الجرح والتعديل
بين
النظرية والتطبيق
للدكتور
أيمن محمود مهدي
أستاذ الحديث وعلومه المساعد
ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بطنطا
الطبعة الأولى
1425هـ - 2004م
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، خالق الإنسان ، مبدع الأكوان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، علَّم بالقلم ، علَّم الإنسان ما لم يعلم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ، والذين تبعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
وبعد
فالقرآن الكريم والسنة المطهرة هما مرجع المسلم في التعرُّف على أحكام الإسلام ، ولقد تعهَّد الله بحفظ كتابه وصيانته من الإضافة والنقصان ، والتبديل والتغيير كما قيَّض للسنة المطهَّرة رجالاً أُمَناء وعباقرة أفذاذاً حفظوها في الصدور ودوَّنوها في السطور ، وقطعوا من أجل جمعها الفيافي والأقطار وواصلوا في جمعها الليل بالنهار ، وتعرَّفوا على رواة الحديث وكشفوا أحوالهم ، وغربلوا مروياتهم ، وميَّزوا الحق من الباطل ، والغثَّ من السمين .
ولقد تميَّز منهجهم في نقد الحديث بالعناية التامة بالسند والمتن ، أو الراوي والمروي ، ووضعوا لذلك ضوابط وقواعد تطمئن لها النفوس ، وترتاح لها القلوب ، وتنبهر بها العقول .
ومن أهم هذه القواعد والضوابط : قواعدهم في الجرح والتعديل .
ونظراً لخطورة هذا الأمر وأهميته - فمن جرحوه من الرواة فلن تقوم له قائمة بعد ذلك وتُردُّ رواياته ، ومن عدَّلوه من الرواة قُبِلت مروياته - فلابد لكل دارسٍ للسنة من الوقوف على مناهجهم ، ومعرفة قواعدهم ، فإن الغفلة عن منهج المحدثين وقواعدهم ومدارسهم في الجرح والتعديل تُوقِع الإنسان في خللٍ كبير ، ومعرفة هذه القواعد تُكسب المسلم ثقة في دينه ، وثقةً في تراث العلماء وكتب الجرح والتعديل ، واطمئناناً إلى ما وصلوا إليه من نتائج .(1/1)
وقد أحببتُ أن أكتب هذا البحث ليقف المسلمون عامة والمثقفون خاصة على جهود علماء المسلمين في حماية السنة وحفظها وحياطتها من كل زيادةٍ أو نقص ، وليكون المسلم على بيِّنةٍ من دينه ، وثقةٍ من أمره ليهلك من هلك عن بيِّنةٍ ، ويحيى من حيَّ عن بينة .
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع ولقد جاء هذا البحث مشتملاً على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة :
أما المقدمة فقد بينت فيها : فضل السنة المطهرة ، وجهود العلماء في الدفاع عنها .
ثم جاءت الفصول الأربعة على النحو التالي :
الفصل الأول : في الجرح والتعديل ، تعريفه ، ومشروعيته ، ونشأته ، وغايته ، وأهميته .
الفصل الثاني : المتكلمون في الرجال أقسامهم وطبقاتهم .
الفصل الثالث : شروط الجارح والمعدل .
الفصل الرابع : مناهج المتكلمين في الجرح والتعديل .
الفصل الخامس : قواعد المحدثين في الجرح والتعديل .
ثم ذكرت في الخاتمة أهم النتائج التي توصَّل لها البحث .
ثم ذكرت أهم المصادر والمراجع التي استعنت بها في هذا البحث .
والله أسأل أن ينفع بهذا البحث كاتبه وقارئه وجميع المسلمين ، وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم القيامة ، وأن يغفر لي ما وقع مني من خطأٍ أو تقصير .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أبو البراء أيمن مهدي
الفصل الأول : الجرح والتعديل
ويشتمل على خمسة مباحث :
...
المبحث الأول ... : تعريف الجرح والتعديل .
المبحث الثاني ... : مشروعية الجرح والتعديل .
المبحث الثالث ... : نشأة الجرح والتعديل .
المبحث الرابع : ألفاظ الجرح والتعديل ومراتبهما
المبحث الخامس : أهم المؤلفات في الجرح والتعديل
المبحث السادس : أهم المؤلفات في قواعد الجرح والتعديل
المبحث السابع ... : غاية الجرح والتعديل .
المبحث الثامن ... : أهمية هذا العلم وخطورته .
المبحث الأول : تعريف الجرح والتعديل(1/2)
الجرح لغة : مصدرٌ مأخوذٌ من جَرَحَهُ يَجْرَحُهُ إذا أثَّر فيه بسلاحٍ أو غيره فسال منه الدم ، يُقال : جرحه بلسانه أي : شتمه ، وجرح الحاكمُ الشاهدَ : إذا عثر منه على ما تسقُط به عدالته من كذبٍ وغيره .
والاسم منه : الجُرح - بضم الجيم - ، والجمع : جُروح ، وجِراح .
والاستجراح : النقصان ، والعيب ، والفساد , وهو : الطعن في الراوي ورد شهادته .
... ومن خلال أقوال علماء اللغة يتبين لنا أن الجرح جرحان :
أ- جرحٌ مادي وهو : أن يُحدِث الإنسان أثراً في الأجسام الحية من قطعٍ أو ذبحٍ ، ولا عناية لعلماء هذا الفن به ، ولا دخل له في بحثنا .
ب- جرحٌ معنوي وهو : وصف الشخص بما يُؤذيه باللسان أو الكتابة أو الإشارة المُفهمة بسبٍ أو قذفٍ ، وهو أشقُّ من الأول ، وأشدُّ تأثيراً ، وأعظم خطورةً منه ، وفيه يقول الشاعر :
جراحات اللسان لها التئام ... ** ... ولا يلتام ما جرح اللسان
ويقول آخر :
وجُرح السيف تَدْمُلُه فيبرأ ... ** ... ويبقى الدهرَ ما جرح اللسانُ
فجراحات البدن تلتئم سريعاً ، وجراحات اللسان أو الكتابة أكثر بقاءً وأشد إيذاءً ، ومنه جرح الشاهد إذا طعن فيه وردَّ قوله (1) .
والجرح في اصطلاح المحدثين : هو الطعن في رواة الحديث بما يُسقط عدالتهم ، أو يُخِلُّ بضبطهم ، أو يُقلِّل منهما ، أو من أحدهما مما يترتَّب عليه سقوط روايتهم وردِّها أو ضعفهم .
فالتجريح : وصف الراوي بصفاتٍ تقتضي تضعيف روايته أو عدم قبولها (2) .
والتعديل لغة : تفعيلٌ من عدَّل الأشياء : إذا قام على تسويتها على نسقٍ واحد , وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم ، ويكون في المحسوسات فيُقال : عدَّل العود أي : جعله مستقيماً .
__________
(1) راجع : النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري ( 1 / 24 ) ، ولسان العرب لابن منظور ( 2 / 233 ، 234 ) .
(2) راجع : أصول الحديث وعلومه ومصطلحه لمحمد عجاج الخطيب ( ص 168 ) .(1/3)
ويكون في المعقولات فيُقال : عدل الحاكم في حكمه أي : أقام حكمه على أسسٍ سوِيَّة لا يُفرِّق فيها بين أحدٍ من الناس ، وهو ضد الجور .
والتعديل : تزكية الإنسان ومدحه يُقال : عدَّل الرجال أي : وصفهم بما يجعل حالهم مستقيماً بحيث تكاملت فيهم شروط العدالة ، يُقال رجلٌ عدلٌ أي : مقبول الشهادة ، وتعديل الرجل أي : تزكيته (1) .
والتعديل اصطلاحاً : وصف الراوي بصفاتٍ تُزكِّيه فتظهر عدالته ويُقبل خبره .
والعدل هو : من لم يظهر في أمر دينه ومروءته ما يُخِلُّ بهما (2) .
وقيل هو : ذكر الراوي بصفاتٍ تقتضي قبول روايته والحكم عليه بأنه عدلٌ أو ضابط (3) .
وشروط العدالة هي : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والسلامة من أسباب الفسق ، وخوارم المروءة .
وشروط الضابط : أن يكون متقناً واعياً لما يؤدِّي ، وألا يكون سيئ الحفظ ، ولا مُغفَّلاً ، ولا فاحش الغلط ، ولا مخالِفاً لما يرويه الثقات .
وبناءً على تعريف الجرح والتعديل كُلاً على حِدة نستطيع أن نضع تعريفاً شاملاً لعلم الجرح والتعديل فنقول :
هو علمٌ يبحث عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظٍ مخصوصة ، وعن مراتب تلك الألفاظ (4) لقبول روايتهم أو ردها .
قال ابن الأثير : الجرح وصفٌ متى التحق بالراوي والشاهد سقط الاعتبار بقوله وبطل العمل به .
والتعديل وصفٌ متى التحق بهما اعتُبر قولهما وأُخذ به (5) .
المبحث الثاني : مشروعية الجرح والتعديل
__________
(1) النهاية في غريب الحديث ( 3 / 172 ) ، ولسان العرب ( 9 / 83 ، 84 ) ، ومختار الصحاح لمحمد عبد القادر الرازي ( ص200 ) .
(2) أصول الحديث ( ص 168 ) .
(3) عناية المسلمين بالسنة لمحمد حسين الذهبي ( ص42 ) .
(4) كشف الظنون لحاجي خليفة ( 1 / 582 ) .
(5) جامع الأصول لابن الأثير ( 1 / 70 ) .(1/4)
... صان الإسلام أعراض المسلمين وحرَّم الخوض فيها سواءً كانوا أحياءً أو أمواتاً ، صوناً لحرمة المسلم ، وستراً لحاله ، وصيانةً للمجتمع من عوامل الفساد والفتن .
فحرَّم الله تعالى تناول الأعراض ، وقذف المحصنات ، والشتائم والسباب والغيبة فقال تعالى : { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } (1) .
ولم يُبح الإسلام الغيبة إلا لغرضٍ شرعي محقَّق ، ومصلحةٍ راجحة لا يُتوصل إليها إلا بالغيبة .
... ولذلك ذهب الإمام النووي (2) والغزالي (3) والقرافي (4) وغيرهم من العلماء إلى : أن غِيبة الرجل حياً أوميتاً لا تُباح إلا لغرضٍ شرعي لا يُمكن الوصول إليه إلا بها ، وذكروا لذلك تسع حالات :
الأولى : شكاية المظلوم من ظالمه .
الثانية : إبلاغ ذوي السلطة بارتكاب المنكرات قصداً لإزالتها .
الثالثة : عند السؤال عن أمرٍ شرعي يجهله الإنسان ، كأن يقول : ظلمني أبي في كذا فماذا أفعل ، وإن كان الأولى عدم التعيين .
الرابعة : تحذير المسلم من مؤامرةٍ تُدبَّر له ، وشرٍ سيقع عليه ليحذر منه .
الخامسة : الاستشارة في شأن شخصٍ يُريد مصاهرتك أو معاملتك .
السادسة : بيان حال الفقهاء أصحاب البدع ليحذر منهم طلبة العلم .
السابعة : التعريف بأصحاب العاهات الدائمة ، والأسماء التي صارت أعلاماً عليهم بحيث لا يُعرفون إلا بها ، فتجوز على سبيل التعريف وليس على سبيل التنقُّص والازدراء .
الثامنة : أصحاب الحِرَف والمِهَن الحقيرة في نظر بعض الناس .
التاسعة : جرح الشهود ورواة الحديث للمصلحة الشرعية والتي لا يُمكن الوصول إليها إلا بذلك .
قالوا : وهذا النوع جائزٌ بالإجماع بل واجبٌ للحاجة الداعية إليه .
__________
(1) سورة الحجرات ( 12 ) .
(2) رياض الصالحين للنووي ص ( 529 ) .
(3) إحياء علوم الدين للغزالي ( 3 / 143 ، 144 ) .
(4) الفروق الفقهية للقرافي ( 4 / 206 ) .(1/5)
وقد دلَّت قواعد الشريعة على جواز الجرح والتعديل بل وجوبه للحاجة والضرورة إليه والأدلة المؤيِّدة لذلك كثيرة من القرآن والسنة وعمل السلف الصالح وأقوالهم :
فمن القرآن الكريم في الجرح :
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (1) فالتبين المقصود يقتضي معرفة حال الناقل للخبر ومرتبته من حيث التوثيق والتضعيف .
وقول الله سبحانه وتعالى : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } (2) مع قوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } (3) .
فإن كانت العدالة مطلوبة في الشهادة ، ولا تقبل الشهادة إلا عند تحققها ، كان طلبها أولى في مجال الرواية .
ومن السنة المطهرة :
في الجرح : حديث عائشة أن رجلاً استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال : " بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة " ، فلما جلس تطلَّق (4) النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه ، وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له : كذا وكذا ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عائشة متى عهدتني فاحشاً ؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " (5) .
__________
(1) سورة الحجرات ( 6 ) .
(2) سورة البقرة ( 282 ) .
(3) سورة الطلاق ( 2 ) .
(4) أي استبشر وانبسط وجهه النهاية ( 3 / 122 ) .
(5) البخاري كتاب الأدب باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً (10 / 467 ) رقم 6032 ، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب مداراة من يتقى فحشه ( 4 / 2002 ) رقم 2591 .(1/6)
وحينما جاءت فاطمة بنت قيس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تستشيره فيمن تتزوج وقالت له : إن أبا الجهم ومعاوية خطباني فقال لها : " أما معاوية فصعلوكٌ لا مال له ، وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه " (1) أي ضرَّاب للنساء ، كما صرَّح به في رواية مسلم ، وقيل معناه : كثير الأسفار .
وحديث عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً " (2) .
قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث : كانا رجلين من المنافقين(3) .
وهناك رواياتٌ كثيرة في هذا المعنى وكلها تدُلُّ دلالةً واضحة على أن ذكر عيوب الرجل على سبيل النصيحة والإبانة ، وللحاجة والمصلحة ليس بغيبة ولو كان هذا غيبة ما ذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعفُّ الناس لساناً وأطهرهم قلباً وأصدقهم حديثاً .
ومن الأدِلَّة المُجيزة للتعديل من القرآن قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (4) فقد عدَّل الله المهاجرين ، والأنصار ، ومن تبعهم بإحسان ، وأعلن رضاه عنهم ، وهذا تعديل أيُّما تعديل ، فجاز لنا تعديل الثقات .
ومن السنة في التعديل : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مات النجاشي: " مات اليوم رجلٌ صالح " (5) .
__________
(1) مسلم كتاب الطلاق باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ( 2 / 1114 ) رقم 1480 .
(2) البخاري كتاب الأدب باب ما يجوز من الظن ( 10 / 500 ) رقم 6067 .
(3) البخاري كتاب الأدب باب ما يجوز من الظن ( 10 / 500 ) رقم 6067 .
(4) سورة التوبة ( 100 ) .
(5) البخاري كتاب مناقب الأنصار باب موت النجاشي ( 7 / 230 ) رقم 3877 ، ومسلم كتاب الجنائز باب في التكبير على الجنازة ( 2 / 657 ) رقم 952 .(1/7)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في خالد بن الوليد : " نِعم عبد الله ، وأخو العشيرة : خالد بن الوليد سيفٌ من سيوف الله سلَّه الله على الكفار والمنافقين " (1) .
فهذه الأدلة وغيرها كثير تبيِّن بوضوح أن الخوض في أعراض رواة الحديث بما يُوجب تعديلهم أو تجريحهم لا يُعدُّ من قَبيل الغِيبة المحرمة ، بل من قَبيل النصيحة المشروعة ، صوناً للشريعة لا طعناً في الناس .
وكما جاز جرح الشهود جاز جرح رواة الحديث ، بل جرح الرواة أهم وأحق بالجواز لأن التثبُّت في أمر الدين أهمُّ وأولى من التثبُّت في أمر الحقوق والأموال .
ولذلك قال العلماء : جرح رواة الحديث فرض كفاية ينبغي أداؤه على من علِمه ، ويحرُم عليه أن يكتمه ، وهذا ما فهمه علماء السلف .
قال بعض الصوفية لابن المبارك وقد سمعه يُضَعِّف بعض الرواة : يا أبا عبد الرحمن تغتاب ؟ فقال له : اسكت إذا لم نبيِّن فمن أين يُعرف الحق من الباطل ؟ (2) .
وسمع أحدهم الإمام أحمد بن حنبل وهو يضعِّف بعض الرواة فقال له : يا شيخ لا تغتاب العلماء ، فقال له أحمد : ويحك هذا نصيحة وليس بغيبة (3) .
وقال لآخر : إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يَعرفُ الجاهل الصحيح من السقيم ؟ (4) .
__________
(1) الترمذي كتاب المناقب باب مناقب خالد بن الوليد بدون الجملة الأخيرة ( 5 / 456 ) رقم 3872 وقال : حديث حسن غريب ، وأحمد في مسنده ( 1 / 184 ) رقم 43 ، وقال الشيخ أحمد شاكر : إسناده صحيح ، وقال الهيثمي : رجاله ثقات مجمع الزوائد ( 9 / 348 ) .
(2) ترتيب المدارك للقاضي عياض ( 3 / 5 ) ، والكفاية في علم الرواية ( 1 / 45 ) .
(3) طبقات الحنابلة لأبي يعلى ( 1 / 248 ) .
(4) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2 / 202 ) ، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ( 1 / 6 ) .(1/8)
قال يحيى بن سعيد : سألت شعبة والسفيانين ومالك عن الرجل يُتَّهم في الحديث أو لا يحفظه قالوا : بيِّن أمره للناس (1) .
ولما عتب أبو بكر بن خلاد على يحيى بن سعيد القطان قائلاً له : أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى ؟ فقال له : لأن يكون هؤلاء خصمائي أحبَّ إليّ من أن يكون خصمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يقول لي : لم حدَّثت عني حديثاً ترى أنه كذب ؟ (2) .
ولذلك كان شعبة يقول لأصحابه : تعالوا نغتاب في الله - عز وجل - (3) .
يعني أن جرح الرواة وإن كان ظاهره الغيبة لكنه مشروع مرضٍ لله عز وجل لأنه السبيل الوحيد للحفاظ على السنة والضامن لعدم الزيادة فيها .
المبحث الثالث : نشأة الجرح والتعديل
السنة النبوية المطهرة هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأفعاله ، وتقريراته ، وصفاته ، وهي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم .
قال الله سبحانه وتعالى : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (4) .
ولذلك حرص الصحابة على حفظها في الصدور وتطبيقها في جميع مناحي حياتهم ، و لم يكتفِ بعضهم بذلك فكتبها في صحفٍ خاصة صيانةً لها من الإضافة والنقصان ، وقام بعضهم بالتعديل والتجريح حمايةً للسنة وصوناً لها من الزيادة والنقصان .
__________
(1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ( 2 / 23 ) ، والتعديل والتجريح لأبي الوليد الباجي ( 1 / 282 ) .
(2) الكفاية في علم الرواية ( 1 / 44 ) ، التعديل والتجريح ( 1 / 282 ) .
(3) ضعفاء العقيلي ( 1 / 11 ) ، سير أعلام النبلاء ( 7 / 223 ) .
(4) سورة الحشر ( 7 ) .(1/9)
ولكن الكلام في الرجال جرحاً وتعديلاً كان قليلاً في زمن الصحابة لأن الرواة في ذلك الزمن كانوا من الصحابة ، والصحابة كلهم عدول بتعديل الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهم ، فلم يكونوا يعرفون الكذب في حديثهم فضلاً عن أن يكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم نقلوها إلى التابعين كما سمعوها من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وظل الأمر على ذلك حتى ظهرت الفتنة بعد مقتل الخليفة الثالث : عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وحاول البعض أن يُؤيِّد موقفه بالسنة ، فبدأ الصحابة ينتبهون لهذا الأمر ، ويسألون عن أسانيد الأحاديث ، ويتثبَّتون في النقل ، ويتحرَّون في الرواية ، فتكلَّم في ذلك ابن عباس ، وأنس وعائشة وغيرهم ، وقد وجدوا في أدلة الشرع ما يؤكِّد هذا المنهج ويُوجبه حمايةً للسنة ودفاعاً عنها .
فبدأ البحث والتفتيش عن حال الرواة ، إلا أن الكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً كان قليلاً في هذا الزمن المبارك لقلَّة بواعثه , ولأن أكثر الرواة صحابة ، والصحابة كلهم عدول ، والرواة من التابعين أكثرهم ثقات فلا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيفٌ إلا الواحد بعد الواحد من التابعين .
ثم ظهرت الفِرق والجماعات ، واندسَّ بينهم من أراد الكيد للإسلام والمسلمين ، و حاولت كل فرقة مناصرة معتقدها بالأدلة الشرعية ، فوجدوا أن القرآن محفوظٌ في الصدور منقولٌ بالتواتر محفوظٌ من الزيادة والنقصان بحفظ الله له فاتجهت همَّتهم إلى السنة ، فاختلقوا الأحاديث الباطلة ، ونسبوها زوراً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ترويجاً لبدعتهم ، وليُقنعوا الناس بباطلهم .
فنشأ علم الجرح والتعديل مقترناً بنشأة الرواية في الإسلام لأنه لازمٌ للتمييز بين المقبول والمردود .(1/10)
وقد قَيّض الله لهذه الأمة علماءاً عظاماً ، وجهابذة كباراً فدافعوا عن السنة وردُّوا عنها الكذب والزيف ، ولم يخلُ عصر من مُتكلِمٍ في الرواة جرحاً وتعديلاً حتى كان نتاج ذلك عِلماً مُتفرِّداً لم يتيسر لأمةٍ في القديم أو الحديث ، وهو علم : الرجال ، أو علم : الجرح والتعديل .
وتميَّزت أمتنا بهذا العلم حتى صار من الممكن معرفة المقبول من المردود من الحديث ، وتمييز كل راوٍ من غيره ، ومعرفة درجة كل راوٍ من حيث العدالة والضبط .
وكما وعد الله الأمة بحفظ القرآن فقد يسَّر لها الأسباب التي تحفظ بها السنة ، وهي شارحة القرآن ، ومبينة أحكامه , وحفظ المُبيَّن يستلزم حفظ المُبيِّن
قيل لابن المبارك هذه الأحاديث الموضوعة ؟ فقال : تعيش لها الجهابذة (1) .
فهبَّ علماء السنة لوضع القواعد التي على أساسها يُقبل الحديث أو يُرد ، وتكلموا عن رجال الحديث تعديلاً وتجريحاً ، ونقدوا المرويات ، وميَّزوا بين المقبول والمردود .
ولا يظن البعض أن قواعد هذا العلم لم تكن معروفة قبل ذلك الوقت ، فقد كانت قواعده معروفةٌ متداولةٌ شائعةٌ معمولٌ بها ، فتكلَّم في الرجال صغار الصحابة الذين طالت أعمارهم ، وعاصروا ظهور الفتن كابن عباس ، وأنس بن مالك ، وأم المؤمنين عائشة وأضرابهم .
ثم تلاهم التابعون فتكلم في الرجال منهم : سعيد بن المسيب ، ومجاهد بن جبر ، والزهري ونظراءهم ، ولم يكن الضعف بينهم منتشراً .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ( 1 / 37 ) ، التعديل والتجريح ( 1 / 291 ) .(1/11)
ثم تبعهم تلاميذهم كعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى القطان ، وشعبة بن الحجاج ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، فحملوا ألوية هذا العلم ، وجمعوا شوارده ، وقعَّدوا له القواعد ، وصنَّفوا فيه الكتب حتى دُوِّنت أحوال الرواة جرحاً وتعديلاً ، حتى قيل في أحد علماء هذا الفن وهو الإمام الذهبي : شيخ الجرح والتعديل ، ورجل الرجال في كل سبيل كأنما جُمعت الأمة في صعيدٍ فنظرها ثم أخذ يُخبر عنها إخبار من حضرها (1) .
فأصبحتَ لا تجد راوياً إلا ولهم به دراية ، ولا حديثاً إلا ولهم به معرفة ، وقاموا بذلك أحسن قيام حسبةً لله تعالى ، فلم تتملَّكهم عاطفة ، ولم يخشوا أحداً إلا الله - عز وجل - خدمةً للشريعة ، وحفظاً لمصادرها ، وإرضاءً لله - عز وجل - .
المبحث الرابع : مراتب الجرح والتعديل وألفاظها
اصطلح المحدثون على استعمال ألفاظٍ يُعبِّرون بها عن وصف حال الراوي من حيث القبول والرد ، ويدُلُّون بها على المرتبة التي ينبغي أن يوضع فيها من مراتب الجرح والتعديل .
ولا شك أن معرفة هذه الألفاظ والمراتب في غاية الأهمية لطالب الحديث والباحث فيه ، لأنها الأداة التعبيرية التي تعرفنا صفة الراوي .
وقد كتب العلماء كثيراً في هذه الألفاظ ، واجتهدوا في تقسيمها ، وبيان منازلها ، وقد اصطلحوا على وضع مراتب للتعديل ، ومراتب للتجريح تعبر عنها ألفاظ خاصة بكل مرتبة (2) .
مراتب التعديل والألفاظ الدالة على كل مرتبة
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى لتقي الدين السبكي ( 9 / 100 ، 101 ) .
(2) راجع في هذا الموضوع : الرفع والتكميل في الجرح والتعديل ص 129 - 186 ومنهج النقد في علوم الحديث ص 105 - 115 ، وتقريب التهذيب ص 8 , والإرشاد في علوم الحديث ص 81 - 90 ، والحديث والمحدثون للذهبي 460 - 462 ، ورسالة في الجرح والتعديل للحافظ المنذري ص 28 .(1/12)
المرتبة الأولى : الصحابة وهي أعلى المراتب وأشرفها لأن الصحابة جميعاً عدول بتعديل الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لهم .
المرتبة الثانية : وهي أعلى مراتب التعديل وأرفعها عند المحدثين في الدلالة على التزكية وهي : ما جاء التعديل فيها بلفظ يدل على المبالغة ، أو عُبِّر عنه بأفعل التفضيل كقولهم :
فلان أوثق الناس ، أو : أضبط الناس ، أو : أثبت الناس ، أو : لا أحد أثبت منه ، أو : من مثل فلان ؟ ، أو : فلان لا يُسأل عنه ونحو ذلك .
المرتبة الثالثة : إذا كُرِّر لفظ التوثيق إما بإعادة نفس اللفظ كقولهم :
ثقة ثقة ، أو : حجة حجة ، أو : ثبت ثبت ونحو ذلك ، وإما مع تباين اللفظين كقولهم : ثقة ثبت ، أو : ثبت حجة ، أو: ثقة حجة ، أو : ثبت حافظ ، أو : ثقة متقن ونحو ذلك .
المرتبة الرابعة : إذا انفرد اللفظ الدال على التوثيق كقولهم :
ثقة ، أو ثبت ، أو حجة ، أو متقن ، أو إمام ، أو كأنه مُصحف ونحو ذلك .
المرتبة الخامسة : من قصُر عن المرتبة الرابعة قليلاً ويشيرون إليه بقولهم :
ليس به بأس ، أولا بأس به ، أو ما أعلم به بأساً ، أو صدوق ، أو محله الصدق ، أو إلى الصدق ما هو، أو صدوق يهم ، أو مأمون ، أو خيار الخلق ، أو متماسك ، أو فلان وسط ، أو مقارب الحديث ونحو ذلك .
المرتبة السادسة : من قصر عن الخامسة قليلاً وأشعر بالقرب من التجريح ، وهي أدنى مراتب التعديل ، وإليها الإشارة بقولهم :
صالح الحديث ، أو صدوق إن شاء الله ، أو أرجو أن لا بأس به ، أوصويلح ، أو مقبول ، أوليس ببعيد من الصدق ، أو يكتب حديثه ، أو يروي الحديث ويُلحق بذلك من رُمي بنوعٍ من البدعة كالتشيع والقدر والإرجاء مع التمييز بين الداعية وغيره .
حكم مراتب التعديل(1/13)
اتفق العلماء على أن أصحاب المراتب الأربعة الأولى أحاديثهم صحيحة يُحتج بها ، وغالب أحاديثهم في الصحيحين ، وما كان من المرتبة الخامسة فحديثه حسن لذاته ، وهو الذي يحسنه الترمذي ، ويسكت عليه أبو داود .
وما كان من المرتبة السادسة فحديثه مردود ولا يحتج به إذا انفرد لأن ألفاظ هذه المرتبة لا تشعر بالضبط فتكتب أحاديثهم وتختبر ، فإذا تعددت طرقها وكانت خالية من الضعف الشديد ارتقت إلى درجة الحسن لغيره .
مراتب التجريح والألفاظ الدالة على كل مرتبة
المرتبة الأولى : وهي أعلى مراتب الجرح وأقربها من التعديل ، وإليها الإشارة بقولهم :
فيه ضعف ، أو في حديثه ضعف ، أو ضُعِّف ، أو فيه مقال ، أو فيه لين ، أو ليس بذاك ، أو ليس بالقوي ، أو ليس بالمأمون ، أو ليس بحجة ، أو ليس بالحافظ ، أو تكلموا فيه ، أو طعنوا فيه ونحو ذلك .
المرتبة الثانية : وهي أسوأ من التي قبلها ويشيرون إليها بقولهم :
لا يُحتج به ، أو مضطرب الحديث ، أو له مناكير ، أو حديثه منكر ، أو ضعيف ونحو ذلك.
المرتبة الثالثة : وهي أدنى من التي قبلها ويشيرون إليها بقولهم :
مردود الحديث ، أورُدَّ حديثه ، أو ضعيف جداً ، أو واهٍ بمرة ، أو طرحوه ، أو مطروح الحديث ، أو ارم به ، أو لا يكتب حديثه ، أولاً تحل كتابه حديثه ، أو لا تحل الرواية عنه ، أو ليس بشيء ، أولاً يساوي شيئاً ، أو لا يستشهد بحديثه ونحو ذلك .
المرتبة الرابعة : وإليها الإشارة بقولهم :
متهم بالكذب ، أو الوضع ، أو يسرق الحديث ، أو متروك الحديث ، أو تركوه ، أو ذاهب الحديث ، أو ساقط ، أو هالك أ، ولاً يعتبر به ، أو بحديثه ، أو مُجمعٌ على تركه ونحو ذلك .
المرتبة الخامسة : وهي خاصة بمن وصفه العلماء بالكذب ووضع الحديث فقالوا :
فلان كذاب ، أو يكذب ، أو وضاع ، أو وضع حديثاً ، أو دجال ونحو ذلك .(1/14)
المرتبة السادسة : وهي أسوأ مراتب التجريح ويشيرون إليها بوصف الراوي بما يدل على المبالغة في الكذب كقولهم :
فلان أكذب الناس ، أو ليه المنتهى في الكذب ، أو هو ركن الكذب ، أو منبعه أ، و معدنه ونحو ذلك .
حكم مراتب التجريح
أصحاب المرتبة الأولى والثانية : يعتبر بأحاديثهم أي نبحث عن روايات تقويها فتصير مقبولة والعلماء يطلقون على هذا الحديث : الحسن لغيره لإشعار هذه الصيغ بصلاحية المتصف بها لذلك وعدم منافاتها لها .
وأما أصحاب المرتبة الثالثة والرابعة فحديثهم لا يحتج به ، ولا يستشهد به ، ولا يعتبر به ، ولا قيمة له ولا وزن .
وأما أصحاب المرتبة الخامسة والسادسة فلا تجوز رواية حديثهم مطلقاً إلا لبيان حالهم والرد عليهم .
المبحث الخامس : أهم المؤلفات في الجرح والتعديل
أدرك العلماء أهمية التصنيف في أحوال الرجال وبيان مراتبهم من حيث الجرح والتعديل حتى قال ابن الصلاح عن هذا النوع :
إنه من أجلِّ نوعٍ وأفخمه فإنه المرقاة إلى معرفة صحيح الحديث من سقيمة (1) .
ولذلك فقد لقي هذا العلم عناية فائقة من أئمة الحديث قديماً وحديثاً ، فصنفوا فيه التآليف الكثيرة التي تكلموا فيها على الرواة مما شاهدوه من أحوالهم أو ما نقلوه من الكلام في صفاتهم عن أئمة هذا العلم (2) .
وقد تنوَّعت مناهج تلك المصنفات وانقسمت إلى ثلاثة أقسام .
القسم الأول : كتب أفردت الثقات بالذكر والثقات هم : الذين أجمع العلماء على توثيقهم ، أو الذين اختُلف فيهم اختلافاً يسيراً ، وهم أقرب إلى التوثيق منهم إلى التجريح ، ومن أهم مؤلفات هذا القسم :
[
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح ص 387 .
(2) راجع : منهج النقد في علوم الحديث ص 129 - 132 ، وأصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب ص 179 .(1/15)
1] كتاب : " الثقات " للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي ، وقد ذكر فيه الثقات فقط وفق اصطلاحه الخاص ، فإنه كان يرى أن الراوي إذ لم يكن مجروحاً أو فوقه أو دونه في السند مجروح ولم يرو منكرًا فهو ثقة ، ولذلك فهو يوثِّق المجهول إذا روى عن ثقة ، وروى عنه ثقة ، ولم يرو منكراً ، ولا شك أن هذا تساهل في هذا الفن ، ولذلك عدَّه العلماء من المتساهلين في التوثيق ، وهذا الاصطلاح خاص بابن حبان فقط ، فينبغي التنبه له عند التعامل مع هذا الكتاب .
[2] كتاب : " تاريخ الثقات " لأحمد بن عبد الله العجلي ، وهو كتاب متوسط الحجم مرتب على الطبقات ، وقد رتبه الحافظ نور الدين الهيثمي على حروف المعجم ، ثم أضاف إليه الحافظ ابن حجر العسقلاني بعض الفوائد الهامة ، وقد اتَّسم منهج العجلي في هذا الكتاب بالإيجاز والاختصار ، وقد بلغت جملة التراجم التي ذكرها ألفان ومائة وستة عشر ( 2116 ) ترجمة .
[3] كتاب : " تذكرة الحفاظ " للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي ترجم فيه الذهبي لكل من بلغ مرتبة الحافظ ، قال في مقدمته : هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف ، والتصحيح والتزييف ، وقد بلغ جملة من ذكرهم في هذا الكتاب ألف ومائتان واثنتا عشرة ( 1212 ) ترجمة .
القسم الثاني : كتب أفردت الضعفاء بالذكر وهي كثيرة جداً من أهمها :
[1] كتاب : " الضعفاء الصغير " للبخاري ، وهو كتاب صغير الحجم مرتب على حروف المعجم ، ويحتوي على أربعمائة وثمانية عشر (418) ترجمة .
[2] كتاب : " الضعفاء المتروكون " للنسائي ، وهو كتاب متوسط الحجم مرتب على الحروف ، احتوى على ستمائة وخمس وسبعين (675) ترجمة .
[3] كتاب : " الضعفاء المتروكون " للدراقطني ، وهو مرتب على حروف المعجم ، احتوى على ستمائة واثنتين وثلاثين ( 632 ) ترجمة .
[(1/16)
4] كتاب : " الكامل في الضعفاء " لابن عدي ، وقد جمع فيه ابن عدي ما سبقه من التآليف ، وأضاف إليها أشياء لم يسبق إليها ، وأورد فيه كل من تكلم فيه ولو لم يكن الكلام فيه مؤثراً ، ولذلك عده كثير من العلماء من المتشددين في الجرح ، وقد ذكر في ترجمة كل راو حديثاً أو أكثر من مناكيره وغرائبه .
[5] كتاب : " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " للإمام الذهبي ، وهو من أفضل الكتب في هذا الفن ، اعتمد فيه الإمام الذهبي على كتاب : " الكامل لابن عدي " ، وسار على منهجه في إيراد كل من تُكلم فيه ولم لم يكن الكلام فيه مؤثراً ، ولكنه ينبه على ذلك ، وقد تعقب ابن عدي وشنَّع عليه في مواطن كثيرة لأنه أورد في كتابه من الثقات والحفاظ ما لا يناسب موضوع الكتاب ، وهو كتاب كبير اشتمل على أحد عشر ألفاً وثلاثة وخمسين ( 11053 ) ترجمة .
[6] كتاب : " المغني في الضعفاء " للذهبي أيضاً ، جمع فيه الذهبي كل من تُكلم فيه من الرواة باختصار شديد فيسَّر على القارئ البحث عن الضعفاء مع تفرده بفوائد ليست في غيره ، وهو كتاب متوسط الحجم ، وقد احتوى على سبعة آلاف وثمانمائة وخمسة وخمسين ( 7855 ) ترجمة .
[7] كتاب : " لسان الميزان " للحافظ ابن حجر العسقلاني ، أورد فيه ابن حجر من ذكرهم الذهبي في كتابه : " ميزان الاعتدال " ولم يذكره ابن حجر في كتابيه : " تهذيب التهذيب " و " تقريب التهذيب " فيذكر كلام الذهبي في الميزان أولاً ثم يؤيده أو ينقده أو يستدرك عليه ، وهو كتاب كبير الحجم اشتمل على أربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وثلاثة وأربعين ( 14343 ) ترجمة .
القسم الثالث : كتب جمعت بين الثقات والضعفاء ، وقد ألف العلماء في هذا القسم كتباً كثيرة في غاية من الأهمية من أشهرها :
[(1/17)
1] كتاب : " الجرح والتعديل " للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وهو من أجل كتب هذا الفن ، وأوسعها ، وأغزرها فائدة ، وأوثقها صلة بنقد الرجال ، اعتمد فيه مؤلفه على أقوال أئمة هذا الفن خاصة والده أبو حاتم الرازي ، وهو كتاب كبير احتوى على ثمانية عشر ألفاً وخمسين ( 18050 ) ترجمة .
[2] كتاب : " التاريخ الكبير " للإمام محمد بن إسماعيل البخاري جمع فيه البخاري أسماء رواة الحديث من زمن الصحابة إلى زمنه فبلغ عددهم قريباً من أربعين ألف راوٍ ما بين رجل وامرأة ضعفاء وثقات .
وقد ألفه الإمام البخاري وهو ابن ثماني عشرة سنة تجاه قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الليالي المقمرة .
قال التاج السبكي : إنه لم يُسبق إليه ، ومن ألف بعده في التاريخ أو الأسماء أو الكنى فعيال عليه .
رتبه على حروف المعجم لكنه بدأ بالمحمدين لشرف النبوة .
[3] كتاب : " الطبقات الكبرى " للحافظ ابن سعد ، وهو من أوثق المصادر التاريخية في علم الرجال خصص جانباً منه في بدايتة للحديث عن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر الصحابة ، وقسمهم إلى ثلاث طبقات ، وجعل السبق إلى الإسلام هو الأصل ، ثم ذكر التابعين ، وقسمهم إلى طبقات باعتبار المدن ولذلك يصعب التمييز فيه بين التابعين وأتباعهم ومن بعدهم ، ثم جعل قسماً خاصاً للنساء .
[4] كتاب : " الكمال في أسماء الرجال " للحافظ عبد الغني المقدسي اقتصر فيه مؤلفه على رجال الكتب الستة فقط ، وقد تبعه في هذا كثير من العلماء ، وحذوا حذوه ، واعتنوا بكتابه عناية تامة ، واستدركوا عليه أشياء في كتابه ، ومن أهم الكتب التي ألفت عليه :
[5] كتاب : " تهذيب الكمال في أسماء الرجال " للحافظ أبي الحجاج المزي هذب فيه كتاب " الكمال " ، واستدرك عليه ما فاته ، واستوفى البحث فيه في كل راوٍ فجاء كتاباً حافلاً ضخماً لم يصنف مثله .
[(1/18)
6] كتاب : " تهذيب التهذيب " للحافظ ابن حجر العسقلاني لخص فيه كتاب : " تهذيب الكمال " ، وأضاف إليه فوائد زادها على الكتاب الأصل فجاء في ثلث حجم الأصل ، وقد بلغت تراجمه تسعة آلاف وخمسمائة وثلاث وتسعون (9593) ترجمة .
[7] كتاب : " تقريب التهذيب " لابن حجر العسقلاني أيضاً لخص فيه كتابه : " تهذيب التهذيب " ، وأتى فيه بنتائج البحث في كل راوٍ بكلمة واحدة غالبا ، كما استعمل الرموز لذكر الكتب التي تروي له ، وقسم الرواة إلى طبقات ، وهذا الكتاب في غاية الأهمية والفائدة لطالب الحديث ، وهو كتاب متوسط الحجم لا يستغنى عنه باحث .
المبحث السادس : أهم المؤلفات في قواعد الجرح والتعديل
صنف العلماء في قواعد الجرح والتعديل تآليف نافعة من أهمها :
[1] مقدمة كتاب : " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي .
[2] كتاب : " أربع رسائل في علوم الحديث " ، ويشتمل هذا الكتاب على أربع رسائل مهمة متعلقة بالجرح والتعديل وهي : " قاعدة في الجرح والتعديل " للإمام السبكي ، و " قاعدة في المؤرخين " للإمام السبكي أيضا ، وقد ذكرهما الإمام السبكي في كتابه : " طبقات الشافعية الكبرى " في ترجمة : أحمد بن صالح المصري وذلك لمناسبة ذكره فيها ما قيل فيه من طعن لا يُلتفت إليه ، ورسالة : " المتكلمون في الرجال " للإمام السخاوي ، والتي ذكرها السخاوي في كتابه : " فتح المغيث بشرح ألفية الحديث " ، ورسالة : " ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل " للإمام الذهبي ، وقد اعتنى بهذه الرسائل وجمعها في كتاب واحد وعلق عليها الشيخ : عبد الفتاح أبو غدة ، فصار كتاباً نفيسا سماه : " أربع رسائل في علوم الحديث " .
[3] كتاب : " الرفع والتكميل في الجرح والتعديل " للإمام اللكنوي الهندي ، وهو كتاب نفيس جداً ، وفي غاية الفائدة ، وقد حققه ، وعلق عليه ، وزاده حسناً وفائدة الشيخ : عبد الفتاح أبو غدة ، وهو من أفضل ما كتب في هذا الموضوع.(1/19)
المبحث السابع : غاية الجرح والتعديل
الأصل حرمة عِرض المسلم ومنع تناوله كما قلنا ولا يُباح إلا للضرورة ، وقد أباح الشرع تناول رواة الحديث بالجرح والتعديل ، وبيان أحوالهم صوناً للشريعة ، وحمايةً للسنة .
قال الإمام مسلم : وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سُئلوا لما فيه من عظيم الخطر ، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليلٍ أو تحريمٍ ، أو أمرٍ أو نهيٍ ، أو ترغيبٍ أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدنٍ للصدق والأمانة ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يُبيِّن ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثماً بفعله ذلك غاشاً لعوام المسلمين (1) .
وقال الإمام النووي : اعلم أن جرح الرواة جائز ، بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة ، وليس هو من الغيبة بل من النصيحة لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، ولم يزل فضلاء الأمة وأخيارهم وأهل الورع منهم يفعلون ذلك (2) .
وقال العز بن عبد السلام : القدح في الرواة واجبٌ لما فيه من إثبات الشرع ، ولما على الناس في ترك ذلك من الضرر في التحريم والتحليل وغيرهما من الأحكام (3) .
فغاية هذا العلم بيان حال الراوي لئلا يخفى أمره على من لا يعرفه فيظنه عدلاً فيحتجُّ بروايته ، ويُدخل في الشريعة ما ليس منها فسلامة الشريعة متوقِّفة على سلامة المصدر الثاني للتشريع وهو : السنة المطهرة .
ولذلك قال العلماء : متى انكشف حال الراوي بذكر عيبٍ قادح كان ذكر الثاني غيبةً مُحرَّمة لأنه حقَّق الغاية بالأول ، فالجرح ضرورة والضرورة يجب أن تُقدَّر بقدرها .
__________
(1) صحيح مسلم ( 1 / 28 ) .
(2) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي ( 1 / 124 ) .
(3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ( ص 73 ) .(1/20)
قال العز بن عبد السلام : لا يجوز للشاهد أن يُجرَح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما ، فإن القدح إنما يجوز للضرورة فليُقدَّر بقدرها (1) .
ولذلك وضع العلماء ضوابط للجرح حتى يؤدِّي الغاية من مشروعيته ويكون من عوامل حفظ السنة وحمايتها .
وبعد اتِّضاح هذه الحقائق يجب أن نعلم أن تجريح الرواة لا يكون بهدف الطعن فيهم أو الانتقاص منهم ، وإنما الهدف منه : حماية الدين الذي يتوقف على سلامته صلاح الدنيا والآخرة ، وهو من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين , والنصيحة واجبة في الجملة يُثاب فاعلها متى قصد بها وجه الله تعالى سواءً كانت النصيحة عامة أو خاصة .
المبحث الثامن : أهمية هذا العلم وخطورته
يُعدُّ علم الجرح والتعديل من أهم علوم الحديث بل من أهم العلوم قاطبة ، وأعظمها شأناً ، وأبعدها أثراً ، إذ به يتميز الصحيح من السقيم ، والمقبول من المردود .
وهو علم ميزان رجال الرواية , تُعرف به قيمة الراوي فتثقل كفته ويُقبل حديثه ، أو تخف به كفته فتُرفض أحاديثه وتُردُّ رواياته .
ولذلك اعتنى به علماء الحديث كل العناية ، وبذلوا فيه أقصى جهدٍ ، تصنيفاً وتطبيقاً ، وانعقد إجماع العلماء على مشروعيته بل على وجوبه لشدة الحاجة إليه .
والكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً علمٌ صعبٌ عسيرٌ ، ومزلقٌ جِِدُّ خطير ، ولا يكمُل للكلام فيه إلا القليل من العلماء .
ولذلك قال ابن دقيق العيد : أعراض المسلمين حفرةٌ من حُفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدِّثون ، والحكَّام (2) .
__________
(1) فتح المغيث للسخاوي ( 3 / 272 ) .
(2) الاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد ( ص 334 ) .(1/21)
وقال الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشامي تعليقاً على هذا الكلام : وليس الحُكَّام والمُحدِّثون سواء فإن الحكام أعذر لأنهم لا يحكمون إلا بالبيِّنة المعتبرة وغيرهم يعتمد مجرد النقل (1) . وهو تعليقٌ حسنٌ مفيد .
قال الإمام السخاوي : الجرح والتعديل خطر ، لأنك إن عدّلت بغير تثبُّتٍ كنت كالمُثبت حكماً ليس بثابت فيُخشى عليك أن تدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب ، وإن جرَّحت بغير تحرُّزٍ أقدمت على الطعن في مسلمٍ برئ من ذلك ووسمته بميسم سوءٍ يبقى عليه عاره أبداً ، فالجرح خطرٌ أيّ خطر ، فإن فيه مع حق الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حق آدمي (2) .
ولهذا قلّ عدد النُقَّاد الذين تكلَّموا في الرواة جرحاً وتعديلاً نظراً لخطورة أمره ، ووعورته ، وصعوبة الشروط التي اشترطها العلماء في المعدِّلين والمجرِّحين .
وعلماء السلف حينما تكلَّموا في رواة الحديث كانت الديانة تقودهم إلى إحقاق الحق ، وكانوا بعيدين عن الهوى والميل ، فلم يتركوا الإنصاف طرفة عين خاصةً في التجريح لأنه من أخطر الأمور .
وما وقع من بعضهم من تشدُّدٍٍ وتعنُّتٍ في التجريح أحياناً ، إنما دفعهم إليه محض الاجتهاد وليس الهوى والعصبية .
فكانوا يتحرَّزون من التجريح لأنهم علموا أنهم إن جرحوا بريئاً فقد طعنوا في مسلمٍ برئ ووصفوه بسوءٍ يبقى عليه عاره أبد الدهر ، وهذا فيه خطرٌ عظيم لأن فيه مع حق الله حق آدمي ، وربَّما ناله بسبب هذا الجرح ضررٌ في الدنيا فمقته الناس وتباعدوا عنه فيُطالِب بحقه يوم القيامة ممن جرحه ظلماً فمنعهم ذلك من محاباة أقاربهم ، وأحبابهم ، كما منعهم من التحامل على أعدائهم فسلكوا طريق الجادة ، وتكلَّموا بلسان الإنصاف عند الغضب والرضا ، رضوان الله عليه جميعا .
الفصل الثاني
__________
(1) عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان للصالحي ( ص 405 ) .
(2) فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي ( 3 / 265 ) .(1/22)
المتكلمون في الرجال أقسامهم وطبقاتهم
ويشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : أقسام المتكلمين في الرجال .
المبحث الثاني : طبقات المتكلمين في الرجال .
المبحث الأول : أقسام المتكلمين في الرجال
بدأ الكلام في الرجال منذ أواخر عصر الصحابة الكرام ، ثم تكلَّم فيهم بعض التابعين ، ثم تتابع النقاد يتكلمون على رواة الحديث فيُعدِّلون الثقة ويقبلون رواياته ، ويجرحون الضعيف ويردُّون رواياته وِفق الأسس والقواعد الضابطة لذلك ، ولكنهم تفاوتوا في الكلام على الرجال من حيث الكثرة والقلة .
ولذلك قسَّم الإمام الذهبي من تكلم في الرجال إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : نقادٌ تكلموا في أكثر الرواة كابن معين ، وأبي حاتم .
القسم الثاني : نقادٌ تكلموا في كثيرٍ من الرواة كمالك بن أنس ، وشعبة ابن الحجاج .
القسم الثالث : نقادٌ تكلموا في الرجل بعد الرجل كسفيان بن عيينة ، والشافعي (1) .
وقد وضع العلماء شروطاً للجارح والمعدل بحيث لا يُقبل كلامه إلا إذا توافرت فيه ، كما وضعوا مجموعةً من القواعد التي يجب الالتزام بها عند القيام بالجرح والتعديل .
ولكن العلماء انقسموا في تطبيق هذه القواعد والالتزام بها إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : فريقٌ من النقاد بالغ في تطبيق هذه القواعد ، وأضاف إليها ضوابط أخرى تدل على تشدُّدِه وتعنُّتِه وهؤلاء هم : المتشددون في الجرح والتعديل .
القسم الثاني : على نقيض القسم الأول فلم يُراعوا تطبيق هذه القواعد بل جرَّحوا وعدَّلوا دون الالتزام الكامل بها ، أو اصطلحوا لأنفسهم قواعد خاصة عدَّها العلماء من قبيل التساهل ، فوقع في كلامهم قدرٌ من التساهل وهؤلاء هم : المتساهلون في الجرح والتعديل
القسم الثالث : قسمٌ طبَّق هذه القواعد وجرَّح وعدّل في ضوئها فاعتدل وأنصف وهؤلاء هم : المعتدلون في الجرح والتعديل .
__________
(1) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي ( ص171 ) .(1/23)
ولقد أحسن الإمام الذهبي في عرض هذه الأقسام فقال :
... القسم الأول : مُتعنِّت في التوثيق ، مُتثبِّت في التعديل .
القسم الثاني : المُتساهلون المُتسامحون .
القسم الثالث : المُعتدلون المُنصفون (1) .
وسأذكر لك لا حقاً سمات كل مدرسة وأبرز الممثلين لها تفصيلاً .
المبحث الثاني : طبقات المتكلمين في الرجال
تكلَّم في الرجال جرحاً وتعديلاً جماعةٌ من العلماء وصفهم الإمام السخاوي بأنهم : خلقٌ من نجوم الهدى ، ومصابيح الظُلَم المُستضاء بهم في دفع الردى ، لا يتهيَّأ حصرهم في زمن الصحابة رضي الله عنهم وهلُمَّ جرَّا (2) .
فبيَّنوا أحوال الرواة جرحاً وتعديلاً ، ولم يُحابوا في ذلك أحداً ، ووضعوا لذلك القواعد والأُسس التي بنوا على أساسها كلامهم في الرجال ، ولكنهم تفاوتوا في تطبيق هذه القواعد تشدُّداً وتساهُلاً .
وقد بدأ الكلام في الرجال جماعةٌ من الصحابة من أشهرهم :
عمر ، وعلي ، وابن عباس ، وعائشة وغيرهم ولكن ذلك كان قليلاً جداً ، ومعظمه مُنصرِفٌ إلى الضبط ، لأن الصحابة جميعاً عدول ، فلا يوجد بينهم من يكذب ، ولكن قد يوجد بينهم من يخطئ ، ولذلك كان معظم كلام الصحابة متجه إلى الضبط لا إلى العدلة .
ثم تبعهم جماعةٌ من التابعين من أشهرهم :
الشعبي ، وابن سيرين فتكلموا في الرجال جرحاً وتعديلاً ولكن كلامهم كان قليلاً بالنسبة لمن بعدهم لقلة الضعف في عصرهم إذ أكثر المحدِّثين صحابةٌ عدول ، وغير الصحابة من التابعين أكثرهم ثقاتٌ صادقون يعون ما يروون ، وهم كبار التابعين ، فلا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيفٌ إلا الواحد بعد الواحد كالحارث الأعور ، والمختار الكذَّاب ، وعاصم بن ضمرة (3) .
__________
(1) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص 171 ، 172 ) .
(2) المتكلمون في الرجال للسخاوي ( ص 93 ) .
(3) المتكلمون في الرجال للسخاوي ( ص 93 ) .(1/24)
فلما دخل القرن الثاني ظهر في أوائله من أوساط التابعين جماعةٌ من الضعفاء ، وكان سبب ضعفهم غالباً من قِبَل تحمُّلِهِم وضبطهم للحديث ، فلمَّا كان عند آخر عصر التابعين تكلَّم في التوثيق والتجريح طائفةٌ من الأئمة كأبي حنيفة ، والأعمش ، وشعبة ، والأوزاعي ، والثوري وغيرهم .
ثم تتابع ظهور الأئمة النقَّاد بتتابع القرون فكلَّما كثُر الكذب كلَّما كثُر عدد المتكلمين في الرجال .
وقد حاول بعض العلماء جمع أسماء المجرِّحين والمعدِّلين فذكر ابن عدي المتوفى سنة 365 هـ في مقدِّمة كتابه : " الكامل في الضعفاء " جماعةً ممن تكلَّم في الجرح والتعديل فقال : ذِكرُ من استجاز تكذيب من تبيَّن كذبه من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا (1) .
ثم تكلَّم أبو عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ عن المُعدِّلين والمُجرِّحين في كتابه : " معرفة علوم الحديث " فقسَّمهم عشر طبقات ذكر في كل طبقةٍ أربعةً منهم :
فذكر في الطبقة الأولى من الصحابة : أبا بكرٍ ، وعمر، وعلي ، وزيد بن ثابت ثم قال : فإنهم قد جرَّحوا وعدَّلوا ، وبحثوا عن صحة الروايات وسقمها ، وقد بلغ جملة من ذكرهم من النُقَّاد أربعون رجلاً .
ثم ألّف الإمام الذهبي إمام هذا الفن رسالته الماتعة : " ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل " وذكر فيها أسماء كل من صدر منه جرحٌ أو تعديل - وإن كان قد فاته البعض ، وأظن أنه لم يقصد الحصر والاستقصاء - سواءً كان ذلك كلياً عاماً في جميع الرواة أو في كثيرٍ منهم ، أو جزئياً في أفرادٍ أو فرداً واحداً منهم .
قال الإمام الذهبي في هذه الرسالة : فنشرع الآن بتسمية من كان إذا تكلم في الرجال قُبِل قوله ، ورُجع إلى نقده ، ونسوق من يسّر الله تعالى منهم على الطبقات والأزمنة (2) .
__________
(1) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص175 ) .
(2) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص175 ) .(1/25)
ثم رتَّب الإمام الذهبي المتكلمين في الرواة على : ثنتين وعشرين طبقة ذكر في كل طبقةٍ أشهر المتكلمين فيها مبتدئاً بالصحابة الكرام وحتى طبقة شيوخه ، وقد بلغ عددهم عنده إلى زمنه (715) رجلاً ، وقد تُوفي الحافظ الذهبي سنة 748هـ والعدد الذي ذكره غير قليل .
والإمام الذهبي ترجم في كتابه : " تذكرة الحفاظ " لـ 1176 حافظاً دون شيوخه الذين ترجمهم بكلماتٍ في آخر كتابه ، وقد بلغ عددهم ستةً وثلاثين (36) شيخاً فجملة ما في كتابه من الحفاظ : 1212 رجلاً من الحفَّاظ ، ولاشك أن النقَّاد المُتكلِّمين في الرجال أقلُ عدداً من الحُفَّاظ لأنه ليس شرطاً لبلوغ رتبة الحافظ أن يتكلم في الرواة .
ثم جاء تلميذه تقي الدين السبكي المتوفى سنة 771 هـ ، فتكلم في مقدمة كتابه : " طبقات الشافعية الكبرى " عن حُفَّاظ هذه الشريعة فبدأ بسيدنا أبي بكر الصديق وانتهى بالحافظ العلائي المُتوفى سنة 761 هـ ، وقد بلغ عدد من ذكرهم من الحفاظ : 212 حافظاً فقط (1) ، ولا شك أنه أراد بهذا العدد التمثيل لا الحصر .
ثم جاء الإمام السخاوي المُتوفى سنة 902 هـ فوضع فصلاً في كتابه : " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ " ذكر فيه أسماء جماعةٍ كبيرةٍ من العلماء الذين تكلموا في الرجال بدايةً من القرن الأول إلى القرن التاسع ، وقد بلغ عددهم عنده : 210 رجلاً ، وقد زاد فيه ثلاثون (30) رجلاً على من وقف عنده الذهبي (2) .
والفرق بين كلام الإمامين الذهبي ، والسخاوي أن الذهبي جمع واستقصى تقريباً ، والسخاوي لخَّص وانتقى من عُرف عنه الجرح والتعديل بوفرة أو بتأليفٍ فيه ، فكان صنيع الذهبي أشمل وأجمع ، وصنيع السخاوي أقعد وأنفع .
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى ( 1 / 314 - 318 ) .
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ( ص 198 - 204 ) وقد ذكر السخاوي جل هذا الفصل في كتابه : فتح المغيث ( 3 / 266 - 270 ) .(1/26)
وإتماماً للفائدة سأذكر لك أشهر من تكلم في الجرح والتعديل :
فأشهر من تكلم في الجرح والتعديل من الصحابة :
عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس وعبادة بن الصامت ، وعبد الله بن سلام ، وأنس بن مالك ، وأم المؤمنين عائشة .
وأشهر من تكلم في الجرح والتعديل من التابعين :
سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، ومحمد بن سيرين .
فلما انقرض عصر التابعين تكلم في الجرح والتعديل جهابذة من العلماء من أشهرهم :
أبو حنيفة النعمان ، والأعمش ، وشعبة بن الحجاج ، ومالك بن أنس ، والليث ابن سعد ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، ومعمر بن راشد ، وحماد بن سلمة .
ثم تكلم من الطبقة التي تلتهم كثير من العلماء من أشهرهم :
عبد الله بن المبارك ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع بن الجراح ، وإسماعيل بن علية ، وعبد الله بن وهب ، وفضيل بن عياض ، ويزيد بن هارون .
ومن أشهر من قام بنقد الرجال في هذه الطبقة : يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي فقد قاما بهذا الأمر خير قيام حتى قال عنهما الحافظ الذهبي : انتدبا لنقد الرجال ، وناهيك بهما جلالة ونبلا ، وعلماً وفضلا ، فمن جرحاه لا يكاد - والله - يندمل جرحه ، ومن وثقاه فهو الحجة المقبول ، ومن اختلفا فيه اجتُهد في أمره ، ونزل عن درجة الصحيح إلى الحسن ، وقد وثقا خلقاً كثيراً وضعَّفا آخرين (1) .
ثم تكلم بعدهم في الرجال طائفة من النقاد من أشهرهم :
الشافعي ، وأبو داود الطيالسي ، وعبد الرزاق بن همام ، والحميدي ، وعلي بن الجعد ، وأبو الوليد الطيالسي ، والقعنبي ، وأبو عاصم النبيل .
وفي هذا الوقت وقبله صنفت : " المسانيد " ، و " الجوامع " ، و " السنن " وجمعت كتب الجرح والتعديل والتاريخ وغير ذلك ، وتميز الثقة من الضعيف .
ثم تكلم في الجرح والتعديل بعدهم جماعة من أئمة هذا الشأن من أشهرهم :
__________
(1) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للإمام الذهبي ص 180 .(1/27)
يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وابن سعد ، وعلي بن المديني ، وأبو بكر ابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، والدارمي ، وخليفة بن خياط ، والبخاري ، وأبو زرعة الرازي ، وأبو حاتم الرازي ، والجوزجاني ، والعجلي ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، والطبري ، والطحاوي ، والعقيلي ، وابن أبي حاتم الرازي ، وابن حبان ، والطبراني ، وابن عدي ، والدارقطني ، وأبو زرعة الرازي ، وأبو نعيم الأصبهاني ، والخطيب ، والباجي ، وابن الجوزي ، وابن عساكر ، والمنذري ، وابن الصلاح ، والنووي ، والدمياطي ، والمزي ، وابن دقيق العيد ، وابن تيمية ، والذهبي ، وابن حجر العسقلاني وغيرهم كثير ، رضي الله عنهم جميعا .
الفصل الثالث
شروط الجارح والمُعَدِّل
شروط الجارح والمعدل
الجرح والتعديل أمر صعب ، ومهمة شاقة ، ويتطلَّب صفاتٍ معيَّنة ، وشروطاً دقيقة متى استكملها الشخص تأهَّل بمقتضاها للكلام في الرجال جرحاً وتعديلاً ، وإذا خاض لُجَّة هذا البحر دون أن يستكمل هذه الصفات كان إفساده أكثر من إصلاحه وضرَّ نفسه وغيره .(1/28)
قال المعلمي اليماني : ليس نقد الرواة بالأمر الهيِّن فإن الناقد لابد أن يكون واسع الاطِّلاع على الأخبار المروية ، عارفاً بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية ، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم ، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب ، والموقعة في الخطأ والغلط ، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الراوي متى ولد ؟ وبأي بلد ؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفظ ؟ ومتى شرع في الطلب ؟ ومتى سمع ؟ وكيف سمع ؟ ومع من سمع ؟ وكيف كتابه ؟ ثم يعرف الشيوخ الذين يُحدِّث عنهم ، وبلدانهم ، ووفياتهم ، وأوقات تحديثهم ، وعادتهم في التحديث ، ثم يعرف مرويات الناس عنهم ، ويعرض عليهما مرويات هذا الراوي ، ويعتبر بها إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، ويكون مع ذلك متيقِّظاً ، مُرهف الفهم ، دقيق الفطنة، مالكاً لنفسه ، لا يستميله الهوى ، ولا يستفزه الغضب ، ولا يستخفه بادر ظن حتى يستوفى النظر ويبلغ المقر ، ثم يحسن التطبيق في حكمه ، فلا يجاوز ولا يقصر ، وهذه المرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ (1) .
ونستطيع أن نستخلص من أقوال العلماء أن أهم شروط الجارح والمعدل هي :
1- العلم والتقوى والورع والصدق
وهذه أخلاقٌ لازمة للعلماء عموماً وللمجرحين والمعدلين على وجه الخصوص .
قال الذهبي : الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع (2) .
وقال أيضاً : الكلام في الرواة يحتاج إلى ورعٍ تام ، وبراءةٍ من الهوى والميل ، وخبرةٍ كاملة بالحديث ، وعلله ، ورجاله .
__________
(1) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي والتي كتبها المعلمي اليماني الجزء الأول صفحة ب ، جـ .
(2) ميزان الاعتدال 3 / 46 .(1/29)
وقال الذهبي أيضاً : حقٌ على المُحدِّث أن يتورَّع فيما يُؤدِّيه ، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته ، ولا سبيل إلى أن يصير العارف - الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم - جهبذاً إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن ، وكثرة المذاكرة ، والسهر ، والتيقُّظ ، والفهم مع التقوى والدين المتين ، والإنصاف ، والتردد إلى العلماء ، والإتقان وإلا تفعل :
فدع عنك الكتابة لست منها ** ولو سوَّدت وجهك بالمداد
فإن أنست من نفسك فهماً ، وصدقاً ، وديناً ، وورعاً وإلا فلا تفعل ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأى أو لمذهب فبالله لا تتعب ، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك (1) .
وقال ابن حجر : تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف وينبغي أن لا يُقبل الجرح والتعديل إلا من عدلٍ متيقظ (2) .
وقال الدكتور عصام البشير : ففي هذا (3) دلالة على أن من لم يؤنس فيه صفة العدل ، والصدق ، والديانة لا يكون أهلاً للخوض في الرجال تجريحاً وتعديلاً ، ولهذا لما كان الأئمة قائمين بهذه الصفة حق القيام سلم لهم قولهم واستُنِد إلى حكمهم ، ويدخل في معنى العلم : العلم بالأحكام الشرعية (4) .
قال السبكي : ومما ينبغي أن يُتفقَّد أيضاً : حاله في العلم بالأحكام الشرعية فرُبَّ جاهلٍ ظن الحلال حراماً فجرح به ، ومن هنا أوجب الفقهاء التفسير ليتوضَح الحال (5) .
2- مجانية الهوى والعصبية والغرض الفاسد
__________
(1) تذكرة الحفاظ 1 / 4 .
(2) لقط الدرر بشرح نخبة الفكر ص 135 .
(3) إشارة إلى ما سبق من قول الذهبي وابن حجر .
(4) أصول منهج النقد عند أهل الحديث للدكتور عصام البشير ص 30 .
(5) قاعدة في الجرح والتعديل ص 53 .(1/30)
بحيث يكون الجارح والمُعدِّل عادلاً عند الكلام على مخالفيه في العقيدة أو المذهب ، وأن يكون التوثيق والتضعيف مقروناً بطلب المثوبة من الله ، واحتساب الأجر عنده ، فيكون خاصاً لله وحده غير مشوبٍ بنيَّةٍ أخرى كاكتساب وُدِّ من يوثِّقه ، أو الحصول على مصلحةٍ خاصة ، أو لمودةٍ قريبة .
ولذلك ينبغي أن لا يحمله على التجريح هوى جامح ، أو رغبة ذاتية ، أو خلاف في الرأي ، أو حسد ، أو نحو ذلك ، وكل ذلك إن وقع دلالة على عدم الإنصاف ، وهو نوع من بخس الناس أشيائهم ، وهو مناقض لقوله تعالى : { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } (1) .
وقال عبد العلى اللكنوي : لا بد للمزكي من أن يكون عادلاً ، عارفاً بأسباب الجرح والتعديل ، وأن يكون مُنْصِفاً ، ناصحاً لا أن يكون مُتعصِّباً ، ومُعْجَباً بنفسه ، فإنه لا اعتداد بقول المُتعصِّب " (2) .
قال ابن حجر عند تحذيره من التساهل في الجرح والتعديل : والآفة تدخل في هذا تارةً من الهوى والغرض الفاسد ، وكلام المتقدمين سالم من هذا غالباً ، وتارةً من المخالفة في العقائد ، وهو موجودٌ كثيراً قديماً وحديثاً ، ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك (3) .
وقال السبكي : الجارح لا يُقبل منه الجرح وإن فسَّره ... إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حاملٌ على الوقيعة في الذي جرحه ، من : تعصُّبٍ مذهبي ، أو منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء (4) .
__________
(1) الأعراف : 85 .
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2/154 .
(3) شرح النخبة ص 154 ، 155 .
(4) قاعدة في الجرح والتعديل ص 30 .(1/31)
وقال الرافعي : ينبغي أن يكون المُزكُّون بُرآء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثيرٍ من الأئمة جرحوا بناءً على مُعتقدهم وهم المُخطئون والمجروح مصيب (1)، كقدح الدارقطني في أبي حنيفة ، والسبكي في الذهبي ، وابن منده في أبي نعيم .
3- المعرفة بأسباب الجرح والتعديل
ربما فعل الراوي أمراً ظنه العالم جرحاً فرد به روايته ، وأسقط عدالته ، وضعف حديثه ، ومثله لا يستحق أن يضعف به ، ولذا كان شرطاً للعالم أن يعرف أسباب الجرح والتعديل التي يعتد بها العلماء .
قال ابن حجر : إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به (2) .
وقال : تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف (3) .
وقال البدر بن جماعة : من لا يكون عالماً بالأسباب لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بالإطلاق ولا بالتقييد (4) .
ولقد جرح بعض العلماء بعض الرواة فلما سئلوا عن سبب هذا الجرح ذكروا أشياء لا ينبغي أن يجرح بها .
وسيأتي لهذا الأمر مزيد تفصيل عند الحديث عن القواعد .
4- الخبرة بمدلولات الألفاظ وعادات الناس ولغات العرب
فقد يكون للفظ معنىً عُرفياً يختلف باختلاف عُرف الناس فيكون في بعض الأزمنة مدحاً وفي بعضها ذماً ، وهذا أمر شديد لا يدركه إلا فقيه بالعلم ، ولقد فطن بعض العلماء قديماً لهذا الأمر فنقل ابن حجر في ترجمة عكرمة مولى ابن عباس عن الطبري أنه قال : ومن ثبتت عدالته لم يُقبل فيه الجرح ، وما تسقط العدالة بالظن ، وبقول فلان لمولاه : لا تكذب عليَّ وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعانٍ غير الذي وجَّهه إليه أهل الغباوة ومن لا علم له بتصاريف كلام العرب (5) .
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل ص 35 .
(2) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 69 .
(3) نزهة النظر ص 66 .
(4) الرفع والتكميل ص 68 .
(5) هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر : ص 451 .(1/32)
وقد علَّق الشيخ ظفر التهانوي على هذا النقل قائلاً : فلابد لفهم كلام الجارحين من الوقوف على تصاريف كلام العرب (1) .
ومن هذا الباب ما ذكره ابن حجر في ترجمة زيد بن وهب الجهني قال : وشذَّ يعقوب الفسوي فقال : في حديثه خلل كثير ثم ساق من روايته قول عمر - في حديثه - يا حذيفة بالله أأنا من المنافقين ؟ قال الفسوي : وهذا محال (2) .
قال ابن حجر : هذا تعنت زائد ، وما بمثل هذا تُضعَّف الأثبات ، ولا تُردُّ الأحاديث الصحيحة ، فهذا صدر من عمر عند غلبة الخوف ، وعدم أمن المكر ، فلا يُلتفت إلى هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات (3) .
فلابد من وضوح عبارات الجرح والتعديل حتى لا تكون سبباً في اختلاف العقول في فهمها واستيعابها أو المدارك في إدراكها ، وقد حكى ابن السبكي عن أبيه اشترط معرفة مدلولات الألفاظ والدقة فيها عند الترجمة للعلماء والمحدثين فقال موضحاً ضرر هذا الأمر :
وأن يكون حسن العبارة ، عارفاً بمدلولات الألفاظ ، حسن التصوُّر بحيث يتصور حين ترجمة الشخص جميع حاله ، ويُعبِّر عنه بعبارةٍ لا تزيد عنه ، ولا تنقص ، وأن لا يغلبه الهوى فيُخيِّل إليه هواه الإطناب في مدح من يحبه والتقصير في غيره ، وذلك بأن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه ، ويسلك معه طريق الإنصاف ، وإلاَّ فالتجرد عن الهوى عزيز إذ قد تحمل العبارة بين طياتها ذم وهي مدح ، وقد يكون ظاهرها المدح وفيها مكامن الذم .
5 - المعرفة بالإصطلاحات الخاصة بالأئمة
فمن لا يعرف هذه الإصطلاحات قد يظن ما ليس بجرح جرحاً ، وما ليس بتعديل تعديلاً ولهذا كان من الضروري اللازم معرفة مقصود الأئمة بألفاظهم ، ومعرفة اصطلاحاتهم الخاصة في هذا .
__________
(1) قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص 397 .
(2) وقد تابع الفسوي ابن حزم في نفي هذا الخبر المحلي 11 / 321 ، وقد رد عليهما ابن حجر كما ذكرنا .
(3) هدي الساري ص 424 .(1/33)
فقد يُظَنُّ أن قول ابن معين في الرواي : ليس بشيء تجريح قوي ، رغم أن ابن معين يطلق ذلك على الرواي إذا كان قليل الحديث دون أن يقصد بذلك جرحه .
قال ابن حجر في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري :
قال ابن معين : ليس بشيء .
ثم قال ابن حجر : احتج به الجماعة ، وذكر ابن القطان الفاسي أن مراد ابن معين بقوله في بعض الروايات ليس بشيء يعني : أن أحاديثه قليلة جداً (1) .
وكذلك إذا قال ابن معين في الراوي : لا بأس به ، أو ليس به بأس فإنما يعني أنه ثقة .
قال ابن أبي خيثمة : قلت ليحيى بن معين إنك تقول : فلان ليس به بأس ، وفلان ضعيف ؟ قال : إذا قلت لك : ليس به بأس فثقة ، وإن قلت لك ضعيف فهو ليس بثقة ولا تكتب حديثه (2) .
وإذا قال البخاري في الرواي : فيه نظر فإن ذلك يدل على أنه مُتَّهمٌ عنده وغيره لا يستخدم هذا اللفظ في ذلك .
قال الذهبي في ترجمة عبد الله بن داود الواسطي :
قال البخاري : فيه نظر ولا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالباً (3) .
وقال الذهبي : قال البخاري : إذا قلت فلان في حديثه نظر فهو متهم واهٍ (4) .
وقال الحافظ العراقي : فلان فيه نظر وفلان سكتوا عنه ، هاتان العبارتان يقولهما البخاري فيمن تركوا حديثه (5) .
وقال الذهبي أيضاً في ترجمة عثمان بن فائد القرشي : قال البخاري : في حديثه نظر ، وقلّ أن يكون عند البخاري رجل فيه نظر إلا وهو متهم (6) .
ولاشك أن هذا بابٌ وعِر ، ومسلك صعب ، والاهتمام به واجب لأن التعميم فيه غالباً ما يكون منقوضاً ، والأمر يحتاج إلى تأنٍ وروية ، ودراسة واستقصاء .
الفصل الرابع
مناهج المتكلمين في الجرح والتعديل
ويشتمل على ثلاثة مباحث :
__________
(1) هدي الساري ص 441 .
(2) مقدمة ابن الصلاح ص 134 ، لسان الميزان 1/107 .
(3) ميزان الاعتدال 2/34 .
(4) سير أعلام النبلاء 12/441 .
(5) فتح المغيث العراقي 2/11 .
(6) ميزان الاعتدال 3/51 ، 52 .(1/34)
المبحث الأول : المُتشدِّدون في الجرح والتعديل .
المبحث الثاني : المُعتدلون في الجرح والتعديل .
المبحث الثالث : المُتساهلون في الجرح والتعديل .
المبحث الأول : المُتشدِّدون في الجرح والتعديل
ويشتمل على خمسة مطالب :
المطلب الأول : مفهوم التشدُّد عند علماء الجرح والتعديل .
المطلب الثاني : الأسباب الحاملة لبعض العلماء على التشدُّد .
المطلب الثالث : نشأة التشدُّد في الجرح والتعديل .
المطلب الرابع : أشهر المتشددين في الجرح والتعديل .
المطلب الخامس : موقف العلماء من أحكام المتشددين في الجرح والتعديل .
المطلب الأول : مفهوم التشدُّد عند علماء الجرح والتعديل
الشِدَّة في اللغة هي : الصلابة ، وهي : نقيض اللين ، وتكون في الجواهر والأعراض ، والتشديد خلاف التخفيف (1) .
ونستطيع أن نفهم من عبارات المحدِّثين أن المراد بالتشديد في الجرح والتعديل عندهم هو :
الإسراف والتعنُّت في الجرح بحيث يجرح الناقد الراوي ويرد رواياته من أجل هفوةٍ يسيرة ، أو ذنبٍ صغير ، أو خلافٍ سائغ في المُعتقد ، أو الأحكام فيجرح المتشدد الراوي بأدنى جرح ، ويُطلق عليه ما لا ينبغي إطلاقه .
فالمُتشدد هو :
من يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، ويجرحه بأدنى جرح ، ويلين بذلك حديثه (2) .
والوصف بالتشدد أو بالاعتدال أو بالتساهل إنما يكون باعتبار الغالب من حال الناقد وأقواله وأحكامه على الرجال .
وذلك أن بعض المتشددين قد يعتدل أو يتساهل ، وبعض المُعتدلين قد يتشدد أو يتساهل ، وبعض المُتساهلين قد يتشدد أو يعتدل ، وإنما يُوصف الراوي بأحد هذه الأوصاف باعتبار الأغلب الأعم من أحكامه ، ولذلك كان التعامل مع أحكام العلماء على الرواة عسِر ، ولا يكمُل له إلا القليل من علماء هذا الفن .
__________
(1) لسان العرب لابن منظور ( 7 / 54 ) .
(2) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل للذهبي ( ص 171 ) .(1/35)
وقد أدرك العلماء خطورة التشدد في هذا الباب لمنافاته العدل والإنصاف وحذَّروا من الوقوع فيه .
قال الحافظ ابن حجر : وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل ، فإنه إن عدّل أحداً بغير تثبت كان كالمثبت حكماً ليس بثابت فيُخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب ، وإن جرح بغير تحرزٍ أقدم على الطعن في مسلمٍ بريء من ذلك ووسمه بميسم سوءٍ يبقى عليه عاره أبداً (1) .
فإذا تشدَّد الناقد وجرح الراوي وردَّ روايته لوقوع خطأٍ قليلٍ منه فلن يسلم له من الرواة أحد فمن ذا يسلم من الخطأ .
قال وكيع : ومن يسلم من الغلط ؟ (2) .
وقال ابن المبارك : من ذا سلم من الوهم ؟ (3) .
وقال يحيى بن معين : لست أعجب ممن يُحدِّث فيُخطئ وإنما أعجب ممن يحدث فيُصيب (4) .
وقال الإمام الذهبي مخاطباً للعقيلي وهو أحد المتشدِّدين في هذا الباب : أشتهي أن تُعرِّفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يُتابع عليه ؟ ... حتى قال : ثم ما كل من فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يُقدح فيه بما يُوهِن حديثه ولا من شَرْط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ (5) .
وقال ابن حجر : لو كان كل من روى شيئاً منكراً استحق أن يُذكر في الضعفاء لما سلِم من المحدثين أحدٌ لاسِيَّما المُكثر منهم (6) .
وقال أحمد بن حنبل : من يعرى من الخطأ والتصحيف (7) .
ومن خطورة التشدد أنه يجعل قول صاحبه ساقطاً ، وحكمه مردوداً مع إمامته وديانته .
__________
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر العسقلاني ( ص69 ) .
(2) تاريخ بغداد ( 11 / 452 ) .
(3) لسان الميزان لابن حجر ( 1 / 109 ) .
(4) تهذيب الكمال للمزي ( 31 / 561 ) .
(5) ميزان الاعتدال ( 2 / 230 ) .
(6) لسان الميزان ( 2 / 353 ) .
(7) تهذيب الكمال (31 / 338 ) .(1/36)
قال الإمام السخاوي : ولوجود التشدد ومقابله -أي التسامح- نشأ التوقف في أشياء من الطرفين ، بل رُبَّما رُدَّ كلام كل من المعدل والمجرح مع جلالته ، وإمامته ، ونقده ، وديانته إما لانفراده عن أئمة الجرح والتعديل أو لتحامله (1) .
المطلب الثاني : الأسباب الحاملة لبعض العلماء على التشدد
التشدد نوعان :
النوع الأول : تشددٌ عام بحيث يكون الناقد مُسرفاً متعنِّتاً في جرح جميع الرواة ولهذا التشدد أسباب كثيرة من أهمها :
1- الطبيعة البشرية التي تغلُب على الناقد بحيث يميل طبعه إلى التشدد ، وينفر من التساهل والاعتدال ، ولله في خلقه شؤون ، وما أحسن تعبير الإمام الذهبي عن المتشدد بأنه : حاد النفس (2) .
2- المبالغة في الحرص على صيانة السنة ، ورد الضعيف ، ونفي المكذوب ، والأخذ بالأحوط بحيث يحمله الحرص على ذلك على تجريح الرواة بالقليل من الوهم أو النسيان أو الوقوع في الذنب والخطأ ، فلا يكاد يُوثِّق أحداً ، ومن ذا يسلم من الخطأ ؟ .
3- عدم معرفة الراوي معرفةً شخصية فيقبل ما نقل إليه عنه من غير بحثٍ وتدقيق مع إساءةٍ للظن به والبناء على القرائن المُتوهَّمة ، ومثال ذلك : رد الحكم بن عتيبة لحديث زاذان فلما سُئِل عن ذلك قال : كان كثير الكلام (3) فبنى على كثرة كلامه كثرة وقوع الخطأ منه .
__________
(1) فتح المغيث ( 3 / 272 ، 273 ) .
(2) الموقظة في مصطلح الحديث للذهبي ( ص 82 ) .
(3) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ( ص 112 ) .(1/37)
قال السخاوي : ولعله استند إلى ما رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به " (1) .
قال السخاوي : وهذا ليس بلازم ولا مطرد ، ولا بمثله تُرد أحاديث الرواة (2) .
4- عدم معرفة ما يُصيِّر الراوي مجروحاً مردود الرواية فيجرحه الناقد الورع بما لا يُجرح الرواة بمثله , أو يُرتِّب على فعله ما لا يلزم سُئل شعبة بن الحجاج لم تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على برذون فتركته (3) ، ومن المعلوم أن الرواة لا يُجرحون بمثل هذا , ولعل شعبة فهم مما رآه أن فيه شيئاً من الكبر وهذا ليس بلازمٍ مطلقاً .
النوع الثاني : من التشدد هو : التشدُّد الخاص بحيث يكون الناقد معتدِلاً مُنصِفاً مع الرواة إلا مع رواة مخصوصين ببلد أو صفة ، والسبب وراء ذلك هو : نوعٌ من الهوى يجعل الناقد يبغض أهل بلدٍ معين - كالجوزجاني مع أهل الكوفة - أو يتحامل على أتباع مذهبٍ معين - كنعيم بن حماد مع أهل الرأي - أو اعتقادٍ معين - كابن خراش وابن عقدة مع أهل السنة - فيحمله هذا البغض أو هذه المخالفة على التشدد في جرحهم .
قال الإمام الذهبي : وقد يكون نَفََس الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك (4) .
__________
(1) الطبراني في المعجم الأوسط (6/ 328) رقم 6541 ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/74) ، وقال الهيثمي : فيه جماعة لم أعرفهم مجمع الزوائد (10/302) وذكره ابن الجوزي في اللآلئ المصنوعة (2/705) رقم 1173 ، وقال : لا يصح , وقال العجلوني : سنده ضعيف كشف الخفاء (2/361) رقم2592 .
(2) فتح المغيث ( 3 / 331 ) .
(3) نزهة النظر ( ص 69 ) .
(4) الموقظة في علم مصطلح الحديث ( ص 84 ) .(1/38)
قال ابن حجر مبيناً أسباب الخطأ في الجرح : والآفة تدخل في هذا تارةً من الهوى والغرض الفاسد وكلام المتقدمين سالمٌ من هذا غالباً ، وتارةً من المخالفة في العقائد ، وهو موجود قديماً وحديثاً (1) .
وقال الشيخ محمد عبد الحي اللكنوي : واعلم أن من النقاد من له تعنت في جرح أهل بعض البلاد , أو بعض المذاهب , لا في جرح الكل , فحينئذٍ يُنقَّح الأمر في ذلك الجرح (2) .
المطلب الثالث : نشأة التشدد في الجرح والتعديل
ذكرنا سابقاً أن النقد نشأ مقترناً بالرواية ، ولذلك فإننا نستطيع أن نقول إنه لا يوجد عصرٌ محدَّدٌ لبداية ظهور التشدد في الجرح ، بل هو مقترنٌ ببداية ظهور النقد ، وموجودٌ في كل طبقةٍ من طبقات النقاد .
ولذلك فإنك لا تكاد تجد طبقةً من طبقات النقاد إلا وقد وُجد فيها المتشدد والمعتدل ، وإن كان التشدد في الأقدمين أقل وفي المتأخرين أكثر .
ولذلك قال ابن حجر : ما حكى ابن منده عن الباوَرْدي أن النسائي يُخرِّج أحاديث من لم يُجْمَع على تركه فإنه أراد بذلك : إجماعاً خاصاً ، وذلك أن كل طبقةٍ من النقاد لا تخلو من متشددٍ ومتوسط .
فمن الأولى : شعبة ، وسفيان الثوري ، وشعبة أشد منه .
ومن الثانية : يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ويحيى أشد من عبد الرحمن .
ومن الثالثة : يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى أشد من أحمد .
ومن الرابعة : أبو حاتم ، والبخاري ، وأبو حاتم أشد من البخاري .
فقال النسائي : لا يُترك الرجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه ، فأما إذا وثَّقه ابن مهدي وضعَّفه يحيى القطان مثلاً فإنه لا يُترك لما عُرف من تشديد يحيى (3) .
__________
(1) نزهة النظر ( ص 69 ) .
(2) الرفع والتكميل في الجرح والتعديل ( ص 308 ) .
(3) الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة للكنوي ( ص162 ، 163 ) .(1/39)
ولذلك فإنك لا تجد راوياً ثقة اتفق العلماء على تضعيفه ، بل إذا ضعَّفه البعض تشدداً وثَّقه البعض اعتدالاً وإنصافاً .
قال الإمام الذهبي : هذا الدين مؤيَّدٌ محفوظٌ من الله تعالى لم يجتمع علماؤه على ضلالةٍ لا عمداً ولا خطأً فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة ، وإنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف ، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه ، فإن قُدِّر الخطأ في نقده فله أجرٌ واحد (1) .
قال الحافظ ابن حجر : قال الذهبي - وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال - لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة .
ولهذا كان مذهب النسائي : أن لا يُترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه (2) ، والمراد بالجميع هنا : الأكثر (3) .
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة : معنى كلام الذهبي : أنه لم يقع الاتفاق من العلماء على توثيق ضعيف بل إذا وثَّقه بعضهم ضعَّفه غيرهم كما لم يقع الاتفاق من العلماء على تضعيف ثقة فإذا ضعفه بعضهم وثقه غيرهم فلم يتفقوا على خلاف الواقع في جرح راوٍ أو تعديله ، ولفظ اثنان في كلامه المراد بها : الجميع كقولهم : هذا أمرٌ لا يختلف فيه اثنان أي : يتفق عليه الجميع ولا ينازع
فيه أحد (4) .
المطلب الرابع : أشهر المتشدِّدين في الجرح والتعديل
ذكر العلماء جماعةً من النقَّاد وصفوهم بالإسراف في الجرح والتعنت فيه والتشدُّد في الجرح نوعان :
النوع الأول : تشددٌ عام بأن يُنقل عن الناقد أنه بالغ وأسرف في جرح الرواة عموماً من غير تخصيص وهذا هو النوع الأغلب .
النوع الثاني : تشددٌ خاص بأن يُنقل عن الناقد أنه تشدَّد في جرح رواة بلدٍ معين أو مذهبٍ معين أو نحو ذلك .
__________
(1) الموقظة ( ص 84 ) .
(2) نزهة النظر ( ص 69 ) .
(3) شرح شرح النخبة لعلي القاري ( ص140 ) .
(4) في تعليقه على رسالة : المتكلمون في الرجال للسخاوي ( ص 143 ) .(1/40)
وسأذكر لك في النوعين أشهر من وُصف بالتشدد مع مناقشة ذلك وعرض الأمثلة الدالة على ما أقول :
أشهر المتشدِّدين من النوع الأول
سأورد أشهر المتشددين في هذا النوع وسأرتِّبهم على تاريخ وفياتهم دون اعتبارٍ لكثرة تشددهم أو قِلَّته .
[1] شعبة بن الحجاج
هو الإمام الحافظ العلم أمير المؤمنين في الحديث : شعبة بن الحجاج بن الورد ، أبو بسطام الأزدي ، كان إماماً ثبتاً حجةً ناقداً جهبذاً صالحاً زاهداً قانعاً بالقوت رأساً في العلم والعمل منقطع القرين ، وهو أول من جرح وعدل ، كان أمةً وحده في هذا الشأن ، توفي سنة ستين ومائة.
قال الإمام النسائي : أمناء الله عز وجل على علم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة : شعبة بن الحجاج ، ومالك بن أنس ، ويحيى بن سعيد القطان (1) .
وممن نصّ على تشدده :
أ- الإمام مالك بن أنس ، قال قرة بن سليمان الجهضمي : قال لي مالك : شعبتكم تشدَّد في الرجال (2) .
ب- الإمام الذهبي ، قال : شعبة مُتعنِّت (3) .
ج- الحافظ ابن حجر ، قال : كل طبقةٍ من نقاد الرجل لا تخلو من متشددٍ ومتوسط فمن الأولى : شعبة ، والثوري وشعبة أشدهما (4) .
د- الإمام السخاوي ، قال : كان شعبة يتعنَّت في الرجال ولا يروي إلا عن ثبت (5) .
__________
(1) راجع ترجمة شعبة في : تاريخ بغداد ( 9 / 255 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 7 / 202 ) ، وحلية الأولياء ( 7 / 144 ) .
(2) راجع : تهذيب الكمال ( 13 / 503 ) ، والكامل في الضعفاء لابن عدي ( 5 / 225 ) .
(3) المغني في الضعفاء ( 2 / 792 ) ترجمة رقم 7552 .
(4) المتكلمون في الرجال للسخاوي ( ص144 ) .
(5) فتح المغيث ( ص 134 ) .(1/41)
لكني لم أجد من نصّ على تعنته وتشدده من خلال حكمه على راوٍ معين إلا ما ذكره ابن حجر في ترجمة خالد بن مهران الحذاء قال : تكلَّم فيه شعبة لدخوله في شيءٍ من العمل (1) ، فلعلهم يقصدون بتشدُّده وتعنُّته : أنه كان لا يروي إلا عن ثقة ، وكان يتجنب الرواية عن الضعفاء والمتروكين , وقد يقصدون بتشدُّده : أنه يجرح الراوي بدون سببٍ قوي يقتضي تجريحه .
قال أحمد بن حنبل : كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن .
قال المزي : يعني في الرجال وبصره بالحديث وتثبته وتنقيته للرجال (2) ، وليس هذا تشدداً بل هو عين الاعتدال .
[2] يحيى بن سعيد القطان
هو الإمام الكبير أمير المؤمنين في الحديث يحيى بن سعيد بن فرُّوخ أبو سعيد البصري الأحول القطان الحافظ .
عُني بهذا الشأن أتمَّ عناية ، ورحل فيه ، وساد الأقران ، وإليه المُنتهى في الحفظ والتثبُّت ، وتكلَّم في العِلل والرجال ، وتخرَّج به العلماء والحفاظ ، كان ثقةً مأموناً ثبتاً حجة ، ساد أهل زمانه حفظاً وورعاً ، وفهماً وفضلاً ، وديناً وعلماً ، توفي سنة ثمانٍ وتسعين ومائة (3) .
وقد نصّ على تشدده وتعنته في الجرح :
أ- الإمام علي بن المديني ، فإنه قال : إذا اجتمع يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجلٍ لم أُحدِّث عنه فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن لأنه أقصدهما ، وكان في يحيى تشدُّد (4) .
ب- الإمام الذهبي ، فإنه قال : يحيى بن سعيد حاد النفس في الجرح (5) .
وقال في ترجمة سيف بن سليمان : حدَّث يحيى القطان مع تعنُّته عن سيف (6) .
__________
(1) هدي الساري ( ص 485 ) .
(2) تهذيب الكمال ( 12 / 490 ) .
(3) راجع ترجمته في : طبقات ابن سعد ( 7 / 293 ) ، والجرح والتعديل ( 9 / 150 ) ، وتذكرة الحفاظ (1/ 298 ) .
(4) تهذيب الكمال ( 17 / 438 ) .
(5) الموقظة ( ص 82 ) .
(6) ميزان الاعتدال ( 3 / 352 ) .(1/42)
وقال أيضاً في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله : وحدَّث عنه يحيى ابن سعيد مع تعنته في الرجال (1) .
ج- الإمام ابن حجر ، فإنه قال : كل طبقةٍ من نقَّاد الرجال لا تخلو من متشددٍ ومتوسط ... ومن الثانية : يحيى القطان وابن مهدي ويحيى أشدهما (2) .
وقال ابن حجر أيضاً : روى يحيى القطان عن الحسن بن ذكوان مع تعنته في الرجال (3) .
وقال أيضاً في ترجمة عثمان بن عمر بن فارس : نقل البخاري عن علي بن المديني أن يحيى بن سعيد احتج به ، ويحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال لا سيَّما من كان من أقرانه (4) .
د- الحافظ الزيلعي ، فإنه قال في نصب الراية : يحيى شرطه شديد في الرجال ، وكذلك قال : لو لم أرو إلا عمن أرضى ما رويت إلا عن خمسة (5) .
هـ- الإمام اللكنوي ، فإنه عدَّه ضمن المعروفين بالإسراف في الجرح والتعنت فيه (6) .
وسأورد لك بعض الأمثلة من كتب الرجال حتى يثبُت عندك تعنت يحيى القطان وتشدده في الجرح :
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة سفيان بن عيينة :
قال يحيى القطان : أشهد أن سفيان بن عيينة اختلط سنة سبعٍ وتسعين ومائة فمن سمع منه فيها فسماعه لا شيء , ثم قال الذهبي : وأنا أستبعد هذا الكلام من القطان ... مع أن يحيى متعنتٌ جداً في الرجال ، وسفيان فثقة مطلقاً (7) .
المثال الثاني : قال الذهبي في ترجمة حرب بن شداد : وثَّقه أحمد بن حنبل وغيره ، وقال الفلاس : كان يحيى بن سعيد لا يُحدِّث عنه ، قال الذهبي : هذا من تعنت يحيى في الرجال ، وله اجتهاده فلقد كان حجة في نقد الرواة (8) .
__________
(1) ميزان الاعتدال ( 4 / 296 ) .
(2) المتكلمون في الرجال ( ص 144 ) .
(3) فتح الباري ( 11 / 450 ) .
(4) هدي الساري ( ص 445 ) .
(5) نصب الراية ( 2/ 439 ) .
(6) الرفع والتكميل ( ص 275 ) .
(7) ميزان الاعتدال ( 3 / 247 ) .
(8) سير أعلام النبلاء ( 7 / 194 ) .(1/43)
المثال الثالث : قال الذهبي في ترجمة حبيب بن المعلم : حبيب حجة تعنت يحيى بن سعيد فكان لا يحدث عنه ، وحديثه في الكتب كلها (1) .
المثال الرابع : قال ابن حجر في ترجمة عقيل بن خالد : تكلم فيه القطان بعنت (2) .
[3] عفان بن مسلم الصفار
هو الإمام الحافظ محدث العراق : عفان بن مسلم بن عبد الله الأنصاري أبو عثمان البصري الصفار ، أحد الأئمة الثقات والعلماء الكبار , توفي سنة تسع عشرة ومائتين (3) .
وممن نص ّ على تشدده :
أ علي بن المديني فقد نقل عنه الحافظ الذهبي أنه قال : عفان ، وأبو نعيم لا أقبل قولهما في الرجال لا يَدَعون أحداً إلا وقعوا فيه .
قال الذهبي : يعني أنه لا يختار قولهما في الجرح لتشديدهما فأما إذا وثَّقا أحداً فناهيك به (4) .
ب أحمد بن حنبل ، فقد أشار إلى تشدد عفان حينما قال لابنه صالح حين قدم من البصرة : لِمَ لَمْ تكتب عن عمرو بن مرزوق ؟ فقال له صالح : نُهيت - أي عن الكتابة عنه - فقال له أحمد : إن عفان كان لايرضاه ومن الذي كان يُرضي عفان ؟ كان عمرو صاحب غزوٍ وخير (5) .
وعفان ليس من المتشددين مطلقاً بل غالب أقواله محمولةٌ على الاعتدال وقد يتشدد أحيانا ، ولذلك نبَّه العلماء على هذا الأمر ، ولم أقف له على جرح اتَّهمه فيه العلماء بالتشدد .
[4] أبو نعيم الفضل بن دكين
__________
(1) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما يوجب ضعفهم للذهبي ( ص 79 ) .
(2) هدي الساري ( ص 487 ) .
(3) راجع ترجمته في : طبقات ابن سعد ( 7 / 363 ) ، والجرح والتعديل ( 7 / 30 ) ، وسير أعلام النبلاء (10 / 242 ) .
(4) سير أعلام النبلاء ( 10 / 250 ) .
(5) ميزان الاعتدال ( 3 / 288 ) .(1/44)
هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام : الفضل بن عمرو بن حماد بن دكين الكوفي الأحول ، أحد أئمة هذا الشأن , توفي سنة تسع عشرة ومائتين (1) .
وممن نصّ على تشدده :
أ علي بن المديني ، وقد سبق نقل كلامه المتعلق بتشدده وتشدد قرينه عفان بن مسلم .
والقول فيه هو ما سبق في عفان ، ولم أقف على من اتهمه بالتشدد في أحكامه إلا ما سبق عن ابن المديني بل رأيت العلماء يقبلون أحكامه جرحاً وتعديلا .
[5] يحيى بن معين
هو الإمام الحافظ الجهبذ شيخ المحدثين : يحيى بن معين بن عون أبو زكريا البغدادي ، كان إماماً في الجرح والتعديل ، كأن الله خلقه لهذا الشأن كان آيةً في الحفظ والفهم ، رفض الدنيا من أجل الاشتغال بالسنن ، وكثرت عنايته بها وجمعه وحفظه لها حتى صار عَلَماً يُقتدي به في الأخبار ، وإماماً يُرجع إليه في الآثار ، توفي سنة ثلاثٍ وثلاثين ومائتين (2) .
وممن نصَّ على تشدده :
أ- الإمام الذهبي ، فإنه قال في أقسام العلماء من حيث الجرح والتعديل : قسمٌ منهم متعنت في التوثيق متثبت في التعديل يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ويلين بذلك حديثه ... حتى قال : وابن معين ، وأبو حاتم ، والجوزجاني متعنتون (3) .
وقال أيضاً : ابن معين حاد النفس في الجرح (4) .
ب- ابن تيمية ، فإنه قال : وابن معين ، وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية (5) .
ج- ووصفه بالتشدد أيضا : ابن حجر العسقلاني (6) .
__________
(1) راجع ترجمته في : تاريخ بغداد ( 12 / 346 ) ، والجرح والتعديل ( 7 / 61 ) ، وتذكرة الحفاظ ( 1 / 372 ) .
(2) راجع ترجمته في : سير أعلام النبلاء ( 11 / 71 ) ، وتهذيب التهذيب ( 9 / 297 ) ، ووفيات الأعيان ( 6 / 139 ) .
(3) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص 171 ، 172 ) .
(4) الموقظة ( ص 82 ) .
(5) مجموع فتاوي ابن تيمية ( 24 / 349 ) .
(6) النكت على كتاب ابن الصلاح ( 1 / 482 ) .(1/45)
د- الإمام اللكنوي ، فإنه عدَّه ضمن المعروفين بالإسراف في الجرح والتعنت فيه (1) .
ومن الأمثلة الدالة على تشدده في الجرح :
ما حكاه ابن تيمية في ترجمة ميمون بن سياه قال : أخرج له البخاري والنسائي ، وقال فيه أبو حاتم الرازي ثقة ، وحسبك بهؤلاء الثلاثة .
وعن ابن معين أنه قال فيه : ضعيف ، قال : لكن هذا الكلام يقوله ابن معين في غير واحدٍ من الثقات (2) .
ويحيى بن معين إمام في الجرح والتعديل وكلامه في الرجال كثير جداً ، قال الذهبي : به يُسبر أحوال الضعفاء (3) .
وقال عنه أحمد بن حنبل : هاهنا رجل خلقه الله لهذا الشأن يظهر كذب الكذابين (4) .
وقد قَبِل العلماء أقواله في الرجال ، وما رُمي به من تشدد وتعنت إنما هو في القليل النادر .
[6] علي بن المديني
هو الإمام الحجة والشيخ الكبير أمير المؤمنين في الحديث : علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح أبو الحسن البصري المعروف بابن المديني ، برع في هذا الشأن ، وصنَّف ، وجمع ، ورحل ، وكتب ، وذاكر ، وحفظ ، وساد الحفاظ في معرفة العلل ، وله كلام كثير في الجرح والتعديل .
قال البخاري : ما استصغرت نفسي عند أحدٍ إلا عند علي بن المديني ، توفي سنة أربعٍ وثلاثين ومائتين (5) .
ولم أجد من نصّ على تشدده في الرجال إلا :
أبو زرعة الرازي ، قال ابن أبي حاتم : سُئِل أبو زرعة عن فضل بن سليمان فقال : لين الحديث روى عنه علي بن المديني ، وكان من المتشددين (6) .
__________
(1) الرفع والتكميل ( ص 275 ) .
(2) محموع فتاوى ابن تيمية ( 6 / 245 ) .
(3) سير أعلام النبلاء ( 11 / 76 ) .
(4) سير الأعلام ( 11 / 80 ) .
(5) راجع ترجمته في : تاريخ بغداد ( 11 / 458 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 11 / 41 ) ، وطبقات الشافعية للسبكي ( 2 / 145 ) .
(6) الجرح والتعديل ( 7 / 72 ) .(1/46)
وقد نقل هذا الكلام المزي (1) ، وابن حجر (2)، ولم أجد من نصّ على تشدده أو ذكر راوياً تشدد في الكلام عنه ، وما أظنه إلا معتدلاً منصفاً ، فهو إمامٌ في هذا الشأن ، وكلامه في الرجال كثير .
[7] أبو حاتم الرازي
هو الإمام الحافظ الناقد شيخ المحدثين : محمد بن إدريس بن المنذر أبو حاتم الرازي الحنظلي ، كان من بحور العلم ، طوّف البلاد ، وبرع في المتن والإسناد ، وجمع وصنف ، وجرح وعدل ، وصحح وعلل ، وكان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات ، وكان مشهوراً بالعلم مذكوراً بالفضل ، توفي سنة سبعٍ وسبعين ومائتين (3) .
وممن نصَّ على تشدده وإسرافه في الجرح :
أ- الإمام الذهبي ، فإنه قال : وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متعنتون (4) .
وقال أيضاً : إذا وثَّق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله فإنه لا يوثِّق إلا رجلاً صحيح الحديث ، وإذا ليّن رجلاً وقال فيه : لا يُحتج به فتوقَّف حتى ترى ما قال غيره فيه ، فإن وثَّقه أحدٌ فلا تبنِ على تجريح أبي حاتم فإنه متعنت في الرجال قد قال في طائفةٍ من رجال الصحاح ليس بحجة ليس بقوي أو نحو ذلك (5) .
وقال أيضاً : أبو حاتم حاد النفس في الجرح (6) .
وقال في ترجمة عاصم بن علي الواسطي : وهو كما قال فيه المتعنت أبو حاتم : صدوق (7) .
وقال في ترجمة طالوت بن عباد : حسبُك بقول المتعنت في النقد أبي حاتم فيه (8) .
__________
(1) تهذيب الكمال ( 23 / 274 ) .
(2) هدي الساري ( ص457 ) ، وتهذيب التهذيب ( 6 / 418 ) .
(3) راجع ترجمته في : سير أعلام النبلاء ( 13 / 247 ) ، والجرح والتعديل ( 1 / 349 ) , والوافي بالوفيات ( 2 / 183 ) .
(4) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص172 ) .
(5) سير أعلام النبلاء ( 13 / 260 ) .
(6) الموقظة ( ص 82 ) .
(7) ميزان الاعتدال ( 2 / 355 ) .
(8) سير أعلام النبلاء ( 11 / 26 ) .(1/47)
ب- ابن حجر العسقلاني ، فإنه قال في ترجمة أبي بلج يحيى الكوفي : يكفي في تقويته توثيق النسائي ، وأبي حاتم مع تشددهما (1) .
ج- ابن تيمية ، فإنه قال : وابن معين ، وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية (2) .
د- ابن القيم ، فإنه قال : أبو حاتم الرازي يجهل رجالاً وهم ثقات معروفون ، وهو متشدد في الرجال (3) .
هـ- اللكنوي ، فإنه عدَّه ضمن المعروفين بالإسراف في الجرح والتعنت فيه (4) .
وسأورد بعض الأمثلة التي تبين إسرافه وتشدده في الجرح : ...
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة إبراهيم بن خالد الكلبي أبو ثور الفقيه : وثَّقه النسائي والناس ، وأما أبو حاتم فتعنَّت فيه كعوائده وقال : ليس محله محل المتسعين في الحديث كان يتكلم بالرأي فيخطئ ويصيب .
قال الذهبي : فهذا غلوٌ من أبي حاتم غفر الله له (5) .
المثال الثاني : قال الذهبي في ترجمة عبَّاد بن عباد المهلبي : عباد وثقوه وحديثه في الكتب ، وقال أبو حاتم : لا يُحتج به .
قال الذهبي : قلت : أبو حاتم متعنت في الرجال (6) .
المثال الثالث : قال الذهبي في ترجمة يحيى بن بكير بعد أن ذكر أقوال العلماء في توثيقه :
قال أبو حاتم : يُكتب حديثه ولا يُحتج به ، قال الذهبي : قد عُلم تعنت أبي حاتم في الرجال وإلا فالشيخان قد احتجا به (7) .
__________
(1) بذل الماعون في فضل الطاعون نقلاً عن الرفع والتكميل ( ص 279 ) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 24 / 349 ) .
(3) حاشية ابن القيم ( 1 / 323 ) .
(4) الرفع والتكميل ( ص 275 ) .
(5) ميزان الاعتدال ( 1 / 29 ) ، والرواة الثقات المتكلم فيهم بما يوجب ردهم ( ص41 ) .
(6) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما يوجب ردهم ( ص 112 ) .
(7) تذكرة الحفاظ ( 2 / 420 ) .(1/48)
المثال الرابع : قال الذهبي في ترجمة عباد بن عباد : تعنت أبو حاتم كعادته وقال : لا يُحتج به ، وقد وثَّقه ابن معين ، وابن سعد ، واحتج أرباب الصحاح به (1) . ...
المثال الخامس : قال ابن حجر في ترجمة محمد بن أبي عدي البصري : قال أبو حاتم والنسائي وابن سعد : ثقة ، وفي الميزان أن أبا حاتم قال : لا يُحتج به ، فيُنظر في ذلك ، وأبو حاتم عنده عنت وقد احتج به الجماعة (2) .
المثال السادس : قال ابن حجر : بشير بن نهيك تعنت أبو حاتم في قوله : لا يُحتج به (3) .
وقال في ترجمة شجاع بن الوليد : تكلم فيه أبو حاتم بعنت (4) .
وقال في ترجمة عبد الله بن سعيد : تكلم فيه أبو حاتم بعنت (5) .
وقد نصَّ ابن حجر على ذلك في أكثر من موضع (6) .
[8] النسائي
هو الإمام الحافظ الثبت شيخ الإسلام ناقد الحديث : أحمد بن شعيب بن علي أبو عبد الرحمن النسائي صاحب السنن .
كان من بحور العلم مع الفهم والإتقان والبصر ونقد الرجال وحسن التأليف ، كان إماماً حافظاً ثبتاً ، عالماً بالصحيح والسقيم ناقداً للرجال ، تقياً ورعاً عابداً ، توفي سنة ثلاثٍ وثلاثمائة (7) .
وقد عدَّه بعض العلماء من المتشدِّدين في جرح الرجال ونقدهم حتى قيل : إن شرطه في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم .
__________
(1) سير أعلام النبلاء ( 8 / 295 ) .
(2) هدي الساري ( ص 463 ) .
(3) هدي الساري ( ص 485 ) .
(4) هدي الساري ( ص 486 ) .
(5) هدي الساري ( ص 486 ) .
(6) راجع : هدي الساري ( ص 486 ، 488 ) .
(7) راجع ترجمته في : وفيات الأعيان ( 1 / 77 ) ، وتذكرة الحفاظ ( 2 / 698 ) ، وتهذيب التهذيب ( 1 / 67 ) .(1/49)
قال الحافظ محمد بن طاهر المقدسي : إن أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني سُئل بمكة عن حال رجلٍ من الرواة فوثَّقه فقيل له : إن أبا عبد الرحمن النسائي ضعَّفه فقال للسائل : يا بني إن لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم (1) .
قال الإمام الذهبي تعليقاً على هذا الكلام : صدق فإنَّه ليَّن جماعةً من رجال صحيحي البخاري ومسلم (2) .
وممن نصّ على تشدده :
... أ - الذهبي ، فقال في ترجمة الحارث الأعور : حديث الحارث في
السنن الأربعة ، والنسائي مع تعنُّته في الرجال فقد احتج به وقوَّى أمره (3) .
... ب - ابن حجر ، قال في ترجمة أحمد بن عيسى التستري : عاب أبو زرعة على مسلم تخريج حديثه ، ولم يبيِّن السبب ، وقد احتجَّ به النسائي مع تعنته (4) .
وقال في ترجمة أبي بلج يحيى الكوفي : يكفي في تقويته توثيق النسائي وأبي حاتم مع تعنتهما (5) .
... ج - اللكنوي ، فقد عدَّه ضمن المعروفين بالإسراف في الجرح (6) .
وسأورد بعض الأمثلة الدالة على تشدُّده في جرح الرجال :
... المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة أشعث بن عبد الرحمن اليامي : أسرف النسائي في قوله ليس بثقة ولا يُكتب حديثه (7) .
... المثال الثاني : قال ابن حجر : حبيب المعلم متفقٌ على توثيقه لكن تعنَّت فيه النسائي (8) .
وقال أيضاً في ترجمة الحسن بن الصباح : تعنت فيه النسائي (9) .
وقال في ترجمة هدبة بن خالد : ضعفه النسائي بلا حجة (10) .
[9] العقيلي
__________
(1) شروط الأئمة الستة للحازمي ( ص 21 ) .
(2) سير أعلام النبلاء ( 14 / 131 ) .
(3) ميزان الاعتدال ( 1 / 437 ) .
(4) هدي الساري ( ص 406 ) .
(5) بذل الماعون في فضل الطاعون نقلاً عن الرفع والتكميل ( ص 279 ) .
(6) الرفع والتكميل ( ص275 ) .
(7) ميزان الاعتدال ( 1 / 430 ) ، والمغني في الضعفاء ( ص91 ) .
(8) هدي الساري ( ص 485 ) .
(9) هدي الساري ( ص 485 ) .
(10) هدي الساري ( ص 488 ) .(1/50)
هو الإمام الحافظ الناقد : محمد بن عمرو بن موسى أبو جعفر العقيلي الحجازي ، مصنِّف كتاب الضعفاء ، كان جليل القدر ، كثير التصانيف ، عالم بالحديث ، مُقدَّمٌ في الحفظ ، توفي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة (1) .
وقد وصفه بالتعنُّت في الجرح والإسراف فيه :
أ- الإمام الذهبي ، فقد انتقده كثيراً لتعنته في الجرح حتى إنه تناول الثقات بالتجريح مثل علي بن المديني ، والبخاري ، وعبد الرزاق بن همام وغيرهم .
كما انتقده لتوسُّعه في جرح كل من فيه بدعة أو له هفوة أو ذنب .
ب - الإمام الكوثري ، فإنه قال : والعقيلي من أكبر المتعنتين في الجرح (2) .
ومن الأمثلة الدالة على تشدده في جرح الرجال :
المثال الأول : ذكر العقيلي في كتابه : " الضعفاء " : علي بن المديني إمام هذا الفن ، وذلك من أجل إجابته في مسألة خلق القرآن ، فانتقده الذهبي على ذلك انتقاداً شديداً فقال : إن علي بن المديني قد بدت منه هفوة ثم تاب منها وهذا أبو عبد الله البخاري ناهيك به ، وقد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني ، وقال : ما استصغرت نفسي بين يدي أحدٍ إلا بين يدي علي ، ولو تركتَ حديث علي ، وصاحبه محمد ، وشيخه عبد الرزاق ، وعثمان ابن أبي شيبة ، وإبراهيم بن سعد ، وعفان ، وأبان العطار ، وإسرائيل ، وأزهر السمان ، وبهز بن أسد ، وثابت البناني ، وجرير بن عبد الحميد لغلقنا الباب وانقطع الخطاب ، ولماتت الآثار ، واستولت الزنادقة ، ولخرج الدجال .
__________
(1) راجع ترجمته في : سير أعلام النبلاء ( 15 / 236 ) ، والوافي بالوفيات ( 4 / 291 ) ، وطبقات الحفاظ ( ص346 ) .
(2) فقه أهل العراق وحديثهم للكوثري ( ص 53 ، 83 ) .(1/51)
أفمالك عقل يا عقيلي أتدري فيمن تتكلم ؟ وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم ، ولنزيف ما قيل فيهم ، فإنك لا تدري أن كل واحدٍ من هؤلاء أوثق منك بطبقات بل وأوثق من ثقاتٍٍ كثيرين لم تُوردهم في كتابك ، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث ، وأنا أشتهي أن تُعرِّفني من هو الثقة الثبت الذي ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه ؟ بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له ، وأكمل لرتبته ، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر، وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك .
ثم قال : ثم ما كل أحدٍ فيه بدعة ، أو له هفوة ، أو ذنوب يُقدح فيه بما يُوهن حديثه ، ولا من شرط الثقة أن يكون معصوماً من الخطايا والخطأ ، ولكن فائدة ذكرنا كثيراً من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة ، أو لهم أوهام يسيرة في سعة علمهم أن يُعرف أن غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم ، فزِن الأشياء بالعدل والورع (1) .
المثال الثاني : قال ابن حجر في ترجمة أزهر بن سعد السمان : وثَّقه ابن معين ، وابن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وأورده العقيلي في الضعفاء بسبب حديثٍ واحدٍ خُولف فيه .
[10] ابن حِبَّان
هو الإمام العلامة الحافظ المجود شيخ خراسان : محمد بن حبان بن أحمد أبو حبان البستي ، صاحب الكتب المشهورة ، كان من أوعية العلم في الفقه ، واللغة ، والحديث ، والوعظ ، ومن عقلاء الرجال ، كان من فقهاء الدين ، وحُفَّاظ الآثار مع الفضائل الباهرة ، وكثرة التصانيف ، توفي سنة أربعٍ وخمسين وثلاثمائة .
وقد عدَّه من المتشددين :
الإمام الذهبي ، وابن حجر كما سيتضح من الأمثلة ، وقد عدَّه اللكنوي من المعروفين بالإسراف في الجرح والتعنت فيه (2) .
والشيخ الكوثري فإنه قال فيه :
__________
(1) ميزان الاعتدال ( 5 / 169 ، 170 ) .
(2) الرفع والتكميل ( ص 275 ) .(1/52)
الكلام في ابن حبان طويل الذيل ، وأقل ما قيل فيه قول ابن الصلاح : غَلِط الغلط الفاحش في تصرُّفِه . ...
ووصفه الذهبي بالتشغيب والتشنيع ، ومما يُؤخذ به أنه قد ذكر في كتابه الثقات خلقاً كثيراً ثم أعاد ذكرهم في المجروحين وادَّعى ضعفهم ، وذلك من تناقضه وغفلته ، وكثيراً ما تراه يذكر الرجل الواحد في طبقتين متوهماً كونه رجلين ، وطريقته في التوثيق من أوهن الطرق ، وإن سبقه في ذلك شيخه ابن خزيمة ، وهو جد عريقٍ في التعصب ، جامعٌ بين التعنت البالغ ، والتساهل المرذول في موضعٍ وموضع (1) .
وسأورد لك بعض الأمثلة الدالة على إسرافه وتعنته في جرح رواة الحديث :
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي الملقب بعارم : قال الدارقطني : ثقة ، ثم قال : فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله فأين هذا القول من قول ابن حبان الخساف المتهور في عارم ؟ ثم ذكر أنه رماه بالاختلاط ، وأن في أحاديثه مناكير كثيرة .
قال الذهبي : ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثاً منكراً فأين ما زعم ؟ (2) .
المثال الثاني : قال الذهبي في ترجمة أفلح بن سعيد المدني :
وثقه ابن معين , وقال ابن حبان : يروي عن الثقات الموضوعات لا يحل الاحتجاج به ، ولا الرواية عنه بحال .
قال الذهبي : قلت ابن حبان ربما قصب - أي عاب وجرح - الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه (3) .
المثال الثالث : قال الذهبي في ترجمة عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي : عثمان لا بأس به في نفسه ، وأما ابن حبان فإنه تقعقع كعادته وقال فيه : يروي عن قومٍ ضعاف أشياء يدلسها عن الثقات (4) .
__________
(1) تأنيب الخطيب ( ص 89 ) .
(2) ميزان الاعتدال ( 6 / 298 ) .
(3) ميزان الاعتدال ( 1 / 441 ) .
(4) ميزان الاعتدال ( 5 / 59 ) .(1/53)
المثال الرابع : قال الذهبي في ترجمة سويد بن عمرو : وثَّقه ابن معين وغيره ، وأما ابن حبان فأسرف واجترأ فقال : كان يقلب الأسانيد ، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية (1) .
المثال الخامس : قال ابن حجر في ترجمة سالم الأفطس : أفرط ابن حبان فقال : كان مرجئاً يقلب الأخبار ، وينفرد بالمعضلات عن الثقات ، اتُّهم بأمر سوءٍ فقُتل صبراً ، قال ابن حجر : فهذا الأمر السوء الذي زعم ابن حبان أنه اتهم به هو كونه مالأ على قتل إبراهيم بن علي بن عبد الله بن عباس ، وأما ما وصفه من قلبٍ الأخبار وغير ذلك فمردودٌ بتوثيق الأئمة له ، ولم يستطع ابن حبان أن يورد له حديثاً واحداً (2) .
[11] أبو الفتح الأزدي
هو الحافظ البارع محمد بن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي الموصلي صاحب كتاب الضعفاء ، توفي سنة أربعٍ وسبعين وثلاثمائة (3) .
وقد عدّه من المتشددين :
أ- الإمام الذهبي ، قال : له مصنفٌ كبيرٌ في الضعفاء ، وهو قوي النفس في الجرح (4) ، يعني أنه متشدد متعنت فيه . ...
وقال أيضاً : عليه في كتابه الضعفاء مؤاخذاتٌ فإنه ضعَّف جماعةً بلا دليل بل قد يكون غيره قد وثَّقهم (5) .
ب- ذكره الشيخ ظفر أحمد العثماني التهانوي فقال : الأزدي في لسانه رهقاً (6) وهو مسرف في الجرح (7) .
وسأورد لك بعض الأمثلة التي تدل على إسرافه وتعنته في الجرح :
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة أبان بن إسحاق المدني : قال
__________
(1) ميزان الاعتدال ( 3 / 350 ) .
(2) هدي الساري ( ص 402 ) .
(3) راجع ترجمته في : تاريخ بغداد ( 2 / 243 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 16 / 347 ) ، وشذرات الذهب ( 3 / 84 ) .
(4) تذكرة الحفاظ ( 3 / 967 ) .
(5) سير أعلام النبلاء ( 16 / 348 ) .
(6) يعني شدة ومغالاة .
(7) قواعد في علوم الحديث ( ص 177 ، 178 ) .(1/54)
أبو الفتح الأزدي : متروك ، قال الذهبي قلت : لا يُترك فقد وثقه أحمد العجلي ، وأبو الفتح يُسرف في الجرح ، وله مصنف كبير إلى الغاية في المجروحين ، جمع فأوعى ، وجرح خلقاً بنفسه لم يسبقه أحدٌ إلى التكلم فيهم ، وهو مُتكلَّمٌ فيه (1) .
المثال الثاني : قال الذهبي في ترجمة إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي : قال أبو حاتم وغيره : صدوق ، وقال الأزدي : ساقط .
قال الذهبي : لا يُلتفت إلى قول الأزدي فإن في لسانه في الجرح رهقاً (2) .
المثال الثالث : قال ابن حجر في ترجمة بهز بن أسد العمي بعد أن ذكر توثيق الأئمة له : وشذ الأزدي فذكره في الضعفاء ، وقال إنه كان يتحامل على عليّ ، قال ابن حجر : اعتمده الأئمة ولا يُعتمد على الأزدي (3) .
المثال الرابع : قال ابن حجر في ترجمة أيوب بن موسى الأشدق : اتفقوا على توثيقه ، وشذ أبو الفتح الأزدي فقال : لا يقوم إسناد حديثه (4) .
وقد نصَّ ابن حجر على شذوذه وتعنته في مواضع كثيرة (5) .
[12] أبو الحسن بن القطان
هو الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد المُجوِّد القاضي : علي بن محمد بن عبد الملك المغربي أبو الحسن الفاسي المالكي المعروف بابن القطان , كان من أبصر الناس بصناعة الحديث ، وأحفظهم لأسماء رجاله ، وأشدهم عنايةً بالرواية ، درس وحدث ، وله تصانيف ، توفي سنة ثمانٍ وعشرين وستمائة .
وقد عدَّه من المتشددين في الجرح :
__________
(1) ميزان الاعتدال ( 1 / 117 ) .
(2) أي عجلة وسرعة . ميزان الاعتدال ( 1 / 186 ) .
(3) هدي الساري ( ص 413 ) .
(4) هدي الساري ( ص 411 ) .
(5) راجع : هدي الساري ( ص 409 ، 410 ، 411 ، 484 ، 485 ) .(1/55)
أ - الإمام الذهبي ، قال : طالعت كتابه المسمى : " بالوهم والإيهام " الذي وضعه على كتاب : " الأحكام الكبرى " لعبد الحق ، وهو يدل على حفظه وقوة فهمه ، وسيلان ذهنه ، وبصره بالعلل ، لكنه تعنَّت في أحوال الرجال فما أنصف بحيث إنه أخذ يلين هشام بن عروة ، وسهيل بن أبي صالح ونحوهما (1) .
وسأورد لك بعض الأمثلة الدالة على تعنته وإسرافه في الجرح :
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة هشام بن عروة بعد أن ذكر أقوال من وثَّقه : لا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيَّرا ، نَعَم الرجل تغير قليلاً ، ولم يبق حفظه كهو في حال الشباب فنسي بعض محفوظه أَوْ وَهِم فكان ماذا ؟ أهو معصوم من النسيان ؟ .
ولما قدِم العراق في آخر عمره حدَّث بجملةٍ كثيرةٍ من العلم ، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يُجوِّدها ، ومثل هذا يقع لشعبة ، ولوكيع ، ولكبار الثقات فدع عنك الخَبْط ، وذرْ خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين ، فهو شيخ الإسلام ، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان (2) .
المثال الثاني : قال الحسيني في ترجمة مالك بن خير الزيادي : ذكره ابن حبان في الثقات , وقال ابن القطان : هو ممن لم يثبت عدالته يعني أنه ما نصَّ أحدٌ على توثيقه فهذا تعنت زائد (3) .
أشهر المتشدِّدين من النوع الثاني ( التشدد الخاص )
هناك بعض النقاد لهم تعنتٌ خاص في جرح أهل بعض البلاد ، أو أتباع بعض المذاهب لا في جرح كل الرواة ، فالواجب تنقيح أقوالهم ، ورفض القائم على التحامل منها .
ومن أشهر المعروفين بهذا التشدد :
[1] الجوزجاني
__________
(1) تذكرة الحفاظ ( 4 / 1407 ) ، سير أعلام النبلاء ( 22 / 307 ) .
(2) ميزان الاعتدال ( 4 / 301 ، 302 ) .
(3) الإكمال للحسيني ( ص 391 ) رقم 810 .(1/56)
هو الإمام الحافظ : إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني السعدي ، كان من الحُفَّاظ المُصنِّفين ، والمخرجين الثقات ، وكان أحد أئمة الجرح والتعديل ، توفي سنة تسعٍ وخمسين ومائتين (1) .
وقد اشتهر الجوزجاني بتشدده وتعنته في جرح الرواة الكوفيين ، وقد نبَّه على ذلك كثيرٌ من الأئمة منهم :
أ- الإمام الذهبي ، قال : وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متعنتون (2) .
ب- ابن حجر ، قال : الجوزجاني لا عبرة بحطِّه على الكوفيين (3) ، وقال ابن حجر مبيِّناً سبب تعنت الجوزجاني ومبالغته في جرح رواة أهل الكوفة : وممن ينبغي أن يُتوقَّف في قبول قوله في الجرح : من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد ، فإن الحاذق إذا تأمَّل ثلب (4) أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب (5) ، وشهرة أهلها بالتشيُّع فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسانٍ ذلقة ، وعبارةٍ طلقة حتى إنه أخذ يلين مثل الأعمش ، وأبي نعيم ، وعبيد الله بن موسى ، وأساطين الحديث ، وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثَّق رجلاً ضعفه قُبل التوثيق (6) .
ج- الكوثري ، قال : استقرَّ قول أهل النقد فيه على أنه لا يُقبل له قولٌ في أهل الكوفة (7) .
وسأورد لك بعض الأمثلة التي تدلك على تعنُّته وتشدُّده في جرح الرواة الكوفيين :
__________
(1) راجع ترجمته في : الكاشف ( 1 / 227 ) ، وتذكرة الحفاظ ( 2 / 549 ) ، وطبقات الحفاظ ( 1 / 248 ) .
(2) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص 172 ) .
(3) تهذيب التهذيب ( 1 / 118 ) .
(4) أي قدح وعيب لسان العرب 2/116 .
(5) النواصب : قوم يتدينون ببغض الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لسان العرب 14/157 .
(6) لسان الميزان ( 1 / 108 ، 109 ) .
(7) تأنيب الخطيب ( ص116 ) .(1/57)
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة أجلح بن عبد الله الكوفي : وثَّقه : ابن معين ، وأحمد العجلي ، وقال أحمد بن حنبل : ما أقربه من فطر بن خليفة ، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي , وقال النسائي : ضعيف له رأي سوء , وقال القطان : في نفسي منه شيء , وقال ابن عدي : شيعي صدوق ، وقال الجوزجاني : الأجلح مفتر (1) .
فانظر كيف خرج الجوزجاني عنهم جميعاً إلى الجرح بالكذب وما كذبه منهم أحد ، وإنما دفعه إلى هذا حطُّه على الكوفيين فوقع في هذا الشطط
المثال الثاني : قال الذهبي في ترجمة زبيد بن الحارث اليامي : من ثقات التابعين فيه تشيعٌ يسير , قال القطان : ثبت , وقال غير واحد : هو ثقة , وقال أبو إسحاق الجوزجاني كعوائده في فظاظة عبارته : كان من أهل الكوفة قومٌ لا يحمد الناس مذاهبهم هم رؤوس محدثي الكوفي مثل : أبي إسحاق ، ومنصور ، وزبيد اليامي، والأعمش وغيرهم من أقرانهم احتملهم الناس لصدق ألسنتهم في الحديث وتوقَّفوا عندما أرسلوا (2) .
المثال الثالث : قال ابن حجر في ترجمة إسماعيل بن أبان الوراق : قال الجوزجاني : كان مائلاً عن الحق ، ولم يكن يكذب في الحديث .
قال ابن عدي : يعني ما عليه الكوفيون من التشيع .
قال ابن حجر : الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان والصواب موالاتهما جميعاً (3) .
المثال الرابع : قال ابن حجر في ترجمة المنهال بن عمرو : قال ابن معين ، والنسائي ، والعجلي وغيرهم : ثقة .
وقال الجوزجاني : كان سيئ المذهب .
قال ابن حجر : قلنا غير مرة إن جرح الجوزجاني لا يُقبل في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونصبه (4) .
المثال الخامس : قال ابن حجر في ترجمة أبان بن تغلب :
__________
(1) ميزان الاعتدال ( 1 / 79 ) .
(2) ميزان الاعتدال ( 2/ 66 ) .
(3) هدي الساري ( ص 409 ، 410 ) وراجع : الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي ( 1 / 310 ) .
(4) هدي الساري ( ص 468 ، 469 ) .(1/58)
قال أحمد ، ويحيى ، وأبو حاتم ، والنسائي : ثقة , وقال الجوزجاني : زائغ مذموم المذهب مجاهر .
قال ابن حجر : الجوزجاني لا عبرة بحطِّه على الكوفيين (1) .
[2] عبد الرحمن بن خراش
قال الحافظ ابن حجر : ويلتحق بالجوزجاني - في التعنت الخاص- : عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ ، فإنه من غلاة الشيعة بل نُسب إلى الرفض فيُتأنّى في جرحه لأهل الشام للعداوة البيِّنة في الاعتقاد (2) .
وقال الذهبي : ابن خراش حاد النفس في الجرح (3) .
[3] الحافظ أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن عقدة
قال الحافظ السخاوي بعد نقله لكلام ابن حجر في تعنت ابن خراش في جرحه لأهل الشام : وكذا كان ابن عقدة شيعياً فلا يُستغرب منه أن يتعصَّب لأهل الرفض (4) .
[4] الإمام الحافظ نعيم بن حماد الخزاعي
ومما يُذكر من التعنت الخاص بالجرح هنا تعنت :
نعيم بن حماد ، فإنه كان متعنتاً وشديداً على أهل الرأي .
قال ابن حجر : كان نعيم شديداً على أهل الرأي (5) .
المطلب الخامس
موقف العلماء من أحكام المتشددين في الجرح والتعديل
اتفق النقاد المعتدلون والأئمة المنصفون من علماء هذا الفن على أن أحكام المتشددين في الجرح لا تُقبل إذا انفردوا بها إلا بعد البحث والتدقيق خاصةً إذا لم يذكروا سبب التجريح أو خالفهم المعتدلون من طبقتهم ، فإذا وثَّقوا راوياً كان ذلك أعظم التوثيق وأعلاه حتى لو انفردوا بهذا التوثيق ، وإذا انفردوا بتضعيف راوٍ فإنه لابد من معرفة سبب هذا التضعيف ، وهل هذا السبب من موجبات تضعيف الراوي ورد روايته أم لا ؟ وهل وافقهم النقاد المعتدلون أم لا ؟ فإذا ذكروا سبباً يستوجب التضعيف أو وافقهم المعتدلون قُبل قولهم .
__________
(1) تهذيب التهذيب ( 1 / 118 ) .
(2) لسان الميزان ( 1 / 109 ) وراجع : فتح المغيث ( 3 / 275 ) .
(3) الموقظة ( ص 82 ) .
(4) فتح المغيث ( 3 / 275 ) .
(5) هدي الساري ( ص 470 ) .(1/59)
فإذا لم يذكروا سبب الجرح أو ذكروا سبباً لا يقتضي التجريح وخالفهم المعتدلون من النقاد رُدَّ قولهم لِعلَّة التشدد .
وقد تواردت أقوال العلماء على تأكيد هذا المعنى وبيانه ، وإليك بعضاً منها :
قال الإمام الذهبي عند عرضه لأقسام علماء الجرح والتعديل من حيث التشديد والتساهل :
قسمٌ منهم متعنِّتٌ في التوثيق ، مُتثبِّتٌ في التعديل ، فهو حادُّ النفس في الجرح فيغمز الراوي بالغلطتين والثلاث ، ويجرحه بأدنى جرح ، ويلين بذلك حديثه فهذا إذا وثَّق شخصاً فعُضَّ على قوله بناجذيك ، وتمسك بتوثيقه ، وإذا ضعَّف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه ؟ فإن وافقه ولم يوثِّق ذلك أحدٌ من الحُذاق فهو ضعيف ، وإن وثَّقه أحدٌ فهو الذي قالوا فيه : لا يُقبل تجريحه إلا مفسَّراً يعني : أنه لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلاً : هو ضعيف ولم يوضِّح سبب ضعفه , وغيره قد وثقه ، فمثل هذا يُختلف في تصحيح حديثه وتضعيفه ، وهو إلى الحُسن أقرب (1) .
وقال ابن حجر : ينبغي أن لا يُقبل الجرح والتعديل إلا من عدلٍ متيقظٍ فلا يُقبل جرح من أفرط فيه فجرح بما لا يقتضي رد حديث المحدث (2) .
وقال ابن حجر (3) بعد الكلام عن بعض المتشددين في الجرح : فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثَّق رجلاً ممن ضعَّفه هو قُبِل التوثيق .
ووافقه السخاوي (4) على هذا الكلام .
__________
(1) ذكر من يُعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص 171 ، 172 ) .
(2) نزهة النظر ( ص 68 ) .
(3) لسان الميزان ( 1 / 109 ) .
(4) فتح المغيث ( 3 / 275 ) .(1/60)
وقال الشيخ طاهر الجزائري : المُشدِّد قد أفرط في التثبت في أمر التعديل فلهذا تراه يؤاخذ الراوي بالغلطتين والثلاث ، فهذا إذا وثَّق راوياً فلا تتوقف في توثيقه ، وإذا ضعَّف راوياً فتأنَّ في أمره ، وانظر هل وافقه غيره على ذلك فإن لم يُوثِّق ذلك الراوي أحدٌ من الجهابذة النقاد فهو ضعيف ، وإن وثقه أحدٌ منهم كان موضعاً للنظر والبحث (1) .
... وقال اللكنوي : هناك جمعٌ من أئمة الجرح والتعديل لهم تشددٌ في هذا الباب فيجرحون الراوي بأدنى جرح ، ويُطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أُولي الألباب فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر وجرحه لا يُعتبر إلا إذا وافقه غيره ممن يُنصف ويُعتبر فمنهم : أبو حاتم ، والنسائي ، وابن معين ، وابن القطان ، ويحيى القطان ، وابن حبان وغيرهم فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه ، فليتثبت العاقل في الرواة الذين تفردوا بجرحهم ، وليتفكر فيه (2) .
وقال أيضاً : إذا كان أحد الحاكِمَين متساهلاً في الحكم بالتضعيف والوضع متشدداً في الجرح والآخر متوسطاً في القدح فيُترك قول المشدد ويُقبل قول غير المشدد (3) .
وقال : هناك خلقٌ كثيرٌ من المحدثين لهم تشدُّدٌ في الجرح أو تساهلٌ في الحكم بالضعف والوضع مع جلالة قدرهم ورِفعة ذكرهم ، فإذا كان الحاكم بالضعف أو الوضع من هذه الطائفة ، والحاكم بالحسن أو الصحة من الطائفة المتوسطة يُرجَّح قول هذه على تلك لما عُرف من تشدُّد الفرقة الأولى وتساهلها وتوسُّط الفرقة الثانية وتعمُّقها (4) .
فقول المتشدد لا يُقبل بإطلاقٍ بل لابد من البحث والنظر ومعرفة من وافقه ومن خالفه .
__________
(1) توجيه النظر إلى أصول الأثر ( ص 281 ) .
(2) الرفع والتكميل ( ص 274 ، 275 ) .
(3) الأجوبة الفاضلة ( ص 162 ) .
(4) الأجوبة الفاضلة ( ص 179 ) .(1/61)
قال الدكتور أحمد عمر هاشم : لا يُؤخذ بقول المتشدد والمتساهل إلا بعد النظر والبحث ، وبعد معرفة الأسس التي بنى عليها نقده وأصدر على ضوئها حكمه لمعرفة الحقيقة ، وهل وافقه غيره أم لا ؟ (1) .
المبحث الثاني : المُعتدلون في الجرح والتعديل
ويشتمل على خمسة مطالب :
المطلب الأول ... : مفهوم الاعتدال عند علماء الجرح والتعديل .
المطلب الثاني : الأسباب الحاملة للعلماء على الاعتدال .
المطلب الثالث : نشأة الاعتدال في الجرح والاعتدال .
المطلب الرابع : أشهر المعتدلين في الجرح والتعديل .
المطلب الخامس : موقف العلماء من أحكام المعتدلين في الجرح
والتعديل .
المطلب الأول
مفهوم الاعتدال عند علماء الجرح والتعديل
العدل لغة : هو ما قام في النفوس أنه مستقيم ، وهو ضد الجور .
والعدل هو : الحكم بالحق .
والعدل من الناس هو : المرضي في قوله وحكمه (2) .
والمقصود بالاعتدال في الجرح والتعديل عند علماء هذا الفن هو :
الإنصاف في الحكم ، والاعتدال في الرأي ، والتثبت في القول ، وعدم التجريح إلا ببينة ، والتعديل إلا بمعرفة .
فالمعتدلون هم : الذين اتَّصفوا بالتحري الواسع ، والورع الشديد .
قال الإمام الذهبي مبيِّناً معنى الاعتدال :
قسمٌ معتدلٌ منصفٌ قَبِل العلماء أقوالهم وارتضوها فلا يُضعِّفون إلا بجارح ، ولا يُعدِّلون إلا بمعرفة (3) .
المطلب الثاني
الأسباب الحاملة للعلماء على الاعتدال
الإنصاف في الحكم والاعتدال في الرأي هو الأصل الذي ينطلق منه العلماء ، والتشدُّد أو التساهل هو الشذوذ المخالف للأصل ، والشيء إذا جاء على أصله لا يُسأل عن عِلَّتِه ، وقد أمر الله تبارك تعالى بالعدل وقول الحق في الغضب والرضا ، والشهادة بإنصاف على القريب والبعيد ، وأدلة ذلك أكثر من أن تحصى منها :
__________
(1) دراسات في علوم الحديث ( ص 232 ) .
(2) لسان العرب ( 9 / 83 ) .
(3) الموقظة ( ص 83 ) .(1/62)
قول الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } (1) .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (2) .
وقال سبحانه وتعالى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (3) .
وقال سبحانه وتعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } (4) .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الآمرة بالعدل والإنصاف ، فالعدل هو التزامٌ بأحكام الإسلام واتباعٌ لهدي القرآن .
المطلب الثالث
نشأة الاعتدال في الجرح والتعديل
نشأ الاعتدال مقترناً بنشأة الجرح والتعديل ، فهو التزامٌ بأحكام الإسلام وانقيادٌ لتعاليمه .
يقول ابن حجر : كل طبقةٍ من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ، ومتوسط (5) يعني : معتدل ، ولذلك تجد أقوال المُتقدِّمين أقرب إلى العدل والإنصاف ، وأبعد من التساهل والإجحاف .
والغالب على المتقدمين الاعتدال لسلامتهم من الهوى ويكثُر في المتأخرين التعديل للموافقين ، والتجريح للمخالفين ، والسلامة من الهوى أمرٌ جِدُّ عسير .
المطلب الرابع
أشهر المعتدلين في الجرح والتعديل
جمهور أئمة النقاد معدودٌ في هذا القسم .
ومن أشهر الموصوفين بالاعتدال والإنصاف :
__________
(1) سورة النحل ( 90 ) .
(2) سورة النساء ( 135 ) .
(3) سورة المائدة ( 8 )
(4) سورة الأنعام ( 152 ) .
(5) المتكلمون في الرجال ( ص144 ) .(1/63)
عبد الرحمن بن مهدي ، وسفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل ، والبخاري ، وأبو زرعة الرازي ، والدارقطني ، والنووي ، والعراقي ، والذهبي ، وابن حجر وغيرهم (1) .
وعدّ الذهبي وغيره : ابن عدي من المعتدلين (2) ، وإن كان الأصح عدُّه من المتشددين لأنه ذكر في كتابه : " الكامل في الضعفاء " كل من تُكلِّم فيه ولو كان من رجال الصحيحين ، وهذا منه تشدُّدٌ ومبالغة ، وإن كان يذكرهم ويدافع عنهم في أغلب الأحيان .
قال ابن الجوزي في ترجمة أبي القاسم البغوي :
قال ابن عدي : رأيت العلماء ببغداد مجتمعين على ضعفه ، قال ابن الجوزي : وهذا تحاملٌ من ابن عدي وما للطعن فيه وجه (3) .
وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة : في عدِّ ابن عدي من المعتدلين نظرٌ طويل إذ هو من المتعنتين على الحنفية وغيرهم ، فينبغي أن يُعدَّ ابن عدي في قسم المتعنتين (4) .
وقال الدكتور عزت عطية : لست أدري لماذا يُذكَر ضمن المعتدلين (5) .
المطلب الخامس
موقف العلماء من أحكام المعتدلين في الجرح والتعديل
... اتفق العلماء على قبول أقوال هؤلاء المعتدلين ، واعتماد أحكامهم لأنهم الأقرب إلى الحق ، والأحرى بقول الصواب لاعتدالهم وإنصافهم .
__________
(1) راجع : ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص72 ) ، والموقظة ( ص83 ) , والإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ( ص205 ) , والرفع والتكميل ( ص306 ) ، وتوجيه النظر ( 1 / 282 ) ، وقواعد في علوم الحديث ( ص189 ) .
(2) الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ( 2 / 139 ) وراجع : ميزان الاعتدال ( 4 / 185) .
(3) ذكر من يعتمد قوله ( ص 172 ) .
(4) في تعليقه على كتاب الرفع والتكميل للكنوي ( ص 306 ) .
(5) الإرشاد في علوم الحديث ( ص 80 ) .(1/64)
قال الإمام الذهبي : نحن لا ندَّعي فيهم العصمة لكنهم أكثر الناس صواباً ، وأندرهم خطأ ، وأشدُّهم إنصافاً ، وأبعدهم عن التحامل ، وإذا اتَّفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ فتمسَّك به ، واعضُض عليه بناجذيك ، ولا تتجاوزه فتندم ، ومن شذَّ منهم - إشارة إلى المتشددين والمتساهلين - فلا عبرة به ، فخلِّ عنك العناء ، وأعط القوس باريها، فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر (1) .
وأحكامهم التي أنصفوا فيها وأجمعوا عليها كثيرة ، وهي تمثل النسبة الأكبر في كلامهم على الرجال ، ويكفي لتقف على صحة هذا الكلام أن ترجع إلى كتابٍ كتهذيب التهذيب لابن حجر لتجد أنهم اتفقوا كثيراً على توثيق بعض الرواة كما اتفقوا كثيراً على تضعيف بعض الرواة ، وهذا من أعظم الأدلة على إنصافهم ، والتزامهم في الجملة بقواعد الجرح والتعديل .
المبحث الثالث : المتساهلون في الجرح والتعديل
ويشتمل على خمسة مطالب :
المطلب الأول ... : مفهوم التساهل عند علماء الجرح والتعديل .
المطلب الثاني : الأسباب الحاملة لبعض العلماء على التساهل .
المطلب الثالث : نشأة التساهل في الجرح والتعديل .
المطلب الرابع : أشهر المعروفين بالتساهل في الجرح والتعديل .
المطلب الخامس: موقف العلماء من أحكام المتساهلين في الجرح والتعديل .
المطلب الأول
مفهوم التساهل عند علماء الجرح والتعديل
السهل لغة : نقيض الحزن ، وهو كل شيء مائل إلى اللين وقلة الخشونة ، والتسهيل هو التيسير ، والتساهل هو : التسامح (2) .
والمراد بالتساهل عند علماء الجرح والتعديل :
عدم مراعاة القواعد والضوابط التي وضعها العلماء لتوثيق الرواة بالتسامح في تطبيقها .
__________
(1) سير أعلام النبلاء ( 11 / 82 ) .
(2) لسان العرب ( 6 / 412 )(1/65)
والاعتدال هو فضيلةٌ بين نقيضين ، فمن زاد على هذه القواعد فقد تشدَّد وأسرف ، ومن تهاون في تطبيقها ، أو اصطلح على قواعد أخف منها خالف بها جمهور العلماء فقد تساهل وتسامح ، وكلاهما لا يعتبر به .
المطلب الثاني
الأسباب الحاملة لبعض العلماء على التساهل
التساهل عيبٌ في النقد ينشأ من عدة أسباب :
الأول : اصطلاح ضوابطٍ وقواعدٍ في التوثيق فيها نوعٌ من التساهل لا يرضاه جمهور أهل العلم كتوثيق كل من عُرِف بطلب العلم ، أو توثيق مجهول العدالة ، أو توثيق من روى عنه عدلٌ واحد ونحو ذلك .
الثاني : الغفلة عن قواعد المحدثين في الجرح والتعديل ، وعدم مراعاة تطبيقها عند توثيق الرواة .
الثالث : الحالة النفسية للناقد والتي تجعله ببالغ في إحسان الظن بالمسلمين ، وعدم التحري والتتبع لأخطائهم .
فالتساهل في جُملته راجع إلى تسامح المُتساهل في مذهبه في الجرح والتعديل ، أو اعتبار بعض الأوصاف على خلاف غيره , أو عدم اعتبارها كتعديل المستور ونحوه , أو إلى عدم التحري .
المطلب الثالث
نشأة التساهل في الجرح والتعديل
طبائع البشر مختلفة ، فمنهم الشديد الغليظ الصعب ، ومنهم الهيَّن الليَّن السهل ، ومنهم المُعتدل المُنصِف ، تلك سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
ولكننا لا نستطيع أن نُحدِّد تاريخاً معيَّناً لنشأة التساهل ، وإن كان الأغلب على الظن تأخره عن نشأة التشدد والاعتدال .
لأن الأقدمين كانوا فريقين :
- فريقٌ يبالغ في الدفاع عن السنة فيُفرط في التشدد .
- وفريقٌ يعتدل ويُنصف ثم ظهر فريق المتساهلين .
وبالنظر في أسماء المتساهلين ندرك أنه متأخرٌ نسبياً عن نشأة التشدُّد والاعتدال ، وإن ظهر من بعض الأقدمين تساهل إلا أنه قليل جداً .
المطلب الرابع
أشهر المعروفين بالتساهل في الجرح والتعديل
[1] ابن حبان البستي(1/66)
ورغم أننا عددناه من المتشدِّدين في الجرح وضربنا أمثلةً لتعنته وإسرافه فيه إلا أنه متساهلٌ في التعديل ، متشدِّدٌ في الجرح ، وقد اشتهر تساهله في التوثيق اشتهاراً كبيراً إذ أنه يُوثِّق كل راوٍ انتفت جهالة عينه حتى يتبيَّن جرحه ، وقد نصّ على تساهله هذا غيرُ واحدٍ من العلماء القُدامى والمتأخرين .
قال ابن حجر : هذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهبٌ عجيب ، والجمهور على خلافه ، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتابه : " الثقات " الذي ألَّفه ، وقد أفصح ابن حبان بقاعدته فقال : العدل من لم يُعرف فيه الجرح إذ التجريح ضد التعديل فمن لم يجرح فهو عدل حتى يتبين جرحه إذ لم يُكلف الناس ما غاب عنهم (1) .
فتوثيق ابن حبان يعني أن الراوي قد انتفت جهالة عينه ، ولم يُعلم فيه جرح ، وهذا مسلكٌ متسع ، قد خالف فيه ابن حبان جمهور أئمة هذا الشأن فكان به من المتساهلين في التوثيق .
ولذلك قال العلماء : ابن حبان واسع الخطو في باب التوثيق ، يوثِّق كثيراً ممن يستحق الجرح .
[2] أبو عيسى الترمذي
وقد عدَّه من المتساهلين : الذهبي (2) ، والسخاوي (3) .
[3] أبو عبد الله الحاكم
وقد عدَّه من المتساهلين :
ابن الصلاح ، قال : وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهلٌ في القضاء به (4) .
والبدر العيني ، قال : قد عُرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة بل والموضوعة (5) .
وابن حجر ، قال : الحاكم مشهورٌ بالتساهل في التصحيح (6) .
__________
(1) لسان الميزان ( 1 / 107 ) .
(2) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص (172 ) ، والموقظة ( ص83 ) .
(3) فتح المغيث ( 3 / 275 ) .
(4) علوم الحديث (ص 172 ) .
(5) البناية في أحاديث الهداية ( 1 / 627 ) .
(6) مشكاة المصابيح ( 3 / 313 ) .(1/67)
وقد عدَّه أيضاً من المتساهلين : الحافظ الذهبي (1) ، والسخاوي (2) .
[4] أبو بكر البيهقي
وقد عدَّه من المتساهلين : الحافظ الذهبي (3) .
المطلب الخامس
موقف العلماء من أحكام المتساهلين في الجرح والتعديل
حذَّر العلماء من التساهل في باب الجرح والتعديل مخافة أن يؤدي التساهل إلى الوقوع في الكذب ، لأنه قد يكون وسيلةً لتوثيق الضعيف وقبول رواياته .
قال ابن حجر : وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل ، فإنه إن عدَّل أحداً بغير تثبُّت كان كالمثُبِت حُكْماً ليس بثابت فيُخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب (4) .
فالمتساهلون لا يُؤخذ بأحكامهم في الرواة , خاصةً إذا انفردوا إلا بعد البحث والتحرِّي والنظر في أقوال الأئمة المعتدلين فيهم .
قال الإمام السخاوي : ولوجود التشدد ومقابله - أي التسامح - نشأ التوقُّف في أشياء من الطرفين ، بل رُبَّما رُدَّ كلام كلٍ من المُعدِّل والجارح مع جلالته وإمامته ونقده وديانته (5) .
الفصل الخامس
قواعد المحدثين في الجرح والتعديل
القاعدة الأولى
عدم قبول الجرح فيمن ثبتت عدالته
هناك جماعةٌ من العلماء ثبتت عدالتهم ، وكثُر مادحوهم ، وقُبِلت أحاديثهم ، واجتمع الناس عليهم فكانت رتبتهم أرفع من أن يُسئل عنهم العلماء نظراً لشهرة عدالتهم ، واستفاضة إمامتهم ، وأمثلة ذلك كثيرة :
سُئل يحيى بن معين عن عبيدة السلماني فقال : ثقة لا يُسئل عنه (6) .
وسُئل عن مسروق فقال : ثقة لا يُسئل عنه (7) .
__________
(1) ذكر من يعتمد قوله في التجريح والتعديل (ص 172 ) .
(2) فتح المغيث ( 3 / 275 ) .
(3) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ( ص 172 ) ، والموقظة ( ص 83 ) .
(4) نزهة النظر ( ص 69 ) .
(5) فتح المغيث ( 3 / 272 ، 273 ) .
(6) الجرح والتعديل 6/91 .
(7) الجرح والتعديل 8/396 .(1/68)
وقال في الربيع بن خُثَيم : لا يُسئل عن مثله (1) .
وقال أبو حاتم في جعفر الصادق : ثقة لا يُسئل عن مثله (2) .
وقال الخطيب في سفيان الثوري : كان إماماً من أئمة المسلمين ، وعَلَماً من أعلام الدين ، مُجْمعاً على إمامته بحيث يُستغنى عن تزكيته ، مع الإتقان ، والحفظ ، والمعرفة ، والضبط ، والورع ، والزهد (3) .
ولما سُئل أحمد بن حنبل عن إسحاق بن راهويه قال : مثل إسحاق يُسئل عنه ، إسحاق عندنا إمامٌ من أئمة المسلمين (4) .
ولما سُئل ابن معين عن أبي عبيد قال : مثلي يُسئل عنه ؟ هو يُسئل عن الناس (5) .
ولذلك انتبه العلماء قديماً لهذا الأمر ، وحذَّروا من الوقوع في هذا الخطأ ، ورفضوا الجرح في الأئمة الكبار ، وعدُّوا ذلك من سقطات الجارح وعيوبه .
قال الإمام أحمد بن نصر المروزي : كل رجلٍ ثبتت عدالته لم يُقبل فيه تجريح أحد حتى يتبين ذلك عليه بأمرٍ لا يحتمل غير جرحه (6) .
وقال الإمام محمد بن جرير الطبري : لو كان كل من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادُّعي عليه وسقطت عدالته ، وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم أحدٌ إلا وقد نسبه قومٌ إلى ما يُرغب به عنه ، ومن ثبتت عدالته لم يُقبل فيه الجرح ، وما تسقط العدالة بالظن (7) .
__________
(1) تذكرة الحفاظ 1/57 .
(2) تذكرة الحفاظ 1/166 .
(3) تهذيب التهذيب 3/400 .
(4) الكفاية ص 148 .
(5) الكفاية ص 148 .
(6) التمهيد لابن عبد البر 2/33، 34 .
(7) هدي الساري ص 449 .(1/69)
وقال ابن عبد البر : الصحيح في هذا الباب أن من صحَّت عدالته ، وثبتت في العلم إمامته ، وبانت ثقته ، وبالعلم عنايته لم يُلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد ، والعداوة والمنافسة ، وسلامته من ذلك كله ، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر .
ثم قال : إن السلف - رضي الله عنهم - قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير ، منه في حال الغضب ، ومنه ما حمل عليه الحسد ، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه ، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً ، ولا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه (1) .
ثم أورد كلام بعض الأئمة الأعلام في بعض (2)، ومنه كلام بعض الصحابة في بعض .
ثم قال : فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم في بعض فإن فعل ذلك ضلَّ ضلالاً بعيداً ، وخسر خسراناً .
ثم قال : قف عند ما شرطناه في أن لا يُقبل فيمن صحت عدالته ، وعُلمت بالعلم عنايته ، وسلِم من الكبائر ، ولزم المروءة والتصاون ، وكان خيره غالباً ، وشره أقل من عمله فهذا لا يُقبل فيه قول قائل لا برهان له به ، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله (3) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 436 .
(2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص436-449 .
(3) ا جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 449 .(1/70)
وقال التاج السبكي : الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته ، وكثُر مادحوه ومزكوه ، وندر جارحوه ، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصبٍ مذهبي أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ، ونعمل فيه بالعدالة وإلا فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا بتقديم الجرح على إطلاقه لما سَلِم لنا أحدٌ من الأئمة إذ ما من إمامٍ إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون (1) .
وقال أيضاً : الجارح لا يُقبل منه الجرح وإن فسَّره في حق من غلبت طاعاته على معاصيه ، وما دحوه على ذاميه ، ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي ، أو منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء أو غير ذلك (2) .
فحاصل هذه القاعدة : أن من ثبتت عدالته بيقين ، وكثر مادحوه فإنه لا يُلتفت إلى من جرحه ، خاصةً إذا كان الجرح غير مفسر ، أو كانت هناك أمارة دالة على عدم براءة هذا الجارح كتعصبٍ لمذهب ، أو منافسةٍ لدنيا ، أو هوى غالب أو نحو ذلك ، والكمال لله وحده .
وقال الحافظ ابن حجر : إن كان الجرح غير مفسر فإنه لا يقدح فيمن ثبتت عدالته (3) .
القاعدة الثانية
وجوب صيانة أعراض المسلمين
الأصل المفهوم من قواعد الشرع : صيانة الأعراض بتحريم الخوض فيها ، وأن الكلام في الرواة إنما أُجيز للضرورة ، ولمصلحة الشريعة ، فمن لم تكن له رواية ، ولم تكن هناك مصلحة شرعية من ذكر عيوبه ونقائصه حرُمت غِيبته للأدلة القاضية بتحريم الخوض في أعراض المسلمين .
قال الحافظ السخاوي : قد شغف جماعة من المتأخرين ... بذكر المعائب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية وذلك غيبة محضة ، ولذا تعقَّب ابن دقيق العيد : ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدح فيه بقوله : إذا لم يُضطَّر إلى القدح فيه للرواية لم يجُز .
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى 2/6 ، 7 .
(2) قاعدة في الجرح والتعديل ص 30 .
(3) نزهة النظر ص 69 .(1/71)
ونحوه قول ابن المرابط : قد دُوِّنت الأخبار وما بقي للتجريح فائدة .
ثم أشار السخاوي إلى أن هذا القول لا يُحمل على عمومه بل يجوز الكلام في الرجال إذا كانت نصيحة مبنية على غرضٍ شرعي (1) .
وقد عاب عليه السيوطي تجريحه لمن ليست لهم رواية وقال : إن كان كثيراً ممن جرحهم لا رواية لهم فالواجب فيهم شرعاً أن يسكت عن جرحهم ويهمله (2) .
وإذا كان الجرح قد أُجيز للضرورة فهو بمثابة الميتة للمُضطَّر ، فلا تجوز المبالغة في جرح الراوي ، ولا ذكر ما لا تعلُّق له بالرواية .
قال الإمام القرافي بعد أن بيَّن بعض الامور التي تُجوِّز الغيبة :
الزيادة على العيوب المُخلَّة بما استُشِرت فيه حرام بل تقتصر على عيب ما عين لك السائل (3) .
ثم قال : والتفكُّه بأعراض المسلمين حرام ، والأصل فيها العصمة (4) . حتى قال : واشترط أيضاً في هذا القسم : الاقتصار على القوادح المخلة بالشهادة أو الرواية فلا يقول : هو ابن زنا ، ولا أبوه لاعن أمه إلى غير ذلك من المؤلمات التي لا تعلُّق لها بالشهادة والرواية (5) .
وقال السخاوي : إذا أمكنه الجرح بالإشارة المُفْهِمة ، أو بأدنى تصريح لا تجوز له الزيادة على ذلك فالأمور المرخَّص فيها للحاجة لا يُرتقي فيها إلى زائد على ما يُحصِّل الغرض (6) .
وقال السخاوي أيضاً : لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد .
فقد قال العز بن عبد السلام في قواعده : إنه لا يجوز للشاهد أن يُجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما ، فإن القدح إنما يجوز للضرورة فليُقدَّر بقدرها ، ووافق عليه العراقي وهو ظاهر (7) .
__________
(1) فتح المغيث 3/271 .
(2) الرفع والتكميل ص 65 .
(3) الفروق 4/205 .
(4) الفروق 4/206 .
(5) الفروق 4/206 .
(6) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 85 .
(7) فتح المغيث 3/272 .(1/72)
وحاصل هذه القاعدة أن أعراض المسلمين مُحرَّمة ، وأنه لا يجوز الخوض فيها إلا للضرورة ، وعند الضرورة لا يجوز الإكثار من ذكر العيوب والتقائص بل يجب الاكتفاء بما تسقط به العدالة ، وذلك كإباحة الميتة للمُضطر فإنه لا يجوز تناول شيءٍ منها إلا بقدر الضرورة .
القاعدة الثالثة
وجوب نقل أقول المجرحين والمعدلين معا
لا ريب أن كل إنسان - عدا الأنبياء - عنده حقٌ وباطل ، وفيه خيرٌ وشر ، فيذكر وينسى ، ويعلم ويجهل ، فلكل بشرٍ أخطاؤه ، ولكل عالمٍ هفواته ، ولكل جوادٍ كبوة ، ولكل سيفٍ نبوة .
قال سعيد بن المسيب : ليس من شريفٍ ، ولا عالمٍ ، ولا ذي فضل - يعني غير الأنبياء - إلا وفيه عيب ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه ، فمن كان فضله أكثر من نقصه وُهِب نقصه لفضله (1) .
وقال عبد الله بن المبارك : إذا غلبت محاسن الرجل - على المساوئ - لم تُذكر المساوئ ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تُذكر المحاسن (2) .
وقال الشعبي : كانت العرب تقول : إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساوئه فذلكم الرجل الكامل ، وإذا كانا متقاربين فذلكم المتماسك ، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك (3) .
وقال الشافعي : إذا كان الأغلب الطاعة فهو المُعدَّل ، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح (4) .
ومن هذه النقول وغيرها كثير قَعَّد العلماء قاعدة هامة وهي : وجوب ذكر أقوال المعدلين بجوار أقوال المجرحين عند تساويهما ، وإغفال أقوال المجرحين في حق من كثرت طاعاته ، وكثُر مادحوه وقلَّ ذاموه ، وقد تذكر للرد عليها وبيان خطئها ، وعابوا على من اكتفى في حق بعض الرواة بذكر المساوئ دون المحامد .
__________
(1) الإعلام بالتوبيخ ص 88 .
(2) تذكرة الحفاظ 1/276 .
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب 2/260 .
(4) الكفاية في علم الرواية للخطيب ص 79 .(1/73)
ولذلك قال العلماء : إن من مقتضيات العدالة : الموازنة بين الجرح والتوسط بين التوثيق والتضعيف ، وعدم الاكتفاء بطرف الكلام والسكوت عن الطرف الأخر .
فلا يكون الناقد عادلاً إذا أطنب في مدح من يحب وذكر جميع محاسنه وتغافل عن غلطاته وتأوَّل له ما أمكن .
وإذا ذكر مخالِفاً له أكثر من نقل أقوال من طعن فيه ، وأخذ يُعيد ما ذكره ويُبديه ، ويُكرِّر عبارات الجرح بأساليب شتى ، ولا يستوعب أقوال من وثَّقه ومدحه فتكون الصورة مُشوَّهة ، وكل ذلك تجافٍ عن الإنصاف ، وما الإنصاف إلا من العدل .
قال الذهبي في ترجمة أبان بن يزيد العطار : قد أورده أيضاً العلامة : ابن الجوزي في الضعفاء، ولم يذكر فيه أقوال من وثَّقه ، وهذا من عيوب كتابه يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق (1) .
وقال في ترجمة عبد الملك بن عمير اللخمي : وأما ابن الجوزي فذكره فحكى الجرح وما ذكر التوثيق (2) .
وقال الشيخ ظفر أحمد التهانوي : الاقتصار على ذكر التضعيف والسكوت عن التوثيق عيبٌ شديد ، وكذا بالعكس إلا أن يكون ممن ثبتت عدالته وأذعنت الأمة لإمامته (3) .
وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي : ومن عاداتهم السيئة : أنهم كلما ألَّفوا سِفراً في تراجم الفضلاء ملأوه بما يستنكف عنه النبلاء ، فذكروا فيه المعايب والمثالب في ترجمة من هو عندهم من المجرحين والمقبوحين ، وإن كان جامعاً للمفاخر والمناقب ، وهذا من أعظم المصائب ، تفسد به ظنون العوام ، وتسري به الأوهام في الأعلام (4) .
وما أحسن ما قال التابعي محمد بن سيرين : ظلمٌ لأخيك أن تذكُر منه أسوأ ما تعلم وتكتُم خيره (5) .
القاعدة الرابعة
ليس كل جرحٍ صدر من ناقدٍ معتمداً مقبولاً
__________
(1) ميزان الاعتدال 1/9 .
(2) ميزان الاعتدال 2/660 .
(3) قواعد في علوم الحديث ص 281 .
(4) الرفع والتكميل ص 66 ، 67 .
(5) صفوة الصفوة لابن الجوزي 3 / 245 ، البداية والنهاية لابن كثير 9 / 280 .(1/74)
يجب قبل اعتماد جرح الناقد في الراوي أن نتأكَّد من معرفته بمدلولات الألفاظ خاصةً الألفاظ العرفية التي تختلف باختلاف عُرف الناس ، وقد تكون في بعض الأزمنة مدحاً ، وفي بعضها ذماً .
كما يجب تفقُّد حال الناقد في العلم بالأحكام الشرعية لأنه ربما ظن الحلال المباح حراماً فجرح به .
ولهذه العِلَّة اشترط العلماء عند جرح الثقة بيان أسباب الجرح ليُنظر فيها هل تستوجب رد روايته ، والطعن في عدالته أم أن فيها مبالغة ومجازفة ، وعدم وضع الأمور في نصابها .
ولقد تبيَّن للعلماء من خلال جرح النقاد للرواة أن الناقد قد يجرح بما لا ينبغي أن يُجرح به .
ولذلك اشترطوا بيان أسباب الجرح خاصةً عند جرح الثقة .
فتأمَّل هذه القاعدة مع القاعدة الأولى يتضح لك الأمر بجلاء .
وهاهي أمثلة لجرح بعض النقاد للرواة بما لا ينبغي أن يكون جرحاً .
قال السخاوي : مما ينبغي أن يُتفقَّد : حاله في العلم بالأحكام الشرعية فربّ جاهلٍ ظن الحلال حراماً فجرح به ، ومن هنا أوجب الفقهاء التفسير ليتوضح الحال .
وقال الشافعي : حضرت بمصر رجلاً مزكياً يجرح رجلاً فسُئل عن سببه وألح عليه فقال : رأيته يبول قائماً ، قيل : وما في ذلك ؟ قال : يرد الريح من رشاشه على يده وثيابه فيصلي فيه . قيل : هل رايته أصابه الرشاش وصلى قبل أن يغسل ما أصابه ؟ قال : لا ، ولكن أراه سيفعل (1) .
أبمثل هذا يجرح الرواة وتضعَّف الأحاديث ؟
وشبيه ذلك أنه قيل لشعبة بن الحجاج : لِمَ تركت حديث فلان ؟ قال : رأيته يركض على بِرْذَوْن فتركته (2) .
ومن المعلوم أن هذا ليس بجرح موجب لتركه .
ونحوه ما روى وهب بن جرير عن شعبة أنه قال : أتيت منزل المنهال ابن عمرو فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ولم أسأله .
قال وهب فقلت له : فهلا سألته عسى كان لا يعلم (3) .
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل ص 53 .
(2) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 69 .
(3) الكفاية ص 12 .(1/75)
قال السخاوي : قال شيخنا - ابن حجر - وهذا اعتراضٌ صحيحٌ فإن هذا لا يُوجب قَدْحاً في المنهال (1) .
ومن ذلك أيضاً ما حكاه شعبة عن نفسه قال : أتيت أبا الزبير وفخذه مكشوفة ، فقلت له : غط فخذك . فقال : لا بأس بذلك . فلذلك لم أرو عنه (2) .
والعلماء مختلفون هل الفخذ عورة أم لا ؟ على فريقين ، ولكل فريق أدلته وليس القول بأحد الرأيين مسقطاً للعدالة .
ومن ذلك أيضاً : أنه سُئل الحكم بن عتيبة لِمَ لَمْ تروِ عن زاذان ؟ فقال : كان كثير الكلام (3) .
قال السخاوي (4) : ولعله استند إلى ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من كثُر كلامه كثُر سقطه ، ومن كثُر سقطه كثُرت ذنوبه ، ومن كثُرت ذنوبه فالنار أولى به (5) .
وهذا ليس بلازم ولا مُطَّرِد ولابمثله تُردُّ أحاديث الرواة .
وقد ذكر الإمام الخطيب البغدادي نماذج كثيرة من الجرح بما ليس بجارح في كتابه القيم : " الكفاية في علم الرواية " باب : ذكر بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر مالا يُسقط العدالة (6) .
والقاعدة في هذه المسألة قول ابن حجر : إن صدر الجرح من غير عارف بالأسباب لم يُعتبر به (7) .
ومفاد هذه القاعدة : أنه لابد لاعتماد الجرح أن يكون مفسراً ، وخاصة فيمن ثبتت عدالته حتى لا يُجرح الراوي بغير جارح ، فقد يصدر الجرح ويكون هناك مانع من قبوله ، ولهذه الحالة صور كثيرة ذكرنا منها الجرح بما ليس بجارح .
ونظراً لأهمية هذه القاعدة فسأذكر ثلاث صورٍ أخرى للجرح غير المقبول :
__________
(1) فتح المغيث 1/229 .
(2) سير أعلام النبلاء 7 / 223 .
(3) الكفاية ص 112 .
(4) فتح المغيث 1 / 331 .
(5) رواه الطبراني في المعجم الصغير 6 / 328 ، وأبو نعيم في حلية الأولياء 3 / 74 وقال الهيثمي : فيه جماعة لم أعرفهم مجمع الزوائد 10/302 , وقال الذهبي : هو حديث ساقط .
(6) ميزان الاعتدال 1 / 137 .
(7) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 69 .(1/76)
الصورة الأولى : أن يكون الجرح صدر على سبيل المزاح والمُباسطة فيُردُّ ولا يُقبل ومن أمثلة ذلك :
1- ما ذكره الإمام الذهبي في ترجمة عفان بن مسلم الصفار قال :
قال جعفر بن محمد الصائغ : اجتمع عفان ، وعلي بن المديني ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، فقال عفان : ثلاثةٌ يُضعَّفون في ثلاثة : عليٌ في حماد بن زيد ، وأحمد في إبراهيم بن سعد ، وأبو بكر في شريك ، فقال له علي بن المديني : وعفان في شعبة .
قال الذهبي : هذا منهم على وجه المُباسطة لأن هؤلاء من صغار من كتب عن المذكورين ، فقد ذُكِر عفان عند ابن المديني مرة فقال : كيف أذكر رجلاً يشك في حرفٍ فيضرب على خمسة أسطر(1) .
وقال في موضع آخرٍ بعد ذكر هذه الحكاية : هذا على وجه المزاح والتعنت فإنهم أربعتهم كتبوا عن المذكورين وهم أحداث فغيرُهم أثبت في المذكورين منهم (2) .
وقال الحافظ ابن حجر بعد إيراد هذه الحكاية : قال عمر بن أحمد الجوهري : وكل هؤلاء أقوياء ليس فيهم ضعف ولكن قال هذا على وجه المزاح (3) .
2- ومثل ذلك ما حكاه أحمد بن حنبل قال : لقيت يوماً شجاع بن الوليد مع يحيى بن معين فقال له يحيى : يا كذاب (4)فقال شجاع إن كنت كذاباً (5)وإلا فهتكك الله (6) .
وقد أورد ابن حجر هذه القصة ثم أورد بعدها قول ابن معين فيه : ثقة .
ثم قال ابن حجر : فكأنه كان مازحه فما احتمل المزاح (7) .
الصورة الثانية : أن يكون الجارح في نفسه مجروحاً فحينئذٍ لايجوز قبول جرحه منفرداً (8) ولا تعديله إلا إذا وافقه غيره .
قال ابن حبان : من المحال أن يُجرح العدل بكلام المجروح (9) .
__________
(1) ميزان الاعتدال 3 / 82 .
(2) تذكرة الحفاظ 1/380 .
(3) تهذيب التهذيب 5/ 598 .
(4) تذكرة الحفاظ 1/380 .
(5) تذكرة الحفاظ 1/380 .
(6) تذكرة الحفاظ 1/380 .
(7) هدي الساري ص 429 .
(8) تذكرة الحفاظ 1/380 .
(9) هدي الساري 448 .(1/77)
وسأذكر لك نماذج من الجرح المردود لهذا السبب :
1- قال الحافظ الذهبي في ترجمة موسى بن إسماعيل المنقرى الحافظ الحجة أحد الأعلام :
لم أذكر أبا سلمة للينٍ فيه لكن لقول ابن خراش فيه : صدوق وتكلم الناس فيه ، قال الذهبي : نعم تكلَّموا فيه بأنه ثقةٌ ثبتٌ يا رافضي (1) .
وقال في ترجمة أحمد بن عبدة الضبي :
وثَّقه أبو حاتم والنسائي ، وقال ابن خراش : تكلَّم الناس فيه ، فلم يصدق ابن خراش في قوله هذا فالرجل حجة (2) .
وذكر الذهبي قول ابن خراش في عدة مواضع من كتابه ميزان الاعتدال وردَّ قوله (3) .
وقال الحافظ ابن حجر عقِب نقله تجريح ابن خراش لعمرو بن سليم الزرقي : ابن خراش مذكورٌ بالرفض والبدعة فلا يلتفت إليه (4) .
وقد كرَّر ابن حجر في هدي الساري عدم الاعتداد بجرح ابن خراش (5) .
2- وكما رفض العلماء الاعتداد بتجريح ابن خراش لأنه مجروح فقد رفضوا أيضاً الاعتداد بتجريح : أبي الفتح الأزدي لأنه مُتَّهم .
قال الذهبي في ترجمة أبان بن إسحاق :
قال أبو الفتح الأزدي : متروك ، قال الذهبي : لا يُترك ، فقد وثَّقه : أحمد ، والعجلي ، وأبو الفتح يُسرف في الجرح ، وله مصنفٌ كبيرٌ إلى الغاية في المجروحين جمع فأوعى ، وجرح خلقاً بنفسه لم يسبقه أحدٌ إلى التكلم فيهم ، وهو مُتكلَّمٌ فيه (6) .
ونقل في ترجمة إبراهيم بن محمد بن يوسف قول الأزدي : ساقط ثم قال : لا يُلتفت إلى قول الأزدي فإن في لسانه في الجرح رهقاً (7) .
وقال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب البصري بعد ما نقل عن الأزدي فيه قوله : غير مرضي ، قال : لم يلتفت أحد إلى هذا القول بل الأزدي غير مرضى (8) .
__________
(1) ميزان الاعتدال 4/200 .
(2) ميزان الاعتدال 1/118 .
(3) انظر ميزان الاعتدال 4/209 ، 4/302 .
(4) هدي الساري ص 453 .
(5) انظر هدي الساري ص 427 ، 469 .
(6) ميزان الاعتدال 1/4 .
(7) ميزان الاعتدال 1/61 .
(8) تهذيب التهذيب 1/67 .(1/78)
وقال ابن حجر أيضاً في ترجمة خثيم بن عراك : شذ الأزدي فقال : منكر الحديث ، وغفل أبو محمد بن حزم فاتبع الأزدي وأفرط فقال : لا تجوز الرواية عنه ، وما درى أن الأزدي ضعيف ، فكيف يُقبل منه تضعيف الثقات ؟ (1) .
وقد أكثر الحافظ ابن حجر في هدي الساري من كشف شذوذ الأزدي ، وأنه ضعيف ، فلا يجوز الاعتماد عليه في تجريح الثقات (2) .
وقال الكوثري : أبو الفتح الأزدي لا يكون مرضي المذهب والرأي عنده إلا من كان رافضياً مثله في الرأي والمذهب (3) .
فمثل ابن خراش ، والأزدي لا يُقبل قولهما في الرجال خاصةً إذا خالفا أحد أئمة هذا الفن المعتبرين الثقات .
الصورة الثالثة : أن يكون الناقد متعنتاً في التجريح فيجرح الراوي بالغلطة والغلطتين ويرد لذلك حديثه .
أو يكون له تعنت خاص في جرح أهل بعض البلاد ، أو أتباع بعض المذاهب فحينئذٍ يُنقَّح الأمر في ذلك الجرح (4) .
وهذه بعض الأمثلة التي تدل على ذلك :
الحافظ إبراهيم الجوزجاني صاحب كتاب الضعفاء استقر قول أهل النقد فيه على أنه لا يُقبل له قولٌ في أهل الكوفة ، وذلك لأنه كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق وكان مذهبهم - في وقت - التحامل على سيدنا على ، وكان مذهب أهل الكوفة التشيع لسيدنا علي (5) ، وقد صرَّح العلماء برد كلامه عند تجريحه لأهل الكوفة .
قال ابن حجر : الجوزجاني لا عبرة بحطِّه على الكوفيين (6) .
وقال أيضاً : وتعصُّب الجوزجاني على أصحاب علي معروف (7) .
__________
(1) هدي الساري 420 .
(2) انظر هدي الساري ص 409 ، 411 ، 413 ، 414 ، 418 ، 421 ، 437 ، 452 ، 484 .
(3) لمحات النظر في سيرة الإمام زفر للكوثري ص 28 .
(4) الرفع والتكميل ص 308 .
(5) ميزان الاعتدال 1/76 .
(6) تهذيب التهذيب 1/118 .
(7) تهذيب التهذيب 1/118 .(1/79)
وذكر ابن حجر أن الجوزجاني ذكر : مصدع المُعرقَب في كتابه : " الضعفاء " ، وقال عنه : زائغ جائر عن الطريق ، يريد بذلك ما نسب إليه من التشيع .
ثم عقب ابن حجر على قول الجوزجاني بقوله : والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف فلا يقدح فيه قوله (1) .
وقال أيضا : أما الجوزجاني فقد قلنا غير مرة : إن جرحه لا يُقبل في أهل الكوفة لشدة انحرافه ونصبه (2) ، ولقد أشار ابن حجر إلى هذا الأمر مراتٍ عديدة في كتابيه : " تهذيب التهذيب " و " هدي الساري " (3) .
ويلحق بالجوزجاني في ذلك : ابن خراش ، وابن عقدة .
وقد ذكرنا في مبحث أشهر المتشددين في الجرح والتعديل أمثلة كثيرة للجرح الصادر بسبب التشدد والتعنت ، وذكرنا أقوال العلماء في عدم قبول مثل هذا الجرح أو اعتماده .
وقد بيَّن ابن حجر سبب تعنت هؤلاء في الجرح فقال :
وسبب تلك العداوة : الاختلاف في الاعتقاد ، فإن الحاذق إذا تأمَّل ثلب أبى إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب ، وشهرة أهلها بالتشيُّع فتراه لا يتوقَّف في جرح من ذكره منهم بلسانٍ ذلق ، وعبارةٍ طلقة حتى إنه أخذ يلين مثل الأعمش ، وأبي نعيم ، وعبيد الله بن موسى ، وأساطين الحديث ، وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثَّق رجلاً ممن ضعَّفه هو قُبِل التوثيق ، ويلتحق به : عبد الرحمن بن يوسف بن خراش فإنه من غلاة الشيعة في الاعتقاد ، وكذا كان ابن عقدة شيعياً فلا يُستغرب منه أن يتعصَّب لأهل الرفض ، ولذا كانت المخالفة في العقائد أحد الأوجُه الخمسة التي تدخل الآفة منها ، ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب فكثيراً ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين فكل هذا ينبغي أن يُتأنَّى فيه ويُتأمَّل (4) .
القاعدة الخامسة
__________
(1) تهذيب التهذيب 8/186 .
(2) هدي الساري ص 469 .
(3) راجع تهذيب التهذيب 2/60، 3/246 ، 5/731 .
(4) لسان الميزان 1/108 ، 109 .(1/80)
وجوب الإنصاف وعدم المحاباة
من أهم السمات الظاهرة في منهج أئمة الجرح والتعديل : الإنصاف والاعتدال ، ولزوم الحق ، وعدم المحاباة ، وما ذكرناه مما يُخالف هذه القاعدة فهو القليل النادر ، وإنما ذكرناه ليُعرف ويحذر ، ولكن الأصل أن علماء الإسلام ونقاد الحديث كانوا على جانبٍ كبيرٍ من الورع والخشية والحذر من رمي البرآء بالعيب ، أو محاباة الأقارب ، أو الأصحاب على حساب قواعد العلم ، فضربوا في ذلك أروع الأمثلة ، وإليك هذه الأمثلة الدالة على ذلك :-
1- سُئل علي بن المديني عن أبيه فقال : سلوا عنه غيري ، فأعادوا ، فأطرق ثم رفع رأسه فقال : هو الدين : إنه ضعيف (1) .
2- وكان وكيع بن الجراح لكون والده على بيت المال لا يروي عنه منفرداً بل يقرن معه آخر (2) .
3- قال أبو داود : ابني عبد الله كذاب (3) .
4- قال الذهبي في ولده أبي هريرة : إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه حتى نسيه (4) .
5- وقال زيد بن أبي أنيسة : لا تأخذوا عن أخي (5) .
6- قال الشافعي : يقولون : يحابي فلو حابينا لحابينا الزهري ، وإرسال الزهري ليس بشيء (6) .
7- سُئل جرير بن عبد الحميد الضبي عن أخيه أنس فقال : لا يُكتب عنه ، فإنه يكذب في كلام الناس (7) .
8- قال شعبة بن الحجاج : لو حابيتُ أحداً لحابيتُ هشام بن حسان كان ختني (8) ولم يكن يحفظ (9) .
__________
(1) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(2) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(3) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(4) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(5) مقدمة صحيح مسلم ص 27 .
(6) الرسالة للشافعي ص 4699 .
(7) لسان الميزان 1/591 .
(8) الختن - بفتح الخاء والتاء - أبو امرأة الرجل ، وأخو امرأته ، وكل ما كان من قِبَل امرأته ، والجمع أختان ، والأنثى ختنة ، وخاتن الرجل الرجل إذا تزوج إليه . لسان العرب 4 / 26 .
(9) ميزان الاعتدال 3/478 .(1/81)
9- قال عبد الرحمن بن مهدي : اختلفوا يوماً عند شعبة فقالوا : اجعل بيننا وبينك حَكَماً فقال : قد رضيت بالأحول يعني : يحيى بن سعيد القطان ، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة - وهو شيخه ومنه تعلَّم وبه تخرَّج - فقال له شعبة : ومن يطيق نقدك يا أحول ؟ (1) .
10- سُئل يحيى بن معين عن أبي ياسر عمار المستملي فقال : ليس بثقة ثم قال : هو صديقٌ لي (2) .
11- وسُئل عن علي بن قرين فقال : كذاب ، فقيل له : إنه ليذكرُ أنه كثير التعاهد لكم ، فقال يحيى : صدق إنه ليكثر التعاهد لنا ، ولكني أستحي على الله أن أقول إلا الحق وهو كذاب (3) .
12- قال الشعبي أخبرنا الحارث الأعور صاحبنا وأشهد أنه كان كذابا ً(4) .
13- في ترجمة محمد بن إسحاق الضبعي شقيق الإمام أبي بكر الضبعي
قال الحاكم : كان أخوه ينهانا عن السماع منه لما يتعاطاه (5) .
فهؤلاء هم أئمة الحديث ينقدون الراوي ، ويُضعِّفُونه إذا كان أهلاً لذلك ، لا تمنعهم من ذلك قرابة ، ولا صحبة ، فلم يحابوا أباً ، أو ابناً ، أو أخاً ، أو صديقاً ، أو شيخاً .
قال ابن القيم : ومن له اطِّلاعٌ على سيرة أئمة الحديث الذين لهم لسان صدقٍ في الأمة ، وعلى أحوالهم ، علم بأنهم من أعظم الناس صِدْقاً ، وأمانةً ، وديانةً ، وأوفرهم عقلاً ، وأشدُّهم تحفُّظاً ، وتحرِّياً للصدق ، ومجانبةً للكذب ، وإن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ، ولا ابنه ، ولا شيخه ، ولا صديقه (6) .
__________
(1) مقدمة الجرح والتعديل ص 232 .
(2) تاريخ بغداد 12/255 .
(3) تاريخ بغداد 12/151 .
(4) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ص 418 .
(5) ميزان الاعتدال 3/478 .
(6) مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/358 .(1/82)
وإذا أردت زيادة على ذلك فارجع إلى كتاب : " هدي الساري مقدمة فتح الباري " لابن حجر الفصل التاسع : في سياق أسماء من طُعن فيه من رجال البخاري تجد أمثلةً كثيرة للجرح المردود (1) .
القاعدة السادسة
التزام الأدب عند الجرح
علم النقاد بضرورة كشف عيوب الرواة ، وأنه ضرورة لصيانة السنة من الدخيل ، فلم يُفرِّطوا في استخدام هذا السلاح ، أو يسيئوا استعماله ، فاكتفوا بالعيب الواحد عن بقية العيوب ، ولم يلتفتوا إلى العيوب الشخصية ، والتي لا علاقة لها بالرواية ، ثم التزموا الأدب عند الجرح ، وما تراه من قسوةٍ في عبارات بعضهم إنما دفعهم إليها واقع الراوي وحاله ، ولكنهم في الجملة كانوا يُعبِّرون عن الجرح بألفاظٍ تخلو من القسوة اللَّهم إلا إذا بالغ الراوي في كذبه أوخطئه فكانوا يقسون في اللفظ حينئذٍ لبيان حاله وكشف عيبه ليحذر .
وكانوا يُعلِّمون طلاَّبهم هذا الأدب الرفيع ، ويوصونهم بالتزام الحيطة والأدب عند القيام بجرح من يستحق الجرح من الرواة .
وإليك هذه الأمثلة الدالة على ذلك :-
1- قال الإمام السخاوي : روينا عن المزني قال : سَمِعَني الشافعي يوماً وأنا أقول : فلان كذَّاب ، فقال لي : يا إبراهيم أكس ألفاظك أحسنها ، لا تقل كذاب ، ولكن قل حديثه ليس بشيء (2) .
2- قال السخاوي : كان البخاري لمزيد ورعه قَلَّ أن يقول : كذاب ، أو وضاع أكثر ما يقول : سكتوا عنه ، فيه نظر ، تركوه ، ونحو هذا ، نعم ربما يقول : كذبه فلان ، أو رماه فلان بالكذب (3) .
3- قال عبد الرزاق : ما رأيت ابن المبارك يُفصح بقوله : كذاب إلا لعبد القدوس فإني سمعته يقول له : كذاب (4) .
__________
(1) هدي الساري ص 403 .
(2) فتح المغيث للسخاوي ص 399 .
(3) فتح المغيث للسخاوي ص 399 .
(4) مقدمة صحيح مسلم ص 26 .(1/83)
4- عن حماد بن زيد قال : ذكر أيوب - السختياني - رجلاً يوماً فقال : لم يكن بمستقيم اللسان ، وذكر آخر فقال : هو يزيد في الرقم (1) .
قال النووي : هذان اللفظان كناية عن الكذب (2) .
5- كان محمد بن سيرين إذا مدح أحداً - أي زكّاه وعدّله - قال : هو كما يشاء الله ، وإذا ذمه أي - جرحه - قال : هو كما يعلم الله ، وهذا أدبٌ رفيعٌ في الجرح والتعديل ، وهو من أدب السلف الصالح رضي الله عنهم .
خاتمة
وبعد هذه الجولة الممتعة في رياض علم الجرح والتعديل ، ذلك العلم الفذ الذي انفردت به الأمة المسلمة تبيَّن للقارئ بما لا يدع مجالاً للشك :
1- أن الجرح والتعديل نشأ مقترناً بنشأة الرواية ، وأن العلماء وضعوه لاحتياجهم إليه في نقد المرويَّات ، ووضعوا له الضوابط والقواعد التي تكفل سلامته ، وعدم خروجه عن حدوده المشروعة .
2- أن هذا الدين في جملته مؤيَّدٌ محفوظٌ من الله ، لأنه رسالة الله الخاتمة لأهل الأرض , ولذلك قيَّض الله للسنة المطهرة عوامل حفظها وصيانتها ، ومن أهم هذه العوامل : ظهور علم الجرح والتعديل .
3- أن صدور الجرح والتعديل من الناقد لا يعني قبوله مطلقاً ، بل يجب معرفة مذهب الناقد في الجرح والتعديل ، وآراء النقاد الآخرين في الراوي .
4- أن العلماء وضعوا شروطاً لمن يقوم بعملية الجرح والتعديل تكفل سلامته ، وصيانته من الهوى ، والغرض الفاسد ، ولم يقبلوا صدوره من أي عالم .
5- أن للعلماء مناهج متنوعة ينبغي على دارس هذا العلم أن يعرفها قبل أن يقبل النقد أو يرده ، وحتى يستطيع التمييز بين النقد المقبول والنقد المردود .
6- أن علماء المسلمين سبقوا غيرهم من علماء الأمم في اشتراط القواعد التي تكفل التأكد من ثبوت النصوص فليس كل ما يقال يُصدَّق ، ولا كل ما يُكتب حق .
__________
(1) مقدمة صحيح مسلم ص 21 .
(2) شرح صحيح مسلم للنووي ص 104 .(1/84)
7- أن العلماء وضعوا قواعد في الجرح والتعديل تُعتبر ميزاناً لنقد المنقول ، وهي تُمثِّل أفضل ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري المجرد نقاءاً وطهارةً ، وسلامةً من الهوى والعصبية .
المصادر والمراجع
1- الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة لأبي الحسنات اللكنوي ، طبعة دار البشائر الإسلامية ، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بجلب ، الثالثة 1414 هـ .
2- إحياء علوم الدين للإمام : أبي حامد الغزالي ، طبعة النور الإسلامية ، بدون تاريخ .
3- أربع رسائل في علوم الحديث جمع وإعداد واعتناء وتحقيق الشيخ : عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة دار البشائر الإسلامية ، الطبعة السادسة 1419 هـ .
4- الإرشاد في علوم الحديث للدكتور : عزت عطية ، والدكتور : مصطفى أبو عمارة طبعة 1991 م .
5- أصول الحديث علومه ومصطلحه للدكتور : محمد عجاج الخطيب ، طبعة دار الفكر ، الأولى 1419 هـ .
6- أصول منهج النقد عند أهل الحديث للدكتور : عصام البشير ، طبعة مؤسسة الريان ، الأولى 1410 هـ .
7- الإعلان بالتوبيخ لم ذم التاريخ للإمام : السخاوي ، طبعة مكتب الساعي بالرياض ، بدون تاريخ .
8- الإقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد ، طبعة مطبعة الرشاد ببغداد 1402هـ .
9- الإكمال بمن في مسند أحمد من الرجال ، طبعة دلهي بالهند 1369هـ .
10- البداية والنهاية للحافظ : إسماعيل بن كثير ، تحقيق أحمد عبد الوهاب فتيح ، طبعة دار الحديث بالقاهرة ، الخامسة 1415 هـ .
11- البناية شرح الهداية لبدر الدين العيني ، طبعة نولكشور بالهند 1393هـ .
12- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، طبعة السعادة 1349 هـ .
13- تأنيب الخطيب للكوثري ، طبعة الأنوار 1361 هـ .
14- تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1375 هـ .
15- ترتيب المدارك للقاضي عياض ، طبعة الرباط المغرب 1384 هـ .(1/85)
16- التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح لأبي الوليد الباجي ، تحقيق الدكتور أبو لبابة حسين ، طبعة دار اللواء ، الطبعة الأولى 1406 هـ .
17- التمهيد لابن عبد البر ، طبعة الرباط 1387 هـ .
18- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ، طبعة دار الفكر ، الأولى 1415هـ .
19- تهذيب الكمال في أسماء الرجال للحافظ المزي ، تحقيق بشار عواد معروف ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الأولى 1992 م .
20- توجيه النظر إلى أصول الأثر للشيخ طاهر الجزائري ، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب .
21- جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير الجزري ، طبعة دار الفكر ، الثانية 1403هـ .
22- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1421 هـ .
23- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ، طبعة مكتبة المعارف بالرياض 1403 هـ .
24- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1371 هـ .
25- حلية الأولياء لأبي نعيم ، طبعة دار الكتاب العربي ، الرابعة 1405 هـ .
26- دراسات في علوم الحديث للدكتور : أحمد عمر هاشم ، طبعة 1421 هـ .
27- دراسات في علوم السنة للدكتور : مروان شاهين ، طبعة 1418 هـ .
28- ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل للحافظ الذهبي ، تحقيق الشيخ : عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة دار البشائر الإسلامية ، السادسة 1419 هـ .
29- الرسالة للإمام الشافعي ، تحقيق أحمد شاكر ، طبعة مصطفى البابي الحلبي 1358 هـ .
30- الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام : أبي الحسنات محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي ، طبعة دار البشائر الإسلامية ، الثالثة 1407 هـ .
31- الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للإمام الذهبي ، تحقيق محمد إبراهيم الموصلي ، طبعة دار البشائر الإسلامية بيروت 1412 هـ .(1/86)
32- رياض الصالحين للإمام : النووي ، طبعة دار الإيمان للتراث 1407 هـ .
33- سنن الترمذي للإمام محمد بن عيسى الترمذي ، طبعة دار الفكر 1414 هـ .
34- سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الحادية عشرة 1417 هـ .
35- شرح ألفية العراقي المسماة بالتبصرة والتذكرة لناظمها زين الدين العراقي ، طبعة المطبعة الجديدة 1357 هـ .
36- شرح شرح النخبة لعلي القاري ، مطبعة إخوتي باصطنبول 1327هـ .
37- شروط الأئمة الستة لأبي الفضل محمد بن طاهر القيسراني ، تعليق محمد زاهد الكوثري ، طبعة مكتبة القدس .
38- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي ، طبعة دار إحياء التراث العربي .
39- صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري المطبوع مع فتح الباري لابن حجر ، طبعة دار المطبعة السلفية ، نشر دار الريان للتراث ، الثالثة 1407 هـ .
40- صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج ، طبعة دار الحديث ، الطبعة الأولى 1412 هـ .
41- صفوة الصفوة لعبد الرحمن بن الجوزي ، تحقيق محمد فاخوري ، ومحمد رواس قلعجي ، نشر دار المعرفة ببيروت ، الثانية 1399 هـ .
42- الضعفاء الكبير للعقيلي ، تحقيق عبد المعطي قلعجي ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1984 م .
43- الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ، طبعة دار الكتب العلمية ، تحقيق عبد الله القاضي ، الأولى 1406 هـ .
44- طبقات الحفاظ للسيوطي ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1983 م .
45- طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى الحنبلي ، طبعة مطبعة السنة المحمدية ، بدون تاريخ .
46- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ، طبعة عيسى الحلبي المحققة 1382هـ .
47- الطبقات الكبرى للحافظ محمد بن سعد ، تحقيق حمزة النشرتي وآخرون ، طبعة المكتبة القيمة .
48- عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان للصالحي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند 1394 هـ .(1/87)
49- عناية المسلمين بالسنة للدكتور : محمد حسين الذهبي ، طبعة مكتبة شباب الأزهر ، بدون تاريخ .
50- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ : ابن حجر العسقلاني ، طبعة دار المطبعة السلفية ، نشر دار الريان للتراث ، الثالثة 1407هـ .
51- فتح المغيث شرح ألفية الحديث للإمام السخاوي ، طبعة دار الكتب العلمية 1417هـ .
52- الفروق الفقهية للإمام القرافي ، طبعة دار إحياء الكتب العربية ، بدون تاريخ .
53- فقه أهل العراق وحديثهم لزاهد الدين الكوثري ، طبعة دار القلم بيروت 1390 هـ .
54- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت لعبد العلي اللكنوي ، طبعة بولاق 1322هـ .
55- قواعد في علوم الحديث لظفر أحمد التهانوي ، طبعة دار السلام ، السادسة 1421 هـ .
56- الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب السنة للذهبي ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1983م .
57- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي ، طبعة دار الفكر ، الثالثة 1988 م .
58- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس لإسماعيل العجلوني ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1983 م .
59- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة ، طبعة اسطنبول 1360 هـ .
60- الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند 1357 هـ .
61- اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للحافظ السيوطي ، طبعة دار المعرفة ببيروت ، الثالثة 1401هـ .
62- لسان العرب لابن منظور ، طبعة دار إحياء التراث العربي ، ومؤسسة التاريخ العربي ، الثانية 1417 هـ .
63- لسان الميزان لابن حجر ، طبعة دار الكتب العلمية الأولى 1416 هـ .
64- لقط الدر شرح نخبة الفكر للعدوي ، طبعة التقدم 1323هـ .
65- لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للشيخ : عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة دار البشائر الإسلامية 1417 هـ .
66- لمحات النظر في سيرة الإمام زفر للكوثري ، طبعة الأنوار 1368هـ .(1/88)
67- المتكلمون في الرجال للإمام السخاوي المطبوعة ضمن : أربع رسائل في علوم الحديث ، تحقيق الشيخ : عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة دار البشائر الإسلامية بيروت ، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية ، السادسة 1419 هـ .
68- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لعلي بن أبي بكر الهيثمي ، نشر دار الريان للتراث ، ودار الكتاب العربي 1407هـ .
69- مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية ، طبعة مطابع الرياض 1381 هـ .
70- المحدث الفاضل بين الراوي والواعي للرامهرمزي ، تحقيق محمد عجاج الخطيب ، طبعة دار الفكر 1391 هـ .
71- المحلي لابن حزم ، طبعة المنيرية 1347 هـ .
72- مختار الصحاح لمحمد بن عبد القادر الرازي ، طبعة دار المنار بيروت ، بدون تاريخ .
73- مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ، اختصار : محمد الموصلي ، طبعة السلفية 1349 هـ .
74- المسند للإمام أحمد بن حنبل ، شرح الشيخ : أحمد شاكر ، طبعة دار الحديث ، الأولى 1416 هـ .
75- المعجم الأوسط للإمام الطبراني ، نشر دار الحرمين بالقاهرة 1415 هـ .
76- المعجم الصغير للإمام الطبراني ، طبعة المكتب الإسلامي ، ودار عمار ، الأولى 1405 هـ .
77- معرفة علوم الحديث للحاكم ، طبعة دار الكتب المصرية 1356 هـ .
78- المغني في الضعفاء للحافظ الذهبي ، طبعة مطبعة البلاغة بحلب 1391هـ .
79- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للإمام النووي ، نشر دار الريان للتراث .
80- الموقظة في مصطلح الحديث للذهبي ، طبعة دار البشائر الإسلامية 1405 هـ .
81- ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي ، مطبعة عيسى الحلبي 1382هـ .
82- نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر العسقلاني نشر مكتبة منارة العلماء لإحياء التراث الإسلامي 1409هـ
83- النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام المبارك بن محمد بن الأثير الجزري ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1418 هـ .(1/89)
84- هدي الساري في مقدمة فتح الباري لابن حجر العسقلاني ، طبعة السلفية الثالثة 1407 هـ .
85- الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي ، طبعة جمعية المستشرقين الألمانية .
86- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان ، تحقيق الدكتور إحسان عباس ، طبعة دار صادر بيروت .
الفهرس
ص ... الموضوع
1 ... مقدمة ..................................................................
3 ... الفصل الأول : الجرح والتعديل ................................
4 ... المبحث الأول : تعريف الجرح والتعديل .................................
7 ... المبحث الثاني : مشروعية الجرح والتعديل .............................
13 ... المبحث الثالث : نشأة الجرح والتعديل ..................................
16 ... المبحث الرابع : مراتب الجرح والتعديل وألفاظها ........................
20 ... المبحث الخامس : أهم المؤلفات في الجرح والتعديل ...................
25 ... المبحث السادس : أهم المؤلفات في قواعد الجرح والتعديل ..............
26 ... المبحث السابع : غاية الجرح والتعديل ..................................
28 ... المبحث الثامن : أهمية هذا العلم وخطورته .......................
30 ... الفصل الثاني : المتكلمون في الرجال أقسامهم وطبقاتهم .......
31 ... المبحث الأول : أقسام المتكلمين في الرجال .............................
33 ... المبحث الثاني : طبقات المتكلمين في الرجال ............................
38 ... الفصل الثالث : شروط الجارح والمعدل ........................
47 ... الفصل الرابع : مناهج المتكلمين في الجرح والتعديل ...........
48 ... المبحث الأول : المتشددون في الجرح والتعديل ........................
49 ... المطلب الأول : مفهوم التشدد عند علماء الجرح والتعديل .............
52 ... المطلب الثاني : الأسباب الحاملة لبعض العلماء على التشدد ............(1/90)
54 ... المطلب الثالث : نشأة التشدد في الجرح والتعديل .......................
56 ... المطلب الرابع : أشهر المتشددين في الجرح والتعديل ..................
57 ... أشهر المتشددين من النوع الأول .......................................
57 ... " شعبة بن الحجاج ....................................
58 ... " يحيى بن سعيد القطان ................................
61 ... " عفان بن مسلم الصفار ...............................
61 ... " أبو نعيم الفضل بن دكين .............................
62 ... " يحيى بن معين .......................................
63 ... " علي بن المديني ......................................
64 ... " أبو حاتم الرازي ......................................
68 ... " النسائي ..............................................
70 ... " العقيلي ...............................................
82 ... " ابن حبان .............................................
74 ... " أبو الفتح الأزدي .....................................
76 ... " أبو الحسن بن القطان ................................
77 ... أشهر المتشددين من النوع الثاني ................................
77 ... " الجوزجاني ...........................................
80 ... " عبد الرحمن بن خراش ...............................
80 ... " ابن عقدة .............................................
80 ... " نعيم بن حماد ........................................
81 ... المطلب الخامس : موقف العلماء من أحكام المتشددين في الجرح والتعديل
84 ... المبحث الثاني : المعتدلون في الجرح والتعديل ....................
85 ... المطلب الأول : مفهوم الاعتدال عند علماء الجرح والتعديل .............
86 ... المطلب الثاني : الأسباب الحاملة للعلماء على الاعتدال ..................
87 ... المطلب الثالث : نشأة الاعتدال في الجرح والتعديل ......................(1/91)
87 ... المطلب الرابع : أشهر المعتدلين في الجرح والتعديل ....................
89 ... المطلب الخامس : موقف العلماء من أحكام المعتدلين في الجرح والتعديل
90 ... المبحث الثالث : المتساهلون في الجرح والتعديل .......................
91 ... المطلب الأول : مفهوم التساهل عن علماء الجرح والتعديل .............
91 ... المطلب الثاني : الأسباب الحاملة لبعض العلماء على التساهل ...........
92 ... المطلب الثالث : نشأة التساهل في الجرح والتعديل ......................
93 ... المطلب الرابع : أشهر المعروفين بالتساهل في الجرح والتعديل .........
93 ... " ابن حبان ............................................
94 ... " الترمذي .............................................
94 ... " الحاكم ...............................................
94 ... " البيهقي .............................................
95 ... المطلب الخامس : موقف العلماء من أحكام المتساهلين في الجرح والتعديل
96 ... الفصل الخامس : قواعد المحدثين في الجرح والتعديل .........
97 ... القاعدة الأولى : عدم قبول الجرح فيمن ثبتت عدالته ....................
101 ... القاعدة الثانية : وجوب صيانة أعراض المسلمين .......................
103 ... القاعدة الثالثة : وجوب نقل أقوال المجرحين والمعدلين .................
105 ... القاعدة الرابعة : ليس كل جرحٍ صدر من ناقد معتمداً مقبولاً ............
114 ... القاعدة الخامسة : وجوب الإنصاف وعدم المحاباة ......................
117 ... القاعدة السادسة : التزام الأدب عند الجرح ..............................
119 ... خاتمة ...................................................................
120 ... المصادر والمراجع ......................................................
128 ... الفهرس .................................................................(1/92)