن ترتيباً، يراعي ما كُتب على النسخ، ويحفظ قلوب أصحابها، فلا يغيرها، وربما غاب بعضهم، فلو غَيَّر ترتيبه؛ تخالفت النسخ، فتركها على أول حالها".ا.هـ.
وقد اهتم العلماء بكتاب ابن الصلاح اهتماماً عظيماً، ما بين نظم، وشرح، واختصار، ونحو ذلك.
ومن بركة العلم أن تجد كتاباً حظي بهذا الاهتمام من العلماء: ما بين ناظم له، وشارح، ومختصر، وغير ذلك.
__________
(1) 2/1162).(1/11)
وعندما تقرأ مقدمة كتاب ابن الصلاح، وترى ما لقيه كتابه من عناية أهل العلم، تشعر أن الرجل قد استجيبت دعوته التي دعا بها في مقدمة كتابه حيث قال: "... فالله العظيمَ الذي بيده الضر والنفع، والإعطاء والمنع، أسألُ، وإليه أضرع وأبتهل، متوسلاً إليه بكل وسيلة، متشفعاً إليه بكل شفيع: أن يجعله ملياً بذلك وأملى، وفياً بكل ذلك وأوفى، وأن يعظم الأجر والنفع به في الدارين، إنه قريب مجيب، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب".أ.هـ.
ثم جاء بعد ذلك الحافظ ابن حجر: فألبس هذا العلم ثوباً قشيباً، وزاده ترتيباً وتبويباً، وتأصيلاً وتفريعاً، وقد ظهر تمكنه من هذا العلم في كتابه "نخبة الفكر" على صغر حجمه، فجمع النكت الفرائد، والفوائد الشوارد، وقادها أسيرة بين يدي الطالب، وجمع بين الأشباه والنظائر، وبين مواضع التقاء علوم هذا الفن، ومواضع افتراقها، ولذلك اهتم العلماء بكتابه هذا: نظماً، ونثراً، وشرحاً، فقارب اهتمام العلماء بمقدمة ابن الصلاح رحمه الله(1).
والحافظ رحمه الله من جملة من شرح كتابه هذا في كتاب سماه "نزهة النظر" فجاء شرحاً عجيباً على صغره جمع فيه رؤوس المسائل وعيونها، وحقق ودقق فيما خفي من فنونها، فلله دره، وعلى الله أجره.
__________
(1) شرح كتاب النخبة نحو عشرة من العلماء ونظمه مثلهم وشرح النظم نحو الستة منهم واختصرها أربعة وشرح المختصر ثلاثة، فالأعمال عليها تبلغ نيفاً وثلاثين عملاً. انظر النكت على نزهة النظر ص15-21، و"الإمام القاري وأثره في علوم الحديث" ص170.(1/12)
وأما من نظر إلى كتابه "النكتب على ابن الصلاح" –ويا ليته قد اكتمل- وجد فيه علماً عظيماً، وبحراً زاخراً بالعلوم الدقيقة، وأدرك أن الحافظ ابن حجر رحمه الله جهبذ ناقد، فإن الرجل قد يكون جامعاً ناقلاً، ولا يكون محققاً ناقداً، أما الحافظ فقد جمع الأمرين، ولذلك ألف كتباً عظيمة، سد بها ثغرات في المكتبة الإسلامية عموماً، وفي المكتبة الحديثية على وجه الخصوص، فرحمه الله وغفر لنا وله.
وهكذا لا زال الناس يكتبون ي هذا الفن إلى هذا الزمان، ومن جملة من كتب في ذلك: البيقوني رحمه الله، واسمه: طه بن محمد، ويقال: عمر بن محمد بن فُتُوح الدمشقي الشافعي البيقوني، وقد كان حَيًّا قبل سنة 1080هـ ولم يُحرَّر بدقة وقت وفاته، وهو مترجم في الإعلام للزرَكلي وفي "معجم المؤلفين" لكحالة.
وتقع منظومته في أربعة وثلاثين بيتاً.
وقد اعتنى بها الشراح كثيراً، حتى ذكر أخونا الشيخ علي بن حسن الحلبي حفظه الله أنها قد شُرحت في خمسة عشر كتاباً، وهذا لعذوبة لفظها، وسهولة نظمها، وصغر حجمها، مع أن البيقوني رحمه الله لم يستوعب، بل لم يتكلم إلا على علوم قليلة في هذا الفن، تبلغ اثنين وثلاثين نوعاً مع أن أنواع علوم الحديث التي قد جاوز بها بعضهم الثمانين نوعاً.
وبشرحي هذا أرجو تقريب مادة هذا العلم لطلابه، وفتح ما تيسر مما أغلق من مسائله وأبوابه، راجياً من الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، مباعداً به بيني وبين موجبات سخطه، وعذابه، وشر عباده، وأسأله عزوجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: أن يكتب له القبول في الأرض، وأن يجعله ستراً لي ولوالدي وأهلي وذريتي، وأن ينفعني به في الدنيا والآخرة.
وقبل البدء في شرح المنظومة؛ فهناك عدة أمور أنبِّه عليها –إن شاء الله تعالى-:(1/13)
الأول: المقصود من التأليف في أنواع علوم الحديث: إرشاد طالب العلم إلى معرفة مراد الأئمة المتقدمين من الأحكام التي استعملوها على الأحاديث، أو المصطلحات التي عبروا بها في الكلام على الرواة والروايات قبولاً أو ردّاً، ومدحاً أو قدحاً، وتصحيحاً أو تعليلاً، ونحو ذلك.
ولما كانت لبعض العلماء مصطلحات خاصة، وعبارات عُرِفوا بها، كان من المتعيّن معرفة ذلك، ووضْعه في موضعه، حتى لا يُفهم كلام أحدهم على غير مراده.
وقد ظهر هذا في تعريف عددٍ من أنواع علوم الحديث، فقد يعْسر في بعض الأنواع وضْع تعريف يشمل كلام العلماء في هذا النوع، فيُراعى في مثل ذلك المشهور عند العلماء، والجادة العامة لهم في ذلك، ويُعتمد التعريف اللائق بذلك، ثم يشار بعد ذلك إلى استعمالات أخرى لهذا المصطلح عند بعض العلماء، أو كثر منهم.
ولا شك أن التحرير الدقيق لذلك فرْع عن الاستقراء الدقيق التام لكلام العلماء وطريقتهم، وبقدْر التقصير في ذلك يكون ضعْف التحرير لهذه المسائل، كما لا يخفى.
ولا أدعي أنني قُمْت –في شرحي لهذه المنظومة- بهذا كله، لكن ما لا يُدْرك كله، لا يُترك جُلّه، ومن قطع في ذلك شوطاً مقبولاً، وأدمن النظر في كلام المؤلفين النقاد في هذا الباب، فيُرجى أن يكون صوابه أكثر، وسداده أظهر، وأرجو استدراك ما فات في طبعات أخرى، والله المستعان.
الثاني: لقد حَرصْتُ في شرحي هذا على أن أفيد طالب العلم في هذا الفن بمسائل عملية، يحتاج إليها، ولا أقتصر على تطويل ذيل الكتاب بمجرد نقولات عمن سبقني إلى التأليف في ذلك، الأمر الذي ظهر على كثير من المصنفات المتأخرة في هذا الباب –للأسف- فترى المتأخر يغترف من المتقدم دون نقدٍ يُذْكر، أو ترجيح في خلاف!! فتكثر المؤلفات دون كبير فائدة في الأزمنة المتأخرة.(1/14)
وليس معنى ذلك: أنني لا أستفيد من المؤلفات السابقة في هذا الفن؛ فإن شرحي مليءٌ بالنقل عن الأئمة، وهذا مما لا بد منه، لكن دون غفلة –ولله الحمد- عن ترجيح الراجح، وإلحاق ما لا بد من ذكره، مما استفدته في باب الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل.
والكتاب إذا كان مجرد مصطلحات نظرية، دون حقائق واقعية، وتجارب عملية، فالفائدة منه قليلة.
الثالث: هذا الشرح وإن كان أكبر مما تستحق المنظومة من الكلام، حيث إن المنظومة للمبتدئين، إلا أنني أرجو أن يكون هذا الشرح ثمرة حُسْن نية صاحب المنظومة إن شاء الله تعالى.
ثم إن هذا الشرح ليس للمبتدئين، إنما هو للمتخصصين، الذين يفيدون ويستفيدون.
أما المبتدئون فلهم مختصر يليق بهم، أعتصره من هذا الشرح إن شاء الله تعالى.
فهذا الشرح المطول، هو" البسيط"، والمختصر هو "الوسيط" إن شاء الله تعالى.
وقد سميت هذا الشرح: "الجواهر السليمانية على المنظومة البيقونية".
الرابع: لقد ساعدني في إخراج هذا الشرح بهذه الصورة الحسنة –إن شاء الله تعالى- عدد من إخوتي وأحبتي في الله من طلبة العلم بدار الحديث بمأرب، وممن لهم فقْه في علوم الحديث، ولا أزكيهم على الله تعالى، وقد تذاكرنا وتناقشنا سويّاً في مادة هذا الكتاب، فأفدتُ واستفدتُ، وهذا من فضل الله علي أن يسر لي ثلة مباركة من طلبة العلم، فيعينوني، ويذاكروني، ويأخذوا بيدي، ويقربوا لي البعيد، والله ذو العظيم.
وهؤلاء الإخوة هم:
1- أبو الحارث حسن بن محمد بن تُوحْتُوح المغْربي.
2- أبو إسماعيل عبد القادر بن مساعد الغشامي البيضاني.
3- أبو الطيب نايف بن صلاح المنصوري الحَيْمي.
4- أبو أسامة جلال بن صالح آل شيخ الأبْيني.
5- أبو عمر سالم بن سعيد لعْوج الحضرمي.
6- أبو حازم ماجد بن عبد الله بن سالم الشيبة الشبوي (وله تعليقات على المقدمة خاصة به).(1/15)
فأسأل الله أن يجزيهم عني وعن العلم وطلابه خيراً، وأن يزيدهم توفيقاً وسداداً، وأن ييسر لهم الاستمرار في خدمة العلم وأهله، وأن يدفع عني به وعنهم العلائق والعوائق، والشواغل والمشاكل التي تحول دون الطالب والطلب، إنه ربي على كل شيء قدير.
كما أسأله سبحانه أن يجعل هذا الكتاب نوراً لقلبي، وصفاءً لبصيرتي، وقوةً لعزيمتي وهمتي، وأن يجعله مباركاً حيثما حلّ وارتحل، وعوناً لطلاب العلم في السفر والحضر، وخادماً لسنة خير البشر، ويُنَضِّر به وحهي، ويستر به عيبي، ويفرج به كربي، وأن يقيني، ووالديّ، وأهلي، وذريتي، وإخواني، به مصارع السوء والهلكة، إنه أكرم مسؤول، وأعظم مأمول.
وصلى الله على نبيه محمد ما ذكره الذاكرون، وغفل عنه الغافلون، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً مزيداً.
كتبه الفقير إلى عفو ربه الغني بجوده وفضله
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
من دار الحديث بمأرب
بعد ظُهر الأحد 10/ جمادى الآخرة/1426هـ.
المقدمة
قال الناظم - رحمه الله - :
1- أبْدَأُ بالحمدِ مصليّاًً على ... محمدٍ خيرِ نبيٍّ أرْسِلا
وقبل الشروع في بيان المسائل المتعلقة بهذا البيت، فقد استشكل بعض العلماء عدم ابتداء الناظم رحمه الله بالبسملة، وقالوا: إن ما وجد من ذكرها في بعض النسخ، إنها من عمل الشراح، إلا أن بعضهم ذكر أنها من عمل الناظم(1)، وعلى هذا القول يكون البدء بالحمدلة في قوله: "أبدأ بالحمد" بدءاً إضافياً نسبياً، ويكون البدء بالبسملة بدءاً مطلقاً.
__________
(1) وقد أثبتها من عمل الناظم الزرقاني في شرحه ص14، وكذا الشيخ ابن عثيمين في شرحه أيضاً ص11، ولم يثبتها عثمان المكي الزُّبيدي "القلائد العنبرية" كما في ص15، ولا الشيخ الجبرين في الثمرات الجنية ص17.(1/16)
تنبيه: جرت عادة كثير من المؤلفين أنهم يبدأون كتبهم بالبسملة، ومنهم من يبدؤها بالحمد، أو بذكر الله، وكثير منهم يحتج على ذلك بما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله –وفي رواية-: "بحمد الله" –وفي رواية-: "بذكر الله" فهو أقطع، أو أبتر، أو أجذم"، أي: أنه ممحوق البركة، وإن كان ظاهره التمام، إلا أن هذا الحديث لا يصح، وقد تكلم عليه شيخنا الألباني في الإرواء(1).
وهذا البيت فيه عدة مسائل:
المسألة الأولى: تعريف الحمد:
هو وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم، فإن خلا الوصف عن المحبة والتعظيم، فهو مدح لا حمد.
والوصف بالكمال المطلق لا يكون إلا لله سبحانه، وهو –سبحانه- يُحْمد لوحدانيته، ولأسمائه وصفاته، وأفعاله، وإنعامه، وأقداره.... فالله سبحانه هو المحمود الحمد المطلق وفي كل الأحوال.
المسألة الثانية: قوله: "مصلياً":
نُصِب على الحال، أي: أبدأ بالحمد حال كوني مصلياً، وهذه الحال يسميها علماء اللغة: حالاً منتظرة، إذاً موضع الصلاة –وهو اللسان- مشغول بالحمد، ولا يتأتى الجمع بين الصلاة والحمد في آن واحد، وهذا التركيب يشير إلى علو الهمة، حيث إن المرء يجمع بين وجوه كثيرة من الخير ظاهرة وباطنة، ويُوَفِّي بذلك كله.
والصلاة إذا كانت من العبد؛ فهي: طلب الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الملأ الأعلى، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) وإذا كانت من الله على نبيه؛ فهي بمعنى الثناء، كما في قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) وإذا كانت من الملائكة فهي استغفار.
المسألة الثالثة: قوله: "محمد":
__________
(1) رقم (1)، وتكلم عليه أيضاً شيخنا أبو الحسن السليماني –المؤلف- حفظه الله، في تحقيقه للجزء الأول من فتح الباري المسمى: "تحفة القاري بدراسة وتحقيق فتح الباري".(1/17)
وهو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وله أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على كثرة الصفات والمعاني، وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه للمنظومة أن الله عزوجل لم يذكره في القرآن إلا باسم "محمد" و"أحمد" وأن معنى "محمد": أن الفعل –وهو الحمد- واقع من الناس، أي: أن الناس يحمدونه، ومعنى "أحمد": أن الحمد واقع منه، أو أنه أحمد الناس لله تعالى. أ.هـ ملخصاً.
المسألة الرابعة: قوله: "خير":
"خير" هنا أفعل تفضيل بمعنى "أخير" لكن حذفت الهمزة، وهذا موجود في لغة العرب، فهم يحذفون الهمزة من أفعل التفضيل، على لغة من يقول: "وحَبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنعا" أي: وأحب شيء، وقد قال بعضهم:
وغالباً أغناهم خير وشر عن قولهم: أخير منه، وأشر
ولا تقل: خيرٌ وشرٌ، بالتنوين؛ لأن أصلهما: أخير، وأشر، فلا تنون.
وعلى هذا؛ فمعنى ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخير رسول أرسله الله عزوجل، وهو كذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام سيد الأولين والآخرين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر".
المسألة الخامسة: ما الفرق بين النبي والرسول؟
للعلماء عدة أقوال في ذلك، منها:
1- أن الرسول من كان معه كتاب، والنبي من ليس معه كتاب، ويَرِدُ عليه قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) فهذه الآية تدل على أن النبيين معهم كتب ليحكموا بها بين الناس.(1/18)
2- ومنهم من يقول: إن الرسول من أمِرَ بالبلاغ، والنبي لم يؤمر بذلكن والآية السابقة ترد على هذا القول أيضاً، لقوله تعالى: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) والبلاغ لا يخرج عن البشارة والنذارة، ويرده أيضاً قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى...) الآية، فوصف النبي بأنه مرسل، ولا يكون مرسلاً إلا ليبلغ من أرسل إليهم، وكذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه لم يكن من نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم،...".
3- ومنهم من يقول: إن الرسول: هو من أرْسل بشرع جديد إلى قوم مخالفين، والنبي: من أرسل بشرع من قبله إلى قوم موافقين؛ ليجدد شريعة من قبله، وعلى هذا؛ فالرسول مؤسِّس، والنبي مؤكِّد، ومثَّلوا لذلك بأنبياء بني إسرائيل، ويرد عليه حديث: "يأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان" فهذا يدل على أن النبي أرسل إلى المخالفين أيضاً، ولو كانوا جميعاً موافقين؛ لكانوا أكثر من ذلك، لأنه يستبعد أن يرسل لواحد أو اثنين!! ولو سلمنا بذلك؛ فبقي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "والنبي وليس معه أحد"!!
4- ومنهم من قال: هما سواء. والله أعلم بالصواب من ذلك، والتوسع في هذا المبحث ليس وراءه –عندي كبير طائل-، والله أعلم.
قال الناظم - رحمه الله - :
2-وذِيْ مِنَ اْقْسَامِِ الْحَدِيثِ عِدَّهْ ... وَكُلُّ وَاحِدٍ أَتَى وَحَدَّهْ
يذْكُر الناظم – رحمه الله- أن علوم الحديث لها أقسام كثيرة، وأنه سيذكر كثيرًا منها، مشيرًا إلى تعريف كل قِسْمٍ ، وياليته اعتنى ببيان حُكْم الأقسام التي تحتاج إلى ذلك ، وهذا أهم ما يُحتاج إليه في ذلك؛ فبالتعريف يتميز القسم من غيره، وببيان الحكم يُعْرَف قبول القسم أو رَدُّه.
وقوله: "مِن أقْسام" فـ"مِنَ" هي بتحريك النون؛ تفاديًا من التقاء الساكنين، لأن الهمزة في قوله: (أقسام) حُذِفتْ؛ ليستقيم الوزن.(1/19)
والحديث:ما أُضيف إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من قول ،أو فِعْل، أو تقرير،أو صفة(1).
هذا هو المراد بالحديث عند الاطلاق ، وفي كلام غير النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يُقَيَّد ،فيقال : حديث فلان، وقد يطلق بعضهم الحديث في الآثار الموقوفة والمقطوعة ، والله أعلم(2).
وقوله: "وذي" إشارة إلى أقسام الحديث، وهي مبتدأ وخبره: "عِدَّه" وتقدير الكلام:" وذي عدة من أقسام الحديث" .
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرحه على المنظومة:" إن كانت الإشارة قبل التصنيف ؛ فالمشار إليه هو ما في ذهنه، وإن كانت الإشارة بعد التصنيف؛ فالمشار إليه هو الشيء الحاضر الموجود في الخارج" اهـ(3).
وقوله :" أقسام " جَمْعُ قِسْم، والقسم : هو الشيء الذي يكون مندرجًا تحت أصل كلي، وهو أخص من الأصل العام.
أما القسيم : فهو الشيء الذي يجتمع مع قسيمه في أصل عام، إلا أنه يباينه ويختلف عنه في بعض الأحكام، وإنما ذكرتُ هذا؛ لاستعمال تلك المصطلحات في بعض الكتب المؤلَّفة في علوم الحديث .
وقوله: "وَحَدَّهْ " منصوب ؛ لأنه مفعول معه، والواو واو المعية، والأفصح في لغة العرب: أنه إذا عُطف على الضمير المستتر، تكون الواو للمعية، ويُنْصَب ما بعدها(4).
__________
(1) انظر " فتح المغيث " للسخاوي ( 1 / 8 ) وكذا في " الغاية لشرح الهداية " للسخاوي ( 1 / 72 ) .
(2) قال أحمد : " صَحَّ من الحديث سبعمائة ألف وكَسْر ، وهذا الفتى – يعني أبا زرعة – قد حفظ سبعمائة ألف " قال البيهقي : " أراد ما صح من الأحاديث ، وأقوال الصحابة والتابعين " اهـ من " التدريب " ( 1 / 50 ) وانظر تفسير ابن الصلاح لكلام البخاري في هذا المعنيفي " المقدمة " مع " التقييد والإيضاح " ( ص 27) .
(3) ص 22 ) .
(4) انظر شرح الشيخ ابن عثيمين للمنظومة ( ص 23 ) .(1/20)
والحد : " هو الوصف المحيط بموصوفه، الممَيِّز له عن غيره " بمعنى: أنه لا بد أن يكون جامعًا مانعًا ،ومنهم من يعبر بقوله:" مضطردًا منعكسًا " وهما بمعنى، أي: أنه لا يُخْرِج شيئًا من المحدود، ولا يُدخل شيئًا من غيره في الحد .
فلو أردنا أن نُعَرِّف الإنسان - مثلاً - فنقول:" هو حيوان ناطق " فقولنا: "حيوان" أخرج ما ليس بحيوان، كالجماد، وقولنا: "ناطق" أخرج ما ليس بناطق، فهذا الحد استحق أن يقال فيه: إنه جامع مانع، أو مضطرد منعكس، وهذا بخلاف ما لو قيل: "الإنسان: حيوان ناطق عاقل" فإن هذا ليس بجامع ؛إذ قد أخرج المجنون، وهو إنسان - وإن لم يكن عاقلاً - وكذا لو قيل:" الإنسان حيوان "فهذا ليس مانعًا؛ إذ يدخل فيه كل ما فيه حياة، وإن لم يكن إنسانًا، كالبهائم ، والله أعلم .
( تنبيه ) : الحد ، والتعريف ، والرسم ، من العبارات التي يستعملها العلماء في مقام تعريف الشئ ، وبما يتميز به عن غيره ، فهي مترادفات ، والله أعلم .
والكلام على هذا البيت وما يتعلق به في مسألتين :
?المسألة الأولى: ما المراد بهذه الأقسام التي سيتكلم عليها الناظم - رحمه الله - ؟
والجواب :أن المراد بذلكَ أقسام علوم الحديث، لا أقسام الحديث المتعلقة بحكمه ورتبته ، إذ أقسامه – من هذه الحيثية - لا تزيد عن ثلاثة أقسام : صحيح، وحسن، وضعيف،والضعيف أقسام كثيرة، وبعضهم يقول: الحديث صحيح وضعيف فقط، وهذا بخلاف أقسام علوم الحديث؛ فهي كثيرة جدًّا، وليس لكثير منها علاقة بالقبول والرد(1).
?المسألة الثانية: هل أراد الناظم - رحمه الله - استيعاب جميع أقسام علوم الحديث ؟
والجواب: أن الناظم لم يُرِدَ ذلك، وهذا واضح من إتيانه هنا بـ"من" الدالة على التبعيض، وهذا هو ا لحاصل ، كما ستراه في هذه المنظومة - إن شاء الله تعالى- .
__________
(1) انظر هذا المعنى في " النكت " للحافظ ( 1 / 504 )(1/21)
ولعله أراد بذلك التسهيل على المبتدئين في هذا العلم ، ومعلوم أن الهمم – لاسيما في الأزمنة المتأخرة – قد فترتْ وضعُفَتْ، والاختصار يناسبها ، وإن كان التطويل لا بد منه للمخصصين في هذا الفن ، ولما كانت هذه المنظومة مختصرة ، رقيقة ، لطيفة ؛ انتشرت بين طلاب العلم ؛ وكثر شراحها ، ولعل ذلك لحسن نية الناظم - والله أعلم – والتوفيق بيد الله سبحانه .
الحديث الصحيح
قال الناظم - رحمه الله - :
3-أَوَّلُها الصَّحِيْحُ وَهُوَ ما اتَّصَلْ ... إِسْنَادُهُ وَلَمْ يُشَذَّ أَوْ يُعَلْ
4- يَرْوِيْهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ ... مُعْتَمَدٌ فِيْ ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ
شرع الناظم - رحمه الله - في بيان ما وعَدَ به من ذِكْر أقسام علوم الحديث، فبدأ بذِكْر الحديث الصحيح ،وبَيَّنَ شروطه؛ ولقد أحسن الناظم في البدء بهذا النوع ؛ فإنه أشرف الأنواع ذكرًا ، وأجلُّها قدْرًا ، وأعظمها حجة .
واعلم أن تحت هذين البيتين عدة مسائل:
(المسألة الأولى:
قوله: "أولها الصحيح" وفيه ثلاثة مباحث:
(أ) أن "ها" من قوله:" أولها" ضمير يعود على أقسام علوم الحديث، لا أقسام الحديث من جهة القبول والرد، كما سبق بيانه .
(ب) لماذا بدأ الناظم - رحمه الله - بذِكْر الحديث الصحيح، وجَعَلَه أول الأقسام ؟
الجواب : سبب ذلك: أن الحديث الصحيح هو أعلى أنواع الحديث قدْرًا، وأشرفها ذِكْرًا، والبدء بالأشرف يتفق عليه العقلاء.
ويضاف إلى ذلك: أن المقصود الأول من دراسة هذا الفن: أن نُميز الصحيح من غيره،فنأخذ الصحيح ، ونترك المردود، فكان البدء به أولى ، والله أعلم(1).
(ج) أقسام الحديث الصحيح:
ينقسم الحديث الصحيح إلى قسمين:
(1) صحيح لذاته، وهو الذي أراد الناظم تعريفه، كما يظهر مما ذكره من شروط، وهو على مراتب.
(2) صحيح لغيره، وهو دون الصحيح لذاته ، وسيأتي الكلام عنه في الحديث الحسن – إن شاء الله تعالى - .
(
__________
(1) وانظر نحو ذلك في " فتح المغيث " ( 1 / 14 ) .(1/22)
المسألة الثانية: تعريف الحديث الصحيح لذاته:
عرَّف الناظم الحديث الصحيح، فذكر أنه:" الذي يتصل سنده، برواية عَدْلٍ ضابطٍ، عن مثله ولم يُشَذَّ ، ولم يُعَل" .
وللعلماء عدة أقوال في تعريف الحديث الصحيح،تكلمتُ على بعضها في " إتحاف النبيل "(1)وأجمعها وأخصرها - عندي- قول من قال:" هو الذي يتصل إسناده، بنقل العدل الضابط، ولا يكون شاذًّا ولا مُعَلَّلاً " .
فقولهم : " يتصل " سيأتي مفصلاً – إن شاء الله تعالى – بعد قليل .
وقولهم:" إسناده" الإسناد: هو سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن، وهو والسند بمعنى - في الجملة - وبعضهم جعل الإسناد حكاية السند(2)، أي: عَزْوُه، يقال: أسند الشيء إلى المسنَد إليه، أي: عزاه إليه، وحكاه عنه.
وقولهم : " الذي يتصل إسناده "يدل على الاتصال في جميع طبقات السند،ويغني عن قول من قال : " عن مثله " في قولهم : " بنقل العدل الضابط عن مثله " أو " عن العدل الضابط " كما هو واضح ، ولا حاجة إلى أن يُقال : " إلى منتهاه " لأنه حيثما وقفت سلسلة الرجال ، مع توافر بقية الشروط؛ فهو الصحيح إلى من عُزِي إليه سواءكان مرفوعًا إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أو إلى من دونه،والله أعلم.
( تنبيه ) : قد يقال : لا حاجة لقولهم في التعريف: " إسناده "وتكون العبارة : " الذي يتصل بنقل العدل . . ."الخ لأنه لا يتصل إلا الإسناد ، والمختار في التعاريف الاختصار .
قلت : ولهذا القول حظًّ من الوجاهة ، والأمر سهل ، والله أعلم .
وقولهم: "العدل " سيأتي – إن شاء الله – مفصلاً .
وقولهم:" الضابط" أي: تام الضبط، فإنه المقصود عند الإطلاق، ولا يشترط أن يكون الراوي من الحفاظ الكبار، لكن إن وقع ذلك؛ فهو أمكن وآكد في تحقق شروط الصحيح .
__________
(1) 1 / 106 – 109 ) السؤال ( 17 ) .
(2) انظر " النزهة" ( ص 53 ) .(1/23)
وقولهم:" العدل الضابط" أدق من قول من قال:" الثقة" وإن كان الثقة في الأصل هو العدل الضابط، والاختصار في التعاريف أولى من الإسهاب؛ إلا أن هناك من استعمل قولهم:" ثقة" في غير الضبط : إما أنه يريد أنه ثقة في دينه، وإن لم يكن ضابطًا لحفظه(1)، أو يريد أنه صحيح السماع، وإن كان لا يدري ما الحديث(2)!! وبعضهم أطلقه على من لم يُجَرَّح ,فإن لم يَعْلَم في الراوي تجريحًا وثَّقه(3)!! والأصل أنه لا بد من ثبوت العدالة والضبط، ولا يُكْتَفَى بمجرد عدم العلم بالجرح.
فلما استُعمل لفظ: "ثقة" في غير العدل الضابط؛ كان التنصيص على اشتراط العدالة والضبط أبعد عن الاحتمال والاشتباه، والله أعلم.
وقولهم: "ولا يكون شاذًّا "أدق من قول من قال: "من غير شذوذ" لأن بعضهم قد يطلق الشذوذ على مجرد المخالفة؛ وإن لم تكن قادحة، ولذلك فقد يقول بعض العلماء في الحديث: "صحيح شاذ"ويعني بذلك أن في الحديث مخالفة للراوي من غيره ، لكنها لا تضر الرواية في نظر من أطلق ذلك .
وأما قولهم: "ولا يكون شاذًّا " أي: لا يكون فيه شذوذ قادح، فصار به معلاًّ نازلاً عن درجة القبول.
وقولهم: "ولا معلَّلاً "أي: لايكون فيه علة صار بها مُعَلاًّ، وهذا يغني عن قول من قال:" ولا علة قادحة" لأن العلة التي لا تقدح لا تورث إعلالاً أصلاً .
وبالنظر فيما سبق من تعريف الناظم للحديث الصحيح؛ يتضح أنه يحوي شروطاً، فسأذكرها ، وما يتعلق بها - إن شاء الله تعالى - :
?الشرط الأول: الاتصال: وقد ذكره الناظم بقوله: "وهو ما اتصل إسناده".
وفي الكلام على هذا الشرط مباحث:
__________
(1) وهذا كثير مشهور في كلام أئمة الجرح والتعديل ، ومن ذلك قول يعقوب بن شيبة في الربيع بن صَبيح : " رجل صالح ، صدوق ، ثقة ، ضعيف جدًّا " اهـ من " تهذيب التهذيب " ( 3 / 222 ) .
(2) انظر أمثلة لذلك في كتابي : " شفاء العليل " ( ص 338 – 339 ) .
(3) كما عًلم عن ابن حبان والحاكم وغيرهما .(1/24)
الأول: تعريفه: فالاتصال هو: أن يتحمل الراوي الحديث من شيخه بلا واسطة.
وقد عَبَّرتُ بالتحمل : حتى يدخل في ذلك ما كان من طريق السماع ، وكذا جميع طرق التحمل المعتمدة بتوافر شروطها من عَرْض، وإجازة ووجادة...إلخ .
الثاني: طرق معرفة الاتصال:
يُعْرف الاتصال بطرق ، وهي :
(1) التصريح.
(2) الترجيح.
(3) الاستنباط.
فأما ثبوت الاتصال بطريق التصريح؛ فإنه يُدْرك بأحد أمرين:
(أ) التنصيص من عارف بهذا الشأن، كأن يقول إمام : إن فلانًا سمع من فلان ، أو رواية فلان عن فلان متصلة ، أو نحو ذلك .
(ب) التصريح من الراوي في إسنادٍ ثابت إليه بالسماع من شيخه، كأن يقول: حدثني فلان، أو سمعت فلانًا، أو سألت فلانًا....إلخ.
ويُشْترط لقبول دعوى الاتصال من هذا الوجه شروطٌ:
(1) ثبوت الإسناد إلى مَنْ صَرَّح بالسماع.
(2)ألا يكون هذا الراوي واهمًا في تصريحه بالسماع ، أو كذابًا .
ويثبت وهمه في ذلك بنص إمام – كما سيأتي في الشرط الثالث – أو بجمع الطرق .
(3) ألا يعارض ذلك نصُّ إمامٍ على عدم سماع ذلك الراوي من شيخه، فإن نَفَى أئمة الحديث سماع هذا الراوي من شيخه؛ فكلامهم مقدم على مجرد ما جاء في السند ؛ لاحتمال أن يكون مَنْ دون الراوي وَهِمَ فصرح بالسماع,ظانًّا أن شيخه قال : سمعت فلانًا، وليس الأمر كذلك، ولاحتمال التصحيف أو التحريف في النسخ أو الطباعة، أو تَجوُّز الراوي في إطلاق السماع ممن لم يسمع منه ، كقول الحسن : حدثنا أبوهريرة ، يعني بذلك أن أباهريرة حدَّث أهل بلده ، لا أنه سمع بنفسه منه ، وهذا تجوُّز ، ولا شك أن المعلوم عند أئمة هذا الشأن بعدم السماع أولى، لاسيما عند وجود لاحتمال ، والله أعلم .
وأما ثبوت الاتصال بطريق الترجيح:(1/25)
فكأن يختلف الأئمة في سماع الراوي من شيخه، ما بين مُثْبِتٍ ونافٍ ،فهنا يقال: "المثْبِت مُقَدَّم على النافي" وذلك: أن الإثبات يَثْبُتُ باطلاع المثْبِت على السماع ولو مرة واحدة، بخلاف النافي: فإنه يَدَّعي دعوى عريضة , لا تثبت إلا باطلاع كافٍ ومُسْتَوْعِبٍ لأحوال الراوي وشيخه، وفي هذا مشقة وتعسر، ولذا كان الإثبات – في الجملة – أولى، ومن عَلِمَ حجة على من لم يَعْلَم.
( تنبيه ): قاعدة: "المثبت مقدم على النافي" هي الأصل, ما لم يكن المثبت ليس من المتأهلين, أو كان للنافي مزية أو قرينة ترجح قوله في هذا الباب، والمثبت عارٍ عن هذه المزية، فإن كان الأمر كذلك؛ فلا يعتمد على كلام المثبت، ويبقى النافي مُسْتَصْحِبًا للأصل، وهو عدم ثبوت السماع إلا بدليل.
وأما ثبوت الاتصال بطريق الاستنباط ، فله صورتان:
(أ) أن يُدرِك الراوي شيخه إدراكًا بينًا، ويكون اللقاء ممكنًا .
ويُعْتَدُّ بهذه الطريقة في إثبات الاتصال بشرط: ألا يغمز إمام في سماع ذلك الراوي من شيخه ـ فضلاً عن تصريحه بعدم السماع - .
ومثال ذلك: ما إذا كان الراوي وشيخه كلاهما من أهل المدينة مثلاً , وكان سنُّ الراوي حين وفاة شيخه عشرين سنة - مثلاً - فهذا إدراك بيِّن، لأن الراوي في هذا السن - بل قبله ـ يكون متأهلاً لتحمل الحديث، وأَخْذِهِ عن المشايخ ، بخلاف ما إذا مات الشيخ والراوي ابن سنتين أو ثلاث، أو نحو ذلك.
ثم إن لقاء الراوي بشيخه ممكن لأنهما في بلدة واحدة، أو بلدتين قريبتين, وذلك بخلاف ما إذا كان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ، فإن اللقاء –حينئذ- يكون فيه مشقة, واحتمال عدم وقوعه قوي، ولا يُحْكَم بالاتصال مع الاحتمال القوي لعدمه، والله أعلم.
فإثبات السماع بهذه الطريقة إنما هو بالاستنباط لا التنصيص.(1/26)
واشتراط عدم غمز الإمام في السماع ، مع وجود الإدراك البين؛ سببه: أنه قد يدركه ولا يسمع منه، كأن يكون الراوي لم يُبَكِّر في طلب الحديث- وإن كان كبير السن- حتى مات الشيخ ولم يسمع منه، وقد يلقى الراوي الشيخَ حال امتناعه عن التحديث, أو يلقاه حال اشتغاله بأمر عارض يمنعه من التحديث ,ونحو ذلك.
فإن قيل: إن مسلمًا - رحمه الله - يرى أن الاتصال يَثْبُتُ إذا كان اللقاء ممكنًا , مع البراءة من وصْمة التدليس!!.
فالجواب: أن هذا الكلام صحيح ومقبول من مسلم ومن غيره,لكن بشرط ألا يغمز أحد من الأئمة في سماع الراوي من شيخه, فإنْ غَمَزَ أحدٌ من الأئمة في ذلك السماع؛ فعند ذلك لا نقبل دعوى الاتصال, وهذا هو الذي عليه المحققون ,انظر "شرح علل الترمذي" لابن رجب و"النكت على ابن الصلاح" للحافظ ابن حجر.
وسيأتي شيء من الكلام على ذلك في مبحث الحديث المعنعن -إن شاء الله تعالى-.
والذي جعلني أرجح تقييد كلام مسلم بالشرط السابق: أن مسلمًا - رحمه الله - إنما يحمل عنعنة من أمكن لقاؤه بشيخه مع براءته من التدليس على الاتصال, ولم يصرح بأن هذا اتصال صريح, وإنما هو محمول عنده على الاتصال, فإذا طعن إمام في الاتصال؛ فطعْنُه صريح، والصريح يقدم على المحتمل .
وهل يُلْحَق بالطعن الصريح في السماع ما إذا قال الإمام منهم في الراوي: "لا أعلمه سمع من فلان؟" أو: "ما أُراه سمع منه؟" أو: "ما أدري أسمع أم لا؟ "ونحو ذلك؟.
والجواب: أن النفس تميل إلى إلحاق هذا بذاك أيضًا؛ لأن الأمر إذا كان محتملاً في نفي السماع وإثباته ؛ فالأصل عدم الإثبات ؛صيانة للسنة من أن يدخل فيها ما ليس منها، والله أعلم.
فإن قيل: نسلِّم بما ذكرتَ في حق الأئمة، باستثناء ابن المديني والبخاري ، فإنهما لا يؤخذ بغمزهما في رد المذهب الذي ذهب إليه مسلم ؛ لأنهما يشترطان في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة واحدة.(1/27)
فالجواب أن يقال: هل ثبت أنهما أطلقا اشتراط ذلك، أم خصصاه بما إذا وقع تنازع في الاتصال وعدمه ؟ فإن للبخاري بعض المواضع يُثْبِت فيها الاتصال دون توافر هذا الشرط(1).
وإن صح أنهما أطلقا الاشتراط ؛ فهل انفردا بذلك؟ أم تابعهما عليه غير واحد؟! فإن ظاهر كلام ابن رجب في "شرح العلل" أن هذا الذي أنكره مسلم , وشنع على مخالفه ؛ هو الذي عليه المحققون, وليس خاصًّا بابن المديني والبخاري، والله أعلم.
(ب) ومن صور ثبوت الاتصال بطريق الاستنباط: أن يحكم أحد الأئمة باتصال رواية راو عن شيخ له, مستدلاًّ بأنه قد سمع من فلان الأكبر أو أنه قديم الموت ، فمن سمع من الأكبر أو قديم الموت؛ فمن باب أولى أن يسمع من الصغير ، أو متأخر الوفاة، وهذا فرع عن الاستنباط من الإمام، وهو مقبول مالم يصرح أحد بعدم سماعه ، والله أعلم.
الثالث من مباحث الاتصال : ما يخرج باشتراط الاتصال:
اعلم أن اشتراط الاتصال في تعريف الحديث الصحيح ، قد أخرج كل ما لم يتوافر فيه هذا الشرط، فخرج بذلك كل ما فيه انقطاع بجميع صوره الظاهرة: كالمعلَّق ، والمرسَل، والمعضَل ، والمنقطع ، وكذلك فقد خرجت صور الانقطاع الخفية : كالتدليس ، والإرسال الخفي.
( تنبيه ) : العلماء يعبرون عن الاتصال بعبارات كثيرة ، منها ما هو صريح في ذلك ، كقولهم : " سمع فلان من فلان " أو " فلان عن فلان مسند " أو " فلان عن فلان متصل " أو " فلان عن فلان سماع ، أو صحيح " ونحو ذلك .
__________
(1) كما في " العلل الكبير " للترمذي ( ص 241 ) برقم ( 437 ) باب ما قُطع من الحيِّ فهو ميت ، قال الترمذي : " سألت محمدًا عن هذا الحديث ، فقلت له أترى هذا الحديث محفوظًا ؟ قال : نعم ، قلت : عطاء بن يسار أدرك أبا واقد ؟ قال : ينبغي أن يكون أدركه ، عطاء بن يسار قديم " اهـ .
فتأمل كيف أثبت الاتصال بين عطاء وأبي واقد ، ومن ثَمَّ حكم بأن الحديث محفوظ ، والله أعلم .(1/28)
وقد يعبرون بعبارات ليست صريحة ، لكنها ظاهرة في الاتصال ، ويُعمل بها في ذلك ، إلا أن يصرحوا بعدم الاتصال ، فمن ذلك قولهم : " فلان روى عن فلان وفلان ، وروى عنه فلان وفلان " وكذلك قولهم : " فلان أدرك فلانًا ، أو رآه ، أو دخل عليه ، أولقيه " فكل هذا يُحتمل مع وقوعه عدمُ السماع لسبب من الأسباب، لكن الأصل في إطلاق ذلك عند العلماء هو السماع أو الاتصال، إلا أن يَرِدَ خلافه ، فتراهم في كتب التراجم يقولون : " روى فلان عن فلان ، وفلان ، وفلان ، وعن فلان مرسلاً ، أو لم يدركه" فلو كان الجميع كذلك ؛ لما خص الإمام فهم رواية الراوي عن أحدهم بالإرسال دون البقية ، والله تعالى أعلم .
( تنبيه آخر ) قد يُطلق الأئمة الانقطاع في الرواية بين الراوي وشيخه ، فيقولون : " فلان عن فلان غير متصل ، أو منقطع " ويعنون بذلك أنه لم يسمع منه ، وإن كان قد أخذ عنه بصورة أخرى من صور التحمل المقبولة بشروطها ، فلزم التنبيه للبحث والتأمل قبل الحكم بالضعف على الرواية ، والله أعلم .
الشرط الثاني في تعريف الحديث الصحيح - حسب قول الناظم - : السلامة من الشذوذ ، وهو مأخوذ من قول الناظم – رحمه الله – " ولم يُشَذَّ " وفيه مباحث:
المبحث الأول : تعريف الحديث الشاذ ، وفيه أقوال :
القول الأول ـ وهو الراجح ـ: أن الشاذ:" هو مخالفة المقبول لمن هو أولى منه " كما عَرَّفَه الحافظ ابن حجر في " النزهة "(1).
__________
(1) ص 98 ) .(1/29)
والمخالفة : هي أي زيادة في المبنى ـ سواء كانت في السند ،أو في المتن ـ تدل على زيادة في المعنى ،سواء أمكن الجمع بين الزيادة والأصل على طريقة الفقهاء ، أم لا ، خلافا لمن خصها بالتنافي أو التضاد الذي لا يمكن معهما الجمع بين المطلق والمقيد ، والعام والخاص ؛ لأنه يلزم من ذلك ألا يكون هناك شذوذ في الدنيا ، ولأن هذا مخالف لصنيع الأئمة، وعلى مدَّعي وجود الشاذ بالأوصاف السابقة الإتيان بمثال واحد تنطبق عليه الشروط المذكورة !! والله أعلم .
وقوله :" المقبول " يشمل رجال الحديث الصحيح والحديث الحسن .
وقوله:" لمن هو أولى منه " إما وصْفًا أو عددا .
فمثال العدد: مالو خالف ثقةٌ ثقتين فأكثر ، فإن رواية الثقة تكون شاذة ؛ لمخالفته من هو أولى منه عددا ، وتكون رواية الثقتين فأكثر هي المحفوظة ، فإن توهيم الثقة أولى من توهيم الثقتين .
ومثال الوصف ، ما لو خالف ثقةً ثقةٌ حافظٌ، فإن رواية الثقة تكون شاذة أيضا؛ لمخالفته من هو أولى منه وصْفًا ، وتكون رواية الثقة الحافظ هي المحفوظة ، وبمثل ذلك ما إذا خالف ثقة من قيل فيه : صدوق ، أولا بأس به ، فالحكم للثقة، هذا هو الأصل ، إلا أن تظهر قرينة أخرى ؛ فيُعمل بكل شئ في موضعه، وبحسبه ، والله أعلم .
القول الثاني : أن الشاذ:" مخالفة الثقة للثقات " وهذا التعريف غير جامع ، وذاك في موضعين :
1 – أن قوله:" ثقة " أخرج الصدوق ، ومن كان حديثه في مرتبة الحسن ، مع أن مخالفته لمن هو أولى منه تعد شاذة أيضًا ، ولأنه قد يقال: إننا إذا حكمنا بالشذوذ على رواية الثقة - وهو أعلى من الصدوق - فكذلك الصدوق إذا خالف من هو أولى منه ؛ نحكم بالشذوذ على روايته من باب أولى ، والله أعلم .(1/30)
2- إن قوله:" للثقات " يُخْرج مالو كان المخالَف – بفتح اللام – واحدًا أو اثنين، إذ قوله:" للثقات " جَمْع ، ويَصْدُق على الثلاثة فأكثر – على المشهور – مع أنه لو خالف الثقةُ ثقةً حافظًا أو ثقتين ؛ لكانت روايته شاذة أيضا ، وإن لم يصدق إطلاق " الثقات " بصيغة الجمع - على الثقة الحافظ، أو الثقتين ، والله أعلم .
القول الثالث : أن الشاذ:" مخالفة الثقة لمن هو أولى منه " ويرد عليه ما ورد في الموضع الأول من الاعتراض على التعريف الثاني .
وهناك تعاريف أخرى تُنظر في باب الشاذ ـ إن شاء الله تعالى ـ .
( تنبيه ): قول الناظم – رحمه الله تعالى – " ولم يشذ " ضبط بعدة وجوه :
أ – أنه على البناء للمجهول :" يُشَذَّ " بضم المثناة التحتية ، وفتح الشين المعجمة ، وتشديد الذال المعجمة ، وهو الأشهر .
ب – على أنه للبناء للمعلوم ، بفتح المثناه التحتية ، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الذال المعجمة " يَشِذَّ ".
ج – أنه بتسكين الذال، مع البناء للمجهول " يُشَذْ " مع إبدال " أو " في البيت بـ " لم " فيكون عجز البيت هكذا : ولم يُشَذْ ولم يُعَلْ "
المبحث الثاني من مباحث اشتراط السلامة من الشذوذ :
معلوم أن الشذوذ من جملة العلل الخفية ، ولا يمكن الوصول إليه إلا بعد جمع الطرق ، فلماذا أفرده مَنْ أفرده مِنَ المحدثين في التعريف بقيد مستقل ، وخصوه بالذكْر من جملة العلل الخفية ، مع أن الاضطراب ، والقلْب ، والإدراج كل ذلك من العلل الخفية أيضا ، ومع ذلك فلم تذكر في التعريف ؟
والجواب : أنهم أرادوا بذلك أن ينصُّوا على مخالفة جمهور الفقهاء والأصوليين الذين لايَعُدُّون الشذوذ علة ، مع تسليمهم بكون الاضطراب ، والإدراج ، والقلْب علة ، فهم يقبلون حديث زيادة الثقة وإن خالف الجماعة ، إلا أنْ يتعذر الجمع بين هذا وذاك على طريقتهم ، لاعلى طريقة المحدثين .(1/31)
ونحن وإن سلمنا لهم جدلاً بأنه قد يعتذر الجمع في المتن بين الزيادة والأصل ، فكيف يتعذر الجمع في الإسناد ، على طريقة الجمع بين العموم والخصوص ،والمطلق والمقيد ،ونحو ذلك ؟
وقد أجاب الحافظ – رحمه الله – في " النكت " ( 2 / 654 ) على بعض الإيرادات على ابن الصلاح ، وفي جوابه ما يشير إلى ما سبق الجواب به عن اشتراط المحدثين نفي الشذوذ في تعريفهم الصحيح ، حيث قال : " ويمكن أن يُجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحة : إنما يقوله المحدِّثون ، وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعارض الوصل والإرسال ، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك "(1).
ويُضاف إلى ذلك : أن هذا تعريف المحدثين على أصولهم وقواعدهم ، فلا يرد عليهم كونهم خالفوا قواعد وأصول الفقهاء والأصوليين " اهـ ، والله أعلم .
ومعلوم أن الشذوذ يقع في الإسناد وفي المتن .
المبحث الثالث من مباحث اشتراط نفي الشذوذ :
فإن قيل : إن اشتراط وجود الضبط يُغني عن اشتراط انتفاء الشذوذ ، لأن الشذوذ خلل في الضبط !!
فالجواب : معلوم أن الرجل وإن كان غاية في الضبط فقد يهم ويخالف في بعض الروايات ، ولا يزحزحه ذلك عن مرتبة الضبط والإتقان في الجملة ، فاشتراط الضبط اشتراط لشرط عام ، ولا يلزم من وجود الضبط في الجملة نفي الشذوذ في هذا الحديث بعينه .
وعلى ذلك فهما شرطان : أحدهما : عام في الراوي ، وهو الضبط .
والثاني : خاص بالرواية التي يُراد الحكم عليها بالصحة ، وهو نفي الشذوذ .
فيثبت بذلك أنهما شرطان أصليّان في التعريف ، وهذا بخلاف من ذهب إلى أن المراد بشرط نفي الشذوذ مجرد البيان أو التصريح بالمنطوق(2)، والله أعلم .
فإن قيل : إن نفي الشذوذ يلزم منه وجود الضبط ، فإن الراوي إذا شذَّ اختل ضبطه !!
__________
(1) انظر كتابي " إتحاف النبيل " ( 1 / 107 ) السؤال ( 17 ) .
(2) انظر " النكت " للزركشي ( 1 / 102 ) و " التدريب " (1/ 64 ) .(1/32)
فالجواب : قد سبق في الجواب على الإشكال السابق ما يغني عن إعادت هنا .
أضف إلى ذلك : أن الأحاديث منها فرد وغريب ، ومنها ماله طرق متعددة ، فما كان من النوع الثاني ؛ فبجمع الطرق يظهر الشذوذ وغيره ، فنفي الشذوذ يتنزل على هذا النوع .
أما النوع الأول : وهو الفرد الغريب ؛ فلا يُتصور فيه نفي الشذوذ عنه ، فلو كان أحد رواة الحديث الغريب ضعيفًا ، ولم نشترط الضبط في الراوي ـ على هذا القول الوارد في هذا الإشكال ـ ووجدنا الحديث متصلاً ؛ بالعدول ـ وإن كان فيهم من هو سيء الحفظ ـ وأيضًا فلا شذوذ فيه ؛ لأن الشذوذ ليس في هذا النوع ـ كما سبق ـ وكذا ليس فيه علة خفية ، فهل يُحكم عليه بأنه قد استوفى شروط الصحة ؟! فإن قيل : نعم ؛ فهذا مردود ، وإن قيل : لا ، لأن راويه ضعيف ، قلت : اشتراط الضبط العام في الراوي هو الذي يخرج هذا السند من جملة الصحاح ، لا مجرد نفي الشذوذ ، فتأمل ، والعلم عند الله تعالى .
فإن قيل :إن نفي الشذوذ لا يكون في رواية الضعفاء ، إنما هو في رواية من يحتج به ،فهذا يغني عن اشتراط الضبط .
والجواب:أن اشتراط الضبط التام لا بد منه في الصحيح ؛ لإخراج الحسن فما دونه ، والله أعلم .
فإن قيل : الأصل في الراوي الذي حكموا عليه بأنه ضابط : أن مخالفاته قليلة بالنسبة لموافقاته للثقات ، فلماذا لا نعمل بالغالب ، ونحكم عليه بأنه قد ضبط هذا الحديث ، ولا نتوقف فيه حتى ننظر : هل سلم من الشذوذ والعلة أم لا ؟!
فالجواب : أن الأئمة وضعوا شروط الصحة صيانة للحديث النبوي من أن يدخل فيه شيء – مع الشط أو الاحتمال - ليس منه ، وهذا يقتضي التأكد من سلامة الحديث من الشذوذ والعلة .
ثم إننا لو أطلقنا القول بصحة حديث الضابط مطلقًا ، باعتبار أن الغالب عليه الضبط ، مع علمنا بوجود مخالفات في الجملة عند أهل الضبط؛ فإن هذا القول فيه قبول الحديث مع الاحتمال .(1/33)
فلو فرضنا أن الضابط يحفظ مائة حديث ، وقد أخطأ في سبعة منها ، ونحن لا ندري: أهذا الحديث بعينه مما أخطأ فيه أم لا ؟ فتصحيح الحديث لمجرد كون الراوي ضابطاً - مع هذا الاحتمال - دون النظر في كلام الأئمة في هذه الراوية ؛ تصحيح مع الشك أو الاحتمال .
وَوِزان ذلك مسألة الاتصال : فلو فرضنا أن راويًا سمع من شيخه مائة حديث إلا سبعة لم يسمعها منه ، إنما أخذها بواسطة ضعيفة عنه ، ثم وقفنا على رواية هذا الراوي عن ذلك الشيخ ، ولو ندْرِ أهذا الحديث من تلكم السبعة أم لا ؟ فهل نحكم بالاتصال لمجرد كون الراوي سمع الأكثر من شيخه ؟ أم لا بد من البحث في هذه الرواية بعينها : أهي من السبع أم لا ؟ وجوابكم على هذا ، هو جوابنا على ما تقدم ، والله أعلم .
الشرط الثالث – حسب كلام الناظم - السلامة من العلة : وهذا مأخوذ من قول الناظم : " ولم يُعَل " وفيه مباحث :
أولاً : تعريف العلة :" هي سبب خفي يقدح في صحة الحديث، مع أن الظاهر السلامة منه" والمراد بذلك العلة التي لايقف المحدث عليها إلا بعد جمع طرق الحديث،أو الباب.
وخرج بقولهم : "سبب خفي " الأسبابُ الظاهرة في الجرح : مثل ضعف الراوي، وجهالته، وانقطاع السند ، ونحو ذلك ، فإن هذه الأمور وإن كان الحديث يُعَلُّ بها؛ إلا إنها ليست هي المرادة بالعلة اصطلاحًا ، وبقية الكلام : " مع أن الظاهر السلامة منه " تدل على أن ظاهر السند السلامة من هذه العلة الظاهرة .
وخرج بقولهم:" يقدح في صحة الحديث" العلل غير القادحة كالاختلاف الذي يمكن معه الترجيح أو الجمع.
ثانيا: ظهر مما سبق من تعريف العلة أنها تنقسم إلى قسمين :
1 – علة قادحة : وهي المرادة بقول الناظم :"ولم يُعَلْ" أي بعلة قادحة .
2 – علة غير قادحة، وقد سبق ذكر بعض أمثلتها ، كالاختلاف الذي يمكن معه الجمع على طريقة المحدثين .(1/34)
ثالثًا : ذهب بعض أهل العلم من المحدثين والفقهاء إلى أن الأصل في الحديث الذي يتصل إسناده برواية العدل الضابط : الصحة؛ إلا أن يظهر أنه شاذ أو معلل، والراجح: أن الحديث لايكون صحيحا إلا بتوافر ما يجب توافره، وانتفاء مايجب انتفاؤه ، ولو كان انتفاء الشذوذ والعلة ليس شرطًا في الحديث الصحيح؛ لما ذُكِر هذا في تعريفه .
نعم، قد يقال فيما جمع الشروط الإيجابية الثبوتية ، وهي الاتصال ، والعدالة ، والضبط : " إسناده صحيح " أما إطلاق الصحة على مجرد ذلك، ثم يُنْشَر ذلك الحديث في الناس، وتُستنبط منه أحكامُ يُستحل بها الدم، والمال، والعرض، دون النظر في سلامته من العلل؛ ففي هذا استرواح وتوسع غير مرضي ، والله أعلم(1).
لكن إذا أطلق الإمام الناقد منهم قوله في الحديث :"إسناد صحيح " فالأصل أنه لا يُطْلق ذلك لمجرد وجود الشروط الثلاثة : الاتصال , والعدالة , والضبط ؛ لأن الإمام منهم يحفظ معظم السنة , ويحفظ كلام الأئمة في الأحاديث , هذا هو الأصل حال في الإمام منهم , فإذا سئل أحدهم عن الحديث :فإنه يجول بفكره في كل مايعلم عن هذا الحديث , من طرق , وأقوال للأئمة فيه , ونحو ذلك , فلو كان يعلم أن فيه علة خفية تقدح في صحته ؛ لما استجاز إطلاق القول بصحة السند, لأنه – والحالة هذه – يكون مُلبِّساً على الناس , إذ يغترون بقوله :" إسناد صحيح " ويعملون بالحديث , والإمام يعلم أن فيه علة , وحاشا الإمام منهم أن يسلك هذا المسلك .
ولا شك أن إمعان الإمام النظر في الحديث وما يتعلق به , من خلال ما يحفظه ؛ فإنه أقوى في النفس من مجرد بَحْثِ باحث في الكتب , ولم يجد للحديث علة , فإذا كنا سنعمل ببحث الباحث ؛ فمن باب أولى أن نعمل بنقد الناقد البصير .
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 1/ 17 – 18 ) .(1/35)
نعم , إذا عُلم أن الإمام منهم يعْدل عمداً عن قوله :" حديث صحيح " إلى قوله :" إسناد صحيح " فإن ذلك يورث ريبة في نسبة تصحيح الحديث إلى ذلك الإمام .
وكذا إذا عُلِمَ من صنيع إمام منهم أنه يُفرِّق بين العبارتين في الحكم على الحديث ؛ فيؤخذ بما عُلِم من صنيعه , وإلا فالأصل ما قدمته في حقه وحق أمثاله, وقد أشار إلى ذلك ملخصًا ابن الصلاح , حيث قال :"......غير أن المصنِّف المعتمد منهم ؛ إذا اقتصر على قوله: إنه صحيح الإسناد , ولم يذكر علة , ولم يقدح فيه؛ فالظاهر منه : الحكم له بأنه صحيح في نفسه , لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر , والله أعلم " أ.هـ(1).
وقد فهم بعضهم كلام ابن الصلاح على غير وجهه؛ فانتقدوه ,مع أن كلام ابن الصلاح فيه عدة قيود , وهي :
أ- أنه لم يطلق أن الأصل عدم العلة والقادح في حق كل أحد , إنما قيَّد ذلك بالمصنف المعتمد , والمصنف هو الذي يؤلف في الأبواب , فيذكر حديثاً تحت باب , في مقام الاحتجاج به على الباب , ويصرح بأن إسناده صحيح , وهو رجل معتمد في هذا الفن , فيستبعد أن يجازف في هذا الحكم , إلا بعد أن يحول بفكره في كل معلوماته عن هذا الحديث، كما سبق .
ب – لم يجزم ابن الصلاح بأن الإمام يصحح الحديث بهذا القول، وإنما استظهر ذلك .
ج – لم يجعل ابن الصلاح الحكم بالصحة عامًّا عند المحدثين ؛ بل جعله مقصورًا على القائل :"إسناده صحيح " والعالم لا يلزمه أن يقلِّد العالم , لكن العامي أو العاجز عن الاجتهاد مطلقًا , أو في بعض الحالات ؛ له أن يأخذ بقول العدل بهذه الضوابط , والله أعلم .
فان قيل: فإذا ثبتت عدالة الراوي وضبطه ؛كان الأصل :أن يحفظ ما روى ,حتى يتبين خلافه اهـ(2).
__________
(1) انظر" المقدمة" مع " التقييد والإيضاح " ( ص 58 ) .
(2) قاله السيوطي في " التدريب " ( 1 / 66 ) .(1/36)
فالجواب: قد سبق الرد على ذلك في الكلام على الضبط , وردَّ قول من قال : إن اشتراط الضبط يغني عن اشتراط نفي الشذوذ , وخلاصة ذلك: أن شرط الضبط شرط عام, وشرط نفي الشذوذ شرط خاص برواية معينة , ولا يلزم من ثبوت العام ومدح الراوي في الجملة , تحقق الشرط الخاص، وهو نفي الشذوذ عن هذه الرواية بعينها , ولا شك أن الشذوذ والمخالفة قد وقعت في أحاديث الأئمة الكبار – فضلاً عمن دونهم – فاذا اكتفيا بمجرد الضبط ؛ فهذا تصحيح للحديث مع الشك , وفيه ما فيه , والله أعلم .
( إشكال ) ذكر بعضهم أن كتب العلل إنما تبحث في أحاديث الثقات الذين يوجد في رواياتهم علل خفية، ومع ذلك فقد يقف الباحث فيها على أحاديث بعض الضعفاء، بل المتروكين،وغير ذلك من العلل الظاهرة !!
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين :
أ – أن هذا نادر،ولا يُخِلُّ بمقصود مُصَنِّفي كُتب العلل،فإن العبرة بالأشهر الأكثر، لا بالأقل الأندر .
ب- أن من جملة هذا النادر أحاديث رواها بعض الثقات ، فَظُنَّ أنها صحيحة لذلك، فلما فُتِّش فيها؛ ظهر أنها ترجع إلى أحاديث الضعفاء والمتروكين، فما كان من هذا القبيل؛ فهو موافق لقصد من أَلَّفَ في العلل الخفية، والله أعلم .
( إشكال آخر ) اعتُرِض على الناظم بأنه لم يجمع الشروط التي تختص بالإسناد - وهي الاتصال، والعدالة، والضبط - على حِدَةٍ، والشروط التي يشترك فيها الإسناد والمتن - وهي السلامة من الشذوذ والعلة - على حِدَةٍ، إذ لو فعل ذلك لكان أولى .
والجواب مع كون هذا الاعتراض له وجه - إلا أنه قد يعتذر عن الناظم - رحمه الله - بأن النظم اضطره إلى ذلك ، وإن كان غيره من النُّظَّام قد تخلص من هذا الإشكال بسهولة ويُسْر .
?الشرط الرابع: مما اشترطه الناظم رحمه الله - في الحديث الصحيح : العدالة : وهو مأخوذ من قوله :" يرويه عَدْلٌ" وهذه جملة حالية، والمعنى: أن الإسناد يكون متصلا سالما من الشذوذ والعلة حال كون راويه عدلا .(1/37)
وتحت هذا الشرط مسائل :
الأُولى : تعريف العدل، وقد عُرِّف بعدة تعاريف .
1-هو: من أتى بالواجبات، وتَرَكَ المحرمات .
2-هو: من كانت له مَلَكَةٌ تحمله على ملازمة التقوى والمروءة(1).
3-هو: الذي لايجاهر بكبيرة ، ولايُصر على صغيرة .
4-هو: من قارب وسدّد ، وغلب خيرُهُ شرَّه(2).
5-هو: من ترك الكبائر ، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه(3).
6-هو: من كان الأغلب في حقه الطاعة ، أو من كان أكثر أحواله طاعة لله(4).
7-هو: المسلم ، البالغ،العاقل ، السالم من أسباب الفسق ، وخوارم المروءة(5).
فاشتراط الإسلام : أخرج الكافر، وهذا الشرط إنما يُشْتَرط في الأداء لا في التحمل ، أي قد يسمع الكافر شيئًا من الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حال كفره ، ويؤديه بعد إسلامه ، ويُقْبَل هذا منه لعدالته حال الأداء، لا حال التحمل ، والله أعلم .
قال الحافظ الذهبي في " الموقظة " ( ص 61 ) : " لاتُشترط العدالة حالة التحمل ، بل حال الأداء ، فيصح سماعه كافرًا ، وفاجرًا ، وصبيًّا ، فقد روى جبير – رضي الله عنه –أنه سمع النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقرأ في المغرب بـ" الطور " فسمع ذلك حال شِرْكه ، ورواه مؤمنًا(6)" اهـ .
__________
(1) قاله الحافظ في " النزهة " ( ص 83 ) .
(2) قاله الصنعاني ، انظر " ثمرات النظر في علم الأثر " ( ص 58 ) .
(3) قاله الشافعي ، انظر " ثمرات النظر " ( ص 72 - 73 ) .
(4) قاله ابن حبان ، انظر " صحيح ابن حبان " ( 1 / 250 ) .
(5) قاله ابن الصلاح ، انظر " المقدمة " و " التقييد والإيضاح " ( ص 136 ) .
(6) الحديث متفق عليه .(1/38)
واشتراط البلوغ: أخرج الصغير الذي لم يَبْلُغ، وهذا أيضا إنما يُشْترط في حالة الأداء؛ لأن الصغير قد يتحمل قبل البلوغ، إلا أنه لا يُقْبل منه إلا إذا بلغ؛ لأن البالغ الذي أصبح مكلفا، ويعرف الحساب والجزاء، ونحو ذلك؛ يكون عنده خوف من أن يجازف في القول على رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بخلاف الصغير : فإنه لا يُؤْمَن عليه أن يقول على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مالم يقل؛ لأنه ليس عنده الإدراك الواسع، أو العقل الكامل، الذي يجعله يخاف ويرتدع .
هذا أَمْرٌ، وأَمْرٌ آخر: أنه قد لايكون عنده ضبط يستطيع به أن يأتي بالحديث على وجهه، واشتراط البلوغ حد منضبط قد عُلِّقَتْ به أمور كثيرة في الشريعة، فاعتماده أولى، وإن كان في النفس شيئ من رد رواية من قارب البلوغ ولم يبلغ بعد، مع توافر ضبطه، وخوفه من المجازفة في القول على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيُنظر : هل هناك من حدَّث قبل البلوغ بالشرط السابق ، ومع ذلك لم يقبلوا منه ؟! وأما ما يذكر بعض أهل العلم(1)منتقدين هذا الشرط بحجة قبول الصحابة رواية صغار الصحابة : كابن عباس ، وابن الزبير، والنعمان بن بشير؛ فليس ذلك ظاهرًا في أنهم حدَّثوا بما حدَّثوا به قبل البلوغ ، أما التحمل في الصغر : فلا إشكال فيه ، والله أعلم .
واشتراط العقل: أخرج المجنون، نسأل الله العافية، والجنون قسمان : مُطَبَّق ومتقطع:
فالأول: هو الذي يكون ملازما للرجل في كل حال، ويُرَدُّ حديثه مطلقا .
أما الثاني: فهو الذي يعتري الإنسان في حال دون حال، فمثله تُقْبَل روايته حال إفاقته، إذا توافرت فيه الشروط الأخرى، وتُرَدُّ حال جنونه .
__________
(1) انظر كلام شيخنا الألباني – رحمه الله – في تعليقه على " الباعث الحثيث " ( 1 / 280 ) وبنحوه كلام السخاوي في " فتح المغيث " ( 2 / 7 ) .(1/39)
واشتراط العقل : معتبر في حالتي التحمل والأداء، إذ غير العاقل لايُتَصَوَّر منه تحمل ولا أداء .
واشتراط السلامة من أسباب الفسق: أخرج من وقع في شئ منها، وأصر على ذلك ،أما مجرد الوقوع في الكبيرة فالمسلم غير معصوم من ذلك ، ولو رددْنا رواية كل من وقع في معصية – دون إصرار عليها – ما سَلِم لنا أحد ، والله المستعان .
ولايُؤْمَن في حق من أصر على الكبيرة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم –
وأخرج هذا الشرط أيضًا المجهول الذي لم تتحقق عدالته وسلامته من أسباب الفسق، والمراد بذلك فسق الشهوات، أما فسق الشبهات والتأويل الذي يقع فيه أهل الأهواء والبدع ؛ ففي رواية أهله تفصيبل.
واشتراط السلامة من خوارم المروءة: أخرج من انخرمت مروءته، وفي هذا الشرط مباحث :
الأول :تعريف المروءة :قال بعضهم:هي: أن تَفْعل من المباحات مايَزِينُكَ،وتترك منها ما يَشِينُكَ". وقال بعضهم: هي:" الصيانة من الأدناس ،والترفُّع عما يَشِينُكَ عند الناس " .
وقال بعضهم: هي: "ترك المذموم عُرْفًا" .
وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وتدل على المراد، وانظرها وغيرها في كتاب " المروءة وخوارمها"(1)
الثاني : ضابط المروءة: ليس للمروءة ضابط شرعي معين، وأعمال معروفة في كل عصرٍ ومصر، بل المعتبر في ذلك العرف، وهو يختلف باختلاف البلدان، والأزمان، والأشخاص، فَرُبَّ شئ يكون مستنكرًا في زمن دون آخر، وفي بلدة دون أخرى ومن شخص دون آخر .... وهكذا .
الثالث : لماذا اشترطوا في العدل السلامة من خوارم المروءة ؟
__________
(1) ص 15 ) وما بعدها لأخينا الشيخ مشهوربن حسن – حفظه الله تعالى - .(1/40)
المقصود من ذلك: أن يكون الراوي صاحب صيانة وتَحَرُّزٍ من الأمور التي عُرِفتْ عمن ليس من أهل هذا الشأن: أهل التحرز، والتوقِّي، والسمت الحسن، لأن الراوي إذا لم يكن كذلك؛ فَيُخْشَى منه أن يكون صاحب مجازفة، وتوسُّعٍ غير مرضيٍّ، ويُلْقي الكلام دون مبالاة، فيقول على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مالم يَقُلْ، أو لايتورع إذا شك في الوجه الذي تَحَمَّل به الحديث ؛ فيرويه على الوجه المخالف للاحتياط والورع، بخلاف صاحب المروءة والتحرز: فإنه إذا ترفَّع عن النقائص العرفية - وإن كانت مباحة شرعًا - فلن يتجرأ على حديث رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بل سيكون أكثر ترفعا وتحرُّزًا، والله أعلم .
الرابع : هل اشتراط السلامة من خوارم المروءة في العدل شرط نظري وعملي، أم هو شرط نظري فقط ؟
الذي يظهر لي أن الطعن في الرواة بسبب الوقوع في شئ من خوارم المروءة أمر قليل جدا، ومع كونه كذلك : فالإعلال به أقل من القليل، فإني لا أعرف رجلا جمع شروط العدالة: من الإسلام، والعقل، والبلوغ، والسلامة من أسباب الفسق؛ ومع ذلك ضُعِّفَ، ورُدَّتْ روايته بسبب خوارم المروءة ،نعم قد يُتَكَلَّم في الرجل بسبب خوارم المروءة؛ دون أن يفضي هذا الكلام إلى رَدِّ حديثه عند الأئمة، كما جاء عن شعبة أنه قال : قلت للحكم : مالك لم تَحْمِل عن زاذان – يعني زاذان الكندي-؟ قال : كان كثير الكلام اهـ(1)ومع ذلك فقد وثقه غير واحد .
وكذا ترك شعبة حديث رجل بسبب أنه رآه يركض على برذون(2)،باعتبار أن هذا الفعل يخدش في مروءته ، ولكن هذا الطعن لايؤثر في الرجل ، والله أعلم .
المسألة الثانية في شرط العدالة : كيف تُعْرَف عدالة الراوي عند المحدثين ؟
يُعْرَف ذلك عندهم بطرق ، منها المقبول، ومنها المردود، وهي :
__________
(1) " يهذيب التهذيب " ( 3 / 269 ) .
(2) " الكفاية " ( ص 182 ) .(1/41)
1-استفاضة الثناء على الراوي وشُيُوعه بين الأئمة والمحدثين، وهذه الطريق أقوى في إثبات العدالة من مجرد تزكية شخص أو شخصين يجوز عليهما الخطأ في اجتهادهما .
وعلى هذا فلا يُقْبَل التجريح فيمن كان كذلك إلا إذا كان مفسَّرًا، ومن المعلوم أن من استفاضت عدالته في الرواية، وحُمِد عند الأئمة، وكان له قَدَمُ صِدْق في نصرة الدين؛ فالجرح المجمل فيه يكون مردودًا، وكثيرًا مايكون من باب كلام الأقران في بعضهم، أو بسبب كلام لا يصح عن المتكلَّم فيه ، أو له فيه تأويل صحيح، أو نحو ذلك مما يُدَافَعُ به عن العلماء .
2-التزكية : وذلك أن ينص إمام أو إثنان – مثلا – من أئمة الجرح والتعديل على أن فلانًا عَدْل، أو ما يقوم مقام هذا القول من العبارات، فيُقْبَل هذا التعديل: سواء كانت التزكية من تلميذ المزَكَّى أو من غيره ، شريطة أن يكون التلميذ أهلا لذلك ، ولم تقع منه محاباة في التعديل لشيخه، وهذا هو الأصل؛ لكونه عدلا، خلافا لمن رد تزكية التلميذ بناء على احتمال المحاباة للشيخ ، وهذا قول مردود؛ إذ لو أن التلميذ حابى شيخه، وعَدَّله - وهو يعلم عنه خلاف ذلك - لسقطت عدالة التلميذ في هذا الموضع، والفرض أنه عَدْلٌ رضى .
3-اختبار الأحوال، وتتبع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظن بالعدالة. قاله الخطيب.(1)
4-ومنهم من يُطلق القول بأن الأصل في المسلم العدالة، فمن لم يُجَرَّح؛ فهو عدل عنده، وهذا مذهب فيه اتساع غير مَرْضِي، إذ أن الحكم بالإسلام والعدالة الظاهرة شئ، والحكم بالعدالة في الرواية شئ آخر ، فهذا خاص ،والأول عام ، ولايلزم من ثبوت العام ثبوت الخاص .
5-ومنهم من يرى أن مستوري التابعين حجة ، والتحقيق على خلافه .
__________
(1) "الكفاية" ص141.(1/42)
6-ومنهم من يرى أن الراوي إذا روى عنه جماعة؛ فإنه يكون ثقة، وفيه نظر ، إنما تُرفع عن الراوي بذلك جهالة العين ، إلا إذا كان مشهورًا ، وروى عن الأكابر ، وأهل الانتقاء ، وأخرج حديثه من ينتقي في أحاديث كتابه ، فإن هذا يرفعه إلى الاحتجاج مالم يُجرح ، والله أعلم(1).
7-ومنهم من يرى أن الراوي إذا روى عنه من ينتقي في شيوخه، ولا يروي إلا عمن كان ثقة عنده ؛ فإنه يكون ثقة عنده بذلك ، ومن ثَمَّ يكون ثقة عند غيره؛ لقبول خبر العدل، وفي هذا المقام تفصيل يرد هذا الإطلاق، وليس هذا موضعه (1) .
8-ومنهم من يرى أن الراوي إذا أخرج له صاحبا "الصحيحين" أو أحدهما؛ فإنه يكون عدلا في الرواية، وهو إطلاق غير مقبول ؛ لاحتمال أنهما ما أخرجا له إلا ما علما صحة حديثه ، أو أخرجا له في الشواهد ، ونحو ذلك(2).
9- وتعرف عدالة الراوي – أيضاً- من خلال النظر في كتابه , فإن كان ممن يشك في حديث؛ يضرب على أحاديث بجواره , أو ممن يشك في كلمة ؛ يضرب على الحديث كله ؛ دل ذلك على عدالته وورعه , لأن العادة: أن المحدِّث يحب كثرة الحديث لا قلته ، وربما يضرب الورع على أحاديث يتنافس المحدثون في أخذها عنه، والرحلة إليه بسببها ، فضَرْبُهُ عليها لأدنى شك: يدل على مزيد من الدين والورع ، وقد حصل هذا ليحيى بن يحيى ، ومسعر ، ومالك ، وغيرهم ، انظر كتابي :" شفاء العليل "(3).
وهذه الطريقة كانت متيسرة للأئمة الأوائل ، الذين كانوا ينظرون في كتب وأصول الرواة ، بخلاف من بعدهم ، والله أعلم .
__________
(1) وانظر " إتحاف النبيل " ( 2 / 81 – 84 ) السؤال ( 207 ) .
(2) وانظر " الموقظة " ( ص 79 ) وتفصيل الرد على ذلك فيكتابي : " شفاء العليل " ( 1 / 366 – 367 ) .
(3) ص 379 – 380 ) .(1/43)
10- وتُعرف عدالة الراوي ـ أيضًا ـ بروايته عن أبيه ، أو عن شيخ قد اشتهر الرواي بالأخذ عنه ، ومع ذلك يروي عنه تلميذه مرة بواسطة ، ومره يقول : وجَدْتُ في كتاب أبي كذا ، ومره يروي عنه بلا واسطة ، فما الذي يحمله على النزول في الإسناد عن شيخه ، مع إمكان العلو ، ولو علا في الإسناد ، وروى عنه مباشرة ؛ لم يتعقبه أحد؛ لاشتهاره بالأخذ عنه ؟ولكن الدين هو الذي يجعله ينزل مع إمكان العلو ، والنزول غير مرغول فيه عند المحدثين – في الجملة - .
وهذه الطريقة تُعْرَف بها العدالة ـ لما سبق ـ ويُعرف بها الضبط أيضًا ، لأن تمييز الراوي بين ما كان عنده عن شيخه بواسطة مما كان بدون واسطة ؛ يدل على الضبط .
جاء في " النبلاء "(1):" قال الجرجاني : فسألت يحيى بن معين عن سماع أبي بكر بن أبي شيبة من شريك ؟ فقال: أبوبكر عندنا صدوق ، وما يَحْمله أن يقول : وجَدْتُ في كتاب أبي بخطه ؟ وقال : فتأمل كيف عرف أن أبا بكر صدوق ، وأن ذلك بسبب نزوله مع أنه لو علا ما أنكر عليه أحد ، ولكنها الأمانة العلمية ، والأمانة في البلاغ ، والأمر دين .
وحُدِّثْتُ عن روح بن عبادة بحديث الدجال ، وكنا نظنه سمعه من أبي هشام الرفاعي " اهـ .
11- اشتهار الراوي بالعلم والعناية به ، واتساع رحلته ، مالم يُجرَّح ، فمثل هذا يحتج به عدالة وضبطًا ؛ إذ لو كان فيه ما ينقض ذلك ؛ لما سَلِمَ من كلام الأئمة ، فإن الهمم متوافرة للكلام في المشاهير الذين يوجد منهم ما يقتضي الجرح .(2)
__________
(1) 11 / 124 ) ترجمة ابن أبي شيبة عبدالله بن محمد بن أبي بكر .
(2) انظر " فتح المغيث " ( 2 / 20 – 21 ) و " إتحاف النبيل " ( 1 / 173 – 175 ) السؤال ( 52 ) و " مفتاح دار السعادة" لابن القيم ( 1 / 495-496 ) ط / دار ابن عفان ، و " توضيح الأفكار " ( 2 / 131 ) .(1/44)
12- ومنهم من يرى أن تعديل المبهم كافٍ ، بقول أحدهم : حدثني الثقة ، ونحو ذلك،أن هذا كافٍ في التعديل، وهذا غير سديد : فقد يكون ثقة عنده،وليس كذلك عند غيره ، فلا بد من تسمية من حدثه ، والله أعلم(1).
14- ومنهم من يرى ثبوت العدالة بعدم إدخال البخاري للرجل في " التاريخ الكبير " وكذا ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " قاله التهانوي(2)وزاد بعضهم كتبًا أخرى في المجروحين ، وهو قول مردود ، وانظر " اتحاف النبيل "(3).
15- ومما يرفع الجهالة عن الشيخ كثرة رواية الراوي المشهور أو المصنف عن هذا الشيخ ، أو وصْفه بغير الحديث : كالقضاء ، والغزو ، والقراءة ، وغير ذلك ، أو تحديد مكان وزمان أخذ الراوي عنه ، فكل هذا يساعد في رفع الجهالة ، لكن الاحتجاج بحديث من كان كذلك فيه تفصيل ، والله أعلم .
وهناك مذاهب أخرى لبعض أهل العلم ، والمعتمد ماسبق اعتماده ، والعلم عند الله تعالى .
الشرط الخامس من شروطالصحيح - حسب ترتيب الناظم - : الضبط: وهو مأخوذ من قوله :" يرويه... ضابط " والضبط: هو الإتقان، والتثبت، وتحت هذا الشرط مسائل :
الأولى : أقسام الضبط : الضبط قسمان :
ضبط صدر ، وضبط كتاب ، وقد قال يحيى بن معين :" هما ثبْتان : ثبْت حفظ ، وثبْت كتاب"(4)اهـ .
أما ضبط الصدر؛ ففيه مباحث :
الأول : تعريفه: هو أن يُثْبت ما سمعه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء(5).
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 2 / 37 ) .
(2) في " قواعد في علوم الحديث " .
(3) 1 / 285 – 286 ) السؤال ( 136 ) و " تهذيب الكمال " ترجمة عبدالكريم بن أبي مخارق ( 18 / 65 ) .
(4) انظر " تهذيب التهذيب " ( 5 / 231 ) ترجمة عبدالله بن صالح الجهني مولاهم كاتب الليث .
(5) انظر " النزهة " ( ص 83 ) .(1/45)
وقول من قال : " متى شاء " أولى من قول من يقول :" ... متى طُلِبَ منه " وذلك للاحتراز من الطعن فيمن عُرِف بأنه عسر في الرواية، فإذا طُلِب منه الحديث، وأبى أن يحدث به ، فلا يقال : ليس بضابط ، لأنه طُلب منه الحديث ، فلم يأت به ، لأن عدم إتيانه بالحديث في هذه الحالة ليس عن قلة ضبط ، أو عجز ، بل لأمر آخر ، وهو التعسر في التحديث ، ولايلزم من ذلك اختلال في الضبط ، هذا ما ظهر لي من فرق بين الكلمتين ، والأمر في ذلك سهل ، والله أعلم .
الثاني : متى يُشْتَرط ضبط الصدر ؟
الأصل أنه يشترط في حالة الأداء، فإن جمع مع ذلك الضبط حال التحمل وما بعده ؛ فهو أفضل ، وقد يوجد من الناس من يتحمل ولايؤدي ماتحمل، كمن اشتغل بالعبادة والزهد، وأعرض عن التحديث ، فهذا في الغالب يختل ضبطه ، ولايُحتج به، وقد يوجد من يتحمل وهو صغير لايضبط ، ثم يحفظ ماكَتَبَ أو كُتِبَ له ، ويتقن حفظه ، ثم يؤديه من حفظه ، فإن أدّى حال اختلال ضبطه؛ لايُقبل ، وإن أدى حال ضبطه بأخرة ؛ قُبل منه .
الثالث : كيف يتم معرفة ضبط الصدر ؟ يعرف العلماء ذلك بأمور :
1-استفاضة ضبط الراوي بين الأئمة، وهذه الصورة هي أعلى الصور في هذا الباب .
2-تزكية بعض أئمة الجرح والتعديل للراوي بأنه يحفظ حديثه ويتقنه .
3-سَبْر روايات الراوي، ومقارنتها بروايات غيره من الثقات ؛ لينظر هل يوافقهم أم يخالفهم ؟ ويُحْكَم على حديثه بعد ذلك بما يستحق ، كما قال ابن معين : قال لي إسماعيل بن علية يومًا : كيف حديثي ؟ قلت : أنت مستقيم الحديث ، فقال لي : وكيف علمتم ذاك ؟ قلت له عارَضْنا بها أحاديث الناس ، فرأيناها مستقيمة ، فقال : الحمد لله . . . اهـ(1).
4-إذا نصُّوا على أن الراوي ثقة ، وليس له كتاب ، فهذا يدل على أنه يحفظ حديثه في صدره .
__________
(1) انظر " سؤالات ابن محرز " ( 2 / 39 ) اهـ نقلاً عن " الإرشادات " ( ص 21 ) للشيخ طارق عوض الله – حفظه الله - .(1/46)
5-ومن ذلك قول الراوي عن نفسه :" ما كتبت سوداء في بيضاء " أو " ما يضُرُّني أن تُحْرَق كتبي" ونحو ذلك مما يدل على إتقانه لحديثه .
6-باختبار الراوي، وللاختبار صور ، منها :
أ – أن يأتي إليه أحد أئمة الجرح والتعديل، فيسأله عن بعض الأحاديث ، فيحدثه بها على وجه ما ، ثم يأتي إليه بعد زمن، فيسأله عن الأحاديث نفسها ، فإن أتى بها كما سمعها منه في المرة الأولى ؛ علم أن الرجل ضابط لحديثه، ومتقن له ، أما إذا خَلَّط فيها، وقَدَّم وأَخَّر؛ عَرَفَ أنه ليس كذلك ، وتكلم فيه على قدر خطئه ونوعه، فإن كانت هذه الأخطاء يسيرة عددا ونوعا؛ احتملوها له إذا كان مكثرا، وإلا طُعِن فيه.
ومسألة كثرة الخطأ وقلته مسألة نسبية ، ترجع إلى كثرة حديث الراوي وقلته ، فمن كان مكثرًا من أحاديثه الصحيحة، وأخطأ في أحاديث قليلة ؛ احْتُمِل له ذلك الخطأ ، كمن كان عنده عشرة آلاف حديث – مثلاً – وأخطأ في عشرين حديثًا منها ، وهذا بخلاف من لم يكن عنده إلا حديث واحد - مثلا - وأخطأ فيه، فمثل هذا يكون متروكا، أو كمن عنده عشرة أحاديث، وأخطأ في خمسة منها ؛ فهذا يطعن فيه مع أن الخطأ في عشرين حديثًا ،أو خمسين حديثًا، لا يضر من كان مكثرًا، واسع العلم والحصيلة .
إلا أن النظر لا يقتصر على مسألة القلة والكثرة فقط، بل يُراعَى في ذلك أيضاً نوع الخطأ: فقد يكون الخطأ قليلاً، إلا أنه فاحش، فيذهب بحديث الراوي، كما جاء عن الدارقطني أنه قال في الربيع بن يحيى بن مقسم : حَدَّث عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر ، قال : جَمَع النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بين الصلاتين ، ثم قال : وهذا حديث ليس لابن المنكدر فيه ناقة ولاجمل ، وهذا يُسقط مائة ألف حديث " وقال أبو حاتم في "العلل " : " هذا باطل عن الثوري " اهـ(1).
__________
(1) انظر " تهذيب التهذيب " ( 2 / 227 ) .(1/47)
ب – وهناك صورة أخرى لاختبار الرواة لمعرفة ضبطهم ، وهي أن يُدْخِل الإمام منهم في حديث الراوي ما ليس منه، ثم يقرأ عليه ذلك كله ،موهمًا أن الجميع حديثه، فإن أقره وقبله ، مع ما أُدخل فيه؛ طعن في ضبطه ، وإن ميز حديثه من غيره؛ علم أن الرجل ضابط، ومثال ذلك : ما حصل من يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين الكوفي(1)ولعل لذلك صلة بالتلقين الآتي في الصورة الثالثة .
ج – ومن صور الاختبار – أيضًا - أن يلقن الإمام منهم الراوي بقصد اختباره شيئا في السند أو في المتن ، لينظر هل سيعرف ويميز؛ فيرد ما لُقِّنَه، أو لا يميز؛ فيقبل ما أُدخل عليه ،فإن ميز؛ فهو ضابط، وإلا فغير ضابط .
ومن قبول التلقين : أن يسأل الإمامُ أحدَ الرواة عن مجموعة من الأحاديث ، أي هل حدثك فلان بكذا وكذا ، وليس ذلك من حديثه ، فإن أجابه بنعَم ؛ عَرف ضعفه وغفلته ، ويُعبِّر علماء الجرح والتعديل عن الراوي الضعيف في مثل ذلك بقولهم : " فلان يُجيب عن كل ما يُسْأل عنه " والله أعلم.
د - إغراب إمام من الأئمة على الراوي بالحديث، فيقلب سنده، أو متنه، أو يركب سند حديث على متن حديث آخر، أو العكس ، ليعرف ضبط الراوي من عدمه أو قلته ، ويحكم عليه بما يستحق حسب حِذْقه، وفطنته، وضبطه ، أو غفلته، وعدم فهمه ، وهذا يفعله الشيوخ مع تلاميذهم لمعرفة نباهتهم وتيقظهم ، والعكس ، كما جرى من حماد بن سلمة مع ثابت البناني(2).
وأما ضبط الكتاب ؛ ففيه مباحث أيضًا :
( 7 ، 8 ، 9 ) لقد سبق في كيفية معرفة عدالة الراوي برقم ( 9 ، 10 ، 11 ، 12 ) طري أخرى لمعرفة الضبط أيضًا ، فيُرجع إليها هناك ، والله أعلم .
__________
(1) انظر " تاريخ بغداد " ( 3 / 353 ) ترجمة أبي نعيم .
(2) انظر " الجرح والتعديل " ( 2 / 449 ) .(1/48)
10- وكذلك يُعرف الضبط بالمذاكرة ، كما قال أبوزرعة : كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : ومايدريك ؟ قال : ذاكرتُه ، فأخذت عليه الأبواب " اهـ(1).
11- بالنظر في كتاب الراوي : فيُعرف اختلاطه – مثلاً – وذلك إذا كانت رواية القدماء عنه مستقيمة ، ورواية الأحداث عنه مضطربة ، فَيُعْلَم من ذلك اختلاطه بأخرة .
بل يُعلم من خلال النظر في الكتاب: هل هو مدلِّس أم لا ؟ فإن كانت رواياته التي صرح فيها بالسماع عن الثقات مستقيمة ، والتي يعنعن فيها مضطربة ، وكذا التي قد يُظهر فيها واسطة ضعيفة، عُلم بذلك تدليسه ، فمن خلال النظر في الكتاب يُعلم ضبط الراوي وعدمه ، والله أعلم .
وأما ضبط الكتاب ، ففيه مباحث أيضًا :
الأول : تعريفه : وهو صيانة الراوي لكتابه منذ أدخل الحديث فيه ، وصححه ، أو قابله على أصل شيخه، ونحو ذلك؛ إلى أن يؤدي منه(2)وذلك لأن الراوي قد يُبتلى برجل سوء : سواء كان ابنًا، أو جارًا، أو صديقًا، أو ورَّاقًا، أو نحو ذلك، فَيُدْخِلون في كتابه ما ليس منه، فعند ذلك يُطْعَن في ضبط الراوي، ويَسْقُط حديثه .
الثاني : الطعن في الراوي بسبب عدم ضبط الكتاب : إنما يكون فيمن لم يكن عنده إلا ضبط الكتاب فقط ، أما من كان عنده ضبط صدر ؛ فلا يضره عدم ضبط الكتاب، إذا حدث من صدره، وإن كان الأفضل أن يجمع بينهما، وكذلك الحال فيما إذا لم يكن عند الراوي ضبط صدر، لكن عنده ضبط كتاب؛ فلا يضره ضعف حفظه إذا حدث من كتابه ، كما أخذ البخاري من أصول ابن أبي أويس(3).
الثالث : كيف يتم معرفة ضبط الكتاب ؟
يُعْرف ذلك بعدة أمور :
1-التنصيص من إمام على أن فلانًا صحيح الكتاب ، أو أن كتابه هو الحَكَم بين المحدثين ، أو أن كتابه كثير العجم والتنقيط، ونحو ذلك مما يدل على ضبطه لكتابه .
__________
(1) انظر " مناقب أحمد " لابن الجوزي ( ص 85 ) .
(2) انظر " النزهة " ( ص 83 ) .
(3) انظر " هدي الساري " ( ص 410 ) .(1/49)
2-التنصيص على أن أصل الراوي الذي يُحدِّث منه مُقَابلٌ على أصل شيخه، أو على نسخة معتمدة منه.
3-أن يوافق حديثُهُ الذي يرويه من كتابه حديثَ الثقات، فإن هذا يدل على ضبطه لكتابه، وقد يكون عنده ضبط صدر ، وقد لايكون .
4-التنصيص على أنه لم يكن يُعير كتابه، ولايُخْرِج أصله من عنده؛ لأن فاعل ذلك قد ينسى المعار إليه ،وقد يعيره للمأمون وغير المأمون؛ فيؤدي ذلك إلى إدخال شئ في كتابه، وهو ليس من حديثه ، وقد لا يميز ذلك ، لاسيما إذا لم يكن عنده حفظ وإتقان لحديثه، فيسقط حديثه .
( إشكال) لو قيل : لماذا لم يشترط الناظم –رحمه الله – في الحديث الصحيح تمام الضبط، وإنما اكتفى بقوله " يرويه عدل ضابط ..." ؟
والجواب : أن الضبط إذا أُطْلِق فإنما ينصرف الذهن إلى تمامه، لا إلى أصله، فيكون المراد من قوله : " ضابط " أي تام الضبط .
( فائدة ) : هل هناك فرق بين بين قولهم في حديث ما : "حديث صحيح " و"إسناده صحيح"و" رجاله ثقات"و" رجاله رجال الصحيح"؟
الجواب : إن بين هذه العبارات فرقاً ، والعلماء - في الأصل - لايغايرون بينهما إلا لمعنى، وإن كان بعضهم قد لايراعي هذا الأمر في مواضع، فَيَسْتَخْدِم هذا القول في موضع ذاك ، والله أعلم.
والفرق بينهما يكمن في كون بعضها أعلى من بعض ، وذلك راجع إلى توافر شروط الصحة الخمسة، أو النقص منها ، وترتيبها من الأعلى إلى الأدنى كالتالي:
1-فأعلاها قولهم:"حديث صحيح" إذْ أنه يعني توافر جميع شروط الصحة التي قد سبق ذكرها.
2-ويليه قولهم :"إسناده صحيح"لكونه لم تتوافر فيه إلا ثلاثة شروط من شروط الصحة، وهي: العدالة، والضبط، والاتصال ، دون التأكد من السلامة من الشذوذ والعلة .
وهذه اللفظة إنما تفيد صحة الإسناد ظاهرًا لاحقيقة.(1/50)
3-ويليه قولهم:"رجاله ثقات" فإنه يعني توافر شرطين فقط، هما: العدالة، والضبط، دون تعرض لبقية شروط الصحة من الاتصال، والسلامة من الشذوذ والعلة،أضف إلى ذلك أن بعضهم قد يقول:"رجاله ثقات"ولايعني التوثيق الاصطلاحي، وإنما يعني من يُحتج به؛ وإن كان دون الثقة، وهذا القول أعلى من قولهم : " رجاله مُوَثَّقون "(1).
4-ويليه قولهم:"رجاله رجال الصحيح" لكونه لم يتوافر فيه إلا شرط متيقن، وهو العدالة، وشرط غير متيقن وجوده : وهو الضبط التام؛لأن من رجال الصحيح من هو ثقة،ومنهم من هو صدوق ،ومنهم من في حفظه لين، وقد يخرِّج له صاحب الصحيح في الشواهد ، وقد يخرج له احتجاجًا مُعْتَمِدًّا على قرائن غير مطردة في جميع روايات الراوي.
وأيضًا فليس في هذه العبارة مايدل على السلامة من الشذوذ والعلة ،ولامايدل على ثبوت الاتصال، والله أعلم.
على أن هذا القول قد يتوسع فيه بعضهم – كالبيهقي – ويطلق ذلك على شيوخ الطبراني ، وليسوا من رجال الصحيح .
( تنبيه ) : هذه الفروق المذكورة بين العبارات : يُعمل بها مالم يذكر الإمام أن الإسناد صحيح، ويكون ذلك منه في مقام الاحتجاج – كما سبق – أو يُعلم أن الإمام لايراعي هذه الفروق ، بل يُطلق الجميع ويريد الصحة ، والله أعلم .
وبهذا ينتهي ما يسر الله به من الكلام على ما ذكره الناظم –رحمه الله- من تعريف الحديث الصحيح، وبيان شروطه .
وتلخيص هذه الشروط على النحو التالي :
إن للحديث الصحيح خمسة شروط ، ثلاثة منها لابد من ثبوتها ، وهي الاتصال والعدالة والضبط ، وشرطان منها لابد من انتفائهما، وهما الشذوذ والعلة .
وقد يقال : شروط الصحيح منها ما هو عام في الراوي - لا مجرد حديث بعينه - ومنها ما هو خاص برواية بعينها ، وهاك التفصيل :
(أ) الاتصال شرط خاص بالرواية .
(
__________
(1) انظر " تمام المنة " ( ص 26 ) .(1/51)
ب)نفي الشذوذ والعلة شرط خاص بالرواية ، أي أن الراوي الضابط قد يوجد في أحاديثه الأخرى شذوذ وعلل ، لكن الرواية السالمة من ذلك لاتتضر بالأخطاء الأخرى مالم تكثر ، أو تفحش .
(ج) العدالة والضبط شرطان لابد من توافرهما في الراوي ، فإذا لم يكن عدْلا؛ سقط كل حديثه ، وإذا لم يكن ضابطًا ؛ لم يُحتج بحديثه أصلاً ، وقد يسقط كله ، والله أعلم .
(فائدة أخرى ) : سبق تعريف الحديث الصحيح ، وبيان شروطه ، إلا أن العلماء قد يطلقون القول بذلك في بعض الرواة أو الأحاديث، ولا يريدون بذلك المعنى الاصطلاحي السابق .
فقد يريدون بذلك مجرد صحة سماع الراوي من شيخه ، وإن كان متروكًا ، أو يقصدون مطلق الأحاديث التي يُحتج بها ، فيدخل في ذلك الحسن ، أو يريدون أن الحديث ليس بمنكر ، وإن كان راويه لا يحتج به ،أو يريدون حديثًا مختلفًا فيه، والصحيح فيه حديث فلان إلى فلان،لا إلى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو ما اعتضد بطرق أخرى ، أو بالتلقي بالقبول ، أو صحيح المعنى لا السند ، وغير ذلك(1).
"الحديث الحسن "
قال الناظم - رحمه الله - :
5- والحسَنُ المعروفُ طُرْقًا وغَدَتْ ... رِجَالُهُ لاكالصحيحِ اشْتَهَرَتْ
تكلم الناظم – رحمه الله – في هذا البيت على حدِّ الحديث الحسن لذاته ، وذلك بعد أن فرغ من الكلام على الحديث الصحيح ، وقدَّم الصحيح على الحسن لعلو قدره ، وعِظَم شأنه.
وقوله :"طُرْقا" بسكون الراء عند الأكثر ، وبعضهم يحركها "طُرُقًا".
وتحت هذا البيت عدة مسائل:
?المسألة الأولى : تعريف الحديث الحسن عند الناظم –رحمه الله –:
عَرّف الناظم الحديث الحسن بأنه:المعروف طرقه ، والمشهور رجاله شهرةً دون شهرة رجال الصحيح ".
ويظهر من كلام البيقوني –رحمه الله – أنه يشترط في الحديث الحسن شرطين:
__________
(1) انظر " شفاء العليل " ( 1 / 423 – 424 ) و" الصحيحة " برقم ( 520 ) و " التدريب " ( 1 / 67 ) .(1/52)
1-أن تكون طرقه معروفة ، وهذا الشرط مأخوذ من تعريف الخطابي –رحمه الله – كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
2- اشتهار رجاله شهرة لاتبلغ شهرة رجال الصحيح، وذلك ـ فيما يظهر ـ من جهة الضبط ، وأما العدالة فلايشترط أن يكون رجال الحسن دون رجال الصحيح فيها، فقد يكون بعض رجال الحديث الحسن أَعْبَدَ وأتقى لله من بعض رجال الحديث الصحيح . علمًا بأن هذه العبارة مأخوذة من عبارة الخطابي :" واشتهر رجاله " كما لا يخفى .
?المسألة الثانية: الاعتراضات الواردة على تعريف البيقوني –رحمه الله -:
اعلم أن الشرطين السابق ذكرهما لم يفيا بتعريف الحديث الحسن ، وذلك من وجوه:
(أ)أن الشرط الأول ـ وهو المعروف طرقه - غير مانع : إذْ أنه يدخل فيه الحديث الصحيح ،والضعيف ،والموضوع ، إذ كل منها طرقه معروفة ، فالصحيح طريقه معروفة بعدالة الرواة وضبطهم ، والضعيف طريقه معروفة بضعف راويه ، وهكذا الموضوع طريقه معروفة بكذب راويه ، ونحو ذلك ، وإن كان قد ينازع في إدخال الضعيف والموضوع .
(ب)أن ظاهر عبارته اشتراط العدد في طرق الحديث الحسن ، لقوله "طرقا" ومعلوم أن كلامه هذا إنما يتأتى إذا كنا بصدد تعريف الحسن لغيره، لا الحسن لذاته وهو المراد في تعريف الناظم لقوله " لاكالصحيح اشتهرت" ولأن الحسن لذاته أولى في البدء بالتعريف من الحسن لغيره، والناظم لم يُعَرِّف قسما آخر للحسن غير هذا ، وتعريفه فيه افتباس من تعريف الخطابي للحسن لذاته ؛ فترجح أن مراده بهذا التعريف الحسن لذاته ، وعليه ،فالإيراد وارد عليه ، إلا أن يقال: مراده تعريف الأحاديث الحسان التي طرقها معروفة .... الخ ،وهو وإن كان خلاف الظاهر ؛ إلا أنه مما يُعتذر به عن الناظم ، وقد يقال : المراد بالطرق الرواة ، وفيه بُعْد ، لأنه لا يطلق على رواة السند الواحد طرق ، والله أعلم.
((1/53)
ج) اشتراطه شهرة الرواة شهرة لا كشهرة رجال الصحيح : قد يقال فيه :إنه غير كافٍ ؛ لأنه قد يرد على ذلك رجال الضعيف ، فإنهم قد اشتهروا -أيضا- بالضعف ، ويصدق عليهم أنهم دون رجال الصحيح في الضبط، ومعلوم أن الناظم لم يرد هذا ، لكن لفظه لم يغلق الباب بالكلية أمام مالم يُرِدْ تعريفه .
وقد يجاب عن الناظم بأن سياق كلامه في منظومته يدفع هذا الإيراد أصلاً؛ لأنه عَرَّف الضعيف بعد ذلك ، فلا يكون مرادًا هنا ، وعلى كل حال فالدقة في التعاريف أولى ، والله أعلم .
(د) لم يصرح الناظم باشتراط الاتصال والعدالة ، كمالم يشترط سلامة الحديث الحسن من أن يكون شاذًّا أو معللا.
وقد فُسِّر تعريف الخطابي ـ الذي اقتبس منه الناظم تعريفه للحسن ـ بأن معرفة الطرق تتضمن الاتصال ، والعدالة ، ونفي الشذوذ والعلة ، وهذا كله يستفاد من تمثيلهم لذلك برواية الراوي عن أهل بلده ، كقتادة في البصريين وعطاء في المكيين، وهكذا .
وعندي في هذا نظر : لأن هذا المثال مثال الحديث الصحيح لا الحسن ، وأيضا فالحسن لايقتصر على رواية الرجل عن أهل بلده ، وهذا النوع من الروايات قليل بالنسبة لغيره من الروايات التي يرويها العدل عن مثله ، دون النظر إلى اتحاد البلد ، وإذا كان هذا قليلا؛ فيرده قول الخطابي في بقية التعريف :" وعليه مدار أكثر الحديث " .
وعلى كل حال: فالتعاريف ينبغي أن تكون صريحة في العبارة ، غير موهمة ، أو محتملة ، وهذا مالم يكن هنا ،سيأتي - إن شاء الله تعالى - قريبًا كلام حول تعريف الخطابي ، له صلة بهذه المسألة ، والله أعلم .
(هـ ) وقوله :" رجاله لا كالصحيح اشتهرت " ظاهره أنه يشترط في جميع رجال السند أن يكونوا دون شهرة رجال الصحيح ، وليس كذلك ، بل استبعد أن يكون هذا مرادًا عند الناظم، إنما يكفي أن يوجد رجل واحد كذلك في السند ، والله أعلم .
?المسألة الثالثه : تعريفات أخرى للحديث الحسن:(1/54)
عَرَّفَ جماعةٌ من العلماء الحديث الحسن بتعاريف عدة ، فمن ذلك :
أولا : تعريف الإمام الخطابي:
عَرَّفه بقوله:"هو ما عُرِف مخرجه ، واشتهر رجاله ، وعليه مدار أكثر الحديث ، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ، ويستعمله عامة الفقهاء "(1).
وقوله : " ما عُرِف مخرجه" للعلماء في تفسيره قولان:
1-أن المراد بذلك: ما اتصل سنده، فخرج بذلك كل ما كان فيه انقطاع(2).
2- أن المراد بذلك : أن يكون راويه معروفًا بأخذ الحديث عن أهل بلده،كقتادة في البصريين،وعمرو بن دينار في المكيين،والزهري في المدنيين، وابن وهب والليث في المصريين، وهكذا.
فكل من هؤلاء معروف بأخذ حديث أهل بلده، والمقصود من هذا أن الراوي إذا عُرف بأخذ الحديث عن أهل بلد ما، فإنه لايكون كذابًا – حيث أنه صار المرجع في حديث ذاك البلد - ويكون قد ضبط حديثهم، وأتقنه .
إلا أن تعريف الخطابي هذا لايخلو من انتقادات ، وهي :
(1)أن عبارته هذه ليس فيها كبير تلخيص ، ولاهي جارية على صناعة الحدود والتعريفات، كما ذكر ذلك ابن دقيق العيد والذهبي – رحمهم الله(3)– ولما فيها أيضًا من التكرار والتداخل، إذْ فُسِّر قوله " عرف مخرجه " ببعض ما فُسِّر به قوله " واشتهر رجاله " .
وذهب بعضهم(4)إلى أن تعريف الخطابي مقتصر على قوله : " هو ما عُرِف مخرجه ، واشتهر رجاله " وأما بقية كلامه فتوضيح لا تعريف،ولو سلمنا بهذا؛ فهو مع ذلك لم يَسْلَم من الإيراد - كما سيأتي - والله أعلم .
(
__________
(1) انظر " معالم السنن " ( 1 / 11 ) .
(2) انظر " التقييد والإيضاح " ( ص 440 ) و " النكت " للزركشي ( 1 / 304) و " التدريب " ( 1 / 153 ) .
(3) انظر " الاقتراح " ص ( 191 ) و "الموقظة " ( ص 26 ) .
(4) انظر" النكت " للزركشي ( 1 / 305 ) و " التدريب " ( 1 / 154 ) .(1/55)
2)كون التعريف غير مانع : لأنه لم يَجْمع أوصاف الحديث الحسن ، ليحترز بها عن غيره ، فلم يشترط انتفاء الشذوذ والعلة عنه، هذا إن سلمنا بأن قوله"ما عرف مخرجه واشتهر رجاله" يتضمن الاتصال والعدالة ، والضبط .
وظاهر قوله : " اشتهر رجاله " يُدْخِل رجال الصحيح والضعيف(1)، كما سبق في نقد تعريف الناظم، وإن كان كلام الناظم في هذا الموضع أدق من كلام الخطابي : لقوله "لاكالصحيح اشتهرت" فقيد الشهرة ولم يطلقها، كما فعل الخطابي –رحمه الله-
إلا أن قوله " ويقبله أكثر العلماء" يَرُدُّ الاعتراض عليه بدخول رجال الصحيح والضعيف ، حيث إن الصحيح يقبله كل العلماء ، والضعيف لايقبله أكثرهم ، وإن قبله بعضهم؛ فذلك في مواضع معينة، فترجح أنه أراد ما يبلغ الصحة أو الضعف ، وإن كانت عبارته فيها ما فيها ، والله أعلم .
(3) قوله : " وعليه مدار أكثر الحديث" فيه بحث، فهل يسلم للخطابي أن أكثر الأحاديث من قبيل الحسان؟!هذا يحتاج إلى بحث ونظر.
ويظهر من كلام الخطابي –رحمه الله – أنه يريد أن يعرف الحسن لذاته،لا الحسن لغيره، والله أعلم .
ثانياً : تعريف الإمام الترمذي – رحمه الله : فقد ذكر في " سننه " أن الحديث الحسن هو :" كل حديث يُرْوَى : لا يكون في إسناده من يُتَّهَم بالكذب، ولايكون الحديث شاذًا، ويُرْوَى من غير وجه نحو ذلك " .
قال :" فهو عندنا حديث حسن "(2).
فيظهر من كلامه أنه أراد أن يعرف الحسن لغيره، وأنه يشترط فيه ثلاثة شروط :
1-ألا يكون في إسناده من يُتَّهَم بالكذب.
2-ألا يكون شاذًّا .
3-أن يروى من غير وجه بنحوه .
وفي هذا التعريف عدة مناقشات:
(
__________
(1) انظر " مختصر علوم الحديث " لابن كثير ( 1 / 129 ) من الباعث .
(2) انظر " جامع الترمذي " ( 5 / 758 ) .(1/56)
1) قوله " ألاّ يكون في إسناده مَنْ يُتَّهَم بالكذب" ظاهره: إدخال من ليس بمتهم ، وإن كان متروكًا لشئ آخر غير التهمة ، أو واهيًا ضعيفًا ، وكذا يدخل فيه الثقة ، والصدوق ، والذي يظهر أن هذا غير مراد ، إلا أن العبارة غير دقيقة .
ولما كُنا نَعْلَم أن الإمام الترمذي ماكان ليترك رواية راوٍ شديد الضعف لتهمته بالكذب ، ويَقْبل رواية من هو شديد الضعف لفحش غلطه – مثلاً- فيفرق بين أمرين يشتركان في الضعف الشديد، فلما كان ذلك كذلك؛ فيمكن أن يقال : إن الترمذي –رحمه الله- أشار بقوله هذا إلى الاحتراز من رواية من اشتد ضعفه من جميع الأصناف ، ومثَّل لذلك بالمتهم ، لا أنه حصر الضعف في التهمة(1).
أقول هذا دفاعًا عن أبي عيسى –رحمه الله – وإلا فعبارته غير مانعة ، والله أعلم .
(2) قوله : " ألا يكون في إسناده من يتهم بالكذب" إن نظرنا إليه من جهة الضبط ؛ فقد سبق في الإيراد الأول أنه ليس بمانع ، وإن نظرنا إليه من جهة العدالة في الدين ؛ فقد أخرج الوضاع، والكذاب، والمتهم بالكذب في الحديث النبوي ، وبقي غير هؤلاء ،ومنهم : الغلاة الرؤوس في البدعة، وأهل الفجور والفسوق، وهؤلاء قد رد الأئمة روايتهم – على تفاصيل في أهل البدع - وليسوا بعدول في الرواية ، لكن هل يطلق عليهم – اصطلاحًا- أنهم متهمون بالكذب ؟ الظاهر:لا ، وإن كانت النفس – مع ذلك - لاتطمئن على الحديث النبوي من جهتهم ، والله أعلم .
(3) اقتصار الترمذي على قوله : " ألا يكون شاذًا " دون اشتراطه السلامة من بقية العلل .
ويجاب عنه فيقال:هل يُفْهَم من كلام الترمذي :أنه لا يشترط في الحديث الحسن انتفاء العلة ؟
__________
(1) وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - انظر " شرح علل الترمذي " ( 1 / 387 ) .(1/57)
والجواب : مع أن عبارته قد تدل على ذلك؛ إلا أننا لانستطيع أن ننسب هذا الرأي للترمذي؛ لأنه إمام من أئمة هذا الشأن، ولا يمكن أن يُحَسِّن حديثًا فيه علة يعلمها، لأن العلة الخفية إذا كانت تقدح في رواية راوي الحديث الصحيح؛ فلأن تقدح في رواية راوي الحديث الحسن لغيره – والأصل فيه الضعف – من باب أولى .
فملخص ذلك : أنه قد يقال – من باب الاعتذار عن الترمذي – أنه – رحمه الله – أشار إلى اشتراط نفي جميع العلل الخفية القادحة بقوله : " ولايكون شاذًّا" ومعلوم أن الشذوذ، والقلب ، والإدراج: علة خفية تقدح في صحة الحديث ، فما كان الترمذي ليحترز من علة ويرضى بالأخرى؛ لأن التفريق بين المتماثلات - دون دليل - معيب عند العقلاء - فضلاً عن كبار العلماء - ومع ذلك فلو اشترط انتفاء العلة ليدخل في ذلك الشذوذ، لكان أولى من العكس ؛ إذ كل شذوذ علة بلا عكس ، والله أعلم .
فإن قيل : لقد أجاب الحافظ عن الترمذي في هذا الموضع في " النكت"(1)بما حاصله : أن الترمذي لم يشترط انتفاء العلة ؛ لأن الانقطاع علة ، وضعف الراوي علة، وعنعنة المدلس علة ، والترمذي لم يُرد الاحتراز من ذلك .
فالجواب : أن ما ذكره الحافظ خاص بالعلل الظاهرة ، والكلام هنا عن العلل الخفية التي تدل على وهم الراوي وخطئه في الرواية.
فإن قيل : لقد احترز الترمذي من وقوع هذا الخطأ بقوله:" ولايكون شاذًّا ... " .
فالجواب : أن الشذوذ نوع من العلة ، وبقيت أنواع أخرى كالقلب، والإدراج ، فالرواية المقلوبة أو المدرجة لايستشهد بها .
فإن قيل : إن جميع العلل ترجع إلى مخالفة المقبول من هو أوثق منه ، وهذا معنى الشذوذ الناتج عن المخالفة ، فاشتراط الترمذي انتفاء الشذوذ كافٍ عن التنصيص على اشتراط انتفاء بقية العلل ؟
فالجواب من وجهين :
__________
(1) 1 / 407 )(1/58)
الأول: أننا لانسلم بأن جميع العلل هي من باب مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه في شيخهما، فقد تعرف العلة بمخالفة المنصوص عليه في الشرع ، أو مخالفة المشهور عند أهل العلم، وإن لم يتحد المخرج .
الثاني : أن العلماء ذكروا أن الأحاديث التي فيها علة خفية لاتعرف إلا بجمع الطرق ، ولم يجعلوها نوعًا واحدًا مقتصرًا على الشذوذ ، بل ذكروا الحديث الشاذ، والمدرج، والمضطرب، والمقلوب ، وفرَّقوا بين هذه الأنواع، وإن كانت – في الجملة – ترجع إلى المخالفة .
(4) يفهم من عدم اشتراط الترمذي الاتصال أن جميع صور الانقطاع تصلح في الشواهد ، والصحيح أن الذي يصلح للشواهد ما كان من قسم المنقطع الاصطلاحي ، لا المعضل ولا المعلق إذا كان الساقط فيه أكثر من واحد ، والله أعلم .
والخلاصة : فمع أن عبارة الترمذي غير سالمة من الإيرادات ـ إذا نظرنا إليها من جهة صناعة الحدود ـ إلا أنه قد يقال من باب الدفاع على الترمذي :
1-أراد الترمذي إشتراط العدالة في الحديث الحسن بقوله :" ألا يكون في إسناده من يُتهم بالكذب " وفي ذلك إشارة إلى اشتراط العدالة ، والتحرز من كل ما يُجَرِّىْ الراوي على القول على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمجازفة وعدم التحرز .
فيدخل في ذلك كل من لم يُجَرَّح من قِبَل عدالته ، كالمجهول ، والمستور ، وأما الفساق بسبب الشهوات ؛ فيلحقون ـ حُكْمًا ـ بالمتهمين ، لاحتمال تجرئهم على الكذب ، وأما فساق التأويل ؛ فمن رُدَّ منهم فيُلحق بالمتهمين ـ حكمًا ـ للعلة السابقة .(1/59)
2- وأيضًا فقد أراد الترمذي اشتراط الضبط ـ في الجملة ـ باشتراطه تعدد الطرق ، والسلامة من الشذوذ ، فإن تعدد الطرق يجبر الضعف الخفيف لا الشديد ، ولعل في هذا إشارة إلى إخراج من اشتد ضعفهم من جهة الضبط(1).
كما أن اشتراط تعدد الطرق يُبْعد احتمال أن يكون الثقة والصدوق مراديْن ـ عند الترمذي ـ في التعريف كما فهمه بعضهم(2)، فإنه لا يشترط في رواية الثقة والصدوق لتكون حسنة تعدد الطرق !! ولو كان ذلك مرادًا ؛ لكان الحسن عند الترمذي أعلى من الصحيح ، وهو بعيد ، والله أعلم .
3-أشار الترمذي بقوله :" ولا يكون شاذًّا " إلى نفي جميع العلل عن الحديث الحسن ، فإن التفريق بين المتماثلات معيب عند العقلاء ـ فضلاً عن كبار أهل العلم ـ .
4-ظاهر صنيع الترمذي ـ رحمه الله ـ عدم اشتراط الاتصال ، لأن الانقطاع من العلل التي تنجبر بجمع الطرق ـ في الجملة ـ .
وعلى ذلك : فتعريف الترمذي وإن خولف في بعض عباراته ؛ إلا أن النتيجة واحدة ، والعبرة بالمعاني لا بالمباني ، والله أعلم .
ثالثاً : تعريف الإمام ابن الصلاح :
__________
(1) وذهب ابن رجب إلى أن كلام الترمذي ليس فيه ما يدل على إخراج المغفَّل الذي هو كثير الخطأ ، إلا أنه قد يُؤخذ مما ذكره الترمذي قبل هذا : أن من كان مغفلاً كثير الخطأ؛ لايُحتج بحديثه ، ولايُشتغل بالرواية عنه عند الأكثرين اهـ . من " شرح العلل " ( 1 / 387 ) قلت : طالما أننا في مقام الدفاع عن الترمذي ، وعلمنا أن كلامه قبل ذلك يدل على هذا ؛ فحمل الكلام على الاتفاق أولى من حمله على التناقض ، وعلى ذلك : فلعل في كلامه هذا إشارة إلى إخراج من اشتد ضعفهم ، والله أعلم .
(2) انظر " شرح العلل " لابن رجب ( 1 / 384 ) .(1/60)
قال –رحمه الله – بعد ذكره لتعريف الخطابي والترمذي : " وكل ذلك مستبهم لا يشفي العليل ، وليس فيما ذكره الترمذي والخطابي ما يفصل الحسن عن الصحيح ، وقد أمعنت النظر في ذلك والبحث ، جامعًا بين أطراف كلامهم ، ملاحظًا مواقع استعمالهم ، واتضح أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما :" الحديث الذي لايخلو رجال إسناده من مستور،لم تتحقق أهليته ، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه ، ولا هو متهم بالكذب في الحديث ، أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث، ولا سبب آخر مفسِّق، ويكون متن الحديث مع ذلك قد عُرف بأنه روى مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر ، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله ، أو بماله من شاهد ، وهو ورود حديث آخر بنحوه ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذًّا ومنكرًا " قال:" وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل " .
القسم الثاني :" أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يَقْصُر عنهم في الحفظ والإتقان ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعَدُّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا، ويعتبر في كل هذا - مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ومنكرًا - سلامته من أن يكون معللاً " قال: " وعلى هذا القسم يتنزل كلام الخطابي " .
قال : " فهذا الذي ذكرناه جامع لما تفرق من كلام من بلغنا كلامه في ذلك ، وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن ، وذكر الخطابي النوع الآخر "(1)اهـ .
وبهذا الكلام السابق يتضح للناظر أن ابن الصلاح –رحمه الله – عرَّف نوعي الحديث الحسن ، فتعريفه الأول خاص بالحديث الحسن لغيره ، وعليه نَزَّل كلام الإمام الترمذي .
وأما تعريفه الثاني فخاص بالحسن لذاته ، وعليه نَزَّل كلام الإمام الخطابي.
__________
(1) " علوم الحديث " مع " التقييد " ( ص 46 – 47 ) .(1/61)
وقوله في تعريف الحسن لغيره : " لم تتحقق أهليته " أي من جهة الضبط ، أما من جهة العدالة فقد نص على أن الراوي مستور ، ولما كان عدم تحقق أهلية الضبط يدخل فيه من كان ضعفه شديدًا – وهو ليس مرادًا هنا – أخرجه بقوله " غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ ... " الخ .
هذا، وقد يقال : قوله: " لم تتحقق أهليته " تفسير لقوله : " مستور" لأنه تكلم بعد ذلك عن العدالة بقوله " ولاهو متهم بالكذب في الحديث...." الخ .
واعلم أن ما سبق من كلام ابن الصلاح عليه بعض الإيرادات، وهي قسمان :
أ-ما يَرِدُ عليه في تعريفه الحسن لذاته : وإن كان ابن الصلاح قد بدأ بتعريف الحسن لغيره، فإن الحسن لذاته أعلى رتبة ،والإيرادات الواردة عليه في هذا القسم كالتالي :
1- قوله : " أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة " صريح في اشتراطه الشهرة في العدالة ، وليس ذلك شرطًا في راوي الحديث الصحيح فضلاً عن الحسن ، وإنما يُشْتَرط فيهما أن يكون عدلاً ، وليس كل من كان عدلاً عند أحد من الأئمة؛ كان عدلاً عند غيره ، فضلاً عن أن يكون كذلك عند الكل أو الجل ، ويستبعد أن ابن الصلاح يريد هذا الشرط؛ فإنَّ واقعه وواقع غيره من العلماء ليس كذلك ،وإنما مراده مطلق العدل ، وليس العدل المطلق، وإلا فعبارة ابن الصلاح دالة على هذا الشرط ولذا لزم التنبيه، والله أعلم .
2- قوله: " وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعَدَّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا "
المنكر عند ابن الصلاح نوعان :
1 – مخالفة الراوي – فيدخل الثقة والضعيف - لمن هو أولى منه .
2- تفرد الضعيف ، وكلاهما بمعنى الشاذ – أيضًا – عنده .
فقوله : " يرتفع عن حال من يُعَدِّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا " احتراز من الضعيف ، الذي تفرده يُعدُّ منكرًا ، ثم اشترط بعد ذلك السلامة من الشذوذ والنكارة ، وهو احتراز من النوع الثاني من الشاذ والمنكر ، والناتج عن المخالفة .(1/62)
ومع ذلك : ففي كلامه شئ من الإيهام والغموض الذي يجعل الواقف على كلامه غير مُدرك لمراده بجلاء ؛ فإن مراده : أن يكون رجال الحسن دون رجال الصحيح في الضبط ، وفوق درجة الضعف في الحفظ ، فلو عبر بذلك ، أو قال: من خف ضبطه ؛لكان أولى ، وأوضح ، وأخْصَر، والله أعلم .
3-أنه لم يشترط الاتصال، وهو شرط لابد منه في الحسن لذاته .
4- اشتراطه سلامة الحديث من النكارة – في قوله : " ويعتبر في كل هذا مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ، أو منكرًا - حَشْو لا حاجة له ، فيغني عنه اشتراطه سلامته من الشذوذ، لاسيما على مذهبه في عدم التفريق بين المنكر والشاذ، وعلى مذهب من يفرق بين الشاذ والمنكر ؛فقد خرج المنكر بقيد ألا يكون راويه ضعيفًا ، وأيضًا فنفي الشذوذ يستلزم نفي النكارة من باب أولى(1).
ب- ما يرد عليه في تعريفه الحديث الحسن لغيره:
يرد عليه ما أُورِد على تعريف الترمذي فيما سبق، إلا أنه يستثني من ذلك ما أُورِد على الترمذي في قوله: " وألا يكون فيه من يتهم بالكذب" ففي كلام ابن الصلاح ما يدل على السلامة - في الجملة - من الإيراد عليه في هذا الموضع ،ومع هذا ؛ فإن ابن الصلاح ترد عليه أمور لم ترد على الترمذي، وهي :
1-أنه لم يشترط نفي الشذوذ الناتج عن المخالفة للأوْلى لامجرد تفرد الضعيف، وهو شرط قد نَصَّ عليه الترمذي، إلا أن ابن الصلاح قد جعل السلامة من الشذوذ ثمرة رواية الحديث من وجهين فأكثر ، ولايلزم من ذلك نفي الشذوذ فقد يروي الحديث ضعيفان ، مخالفيْن للثقة الحافظ أو أكثر، فيكون القول قول الثقة الحافظ ، وتكون رواية الضعيف – مع المتابعة - منكرة ، وظاهر كلام ابن الصلاح أن مطلق المتابعة يدفع الشذوذ والنكارة بقسيمها،وليس كذلك.
فالترمذي جعل انتفاء الشذوذ في التعريف شرطًا مستقلاًّ مع اشتراطه أيضًا رواية الحديث من غير وجه .
__________
(1) وانظر " النكت " للحافظ ( 1 / 237 ) و " شرح النزهة " لملا علي القاري ( ص 244 ) .(1/63)
علما بأن ابن الصلاح يرى أن الشذوذ الذي بمعنى المخالفة ضعف لاينجبر(1).
2-قوله: " لايخلو رجال إسناده من مستور " يقال : لايُشْتَرط في الحديث الحسن لغيره أن يكون كذلك ، فقد لايكون في الإسناد مستور أصلاً ، ومع ذلك يكون حسنًا لغيره، فعلى سبيل المثال كون أحد رجاله مشهورًا من جهة العدالة ، لكنه ضعيف من جهة الضبط - ومن كان كذلك فلا يسمى مستورًا- فإذا جاء له عاضد مثله صار به حسنًا ، هذا إذا فسرنا قوله : " مستور " من جهة العدالة لا الضبط(2).
3-الإسهاب في التعريف ، مع أن الاختصار كان أليق بالمقام.
وعلى كل حال: فيمكن الاعتذار عن ابن الصلاح –رحمه الله – بأنه أراد أن يضع للحديث الحسن لغيره قاعدة تجمع جميع أفراده ، ولما كان ذلك فيه عسر ومشقة؛(3)لم يكن تعريفه دقيقًا ، ولذلك قال الإمام الذهبي –رحمه الله – في " الموقظة"(4)ثم لاتطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها ، فأنا على إياس من ذلك " اهـ.
رابعًا : تعريف الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى – :
عرف الحافظ-رحمه الله – الحديث الحسن لذاته بتعريف أدق من تعريف غيره،فقد عرف الحديث الصحيح أولاً بقوله:" وخبر الآحاد، بنقل عدل تام الضبط ، متصل السند، غير معلل ولاشاذ، هو الصحيح لذاته" .
ثم قال: " فإن خَفَّ الضبط ؛ فالحسن لذاته"(5).
__________
(1) انظر " علوم الحديث مع التثييد " ( ص 50 ) .
(2) وانظر نحو هذا الإيراد من الحافظ على ابن جماعة في " النكت " ( 1 / 407 ) .
(3) انظر " مختصر علوم الحديث " للحافظ ابن كثير ( 1 / 129 ) مع " الباعث " .
(4) انظر ( ص 28 ) .
(5) انظر " النزهة " ( ص 91 ) .(1/64)
فهو –رحمه الله – يرى أن شروط الحديث الحسن هي شروط الحديث الصحيح ، إلا شرطًا واحدًا: وهو تمام الضبط ، فإنه يُشْتَرط في الصحيح ، أما الحسن فَيُشْتَرَط خفة الضبط، وهذا أدق مما سبق من تعاريف ، ومع ذلك فحوله بعض المناقشات ، أذكرها ، وأذكر الجواب عنها ما أمكن – إن شاء الله تعالى -
(1) كيف نعرف أن هذا الراوي تام الضبط ، وهذا خفيف الضبط، وما هو الضابط في ذلك(1)؟
الجواب : أن علماء الجرح والتعديل لهم عبارات، تدل على أن من قيلت فيه فهو من رجال الحديث الصحيح، فيعبرون بها عن تمام الضبط، كقولهم مثلاً :"ثقة حافظ"و"ثقة ثبت"و"ثقة متقن"و"ثقة"و"مستقيم الحديث".... الخ .
ولكثير منهم عبارات - أيضًا – تدل على أن من قيلت فيه فهو من رجال الحديث الحسن ، فيعبرون بها عن خفة الضبط ، كقولهم مثلاً:" صدوق،لابأس به ، مأمون،خيار..." إلى غير ذلك .
وهذا كله فَرْعٌ عن سبرهم روايات الراوي ومقابلتها بروايات غيره من الثقات ، ثم النظر في مقدار موافقته، أومخالفته، أوتفرده، ومن ثَمَّ يحكمون عليه بما يستحق مدحًا أو قدحًا - على تفاصيل في ذلك، ليس هذا موضعها –
فلا إشكال حول عبارة الحافظ : " فإن خف الضبط . . . " لأن معرفة ذلك تكون بالرجوع إلى سُلَّم الجرح والتعديل ؛ لمعرفة ألفاظ هذه المرتبة ، والله أعلم .
__________
(1) انظر اعتراض الصنعاني بذلك في " توضيح الأفكار " ( 1 / 155 ) وقد سبق إلى أصل هذا الاعتراض قاسم بن قطلوبغا – تلميذ الحافظ ابن حجر – في حاشيته على " النزهة " ( ص 58 ) .(1/65)
وقول الصنعاني : " لاعُرْف في مقدار خفة الضبط " قول غير مقبول ؛ لأن التفاوت بين مراتب الجرح والتعديل ، ومعرفة منزلة كل مرتبة ، وما تحويه من عبارات ؛ كل هذا معروف مشهور ، وهم وإن لم يقولوا : فلان خفيف الضبط ؛ فقد عبّروا بما يدل على ذلك ، والناظر في كتب الرجال ، وأحكام الأئمة على الرواة ؛ وترجيحهم راويًا على آخر لقوة الضبط وخفته ؛ لايكاد يتردد في رد كلام الصنعاني – رحمه الله – أما من كان له اصطلاح خاص في عبارة من العبارات ؛ فإن ذلك لايؤثر على العرف العام ، والله أعلم .
(2)فإن قيل: إن قوله :"فإن خف الضبط " غير مانع؛ لأنه يُدْخِل الحديث الضعيف، فراويه خفيف الضبط أيضًا ؟
فالجواب : أن خفة الضبط لاتُطْلق في الاصطلاح على من ضَعْفُه واضح – وإن كان يقوى بالانجبار - بل معناها: أن الرجل عنده أصل الضبط ، لكن فيه خفة ،وهذا لايقال في الضعيف فضلاً عن الضعيف جدًا .
(3)أن الحافظ اشترط في الحسن ما اشترط في الصحيح –دون تمام الضبط- ومن شروط الصحيح " أن يتصل سنده بنقل عدل تام الضبط " فيفهم منه أن الحسن يشترط فيه " أن يتصل سنده بنقل عدل خفيف الضبط " أي أن خفة الضبط شرط في جميع طبقات الحديث الحسن ، كما أن تمام الضبط شرط في جميع طبقات الحديث الصحيح؟!
والجواب : أن هذا ليس مرادًا للحافظ –رحمه الله- وصنيعه أكبر شاهد على هذا ،وإن كانت عبارته توهم ذلك ، بل الحديث يكون حسنًا بمجرد وجود خفة الضبط ولوفي طبقة واحدة.
ولو أن الحافظ –رحمه الله – قال بعد تعريف الحديث الصحيح :" فإن خف الضبط في أحد رواته أو أكثر؛ فهو الحسن لذاته" لكان بعيدًا عن الإيهام والاعتراض ، والله أعلم.
ومما يدل على أن كلام الحافظ يوهم اشتراط خفة الضبط في جميع السند للحديث الحسن لذاته :(1/66)
ما حاء في " الأجوبة اللائقة على الأسئلة الفائقة "(1)فقد قال الحافظ : " هو الحديث المتصل السند ، برواةٍ معروفين بالصدق ، في ضبطهم قصور عن ضبط رواة الصحيح ، ولايكون الحديث معلولاً ولاشاذًَّا ، ثم قال : " ومحصَّله : أنه هو والصحيح سواء ؛ إلا في تفاوت الضبط ، فراوي الصحيح يُشْترط أن يكون موصوفًا بالضبط الكامل ، وراوي الحسن لايُشْترط أن يبلغ تلك الدرجة ، وإن كان ليس عَريًّا عن الضبط في الجملة ؛ ليخرج عن كونه مغفَّلاً ، وعن كونه كثير الخطأ ، وما عدا ذلك من الأوصاف المشترطة في الصحيح : كالصدق ، والاتصال ، وعدم كونه شاذًّا ، ولامعلولاً ؛ فلا بد من اشتراط ذلك كله في النوعين " اهـ .
وقد سبق الجواب عن الحافظ في ذلك ، وستأتي كيفية التخلص من هذا الإيراد بعد قليل – إن شاء الله تعالى - .
فإذا أردنا تعريف الحديث الحسن لذاته دون تعلق بالحديث الصحيح، فيقال:"هو ما اتصل سنده، بنقل مقبول ، خَفَّ الضبط في أحد رواته أو أكثر ، ولا يكون شاذًا ولا معللاً " .
فقولي : " مقبول "يشمل خفيف الضبط، وتام الضبط ،ويخرج الضعيف فمادونه، وعلى هذا فالحديث الحسن قد يكون في إسناده رجل واحد خفيف الضبط ، وبقية رجاله ممن وصفوا بتمام الضبط ، وقد يكون فيه أكثر من واحد ممن خف ضبطهم ، وبقية الإسناد ممن تَمَّ ضبطهم ، وقد يكون مسلسلاً بمن خف ضبطهم ، والله أعلم .
( خاتمة)
وبناءً على ما سبق : يظهر لنا أن الحديث الحسن ينقسم إلى قسمين : حديث حسن لذاته ، وقد مر معنا تعريفه ، وحديث حسن لغيره، ويمكن أن نعرفه بأنه : " ما فيه ضَعْفٌ خفيف يُجْبَر بنحوه" .
فقولي : " ما فيه ضعف خفيف " شامل لصور الضعف الخفيف: عدالةً، وضبطًا، واتصالاً .
__________
(1) ضمن كتاب " الجواهر والدرر " للسخاوي ( 2 / 913 – 914 ) .(1/67)
وقولي:" يُجْبر بنحوه" أي يحصل بنحوه في الضعف الانجبار والارتقاء من حيز الضعف إلى الحُسْن ، وذلك لايكون إلا بالعاضد الآخر الصالح لذلك ، وهذا ينفي الشذوذ والعلة ، لأنه لا انجبار للحديث مع وجودهما ،كما ينفي العاضد الذي ضعفه شديد لأنه لايجبر غيره .
وقولي : " يُجبر بنحوه " أولى من التعبير بـ " يجبر بغيره " لأن القول الثاني يدخل فيه الضعيف والمقبول لذاته ، وما جُبر بالمقبول لذاته ، وهو صحيح أو حسن ؛ لايقال فيه : حسن لغيره ،والله أعلم .
?المسألة الرابعة : ما معنى قول الترمذي : " حسن غريب" أو " حسن لانعرفه إلا من هذا الوجه " ؟ وهل هو كقوله : " حديث حسن " ؟
والجواب : أن الإمام الترمذي –رحمه الله – له عبارات في حكمه على الأحاديث، فتارة يقول : " حديث صحيح " وهذا لم أعلم له فيه اصطلاحًا خاصًا، أو استقراءً تامَّاً لذلك يوضح معناه عنده ،بل لم أقف على تعريف له للحديث الصحيح(1)؛ لذا فإنا نحمله على ما عليه الأئمة في تعريف الحديث الصحيح .
وتارة يقول :" حديث حسن " ولا يُرْدِفه بوصف آخر من صِحَّة أو غرابة ، وهذا هو الحسن لغيره ،وهو الذي عرفه الترمذي في كتابه(2).
__________
(1) وانظر " شرح العلل " لابن رجب ( 1 / 344 ) ، ولعله ترك تعريف ذلك اشتغناءً بشهرته عند أهل الفن ، قاله الحافظ في " النزهة " ( ص 94 – 95 ) وكذا قاله المناوي في " اليواقيت والدرر " ( 1 / 407 ) .
(2) وانظر " النزهة " ( ص 94 ) وقد سبق إليه ابن سيد الناس ، انظر " النفح الشذي في شرح سنن الترمذي " ( 1 / 295 ) و "فتح المغيث " ( 1 / 76 ) .(1/68)
وتارة يقول :" حديث حسن غريب" أو " حديث حسن لانعرفه إلا من هذا الوجه "فهذا معناه عند الترمذي –فيما يظهر- الحسن لذاته، إلا أنه يظهر أن يطلق ذلك مع ذكره علة ظاهرة في السند؛ فذاك أمر آخر(1).
فلا تَعَارُض بين وَصْفِهِ الحديثَ بالحُسْن والغرابة ، وبين اشتراطه في الحديث الحسن أن يُرْوَى من غير وجه؛ لاختلاف المحل : فالأول يتنزل على الحسن لذاته - في الغالب - والثاني يتنزل على الحسن لغيره ، والله أعلم .
وتارة يقول: "حديث غريب "فقط ، وقد قال الشيخ الألباني –رحمه الله – : " أنه يعني أن إسناده ضعيف "(2)والله أعلم .
( تنبيه ) : قدمت الكلام في هذه المسألة على المسألة الآتية لصلتها بشروط الترمذي في الحديث الحسن وكونها تخالف – في الظاهر – اشتراط الترمذي أن يروي الحديث من غير وجه .
?المسألة الخامسة : معنى قول الترمذي : " حديث حسن صحيح " .
استشكل بعض العلماء هذا القول ، وقالوا: هذا جَمْعٌ بين المتغايرين؛ لأن راوي الحسن قاصر عن رتبة راوي الصحيح في الضبط، فكيف يجتمع إثبات القصور ونفيه في حديث واحد؟
وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بأجوبة،محصَّلُها فيما يلي :
__________
(1) انظر تعجيل المنفعة " ( 1 / 750 ) ترجمة عبدالله بن عبيد الديلي ، وكلام البقاعي عند نور الدين عتر في " الإمام الترمذي " ( ص 171 ) و " الضعيفة " للألباني ( 2 / 185 / 764 ) هذا " والرد على البوطي " ( ص 65 – 66 ) وحمله شيخ الإسلام ابن تيمية على الغرابة النسبية ، وانظر " مجموع الفتاوى " ( 18 / 23 – 24 ، 39 – 40 ) وبنحوه الحافظ في أجوبته على أحاديث " المصابيح " الحديث التاسع .
(2) انظر " الضعيفة " ( 2 / 185 / 764 ) و "الرد على جهالات البوطي " ( 65 – 66 ) .(1/69)
1-أن تردد أئمة الحديث في حال رواية : جعل المجتهد يتردد في وصفه الحديث بأحد الوصفين ، هل يصف الحديث بالصحة لقول من وثق راويه، أو يصفه بالحسن لقول من وصفه بما يدل على خفة الضبط ؟ فيقال فيه :"حسن"باعتبار وَصْفِهِ عند قوم، و"صحيح"باعتبار وَصْفِهِ عند آخرين ،وذلك عند التفرد ،وغاية ما فيه: أنه حذف حرف التردد ، وتقدير الكلام : " حسن أو صحيح"(1).، وعلى هذا فما قيل فيه ذلك فهو دون الصحيح وفوق الحسن ؛ للتردد ، والجزم أقوى من التردد، بلا تردد، والله أعلم .
وقريب من هذا الجواب من جهة المعنى : قول من أجاب عن ذلك بأن الجمع بين الصحة والحسن درجة متوسطة بين الصحيح والحسن، فما قيل فيه " حسن صحيح " أعلى رتبة من الحسن ودون الصحيح، فلم يُتَّفَق على الحكم بصحته الاصطلاحية(2)، وعد بعضهم هذا تحكمًا لا دليل عليه(3).
2-أن ذلك باعتبار إسنادين، أحدهما صحيح، والآخر حسن.
وهو على ذلك يكون أعلى مما قيل فيه صحيح ، وهو فرد(4).
فإن قيل : إن الترمذي قد يجمع بينهما في حديث واحد مع قوله :"غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه" وهذا يدل على أنه ليس له إلا إسناد واحد .
فالجواب : بأن هذا خارج عن موضع النزاع ، إذْ الكلام فيما قال فيه :"حسن صحيح" فقط، لا ما قال فيه : " حسن صحيح غريب " أو ما قال فيه : " حسن صحيح لانعرفه إلا من هذا الوجه"، والله أعلم .
3 – ومنهم من جمع بين القول الأول والثاني، فقال:إن كان للحديث إسناد واحد؛ فَيُفَسَّر كلام الترمذي بالقول الأول، وإن كان له إسنادان؛ فَيُفَسَّر بالقول الثاني(5).
__________
(1) انظر " النزهة " ( 93 ) .
(2) انظر " مختصر علوم الحديث " لابن كثير ، مع " الباعث الحثيث " ( 1 / 141 )
(3) انظر " التقييد والإيضاح " ( ص 62 ) وعدَ هذا الفهم ابن رجب بعيدًا جدًا ، وانظر " شرح علل الترمذي" ( 1 / 393 ) .
(4) انظر " النزهة " ( ص 93 ) .
(5) انظر " النزهة " ( 93 ) .(1/70)
وقد يقال : هل يلزم من كون الحديث عندنا له إسناد واحد، أو له إسنادان؛ أن يكون الأمر كذلك عند الترمذي، مع أنه لم ينص على أحد الأمرين ؟ فقد يكون الأمر عنده على خلاف ما عندنا ، فكيف نفسِّر مراده في كل حديث باعتبار حصيلتنا العلمية ، لاباعتبار ما عنده ؟ هذا ، مع أننا لم نقف على نص للترمذي بذلك التفسير الذي حملوا كلامه عليه ؟!! .
وقد يُجاب عن ذلك، فيقال : إن قوله: " لا نعرفه إلا من هذا الوجه " يدل على أنه ليس له – عنده – إلا طريق واحد ، ومالم يذكر فيه ذلك؛ فهذا يدل على أن الحديث له أكثر من طريق عنده ، وإلا فما فائدة التنصيص على الغرابة في بعض المواضع دون بعض ؟ إلا أن هذا لايلزم اطراده ، والله أعلم .
والمقصود :أن هذا القول الثالث - الذي قاله الحافظ - أقوى من غيره، على ما فيه من تأمل.
فإن كان هناك من يستقرئ هذه المسألة ، وينظر هل الترمذي يسير على ما ذكره الحافظ أم لا ؟ وإن كان قد يعكر على ذلك في الجملة اختلاف نسخ الترمذي ، ومالم يكن ذاك الاستقراء؛ فنحن نأخذ بقول الحافظ ابن حجر؛ لأنه إمام في هذا الشأن، وهو صاحب استقراء وفَهْم ، والأصل أنه إذا وضع قاعدة في هذا الفن قُبِلَتْ منه ، مالم نجد ما يردها ، والله أعلم .
فإن قيل : لماذا لاتُستقرأ هذه المسألة ، ويُفْصَل فيها ؟
فالجواب : أنني لا أرى كبير فائدة في ذلك ، مع ما يحتاج الأمر من جهد كبير في سبيل الوصول إلى هذه الفائدة .
أضف إلى ذلك أن اختلاف النسخ في الأحكام لا بد أن يُؤثر على ذلك ، فلذا آثرت ما سبق ، هذا بالإضافة إلى ما عند الترمذي – رحمه الله – من تساهل في الأحكام ، والله أعلم .
ولعل العلماء الذين أجابوا عن هذا الإشكال قد وقف كل منهم على أمثلة تدل على ما أجاب به ، وأما جعل ذلك قاعدة مطردة فأمر آخر ، والله أعلم .
4- أن المراد بذلك: أن متنه حسنٌ لغةً ، أي من جهة فصاحة اللفظ وجزالة المعنى ، وصحيح من جهة الإسناد.(1/71)
ويلزم على هذا الجواب أن توصف جل الأحاديث النبوية بالحُسن؛ لوجود هذا الوصف في متونها ، إلا ماظهر أن الراوي أخطأ في روايته بالمعنى، أو رواه بلفظ فيه ركة(1).
5 – أنه حسن من جهة الفضل والبشارة والتيسير ، والأمور التي تميل إليها النفس ، ولا يأباها القلب ؛ هو حديث حسن ، وصحيح من جهة إسناده ، قاله ابن الصلاح(2).
ويرد على ذلك أن الترمذي يطلق الحسن على أحاديث في وصف جهنم، أو إقامة الحدود ، والعقوبات ، ونحو ذلك(3).
6 – أن الحسن في كلام الترمذي ليس قسمًا للصحيح ، أي ليس قسمًا مستقلاًّ ، بل هو أعم من الصحيح ، والصحيح جزء منه ، وأن المراد بالحسن هنا : أنه معمول به ،وأنه كقول مالك : وعليه العمل ببلدنا ، وأن الترمذي أراد بهذا أن يبين الصحيح المعمول به ، من الصحيح الذي لايُعمل به ، وهو قوله : " صحيح " فقط، ويدفع هذا أن الترمذي يقول في كثير من الأحاديث " صحيح " .
__________
(1) انظر "الموقظة" ( ص 30 ) وكذا " التدريب " ( 1 / 162 – 164 ) بل ألزم ابن دقيق العيد القائل بهذا أن يحكم بالحُسن على الموضوع كما في " الاقتراح " ( ص 199 ) ورده الحافظ ردًّا شديدًا ، لأن الكلام فيما قال فيه الترمذي " حسن صحيح " فكيف يكون موضوعًا ، انظر " النكت " ( 1 / 475 ) .
(2) وانظر " فتح المغيث " ( 1 / 180 ) .
(3) انظر " المختصر " لابن كثير – مع الباعث ( 1 / 140 ) .(1/72)
وعليه العمل أو هو قول فلان وفلان ، بل يدفع هذا من أساسه قول الترمذي في أول " العلل الصغير " الذي في آخر جامعه(1): " جميع ما في هذا الكتاب من الحديث فهو معمول به ، وقد أخذ به بعض أهل العلم ، ما خلا حديثين . . . " الخ كلامه ، فكيف يؤخذ بذاك القول مع هذا التصريح ، وهو حكمه على كثير من الأحاديث بقوله :"صحيح " فقط(2)؟!!
?المسألة السادسة:
هل يُحتج بالحديث الحسن لغيره، مع أن كل طريق فيه لا يَسْلم من ضَعْف خفيف؟
الجواب: نعم، يُحتج بما هذا وصفه، والعمدة في ذلك صنيع عدد من الأئمة، فمن ذلك:
1- الإمام الشافعي رحمه الله، فقد قال رحمه الله تعالى:
" المنقطع مُختلف فيه: فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التابعين، فحدَّث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتُبر عليه بأمور:
- منها: أن يُنْظر إلى ما أَرْسَل من الحديث، فإن شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل معنى ما روى؛ كانت هذه دلالة على صحة مَنْ قَبِلَ عنه، وحَفِظَه.
- وإن انفرد بارسال حديث، لم يَشْرَكْه فيه مَن يُسنده؛ قُبِل ما ينفرد به من ذلك.
- ويُعتبر عليه بأن يُنْظر: هل يوافقه مرسِل غيره، ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجِدَ ذلك؛ كانت دلالة تُقوِّى له –أي للمرسِل الأول- مرسَله، وهي أضعف من الأولى.
__________
(1) 5 / 392 )
(2) وقد قال بهذا الوجه من الجمع بين كلام الترمذي الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة – رحمه الله – ونقله العلامة أحمد شاكرفي " الباعث " ( 1 / 140 – 141 ) وتعقبه شيخنا محدث الزمان الشيخ الألباني – رحمه الله - .(1/73)
- وإن لم يُوجَد ذلك: نُظِر إلى بعض ما يُرْوى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً له، فإن وُجِدَ يوافِق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَله إلا عن أصل صحيح –إن شاء الله-.
- وكذلك إن وُجد عوام من أهل العلم يُفْتُون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم...." إلى أن قال رحمه الله: " وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت؛ أحببْنا أن نقبل مرسَله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالموتصل"(1).ا.هـ.
فهذا الإمام الشافعي –وهو من أئمة الدين المتقدمين- يُقوِّي المرسَل بمرسَل آخر، وكلاهما ضعيف، ويقويه بالموقوف، وليس هو –في ذاته- بحجة، فثبت ما قلْته، والله أعلم.
فإن قيل: إن الشافعي رحمه الله يرى العمل بما هذا وصفه من المراسيل، لا أنه حجة يُحتج به.
فالجواب: كيف يقال هذا، والشافعي يقول فيما إذا تابع المرسِل مرسَل آخر:
" كانت دلالة تقوِّي له مرسَله، وهي أضعف من الأولى".أ.هـ..
فهذا نص صريح بأن المرسَل يتقوى بالمرسَل، وإن لم تكن في درجة القوة المستفادة من متابعة حديث مسند لحديث مرسل، فكيف يقال: المرسَل بعد المتابعة بمرسَل آخر، ليس قوياً، وهو باقٍ على الضعف؟!
وكذا قال الشافعي فيما إذا تابع المرسِلَ قولُ صحابي: " كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَله إلا عن أصح يصح إن شاء الله".ا.هـ.
وقال أيضاً: "وإذا وُجِدَتْ الدلائل بصحة حديثه بما وَصَفْتٌ؛ أحببْنا أن نقبل مرسله، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل".ا.هـ.
فكيف يحكم الشافعي بأن المرسِل ما أخذ مرسَله إلا عن أصل يصح –بعد متابعته بالموقوف- وأن هذه الدلائل تدل على صحة حديث المرسِل، ثم يُقال بعد ذلك: إنه ضعيف لا يُحتج به، وإن عُمِل به، أو أنه لا يلزم من العمل بالحديث صحته؟!
__________
(1) الرسالة ص (461) برقم (1263-1270).(1/74)
نعم، لا يلزم من العمل بالحديث صحة مَبْنَاه؛ لكن هذا ليس في هذا الموضع، لهذه الأدلة من كلام الشافعي نفسه.
نعم، إن الشافعي فرَّق بين مراتب الحجية بين ما هذا سبيله وبين المتصل، لكن لم يقُل إن المرسل الذي يتقوى بمثله ليس بحجة أصلاً، والله أعلم.
وتفصيل الرد على من استدل ببعض كلام الشافعي على رد رواية الضعيف إذا توبع بمثله أو نحوه مطلقاً في موضع آخر، "شرحي للنزهة" إن شاء الله تعالى.
3،2- يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل –رحمهما الله تعالى-:
جاء في "شرح علل الترمذي(1)" لابن رجب رحمه الله: "قال إسحاق بن هانيء، قال لي أبو عبد الله: -يعني أحمد- قال لي يحيى بن سعيد: "لا أعلم عبيد الله –يعني ابن عمر- أخطأ إلا في حديث واحد لنافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام..." الحديث.
قال أبو عبد الله: فأنكره يحيى بن سعيد عليه.
قال أبو عبد الله: قال لي يحيى بن سعيد: "فوجدته قد حَدَّث به العمري الصغير عن ابن عمر مثله.
قال أبو عبد الله: لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه".ا.هـ
فتأمل كيف ارتاب في حديث عبيد الله العمري –وهو ثقة- ثم صححه بحديث العمري الصغير، وهو عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف عند القطان وأحمد.
فإن قيل: إن القطان صحح الحديث لأنها متابعة ضعيف للثقة، ونحن لا ننازع في ذلك، إنما ننازع في تقوية الضعيف بمثله أو نحوه.
فالجواب: سبق من كلام الشافعي تقوية المرسَل بمثله، وهما ضعيفان.
__________
(1) 1/453-544).(1/75)
وأيضاً: فالثقة حجة بنفسه، ولا يحتاج –في الأصل- إلى متابعة غيره له، إنما ارتاب القطان في رواية الثقة، واستنكر روايته، فلما تابعه الضعيفُ عليها؛ صححها القطان، فرواية الثقة عند ارتياب القطان منها نُنَزِّل منزلة رواية الضعيف، لأنه لولا متابعة الضعيف للثقة؛ لضعَّفَ القطانُ روايته، فلما نُزِّلت رواية الثقة هنا منزلة رواية الضعيف التي يُرتاب منها، ويُتوقف فيها، وصححها القطان بمتابعة الضعيف؛ دل ذلك على صحة ما أجبْتُ به، والله أعلم.
فإن قيل: إن القطان حكم بالنكارة، والمنكر لا يَعتضد بغيره.
فالجواب: أن الحكم بالنكارة إذا كان فرعاً عن جمع الطرق، وكان الراوي مخالفاً لمن هو أوثق منه؛ فلا يُستشهد بما هذا سبيله، لكن إذا كان الإمام يظن أن الراوي تفرد بهذا الحديث، ورأى أن مثله لا يقبل تفرده بهذا الأصل، فحكم بالنكارة، ثم وَجَدَ متابعاً؛ زالت علة هذا الحكم، والحكم يزول بزوال علته، وهي هنا: ظَنُّ التفرد، ولذلك فقد صحح القطان هذا الحديث لما وقف على متابعة العمري الصغير، وإلا فالمنكر أبداً منكر، كما قال أحمد(1)، والله أعلم.
فإن قيل: لماذا ذكرت أحمد مع القطان، والمتكلِّم بما سبق هو الفطان؟
قلت: لقد أقرّه أحمد على ما قال، ولم يتعقب، ولو كان كلام القطان قولاً محدثاً مخترعاً –كما يقول بعض طلاب العلم فيمن يرى الإحتجاج بما هذا سبيله- لأنكره أحمد، فهل يسكُت أحمد ويصرخ بعض طلاب العلم في هذه الأيام برد هذا القول؟ ألا يسَعهم ما وسع أحمد؟!
5،4- محمد بن يحيى الذهلي، والعقيلي –رحمهما الله تعالى-:
جاء في "الضعفاء" للعقيلي(2)ترجمة محمد بن عبد الله بن مسلم بن أخي الزهري:
__________
(1) في "سؤالات ابن هاني" (2/167).
(2) 4/88).(1/76)
" وأما محمد بن يحيى النيسابوري: فجعله في الطبقة الثانية من أصحاب الزهري، مع أسامة بن زيد، ومحمد بن إسحاق، وأبي أويس، وفليح، وعبد الرحمن بن إسحاق، وهؤلاء كلهم في رجال الضعف والإضطراب" وقال محمد بن يحيى: "إذا اختلف أصحاب الطبقة الثانية؛ كان المفزع إلى الطبقة الأولى في اختلافهم، وإن لم يوجد عندهم بيان؛ فيما روى هؤلاء –يعني الطبقة الثانية- وفيما روى –يعني أصحاب الطبقة الثالثة- يُعرف بالشواهد والدلائل، وقد روى ابن أخي الزهري ثلاثة أحاديث، لم نجد لها أصلاً عند الطبقة الأولى، ولا الثانية، ولا الثالثة".ا.هـ.
فهذا الذهلي –وهو أعرف الناس بأحاديث الزهري، حتى لُقِّب بمحمد بن يحيى الزهري- قسَّم أصحاب الزهري إلى ثلاث طبقات، الأولى: يحتج بها؛ لأنهم أعرف الناس بالزهري وحديثه، وإذا اختلف من دونهم من تلاميذ الزهري في حديثه؛ سُبر هذا بحديث الطبقة الأولى، والحكم لمن وافقهم، فهذا بحث عن شاهد من الثقات أولاً، فإن لم يوجد؛ نزلنا إلى الطبقة الثانية – وهي طبقة رجال الضعف والإصطراب- كما صرح العقيلي أخذاً من صنيع الذهلي –فإن وجدنا ما يشهد لقول أحد المختلفين الضعفاء، وإن كان من رواية ضعيف، فضعيف مع ضعيف، أولى من ضعيف وحده، فإذا قُبل ضعيف مع ضعيف، مع أن هناك ضعيفاً آخر يخالفهما؛ فمن باب أولى يقبل ضعيف مع ضعيف دون مخالف لهما، وهذا ظاهر فإن لم يوجد متابع في الطبقة الثانية؛ كان المفزع إلى الثالثة –وهي دون الثانية في الضبط، إلا أنها ليست طبقة المهدرين المتروكين، ومع ذلك فرواية صاحب الطبقة الثالثة تشد من أزر صاحب الثانية الذي خالفه غيره، ولم يتابَع على قوله، فإذا كان ذلك كذلك مع وجود المخالفة؛ فما ظنك بالحال عند السلامة من المخالف أصلاً؟!
إن هذا النص من أعلم الناس بالزهريات؛ ومن أخْبر الناس بمراتب أحاديث الزهري؛ لنص ظاهر على صحة ما أجبْتُ به، والله أعلم.(1/77)
فإن قيل : لم يصرح الذهلي في هذا النص بأن رواية الضعيف إذا توبعت ؛ احتُجَّ بها !!
فالجواب : هذا الإيراد من زُخْرف القول البعيد عن روح النص ولُبِّه ، كيف لا ، والذهلي قال في أول كلامه : إذا اختلف أصحاب الطبقة الثانية ؛ كان المفزع إلى الطبقة الأولى في اختلافهم ، فإن لم يوجد عندهم بيان ؛ ففيما روى هؤلاء . . . " اهـ .
فما فائدة المفزع إلى الطبقة الأولى ، إذا كان من وافق ما عندهم روايته مردودة أيضًا ؟
أليست الطبقة الأولى هي التي يُسْتبرأ بها أحاديث الزهري ، وهي التي يُسْبر بها حديث تلامذة الزهري ؟
أليس حديثهم غاية في الصحة عنه ؟فكيف يكون من وافقهم مردود الرواية ؟!
فما فائدة قول الذهلي : " فإن لم يوجد عندهم بيان " ؟ بيان ماذا ؟ أليس البيان الذي يوضح أن راوي الطبقة الثانية قد ضبط روايته عن الزهري ؟ وإذا كان ذلك كذلك ؛ فكيف تُردُّ رواية من ضبط حديث شيخه ؟!
فإن قيل: نحن لاننازع في الضعيف إذا وافقه ثقة ،ولكن ننازع في ضعيف لم يتابعه إلا مثله أو نحوه .
فالجواب : مع أنكم تنازعون في ذلك ؛ فالذهلي لم ينازع ، بل ساق الكلام مساقًا واحدًا ، وذكر أنه يفزع لرواية الطبقة الأولى ، وإلا فالثانية ، وإلا فالثالثة ، أما أنتم فلا ترون المفزع إلا إلى الأولى فقط ، وهم الثقات ، وفي هذا فارق بينكم وبين الذهلي .
أضف إلى ذلك : أن الذهلي لم يصرح بتصحيح رواية الضعيف إذا توبع من الطبقة الأولى ، أو الثانية أو الثالثة ، فإما أن تقولوا بضعف رواية الضعيف إذا توبع من ثقة أيضًا ، كما تقولون بضعف روايته إذا تابعه مثله ، فإن صرّحتم بذلك ؛ عرف الناس خطأكم وتناقضكم .
وإن قلتم : لا ، نقبل كلامه في متابعة رجل من الأولى للضعيف دون غيرها من الطبقات .(1/78)
فالجواب : لماذا تفرقون بين كلام الذهلي ، وقد ساقه مساقًا واحدًا ؟ هل عندكم من سلطان بهذا، أم تقولون على الذهلي ما لا تعلمون ؟! ثم إنكم تَدَّعون أنكم سائرون على منهج الأئمة المتقدمين ، فهل الذهلي منهم أم لا ؟وهلأنتم قبلتم كلامه أم لا؟ وهل نقلتم عن أحد يوافقكم بمثل هذا الظهور عن الذهلي ؟
وأيضًا: فإذا كان الذهلي قبل رواية ضعيف مع ضعيف في الزهري ، وهو ممن يُجمع حديثه ،كما أنه كثير الحديث والتلاميذ ، ولم يطلق القول بأن هذا مردود لأن تلامذة الزهري الثقات يرووه ، فكيف لايقبل ضعيف مع ضعيف عن مطلق الثقة مالم يأت بمنكر ؟!
فإن قيل : وهل متابعة مَنْ في الطبقة الأولى للضعيف ، تستوي مع متابعة من في الطبقة الثانية ، أو الثالثة ؟
فالجواب: ما أظن أحدًا يقول : متابعة الثقة الحافظ للضعيف تستوي من جميع الوجوه – مع متابعة الضعيف للضعيف ، لكن هناك أصل في الشَّبَه ، وهو الحكم بثبوت من تُوبع من غيره ، إلا أن الماتبعة لاتستوي مع اختلاف العدد أو الوصف ، كما هو ظاهر ، والله أعلم .
فإن قيل :ولم أدخلت العقيل مع الذهلي ؟
قلت : العقيل نقل هذا ، شارحًا له ، موضحًا مراد الذهلي في مواضع الاشتباه ، وسكت عنه في الترجمة ، ولو كان يعلم أن هذا مخالف لما عليه الأئمة ؛ لأنكره على الذهلي ، بل الدواعي متوافرة للرد على من خالف منهج الأئمة فيما هو دون ذلك ، فلما لم ينكر على الذهلي ، وسلَّم له هذا التفصيل في حديث الزهري ؛ دَلَّ ذلك على إقراره ، والله أعلم .
6- الإمام الترمذي ، وقد سبق نقل كلامه بتمامه فيتعريف الحديث الحسن .
فإن قيل :إن الترمذي ما أراد بذلك أن الحديث الحسن – بهذه القيود التي ذكرها – يكون حجة يُحتج بها !!
فالجواب:هذا من عجب العُجاب ، إذْ كيف يشترط الترمذي عدم الضعف الشديد ، ومجئ الحديث من وجه آخر ، ولايكون شاذا ، ثم يسميه حسنًا ، وبعد هذا كله لايراه الترمذي حجة إذا توافرت فيه هذه شروط مطلقًا ؟(1/79)
أي تهمته للترمذي بالتلبيس على العباد أعظم من هذه ؟!نعم ، قد يحكم الترمذي على حديث بأنه جسن ، ويذكر في سنده علة ظاهرة ، كانقطاع ونحوه ، ولايلزم من ذلك تضعيف الترمذي لما استوفى الشروط السابقة مع حكمه عليه بالحسن ، وقد راعى في حكمه الحديث بمجموع طرقه ، لا من طريق واحد .
هذا ، وقد رددت على من يرى أطلاق رد الاحتجاج بالحسن لغيره بحجة الضعيف لايتقوى بمثله أو نحوه مطلقًا ، وينسب ذلك إلى منهج الأئمة الذين قد نقلتُ عن بعضهم ما يدفع هذه النسبة إليهم ، كل ذلك في شرحي " للنزهة " ولعل الله ييسر إتمام ذلك هنالك ، والله تعالى أعلم .
الحديث الضعيف
قال الناظم - رحمه الله - :
6- وكُلُّ ما عن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُرْ ... فَهْوَ الضعيفُ وهْوَ أقسامًا كثر
بعد أن فرغ الناظم –رحمه الله – من الكلام على الحديث الصحيح والحسن لذاته ؛ شرع في الكلام على الحديث الضعيف ، فذكر تعريفه، وأشار إلى أنه ذو أقسام ، ولم يذكر شيئًا من أقسامه في هذا الموضع ، وإن كان قد ذكر كثيرًا منها بعد ذلك .
وقوله : " أقسامًا " نُصب على التمييز .
وتحت هذا البيت عدة مسائل:
?المسألة الأولى: تعريف الحديث الضعيف : وقد عُرِّف بعدة تعاريف :
التعريف الأول : تعريف الناظم –رحمه الله - : فقد عرّفه بأنه : "كل ما عن رتبة الحُسْن قَصُر " أي هو الحديث الذي لم يبلغ رتبة الحديث الحَسَن لذاته ؛ لأنه المقصود عند إطلاق الحَسَن ، ولأنه الذي عَرَّفه الناظم قبل ذلك .
وقد سبق الناظم إلى هذا التعريف الحافظ العراقيُّ ، فقد قال في ألفيته :
أما الضعيف فهْوَ مالم يبلغِ ... مرتبة الحسن . . . . . . . . .(1/80)
ثم قال في الشرح : " أي ما قصر عن رتبة الحسن ؛ فهو الضعيف " اهـ(1)بل سبق العراقيَّ أيضًا ابنُ دقيق العيد ،فقال : " ما نقص عن درجة الحسن "(2)اهـ . وتبعهما على ذلك السيوطي ، فقال : " ما قصر عن رتبة الحسن ؛ فهو الضعيف "(3).
وقد مَرَّ بنا أن الحديث الحسن: هو ما جمع شروطًا خمسة : وهي الاتصال، والعدالة، وخفة الضبط، والسلامة من الشذوذ، والسلامة من العلة .
فكل ما قصر عن هذه الشروط أو بعضها ؛ فهو الضعيف بالمعنى العام ، الذي يدخل فيه جميع أقسام الحديث الضعيف سواء كان الضعف، بسبب فَقْد الاتصال، أو الطعن في العدالة، أو الضبط .
فإذا فقد الاتصال – مثلاً – فهو نازل عن رتبة الحَسَن، ويكون من قبيل الحديث الضعيف، وقسمًا من أقسامه ، وكذا لو ضَعُف ضبط راويه؛ فإنه حينئذٍ لايكون حسنا، بل يكون أيضًا من قبيل الضعيف ،وقسمًا من أقسامه ، وهكذا يقال عند عدم توافر العدالة أو عدم السلامة من الشذوذ والعلة .
ولايخفى عليك أن عبارة الناظم – ومن سبقه – تُدخِل في الضعيف الحديثَ الذي راويه متروك ، بل كذاب ، والحديثَ الشاذ ، أو المنكر . . . ونحو ذلك ؛ لأن كل ذلك لم يبلغ رتبة الحُسْن ، ويصْدُق عليه أنه قصر عن رتبة الحسن ، وهذا بخلاف الضعيف اصطلاحًا ، الذي يتقوى بغيره – على ما سيأتي إن شاء الله – لكن قد يقال : لعل الناظم أراد التعريف العام للحديث الضعيف ، لاخصوص الحديث الضعيف الذي ينجبر بنحوه ، ويؤيد هذا قوله بعد ذلك : " وهو أقسامًا كُثر " إلا أنه على ذلك لم يعرِف خصوص الضعيف تعريفًا ينفصل به عن الضعيف العام ، والله أعلم .
ويرِدُ على الناظم - أيضًا - أنه ربط تعريفه للحديث الضعيف بتعريفه للحديث الحسن ، وقد سبق ما على تعريفه للحسن من إيرادات .
__________
(1) شرح الألفية المسمى " التبصرة والتذكرة " ( 1 / 111 ) .
(2) " الاقتراح " ( ص 201 ) .
(3) انظر " البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر " ( 3 / 1283 ) .(1/81)
التعريف الثاني : تعريف ابن الصلاح :
قال ابن الصلاح –رحمه الله تعالى – بعد أن عَرَّف الحديث الصحيح والحسن : "وكُلُّ حديث لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحديث الحسن؛ فهو ضعيف "(1).
وعلى هذا التعريف عدة اعتراضات :
1 – قوله : " لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ، ولا صفات الحديث الحسن " فكلمة : " الحديث الصحيح " حشو لا حاجة لها ، لأن الصحيح حسن وزيادة ، فإذا قَصُر عن الحسن فمن باب أولى أن يَقْصُر عن الصحيح .
ووجْه هذا الاعتراض : أن الكلمة في التعريف لابد أن تكون تأسيسية؛ لأن الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد - فضلاً عن التكرار والحشو – فلو اقتصر على نفي صفات الحُسْن لكان أخصر ؛ لأن نفْي صفات الحَسَن مسلتزم لنفي صفات الصحيح وزيادة ،والله أعلم .
وهناك من اعتذر عن ابن الصلاح –رحمه الله –(2)فقال: ما ملخصه : إن تعريفه مثل تعريف النحْوي إذا عرَّف الحرف ، فإنه إذا عَرَّف الاسم والفعل؛ عَرَّف الحرف بأنه: " ما لايقبل شيئًا من علامات الاسم ، ولاعلامات الفعل " لأن القسمة عنده ثلاثية : اسم، وفعل، وحرف ، وكذا فَعَلَ ابن الصلاح هنا .
إلا أن من اعترض على ابن الصلاح لم يرتض هذا الجواب ، وذلك: لأن الحرف ليس قسماً من الأسماء ولا من الأفعال، وليس بينه وبين الاسم والفعل عموم وخصوص ، بل هو قسم مستقل ، أما الحسن فبينه وبين الصحيح عموم وخصوص ، فكل صحيح حسن – لأن الصحيح حَسَنٌ وزيادة - بلا عكس(3).
وقال ابن الوزير مدافعًا عن ابن الصلاح : " لا اعتراض على ابن الصلاح ؛ فإنه لايلزمه أن يحدَّ الضعيف على رأَيْ غيره ، وإنما كان يلزمه لو كان يرى أن كل صحيح حسن" اهـ(4).
__________
(1) " علوم الحديث " مع " التقييد " ( ص 63 ) .
(2) والمعتذر هو الزركشي في " النكت " ( 1 / 389 – 390 ) .
(3) انظر معنى ذلك في " النكت " ( 1 / 491 ) .
(4) انظر " توضيح الأفكار " ( 1 / 247 ) .(1/82)
قلت : مما سبق في تعريف الصحيح والحسن عند ابن الصلاح نعلم أنه يرى أن الصحيح حسن وزيادة ، فتمّ الإيراد عليه ، ولذلك فقد ذكر الصنعاني كلام ابن الصلاح في بعض المواضع ، ثم قال : " . . . . وهذا مع ما فصّله هنالك يقضي بأن ابن الصلاح رأْيُه رأيُ من يقول : بأن كل صحيح حسن ، فيتم الاعتراض عليه " اهـ(1).
2- أن قوله:" لم تجتمع فيه صفات الصحيح" لا يُخْرِج الحديث الحسن، فقد لا يتوافر الضبط التام، ويتوافر الضبط الخفيف ، وهذا من صفات الحديث الحسن(2).
وعندي : أن هذا الاعتراض غير وجيه – ولعل منشؤه الذهول والسهو من قائله - لأن ابن الصلاح اشترط أيضاً انتفاء صفات الحسن، فكيف يدخل الحسن في التعريف مع هذا الشرط(3)؟ .
3 – واعترض الحافظ بأنه لو قال ابن الصلاح : " كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول " لكان أسلم من الاعتراض وأخصر اهـ(4)
قلت : أما كونه أخصر ؛ فنعم .
وأما كونه أسلم من الاعتراض ؛ فلا : لأنه يقال : وصفات القبول تشمل صفات الصحيح والحسن ، وقد سبق عن الحافظ أن انتفاء صفات الحسن يستلزم انتفاء الصحيح وزيادة ، فقد وقع الحافظ فيما أنكره على ابن الصلاح ، ولا زال الاعتراض قائمًا ، والله أعلم .
ثالثاً: تعريف الحافظ ابن حجر رحمه الله:
عَرَّف الحافظ - رحمه الله - الحديث الضعيف بقوله:" هو كل حديث لم تجتمع فيه صفات القبول " وقد سبق ما فيه في الكلام على تعريف ابن الصلاح، والله أعلم.
__________
(1) انظر " توضيح الأفكار " ( 1 / 247 – 248 ) .
(2) قاله بمعناه الحافظ في " النكت " ( 1 / 492 ) ولعله ذهل عن شرط ابن الصلاح في عدم اجتماع صفات الحسَن أيضًا ؛ فإن مثل ذلك لايفوت الحافظ ، لاسيما وقد سبق أن نقل كلام ابن الصلاح بذلك ، وعاب عليه ترْكه الاختصار فقط ، فجَلَّ من لايسهو، والله أعلم .
(3) وانظر " البحر الذي رخر " للسيوطي ( 1 / 1286 ) .
(4) " النكت " ( 1 / 492 ) .(1/83)
أضِفْ إلى ذلك : أن صفات القبول كثيرة ، منها العاضِد : سواء كان من طرق أخرى ، أو مما تلقاء العلماء بالقبول مع ضعف سنده ، ولا شك أن فَقْدَ ذلك لايضر إذا توافرت الشروط الخمسة التي في الصحيح ، إلا أن قول الحافظ : " ما لم تجتمع فيه صفات القبول " قول عام ، يدخُل فيه العاضد ، وليست شروط العاضد مرادًا فيما يُقْبل بذاته ، فلعل المراد عند الحافظ : صفات القبول التي يُقبل بها الحديث لذاته ، فأخرج الصحيح والحسن ، والله أعلم .
وبعد عَرْض هذه الأقوال في تعريف الحديث الضعيف ؛ فالذي يظهر لي أن الراجح في ذلك ما قاله الحافظ الذهبي – رحمه الله -(1)في تعريف الضعيف ، حيث قال : " الضعيف : ما نقص عن درجة الحسن قليلاً " اهـ .
فقوله : "ما نقص عن درجة الحسن " أخرج الحَسن فضلاً عن الصحيح .
وقوله : " قليلاً " أخرج ما كان شديد الضعف " .
فإن قيل : هناك أحاديث تنقص عن درجة الحسن قليلاً ، وليست بضعيفة ، لوجود عاضد لها ، سواء كان من طرق أخرى ، أو لكونها تُلُقِّيتْ بالقبول ، فلو اشترط الذهبيَ في التعريف بقوله : " ليس لها عاضد " .
فالجواب : المقام مقام تعريف الضعيف في نفسه ، وليس مقام الحكم : هل للضعيف جابر ، أم لا ؟ والحديث إذا كان قد انجبر بغيره ، فإنه يقال : هو ضعيف ؛ لكنه انجبر بكذا وكذا .
إذًا فلاغبار على ما قاله الذهبي ، لأنه ليس مقام تعريف الضعيف الذي ليس له ما يعضده ؛ فإن هذا قسم من الضعيف لا كل الضعيف .
فإن قيل : لو قال الذهبي : " هو ما نقص عن درجة الحسن لغيره قليلاً " لكان أولى .
فالجواب : هذا الاعتراض بمعنى الاعتراض السابق ، والمقام مقام تعريف الضعيف الذي إذا جاءه جابر انجبر به ، لا مقام تعريف ما ليس له جابرٌ أصلاً ، والله أعلم .
__________
(1) في " الموقظة " ( ص 33 ) .(1/84)
?المسألة الثانية: لما كانت صحة الحديث راجعة إلى تَمَكُّن الإسناد والمتن من صفات القبول، وكذلك ضَعْفُ الحديث راجع إلى فَقْد هذه الصفات أو بعضها ، لما كان الأمر كذلك أردتُ بيان صفات القبول، مع ذكر نوع الحديث الذي تشترط فيه هذه الصفات بشكل يُقَرِّب المقصود ، وهاك بيان ذلك :
صفة القبول ... الحديث الذي يشترط وجودها فيه
1- السلامة من الشذوذ. ... 1- تُشترط في الصحيح لذاته، ولغيره، وفي الحسن لذاته، ولغيره.
2- تُشترط في الصحيح لذاته، ولغيره، في الحسن لذاته، ولغيره.
2- السلامة من العلة الخفية القادحة. ... 3- يُشترط في الصحيح لذاته، وفي الحسن لذاته، وفي بعض صور الصحيح لغيره.
4- يُشترط ذلك في الصحيح لذاته، وفي الحسن لذاته، وفي بعض صور الصحيح لغيره.
3- اتصال السند. ... 5- يُشترط في الصحيح لذاته.
6- يُشترط في الحسن لذاته، وفي بعض صور الصحيح لغيره.
4- ثبوت العدالة. ... 7- يُشْترط في الصحيح لغيره، والحسن لغيره.
8- يشترط في الصحيح لغيره.
5- الضبط التام.
6- الضبط الخفيف.
7- العاضد الذي يجبر غيره.
8- تَلَقِّي الحديث خارج الصحيحين بالقبول.
( تنبيه ) : من هذه الصفات ما يكون فَقْدُهُ موجبًا للضعف الشديد، ومنها ما يكون فَقْدُه موجبًا للضعف الخفيف، ومنها ما لا يلزم من فَقْدِه ضعف الحديث أصلاً، فقد يكون صحيحًا - فضلاً عن أن يكون حسنًا - كما في صفة التلقي بالقبول والعاضد، والله أعلم.
تنبيهات على عدة أمور في الجدول السابق :
1- قولي في الصفة الثانية:" العلة الخفية " احتراز من العلة الظاهرة التي تكون في أصل الحسن لغيره،وهو الضعيف، ثم يزول أثرها بالمتابعة، وقولي:" القادحة " احتراز من غير القادحة.
2- وقولي في الصفة الرابعة:" ثبوت العدالة " أي: بالاستفاضة أو التزكية، لا مجرد عدم العلم بالجارح، فيخرج المجهول بأنواعه - فضلاً عن المجروح في العدالة - .(1/85)
3- الطريق إلى معرفة الفرق بين الضبط التام، والضبط الخفيف : هوكلام الأئمة في الرواة، حسب ما هو مُفَصَّلٌ في سُلَّم الجرح والتعديل في غير هذا الموضع.
4- قولي في الصفة السابعة: " العاضد " له صور كثيرة، ومنها: التلقي بالقبول، وقولي: الذي يجبر أخرج القاصر عن ذلك، وهو ما كان شديد الضعف،سواء كان ذلك في السند أو المتن ، وقولي:" غيره " يشمل خفيف الضبط ليرتقي إلى درجة الصحيح لغيره، ويشمل أيضًا ما فيه ضعف ينجبر،فيرتقي على الحسن لغيره، وهذا أعم من قول من قال: الذي يجبر الضعيف؛ فإنه يُخرج الصحيح لغيره في كثير من صوره، وكذا فقولي : " الذي يجبر غيره " يخرج الغير الذي لاينجبر بالعاضد .
5- وقولي في الصفة الثامنة : " تلقي الحديث بالقبول " هذا من جملة العواضد، وإنما أفردته بالذِّكْر لكونه ليس من قبيل النظر في حال رجال السند، وقولي:" خارج الصحيحين " احتراز مما تلقته الأمة بالقبول فيهما، فإن آحادهما تفيد العلم النظري بخلاف ما نحن فيه، فهو وإن صح فليس في درجة ما في " الصحيحين " كما لا يخفى.
والذي جعلني أبدأ بذكر السلامة من الشذوذ والعلة في هذا الموضع - مع أن العلماء في الغالب يختمون بها الكلام في التعاريف - : أنني رغبتُ في البدء بالشروط التي يحتاج إليها الصحيح بنوعيه، والحسن بنوعيه، وكلما كان مجال الشرط أوسع؛ بدأْتُ به، وكلما كان أضيق، خَتَمْتُ به، وقد أقدِّم ما يتعلق بالأقوى من الأحاديث على ما دونه في الرتبة وإن كان الشرط أوسع مجالاً، كما قدمت شرط الصحيح لذاته على شرط الصحيح لغيره، والحسن لغيره؛ فإن الصحيح لذاته أخص ، والله أعلم
?المسألة الثالثة : أقسام الحديث الضعيف ؟
أشار الناظم إلى ذلك بقوله " وهو أقسامًا كُثر " وهنا سؤالان :
الأول: هل أقسام الحديث الضعيف على مرتبة واحدة من الضعف ؟
والجواب: أنها ليست كذلك، بل هي متفاوتة في ذلك، فبعضها أشد ضعفاً من بعض .
الثاني : السبب في تفاوت مراتب الضعف ؟(1/86)
والجواب : أن يقال : لما كانت صحة الحديث راجعة إلى تمكن شروط القبول في الإسناد والمتن ، فكذلك ضعف الحديث راجع إلى فَقْد هذه الصفات ، أو بعضها ، وليس الذي فَقَدَ شرطا كالذي فَقَدَ شرطين ، وليس الذي فَقَدَ شرطين كالذي فقد ثلاثة وهكذا ، فكلما كثر تخلف الشروط؛ كان الضعف أشد – في الجملة – وذلك أن الطعن في العدالة أشد من فَقْدِ الضبط والاتصال ، ونحو ذلك .
والأئمة ينظرون إلى الراوي من جهتين : جهة العدالة ، وجهة الضبط ، فالمطعون في عدالته ساقط بالكلية ، أما المطعون في ضبطه : فقد يكون ضعيفا يُسْتشهد به ، وقد يكون ساقطا متروكا ، فصح أن المطعون في عدالته لا رجاء فيه ، بخلاف المطعون في ضبطه ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : حكم العمل بالحديث الضعيف الذي لم يشتد ضعفه:
للعلماء عدة أقوال في هذه المسألة:
الأول: هناك من ذهب إلى العمل بالحديث الضعيف، حتى في باب الأحكام، وأنه أولى من آراء الرجال، إذا لم يكن هناك ضعيف آخر يعارضه، وأن يكون ذلك في الأحاديث التي تفيد الإحتياط، والتحرز، لا في التيسير والتسهيل.
قلت: هذا عمل بظن مرجوح أو شك، ودَفْعُه واضح، والله أعلم.
الثاني: هناك من ذهب إلى أنه ينفع في باب الترجيح، فلو كان هناك حديث صحيح، يعارضه آخر مثله، والضعيف موافق لأحدهما؛ فإنه يقوي من كفة الصحيح الذي يوافقه، وهذا لا يُدْفع عن الصواب والقبول، إذا خلا الصحيح الآخر من مرجح أقوى، والله أعلم.
الثالث: وذهب بعضهم إلى أنه يُعمل به في تعيين المبهم في الرواية، فإذا جاءت طريق صحيحة فيها مبهم، لم يُسَمَّ، وجاءت تسميته من طريق ضعيفة، حُكم عليه بما يستحق.(1/87)
قلت: وفي هذا تفصيل: فإن كان المبهم رجلاً لم يُسمّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الرواية الضعيفة تسميته بصحابي؛ فلا يُقبل إثبات الصحبة بهذه الطريق، فإن إثبات الصحبة يترتب عليه عدد من الأحكام، ولا يُقبل ذلك بمجرد طريق ضعيفة، وقسْ على هذا أموراً أخرى.
وكذلك إذا اتحد المخرج؛ كان التعيين منكراً، والله أعلم.
الرابع: وذهب الجمهور إلى أن الحديث الضعيف يُعْمل به في فضائل الأعمال، ووضعوا لذلك شروطاً:
1- أن يكون الضعف غير شديد.
2- أن يكون معنى الحديث مندرجاً تحت أصل عام، واختُلف المراد بالأصل العام: فمنهم من قال: تشهد عمومات الشريعة، ومنهم من قال: أن يكون الحديث الضعيف قد جاء معنى من حديث صحيح أو حسن، لكن دون ذكر الثواب أو العقاب، وانفرد الضعيف بذكر ذلك، فليس في العمل به جديد إلا أنه يشوِّق ويرغب في العمل، أو يزيد النفس نفوراً عن الشيء الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح أو الحسن.
3- ألا يُعتقد عند العمل به ثبوته وإن كان في تصوُّر وقوع ذلك مشقة واضطراب، فكيف يُشوقه للعمل بالحديث الصحيح أو الحسن، وهو لا يعتقد ثبوته؟!
وذهب بعضهم إلى عدم بيان ضعفه؛ حتى لا يتردد سامعه في العمل به، وهذا يخالف هذا الشرط؛ فإن السامع إذا لم يعرف ضعفه، ويسمع نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه سيعتقد ثبوته، والله أعلم.
4- ألا يُظهر العمل به، أو يدعو إليه؛ حتى لا يُظن ثبوته.
5- أن يكون ذلك في غير الأحكام والعقائد.
6- ألا يعارضه ما هو أقوى منه.
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:
1- أن العمل في هذه الحالة ليس بمجرد الحديث الضعيف، إما هو بالحديث الصحيح أو الحسن.
قلت: مجرد التشويق والترغيب في العمل لمجرد الحديث الضعيف: فيه نوع عمل بالضعيف، كما لا يخفى.(1/88)
2- أن هذا قول جمهور العلماء، بل ادعى بعضهم الإجماع، ويجاب عنه: بأن دعوى الإجماع لا تصح، والجمهور ليس كلامهم حجة بمفرده، والعبرة بالأدلة.
الخامس: ذهب بعضهم إلى القول بمنع العمل بمجرد الحديث الضعيف مطلقاً –وهو الراجح- واستدلوا بأدلة، منها:
1- أن العمل بالحديث الضعيف عمل به مع الشك أو الظَن المرجوح ، وكلاهما مذموم .
2- أن الحديث الضعيف لايثبت شئ من الأحكام ، والاستحباب أو الكراهة من جملة الأحكام الخمسة .
3- أن ترك العمل به من باب سد الذرائع ؛ حتى لاتشيع الأحاديث الضعيفة بين الناس ، لاسيما وهناك من لم يبال من الخطباء والوعاظ شروط هذه القاعدة ،وتوسَّع في ذلك توسُّعًا غير مرضي.
4- هل عملنا بكل الصحيح والحسن ، حتى نحتاج إلى العمل بالضعيف ؟!
5- هذه القاعدة أفضت إلى إهدار كثير من جهود الأئمة في التحرز والوقاية من أن يُنْسب إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مالم يَقُلْه ، فاشتهرت الأحاديث الضعيفة بين الناس لعدة أسباب ، منها هذه القاعدة .
هذا، وقد اختصرتُ الكلام هنا اختصارًا ، وتوسَّعْتُ فيه في موضع آخر في شرحي " للموقظة " للذهبي ، وقد أُفْرد ذلك في شريطين بعنوان : " الطَّرْحُ والإهمال للحديث الضعيف في فضائل الأعمال " فيُرْجَع إليه هنالك ، والله أعلم وأحكم .
الحديث المرفوع
قال الناظم - رحمه الله - :
7 - وما أُضِيفَ للنبيّ المرفوعُ ... . . . . . . . . . . .
سبق أن تكلم الناظم - رحمه الله - على الحديث النبوي من جهة قبوله ورَدِّه ، وقَسَّم ذلك إلى صحيح، وحسن، وضعيف ، وقد تكلم في هذا البيت على الحديث النبوي من جهة إضافته إلى قائله ، فذكر ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وما أضيف إلى التابعي ، وسيأتي الكلام – إن شاء الله تعالى – على ما أضيف إلى الصحابي .(1/89)
وهذا يتصل بمباحث المتن ؛ لأن النظر فيه إلى قائله ، لا إلى اتصال سنده ، أو عدالة وضبط رواته(1)؛ والله أعلم .
وقول الناظم :"ما" أي المتن الذي " أضيف " أي عُزِي ونُسِبَ إليه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سواء كان من نسبه إليه صحابيا، أو تابعيا، أو من دونهما ، وسواء كان المعزو إليه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً ، أوفعلاً ، أو تقريرًا ، وسواء ثبت ذلك أم لا .
وتحت هذا الصدر من البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : سبب تقديم المرفوع على الموقوف والمقطوع ؟
قدم الناظم – رحمه الله – المرفوع لشرفه وعلو منزلته ، لأنه منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -(2)وهذا كما أنه قدم الصحيح على غيره للسبب نفسه.
?السألة الثانية : تعريف الحديث المرفوع ؟
هو "ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من قول،أو فعل، أو تقرير، أو صفة"(3).
وقولي : " ما أضيف " تقدم أن معناه : المتن الذي عزي ونسب .
وقولي : " من قول " كأن يقول: " قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كذا وكذا ، أو سمعته يقول كذا .
وقولي :" أو فعل " كأن يقول : " فعل رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -كذا وكذا .
وقولي : " أو تقرير " وهو عدم إنكاره –صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لأمر رآه ، أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع(4)؛ وخرج بذلك بعض أفعال الكفار التي لم يأت فيها بخصوصها عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إنكار ، لكونه يُنكر عليهم دينهم في الجملة ، والله أعلم .
__________
(1) انظر " النكت " ( 1 / 511 ) و " فتح المغيث " ( 1 / 118 ) .
(2) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 118 ) فقد قال السخاوي : " وقُدِّم على ما بعده لتمحُّضيه في شريف الإضافة " اهـ .
(3) انظر " فتح الباقي على ألفية العراقي " لزكريا الأنصاري .
(4) انظر " توجيه النظر " لطاهر الجزائري ( 1 / 37 ) .(1/90)
وقد عَدَّ العلماء هذا القسم من جملة المرفوع حُكْمًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لايسكت على المنكر ، بل لابد أن يبين أنه منكر ، وذلك لأمور :
1-أنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لاتأخذه في الله لومة لائم ، بل هو أحق الناس بذلك .
2-أنه معصوم من الخطأ في البلاغ ، فإذا سكت عن أمر عُلم أنه حق .
3-أن الشئ لو كان منهيًا عنه ؛ لنزل الوحي على رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يخبره بذلك .
وهذا بخلاف غيره ؛ فإنه قد يسكت على المنكر لأسباب ، منها :
1-أن يكون ذاهلا عنه.
2-الرهبة من فاعل المنكر ، أو الرغبة إليه .
3-أن يكون جاهلا بحكم ما فعله صاحب المنكر .
4-أن يكون متأولا لفعل صاحب المنكر ، فيرى أنه مصيب فيسكت عنه لذلك ، والواقع أن هذا الفعل ليس له وجه صحيح .
5-أن يكون مافعله الرجل من المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها السكوت عن المخالف ، فيسكت لذلك ، لا لأن مخالفه مصيب .
6-أن يترك تغيير المنكر خشية أن يؤول إلى مفسدة أكبر ، ولايُبَيِّن حكمه لذلك أيضًا .
وكل هذه الأسباب منتفية عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
فإن قيل : إن السبب السادس غير منتفٍ عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأنه قد يترك إنكار المنكر وذلك إذا كان سيؤول إلى مفسدة أكبر .
فالجواب : أن تَرْكه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تغيير المنكر بالقيد السابق؛ لايلزم منه عدم بيانه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن الشئ الفلاني منكر: كما قال لعائشة " لولا أن قومك حديثو عهد بكُفْر؛ لهدمت الكعبة ..." .
فأثبت أن بناء الكعبة ليس على قواعد إبراهيم ،مع تركه البناء على ما هو عليه ؛ مراعاة لحال قريش .(1/91)
ومن ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، في عبدالله بن أبي بن سلول - وقد استُؤْذِن في قتله : " دعه لايتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه " فلم ينكر أن ساب الرسول يُقْتل ، ولكنه تركه لأمر آخر ، فلا يُعَدُّ هذا سكوتا عن بيان المنكر ، بخلاف سكوت غيره .
وقد يجمع حديث واحد القول والفعل والتقرير، ومثال ذلك : حديث خالد - رضي الله عنه - في أكل الضب ، فقد ترك - النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الأكل من الضب ، وهذا فعل ، إذ التروك عند العلماء أفعال، وقال عندما سأله خالد : " أحرام هو ؟" فقال – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " لا ، إنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه " وهذا قول ، وأقر خالدًا على الأكل منه .
- وقولي :" أو صفة " يشمل الخُلُقية ، والخلْقية ، والأولى من باب الأفعال ، وأما الخلْقية : فهي ما أتى من الأحاديث في وصف خلقته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم كالطول ، واللون ،والشعر ، والوجه، ونحو ذلك ،وإن كان لاينبني عليها حكم شرعي – في الجملة – وأدخلتها في الحديث المرفوع؛ لأن أحاديث الشمائل – وهذا منها – مذكورة من جملة الأحاديث النبوية(1).
- فإن قيل : إن التقرير داخل في الأفعال ، فلا حاجة لذكره ، ويُكْتَفَى بذكر القول، والفعل، والوصف الخِلْقي ؟
فالجواب : أن السكوت المقصود – وإن كان فِعْلاً – إلا أن ذكر التقرير في هذا الموضع حَسَنٌ ؛ لأسباب :
1- دفع الإيهام ، فقد يظن بعضهم أن الاقتصار على الفعل لايدخل فيه التقرير ، فذُكر دفْعًا لذلك .
__________
(1) وقد قال الحافظ نحو ذلك ، انظر " فتح الباري " ( 13 / 266 ) ك / الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب الاقتداء بسنة رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، الحديث ( 7277 ) .(1/92)
2- لما كان سكوت الصحابي - فمن دونه – لا يُعَدُّ حكمًا يُنسب إليه ، بخلاف سكوت النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حَسُنَ ذِكْر التقرير في التعريف ؛ لإظهار الفرق بين سكوت النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وسكوت غيره .
3- أن القول فعل أيضًا، ومع ذلك فمن العلماء من نص على القول في التعريف، ولم يقتصروا في تعريف المرفوع على أنه : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأفعال ، باعتبار أن القول داخل في الفعل ، والجواب عن ذلك هو الجواب عن إظهار التقرير في التعريف ، والله أعلم .
فائدة : هذا التفصيل في تعريف المرفوع من باب التوضيح لما يشمله التعريف ، وإلا لو اقتصرنا على قول الناظم : " وما أضيف للنبي المرفوع" لكان ذلك مُتَّجها ، والله تعالى أعلم .
فائدة أخرى : وقد عرَّف الخطيب المرفوع بقوله : " والمرفوع : ما أخبر فيه الصحابي عن قول رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أو فعله "(1)ويلزم على هذا أن يكون كل ما لم يُذكر فيه الصحابي ؛ فلا يُسَمَّى مرفوعًا ، وفيه نظر .
قال الحافظ : " قلت : يجوز أن يكون الخطيب أورد ذلك على سبيل المثال ، لا على التقييد ، فلا يخرج عنه شئ ، وعلى تقدير أن يكون أراد جَعْلَ ذلك قيدًا ؛ فالذي يخرج عنه أعم من مرسل التابعي ، بل يكون كل ما أضيف إلى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لايُسمَّى مرفوعًا إلا إذا ذُكر فيه الصحابي – رضي الله عنه – والحق خلاف ذلك ، بل الرفع كما قررناه إنما يُنظر فيه إلى المتن دون الإسناد ، والله أعلم "(2)اهـ .
?المسألة الثالثة : أقسام الحديث المرفوع :
ينقسم الحديث المرفوع إلى قسمين : مرفوع تصريحًا، ومرفوع حكمًا(3).
__________
(1) انظر " الكفاية " ( ص 58 ) .
(2) انظر " النكت " ( 1 / 511 ) و " فتح المغيث " ( 1 / 118 ) و " التدريب" ( 1 / 184 ) .
(3) انظر " النرهة " ( ص 140 ) .(1/93)
1- المرفوع تصريحًا : هو كل ما أُضيف إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وقد تقدم الكلام على ذلك .
2- وأما المرفوع حكمًا : فهو في الأصل ليس منسوبا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - صراحة ، لكن يفهم بقرينة خارجية أن هذا الحكم لايكون إلا عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
?المسألة الرابعة : صور المرفوع حكمًا :
للمرفوع حكمًا صور كثيرة، منها :
1- قول الصحابي :" أُمِرْنا بكذا " أو : " نُهينا عن كذا " أو : " أُمِرَ فلان بكذا " أو " أُوجب علينا كذا " أو : " حُظر أو حُرِّم علينا كذا أو: "أُبيح أو رُخِّص لنا في كذا ".
(أ) فقول الصحابي: " أمرنا بكذا " أو " نهينا عن كذا " المتبادر منه أن الآمر والناهي لهم هو النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هذا هو الأصل ، لاسيما إذا كان ذلك في مسألة شرعية ، أو ساقه الصحابي مساق الاحتجاج به على حكم شرعي(1)، خلافا لمن قال : إنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي له في ذلك : أمر القرآن ، أو الأمة – أي الإجماع – أو بعض الأئمة والخلفاء ، أو القياس ، أو الاستنباط(2).
__________
(1) انظر كلام ابن الصلاح بنحو ذلك في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 69 ) وقد عزا القول بذلك لأصحاب الحديث ، وأكثر أهل العلم .
(2) وهذا كلام أبي الحسن الكرخي من الحنفية ، انظر " النكت " ( 2 / 520 ) و " النزهة " ( ص 146 ) .(1/94)
وقد حكى أبوالسعادات ابن الأثير عن بعضهم تفصيلاً في ذلك ، فقال : " وقال بعضهم : في هذا تفصيل : وذلك إن كان الراوي أبابكر الصديق – رضي الله عنه – فيُحمل على أن الآمر هو النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لأن غير النبي لا يأمره ، ولا التزم أمر غيره ، ولا تأمَّر عليه أحد من الصحابة ، فأما غير أبي بكر : فإذا قال : " أُمِرْنا " فإنه يجوز أن يكون الآمر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أو غيره ؛ لأن أبابكر تأمَّر على الصحابة ، ووجب عليهم امتثال أمره ، وقد كان غير أبي بكر – رضي الله عنه – أميرًا في زمن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وبعده ، فلا يجوز أن يُضاف الأمر إليهم "(1).
والظاهر أن هذا التخصيص لا يلزم،حتى قال الزركشي :" وهذا المذهب غريب جدًّا "(2).
ومن أمثلة هذه الصورة : ما جاء عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال :" أُمِرَ بلالٌ أن يشفع الأذان، ويُوتِرَ الإقامة " .
فمن ذا الذي أَمَره بهذا الأمر ؟ هل هو أبوبكر أو عمر - رضي الله عنهما - ؟ لايظن بهما أن يتقدما على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيأمرا بلالا في عهده - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بذلك ، وأما بعد عهده - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقد ذكر بعضهم أن بلالا لم يؤذن بعد موته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولو أَذَّن بلال بعد النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فلن يأمراه إلا بما ثبت عندهما عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثم كيف يأمرانه بما هو قائم به من قبل ؟!
وزاد السخاوي فقال : " ويتأيَّد بالرواية المصرحة بذلك "(3)اهـ .
ومحصَّل اعتراض من لم يعد قول الصحابي : " أُمِرْنا بكذا " – وما معناه من عبارات – من قبيل المرفوع : أمور ، فهي :
__________
(1) انظر مقدمة " جامع الأصول " ( 1 / 94 ) .
(2) انظر " النكت " للزركشي ( 1 / 427 ) .
(3) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 130 ) .(1/95)
1- أن يحتمل أن يكون الآمر غير رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وأمْر غيره ليس بمرفوع .
والجواب عن ذلك : أن هذا خلاف المتبادر ، والأصل أن الآمر هو رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وما عداه محتمل ، لكنه بالنسبة إلى الأول مرجوح ، وأيضًا فمن كان في طاعة رئيس ، إذا قال أمرتُ " لايُفْهَم عنه أن آمره إلا رئيسه(1).
وقد تعقب السخاوي – رحمه الله – كلام أبي الحسن الكرخي ، فقال: " وكذا ما أبداه الكرخي من الاحتمالات في المنع أيضًا بعيد ، كما قاله شيخنا ؛ فإن أمْر الكتاب ظاهر للكل ، فلا يختص بمعرفة الواحد دون غيره ، وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع ؛ لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه من النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -(2).
وأمْر الأمة لايمكن الحمل عليه ؛ لأن الصحابي من الأمة ، وهو لا يأمر نفسه .
وأمْر بعض الأئمة : إن أراد من الصحابة مطلقًا فبعيد ، لأن قوله ليس حجة على غيرهم منهم ، وإن أراد من الخلفاء فكذلك ؛ لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع في هذا الكلام والفتوى ، فيجب حمله على من صدر منه الشرع ، وبالجملة : فهم من حيث أنهم مجتهدون ؛ لايحتجون بأمر مجتهد آخر ، إلا أن يكون القائل ليس من مجتهدي الصحابة ، فيحتمل أنه يريد بالآمر أحد المجتهدين منهم.
وحمله على القياس والاستنباط بعيد أيضًا ؛ لأن قوله : " أُمِرْنا بكذا " يُفْهَم من حقيقة الأمر والنهي ، لاخصوص الأمر باتباع القياس "(3)اهـ .
وزاد الصنعاني في رده حمل الأمر على القياس : " . . . . وحمْله على القياس فبعيد ، كحمله على الاستنباط ؛ فإنه لايتبادر ذلك لسامع "(4).
__________
(1) انظر " النزهة" ( ص 146 ) .
(2) وجواب السخاوي بشقيه عن أمر القرآن فيه تأمل ونظر .
(3) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 131 – 132 ) وقد أخذه السخاوي من شيخه ؛ فإنه يكاد يكون هذا بلفظه في " النكت " ( 2 / 520 – 521 ) .
(4) انظر " توضيح الأفكار " ( 1 / 270 ) .(1/96)
2-ومما اعتُرِض به أيضًا : أن قول الصحابي : " أُمِرْنا بكذا " يحتمل أن الصحابي أخطأ في اجتهاده ، وظَنَّ ما ليس بأمْر أمرًا .
وأُجيب : بأنه احتمال ضعيف ؛ لأن الصحابي عدْل عارف باللسان ،ولايُطلق ذلك إلا بعد التحقق . اهـ(1).
3-ومما اعترض به أيضًا : أن هذه الصيغة وردت في أمْر من غير النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -(2).
ويجاب : بأن هذا خلاف الأصل لما سبق ، والعمل بالأصل حتى يظهر خلافه : هو الأصل ، والله أعلم .
2-وأما قول الصحابي: " كُنا نَفْعل كذا" فله حالان :
أ أن يُضَاف إلى زمن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كقول جابر - رضي الله عنه - :"كُنَّا نَعْزِلُ والقرآن يَنْزِل " يعني في حياته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فهذا على الأرجح من قبل المرفوع , فإن قوله: "كنا " يدل على التكثير والتكرار ، ويُسْتَبْعَد أن يُقَرُّوا على منكر مع كثرة إتيانهم إياه في زمن الوحي، الذي يخبر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بآحاد أفعال بعض الصحابة .
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 147 ) وانظر أيضًا مقدمة " جامع الأصول " لابن الأثير ( 1 / 92 ) ، بل انظر " الكفاية " ( ص 591 ) .
(2) انظر " التدريب " ( 1 / 189 ) .(1/97)
ب-أن تأتي هذه العبارة مجردة عن الإضافة: " كنا نفعل كذا " فالخلاف في هذه الصورة مشهور بين العلماء ؛ فمنهم من يقول: إن هذا من قبيل الموقوف ، ومنهم من يقول : هو من قبيل المرفوع، وهو الأرجح ، وذلك لأن قول الصحابي :" كنا نفعل كذا " يدل في الأصل على التكرار والتكثير ، فالظن بالصحابة - رضي الله عنهم - أنهم لايعملون الشئ، ويكثرون منه إلا إذا استشاروا النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو كان عندهم في ذلك مستند عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فهل يُعْقل أنهم يفعلون هذا الشئ بهذه الكثرة من عند أنفسهم ، دون أن يرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ هذا أمر مستبعد ، لاسيما إذا كان ذلك من الصحابي في معرض الاستدلال به على شرعية أمر ما ، والله أعلم(1).
وللعلماء مذاهب في قول الصحابي : " كنا نفعل كذا " بدون إضافة : فذهب بعضهم إلى إطلاق القبول ، سواء أضافه إلى زمن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أم لا ، وهذا صنيع الشيخين ، وأكثر منه البخاري ، ومنهم من فصَّل من جهة احتمال خفاء هذا الفعل فلا يُقبل ، أم لا ، ومنهم من فصَّل بين كون القائل من المجتهدين فلا يُقبل ، أم لا ، إذا الصحابي أورده في معرض الحجة ، انظر هذا كله في " النكت " للحافظ(2).
3-وكذا قول الصحابي : " كنا لانرى بأسا بكذا " فهو أيضًا من قبيل المرفوع – على الراجح – إلا أن يأتي دليل يمنع من ذلك ، فيقدم الدليل النصي على المرفوع الحكمي ، أو تظهر قرينة تدل على أنه لايراد بذلك عموم الصحابة ، ومما يشهد لهذين الأمرين : ما جاء في صحيح مسلم ( 1547) ك / البيوع / ب / كراء الأرض / عن ابن عمر قال : " كنا لانرى بالخَبْر – أي كراء الأرض – بأسا؛ حتى كان عام أول ؛ فزعم رافع أن ببيَّ الله نهى عنه " .
__________
(1) وانظر نحو ذلك في " الكفاية " للخطيب ( ص 594 – 595 ) .
(2) 2 / 515 – 516 ) .(1/98)
وفي رواية : أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وفي إمارة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وصدرًا من خلافة معاوية ، حتى بلغه من آخر خلافة معاوية: أن رافع بن خَديج يُحدِّث فيها بنهْي عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فدخل عليه وأنا معه ، فسأله ، فقال : " كان رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ينهى عن كراء المزارع " فتركها ابن عمر بعدُ ، وكان إذا سُئل عنها بعدُ قال : زعم رافع ابن خديج أن رسول الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم – نهى عنها .
وفي رواية : قال ابن عمر : لقد منعنا رافعٌ نَفْعَ أرضينا .(1)
قال الخطيب مستدلاً بذلك على أن الأصل جَعْلُ هذه الصيغة من قبيل المرفوع : " أفلا ترى أن ابن عمر لم يستجز أن يذكر ما كانوا يفعلونه من استكراء الأرض إلا بالجمع بينه وبين حديث رافع عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – في النهي عنه " اهـ(2).
قلت : فإذا وقفنا على هذه العبارة عن الصحابي ، ولم نجد خلاف ذلك في السنة ؛ فالأصل أنها تقرير ، وأنها من قبيل المرفوع ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ومع أن قول الصحابي : " كنا نرى كذا " له حكم الرفع ، فقد قال الحافظ : " ينقدح فيه من الاحتمال أكثر مما ينقدح في قوله : " كنا نقول ، أو نفعل " لأنها من الرأي ، ومستنده قد يكون تنصيصًا أو استنباطًا " اهـ(3).
فإن هذا يدل على أن ابن عمر كان يفعل ذلك، لاعموم الصحابة، ولما بلغه الدليل ترك ما كان يفعل، والله أعلم .
__________
(1) وانظر الحديث في " صحيح البخاري " أيضًا برقم( 2285، 2343 ) .
(2) انظر " الكفاية " ( ص 595 ) .
(3) انظر " النكت " ( 2 / 517 ) .(1/99)
4 – قول الصحابي : " من السنة كذا " الصحيح أن هذا له حكم الرفع؛ لأن المتبادر من هذه العبارة : أنها سنة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - خلافًا لمن قال : إنه من المحتمل أن تكون سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن هذا ليس هو الأصل ، فإن سنتهم تبعٌ لسنته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والحمل على الأصل أولى من الحمل على الفرع ، والظاهر من مقصود الصحابي بذلك إنما هو بيان الشريعة ونقلها ، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل ؛ أولى من إسناده إلى التابع ، والله أعلم(1).
5 – قول التابعي عن الصحابي : " يرْفَعُه"أو "مرفوعًا "أو " يسنده" أو"يبْلُغ به " أو " يَنْمِيه " أو يَرْويه " أو " رواة" أو "رواية " أو " قال : قال " دون ذكر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
فإن ذلك من قبيل المرفوع حُكْمًا(2).
واعلم أن القائل لهذه العبارات هو التابعي الراوي عن الصحابي ، والضمائر في قوله : " يرفعه " أو " ينميه " ... الخ ، راجعة إلى الصحابي، أي أن الصحابي - رضي الله عنه - هو الذي يرفع الحديث، أو ينميه إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
قلت هذا حتى لايلتبس الأمر على من وجد مثل هذه العبارات فيتوهم أن القائل لها هو الصحابي ، وقد بوب الخطيب في " الكفاية " بقوله : باب في قول التابعي عن الصحابي : " يرفع الحديث " و "ينميه " و " يبلغ به "(3).
(
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 525 ) .
(2) قال الخطيب في " الكفاية " ( ص 578 ) " كل هذه الألفاظ كناية عن رفع الصحابي الحديث ، وروايته إياه عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ولايختلف أهل العلم أن الحكم في هذه الأخبار ، وفيما صرح برفعه سواء في وجوب القبول ، والتزام العمل " اهـ
وقال ابن الصلاح : " وحُكم ذلك عند أهل العلم حكم المرفوع صريحًا " اهـ من " المقدمة "مع " التقييد "( ص70 ) .
(3) ص 585 ) .(1/100)
تنبيه ) : إذا قال الراوي عن التابعي : يرفعه " أو " يبلغ به " فذلك أيضًا مرفوع ، ولكنه مرفوع مرسل ، قاله ابن الصلاح(1).
( تنبيه آخر ) : قول التابعي : " يرفعه " أبلغ في الرفع من قوله : " من السنة " قاله الزركشي(2).
وكذا يقال في :" قال : قال " فمثلا لو فرضنا أن عندنا إسنادا من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : قال : قال " ... الحديث " دون أن يقول :" قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " فالقائل :" قال : قال " هو سعيد بن المسيب ، وفاعل " قال " الأولى هو أبوهريرة - رضي الله عنه - وفاعل " قال " الثانية هو رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -(3).
ويُلْحَق بذلك ما إذا قال الصحابي : " قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يرفعه " ويُعَدُّ ذلك من الأحاديث القدسية حُكْمًا(4).
وجعل العلماء هذه العبارة من قبيل المرفوع حُكْمًا؛ لأنها قد دخلها الاحتمال، أي أنها محتملة أن يكون القائل في " قال " الثانية أبابكر أو عمر –رضي الله عنهما –فهذا الاحتمال – وإن كان بعيدا – إلا أنه قد حمل العلماء أن يجعلوا هذه العبارة وأمثالها من قبيل المرفوع حُكْمًا لاتصريحا .
فإن قيل : لماذا عدل التابعي إلى مثل هذه العبارات ، ولم يأت بالعبارات الصريحة، فيقول عن الصحابي: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " أو نحو ذلك .
__________
(1) انظر " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 70 ) وصرح الزركشي بأنه ينبغي أن يكون فيه خلاف ، كقول التابعي : من السنة كذا " انظر " النكت " للزركشي ( 1 /437 ) وإن كان السخاوي قال في " فتح المغيث " مرسل مرفوع بلا خلاف " اهـ ( 1 / 146 ) وانظر " إتحاف النبيل " ( 2 / 265 ) السؤال ( 231 ).
(2) انظر " النكت " للزركشي ( 1/ 437 ) .
(3) انظر " شرح النزهة " لملا علي القاري ( ص 559 – 560 ) .
(4) انظر " النكت " ( 2 / 538 – 539 ) و " فتح المغيث " ( 1 / 145 ) .(1/101)
والجواب : أن هذا راجع إلى ورع التابعي، وذلك أنه قد يكون نسي الصيغة التي حدثه بها الصحابي - مع ثقته بصحة نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فخاف أن يأتي بصيغة من صيغ التحمل - مع شكه فيها – ويكون الأمر على خلاف ذلك، فأتى بصيغة محتملة تحتمل هذا وذاك ، ويحتمل أن يكون ذلك طلبا منه للتخفيف والاختصار ،أو قد يكون التابعي شاكا في نسبة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -(1)وعندي في ذلك تأمل، إذْ كيف يليق بالتابعي العدل أن يجزم بما هو شاك في ثبوته ؟! إلا أن يقال : باب الرواية فيه توسُّع، بخلاف باب الاحتجاج والعمل ، والله أعلم.
6 – إخبار الصحابي بما يقال بالرأي والاجتهاد ،أوله تعلق باللغة ،أو شرح غريب ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق ، وأخبار الأنبياء – عليهم السلام – أو الآتية كالملاحم ، والفتن ، وأحوال يوم القيامة ، وكذا الأخبار عما يحصل بفعل ثواب مخصوص ، أو عقاب مخصوص ،بشرط ألايكون الصحابي ممن يأخذ عن بني إسرائيل(2).
وواضح من هذا أن إدخال هذا القسم فيما له حكم الرفع ؛ له عدة شروط :
أ – أن يكون القائل صحابيا ، فإن كان تابعيا اختلف الحكم .
ب – ألا يكون الصحابي ممن يأخذ عن بني إسرائيل ، فإن كان كذلك؛ فليس لروايته التي تحتمل أن تكون عن بني إسرائيل حكم الرفع ، لأنه – والحالة هذه – يحتمل أن يكون أخذه عنهم ، وكلامهم ليس حجة في ديننا.
( تنبيه ) : الصحابي – وإن كان ممن يأخذ عن بني إسرائيل – إن روى شيئًا ليس لأخبار بني إسرائل فيه احتمال أو مدخل ؛ فإن له حكم الرفع ، وذلك كأن يروي شيئًا له صلة بالأحكام الشرعية ، أو يتصل بنبينا محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وما أعدَّ الله له من جزاء وثواب ، ونحو ذلك ، فهذا يكون مرفوعًا ، لا من أخبار بني إسرائيل .
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 537 ) و " فتح المغيث " ( 1 / 144 – 145 ) .
(2) انظر " النزهة " ( ص 141 ) .(1/102)
وقد ذكر الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسير " سورة الضحى " ،عند قوله تعالى : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) قول ابن عباس : " عُرِض على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزًا كنزًا ، فسُرَّ بذلك ، فأنزل الله ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فأعطاه في الجنة ألف قَصْر ، في كل قَصْر ما ينبغي له من الأزواج والخدم .
قال الحافظ ابن كثير : رواه ابن جرير من طريقه ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف " اهـ. هذا مع نص الحافظ ابن كثير أن ابن عباس ممن يروي في بعض الأحيان عن بني إسرائيل(1).
وذلك لأن كفار بني إسرائيل لايؤمنون برسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ولايحكون عما له ولأمته من الثواب عند الله عزوجل .
ج – أن يكون هذا الأمر المخبر عنه لايقال بالرأي ونحوه ، كالإخبار عن حال أهل الجنة ، أو أهل النار ، أو عما يكون في القبر، ونحو ذلك من الأمور التي ليس للاجتهاد فيها مجال .
__________
(1) انظر مقدمة " تفسير ابن كثير " ( 1 / 8 ) ط / دار طيبه .(1/103)
ووجْه إدخال هذه الصورة في قسم المرفوع حُكْمًا: أن الصحابة - رضي الله عنهم - أشد الناس حذرًا من القول على الله بغير علم ، وما كان الواحد منهم يذكر أمرا غيبيا ،ويذكر أن الله عزوجل يقول لمن فعل كذا : كذا وكذا ، أو أو أنه يكرمه أو يعاقبه بكذا ، ونحو ذلك دون أن يكون له في ذلك حجة، فمن المستبعد أن يهجم الصحابي على هذا الأمر دون مستند عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأن هذا الأمر – بهذا التفصيل – لايؤخذ من قواعد الشريعة فقط، إنما يؤخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو من أخبار أهل الكتاب ، فلما اشترط العلماء ألايكون الصحابي ممن يأخذ عن أهل الكتاب؛ ترجَّح الأمر الآخر، وهو الأخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وانظر نحو ذلك ملخصًا في " النزهة "(1)والله تعالى أعلم .
( تنبيه ) : قال السخاوي : " إذا عُلم هذا ؛ فقد ألحق ابن العربي بالصحابة في ذلك ما يجئ عند التابعين أيضًا ، مما لامجال فيه ، فنصَّ أن يكون في حكم المرفوع ، وادعى أنه مذهب مالك " ، قال : - والظاهر أن القائل ابن العربي - : " ولهذا أدخل – يعني مالكًا – عن سعيد بن المسيب صلاة الملائكة خلف المصلي " اهـ(2).
ولعل المراد بذلك : أن له حُكم المرفوع المرسل ، والله أعلم .
ومن ذلك أيضًا: حُكْم الصحابي على الشئ بأنه معصية، أو نسبة الصحابي فاعله إلى الكفر والعصيان ، ما لم يكن ذلك من قبيل الاجتهاد ، لأن الصحابي قد يحكم على الشئ بأنه معصية – إذا لم ينسب ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – اجتهادًا منه ، إما أَخْذًا بظاهر آية، أو بنصٍّ عام، أو بالنظر إلى كليات الشريعة، ونحو ذلك .
__________
(1) ص 142 ) .
(2) " فتح المغيث " ( 1 / 152 – 153 ) .(1/104)
وإذا كان كذلك ؛ فقد يرى الصحابيُّ الدليل الدال على التحريم صحيحًا ، وغيره لايراه كذلك ، أو يوافقه غيره على صحة الدليل؛ لكن يعارضه عنده ما هو أقوى منه وأنهض في الدلالة ، من هذا الدليل .
أما إذا صرح الصحابي بأن هذا الشئ معصية أو كفر ، ولم يكن ذلك من قبيل الرأي والاجتهاد ، وكذا لايكون الصحابي ممن يروي عن أهل الكتاب ؛ فالظاهر أن عنده نصًّا بذلك عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والله أعلم .
وقد ذكر الحافظ في " النكت "(1)أن ابن عبدالبر حكى الإجماع على أن هذا الحكم من الصحابي مسند .
قال : وبذلك جزم الحاكم في " علوم الحديث " اهـ .
قال السخاوي مستظهرًا القول برفع ما هذا سبيله : " ومن الأدلة للأظهر : أن أبا هريرة – رضي الله عنه – حدَّث كعب الأحبار بحديث : " فُقِدَتْ أمَّةٌ من بني إسرائيل ، لايُدْرَى ما فَعَلَتْ " قال كعب : أأنت سمعتَ النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – يقوله ؟ فقال له أبوهريرة : نعم ، وتكرر ذلك مرارًا ، فقال له أبوهريرة : أفأقرأ التوراة ؟!! أخرجه البخاري.
قال : قال شيخنا : فيه أن أبا هريرة لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب ، وأن الصحابي الذي يكون كذلك، إذا أخبر بما لا مجال للرأي والاجتهاد فيه؛ يكون للحديث حكم الرفع " اهـ .
قال السخاوي : " وهذا يقتضي تقييد الحكم بالرفع لصدوره عمن لم يأخذ عن أهل الكتاب "(2).
فإن قيل : يُحتمل أن الصحابي الذي لايأخذ عن أهل الكتاب يأخذ عن صحابي آخر يأخذ عنهم ، فيعود الكلام - وإن كان لامجال للرأي فيه ، وراويه لايروي عن الإسرائيليات – إلى أهل الكتاب .
فالجواب : أن هذا خلاف الأصل ، وما كان كذلك ؛ فلا يُعَوَّل عليه إلابدليل يدل عليه ، ولو طردنا مثل هذه الاحتمالات؛ لأسقطنا أشياء كثيرة يُحتج بها عند أهل العلم ،والله أعلم .
__________
(1) 2 / 529 – 530 ) .
(2) " فتح المغيث " ( 1 / 150 ) وانظر كلام الحافظ في " الفتح " ( 6 / 407 ) الحديث ( 3305 ) .(1/105)
هذا ، وقد مثَّل جماعة من أهل العلم لهذه القاعدة بعدد من الأحاديث ؛ وعندي أنها لا تسلم من احتمال استدلال الصحابي بالقواعد العامة ، أو نصٍّ آخر ، ونحو ذلك ، فينظر المثال السالم من الاحتمال ، والله أعلم .
7 –حكاية الصحابي لسبب النزول ، وهو إخبار الصحابي عن نزول آية من آيات الكتاب العزيز، فهذا من قبيل المرفوع حُكْمًا وذلك لأن الصحابي قد شهد الوحي والتنزيل ، فهو يعلم عن سبب نزول هذه الآية ما لايعلمه غيره(1)،فمن ذلك قول جابر كانت اليهود تقول : " من أتى امرأة في دبرها جاءالولد أحول ، فأنزل الله عزوجل : ( نسائكم حرث لكم . . . ) الآية ، أخرجه البخاري ومسلم ، وأطلق بعضهم أن تفسير الصحابي له حكم الرفع(2)،
__________
(1) وقد ذهب إلى هذا الخطيب في " الجامع " ( 2 / 291 - 292) والنووي في " التقريب " ( 1 /192 – 193 ) من " التدريب " و " الإرشاد " ( 1 / 164 – 165 ) وابن الصلاح في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 70 ) بل ذكر شيخ الإسلام في " مجموع الفتاوى " ( 13 / 340 ) أنه طريقة أصحاب المسانيد كلهم جَعْل هذا من قبيل المسند ، والله أعلم .
(2) وقد ذهب إلى ذلك الحاكم في " المستدرك " ( 1 /542 ) وعدَّه من صنيع الشيخين ، وكذا في " ( 1 / 123 ) وقد ذكر العراقي في " شرح الألفية " ( 1 / 132 ) أن هذا مذهب الحاكم ، ونقل عنه أنه قال : " ليعْلم طالب العلم أن تفسير الصحابي ، الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند " اهـ . وكذا ذكره ابن الملقِّن في " المقنع " ( 1 / 127 – 128 ) .
وكلام الحاكم في " المستدرك " وإن كان عامًّا ؛ إلا أن له كلامًا آخر في " علوم الحديث " ( ص 20 ) يدل على أنه يذهب إلى التفرقة بين مطلق التفسير ، وذكر سبب النزول ، فقد قال: " فإما ما نقول في تفسير الصحابي مسند ؛ فإنما نقوله في غير هذا النوع . . . " ثم ذكر حديث جابر السابق ، ثم قال : " فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ، فأخبر عن آية من القرآن ، أنها نزلت في كذا وكذا ؛ فإنه حديث مسند " اهـ .
وقد تنبه السيوطي لذلك ، فقال : " فالحاكم أطلق في "المستدرك " وخصص في " علوم الحديث " ، فاعتمد الناس تخصيصه . . . ." اهـ من " التدريب " ( 1 / 193 ) .(1/106)
وهذا الإطلاق غير صحيح ؛ إذ أن الصحابة قد يختلفون في تفسر آية ما ، وليس من الممكن أن نأخذ بتفسير الجميع ، ولا يستقيم – أيضًا – أن نجمع بين تفاسيرهم كما نجمع بين الأحاديث المرفوعة .
وقسم ابن عباس – رضي الله عنهما – التفسير إلى أربعة أوجه :
1-تفسير يعرفه كل الناس ، أو لا يُعْذر أحد بجهالته .
2-تفسير يعرفه العلماء.
3- تفسير يُعْرف من لغة العرب.
4- تفسير استأثر الله تعالى بعلمه(1).
فالأول والثالث والرابع : لايستقيم أبدًا أن نقول : إن لها حكم الرفع ، أما القسم الثاني فذهب من قَسَّم هذا التقسم إلى أن له حكم الرفع .
وعندي أن إطلاق هذا ليس بلازم – أيضًا – فإن التفسير الذي يعرفه العلماء : قد تكون معرفتهم به مأخوذة عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وقد تكون ناشئة عن فقههم في كليات الشريعة وأحكامها، وهذا أمر اجتهادي راجع إلى فهم العالم في كتاب الله - عزوجل - وهذا هو الأغلب، ولو كان عند الصحابي تفسير عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فالأصل أنه يعزوه إليه .
وعلى هذا : فلا يلزم من ذلك أن يكون التفسير مرفوعًا ، فلم يبق معنا إلا حكاية الصحابي سبب النزول، فهو الذي له حكم الرفع دون ما سواه ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن هناك فرْقًا بين قول الصحابي : " نزلت هذه الآية في كذا" وبين قوله : " سبب نزول الآية كذا " .
فجعل القول الثاني من قبيل المسند عند جميع أصحاب المسانيد .
وأما القول الأول : ففيه نزاع بين العلماء ، فالبخاري يدخله في المسند، فيكون من باب الرواية ، وأحمد لايدخله ، فيكون من باب التفسير ، والله أعلم(2).
(
__________
(1) انظر " تفسر الطبري " ( 1 / 75 ) و مقدمة " تفسير ابن كثير " ( 1 / 14 ) .
(2) انظر " مجموع الفتاوى " ( 13 / 340 ) و " المسوّدة " ( ص 299 ) .(1/107)
تنبيه ) : فإن قيل : إن الصور السابقة في المرفوع الحكمي من جملة السنة التقريرية؟
فالجواب : أن في هذا الإطلاق نظرًا؛ فإن أكثر الصور السابقة لاتدخل في صور التقرير كقول الصحابي: " من فعل كذا؛ فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " فإن ذلك لايدخل في التقرير ؛ لأن مستند الصحابي الذي يحمله على هذه الفتوى قد يكون قوليًّا، أو فعليًّا، أوتقريريًّا ، وكذا قوله :" أُمِرْنا، ونُهينا " فإن مستنده في ذلك سنة قولية .
وكذلك سبب النزول ، والإخبار بأمر غيبي، وقول التابعي : " يرفعه " وما في معناه لايلزم في هذا كله أن يكون تقريرًا.
نعم قول الصحابي: " كنا نفعل كذا " أو " كنا لانرى بأسًا بكذا " عُدَّ من قبيل المرفوع من قِبَل إقرار النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لهم على ذلك .
ومن المعلوم أن منزلة التقرير المنصوص على كونه في حضرة النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أعلى منزلة من التقرير المستنبط من قول الصحابي " كنا نفعل كذا " وما في معناه ، والله أعلم .
?المسألة الخامسة :نجد في بعض كتب العلل أن بعض العلماء يقول في بعض الأحاديث: "رفعه فلان ، وأرسله فلان .." وقد اعترض بعضهم – وأظنه ابن حبان – على هذا بأن المرسل من جملة المرفوع ، فيكون المعنى واحدًا، وإنما صواب العبارة أن يقال: " أرسله فلان ، وأسنده فلان ..."
وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأن مقصود من أطلق العبارة السابقة بالرفع الاتصال، فيكون معنى العبارة " أرسله فلان ، ووصله فلان "(1).
__________
(1) انظر كلام العراقي في" الألفية " مع " فتح المغيث " للسخاوي ( 1 /118 ) فقد قال العراقي :
ومَنْ يُقَابلهُ بذي الإرسال . . . فقدْ عَنَى بذاك ذا اتصالِ.
وقد سبق إلى ذلك ابن الصلاح أيضًا في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 66 ) والله أعلم .(1/108)
إلا أن هذا الجواب ليس دقيقًا ، وذلك لأن الرفع في اصطلاحهم هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وإن لم يكن متصلاً ، فكيف يفسر الرفع بالاتصال مع أنه لاتلازم بينهما ، والأمر في ذلك سهل ، والله أعلم ؟ .
وعلى كل حال : فالتنبيه على هذا لايخلو من فائدة ، وإن كان لا يغير من الواقع شيئًا ، لأن كلام العلماء قد دُوِّن عنهم ، فما بقي إلا محاولة فهمه على ما أرادوه ، أما المحققون للأحاديث فيما بعد عصور العلماء؛ فالأوْلى أن يراعوا ماسبق ، والله أعلم .
المقطوع
قال الناظم - رحمه الله - :
. . . . . . . . . . . . . . ... وما لتابعٍ هو المقطوعُ
بعد أن ذكر الناظم - رحمه الله – الحديث المرفوع؛ ثَنَّى بالكلام على المقطوع، مع ذكره لحده .
فقوله: " وما " معطوف على قوله - فيما سبق - : " وما أُضيفَ للنبي المرفوع " فمعنى البيت " وما أُضيفَ لتابعٍ هو المقطوع " وعلى هذا فيكون تعريف المقطوع عند الناظم، هو : " ما أضيف إلى التابعي من قول أو فعل " .
وتحت هذا العَجُز من البيت مسائل :
?المسألة الأولى : قد يُعترض على الناظم - رحمه الله - ذِكْره المقطوع عقيب المرفوع وقبل الموقوف، وكان الأولى به تقديم الكلام على الموقوف؛ لأنه أشرف من المقطوع ، لأن الموقوف منسوب إلى الصحابة – رضي الله عنهم - .
?المسألة الثانية : تعريف التابعي :
للعلماء في تعريف التابعي قولان مشهوران :
1- فمنهم من يقول :" هو مَنْ لَقِيَ الصحابيَّ وإن لم يصحبه " وهو الذي عليه عمل الأكثرين من أئمة الحديث(1).
__________
(1) انظر كلام العراقي في " التقييد " ( 317 – 318 ) و " شرح الألفية " ( 3 / 45 ) .(1/109)
2- ومنهم من يقول :" هو من صحب صحابيًّا "(1)ولايكتفي فيه بمجرد اللُّقِي .
( تنبيه ) : لا يُشترط في التابعي أن يكون مؤمنًا حال لقائه الصحابي ، فقد يراه وهو كافر ، ثم يُسْلم بعد ذلك(2)،وكذلك لايُشترط أن يسمع منه(3).
واختار الحافظ في " النزهة "(4)والسخاوي في" فتح المغيث "(5)أنه لايُشترط أن يكون التابعي حال لقاء الصحابي مميزًا ، وعندي في ذلك وقفة ؛إذْ كيف يُعَدَّ ذلك لقاءً أو رؤية والتابعي طفل ابن يوم أو يومين ؟!
فإن قيل : يُعَدُّ تابعيًّا ، كما عُدَّ صغار الصحابة في الصحابة،وإن كانت روايتهم مرسلة .
__________
(1) قاله الخطيب في " الكفاية " ( ص 59 ) . إلا أن العراقي ذكر كلامًا للخطيب في جزء جَمَع فيه رواية الستة من التابعين بعضهم عن بعض ، وذكر منصور المعتمر في التابعين ، مع تصريحه بأنه لم يسمع من ابن أبي أوقى ؛ إنما له رؤية فقط ، وقال العراقي : " ويُحمل قوله في " الكفاية " : " من صَحِبَ الصحابي " على أن المراد اللُّقِيِ ؛ جمْعًا بين كلاميْه ، والله أعلم اهـ من " التقييد " ( ص 319 ) .
(2) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 147 ) وحاشية الكمال بن أبي شريف ( ص 117 ) وفي " التقييد " ( ص 320 ) قال العراقي : " وأهل الحديث وإن أطلقوا : أن التابعي : من لقي أحدًا من الصحابة ، فمرادهم مع الإسلام " اهـ . وعندي :أنه لايلزم من ذلك وجود الإسلام حال اللقاء ، بل قد يُحمل على وجود الإسلام ولو بعد اللقاء ، بل قد يُحمل على وجود الإسلام ولو بعد اللقاء ، فإن من لم يسلم ليس تابعيًّا وإن لقي الصحابي ، والله أعلم .
(3) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 145 ) .
(4) ص 152 ) .
(5) 4 / 145 ) ويستفاد من كلامه أن الإطلاق قول الأكثر ، لأنه لم يذكر عن أحد أنه قيّد ذلك إلا ابن حبان .(1/110)
فالجواب : إنما عُدَّ هؤلاء في الصحابة لشرف الرؤية ، وليست رؤية النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كرؤية غيره ن فهذا قياس مع الفارق .
ولعله لذلك اشترط ابن حبان أن يكون التابعي في حال لقائه الصحابي في سن البالغ الذي يحفظ(1).
وعندي أنه لايشترط البلوغ ، والتمييز كافٍ ، ولكن الأكثر أطلقوا ، فالله أعلم .
(المسألة الثالثة : التابعون طبقات :
أ – فمنهم طبقة كبار التابعين .
ب – ومنهم طبقة متوسطيهم .
ج – ومنهم طبقة صغارهم .
وللعلماء أقوال في الضابط الذي يُعْرَف به كون التابعي كبيرًا أم صغيرًا :
1-فمنهم من يقول : إذا لقي جماعة من الصحابة؛ فهو كبير بخلاف من لقي الواحد والاثنين ونحو ذلك .
2-ومنهم من يقول : إذا لقي كبار الصحابة فهو كبير ، بخلاف ما إذا لقي صغارهم .
3 – ومنهم من يقول : هو من كانت أكثر رواياته عن الصحابة بخلاف من كانت أكثر رواياته عن التابعين(2).
وهذه الأقوال قد تكون في حق بعض الرواة قولاً واحدًا ، فقد يلقى أحدهم كبار الصحابة ، ويتضمن ذلك رواية جماعة منهم ، وتكون أكثر رواياته عنهم ، والله أعلم.
?المسألة الرابعة : تعريف الحديث المقطوع :
اعلم - رحمك الله - أن الحديث المقطوع:" هو ما أضيف إلى التابعي قولاً أو فعلاً وأما التقرير ففي إطلاق نسبته إلى غير النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – نظر ، سبق تفصيله في المرفوع ، وسيأتي – إن شاء الله تعالى – في الموقوف ، والله أعلم .
(
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 146 ) وانظر كلام ابن حبان في " الثقات " ( 6 / 270 ) .
(2) وانظر هذه الأقوال مفرَّقة في : " المقدمة " لابن الصلاح مع " التقييد " ( ص 70 ،72 ) و " النكت " ( 2 / 558 ) و " فتح المغيث " ( 1 / 178 ) .(1/111)
تنبيه ) تسمية ما أُضيفَ إلى التابعي من قول، أو فعل، بالمقطوع: هو المشهور في الكتب المصنفة في علوم الحديث ، وقد سماه البرديجي بالمنقطع ، وسمى الشافعي، والطبراني، والحميدي ، والدارقطني ،وغيرهم المنقطع مقطوعًا(1).
?المسألة الخامسة : الفرق بين المنقطع والمقطوع :
بينهما فرق من جهتين :
1- من جهة التعريف : فالمقطوع سبق تعريفه ، والمنقطع :" هو ما سقط من أثناء سنده راوٍ أو أكثر ، ليس على التوالي " .
2- أن المنقطع من مباحث السند ، وأما المقطوع فمن مباحث المتن ، فافترقا .
?المسألة السادسة : هل يقال فيما أضيف إلى التابعي ، وقد اتصل سنده : مقطوع متصل ؟
الجواب : منع الجمهور من إطلاق ذلك، بل ينبغي أن يُقَيَّد ذلك ، فيقال : " هذا متصل إلى سعيد بن المسيب " – مثلا – والسر في ذلك أن المقطوع هو بظاهره اللغوي ضد المتصل ، فيفهم من ذلك الحكم على الأثر بحكمين متضادين، وليس هذا مرادًا عند من أطلق ذلك ، فينبغي التقييد حذرًا من التنافر لغة ، والله أعلم(2).
?المسألة السابعة : ما هي الفائدة من كتابة آثار التابعين، مع أنها ليست حجة لذاتها ؟
والجواب : أن لذلك فوائد كثيرة منها :
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 514 ) و " فتح المغيث " ( 1 / 126 ) وعدّ ابن الصلاح المذهب الذي ذهب إليه البرديجي – وإن لم يصرح باسمه – غريبًا بعيدًا ، انظر " المقدمة" مع " التقييد " (ص 81 ) .
قلت : لقد سُبق البرديجي إلى ذلك البخاري ، فالبخاري يُطلق الانقطاع في " التاريخ الكبير " في عدة مواضع على قول من دون الصحابي ، انظر " ترجمة أيوب بن أبي كثير " ( 1 /421 ) .
(2) انظر " شرح الألفية " ( 1 / 121 ) و " فتح المغيث " للسحاوي ( 1 / 123 ) و " فتح الباقي " لزكريا الأنصاري ( 1 / 122 ) .(1/112)
1-أنه قد تعرف بآثار التابعين علة الأحاديث المرفوعة، وذلك كما إذا رُوي حديث تارة مرفوعًا، وتارة مقطوعًا من مخرج واحد ،وكان من رواه مقطوعًا أرجح ممن رواه مرفوعًا ، فرواية المقطوع بَيَّنَتْ علة المرفوع .
وقد ذكر الخطيب السبب في كتابة الأحاديث المنقطعة المرسلة ، وإن لم يكن حجة عند قوم فقال : " . . . . ومن لم يرها كذلك – أي حجة – من نُقَّاد الآثار ، وحُفَّاظ الأخبار ؛ فإن يكتبها للاعتبار بها ، وليجعلها(1)علة لغيرها "
ثم ساق سنده إلى الميموني ، فقال : تَعجَّب إلىَّ أبوعبدالله – يعني أحمد بن حنبل – ممن يكتب الإسناد ، وَيَدع المنقطع ، ثم قال : وربما كان المنقطع أقوى إسنادًا أو أكبر .
قال الميموني : قلت : بيِّنْه لي كيف ؟ قال : " يُكتب الإسناد متصلاً وهو ضعيف ، ويكون المنقطع أقوى إسنادًا منه ،وهو يرفعه ثم يُسنده ، وقد كتبه هو على أنه متصل ، وهو يزعم أنه لايكتب إلا ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – .
قال الميموني : معناه : لوكتب الإسنادين جميعًا ؛ عَرف المتصل من المنقطع ، يعني ضعْف ذا ، وقوة ذا " اهـ(2).
2-بعض أقوال التابعين لها حكم الرفع عند بعض العلماء كقول التابعي " من السنة كذا " أو " أمرنا بكذا " أو يذكر أمرا غيبيا لامجال للاجتهاد، فيه فيكون بمثابة الحديث المرسل الذي قد يرتقي بالشواهد إلى درجة القبول، ومنهم من يراه في حكم الموقوف ، والموقوف قد يستشهد به في مواضع ، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى – والله أعلم .
وقد عدَّ السخاوي المقطوع أحد ما يعتضد به المرسل ، وأطلق ذلك(3)، والصواب التقييد ، والله أعلم .
__________
(1) وفي المطبوعة : " ولن يجعلها . . . " وهذا خطأ مخالف للسياق ، فتأمل .
(2) انظر " الجامع " للخطيب ( 2 / 280 ) برقم ( 1634 ) .
(3) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 126 ) .(1/113)
3-أن كلام التابعين من جملة كلام السلف، ونحن إنما نفهم الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة – وعلى رأسهم الصحابة والتابعون – ولا نستقل بفهمهما دونهم ، فعندما نعرف أقوال التابعين - بعد ثبوتها إليهم - نستطيع أن نقول: إن هذا القول الذي قلنا به قد قال به فلان وفلان من التابعين ، ونستطيع أيضا أن نتحاشى الأقوال التي لم يقل بها أحد من السلف(1).
4- ونستفيد – أيضًا – من كتابة آثار التابعين معرفة اختلافهم واتفاقهم، فما أجمعوا عليه لم نخرج عنه ، وما اختلفوا فيه تخيرنا منه ما نرى أنه الصحيح الموافق للأدلة والقواعد ، ولم نُحْدِث قولا جديدًا من عند أنفسنا ، ونشذ عن مذاهبهم(2).
5- أنه بمعرفة اختلاف أقوال التابعين: يسوغ للمجتهد الاجتهاد في اختيار القول الذي يراه أقرب إلى الحق، وكونه اجتهد ووافق اجتهاده قولا قد سُبِق إليه؛ يجعل العلماء لاينكرون عليه إنكارهم على من خرق الإجماع ، ولاينسبونه بذلك إلى تكفير، أو تفسيق ، أو تضليل ؛ لأن المسألة اجتهادية يسوغ فيها الخلاف ، وشيخ الإسلام ابن تيمية يُكثر من ذلك .
6-وربما يتضح بالمقاطيع المعنى المحتمل من المرفوع ، قاله السخاوي(3).
(تنبيه ) : اعترض الزركشي على إدخال المقطوع في أنواع الحديث ، فقال : " في إدخاله في أنواع الحديث تسامح كثير ح فإن أقوال التابعين ومذاهبهم لا مدخل لها في احديث ، فكيف يكون نوعًا منه " ؟(4)
__________
(1) انظر " المدخل إلى السنة الكبرى " ( ص 35 ) و " رسالة عبدوس " ( ص 25 ) .
(2) انظر " الجامع " للخطيب ( 2 / 281 ) برقم ( 1636 ) .
(3) انظر "فتح المغيث " ( 1 / 126 ) .
(4) انظر " النكت " للزركشي ( 1 / 421 ) .(1/114)
والجواب : أن ما سبق من كلام الإمام أحمد الذي ذكره الخطيب عن الميموني عن أحمد – وإن كان في غير المقاطيع – فإنه يشير إلى رد هذا الاعتراض ، للعلة نفسها ، وأيضًا فكلام التابعين الذي له حكم الرفع يدفع هذا الإطلاق ،وقد تنبَّه الزركشي لذلك ، فقال بعد كلامه السابق : " نعم ، يجئ هنا ما بُيِّن في " الموقوف " من أنه إذا كان أدخل عن سعيد بن المسيب صلاة الملائكة خلف الصفوف . . . " اهـ(1)
وبهذا الجواب الثاني دَفَع السخاوي هذا الاعتراض أيضًا(2)، والله أعلم .
وقد يُضاف إلى ذلك : أن من المحدثين من أطلق كلمة " الحديث على المقاطيع ، كما مرَّ بنا في " الصحيح " من كلام البيهقي وغيره في تفسير كلام أحمد وغيره ، ولذا حَسُن معرفة هذا النوع من جملة أنواع علوم الحديث ، والله أعلم .
?( خاتمة ) : الأثر يُطْلق على الموقوف، والمقطوع، وهو في الموقوف أكثر، ومن العلماء مَنْ يُطْلِق الأثر على ما يشمل الجميع من مرفوع، وموقوف، ومقطوع(3)، والله أعلم .
الحديث المسند والمتصل
قال الناظم – رحمه الله - :
8 – والمسندُ المتصلُ الإسنادِ مِنْ ... راويه حتى المصطفى ولم يَبِنْ
تكلم الناظم - رحمه الله - في هذين البيت على الحديث المسند .
وقوله : " راويه " يعني به المصنفَ الذي خَرَّج الحديث : كالبخاري، ومسلم، وغيرهما، وليس المراد مطلق الراوي أيًا كان موضعه من السند؛ لأننا لو فرضنا أن المراد بالراوي هو التابعي - مثلا - فإن الإسناد وإن اتصل من التابعي إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ؛ فقد يكون منقطعًا دونه، فلايكون مسندًا – والحال هذه - ونحن نشترط في المسند الاتصال .
قوله : " المصطفى " أي النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
__________
(1) انظر " النكت " للزركشي ( 1 / 421 ) .
(2) انظر " فتح المغيث " ( 1 /125 ) .
(3) انظر كلام النووي في " التقريب " مع " التدريب " ( 1 / 185 ) .(1/115)
قوله : " ولم يَبِنْ " أي لم ينقطع، فهو تأكيد لقوله المتصل .
والكلام في هذا البيت في عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف المسنَد لغة – بفتح النون –:مأخوذ من الإسناد ، وإسناد الشئ إلى الشئ عزوه إليه ، ويقال : المسنَد مأخوذ من السند، وهو ما ارتفع وعلا عن سفح الجبل ، لأن المسنِد يرفعه إلى قائله ، ويجوز أن يكون مأخوذًا من قولهم : فلان سنَد ، أي معتمد ، فسُمِّي الإخبار عن طريق المتن مسندًا ، لاعتماد النقاد في الصحة والضعف عليه ، قاله الزركشي(1).
وأما تعريفه في الاصطلاح ، فللعلماء في ذلك أقوال ، وهي كالتالي :
أولا : تعريف الناظم – رحمه الله - : عَرَّف الناظم الحديث المسند : بأنه الحديث المتصل الإسناد إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
وعلى هذا القول فيشترط في المسند شرطان:
1-اتصال السند.
2-الرفع .
وعليه فيظهر جليًا أن هناك فرقًا بين المرفوع والمسند والمتصل .
فالمرفوع يُنْظَر فيه إلى حال المتن، مع قَطْع النظر عن الإسناد، فحيث كان مضافًا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان مرفوعا، سواء اتصل السند أم لا .
ومقابِلُهُ المتصل : فإنه يُنْظَر فيه إلى حال الإسناد، مع قَطْع النظر عن المتن ، سواء كان مرفوعا أو موقوفا .
وأما المسند : فيُنْظَر فيه إلى الأمرين جميعا، فيكون بينه وبين كل من الرفع والاتصال عموم وخصوص مُطْلَق ، فكل مسند مرفوع ، وكل مسند متصل ، ولاعكس فيهما ، قاله الحافظ(2).
__________
(1) انظر " النكت " ( 1 / 405 ) .
(2) انظر " النكت " ( 1 / 506 – 507 ) وقد سبق إلى اشتراط الاتصال والرفع الحاكم في " معرفة علوم الحديث " ( ص 17 ) وابن دقيق العيد في " الاقتراح " ( ص 211 ) والذهبي في " الموقظة " ( ص 42 ) .(1/116)
ثانيًا: تعريف ابن عبدالبر : عرف ابن عبدالبر الحديث المسند : بأنه ما رُفع إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – خاصة، وقد يكون متصلاً، وقد يكون منقطعًا، فالمتصل : كمالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، والمنقطع: كمالك عن الزهري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ،لأن الزهري لم يسمع من ابن عباس(1).اهـ بمعناه .
وقد رَدَّ هذا الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بأنه يلزم على قوله أن يتحد المرسل والمسند، وهذا مخالف للمستفيض من عمل الأئمة في مقابلتهم بين المرسل والمسند، حيث يقولون: " أسنده فلان ، وأرسله فلان "(2).
ثالثًا: تعريف الخطيب البغدادي - رحمه الله تعالى – فقد عرفه بقوله : " المسند عند أهل الحديث : ما اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه، وأكثر ما يستعمل فيما أُسْنِد عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم "(3)اهـ بمعناه .
قال الحافظ ابن حجر معلقًا على هذا التعريف: " الحاصل أن المسند عند الخطيب يُنْظر فيه إلى ما يتعلق بالسند، فيشترط فيه الاتصال ، وإلى ما يتعلق بالمتن فلا يشترط فيه الرفع، إلا من حيث الأغلب في الاستعمال ، فمن لازم ذلك: أن الموقوف إذا اتصل سنده؛ قد يسمى مسندًا، ففي الحقيقة لافرق عند الخطيب بين المسند والمتصل إلا في غلبة الاستعمال فقط(4)اهـ .
__________
(1) انظر " التمهيد " ( 1 / 21 – 23 ) .
(2) انظر " النكت " ( 1 / 506 ) .
(3) انظر " الكفاية " ( ص 58 ) .
(4) انظر " النكت " ( 1 / 506 ) .(1/117)
قلت : لازم كلام الخطيب أن المقاطيع – أقوال التابعين فما دونهم – تسمى مسانيد ، وهذا مستبعد ، وإن وُجِدَ من قال بذلك ؛ فهو نادر مهجور ، لايستحق أن يُعَرَّف المسند به ، فإن التعاريف تتبع الأغلب في الاستعمال ،لا النادر ، ثم يُشار بعد التعريف إلى من استعمله في خلاف هذا المعنى المشهور ، والخطيب نفسه أقر بأن الأغلبية في الاستعمال لا تراعى مطلق الاتصال ، بل تنظر إلى اتصال السند إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – والله أعلم .
وقد ذكر العراقي في " شرح الألفية "(1)نحو كلام الخطيب عن ابن الصباغ ، فقال : " قال ابن الصباغ في " العدة " : المسند ما اتصل إسناده " قال العراقي : " فَعَلى هذا يدخل فيه المرفوع ، والموقوف ، ومقتضى كلام الخطيب : أنه يُدخل فيه ما اتصل إسناده إلى قائله من كان ، فيدخل فيه المقطوع ، وهو قول التابعي ، وكذا قول من بعد التابعين ، وكلام أهل الحديث يأباه " اهـ .
رابعًا : تعريف الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - فقد قال بعد أن ذكر الأقوال السابقة : " والذي يظهر بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم، أن المسند عندهم : ما أضافه من سمع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بسند ظاهره الاتصال " ثم قال في شر ح التعريف : فـ " من سمع " أعم من أن يكون صحابيُّا، أو تحمل في كفْره، أو أسلم بعد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لكنه يُخْرِج من لم يسمع: كالمرسل، والمعضل .
و " بسند " يُخْرج ما كان بلا سند، كقول القائل من المصنفين: " قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " فإن هذا من قبيل المعلق .
__________
(1) 1 / 120 ) .(1/118)
و " ظهور الاتصال " يُخْرِج المنقطع، لكن يدخل منه ما فيه انقطاع خفي : كعنعنة المدلس، والنوع المسمى بالمرسل الخفي، فلايخرج ذلك عن كون الحديث يسمى مسندًا، ومن تأمل مصنفات الأئمة في المسانيد؛ لم يرها تَخْرُج عن اعتبار هذه الأمور " اهـ(1).
قلت : توجد في الكتب المصنفة في المسانيد أحاديث فيها انقطاع جلي، ولازم كلام الحافظ أن تُعَدَّ هذه – أيضا – مع الانقطاع الجلي أحاديث مسندة، وفيه ما فيه .
فإن قيل : قد تكون منقطعة عندنا لا عند أصحاب المسانيد .
فالجواب : أنه يُسْتبعد أن يخفى هذا – مع كثرته – على أصحاب المسانيد ، ويُنْظَر هل لبعض أصحاب المسانيد كلام في مواضع أخرى يُصرح بعدم سماع فلان عن فلان ، ومع ذلك أخرجوا له من طريقه ؟ .
فإن وجد ذلك ؛ كان أقوى في رَدَّ ما قال الحافظ(2)، والله أعلم .
والذي يظهر أن المسند هو: " ما اتصل سنده مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " مراعاة للأغلب في الاستعمال ،وهذا يوافق كلام الحاكم ، واشتراطه ألا يكون في المسند رواية مدلس(3)وقد ظن الحافظ أن كلام الحاكم يؤيده في عدم اشتراط حقيقة الاتصال ، وإنما يُكتفى بما ظاهره الاتصال ، كما في " النكت "(4)ورد هذا الفهم السخاويُّ في " فتح المغيث "(5)والله أعلم .
(
__________
(1) انظر " النكت " ( 1 / 507 – 508 ) .
(2) وقد ذكر نور الدين عتر أنه تتبع مئتي حديث في المسند ، وجد فيها ثلاثين حديثًا قد حكم العلامة أحمد شاكر بانقطاعها ، وانظر " منهج النقد في علوم الحديث " ( ص 249 – 350 ) وكل هذا يزعزع الثقة بما قيَّد به الحافظ – الاتصال في المسند – والله أعلم .
(3) انظر " معرفة علوم الحديث " ( ص 17 ) .
(4) 1 / 508 ) .
(5) 1 / 121 – 122 ) .(1/119)
تنبيه ) : قول أحد الأئمة : " فلان يدخل في المسند " يراد به أن سماع أو لقاء الراوي بشيخه ثابت ، أي أن روايته عن شيخه متصلة لا منقطعة ،ويُراد بذلك – أيضًا – أن الراوي من جملة الصحابة ، وانظر تفصيل ذلك في " شفاء العليل "(1).
قال الناظم – رحمه الله - :
9- وما بِسَمْعٍ كلِّ راوٍ يتصل ... إسنادُه للمصطفى فالمتصلْ
والكلام عن هذا البيت في عدة مسائل :
?المسألة الأولى : العبارات التي يعبر بها عن المتصل : يقال له المتصل ، والموصول ، والمؤتصل، والموتصل ، وهي عبارة الشافعي في " الأم"(2).
?المسألة الثانية : تعريف الناظم للمتصل :
عَرَّف الناظم الحديث المتصل بأنه: " ما اتصل سنده بسماع كل راوٍ من شيخه إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " وعلى هذا التعريف إيرادان :
1 – أنه اشترط في الاتصال أن يكون مصحوبًا بالسماع، فأخرج بذلك ماعداه من طرق التحمل، فظاهر عبارته أنه لا يعدها اتصالا، وهذا غير صحيح، وهو مذهب غاية في التشدد ، وما أظن الناظم يقصد اشتراط ذلك في الحديث المتصل ، ولعل النظم هو الذي اضطره إلى ذلك ، أو يقال إنه عبر بعبارة غير دقيقة ، ولم يستحضر حال كتابته هذا البيت ما يلزم على قوله من الحكم بانقطاع كل مالم يكن سماعًا .
علمًا بأن هناك أئمة عرّفوا المتصل بمثل تعريف الناظم كابن عبدالبر في " التمهيد "(3)وابن الصلاح(4)والنووي في " الإرشاد "(5)وغيرهم .
وعلى كل حال : فيرد على كلامهم ما ورد على كلام الناظم ، لكن قد يُعتذر عن الجميع بأنهم عبَّروا بالسماع عن جميع صور التحمل باعتبار الأغلب ، أو الأشهر ، أو مالا خلاف فيه ، والله أعلم .
__________
(1) 1 / 317 – 318 ) .
(2) انظر النكت " للحافظ ( 1 / 510 ) .
(3) 1 / 24 ).
(4) في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 65 ) .
(5) 1 / 156 ) .(1/120)
2 – إشتراطه أن يكون مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فخرج بذلك ما اتصل سنده إلى الصحابي وهو الموقوف ، أو من دونه، وهي المقاطيع ،فلا يُسمى كل هذا متصلا على هذا القول،والناظم لم يفرِّق بهذا بين المسند والمتصل ، فعرفهما بشئ واحد ، فشرط لهما الاتصال والرفع ، ولابد من تميز الأنواع ، والله أعلم .
?المسألة الثالثة : القول الراجح في تعريف المتصل:
اعلم أن الراجح في تعريف المتصل أنه: " ما اتصل سنده إلى منتهاه " فقولي : " ما اتصل سنده " أخرج جميع صور الانقطاع: جليًّا كان أو خفيًّا ، وكذا أدخل جميع صيغ التحمل من سماع وعرض وإجازة ونحوها ، وكل ذلك بشروطه المعروفة عند أهل العلم .
وقولي : " إلى منتهاه " يشمل المرفوع، والموقوف، وكل ذلك يدخل في قسم المتصل، بخلاف المقطوع : فإنه وإن كان متصلاً في الحقيقة؛ إلا أن العلماء لم يطلقوا عليه وصف الاتصال إلا مقيدًا، كقولهم: " متصل الإسناد إلى الزهري "وعَدّ بعضهم إطلاق ذلك تنافرًا من جهة اللغة ، فلا يقال : مقطوع متصل ، إنما يُقال : متصل إلى فلان ، وقد مر الكلام على ذلك في الحديث المقطوع .
وخلاصة الأمر : أن المتصل يُشترط فيه شرط واحد، وهو اتصال السند، دون النظر إلى صاحب المتن ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : هل يلزم من الاتصال صحة الحديث ؟
اعلم أن الاتصال إنما هو شرط واحد من شروط الصحة، وعلى هذا فلا يُحكم للحديث المتصل بالصحة إلا باجتماع شروطها الخمسة، التي مَرَّ الكلام عليها في الحديث الصحيح ، وعلى هذا فقد يكون الحديث المتصل صحيحًا، وقد يكون حسنًا، وقد يكون ضعيفًا، وكذلك في المرفوع ، والمسند ، والله أعلم .
( تنبيه ) : سبق في نوع الصحيح كلام على كيفية معرفة الاتصال بين الراوي وشيخه ، بما يُغني عن إعادته هنا ، والله أعلم .
الحديث المسلسل
قال الناظم - رحمه الله - :
10- مسلسَلٌ قُلْ ما عَلَى وصْفٍ أَتَى ... مِثْلُ أَمَا واللهِ أنباني الفَتَى(1/121)
11- كذاك قدْ حَدَّثَنِيِه قائمًا ... أو بَعْدَ أنْ حَدَّثني تَبَسَّمَا
تكلم الناظم - رحمه الله - في هذين البيتين على الحديث المسلسل، وذكر تعريفه وبعض أمثلته .
فقوله: " مسلسل " هو صفة لمحذوف، تقديره: حديث مسلسل
وقوله: " قُلْ ما على وصفٍ أتى " أي قل في تعريف الحديث المسلسل: أنه ما جاء على صفة واحدة.
فالصفة – هنا – تشمل ما كان صفة للراوي وما كان صفة للرواية – كما سيأتي إن شاء الله تعالى - .
وقوله: " الفتى " أي الراوي، سواء كان ثقة أو دون ذلك ، خلافًا لمن ظنَّ أنه العدل الضابط،(1)فليس ذلك شرطًا في المسلسل ، والله أعلم .
وصلة هذا بالنوع الذي قبله ، وهو المتصل : أن كلاًّ منهما من مباحث السند(2)، وأنهما بمعنى من جهة اللغة ، والله أعلم .
وتحت هذين البيتين مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث المسلسل لغة واصطلاحًا .
فالمسلسل لغة : هو المتصل، ومنه سلسلة الحديد، سميت بذلك لاتصال بعضها ببعض .
واصطلاحًا : عَرَّفه الناظم بأنه : " الحديث الذي جاء على وَصْفٍ واحد " .
وقال النووي :" هو ما تتابع رجال إسناده على صفةٍ أو حالةٍ للرواة تارة ، وللرواية تارة أخرى(3)، وهذا أظهر من تعريف الناظم في اشتراط التتابع في المسلسل ، والله أعلم .
وبنحوه قال الصنعاني في " توضيح الأفكار "(4)فقد قال :" هو الحديث الذي اتفقت رجاله ، وتتابعوا على صفة واحدة ، أو حال واحدة ؛ سواء أكانت قولية ، أو كانت فعلية ، أومركبة منهما جميعًا " اهـ .
وقوله : " اتفقت رجاله " يغني عن قوله : " وتتابعوا " وهو أظهر في الدلالة على المراد من الأول ، والله أعلم .
__________
(1) كما ذهب إليه الزُّبَيْدي في " القلائد العنبرية على المنظومة البيقونية " ( ص 43 ) .
(2) وقد نص الحافظ على أن المسلسل من صفات الإسناد، انظر " النزهة " ( ص 167 ) .
(3) قاله في " التقريب " كما في التدريب ( 2/ 187 ) .
(4) ا( 2 / 414 ) .(1/122)
وظاهر من تعريف النووي أن التسلسل في الصفة أو الحال للراوي أو الرواية لابد منه ، مع أن بعض المسلسلات قد ينقطع فيها التسلسل في بعض الطبقات ، ولذا قال ابن دقيق العيد :
" وهو ما كان إسناده على صفة واحدة في طبقاته ، فتارة يكون في جميعها ، كما إذا كان كله بصيغة : سمعت فلانًا يقول ، إلى آخره ، وتارة يكون في أكثره ، مثل الحديث المسلسل بقولهم : " وهو أول حديث سمعته منه . . . "(1)اهـ .
?المسألة الثانية : أنواع الحديث المسلسل :
ينقسم الحديث المسلسل – في الجملة – إلى قسمين:
1 – مسلسل بصفة الراوي .
2 – مسلسل بصفة الرواية(2).
أما المسلسل بصفة الراوي فله صور كثيرة منها :
1- أن يكون مسلسلاً بالحفاظ كرواية حافظ عن حافظ إلى منتهاه .
2- أن يكون مسلسلاً بالفقهاء ، كرواية فقيه عن فقيه إلى منتهاه.
3- أن يكون مسلسلاً بالمحمدين ، كرواية محمد عن محمد إلى منتهاه .
4- أن يكون مسلسلاً بأهل بلد معين كالحجاز .
5- أن يكون مسلسلاً بمن أول إسمه حرف العين مَثَلاً، كرواية علي عن عبدالله عن عمر إلى منتهاه.
6- أن يكون مسلسلاً بأصحاب العاهات – نسأل الله السلامة – كرواية الأعرج عن الأعمى عن الأصم إلى منتهاه .
7- أن يكون مسلسلاً بالهيئة ، ومنه قول الناظم :
" كذاك قد حَدَّثنيه قائمًا . . . أو بَعْدَ أن حَدَّثني تبسَّما "(3).
وأما المسلسل بصفة الرواية فله صور – أيضًا – منها :
1 – ما تسلسل بصيغة واحدة من صيغ التحمل، كالعنعنة مَثَلاً، ومنه قول الناظم : " أَمَا والله أنباني الفتى " .
ويلحق بذلك قول الراوي : صُمَّمْت أُذناي إن لم أكن سمعته من فلان "
2 – ما تسلسل بذِكْر زمن من الأزمنة ، كأن يقول كل راوٍ: " حدثني فلان يوم العيد " .
__________
(1) " الاقتراح " ( ص 214 ) .
(2) انظر " الإرشاد " للنووي ( 2 / 554 ) ، و" التقييد " ( ص 276 ) .
(3) انظر هذه الأنواع وغيرها في " فتح المغيث " ( 4 / 40 ) .(1/123)
3 – ما تسلسل بذكر مكان من الأمكنة، كأن يقول كل راوٍ: " حدثني فلان بين الركن والمقام"(1)
وبالنظر إلى الحديث المسلسل من جهة القول والفعل ؛ فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1- مسلسل بالقول، كحديث معاذ حين قال له النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " يا معاذ إني أحبك في الله ؛ فلا تدعَنَّ دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أَعِنِّي على ذِكْرك ، وشكرك، وحُسْنِ عبادتك " فقد تسلسل بقول كل راوٍ لمن بعده : " إني أحبك في الله " ومنه – أيضا – قول الناظم :
" أما والله أنباني الفتى " .
2 – مسلسل بالفعل ، كقول أبي هريرة - رضي الله عنه - : " شبك أبوالقاسم بيده، وقال :" خَلَقَ الله التربة يوم السبت ... " الحديث، فقد تسلسل – أيضًا – بتشبيك يد كل راوٍ بيد من بعده ، ومنه أيضًا قول الناظم:
" كذاك قد حدثنيه قائمًا ... أو بعد أن حدثني تبسما "
3 – مسلسل بالقول والفعل، ويُمَثِّلون له بحديث أنس مرفوعًا: " لايجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره " قال : وقبض رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على لحيته، وقال : " آمنت بالقدر " فقد تسلسل بقبض كل راوٍ على لحيته بقوله: " آمنت بالقدر "(2).
?المسألة الثالثة : فوائد الحديث المسلسل :
للحديث المسلسل عدة فوائد ، منها :
1- أنه يدل على مزيد من الضبط والإتقان، وذلك أن نَقْلَ الراوي حال شيخه وهيئته التي حدثه عليها، وكذا حكايته الواقعة التي حدثه شيخه فيها؛ كل ذلك يدل على ضبطه لما روى .
__________
(1) انظر هذه الصور وغيرها في " فتح المغيث " ( 4 / 40 – 41 ) و " فتح المغيث " ( 4 / 39 ) .
(2) انظر هذه الأقسام في " النزهة " ( ص 167 ) .(1/124)
2- أن بعض صور المسلسل يدفع الانقطاع والتدليس – وهو غاية المقصد من هذا النوع -(1)كالمسلسل بـ " حدثني ، وأخبرني " فإنه لايُتَصَوَّر فيه الانقطاع والتدليس ، مالم يقع وهم في ذلك ، وكذا ما جاء في الفائدة الأولى؛فإن ذلك يدل على الاتصال ، والله أعلم .
3- أن المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين أقوى في الثبوت من غيره ، وإذا توبع أفاد العلم النظري ، قاله الحافظ في " النزهة "(2).
4-وذكر ابن دقيق العيد أنه قد يكون فيه اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فيما فعل(3)اهـ .
وزاد الصنعاني : " وقوله "(4).
?المسألة الرابعة :هل يلزم من كون الحديث مسلسلاً أن يكون صحيحًا ؟
الجواب: أن هذا ليس بلازم، فقد يكون الحديث المسلسل صحيحًا ، أو حسنا أو ضعيفا ، بل أكثر الأحاديث المسلسلة ضعيفة، كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم،(5)بل قال الحافظ الذهبي – رحمه الله – " وعامة المسلسلات واهية ، وأكثرها باطلة لكذب رواتها ، وأقواها المسلسل بقراءة سور الصف والدمشقيين ، والمسلسل بالمصريين، والمسلسل بالمحمدين إلى ابن شهاب " اهـ(6).
__________
(1) قاله السخاوي في " فتح المغيث " ( 4 / 41 ) .
(2) ص 76 – 77 ) وانظر بعض هذه الفوائد مفرقة من كلام ابن الصلاح في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 277 ) و " فتح المغيث " ( 4 / 41 ) وغير ذلك .
(3) " الاقتراح " ( ص 215 ) .
(4) انظر ط توضيح الأفكار " ( 2 / 415 ) .
(5) كابن الصلاح في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 277 ) والنووي في " الإرشاد " ( 2 / 558 ) وابن كثير في " المختصر " مع " الباعث " ( 2 / 465 ) وابن الملقن في " المقنع " ( 2 / 448 ) وغيرهم .
(6) انظر " الموقظة " ( ص 44 ) .(1/125)
وليس المراد من كونها ضعيفة ضعف أصل المتن ، بل المراد: أن الضعف فيها من جهة تسلسلها على صفة معينة، أما متنها فقد يكون صحيحًا ، وقد يكون ضعيفًا(1).
( تنبيه ) : المقصود من ذكر أمثلة المسلسل توضيح ذلك للقارئ ، ولايلزم من ذلك صحتها عندي ، وقد ذكر الحاكم بعض الأمثلة في ذلك ، ثم قال : " وإني لا أحكم لبعض هذه الأسانيد بالصحة ، وإنما ذكرتُها ليستدل بشواهدها عليها – إن شاءالله – " اهـ(2).
( تنبيه آخر ) : قد يقول قائل : إذا كان أكثر المسلسلات واهية ، فلماذا ذكروا في فوائد المسلسل ما سبق ؟
والجواب : هذا على افتراض الصحة ، فبعض المسلسلات ثابت ، وبعضها مختلف فيه ، فمن ذهب إلى ثبوت ذلك ؛ استفاد منها تلك الفوائد ، والله أعلم .
?المسألة الخامسة : هل يُشترط في الحديث المسلسل أن يكون من بداية السند إلى نهايته كذلك ؟
ذكر بعض أهل العلم أن هذا ليس بلازم، فقد وُجِدَتْ بعض الأحاديث يكون التسلسل فيها في بعض طبقات السند دون بعض، ومع ذلك يحكمون لها بأنها أحاديث مسلسلة، لكن الغالب في المسلسلات أنها تكون كذلك من أولها إلى آخرها .
الحديث العزيز
قال الناظم - رحمه الله - :
12-عزيزُ مَرْوِيْ اثنينِ أو ثلاثةْ ... . . . . . . . . . . . . . .
تكلم الناظم - رحمه الله - هنا على الحديث العزيز .
فقوله : " عزيزُ " بالضم من غير تنوين، مراعاةً للنظم .
وقوله : " مرويْ " هو بسكون الياء،وعلى هذا فالياء وإن كتبت خطًّا؛ فلاتنظق لفظًا، مراعاةً للنظم أيضًا .
وتحت صدر هذا البيت مسائل :
?المسألة الأولى: تعريف العزيز : عَرَّفه الناظم بأنه : "الحديث الذي يرويه اثنان أو ثلاثة " ويعني بذلك أنه ما كان في أقل طبقة من طبقات سنده راويان أو ثلاثة .
__________
(1) انظر بمعناه من كلام ابن الصلاح في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 277 ) .
(2) انظر " معرفة علوم الحديث " ( ص 34 ) .(1/126)
وهذا التعريف الذي ذكره الناظم قد سبقه إليه جماعة من أهل العلم كابن منده ، وابن طاهر المقدسي ، وابن الصلاح، وابن دقيق العيد، والنووي، والعراقي، وابن الجزري .
ومثاله: مارواه الشيخان من حديث أنس، وما رواه البخاري من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده، وولده، والناس أجمعين " .
فإن هذا الحديث رواه عن أنس : قتادة وعبدالعزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد، ورواه عن عبدالعزيز إسماعيل بن علية وعبدالوراث ، ورواه عن كُلٍّ جماعة .
وهاك شكلا يوضح ذلك :
جماعة عن شعبة عن قتادة
جماعة عن سعيد عن أنس . . . الحديث .
جماعة عن ابن علية عن عبدالعزيز عن أبي هريرة
جماعة عن عبدالوارث
قال ملا علي القاري في شرح " النزهة "(1): " كان لم يذكر رواة أبي هريرة اكتفاءً بما ذكر من رواة أنس ، أو لعدم تعدُّد رواته ، فحينئذٍ يُقال : إن كان المعتبر في العزة اثنينية الصحابي ، وأن يكون لكل منهما روايان ، وهكذا ؛ ينبغي أن يبين راوي أبي هريرة أيضًا ، وإن لم تُعتبر ؛ فما الحاجة إلى ذكْر أبي هريرة – رضي الله عنه – " .
قال : والظاهر : أن تعدد الصحابي غير معتبر في العزة ؛ لأن هذا الحديث عزيز عند مسلم ، مع أن صحابيه واحد " اهـ .
قلت : ظاهر صنيع الحافظ أنه يشترط الاثنينية في طبقة الصحابة أيضًا ، ولذا ذكر أبا هريرة متابعًا لأنس ، ولا يشترط أن يكون عزيزًا – أيضًا – عن أبي هريرة ، ولذلك لم يذكر من رواه عنه ، والله أعلم .
__________
(1) ص 207 – 208 ) .(1/127)
ومما يؤيد ما فهمتُه من صنيع الحافظ في اشتراطه التعدد في طبقة الصحابة ، قوله الذي نقله عنه ابن قطلوبغا في حاشيته على " النزهة "فقد قال الحافظ : " . . . وهذا بخلاف ما تقدم في حدِّ العزيز والمشهور ، حيث قالوا : إن العزيز لابد فيه أن لاينقص عن اثنين من الأول إلى الآخر ، فإن إطلاقه يتناول ذلك . . . " اهـ(1).
وقد قال زكريا الأنصاري في " فتح الباقي "(2):" وقد يكون الحديث عزيزًا مشهورًا ، كحديث : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " - متفق عليه – فهو عزيز عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – رواه عنه حذيفة وأبوهريرة . . . " اهـ .
والذي يظهر لي : اشتراط الاثنينية في طبقة الصحابة أيضًا في الحديث العزيز ، والله أعلم .
فإن قيل : إن الصحابة كلهم عدول فلماذا يشترط العدد فيهم ؟
والجواب :أن المقام هناليس مقام القبول والرد ، ولكنه مقام بيان كيفية وصول الحديث إلينا من جهة السند ، وعدد رواته ، وعلى أي هيئة بلغنا ، ولهذا فقد يكون صحيحًا ، وقد يكون ضعيفًا .
واشتراط العدد فيمن دون الصحابة ليس المراد منه ثبوت الصحة ، فقد يرويه اثنان ثقتان حافظان ، أو ضعيفان، أو متروكان فالمسألة اصطلاحية فقط ، والله أعلم .
وعَرَّف الحافظ العزيز في " النزهة "(3)بقوله : " وهو : ألايرويه أقل من اثنين عن اثنين " وهذا أدق من قوله في موضع آخر في " النزهة "(4)في معرض ردِّه على ابن حبان : " . . . وأما صورة العزيز التي حررناها ؛ فموجودة بألايرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين " اهـ .
فقوله :" ألا يرويه أقل من اثنين " أخرج الغريب ، وأدخل العزيز والمشهور .
__________
(1) حاشية ابن قطلوبغا ( ص 44 ) .
(2) ص 490 ) .
(3) ص 64 ) .
(4) ص 69 ) .(1/128)
وقوله : " عن اثنين " أخرج المشهور والغريب أيضًا ، فيبقى العزيز ، ولكن التعريف الثاني ليس مانعا ؛ لأن المشهور والمتواتر داخلان في هذا الحد؛ لأنه يصدق على كل منهما أنه لايرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين " فهذا القيد أخرج الغريب فقط ، أما المشهور والمتواتر فلم يخرجهما هذا القيد ، ولذا فالأول أدق ، والله أعلم .
ولو أن الحافظ قال : " هو ما كان في أقل طبقة من طبقاته راويان فقط" لكان أوضح في مراده، وأقرب في فهم مقصوده .
فقولي: " أقل طبقة من طبقاته " يشمل وجود هذا الوصف في طبقة أو أكثر ، فوجوده مشروط في طبقة واحدة على الأقل، فإن عُدِم هذا انتقل إلى الغرابة أو الشهرة .
وقولي: " راويان فقط " أخرج مالم يكن كذلك، فإن كان في أقل طبقة من طبقاته واحد؛ فهو الغريب، وإن كان فيها أكثر من اثنين، فهو المشهور، وقد يصل إلى التواتر بشروط أخرى .
وظاهر كلام بعضهم أنه قَيَّد العزيز برواية اثنين أو ثلاثة عمن يُجْمع حديثه ، أي من المشاهير كالزهري ، وقتادة ، ونحوهما .(1)
والخلاصة في تعريف العزيز : أن أكثر من وقفتُ على كلامه في تعريف العزيز يدل على ما ذهب إليه الناظم تعريف الحافظ ابن حجر .
فإن قيل: وعلى تعريف الأغلب يلزم من ذلك التداخل في الأنواع؛ لأن المشهور يُطْلَق على مارواه الثلاثة أيضًا ؟
فالجواب من وجهين :
1- على قول من يرى أن المشهور رواية ما زاد عن ثلاثة؛ فلا تداخل ، ولا إيراد .
2- وعلى قول من يرى أن المشهور رواية ثلاثة فما فوق؛ يقع التداخل، ولاعيب في ذلك إذا كانت هناك مواضع يُستعمل فيها العزيز على المشهور والعكس عند الأئمة، لكن الإيراد يكون وجيهًا إذا لم يكن ذلك معلومًا عندهم، فيقع اللبس والايهام ، والله أعلم .
?المسألة الثانية : لماذا سُمِّي العزيز عزيزًا ؟
__________
(1) قال به ابن منده ، نقله ابن الصلاح في " المقدمة " انظر ( ص 268 – 269 ) مع " التقييد .(1/129)
ذكر الحافظ - رحمه الله - لذلك احتمالين(1):
1- أن يكون مأخوذًا من قولهم: " عَزَّ يَعزُّ " – بفتح العين – أي قوي بمجيئه من طريق أخرى كقوله تعالى: ( فعززنا بثالث ) .
2- أن يكون مأخوذًا من قولهم: " عَزَّ يَعِزُّ " – بكسر العين – إذا قَلَّ ونَدَرَ ، سُمِّي بذلك لقلة وجوده في الأسانيد .
( إشكال ) : لو قيل : إن الاحتمال الأول في تسمية العزيز، يلزم منه أن يُسَمَّى المشهور عزيزًا - أيضًا - لأن مجئ الحديث من ثلاث طرق فأكثر يجعله أقوى من طريقين فقط، فتسميته بالعزيز عندئذٍ أولى .
والجواب: من حيث اللغة فلا مانع ، وإلا فالمسألة اصطلاحية ، ومراعاة تميز الأنواع – إن أمكن – أولى ، ولايقع هذا إلا بهذا ، والله أعلم .
?المسألة الثالثة : وَصْفُ الحديث بالعزة ، هل يلزم منه أن يكون صحيحًا ؟
الجواب : هذا ليس بلازم، فالحديث الذي يوصف بالعزة قد يكون صحيحًا ، وقد يكون حسنًا ، وقد يكون ضعيفًا، فكل ذلك راجع إلى أمور تتصل بصحة الإسناد أو المتن أو ضعفهما، والله أعلم .
( تنبيه ) : قد يُطْلق علماء الجرح والتعديل على الراوي قولهم: " عزيز الحديث " أو " عزيز المخرج " أو عزيز الحديث جدًّا" ونحو ذلك ، ولايعنون بذلك المعنى الاصطلاحي السابق ، ولكنهم يريدون بذلك أنه قليل الرواية ، وليس مشتغلاً بالحديث ، والغالب أن من كان كذلك يكون ضعيفًا ، أو مجهولاً وانظر ترجمة أُسَيْد بن يزيد البصري في " الكامل " لابن عدي(2)،وقد قال الحاكم في " المستدرك "(3)" عقبة بن خالد الشني ، في ثقات البصريين وعُبَّادهم ، وهو عزيز الحديث ، يُجْمَع حديثه ، فلايبلغ تمام العشرة " اهـ والله أعلم .
الحديث المشهور
. . . . . . . . . . . . . ... مشهور مروي فوق ما ثلاثة
فقوله : " مشهورُ " بالضم بدون تنوين ، مراعاةً للنظم .
__________
(1) انظرهما باختصار في " النزهة " ( ص 64 – 65 ) .
(2) 1/ 402) .
(3) 1 /110 ) .(1/130)
وقوله : " مرويْ " بسكون الياء ، والياء تُكتب خطا ، ولاتُنطق ،مراعاةْ للنظم أيضًا .
وقوله : " ما " في قوله : " فوق ما ثلاثه " زائدة ، والله اعلم .
وتحت هذا العَجُز من البيت مسائل :
?المسألة الأولى : ما معنى قول الناظم : " فوق ما ثلاثهْ " ؟
هذه الكلمة مشكلة : هل المقصود من هذا أن المشهور هو مارواه ثلاثة فما فوق ؟ أي أن الثلاثة داخلة في هذا ، كقوله تعالى : ( فإن كن نساء فوق اثنتين ) أي اثنتان فما فوق ؟
وإلى هذا ذهب بعض شراح هذا النظم في تفسير هذه الكلمة .
أو أن المقصود أربعة فأكثر ، وذهب إليه بعض شراحها – أيضًا – وعلى هذا يكون تعريف الحديث المشهور عند الناظم مارواه أربعة فأكثر ، إلا أن الأمر محتمل في نسبة هذا وذاك إلى الناظم ، وإن كان الثاني أظهر ؛ لأنه الأصل ، ولأن الناظم عرَّف العزيز برواية اثنين أو ثلاثة ، فيترجح أن المشهور عنده برواية أربعة فأكثر ، والله أعلم .
?المسألة الثانية : التعريف المختار للحديث المشهور :
أنه : " ما كان في أقل طبقة من طبقات سنده ثلاثة فأكثر ، مالم يبلغ حد التواتر "
فقولي: " ما كان في أقل طبقة من طبقات سنده ثلاثه" أخرج الغريب، والعزيز - على قول – إذ الغريب أقل طبقة من طبقاته واحد ، والعزيز أقل طبقة من طبقاته اثنان – على قول - .
وقولي : " فأكثر " يدخل أربعة فما فوق .
وقولي: " ما لم يبلغ حد التواتر " يخرج الحديث المتواتر، لأنه إذا زاد العدد عن ثلاثة وأفاد العلم اليقيني ، صار الحديث متواترًا، والمشهور الذي نحن بصدده من قسم الآحاد لا التواتر ، والله أعلم .
?المسألة الثالثة : الفرق بين المشهور والمستفيض :
1- من العلماء من سَوَّى بينهما،وقال :لافرق بين النوعين(1).
2- ومنهم من غاير بينهما ، واختلفوا في وجه التغاير بينهما :
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 62 – 63 ) و " فتح المغيث " ( 4 / 10 ) .(1/131)
أ فقال بعضهم : " المستفيض: هو الذي يكون ابتداؤه، وانتهاؤه،ووسطه سواءً، والمشهور أعم من ذلك " .
ب-وقال بعضهم : " إن المستفيض ماتلقته الأمة بالقبول دون اعتبار عدد ، بخلاف المشهور" .
ج وقال بعضهم : " إن المستفيض هو المتواتر ، بخلاف المشهور، فهو قسم من قسم الآحاد "، والله أعلم(1).
?المسألة الرابعة : أقسام المشهور :
ينقسم المشهور إلى قسمين :
أ مشهور اصطلاحي : وهو المقصود من كلام الناظم .
ب مشهور غير اصطلاحي : ويُقْصَد به ما اشتهر على الألسنة ، من غير اعتبار أي شرط ، فيشمل ماله سند واحد فأكثر ، ومالا إسناد له(2)، ويشمل ما صح، وما لم يصح ، وهو أقسام :
1- مشهور عند أهل الحديث خاصة ، مثل حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قنت شهرًا بعد الركوع ، يدعو على رعل وذكوان " .
2- مشهور عند المحدثين، والعلماء، والعوام، كحديث : " المسلم مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده " .
3- مشهور عند الفقهاء ، كحديث " لاضرر ولا ضرار " .
4- مشهور عند الأصوليين ، كحديث : " رُفِعَ عن أمتي الخطأ ، والنسيان ،وما استكرهوا عليه " .
5- مشهور عند علماء العربية كحديث : " نعم العبد صهيب، لولم يخف الله لم يعصه " وإن كان لا أصل له .
6- مشهور عند الأدباء ،كحديث " أدبني ربي فأحسن تأديبي " .
7- مشهور عند العامة ، كحديث " العجلة من الشيطان "(3).
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 63 ) و " فتح المغيث " ( 4 / 11 ) .
(2) انظر " النزهة " ( ص 63 – 64 ) .
(3) انظر هذه الأقسام في " فتح المغيث " ( 4 / 13 – 15 ) و "التدريب " ( 2/ 174 – 175 ) .
وانظر بعضها باختصار في " المقدمة " لابن الصلاح ( ص 265 ) مع " التقييد " ومن كلام ابن الملقن في " المقنع " ( 2 / 435 – 436 ) .(1/132)
?المسألة الخامسة : قد يظن الظان أن كثرة الطرق تصل بالحديث إلى درجة الصحة ، وعلى هذا فالحديث إذا كان مشهورًا يكون صحيحًا ، وهذا الظن غير صحيح؛ لأن العلماء لاينظرون في الحكم بالصحة إلى عدد الطرق فقط ، وإنما ينظرون في توافر شروط القبول ، فإن توافرت؛ صححوا الحديث دون النظر إلى كثرة العدد ، وإن لم تتوافر ردوا الحديث ، فَرُبَّ حديث له أكثر من طريق ، ورواته كذابون ، أو هالكون، فلا تنفع الكثرة هنا ، وَرُبَّ حديث يصح في الجملة ؛ لا بآحاد طرقه ، وَرُبَّ حديث ترفعه كثرة الطرق إلى التواتر ، والله أعلم .
( تنبيه ) : اعترض على الناظم - رحمه الله - عدم ذكره للحديث الغريب مع أخويه العزيز والمشهور – كما صنع الحافظ في " النزهة " – فإن له بهما تعلقا ، حيث إن الأمر في جميع هذه الثلاثة يدور على عدد رواة كل منها ، وهو وإن كان قد ذكر الغريب إلا أنه أَخَّر ذكره ، وكان الجمع بينها أولى ، والله أعلم .
( تنبيه آخر ) : قد يجتمع في الإسناد غرابة ، وعزة ، وشهرة ن وذلك باعتبار نسبي لابإطلاق ، فيقال : هو عن فلان غريب ، أو غريب عن فلان ، أو عزيز ، أو مشهور ، والله أعلم(1).
الحديث المعنعن
قال الناظم - رحمه الله - :
__________
(1) كما يذكرون في حديث " الأعمال بالنيات " أنه غريب إلى أو ول إلى يحيى بن سعيد ، ثم اشتهر بعد ذلك ، وانتشرت روايته ، وقد ذكر العراقي أن الشهرة طرأت على الحديث بعد أن كان فردًا اهـ من شرح " الألفية " ( ص 318 ) وكذا قال الحافظ ، انظر " فتح المغيث " ( 4 / 8 – 9 ) ، وقد ذكر زكريا الأنصاري حديث " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة " فقال : " وقد يكون الحديث عزيزًا مشهورًا " وقد ذكر الحديث ثم قال : " فهو عزيز عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : رواه عنه حديفة وأبوهريرة ، ومشهور عن أبي هريرة ، رواه عنه سبعة . . . " اهـ من " فتح الباقي " ( ص 490 ) .(1/133)
13- معنعن كَعَنْ سعيدٍ عن كَرَمْ ... . . . . . . . . . . . . . . .
تكلم الناظم - رحمه الله - في هذا الجزء من البيت عن الحديث المعنعن ، ولم يذكر له تعريفًا وإنما عَرَّفه بالمثال ، وكان الأولى ذكر التعريف ثم المثال .
وتحت هذا الجزء من البيت مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث المعنعن :
هو:" الحديث الذي يرويه الراوي عن شيخه بصيغة " عن " دون أن يذكر سماعًا، أو تحديثًا، أو إخبارًا ، أو نحو ذلك " .
?المسألة الثانية : هل الحديث المعنعن من قبيل المقبول أو من قبيل المردود ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
1- فمنهم من قال : إنه مردود مطلقًا .
2- ومنهم من قال : إنه مقبول مطلقًا .
3- ومنهم من فَصَّل - وهم الجمهور - فقالوا : إن الراوي إذا عنعن عن شيخه؛ قُبِلَ قولُه بشروط ثلاثة :
أ العدالة في الرواية ، فتشمل العدالة في الدين والضبط .
ب- البراءة من التدليس .
ج- لقاء الراوي بشيخه(1).
وقد اتفق العلماء على الشرطين الأولَيْن ، واختلفوا في الثالث على أقوال :
1- فمنهم من اشترط طول الصحبة بين الراوي وشيخه ، وهذا قول أبي المظفر السمعاني .
2- ومنهم من اشترط أن يكون الراوي المعنعِن معروفًا بالرواية عن شيخه ، وهو قول أبي عمرو الداني.
__________
(1) انظره ملخصًا في " النكت " للحافظ ( 2 / 583 – 584 ) وقد صرح بهذه الشروط ابن عبدالبر ، بل ادعى الإجماع على ذلك ، انظر " التمهيد " ( 1 / 12 ) وفي كلام الحافظ في " النكت " ( 2 / 583 ) حمل الإجماع على القبول لا الحكم بالاتصال ، وفيه نظر ، انظر " توضيح الأفكار " ( 1 / 330 – 331 ) ، وقد ذكر الإجماع على أن المعنعَن من غير المدلي مع اللقي والسماع محمول على الاتصال آخرون ، منهم : الحاكم في " المعرفة " ( ص 34 ) والخطيب في " الكفاية " ( ص 421 ) وأبوعمرو الداني ، نقله عن ابن الصلاح ، وانظر " النكت " ( 2 / 583 ) .(1/134)
3- ومنهم من اشترط ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة ، وذكر بعضهم أن هذا مذهب ابن المديني ، والبخاري ، ونسبه ابن رجب إلى المحققين ، وذكر أقوالاً عن كثير منهم ، وبَيَّن أنها أخص من كلام ابن المديني ، والبخاري .
4- ومنهم من اكتفى بإمكان اللقاء ، وهو مذهب الإمام مسلم –رحمه الله – وحكى الإجماع عليه ، ولايُسلَّم له ذلك دعوى الإجماع(1).
والذي يترجح لي : الأخذ بمذهب مسلم مالم يغمز إمام في السماع ، فيؤخذ بقوله عند ذاك ، وهو مذهب المحققين ، والله أعلم .
فإن قيل : إذا كانت العنعنة محمولة على الاتصال بالسماع ونحوه ، فلماذا لايقول الراوي : حدثني فلان ، أو سمعت فلان ، ونحو ذلك ؟
فالجواب : لقد أجاب على ذلك الخطيب – رحمه الله – في " الكفاية "(2)فقال : " إنما استجاز كَتَبَةُ الحديث الاقتصار على العنعنة ؛ لكثرة تكررها ، ولحاجتهم إلى كتْب الأحاديث المجملة بإسناد واحد ، فتكرار القول من المحدث : " حدثنا فلان " عن سماعه من فلان : يشق ويصْعُب ؛ لأن لوقال : أُحدِّثكم عن سماعي من فلان ، وروى فلان عن سماعه من فلان ، وفلان عن سماعه من فلان ، حتى يأتي على أسماء جميع مُسْنِدي الخبر ، إلى أن يُرفع إلى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وفي كل حديث يَرِدُ مثل ذلك الإسناد ؛ لطال وأضجر ، وربما كثر رجال الإسناد حتى يبلغوا عشرة وزيادة على ذلك ، وفيه إضْرارٌ بكتَبة الحديث ، وخاصة المقلين منهم ، والحاملين لحديثهم في الأسفار ، ويَذْهب بذكر ما مثَّلْناه مدةٌ من الزمن ، فساغ لهم – لأجل هذه الضرورة – استعمال : " عن فلان " . . . . " اهـ .
?المسألة الثالثة : حالات العنعنة قبولاً وردًّا :
__________
(1) انظر المذاهب في العنعنة في "شرح علل الترمذي " لابن رجب ( 1 / 359 – 377 ) وكتابي " إتحاف النبيل " ( 2 / 189 – 198 ) السؤال ( 218 ) .
(2) ص 153 – 154 ) .(1/135)
للعنعنة حالات تُقْبل فيها، وتكون محمولة على الاتصال ، وأخرى يُتَوقف فيها أو تُرَدُّ ، ومنها :
1- أن يثبت سماع الراوي من شيخه في رواية صحيحة ، أو يصرح إمام بأن الراوي سمع من شيخه ، فالعنعنة تكون في بقية حديثه محمولة على السماع ، مالم يكن مدلسًا .
2- أن يصرح إمام بعدم سماع الراوي من شيخه ، فالرواية المعنعنة هنا منقطعة، ولاتُقْبَل .
3- أن يثبت سماع التلميذ من الشيخ في بعض الأحاديث دون البعض الآخر ، ثم يروي التلميذ البعض الآخر بالعنعنة، موهمًا السماع من شيخه ، فهذه عنعنة مدلِّس، يُتَوقف فيها .
4- أن يمكن لقاء الراوي بشيخه مع براءته من التدليس ، وبراءته من طَعْنِ إمامٍ في سماعه من شيخه ، فالعنعنة هنا محمولة على الاتصال .
5- أن يمكن لقاء الراوي بشيخه مع براءة الراوي من التدليس ، لكن قد طعن إمام في سماعه من ذلك الشيخ ، فالرواية المعنعنة هنا يُتوقَّف فيها .
فإن قيل : إن هذه الحالة الأخيره إنما تكون فيها العنعنة من قبيل المنقطع؛ إذا كان الطاعن في السماع غير البخاري أو شيخه ابن المديني ، لأنهما يشترطان ثبوت اللقاء ؟
فالجواب: أن هذا القول لايُسَلَّم به ؛فإن مذهب البخاري وابن المديني هو مذهب المحققين ، وعلى هذا فإذا طَعَنَا في سماع راوٍ؛ فإنه يقبل منهما ، كما يُقْبل طعن بقية الأئمة .
وقد تقدم الكلام على هذه المسألة بتوسع في الحديث الصحيح ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : الحديث المؤنَّن ، ويقال : المؤنأن : وفيه مبحثان :
1- تعريفه : وهو : " مارواه الراوي بصيغة " أن " دون أن يذكر سماعا، أو تحديثا، أو إخبارا، أو نحو ذلك .
2- حكمه : اختلف العلماء في حكم الحديث المؤنَّن على قولين :
أ فمنهم من ذهب إلى أنه من قبيل المنقطع .
ب-وذهب الجمهور إلى أن حُكْم " أَنَّ " هو حُكْم " عَنْ " وأنه لااعتبار للحروف والألفاظ فقط .(1/136)
وعندي: أن في الحديث المؤنَّن تفصيلا ، وذلك أن الراوي – غير الصحابي – إذا قال: إن فلانًا قال ، فهو بين حالين :
إما أن يكون قد أدرك زمن الشئ الذي يرويه، أو لا ؟ فإن كانت الحالة الأولى؛ فهو كالحديث المعنعن، حسب تفصيله السابق ، وإن لم يكن مدركا؛ ففيه تفصيل ذكرته في كتاب " إتحاف النبيل "(1).
وخلاصته : أن الراوي إذا لم يشهد ما حكاه : فالراجح الحكم بعدم الاتصال ، وإن لم يكن الراوي مدلِّسًا ؛ لأنه لم يُسْند ذلك إلى من فوقه ، ولم يشهد وقوع ما حكى عنه شيخه ، إلا إذا ظهرت قرينة تدل على الاتصال : كأن ياتي الحديث من طريق أخرى محفوظة ، بإسناد ذلك إلى الشيخ ، أو ما يدل على أن الراوي تسامح في التعبير عند روايته ، أو يكون مشهورًا بالرواية عن شيخه ، أو يخرج الحديث كذلك أحد الشيخين ولايُنتقد عليه ، فكل ذلك يشير إلى الاتصال ، والله أعلم .
( فائدة ) : ذكر الحافظ أن لفظة " عن " و " أنَّ " قد تَرِدُ ولايتعلق بها حكم باتصال ولا انقطاع، بل يكون المراد بها سياق قصة، سواءأدركها الناقل أو لم يدركها ، ويكون هناك شئ محذوف مقدر، وضَرَبَ أمثلةً لذلك، منها : ما أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه قال : " ثنا أبوبكر بن عياش ثنا أبوإسحاق عن أبي الأحوص أنه خرج عليه خوارج فقتلوه، ثم قال الحافظ :لم يُرِدْ أبو إسحاق بقوله: " عن أبي الأحوص " أنه أخبره بذلك ، وإنما فيه شئ محذوف تقديره: " عن قصة أبي الأحوص " أو "عن شأن أبي الأحوص " وما أشبه ذلك، لأنه لايمكن أن يكون أبو الأحوص حَدَّثَه بعد قَتْله "(2)اهـ.
معرفة المُبْهَم
قال الناظم - رحمه الله- :
......................... ومُبْهَمٌ ما فيه راوٍ لم يُسَمْ
أراد الناظم في هذا الجزء من البيت أن يعرِّف الحديث المبهم.
وقوله: "لم يُسَمْ" أي: لم يُعَيَّن اسمه.
وتحت هذا الجزء من البيت مسائل:
__________
(1) 2 / 197 ) السؤال ( 218 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 586 – 587 ) .(1/137)
?المسألة الأولى: تعريف الحديث المبهم :
عَرَّفَه الناظم بأنه: الحديث الذي فيه راوٍ لم يُعَيَّن اسمه،وذلك كقول الراوي : حدثني رجل ، أو حدثني شيخ ، وظاهر قوله: "ما فيه راوٍ" أن مراده تعريف المبهم الذي في السند،لقوله : " راوٍ " فأخرج ما ليس براوٍ ، وإلا فقول الصحابي: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو : سألتِ امرأةٌ النبيَّ - صلى الله عليه و آله وسلم - أو : مرَرَّنْا برجل.... ونحو ذلك، فكل هذا مبهم في المتن؛وإن كان لا صلة له بالاتصال والانقطاع،أو القبول والرد، كما لا صلة له بالإبهام الذي في السند؛ لأن هذا المبهم – في الأصل – ليس من رواة السند ، إنما هو مذكور فيه فقط ، إلا أن يُكنِّي الصحابي عن نفسه بذلك ؛ فذاك أمر آخر ، والله أعلم .
وقد عرّف غير واحد المبهم بما يشمل مبهم الإسناد ، ومبهم المتن ، وهذا الإطلاق أولى ، ثم بعد ذلك يُتكلَّم عن أقسام المبهم ، والعلم عند الله تعالى .
?المسألة الثانية: أقسام الحديث المبهم:
(أ) ينقسم الحديث المبهم من حيث موضع الإبهام إلى قسمين: 1- مبهم في السند 2- مبهم في المتن.
ومثال مبهم في الإسناد: أن يقول الراوي: حدثني شيخ، أو حدثني رجل، أو رجل من الأنصار، أو عن جماعة من أصحابنا، أو حدثني أشياخ من أهل الحي، ونحو ذلك.
ومثال المبهم في المتن: قول الصحابي: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – أو: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ونحو ذلك، كقول أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في حديث الرقية: فقام إليه - أي إلى سيد الحي الذي لُدغ - رجل منا، فقرأ عليه الفاتحة، فكأنما نشط من عقال .
(ب) – وينقسم الحديث الذي فيه مبهم من حيث شدة الإبهام وخفته إلى قسمين :
1-قسم متوغِّل في الحهالة ، فمهما بحث الباحث عنه في الطرق الأخرى ؛ فإنه لايهتدي إلى معرفته .
2- قسم يَسْهُل الوقوف عليه بجمع الطرق .
((1/138)
تنبيه ) : ظاهر صنيع ابن الصلاح : إنه لم يمثِّل إلا للمبهم في المتن ، والله تعالى أعلم .
?المسألة الثالثة: حكم الحديث المبهم:
أما المبهم في المتن : فلا يؤثر في صحة الحديث، وذلك لأنه ليس له تَعَلُّقٌ بالرواية من جهة القبول أو الرد .
وأما المبهم في الإسناد فإنه يكون سببًا لرد الحديث، لعدم علمنا بحال هذا المبهم: هل هو ممن يحتج به أم لا ؟ فَقَدْ فَقَدَ الحديث بذلك شرطين من شروط الاحتجاج، وهما: ثبوت العدالة والضبط ، ويحتمل أن يفقد شرطًا ثالثًا : وهو الاتصال ، وذلك إذا لم يصرح تلميذ المبهم بالسماع .
قال الحافظ ابن حجر في " النزهة "(1): ولا يُقْبَل حديث المبهم ما لم يُسَم؛ لأن شرط قبول الخبر: عدالة راويه، ومن أُبْهِم اسمه لا تُعْرَف عينُه، فكيف تُعْرَف عدالته؟.
( تنبيه ) : إذا قال الراوي : " حدثني الثقة " فهذه رواية عن مبهم ، وتوثيق المبهم لايُحتج به ، وسيأتي تفصيل ذلك – إن شاء الله تعالى - .
?المسألة الرابعة : هل الحديث الذي فيه مبهم، متصل أو منقطع؟
في المسألة قولان للعلماء.
1-فذهب قوم إلى أنه منقطع(2).
2-وذهب الأكثر من علماء الرواية وأرباب النقل - كما حكاه الرشيد العطار - إلى أنه متصل في سنده مجهول(3).
__________
(1) ص 135 ) .
(2) ومنهم الخطابي ، والحاكم في " المعرفة " ( ص 28 – 29 ) مالم يأت طريق آخر بالتصريح باسم المبهم ، وكذا البهقي ، انظر الحاشية (1) في " إتحاف النبيل " ( 1 / 331 ) السؤال ( 179 ) .
(3) انظر "فتح المغيث " ( 1 / 176 ) بل سبق إلى ذلك العزو العراقي في " التقييد " ( ص 73 – 74 ) .(1/139)
وذلك لأنه لم ينقطع له سند، واختاره العلائي(1)، وهو الراجح: إذ أن الراوي المبهم ليس ساقطًا من السند ، حتى يُحْكَم على الإسناد بأنه منقطع، وغاية ما في الأمر: أنه لم يُسَمَّ، وهذا الترجيح محمول على ما إذا لم يكن في السند انقطاع بين المبهم وتلميذه، أو المبهم وشيخه اللذين في السند، وبعبارة أخرى: أن القول بأن السند متصل فيه مبهم مُقَيَّدٌ بأحد أمرين :
1-التصريح بالسماع من المبهم،قال الحافظ : " والتحقيق : إذا وقع التصريح بالسماع : أنه – أي السند – متصل في إسناده مبهم " اهـ(2)
2- إذا كان تلميذ الراوي المبهم يروي عن الشيخ – الذي يروي عنه المبهم - في الروايات الأخرى بواسطة واحدة في الغالب،ولم يكن مدلِّسًا وإلا خشينا أن يكون هناك انقطاع فوق المبهم أو دونه، والله أعلم.
?المسألة الخامسة : كيف يتم تعيين المبهم في السند والمتن؟
يُعْرَف ذلك بجمع طرق الحديث، فما أُبهم في طريق؛ قد يُبَيَّن في طريق آخر(3)شريطة أن يكون محفوظًا ليس شاذًّا، كما يُعْرَف ذلك بتنصيص الراوي عن المبهم، كأن يقول: إذا قلت حدثني الثقة، أو من لا أتهم؛ فهو فلان، فإذا صح إليه السند بذلك، حُمل على ذلك، أما إذا قال أحد الأئمة: إذا قال فلان: حدثني الثقة فهو فلان، فهذا لا يُطْلَق التسليم به؛ لاحتمال أن ذلك فرع عن اجتهاده واستنباطه، ولذلك نراهم يختلفون في تحديد المراد بذلك، مما يدل على أنها قاعدة غير مطردة، وانظر أمثلة كثيرة في " التدريب "(4).
__________
(1) انظر " جامع التحصيل " ( ص 108 ) فقد قال : " والتحقيق : أن قول الراوي : " عن رجل " ونحوه متصل ، ولكن حكمه حكم المنقطع لعدم الاحتجاج به " اهـ .
(2) انظر " فتح الباري " ( 6 / 634 ) .
(3) انظر " شرح الألفية " للعراقي ( 3 / 230 ) و " النزهة " ( ص 134 ) .
(4) 1 / 312 ) النوع الثالث والعشرون ، الفائدة الحامسة .(1/140)
وكذا يُعْرَف المبهم بتنصيص أهل الشأن بذلك(1)، والظاهر أن هذا راجع منه إلى جمع الطرق .
?المسألة السادسة: ما هي الفائدة من معرفة المبهم؟
بما أن الإبهام ينقسم إلى إبهام في الإسناد، وإبهام في المتن، فإن لمعرفة كل منهما فوائد:
(أ)- فوائد معرفة المبهم في المتن : معرفة كون الرجل المبهم في بعض الطرق أنه فلان ابن فلان ، وأنه صحابي – مثلاً - وذلك إذا سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو نحو ذلك، فثبتت بذلك عدالته، ويُرد بذلك على من نفى صحبته، ويثبت لمن روى عنه أنه تابعي، وغير ذلك من الأحكام المتفرعة عن ثبوت الصحبة .
قال الحافظ ابن كثير : "وهو فنٌّ قليل الجدوى بالنسبة إلى معرفة الحكم من الحديث، ولكنه شيء يَتَحَلَّى به كثير من المحدثين، وغيرهم "(2)اهـ .
قلت : كلام الحافظ ابن كثير مقيَّد بالنسبة إلى معرفة الحكم من الحديث ، وهذا مُسَلَّم به ، وإلا فلا يُقبل إطلاق القول بأن هذا الفن قليل الجدوى .
وظاهر كلام الحافظ ابن كثير هذا أنه يريد به مبهم المتن ، ولذا قال : " وأهم ما فيه : ما رفع إبهامًا في إسناد . . . " اهـ(3).
2- أن يكون في الحديث منقبة لذلك المبهم، فيستفاد بمعرفته فضيلته؛ فيُنَزَّل منزلته، كأن يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : " من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة؛ فلينظر إلى هذا " أو : " سيدخل عليكم رجل من أهل الجنة " فإذا عُرِفَتْ عينه؛ نُسِبَتْ إليه منقبة التبشير بالجنة، وكذا عكسه : إذا وُصِفَ بالنفاق أو نحوه، والغالب في مثل هذا أن الرواة لا يسمونه؛ تغليبًا للستر عليه ، وقد يكون تعيين سادًّا لباب جولان الظن في غيره من أفاضل الصحابة، والله المستعان .
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 4 / 299 ) .
(2) انظر " مختصر علوم الحديث " مع " الباعث " ( 2 / 652 ) .
(3) انظر " مختصر علوم الحديث " مع " الباعث " ( 2 / 652 ) .(1/141)
3- أن يكون ذلك المبهم سائلاً عن حكم عارضه حديث آخر، فيُستفاد بمعرفته هل ما رواه ناسخ أو منسوخ ؟ وذلك إن عُرِف زَمَن إسلام ذلك الصحابي، وكان قد أخبر عن قصة شاهدها وهو مسلم.
4- أن يكون ذلك المبهم له فتوى فقهية، فإذا عرفنا عينه، ورأينا روايته تخالف رأيه، أفادنا ذلك في الترجيح - على تفاصيل في هذه القاعدة ليس هذا موضعها - .
5- تحقق الشيء على ما هو عليه أولى من الجهل به، فإن النفس متشوفة إليه(1).
(ب) فوائد معرفة الإبهام الذي في السند:
تنقسم هذه الفوائد إلى أقسام:
القسم الأول: فوائد تتصل بمعرفة حال المبهم أو من فوقه، أو من دونه بعد تعيينه:
وأثر ذلك في صحة الحديث وضعفه لا يخفى، فمن هذه الفوائد:
1- معرفة حال المبهم سواء كان ثقة، أو ضيعفًا، أو متروكًا، فيحكم على الحديث حسب ذلك ، مع مراعاة الشروط الأخرى .
2- وكذا معرفة كون المبهم ممن روى عن شيخه قبل الاختلاط، أو بعده إذا كان شيخه قد رُمِي بتغير أو اختلاط .
3- وكذا معرفة كون المبهم ممن له مزية في شيخه من قرابة، أو طُول صُحْبة، أو معرفة بحديثه، ونحو ذلك.
4- إذا عرفنا المبهم، وكان من مشاهير الثقات، الذين ينتقون في شيوخهم؛ نفعنا ذلك في الرفع من جهالة الشيخ، وكذلك إذا كان ممن لا ينتقي،وكان شيخه قد روى عنه آخر، فإن ذلك يرفعه من جهالة العين إلى جهالة الحال.
5- إذا قال التابعي:حدثني رجل أنصاري، فيحتمل أن يكون صحابيًّا، أو تابعيًّا آخر، فبتعيين المبهم نعرف هل هو صحابي أم لا؟ وأثر ذلك في الحكم على الحديث لا يخفى.
6- إذا وجد سند فيه: عن رجل عن أبيه أو عمه، فلا يمكن معرفة حال شيخه إلا بمعرفة عينه.
القسم الثاني: فوائد تتعلق باتصال السند وانقطاعه، ومنها:
__________
(1) انظر هذه الفوائد في " المستفاد م مبهمات المتن والإسناد " لولي الدين أحمد ابن الحافظ العراقي .(1/142)
1- بتعيين المبهم يمكن معرفة اتصال وإرسال روايته عن شيخه الذي في السند، وكذا الحال في رواية تلميذه الذي في السند عنه.
2- إذا تعين المبهم - وكان مدلسًا - وقد رواه بالعنعنة - فيتوقف في ذلك ، وقد نحكم على السند بالانقطاع ، وكان قبل ذلك متصلاً فيه مبهم .
3- إذا قال التابعي: ثني رجل أنصاري عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واتضح لنا أن الأنصاري تابعي، وليس بصحابي، فالحديث يكون مرسلاً.
القسم الثالث: لا تعلق له بالقسمين السابقين:
وهو معرفة اتحاد مخرج الحديث أو اختلافه، فإذا جاء الحديث عن رجل معروف، ووقفنا عليه من طريق رجل مبهم، فيحتمل أنه متابع لذلك، أو مخالف له، كما يحتمل أن المبهم هو ذاك الرجل، لكن الرواة اختلفوا عليه، أو اضطرب هو فيه، فبمعرفة عين المبهم يتضح لنا هذا من ذاك، والله أعلم.
?المسألة السابعة : توثيقهم المبهم.
وذلك كقول الراوي: أخبرني الثقة.
ففي قبول هذا التعديل ثلاثة أقوال، ذكرها الحافظ ابن حجر – رحمه الله - وهي:
1- أنه مقبول مطلقًا تمسكًا بالظاهر، إذ الجرح على خلاف الأصل.
2- أنه مردود مطلقًا؛ لأن الراوي المبهم قد يكون ثقة عند تلميذه مجروحًا عند غيره، وهذا هو الراجح(1).
3- إذا كان القائل ممن له مذهب متَّبع؛ أجزأ ذلك في حق من يقلده على مذهبه ، وذكر الحافظ أن هذا ليس من مباحث علوم الحديث(2).
سؤال: إذا قال إمام من أئمة الجرح والتعديل، كشعبة، أو ابن معين أو غيرهما: حدثني الثقة، هل يُقْبَل هذا منه، ويصحَّح الحديث أم لا ؟
__________
(1) وانظر في " الكفاية " ( ص 531 ) كلام أبي بكر بن الطيب والخطيب .
(2) انظر " النزهة " ( ص 135 ) .(1/143)
الجواب: وَجْهُ من قال بقبوله: أن هذا إمام خبير بهذا الشأن، والأصل قبول قوله، وإعماله أولى من إهماله، وأن هذا من باب العمل بخبر العدل في فنه، وقياسًا على قبولهم بعض الروايات مع عدم الاتصال، لمعرفتهم بثقة الواسطة، كما قالوا في أبي عبيدة بن عبد الله ابن مسعود عن أبيه، والنخعي عن بن مسعود، وحميد عن أنس في كثير من الروايات، وأيضًا فخلاف الغير لمن وثق المبهم احتمال ضعيف، فلا نرد الصريح لاحتمال ضعيف ، ثم إن الموثِّق أعلم بشيخه من غيره ،وعلى ذلك : فيُقْبَل هذا من الإمام مالم تظهر نكارة ، أو يطعن إمام في صحة الحديث بسبب وجود المبهم الموثِّق ، أو لشئ آخر .
وأما مَنْ رَدَّه: فلأن الإبهام يوعِّر الطريق في الوقوف على حال هذا الرجل عند غير هذا الإمام، وإضرابه عن تعيين اسم شيخه يُورِثُ الرِّيبة التي تُوقِع التردُّدَ في القلب(1)، وادعاء أن احتمال مخالفة الغير احتمال ضعيف: يرده الاختلاف المشهور في كثير من التراجم،فيكاد يكون الاختلاف في الرواة أكثر من التراجم المتفق عليها جرحًا أو تعديلاً ، وكون الأصل قبول خبر العدل، لا يمنع من رد قوله أحيانًا، ولذا نرى المجتهد لا يُلزم بقول مجتهد آخر، فربما رده وربما قبله، وربما ذكره وأحال العهدة على غيره دون بيان موقف منه .
والأمثلة التي ذكرها الفريق الأول يجاب عنها بأن النخعي يروي عن جماعة عن ابن مسعود لا عن واحد عنه، فالجمع يجبر الجهالة في هذا الموضع، وحميد ثَبَّتَه ثابت فيما لم يسمعه من أنس، فالواسطة معلومة العين والحال، أما أبو عبيدة فقد أخذ عن ثقات أصحاب أبيه، كما ذلك كثير ممن قبل روايته عنه ، وهم معروفوا العين والحال.
__________
(1) انظر " التدريب " ( 1 / 310 – 311 ) .(1/144)
أضف إلى ذلك: أن هذا أمر قد لا ينضبط: لأن أئمة الجرح والتعديل ليسوا سواء، فمنهم المتوسط، ومنهم المتشدد، ومنهم المعتدل، والمتشدد - فضلاً عن المتوسط - قد يتساهل أحيانًا، إما في زمن معين، وإما في أهل بلد معين، ونحو ذلك، وما من متشد إلا جرب عليه التساهل في بعض المواضع، وهذا وإن كان قد يرد عليه نوع اعتراض؛ إلا أنه مع غيره من الوجوه السابقة يتقوى، والأصل حماية الحديث النبوي من أن يدخل فيه ما ليس منه، وقبول توثيق المبهم له أثر في ذلك .
فإن قيل: وكذلك لا يجوز إخراج حديث من جملة الحديث النبوي.
فالجواب: أننا لا نسلم بأنه - والحالة هذه - من جملة الحديث النبوي، أما إذا ثبت الحديث؛ فلا يجوز رده بلا دليل، وبين الأمرين فرق لا يخفى.
فإذا انضمت هذه الوجوه إلى بعضها؛ قوي القول بالرد.
هذا ما حضرني من وجوه القبول والرد.
والخلاصة: أن الذي تميل إليه نفسي في هذا الموضع - على غضاضة - قول من ذهب إلى الرد، والله أعلم.
( تنبيه ) : قول القائل:" حدثني الثقة " أعلى من قوله :" حدثني مَنْ لا أَتَّهم " فإن قوله الثاني صريح في نفي التهمة، ولا يلزم من ذلك ثبوت التوثيق، بخلاف الأول، فلا يلزم من نفي النقص ثبوت الكمال، إلا أن العالم إذا أَطْلق هذا - لاسيما في مقام الاحتجاج - فإنه يريد به المدح، لا مجرد نفي النقص، و ولكني أردت التنبيه على الفرق بين دلالة الكلمتين فقط، والله أعلم(1).
?المسألة الثامنة : هل يُسْتَشْهَد بالمبهم؟
لا يُستشهد بالحديث الذي فيه راو مبهم؛ إلا إذا كان الإبهام في طبقة التابعين، أو تابعيهم.
فإن قيل: لماذا خص التابعون وتابعوهم بذلك؟
__________
(1) انظر " التدريب " ( 1 / 311 ) .(1/145)
قلت: لأن ذلك صنيع العلماء، ولأن هاتين الطبقتين مشهود لهما بالخيرية، والكذب قليل فيهما بالنسبة لما بعدهما من الطبقات، فقد فشا فيها الكذب، وقد فصَّلْتُ الكلام في ذلك في كتابي " إتحاف النبيل "(1)هنالك.
( تنبيه ) : إذا قال الراوي : حدثني جماعة أو عدة ، أو : حدثني أهل الحي . . . وما كان في معناه ؛ فإن النفس تطمئن إلى انجبار علة الإبهام بالجمع ، إذا كان ذلك في طبقة التابعين وأتباعهم ،إلا إذا كثر الجمع كثرة لايدفعها الباحث ، أو حف المقام قرائن أخرى ؛ فيقبل من الجمع ، وإن نزلت طبقتهم ، وقد فصلت ذلك في كتابي : " إتحاف النبيل "(2)
?المسألة التاسعة : ما هو السبب الذي يحمل المبهم على الإبهام ؟
الجواب : قال السخاوي في " فتح المغيث "(3): " ومبهَم الرواة مالم يُسَمَّ في بعض الروايات أو جميعها : إما اختصارًا ، أو شكًّا ، او نحو ذلك . . . " اهـ .
قلت : وكذا فالمدلس قد يُبهم شيخه لسبب أو أكثر من أسباب التدليس .
وكذا قد يُبهم الراوي شيخه خشية أن يتضرر – بِذْكر اسم شيخه – من ولاة الأمور ، والله أعلم .
(
__________
(1) 2 / 233 – 234 ) السؤال ( 225 ) وانظر " مختصر علوم الحديث " للحافظ ابن كثير ( 1 / 293 ) مع " الباعث " ، فقد قال : " فأما المبهم الذي لم يُسم ، أو من سُمِّي ولاتُعْرف عينه ؛ لايقبل روايته أحد علمناه ، ولكن إذا كان في عصر التابعين ، والقرون المشهود لهم بالخير ؛فإنه يُستَأنَس بروايته ، ويُستضاء بها في مواطن " اهـ .
(2) 2 / 240 – 246 ) السؤال ( 227 ) .
(3) 4 / 298 ) .(1/146)
خاتمة ) : قال السخاوي – رحمه الله – في " فتح المغيث "(1): " والأصل فيه – أي في معرفة المبهم – قول ابن عباس : لم أزلْ حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله لهما : ( إن تتوبا إلى الله ) إلى أن خرج حاجًّا ، فخرجت معه ، فلما رجعَنا ، وكنا ببعض الطريق ، عَدَلَ إلى الأراك لحاجة له ، فوقفتُ له ، حتى فرغ ، ثم سرت معه ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان تظاهرتا على النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – من أزواجه ؟ قال : هما حفصة وعائشة اهـ متفق عليه ، والله تعالى أعلم .
قال الناظم – رحمه الله - :
13 - وكُلُّ ما قَلَّتْ رجالُه عَلا ... وضِدُّه ذاك الذي قَدْ نَزَلا
تكلم الناظم - رحمه الله - في هذا الجزء من البيت عن نوع من أنواع علوم الحديث، وهو: العالي ، مع ذكره لحده .
وقوله: "وكل ما" أي: وكل حديث.
وقوله: "رجاله" أي: رجال إسناده.
وتحت هذا البيت عدة مسائل:
?المسألة الأولى: تعريف الإسناد العالي:
لقد عَرَّفه الناظم : " بأنه كل ما قل رجال إسناده " .
قلت: هذا التعريف خاص بعلو المسافة، أو العدد، أما علو الصفة، فلا يُشْترط فيه قِلَّةُ الرجال، وإنما يكون الاعتبار بتقدم الوفاة وتأخرها، أو بتقدم السماع وتأخره، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله - .
ولذلك قال السخاوي - رحمه الله - في شرحه لمنظومة العراقي "ألفية الحديث" عند قول العراقي: " طَلَبُ العلو سُنَّةٌ وقد...." فقال السخاوي: العلو الذي هو قلَّةُ الوسائط في السند، أو قِدَم سماع الراوي، أو وفاته"(2)اهـ ، فجمع بين النوعين عند كلامه على سُنِّية العلو ، فاتضح بذلك أن الناظم عرَّف المسافة فقط ، والله أعلم .
?المسألة الثانية: أقسام العلو:
ينقسم العلو في – المشهور - إلى قسمين:
1- علو مسافة.
2- علو الصفة.
أما علو العدد، وهو: قلة عدد رجال الإسناد؛فينقسم إلى:
1- علو مطلق.
2- علو نسبي.
__________
(1) 4 / 299 ) .
(2) 3 / 332 ) .(1/147)
أولاً: العلو المطلق، هو: قلة الوسائط إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أجل هذه الأنواع وأعظمها، وسمي مطلقًا: لأنه أول ما يتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، فإن اتفق مع ذلك أن يكون سنده صحيحًا كان الغاية القصوى، وإلا فصورة العلو فيه موجودة - أي: وإن كان فيه ضعف - ما لم يكن موضوعًا، فهو –أي: الحديث الموضوع- كالعدم، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر - رحمه الله -(1).
ثانياً: العلو النسبي، وينقسم إلى قسمين:
1- علو بالنسبة إلى إمام.
2- علو بالنسبة إلى كتاب مصنَّف.
أما العلو بالنسبة إلى إمام، فهو: ما يقل العدد فيه إلى ذلك الإمام كشعبة، أو مالك، والثوري، والشافعي، وغيرهم.
ولا يشترط فيه أن يقل العدد من بداية السند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما الشرط فيه: أن يقل العدد إلى هذا الإمام، ولا يضر كثرة العدد من ذلك الإمام إلى منتهاه.
وأما العلو بالنسبة إلى رواية أحد الكتب المصنفة: كالصحاح، والسنن، والمسانيد، وغيرها من الكتب المعتمدة؛ فهذا القسم ينقسم إلى أنواع، وهي: الموافقة، والبدل، والمساواة، والمصافحة، ولكي تتضح هذه الأنواع الأربعة؛فهاك المثال التالي:
قال الإمام البخاري - رحمه الله - : حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
فلو أن أحد المحدثين ممن تأخر عهده عن البخاري، ولْيكن البيهقي مثلاً؛ أراد أن يروي حديثًا بعينه من طريق البخاري، فكان بينه وبين قتيبة شيخِ البخاري أربعة رواة، فأراد أن يرويه من غير طريق البخاري، - ليقلَّ عدد رجاله إلى قتيبة - وكان بينه وبين قتيبة ثلاثة رواة، فهذه تسمى موافقة، لأنه قد وافق البخاري في شيخه مع العلو .
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 156 ) ومقتضى كلام النووي أن الإسناد الذي فيه ضعف ؛ فلا التفات إلى ما يقع فيه من علو ، وقد صرح به السيوطي ، انظر " التدريب " ( 2 / 161 – 162 ) .(1/148)
فإن رواه البيهقي من غير طريق قتيبة - كمحمد بن بشار مثلاً - عن مالك بالعدد نفسه، فهذه تسمى البدل، أو الإبدال، لأنه أبدل مكان قتيبة محمد بن بشار، فالموافقة هي: الإلتقاء مع شيخ المصنف من غير طريقه ،والبدل هو: الإلتقاء مع شيخ شيخه من غير طريقه أيضاً.
وأما المساواة، فهي: أن يكون بين البيهقي وبين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل ما بين البخاري وبين رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ولنفترض أنهم سبعة رجال، فكأن البيهقي قرين مساوٍ للبخاري، وكلما تأخر الزمان؛ فُقِدَت المساواة بين المتأخر والمتقدم، كما لا يخفى.
فإذا رواه البيهقي عن ثمانية؛ فهي مصافحة، وكما سبق في المساواة: أنه كلما تأخر الزمان؛ لا تقع المصافحة بين المتأخر والمتقدم.
فالمساواة: أن يروي المتأخر الحديث برجالٍ عددهم كعدد رجال المتقدم.
والمصافحة: أن يروي المتأخر الحديث بما يزيد عن عدد رواة المتقدم بواحد فقط، فكأنه تلميذ له، وسمِّيت مصافحة: لأن من عادة التلميذ إذا لقي شيخه أن يصافحة، فشُبِّهَتْ بذلك، والله أعلم.
واعلم أن مساواة شيخ البيهقي للبخاري مصافحة للبيهقي، ومساواة شيخ شيخ البيهقي للبخاري مصافحة لشيخ البيهقي، وهكذا.
( تنبيه ) : قال الحافظ – بعد ذكره ما سبق ملخصًا - في "النزهة"(1): وأكثر ما يعتبرون الموافقة والبدل إذا قارنا العلو، وإلا فاسم الموافقة والبدل واقع بدونه.
( تنبيه آخر ) : سبق أن العلو المطلق هو: ما كان مضافًا إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أما النسبي فهو: ما كان مضافًا إلى إمام، أو إلى مصنَّف، ومن نظر في تعريف المساواة - وهي من العلو النسبي حسب ما سبق - وجد فيها معنى العلو المطلق، وقد أشار ابن قطلوبغا في حاشيته على "النزهة" إلى هذا الإيراد(2).
__________
(1) ص 158 ) .
(2) ص 121 ) .(1/149)
وقد يقال: إن المساواة قد تكون من العلو المطلق، وقد تكون من العلو النسبي، فتكون من العلو المطلق إذا كان بين المخرِّج المتأخر والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عدد من الرجال يساوي العدد الذي بين المصنف المتقدم عليه في الطبقة وبين رسول الله - صلى الله عليه وآله و سلم - وتكون من العلو النسبي إذا كان العدد مساوياً إلى الصحابي أو من قاربه.
وقد قال ابن الصلاح: وأما المساواة فهي في أعصارنا : أن يَقِلَّ العدد في إسنادك، لا إلى شيخ مسلم وأمثاله، ولا إلى شيخ شيخه، بل إلى من هو أبعد من ذلك، كالصحابي أو من قاربه، وربما كان إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحيث يقع بينك وبين الصحابي - مثلاً - في العدد مثل ما وقع من العدد بين مسلم وبين ذلك الصحابي، فتكون بذلك مساويًا لمسلم - مثلاً - في قرب الإسناد وعدد رجاله.اهـ(1).
فإيراد ابن قطلوبغا يتنزل على ما إذا كانت المساواة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولذا فإطلاق أن المساواة علو مطلق أو نسبي فيه نظر، والله أعلم.
قلت: ويلحق بالمساواة في الإيراد والجواب عليه المصافحة، والله أعلم.
(
__________
(1) انظر ط المقدمة " مع " التقييد " ( ص 260 ) .(1/150)
تنبيه آخر ) : اعلم أن علو المتأخرين من المساواة والمصافحة لايكون إلابنزول المتقدم غالبًا(1)، وقد سمى ابن دقيق العيد هذا النوع – بهذا القيد – علو التنزيل(2)،ولولا نزول ذلك الإمام - المتقدم – في إسناده ؛ لم يعْلُ المتأخرين في إسناده(3)،ولا يلزم من نزول المتقدم أن يلحقه عيب بذلك، لأسباب يَنْزِل من أجلها الإمام - ليس هذا موضعها - والله أعلم .
ثانيًا : علو الصفة : وهو على قسمين :
1- علو بتقدم وفاة الشيخ الذي روى عنه، وإن استوى عدد الرجال بينه وبين النازل ، مثال ذلك : ماقاله ابن الصلاح :" ما أرويه عن شيخ أخبرني به عن واحد عن البيهقي عن الحاكم، أعلى من روايتي لذلك عن شيخ أخبرني به عن واحد عن أبي بكر بن خلف عن الحاكم، وإن تساوى الإسناد في العدد؛ لتقدم وفاة البيهقي على وفاة ابن خلف؛ لأن البيهقي مات سنة ( 458) ومات ابن خلف سنة (487) اهـ(4).
وهذا تلخيص لما قال ابن الصلاح :
ابن الصلاح عن شيخ عن آخر عن البيهقي عن الحاكم .
ابن الصلاح عن شيخ عن آخر عن ابن خلف عن الحاكم .
وذكر ابن الصلاح صورة أخرى لهذا القسم، فقال : " وأما العلو المستفاد من مجرد تقدم وفاة شيخك، من غير نظر إلى قياسه براوٍ آخر؛ فقد حدَّه بعض أهل هذا الشأن بخمسين سنة، وقيل: ثلاثين " اهـ(5).
وانظر كلام النووي في التدريب(6).
__________
(1) انظر " التقييد " ( ص 258 ) وعاب إطلاق ابن الصلاح أن ذلك العلو يكون لنزول من المتأخر ، وقيده بالغالب .
(2) انظر " الاقتراح " ( ص 269 ) وقال السخاوي في " فتح المغيث " ( 3 / 351 ) : " وسُمِّي هذا العلو تنزيلاً : لما فيه من تنزيل راوٍ مكان آخر ، فهذا في الحقيقة علو نسبي ، بالنسبة لنزول مؤلف الكتاب في إسناده " اهـ أي أن المتأخر نزل منزلة المتقدم .
(3) انظر " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 260 ) .
(4) انظر " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 261 ) .
(5) المصدر السابق .
(6) 2 / 168 ) .(1/151)
2- علو بتقدم السماع من الشيخ، سواء تقدمت الوفاة أم لا، فمن سمع قبل الآخر؛ كان أعلى ممن سمع منه بعده ، ومثال ذلك : سفيان الثوري: فإذا روى عنه راويان، أحدهما سمع منه سنة(120) والآخر سمع منه سنة (150)فالأول الذي تقدم سماعه أعلى من الآخر عُلُوَّ صِفَةٍ؛ لأن قِدَم سماعه يدل - في الجملة - على قِدَم رحلته، وتبكيره بالطلب، أو علو همته، زِدْ على ذلك : أن بعض المحدثين إذا تأخرت وفاتهم، وطعنوا في السن؛ ربما يتغير حفظهم، فيأخذ عنهم المتأخر في حال تغيرهم.
نعم، ربما كان متأخر السماع أرجح، وذلك بأن يكون الشيخ حال تحديثه الأول لم يبلغ درجة الإتقان والضبط ثم حصل له ذلك بعد.
قال ابن الصلاح :" وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله، وفيه ما لا يدخل في ذلك .... "اهـ(1).
( تنبيه ) : وينقسم العلو باعتبار آخر إلى قسمين:
1- صوري: وهو ما سبق تفصيله، وهو المراد عند الإطلاق.
2- معنوي : وهو باعتبار تمكن رجال السند من العدالة، والضبط، والاتصال، وقد يُضَم إلى ذلك أوصاف أخرى: كالفقه، وغيره ولذا قال ابن المبارك :" ليس العلو قُرْبَ الإسناد ، ولكن العلوَّ جودةُ الإسناد " اهـ أي وإن كان نازلاً في العدد ، ورعاية هذا العلو إذا تعارض مع الصوري – إذا تعارضا – أولى ، والله أعلم(2).
وقال أبوطاهر السِّلفي :" الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة، على مذهب المحققين من النقلة، والنازل حينئذٍ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق " اهـ من "التدريب"(3).
وقال ابن الصلاح :" ليس هذا من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علو من حيث المعنى "(4).
__________
(1) انظر " المقدمة " مع " التقييد " ( ص262 ) .
(2) انظر هذا التقسيم ملخصًا والترجيح بينهما عند ابن دقيق العيد في " الاقتراح " ( ص 270 ) .
(3) 2 / 172 ) وكذا كلام ابن المبارك .
(4) انظر " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 262 ) .(1/152)
وهذا رسم يُلَخِّص لك أقسام العلو:
العلو
?المسألة الثالثة : حُكْم العلو في الإسناد :
ذهب الحاكم وغيره إلى أن طلب العلو في الإسناد مستحب، واحتج له بحديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة، عندما أتى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وقال: أتانا رسولك، فزعم أن الله كتب علينا خمس صلوات في اليوم والليلة ، آلله أمرك بهذا ؟ قال : " نعم . . . " الحديث .
فقالوا : لوكان طلب العلو غير مستحب ؛ لأنكر النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سؤاله عن ذلك ، ولأَمَرَهُ بالاقتصار على ما أخبر به رسوله عنه(1).
إلا أن العلائي قد نازع في ذلك، فقال : " وفي الاستدلال بما ذكروه نظر لايخفى : أما حديث ضمام: فقد اختلف العلماء فيه، هل كان أسلم قبل مجيئه أم لا ؟ فإن قلنا: إنه لم يكن أسلم – كما اختاره أبوداوود - فلا ريب في أن هذا ليس طلبًا للعلو، بل كان شاكًّا في قول الرسول الذي جاءه، فرحل إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حتى استثبت الأمر، وشاهد من أحواله ما حصل له العلم القطعي بصدقه ، ولهذا قال في كلامه:" فزعم لنا أنك . . . " إلى آخره، فإن الزعم يكون في مظنه الكذب، أو القول الذي لايُوثَق به ، وإن قلنا: كان قد أسلم؛ فلم يكن مجيئه أيضًا في طلب العلو في إسناد، بل ليرتقي من الظن إلى اليقين؛ لأن الرسول الذي أتاهم لم يُفِدْ خبره إلا الظن، ولقاء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أفاد اليقين "(2).
قلت : وفي بعض هذا الجواب نظر(3)، والله أعلم .
__________
(1) انظر " معرفة علوم الحديث " ( ص 5 – 6 ) .
(2) ليس فيها حاشية مكتوبة
(3) انظر " فتح الباري " ( 1 / 183 ) ك / العلم ، ب/ ما جاء في العلم ، الحديث ( 63 ) وانظر " فتح المغيث " ( 3 / 332 ) .(1/153)
قال السخاوي :" ولكن قد اسْتُدِلَّ له - أي لاستحباب العلو - بقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لتميم الداري في حديث الجساسة :" يا تميم، حدِّث الناس بما حَدَّثْتَني " اهـ(1).
وكذا استدل الحاكم على ماقرره بما جاء عن الصحابة والتابعين في الرحلة في طلب الإسناد العالي .
كما جاء عن أبي أيوب، أنه خرج إلى عقبة بن عامر، يسأله عن حديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - غيره وغير عقبة ،وفيه أنه رحل إلى عقبة بمصر، فقال له : " حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -لم يبق أحد سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في ستر المؤمن، فحَدَثَّهُ الحديث .
قال الحاكم :" بعد إخراجه فهذا أبو أيوب الأنصاري على تَقَدُّم صحبته، وكثرة سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - رحل إلى صحابي من أقرانه في حديث واحد، لو اقتصر على سماعه من بعض أصحابه؛ لأمكنه .
وكما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال : " إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد "(2).
إلا أن العلائي أجاب عن هذه الآثار: بأنها لادليل فيها أيضا؛ لجواز أن تكون تلك الأحاديث لم تصل إلى من رحل بسببها من جهة صحيحة، فكانت الرحلة لتحصيلها لا للعلو فيها . . . " اهـ .
وعلى كل حال: فلا ريب في اتفاق أئمة الحديث قديمًا وحديثًا على أفضيلة طلب العلو؛ أو الرحلة إلى من عنده الإسناد العالي، كما ذكر ذلك العلائي نفسه، وكذا ابن طاهر(3)، والله أعلم .
__________
(1) انظر " فتح المغيث "( 3 / 333 ) .
(2) انظر كلام الحاكم في " المعرفة " ( ص 7 – 8 ) .
(3) فقال :وقد أجْمع أهل النقل على طلبهم العلو ومدحه، إذْ لو اقتصروا على سماعه بنزول ؛ لم يرحل أحد منهم . . . " اهـ من " مسألة العلو والنزول في الحديث " لابن طاهر ( ص 54 ) .(1/154)
?المسألة الرابعة : أقوال بعض الأئمة في مدح الإسناد العالي :
قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - : " طلب الإسناد العالي سُنَّةٌ عمن سلف؛ لأن أصحاب عبدالله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة، فيتعلمون من عمر، ويسمعون منه " .
وقال محمد بن أسلم الطوسي : " قرب الإسناد قربة إلى الله " .
وقال ابن المديني : " النزول شؤم "(1).
وقيل ليحيى بن معين : في مرض موته ما تشتهي ؟ فقال : " بيت خالٍ ، وإسنادٌ عالٍ "(2).
وقال أيضًا : الحديث بنزول كالقُرحة في الوجه .(3)
?المسألة الخامسة : هل العلو ممدوح مطلقًا ؟
اعلم أن العلو منه ما هو ممدوح، ومنه ما هو مذموم ، فيُمْدَح الإسناد العالي إذا كان صحيحا .
أما طلب علو إسناد فيه كذابون وما أشبه ذلك؛ فلا يُفْرَح بهذا العلو ، ولذا عاب العلماء طالب ذلك، فقال الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى - : " متى رأيتَ المحدث يفرح بعوالي هؤلاء يعني فاعلم أنه عامِّيٌ بَعْدُ "(4)وجاء عن أحمد أنه أنكر على الذين يهتمون بالأحاديث العالية مع ضعفها، وقال يحيى بن معين : " حديث النزول عن ثَبْتٍ ؛ خير من العلو عن غير ثَبْت "(5)، وقد قال شعبة ومسعر : "إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون "(6).
__________
(1) انظر هذه الآثار في " الجامع " للخطيب ( 1 / 184 – 186 ) .
(2) ذكره ابن الصلاح في " المقدمة " مع " التقييد " ( 257 ) .
(3) انظر " الجامع " للخطيب ( 1 / 185 ) .
(4) وقال أيضًا في " الميزان " ( 4 /522 ) ترجمة أبي الدنيا الأشج الكذاب : " وما يُعْنَى برواية هذا الضرْب ، ويفرح بعلوها إلا الجهلة " اهـ
(5) انظر " الجامع " للخطيب ( 1 / 87 ) .
(6) كلمة مسعر في " النبلاء " ( 7 / 167 ) وكلمة شعبة في " مسائل ابن هاني " لأحمد ( 2 / 193 / 2046 ) والخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ( ص 194 ) برقم ( 231 ) .(1/155)
وحَمَل العلماء هذه الكلمة على أنها ذم لجهلة المحدثين، الذين يشتغلون بالعلو والغرائب، والفوائد مع سقوط أسانيدها، فإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الرحلة في طلب هذه الأمور تصدُّ حقًّا عن ذكر الله وعن الصلاة، إذْ أن السفر قطعة من العذاب، والإنسان إذا سافر ترك كثيرًا من النوافل، وربما ضيع من يعول، أو ترك ما هو أولى من ذلك .
قال زكريا الأنصاري في " فتح الباقي "(1): " وحيثُ ذُمَّ النزول ، كقول ابن المديني وغيره ، إنه شؤْم ، وقول ابن معين : إنه قُرحة في الوجه ؛ فهو مالم يُجْبَر بصفة مرجِّحة ، فإن جُبِر بها : كزيادة الثقة في رجاله على العالي ، أو كونهم أحفظ ، او أضبط ، أو أفقه ، أو كونه متصلاً بالسماع ، وفي العالي حضورًا ، وإجازة ً ، أو مناولة، أو ( تساهل ) في بعض رواته في الحمل ؛ فالنزول حينئذٍ ليس بمذموم ولامفضول ، بل فاضل ، كما صرح به السلفي وغيره ، قالوا : والنازل حينئذٍ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق " اهـ .
?المسألة السادسة : الأسباب التي جعلت العلماء يمدحون العلو :
هناك أسباب جعلت العلماء يمدحون العلو، منها :
1- أنه يدل على الرحلة، وهذا يدل على علو الهمَّة عند التلميذ، لأن دنيئ الهمة لايرحل ، وعلو الهمة تدل على أن التلميذ عنده عناية بهذا العلم ، لأن الإنسان إذا اعتنى بالشئ عَلَتْ همته فيه ، وجالس أهله ، وذاكرهم ، وهذه العناية تنبئ عن الإتقان ، لأن من اعتنى بشئ أتقنه .
2- لأنه أقرب إلى الصحة وقِلَّة الخطأ، فما من راوٍ من رجال الإسناد إلا والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط، وطال السند؛ كثرت مظان تجويز الخطأ ، وكلما قلَّتْ قلَّتْ ، قاله الحافظ(2).
__________
(1) ص 487 ) .
(2) انظر " النزهة " ( ص 156 – 157 ) وانظر كلام ابن الصلاح بنحوه في " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 257 ) .(1/156)
3- قد يدل ذلك على معرفة الراوي بالعالي والنازل، فتحمله هذه المعرفة على الرحلة لهذا النوع من الحديث دون غيره، فيكثر ذلك في حديثه ، ومعرفة الراوي بالفن ترفع من شأنه .
قال الناظم – رحمه الله - :
......................... وضِدُّه ذاك الذي قَدْ نَزَلاَ
أشار الناظم في الشطر الأول من هذا البيت إلى الإسناد العالي، وقد تكلمتُ عنه، وعن أقسامه، وما يتصل بذلك ، وفي هذا الجز من البيت أشار إلى الإسناد النازل .
وقوله " وضده " أي ضد ما قلَّتْ رجاله .
وقوله " ذاك الذي قد نزلا " أي هو المعروف عندهم بالنازل .
وتحت هذا الجزء من البيت مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الإسناد النازل :
أفاد ما قاله الناظم بأنه الإسناد الذي كثرتْ رجاله، وقد سبق في الإسناد العالي أن هذا غير جامع، فارجع إليه .
?المسألة الثانية : الإسناد النازل مرغوب عنه عند جمهور أهل العلم ، قال علي ابن المديني – رحمه الله - : " النزول شؤم "
وقال ابن معين – رحمه الله – " النزول في الإسناد قرحة في الوجه "(1).
وذهب بعض أهل النظر إلى تفضيل النازل على العالي، وعللوا ذلك بأن الإسناد كل مازاد عدد رجاله زاد الاجتهاد فيه بالنظر في رجاله وزادت بذلك المشقة، فيزداد الثواب فيه .
قال ابن الصلاح : " وهذا مذهب ضعيف الحجة "(2).
وقال الحافظ في "النزهة"(3): " فذلك ترجيح بأمر أجنبي عما يتعلق بالتصحيح والتضعيف " اهـ.
نعم ، قد تكون في النزول مزية ليست في العلو؛ كأن يكون رجاله أوثق من رجال العالي، أو أحفظ، أو أفقه، أو الاتصال فيه أظهر؛ فلا تردُّدَ في أن النزول حينئذٍ أولى وأجل ، ولا يَفْرح بالعلو مع ضعفه ، ويُعْرِض على النازل – وهو بهذا القدر – إلا جاهل ، والله أعلم .
__________
(1) انظر هما في " الجامع " للخطيب ( 1 / 185 – 186 ) .
(2) انظر " المقدمة " مع " التقييد " ( ص 263 ) .
(3) ص 157 ) وقد سبق إلى ذلك ابن دقيق العيد في " الاقتراح " ( ص 267 ) .(1/157)
?المسألة الثالثة : أقسام النزول :
هي عكس أقسام العلو السابقة ، فكل ما حَكَمْنا بعلوه؛ حَكَمْنا على مقابله بالنزول ، والله أعلم.
( خاتمة ) : لقد أطلتُ الكلام في كثير من مسائل العلو والنزول؛ ليفهم طالب العلم اصطلاحات العلماء إذا ذُكِرَتْ في مواضع من الكتب ، وإلا ففي هذا الزمان لا يكاد يذكر ذلك، وإن ذكر عند البعض؛فليس له قيمة علمية تتعلق بالتصحيح والتضعيف، بل بعض صور العلو قد فُقِدَ منذ عدة قرون: كالمساواة، والمصافحة ، والله أعلم .
( تنبيه ) : الحكم على الإسناد بأنه عال أو نازل إنما هو أمر نسبي إضافي، فيقال : هذا إسناد عال، أي بالنسبة إلى إسناد آخر ليس كذلك ، وكذا يقال في الإسناد النازل، لأنه ليس عندنا حد للقلة أو الكثرة التي يصير بها الإسناد عاليا ، أو ضده ، والله أعلم .
( تنبيه آخر ): مسألة العلو والنزول تختلف من زمان إلى آخر ، فرب حديث يكون عاليا في زمن ما ، بعدد ما من الرجال، وفي زمن آخر يكون نازلا، كأن يروي الحافظ ابن حجر حديثا بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عشرة ، فهذا إسناد عال، وذلك لتأخُّر زمان ابن حجر ، ولو روى البخاري هذا الحديث من طريق سبعة أو ثمانية لكان نازلا ، وذلك لتقدم زمانه ، والله أعلم .
قال الناظم - رحمه الله - :
15-وما أَضَفْتَه إلى الأصحابِ مِنْ ... قَوْلٍ وفِعْلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكِنْ
عَرَّف الناظم في هذا البيت الحديث الموقوف .
وقوله: " الأصحاب" جمع صاحب، والمقصود أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمراد به جنس الأصحاب، وإلا فلايشترط في تسمية الحديث موقوفًا أن يرويه عن جميع الصحابة، أو عن جماعة منهم، بل يكفى في ذلك أن يُروى عن واحد منهم فقط ، كما لايخفى .
وقوله " زُكِنْ " أي عُلِم، وهو تكملة للبيت فقط .
والواو في قوله " قول وفعل " للتقسيم، وهي فيه أجود من " أو " .
وتحت هذا البيت مسائل :(1/158)
?المسألة الأولى : الاعتراض على الناظم في ذكره الموقوف في هذا الموضع :
اعترض على الناظم بأنه كان ينبغي له ذكر الموقوف عند ذكره الحديث المرفوع والمقطوع فإنَّ ضمَّ الشئ إلى ماكان من جنسه أولى،كما هو صنيع غير واحد من أهل العلم , والله أعلم .
?المسألة الثانية : تعريف الحديث الموقوف :
عَرَّف الناظم الحديث الموقوف بأنه: " ما أضيف إلى الصحابة – رضي الله عنهم - من قولهم، أو فعلهم" والمراد بقولهم مالم يكن له حكم الرفع، ولم يذكر الناظم تقريرهم؛ ولعل ذلك لأننا لانستطيع أن ننسب إلى الصحابي تقريرًا لغيره، بحجة أن الشئ الفلاني قد فُعل بحضرته، وسكت عنه، وذلك: لأن سكوته على قول أو فعل له عدة احتمالات، قد تقدم الكلام عليها في الحديث المرفوع، وأذكرها هنا أيضا ، وخلاصتها :
1-يحتمل أن يكون ذاهلاً عن هذا الفعل، وإن كان ذلك بحضرته .
2-عدم القدرة على الإنكار على فاعل المنكر، وإنْ بَيَّنَ الصحابي الصواب في وقت آخر، كما حدث من أنس – رضي الله عنه – مع الحجاج في تأخيره صلاة الجمعة عن وقتها .
3- أن يكون غير عالم بحكم ما فُعل في حضرته.
4-أن يترك الإنكار على صاحب الفعل الذي فُعل أمامه خشية أن يؤول إلى مفسدة أكبر، كما قال ابن مسعود في صلاة عثمان بمنى أربعًا،وقد تابعه عليها: الخلاف شر .
5- أن يرى عدم تعيُّن الإنكار عليه، إما لأنها مسألة اجتهادية، يسوغ فيها الخلاف، ولكل من القولين حظ من النظر والأدلة ، وإما أنه يرى أن غيره قد قام بذلك، فيسكت لاعن رضى بالفعل .(1/159)
ومع وجود هذه الاحتمالات أو بعضها؛ فلايليق بنا إطلاق نسبة قول أو فعل إلى الصحابي ، لكونه جرى بحضرته؛ إلا إذا علمنا انتفاء هذه الاحتمالات في حق الصحابي، وظهرت لنا قرينة تدل أن سكوته أونحوه إقرار منه للغير، فلابأس بنسبة ذلك إليه(1)، والله أعلم .
وقد عَرَّف بعضهم الحديث الموقوف، وأدخل فيه التقرير، وهذا محمول على مايصح أنه قد أقره، وذلك بالشرط المتقدم، وعلى ذلك: فلابأس أن يقال:" هو ما أضيف إلى الصحابي قولا أو فعلاًّ أو تقريرًا .
?المسألة الثالثة : اختلفوا في تعريف الصحابي على أقوال، وأشهرها :
القول الأول : أنه من طالت مجالسته، أو صحبته للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بخلاف مَنْ وَفَدَ عليه وانصرف ، حكاه أبوالمظفر السمعاني عن الأصوليين(2).
القول الثاني: هو من رأى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مؤمنًا به ،ومات على ذلك،(3)ويرد عليه: أن بعض الصحابة لم يتمكن من الرؤية؛ لِعُذْرٍ ،كالأعمى ،كابن مكتوم ونحوه، فهو صحابي بلا خلاف، ولا رؤية له .
ولذا فالأصح أن يقال :" هو من لقي النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مؤمنًا به، ومات على الإسلام، وهو ما رجحه الحافظ في "النزهة "(4)،
__________
(1) قال الحافظ في"النكت " ( 1 / 512 ) : ". . . فإن خلا عن سبب مانع من السكوت والإنكار؛ فحُكمه حُكْم الموقوف " اهـ .
(2) انظر " شرح الألفية " للعراقي ( ص 344 ) .
(3) انظر " شرح ألفية الحديث " ( ص 343 ) .
(4) ص149 – 150 ) وذكر المناوي في " اليواقيت " ( 2 / 201 – 202 ) أن الحافظ قال في كتاب آخر : " الذي اخترته أخيرًا : أن قول من قال : رأى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لايرد عليه الأعمى ، لأن المراد يرى بالفعل ، وإن عرض مانع من الرؤية بالقوة ، أو بالفعل ، والأعمى في قوة من يرى بالفعل ، وإن عرض مانع من الرؤية بالفعل " اهـ .
ولاشك أن العبارة التي تحتاج إلى تأويل أولى في التعريف من غيرها ، والأمر سهل .(1/160)
وانتقد غيره .
لأن قوله : " لقي " يدخل فيه الأعمى والبصير " .
وهل يدخل في ذلك من رآه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في المنام ؟
الجواب : لا ، ولعله يرد أيضًا على من قال في التعريف: " من رآه " فإنه عام، إذ لوقلنا بصحبة من كان كذلك، لاستمرت معنا الصحبة إلى قيام الساعة، ولم يقل بذلك أحد(1)، والله أعلم .
وكذا لايدخل من رآه – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو ميت قبل أن يُدْفن، ولايعد صحابيًا على الصحيح(2)، والله أعلم .
وقوله " مؤمنًا " أخرج من رآه كافرًا، وكذا أخرج الصغير غير المميز، الذي له شرف الرؤية فقط، لكن روايته مرسلة، وليست مسندة كرواية الصحابي، وذلك أن قوله: " مؤمنًا به " يدل على قَصْد الإيمان ، ولايُتصَوَّر ذلك من غير المميز ، وإن حُكم له بأنه من جملة المؤمنين باعتبار دين الأبوين والفطرة التي فطرهم الله عليها(3).
وقوله: " به " يخرج من لقيه مؤمنًا - حسب زعمه - بغيره من الأنبياء لابه .
وقوله: " ومات على الإسلام " أخرج من رآه مؤمنًا، ثم ارتد ومات على الكفر – والعياذ بالله - .
ويدخل فيه من تخلل إسلامَهُ رِدَّةٌ إلا أن الله ختم له بالإسلام(4).
?المسألة الرابعة : فوائد كتابة الموقوف:
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 4 / 82 ) .
(2) وانظر الخلاف في ذلك في " فتح المغيث " ( 4 / 81 – 82 ) وذكر دليل من أدخله في الصحابة : أنهم أدخلوا الصغير الذي لم يميز من الصحابة ، فهذا من باب أولى ، والله أعلم ، وقال السخاوي – ليخرج من رآه ميتًا - : " وعلى هذا فيُزاد في التعريف : قبل انتقاله من الدنيا " ، والله أعلم .
(3) وانظر الكلام على اشتراط التمييز في اعتبار الصحبة ، في " التقييد والإيضاح " ( ص 292 ) في النوع الثلاثين ، وبنحوه مختصرًا كلام الحافظ في " الإصابة " ( 1 / 159 ) .
(4) وانظر الكلام على هذه القيود في "الإصابة " ( 1 / 158 – 159 ) و "النزهة" ( ص 149 – 150 ) .(1/161)
لكتابة الموقوف عدة فوائد، منها :
1- أن قول الصحابي أو فِعْلَه من جملة فهم السلف، ونحن نفهم الكتاب والسنة بفهمهم ، ومعرفة أن هذا القول قال به أحد الصحابة: يجعله مما يسوغ القول به، إذا اختلفوا ،وإذا اجمعوا فلانخرج من قولهم ، كما فصل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - .
وقد ذكر الخطيب نحو ذلك في أقوال التابعين ، فأقوال الصحابة كذلك من باب أولى .
2- أن قول الصحابي إذا لم يخالَف من صحابي آخر، ولم يعارض قولُه آية أو حديثًا؛ فهو حجة عند بعضهم، كما ذكر ذلك ابن القيم في "إعلام الموقعين" ، وقد قال صالح بن كيسان: " اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فكنا نكتب السنة، فكتبنا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : ثم قال الزهري: نكتب ما جاء عن أصحابه؛ فإنه سنة، قال : فقلت أنا : لا ، ليس بسنة ،لانكتبه ، قال : فكتب ولم أكتب، فأنجح وضَيَّعْتُ " انظر تخريجه في "موقف ابن تيمية والأشاعرة"(1).
3- قد يُعْرَف به علة الحديث المرفوع ، وذلك عند جمع الطرق ، ويكون الراجح قول من رواه موقوفًا.
4- قد يكون له حكم الرفع، وقد مر الكلام على قول الصحابي متى يكون له حكم الرفع .
6- الاستشهاد به مع المرفوع المضعَّف ، وقد ذكر الشافعي في "الرسالة" الاستشهاد به مع المرسل، بشرط ألا يكون الموقوف والمرفوع من مخرج واحد .
?( تنبيهات ) :
الأول: قد يُسْتَعمل الموقوف في غير قول الصحابي أو فعله، لكن يكون مقيَّدًا فيقال وقفه فلان على الزهري أو على الشعبي ، ونحوهما ، أو موقوف على الزهري ونحوه .
__________
(1) 1 / 66 ) .(1/162)
الثاني : فقهاء خراسان يُسَمُّون الموقوف أثرًا ، والمرفوع خبرًا ، وعند المحدثين كل هذا يسمى أثرًا، كما سمى الطحاوي كتابه :" شرح معاني الآثار " ، وفيه المرفوع وغيره(1)، والله أعلم .
الثالث : لايُشْترط الاتصال أو عدمه في الحديث الموقوف، كما لايُشْترط عدالة الراوي وضبطه، ونحو ذلك ، إنما هذا يُحتاج إليه إذا كنا بصدد الحكم بصحته أو ضعفه ، ولأن هذا من مباحث المتن لا الإسناد ، والله أعلم .
الحديث المرسل
قال الناظم – رحمه الله - :
16- ومُرْسَل منه الصحابيُّ سقطْ . . . . . . . . . . . . . .
عَرَّف الناظم ـ رحمه الله ـ في هذا الجزء من البيت الحديث المرسل .
وتحت هذا الجزء من البيت عدة مسائل :
المسألة الأولى : قال العلائي – رحمه الله -: " أما المرسل : فأصله من قولهم : أرسلتُ كذا ، إذا أطلقته ، ولم تمنعه ، كما في قوله تعالى : ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) فكأن المرسِل أطلق الإسناد ولم يقيده براوٍ معروف . . . ويحتمل أن يكون من قولهم : جاء القوم أرسالاً ، أي قِطَعًّا متفرقين . . . فكأن تصور من هذا اللفظ الاقتطاع ، فقيل للحديث الذي قطع إسناده ، وبقي غير متصل : مرسل ، أي كل طائفة منهم لم تلق الأخرى ولا لحقتْها ، ويُحتمل أن يكون أصله من الاسترسال ، وهو الطمأنينة إلى الإنسان ، والثقة به فيما يحدثه ، فكأن المرسِل للحديث اطمأن إلى من أرسل عنه ، ووثِق به لمن يوصله إليه ، وهذا اللائق بقول المحتج بالمرسَل . . . ويجوز أيضًا أن يكون المُرسَل من قولهم : ناقة مرسال ، أي سريعة السير . . . فكأن المرسِل للحديث أسْرَعَ فيه عجلاً ، فحذف بعض إسناده ، والكل محتمل " اهـ(2).
?المسألة الثانية : تعريف الحديث المرسل : وفيه أقوال :
__________
(1) انظر هذا التنبيه والذي قبله في " المقدمة " لابن الصلاح ( ص 66 ) مع " التقييد " ، وانظر " التدريب " ( 1 / 184 ) .
(2) من " جامع التحصيل " ( ص 14 – 15 ) .(1/163)
القول الأول :وهو ما عرفه الناظم بأنه:" هو الحديث الذي سقط من إسناده الصحابي" وقد سبق الناظمَ إلى هذا التعريف عيرُ واحد(1).
إلا أن هذا التعريف مُنْتَقَدُ، ووجْه ذلك : أننا إذا تأكدنا أن الساقط هو الصحابي فقط؛ فلا شك أن الحديث مقبول؛ لأن الصحابة كلهم عدول – ومعلوم أن المرسل من قسم الضعيف - فما يضرنا سقوط الصحابي، ولكن نحن نخاف أن يكون قد سقط مع الصحابي تابعي آخر، وقد وُجِدَ أن التابعي يروي عن تابعي آخر أو أكثر عن الصحابي :
أما ادعاء أن المرسَل هو ما سقط منه صحابي فقط: فهذا يحتاج إلى برهان .
لكن قد يقال: إن عبارة الناظم ليس فيها اشتراط سقوط صحابي فقط، بل ذَكَر أن المرسل ما سقط منه صحابي، وهذا يشمل ما سقط منه صحابي فقط، وما سقط منه صحابي مع ضميمة غيره من التابعين، ومع ذلك فهي عبارة غير دقيقة، ولا تَسْلَم مِنْ نظر، والله أعلم .
القول الثاني : الحديث المرسل:" هو ما سقط منه رجل في أي موضع كان" وعلى هذا فهو والمنقطع سواء، وهذا القول وإن قال به جمهور الفقهاء، والأصوليين، وجماعة من المحدثين؛(2)إلا أن المشتهر عند المتأخرين خلافه، تمييزًّا للأنواع، وابتعادًا عن تداخلها .
القول الثالث :" هو ما أضافه التابعي الكبير إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – " فيخرج بذلك ما أضافه صغار التابعين فمن دونهم .
__________
(1) منهم ابن دقيق العيد ، كما في "الاقتراح " ( ص 208 ) وانظر " فتح المغيث " ( 1 / 156 ) .
(2) انظر " الكفاية " ( ص 58 ) و " شرح مسلم " للنووي ( 1 / 30 ) و " جامع التحصيل" ( ص 18 ، 24 ) و " النكت " (2 / 543 – 544 ) و" فتح المغيث" ( 1 / 158- 159 ) .(1/164)
قال الحافظ ابن حجر : ولم أر تقييده بالكبير صريحًا عن أحد، لكن نقله ابن عبدالبر عن قوم ، وذكَر أن الشافعي قيد المرسل الذي يُقبل إذا اعتضد بكبار التابعين ، ولايلزم من ذلك أنه لايُسمي ما رواه التابعي الصغير مرسلاً اهـ(1).
القول الرابع :" هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - . . . . "
وقولهم ما أضافه التابعي : أي ما أسنده أو عزاه إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو وصف خِلقي .
القول الخامس :" هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مما سمعه من غيره . . . " وهذا القيد من أجل إخراج من سمع من النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - حال كفره، ولم يسلم إلا بعد موت النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فإن هذا لا تصح له صحبة، وحديثه لا يكون من قبيل المرسَل، بل هو من قبيل المتصل، ويُمثِّلون لذلك بالتنوخي رسول هرقل، وحديثه في "مسند الإمام أحمد" .
وخلاصته : أن هرقل أرسل رسوله التنوخي إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فأدركه وهو في تبوك، فسمع منه بعض الأشياء وهو كافر، وعَرَضَ عليه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الإسلام فأبى، ثم ذهب إلى هرقل، فقال بعضهم إنه قد أسلم، وفي هذا خلاف عند العلماء، ومن حكم له بالإسلام عدَّه تابعيًّا؛ لأنه لم يلق الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مؤمنًا به، وحكم لروايته بالاتصال ،لأنه شافه النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
قلت : لكن هذه القصة لا تصح من جهة الإسناد، وعلى هذا فلا يُحتاج إلى هذا القيد، إلا إذا كان لذلك أشباه ونظائر؛ فأمر آخر، ولعل عُذْرَ من أعرض عن هذا القيد - وإن كان يرى صحة القصة – نُدْرة وقوع ذلك، والنادر لا يُحتاج إلى الاحتراز منه، والله أعلم .
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 543 ) .(1/165)
والمختار – تغليبًا للأكثر – قول من قال : " هو ما أضافه التابعي إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قولاً ، أو فعلاً ، أو تقريرًا ، أو صفة " .
وقد صرح الخطيب بأن أكثر ما يُوصَف بالإرسال من حيث الاستعمال : ما رواه التابعي عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – " اهـ(1).
ويليه في الشهرة في الاستعمال ، قول من قال : " هو ما انقطع إسناده " ، والله أعلم .
?المسألة الثالثة : هل يُحْتَج بالحديث المرسل ؟
الجواب : لا يُحتج بالحديث المرسل، وقد قال الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه" حاكيًا قول خصمه، مُقرًّا له :" والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة "اهـ(2).
وقد يقال: كلام مسلم في غير المرسل الاصطلاحي المشهور؛ لأن سياق كلامه في العنعنة، ليس في موضع النزاع، والله أعلم .
وفي الاحتجاج بالمرسل خلاف، لكن رده هو مذهب جمهور المحدثين، وجماعة الفقهاء، وجماهير أهل الأصول والنظر، حكاه النووي عنهم(3).
وذهب آخرون إلى الاحتجاج به، حتى إن بعضهم بالغ وقَدَّمه على الحديث المسند، وقال: من أسْنَدَ فَقَدْ أحالك، ومن أرسل فَقَدْ كفاك، وهذا الكلام مردود، ولو فُتِح هذا الباب لانهار علم الحديث من أساسه،وسقطت جهود المحدثين ،وقد جمع الحافظ في النكت(4)مذاهب العلماء في ذلك، فقال :
وأما حكم المرسل فاختلفوا في الاحتجاج به على أقوال :
أحدها : الرد مطلقًا، حتى لمراسيل الصحابة .
ثانيها: القبول المطلق في جميع الأعصار والأمصار، كما قدمنا حكايته وَرَدَّه .
ثالثها : قبول مراسيل الصحابة - رضي الله عنهم - فقط وردّ ما عداها، وهو الذي عليه أئمة الحديث .
__________
(1) " الكفاية " ( ص 58 ) .
(2) 1 / 132 ) مع شرح النووي ، ب/ صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن .
(3) انظر " المجموع " ( 1 / 129 ) .
(4) 2 / 546 – 555 ) .(1/166)
رابعها : قبول مراسيل الصحابة وكبار التابعين، ويقال: إنه مذهب أكثر المتقدمين .
خامسها : كالرابع، لكن من غير قيد بالكبار، وهو قول مالك وأصحابه، وإحدى الروايتين عن أحمد .
سادسها : كالخامس، لكن بشرط أن يعتضد، ونَقَلَه الخطيبُ عن أكثر الفقهاء .
سابعها: إن كان الذي أرسل من أئمة النقل المرجوع إليهم في التعديل والترجيح؛ قُبِلَ مرسله، وإلا فلا .
ثامنها : قبول مراسيل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وبقية القرون الفاضلة دون غيرهم .
تاسعها :كالثامن، بزيادة من كان من أئمة النقل أيضًا .
عاشرها : يقبل مراسيل من عُرِفَ منه النظر في أحوال شيوخه، والتحري في الرواية عنهم، دون من لم يُعْرَف منه ذلك .
حادي عَشْرِها: لا يُقْبَل المرسل إلا إذا وافقه الإجماع؛ فحينئذ يحصل الاستغناء عن السند، ويُقْبَل المرسل، قاله ابن حزم في "الأحكام" .
ثاني عَشْرِها: إن كان المرسِل موافقاً في الجرح والتعديل؛ قُبِلَ مُرْسَله وإن كان مخالفًا في شروطها؛ لم يُقْبَل ، قاله ابن برهان ، وهو غريب .
قلت : لم يظهر لي مراده من هذا المذهب بجلاء ، فالله أعلم .
ثالث عشْرِها: إن كان المرسِل عُرِف من عادته، أو صريح عبارته: أنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ قُبِلَ، وإلا فلا اهـ .
قلت : وأقوى هذه المذاهب مذهب من أطلق رد المرسل المجرَّد، ويليه من قَبِلَه إذا كان التابعي من أئمة الحديث، الذين يميزون صحيح الحديث من سقيمه، وثقات الرجال من ضعفائهم، واشترط أن لا يروى إلا عن ثقة، وأما مراسيل الصحابة فحجة، وهي خارجة عن المرسَل الاصطلاحي، الذي نحن بصدده، والله أعلم .
( تنبيه ) : استدل القائلون بقبول المرسل بأمور، أهمها :
1-الإجماع على قبول المرسل، حتى جاء الشافعي فردَّه(1).
__________
(1) قاله الطبراني ، انظر " جامع التحصيل " ( ص 70 ) .(1/167)
والجواب: أن دعوى الإجماع غير مسلَّم بها , فإن ابن عباس – رضي الله عنه- كان يقول: فلما رَكِبَ الناسُ الصعب والذلول؛ لم نكن نأخذ إلا ما نعرف عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فإذا كان الصحابة لايأخذون ممن لايعرفون حاله – وإن عُرِفتْ عينه – فمن باب أولى رد رواية من لايُعْرف له عين ولا أثر ، والله أعلم .
وقال ابن سيرين: كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة؛قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فيُرَدُّ حديثهم، وهذا في عصر بقية الصحابة والتابعين، فلو كانوا يقبلون المراسيل؛ لما فتشوا في الأسانيد ، والله أعلم(1).
2-قولهم : إن عصر التابعين عصر قد فَشَتْ فيه العدالة، وهم من خير القرون، والكذابون قلة في ذلك الزمان، فالأصل قبول مراسيلهم .
والجواب : إن عصر التابعين وإن كان كذلك؛ إلا أن الاحتياط في قبول السنة يقتضي التفتيش عن الإسناد , لاسيما وقد ظهر في أواخر عصر الصحابة، وكذا في عصر التابعين ألوان من البدع والأهواء.
وهذا ابن سيرين وغيره لم يروا ما ذكره المحتجون بالمرسل دليلاً لترك النظر في الأسانيد، وابن سيرين أحد التابعين، فدل ذلك على عدم الاعتماد على هذا الدليل .
أضف إلى ذلك: أن سبب الرد لرواية الراوي لا يقتصر على الكذب، فالتابعون وإن قلَّ فيهم الكذب - بالنسبة لمن بعدهم من العصور - فالوهم والخطأ موجود في الصالحين الأتقياء، والراوي لا يُحتج بخبره إلا أن ثبتتْ عدالته، وصح ضبطه، والله أعلم .
3-قولهم : لو كان التابعي أخذ الحديث عمن ليس بثقة؛ لما استجاز لنفسه أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
__________
(1) انظر هذا الوجه ملخصًا في " جامع التحصيل " ( ص 70 – 71 ) .(1/168)
والجواب : أن هذا ليس بلازم؛ فالحديث يُروى على وجوه ،منها التَّعَبُّد والعمل به، ومنها الاستدلال عليه بغيره، ومنها التحذير منه، فقد يروي التابعي الحديث لا للعمل به، إنما يرويه لسبب آخر، وعلى ذلك فلا يلزمه أن يتحرى في شيخه .
سلَّمنا أن التابعي قَصَدَ التحري؛ فليس كل تابعي يصلح لذلك، فمنهم الناقد البصير، ومنهم الغافل، الذي ليس له رواية بأحوال الرواة، ومنهم المضعَّف مِنْ قِبَلِ حِفظه .
سلمنا أن التابعي ناقد بصير؛ فهل التزم الرواية عن الثقات منذ بدأ في التحديث، أم أنه ما التزم هذا الأمر مؤخَّراً ، والجواب أن الثاني هو مقتضى العادة .
سلمنا أنه ما أرسل إلا عن ثقة يعرفه؛ فغايته أنه توثيق للمبهم، وهو لا يعتمد عليه - على الراجح - كما هو مذهب الجمهور ، والله تعالى أعلم .
وقد أطال النفس الحافظ العلائي –رحمه الله– في رد أدلة من احتج بالمرسل فانظر "جامع التحصيل"(1).
?المسألة الرابعة : سبب رَدِّ الحديث المرسل :
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وإنما ذُكِرَ في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يُحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا ، وعلى الثاني: يُحتمل أن يكون ضعيفًا ، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني: يُحتمل أن يكون حمل عن صحابي، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر ، وعلى الثاني: فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد إما بالتجويز العقلي؛ فإلى ما لانهاية له، وإما بالاستقراء إلى ستة أو سبعة : وهو أكثر ما وُجِدَ من رواية بعض التابعين عن بعض "(2)اهـ . وإن كان في قوله " . . . . إلى مالا نهاية نظر ، لأن عدد التابعين محصور، فكيف لايُحصر ما بين التابعي والصحابي من التابعين(3)؟!
?المسألة الخامسة : حُكْم مراسيل الصحابة :
__________
(1) 2 / 68 – 98 ) .
(2) انظر " النزهة " ( ص 110 ) .
(3) انظر "حاشية ابن قطلوبغا على النزهة "( ص 80 ) وحاشية الكمال على " النزهة " ( 79 ) .(1/169)
وصورة ذلك: أن يروي الصحابي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – مع أنه لم يسمعه منه، فذهب بعضهم(1)إلى أنه لايُحتج ، لا لأن الصحابة ليسوا بعدول ، ولكن لاحتمال أن الصحابي لم يأخذه عن صحابي آخر، بل يُحتمل أنه أخذه عن تابعي عن صحابي آخر ، أما أخذه عن تابعي عن صحابي فنادر جدا ، وقد ذكر الحافظ (3) أن ماكان من هذا القبيل قد تُتُبِّعَ وليس فيه شئ عن تابعي ضعيف في باب الأحكام ، والله أعلم .
والراجح قبول مرسل الصحابي ؛ لأن الأصل أنه إن نزل نزل إلى صحابي آخر لا إلى تابعي ، فالنادر لايُلتفت إليه إلا بقرينة ، لاسيما وقد سبق عن الحافظ ما سبق وانظر ما قاله ابن الوزير في ذلك(2).
(
__________
(1) وهو قول أبي بكر الباقلاني ، وحُكي عن الاسفرائيني ، انظر " النكت " ( 2 / 546 – 548 ) .
(2) انظر " توضيح الأفكار " ( 1/ 317 ) وقيد الصنعاني أخذ الصحابي عن التابعي بصغار الصحابة لا كبارهم ، فإن ذلك مستبعد جدًا ، انظر ( 1 / 318 ) وصرح الحافظ في " هدي الساري " ( ص 397 ) الحديث ( 89 ) من الأحاديث المنتقدة على البخاري ، بأن قبول المرسل الصحابي مذهب الأئمة قاطبة إلا من شذَّ تاخر عصره عنهم ، فلايُعتد بمخالفته ، والله أعلم .
وجعل الخلاف في مراسيل الصحابة ليس شاملاً لمراسيل من مات رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قبل أن يُميزوا ، انظر " الفتح " ( 7 / 6 ) ك / فضائل الصحابة ، الحديث ( 3651 ) .(1/170)
تنبيه ) : الصحابي الذي يُقْبَل مرسَله: هو من لقي النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مميزا لما يقوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سواء كان كبيرا أم صغيرًا ، أما الذين أُدْخِلوا في الصحابة من باب شرف الرؤية، ولم يكونوا مميزين لِّما رأَوُا النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أو رآهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فروايتهم من مراسيل التابعين(1)، وقد سبق الكلام على حكم ذلك ، والله أعلم.
( تنبيه آخر ): إذا قالوا:" فلان صحابي صغير" فليس المراد بذلك أنه من الذين لم يكونوا مميزين حال لقائهم بالنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إلا أن تظهر قرينة لذلك ، والله أعلم .
?المسألة السادسة : إذا عُرِفَ من عادة التابعي أنه لايُرْسِل إلا عن ثقة، فهل يُقْبَل مرسَله أم لا ؟
في هذا خلاف بين أهل العلم :
القول الأول: ذهب الجمهور - كما حكاه الحافظ ابن حجر عنهم - إلى الوقف للاحتمال(2)، وذلك يرجع لأمور :
1- أن عدم التصريح بالواسطة يَجعل في النفس رِيبة؛ لأنه قد يكون ثقة عنده ، ضعيفًا عند غيره ، وإذا كنا قد رددنا توثيق المبهم؛فهذا من جنسه.
2- نخشى من كثرة الوسائط بين التابعي وبين رسول الله - الله عليه وعلى آله وسلم - فإذا كان التابعي يشترط في شيخه أن يكون ثقة ؛ بقي شيخ شيخه ، وهكذا،مع أنه لم ينص على أن يشترط ذلك فيهم أيضا، بل قد وجدنا من يشترط ذلك إذا أراد أن يروي عن ضعيف نزل إلى ثقة،فأخذ عنه عن ذلك الضعيف .
__________
(1) انظر " الإصابة " ( 1 / 159 ) وقد سبق إلى ذلك العلائي في " جامع التحصيل " ترجمة عبدالله بن الحارث بن نوفل ( ص 253) وترجمة عبدالله بن أبي طلحة ( ص 259 ) ولم يعدّ هذا النوع صحابيًّا - أصلاً – وقد أفاد ذلك العراقي في " شرح الألفية " (3/7) .
(2) انظر " النزهة " ( ص 111 ) .(1/171)
3- ويضاف إلى ذلك: أنه قد يكون ما التزم التابعي هذا الشرط إلامؤخرًا ، وقد سبق له روايات مرسلة، لم يتوافر فيها هذا الشرط ، ولم يتميز لنا هذا من ذاك ، والأصل الاحتياط في عزو الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولذا وضع الأئمة شروطًا كثيرة لصيانة الحديث النبوي من إلحاق ما ليس منه به ، والله أعلم .
فمع هذه الاحتمالات لا يَتأَتَّى لنا أن ننسب حديثا إلى الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأن نأخذ منه أحكامًا في الحلال والحرام ، ونبيح الدماء، والأعراض، والفروج، والأموال بشئ لانعرف من الذي رواه .
القول الثاني : وذهب آخرون إلى قبوله إذا كان المرسِل قد عُرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة .
واختار هذا القول العلائي، وقال: هذا أعدل المذاهب(1)بل بالغ ابن عبدالبر فنقل اتفاقهم على ذلك(2).
( قلت ) ويَرِدُ عليه ما سبق من أمور في القول الأول، والله أعلم .
?المسألة السابعة: أطلق جماعة من المحدثين، وكذا أكثر الأصوليين والفقهاء المرسل على الذي انقطع إسناده على أي وجه كان .
__________
(1) انظر " جامع التحصيل " ( ص 96 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 552 ) وفي " التمهيد " ( 1 / 30 ) لكنه لم يذكر الاتفاق في هذا الموضع .(1/172)
ووجَّه ذلك الحافظ ابن حجر، فذكر اختلاف العلماء في المنقطع والمرسل، وهل هما متغايران أم لا .... ثم قال:" فأكثر المحدثين على التغاير، لكنه عند إطلاق الاسم، وأما عند استعمال الفعل المشتق ؛ فيستعملون الإرسال فقط، فيقولون: أرسله فلان سواء كان ذلك مرسلاً، أو منقطعًا، ومِنْ ثمَّ أطلق غير واحد ممن لم يلاحظ مواضع استعمالهم على كثير من المحدثين أنهم لا يغايرون بين المرسَل والمنقطع، وليس كذلك لما حررناه وقلَّ مَنْ نبَّه على هذه النكتة في ذلك،(1)والله أعلم . اهـ .
قلت : كلام الحاكم في "المعرفة" يدل على خلاف ما قال الحافظ عن المحدثين واستعمالهم لذلك(2)، والله أعلم .
?المسألة الثامنة الأسباب الحاملة على الإرسال :
1- أن يكون المرسِل قد سمع الحديث عن جماعة،ثبتتْ عدالتهم، وصح عنده الحديث من روايتهم ، فيرسله اعتمادًا على ثقة شيوخه، كما في إبراهيم النخعي عن ابن مسعود(3).
2- أن يكون المرسِل قد نسي من حدثه به،لكنه عرف المتن، فذكره مرسلاً؛ لأن أصل طريقته أنه لا يحمل إلا عن ثقة(4).
__________
(1) "النزهة" ( ص 81 – 82 ) وقال الكمال في " حاشيته " ( ص 49 ) معلِّلاً اقتصارهم في الفعل المشتق على " أرسله " فقال: " لأنهم لو قالوا : قَطَعَهُ فلان ؛ لأوهم أنه أورده مقطوعًا ، أي من كلام التابعي ، لامنقطعًا ، لأن " انقطع " لازم ، لايمكن الاتصال ضمير الراوي به ، فلذا اقتصروا على استعمال أرسله " اهـ
(2) حيث قال : " معرفة المنقطع من الحديث ، وهو غير المرسل ، وقلَّما يوجد في الحفاظ من يميز بينهما .اهـ ( ص 27 ) .
(3) وانظر بمعناه في " التمهيد " ( 1 / 17 ) .
(4) المصدر السابق .(1/173)
3- أن لا يقصد بروايته لهذا الحديث التحديثَ، إنما يذكر الحديث على وجه المذاكرة، أو المناظرة ، وعلى جهة الفتوى، أو الوعظ والذِّكرى، فيعتني بالمتن؛ لأنه المقصود في تلك الحالة دون السند ،ولا سيما إن كان السامع عارفًا بمن طُوِي ذكره لشهرته(1).
4- قد يكون الحامل على الإرسال ضعف شيخ المرسِل ، أو ضعف أحد رجال السند الذين هم فوقه ،قاله بمعناه الحافظ في " النكت "(2).
5- الظروف المحيطة بالراوي، فقد تجعله لايسمي بعض الرواة في السند خشية أن يلحقه بذلك أذى، أو يُرَدَّ الحديث إذا سماه؛ لسوء ظن السامعين به، وذُكر عن الحسن البصري بسند لا يصح أنه لما كان يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – سألوه: لم لا تُسْند؟ فقال : أنا في زمان بني أمية، فكل ما سمعتم حديثًا قلت فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقد سمعته من علي ـ رضي الله عنه ـ ومع ذلك فينظر في سماع الحسن من علي(3).
5- قد يَشُكُّ الرواي في الحديث: أهو مسند، أم مرسل - وإن كان مسندًا عنده – فيرسله، كما عرف بذلك مالك وغيره من الأئمة ، والله أعلم .
__________
(1) انظر هذه الوجوه باختصار في " النكت " ( 2 / 555 ) ثم قال : " وهذا كله في حق من لايرسل إلا عن ثقة وأما من كان يرسل عن كل أحد ، فربما كان الباعث له على الإرسال : ضعف من حدثه ، لكن هذا يقتضي القدح في فاعله لما تترتب عليه م خيانة ، والله أعلم .
قلت : هذا ليس على إطلاقه ، وإلا فكثير م المدلسين يدلسون لضعف شيوخهم ، والأئمة على قبول حديثهم إذا صرحوا فيه بالسماع ، فإذا لم يطعنوا في المدلس ، فمن باب أولى المرسِل ، لأن الإرسال أخف من التدليس من بعض الوجوه ، وأيضًا فمالك كان يسقط عكرمة من السند ؛ لأنه لايرضاه ، فهذه تسوية ، ولم يُطعن في مالك لذلك ، والله أعلم .
(2) 2 / 555 – 556 ) .
(3) انظر المصدر السابق ، وانظر " شرح علل الترمذي " ( 1 / 286 ) .(1/174)
6- ما ذكره الإمام مسلم عن إرسال الأئمة: أنهم كانت لهم تارات يرسلون فيها الحديث إرسالاً، ولا يذْكرون من سمعوه منه، وتارة ينشطون فيسندون الخبر على هيئة ما سمعوه، فيخبرون بالنزول فيه إن نزلوا، وبالصعود إن صعدوا(1).
?المسألة التاسعة : متى يُقْبَل الحديث المرسل :
ذكر الشافعي – رحمه الله - شروطً لقبول المرسل، منها ما يتعلق بالمرسِل، ومنها ما يتعلق بالمرسَل .
وخلاصة ذلك: أن ما يتعلق بالمرسِل ثلاثة شروط 1- أن يكون ثقة 2- أن يكون من كبار التابعين 3- أن لا يروي إلا عن مقبول الرواية .
وأما ما يتعلق بالمرسَل فواحد من أربعة 1- أن يُرَوى مسندًا صحيحًا من وجه آخر 2- أو يروى مرسلاً من وجه آخر، أرسله من أخذ العلم عن غير مشايخ الأول 3- أو يوافقه قول صحابي 4- أو يوافقه فتوى عامة أهل العلم .(2)اهـ
مناقشة وتوضيح لبعض ما جاء في كلام الشافعي ـ رحمه الله ـ وذلك من وجوه :
(أ)اشتراطه أن يكون التابعي المرسِل ممن لا يروي إلا عن مقبول الرواية :
إذا كان المراد منه ما أظهره من شيوخه فيما أسنده، لا ما أسقط من شيوخه فيما أرسله؛ فيكون المراد أنه غلَّب احتمال ثقة من أُسقط؛ لثقة من أُظهر في الأسانيد الأخرى، وعلى ذلك فلا إشكال .
وإذا كان مراده أن المرسِل فيما أرسله يروي عن مقبول الرواية؛ ففي هذا إشكال: وهو أننا في مقام الاعتضاد بالمرسل، لا الاعتماد عليه، وإذا تأكدنا أنه لم يُسْقِطْ إلا ثقة؛ فلا إشكال في الاحتجاج به دون حاجة إلى عاضد، كما قال العلائي - رحمه الله -(3)والله تعالى أعلم .
(
__________
(1) انظر " مقدمة مسلم " مع " شرح النووي " ( 1 / 133، 136 ) .
(2) انظر " الرسالة " ( ص 461 – 470 ) برقم ( 1262 – 1305 ) .
(3) انظر " جامع التحصيل " ( ص 42 – 43 ) .(1/175)
ب)اشتراطه كون التابعي ثقة؛ من باب التفصيل، وإلا فهو داخل في اشتراط أن يكون التابعي لا يروي إلا عن مقبول الرواية، فإنه يُسْتَبعد أن يكون الضعيف ممن لا يروي إلا عن ثقة، فإن هذا الحال لا يُعْرف إلا في مشاهير الثقات، وليس كل ثقة كذلك، فضلاً عن الضعيف ، والله أعلم .
(ج) اشتراطه اختلاف مشايخ المرسِلَيْن: يرد عليه أنه يستبعد - فيما أعلم - أن اثنين من كبار التابعين، رويا عن كبار الصحابة؛ ومع ذلك لم يلتقيا في شيخ واحد من التابعين، ويُخْشى بهذا الشرط إهدار لاستشهاد بمرسل لمرسل آخر؛ لاستبعاد أو تعذُّر وقوع ذلك ، والله أعلم .
وكذلك: فإن اشتراطه كون التابعي المرسِل لايروي إلا عن ثقة؛ يَضْمن لنا كثيرًا مما أراده من هذا الشرط ؛ لأن الحديث إذا اختلف مخرجه؛ فيقوى احتمال قوته ، وكذا إذا كان كل من المرسِلَيْن لايروي إلا عن ثقة؛ فإن ذلك يُقَوِّي احتمال قوة الحديث، لأنهما إذا رويا عن رجل واحد ثقة؛ فالحديث حيثما دار دار على ثقة ، ولذا فهذا الشرط قد حصل كله أو كثير منه في الشرط الأول ، والله أعلم .
د – اشتراطه أن يكون المرسِل من كبار التابعين ، قد خالفه في ذلك كثير من علماء الشافعية، وأطلقوا القول بقبول المرسل في الشواهد دون تقييد بالكبار، بل قوَّوا بعض المراسيل بمراسيل متوسطي وصغار التابعين .
وقد فصَّلت الكلام في هذه الوجوه في كتابي " إتحاف النبيل "(1)، وأزيد هنا فأقول.
وقول الشافعي – رحمه الله – : فإنه شَرِكَه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بمثل معنى ماروى؛ كانت هذه دلالة على صحة مَنْ قَبِل عنه وحفظه" اهـ .
قد يَرِدُ عليه: أن تقوية المرسَل؛ لايشترط فيها إذا قوَّاه مُسند أن يكون المسند من طريق الحفاظ ، بل يكون ذلك بكل من تقوم به الحجة، ولو كان من رجال الحسن فإنه يصلح لذلك .
__________
(1) 2 / 219 – 231 ) السؤال ( 224 ) .(1/176)
قلت : قد صرح العلائي في " جامع التحصيل " بأن مراد الشافعي عموم من تقوم به الحجة ، فقال : " مراده ما إذا كان طريق المسند مما تقوم به الحجة "(1)اهـ .
ومما يؤيد أن الشافعي لايريد الحصر في تقوية المرسل بالمسند الذي يرويه الحفاظ، بل المراد مطلق المقبول : أن الشافعي قوَّى المرسل بالمرسل، وبالموقوف، فكيف لايقويه برواية من هم دون الحفاظ من رجال الصحيح والحسن ، والله أعلم .
( تنبيه ) : المسند إذا كان فيه ضعف خفيف ينجبر، فإنه يتقوى بالمرسل ؛ لأن في كل منهما ضعفًا خفيفًا، فيقوى الظن باجتماعهما ، وانظر " النكت " للحافظ(2).
( تنبيه آخر ) : إذا جاء الحديث من طريقين، إحداها مرسل فيه ضعف خفيف ، والآخر من طريق مسند فيه ضعف خفيف، فهل يتقوى كل منهما بالآخر ؟
الجواب : لا أستبعد ذلك: إذا سَلِمَ الحديث من نكارة في السند أو المتن ، أو اتحاد المخرج ، فكل منهما – والحالة هذه - يفيد ظنًّا خفيفًا بالثبوت، وحالة الاجتماع تختلف عن حالة الانفراد ، والمرسل في هذه الحالة يكون كمسند فيه ضعف خفيف في موضعين .
وقد صحح شيخنا الألباني – رحمه الله – بعض الأحاديث بنحو ذلك " انظر الصحيحة "(3)ويُنْظَر في صنيع العلماء في هذا الموضع، فالأمر يحتاج إلى مزيد بحث ، والله أعلم .
?المسألة العاشرة : مراتب المرسل :
قال السخاوي - رحمه الله - :
( خاتمة ) المرسل مراتب :
1- أعلاها: ما أرسله صحابي ثبت سماعه.
2- ثم صحابي له رؤية فقط، ولم يثبت سماعه .
3- ثم المخضرم .
4- ثم المتقن : كسعيد بن المسيب .
5- ويليها من يتحرى في شيوخه: كالشعبي ومجاهد .
6- ودونها في المراسيل: من يأخذ عن كل أحد .(4)اهـ .
__________
(1) ص 38 ) .
(2) 2 / 567 ) .
(3) 2 / 228 / 635 ) ( 4 / 55 / 1540 ) .
(4) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 181 ) .(1/177)
وعندي أن الذي يتحرى في شيوخه مُقَدَّم على مطلق المخضرم ، وكذا تقديم ابن المسيب لما علم من أنه لم يرسل إلا عن ثقة - في الجملة - لا لمجرد الإتقان، وإلا فمن يتحرى في الشيوخ مقدم على المتقن في نفسه ، إذا لم يُعُلَم عنه التحري في شيوخه ، فضلاً عمن عُلم عنه أنه يروي عن كل أحد .
وهناك مرسلات أخرى : كمن يغلب على الظن أن مرسله معضل ، كما في " الموقظة "(1)وهذه المرتبة أعلى من السادسة ، والله أعلم .
?المسألة الحادية عشر : أسباب تفاوت المراسيل :
وهي راجعة لأربعة أمور، ذكرها الحافظ ابن رجب – رحمه الله - :
1- أن من عُرِف بروايته عن الضعفاء ؛ ضُعِّف مرسله بخلاف غيره.
2- أن من عُرِف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه؛ فإرساله خير ممن لم يُعْرف له ذلك ، وهذا معنى قوله –يعني يحيى بن سعيد القطان– مجاهد عن علي، ليس به بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي .
3- أن من قَوِي حفظه ، يحفظ كل ما يسمعه ويثبت في قلبه ، ويكون فيه مالا يجوز الاعتماد عليه ، بخلاف من لم يكن له قوة الحفظ، وقد أنكر مرة يحيى بن معين عَلَى عَلِيِّ ابن عاصم حديثًا، وقال : ليس هو من حديثك، إنما ذُوكِرْتَ به ، فوقع في قلبك، أو ظننت أنك سمعته ، فلم تسمعه ، وليس هو من حديثك . . .
4- أن الحافظ إذا روى عن ثقة لايكاد يترك اسمه ، بل يسميه ، فإذا ترك اسم الراوي؛ دل إبهامه على أنه غير مرضي ، وقد كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيرًا ، يُكَنُّون عن الضعيف، ولايُسَمُّونه، بل يقولون:" عن رجل " وهذا معنى قول القطان: لو كان فيه إسناد؛ صاح به ، يعني لوكان أخذه عن ثقة؛ لسماه، وأعلن باسمه، اهـ من " شرح العلل "(2).
قلت : وكلامه الأخير على مذهب من يُسمي الإبهام – إرسالاً – وقد سبق أن الراجح: أن السند يكون متصلاً فيه مبهم ، والله أعلم .
(
__________
(1) ص 40 ) .
(2) 1 / 283 – 284 ) .(1/178)
تنبيه ) : كلام ابن رجب في أسباب تفاوت المراسيل ليس مقتصرًا على المرسل الذي هو رواية التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إنما هو عام في كل ما انقطع سنده ، والله أعلم .
?المسألة الثانية عشرة : هل يجوز تعمد الإرسال ؟
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى - : "فإن قيل هل يجوز تعمد الإرسال، أو يُمْنَع ؟
قلنا : لا يخلوا المرسَل أن يكون شيخ مَنْ أرسل الذي حدَّث به - أي الشيخ الذي لم يذكر في السند -.
أ- عدلاً عنده وعند غيره.
ب- أو غير عدل عنده وعند غيره.
ج – أو عدلاً عنده لاعند غيره .
د – أو غير عدلٍ عنده ، عدلاً عند غيره.
هذه أربعة أقسام :
الأول: جائز بلا خلاف ، والثاني : ممنوع بلاخلاف ، وكل من الثالث والرابع يحتمل الجواز وعدمه ، ( وتردده ) بينهما بحسب الأسباب الحاملة عليه وبعدمه ، والله سبحانه أعلم"(1).
قلت : الأول جائز بلا خلاف ، لكن فيه مفسدة: وهي إعلال الحديث الصحيح بالإرسال، مع أن حقيقته أنه متصل ، فإذا علم المرسِل أن الحديث لايُعْرَف من غير هذا الطريق، وأن غيره سيتركه لإرساله ، وأرسله مع ذلك؛ فلا يحوز له ذلك ، لما يترتب عليه من إضاعة جزء من السنة ، أما إذا علم أن الحديث مشهور من غير طريقه؛ فجائز ، والله أعلم . اهـ .
قال الناظم – رحمه الله - :
.......................... وقُلْ غريبٌ ما رَوَى راوٍ فَقَطْ
عرَّف الناظم الغريب بما روى راو فقط .
والكلام عن الغريب في عدة مسائل:
?المسألة الأولى: الاعتراض على الناظم: يعترض على الناظم تأخيره الحديث الغريب، وعدم ضمِّه إلى قسيميه المشهور والعزيز، إذ ضم الشيء إلى نظائره أولى وأحسن.
?المسألة الثانية: تعريف الحديث الغريب:
للعلماء في تعريف الحديث الغريب قولان، وهما:
__________
(1) 2 / 557 – 558 ) .(1/179)
القول الأول: عرفه ابن منده بقوله: الغريب كحديث الزهري وأشباهه ممن يُجْمَع حديثه، إذا انفرد عنهم بالحديث رجل سُمِّي غريبًا(1).
ومعنى قوله: " يُجمع حديثه" أي: أن حديثه يُشتهى عالياً ونازلاً، ومسنداً ومرسلاً، وذلك لثقته، وعلو إسناده ونحو ذلك، فهو كثير الحديث ، والشيوخ ، والتلاميذ .
وهذا معناه: أن الراوي المشهور الذي يتنافس الناس في أخذ حديثه، وتتوافر الدواعي إلى التزاحم في الأخذ عنه، فمن انفرد عنه برواية عُدَّ غريبًا، وتلخص من هذا أن ابن منده يشترط في الغريب شرطين:
1- أن الراوي ينفرد بالرواية.
2- أن يكون شيخه الذي انفرد بروايته عنه ممن يُجْمَع حديثه.
ويرد على هذا التعريف: أن الغريب لا ينحصر في هذه الصورة، وأيضاً: فعندما ينفرد راو عن شيخ مكثر؛ ففي الغالب تكون روايته شاذة، أو منكرة، ولا شك أن الغريب منه الصحيح، والحسن، والضعيف، فلا نحصره في قسم الضعيف فقط.
القول الثاني: ما قاله ابن الصلاح: "بأنه الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة، يوصَف بالغريب، وكذلك الحديث الذي يتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذْكُره فيه غيره، إما في متنه، وإما في إسناده"(2)وبعبارة أخرى : سواء انفرد هذا الراوي بالحديث كله ، أو ببعضه سندًا ، أو متنًا .
فقد أطلق ابن الصلاح في تعريف الغريب، وراعى أمر التفرد، ولم يراع وَصْف شيخ المنفرد بكونه ممن يُجمع حديثه، وبنحو ذلك عَرَّفه الحافظ ابن حجر، فقال في تعريف الغريب: "وهو: ما يتفرد بروايته شخص واحد، في أي موضع وقع التفرد به من السند(3)ويقال أيضًا :" هو الحديث الذي يكون في أقل طبقة من طبقاته راو واحد".
قد يقول قائل: يَرِدُ على هذا التعريف تَفَرُّدُ بعض البلدان ببعض الأحاديث.
__________
(1) قاله ابن الصلاح في " المقدمة " ( ص 268 ) مع " التقييد " .
(2) المصدر السابق ( ص 270 ) .
(3) " النزهة " ( ص 70 ) .(1/180)
والجواب: أن هذا ليس بوارد على تعريف الغريب اصطلاحًا، وقد قال ابن الصلاح بعد كلامه على الغريب: "وليس كل ما يُعَدُّ من أنواع الأفراد معدوداً من أنواع الغريب، كما في الأفراد المضافة إلى البلاد"(1)اهـ.
?المسألة الثالثة : أقسام الحديث الغريب:
ينقسم الغريب من حيث الغرابة في السند والمتن إلى ثلاثة أقسام:
1- غريب سندًا ومتنًا، وهو: ما انفرد برواية متنه راوٍ واحد، وهذا ما يسميه بعضهم: بالفرد المطلق، وهذا القسم أكثر ما يُعَبَّر عنه بالفرد .
2- غريب سندًا لامتنًا، وهو: كالحديث الذي متنه معروف عن جماعة من الصحابة، إذا انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر، كان غريبًا من ذلك الوجه، مع أن متنه غير غريب، ومن ذلك: غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، وهو الذي يقول فيه الترمذي: غريب من هذا الوجه،قاله ابن الصلاح(2): " وهو الذي يسميه بعضهم بالفرد النسبي، وأكثر ما يُطْلَق اسم الغريب على هذا القسم، قاله الحافظ في "النزهة"(3).
3 - غريب متنًا لا سندًا، وهذا القسم يقول فيه ابن الصلاح:" إنه لا يوجد إلا إذا اشتهر الحديث الفرد،فرواه عمن تفرد به جماعة كثيرة، فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا غير غريب إسنادًا، لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد: فإن إسناده مُتَّصِفٌ بالغرابة في الطرف الأول، مُتَّصِفٌ بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث:" إنما الأعمال بالنيات " ونظائره "(4)اهـ.
قال العراقي:" استبعد المصنف – يعني ابن الصلاح - وجود حديث غريب متنًا لا إسنادًا؛ إلا بالنسبة إلى طرفي الإسناد، وأثبت أبو الفتح اليعمري هذا القسم مطلقًا من غير حَمْلٍ له على ما ذكره المصنف . اهـ(5).
__________
(1) انظر " المقدمة " ( ص 270 ) مع " التقييد " .
(2) المصدرالسابق ( ص 273 ) .
(3) ص 18 ) .
(4) انظر " المقدمة " ( ص 247 ) مع " التقييد " .
(5) انظر " التقييد " ( ص 273 ) .(1/181)
وما قاله ابن الصلاح أظهر ، ولعله لذلك قال العراقي في " شرح الألفية "(1): " القسم الثاني – يعني الغريب متنًا لا سندًا – هو الذي أطلقه أبوالفتح ، ولم يذكر له مثالاً " اهـ .
إلا أنه يُحمل كلام أبي الفتح اليعمري على ما قاله العراقي في " التقييد "(2)حيث قال : " ويُحتمل أنه يريد بكونه غريب المتن لا الإسناد : أن يَكون ذلك الإسناد مشهورًا جادَّةً لعدة من الأحاديث ، بأن يكونوا مشهورين برواية بعضهم عن بعض ، ويكون المتن غريبًا لانفرادهم به ، والله أعلم . اهـ
ومع كون ما احتمله العراقي محتملاً ؛ إلا أن الأظهر الأشهر كلام ابن الصلاح : " والشهرة على كلام العراقي لاتكون شهرة اصطلاحية ، والله أعلم .
بل قال زكريا الأنصاري في " فتح الباقي "(3): " ولم يمثل – يعني اليعمري – الثاني لعدم وجوده " اهـ .
4- غريب بعض السند فقط.
5 - غريب بعض المتن فقط، زاده ابن سيد الناس في شرحه على الترمذي، انظر" فتح المغيث"(4)
والغريب من حيث الصحة والضعف ينقسم إلى أقسام :
ينقسم الحديث الغريب من حيث الصحة وعدمها إلى ثلاثة أقسام:
غريب صحيح ، كالأفراد المخرجة في " الصحيحين " .
غريب حسن .
غريب ضعيف، وهذا الغالب على الغرائب.
ولما كان غالبها الضعف والنكارة ؛ كانت غير مرغوب فيها عند الأئمة، وأما جهلة المحدثين، فإنهم يفرحون بالغريب، وإن كان مُطَّرحَّا ،(5)والله أعلم.
?المسألة الرابعة : هل هناك فَرْقٌ بين الغريب والفرد؟
__________
(1) ص 320 ) .
(2) ص 274 ) .
(3) ص 492 ) .
(4) 4/11) وسبق إلى ذلك العراقي في " شرح الألفية " ( ص 319 – 320 ) و " التقييد والإيضاح " ( ص 273 ) .
(5) انظره مختصرًا في " المقدمة " ( ص 271 ) مع " التقييد " وانظر " فتح الباقي " لزكريا الأنصاري ( ص 490 – 491 ) و " الغاية " للسخاوي ( 1 / 308 ) .(1/182)
قال الحافظ ابن حجر:"ويقل إطلاق الفردية عليه – أي على الغريب – لأن الغريب والفرد مترادفان لغة واصطلاحًا؛ إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقِلَّته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي، وهذا من حيث اطلاق الاسم عليهما، وأما من حيث استعمالهم الفعل المشتق؛ فلا يُفَرِّقون، فيقولون في المطلق والنسبي: تفرد به فلان، أو أغرب به فلان...."(1)اهـ.
?المسألة الخامسة: أقوال بعض العلماء في ذم الغريب:
قال مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس".
وقال ابن المبارك: " العلم الذي يجيئك من هاهنا ومن هاهنا " .
وقال عبد الرزاق: " كنا نرى أن غريب الحديث خير، فإذا هو شر".
وقال أحمد بن حنبل: "لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير، وغالبها عن الضعفاء".
وقال: " شَرُّ الحديث الغرائب: التي لا يُعْمَل بها، ولا يعتمد عليها" .
وقال إبراهيم بن أبي عبلة: " مَنْ حَمَلَ شاذ العلماء حَمَلَ شرًّا كثيرًا ".
وقال إبراهيم: "كانوا يكرهون غريب الكلام وغريب الحديث".
وقال يعقوب بن إبراهيم القاضي: " من اتبع غريب الأحاديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق".
وقال أبو نعيم: " كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائة ركعة، سقط حديثه في الغرائب".
وقال زهير بن معاوية: "ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث، فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم مائتي ركعة، ما أفسده عند الناس إلا رواية غريب الحديث....".
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 81 ) .(1/183)
وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: "من تتبع الغريب كَذَبَ" وفي رواية: "كُذِّبَ" وهذا لأن الشخص إذا عُرِفَ بتتبع الغرائب؛ فإنه يكذب لروايته عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لم يقله، وإذا عَرَفَ الناس عنه ذلك كَذَّبوه، ويستنكرون روايته الحديث على غير المشهور عندهم، ويقولون له: هذا الحديث يرويه فلان بن فلان، فمن أين لك هذا الحديث عن غيره؟ وعلى هذا فأنت سارق لهذا الحديث، فَيُتَهَم الشخص لذلك، وكم من رجل كان مستورًا لكن تَتَبُّعَ الغرائب فضحه وكشفه، كما سبق كلام أبي نعيم وزهير بن معاوية، والله أعلم.
فالأئمة لا يفرحون بالغريب؛ لأنه لا يُنْتَفَع به في الغالب، بل ربما أضر بصاحبه، والعلم كما يقول ابن المبارك: "العلم هو: الذي يجيئك من ههنا ومن ههنا" قال ابن رجب: "يعني المشهور"(1).
ومما يشبه هذا في الذم: حال كثير من الشباب الذين تعجبهم الفتوى الغريبة المهجورة والشاذة، فتراهم مولعين بذلك، إما لسوء فهم، أو سوء قصد، أو كليهما، كمن يحب الشهرة والتصدر بمثل هذه الفتاوى.
__________
(1) انظر بعض هذه الآثار وغيرها في " الكامل " لابن عدي ( 1 / 53 ) و " آداب الإملاء والإستملاء " لابن السمعاني ( 1 / 306 – 307 / 163 ) و " الجامع " للخطيب ( 2 / 136 – 138 ) و " الكفاية " للخطيب ( ص 223 – 226 )و " شرح علل الترمذي " لابن رجب ( 1 / 406 – 409 ) .(1/184)
والفتاوى الشاذة إن لم تضر صاحبها؛ فإنها لا تنفعه، وربما كانت سببًا في طرده من البلاد، أو تعرضه للقتل من جهلة الناس، أو ممن له ولاية، كما حدث لوكيع بن الجراح - رحمه الله تعالى - عندما دخل مكة ، وحدَّث عن ابن أبي خالد عن البهي أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته، فأكبَّ عليه، فقبَّله، وقال: بأبي وأمي ما أطيب حياتك ومماتك، ثم قال البهي: وكان تُرِكَ يومًا وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه، فلما حَدَّث وكيع بهذا الحديث؛ اجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة - وكان بينه وبين وكيع يومئذ تباعد - فقال لهم: الله الله ، هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيههم، وهذا حديث معروف، قال سفيان: ولم أكن سمعته إلا أني أردت تخليص وكيع.
وقال الذهبي مُعَلَّقًا على هذه القصة:" فهذه زَلَّة عالم، فما لوكيع ورواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، كادت نفسه أن تذهب غلطًا، والقائمون عليه معذورون، بل مأجورون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غَضًّا ما لمنصب النبوة..... " إلخ(1).
فالشاهد من هذا: أن الأحاديث الغريبة, والفتاوى الشاذة المهجورة قد يكون ثمنها التضحية بالنفس، فعثرة القدم أهون من عثرة القلم، فإذا عثر قلمك، وأحل الحرام، أو حرم الحلال، أو أثبت شيئًا بحديث منكر؛ فعثرة القدم أهون من ذلك، لأنك قد تُتَّهم ويزهد الناس في علمك، فكن على حذر، والزم طريق القوم تَسْلَمْ، والله المستعان.
( فائدة ): قد يقول قائل: نحن نرى الأئمة عندهم غرائب وفوائد، ولا توجد عند غيرهم، فكيف يذمونها وهي موجودة عندهم؟
__________
(1) انظر " النبلاء " ( 9 / 159 – 160 ) وانظر القصة أيضًا في " الكامل " ( 1 / 54 ) و " المعرفة والتاريخ " للفسوي ( 1/ 175 – 176 ) .(1/185)
فأقول: نعم، يوجد عندهم غرائب وفوائد، لكن الأئمة لم يقصدوها بالتتبع، ولم تكن رحلاتهم من أجلها، فهم يرحلون لأجل جمع الأحاديث التي يتدينون بها، وينتفعون بها، والتي تحتاج الأمة إليها في دينها ودنياها، فيقع لهم في رحلاتهم غرائب وفوائد من الشيوخ الذين رحلوا إليهم، ففرق بين من يزهد في الأحاديث الثابتة المشهورة لاشتغاله بجمع الغرائب، وبين من يحرص على المشهور،فيقع له الغريب مع المشهور ، والله أعلم.
?المسألة السابعة: هناك نوع آخر يسمى "غريب الحديث" وفيه مبحثان :
المبحث الأول : الفرق بين غريب الحديث، والحديث الغريب.
فالحديث الغريب قد مضى الكلام عليه، فهو يرجع إلى الانفراد من جهة الرواية سندًا أو متنًا.
أما غريب الحديث، فهو ما يخفى معناه من المتون؛ لقلة استعماله.... بحيث يبعد فهمه ، ولا يظهر إلا بالتنقير عنه من كتب اللسان(1).
المبحث الثاني : الكتب المصنفة في هذا النوع:
لقد أُلِّفتْ كتب كثيرة تخدم هذا النوع منها:
غريب الحديث للهروي، وغريب الحديث للحربي، والنهاية لابن الأثير، وعلى كل: فهذا النوع لا ينبغي الخوض فيه بالظن، بل يُرْجَع فيه إلى أهل الاختصاص، فقد قال ابن الصلاح:" هذا فنٌّ مهم ، يقْبحُ جهلُه بأهل الحديث خاصة ، ثم بأهل العلم عامة ، والخوض فيه ليس بالهين ، والخائض فيه حقيق بالتحري ، جدير بالتوقي " .
قال : " رُوِّينا عن الميموني ، قال : سُئل أحمد بن حنبل عن حرف من غريب الحديث ، فقال : سَلُوا أصحاب الغريب ؛ إني أكره أن أتكلم في قول رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – بالظن ؛ فأخطئ . . . " اهـ(2).
الحديث المنقطع
قال الناظم - رحمه الله - :
17- وكُلُّ ما لم يتصِلْ بحالِ ... إسنادُه منقطعُ الأوصالِ
تكلم الناظم في هذا البيت على الحديث المنقطع، فقوله: " وكل ما " أي كل حديث .
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 4 / 24 ) .
(2) انظر "المقدمة " ( ص274 – 275 ) مع " التقييد " .(1/186)
وقوله : " مالم يتصل بحال" أي لايوجد دليل يدل على اتصاله ، مهما بحث الباحث .
وقوله: " منقطع الأوصال " الأوصال: جَمْع وصل، أصله المفصل .
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف المنقطع: فقد عَرَّفه الناظم بأنه الحديث الذي لم يتصل إسناده بحال من الأحوال، وهذا يدل على أن كل ما فيه سقط؛ فهو منقطع عند الناظم: سواء كان ذلك السقط في أوله، أو وسطه، أو آخره .
ويَرِدُ عليه: أن تعريفه ليس على صناعة الحدود والتعريفات؛ لأنه غير مانع من دخول غير المنقطع – اصطلاحًا – فيه: كالمعضل، والمعلق، والمرسل، ونحو ذلك، والأصل في التعريف أن يكون جامعًا مانعًا؛ ليتميز الشيء المراد تعريفه من غيره، وهذا مفقود في تعريف الناظم .
وقد يُعْتَذَر له بأنه أراد الكلام على السند المنقطع، لا على حد الحديث المنقطع، لكن يَرِدُ عليه: أنه قال في عجز البيت الثاني من هذه المنظومة: " وكُلُّ واحدٍ أَتَى وَحَدَه " أي كل نوع من أنواع علوم الحديث يأتي مع ذكر حده أوتعريفه، فدل على أنه أراد ذكر حد نوع المنقطع ، فتم الإيراد السابق عليه .
أضف إلى ذلك: أنه قد عرَّف المرسل قبل ذلك: بأنه الذي سقط منه الصحابي، وسيأتي كلامه على المعضل إن - شاء الله تعالى - وكل هذا يَصْدُق عليه أن إسناده لم يتصل بحال ،فأين ما يميز المنقطع عن غيره الذي يقع في سنده سقط ؟1
وقد عَرّف المنقطعَ بما عرفه الناظم غيرُ واحد من أهل العلم :
فقد عَرَّفه بذلك ابن عبدالبر، حيث قال: " المنقطع عندي كل مالا يتصل، سواء كان يعزى إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو إلى غيره " اهـ(1)، وارتضاه ابن الصلاح، وذكر أنه صار إليه طوائف من الفقهاء وغيرهم(2).
__________
(1) " التمهيد " ( 1 / 21 ) .
(2) انظر " المقدمة " ( ص 80 ) مع " التقييد " .(1/187)
وقد قال زكريا الأنصاري:" فيدخل فيه المرسل، والمعضل، والمعلق " اهـ(1)وقد تقدم الإيراد على ذلك .
التعريف المختار للمنقطع :
هو: " ما سقط أثناء سنده راو فأكثر، ليس على التوالي .
فقولي : " أثناء " احتراز من السقوط في أول السند، وهو المعلق، أو السقوط في آخر السند، وهو المرسل، أو المعضل في بعض صوره .
وقولي : " ليس على التوالي " أخرج المعضل ، وسواء كان المنقطع في موضع واحد، أو في أكثر من موضع، شريطة عدم التوالي، والله أعلم .
وبهذا التعريف يتميز المنقطع من المرسل وغيره، وتمييز المنقطع عن المرسل: هو الذي عليه غالب استعمال المحدثين، كذا ذكره ابن الصلاح،فقد قال: " إلا أن ما يُوصَف بالإرسال من حيث الاستعمال : ما رواه التابعي عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأكثر ما يُوصَف بالانقطاع: ما رواه مَنْ دون التابعين عن الصحابة، مثل مالك عن ابن عمر، ونحو ذلك " اهـ(2).
وما ذكره ابن الصلاح في غلبة الاستعمال يخالف ما قاله الحاكم ، فقد قال: " النوع التاسع : معرفة المنقطع من الحديث ، وهو غير المرسل، وقَلَّ ما يوجد في الحفاظ مَنْ يُميز بينهما "(3).
( فرع ) : مثال للمنقطع في موضع واحد .
قال أبو داوود في " سننه " :حدثنا سليمان بن داود المهري أنبأنا ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال ـ وهو على المنبر ـ : يا أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مصيبًا ؛ لأن الله كان يريه ، وإنما هو منا الظن والتكلف .
قال المنذري : وهذا منقطع، الزهري - وهو ابن شهاب - لم يدرك عمر، فلم يتصل السند اهـ .
مثال المنقطع في موضعين .
__________
(1) انظر " فتح الباقي " ( 1 / 158 ) .
(2) انظر" المقدمة " ( ص 80 ) مع " التقييد " وقد سبق إلى ذلك الخطيب في " الكفاية " ( ص 58 ) .
(3) انظر " المعرفة " ( ص 27 ) .(1/188)
قال الترمذي في "العلل الكبير"(1): حدثنا علي بن حُجر حدثنا معمر بن سليمان الرقي عن الحجاج بن أرطأة عن عبدالجبار بن وائل عن أبيه قال : استكرهت امرأة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فدرأ عنها الحد، وأقامه على الذي أصابها ....." الحديث .
قال البخاري: الحجاج بن أرطأة لم يسمع من عبدالجبار بن وائل، وعبدالجبار لم يسمع من أبيه، ولد بعد موت أبيه .
?المسألة الثانية استعمالات أخرى للمنقطع عند أهل العلم :
الأول : إطلاق المنقطع على المبهم، قال الحاكم في "معرفة علوم الحديث"(2): " والمنقطع على أنواع ثلاثة، منها: ما حدثنا أبو عمر عثمان بن أحمد السماك ...." وذكر حديثًا في سنده مبهم .
ثم قال بعد ذلك :" هذا الإسناد مَثَلٌ لنوعٍ من المنقطع؛ لجهالة الرجلين" اهـ .
يعني أنهما مبهمان، وأطلقه على ذلك ابن المديني، والبيهقي، وأبو منصور البغدادي،(3)وغيرهم .
الثاني : إطلاقه على الإسناد الذي فيه راوٍ مجهول لايُعْرف بعدالة ، سواء سُمِّي أم لا،وسواء ذكر اسمه أم أُسْقط، جاء هذا في كلام أبي منصور البغدادي كما في "النكت" للزركشي(4).
الثالث : إطلاقه بمعنى " المرسل " وقد جاء هذا في كلام الشافعي، حيث قال في "الرسالة"(5). في كلامه على المرسل :" والمنقطع مختلف: فمن شاهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من التابعين، فحدَّث حديثًا منقطعًا عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - اعتُبِر عليه بأمور .... " الخ اهـ .
وكذا أطلق غيره يريد به المرسل(6).
__________
(1) 2 / 618 ) برقم ( 650 ) .
(2) ص 27 ) .
(3) انظر كلام ابن المديني في آخر " العلل " له ، وكلام البيهقي في "الكبرى " ( 7 / 134 ) وكلام أبي منصور البغدادي في " النكت " للزركشي ( 2 / 6 ).
(4) 2 / 6 ) .
(5) ص 461 ) .
(6) انظر " النكت " للزركشي ( 2 / 6 ) .(1/189)
الرابع: إطلاقه على ما أضيف إلى التابعين أو من دونهم، وقد نقله الخطيب عن بعض أهل العلم(1)، وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا البعض : هو أحمد بن هارون البرديجي(2).
الخامس : إطلاقه على ما يقول فيه الشخص :" قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من غير إسناد أصلاً .
وبهذا عرفه الكيا الهراسي الطبري ، ونسبه إلى اصطلاح المحدثين(3)وقد تعقبه ابن الصلاح في ذلك، فقال ابن الصلاح في "فوائد رحلته" : " هذا لا يُعْرف عن أحد من المحدثين، ولا عن غيرهم، إنما هو من كيسه ، والله أعلم ". انظر " النكت " على ابن الصلاح للحافظ(4).
وقد تقدم القول المختار في تعريف المنقطع ، مراعاةً للأغلب الأشهر ، وإلا فكثير من هذه الأقوال لها شواهد من بعض كلام أهل العلم ، والله أعلم .
?المسألة الثالثة : حكم الحديث المنقطع .
قال الذهلي : " ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصل غير المنقطع ..."(5)الخ .
وقال مسلم في "مقدمة صحيحه"(6): " والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة " ومراده بالمرسل هاهنا: ما فيه سقط في إسناده، لأن سياق كلامه في الإسناد المعنعن، لا على ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
قال ابن أبي حاتم في "المراسيل"(7)- وموضوعه ذكر الأسانيد المنقطعة، كما هو معلوم - : " باب ما ذُكِر في الأسانيد المرسلة : أنها لا تثبت بها الحجة ". . . ثم قال في آخر الباب : " سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: " لا يحتج بالمراسيل ، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة " اهـ .
__________
(1) انظر " الكفاية " ( ص 59 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 573 ) وقد سبق إليه الزركشي في " النكت " ( 2 / 10 ) .
(3) انظر " النكت " للزركشي ( 2 / 12 – 13 ) .
(4) 2 / 573 ) .
(5) انظر " الكفاية " ( ص 56 ) .
(6) 1 / 93).
(7) ص 3 – 7 ) .(1/190)
وقال البيهقي " والحديث المنقطع لا حجة فيه " اهـ "السنن الكبرى "(1).
وبهذا يظهر أن المنقطع لا يحتج به ، وذلك للجهل بحال المحذوف ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : ما الفرق بين المرسل والمنقطع .
سبق أن بعضهم يسوي بينهما، والمختار: أنهما يشتركان في عدم الاتصال .
ويفترقان في أن المرسل – في غالب الاستعمال - يكون السقوط في آخر السند، كما سبق في موضعه، والمنقطع يكون السقوط في أثناء السند، لا في أوله، ولا في آخره، وقد قال الخطيب : " إلا أن أكثر ما يُوصَف بالإرسال من حيث الاستعمال: ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأكثر ما يوصف بالانقطاع: ما رواه من دون التابعي عن الصحابي ...." اهـ(2)وإن كان الحاكم قد قال في " المعرفة "(3): " وهو - يعني المنقطع - غير المرسل، وقلَّ ما يوجد في الحفاظ من غاير بينهما" اهـ .
وفائدة التفريق بينهما بهذا تظهر في وجوه :
1- أن بعض من أجاز العمل بالمرسل منع ذلك في المنقطع ، قاله العلائي في " جامع التحصيل "(4).
2- ليس كل منقطع يُستشهد به حيث يستشهد بالمرسل .
3- أن إرسال الحديث من أئمة التابعيين كان متعارفًا بينهم - أي وإن كان الساقط ثقة - وأما انقطاع السند في أثنائه، بإسقاط رجل أو أكثر ، ثم يذكر باقيه ؛ فإنه يدل على ضعف الساقط دلالة قوية ، وتَقْوَى الريبة حينئذٍ به اهـ . قاله ابن السمعاني، كما في "جامع التحصيل"(5).
3- أن المنقطع أشد ضعفًا من المرسل ، كما سيأتي .
?المسالة الخامسة : أيهما أشد ضعفًا المرسل أم المنقطع ؟
قال الجوزقاني :" والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل ، والمرسل لا تقوم به حجة " اهـ(6).
__________
(1) 8 / 98 ) .
(2) انظر " الكفاية " ( ص 58 – 59 ) .
(3) ص 27 ) .
(4) ص 108 ) .
(5) المصدر السابق .
(6) انظر " الأباطيل " ( 1 / 12 ) .(1/191)
فالمنقطع أشد ضعفًا ؛ لأن احتمال أن يكون الساقط فيه كذابًا أكثر من احتمال ذلك فيه المرسل – في الجملة - لِفُشُوِّ الكذب في الطبقات النازلة أكثر منه في موضع المرسل ، فإن انتشار العدالة ، وفيوض التحرز كان أكثر منه بعد ذلك .
?المسألة السادسة : بما يعرف الانقطاع ؟
يُعْرَف الانقطاع بين الرواة بأمور :
1-نصُّ إمام على ذلك ، أو نص الراوي نفسه بأنه لم يسمع من فلان ، أو أن فلانًا مات قبل أن يولد . . . وهكذا .
2-تعذُّر إمكان اللقاء ، لبُعْد البلدين ، لاسيما عدم اشتهار الراوي بالرحلة وعلو الهمة في الطلب .
3-تعذُّر اللقاء ؛ لدلالة التاريخ بين ميلاد الراوي ، وموت من روى عنه .
4-عدم ورود رواية تدل على سماع أو لقاء الراوي لشيخه ، ويزداد الأمر وضوحًا إذا شك إمام في سماع الراوي ممن فوقه .
5-ورود الروايات بذكر واسطة فأكثر بين الراوي ومن روى عنه ، مع عدم التصريح بالسماع في أي رواية أخرى .
6-التصريح بأن الراوي من التابعين ، ثم نقف على روايته عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، وهكذا في أتباع التابعين مع الصحابة . . . الخ، وبعبارة أخرى : معرفة طبقات الرواة .
وهذا راجع إلى نص الأئمة ، إلا أنني ذكرته لمزيد التوضيح والتيسير .
7-وبنحو ذلك : يُعرف الانقطاع في السند الذي ظاهره الاتصال بجمع الطرق .
8-اشتهار الأمر عند المحدثين ، وإن ورد التصريح بالسماع بين الراوي وشيخه ؛ فإنهم يقولون فيمن روى ذلك : لم يصنع شيئًا ، أو جوَّده فلان ، أي رواه جيدًا سالمًا من العلة ، والصواب أنه مُعَلٌّ .
9-كون الراوي لم يسمع من الصغير ؛ فاستبعاد سماعه من الكبير ،أو متقدم الوفاة من باب أولى ، وهذا راجع إلى التاريخ ، أو نص إمام ، وإنما ذكرته للتوضيح والتيسير على طالب العلم ، الباحث عن ذلك ، والله أعلم .
10-ألايسمع من هو أكبر من هذا الراوي من ذلك الشيخ ، فيكون استبعاد سماع هذا الراوي من ذلك الشيخ من باب أولى .(1/192)
?المسألة السابعة : لايلزم من الانقطاع ضعف الرواية ؛ لما هو معروف من الكلام على الحديث الحسن لغيره .
بل لايلزم من الانقطاع في ظاهر السند ؛ الانقطاع الحقيقي : إما لورود التصريح بواسطة من سند آخر ، أو لحمل العلماء هذه الرواية على الاتصال والصحة ، كما فعلوا في حديث أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه – رضي الله عنه – أو يقوم دليل على أن المراد بالانقطاع عدم السماع ، وإن ثبت أَخْذُ الحديث عن الشيخ بطريقة أخرى من طرق التحمل المعتمدة ، والله تعالى أعلم .
الحديث المُعْضَل
قال الناظم – رحمه الله - :
18 - والمُعْضَلُ الساقطُ منه اثنانِ ... . . . . . . . . . . .
تكلم الناظم –رحمه الله – في صدر هذا البيت على الحديث المعضل - بفتح الضاد المعجمة –
وتحت هذا الجزء من البيت مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث المعضل .
تعريفه لغة : اسم مفعول من أعضله بمعنى أعياه ، وأهل الحديث يقولون: أعضله فهو معضل ، قال ابن الصلاح في " المقدمة " : "وهو اصطلاح مشكل من حيث اللغة، وبحثْتُ فوجدت له قولهم: أمر عضيل ، أي مستغلق شديد " اهـ(1).
قال السخاوي : " فكأن المحدث الذي حدَّث به أعضله ، حيث ضيق المجال على من يؤديه إليه، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح، وشدَّد عليه الحال، ويكون ذاك الحديث معضلاً له؛ لإعضال الراوي له ، هذا تحقيقه لغة ، وبيان استعارته " اهـ(2).
أما تعريفه في الاصطلاح :
فقد عرفه الناظم : " بأنه الحديث الساقط منه اثنان " وقد سبق إلى نحو هذا التعريف ابنُ الصلاح، فقد قال في " مقدمته " : " هو عبارة عما سقط من إسناده إثنان فصاعدًا " اهـ(3).
__________
(1) ص 81 ) مع " التقييد " .
(2) " فتح المغيث " ( 1 / 185 ) .
(3) ص 81 ) .(1/193)
قال العراقي في " شرح الألفية ": " لكن بشرط أن يكون سقوطهما من موضع واحد ، أما إذا سقط واحد من بين رجلين ، ثم سقط من موضع آخر من الإسناد واحد آخر؛ فهو منقطع في موضعين ، ولم أجد في كلامهم إطلاق المعضل عليه ، وإن كان ابن الصلاح أطلق عليه سقوط إثنين فصاعدًا؛ فهو محمول على هذا " اهـ(1).
قلت : وكلام الناظم يُحمل على ما حمل عليه العراقي كلام غيره، فقد فصل بين المنقطع والمعضل ، فدل على أنهما نوعان عنده ، والله أعلم .
وقال الحافظ في النكت : " فإن قيل: فمن سلف المصنف - يعني ابن الصلاح - في نقله أن هذا النوع يختص بما سقط من إسناده اثنان فصاعدًا ؟
قلنا: سلفه في ذلك علي بن المديني، ومن تبعه ، وقد حكاه الحاكم في "علوم الحديث" عنهم "(2)اهـ .
ولا يخفى عليك أن ما ذكره ابن المديني أضيق مما اشتهر في التعريف، حيث قال ابن المديني : " المعضل من الروايات : أن يكون بين المرسلِ إلى رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أكثر من رجل " اهـ .
وعلى كل حال ، فالخلاصة من ذلك: أن حدّ الحديث المعضل:" ما سقط من إسناده راويان فأكثر على التوالي " والله أعلم .
__________
(1) ص 71 ) وانظره بنحوه في "التقييد " ( ص 81 ) وفيه : " . . . وهذا مراد المصنِِّف ، ويوضح مرادَهُ ، المثالُ الذي مَثَّل به بعدُ ، وهو قوله : ومثاله ما يرويه تابع التابعي ، قائلاً فيه : قال رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - . . . الخ .
(2) " النكت " ( 2 / 579 ) وانظر " معرفة علوم الحديث " ( ص 36 ) .(1/194)
فقولهم: " ما سقط من إسناده راويان فأكثر " يشمل ما إذا كان الساقطان في أول السند ، أو في أثنائه، أو في آخره ، فإن قيل: إذا كان الساقطان فأكثر من أوله فهو معلق ؛ فالجواب: هو معلق ومعضل، فبينهما عموم وخصوص وجهي، وهذه الصورة التي يلتقيان فيها، أما إذا كان الساقط واحدا فقط، في أول السند؛ فمعلق، وليس بمعضل، وإذا كان الساقط اثنين فصاعدًا على التوالي ، ليس من تصرف المصنِّف؛ فمعضل ، وليس بمعلق.
وقولهم :" على التوالي " أخرج المنقطع، وبعض صور المعلق، التي لم يسقط فيها إلا شيخ المصنف .
قلت : كذا لم يشترط من سبق ذكرهم في المعضل ألا يكون السقط من أول الإسناد ، واعتبره بعضهم ، فقد حكاه الشُّمُنِّي عن التبريزي(1)، وهو قَيْد مهم ليخرج المعلق ، ولتمييز الأنواع ، لكن العبرة بصنيع الأئمة ، فإن استعملوا المعضل في موضع المعلق ، واشتهر ذلك ؛ فالأمر كما قال الحافظ ، وإلا فاعتبار هذا القيد أولى من إهماله .
مثال للحديث المعضل : ما رواه الحارث بن أبي أسامة عن شيخه معاوية بن عمر ثنا أبوإسحاق عن الأوزاعي عن هارون بن رئاب – رفعه – قال:بعث رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بعثًا . . . ." الحديث .
__________
(1) انظر " التدريب " ( 1 / 214 ) وذهب إليه المناوي في " اليواقيت والدرر " ( 2 / 3 ) فقد قال : " والقسم الثالث من أقسام السقط من الإسناد : إن كان بإثنين فصاعدًا ، أي حُذِف من بين طرفي إسناده راويان فأكثر على التوالي ؛ فهو المعضل " وظاهر عبارة الحافظ في " النزهة " ( ص 108 – 112 ) يشير إلى أنه يرى أن المعضل سقوط اثنين على التوالي ليس في أول السند ولا آخره ، إلا أن كلامه السابق أصرح في موضع النزاع .
وظاهر عبارة الملا علي القاري انتقاد صاحب "الخلاصة" في تعريف المعضل ، ولم يعتبر فيه التوالي ولاعدم كونه من المبدأ ، ولا ألا يكون من المصنف ، انظر " شرح النزهة " ( ص 411 ) .(1/195)
قال البوصيري – رحمه الله - : " هذا إسناد رجاله ثقات، وهو معضل؛ فإن هارون بن رئاب الأسيدي البصري العابد إنما روى عن التابعين عن الحسن وابن المسيب وأشباههما "(1)اهـ .
?المسألة الثانية : حُكْم الحديث المعضل :
جعل أهل الحديث المعضل من أقسام الحديث الضعيف ، والسبب الحامل لهم على ذلك: هو الجهل بحال المحذوف من الإسناد .
قال ابن جماعة : " والمعضل من قسم الضعيف "(2)اهـ .
?المسألة الثالثة : أيهما أسوأ حالاً المعضل أو المنقطع ؟
قال الجوزقاني في " الأباطيل "(3): " والمعضل عندنا أسوأ حالاً من المنقطع " .
قال الزركشي : " يؤخذ من ترتيب المصنِّف – أي ابن الصلاح – حيث ذكر بعد المرسل المنقطع، والمعضل، تفاوتهما في الرتبة، وبه صرح الجوزقاني "(4)اهـ .
والذي جعل المعضل أسوأ حالاً من المنقطع – في الجملة - أن المعضل سقوط اثنين فصاعدًا على التوالي ، والمنقطع سقوط واحد فقط .
لكن هل هذا الكلام يُسَلَّم بإطلاقه للجوزقاني ومن تبعه ، أم لا ؟
أقول : هذا من حيث الجملة له وجه ، ولانطلق ذلك ، فقد يسقط في المنقطع كذاب ، ويسقط في المعضل ثقات ، ولاشك أن المعضل في هذه الحالة – وما شابهها – أولى ، والله أعلم .
قال الحافظ ابن حجر : " إنما يكون المعضل أسوأ حالاً من المنقطع ، إذا كان الانقطاع في موضع واحد من الإسناد ، فأما إذا كان في موضعين أو أكثر؛ فإنه يساوي المعضل في سوء الحال ، والله أعلم(5).
__________
(1) انظر " إتحاف الخيرة المهرة " ( 1 / 148 – 149 ) .
(2) في " المنهل الروي " ( ص 47 ) .
(3) 1 / 12 ) .
(4) انظر " النكت " ( 2 / 20 ) .
(5) " النكت " ( 2 / 582 ) .(1/196)
" قلت " لاتلزم المساواة، فقد يكون الانقطاع في موضعين، لكن الساقط في المعضل أكثر من اثنين ، فهنا يكون المعضل أسوأ حالاً أيضًا، هذا من جهة عدد المحذوف ، أما من جهة حال المحذوف: فهذا أمر آخر ، ولايلزم من قلة السقط الترجيح؛ لاحتمال أن يكون الساقط كذابًا،نعم ، هذا تصريح من حيث الجملة إذا خلا المقام عن قرائن أخرى ، والله أعلم .
فكلام الجوزقاني صحيح في الجملة ، وهو أمر تقريبي ، وقد تشذ عنه حالات تؤخذ بقرائنها ودلائلها الخاصة بها ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : حكم الاستشهاد بالمعضل :
قد استشهد به البيهقي في " السنن الكبرى " وكذا شيخنا الألباني في "الصحيحة" وصرَّح بالاستشهاد به الشيخ بكر أبوزيد .
ولعل دليل من استشهد به: جواز الاستشهاد بالمنقطع ، ووجهه: أننا إذا استشهدنا بالمنقطع في موضع واحد، فكذلك يلزمنا الاستشهاد بالمنقطع في موضعين ، لأننا نستشهد بالحديث الذي فيه ضعيف أو ضعيفان ، أو فيه أكثر من علة ليست بالشديدة – ما لم يكن منكرًا ، أو يقوم دليل على وهائه - والمنقطع في موضعين يساوي في الجملة المعضل، كما سبق من كلام الحافظ في اعتراضه على الجوزقاني .
وإذا كان المعضل يساوي المنقطع في موضعين ، ونحن نستشهد بالمنقطع في موضعين ؛ لزمنا الاستشهاد بالمعضل ، فلعل هذا هو وجه من استشهد بالمعضل ، والله أعلم .
وعندي أن في ذلك توسعًا غير مرضي ، فأصل الاستشهاد بالمنقطع هو الاستشهاد بالمرسل ، ولاشك أن المرسل أحسن حالاً من المنقطع ، لأن المرسل في طبقة عالية، وقد كان الكذب فيها أخف مما بعدها من الطبقات .
وقد قال ابن السمعاني عندما تحدث عن حكم الحديث المنقطع : " من مَنَعَ قبول المرسل؛ فهو أشد منعًا لقبول المنقطعات ، ومن قَبِل المراسيل اختلفوا " اهـ .(1/197)
والاستشهاد بالمرسل فيه خلاف قد سبق بيانه ، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل ، فمع هذا كله: هل يليق بنا أن نقيس المعضل على المنقطع ؟ فيكون قياساً على قياس قائم على أصل فيه نزاع ؟ حيث قسنا المعضل على المنقطع مع الفارق ، والمنقطع على المرسل مع الفارق ، وفي الاستشهاد بالمرسل نزاع وقيود قد سبق بيانها .
ثم لو سلمنا بذلك ؛ فقد يقول قائل: إذا أجزتم الاستشهاد بمنقطع في موضعين؛ فكذلك يلزم الاستشهاد بمنقطع في ثلاثة مواضع أو أكثر ، فإن سلمنا بذلك ، واستشهدنا بالمعضلات؛ سقط معنى تشديد العلماء في الرواية بالأسانيد ، ولزمنا أن نقبل في الشواهد قول أحد المصنِّفين: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – كذا وكذا ، وإذا كان ذلك كذلك - ولاسيما إذا كان الشاهد والمشهود له من هذا الصنف - فعلى الأسانيد السلام ، وانقطع الكلام ، ومن شاء أن يقول قولاً فليقله !!!
وإذا رفضنا الاستشهاد بمنقطع في ثلاثة مواضع فأكثر ؛ لزم التحكم بلا دليل ولا برهان .
فإن قيل: إن الأمر راجع إلى غلبة الظن .
قلت : وغلبة الظن أنه لافائدة في المعضلات ، والمنقطعات المتكررة في السند الواحد، ولا أعرف ذلك عن السلف إلا من كلام البيهقي، وإن وُجِدَ فنادر جِدًّا، لايُقعَّد عليه ، لاحتمال أنهم قبلوه لقرائن أخرى لاتطَّرد في بقية الأحاديث ، والله أعلم .
نعم ، إذا كان هناك من الأسانيد ما يعتمد عليه لذاته أو لغيره ، وانضم إليه شئ من ذلك ، فإن نفعه وإلا ما ضره " والله أعلم(1).
?المسألة الخامسة : استعمالات أخرى للمعضل :
أطلق بعض أهل العلم المعضل على عدة معانٍ ، منها :
__________
(1) وقد فصلت الكلام في ذلك في كتابي : " إتحاف النبيل " ( 2 / 235 – 237 ) السؤال ( 226 ) .(1/198)
1- على قول الراوي : بلغني عن فلان ، قاله السجزي ، ونسبه إلى أهل الحديث(1)، وهذا على طريقة من يسمي الإسناد الذي فيه مبهم منقطعًا ، قاله الحافظ(2).
2- ما قاله ابن الصلاح : " من أن قول المصنفين من الفقهاء وغيرهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، ونحو ذلك ، كله من قبيل المعضل(3).
3- وكذا يطلقونه على مالم يسقط منه شئ البتة، ويعنون به المُسْتَغْلَق الشديد ، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا التعبير وجد في كلام جماعة من أهل الحديث كمحمد بن يحيى الذهلي ، وغيره ، فهذا إعضال من جهة المعنى لامن جهة الإسناد(4).
4- وأطلقه الحاكم على الحديث الذي يرويه تابعي التابعين موقوفًا على التابعي ، لايرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولايذكر الصحابي ، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم(5).
الحديث المدلِّس
قال الناظم – رحمه الله - :
. . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما أَتَى مُدَلَّسًا نوعان
19-الأولُ الإسقاطُ للشيخِ وأنْ ... يَنْقُلَ عَمَّنْ فوقَه بِعَنْ وأَنْ
20-والثاني لا يُسْقِطُهُ لكنْ يَصِفْ ... أوصافَه بما بِهِ لايَنْعَرِفْ
__________
(1) انظر " المقدمة " لابن الصلاح ( ص 82 ) مع " التقييد " .
(2) " النكت " ( 2 / 582 ) .
(3) انظر " المقدمة " ( ص 82 – 83 ) مع " التقييد " .
(4) انظر " النكت " ( 2 / 575 ) .
(5) نقله ابن الصلاح في " المقدمة " ( ص 82 ) مع " التقييد " وهو محمول على أن مثله لا يقال بالرأي ، لكن الذي عند الحاكم في " المعرفة " ( ص 37 ) يغاير ما نقله عنه ابن الصلاح ؛ إذ قال الحالكم : " والنوع الثاني من المعضل ، أن يُعْضِله الراوي من أتباع التابعين ، فلا يرويه عن أحد ، ويوقفه ، فلا يذكره عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – معضلاً ، ثم يوجد ذلك الكلام عن رسول الله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – متصلاً " اهـ .(1/199)
شرع الناظم في الكلام على الحديث المدلَّس، وذَكَر أنه نوعان، وعَرَّف كلاًّ من النوعين، وتوضيح ذلك في عدة مسائل ، وهي :
?المسألة الأولى : تعريف التدليس لغةً واصطلاحًا :
أما في اللغة: فهو مشتق من الَّدلَس، وهو الظلام، وكأنه أظلم وجْهُهُ على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه اهـ قاله الحافظ في " النكت "(1).
أما تعريفه في الاصطلاح : فهو يختلف باختلاف أقسامه ، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -
?المسألة الثانية : أقسام التدليس :
اختلف أهل العلم في تقسيم التدليس ، فذهب جماعة منهم إلى أنه ينقسم إلى قسمين فقط :
1- تدليس الإسناد .
2- تدليس الشيوخ .
وهذا ما فعله الخطيب(2)وابن الصلاح(3)والنووي(4)وابن كثير(5)وابن الملقِّن(6)وغيرهم، وارتضاه الحافظ ابن حجر(7)وعليه مشى الناظم .
وأدخل كثير منهم بقية أقسامه في هذين القسمين؛ ولعل ذلك لنُدْرة الأقسام الأخرى بالنسبة لهذين القسمين، أو لوجود شيء من التشابه بين هذه الأقسام من جهة إيهام الاتصال، لكن من تأمل تعريف القسمين المذكورين، وتعاريف الأقسام الأخرى؛ وجد فارقًا بينهما وبين بقية الأقسام ، والله أعلم .
ومنهم جعل القسمة ثلاثية: كالعراقي(8)حيث جعل القسم الثالث: تدليس التسوية، وتوضيح هذه الأقسام كالآتي :
الأول : تدليس الإسناد: والكلام عليه في مباحث .
المبحث الأول :تعريفه: للعلماء في حَدِّه أقوال ، وهي :
__________
(1) 2 / 614 ) .
(2) انظر " الكفاية " ( ص 510 – 520 ) .
(3) انظر " المقدمة " ( ص 95 – 96 ) مع " التقييد " .
(4) انظر " التقريب " للنووي ( ص 223 – 228 ) مع " التدريب " .
(5) انظر " المختصر " ( 1 / 172 – 176 ) مع " الباعث " .
(6) انظر" المقنع " ( 1 / 154 – 155 ) .
(7) انظر" النكت " ( 2 / 614 – 615 ) .
(8) انظر " التقييد " ( ص 95 ) .(1/200)
القول الأول : " هو أن يحدث الرجل عن الرجل الذي لم يَلْقَ بما لم يسمعه منه " قالوا : وهذا تدليس ؛ لأنه لوشاء لسمَّى من حدَّثه .
وهذا توسع غير مرضي، وقد حكاه ابن عبد البر عن فرقة " ثم قال :" فإن كان هذا تدليسًا ؛ فما أعلم أحدًا من العلماء سَلم منه ، اللهم إلا شعبة بن الحجاج ، ويحيى بن سعيد القطان . . . " انظر "التمهيد"(1)وهذا القول مهجور ؛ لأن التدليس يُشترط فيه الإيهام ، فأين الإيهام في كون الراوي يحدث عمن لم يعاصِرْه أصلاً ، أو عاصره ؛ ومعلوم أنه لم يسمع منه ؟!
__________
(1) 1 / 15 ) وقال الذهبي بنحو هذا القول الذي حكاه ابن عبد البر عن فرقة ، فقال : في " الموقظة " ( ص 47 ) : " المدلَّس : ما رواه الرجل عن آخر، ولم يسمعه منه ، أو لم يدركه " إلا أنه عند شرحه لهذا التعريف؛ ظهر أن الذهبي يشترط في التدليس اللقاء ، وتردد في مجرد المعاصرة ، ومالم يكن كذلك عدَّه منقطعًا .(1/201)
القول الثاني :" وهو رواية الراوي عمن سمع مالم يسمع منه، موهمًا أنه سمع منه " أو " روايته عمن عاصره، ولم يلقه، موهمًا أنه سمع منه" وهو قول الخطيب(1)، وابن الصلاح(2)والنووي(3)وابن كثير(4)، وابن الملقِّن(5)،والعراقي(6)،وغيرهم ، وإن كان بعض هؤلاء ذكر اللقاء ، ولم يذكر السماع ، إلا أنه عند الإطلاق محمول عليه ، والله أعلم .
وقد يَرِدُ على ذلك: النوعُ المسَمَّى بـ " المرسل الخفي " فمن قصد التمييز، وعَدَمَ التداخل؛ ذهب إلى أن التدليس لا بد فيه من قيد السماع أو اللقاء لا مجرد المعاصرة، فإن روى عن معاصره بصيغة محتملة؛ فهو "الإرسال الخفي " قاله الحافظ في مقدمة "طبقات المدلسين" .
القول الثالث :" أن يروي عمن سمع منه، مالم يسمع منه موهمًا أنه سمع منه"وقد أخرج هذا القيدُ روايةَ المعاصر، والفرق بينه وبين القول الثاني: أن الثاني يُدْخِل في التدليس مجرد الاكتفاء بالمعاصرة بين الراوي ومن روى عنه ، مع أنه لم يسمع منه أصلاً ، وهذا القول الثالث قد ذهب إليه جماعة، منهم البزار(7)وابن عبدالبر(8)
__________
(1) انظر " الكفاية " ( ص 59 ) ب / معرفة الخبر المتصل الموجب للقبول والعمل ، وقد عَرَّف الخطيب التدليس في ( ص 510 ) في باب التدليس وأحكامه ، مقتصرًا على الجزء الثاني من هذا التعريف ، ولم يذكر قيد السماع أو اللقاء ، فلزم التنبيه .
(2) انظر " المقدمة " ( ص 95 ) مع " التقييد " .
(3) في " الإرشاد " ( 1 / 205 ) وإن كان قد اقتصر في" التقريب " على الجزء الثاني من التعريف ، انظر " التدريب " ( 1 / 223 – 224 ) .
(4) انظر " المختصر " ( 1 / 172 ) مع " الباعث " .
(5) انظر " المقنع " ( 1 / 154 ) .
(6) انظر" شرح الألفية " ( 1 / 180 ) .
(7) انظر " النكت " ( 2 / 614 – 615 ) .
(8) انظر " التمهيد " ( 1 / 15 ) وقال : " هذا هو التدليس عند جماعتهم ، لا اختلاف بينهم في ذلك " اهـ .
قلت : لا إشكال في دخول هذا القول في التدليس ، لكن الخلاف في دخول غيره من الأقوال ، والعمدة على صنيع المتقدمين في استعمال التدليس ، وإطلاقهم ذلك على الروايات ، والله اعلم .(1/202)
وابن القطان(1)والحافظ ابن حجر(2)والسخاوي(3)وغيرهم .
فظهر مما سبق : أن القول الثاني عام في التدليس ، إذْ قد جعله شاملاً لرواية المعاصر عمن عاصره ، مالم يسمعه منه ، ولروايته عمن لقي أو سمع – في الجملة – لما لم يسمعه من شيخه ، واشترط قَيْد الإيهام في الصورتين .
أما القول الثالث : فإنه خاص برواية من سمع – في الجملة – لما لم يسمعه من شيخه ، مع قصْد الإيهام ، فهو مقتصر على صورة من إحدى الصورتين اللتين اشتَمل عليهما القول الثاني .
والترجيح بين القول الثاني والثالث راجع إلى قَصْد الإيهام من الراوي الذي وُصِفَ بالتدليس،واحتمال وقوع السامع في الوهم ،فإذا حصل للسامع من رواية المتعاصريْن؛ فهو تدليس، وإلا فلا، وإن كان كلام الحافظ في "مقدمة طبقات المدلسين" في إخراج رواية المعاصر – الذي لم يسمع - من التدليس، وإدخالها في المرسل الخفي؛ كلام له حظ في الوجاهة، إلا أن النفس تميل إلى ما رجحته – إذا كان العلماء قد أطلقوا التدليس على رواية المعاصر الذي لم يسمع ، وصنيعهم هو العمدة – والله تعالى أعلم .
وقد قال الخطيب في " الكفاية "(4)مؤكِّدًا على اشتراط قصد الإيهام في التدليس : " وإنما يفارق حالُه حالَ المرسِل بإيهامه السماع ممن لم بسمع منه فقط ، وهو الموهِن لأمره ، فوجَبَ كون هذا التدليس متضمِّنًا للإرسال ،والإرسال لايتضمن التدليس ؛لأنه لايقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه ..."اهـ.
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 614 – 615 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 614 – 615 )
(3) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 208 ) وعبارته في " الغاية " ( 1 / 294 ) في ذلك أصرح .
(4) ص510 ) .(1/203)
قلت : المبالغة في الخوض في هذا الأمر:لم تَعُدْ كبيرة الفائدة؛ بعد عَدّ العلماء للمدلسين،وإن كان من الممكن الوقوف على بعض الأحوال التي تدل على التدليس من الراوي ،وإن لم يذكروه في جملة المدلسين ولعلهم لم يذكروه فيهم لقلة تدليسه، والمرجع في ذلك – في الجملة - إلى نصوص العلماء في وصْفهم الرواة بالتدليس، والله أعلم .
المبحث الثاني: الصيغ الموهمة التي تُستعمل في تدليس الإسناد :
وهي ما كانت ظاهرة في السماع، وليست صريحة فيه،كقول الراوي : عن ، وقال ، وذَكَر ، وحَدَّث ، وأخبر ، ونحو ذلك،فكل هذا من صيغ الأداء المحتملة(1)وللحافظ كلام في الفرق بين قول المحدث: " قال " و" قال لي " فعدَّ الثانية صريحة في السماع ، بخلاف الأولى ، وكلامه ظاهر، انظره في " النكت "(2).
المبحث الثالث : حكم الاحتجاج بالرواية التي فيها تدليس الإسناد :
اختلف العلماء في رواية المدلِّس قبولاً وردًّا ، على أقوال كثيرة ، أشهرها :
القول الأول : قالوا: خبر المدلس غير مقبول؛ لأن التدليس يتضمن الإيهام بخلاف الحقيقة، وترك تسمية من لعله غير مرضي ولا ثقة ، وقد قال بهذا القول فريق من الفقهاء وأصحاب الحديث، انظر "الكفاية"(3).
القول الثاني : وقال خلق كثير من أهل العلم: خبر المدلس مقبول؛ لأنهم لم يجعلوه بمثابة الكذاب ، ولم يروا التدليس ناقضًا لعدالته ، وذهب إلى ذلك جمهور من قَبِلَ المراسيل من الأحاديث، وزعموا أن نهاية أمره أن يكون التدليس بمعنى الإرسال، انظر "الكفاية"(4).
القول الثالث : وهناك من فصَّل في ذلك ، وتفصيل العلماء راجع إلى عدة اعتبارات :
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 601 ) و " النزهة " ( ص 113 ) .
(2) 2 / 601 ) .
(3) ص 515 ) .
(4) ص 515 ) .(1/204)
1- ما عزاه ابن عبد البر لأكثر أئمة الحديث من التفصيل: فمن كان لا يدلس إلا عن ثقات؛ كان تدليسه عند أهل العلم مقبولاً، وإلا فلا، قاله البزار، وصرح به أيضًا أبو الفتح الأزدي، وأشار إليه الصيرفي "شرح الرسالة" وجزم به ابن حبان وابن عبدالبر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة(1).
وقد يقول قائل: وكيف يُعتمد قبول رواية من لم يدلس إلا عن ثقة، ونحن قد رددنا توثيق المبهم ؟
فالجواب : أن هناك فرقًا بين قول العالم :" حدثني الثقة" وبين ما إذا سئل العالم عمن حذفه ، فسمى رجلاً ثقة عند الجميع، وابن عيينة قد أُوقف وسئل في أحاديث كثيرة، كان يعنعن فيها، فَيُسَمِّي الذي حدثه بها ، فيكون ثقة، وهذا لا شك أنه ليس من توثيق المبهم ، هذا ما يمكن أن يُعْتَذَر به عن تدليس ابن عيينة .
مع أنه لكن قد يقال: هل نستطيع أن نجزم بذلك في جميع عنعنة ابن عيينة ؟ والجواب: لا نستطيع أن نجزم بذلك، لكن قد يقال: لعل ذلك هو الأغلب ، والنادر يأخذ حكم الأغلب، إلا لقرينة أخرى، فيعمل بها في موضعها ، والله أعلم .
2- إن كان وقوع التدليس من المدلس نادرًا؛ قُبِلَتْ عنعنته ونحوها، وإلا فلا، وهو ظاهر جواب ابن المديني، فإن يعقوب بن شيبة قال: " سألته عن رجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يَقُلْ فيه : حدثنا ؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا ، حتى يقول : " حدثنا " اهـ(2).
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 624) و " فتح المغيث " ( 1 / 215 ) وانظر كلام ابن عبدالبر في" التمهيد " ( 1 / 17 ) و " شرح علل الترمذي " ( 1 / 354 ) .
(2) انظر " الكفاية " ( ص 516 – 517 ) و " التمهيد " لابن عبدالبر ( 1 / 17 – 18 ) .
وقال الإمام مسلم في " مقدمة صحيحه " في ب / الاحتجاج بالحديث المعنعن : " وإنما تفقُّد من تفقَّد منهم سماع رواة الحديث ممن ( رواه ) عنهم : إذا كان الراوي ممن عُرف بالتدليس في الحديث ، واشْتُهِر به ، فحينئذٍ يبحثون عن سماعه في رواياته ، ويتفقدون ذلك منه ؛ كي تنزاح عنه علة التدليس " اهـ ( 1 / 137 ) مع " شرح النووي " قال ابن رجب بعد إشارته إلى كلام مسلم : " وهذا يحتمل أنه يريد كثرة التدليس في حديثه ، ويحتمل أنه يريد ثبوت ذلك عنه وصحته ، فيكون كقول الشافعي " اهـ " شرح العلل "
( 1/ 354 ) .
قلت : الاحتمال الثاني خلاف الظاهر من كلام مسلم ، والله أعلم .
وقد قال ابن عبدالبر:" . . . إلا أن يكون الرجل معروفًا بالتدليس ؛ فلا يُقْبل حديثه حتى يقول : " حدثنا "أو " سمعت "فهذا مما لا أعلم فيه – أيضًا – خلافًا " اهـ من " التمهيد " ( 1 / 13 ) .(1/205)
3- وهو قول الأكثر من أئمة الحديث والفقه والأصول: أنهم قبلوا من حديث المدلسين ما صرحوا فيه بالسماع ونحوه ، ومالم يصرحوا فيه بذلك لم يقبلوه .
وممن ذهب إلى إطلاق هذا التفصيل : الشافعي، وابن معين ، ونسبه العلائي لجمهور أئمة الحديث والفقه والأصول(1).
وصحح هذا المذهب كل من الخطيب(2)وابن الصلاح(3)والحافظ ابن حجر(4)بل نفى ابن القطان الخلاف في ذلك،وعبارته: "إذا صرح المدلس الثقة بالسماع؛ قُبِلَ بلا خلاف، وإن عنعن؛ ففيه الخلاف"(5).
والخلاصة : أن الراجح من هذه الأقوال : اعتبار التفصيل .
ومن خلال ماسبق من كلام أهل العلم المفصِّلين في رواية المدلسين ؛ يظهر لنا : أن هناك من لم يلتفت إلى من قلَّ تدليسه ، وهناك من يرى أن تدليسه مرة واحدة كافٍ في التوقف في عنعنته .
قال الخطيب – رحمه الله ، وهو ممن يقف في عنعنة المدلس ، ولو مرة واحدة - :
فإن قيل : لم إذا عُرِف تدليسه في بعض حديثه ؛ وجَبَ حَمْل جميع حديثه على ذلك ، مع جواز ألا يكون كذلك ؟
قلنا : لأن تدليسه الذي بان لنا صَيَّر ذلك هو الظاهر من حاله ، كما أن من عُرِف بالكذب في حديث واحد؛ صَار الكذبُ هو الظاهر من حاله ، وسقط العمل بجميع حديثه ، مع جواز كونه صادقًا في بعضها ، فكذلك حال من عُرِف بالتدليس ، ولو بحديث واحد . . . "اهـ(6).
ويمكن أن نلخص هذا المبحث فنقول: إن المدلس تُقْبل عنعنته في هذه الحالات :
__________
(1) انظر " جامع التحصيل " ( ص 111 – 112 ) .
(2) انظر " الكفاية " ( ص 515 – 518 ) .
(3) انظر " المقدمة " ( ص 99 ) مع " التقييد " .
(4) وهذا ظاهر عبارته في " النزهة "( ص 113 ) لأنه قَيَّد التفصيل بمن ثبت عنه التدليس ، وهذا يقع بمرة واحدة ، إلا أن صنيعه في " طبقات المدلسين " يدل على أنه يُمشي عنعنة من وقع منه التدليس نادرًا ، والله أعلم .
(5) انظر " فتح المغيث "( 1 / 231 ) .
(6) انظر " الكفاية " ( ص 518 ) .(1/206)
الأولى : إذا صرح المدلس بالسماع عن الشيخ نفسه من طريق أخرى محفوظة؛دل ذلك على أن عنعنة لم يكن الإيهام فيها مقصودًا .
فإذا كان عندنا إسنادان: أحدهما فيه عنعنة مدلس، وآخر فيه تصريحه بالسماع عن شيخه، فلا نطلق القول بأن المدلس قد صرح بالسماع، وزالت علة تدليسه ، وإنما يُنْظَر في هذا السند الذي صرح المدلس فيه بالسماع: هل هو مرجوح، فيكون شاذًّا أو منكرًا، فلا يقبل، وتبقى العنعنة في حيز التوقف، أم هو راجح محفوظ ، فيقبل تصريحه بالسماع ، وتكون العنعنة خالية من الإيهام ؟ فلابد من التفرقة بين هاتين الحالتين .
الحالة الثانية : إذا كان ذلك الراوي مُقِلاًّ من التدليس، وهو كثير الروايات المتصلة، فلا يليق أن يُتوقَّف في حديث الرواي كله إذا لم يصرح بالتحديث من أجل تدليس نادر، إنما يُرَدُّ من حديثه ما ظهرت فيه نكارة، أو نحو ذلك ، وقد سبق كلام ابن المديني وغيره في هذا .
الحالة الثالثة : إذا كان لا يدلس إلا عن ثقة،وهذا يحتاج إلى نص من العلماء بذلك، كما جاء في حق ابن عيينة ، ولا أعلم غيره في هذا الباب ، وقد قال ابن حبان : " . . . اللهم ألا يكون المدلس يُعْلَم أنه ما دلَّس قط إلا عن ثقة ، فإذا كان كذلك ؛ قُبِلَتْ روايته وإن لم يبيّن السماع ، وهذا ليس في الدنيا إلا لسفيان بن عيينة وحده " اهـ(1).
الحالة الرابعة : إذا كان المدلس مكثرًا عن أحد الشيوخ، وعُرِفَتْ ملازمته له، فتُمَشَّى عنعنته إذا عنعن عن هذا الشيخ ، لأن الفرض أنه بملازمته إياه؛ أنه قد عرف حديثَه ، فلو سمعه بواسطة عنه ، ورأى أن هذا ليس من حديث شيخه ؛ فدينه وأمانته يمنعانه من نسبة هذا الحديث إلى شيخه ، وهو يعلم عنه خلاف ذلك .
__________
(1) " صحيح ابن حبان " ( 1 / 161 ) .(1/207)
قال الذهبي في" الميزان "(1)في ترجمة سليمان الأعمش : " قلت : وهو يدلِّس ، وربما دلس عن ضعيف ، ولايُدْرَى به ، فمتى قال : "حدثنا " فلا كلام ، ومتى قال : "عن " تطرَّق إليه احتمال التدليس ، إلا في شيوخ له أكثر عنهم : كإبراهيم ، وأبي وائل ، وأبي صالح السمان ، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال " اهـ .
وقال العلامة المعلمي اليماني – رحمه الله -(2): " كان ابن جريج يدلس عن غير عطاء ، فأما عن عطاء ؛ فلا ، قال – أي ابن جريج - : إذا قلت : " قال عطاء " فأنا سمعته منه ، وإن لم أقل سمعتُ "
قال المعلمي : " وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء ، فإذا سمع رجلاً يُخبر عن عطاء بمالم يسمعه منه ؛ رآى أنه كذِبٌ ، فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء ، وهذا كما قال أبوإسحاق : قال أبوصالح وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج : ليس أحد يحدِّث عن أبي هريرة ، إلا علمنا أصادق أم كاذب ، يريدان : أنه إذا حدَّث عن أبي هريرة بمالم يسمعاه منه ؛ عَلِمَا أنه كذِبٌ ؛ لإحاطتهما بحديث أبي هريرة " اهـ .
قلت : وما قالاه مُقَيَّدٌ بما إذا كان المدلس من أهل النباهة والفهم ، لامطلق المدلس المكثر عن شيخه ، وقد فصَّلْتُ ذلك في كتابي : " إتحاف النبيل "(3)والله المستعان .
الحالة الخامسة : إذا كان تلميذه لا يروي عنه إلا ما علم أنه قد سمعه من شيخه، كما جاء في شعبة عن قتادة، حيث كان شعبة يتتبع فاه قتادة،فإن قال : " حدثنا " أو نحوه ؛ أخذ عنه ، وإن قال : " عن " أو نحوه ؛ تركه ، فكان لايأخذ عنه إلا ما صرح فيه بالسماع ، فإن رواه شعبة بعد ذلك عنه بالعنعنة ؛ فلا يضر(4).
__________
(1) 2 / 224 ) .
(2) انظر " التنكيل " ( 1 / 865 ) .
(3) 1 / 330) السؤال ( 178 ) .
(4) انظر " مقدمة الجرح والتعديل " ( 1 / 160 ) في الكلام على جهود شعبة ، ب / ما ذُكر من مراجعة شعبة لِنَقَلَةِ الحديث .(1/208)
قلت : ولا يلزم من ذلك أن كل إسناد فيه شعبة ، وشيخه فيه مدلِّس ؛ أن تزول علة التدليس لوجود شعبة ، فإن شعبة قال : كفيتكم تدليس ثلاثة ؛ قتادة ، وأبوإسحاق ، والأعمش ، ولم يقل : كفيتكم تدليس المدلسين ، فتنبَّه .
الحالة السادسة : إذا كان حديثه في أحد "الصحيحين" بالعنعنة ، ولم يُعلَّه بذلك أحد الحفاظ(1).
المبحث الرابع : هل مرسل الصحابي يسمى تدليسًا ؟
قد اتضح من القيد السابق في تعريف تدليس الإسناد - وهو قصد الإيهام - أن مراسيل الصحابة ليست من قبيل التدليس؛ فالصحابي لا يقصد إيهام من يخاطبه بذلك ، ولا يريد التشبع بما يروي، كما هو الحال في كثير من المدلسين، وقد ذم العلماء التدليس، ولم يذموا الإرسال، فبهذا يظهر الفرق بين مرسل الصحابي وبين التدليس، ولم يصح عن عالم من العلماء المتقدمين أنه وصف صحابيًّا بالتدليس – فيما أعلم - .
إلا أنه في " النبلاء "(2)ترجمة أبي هريرة - رضي الله عنه - قال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول: " وكان أبو هريرة يدلس " .
قال الذهبي:" تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه؛ فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول " . اهـ .
__________
(1) انظر " النكت " ( 2 / 634 – 636 ) وعمدة من ذهب إلى هذا : إما تحسين الظن بالشيخين ، وإما أنهما وقفا على التصريح بالسماع من جهة أخرى ، وإما تلقي الكتابين بالقبول، وعلى كل حال : فما لم يُنْتقد عليهما أو أحدهما ؛ فقبوله أولى،لكل ما سبق أو بعضه ، وقد قال القطب الحلبي : " وأكثر العلماء : أن العنعنات التي في "الصحيحين " مُنَزَّلة منْزلة السماع " اهـ من " فتح المغيث " ( 1 / 218 ) ، وانظر " إتحاف النبيل " ( 1 / 97 – 103 ) السؤال ( 14 ) .
(2) 2/ 608 ) .(1/209)
قلت : قول شعبة هذا ، قد أسنده ابن عدي في "الكامل"(1)في الكلام على شعبة، وفيه التستري، وهو كذاب وضاع،وعلى ذلك فلا يصح نسبة هذا إلى شعبة ، ولعل الذهبي تبع شعبة في هذا التعبير ، فإذا سقط الإسناد إلى شعبة ؛ فأرجو أن يسقط ما يُبنى عليه من الذهبي ، والله أعلم .
وقد قال الحافظ في " النكت "(2):"واعلم أن التعريف الذي ذكرناه للمرسل(3)ينطبق على ما يرويه الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - مما لم يسمعوه منه، وإنما لم يطلقوا عليه اسم التدليس أدبًا، على أن بعضهم أطلق ذلك ... ثم ذكر قول شعبة المتقدم، ثم قال :" والصواب ما عليه الجمهور من الأدب في عدم إطلاق ذلك ، والله الموفق " اهـ .
قلت : والذي يترجح عندي عدم إطلاق ذلك في حق الصحابة من الأصل، وليس فقط من باب الأدب ، فإننا نراعي معهم الأدب إذا وقعوا في ذلك ، أما إذا لم يقعوا فيه ؛ فلايُنْسب إليهم التدليس ، ثم يقال : " يُترك ذلك من باب الأدب " !! لأنهم لم يقصدوا الإيهام أصلاً، وهذا القيد لابد منه في تعريف التدليس وكل ما ذكر من الأسباب الحاملة على التدليس؛ لا يوجد عند الصحابة منه شئ ، والعلة التي من أجلها عاب الأئمة التدليس؛ لا توجد فيهم، ولم أقف إلا على قول الذهبي بذلك، وكلام شعبة لا يصح عنه، والله أعلم .
القسم الثاني من أقسام التدليس: تدليس الشيوخ :
وتحت هذا القسم مباحث :
المبحث الأول: تعريفه :
" هو أن يصف الراوي شيخَه بما لم يشتهر به: من اسم، أو كنية، أو لقب، أو نسبة، إيهامًا للتكثير - غالبًا - وقد يفعل ذلك لضعف شيخه؛ فيدلسه توعيرًا للوقوف على حال الضعيف ، وتعميةً لأمره .
__________
(1) 1 / 81 ) .
(2) 2 / 623 – 624 ) .
(3) كذا في الأصل ، ولعل المراد : " التدليس " لا المرسل ؛ فإن السياق في الكلام على التدليس .(1/210)
مثاله : مارُوي عن أبي بكر بن مجاهد المقرئ أنه روى عن أبي بكر عبدالله بن أبي داود السجستاني، فقال : حدثنا عبدالله ابن أبي عبدالله، وهو لا يُعْرَف بذلك عند المحدثين، وإنما هو مشهور بينهم بأنه عبدالله بن أبي داود(1).
المبحث الثاني : حُكْم تدليس الشيوخ :
إن الحكم عليه يختلف باختلاف قَصْدِ فاعله :
قال ابن الصلاح :" فأَمْرَه أخف – أي من تدليس الإسناد - .... ويختلف الحال في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه(2)" اهـ . فإن كان يفعل ذلك لضعف شيخه؛ فهذه خيانة ممن تعمده .اهـ بمعناه .من كلام الحافظ ابن حجر(3).
قال العراقي - رحمه الله - :" فَسرُّ ذلك: إذا كان الحامل على ذلك كونُ المروي عنه ضعيفًا، فيدلسه حتى لا تظهر روايته عن الضعفاء" . اهـ من " شرح الألفية "(4).
ومع أن العلماء قد صرح بعضهم بأن ذلك قد يكون خيانة؛ إلا أنني لا أعلم من أسقطوا عدالته لذلك، لكن من مضار تدليس الشيوخ: أن الباحث قد لا يهتدي لمعرفة من هذا الراوي الذي سماه أو كناه بغير ما اشتهر به، مما يؤدي إلى الحكم على الحديث بالضعف، وقد يوافق بهذا التصرف رجلاً آخر ثقة، ويشاركه في اسمه الجديد، وطبقته، ونحو ذلك؛ فيصحح الحديث، وليس كذلك، فما أحلى الصدق والتجرد، وما أقبح التدليس والتشبع ، والله المستعان .
__________
(1) واتظر " المقدمة " لابن الصلاح ( ص 96 ) مع " التقييد " ، وانظر تنعريف تدليس الشيوخ في " النكت" ( 2 / 615 ) .
(2) انظر " المقدمة " ( ص 100 ) مع " التقييد " .
(3) انظر " طبقات المدلسين " ( ص 26 ) والمراد بذلك أن يكون الشيخ ضعيفًا عند المدلِّس ، لا أنه ضعيف عن غيره ، ثقة عنده ، والله أعلم .
(4) ص 83 ) .(1/211)
قال ابن دقيق العيد :" وللتدليس مفسدة ، وفيه مصلحة ، فإنه قد يَخْفَى ويصير الراوي مجهولاً ، فيسقط العمل بالحديث ؛ لكون الراوي مجهولاً عند السامع ، مع كونه عدلاً معروفًا في نفس الأمر ، وهذه خيانة عُظمى ، ومفسدة كبرى ، وأما مصلحته : فامتحان الأذهان في استخراج التدليسات ، وإلقاء ذلك إلى من يُراد اختبار حفظه ، ومعرفته بالرجال ، ووراء ذلك مفسدة أخرى ، يراعيها أرباب الصلاح والقلوب : وهو ما في التدليس من التزْيين . . . " اهـ(1).
قال الحافظ معلقًا عليه : قلت : " وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع، لكن من مفسدته أن يوافق ما يدلس به شهرة راوٍ ضعيف، يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه، فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفًا، وهو في نفس الأمر صحيح، وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليُخْفي أمره، فينتقل عن رتبة من يُرَدُّ خبره مطلقًا إلى رتبة من يتوقف فيه ، فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه؛ فمفسدته أشد، كما وقع لعطية العوفي في تكنيته محمد بن السائب الكلبي:" أبا سعيد" فكان إذا حدث عنه يقول: " حدثني أبو سعيد" فيوهم أنه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ لأن عطية كان لقيه وروى عنه، وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ، وأما ما عدا ذلك من تدليس الشيوخ: فليس فيه مفسدة تتعلق بصحة الإسناد وسقمه، بل فيه مفسدة دينية فيما إذا كان مراد المدلس إيهام تكثير الشيوخ ،لما فيه من التشبع، والله اعلم(2).
__________
(1) انظر " الاقتراح " ( ص 221 – 222 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 628 ) .(1/212)
وقال الخطيب في " الكفاية "(1)مبيِّنًا حكم الحديث الذي وقع فيه التدليس : " وفي الجملة : فإن كل من روى عن شيخ شيئًا ، سمعه منه ، وعَدَلَ عن تعريفه بما اشتهر من أمره ، فَخَفِيَ ذلك على سامعه ؛ لم يصح الاحتجاج بذلك الحديث للسامع ؛ لكون الذي حدَّث عنه في حاله ثابت الجهالة ، معدوم العدالة ، ومن كان هذا صفته ؛ فحديثه ساقط ، والعمل به غير لازم . . . . " اهـ .
المبحث الثالث: أيهما أضر: تدليس الشيوخ ، أم تدليس الإسناد ؟
يختلف الحال باختلاف حال الشيخ المدلَّس؛ وإن كان تدليس الإسناد - في الجملة - أضر من تدليس الشيوخ، وذلك لأن تدليس الإسناد من حيث وجوده: فهو أكثر وقوعًا من تدليس الشيوخ؛ لأن الذين وُصِفوا بتدليس الإسناد أكثر من الذين وُصِفوا بتدليس الشيوخ .
أضف إلى ذلك أن تدليس الشيوخ يتفطن له الأئمة النقاد كثيرًا، فالإمام منهم يقول: فلان الذي في السند: هو فلان بن فلان ،ويَرُدّ الأمر إلى نصابه، كما اكتشفوا تصرف المدلسين في اسم محمد بن سعيد المصلوب، أما تدليس الإسناد فإذا أُسْقِط من السند رجل ؛ فربما لا يهتدي إليه أحد ، والله أعلم .
ويدل على ذلك ما قاله الحافظ،فقد قال :" لا يصير بذلك مجهولاًَ إلا عند من لا خبرة له بالرجال، وأحوالهم، وأنسابهم إلى قبائلهم،وبلدانهم، وحرفهم، وألقابهم، وكناهم، وكذا الحال في آبائهم، فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا، فمن أحاط علمًا بذلك؛ لا يكون الرجل المدلَّس عنده مجهولاً " اهـ من "النكت"(2).
( شبهة ) : قد يقول قائل: إن تدليس الشيوخ داخل في تدليس الإسناد، وذلك لأن الشيوخ يكونون في الإسناد لا في المتن ، وعلى ذلك فلا حاجة لهذا التقسيم ، ويكون الجميع من تدليس الإسناد!!
__________
(1) ص 527 ) .
(2) 2 / 626 ) .(1/213)
والجواب : أن معنى تدليس الإسناد: أي تدليس السماع، وبهذا سماه العلائي في "جامع التحصيل"(1)فإن الراوي يوهم سماع ما لم يسمع، والسماع يسمى إسنادًا أيضًا، وتدليس الشيوخ ليس من هذا النوع، فليس فيه إسقاط أصْلاً ، وإنما أوقع بعض الطلبة في هذا الوهم: ظنه أن الإسناد مقابل المتن، ورأى أن نوعي التدليس واقعان في الإسناد لا في المتن، ولو تنبه لما سبق؛ لما وقع له هذا الإشكال ، والله أعلم .
القسم الثالث تدليس التسوية :
والكلام فيه على مباحث :
المبحث الأول : تعريفه :
قال الحافظ العراقي : " وصورة هذا القسم من التدليس : أن يجيئ المدلس إلى حديث سمعه من شيخه ، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف ، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة ، ( فيعمد ) المدلِّس الذي سمع الحديث من الثقة الأول ، فيسقط منه شيخه الضعيف ، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني ، بلفظ محتمل ، كعنعنة ونحوها ، فيصير الإسناد كله ثقات ، ويُصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه ، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذٍ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل " اهـ من " التقييد "(2).
وقد عَدَّ الحافظ ابن حجر هذا التعريف غير جامع، ثم قال:" بل حق العبارة أن يقول: أن يجيئ الراوي - ليشمل المدلِّسَ وغيره - إلى حديث قد سمعه من شيخ، وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر، فيسقط الواسطة بصيغة محتملة، فيصير الإسناد عاليًا، وهو في الحقيقة نازل " اهـ من " النكت "(3).
فظهر من كلام الحافظ أنه ينتقد شيخه في موضعين:
__________
(1) ص 110 ) .
(2) ص 95 – 96 ) وانظره مختصرًا في " شرح الألفية " للعراقي ( ص 84 ) .
(3) 2 / 620 – 621 ) .(1/214)
الأول: قول العراقي:" أن يجيء المدلس " والحافظ يرى الإطلاق ، وذلك بقوله:" أن يجيء الراوي" ليشمل المدلس وغيره، وعندي: أن كلام العراقي في هذا الموضع أولى؛ لأنه في مقام تعريف تدليس التسوية، لا التسوية التي أراد الحافظ إدخالها في التعريف.
الثاني: قول العراقي:" وقد سمع ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف " انتقده الحافظ بقوله:" سمعه ذلك الشيخ من آخر" ولم يقيده بالضعف، ليدخل في ذلك الصغير الثقة، لكن مَثَّلَ لذلك بمثال في التسوية، لا في تدليس التسوية، كما صرح بذلك الحافظ نفسه .
وقد ذكر الخطيب أن مدلس تدليس التسوية قد يسقط ضعيفًا أو صغيرًا، فقال - رحمه الله - :" وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه، لكن يُسْقِط ممن بعده في الإسناد رجلاً يكون ضعيفًا في الرواية، أو صغير السن،ويُحَسِّن الحديث بذلك ..." اهـ من " الكفاية "(1).
وكثير ممن عَرَّف تدليس التسوية لم يذكر إسقاط الصغير ، والله أعلم .
فظهر من ذلك : أن مدلس تدليس التسوية يعمد إلى إسقاط الحُدثاء أو الأدنياء ، ويُظْهر الأجواد الرفعاء الرفعاء ، فيغتر بذلك الظاهر من لايعرف الحقيقة ، والله أعلم .
مثال تدليس التسوية :
__________
(1) ص 518 ) .(1/215)
ما رواه ابن أبي حاتم في " العلل "(1)قال: سمعت أبي وذَكَر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهوية عن بقية حدثني أبو وهب الأسدي عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – قال: " لا تَحْمَدوا إسلام المرء؛ حتى تَعْلَموا عُقْدَة رأيِهِ " فقال أبي: هذا الحديث له علة، قلَّ مَنْ يفهمها: روى هذا الحديث عبيدالله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة عن نافع عن ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وعبيدالله بن عمرو كنيته أبو وهب، وهو أسدي،فكأن بقية بن الوليد كنَّى عبيدالله بن عمرو ، ونسبه إلى بني أَسَد ؛ لكيلا يفطن له ، حتى إذا تُرِك إسحاق بن أبي فروة من الوسط ؛ لايُهْتَدَى له، قال – أي أبو حاتم - : وكان بقية مِنْ أَفْعِلِ الناس لهذا " اهـ .
المبحث الثاني : حكم تدليس التسوية :
?قال العلائي في "جامع التحصيل"(2):" وهو مذموم جدًّا من وجوه كثيرة " :
1- منها: أنه غِشٌ وتغطية لحال الحديث الضعيف، وتلبيس على من أراد الاحتجاج به .
2- ومنها: أنه يروي عن شيخه مالم يتحمله عنه – أي عن شيخ شيخه - لأنه لم يسمع منه الحديث إلا بتوسط الضعيف، ولم يروه شيخه بدونه .
3- ومنها: أنه ( يعترف ) على شيخه بتدليس لم يأذن له فيه، وربما أَلْحَق بشيخه وصْمَة التدليس؛ إذا اطُّلِع عليه أنه رواه عن الواسطة الضعيف، ثم يُوجَد ساقط في هذا الرواية؛ فَيُظَن أن شيخه الذي أسقطه، ودلس الحديث ، وليس كذلك " .
قال : " ولاريب في تضعيف من أكثر من هذا النوع " إلى أن قال : " وبالجملة : فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقًا ، وشرّها ، لكنه قليل بالنسبة إلى ما يوجد عند المدلسين " اهـ .
__________
(1) 2 / 154 – 155 ) برقم ( 1957 ) .
(2) ص 117 – 118 ) .(1/216)
قلت : ويعني بالقلة هنا: أي بالنسبة لتدليس الإسناد والشيوخ، أما الذين وقعوا فيه فهم كثير، بلغت عدتهم عندي (19 رجلاً ) كما في " إتحاف النبيل "(1).
قلت : ويؤيد هذا الوجه الثالث : ما ذكره العلائي نفسه عن صالح جزرة، أنه قال: سمعت الهيثم بن خارجة يقول :" قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدتَ حديث الأوزاعي، قال: وكيف ؟ قلت: تروي عنه عن نافع ، وعنه عن الزهري ، وعنه عن يحيى بن أبي كثير، وغيرك يُدْخِل بين الأوزاعيَّ ونافع عبدَالله بنَ عامر الأسلمي ، وبينه وبين الزهرِّي قرةَ ، فما يَحْمِلُك على هذا ؟ قال : أُنْبِل الأوزاعي بأن يروي عن مثل هؤلاء، قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء المناكير ، وهم ضعفاء، فأسقطتهم أنت، وصَيَّرتَها من رواية الأوزاعي عن الأثبات ؛ ضُعِّفَ الأوزاعي ، فلم يلتفت إلى قولي ..." اهـ(2).
?وقال العراقي بعد نقله كلام شيخه العلائي:" ومما يلزم منه – أي من تدليس التسوية - من الغرور الشديد: أن الثقة الأول قد لا يكون معروفًا بالتدليس، ويكون المدلس قد صرح بسماعه من هذا الشيخ الثقة، وهو كذلك ، فتزول تهمة تدليسه، فيقف الواقف على هذا السند، فلا يرى فيه موضع علة؛ لأن المدلس صرح باتصاله، والثقة الأول ليس مدلسًا، وقد رواه عن ثقة آخر، فيُحْكَم له بالصحة وفيه ما فيه من الآفة التي ذكرناها، وهذا قادح فيمن تَعَمَّد فِعْله، والله أعلم " . اهـ " التقييد "(3).
?وقال ابن الوزير: " وهو شر أقسام التدليس " اهـ من " توضيح الأفكار "(4).
قلت : عدَّ العلماء هؤلاء تدليس التسوية شر الأنواع لعدة أسباب : خلاصتها :
1-أن جناية المدلس يتحملها شيخه ، وهذا أمر فاحش : أن يجْني الرجل ، وغير يحتمل وِزْره !!
__________
(1) 2 / 42 – 58 ) السؤال ( 203 ) .
(2) ص 118 ) .
(3) ص 97 ) .
(4) 1 / 373 ) .(1/217)
2-إذا كان شيخ المدلس الذي يُظهره في السند لم يكن معروفًا بالتدليس، حُمِلتْ عنعنته على الاتصال ، مع أنه لم يسمعه إلا بواسطة الضعيف ، الذي أسقطه المدلس ، وعلى ذلك فتنفق رواية الضعيف بسبب تدليس المدلس ، وقد ذكر ذلك العراقي – رحمه الله – والله تعالى أعلم .
المبحث الرابع : حُكْم مَنْ وَقَع في تدليس التسوية :
?قال العلائي: " ولا ريب في تضعيف مَنْ أَكْثَرَ من هذا النوع ، وقد وقع فيه جماعة من الأئمة الكبار لكن يسيرًا : كالأعمش ، وسفيان الثوري ، حكاه عنهما الخطيب" اهـ(1).
?وقال العراقي: " وهو قادح فيمن تعمد فِعْله "(2).
?وقال الحافظ ابن حجر :" لا شك أنه جَرْح، وإن وُصِف به الثوري والأعمش؛ فالاعتذار عنهما : أنهما لا يفعلانه إلا في حق من يكون ثقة عندهما، ضعيفًا عند غيرهما " اهـ(3).
?وقال البقاعي: سألت شيخنا - يعني الحافظ ابن حجر -: هل تدليس التسوية جرح ؟ قال :" لاشك أنه جَرْح؛ فإنه خيانة لمن يُنْقل إليهم وغرور ، فقلت : كيف يوصف به الثوري والأعمش مع جلالتهما ؟ فقال: أحسن ما يُعْتذر به في هذا الباب : أن مثلهما لا يفعل ذلك إلا في حق من يكون ثقة عنده، ضعيفًا عند غيره اهـ(4).
قلت : قد سبق التنبيه على أنني لا أعلم من طعنوا في عدالته، وعَدُّوه متروكًا بسبب التدليس ، وقد جاء في " الميزان "(5)ترجمة بقية:" وقال أبو الحسن بن القطان: بقية يدلس عن الضعفاء، ويستبيح ذلك، وهذا إن صَحَّ مُفْسِدٌ لعدالته:
__________
(1) " جامع التحصيل " ( ص 117 ) .
(2) " التقييد " ( ص 97 ) .
(3) انظر " التدريب " ( 1 / 226 ) .
(4) انظر " توضيح الأفكار " ( 1 / 375 ) .
(5) 1 / 339 ) .(1/218)
قال الذهبي :" قلت : نعم والله صح هذا عنه، إنه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم، بل وعن جماعةٍ كبارٍ فِعْلُه، وهذا بليَّةٌ منهم، ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد، وما جَوَّزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس: إنه تعمد الكذب، هذا أَمْثَلُ ما يُعْتَذَر به عنهم " اهـ.
قلت : والذي أعرفه: أن العلماء يجرحون بذلك في الرواية لا في الديانة، وقد قال الصنعاني في " توضيح الأفكار "(1): " وفي الإيهام في موضع الخلاف نوع من الجرح في الرواية ، وإن لم يَجْرح في الديانة " اهـ .
المبحث الخامس : هل يشترط في قبول حديث المدلَّس تدليس التسوية التصريحُ في جميع طبقات السند ؟
الذي تطمئن إليه نفسي: أنه يكتفي بتصريح المدلس عن شيخه، وبتصريح شيخه عن شيخه،أي أن يكون التصريح في طبقتيه، ولا نتوقف في صحة السند من أجل العنعنة فيما فوق ذلك؛ إلا إذا علمنا عن رجل بعينه أنه يسقط في الطبقات العليا، أو كان في السند أو المتن نكارة، فالعلماء ـ أحيانًا ـ يُعِلُّون بعلل غير مطَّرِدة، وذلك لقرائن معينة .
والذي جعلني أقول بهذا القول أمور: وهي:
الأول: أنني نظرت في تعريف العلماء لتدليس التسوية، فرأيت أكثرهم يعرفونه بما يدل على أن العلة في هاتين الطبقتين .
الثاني :أن الأمثلة التي مَثَّل بها العلماء في هذا القسم: تدل على أن العلة في هذا الموضع،لا فيما بعد ذلك .
الثالث : صنيع الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يدل على أنه يكتفي من مدلس تدليس التسوية بأن يصرح بالسماع من شيخه، وأن يصرح شيخه بالسماع من شيخه، ومنها ما جاء في "نتائج الأفكار"(2).
قال الحافظ في رواية من روايات بقية :وبقية صدوق، أخرج له مسلم، وإنما عابوا عليه التدليس والتسوية ، وقد صرح بتحديث شيخه له ، وسماع شيخه ؛ فانتفت الريبة " اهـ .
__________
(1) 1 / 375) .
(2) 1 / 357 – 358 ) .(1/219)
وقد توسعت في الكلام على هذه المسألة في كتابي " إتحاف النبيل "(1)فارجع إليه .
المبحث السادس : مالفرق بين التسوية وتدليس التسوية ؟
قال الحافظ ابن حجر :"والتحقيق أن يقال: متى قيل تدليس التسوية ؛ فلا بد أن يكون كل من الثقات الذين حُذِفت بينهم الوسائط في ذلك الإسناد قد اجتمع الشخص منهم بشيخ شيخه في ذلك الحديث، وإن قيل تسوية بدون لفظ التدليس ؛ لم يحتج إلى اجتماع أحد منهم بمن فوقه، كما فعل مالك، فإنه لم يقع في التدليس أصلاً، ووقع في هذا، فإنه يروي عن ثور عن ابن عباس، وثور لم يلْقَه ، وإنما روى عن عكرمة عنه، فأسقط عكرمة؛ لأنه غير حجة عنده، وعلى هذا يفارق المنقطع: بأن شرط الساقط هنا أن يكون ضعيفًا، فهو منقطع خاص "(2)اهـ .
والذي في " النكت "(3): " التسوية أعم من أن يكون هناك تدليس ،أو لم يكن " . . ." ثم ذكر المثال السابق .
فلعل السيوطي ـ رحمه الله ـ نقل ما نقل عن الحافظ من موضع آخر من كتب الحافظ، أو ذكر ما فهم من كلام الحافظ بالمعنى ، والله أعلم .
المبحث السابع :
إذا كان مدلس تدليس التسوية يُسْقِط شيخ شيخه، فلماذا يُشترط تصريحه بالسماع فيما بينه وبين شيخه أيضًا ؟!
والجواب : أن تدليس التسوية نوع غريب من الإغراق في تعمية الأمر على السامع، ولا يفعل هذا إلا من قد مرَّ بالتدليس المعروف فيما بينه وبين شيخه الذي أظهره في السند ،فهذا أمر اشترك فيه كل من دلَّس تدليس الإسناد، فلما علم من يدلس تدليس الإسناد أن أمره قد كُشِفَ؛ ذهب إلى نوع غريب لا يُتَفَطَّن له فيه، فإذا كنا نشترط تصريحه فيما بين شيخه وشيخ شيخه؛ فمن باب أولى أن نشترط تصريحه فيما بينه وبين شيخه .
__________
(1) 2 / 31 – 42 ) السؤال( 202 ) .
(2) انظر " التدريب " ( 1 / 226 ) .
(3) 2 / 617 – 618 ) .(1/220)
وذكر الحافظ في "الفتح"(1)رواية الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي أخبرني نافع عن ابن عمر ..." ثم قال : والوليد قد صرح بتحديث الأوزاعي له، وبتحديث نافع للأوزاعي،فأُمِنَ تدليس الوليد وتسويته " اهـ .
وقد ذكرت في " إتحاف النبيل "(2)عدة أمثلة لذلك ، فارجع إليها إن شئت .
ويضاف إلى ذلك أيضًا: أنني لا أعرف رجلاً وصفوه بتدليس التسوية، وبرؤوه – مع ذلك - من تدليس الإسناد فيما بينه وبين شيخه الذي أظهره في السند ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ذكر البقاعي عن الحافظ ابن حجر أنه يدخل في تدليس التسوية : وصْفُ شيوخ السند بما لا يُعرفون به ، من غير إسقاط ، فيكون تسوية الشيوخ اهـ من كتاب : " النكت الوفية " نقلاً من حاشية (1) على كتاب " الإرشاد " للنووي(3).
وأشار لذلك السيوطي ، فقال : " قال شيخ الإسلام : ويدخل أيضًا في هذا القسم – يعني تدليس الشيوخ – التسوية : بأن يصف شيخ شيخه بذلك " اهـ(4).
قلت : ما قاله الحافظ يحتاج إلى مزيد من نظر وتحقيق ، والله أعلم .
القسم الرابع : تدليس القطع :
وهو:" أن يَحْذف الصيغة - أي أداة الرواية – أصلاً، ويقتصر على اسم شيخه، كقول: ابن عيينة:" الزهري عن أنس "(5).
ومثاله: ما رواه الخطيب في " الكفاية"(6)عن علي بن خشرم قال: كنا عند سفيان بن عيينة في مجلسه، فقال : الزهري، فقيل له: حَدَّثَكُم الزهري ؟ فسكت، ثم قال: الزهري، فقيل له: سمعته من الزهري ؟ فقال: لا ،لم أسمعه عن الزهري، ولا ممن سمعه من الزهري ، حدثني عبدالرزاق عن معمر عن الزهري .
__________
(1) 2 / 463 ) .
(2) 2 / 37 – 39 ) السؤال ( 202 ) .
(3) 1 / 208 ) وانظر " توضيح الأفكار " ( 1 / 376 ) .
(4) انظر " التدريب " ( 1 / 228 ) .
(5) وانظر " طبقات المدلسين " ( ص 25 ) .
(6) انظر " الكفاية " ( ص 512 ) .(1/221)
وأطلقه الحافظ ابن حجر وَمثَّل له بمثال – وإن وقع فيه خطأ في تسمية المدلس - ينطبق على تدليس السكوت الآتي بعد هذا ، كما في "النكت"(1).
وقال زكريا الأنصاري : " ومن تدليس الإسناد : أن يُسقط الراوي أداة الرواية ، مقتصرًا على اسم الشيخ ، ويفعله أهل الحديث كثيرًا " وذكر المثال السابق(2).
( تنبيه ) : روى الخطيب قصة ابن عيينة من طريق الحاكم ، والذي عند الحاكم في " المعرفة "(3): " ابن عيينة عن الزهري " فلم يسقط صيغة الأداء ، ومَثَّل به ابن الصلاح في " المقدمة " على تدليس الإسناد بنحو اللفظ الذي في " المعرفة " فينظر في ذلك ، على أن في رجال سندها من يحتاج إلى بحث ، والله أعلم .
القسم الخامس : تدليس السكوت :
وهو:" أن يأتي الرواي بلفظ يفيد السماع، مثل قوله: " حدثنا ، وسمعت " ونحو ذلك، ثم يسكت قليلاً، وينوي القطع، ثم يقول بعد ذلك : هشام بن عروة ، الأعمش - مثلاً - موهمًا أنه قد سمع منه، وليس كذلك ، وانظر " التدريب "(4).
ومثاله : ما جاء في "الطبقات" لا بن سعد(5)ترجمة عمر بن علي المقدمي، قال ابن سعد: وكان يدلس تدليسًا شديدًا، وكان يقول:" سمعت، وحدثنا" ثم يسكت ،ثم يقول :" هشام بن عروة، الأعمش" اهـ
( تنبيه ) : حُكْم تدليس القطع؛ حكم تدليس الإسناد، فَيُتوَقَّف – وإن صَرَّح بالسماع - فيه حتى تعرف الواسطة ، والله أعلم .
( تنبيه آخر ) : ذكر السخاوي أن تدليس القطع والسكوت نوعان، ولم يجعلهما شيئًا واحدًا، والحافظ ذكر تدليس القطع ومَثَّل له بمثال تدليس السكوت، فصنيعه يشير إلى أنهما شيئ واحد، والذي يظهر أن كل سكوت قطع ، وليس كل قطع سكوتًا ، والله أعلم .
(
__________
(1) 2 / 617 ) .
(2) انظر " فتح الباقي " ( ص 165 ) و " فتح المغيث" ( 1 / 212 ) .
(3) ص 105 ) .
(4) 1 / 227 ) .
(5) 7 / 213 ) .(1/222)
تنبيه أخير ) : من عُرِف بتدليس السكوت؛ فلا يُقْبل تصريحه بالسماع حتى نعرف من الراوي المحذوف ، وما حاله، لأنه يدلس مع تصريحه، وهذا الأمر مع ظهروه؛ إلا أنني أجد من يُمَشِّي حديث المقدمي إذا صرح بالسماع، فإن كان هناك من قال برد حديثه - وإن صرح بالسماع - وإلا فما سبق كلام نظري فقط، وسيأتي في تدليس الصِيَغ شيء قد يُسْتَفاد منه هنا ، والله أعلم .
القسم السادس : تدليس العطف :
وهو:" أن يصرح بالتحديث في شيخ له، ويعطف عليه شيخًا آخر له، ولا يكون سمع ذلك المروي من الثاني، سواء اشتركا في الرواية عن شيخ واحد، أم لا " انظر " فتح المغيث "(1).
ومثاله: ما ذكره الحاكم في "معرفة علوم الحديث"(2)قال:" وفيما حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم ، اجتمعوا يومًا على ألا يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك، فكان يقول في كل حديث يذكره:" حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم" فلما فرغ؛ قال لهم: هل دلست لكم اليوم ؟ فقالوا: لا، فقال: لم أسمع حرفًا واحدًا مما ذكرتُه، إنما قلت:" حدثني حصين" ومغيرة غير مسموع لي " اهـ .
قلت : هذا المثال ضعيف: لعدم معرفة السند بين الحاكم وهشيم ، والله أعلم .
أما حكم تدليس العطف : فالعبرة بحال الرواي الأول، فإن كان مقبولاً؛ قُبِلَ الحديث، أما إذا كان ضعيفًا، فلا بد أن يصرح المدلس بالسماع عن الثاني، وإلا كان الحديث في حَيِّز الضعف ، والله اعلم .
القسم السابع : تدليس الصيغة .
وهو:" ما يقع من بعض المحدثين من التعبير بالتحديث، أو الإخبار، عن الإجازة، والوجادة، ونحوهما، أو يذكر ذلك متأولاً، موهمًا السماع، فيُظن أنه سمع، ولا يكون سمع من ذلك الشيخ شيئًا"(3).
__________
(1) 1 / 213 ) .
(2) ص 105 ) .
(3) وانظر " طبقات المدلسين " ( ص 25 ) .(1/223)
مثال : ما كان عن تأويل: ما ذكره الخطيب: بأنه رُوِي عن الحسن أنه كان يقول:" حدثنا أبو هريرة " ويتأول أنه حَدَّث أهل البصرة، والحسن منهم، وكان الحسن إذْ ذاك بالمدينة، فلم يسمع منه شيئًا(1).
ومثال التحديث في الوجادة: ما رواه الحاكم في "المعرفة"(2)من طريق أبي الوليد الطيالسي، قال: حدثني صاحب لي من أهل الرأي - يقال له:" أشرس " – قال: قدم علينا محمد بن إسحاق فكان يحدثنا عن إسحاق بن راشد، فقدم علينا إسحاق بن راشد، فجعل يقول: ثنا الزهري، وثنا الزهري، قال: فقلت له: أين لقيت ابن شهاب ؟ قال: لم ألقه ، مررت ببيت المقدس فوجدت كتابًا له ثَمَّ " .
ومثال الإخبار في الإجازة : ما قاله الخطيب:" قد رأيت لأبي نعيم أشياء يتساهل فيها، منها أن يقول في الإجازة: " أخبرنا " من غير أن يُبَيَّن ...... اهـ وانظر ما قاله الذهبي معترضًا على الخطيب في "النبلاء"(3).
ومثال التدليس بعبارة دون أخرى : أن فظر بن خليفة كان يقول فيما سمعه:" سمعت " فإن لم يسمعه؛ قال: " حدثنا " وذكر السخاوي أنه كان يدلس فيما عدا " سمعت" ولذلك فقد سأل عليُّ بن المديني يحيى القطان : يُعْتَمَد على قول فطر :" حدثنا " ويكون موصولاً ؟ فقال: لا، قال: كانت منه سجية ؟ قال: نعم، وقال القطان للفلاَّس: وما يُنْتَفَع بقول فطر:" حدثنا عطاء " ولم يسمع منه(4)اهـ .
وقد اعتذر السخاوي عن فطر: بأنه لعله تجوَّز في صيغة الجمع؛ فأوهم دخوله، كقول الحسن البصري:" خطبنا ابن عباس ..." لكن صنيع فطر فيه غباوة شديدة، يستلزم تدليسًا صعبًا، كما قال شيخنا (1) اهـ .
__________
(1) انظر " فتح المغيث " ( 1/ 212 ) .
(2) ص 110 ) .
(3) 17 / 461 ) ترجمة أبي نعيم .
(4) انظر" النبلاء " ( 7 / 32 ) و "فتح المغيث " ( 1 / 211 – 212 ) .(1/224)
أما حكمه : فيختلف باختلاف صُوَره: فصنيع الحسن من جملة المرسل، ومع ذلك فهو نادر، ولا يُذْهَب إليه إلا عند وجود دليل يدل عليه، وما كان من بقية الصور: فلا يخلو من كراهة، إلا إذا كان استعمالاً مشهورًا في بعض البلدان ، ومع ذلك فالأولى البيان ، والله اعلم .
فالذهبي مع تعقُّبه الخطيب عندما رمى أبا نعيم بالتساهل في التعبير عن الإجازة بالإخبار ، قال : " ثم إطلاق الإخبار على ما هو بالإجازة مذهب معروف ، قد غلب استعماله على محدِّثي الأندلس ، وتوسَّعوا فيه . . . . والأحوط تَجَنُّبُهُ " اهـ(1).
( تنبيه ) : ذهب بعض أهل العلم - كما هو صنيع الحافظ(2)
__________
(1) " النبلاء " ( 17 / 416 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 616 – 617 ) وقد قال السيوطي في " التدريب "( 1 / 227 ) : " قال شيخ الإسلام : وهذه الأقسام كلها يشملها تدليس الإسناد ، فاللائق ما فعله ابن الصلاح من تقسيمه إلى قسمين " اهـ .
وقد قال الحافظ في " طبقات المدلسين " ( ص 25 ) : " ويلتحق بتدليس الإسناد : تدليس القطع . . . وتدليس العطف . . . وتدليس التسوية . . . اهـ .
(
2) ( ص 95 ) .(1/225)
- إلى أن أقسام التدليس السابقة تدخل في تدليس الإسناد، واعتذر لمن جعل القسمة ثنائية، وأن التدليس قسمان: تدليس الإسناد، وتدليس الشيوخ، وعندي: أن هذه الأقسام داخلة في تعريف تدليس الإسناد ؛ لأنها رواية من لم يسمع موهمًا السماع، إلا أن تدليس التسوية ليس كذلك؛ لأنه ليس من رواية من لم يسمع؛ فإن الذي لم يسمع الحديث هو شيخ المدلِّس، لا المدلِّس نفسه ، ولعله لذلك جعل العراقي القسمة ثلاثية، كما في "التقييد"(1)إلا أنه مع ذلك فيه معنى تدليس الإسناد ، وإن لم يكن من فِعْل شيخ المدلس ، لأن المدلس أسقط الضعيف أو الصغير ، ثم تصرف في صيغة الأداء موهمًا أن السند متصل ، فلعل هذا دليل من أطلق إدخال تدليس التسوية في تدليس الإسناد ،وليس ذلك ببعيد من حيث المعنى ،لامن حيث التعريف ، والله أعلم .
القسم الثامن : تدليس البلدان :
?قال : الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ " ويُلْحَق بقسم تدليس الشيوخ تدليس البلدان، وهو كما إذا قال المصري :"حدثني فلان بالأندلس" وأراد موضعًا بالقرافة، أو قال: " بزقاق حلب " وأراد موضعًا بالقاهرة .
أو قال البغدادي :"حدثني فلان بما رواء النهر " وأراد نهر دجلة .
أو قال :" بالرقة " وأراد بستانًا على شاطئ دجلة .
أو قال الدمشقي :" حدثني بالكرك " وأراد كرك نوح ، وهو بالقرب من دمشق "(2)اهـ .
قلت : هذا النوع - وإن كان شبيهًا بقسم بتدليس الشيوخ - لكن ليس تدليسًا فيما اشتهر به الشيخ ، فإن الشيخ معروف في هذا النوع ، إنما هو تدليس لبلده، فأوهم الرحلة، وليس كذلك، والله أعلم .
أما حكمه : فقد قال الحافظ " حكمه: الكراهة؛ لأنه يدخل في باب التشبع، وإيهام الرحلة في طلب الحديث، إلا إن كان هناك قرينة تدل على عدم إرادة التكثير؛ فلا كراهة، والله الموفق " اهـ(3).
(
__________
(1) " النكت " ( 2 / 651 ) .
(2) " النكت " ( 2 / 651 ) .(1/226)
تنبيه ) : هناك نوع يُسَمَّى بـ " تدليس المتون " : " وهو المدرج ، إذا قصد الفاعل إيهام السامع بأن الكلام كلام النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ولايتميز ذلك من كلام النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وتعمد ذلك حرام(1).
?المسألة الثالثة : أقوال العلماء في ذم التدليس جملة :
قال الخطيب :" التدليس للحديث مكروه عند أكثر أهل العلم، وقد عظَّم بعضهم الشأن في ذمِّه، وتبجَّح بعضهم بالبراءة منه، فمما حفظناه عمن كان يكرهه ويذمه . . . ثم ساق أسانيده عن جماعة من أهل العلم قد ذموا التدليس ، ومنهم :
1- شعبة بن الحجاج :" فقد قال :" التدليس أخو الكذب " .
وقال :" التدليس في الحديث أشد من الزنا ، ولأن أسقط من السماء ؛ أحب إلي من أن أدلس " .
2 - جرير بن حازم فقد ذكر جرير التدليس والمدلسين فعابه، وقال:" أدنى ما يكون فيه : أنه يُرِي الناس أنه سمع مالم يسمع " .
3-أبو أسامة قال: محمد بن أحمد بن يعقوب حدثنا جدي قال سمعت الحسن بن علي يقول سمعت أبا أسامة يقول :" خرَّب الله بيوت المدلسين ، ماهم عندي إلا كذابون " .
4-حماد بن زيد :فقد قال: " التدليس كذب " ثم ذكر حديث النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - :" المتشبع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبَيْ زُورٍ " قال حماد:" ولا أعلم المدلس إلا متشبعًا بما لم يُعْطَ " .
5-ابن المبارك : وكان يقول: " لأن نخر من السماء ؛ أحب إلي من أن ندلس حديثًا " .
6-وكيع بن الجراح : وقد قال :" نحن لا نستحل التدليس في الثياب ، فكيف في الحديث " ؟!(2).
?قد يقول قائل : لماذا يذم العلماء التدليس، وقد وُجِد من العلماء الكبار من يدلس ؟
__________
(1) انظر " النكت " للزركشي ( 2 / 113 ) وانظر " فتح المغيث " ( 1 / 229 ) و " اليواقيت والدرر " ( 2 / 20 ) .
(2) " الكفاية " ( ص 508 – 509 ) .(1/227)
الجواب : إن الذين ذموا التدليس نظروا إليه من جهة التشبع والاستكثار، وما يؤول الأمر إليه مِنْ رَدِّ بعض الروايات الصحيحة، أو تصحيح بعض الروايات الضعيفة، وأما الذين دلَّسوا من الكبار: فقد اعتذر عنهم بعض العلماء بأن لهم مقاصد أخرى، غير هذه المفاسد التي ذُم التدليس من أجلها، كما سيظهر ذلك من الكلام على الأسباب الحاملة على التدليس - إن شاء الله تعالى - .
وأيضًا : فمما يُعتذر به عن الكبار الذين دلسوا : أن أحدهم قد يدلس شيخه ولم يعلم ضعفه، وهذا أمثل ما يعتذر به عنهم .
وذكر السخاوي في " الغاية "(1)نحو ذلك ، ثم قال:" والظاهر أن البخاري ونحوه ممن يقع لهم تدليس الشيوخ : لايقصدون إيهام الاستكثار . . . بل يقصدون بهذا الصنيع حض الراوي على المبالغة من التعريف بحال الراوي ،بحيث لايلتبس عليهم على أي وجه كان " اهـ .
وقد ذكر ابن دقيق العيد مصلحة للتدليس فقال : " وأما مصلحته : فامتحان الأذهان في استخراج التدليسات ، وإلقاء ذلك إلى من يُراد اختبار حفظه ، ومعرفته بالرجال . . ." اهـ(2)وإذا كانت هذه مصلحة ، فأولى من يُعتذر بها عنهم الأئمة الذين وقعوا في التدليس ، وستأتي أعذار أخرى في المسألة الآتية – إن شاء الله – ومع هذا كله فهناك مواضع تبقى النفس حائرة فيها ، وما بقي إلا حسن الظن بهم ، والله أعلم .
وعلى كل حال: فالتدليس ليس جرحًا مستقرًّا ، إنما هو جرح في الرواية لا في الديانة ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : الأسباب الحاملة للمدلِّسين على التدليس :
ذكر العلماء أن للمدلسين أغراضًا حملتهم على التدليس ، منها المحمود ، ومنها المذموم ،وهي :
__________
(1) 1 / 296 – 297 ) .
(2) " الاقتراح " ( ص 221 ) وانظر نحوه في " فتح المغيث" ( 1 / 224 ) .(1/228)
1- ضَعْفُ الشيخ : قال الخطيب – في سياق ذكره الأحوال التي تقتضي ذم التدليس وتوهينه -: " والثالثة: أن المدلس إنما لم يبين من بَيْنَه وبين من روى عنه؛ لعلمه بأنه لو ذَكَره لم يكن مرضيًّا مقبولاً عند أهل النقل ، فلذلك عَدَلَ عن ذِكْره "(1)اهـ .
2- صغر سن الشيخ : قال الخطيب : في كلامه على تدليس التسوية: " لكنه يُسْقِط ممن بعده في الإسناد رجلاً يكون ضعيفًا في الرواية ، أو صغير السن ، ويُحَسِّن الحديث بذلك "اهـ(2).
وذلك: لأنه قد يقع في نفس المدلس الحرج بسبب روايته عن هذا الصغير ، فَيُظَن به أنه ليس بصاحب رحلة، وأن الصغار رحلوا إلى المشايخ الكبار، فسبقوه في هذا الفن، فعند ذلك تستنكف نفسه عن الرواية عن هذا الصغير ؛ فيسقطه ، ويروي عمن لم يسمع منه .
3- أن تكون عند هذا المدلس أحاديث كثيرة لهذا الشيخ، فلا يحب تَكْرار الرواية عنه، حتى لا يقع السامع في ملل بسبب ذلك ، فيسقطه المدلس ، أو يغير اسمه(3).
?وقال ابن الصلاح : " أو لكونه كثير الرواية عنه، فلا يحب الإكثار من ذِكْر شخص واحد على صورة واحدة "(4)اهـ .
4- إيهام عُلو الإسناد: قال الخطيب :" وفيه أيضًا: أنه إنما لا يذكر من بينه وبين من دلس عنه طلبًا لتوهيم علو الإسناد " اهـ " الكفاية "(5).
__________
(1) انظر " الكفاية " ( ص 511 ) و " التمهيد " ( 1 / 15 ) و " جامع التحصيل " ( ص 118 – 119 ) .
(2) " الكفاية " ( ص 518 ) وانظر " التمهيد " ( 1 / 15 ) و " جامع التحصيل " ( ص 118 – 119 ) وقد يكون للأنفة من الرواية عمن حدثه ، كما قال الخطيب في " الكفاية " ( ص 511 ) .
(3) انظر " جامع التحصيل " ( ص 118 ) .
(4) انظر " المقدمة" ( ص 100 ) مع " التقييد " .
(5) ص 511 ) وانظر " الاقتراح " ( ص 218 ) .(1/229)
5- إيهام كثرة الشيوخ : قال بن دقيق العيد: " وأكثر مقصود المتأخرين في التدليس طلب العلو أو إيهام كثيرة المشائخ "(1)اهـ .
6- امتحان الأذهان، وشحذها في معرفة الرواة ،وطبقاتهم ، ونحو ذلك، وإلقاء ذلك إلى من يراد اختبار حفظه ، ومعرفته بالرجال "اهـ(2).
7- أن يقصد التنويع في اسم الشيخ تفنُّنًا في الرواية ، وهذا يفعله الخطيب في بعض شيوخه .
قال السخاوي - رحمه الله - : " ويكون كفعل الخطيب الحافظ المكثر من الشيوخ والمسموع في تنويع الشيخ الواحد، حيث قال مرة: " أنا الحسن بن محمد الخلال ، ومرة: أخبرنا الحسن ابن أبي طالب ، ومرة: أنا أبو محمد الخلال ، والجميع واحد اهـ " فتح المغيث "(3).
8- إيهام الرحلة ، كما في تدليس البلدان ، وقد سبق قريبًا .
9- الإغراب في الرواية(4).
10- العداوة التي بين التلميذ والشيخ، وقد ذكر ذلك العلائي(5)مستدلاًّ بما جرى بين البخاري والذهلي ، وفي التسليم بكون البخاري مدلِّسًا بحث ، والله أعلم .
11- تحسين الحديث وإظهاره مستويًا بالثقات ، كما في تدليس التسوية .
12- قَصْد الدفاع عن الشيخ حتى لايُرغب عن حديثه ، كما جرى من الوليد بن مسلم في حق الأوزاعي .
13-قَصْد إثارة الرغبة في الحديث وترويجه ، وذلك بإسقاط الضعيف ، أو تسمية الشيخ الضعيف باسم يوافق اسم شيخ ثقة ، وقد رَوى المدلس عنهما جميعًا ، كما يُرْوى من فعْل عطية العوفي في تكنية الكلبي بأبي سعيد(6).
__________
(1) " الاقتراح " ( ص 215 ) .
(2) " الاقتراح " ( ص 221 ) .
(3) " فتح المغيث" ( 1 / 223 ) وانظر دفاع الحافظ عن الخطيب ، وقد نقله الصنعاني في " توضيح الأفكار " ( 1 / 369 ) .
(4) انظر " الاقتراح " ( ص 219 ) وانظر " جامع التحصيل " ( ص 119 ) .
(5) انظر " جامع التحصيل " ( ص 119 ) وانظر " النكت " للزركشي ( 2 / 130 – 131 ) .
(6) انظر " النكت " للزركشي ( 2 / 132 ) وما نُسب إلى عطية لايصح سنده ، والله أعلم .(1/230)
14-أن يكون الساقط ثقة عند المدلس ، وليس كذلك عند غيره ، فيسقطه ليجوز حديثه في الناس ، للاحتياج إليه(1).
15-نشر الأخبار في الأمصار ، ومن أراد العمل بها ، فلينظر في طرق الحديث ، ويعمل بما ظهر له(2).
16-الدعوة إلى الله : قال ذلك الحاكم في " المعرفة "(3).
17- وقد يكون لكون المدلَّس حيًّا ، وعدم التصريح به أبعد عن المحذور الذي نهى الشافعي عنه لأجله(4).
قلت : ولعله يعني قول الشافعي : " إياك والرواية عن الأحياء " لاحتمال أن ينسى الحي، ويجحد ما رواه ، فينال تلميذَه من ذلك شيء(5).
18- قد يحمل المدلس على ذلك ما يحيط به من ظروف تجعله يخاف من التصريح باسم شيخه ، أو وقوع فتنة من غالٍ أو جافٍ مقبول عند الناس ، أو الولاة،كما يُذكر أن الحسن البصري كان يُخفي اسم عليٍّ – إن صح ذلك – زمن بني أمية(6).
19- تأخر وفاة الشيخ ، فيشارك المدلسَ من هو دونه في الرواية عنه ، فيأنف من ذلك ، فيسقط شيخه(7).
20- الشَّرَه في الرواية ، فيحمله ذلك على التدليس ، وهذا جامع للاستكثار في الشيوخ ، والطرق ، والغرائب ، والفوائد ، والله أعلم .
?المسألة الخامسة : مفاسد التدليس : قد ذكر الخطيب جملة من الأسباب الحاملة على ذم التدليس، فقال:" والتدليس يشتمل على ثلاثة أحوال تقتضي ذم التدليس وتوهينه :
فإحداها : إيهامه السماع ممن لم يسمع منه، وذلك مقارب الإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه .
والثانية : عُدُوله عن الكشف إلى الاحتمال ، وذلك خلاف موجَب الورع والأمانة .
__________
(1) انظره مختصرًا بنحوه في " فتح المغيث " ( 1 / 223 ) .
(2) انظر بعض ذلك من كلام ابن الوزير في " توضيح الأفكار " ( 1 / 369 ) .
(3) ص 104 ) .
(4) انظر المصدر السابق .
(5) انظره مُفَصَّلاً في " التقييد والإيضاح " ( ص 154 – 155 ) .
(6) أنظر شيئًا من ذلك في " توضيح الأفكار " ( 1 / 368 ) .
(7) "شرح الألفية " للعراقي ( 1 / 188 ) .(1/231)
والثالثة : إن المدلس إنما لم يبين من بَيْنَه وبين من روى عنه؛ لعلمه بأنه لو ذكره لم يكن مرضيًّا مقبولاً عند أهل النقل ، فلذلك عَدَل عن ذِكْره ، وفيه أيضًا : أنه إنما لايذكر مَنْ بينه وبين مَنْ دلَّس عنه ؛ طلبًا لتوهيم عُلوِّ الإسناد ، والأنَفَة من الرواية عمن حدَّثه ، وذلك خلاف موجَب العدالة ، ومقتضى الديانة : من التواضع في طلب العلم ، وترْك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه ، والمرسِل المُبَيِّن برئ من جميع ذلك " اهـ من " الكفاية "(1).
?المسألة السادسة : هل يصلح الحديث المدلَّس في الشواهد والمتابعات ؟
قال الحافط ابن حجر :" ومتى تُوبِع السيئ الحفظ بمعتبر؛ كأن يكون فوقه أو مثله - لا دونه - وكذا المختلط الذي لم يتميز، والمستور، والإسناد المرسل، وكذا المدلَّس، إذا لم يُعْرَف المحذوف منه؛ صار حديثهم حسنًا لا لذاته " اهـ " النزهة "(2).
وقال - أيضًا - في كلامه على تعريف الترمذي للحسن: " وليس هو في التحقيق عند الترمذي مقصورًا على رواية المستور، بل يشترك معه الضعيف بسبب سوء الحفظ، والموصوف بالغلط والخطأ، وحديث المختلط بعد اختلاطه، والمدلس إذا عنعن، وما في إسناده انقطاع خفيف، فكل ذلك عنده من قبيل الحسن ...." اهـ(3).
قلت : عنعنة المدلس ليست من جملة الجرح الشديد، إلا إذا ظهر في حق راوٍ، أو في حديث بعينه؛ أنه دَلَّس عن متروك ، أو كذاب ؛ فإنه لا يستشهد به والحال هذه .
__________
(1) ص 510 – 511 ) .
(2) 10) ( ص 139 ) في كلامه على وجوه الطعن في الراوي .
(3) " النكت " ( 1 / 387 ) .(1/232)
وكذا ما إذا عنعن مدلس، ثم جاء عنه من وجه آخر، وصرح بالسماع من ضعيف؛ فالظاهر أن هذا الضعيف هو الذي حُذِفَ من الإسناد المعنعن، فلا يتقويان بذلك ، وقريب منه ما إذا روى مدلس بالعنعنة عن شيخ، وتابعه ضعيف عن الشيخ نفسه، فيحتمل أن المدلس أسقط هذا الضعيف، وأنه ما أخذه إلا منه، إلا أن يثبت أنه ليس له عن هذا الضعيف رواية أصلاً؛ فعند ذلك يتقويان، وانظر التفصيل في " إتحاف النبيل "(1).
فإن قيل : لايرتقي الحديث المدلَّس إلا بمتابعة ثقة؛ لقول الخطيب : " فإن وافقه ثقة على روايته ؛ وجب العمل به ، لأجل رواية الثقة له خاصة ، دون غيره " اهـ(2).
فالجواب : إذا كان الشافعي قوَّى المرسَل بمثله ، ومعلوم أن الإرسال أشد في الانقطاع من التدليس – في الجملة – لأن المدلَّس يكون سماعه في الأصل ثابتًا – في الغالب – فإذا تقوى المرسَل بمثله ؛ فمن باب أولى أن يتقوى المدلِّس بمثله ، مع مراعاة القيود السابقة ، والله أعلم .
?المسألة السابعة : هل التدليس جرح للراوي ؟
للعلماء في ذلك تفصيل : فمنهم من يقول: إذا روى عن ضعيف أو كذاب ، وقصد ترويج حديثه، وأسقط الشيخ من أجل ذلك ؛ فهذا يُطْعَن فيه .
وذلك: لأنه غاش للأمة ، ومُرَوِّج لما هو غريب عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله سلم - بين الناس ، موهمًا أن هذا الحديث من أحاديث الثقات .
__________
(1) 1 / 327 ) السؤال ( 175 ) .
(2) " الكفاية " ( ص 518 ) .(1/233)
والحقيقة: أن هذا من جهة النظر له وجه وجيه ، أما من حيث الواقع: فلا أعلم هناك رجلاً طُعن في عدالته، ورُدَّ حديثه – وإن كان ثقة - بسبب التدليس، اللهم إلا أن يكون مع التدليس شيء آخر، وأما من كان أكثر حديثه مدلَّسًا، وأُلُصقت به عهدة النكارة؛ فإنه يضعف لذلك أيضًا ،وقد جاء في " نقد بيان الوهم والإيهام "(1)للذهبي ، في حديث لبقية عن ابن جريج . . . " قال الدارقطني :" هذا باطل، لعل بقية دلَّسه عن واه " فقال ابن القطان :" فهذا مُفْسِدٌ لعدالة بقية" قال الذهبي متعقبًا ابن القطان" : قلت : هو مذهب ورأْيٌ له وللوليد بن مسلم ، وما رأيناك تغمز الوليد " !! اهـ .
وسبق اعتذار الذهبي عن بقية والوليد والكبار في التدليس، وذلك في مسألة حُكم من وقع في تدليس التسوية ، وعلى كل حال : فانظر " إتحاف النبيل " والله أعلم .
والمقصود : أن الأصل في التدليس: أنه جرح في الرواية لا في الديانة، كما سبق عن الصنعاني ـ رحمه الله ـ والله تعالى أعلم .
( فائدة ) : هل إذا قال إمام من الأئمة في راوٍ ما : فلان مدلس ، هل نقبل ذلك منه ، أم نتوقف فيه لاحتمال أنه أراد بذلك الإرسال ؟
والجواب : إذا لم يظهر دليل يدل على خلاف ما قال الإمام العدل في كلامه على الرواة ؛ فالأصل إعمال كلامه ، لا الوقف فيه ، لأن الأصل في كلام الأئمة التفريق بين الإرسال والتدليس ، وكونهم أطلقوا التدليس فيمن لم يسمع ، فلا يلزم من ذلك أن يكون الإرسال والتدليس مترادفين من جميع الوجوه ، لأن من قصد الإيهام ، وإن لم يسمع؛ فهو مدلس أيضًا، ولاشك أن التدليس نوع من الإرسال ، لكن ليس كل إرسال تدليسًا(2)والله أعلم .
الحديث الشاذ
قال الناظم – رحمه الله - :
__________
(1) ص 107 – 108 ) .
(2) انظر التفرقة بين الإرسال والتدليس في " الكفاية " ( ص 510 ) و " جامع التحصيل " ( ص 111 ) فقد قال العلائي : " فكل مدلَّس مرسَل ، ولاينعكس، إلا على القول الضعيف " اهـ .(1/234)
21 - وما يخالفْ ثقةٌ به الملا ... فالشاذ . . . . . . . .
تكلم الناظم في هذا البيت على الحديث الشاذ ، والمقصود بـ " الملا " الجماعة .
وفي هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الشاذ لغة واصطلاحًا :
أما في اللغة : فهو المنفرد عن الجمهور ، يقال: " شذ يشُِذُ شذوذًا" بضم الشين المعجمة وكسرها - : إذا انفرد عند الجمهور ، ونَدَر ، فهو شاذ " انظر " اللسان "(1).
وأما في الاصطلاح : فقد اختلف أهل العلم في تعريفه على عدة أقوال :
الأول : تعريف الخليلي، حيث قال في " الإرشاد "(2):" والذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد ، يشذ بذلك شيخ : ثقة كان أو غير ثقة ، فما كان من غير الثقة؛ فمتروك لايُقْبَل ، وما كان عن ثقة، يُتَوَقَّف فيه، ولايُحْتج به " اهـ .
وقد فهم بعض أهل العلم من هذا التعريف: كابن الصلاح، والنووي،والعراقي،وابن الملقن، والحافظ ابن حجر(3)، وغيرهم: أنه يريد أن كل فرد شاذ ، فإن كان تفردَ ثقة ؛ فهو في حَيِّز التوقف ، وإن كان تفردَ غير ثقة ؛ فمتروك لايُقْبل .
ثم اعترضوا عليه بغرائب "الصحيح" التي تفرد بها الثقات والأئمة الحفاظ ، فإنه يلزم على إطلاقه أن تكون شاذة يُتَوَقَّف فيها، كحديث: " الأعمال بالنيات " وغيره .
__________
(1) 3 / 494 ) .
(2) 1 / 401 ) .
(3) انظر كلام هؤلاء مفرقًا في " المقدمة " لابن الصلاح ( ص 102 – 103 ) مع " التقييد " و " الإرشاد " للنووي ( ص 214 – 217 ) و " التقييد والإيضاح " ( ص 101 ) و " المقنع " ( 1 / 165 – 168 ) و " النكت " ( 2 / 652 ) .(1/235)
إلا أن ابن رجب خفف من قوة الإيراد على الخليلي ، فقال في " شرح العلل " : " ولكن كلام الخليلي في تفرد الشيوخ ، والشيوخ في اصطلاح أهل العلم: عبارة عمن دون الأئمة الحفاظ ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره، فأما ما انفرد به الأئمة والحفاظ ؛ فقد سمّاه الخليلي فردًا ، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات ، أو أفراد إمام من الحفاظ الأئمة : صحيح ، متفق عليه "(1)
__________
(1) 1 / 461 ) قلت : كلام الخليلي موجود في " الإرشاد " ( 1 / 167 ) وقد مثَّل الخليلي بحديث المغفر ، وهو مما اعترضوا به عليه .
قلت : وعبارة الخليلي في تعريف الشاذ لاتسلم من إيراد ، لأنه جعل القسمة ثنائية: إما تفرد ثقة ، أو غير ثقة ، وهذا الإطلاق يشمل الحفاظ الثقات أيضًا ، وما اعتذر به ابن رجب من جهة عُرف الأئمة في إطلاق الشيوخ؛ ليس على إطلاقه ، فإنهم يطلقون " شيخ " – في الغالب – على من لايحتج به ، لامن هو ثقة ، ولم يبلغ درجة الأئمة الحفاظ ، ولعل الخليلي أراد بكلمة"شيخ" أي : رجل، أو راوٍ ، والله أعلم .
وفد قسَّم الخليلي الأفراد إلى تفرد الحافظ المشهور الثقة ، وتفرد الضعيف ، وتفرد من لم يُجرَّح ، ولم يذكر الثقة الذي لم يبلغ درجة الحفاظ المشاهير ، واحتج بتفرد الحفاظ المشاهير فقط ،فقد يقوى هذا ورود الإيراد عليه ،وأنه عنى بقوله : " ثقة كان" في التعريف السابق كل من يحتج به ، وإن كانوا من الحفاظ .
إلا أن أمثل ما يُجاب به عن الخليلي : أنه قسَّم الأفراد إلى ما سبق ذكره ، ثم ذكر تعريف الشاذ السابق ، فهذا التعريف يُستثنى منه تفرد الحفاظ الثقات لكلامه عنهم قبل ذلك في الأفراد ، فإذا حملنا كلامه بعضه على بعض ؛ فإنه يُفسِّر بعضه بعضا ، ويظهر لنا مذهب الخليلي، وأنه يتوقف في تفرد الثقة – الذي لم يبلغ درجة الحفاظ – ومادونه ، مالم يكن متروكًا غير ثقة ، أو وضاعًا ،فهو بين التوقف فيه ، أو رده ، وإن كان لايُسَلَّم له إطلاق التوقف في تفرد الثقة ، والله أعلم .(1/236)
اهـ .
القول الثاني : تعريف الحاكم : حيث قال في " معرفة علوم الحديث "(1): " فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات ، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة " اهـ .
وظاهره أن تفرد كل ثقة يكون شاذًّا ، وفيه ما فيه ، إلا أن للحاكم كلامًا آخر في "المعرفة" يدل على أن الشذوذ إنما يطلق على حديث الثقة الذي فيه علة لايُهْتَدَى إليها ، حيث ينقدح في نفس الناقد أن الحديث غلط، ولم يقف الناقد على جهة الوهم فيه ، كما أشار إلى ذلك ابن الصلاح وغيره ، فقد قال الحاكم : " هذا النوع: منه معرفة الشاذ من الروايات ، وهو غير المعلول، فإن المعلول ما يُوقَف على علته ، أنه دخل حديث في حديث ، أو وهم فيه راوٍ ، أو أرسله واحد ، ووصله واهم ، فأما الشاذ . . . "ثم ذكر التعريف السابق ، ثم ذكر مثال الشاذ، فذكر حديث معاذ في جمع التقديم ، ثم قال : هذا " حديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ، لانعرف له علة نعلِّله بها . . ." إلى أن قال :
"فلما لم نجد له العلتين – أي اللتين أشار إليهما قبل ذلك – خرج عن أن يكون معلولاً . . . " اهـ(2).
مجموع كلام الحاكم لايخرج عن الشاذ لكن ليس جامعًا ، والله أعلم .
( فائدة ) : جاء ما يدل على أن الحاكم قد يطلق الشذوذ على تفرد الثقة، ولا يقصد به الرد لحديثه ، وذلك ما جاء في كتابه " المدخل إلى الإكليل "(3)حيث قَسَّم الصحيح إلى عشرة أقسام : خمسة متفق عليها ، وخمسة مختلف فيها ، وجعل القسم الخامس من المتفق عليها : الأحاديث الأفراد الغرائب ، التي يرويها الثقات العدول ، تفرد بها ثقة من الثقات . الخ .
__________
(1) ص 119 ) .
(2) ص 119 – 120 ) ، وبهذا يظهر أن للشاذ عند الحاكم صورتين : إحداهما : تفرد الثقة ، والثانية : الحديث الذي فيه علة لايُهتدى إليها .
(3) 2 / 91 ) ضمن " مجموع الرسائل الكمالية " .(1/237)
ورمز لها في آخر الكتاب في قسم الرُّموز بـ ( ص ش ) - يعني – صحيح شاذ ، فهذا يدل على أنه قد يطلق الشذوذ على غرائب الصحيح ، ويريد مجرد التسمية فقط، ولا مشاحة في التسمية ، وإلى ذلك أشار الحافظ في " النكت "(1).
القول الثالث : تعريف الشافعي – رحمه الله – فقد قال : " ليس الشاذ من الحديث: أن يروي الثقة مالايرويه غيره، هذا ليس بشاذ ، إنما الشاذ: أن يروي الثقة حديثًا يخالف فيه الناس "(2)اهـ .
وقد وقفتُ على كلام الشافعي في " آداب الشافعي ومناقبه " لابن أبي حاتم(3)فقد قال : " ليس الشاذ من الحديث : أن يروي الثقة حديثًا لم يروه غيره ، إنما الشاذ من الحديث : أن يروي الثقات حديثًا ، فيشذ عنهم واحد ، فيخالفهم " .
قال أبوحاتم : حدثنا أبي ثنا يونس بهذا عن الشافعي ، وزاد فيه : " إنما الشاذ : أن يروي الثقات حديثًا على نصٍّ ، ثم يرويه ثقة خلافًا لروايتهم ، فهذا الذي يقال : شذَّ عنهم " اهـ .
وفي هذا التعريف زيادة على ما سبق من تعاريف: حيث قَيَّدَ الشافعي الشذوذ بالمخالفة،ومراعاة المخالفة في الشذوذ أشهر من مجرد التفرد ، إلا أنه مع ذلك يرد عليه إيراد يسير: وهو تقييده المخالف بالثقة ، وظاهره أن من دون الثقة - كالصدوق - ونحوه لاتسمى مخالفته شذوذًا .
ولعله يريد كل من يُوثَق به، سواءً كان في مرتبة الصحيح أو الحسن، ولأجل هذا عَبَّر الحافظ ابن حجر في تعريفه للشاذ بما يحثرز من هذا الإيراد – كما سيأتي - .
القول الرابع:تعريف الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " مخالفة المقبول لمن هو أولى منه "(4)فذَكَر: "المقبول" ليشمل كل من يُقْبَل بذاته ، سواء كان من مرتبة الصحيح أو الحسن.
__________
(1) 2 / 670 – 671 ) .
(2) انظر " معرفة علوم الحديث" للحاكم ( ص 119 ) .
(3) ص 233 ، 234 ) .
(4) " النزهة " ( ص 98 ) .(1/238)
وقوله : " لمن هو أولى منه " أدق من قول الشافعي" للثقات " أو " للناس " ليدخل في ذلك الواحد إذا كان أولى من مخالفه، لأنه لايلزم في الشذوذ مخالفة العدد، ولهذا كان تعريف الحافظ أدق التعاريف، وإن كان من راعى في التعريف مجرد التفرد قد سُبق إلى استعمال الشذوذ في التفرد من بعض أهل العلم، والله أعلم .
والمقصود بالمخالفة – هنا – : أيُّ زيادة في الألفاظ تحمل زيادة في المعنى؛ فهي زيادة شاذة، سواء أمكن الجمع بينها وبين الأصل أم لا ، هذا الذي عليه المحققون من أهل العلم ، أما من اشترط في الحكم عليها بالشذوذ: أن تكون منافية للأصل ،منافاة تامة، بحيث لايمكن الجمع بينهما ؛ فهذا غير صحيح، بل لاأعرف زيادة شاذة لايمكن الجمع بينها وبين الأصل على طريقة الفقهاء والأصوليين، وكتب العلل مليئة بأحكام الأئمة بالشذوذ على زيادات لاتتنافى مع أصل الحديث ، بل بعضها من لوازم العمل بالأصل ، كزيادة: " فَلْيُرِقْهُ " في حديث التطهير من ولوغ الكلب، فإنَّ غَسْلَ الإناء لايكون إلا بعد إراقة ما فيه ، ومع ذلك فقد حكم بعض العلماء بشذوذ هذه الزيادة ، والله أعلم .
القول الخامس : تعريف ابن الصلاح والنووي وغيرهما : وخلاصته أنهم قسموا الشاذ إلى قسمين :
1- مخالفة الراوي لمن هو أولى منه ، أو أحفظ وأضبط .
2- تفرد الضعيف(1).
فقولهم في القسم الأول : " مخالفة الراوي " يشمل عندهم مخالفة الثقة والضعيف ، لأن الشاذ والمنكر عندهم سيان .
وقولهم في القسم الثاني : " تفرد الضعيف " قد يُشْكل عليه: أن الشاذ ضَعْفُه شديد، لا يصلح في الشواهد والمتابعات ، فكيف يسمى شاذًّا ،والضعيف يستشهد به ؟
__________
(1) انظر كلام ابن الصلاح في "المقدمة" ( ص 104 ) مع " التقييد " وانظر كلام النووي في " الإرشاد " ( 1 / 217 – 218 ) وبنحوه كلام ابن كثير ، والعراقي ، وابن الملقن .(1/239)
ويجاب عن هذا الإشكال بأن المراد بالشاذ الذي لايستشهد به : الشاذ الذي هو فرْعٌ عن مخالفة الأولى ، فهذا خطأ مردود ، لايستشهد به، أما إذا كان عن كان تفرد ضعيف ؛ فإن ضعفه خفيف ، وإن سُمِّي شاذًّا على هذا المذهب ، فإن وجدنا شاهدًا له ؛ زال عنه الشذوذ والنكارة ، والله أعلم .
?المسألة الثانية : ما هو عكس الحديث الشاذ ؟
ذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – أن عكس الحديث الشاذ، يقال له : " المحفوظ " كما يقال لعكس " المنكر" :" المعروف "(1)اهـ . وليس هذا مطردًا، فقد يطلقون المحفوظ مقابل المنكر، والمعروف المعروف المحفوظ ،والله أعلم. اهـ .
?المسألة الثالثة : هناك حالات يقبل فيها العلماء رواية الثقة؛ وإن خالف من هو أوثق منه، منها:
الأولى : أن يكون الراوي من أثبت الناس في الشيخ المختلَف عليه ، فتُقبل روايته – في الجملة = وإن خالف أكثر منه عددًا أو وصْفًا .
الثانية : أن يكون المخالِف من الأئمة المشاهير، انظر " شرح العلل " لابن رجب(2).
الثالثة : أن يأتي راوٍ آخر - غيرُ الثقة المخالف، وغير الجماعة الذين خالفوه - فيروي الحديث على الوجهين ، كما لو روى جماعة حديثا عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، وخالفهم ثقة فرواه عن مالك عن سالم عن ابن عمر ، فجاء من طريق ثالثة عن مالك عن سالم ونافع عن ابن عمر ، دل هذا على هذا أن رواية المخالف الذي سَمَّى سالمًا محفوظة ، والله أعلم .
الرابعة : أن يكون الشيخ المختلف عليه مكثرًا واسع الرواية ، فيمكن أن يُحمل الحديث على ما رواه الفرد والجماعة ، وانظر " شرح علل الترمذي "(3).
الخامسة : أن يكون لهذا المخالف رواية أخرى يوافق فيها رواية الجماعة الذين خالفهم ، فهذا يدل على أن عنده زيادة على ما عندهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .
__________
(1) " النزهة " ( ص 97 ) .
(2) 1 / 719 ) .
(3) 1 / 917 ) و " النكت" ( 2 / 785 ) .(1/240)
السادسة : أن يكون المخالف من الصحابة، فإن زيادة الصحابي على غيره من الصحابة مقبولة باتفاق المحدثين، كما نقل ذلك العلائي في "نظم الفرائد" وابن حجر في "النكت"(1)والسخاوي في " فتح المغيث "(2).
السابعة : أن يكون المخالف صاحب كتاب ، وحدث من كتابه ،ومن خالفه ليس كذلك .
الثامنة : إذا احتف حديث المخالف بقرائن خارجية، تدل على أن محفوظ ، كأن يروي قصة، وقد ذكرت غالب هذه الحالات مع الأمثلة في " الإتحاف "(3).
التاسعة :إذا روى الجماعة عن مدلس بالعنعنة ، ورواه عنه واحد ،فصرَّح في رواية المدلس بالسماع من واسطة عن شيخه في رواية الجماعة أو الأوثق ، قُبلت رواية الواحد كما في رواية جماعة عن هشيم عن إسماعيل ابن أبي خالد ، ورواه خالد بن القاسم المدائني عن هشيم عن شريك عن إسماعيل ، ورجح بعض العلماء رواية خالد ، انظر " علل الدارقطني "(4).
العاشرة : إذا كان الإسناد يدور على راوٍ،وقد عُرف بأن هذا الراوي إذا شك في الحديث ؛ نقص منه ، وروى عنه جماعة أو الأحفظ الحديث ناقصًا ، ورواه واحد عنه تامًّا ، فقد يُحمل الحديث على الوجهين ،ويقال : هذا من تصرف الشيخ الذي يدور عليه السند ، كما عُرف من شأن مالك وغيره ، انظر ما يشير إلى هذا في " شرح السنة " للبغوي(5).
( تنبيه ) : هل الحالات العشر السابقة مطردة : فحيثما وقفنا على ذلك ؛ قَبلْنا رواية الواحد ؟
__________
(1) 2 / 691 – 692 ) .
(2) 1 / 253 ) .
(3) 2 / 74 – 80) السؤال ( 26 ) .
(4) 4 / 8905 / أ ) اهـ نقلاً من حاشية " مسائل أبي داود لأحمد " ( ص 388 ) .
(5) 1 / 255 – 256 ) .(1/241)
الجواب : معظم هذه الحالات غير مطردة ، فقد وقفت على بعض هذه الحالات في كتب العلل ، ولم يراع الدارقطني وغيره هذه الحالات في بعض المواضع، وإن عملوا بها في مواضع أخرى ، فلعلهم يراعون قرائن أخرى في كل حديث حديث ، وأما زيادة الصحابي عن غيره من الصحابة ؛ فقد سبق اتفاق المحدثين على قبولها .
والخلاصة : أننا إذا وقفنا على إعمال إمام لشئ من هذه الحالات ؛ قبلنا ذلك ، أو كان نهناك من العلماء النقاد من صَحَّح الحديث بالوجهين، ولم يذكر دليله على ذلك ، ثم وقفنا على شئ من هذه لهذا ، الحالات ؛فيقال : لعل الإمام صحح هذا ، وكذا إذا كانت هناك قرائن تدل على صحة إعمال هذه الحالات – مالم يعارض كلام الأئمة المتأهلين في هذا الفن – وإلا ففي النفس شئ من طرد جُلِّ هذه الحالات ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : هل يصلح الشاذ في الشواهد والمتابعات ؟
الجواب : لايصلح الشاذ في الشواهد والمتابعات ، إذا كان الشذوذ فرعًا عن المخالفة ، بخلاف مطلق تفرد الضعيف ، كما سبق ، وانظر التفصيل في " إتحاف النبيل "(1).
الحديث المقلوب
. . . . . . . . . . . . . ... . . . والمقلوبُ قِسْمانِ تَلاَ
22- إبدالُ راوٍ ما براوٍ قِسْمُ ... وقَلْبُ إسنادٍ لمتنٍ قِسْمُ
بعد الانتهاء من الكلام على الشذوذ ، شرع الناظم في الكلام على الحديث المقلوب مُبَيِّنًا أنه ينقسم إلى قسمين :
وقوله: " تلا " بمعنى " تبع "وهو تتميم للبيت .
قوله :" ما براوٍ ..." يجوز أن تكون "ما "زائدة، ويجوز أن تكون في موضع جرٍّ نعت " راوٍ" وقد قال الشيخ بن عثيمين – رحمه الله – "ما" هنا نكرة واصفة ، ومعنى نكرة واصفة: أي أنك تقدر "ما"بـ " أي "والتقدير إبدال راوٍ براوٍ " ا.هـ شرح البيقونية(2).
وسيكون الكلام على هذا النوع - بإذن الله - فى عدة مسائل ، منها :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث المقلوب :
__________
(1) 1 / 144 ) ضمن السؤال( 18 ) .
(2) ص 71 ) .(1/242)
القلب لغة: صرف الشئ عن وجهه.
واصطلاحًا: ينقسم المقلوب إلى قسمين :
(1) مقلوب السند .
(2) مقلوب المتن.
أما مقلوب السند: فتعريفه كما قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله – : " وحقيقته إبدال مَنْ يُعْرَف بروايةٍ بغيره " اهـ من " النكت "(1).
وقال السخاوي – رحمه الله - : " وحقيقة القلب: تغيير مَنْ يُعْرَف برواية ما بغيره عمدًا ، أو سهوًا " اهـ " فتح المغيث "(2).
وهو على ضربين :
أ – جزئي : وهو إبدال راوٍ براوٍ .
ب- كلي : وهو أن يُؤْخَذ إسناد متن؛ فَيُجْعَل على متن آخر ، وبالعكس ،والأول: وهو مقلوب الإسناد الجزئي : ينقسم إلى أقسام :
1- أن يكون الحديث مشهورًا براوٍ، فَيُجْعَل مكانه آخر في طبقته، كأن يكون الحديث معروفًا برواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – فيجعل من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة .
2- أن يُقَدِّم ويُؤَخِّر في اسم أحد الرواة، واسم أبيه، مع كونهما من طبقة واحدة، ككعب بن مُرَّة ، فيجعله الراوي مُرّة بن كعب(3).
3- أن يقدم ويؤخر راويًا عن طبقته في السند، ومثاله: ما رواه ابن أبي حاتم في " العلل "(4)من حديث سفيان عن حكيم بن سعد عن عمران بن ظبيان عن سلمان ، فقال أبوحاتم : هذا الإسناد مقلوب، إنما هو سفيان عن عمران بن ظبيان عن حكيم بن سعد عن سلمان " اهـ .
أما الثاني : وهو مقلوب الإسناد الكلي : وهو أن يُؤْخَذَ إسناد متن فيُجْعَل على متن آخر ، وبالعكس .
__________
(1) 2 / 864 ) .
(2) 1 / 318 ) .
(3) انظر " شرح النزهة " للقاري ( ص 476 ) .
(4) برقم ( 185 ) .(1/243)
ومثاله : ما رواه ابن عدي(1)قال سمعت عدة مشائخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا ، وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها ، وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر ، وإسناد هذا المتن لمتن آخر ، ودفعوه إلى عشرة أنفس ، إلى كل رجل عشرة ، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري ، وأخذوا الوعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء ، ومن أهل خراسان وغيرها من البغداديين ، فلما اطمأن المجلس بأهله ، انْتُدِب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه ، فسأله آخر ، فقال: لا أعرفه ، فما زال يُلْقِي عليه واحدًا بعد واحد، حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممن حضر يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون الرجل فَهِمَ ، ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز، والتقصير، وقلة الفهم - وفي " النكت "(2)"وقلة الحفظ " ثم انْتُدِب إليه رجل آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري : لا أعرفه فلم يَزَلْ يُلْقي إليه واحدًا بعد واحد، حتى فرغ من عشرته ، والبخاري يقول : لا أعرفه ، ثم انْتُدِبَ إليه الثالث، والرابع، إلى تمام العشرة، حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لايزيدهم على: " لا أعرفه " فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا؛ التفت إلى الأول منهم، فقال : أما حديثك الأول فهو كذا ، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث، والرابع، على الولاء، حتى أتى على تمام العشرة ، فَرَدَّ كل متنٍ إلى إسناده ، وكل إسنادٍ إلى متنه ، وفعل بالآخرين مثل ذلك ، ورد متونَ الأحاديث كلَّها إلى أسانيدِها، وأسانيدَها إلى متونها، فأَقَرَّ له الناس بالحفظ ، وأذعنوا له بالفضل " اهـ .
__________
(1) في " أسامي " من روى عنهم البخاري " ( ص 62 ) .
(2) 2 / 869 ) .(1/244)
قال الحافظ ابن حجر : " سمعت شيخنا – يعني العراقي – غير مرة يقول :
"ما العجب من معرفة البخاري للخطأ من الصواب في الأحاديث لاتساع معرفته ؛ وإنما يُتَعجَّبُ منه في هذا لكونه حَفِظَ موالاة الأحاديث على الخطأ عن مرة واحدة " اهـ . " النكت "(1).
( فائدة ): هذه القصة فيها جماعة مُبْهَمُون من شيوخ ابن عدي، وقد قررتُ في "إتحاف النبيل":(2)أن الجمع يجبر الجهالة في طبقتي التابعين وأتباعهم، وهذا في الحديث النبوي، وآثار الصحابة ـ رضي الله عنهم – وأتباعهم، أما هذه القصة فلا أرى الإبهام مانعًا من قبولها؛ لاشتهارها بين المصنفين في هذا الباب دون نكير، ولأنها موافقة لما هو مشهور من سعة اطلاع الإمام البخاري وحِفْظِه، فهذه القرائن تقوي رواية الجمع المبهم أيضًا، وقد أطلق السخاوي تصحيح القصة لانجبار الجهالة بالجمع حيث قال: " ولا يضر جهالة شيوخ ابن عدي فيها؛ فإنهم عدد ينجبر به جهالتهم" اهـ من " فتح المغيث "(3).
( تنبيه ) : وقوعُ القلْب في السند أكثر من وقوعه في المتن .
ثانيًا: مقلوب المتن: قال السخاوي:" فحقيقته: أن يُعْطَى أحدُ الشيئين ما اشْتُهِر للآخر"، ونحوه قول ابن الجزري:" هو الذي يكون على وَجْهٍ، فينقلب بعضُ لفظه على الراوي، فيتغير معناه، وربما العكس اهـ(4).
__________
(1) 2 /869 – 870 ) وانظر " هَدْي الساري " ( ص 486 ) .
وقد أخرج هذه القصة من طريق ابن عدي غير واحد ، منهم الخطيب في " تاريخ بغداد" ( 2 / 20 – 21 ) .
(2) 2 / 240 – 246 ) السؤال ( 227) .
(3) 1 / 338 ) .
(4) انظر ( فتح المغيث " ( 1 / 328 ) .(1/245)
مثاله: ما رواه مسلم في السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظِلِّه، ومنهم " رجل تَصَدَّق بصدقة، فأخفاها؛ حتى لا تَعْلَم يمينُهُ ما تنفق شمالُهُ " قال الحافظ:" فهذا مما انقلب على أحد الرواة، وإنما هو:" حتى لا تَعْلَم شمالُه ما تنفق يمينُهُ، كما في "الصحيحين"(1).
وهذا من إبدال الكلمة بأخرى، ومنه إبدال جملة بأخرى ، مثاله : "كان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقْضِي حاجته مستقبل القبلة، مُسْتَدْبِرَ الشام ".
وكذا يدخل فيه - قياسًا على مقلوب الإسناد الكلي - : جَعْلُ متن كاملٍ على إسناد آخر، انظر مثاله في " النكت "(2)، والله اعلم .
( تنبيهات ) :
( التنبيه الأول ) : لم يتعرض الناظم للكلام على مقلوب المتن، وإنما تكلم على القلب في الإسناد، ولعل ذلك لاختصاره في الكلام على علوم الحديث في منظومته ، أولقلة وقوع القلب في المتن ، والله أعلم .
( التنبيه الثاني ) : مقلوب المتن سماه بعضهم بـ " المنقلب "،كابن الجزري(3)،وسماه البلقيني بـ " المعكوس "(4)، وسمى الحافظ المقلوب في الرواة بـ " المُبْدَل "(5).
( التنبيه الثالث ) : هذا شكل يلخص ما سبق من أقسام المقلوب :
المقلوب
?المسألة الثانية: الأسباب الحاملة على القلْب ، قسمان :
1- منها ما يقع عمدًا .
2- ومنها ما يقع وهمًا .
فالتي على سبيل التعمد هي :
1- بقصد الإغراب ؛ وذلك ليرغب الناس في روايته ، والأخذ عنه .
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 126 ) .
(2) 2 / 877 ) .
(3) كما في منظومته ، انظر " الغاية " ( 1 / 343 ) .
(4) انظر " النكت " ( 2 / 878 ) ويُنظر أين هو في " محاسن الاصطلاح " .
(5) قاله السخاوي في " الغاية " (1 / 346 ) .(1/246)
وذكر الحافظ أن ممن كان يفعل المقلوب بهذا القصد - على سبيل الكذب - :حماد بن عمرو النصيبي ، أحد المذكورين بالوضع، كما وقع له في الحديث المعروف برواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: " إذا لقيتم المشركين في طريق؛ فلا تبدؤوهم بالسلام" فجعله عن الأعمش عن أبي صالح؛ ليُغَرِب به ، وهو لا يُعرف إلا عن الأعمش اهـ ملخصًا من " النكت "(1).
وقال السخاوي:" وقد قيل في فاعل هذا:" يسرق الحديث" وربما قيل في الحديث نفسه" مسروق" وفي إطلاقه السرقة على ذلك نظر، إلا أن يكون الراوي المُبْدَل به عند بعض المحدثين منفردًا به، فيسرقه الفاعل منه، وللخوف من هذه الآفة كره أهل الحديث تتبع الغرائب " اهـ " فتح المغيث "(2).
2- يقصد الامتحان أو الاختبار لحفظ الطالب أو الشيخ، واختباره هل اختلط أم لا ؟ وهل يقبل التلقين أم لا ؟ كما وقع من ابن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين، وقد قال الحافظ في هذا النوع من القلب:" وشرطه ألا يستمر عليه، بل ينتهي بانتهاء الحاجة" اهـ من " نزهة النظر"(3).
وهذا الشرط للسلامة من ظن أن الحديث على الوجه المقلوب، وهو ليس كذلك، والله أعلم .
وأما القلب الذي وقع عن وهم: وقد يقع من الثقة لسهوه،فمثاله: ما حصل مع جرير ، فقد روى عن ثابت عن أنس مرفوعًا :" إذا أقيمت الصلاة؛ فلا تقوموا حتى تروني " فقد انقلب الإسناد على جرير، وهو مشهور ليحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
وقد يقع من الضعيف: وذلك لسوء حفظه، وبين هذا وما قبله فرق يسير، فإن الثقات منزَّهون عن سوء الحفظ من الناحية الاصطلاحية، وإلا فمن سها في موضع؛ فقد ساء حفظه فيه على وجه الخصوص، وإن لم يُطْلَق فيه القول بأنه سيء الحفظ، والله أعلم .
__________
(1) 2 / 864 – 865 ) .
(2) 1/ 230 ) وانظر شيئًا من ذلك في" الموقظة " ( ص 60 ) .
(3) ص 127 ) .(1/247)
?المسألة الثالثة : حكم حالات القلب :
يختلف حكم القلب باختلاف قصد القالب، فإن كان قصده الإغراب حتى يرغب الناس في الرواية عنه، ويرحلوا إليه؛ فلا شك في حرمة ذلك، وهذا من عمل أهل الوضع والسرقة .
أما إن كان المقصود منه الامتحان والاختبار؛ فقد اختلف أهل العلم في حكمه ما بين مجيز له ومانع منه .
فقد استعمله بعض العلماء كحماد بن سلمة، وشعبة بن الحجاج ، ويحيى بن معين ، وغيرهم .
وهناك من منعه كابن القطان ـ حيث قال: لا أستحله، وذلك لما يترتب عليه من تغليط من يمتحنه ، واستمراره على رواية الخطأ؛ لظنه أنه صواب، وقد يسمعه من لا خبرة له؛ فيرويه ظنًّا منه أنه صواب " فتح المغيث "(1).
قال العراقي - رحمه الله - : " وفي جوازه نظر، إلا أنه إذا فعله أهل الحديث لا يستقر حديثًا .
أي عليه أن يبين أنه قد قلبه للامتحان ، لا أن الحديث على هذا الوجه ، والله أعلم .
قال السخاوي :"وبالجملة فقد قال شيخنا - يعني الحافظ - إن مصلحته أي التي منها معرفة رتبته في الضبط في أسرع وقت ـ أكثر من مفسدته " قال : وشرطه - أي الجواز - : أن لا يستمر عليه ، بل ينتهي بانتهاء الحاجة اهـ " فتح المغيث " (1) .
أما إن كان القلب من باب السهو والغلط؛ ففاعله معذور غير موزور، لكن إذا أكثر منه؛ فإنه يُخِلُّ بضبطه ، وذلك على مراتب متفاوتة ، والله أعلم .
وقد لخص الحافظ - رحمه الله - أحكام المقلوب بقوله:" فلو وقع الإبدال عمدًا - لا لمصلحة - بل للإغراب - مثلاً - فهو من أقسام الموضوع، ولو وقع غلطًا؛ فهو من المقلوب، أو المعلَّل اهـ " النزهة "(2).
قال السخاوي : " بل هو كالموضوع "(3)اهـ .
__________
(1) 1 / 322 ) .
(2) ص 127 ) .
(3) انظر " شرح النزهة" للقاري ( ص 488 ) .(1/248)
وكأن السخاوي نظر إلى أن الوضْع يُطْلَق على الاختلاق والافتعال للشيء دون وجودٍ سابق له أصلاً ، وهذا بخلاف المقلوب، ويقوي كلام الحافظ: أن الحديث المقلوب بصورته المجموعة لا يَسْلَم من اختلاق وافتعال على غير مثال سابق ،وإذا وقع ذلك عمدًا؛ ففيه معنى الوضع، ومع هذا فعبارة السخاوي أدق ، والله أعلم .
وذكر ابن دقيق العيد في بعض صور القلب أنه قد يطلق على راويه: أنه يسرق الحديث اهـ من " الاقتراح "(1).
وبنحوه قال الذهبي فيمن ركَّب متنًا على سند ليس له متعمدًا،قال :" فهو الذي يُقَال في حقه: فلان يسرق الحديث " اهـ " الموقظة "(2).
وتَعَقَّب ذلك السخاوي، فقال:" وفي إطلاق السرقة على ذلك نظر؛ إلا أن يكون الراوي المبْدَل به عند بعض المحدثين منفردًا به، فيسرقه الفاعل منه " اهـ " فتح المغيث "(3).
?المسألة الرابعة : حكم الحديث المقلوب :
الحديث المقلوب من قسم الحديث الضعيف، ولا يصلح في الشواهد والمتابعات، وقد ذكر السيوطي مرتبة المدرج ثم المقلوب ، ويليه المضطرب ، ونسب هذا الترتيب للحافظ ، ولعله أخذه من صنيعه في " النخبة " .
قال السيوطي : وقال الخطابي " شرها ـ أي الأقسام ـ الموضوع ، ثم المقلوب ".
أما الزركشي فقد جعل بعد الموضوع: المدرج،ثم المقلوب،واستحسنه السيوطي.انظر "التدريب"(4).
قلت: هذه الأحكام معتبرة في الجملة،وليست مطردة، وإلا فقد تكون بعض صور المقلوب أحسن حالاً من بعض صور المضطرب، بل بعض صور المقلوب قد لا تؤثر في الحديث أصلاً .
كإبدال صحابي بآخر ، أو ثقة بثقة والله أعلم .
?المسألة الخامسة : كيف يُعْرَف القلب في الروايات ؟
الجواب : يُعْرَف ذلك بأمور :
1- نص إمام من الأئمة .
2- بجمع طرق الحديث .
__________
(1) ص 230 ) .
(2) ص 60 ) .
(3) 1 / 320 ) .
(4) 1 / 295 ) .(1/249)
3- النظر في أصل الشيخ ، فيجد الواقف عليه أن الشيخ قد انتقل بصره من حديث إلى حديث ، فأخذ سند هذا الحديث ؛ وجعله على متن ذاك الحديث ، وهذا أمر ليس متيسرًا للباحثين في الأزمنة المتأخرة .
4- أن يكون خلاف المشهور عند المحدثين ، والله تعالى أعلم .
الحديث الفرد
قال الناظم – رحمه الله - :
23والفَرْدُ ما قَيَّدْتَه بثقةٍ ... أو جَمْعٍ أو قَصْرٍ على روايةٍ
تكلم الناظم في هذا البيت على نوع من أنواع التفرد ، وهو التفرد النسبي ، وقسمه إلى ثلاثة أقسام :
1- المقيَّد بالثقة ، أي لم يروه ثقةٌ إلا فلان .
2- المقيَّد بأهل بلد ، وإليه أشار بقوله " أو جمعٍ " واستحسن الزرقاني – في "شرحه للمنظومة"(1)أن لو عبر المؤلف بقوله " أو مَصْرٍ" بدل قوله " أو جمع " .
3- المقيَّد بقصره على راوٍ مخصوص ، أي لم يروه عن فلان إلا فلان ، أويقال : " القصر على الرواية: بمعنى القصر على معناها ، والأول أولى ، والفرق بينه وبين القسم الأول: أن الأول مقصور على رواية الثقة ، بخلاف هذا فإنه عام .
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث الفرد :
الفرد لغة : الوتر .
واصطلاحًا : هو الحديث الذي يُرْوَى من جهة واحدة، سواء من طريق واحد ، أو من عدة طرق ، لكنها جهة واحدة .
?المسألة الثانية : أقسام الفرد :
قسم العلماء الفرد إلى قسمين :
1- فرد مطلق .
2- فرد نسبي .
والفرد المطلق : هو الذي ينفرد به راوٍ واحد في أصل السند أي: في الموضع الذي يدور الإسناد عليه ، ولو تعددت الطرق إلى هذا المنفرد . انظر النزهة(2).
__________
(1) ص 79 ) .
(2) ص 78) .(1/250)
وقد مر بنا في الكلام على الحديث الغريب ، وأن الغرابة إذا كانت في أصل السند : أي من الجهة التي فيها الصحابي ؛ فهو الذي يقال له : الفرد المطلق ، وذلك برواية تابعي عن صحابي أو أكثر ، المهم أن يكون التابعي واحدًا ، وكذا إذا استمرالتفرد من التابعي فمن دونه ؛ فمطلق أيضًا ، لكن إذا تعدد التابعي ؛ فهو نسبي – وإن انفرد بذلك عن التابعيِّيْن فأكثر راوٍ واحد -(1)والله أعلم .
أما الفرد النسبي : وهو الذي يقع فيه التفرد في أثناء السند : فهو الذي تكلم عليه الناظم – رحمه الله – في هذا البيت ، وسُمِّي نسبيًّا لإضافته إلى جهة شخص ، أو صفة ،أو بلد خاصة .
والفرد المطلق ينقسم إلى قسمين :
1- تفرد شخصٍ من الرواة بالحديث .
2- تفرد أهل بلد بالحديث دون غيرهم ، كأن يتفرد بحديث ما أهل المدينة – مثلاً – ولايشاركهم غيرهم في هذه الرواية . انظر كلام الحافظ في النكت "(2).
?المسألة الثالثة : أقسام الفرد النسبي :
للفرد النسبي ثلاثة أقسام ، ذكرها الناظم وغيره ، وهي :
الأول : المقيد بالثقة ، أي بانفراد الثقة بروايته من جملة الثقات، كقولهم " لم يروه ثقة إلا فلان " أي أنه قد رواه هناك آخرون، إلا أنهم ليسوا بثقات ، فالحديث ليس فردًا في الجملة؛ إلا إذا نظرنا إلى روايته من طريق الثقات، فلم يروه أحد منهم غير فلان ، وإليه أشار الناظم بقوله " والفرد ما قيدته بثقةٍ " .
الثاني : المقيد بأهل بلد مخصوص، كقولهم : تفرد به فلان عن أهل مكة – مثلاً – وهذا الراوي ليس بمكي ، وقد يكون الحديث مرويًّا من غير طريق أهل مكة ، وإليه أشار الناظم بقوله " أو جَمْع ٍ " أي مَصْرٍ .
الثالث : المقيد بقصره على راوٍ مخصوص .
وإليه أشار الناظم بقوله: " أو قَصْر على رواية " أي تَفَرُّد الراوي بالحديث عن راوٍ،بحيث لايرويه عنه غيره ، وإن كان مرويًّا من وجوه أخرى عن غيره .
(
__________
(1) انظر نحو ذلك في " النزهة " ( ص 78 ) .
(2) 2 / 703 ) .(1/251)
فائدة ): قسَّم الحافظ المطلق إلى قسمين ، وبالنظر فيهما حصل تداخل بين بعض صوره ، وبين بعض صور النسبي .
ونقل المناوي عن بعضهم أنه لافرق بين النسبي والمطلق في أقسام النسبي، كما في " اليواقيت والدرر"(1)وصرح السخاوي بأن بعض أنواع النسبي تشترك في بعض أنواع المطلق، كما في " فتح المغيث "(2).
وذكر بعضهم أن بعض الروايات تكون مطلقة من جهة ، ونسبية من جهة ،مع أنها رواية واحدة ،وحصل اضطراب في التمثيل ببعض الأحاديث على بعض صور المطلق أو النسبي ، وكل هذا يدل على أن الفائدة المرجوَّة من وراء التوسع في هذا المبحث من الجهة العملية قليلة ، والله أعلم .
ولم يتيسر لي البحث العلمي الدقيق في ذلك للترجيح بين المختلفين من أهل العلم فيما سبق، وقد ذكرت كثيرًا مما ذكره أهل العلم في هذا النوع دون مزيد تنقيح أو تحقيق ، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : ما الفرق بين الشاذ والفرد ؟
قد يطلق بعضهم الشاذ على مجرد التفرد – كما تقدم - لكن الأشهر أن بينهما فروقًا ، وهي :
1- أن الفرد مجرد تفرد ليس عن مخالفة ، بخلاف الشاذ .
2- أن في الفرد الصحيح والحسن والضعيف ، بخلاف الشاذ ، فكله من قسم الضعيف ، إلا على مذهب من يطلق الصحة على الشاذ أيضًا .
3- أن من الفرد ما هو خفيف يصلح في الشواهد، بخلاف الشاذ الذي هو فرع عن المخالفة ؛ فلايصلح في الشواهد .
?المسألة الخامسة : حكم الحديث الفرد :
حكمه : يُنْظَر في السند، ويُحْكَم عليه بما يستحق، فإن من الأفراد ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو دون ذلك .
__________
(1) 1/ 322 )
(2) 1 / 271 ) .(1/252)
?المسألة السادسة : إذا وقف الباحث على قول إمام من الأئمة:" تفرد به فلان عن فلان " ثم وجد له راويًا آخر غير فلان هذا، فلا يتعجل في التعقب على الإمام الذي ادعى التفرد؛ لاحتمال أن الإمام أراد تفردًا نسبيًّا ، أو قصد صفة خاصة في دعواه التفرد ، كأن يكون قصد التفرد بهذا السياق لابأصل الحديث ،أو نحو ذلك(1).
( فائدة ) : قول إمام من الأئمة في كتب العلل ، أو في الحكم على حديث بعينه ، أو رواية راوٍ : " فلان لايُتابع عليه " أو " لايُتابع على قوله " ليس معناه مجرد التفرد الذي يُبْحَث له عن متابع ، إنما الإمام منهم يُطلق هذا ، ويريد أن هذا الراوي خالف غيره في هذا السياق ، أو بهذه الزيادة - سندًا أو متنًا – أو أنه تفرَّد بهذا، وهو ليس أهْلاً لأن يُقبل تفرده في هذا الموضع ، وإن كان ثقة في الجملة ، لأن الثقة قد يأتي بما لا يُرتضى منه ، سواء على وجه المخالفة أو التفرد .
ولذا فليس من الدقة الردُّ على من أطلق من أهل العلم هذه العبارة بحجة أن المتفرد بذلك ثقة ، أو أن الثقة ليس من شرط قبول روايته أن يُتابع على روايته ، أو أن الثقة حجة بمفرده ، كما فعل الحافظ المزي في رده على البخاري ، كما في ترجمة أسماء بن الحكم الفزاري ، وكذا سلك هذا المسلك في بعض المواضع ابن القطان ، والذهبي ، أن هذه العبارة يُراد بها الإعلال الخاص لرواية ما ، فلا يُقابَلُ هذا الإعلال بالتوثيق العام ، ولابن رجب الحنبلي – رحمه الله – كلام في " شرح علل الترمذي "(2)يُشير إلى هذا ، والله تعالى أعلم .
__________
(1) " انظر" الاقتراح " ( ص 299 ) و " النكت " ( 2 / 708 ) و " تهذيب التهذيب " ترجمة أسماء بن الحكم الفزاري .
(2) 1 / 352 ) في كلامه عن شروط الصحيح .(1/253)
ونحن إنما نقبل تفرد الثقة ، ولانشترط له متابعًا على روايته ، إذا لم يغمز إمام في تفرده بما لا يُحتمل منه وإن كان ثقة ، فالثقة مهما بلغ من الضبط والإتقان فليس معصومًا من الخطأ ، والله أعلم .
?المسألة السابعة : مظان الحديث الفرد :
ذكر الحافظ وغيره مظانه، فمن ذلك: " الأفراد " للدارقطني ، وكذا لابن شاهين ، وغيرهما، وكذا " مسند البزار " و " معاجم الطبراني " ، والله أعلم .
قال الناظم – رحمه الله - :
24- وما بِعِلَّةٍ غُموضٍ أو خَفَا ... مُعَلَّلٌ عندهُمُ قَدْ عُرِفَا
تكلم الناظم في هذا البيت على الحديث المعلل ، وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : في حد العلة :
العلة لغة : والعلة في اللغة تطلق على عدة معان ، من هذه المعاني : المرض ، يقال : علَّ يَعِلُّ واعتلَّ فهو مُعَلَّلٌ وعليل ، ولا تقل : معلول ، قاله في " القاموس "(1).
( تنبيه ) : أنكر بعضهم تسمية الحديث المعلل بالمعلول - وذلك من جهة اللغة - وَرَدَّ ذلك بعضهم بأنه قد استعمل كذلك عند بعض العلماء في اللغة ، والأمر في ذلك سهل والله أعلم .
واصطلاحًا : سبب خفي يقدح في صحة الحديث ؛ مع أن الظاهر السلامة منه .
?المسألة الثانية : تعريف الحديث المعلل اصطلاحًا :
عرفه الناظم بأنه: الحديث الذي فيه علة خفية غامضة ، أي مع أن الظاهر سلامته منها ، وقال السخاوي : " والمعلول : خبر ظاهر السلامة ؛ اطُّلِعَ فيه بعد التفتيش على قادح " فتح المغيث " اهـ(2).
وقال الحاكم : " وإنما يُعَلَّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل ، فإن حديث المجروح ساقط واهٍ ، وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات ، أن يحدثوا بحديث له علة ، فتخفى عليهم علته ؛ فيصير الحديث معلولاً "(3)اهـ .
__________
(1) ص 1338 ) .
(2) 1 / 276 ) .
(3) " معرفة علوم الحديث " ( ص112 – 113 ) .(1/254)
?قال الصنعاني في " توضيح الأفكار "(1):" هذا تعريف أغلبي للعلة ، وإلا فإنهم قد يعلون بأشياء ظاهرة غير خفية ولا غامضة ، ويُعِلُّون بما لا يؤثر في صحة الحديث " اهـ .
قال الحافظ في " النكت "(2)معلقًا على كلام الحاكم السابق: " فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع – مثلاً - : معلولاً، ولا الحديث الذي راويه مجهول، أو مُضَعَّف معلولاً، إنما يسمى معلولاً إذا آل أمره إلى شيء من ذلك ، مع كون ظاهره السلامة من ذلك، وفي هذا رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود اهـ .
فإن قال قائل: كيف تقولون: هذا الكلام ، وهذه كتب العلل توجد فيها أحاديث قد أعلوها بعلل ظاهرة غير خفية ؟
فالجواب : قال السخاوي(3):"ولكن ذلك منهم بالنسبة للذي قبله قليل ، على أنه يحتمل أيضًا أن التعليل بذلك من الخفي: لخفاء وجود طريق آخر ينجبر بها ما في هذا من ضعف، فكأن المعلِّل أشار إلى تفرده" اهـ .
وأيضًا فبعض الأحاديث التي عِلَّتُها ظاهرة ، ترجع إلى رواية الثقات المشاهير، فلعل من أعلَّ بالعلة الظاهرة في مثل هذا الموضع؛ أراد أن يدفع بذلك شبهة الاحتجاج بالثقة مطلقًا؛ويثبت أن الثقة قد يروي عن كذاب، أو متروك ،أو ضعيف ، أو مجهول ، أو يروى ما لايتصل سنده ، فليس كل ما رواه الثقة فهو صحيح ، والله أعلم .
?المسألة الثالثة : بيان أهمية هذا النوع من علوم الحديث :
هذا النوع من أغمض الأنواع وأدقها، ولهذا لم يتكلم فيه إلا الجهابذة، أهل الحفظ والخبرة، والفهم الثاقب .
قال محمد بن عبدالله بن نمير : قال عبدالرحمن بن مهدي : معرفة الحديث إلهام : قال ابن نمير: وصدق ، لو قلت له: من أين قلت ؟ لم يكن له جواب اهـ " علل ابن أبي حاتم "(4).
__________
(1) 2 / 27 ) .
(2) 2 / 710 ) .
(3) 1 / 271 ) .
(4) 1 / 124 ) .(1/255)
وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي ، من أهل الفهم منهم ، ومعه دفتر، فعرضه عليَّ ، فقلت في بعضه: هذا حديث خطأ، قد دَخَل لصاحبه حديث في حديث ، وقلت في بعضه : هذا حديث باطل ، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر ، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب ، وسائر ذلك أحاديث صحاح، فقال لي : مِنْ أين علمتَ أن هذا خطأ ، وأن هذا باطل ، وأن هذا كذب ؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت ، وأني كذبت في حديث كذا ؟ فقلت:ُ لا، ما أدري هذا الجزء مِنْ رواية مَنْ هو ؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ ، وأن هذا الحديث باطل ، وأن هذا الحديث كذب ، فقال تدعي الغيب ؟ قال : قلت : ما هذا ادعاء الغيب ، قال فما الدليل على ما تقول ؟ قلت:سَلْ عمّا قلتُ مَنْ يُحْسِن مثل ما أُحْسِن ، فإن اتفقنا ؛ علمتَ أنا لم نجازف ، ولم نَقُلْه إلا بفهم ، قال : من هو الذي يُحْسِن مثل ما تُحْسِن ؟ قلت : أبوزرعة ، قال : ويقول أبوزرعة مثل ما قلت ؟ نعم،قلت: قال : هذا عَجَبٌ، فأخذ فكتب في كاغدٍ ألفاظي في تلك الأحاديث ، ثم رجع إليَّ وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبوزرعة في تلك الأحاديث ، فما قلت ، إنه باطل، قال أبوزرعة : هو كذب، قلت : الكذب والباطل واحد ، وما قلتُ إنه باطل، قال أبوزرعة: هو كذب ، وما قلتُ : إنه منكر، قال : هو منكر كما قلتُ ، وما قلتُ: إنه صحاح : قال أبو زرعة : هو صحاح، فقال : ما أعْجب هذا ، تتفقان من غير مواطأةٍ فيما بينكما ؟ فقلت: أفعلمتَ أنا لم نجازف ، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا ؟ والدليل على ما نقوله: بأن دينارا بهرجًا يُحْمَل إلى الناقد، فيقول : هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت: إن هذا نبهرج ؟ هل كنت حاضرًا حين بهرج هذا الدينار ؟ قال: لا،فإن قيل: أَخْبَرَك الرجل الذي بهرج : أني بهرجتُ هذا الدينار ؟ قال : لا ، قيل : فمن أين قلت: إن هذا نبهرج قال: علمًا رُزِقْتُ ، وكذلك نحن(1/256)
رزقنا معرفة ذلك، قلت له : فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين، فيقول : هذا زجاج، ويقول لمثله : هذا ياقوت، فإن قيل له : من أين علمت أن هذا زجاج، وأن هذا ياقوت ؟ هل حضرت الموضع الذي صُنِع فيه هذا الزجاج ؟ قال: لا ، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه، بأنه صاغ هذا زجاجًا؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت ؟ قال : هذا عِلْم رُزِقْتُ، وكذلك نحن رزقنا علمًا لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كَذِبٌ، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه .
قال أبو محمد: تُعْرَف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء؛ علم أن مغشوش؛ ويُعْلَم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في الماء والصلابة؛ عُلِم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلامًا يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويُعْلَم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله أعلم .اهـ " تقدمة الجرح والتعديل "(1).
وقال ابن مهدي: لأن أعرف علة حديث - هو عندي - أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثًا ليس عندي اهـ " العلل " لابن أبي حاتم(2).
قال الحافظ ابن حجر :
" وهو من أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله تعالى فهمًا ثاقبًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، ومَلَكَةً قوية بالأسانيد والمتون، ولهذا لم يتكلم فيه إلا قليل من أهل هذا الشأن : كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ويعقوب بن شيبة، وأبي حاتم، وأبي زرعة، والدارقطني، وقد تقصر عبارات المعلِّل عن إقامة الحجة على دعواه: كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم" اهـ " النزهة "(3).
وقال الحافظ ابن حجر - أيضًا - :
__________
(1) 1 / 350 – 351 ) .
(2) 1 / 123 ) .
(3) ص 123 – 124 ) .(1/257)
"وهذا الفن أغمض أنواع علوم الحديث، وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تبارك وتعالى فهمًا غائصًا ، واطلاعًا حاويًا ، وإدراكًا لمراتب الرواة ، ومعرفة ثاقبة ، ولذلك لم يتكلم فيه إلا الأفراد من أئمة هذا الشأن وحذاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لما جعله الله لهم من معرفة ذلك ، والاطلاع على غوامضه ، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك " اهـ " النكت "(1).
وعلى ذلك: فكلام أئمة الحديث على الروايات مقدم على غيرهم ، قال السخاوي :" وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي ، العاري عن الحديث بالأدلة ، هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فنٍّ غير فنَّه ؛ فهو متعنٍّ اهـ " فتح المغيث "(2).
( تنبيه ) : قد يظن بعض الناس بعد وقوفهم على ما سبق من كلام الأئمة: أن الإمام من الأئمة يعلل الحديث، ولا يعرف دليلاً لذلك !! وهذا ليس على إطلاقه؛فالأصل أن الإمام منهم لا يعلل الحديث إلا وعنده الدليل الكافي على قوله ، وكُتُبُ العلل أكبر شاهد على ذلك، فأكثر الأحاديث يذكرون سبب علتها: إما مخالفة فلان لمن هو أوثق منه ، أو لدخول حديث في حديث، دون أن يتنبه لذلك راويه ، أو لغير ذلك من العلل التي طفحت بها أجوبة الأئمة على أسئلة طلابهم عن الأحاديث والعلل الواردة فيها .
وهناك عدد من الأحاديث يذكر الإمام منهم أنها معلَّة ، ولا يُرْدِفُ ذلك ببيان السبب ، ولا يلزم من ذلك عدم معرفة الإمام لسبب العلة .
__________
(1) 2 / 711 ) .
(2) 1 / 289 ) .(1/258)
نعم هناك بعض الأحاديث يقع في نفس الإمام منهم أنها منكرة ، وذلك لأنها خلاف المعروف عند أهل الحديث ، إلا أن الإمام لا يستطيع أن يحدد العلة بجلاء، وكذا لايتمكن من تحديد من يحتمل عهدة الخطأ أو النكارة ونحو ذلك ، وذلك في وقت دون وقت ، وهذا قليل جدًّا بالنسبة لما سبق ، وقد قال علي بن المديني : وربما أدركتُ على حديث بعد أربعين سنة اهـ(1).
ولما كان العلماء لا ينطلقون في أحكامهم - في الأصل - من هوى أو جهل؛ فأحكامهم - في الجملة - تكون مؤتلفة غير مختلفة، وهناك أشياء تنقدح في نفس الإمام منهم: باعتبار سعة إطلاعه، ومعرفته لمخارج الروايات، وطول الممارسة في خدمة الحديث النبوي، وكثرة مذاكرة أهل الفن بذلك، فهذا وغيره يُورِثُ العالم منهم أمورًا معينة ، فإذا وقف على حديث يخالف شيئًا من ذلك، أعله، فإن سئل عن تحديد العلة بدقة ، فقد لا يتهيأ له ذلك في وقت دون وقت ، أو قد لا يتهيأ لأحدهم دون الآخر، فيكتفي برد الحديث لمخالفته ما سبق أن انقدح في نفسه خلال حياته الحديثية ، ومثل هذا ليس بغريب على جميع الصناعات والفنون : أن يعرف المختصون فيها من كنه الأمور وحقائقها مالا يعرفه غيرهم، من الذين يقتصرون على ظاهر الأمور، وعلى هذا القسم يتنزل قول من قال: معرفتنا بالعلل إلهام، أو كهانة عند الجاهل، أي الجاهل بهذا الفن، لا أنهم يتكلمون بجهل أو هوى، فالعلماء يرون أن العلة بادية واضحة، والعمدة في ذلك على العلماء ، لاعلى فهم الجهلة ، وغير المعتمد لا يعتمد ، والله أعلم .
ولذا قال السخاوي معلقًا على قول ابن مهدي: " لو قُلْتَ للقيم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة " قال السخاوي : " يعني يعبِّر بها غالبًا، وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللدفع " اهـ من "فتح المغيث "(2).
?المسألة الرابعة : بم تُدْرَك العلة في الأحاديث ؟
__________
(1) انظر " الجامع " للخطيب ( 2 / 257 ) .
(2) 1 / 288 ) .(1/259)
تُدْرَك العلة بنص إمام ، أو بجمْع طرق الحديث خاصة ، أو أحاديث الباب عامة .
قال ابن الصلاح :
"ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له ، مع قرائن تنضم إلى ذلك ، تُنَبِّهُ العارفَ بهذا الشأن على إرسال في الموصول ، أو وَقْفٍ في المرفوع ، أو دخول حديث في حديث ، أو وهم واهم إلى غير ذلك ، بحيث يغلب على ظنِّه ذلك ، " فيحكم به ، أو يتردد ؛ فيتوقف فيه " اهـ(1).
ولا يمكن معرفة تفرد الراوي ومخالفته لغيره إلا للحافظ الفهم، العارف لطرق الحديث، والناظر في اختلاف رواته، وضبطهم، وإتقانهم ، ومراتبهم في ذلك(2).
قال ابن معين :" لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهًا ؛ ما عَقَلْناه " اهـ .
قال الإمام أحمد :" الحديث إذا لم تجمع طرقه؛ لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضًا " اهـ .
وقال ابن المديني :" الباب إذا لم تُجْمع طرقه ؛ لم يتبيَّن خطؤه " اهـ(3).
وقال الحاكم :" الحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير " اهـ(4).
وقال الخطيب :" والسبيل إلى معرفة علة الحديث: أن يُجْمَع بين طرقه، ويُنْظَر في اختلاف رواته، ويُعْتَبر بمكانتهم في الحفظ، ومنزلتهم في الإتقان والضبط "(5)اهـ .
وقال الحافظ :" ..... ولا يقوم به - أي هذا النوع من أنواع علوم الحديث - إلا من منحه الله تبارك وتعالى فهمًا غائصًا، واطلاعًا حاويًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة ..." اهـ(6).
?المسألة الخامسة : إطلاق لفظ العلة على غير المعنى الاصطلاحي عند بعض أهل العلم :
__________
(1) انظر " المقدمة " ( ص 116 ) مع " التقييد " .
(2) وانظر " شرح العلل " لابن رجب ( 2 / 467 – 468 ) .
(3) انظر " المقدمة" لابن الصلاح ( ص 117 ) مع " التقييد " .
(4) " معرفة علوم الحديث " ( ص 113 ) .
(5) " الجامع " ( 2 / 295 ) .
(6) " النكت " ( 2 / 711 ).(1/260)
1- قد تُطْلَق العلة على العلل الظاهرة، وهي الأسباب التي يُضَعَّف بها الحديث من جَرْح الراوي بالكذب، أو الغفلة، أو سوء الحفظ، أو نحو ذلك من الأسباب القادحة، فيقولون: هذا الحديث معلول بفلان " أفاده ابن الصلاح في " المقدمة "(1).
2- وقد تُطْلَق على العلة غير القادحة، قال الخليلي في " الإرشاد "(2).
فأما الحديث الصحيح المعلول : فالعلة تقع للأحاديث من أنحاءٍ شتى لا يمكن حصرها ، فمنها : أن يروي الثقات حديثًا مرسلاً ، وينفرد به الثقة مسندًا، فالمسند صحيح، وحجة، ولا تضره علة الإرسال" اهـ .
والشاهد تسمية ما ليس بقادح عند الخليلي علة ، وإلا فالجمهور على الإعلال والقدح في صحة الحديث بما ذكر .
3- وقد تطلق العلة على النسخ :
قال ابن الصلاح :" وسَمَّى الترمذي النَّسْخَ علة من علل الحديث(3)اهـ .
قال الترمذي في " جامعه "(4): جميع ما في هذا الكتاب من الحديث: فهو معمول به ،وقد أخذ به بعض أهل الحديث، ما خلا حديثين: حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - جَمَعَ بين الظهر والعصر بالمدينة ...." وحديث النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - :"إذا شرب الخمر فاجلدوه " وقد بَيَّنَّا علة الحديثين جميعًا في الكتاب " اهـ .
وقال ابن رجب(5):
__________
(1) انظرها مع " التقييد " ( ص 122 ) .
(2) 1 / 160 – 163 ) .
(3) انظر " المقدمة " ( ص 122 " مع " التقييد " .
(4) 5 / 736 ) .
(5) 1 / 324 – 325 ) قال العراقي في " شرح الألفية " ( ص 108 ) : فإن أراد الترمذي أنه – أي النسخ – علة في العمل بالحديث ؛ فهو كلام صحيح ، وإن أراد أنه علة في صحة نقله ؛ فلا ؛ لأن في الصحيح أحاديث كثيرة منسوخة " اهـ .
وقال الحافظ في " النكت " ( 2 / 771 ) : " مراد الترمذي: أن الحديث المنسوخ مع صحته إسنادًا ومتنًا طرأ عليه ما أوجب غدم العمل به ، وهو الناسخ ، ولايلزم من ذلك أن يُسَمَّى المنسوخ معلولاً اصطلاحًا ، كما قررتُه ، والله أعلم " اهـ .(1/261)
قوله:" قد بَيَّنَّا علة الحديثين جميعًا في الكتاب " فإنما بين ما قد يُسْتَدَل به للنسخ، لا أنه ضَعَّفَ إسنادها " اهـ . والله أعلم .
الحديث المضظرب
قال الناظم – رحمه الله - :
25 - وذو اختلاف سَنَدٍ أو مَتْنِ ... مضطربٌ عند أُهيْلِ الفنِّ
قال السخاوي:" لما انتهى – يعني العراقي - من الكلام على المعَل - الذي شَرْطه ترجيح العلة - ناسب إردافه بما لم يظهر فيه ترجيح ، وهو المضطرب "(1)اهـ بمعناه .
وقول الناظم :" وذو اختلافِ سندٍ " أي: وحديث الراوي الذي هو صاحب اختلافٍ في السند ،وقوله : " أُهَيْل " تصغير أهل " وأهل الحديث مقامهم رفيع، فلا يليق تصغيرهم باللفظ الذي قد يدل على تصغير شأنهم وقدرهم ، ولعل الذي حمل الناظم على ذلك : الحفاظ على وزن البيت من الجهة الشعرية ، والله أعلم .
وتحت هذا البيت عدة مسائل ، وهي :
?المسألة الأولى : تعريف المضطرب :
المضطرب - بكسر الراء - لغة : اسم فاعل من الاضطراب ، وهو اختلال الأمر وفساد نظامه .
واصطلاحًا :" هو: الذي يُرْوَى على أكثر من وجه بصورة متكافئة ، مع تعذر الجمع " .
أو يقال هو :" ما اختلفت روايته اختلافًا يتعذر معه الجمع أو الترجيح " .
?المسألة الثانية : شرح التعريف :
فقولي :" على أكثر من وجه " يشمل وجهين فأكثر، وخرج به الحديث الفرد المطلق، فإنه لا يدخله الاضطراب ؛ لأنه لا اختلاف فيه ، فهو مَرْوى على وجه واحد .
وقولي: " متكافئة " أي متساوية من جميع وجوه الترجيح .
وقولي :" مع تعذر الجمع " أي على طريقة المحدثين، لا الفقهاء والأصولين ، وقد سبق ذكر عشْر حالات يُجمع بها بين رواية الثقة ومن هو أو ثق منه ، في الحديث الشاذ ، في المسألة الثالثة ،فإذا أمكن الجمع ببعض هذه الحالات ، فلا اضطراب ، لا أن المراد بالجمع حمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيد ، فتنبّه .
?المسألة الثالثة : شروط الاضطراب :
__________
(1) " فتح المغيث " ( 1 / 274 ) .(1/262)
من خلال ما سبق من تعريف المضطرب؛ يظهر لنا أن للحكم بالاضطراب على الحديث شروطًا :
1- وجود الاختلاف المؤثر .
2- اتحاد المخرج(1).
3- التكافؤ في وجوه الترجيح بين الأوجه المختلفة .
4- تَعَذُّر الجَمْع على قواعد المحدثين .
قال الحافظ ابن حجر: " الاختلاف على الحفاظ في الحديث: لا يُوجِب أن يكون مضطربًا إلا بشرطين :
أحدهما : استواء وجوه الاختلاف، فمتى رُجِّح أحد الأقوال؛ قُدِّم ، ولا يُعَلُّ الصحيح بالمرجوح .
ثانيهما : مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين ، ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه؛ فحينئذٍ يُحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب ، ويُتَوقَّف عن الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك "(2)اهـ .
وذكر ابن دقيق العيد أن الاضطراب لا يكون إلا إذا اتحد المخرج، انظر" الاقتراح "(3).
وقال ابن رجب: " ... واعلم أن هذا كله إذا عُلِمَ أن الحديث الذي اختلف في إسناده حديث واحد، فإن ظهر أنه حديثان بإسنادين، لم يُحْكَم بخطأ أحدهما" اهـ من "شرح علل الترمذي"(4).
واعلم أن منهم من يطلق الاضطراب على مطلق الخلاف وإن لم يكن مؤثرًا، فهناك من يُسَمِّي الحديث مضطربًا إذا اخْتُلِف في اسم راويه أونسبه ، وإن كان الراوي معروفًا، وكذا إذا أُبْدِل راوٍ ثقة بآخر مثله، فيُسَمِّي ذلك مضطربًا، مع أن الحديث حيث ما دار دار على ثقة(5)،وهذا وإن كان لايضر في أصل الحديث ؛ إلا أن ذلك إذا كثر من الراوي فإنه يؤثر فيه ، على مراتب متفاوتة ، والله أعلم .
(
__________
(1) انظر " الاقتراح " لابن دقيق العيد ( ص 324 ) .
(2) انظر " هدي الساري ( ص 367 ) الفصل الثامن ، ك / الطهارة ، الحديث الأول .
(3) ص 324 ) .
(4) 2 / 843 ) .
(5) وانظر " اليواقيت والدرر " ( 2 / 98 – 99 ) .(1/263)
تنبيه ): لدقة شروط الاضطراب، ووجوب توافرها في الحديث المضطرب ، وصعوبة الإحاطة بذلك، فليس من السهولة أن تحكم على الحديث بالاضطراب ، وذلك لأنك قد تحكم على حديث بالاضطراب على حسب ما بلغك من العلم، فيأتي من هو أوسع منك اطلاعًا على الروايات، أو على وجوه الترجيح، أو الجمع،فيستطيع أن يرجح أو يجمع ، وقد يسهل لك أن تحكم على حديث الشذوذ ، ويعسر عليك أن تحكم على حديث بالاضطراب، لاسيما في المتن، والله أعلم .
?المسألة الرابعة : مواضع الاضطراب :
الاضطراب قد يكون في السند، وقد يكون في المتن،وقد يكون فيهما جميعًا ، قال السخاوي - رحمه الله - وربما يكون ذلك في السند والمتن معًا(1).
إلا أن الغالب في الاضطراب أنه يكون في الإسناد .
قال الحافظ ابن حجر :" المضطرب: وهو يقع في الإسناد غالبًا، وقد يقع في المتن، لكن قَلَّ أن يُحْكَم على الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى الاختلاف في المتن دون السند(2)اهـ .
وقد مَثَّل العلماء للمضطرب في الإسناد بأكثر من مثال، وكذا مَثَّلوا للمضطرب في المتن ببعض الأحاديث ، لكن كما قال السخاوي في مضطرب المتن:" وقَلَّ أن يُوجَد مثال سالم له(3)أي: أن يوجد مثال ليس له علة إلا الاضطراب، ولولا الاضطراب لكان صحيحًا، والله أعلم .
( تنبيه ) : الكلام عن الاضطراب إنما يكون في أحاديث الثقات، لا في حديث الضعفاء، فحديثهم ضعيف وإن سلم من الاضطراب، والبحث فيما لو سلم من الاضطراب كان صحيحًا ، وهذا خاص بأحاديث الثقات ، والله أعلم .
?المسألة الخامسة : حُكْم الحديث المضطرب :
__________
(1) " فتح المغيث " ( 1 / 274 ) .
(2) انظر " النزهة " ( ص127 ).
(3) " فتح المغيث " ( 1 / 279 ) .(1/264)
إذا كان الاضطراب مؤثرًا – وهذا هو الأصل - فهو من قسم الحديث الضعيف، ومع ذلك فقد تُرَجَِّح بعض طرق الحديث المضطرب، التي هي من مخرج واحد؛ إذا وُجد مخرج آخر للحديث يشهد لبعض وجوه ذاك المضطرب، ويرتقي الحديث بذلك إلى الحسن ، أو الصحة ، ولهذا أمثلة كثيرة في " كتب العلل " للداراقطني ، وغيره .
فإن قيل: سبق أن من شرط المضطرب: تعذر الترجيح، فكيف تُرَجِّح هنا أحد الوجوه على آخر ، ثم تقوِّيه بالشاهد ؟
فالجواب : أن المراد بتعذر الترجيح: أن يكون ذلك في الطرق التي مخرجها واحد، أما إذا كان هناك مرجِّحٌ آخر لأحد هذه الوجوه ، وهو من مخرج آخر ؛ فلا بأس ، والله اعلم(1).
?المسألة السادسة : صُوَر الاضطراب في السند :
ذكر العلائي ست صور ، وهي :
1 - الاضطراب بتعارض الوصل والإرسال .
2 - الاضطراب بتعارض الاتصال والانقطاع .
3 - الاضطراب بتعارض الوقف والرفع، وقد عدَّه بعضهم من مباحث المتن، ولا يبعد أن لكل من السند والمتن في ذلك وجهًا من القبول .
4- الاضطراب بزيادة رجل في أحد الإسنادين .
5 - الاضطراب في اسم الراوي ونسبه ، إذا كان مترددًا بين ثقة وضعيف .
6- الاضطراب في إبدال راوٍ بآخر (1) .
قلت :ويضاف إلى ذلك أيضًا صورتان :
7 - الاضطراب في صيغ التحمل من المدلس، فيرويه بعضهم عنه بالعنعنة،ويرويه بعضهم بتصريح المدلس بالسماع .
8 - الاضطراب في تعيين مبهم أو مهمل ، وقد عَدَّه العلائي من جملة الاضطراب في اسم الراوي ، والله أعلم .
( فائدة ) : كان ابن خزيمة من أكثر الناس كلامًا في الجمع بين ما ظاهره الاضطراب في المتن ، حتى إنه يقول : " لا أعرف أنه رُوِي عن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – حديثان بإسنادين صحيحين، متضادين ، فمن كان عنده ؛ فلْيأْتي به ؛ لأؤلف بينهما "(2).
__________
(1) انظر هذه الصورة في" النكت " ( 2 / 778 ) .
(2) انظر " المقدمة " لابن الصلاح ( ص 285 ) مع " التقييد " .(1/265)
قال السخاوي : " لكنه توسَّع حيث قال . . . " ثم ذكره كلامه السابق بنحوه ، ثم قال : " وانتُقِد عليه بعض صنيعه في توسُّعه . . . " اهـ(1).
واعلم أن ها الفن فيه صعوبة بالغة، حتى قال العلائي: " وهذا الفن أغمض أنوع الحديث، وأدقها مسلكًا ، ولا يقوم به إلا من منحه الله فهمًا غايصًا، واطلاعًا حاويًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة "(2)اهـ .
وقال الصنعاني معلقًا على ذلك: " قلت: هو كما قال الحافظ في بحث الإعلال، والبحثان متقاربان جدًّا، والاضطراب نوع من الإعلال " اهـ من " توضيح الأفكار "(3).
الحديث المدْرَج
26 - والمُدْرَجاتُ الحديث ما أَتَتْ ... مِنْ بعضِ ألفاظِ الرواةِ اتَّصَلَتْ
قال السخاوي:" لما انتهى – يعني العراقي - مما هو قسيم المعل – أي المضطرب - من حيثية الترجيح والتساوي، وكان مما يُعَلَّ به: إدخال متن ونحوه في متن؛ ناسب الإرداف بذلك المدرج" اهـ من " فتح المغيث "(4).
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف المدرج .
لغة: الإدخال، وهو بضم الميم وفتح الراء : اسم مفعول، فِعْلُه أدرج، تقول : أدرجت الكتاب ، إذا طويته ، وتقول: أدرجت الميت في القبر ، إذا أدخلته فيه ، وأدرجت الشيء في الشيء: إذا أدخلته فيه، انظر " تاج العروس "(5).
واصطلاحًا :" هو ما أُدخل في الخبر، سندًا أو متنًا، من أحد رواته، دون تمييز " .
فقولي: " ما أُدْخِل في الخبر " سواء كان الخبر مرفوعًا أو موقوفًا ونحوه ، وسواء كان الإدخال عمدًا أو سهوًا .
وقولي: " من أحد رواته " يشمل الصحابي فمن دونه .
وقولي: " دون تمييز " احتراز مما جاء مميزًا، كقولهم: يعني كذا، أو قال فلان كذا، ونحو ذلك(6).
__________
(1) " فتح المغيث " ( 4 / 66 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 777 ) .
(3) 2 / 36 – 37 ) .
(4) 1 / 281 ) .
(5) 2 / 39 – 40 ) مادة : درج .
(6) انظر " فتح المغيث " ( 1 / 287 – 288 ) .(1/266)
?المسألة الثانية : أقسام المدرج :
ينقسم المدرج إلى مدرج الإسناد ومدرج المتن، ولقد اقتصر الناظم في كلامه على مدرج المتن، ولعل ذلك لكثرة وقوع الإدراج في المتن .
?المسألة الثالثة : أما مدرج المتن: فالكلام عليه في مباحث:
المبحث الأول : تعريفه:"هو ما أضيف إلى الخبر من غير كلام صاحبه بلا تمييز" اهـ من كلام البقاعي(1).
والمبحث الثاني: صُوَر الإدراج في المتن ، وهي ثلاث :
الأولى : أن يكون ذلك في أول المتن ، وهو نادر جدًّا .
ومثال ذلك: " حديث أبي هريرة:" أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار " .
وأصل الحديث: " ويل للأعقاب من النار " لكن أبا هريرة أمر الصحابة بالإسباغ ، واستدل على ذلك بالحديث ، فظن بعض الرواة أن الجميع مرفوع ، فساقه سياقة واحدة ، وفصل غيره ، والله أعلم .
الثانية : أن يكون الإدراج في أثناء الخبر ، وهو قليل .
مثاله : قال الحافظ: " وقد وقع منه قول الزهري :" والتحنث التعبد " في حديث عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - في بدء الوحي، في قولها فيه: " وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد .... " إلى آخر الحديث بطوله، فإن قوله: " وهو التعبد " من كلام الزهري، أُدْرِج في الحديث من غير تمييز، كما أوضحته في الشرح" اهـ(2).
ومثال الإدارج في المتن في المرفوع: حديث:" من مسَّ ذَكَره، أو أنيثته، أو رفغيه ؛ فليتوضأ" وصوابه:" من مسَّ ذَكَره؛ فليتوضأ " وغير الذَّكَر أُدخل قياسًا من كلام عروة ، قاله الدارقطني(3).
الثالثة : أن يكون الإدراج في آخره ، وهو الأكثر .
__________
(1) انظر " حاشيته( 1) على " شرح الألفية " ( ص 118 ) .
(2) انظر " النكت " (2 / 852 ) و " الفتح " ( 8 / 717 ) ك / التفسير ، سورة ( إقرأ باسم ربك الذي خلق ) الحديث ( 4953 ) .
(3) انظر " السنن " ( 1 / 148 ) برقم ( 10 ) .(1/267)
ومثاله : ما رواه أبو داود ثنا عبدالله بن محمد النفيلي ثنا الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة قال أخذ علقمة بيدي، فحدَّثَني أن عبدالله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أخذ بيد عبدالله بن مسعود، فعلمنا التشهد في الصلاة " الحديث ، وفيه" وإذا قلت هذا - أو قضيت هذا - فقد قضيت صلاتك ، إن شئت أن تقوم فَقُمْ ، وإن شئت أن تقعد فاقعد " .
فقوله :" إذا قلت هذا ... "إلى آخره، وصَلَه زهير بن معاوية بالحديث المرفوع في رواية أبي داود هذه ، وفيما رواه عنه أكثر الرواة .
قال الحاكم(1)ذلك مدرج في الحديث من كلام ابن مسعود، وكذا قال البيهقي، والخطيب، وقال النووي في الخلاصة :" اتفق الحفاظ على أنها مدرجة " .
( تنبيه ): الإدراج في المتن على مراتب من جهة الكثرة والقلة :
ففي أول المتن يكون نادرًا جدًّا ، وفي وسطه يكون نادرًا ، وفي آخره يكثر ، والله أعلم(2).
المبحث الثالث: من مباحث الإدراج في المتن : كيف يُعْرَف الإدراج في المتن ؟
الجواب : لمعرفة ذلك طريقان :
الأولى : أن يستحيل إضافة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على قواعد أهل العلم ، ومثاله: حديث ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - :" للعبد المملوك أجران، والذي نفسي بيده؛ لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي؛ لأحببتُ أن أموت وأنا مملوك " رواه البخاري عن بشير بن محمد عن ابن المبارك به .
__________
(1) انظر " المعرفة " للحاكم ( ص 39 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 812 ) .(1/268)
فهذا الفضل الذي في آخر الحديث لا يجوز أن يكون من قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إذْ يمتنع أن يتمنى أن يصير مملوكًا ، وأيضًا فلم يكن له أمٌ يَبَرُّها، بل هذا من قول أبي هريرة - رضي الله عنه - أُدْرِج في المتن(1).
الطريق الثانية : التنصيص على ذلك، وهذا إما أن يكون من الراوي الصحابي فمن دونه، أو بنص من أحد أئمة الحديث المطَّلعين ، ولا يكون هذا من الإمام إلا بجمع الطرق .
ومثال تنصيص الصحابي : حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:" من مات وهو لا يشرك بالله شيئًا؛دخل الجنة ،ومن مات وهو يشرك بالله شيئًا؛ دخل النار " .
هكذا رواه أحمد بن عبدالجبار العطاردي عن أبي بكر بن عياش بإسناده ، ووهم فيه: فقد رواه الأسود بن عامر شاذان وغيره عن أبي بكر بن عياش بإسناده إلى ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله سلم – يقول:" من جعل لله ندًّا دخل النار " وأخرى أقولها، ولم أسمعها منه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " من مات لا يجعل لله ندًّا دخل الجنة " .
والحديث في "صحيح مسلم" من غير هذا الوجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ولفظه قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كلمة ، وقلتُ أخرى . . . فذكره(2).
ومثال التنصيص من أحد الأئمة :
حديث عبدالله بن خيران عن أنس بن سيرين أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنه - يقول :" طلقت امرأتي وهي حائض، فَذَكَر عمر - رضي الله عنه - ذلك للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فقال: " مُرْهُ فليراجعها ، فإذا طَهُرَتْ ؛ فليطلقها " قال: فَتُحْسَب بالتطليقة ؟ قال : فمه !!
__________
(1) انظر " النزهة " ( ص 125 ) و " الفتح " ( 5 / 208 – 209 ) ك / الخصومات ، ب / العبد إذا أحسن عبادة ربه . . . الحديث ( 2548 ) .
(2) انظر " الفصل للوصل المدرج في النقل " للخطيب ( 1 / 218 ) .(1/269)
قال الخطيب: هذا مدرج، والصواب أن الاستفهام من قول ابن سيرين، وأن الجواب من ابن عمر - رضي الله عنه - .
بَيَّن ذلك محمد بن جعفر، ويحيى بن سعيد القطان، والنضر بن شميل في رواياتهم عن شعبة .
قال الخطيب: ورواه بشر بن عمر الزهراني عن شعبة فوهم فيه وهمًا فاحشًا ، فإنه قال فيه :" قال عمر ـ رضي الله عنه ـ يا رسول الله ... أفتحتسب بتلك التطليقة ؟ قال : - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " نعم " .
قال الحافظ : قلت " والحكم على هذا القسم الثالث بالإدراج بحسب غلبة ظن المحدث الحافظ الناقد، ولا يوجب القطع بذلك، خلاف القسمين الأولين، وأكثر هذا الثالث يقع تفسيرًا لبعض الألفاظ الواقعة في الحديث، كما في أحاديث الشقار والمحاقلة ...." اهـ ملخصًا مع تقديم وتأخير من "النكت"(1).
?المبحث الرابع : الأسباب الحاملة على الإدراج :
لم يتعمد الذين أدرجوا في حديث النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الزيادة في كلام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وإنما دعاهم إلى الإدراج أسباب هي :
1-أن يريد الراوي بذلك تفسير بعض الألفاظ الغريبة الواقعة في الحديث النبوي ، كما سبق عن الزهري في حديث التحنث .
2-أن يريد الراوي بذلك بيان حكم يُستنبط من كلام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كما جاء في حديث بُسْرة : " من مسَّ ذكره، أو أُنْثَيَيْه ، أو رفغيه، فليتوضأ " فقد زاد عروة :" أُنْثَيَيْه أو رفغيه " كذا قال الخطيب(2).
قال السيوطي:" فعروة لما فهم من لفظ الخبر أن سبب نقض الوضوء مظنة الشهوة؛ جعل حكم ما قَرُبَ من الذكر كذلك، فقال ذلك، فظن بعض الرواة أنه من صُلْب الخبر، فنقله مدرجًا فيه ، وفهم آخرون حقيقة الحال ، ففصلوا " اهـ(3).
__________
(1) 2 / 812 – 818 ) وانظر " الفصل للوصل " ( 1 / 154 – 158 ) .
(2) " الفصل للوصل " ( 1 / 343 – 347 ) برقم ( 32 ) .
(3) " التدريب " ( 1 / 27 ) .(1/270)
3- أن يقصد الراوي بذلك بيان حكم ما، ويُريد أن يستدل على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فيأتي به بلا فصل ، فيتوهم أن الكل حديث .
ومثاله: ما مرَّ من قول أبي هريرة: " أسبغوا الوضوء " .
4- لايُستبعد الإدراج عن غفلة من أحد الرواة، كما جرى لثابت بن موسى الزاهد في حديث سمعه من شريك، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - .
?المسألة الرابعة الإدراج في الإسناد :
وفيها مبحثان :
المبحث الأول : صور الإدراج في السند: قسم الخطيب الإدراج في الإسناد إلى أربعة أقسام، ووافقه على ذلك ابن الصلاح .
وقسمه الحافظ إلى خمسة أقسام ، وهاك ملخصها :
1- أن يكون المتن مختلف الإسناد بالنسبة إلى أفراد رواته ، فيرويه راوٍ واحد عنهم، فَيَحْمِل بعض رواياتهم على بعض ، ولا يميز بينها .
2-أن يكون المتن عند الراوي له بالإسناد إلا طرفًا منه، فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه بعضهم عنه تامًّا بالإسناد الأول .
ومن ذلك: أن يكون المتن عند الراوي إلا طرفًا منه، فإنه لم يسمعه من شيخه فيه، وإنما سمعه من واسطة بينه وبين شيخه، فيدرجه بعض الرواة عنه بلا تفصيل، قال الحافظ: " وهذا مما يشترك فيه الإدراج والتدليس " اهـ .
والفرق بينهما أن في التدليس يكون الإيهام مقصودًا بخلاف الإدراج .
3- أن يكون متنان مختلفَي الإسناد، فيدرج بعض الرواة شيئًا من أحدهما في الآخر، ولا يكون ذلك الشيء من رواية ذلك الراوي، ومن هذه الحيثية فارق القسم الذي قبله، أي أن الذي قبله أُدرج في طرف المتن فقط ، وهنا أدرج فيه المتن الآخر كله ، وهما حديثان مختلفان .
4- ألا يَذْكُر المحدث متن الحديث، بل يسوق إسناده فقط، ثم يَقْطَعُه قاطع ، فيذكر كلامًا، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد .(1/271)
ومثاله: قصة ثابت بن موسى الزاهد مع شريك القاضي، وذلك ما رواه ابن ماجه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى الزاهد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعًا: " من كثرت صلاته بالليل ؛ حَسُنَ وجْهُه بالنهار " .
قال الحاكم: دخل ثابت على شريك وهو يُمْلي، ويقول: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، وسَكَتَ ليكتب المُسْتَمْلِي ، فلما نظر إلى ثابت ؛ قال: من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار ، وقصد بذلك ثابتًا؛ لزهده وورعه، فظن ثابت أنه متن ذلك الإسناد، فكان يحدث به ، وقد جزم ابن حبان بأنه مدرج اهـ ملخصًا من "النكت"(1).
المبحث الثاني : كيف يُعْرف الإدراج في الإسناد :
يُعْرف ذلك إمام، بتنصيص إمام أو بجمع الطرق : قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: " والطريق إلى معرفة كونه مدرجًا، أن تأتي رواية مفصلة للرواية المدرجة، وتتقوى الرواية المفصلة بأن يرويه بعض الرواة مقتصرًا على إحدى الجملتين " اهـ من " النكت "(2).
?المسألة الخامسة : حُكم الإدراج :
قال ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - :" واعلم أنه لا يجوز تعمد شيء من الإدراج المذكور، وتبعه النووي، بل حكاه السيوطي إجماعًا عن أهل الحديث والفقه .
وقال السمعاني وغيره :" من تعمد الإدراج؛ فهو ساقط العدالة ، وممن يحرف الكلام عن مواضعه، وهو مُلْحَقٌ بالكذابين ، وحجتهم في ذلك لما يتضمن من عزو الشيء لغير قائله .
وقال السيوطي : "وعندي : أن ما أَدْرِج لتفسير غريب ؛ لايُمْنع ،ولذلك فَعَلَه الزهري وغير واحد من الأئمة " اهـ(3).
وقال السخاوي : " وأسوؤه : ما كان من المرفوع مما لادَخْل له في الغريب المتسامح في خلْطه والاستنباط " اهـ(4).
__________
(1) 2 / 832 – 835 ) و " النزهة " ( ص 124 ) .
(2) 2 / 836 ) .
(3) " التدريب " ( 1 / 274 ) .
(4) " فتح المغيث " ( 1/ 292) .(1/272)
?والخلاصة: أن من أدخل ذلك قاصدًا أن يلبِّس على الناس دينهم؛ فهو كما قال العلماء، وأما من قصد الاستباط، أو الاستدلال، أو التفسير، ونحو ذلك؛ فهو مأجور بقصده، وكان الأوْلى أن يفصل كلامه من كلام غيره ، والله أعلم .
معرفة المدبَّج
قال الناظم – رحمه الله - :
27 - وما رَوَى كلُّ قرينٍ عن أَخِهْ ... مُدَبَّجٌ فاعرِفْهُ حقًّا وانْتَخِهْ
شرع الناظم في الكلام على المدبَّج، وقوله: " عن أَخِهْ " بالقصر على اللغة المشهورة في الأسماء الخمسة، أي المساوي له في الأخذ عن الشيوخ ، وقوله: " فاعرفه " أي : اعرف المدبج .
وقوله: " وانتخه " أي: افتخر بمعرفته، إذا الانتخاء معناه: الافتخار والتعظم . انظر "اللسان"(1).
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : ما المراد بالأقران ؟
الأقران: هم الرواة المتقاربون في السن، والإسناد، أَوْ هُم: المتقاربون في السن، والأخذ عن الشيوخ، وقد يكتفي بعض العلماء بالتقارب في الإسناد فقط، وقد يكتفي بعضهم بالتقارب في السن فقط .
قال الحاكم " في معرفة علوم الحديث " النوع السادس والأربعين(2)" .... وإنما القرينان إذا تقارب سنهما وإسنادهما " اهـ
هذا مع أن السخاوي ذكر : أن الحاكم يكتفي بالتقارب في الإسناد ، وإن تفاوتت الأسنان(3).
قال الحافظ في " النزهة "(4):" فإن تشارك الراوي ومن روى عنه في أمر من الأمور المتعلقة بالرواية: مثل السن، واللُّقي، وهو الأخذ عن المشايخ؛ فهو النوع الذي يقال له: رواية الأقران " أهـ .
واستظهر السخاوي أن لو حصلت المقاربة بالسن دون الإسناد لكان ذلك كافيًا عند الحافظ(5).
( تنبيه ) : ذكرت ما سبق لبيان المراد بالأقران عند العلماء؛ لأن الكلام في المدبَّج فرع عن معرفة من هم الأقران ، والله أعلم .
__________
(1) 15 / 313 ) .
(2) ص 577 ) ط / دار ابن حزم .
(3) انظر " فتح المغيث " ( 4 / 168 ) .
(4) ص 159 ) .
(5) انظر " فتح المغيث " ( 4 / 168 ) .(1/273)
?المسألة الثانية : تعريف المدبَّج :
قال ابن الصلاح: " المدبج : هو أن يروي القرينان كل واحد منهما عن الآخر .
وقد سبق الكلام عن معنى الأقران .
فقوله:" القرينان " أخرج رواية ما عداهما: كرواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الآباء عن الأبناء .
وقوله: " كل واحد منهما عن الآخر " أخرج رواية الأقران التي يروي فيها القرين عن قرينه ، ولا يشترط فيها أن يروي القرين الآخر عن القرين الأول .
إلا أن العراقي لم يرتض الاقتصار على رواية الأقران بعضهم عن بعض، فقال: " إنما المدبَّج : أن يروي كل من الروايَيْن عن الآخر ، سواء كانا قرينين ، أم كان أحدهما أكبر من الآخر ، فيكون رواية أحدهما عن الآخر ، من رواية الأكابر عن الأصاغر ، فإن الحاكم نقل هذه التسمية عن بعض شيوخه من غير أن يسميهم ، والمراد به الدارقطني ، فإنه أحد شيوخه، وهو أول من سماه بذلك - فيما أعلم - وصنف كتابًا حافلاً سماه المدبَّج ، ولم يتقيد في ذلك بكونهما قرينين ، فإنه ذكر فيه رواية أبي بكر عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله سلم - ورواية النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عن أبي بكر .... وذكر فيه رواية الصحابه عن التابعين الذين رووا عنهم ... كرواية عمر عن كعب الأحبار ، ورواية كعب عن عمر . . . وذكر فيه رواية التابعين عن أتباع التابعين ، كرواية عبدالله بن عون، ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك، ورواية مالك عن كل منهما ..." إلى أن قال:" فهذا يدل على أن المدَّبج لا يختص بكون الراويين اللذين روى كل منهما عن الآخر قرينين، بل الحكم أعم من ذلك، والله اعلم اهـ من " التقييد والإيضاح "(1).
هذا واستظهر الحافظ أن الشيخ إذا روى عن تلميذه؛ لا يسمى مدبَّجًا ، مع كون كل منهما روى عن الآخر ، وجعله من رواية الأكابر عن الأصاغر، انظر " النزهة"(2)(ص 160) .
?المسألة الثالثة : فوائد معرفة هذا النوع :
__________
(1) ص 333 – 334 ) .
(2) ص 160 ) .(1/274)
قال السخاوي : ما خلاصته :
1-الأمْن مِنْ ظَنِّ الزيادة في الإسناد .
2-الأمْن مِنْ ظَنِّ إبدال الواو بـ " عن " إذا كان بالعنعنة .
3-الحرص على إضافة الشيء لراويه، والرغبة في التواضع في العلم أهـ من كلام السخاوي " فتح المغيث "(1).
4-ويضاف إلى ذلك: أن في رواية القرين عن قرينه إشارة إلى ما عند الشيخ منهما من بعض وجوه الترجيح: قال العراقي: فإن الإسناد الذي يحتج فيه قرينان، أو أحدهما أكبر ، والآخر من رواية الأصاغر عن الأكابر؛ إنما يقع ذلك غالبًا فيما إذا كانا عالميْن، أو حافظيْن، أو فيهما أو في أحدهما نوع من وجوه الترجيح ، حتى عدل الراوي عن العلو للمساواة أو النزول لأجل ذلك " .اهـ " التقييد "(2).
( تنبيه ) : يكون المدبَّج تارة مباشرة بدون واسطة - وهذا هو الأكثر - وتارة يكون بواسطة، كرواية الليث عن يزيد بن الهاد عن مالك، ورواية مالك عن يزيد عن الليث، انظر " القلائد العنبرية " للزبيدي(3).
معرفة المتفق والمفترق
قال الناظم – رحمه الله - :
28 - مؤتلف لفظًا وخطًا متفق ... وضده فيما ذكرنا المفترق
تكلم الناظم في هذا البيت على نوع من أنواع علوم الحديث، وهو " المتفق والمفترق " وهو خاص بالرواة، وهو قسم واحد لا قسمان ، كما يوهمه قول الناظم: " وضده فيما ذكرنا المفترق " وفي البيت تقديم وتأخير، وتقديره: الحديث المتفق والمفترق هو ما اتفق لفظه وخطه ، وافترقت مُسَمَّياتُه ، وسواء كان الاتفاق في الاسم، أو في الكنية، أو في النسب، ونحو ذلك، وهو الذي يتفق لفظًا وخطًّا .
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث المتفق والمفترق :
قال الحافظ ابن حجر " ثم الرواة إن اتفقت أسماؤهم، وأسماء آبائهم فصاعدًا، واختلفت أشخاصهم، فهو المتفق والمفترق " أهـ ملخصًا من " النزهة "(4).
__________
(1) 4 / 168 ، 171 – 172 ) .
(2) ص 335 ) .
(3) ص 94 ) .
(4) ص 175 ) .(1/275)
وقال السخاوي: " وهو مالفظه وخطه متفق، لكن مفترق إذا كانت مُسمياته لعدة اهـ من" فتح المغيث "(1).
فخلاصة الأمر: أن المتفق والمفترق : هو اتفاق الأسماء، أو الكنى،أو الأنساب، ونحو ذلك، مع اختلاف الأعيان، مثل الخليل بن أحمد: فهناك ستة أشخاص يُسَمَّوْن بهذا الاسم، إلا أن أشخاصهم مختلفة .
?المسألة الثانية : أقسامه :
1-أن تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم خاصة :
وذلك كالخليل بن أحمد، فهم ستة ، ومنهم شيخ سيبويه صاحب النحو والعروض .
2-أن تتفق أساؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم :
كأحمد بن جعفر بن حمدان وهم أربعة،وكلهم يرون عمن يُسَمَّى عبدالله، وفي عصر واحد، أحدهم: القطيعي أبو بكر، الذي يروي عن عبدالله بن أحمد بن حنبل .
3- ما اتفق في الكنية والنسبة :
كأبي عمران الجوني اثنان عبدالملك التابعي وموسى بن سهل البصيري .
4-ما اتفق في الاسم واسم الأب والنسبة :
وهما اثنان متقاربان في الطبقة ، وهما من الأنصار .
فالأول القاضي أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن المثنى بن عبدالله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري .
والثاني : أبو سلمة محمد بن عبدالله بن زياد الأنصاري البصري، ضعيف، وقد اشتركا في الرواية عن حميد الطويل، وسليمان التيمي، ومالك بن دينار، وقرة بن خالد .
5-أن تتفق كناهم وأسماء آبائهم :
كأبي بكر عياش ثلاثة ، ومنهم أبو بكر بن عياش سالم الأسدي الكوفي راوي قراءة عاصم .
6-أن تتفق أسماؤهم وكنى آبائهم – وهو عكس الخامس - كصالح بن أبي صالح، وهم أربعة، ومنهم : صالح بن أبي صالح المدني مولى أمه التوأمة أمية بن خلف الجمحي، يروي عن أبي هريرة وابن عباس وغيرهما من الصحابة .
وصالح بن أبي صالح ذكوان السمان يروي عن أنس .
7-أن تتفق أسماؤهم ، أو كناهم ، أن نسبتهم :
كحماد ، وهما اثنان: حماد بن زيد وحماد بن سلمة .
__________
(1) 4 / 267 ) .(1/276)
وعبدالله : قال سلمة بن سليمان : إذا قيل بمكة :عبدالله؛ فهو ابن الزبير، أو بالمدينة؛ فابن عمر، أو بالكوفة؛ فابن مسعود، أو بالبصرة ؛ فابن عباس، أو بخراسان ؛ فابن المبارك .
8-الاتفاق في النسب لفظًا، والافتراق فيه، أي أن ما نُسِبَ إليه أحدهما غير ما نسب إليه الآخر :
كالحنفي ، نسبة إلى بني حنيفة ، وإلى المذهب .
ومن الأول: أبو بكر عبدالكبير بن عبدالمجيد الحنفي ، وأخوه عبيدالله ، أخرج لهما الشيخان .
9-زاد السخاوي: أن يتفق اسم أب الراوي، واسم شيخه مع مجيئهما معًا مهملين من نسبةٍ يتميز أحدهما بها عن الآخر :
كالربيع بن أنس عن أنس، هكذا يأتي في الروايات، فَيُظَنُّ أنه يروي عن أبيه، كما وقع في "الصحيح" عن عامر بن سعد عن سعد ، وهو أبوه .
وليس أنس شيخ الربيع والده، بل أبوه بكري، وشيخه أنصاري، وهو أنس بن مالك الصحابي الشهير، وليس المذكور من أولاده اهـ ملخصًا من " فتح المغيث "(1).
(تنبيه ):يتضح مما سبق أنه يُشْتَرط في تسمية هذا النوع أن يكون الروة المتفقة أسماؤهم في طبقة واحدة .
قال السيوطي :" وإنما يحسن إيراد ذلك فيما إذا اشتبه الراويان المتفقان في الاسم لكونهما متعاصرين، واشتركا في بعض شيوخهما أو في الرواة عنهما" اهـ من " التدريب "(2).
?قال السخاوي: " والمهم منه من يكون في مظنة الاشتباه ؛ لأجل التعاصر، أو الاشتراك في بعض الشيوخ، أو في الرواة " اهـ وقال: " وتتبع المتباعدين في الطبقة ليس فيه كبير طائل " اهـ " فتح المغيث"(3).
?المسألة الثالثة : فائدة معرفة هذا النوع :
قال السخاوي - رحمه الله تعالى - :" وفائدة ضبطه:الأمْن مِنْ اللبس، فربما ظُنَّ الأشخاص شخصًا واحدًا ..... وربما يكون أحد المشتركيْن ثقة والآخر ضعيفًا، فيضعف ما هو صحيح، أو يصحح ما هو ضعيف " فتح المغيث "(4).
__________
(1) 4 / 284 ) .
(2) 2 / 820 ) .
(3) 4 / 272 ) .
(4) 4 / 266 – 267 ) .(1/277)
ولخَطَره قال ابن الصلاح :" وَزَلَق بسببه غير واحد من الأكابر، ولم يَزَلْ الاشتراكُ مِنْ مظان الغلط في كل عِلْم "اهـ(1).
( تنبيه ) : قال الحافظ ابن حجر بعد كلامه على هذا النوع :" وهذا عكس ما تقدم من النوع المسمى بالمهمل؛ لأنه يُخْشى منه أن يُظَن الواحد اثنين، وهذا يُخْشى منه أن يُظَن الاثنان واحدًا " اهـ(2).
( تنبيه آخر ): المهمل: هو أن يتفق راويان - أو أكثر - في الاسم ولم يتميزا بما يخص كلاً منهما .
مثاله : ما وقع في صنيع البخاري من روايته عن أحمد غير منسوب عن ابن وهب، فإنه إما أحمد بن صالح ، أو أحمد بن عيسى، فهذا هو المهمل ، والله أعلم(3).
معرفة المؤتلف والمختلف
قال الناظم – رحمه الله - :
29 - مُؤْتَلِفٌ متفقُ الخطِّ فَقَطْ ... وضِدُّه مُخْتَلِفٌ فاخْشَ الغَلَطْ
شرع الناظم في تبيين نوع قريب من النوع الذي قبله ، وهو "المؤتلف والمختلف" إلا أن عبارة الناظم توهم بأنهما قسمان لا قسم واحد ، فقوله " وضده ..." يوهم بأن المؤتلف قسم ، والمختلف قسم ، والحقيقة أنهما قسم واحد ، فتنبه .
وقوله: " فاخش الغلط " أي احذر من الوقوع في التصحيف ، فإنه فنٌّ مهم لا يدخله القياس ، وليس قبله شيء يدل عليه ولا بعده ، حتى يُحْكَم في ذلك بالسياق .
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?الأولى : تعريف المؤتلف والمختلف :
وهو:" ما اتفقت في الخط صورته ، واختلفت في اللفظ صيغته" .
مثاله : سلاَّم وسلام ، عُمارة وعِمارة ، حزام وحرام ، عباس وعياش . . . الخ .
فأنت ترى كيف اتفقت هذه الأسماء في الخط ، واختلفت في النطق .
?المسألة الثانية : صُوَر المؤتلف والمختلف :
للمؤتلف والمختلف صور متعددة ، منها :
1-المؤتلف في صورة حروفه ، والمختلف في شكله أو ضبطه:
__________
(1) انظر " المقدمة " ( ص 404 – 406 ) مع " التقييد " .
(2) انظر " النزهة " ( ص 176 ) .
(3) انظر " النزهة " ( ص 163 – 164 ) .(1/278)
مثاله :" سَلاَّم " و" سلام " فاختلف الثاني عن الأول بالشكلة، وهي الشَّدة في اللام، ومثله: " بَشير "و " بُشَيْر " و " حَميد " و"حُمْيد " .
2-المؤتلف في صورة حروفه ، والمختلف في إعجامها :
مثل: " خازم " و" حازم " و" حُضَيْن " وحُصَيْن " .
3-المؤتلف في صورة الخط ، والمختلف في بعض الحروف :
4-مثل: " حبَّان " و " حيَّان " اتفقا في صورة الخط ، إلا الباء الموحدة ، والمثناة التحتية .
?المسألة الثالثة : أقسامه من حيث إمكان ضبطه وعدمه :
ينقسم المؤتلف والمختلف إلى قسمين :
1-ما ينضبط لقلة استعمال أحد المشتبهيْن .
2-مالا ضابط له يُرجَعْ إليه لكثرته ، وإنما يُعْرَف ذلك بالنقل والحفظ: "كأسِيْد" و " أُسَيد "و"حِبَّان " وحَبَّان " و "حيَّان " .
فالذي له ضابط ينقسم إلى ذكرهما ابن الصلاح وغيره ، وهما :
1-ماله ضابط على العموم: بأن يقال: ليس في الاسم الفلاني،على الوجه الفلاني، إلا كذا،والباقي كذا .
مثاله: " سلاَّم " كله مشدد إلا خمسة وهم :
أ-والد عبدالله بن سلام .
ب-ومحمد بن سلاَم البخاري - على الصحيح - .
ج-وسلام بن محمد بن ناهض .
د-وجَدُّ محمد بن عبدالوهاب بن سلاَم المعتزلي الجُبَّائي .
هـ - وسَلام بن مشكم .
2-ماله ضابط على الخصوص "بالصحيحين" و"الموطأ"بأن يقال : ليس في الكتب الثلاثة فلان إلا كذا .
مثاله :" يَسار " كله بالمثناة، ثم المهملة، إلا محمد بن بشار؛ فبالموحدة والمعجمة، وفيهما سيار بن سلامة وابن أبي سيار - بتقديم السين - "اهـ " ملخصًا من كلام ابن الصلاح في " المقدمة "(1).
?المسألة الرابعة: أهمية العلم بهذا النوع :
قال ابن الصلاح:" هذا فَنٌ جليل ، من لم يعرفْهُ من المحدثين؛ كثر عِثَاُره ، ولم يُعْدَم مخجَّلاً ، وهو منتشر لا ضابط لأكثره يُفْزَع إليه ، وإنما يضبط بالحفظ تفصيلاً " اهـ(2).
__________
(1) ص 381 – 390 ) مع " التقييد " .
(2) ص 381 ) مع " التقييد " .(1/279)
قال الحافظ ابن حجر :" ومعرفته من مهمات هذا الفن ، حتى قال علي بن المديني :" أشد التصحيف ما يقع في الأسماء " وَوَجَّهَه بعضهم بأنه شيء لا يَدْخُلُه القياس،ولا قبله شيء يدل عليه ولا بعده "اهـ(1).
( فائدة ) : أول من صَنَّفَ في " المؤتلف والمختلف " هو أبو جعفر محمد بن حبيب البغدادي في كتاب " المؤتلف والمختلف " في أسماء القبائل، إلا أنه عام، أما أول من أَلَّف في المؤتلف والمختلف فيما يتعلق بأسماء المحدثين: هو عبدالغني بن سعيد .
( تنبيه ) : هناك نوع يُذْكَر مع النوعين المتقدمين، هو ما يُسَمَّى بـ " المتشابه " وهو يتركب من النوعين اللذين قبله .
وتعريفه : هو أن تتفق الأسماء خطًّا ونطقًا وتختلف الآباء نطقًا مع ائتلافهما خطًّا كمحمد بن عقيل - بفتح العين - ومحمد بن عُقيل – بضمها - .
الأول: نيسابوري، والثاني: فريابي، وهما مشهوران وطبقتهما مُتقاربة "
أو بالعكس كأن تختلف الأسماء نطقًا وتأتلف خطًا ، وتتفق الآباء خطًا ونطقًا ، كشريح بن النعمان ، وسريج بن النعمان، الأول: بالشين المعجمة والحاء المهملة وهو تابعي يروي عن علي رضي الله عنه والثاني: بالسين المهملة والجيم، وهو من شيوخ البخاري .
وكذا إن وقع ذلك الاتفاق في الاسم واسم الأب والاختلاف في النسبة .
( تنبيه آخر ): كيف يمكن الحذر من الزلل والخطأ في هذه الأنواع ؟
يُتَّقى الغلط والزلل في هذه الأنواع بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في هذه الأنواع .
وبالتلقي عن الشيوخ ، والحفظ والإتقان ، والله أعلم . اهـ
معرفة المنكر
قال الناظم – رحمه الله - :
30- والمنْكَرُ الفَرْدُ به راوٍ غَدَا ... تعديلُه لا يَحْمِلُ التَّفَرُّدَا
لما انتهى الناظم من تعريف المؤتلف والمختلف ؛ عَرَّفَ المنكر - وكان الأولى به أن يجعله بعد الشاذ، بجامع المخالفة أو التفرد والله أعلم - .
__________
(1) " النزهة " ( ص 176 – 177 ) .(1/280)
وقد ظهر من هذا البيت أن الراوي إذا تفرد برواية، وكان هذا الراوي قد عُدِّل تعديلاً خفيفًا، إلا أنه لا يُحْتَمَل منه التفرد ، أو لا يُقْبَل منه التفرد، ولم يُتَابَع على ذلك ؛ فإن روايته يُطلق عليها : أنها رواية منكرة ، وسيأتي تفصيل ذلك - إن شاء الله تعالى - .
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف المنكر :
تعريف المنكر لغة : هو اسم مفعول من أنكره بمعنى جحده، أو لم يعرفه، يقال: أنكرته إنكارًا خلاف عَرَفْته .
تعريفه اصطلاحًا :
نظرًا لاختلاف استعمال المتقدمين للمنكر، وإطلاقهم النكارة على أمور مختلفة؛ فقد اختلفت كلمة العلماء في تعريف المنكر من الجهة الاصطلاحية ، وذلك على وجوه :
1-تعريف أبي بكر البرديجي :
من نظر فيما نقله الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - من كلام البرديجي؛ يظهر له أن البرديجي يُطْلق المنكر على ثلاثة معان :
أ-التفرد من الثقة الحافظ: وهو صحيح عنده في هذه الحالة، والدليل في ذلك قول البرديجي: " إن المنكر: هو الذي يُحَدِّث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، لا يُعْرَف ذلك الحديث ـ وهو متن الحديث ـ إلا من طريق الذي رواه ؛ فيكون منكرا " اهـ .
قال ابن رجب معلقًا على كلام البرديجي هذا :" ذكَرَ هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة، أو سعيد بن أبي عروبة، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة، ولا يُعْرَف المتن من غير ذلك الطريق؛ فهو منكر اهـ(1).
فهذا واضح في إطلاق النكارة على تفرد الثقة الحافظ، والدليل على تصحيح البرديجي لذلك؛ قوله: " شعبة ، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس: صحيح" اهـ(2).
__________
(1) " شرح علل الترمذي " ( 1 / 450 – 451 ) .
(2) " شرح علل الترمذي " ( 2 / 504 ) .(1/281)
ب-التفرد من الشيوخ، وهم من دون الأئمة الحفاظ، وفيهم الثقة وغيره: والدليل على ذلك قول البرديجي: " وأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ: مثل حماد بن سلمة، وهمام، وأبان، والأوزاعي؛ يُنْظَر في الحديث: فإن كان الحديث يُحْفَظُ من غير طريقهم عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أو عن أنس بن مالك من وجه آخر؛ لم يُدْفَع، وإن كان لا يُعْرَف عن أحد عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرتُ لك ؛ كان منكرا" اهـ(1).
ج- إطلاق النكارة على الوهم والمخالفة : قال ابن رجب :" وقال ـ أي البرديجي ـ في حديث رواه عَمْرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – إني أصَبْتُ حدًّا، فأَقِمْه عليَّ ...." الحديث قال البرديجي: هذا عندي حديث منكر، وهو عندي وهم من عَمْرو بن عاصم .
قال ابن رجب : ونَقَل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: هذا حديث باطل بهذا الإسناد(2)اهـ .
فكلام أبي حاتم يدل على أن وهم عَمْرو بن عاصم كان بسبب مخالفة من روى الحديث بغير هذا الإسناد ، والله أعلم .
2-المنكر عند الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - : راجع إلى المخالفة، وللمخالفة مراتب، ويُحْكَم على الراوي بقدر مخالفته :
قال - رحمه الله تعالى - في " مقدمة الصحيح "(3):" وعلامة المنكر في حديث المحدِّث: إذا ما عُرِضَتْ روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى؛ خالفتْ روايتُهُ روايتَهُمْ، أو لم تكدْ توافقها، فإن كان الأغلب من حديثه كذلك؛ كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا مستعمله " (5) .
__________
(1) "شرح علل الترمذي " ( 1 / 452 ) .
(2) " شرح علل الترمذي " ( 1 / 452 ) .
(3) 1 / 7 ) .(1/282)
قال الحافظ في "النكت"(1):"فالرواة الموصوفون بهذا ـ أي من غلب على حديثهم النكارة ـ هم المتروكون" قال:" فعلى هذا رواية المتروكين عند مسلم تسمى منكرة، وهذا هو المختار" وقال في " النزهة "(2):" فمن فحش غلطه، أو كثرت غفلته، أو ظهر فسقه؛ فحديثه منكر على رَأْيٍ " أهـ .
وهذا عام يشمل المنكر والشاذ،" ومن نظر في "العلل" لابن أبي حاتم؛ وجد إطلاق أبي حاتم وغيره النكارة على رواية ثقة خالف من هو أوثق منه ، والله أعلم .
قال الزركشي في " نكته "(3):" ومن تأمل كلام الأقدمين من أهل الحديث؛ وَجَدَهم إنما يطلقون النكارة على الحديث الذي يخالف رواية الحفاظِ المتقنين " اهـ . ثم ذكر كلام مسلم السابق .
3-المنكر عند ابن الصلاح :
قال - رحمه الله تعالى - المنكر ينقسم إلى قسمين :
أ-وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات . اهـ
ب-وهو الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والإتقان ما يحتمل معه التفرد أهـ وهذا ما يُسَمَّى بالضعيف ، وهذا التعريف هو الذي استعمله الناظم ، والله أعلم .
4-المنكر عند الحافظ ابن حجر :
قال الحافظ في " النزهة "(4):" فإن وقعت المخالفة مع الضعف؛ فالراجح يقال له: المعروف، ومقابله يقال له: المنكر .... اهـ .
فظهر من هذا أن الحافظ يشترط للمنكر شرطين :
1- ضعف راويه .
2- مخالفته لمن هو أرجح منه .
ولا شك أن الضعيف إذا خالف المقبول؛ فهو منكر ، لكن هل يُحْصَر المنكر في ذلك ؟
والجواب : أنه لا يُحْصَر في ذلك .
__________
(1) 2 / 675 ) .
(2) ص 123 ) .
(3) 2 / 156 ) .
(4) ص 98 ) .(1/283)
بل الحافظ نفسه قد صرح بالنكارة على مجرد تفرد الضعيف، وعزا ذلك لكثير من المحدثين، وعَدَّ ذلك أحد قسمي المنكر ، فقال:" وأما إذا انفرد المستور، أو الموصوف بسوء الحفظ، أو الضعيف في بعض مشايخه دون بعض ، بشيء لا متابع له ولا شاهد؛ فهذا أحد قسمي المنكر الذي يوجد في إطلاق كثير من أهل الحديث " أهـ من " النكت "(1).
ونقل الحافظ كلام ابن الصلاح، حيث قال :" وإطلاقُ الحكم على التفرد بالرد، والنكارة، والشذوذ: موجود في كثير من كلام أهل العلم " اهـ .
ثم قال معلقًا على ذلك:" وهذا مما ينبغي التيقظ له، فقد أطلق الإمام أحمد، والنسائي، وغير واحد من النقاد لفظ "المنكر" على مجرد التفرد، لكن حيث لا يكون المتفرد في وَزْنِ مَنْ يُحْكَم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده " اهـ(2).
فظهر من هذا أن الحافظ لا يمنع من وَصْفِ رواية الضعيف إذا تفرد بالنكارة ، نعم لقد اعتمد الحافظ في المنكر قيد المخالفة ـ فقال بعد كلامه في القسم الأول في تفرد المستور، وسيء الحفظ والضعيف:" وإن خولف؛ فهو القسم الثاني، وهو المعتمد على رأي الأكثرين" اهـ(3).
ومما سبق يتضح أن المنكر عند الأئمة يُسْتَعمل في عدة معانٍ :
1- تفرد المتروك، وهو من غَلَبَتْ على حديثه النكارة، وهذا مأخوذ من كلام مسلم - رحمه الله تعالى - وهذا لا يستشهد به .
2- محالفة الضعيف لمن هو أرجح منه، كما اعتمده الحافظ، وعزاه للأكثر، ولا يستشهد بمن كان كذلك .
3- تفرد الضعيف، وقد عزاه الحافظ لكيثر من المحدثين، وهذا يُسْتَشهد به .
4- مخالفة المقبول لمن هو أوثق منه، وهو كلام ابن الصلاح ، ويشهد له بعض كلام أبي حاتم وغيره ، وهو الشاذ - على هذا الاستعمال - وهذا لا يُستشهد به .
__________
(1) 2 / 675 ) .
(2) 2 / 674 ) .
(3) 2 / 675 ) .(1/284)
5- تفرد الشيوخ ـ وهم من دون الحفاظ، وفيهم الثقة ومن دونه، وهذا بعض كلام البرديجي – ويختلف حكمه - بحسب حال المتفرد فمنه المقبول بذاته ، ومنه الذي يستشهد به .
6- تفرد الأئمة الحفاظ - وإن حُكِمَ بصحته - وهذا بعض كلام البرديجي .
( فائدة ) : بعد ذكْر ما تقدم ؛ فمن تأمل في استعمال الأئمة للفظ النكارة ؛ وجدهم يطلقونها في أمور، منها :
1- مخالفة الرواية لما هو مشهور من قواعد الشريعة، أو لما هو مشهور عند المحدثين ، أو مخالفتها لما هو في الباب، وكل هذا لا يلزم منه اتحاد مخرج الحديث، وأما مخالفة الراوي لمن شاركه في شيخه؛ فهذا لا إشكال فيه .
2- تطلق النكارة – أيضًا - على الأحاديث المكذوبة .
3- تطلق النكارَة ويُراد بها المدح، ويكون المراد: أن الراوي لا نظير له، قال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: إن ابن مهدي يُثَبِّتُ القاسم بن الفضل ؟! قال: ذاك منكر الحديث، وَجَعَل يُثْني عليه اهـ . قال أبو داود: كان صاحب حديث، قال يحيى: كان مُنْكرًا، يعني من فطنته أهـ من" تهذيب التهذيب " ترجمة القاسم(1).
( فائدة أخرى ): قال السيوطي:" ولا يلزم من شذوذ السند ونكارته وجود ذلك الوصف في المتن" اهـ " التدريب "(2).
أي أن المتن قد يكون مشهورًا من روايات أخرى، وقد يحكم على راوٍ بأنه شذ في سند معين، أو في سياق معين، وأما أصل الحديث فمشهور، والناظر في كتب العلل يجد من ذلك الشيء الكثير، فعليه بالتأني قبل جعل الحكم الخاص عامًّا ، والله اعلم .
( فائدة أخيرة ): هناك من يُطلق القول بأن المتقدمين يطلقون النكارة على مجرد التفرد فقط، كاللكنوي، والتهانوي،وغيرهما، وهناك من الأئمة من قد يُفْهَم من كلامه أن القطان، وأحمد، والنسائي، والبرديجي، يريدون بإطلاق النكارة التفرد .
__________
(1) 8 / 329 ) .
(2) 1 / 239) .(1/285)
والواقع أن من نظر في كلام هؤلاء وغيرهم من المتقدمين وجدهم يطلقون ذلك على الجرح الشديد، وعلى الخطأ والوهم، ويطلقون ذلك أيضًا على التفرد ، والأصل في إطلاق الأئمة هؤلاء وغيرهم النكارة على الجرح لامجرد التفرد ، فلا بد من التأني في الأمر ، والله أعلم .
معرفة المتروك من الحديث
قال الناظم – رحمه الله - :
31 - مَتْرُوكُهُ ما واحدٌ بِهِ انفَرَدْ ... وأجْمعُوا لضِعْفِهِ فَهْوَ كَرَدْ
شرع الناظم في الكلام على الحديث المتروك، وهو نوع مستقل، ذكره الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في "النخبة" وكذا السيوطي في "الألفية" وسماه الذهبي في الموقظة بـ " المطرَّح " ولم يذكره ابن الصلاح ، ولا النووي ، ولا العراقي في ألفيته .
وقوله: " فَهُوَ كَرَدْ " إما أن يقال: أي كالمردود في عدم الاستشهاد به، أو يقال: الكاف زائدة ، والله أعلم .
وتحت هذا البيت عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث المتروك :
لغة : اسم مفعول مِنْ تَرك يترك تركًا تِرْكانًا ـ بالكسر ـ .
والتَّرِيكة ـ كسفينة ـ البيضة بعد أن يخرج منها الفرخ ؛ والتريك :
العنقود إذا أُكِلَ ما عليه، فهي فعلية بمعنى مفعول ، فكل هذه متروكة؛ لأنها لا فائدة فيها اهـ من " القاموس " مادة " ترك " .
اصطلاحًا :- عَرَّفه الناظم بأنه:" ما انفرد به راوٍ مُجْمَعٌ على ضَعْفِه" وكذا عَرَّفه عزالدين ابن جماعة في " شرح منظومة ابن فرج الاشبيلي "(1).
وفي هذا نظر، ومنشأ ذلك: أنه لا يلزم من كون الراوي مجمعًا على ضعفه؛ أن يكون متروكًا ، فالمُجْتمع على ضعْفه : هو من اتفق العلماء على أنه ضعيف ، وقد يكون ضعيفًا ضعْفًا ينجبر ، وقد يكون ضعيفًا ضعفًا لا ينجبر، والله أعلم .
وعلى ذلك فانفراد الضعيف بالحديث لا يجعل حديثه متروكًا.
__________
(1) انظر " خلاصة الفِكَر ، شرح المختصر ، في مصطلح أهل الأثر " للشنشوري ( ص 104 ) .(1/286)
وعرف الذهبي الحديث المتروك أو المطّرح ، بأنه:" ما انحط عن رُتبة الضعيف" اهـ من " الموقظة "(1)وهو تعريف غير مانع ؛ فإن الموضوع كذلك أيضًا .
وعرفه الحافظ ابن حجر بأنه:" الحديث الذي في إسناده راوٍ متهم بالكذب"(2).
قلت: لا يُشْتَرط في راوي المتروك أن يكون متهمًا بالكذب، فقد يكون ضعيفًا جدًّا، أو فاحش الغلط، أو شديد الغفلة، أو فاسقًا، فانفراد من كان كذلك بحديث يجعله متروكًا، انظر " النزهة "(3)وزاد السيوطي في " التدريب "(4)بعد كلام الحافظ:" أو كان – أي راوي الحديث المتروك - كثير الغلط ، أو الفسق ، أو الغفلة " وكذا ذكر العلامة أحمد شاكر - رحمه الله تعالى – في شرحه على ألفية السيوطي(5)وقد سبق الحافظ في " شرح النزهة " جعل الثلاثة هذه من قسم المنكر، انظر "النزهة"(6).
وعندي: أن المتروك:" هو انفراد ضعيف ضعفًا لا ينجبر برواية؛ مالم يكن كذابًا" فيدخل في ذلك من كان مردود الرواية ، ضعيفًا جدًّا ، وكذا من كان متروكًا لفحش تخاليطه ، أو لفسقه، أو لكونه داعيًا إلى بدعة - على تفاصيل في ذلك - أو مُصِرًًّا على الخطأ، معاندًا للأئمة، أو لتهمة بالكذب ، ونحو ذلك ، هذا في الأصل؛ وإلا فقد يطلقون المتروك على المنكر ، وعلى حديث الكذاب ، والله اعلم .
?المسألة الثانية : مرتبة الحديث المتروك ، وحُكْم العمل به :
الحديث المتروك من أردأ أنواع الضعيف ، فهو يلي الموضوع في شدة الضعف ، كما رتبه الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - وعلى ذلك فهو لا يصلح في الشواهد والمتابعات، انظر " التدريب "(7).
?المسألة الثالثة :- إطلاق المتروك على غير المعنى الاصطلاحي :-
قد يطلقون " المتروك " بمعنى المنسوخ، فيراد به ترك العمل ، لا ترك الرواية .
__________
(1) ص 34 ) .
(2) " النزهة" ( ص 122 ) .
(3) ص 122 )
(4) 1 / 241 ) .
(5) ص 23 ) .
(6) ص 122 – 123 ) .
(7) 1/ 295).(1/287)
قال: ابن عبدالبر: " خبر ابن عباس في رد أبي العاص إلى زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - خبر متروك " لا يجوز العمل به عند الجميع " .
ويعني بقوله: " متروك " أي منسوخ، فقد قال قبل هذا عن هذا الحديث نفسه :" وهذا الخبر ـ وإن صح ـ فهو متروك منسوخ عند الجميع " أهـ من " التمهيد "(1).
معرفة الموضوع
قال الناظم – رحمه الله - :
32- والكذب المختلق المصنوع ... على النبي فذلك الموضوع
تكلم الناظم - رحمه الله تعالى - في هذا البيت على الحديث الموضوع مبيِّنًا حَدَّه .
وقوله: " المخْتَلَق المصنوع " أي الذي ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أصلاً، وإنما افتعله الكذاب مِنْ قبَلِ نفسه، وعزاه إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أو رواه كذلك مغفَّلٌ لم يعلم بحاله .
والمخْتَلَق، والموضوع، والمصنوع: ألفاظ مترادفة، معناها واحد، وجيء بهذه الألفاظ المتقاربة للتأكيد في التنفير منه .
وهذا ترتيب حسن من الناظم: حيث جعل الكلام في بداية المنظومة على أفضل الأنواع، وأشرفها، وهو الحديث الصحيح، وختمه بأردأ الأنواع، وهو الحديث الموضوع، ولعله أخره لتأخير رُتْبَتِه ومرتبة راويه ، والله أعلم .
والكلام على هذا النوع يكون في عدة مسائل :
?المسألة الأولى : تعريف الحديث الموضوع :
الموضوع لغة: للوضع عدة معانٍ - منها الافتراء ، والاختلاق، كوضع فلان هذا القصة:- أي اختلقها وافتراها قال ابن منظور: " ووضع الشيء وضعًا اختلقه"(2).
واصطلاحًا : عرفه الناظم بأنه هو الكذب المختلَق المصنوع على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وقد سبقه إلى هذا ابن الصلاح ، حيث قال: " وهو المخْتَلَق المصنوع "(3).
فقوله: " المخْتَلَق " أخرج مالم يكن عن عمد ، فلا يسمى موضوعًا على ذلك .
__________
(1) 12 / 20 – 24 ) .
(2) " لسان العرب "( 8 / 397 ) مادة : " وضع " .
(3) في " المقدمة " ( ص 130 ) مع " التقييد " .(1/288)
والصواب: أن الموضوع: " هو المكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – " سواء تعمد ذلك راويه ، أو أخطأ في ذلك ، فإن الرجل المغفَّل فاعل قد يشتبه عليه الأمر، ويذكر أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ليست من كلامه، إلا أنه شُبِّه عليه ، هذا من حيث وصف الحديث بأنه موضوع، أما الراوي فلا يلزم من ذلك أن يُوصَف بأنه وضَّاع، إلا إذا كان متعمدًا لذلك ؛ فوضَّاع ولا كرامة .
وعَرّف الذهبي الموضوع في " الموقظة "(1)بقوله:" ما كان متنه مخالفًا للقواعد، وراويه كذابًا" اهـ وهذا ليس بلازم في تعريف الموضوع ، والله أعلم .
وكذلك قول من قال: " إذا رأيتَ الحديث يباين المعقول - أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول؛ فاعلم أنه موضوع "(2).
?المسألة الثالثة : الأسباب الحاملة على الوضع :
سبق أن سوء الحفظ قد يُوقِع صاحبه في الوضع من حيث لا يشعر، وهناك أسباب حملت أهل الوضع على تعمد وضع الأحاديث على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - منها :
1- الزندقة والطعن في الدين: ومن ذلك ما جاء عن ابن أبي العوجاء لما أُتي به إلى محمد بن سليمان بن علي فأمر بضرب عنقه، فلما أيقن بالقتل؛ قال: والله لقد وَضَعْتُ فيكم أربعة آلاف حديث، أُحَرِّم فيها الحلال، وأُحِلُّ فيها الحرام، لقد فطَّرتكم في يوم صومكم، وصَوَّمْتُكم في يوم فطركم " اهـ من " الموضوعات " لابن الجوزي(3).
2- التعصب لرأي أو مذهب: كما فَعَلَت الرافضة في وضع الأحاديث في فضل علي - رضي الله عنه - وآل البيت، وعليٌّ له مناقب كثيرة وشهيرة ، فقد أغناه الله عن كذب الروافض .
__________
(1) ص 36 ) .
(2) قاله ابن الجوزي ، وانظر " التدريب " ( 1 / 277 ) .
(3) ص 18 ) .(1/289)
3- العصبية للجنس، والقبلية، واللغة، والوطن، كما وضع الشعربيّون حديث :" إن الله أنزل الوحي بالعربية ، وإذا رضي أنزل الفارسية" وكذا مَنْ وَضَع من العرب: " أبغض الكلام إلى الله تعالى بالفارسية، وكلام الشيطان الخوزية، وكلام أهل النار البخارية، وكلام أهل الجنة العربية" .
كما وضع ميسرة بن عبدربه أربعين حديثًا في فضل قزوين .
4- قال ابن حبان: ومنهم من استفزه الشيطان، حتى كان يضع الحديث على الشيوخ الثقات في الحث على الخير، وذكر الفضائل، والزجر عن المعاصي، والعقوبات عليها؛ متوهمين أن ذلك مما يؤجرون عليه ثم ساق سنده إلى عبدالرحمن بن مهدي أنه قال لميسرة بن عبدربه - وكان ممن يضع الحديث -: من أين جِئْتَ بهذه الأحاديث :" من قرأ كذا؛ فله كذا "؟! قال: وضَعْتُها أُرَغِّب الناس فيها " اهـ وانظر " المجروحين لابن حبان "(1).
5- قصد التكسب وطلب المال والتزلف للحكام :
كما رُوي في قصة حفص بن غياث حين دخل على المهدي، فوجده يلعب بالحمام، فساق في الحال إسنادًا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال :" لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ ، أو خُفٍ ، أو حافر ، أو جناح " فزاد في الحديث أو " جناح " فعرف المهدي أنه كذب لأجله، فذبح الحمام اهـ من " الميزان "(2).
6- المصالح الشخصية: كالانتقام والانتصار للنفس، والترويح لما يبيعه من بضاعة،ومثاله: مارواه ابن حبان بإسناده عن سيف بن عمر التميمي، قال: كنا عند سعد بن طريف الإسكاف، فجاء ابنه يبكي، فقال مالَكَ ؟! قال : ضَرَبَني المعلِّم، فقال " أما والله لأُخْزِيَنَّهُم حدثني عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " معلِّمُوا صبيانِكم شرارُكُم، أَقَلُّهم رحمةً لليتيم، وأغلظهم على المسكين " .
ومثال الثاني صاحب الهريسة :
__________
(1) 1 / 64 ) .
(2) 3 / 338 ) .(1/290)
7- قَصْد الاشتهار: قال ابن الجوزي(1): القسم السادس في قوم وضعوا أحاديث قصدًا للإغراب ليُطْلَبُوا، أو ليُسْمَع منهم .
قال أبو عبدالله الحاكم: " منهم إبراهيم بن اليسع بن أبي حية، كان يحدث عن جعفر الصادق، وهشام بن عروه، فيركِّب حديث هذا على حديث ذلك ؛ ليستغرب تلك الأحاديث بتلك الأسانيد .
8- ومنهم من استجاز وضع الأسانيد لكل كلام حَسَنٍ في المعنى .
?المسألة الثالثة: أقسام الرواة الذين وقع في حديثهم الحديث المكذوب :
قال ابن الجوزي(2)- رحمه الله تعالى - :" واعلم أن الرواة الذين وقع في حديثهم الموضوع، والكذب ، والمقلوب ؛ انقسموا إلى خمسة أقسام :
القسم الأول: قوم غَلَبَ عليهم الزهد والتقشف، فغفلوا عن الحفظ والتمييز، ومنهم من ضاعتْ كتبه، أو احترقتْ، أو دفنها، ثم حَدَّث مِنْ حفظه فغلط.
فهؤلاء تارة يرفعون المرسل، وتارة يُسْنِدون الموقوف، وتارة يَقْلِبون الإسناد، وتارة يُدْخِلُون حديثاً في حديث .
القسم الثاني: قوم لم يعانوا علم النقل، فكثر خطؤهم وفَحُشَ، على نحو ما جرى للقسم الأول.
القسم الثالث: قوم ثقات، لكنهم اختلطت عقولهم في أواخر أعمارهم، فخلطوا في الرواية.
القسم الرابع: قوم غلبت عليهم البلاهة والغفلة، ثم انقسم هؤلاء: فمنهم من كان يُلَقَّن فيتلقن، ويقال له: قُلْ، فيقول، وقد كان بعض أولاد هؤلاء، أو وَرَّاقه يضع له الحديث فيرويه، ولا يعلم، ومنهم من كان يروي الحديث وإن لم يكن سماعاً له، ظنًّا منه أن ذلك جائز، وقد قيل لبعض المغفلين: هذه الصحيفة سماعك؟ فقال: لا، ولكن مات الذي رواها فرويتها مكانه.
القسم الخامس: قوم تعمدوا الكذب ، ثم انقسموا هؤلاء ثلاثة أقسام:
أ-قوم روَوْا الخطأ من غير أن يعلموا أنه خطأ، فلما عرفوا الصواب، وأيقنوا به؛ أَصَرُّوا على الخطأ، أَنَفَةً أن يُنْسَبوا إلى غلط.
__________
(1) " الموضوعات " ( 1 / 27 – 28 ) .
(2) " الموضوعات " ( 1 / 15 – 17 ) .(1/291)
ب- قوم رووا عن كذابين وضعفاء وهم يعلمون، ودلَّسوا أسماءهم، فالكذب من أولئك المجروحين، والخطأ القبيح من هؤلاء المدلسين.
ومن هذا القسم: قوم رووا عن أقوام ما رأوهم، مثل إبراهيم بن هدبة عن أنس، ويحدث عن شريك، فقيل له حين حَدَّث عن أنس: "لعلك سمعته من شريك؟ فقال: أقول لك الصِّدْق ؟ سمعت هذا من أنس بن مالك عن شريك !! وقد حدث عبدالله بن إسحاق الكرماني عن محمد بن أبي يعقوب، فقيل له: مات محمد قبل أن تولد بتسع سنين، وحدث محمد بن حاتم الكشي عن عبد بن حميد، فقال أبو عبد الله الحاكم: هذا الشيخ سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.
ج- قوم تعمدوا الكذب الصريح، لا لأنهم أخطؤوا، و لا لأنهم رووا عن كذاب، وهؤلاء تارة يكذبون في الأسانيد، فيروون عمن لم يسمعوا منه، وتارة يسرقون الأحاديث التي يرويها غيرهم، وتارة يضعون أحاديث، وهؤلاء الوضاعون انقسموا ثمانية أقسام .... ثم ذكرهم بنحو ما سبق.
?المسألة الرابعة: كيف يُعْرَف الوضع في الحديث :
قال الحافظ ابن حجر :" والحكم عليه - أي على الحديث بالوضع - إنما هو بطريق الظن الغالب،لا بالقطع، إذْ قد يَصْدُق الكذوب، لكن لأهل العلم بالحديث مَلَكَة قوِّية يُميزون بها ذلك، وإنما يقوم بذلك منهم من يكون إطلاعه تامًّا، وذهنه ثاقبًا، وفهمه قويًا، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكنة اهـ من " النزهة "(1).
قلت : والقرائن التي يُعْرَف بها الحديث الموضوع ترجع إلى أمرين :
الأمر الأول : بالنظر إلى الراوي : الثاني: النظر إلى المروي .
أما الأول - وهو نادر كما قال الحافظ - فيدرك بأمور :
1- أن يقرَّ واضعه بالوضع، قال ابن دقيق العيد:" لكن لا يُقْطَع بذلك؛ لاحتمال أن يكون كَذَبَ في ذلك الإقرار "(2).
__________
(1) ص 118 ) .
(2) " الاقتراح " ( ص 229 ) .(1/292)
قال الحافظ:" وفَهِمَ منه بعضهم: أنه لا يُعْمَل بذلك الإقرار أصلاً، وليس ذلك مراده؛ وإنما نفى القطع بذلك، ولا يلزم من نَفْيِ القطع نَفْيُ الحكم؛ لأن الحكم يقع بالظن الغالب، وهو هنا كذلك ، ولولا ذلك لما ساغ قتْل المقر بالقتل ، ولا رجم المعترف بالزنا؛ لاحتمال أن يكونا كاذبيْنِ فيما اعترفا به" اهـ " النزهة "(1).
2-ما يُنَزَّل مَنْزِلة إقرار الوضع :
ومنه قرائن ترجع إلى حال الراوي، وقرائن ترجع إلى حال الراوي.
فما يرجع إلى حال الراوي: ما قال العراقي:" هو كأن يُحّدِّث مُحَدِّثٌ عن شيخ، ثم يذكر أن مولده في تاريخ يُعْلَم تأخره عن وفاة ذلك الشيخ، ولا يُوجد ذلك الحديث إلا عنده، فهذا لم يَعْتَرِفْ بوضعه، ولكن اعترافه بوقت مولده يُنَزَّل مَنْزِلة إقراره بالوضع .
ومن أمثلة ذلك : ما رواه البيهقي في " المدخل "بسند صحيح : أنهم اختلفوا في حضورأحمد بن عبدالله الجويباري في سماع الحسن من أبي هريرة –رضي الله عنه– فروى لهم حديثًا بسنده إلى النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم –قال : " سمع الحسن من أبي هريرة " اهـ(2).
3- أن يكون في السند كذاب، ولا يُرْوى الحديث إلا من طريقه، أو يقال: انفراد كذاب بحديث؛ يدل على أنه موضوع، لاسيما إذا انفرد به عن إمام مشهور بكثرة الحديث،والأصول، والتلاميذ .
وأما مجرد وجود كذاب في السند؛ فلا يلزم من ذلك الوضع؛ لاحتمال أنه ادعى سماع حديث غيره، والحديث مشهور عند غيره، انظر كلام العراقي في " شرح الألفية "(3).
ثانيًا: بالنظر إلى حال المروي - وهذا هو الأغلب في معرفة الوضع، كما قال الحافظ - فهناك علامات كثيرة يُعْرَف من خلالها أن هذا ليس من قول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - منها :
__________
(1) " ص 188 – 119 ) وانظر " النكت " ( 2 / 840 – 841 ) .
(2) انظر " النكت " ( 2 / 842 ) .
(3) 1 / 261 ) .(1/293)
1- منها ركاكة اللفظ وسماجته، قال ابن دقيق العيد: " وأهل الحديث كثيرًا ما يَحْكُمون بذلك: باعتبار أمور ترجع إلى المروي، وألفاظ الحديث، وحاصله: أنهم لكثرة ممارستهم لألفاظ الحديث؛ حصلت لهم هيئة نفسانية أومَلَكَة قوية، يعرفون ما يجوز أن يكون من ألفاظ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وما لا يجوز أن يكون من ألفاظه "اهـ(1).
قلت : إذا كان الحديث قد رُوِي بالمعنى ؛ فلا يظهر القول بوضعه لمجرد ركة لفظه .
أما من جزم بأنه لفظ رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فَيُحْكَم بوضعه عندئذ، لأن النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أوتي جوامع الكلم ، واختُصِرتْ له الحكمة اختصارًا فلا يكون كلامه ركيكًا، وانظر " النكت "(2).
2- ركاكة المعنى وفساده ، وذلك كأحاديث القصاصين، والشحاذين، قال الربيع بن خثيم: إن للحديث ضوءًا كضوء النهار ، وظُلْمَة كظلمة الليل تُنْكَر(3).
3- ما يخالف العقل : ولا يقبل تأويلاً :
قال الحافظ في سياق ذِكْره العلامات التي تدل على الوضع :"منها جعل الأصوليين من دلائل الوضع: أن يخالف العقل، ولا يقبل تأويلاً؛ لأنه لا يجوز أن يَرِدَ الشرع بما ينافي مقتضَى العقل، وقد حكى الخطيب هذا في أول كتابه "الكفاية" تبعًا للقاضي أبي بكر الباقلاني، وأقره، فإنه قسم الأخبار إلى ثلاثة أقسام :
1- ما يُعْرَف صحته .
2- ما يُعْرَف فساده .
3- وما يُتَرَدَّدُ بينهما .
ومثَّل للثاني بما تدفع العقول صحته ، نحو الأخبار عند قِدَم الأجسام ، وما أشبه ذلك اهـ(4).
قال الحافظ:" ويلتحق به ما يدفعه الحِسُّ والمشاهدة: كالخبر عن الجمع بين الضدين اهـ من"النكت".
__________
(1) " الاقتراح " ( ص 228 ) .
(2) 2 / 844 – 845 ) .
(3) المصدر السابق ، وانظر " الكفاية " ( ص 605 ) .
(4) 2 / 845 ) .(1/294)
وقال ابن الجوزي: " ألا ترى لو أنه اجتمع خَلْقٌ من الثقات ، وأخبروا أن الجمل قد دخل سَمَّ الخياط: لما نفعتنا ثقتهم ، ولا أَثَّرتْ في خبرهم؛ لأنهم أخبروا بمستحيل ، فكل حديث رأيته يخالف المعقول، أو يناقض الأصول؛ فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره " اهـ من " الموضوعات " .
4- أن يكون مناقضًا لنص الكتاب ، أو السنة المتواترة ، أو الإجماع القطعي .
5- مخالفته لحقائق التاريخ المعروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
6- أن يكون فيما يلزم المكلَّفين عِلْمُه، وقَطْعُ العذرِ فيه , فينفرد به واحد – وفيه تفصيل - .
7- قال الحافظ: ما ذكره الإمام فخر الرازي أن الخبر إذا رُوِي في زمن قد استقرت فيه الأخبار، فإذا فُتِّش عنه، فلم يوجد في بطون الكتب ، ولا في صدور الرجال ؛ عُلِمَ بطلانه .
وأما في عصر الصحابة – رضي الله عنهم - حيث لم تكن الأخبار استقرت ؛ فإنه يجوز أن يروي أحدهم مالا يوجد عند غيرهم " .
قال : قال العلائي :" وهذا إنما يقوم به أي بالتفتيش عليه - الحافظ الكبير، الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه ، كالإمام أحمد ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، ومن بعدهم: كالبخاري ، وأبي حاتم ، وأبي زرعة ، ومن دونهم: كالنسائي، ثم الدارقطني ، لأن المأخذ الذي يحكم به غالبًا على الحديث بأنه موضوع : إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق والاطلاع على غالب المروي في البلدان المتنائية، بحيث يُعْرَف بذلك ما هو من حديث الرواة، مما ليس من حديثهم، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة؛ فكيف يقْضِي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع ؟! هذا ما يأباه تصرفهم، فالله أعلم اهـ " النكت "(1).
وقال العراقي:" يُشْترط استيعاب الاستقراء، بحيث لا يبقى ديوان ولا راوٍ إلا وكشف أمره في جميع أقطار الأرض، وهو عَسِرٌ، ومتعذر " اهـ(2).
__________
(1) 1 / 847 ) .
(2) انظر " التدريب " ( 1 / 277 ) .(1/295)
8- ما يَتَنَزَّل مَنْزِلة الإقرار بالوضع: وذلك بقرائن في حال المروي، ومن ذلك: ما رواه البيهقي في " المدخل " بسنده الصحيح أنهم اختلفوا بحضور أحمد بن عبدالله الجويباري في سماع الحسن من أبي هريرة – رضي الله عنه – فروى لهم حديثًا بسنده إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال : سمع الحسن من أبي هريرة – رضي الله عنه – انظر " النكت "(1).
9- اشتمال الحديث على إفراط في الثواب العظيم، على الفعل الصغير، والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر اليسير، انظر " التدريب "(2).
هذا، وقد ذَكَر ابن القيم أمورًا كثيرة يعرف بها الوضع، وذلك في جواب على سؤال :
هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنْظَر في سنده ؟
قال – رحمه الله - :
هذا سؤال عظيم القدْر، وإنما يَعْلَم بذلك مَنْ تضلَّع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكَة ، وصار له اختصاص شديد في معرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهديه فيما يأمر به، وينهى عنه ، ويخبر عنه ، ويدعو إليه ، ويحبه ، ويكرهه ، ويشرعه للأمة ، بحيث كأنه مخالط للرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كواحد من أصحابه، فمثل هذا يعرف أحوال الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم – وهديه، وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز، مالا يعرفه غيره، وهذا شأن كل مُتَّبِع مع مَتْبوعه ...." إلى أن قال – رحمه الله - : " ونحن ننبه على أمور كلية ، يُعْرَف بها كون الحديث موضوعًا ، منها :
1- اشتماله على أمثال هذه المجازفات،التي لا يقول مثلها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .
2- تكذيب الحِسّ له، كحديث:" الباذنجان لما أُكِل له " .
3- سماجة الحديث، وكونه مما يُسْخَر منه، كحديث: " لو كان الأرز رجلاً ؛ لكان حليمًا " الحديث .
__________
(1) 2 / 842 ) .
(2) 1 / 326 ) .(1/296)
4- مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بَيِّنةً ، فكل حديث يشتمل على فسادٍ، أو ظلم ، أو عَبَث ، أو مدح باطل ، أو ذم حق، أو نحو ذلك ، فرسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - منه بريء .
قلت : وتفسير" مناقضة الأصول بما ذكره ابن القيم أولى من تفسير من فسرها بعدم وجود الحديث في دواوين الإسلام(1).
5- أن يَدَّعي على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه فعل أمرًا ظاهرًا بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه ، ولم ينقلوه .... ومثَّل ابن القيم لذلك بقول الراوفض في الوصية لعلي - رضي الله عنه - .
6- أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
7- أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .
8- أن يكون في الحديث تاريخ كذ وكذا، مثل قوله: " إذا كان سنة كذا وكذا؛ وقع كَيْت وكَيْت، وإذا كان شهر كذا وكذا ،وقع كَيْت وكيت، كما في حديث: " إذا انكسف القمر في المحرم؛ كان الغلاء ، والقتال ، وشغل السلطان ، وإذا انكسف في صَفَر ؛ كان كذا وكذا " .
9- أن يكون بوصْف الأطباء والطرقية أشبه وأليق ، كما في حديث " أكل السمك يوهن الجسد، والهريسة تشد الظهر " .
10- أحاديث العقل كلها كذب .
11- الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياتة : كلها كذب ، ولا يصح في حياته حديث واحد .
12- أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه .
13- مخالفة الحديث صريح القرآن ، كحديث: مقدار الدنيا،وأنها سبعة آلاف،ونحن في الألف السابعة .
14- أحاديث صلوات الأيام والليالي ... إلى آخر الأسبوع .
15- أحاديث صلوات ليلة النصف من شعبان .
__________
(1) قاله ابن الجوزي ، انظر " التدريب " ( 1 / 277 ) .(1/297)
16- ركاكة ألفاظ الحديث وسماجتها ، بحيث يمجّها السمع ، ويدفعها الطبع، ويسمج معناها للفطن، كحديث: " أربع لا تَشْبع من أربع : أنثى مِنْ ذَكَر ، وأرض مِنْ مَطَر ، وعَيْن مِنْ نَظَر ، وأُذُن مِنْ خَبر".
17-أحاديث ذم الحبشة والسودان كذب .
18- أحاديث ذم الترك ، ، وأحاديث ذم الخصيان ، وأحاديث ذم المماليك .
19- ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل اهـ ملخصًا من " المنار المنيف "(1).
?المسألة الخامسة : حُكْم تعمد الكذب ، ورواية الحديث الموضوع :
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره الأسباب الحاملة على الوضع:" وكل ذلك حرام بإجماع من يُعْتَدُّ به، إلا أن بعض الكرامية، وبعض المتصوفةْ نُقِلَ عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من فاعله، نشأ عن جهل؛ لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية، واتفقوا على أن تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الكبائر ، وبالغ أبو محمد الجويني فكفَّر من تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
واتفقوا على تحريم رواية الموضوع إلا مقرونًا ببيانه؛ لقوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: " من حَدَّث عني بحديث يُرى أنه كذِبٌ فهو أحد الكذابين " أخرجه مسلم اهـ من" النزهة "(2).
?قال ابن الصلاح:" ولاتحل روايته لأحد عَلِمَ حاله في أي معنى كان؛ إلا مقرونًا ببيان وضعه، بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة، التي يُحْتَمل صِدْقُها في الباطن، حيث جاز روايتها في الترغيب والترهيب " اهـ من " المقدمة "(3).
__________
(1) ص 50 – 105 ) .
(2) ص121 – 122 ) .
(3) ص 131 ) مع " التقييد " .(1/298)
قال العلامة أحمد شاكر – رحمه الله تعالى - :" وقد جزم الشيخ أبو محمد الجويني – والد إمام الحرمين – بتكفير من وضع حديثًا على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قاصدًا إلى ذلك، عالمًا بافترائه، وهو الحق " اهـ من " الباعث "(1).
قلت : وما قاله العلامة أحمد شاكر يحتاج إلى قَيْدٍ وهو: " قاصدًا إفساد الدين " وإلا فالعُبَّاد والزهاد الذين قصدوا بالوضع حَثَّ الناس على التمسك بالدين؛ يشملهم الحكم بالتكفير، وليسو كذلك، وكذلك فيلزمه تكفير متعصبة المذاهب الذين وضعوا أحاديث في نصرة مذهبهم، ظانين أن مذاهبهم هي الحق، وليسو كذلك، وقد قال النووي في "شرح مسلم"(2): " .... ولكن لا يُكَفَّر بهذا الكذب إلا أن يستحله ، هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف .... ونقل كلام أبي محمد الجويني ، ثم قال :" وضعَّف إمام الحرمين – وهو ابن أبي محمد الجويني - هذا القول ، وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب ، وأنه هفوة عظيمة ..." .
قال النووي : "والصواب ما قدمناه عن الجمهور ..." اهـ وانظر " فتح الباري " للحافظ(3).
?المسألة السادسة : ما الفرق بين السارق ، والكذاب ، والوضاع ؟
هذه الألفاظ الثلاثة بينها فروق ، وهاك بيانها :
فالوضاع : هو كذاب وزيادة، لأنه افترى ، واختلق على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مما عملته يداه ، ولم يكن ناقلاً عن غيره ، وإنما هو الذي اختلقه ، وافترى هذه الفرية على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
وأما الكذاب : فهو الذي يدعي سماع ما لم يسمعه، ولقاء من لم يَلْقَه ، مع أن هذه الأحاديث ، التي يرويها الكذاب قد تكون مشهورة عند أئمة الحديث ، وعند رواة الحديث ، وعلى ذلك: فكل وضاع كذاب ، ولا عكس .
__________
(1) 1 / 239 ) .
(2) 1 / 69 ) .
(3) 1 / 202 ) .(1/299)
وأما السارق : فإنه كذاب أيضًا، ولكن كذبه من نوع خاص: وذلك أنه يسرق الأحاديث الغريبة، والأحاديث التي ينفرد بها أحد الرواة، سواء كان ثقة أو ضعيفًا ، ورأى أن المحدثين يرحلون إليه بسببها، لأن المحدثين يرحلون إلى الراوي من أجل ما عنده من الحديث الغريب ، أو الحديث العالي ، وإن كان في هذا الحديث ضعف ، فإنهم يرحلون إليه من اجله ، وينشطون له، فيأتي السارق ويجد الرواة والمحدثين يرحلون إلى هذا الراوي ، فتغار نفسه، ويدخلها - والعياذ بالله – حظ النفس الأمارة بالسوء ، فيثب على هذا الحديث، ويدعيه لنفسه ، ويدعي أنه لقي شيخ هذا الرجل ، وأنه وهذا الشيخ الذي يروي هذا الحديث سواء في المنزلة، وفي الطبقة، بل قد يعلو في الإسناد من أجل أن يلفت أنظار الناس إليه ، انظر تفصيل ذلك في "إتحاف النبيل "(1)و "شفاء العليل "(2).
وعلى هذا فالجميع كذابون : لكن الوضاع كذاب وزيادة، والسارق كذاب في أشياء دون أشياء، والله أعلم .
?المسألة السابعة :
ذهب أكثر أهل العلم على عدم قبول رواية الكذاب وإن تاب :
قال الخطيب – رحمه الله – " فأما الكذاب على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بوضع الحديث، وادعاء السماع ، فقد ذكر غير واحد من أهل العلم: أنه يوجب رد الحديث أبدًا، وإن تاب فاعله"(3)اهـ .
وخلاصة أدلة من يرى هذا القول :
1- أن هذا من باب التغليظ في زجر الكذاب، وردع أمثاله، فَيُردُّ عليه صدقه ، وتوبته فيما بينه وبين ربه .
2- سد الباب ... أمام من يريد أن يتوصل بإظهار توبته إلى قبول باطله ، قاله ابن الوزير في "التنقيح " وانظر " توضيح الأفكار "(4).
__________
(1) 1 / 120 ) السؤال ( 21 ) .
(2) 1 / 459 – 460 ) .
(3) " الكفاية " ( ص 190 – 192 ) .
(4) 2 / 149 ) .(1/300)
3- أن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ليس كالكذب على غيره؛ فإن الكذب عليه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تشريع دينٍ للناس ما أنزل الله به من سلطان .
4- عدم اطمئنان النفس إلى صحة توبته؛ لاحتمال أن يكون كاذبًا في ذلك، لاسيما إذا تعلق ذلك بمصلحة له ، وكما لا يُقْبل قوله بإقراره بوضع بعض الأحاديث - لأنه فاسق بذلك - فكذلك لا يُقْبَل قوله بتوبته ، بل منهم من قال: لا تصح توبته أصلاً - وإن أظهرها - لأن ما وضعه من الحديث سيعمل به الناس الذين لم يبلغهم تراجعه عنه ،فكيف يقال بتوبته؟ وفي بعض هذا التدليل بحث يطول والله أعلم .
هذا ملخص أدلة من ذهب إلى عدم قبول توبته الكذاب في الحديث النبوي، وهناك من ذهب إلى قبول توبته - إن صدق في ذلك - قال النووي :" المختار: القطع بصحة توبته ، وقبول روايته، كشهادته، كالكافر إذا أسلم " اهـ من " شرح مسلم "(1).
قلت : ثبت أن بعض الأئمة قَبِلَ بعض رواية من تاب من الوضع، كما في ترجمة علي بن أحمد بن الحسن بن نعيم النعيمي في " تاريخ بغداد "(2)و " الميزان "(3)وكذا ترجمة إسماعيل بن عبدالله بن أويس كما في " تهذيب التهذيب "(4).
وقد توسعت في بيان ذلك في كتابي " إتحاف النبيل "(5)فارجع إليه .
والخلاصة : أن من كان كَذَّابًا:فالأصل رَدُّ حديثه كله ، إلا إذا تاب توبة صادقة ، وصرح إمام من الأئمة بقبول روايته الصحيحة أو بعضها ، فَيُعْمَل بذلك ، وإلا فلا ، والله أعلم .
الخاتمة
33- وقد أَتَتْ كالجوهرِ المكنونِ ... سَمَّيْتُها منظومةَ البيقوني
34- فوقَ الثلاثينَ بأربعٍ أتَتْ ... أبياتُها تَمَّتْ بخيرٍ خُتِمَتْ
ختم الناظم هذه المنظومة المباركة بهذين البيتين .
__________
(1) 1 / 70 ) .
(2) 11/ 332 )
(3) 3 / 14 ) .
(4) 1 / 312 ) .
(5) 2 / 189 – 206 ) السؤال ( 219 ).(1/301)
قوله: " قد أتت " أي المنظومة حال كونها " كالجوهر المكنون " أي المستور في صَدَفِهِ لنفاستها وعزتها .
قوله :" البيقوني " قال بعض الشراح: لم أقف له على اسم، ولا ترجمة، ولا ما هو منسوب .
ولما سمى الناظم منظومته بمنظومة البيقوني " رأيت أن أسمي شرحي لها بـ " الجواهر السليمانية على المنظومة البيقونية "
وقوله :"وفوق الثلاثين " خبر مقدم لقوله :" أبياتها" .
وقوله: "بأربع أتت أبياتها " أي أنها أتت أربعة وثلاثين بيتًا " .
وقوله:"تمت بخير ختمت " فيه إشارة إلى حسن الختام ، وانتهائها على خير حال .
هذا وأسأل المولى أن يجزي الناظم عنا خيرًا ، وأسأله سبحانه أن يجعل هذا الشرح في ميزان الحسنات، وأن يعم به النفع .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليمًا كثيرا .
كتبه الفقير إلى عفو ربه ، الغني بجوده وفضله
أبوالحسن مصطفى بن إسماعيل السيلماني
دار الحديث بمأرب
بعد ظهر الأحد 10 / جمادى الآخرة / 1426هـ .(1/302)