1- أن يعمد من شاء من أهل الأهواء إلى تحريف نصوص القرآن والسنة المتواترة أو تأويلها بحجة أنها غير صريحة في دلالاتها، وإن كانت قطعية الثبوت وهذا أمر واقع.
2- وأن يعمد أهل الأهواء إلى الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من الأمة بما في ذلك أخبار الصحيحين فيدفعوا في نحورها ولا يحتجوا بها في أبواب الاعتقاد لأنها غير قطعية الثبوت وإنما هي من الظنيات، وما كان كذلك فلا يجوز أن يبنى عليه الاعتقاد ولا الإيمان بالغيبيات.
ومن هنا يقول محمد عبده:" وشرط صحة الاعتقاد ألا يكون فيه شيء يمس التنزيه وعلو المقام الإلهي عن مشابهة المخلوقين، فإن ورد ما يوهم ظاهره ذلك في المتواتر وجب صرفه عن الظاهر، إما بالتسليم لله في العلم بمعناه مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد أو بتأويل تقوم عليه القرائن المقبولة(1)".
وأنت ترى أنه لا يسلّم بظاهر المتواتر، فهذا هو موقفه من السنة: لا يجب على عموم النّاس التصديق بكل حديث صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل بما تواتر عنه، وأنه يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، وباب التأويل والتحريف مفتوح ودعاوى عدم الصراحة سهلة جداً لمن يريد الخروج عن معتقدات السلف الصالح إلى معتقدات أهل الأهواء.
ويقول:
"أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدق بصحة روايتها.
أما من لم يبلغه الخبر أو بلغه وعرضت له شبهة في صحته وهو ليس من المتواتر فلا يطعن في إيمانه عدم التصديق به، والأصل في جميع ذلك أن من أنكر شيئاً وهو يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدَّث به أو قرره فقد طعن في صدق الرسالة وكذب بها"(2).
ومقتضى كلامه:
__________
(1) رسالة التوحيد (ص:158).…
(2) رسالة التوحيد (ص: 158 ).(40/50)
أنه إذا بلغته أخبار الآحاد ولم يصدق بصحتها -ولو كانت مما قرر صحتها أئمة الحديث والسنة وسلموا بها ودانوا بما فيها من عقائد وعمل- فإن عدم تصديق هذا المتحرر لا يطعن في إيمانه، وله الحق أن يردها ويكذب بها، ولو كانت في الصحيحين وتلقتها الأمة بالقبول، وله ردها عند عارض أي شبهة فلا يلزمه النظر إلى الأسانيد ولا التقيد بها، مهما بلغت من الصحة وتوافرت لصحتها الشروط، فعقول العقلانيين فوق كل اعتبار.
ثم قال: "ويلحق به من أهمل العلم بما تواتر وعلم أنه من الدين بالضرورة وهو في الكتاب وقليل من السنة في العمل" (1).
إلى أن قال: " والأصل في ذلك أن الإيمان هو اليقين في الاعتقاد بالله ورسله واليوم الآخر بلا قيد في ذلك إلا احترام ما جاء به على ألسنة الرسل"(2). يعني: لا حرج على من أهمل غير المتواتر من السنن القولية والعملية والتقريرية مهما بلغت من الصحة، وتَلَقِّي الأمة لها بالقبول سواء تعلقت بالعقائد أو الأعمال.
ومعلوم أن هذا الصنف ينكر المتواترات ويردها بدعوى أنها أخبار آحاد مثل: نزول عيسى(3)، وخروج المهدي، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال (4)، وأحاديث فتنة القبر وعذابه، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث
رؤية الله في الدار الآخرة، إلى عقائد أخرى ثبتت بالتواتر فردَّت أحاديثها بحجة أنها أخبار آحاد.
__________
(1) رسالة التوحيد (ص: 158).
(2) رسالة التوحيد (ص: 158).
(3) انظر كتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" لأنور شاه الكشميري حيث ساق أكثر من سبعين حديثاً في نزول عيسى -عليه الصلاة والسلام-.
(4) انظر كتاب" قصة المسيح الدجال ونزول عيسى -عليه الصلاة والسلام- وقتله إياه"، للمحدث الألباني، وقد تناول في مقدمته محمد عبده ورشيد رضا باللوم على تأويل أحاديث نزول عيسى وخروج الدجال، كما تناول بعض طلاب الأزهر، انظر (ص:12-13).(40/51)
ثم قال:" ومن اعتقد بالكتاب العزيز وبما فيه من الشرائع العملية، وعسر عليه فهم أخبار الغيب على ما هي عليه في ظاهر القول، وذهب بعقله إلى تأويلها بحقائق يقوم له الدليل عليها، مع اعتقاد بحياة بعد الموت وثواب وعقاب على الأعمال والعقائد، بحيث لا ينقص تأويله شيئاً من قيمة الوعد والوعيد، ولا ينقص شيئاً من بناء الشريعة في التكليف كان مؤمناً حقاً(1)، وإن كان لا يصح اتخاذه قدوة في تأويله فإن الشرائع الإلهية قد نظر فيها إلى ما تبلغه طاقة العامة"(2).
ونرى هنا أنه يقصر الاعتقاد على الكتاب العزيز وبما فيه من الشرائع فلا ندري أهذا سهو منه عن السنة المتواترة أم هو مغازلة لمنكري السنة وتلويح لهم بتأييد مذهبهم؟!.
ونرى أنه يعطي الحرية الكاملة للعقلانيين وغيرهم أن يفهموا القرآن كل على حسب عقله دون التفات إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه النبي- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بيان وعقيدة.
ويرى أنه مؤمن حقاً إذا آمن بحياة بعد الموت وثواب وعقاب على الأعمال والعقائد بحيث لا ينقص تأويله شيئاً من قيمة الوعد والوعيد، فلا يضره بعد ذلك أن ينكر معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنها الإسراء والمعراج وانشقاق القمر، ولا تفسير الملائكة بأنها نوازع الخير في أنفسنا، أو تفسير الشياطين بأنها نوازع الشر إلى آخر التأويلات الباطنية المعروفة التي تعبث بنصوص القرآن وتنكر السنة أو تعبث بتأويلها.
__________
(1) أرى أن هذا غلو في الإرجاء فالمؤمنون حقاً هم الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً والمؤمنون حقاً الذين يؤمنون بكل ما ثبت عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ويبنون عليه عقائدهم وأعمالهم.
(2) انظر هذه الأحاديث المتواترة في هذه الأمور العقدية في كتاب: "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للكتاني (ص: 82، 84، 114، 132، 135، 146، 147، 149).(40/52)
فقد سئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: " إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها".
وإن القرآن أعظم هادٍ إلى هذه الحكم والأسرار وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبينة لذلك، فلا حاجة للبشر إلى الإصلاح وراء الرجوع إلى ذلك. وقال بعد أن حكى الخلاف في تفسير قول الله تعالى لعيسى عليه السلام * 7 8 9 : ) ]آل عمران:55]. مرجحاً أن الوفاة هي وفاة موت، وأن الرفع إنما كان لروحه قال: "ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان:
أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها اليقين وليس في الباب حديث متواتر.
وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وهو ما غلب على تعاليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت اليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى -عليه السلام- ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته، وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب.
أي: ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة، قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها معبراً عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقاً لروحها ذاهباً بحكمتها كان لابد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي.
وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدو الدين في كل زمان.
فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.
قال رشيد رضا:(40/53)
" هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه. ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل ما فهمه "(1).
ونقول:
1- إن أحاديث نزول عيسى في آخر الزمان وقتله للدجال والحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - متواترة وليست بأخبار آحاد -كما يدعي محمد عبده- ولو كانت آحاداً فيكفيها أنها في الصحيحين اللذين تلقتهما الأمة بالقبول وهذا التلقي يفيد العلم.
2- هل يعجز محمد - صلى الله عليه وسلم - عن التعبير الذي ادعاه محمد عبده حتى يذهب فيحدث عنه على طريقة الألغاز والأحاجي؟! حاشاه - صلى الله عليه وسلم - أن يستخدم هذا الأسلوب.
3-كلام محمد عبده هنا عن فهم الأمة للقرآن فيه استخفاف بتراث الأمة العظيم من تفسير وفقه وشروح حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأنه تعبير عن آرائهم وفهمهم وأن هذا الفقه والفهم قد أزهق روح الشريعة وذهب بحكمتها.ولعله يريد بالإصلاح الذي لا بد منه إصلاحه هو وشيخه الأفغاني ومدرستهما، وقد عرف القارئ نبذة من هذا الإصلاح الذي يحق لمن يعرف الإسلام أن يقول: إن إصلاحكم المزعوم هو المزهق لروح الإسلام بعد التهوين من شأن نصوصه وبعد تأويلاتها الفاسدة التي هي أشبه بتأويل الباطنية.
4- لم يكتف محمد رشيد رضا بنقل هذا الكلام الباطل فذهب يلقن الطاعنين في السنة حُجَّتهم بقوله: "ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل بفهمه".
__________
(1) تفسير المنار (3/316-317 ).(40/54)
وهذا طعن ماكر في السنة ونقلتها الأمناء، وإهدار لأمانتهم وحفاظهم على السنة المحمدية بطرق محكمةلم تعهدها البشرية طوال تاريخها، وتشكيك في السنة متواترها وآحادها، وتلقين لأعداء السنة أن يتخذوا هذه المقولة الباطلة سلاحاً لمحاربة السنة وأهلها، وقد اتخذوها فعلاً سلاحاً، ولكن الله يردُّ أسلحتهم الفاسدة في نحورهم بنضال أهل السنة وحججهم الساطعة وبراهينهم القاطعة.
وفعلاً فلقد نقل أبو رية عن رشيد رضا كلاماً في الطعن في رواية من اشتهر بالصدق والضبط -ومنهم بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس- وأنها تُرَدُّ بالطعن فيها أو بالتأويل ومن ضمن هذا الكلام قوله:
" وإما بتأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى وأن بعض رواته لم يفهم المراد فعبر بما فهمه.... ".
فردَّ عليه العلامة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"(1) باثنتي عشرة مؤاخذة، قال في العاشرة:
"إن هذا الطعن يترتب عليه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهي المكيدة التي مرت الإشارة إليها (ص:201) وإيضاحها قبل ذلك، وكل من التأويل ولو مستكرها والوقف أسلم من هذا الطعن، ولو غير السيد رشيد رضا قاله لذكرت قصة المرأة التي اشتكى طفلها، ولم تعلم ما شكواه غير أنها نظرت إلى يافوخه يضطرب كما هو شأن الأطفال، فأخذت سكيناً وبطت يافوخه كما يصنع بالدمل... إلى آخر ما جرى " أي: أن في كلام محمد رشيد رضا هذا قتلاً للشريعة الإسلامية كما قتلت هذه المرأة ابنها.
وبعد، فلقد فتح جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده باب فتنة عظيمة ومحنة كبيرة على الإسلام كتاباً وسنةً وتراثاً إسلامياً، وخلَّفا مدرسة فكرية عقلانية جمعت بين ضلال الفرق القديمة من روافض ومعتزلة وجهمية، ومن تحريفات وتأويلات باطلة، ومن طعون في السنة وحملتها بدءاً بالصحابة وانتهاء بأهل الحديث والفقه والتفسير، وبين حملات أعداء الإسلام المستشرقين والمستعمرين على الإسلام والمسلمين.
__________
(1) ص: 295-298 ).(40/55)
ومن أبرز تلاميذ هذه المدرسة:
1- محمد توفيق صدقي في مقالات نشرتها مجلة المنار في عدد من مجلداتها.
2- وأحمد أمين في "فجر الإسلام وظهره".
3- ومحمود أبو رية في كتابه "أضواء على السنة".
4- ومحمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة".
وقد تناول هؤلاء السنة بسوء على تفاوت بينهم، وقد تصدَّى للرد عليهم ودحض شبهاتهم وأباطيلهم عدد من العلماء.
ومن هؤلاء العلماء: الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة".
والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في كتابه "ظلمات أبي رية".
والشيخ محمد أبو شهبة في كتابه "الدفاع عن السنة".
وكل هؤلاء قد ردوا على أبي رية وتوسعوا في ردودهم على هذا الضال المفتري ولا سيما على كلامه في الصحابي الجليل أبي هريرة - رضي الله عنه -، وبينوا
-أيضاً- ما وقع فيه من التناقضات والكذب الكثير والخيانات والنقول الكاذبة عن أعداء الصحابة -رضي الله عنهم-، واحتجاجه بالروايات الواهية والموضوعة، واعترافه بالمتواتر ثم تشكيكه فيه إلى آخر مخازيه.
هذا مع تبجحه بالغيرة على السنة النبوية والدفاع عنها وعما يشينها، وقد بيَّن الشيخ المعلمي زيف هذه الدعوى وأمثالها.
وأما أحمد أمين فقد رد عليه الدكتور مصطفى السباعي كما ناقش أبا رية في طعنه على أبي هريرة.
وأما محمود شلتوت فقد رد على تشويشه على السنة الشيخ عبد الله بن علي بن يابس في كتابه "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام"، كما رد عليه مخالفات أخرى في الكتاب المذكور.
ولقد آثرت في هذا البحث أن أركز على شبهات محمد توفيق صدقي لأسباب:
1- أن هؤلاء المذكورين من المدافعين عن السنة والذين انتشرت مؤلفاتهم في أوساط طلاب العلم لم يتعرضوا لنقد هذا الرجل.
2- أن الدكتور السباعي من بين هؤلاء قد تعرض لنقد أربع شبهات من شبهات محمد توفيق، ولعله لم يقف على كل شبهاته.(40/56)
3- هناك عالمان ناقشا محمد توفيق وهما الشيخ طه البشري أحد علماء الأزهر، والثاني الشيخ صالح بن علي بن ناصر اليافعي، نشرت ردودهما في أعداد من مجلة المنار، ولم يستوفيا مناقشة شبهات هذا الرجل حسب اطلاعي.
4- أن شبهات محمد توفيق صدقي يشاركه في كثير منها أحمد أمين وأبو رية وغيرهما، فالرد عليه رد عليهم -أيضاً- وعلى غيرهم من الطاعنين في السنة النبوية.
محمد توفيق صدقي
هذا الرجل من أشد الناس إنكاراً للسنة وطعناً فيها، وهو ثمرة لدعوة الشيخ محمد عبده وشيخه الأفغاني ومنهجهما العقلاني الذي عانى منه المسلمون.
لقد أبدى هذا الرجل صفحته وكشف عن قناعه فكتب مقالات في الطعن في سنة رسول الله وردها، نشرها في مجلة المنار وغيرها.
ومن هذه المقالات التي نشرتها هذه المجلة(1) مقالة بعنوان: "الإسلام هو القرآن وحده"، قال في طليعة هذا المقال:" هذا عنوان مقال لي جديد أريد أن أفصح فيه عن رأي أبديه لعلماء المسلمين المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئاً أرشدوني، وإذا ما كنت مصيباً أيدوني، وبشيء من علمهم أمدوني. فإني لست ممن يهوى الإقامة على الضلال، ولا ممن يلتذ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق وتمحيصه والإسراع إليه راجياً من الله التوفيق للهداية إلى أقوم طريق"(2).
ثم قال:
__________
(1) المنار (9/515 ).
(2) لقد حلى نفسه بهذه الصورة الجميلة وما أبعده عنها فلو كان كذلك لما وقع في هذه المهواة، ولرجع عن هذا المنهج المهلك بعد أن رد عليه الشيخان طه البشري وصالح اليافعي، لكنه تمادى وتمادى وعاند كشأن أهل الباطل والأهواء في كل زمان ومكان.(40/57)
لا خلاف بين أحد من المسلمين في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛ لأنه منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باللفظ بدون زيادة ولا نقصان ومكتوب في عصره بأمر منه - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء مطلقاً(1) إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل(2)؛ من ذلك نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة(3) سوى القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ازب? [الحجر:9].
ثم قام بالرد على محمد توفيق صدقي الشيخ طه البشري أحد علماء الأزهر في مقال ضاف نشرته مجلة المنار(4) تحت عنوان:
"أصول الإسلام الكتاب والسنة والإجماع والقياس" ناقشه مناقشة جيدة، إلا أنه مع الأسف جاراه في أن أخبار الآحاد تفيد الظن.
ثم ردَّ الدكتور محمد توفيق صدقي على الشيخ طه البشري بجواب أصرَّ فيه على رأيه بل زاده تأكيداً بإيراد شبه جديدة لم يذكرها في مقاله الأول، صدر هذا المقال في المنار -أيضاً-(5).
فتعقب صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا بتعليق وصل فيه إلى القول بأن الدين اللازم هو القرآن والمتواتر من السنة العملية، وأورد شبهاً على السنن القولية.
__________
(1) هذه مجازفة كبيرة فقد كتب الكثير منها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي بيانه.
(2) سبحان الله لِلَّهِ خير أمة أخرجت للناس تتلاعب بنصوص نبيها ؟!.
(3) وهذه مجازفة كبيرة أيضاً؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يريد البلاغ عنه بالكتابة والحفظ الأمين.
(4) المجلد (9/699، 711 ).…
(5) المجلد (9/906-925 ).(40/58)
فكان في موقفه هذا فيما يبدو ما حمل الدكتور محمد توفيق صدقي على التظاهر بالتراجع(1) إلى ما قرره الشيخ محمد رشيد رضا، وهذا التراجع يظهر منه أنّه مصطنع، وأنّه لم يستفد شيئاً من انتقاد الشيخ طه البشري، ولذا نراه استمر في محاربة السنة مما ألجأ العلامة السلفي الشيخ صالح بن علي اليافعي أن يقول: "وقوله هذا -وإن كان أهون من قوله السابق- ومآله وحقيقته بعد التزامه ثم تطبيقه على ما في نفس الأمر الواقع هو حقيقة قوله الأول من رد أكثر السنن الفعلية، بل لا يبعد إذا قلنا كلها"(2).
كما ألجأه إلى أن يرد عليه في عدد من المقالات نشرتها مجلة المنار قال في إحداها: "قال الدكتور محمد توفيق صدقي: " أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد، ثم قال: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين ولا يلحقها بالقرآن الشريف. الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر من السنة"(3).
ثم أجابه الشيخ صالح بن علي اليافعي بقوله: "ونقول:
1- إن الله جل شأنه أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم في كل ما أرسلوا به وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله.
وبعبارة أخرى: لم يقل أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته أنه يجب على الله أن ينزل عليه كتاباً يقرؤه أو كلاماً يتلوه بلفظه.
بل عرَّفوا الرسول بأنه بشر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أو الفعل.
على أن القول مقدم على الفعل، ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل.
والله جل شأنه لم يخصص طريقاً ولا طرقاً معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى من نأى وبعد مكاناً أو زماناً، ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من الدين بغير تواتر معذور، ولم يقل ذلك أحد من رسله أو ممن يعول عليه من أتباعهم، بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شؤون دنياهم الاجتماعية.
__________
(1) المجلد (10/140 ).
(2) المجلد (11/142 ).
(3) المنار (11/371 ).(40/59)
وإنما مدار ذلك- والله أعلم- هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من بلغه خبر ولم يقصر في البحث عن صحته وصدقه فحين تصديقه لا يجوز له رده، وهذا هو الذي دل الشرع والعقل عليه، وعليه اتفق أهل الملل قاطبة.
2- بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس عليه حجة، وهو لا يأمر بالمحال ولا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو أوجب على الأمم تبليغ كل مسألة من شرعه بالتواتر وعلى المبلغين رد غير التواتر لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، مستلزماً لملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزه عن إرادة ذلك فبطل اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين.
3- دل القرآن على أن من جاءته الحجة عن الله بتوسط رسله وردها جحداً أو مكابرة، أو بما شاكل ذلك وداناه، فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب...والحق أن من أنكر ما عرف وجوبه من دين الإسلام وصار ذلك معلوماً له ولو بخبر الآحاد كفر، وكذلك من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة ولم يكن قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء كفر، وإن لم يكن منقولاً بالتواتر المعروف عن التواترية، ونحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلم، ولكن ننكر انحصار العلم الخبري فيه، أو فيما باشر الشخص سماعه، كما أنا لا نسلم أن ما هو متواتر عند أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون" (1).
واستمر الدكتور محمد صدقي في نشر أفكاره المسمومة حول السنة القولية ودلالتها والجدال بالباطل وقذف الشبه المضلة التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين كما قال العلامة اليافعي.
وحيث إن المجال لا يتسع لعرض هذه المقالات وما حوته من أخذ ورد في هذا البحث المحدد، فقد رأيت أنه لا مناص لي من الاكتفاء بمناقشة ما لخص محمد صدقي من شبه بلغت عشرين شبهة (2) وهي:
__________
(1) المنار (11/371-372 ) وأورد اليافعي حججاً أخرى لم ننقلها خشية التطويل.
(2) وقد سرد هذه الشبهات العشرين في مجلة المنار في المجلد (11/775-777).(40/60)
الشبهة الأولى:
قوله: "قال أحمد بن حنبل ما معناه: إن الأحاديث الواردة في تفسير عبارات القرآن الشريف لا أصل لها، كما نقله الحافظ السيوطي في الإتقان".
أقول - مستعيناً بالله - إنّ الرد عليه من وجوه:
1- أين إسناد هذا القول إلى الإمام أحمد، وأنت لا تقبل من حديث رسول الله إلا المتواتر؟.
2- إن صح هذا عن الإمام أحمد فهل يريد منه الطعن في سنة رسول الله كما تريد ذلك أنت؟.
3- إن الإمام أحمد من أكثر الناس اهتماماً بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتراماً لها ودعوة إليها وتحذيراً من مخالفتها ومن أشدهم اعتصاماً بها.
قال -رحمه الله- في التحذير من مخالفة السنة: "من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"(1).
وروى ابن بطة بسنده إلى الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: "نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو:? تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ادجب? [النور:63].
فجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلك، وجعل يتلو هذه الآية:? xxsù وَرَبِّكَ xw يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ xw يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا |Mّٹxزs% وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ادخب? [النساء:65]".
__________
(1) ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد (ص 182 )، والإبانة (1/260).(40/61)
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: "من رد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة"(1).
وقال رحمه الله:" الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير" (2).
وقال رحمه الله: "رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار"(3).
والمقام لا يتسع لنقل أقواله في هذا الصدد، وهو معلوم لدى العامة والخاصة.
4- إن هناك فرقاً بين كلام الإمام أحمد الذي نُسب إليه وهذا الكلام الذي نسبته أنت إليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام أحمد:
"ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي".
ويروى: "ليس لها أصل" أي إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل"(4).
ومعلوم أنَّ التفسير منه المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه المنقول عن الصحابة كأبي بكر وعمر وأبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، ومنه المنقول عن التابعين كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومنه المنقول عمن بعدهم.
__________
(1) انظر "الإبانة" (1/260)، وانظر فتح المجيد (ص363) وذكر المؤلف أنه نقله عن أحمد الفضل بن زياد وأبو طالب.
(2) أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص 276-277 ).
(3) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (2/149 ).
(4) مقدمة التفسير، مجموع الفتاوى (13/346 ).(40/62)
فأحمد تحدث عن ثلاثة علوم غير علوم السنة التي تميزت بحفظ الله لها، وتميزت بعناية أئمة الحديث بها بما لا يوجد له نظير، تلك العناية التي تضاهي العناية بالقرآن، فهل من الأمانة العلمية أن تقول: "إن الأحاديث الواردة في تفسير عبارات القرآن لا أصل لها"، وهي عبارة لم يقلها الإمام أحمد، ومن المستبعد جداً أن تخطر بباله، كيف يقولها وهو يعلم أن معظم السنة تأكيد وتفسير وبيان للقرآن في كل أبواب العقائد والعبادات والمعاملات وسائر شؤون الحياة؟ وقد أفنى حياته في طلبها والرحلة في طلبها وحفظها وتدوينها وتعليمها وتطبيقها.
وانظر إلى عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية " فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره"، وهذا ما يدين به كل مسلم صادق في إسلامه يؤمن بحفظ الله لهذا الدين كما وعد بذلك في قوله: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ازب? [الحجر:9].
وأخيراً إن كلام الإمام أحمد إن ثبت عنه فإنما يقصد به ما نقل في تفسير القرآن عن الصحابة فمن بعدهم، ولا يقصد بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أولاها المسلمون عناية خاصة تضاهي أو تقارب العناية بالقرآن، ودونت في دواوين خاصة، منها: مسنده الذي ألّفه ليكون مرجعاً للمسلمين.
الشبهة الثانية:
قال محمد صدقي:
"وقال الإمام الشافعي: إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز".
والجواب عن هذا من وجوه:
1- أن الشافعي يرى أن السنة لا تنسخ القرآن وأن القرآن -أيضاً- لا ينسخ السنة إلا إذا كان معه سنّة تبين هذا النسخ (1).
__________
(1) انظر الرسالة (ص: 110-111)، ومن كلامه في هذا الصدد قوله:"... لو نسخت السنة بالقرآن كانت للنبي فيه سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله".(40/63)
2- أن الإمام الشافعي صار مضرب المثل في التمسك بالسنة والحث عليها، ومن أقواله التي تكتب بماء الذهب قوله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، و"إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط" إلى أقوال ذهبية أخرى.
3- معروف ذبه عن السنة وتصديه لدحض شبه منكري السنة أو حجية أخبار الآحاد وأباطيلهم في كتابيه "الرسالة" و"جماع العلم" وسيأتي الحديث عن هذا الدفاع المجيد عن السنة من هذا الإمام.
الشبهة الثالثة:
قال محمد صدقي:
"وقالت الظاهرية: إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز. وإنّ العمل بها غير واجب".
والجواب:
من أي مصدر نقلت هذا الكلام عن الظاهرية؟، فإن المعروف عن داود الظاهري شدة تمسكه بظواهر النصوص ونفيه للقياس واعتقاده في نصوص الكتاب والسنة أنها كافية لمواجهة كل الأحداث التي تجدُّ في حياة المسلمين، وكذلك ابن حزم حامل لواء مذهب الظاهرية، وهو يرى أن السنة تخصص عموم القرآن، وتقيد مطلقه، وتبين مبهمه، وهو من أشد الناس دعوة إلى السنة وذباً عنها، ويرى أن أخبار الآحاد تفيد العلم اليقيني، وله جولات قوية في هذا الميدان على من يخالف السنة أو يرى أن آحادها تفيد الظن وسيأتي الحديث عن هذا -إن شاء الله-.
فقد ظهر أن تعلقك بالإمامين أحمد والشافعي وبالظاهرية تعلق باطل من أشد أنواع الباطل والتمويه وهم أشد الناس حرباً لمنهجك ومنهج أمثالك.
الشبهة الرابعة:
قال محمد صدقي:
"وقال جمهور الأصوليين: إنها ظنية ".
والجواب:
أن هذا ادعاء باطل؛ فإن فحول الأصوليين من أتباع المذاهب الأربعة يقولون: إن أخبار الآحاد التي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها تفيد العلم اليقيني، وهذا قول أهل الحديث قاطبة ومن يقول منهم إن أخبار الآحاد تفيد الظن يقول:"إن خبر الآحاد إذا حفته القرائن يفيد العلم النظري"(1).
الشبهة الخامسة:
قال محمد صدقي:
__________
(1) انظر : النكت لابن حجر على ابن الصلاح (1/347-378).(40/64)
"وقال جمهور المسلمين: إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد".
والجواب:
أن هذه دعوى عريضة يكذبها الواقع والتاريخ، فالصحابة والقرون المفضلة يعتقدون في سنة نبيهم أنها تفيد العلم ويأخذون بها في عقائدهم وغيرها.
ثم لما ظهرت بدعة المعتزلة القائلين بأن أخبار الآحاد تفيد الظن خالفهم أهل السنة، وهم جمهور المسلمين، واستمروا على الأخذ بسنة نبيهم في العقائد لا يفرقون بينها وبين نصوص القرآن.
وتابع عتاةَ المعتزلةِ الروافضُ والخوارجُ في القول بأن أخبار الآحاد تفيد الظن وفي عدم الأخذ بها في العقائد. على أنه من الجائز أن يكون هناك من هذه الفرق أفراداً وجماعات من يأخذ بأخبار الآحاد في العقائد. ومن ادعى خلاف هذا فعليه أن يأتي بالبراهين على صحة دعواه.
وعليه فقد بطل ما هول به هذا الرجل على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبين أنه يركض في ميادين أهل الضلال.
الشبهة السادسة:
قال محمد صدقي:
"وقال كثير من الأئمة كالقاضي عياض: إنه لا يجب الأخذ بها في المسائل الدنيوية ".
والجواب من وجوه:
1- هذه دعوى عريضة؛ فلو كانت دعواك صحيحة لجئت بأسمائهم ومصادر أقوالهم، وإذ لم تقم بذلك فاللوم عليك في انهيار ما هولت به.
2- أنَّ الأمور الدنيوية تشمل البيوع، والنكاح، والصداق، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والظهار، واللعان، والعدد، والرضاع، والنفقات، والحضانة، والجنايات، والديات، والحدود، والأطعمة، واللباس، والصيد، والأيمان وكفاراتها، والقضاء، والشهادات، والعارية، والغصب، والشفعة، والودائع، وإحياء الموات، والجعالة، واللقطة، والوقف، والهبة، والعطية، والزراعة إلى آخر القضايا الدنيوية. التي أبعَدْتَ عنها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يقبل فيها أمر ولا نهي على منطقك.(40/65)
أليس هذا هدماً لدواوين السنّة التي تضمنت ألوف الأحاديث في سائر شؤون الحياة؟ بل أليس هذا هدماً لكتب الفقه التي ألفها الأئمة من مختلف المذاهب والتي لا قيام ولا قيمة لها إلا بسنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبرأ الله الأئمة مما تقول، أهذه هي ثمار العقلانية والدعوة إلى نبذ التقليد؟.
الشبهة السابعة:
قال محمد صدقي:
"وقال جميع المحدثين: إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير، وفي بعض الأحوال مستحيل، راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة".
والجواب:
حاشا أهل الحديث أن يقولوا هذا الباطل؛ فإن واقعهم وتاريخهم يكذب هذه الدعوى العريضة التي لم يسمع بمثلها، فقد ميزوا الصحيح من غيره، وألفوا في السنة الصحاح والحسان، في كتب يعرفها العلماء وطلاب العلم بل العوام من أهل السنة وأهل البدع، ألا وهي الصحيحان والسنن الأربع، تلك الكتب المشهورة المتداولة في بلاد المسلمين شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، وما كان في السنن من خلل فقد بينه مؤلفوها أو غيرهم. ويلحق بها كتب المستخرجات على الصحيحين و"صحيح" ابن خزيمة و"صحيح" ابن حبان و"مستدرك" الحاكم(1) و"المختارة" للضياء المقدسي، وقد نزهت هذه الكتب من الموضوعات لأمور:
منها: قوة حفظ مؤلفيها وسعة اطلاعهم.
ومنها: ورعهم وشدة حذرهم من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: الملكات القوية التي منحهم الله إياها والتي يميزون بها بين ما يصح نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لا يصح، إلى ميزات أخرى منحهم الله إياها.
__________
(1) وما جاء في المستدرك من الموضوعات فهو قليل وقد بينه العلماء.(40/66)
وأما الموضوعات، فقد ألف أهل الحديث فيها كتباً كـ"الأباطيل" للحافظ أبي عبد الله الجورقاني، ضمنه أحاديث موضوعة ومنكرة وإن ذكر فيه بعض الصحاح، و"الموضوعات" لابن الجوزي، و"معرفة التذكرة في الأحاديث الموضوعة" لابن طاهر المقدسي، و"الموضوعات" للصاغاني، و"اللآلئ المصنوعة" للسيوطي، و"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" لابن عراق، و"الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكاني، و"تذكرة الموضوعات" للفتني الهندي، و"المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" للعلامة ملا علي القارئ، و"الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع والواهي" لمحمد بن محمد الحسيني الطرابلسي، و"الموضوعات في الإحياء" للسويدي، وغيرها من المؤلفات في الموضوعات.
والمتقدمون وإن لم يؤلفوا الكتب المفردة في الموضوعات، فإنهم يكثر بيانهم لها في كتب العلل وكتب الرجال، مثل: كتاب "الكامل" لابن عدي، وكتب التواريخ، والكتب في الضعفاء، ونصوا على وضع نسخ معروفة مثل كتاب "العقل" و"الأربعين الودعانية".
قال الشوكاني - رحمه الله -: "...وقد أكثر العلماء -رحمهم الله- من البيان للأحاديث الموضوعة وهتكوا أستار الكذابين، ونفوا عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتحال المبطلين وتحريف الغالين وافتراء المفترين وزور المزورين.
وهم -رحمهم الله- قسمان قسم: جعلوا مصنفاتهم مختصة بالرجال الكذابين والضعفاء، وما هو أعم من ذلك، وبينوا في تراجمهم ما رووه من موضوع، أو ضعيف، كمصنف ابن حبان (يعني المجروحين)، والعقيلي، والأزدي في الضعفاء، وأفراد الدارقطني، وتاريخ الخطيب، والحاكم، وكامل ابن عدي، وميزان الذهبي.(40/67)
وقسم: جعلوا مصنفاتهم مختصة بالأحاديث الموضوعة كـ"موضوعات" ابن الجوزي، والصغاني، والجورقاني، والقزويني، ومن ذلك "مختصر المجد" صاحب القاموس، و"مقاصد" السخاوي(1)، و"تمييز الطيب من الخبيث" لابن الدَّيْبع، و"الذيل على موضوعات ابن الجوزي" للسيوطي، وكذلك كتاب "الوجيز"له، و"اللآلئ المصنوعة" له، و"تخريج الإحياء" للعراقي، و"التذكرة"لابن طاهر الفتني.
وها أنا بمعونة الله وتيسيره أجمع في هذا الكتاب جميع ما تضمنته هذه المصنفات من الأحاديث الموضوعة " (2).
ولهم مؤلفات في العلل كـ"العلل" لابن المديني، و"العلل" لأحمد، و"العلل" لابن أبي حاتم، و"العلل" للدارقطني، ومؤلفات -كالتخريجات لكتب الفقه وكتب التفسير للعراقي وابن حجر وابن كثير والزيلعي والعلامة الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة"، وغيرهم- تميز الصحيح من الضعيف ومن الموضوع.
فهل ترى أن فحول أهل الحديث قد ميزوا الصحيح من غيره من الموضوع والضعيف والمعل بأنواعه، أم تراه عسر عليهم كما عسر على الجهال المتطفلين على الإسلام، وأهله وعلومه؟!.
الشبهة الثامنة:
قال محمد صدقي:
"وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس: إن الصحيح منها قليل جداً، حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثاً".
والجواب: أين قال هذا أبو حنيفة وأضرابه؟ وهل عندك أسانيد متواترة إلى هؤلاء؟ وهل استقرأت كتب الأحناف كلها فلم تجدها قائمة في كل أبواب الفقه إلا على بضعة عشر حديثاً؟!.
إن أبا حنيفة كان يحث أتباعه على اتباع السنة.
فمن أقواله -رحمه الله-: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
ومنها: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا مالم يعلم من أين أخذناه".
__________
(1) يعني (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة)وهو شامل للموضوعات وغيرها.
(2) الفوائد المجموعة (ص:3- 4 ).(40/68)
وفي رواية " حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي"(1).
ومنها: " إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاتركوا قولي(2)".
وهل عرف هذا الرجل مؤلفات الأحناف في السنة؟. مثل "موطأ" محمد ابن الحسن، و"شرح معاني الآثار" في أربعة أجزاء، و"مشكل الآثار" في ستة عشر مجلداً كلاهما للطحاوي، و"نصب الراية" للزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" في أربعة أجزاء، فهؤلاء هم أضراب أبي حنيفة وهذه مواقفهم من السنة. نعم لهم عثرات وليسوا كأهل الحديث وفقهائهم، ولكن أصلهم الكتاب والسنة، ويحترمونهما ويعظمونهما ويدافعون عنهما إلى يومنا هذا، وقد تصدوا لأمثالك من القرآنيين وغيرهم، فهم منك ومن أمثالك برآء وأنتم بريئون منهم ومن كل من يحترم السنة والقرآن.
الشبهة التاسعة:
قال محمد صدقي:
"قال مالك - - رضي الله عنه --: إن عمل أهل المدينة مقدم عليها، وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي عليها".
والجواب:
أن الإمام مالكاً إمام أهل السنة عقيدة ومنهجاً ومن أشد الناس تمسكاً بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضاً للمسلمين على الأخذ بها، فمن أقواله رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه(3) ".
ومنها: "ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي- صلى الله عليه وسلم -(4)".
وكانت تشد إليه الرحال من أنحاء العالم الإسلامي من الأندلس إلى خراسان لأخذ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه.
__________
(1) راجع صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص: 23-24) وقد أشار إلى مصادره.
(2) "إيقاظ الهمم" للفلاني (ص:62).
(3) جامع بيان العلم (2/39)، ابن حزم في إحكام الأحكام (6/860 ).
(4) انظر "المؤمل" لأبي شامة فقرة (158و160).(40/69)
وكان من أشد الناس تحرياً في أخذ السنة والأخذ عن الرجال، ومن أشد أئمة السنة في نقد الرجال، حتى إنه لا يحدث عن رجال عرفوا بالصدق والصلاح.
وتقديمه لعمل أهل المدينة ليس فيه رد للسنة ولا الطعن في أخبار الآحاد، وإنما هو من باب ترجيح سنة على سنة؛ لأن أهل المدينة في نظره أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشد تمسكاً بها؛ لأنها دار الهجرة ودار الخلافة الراشدة، وأهلها هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان، فليس الأخذ بعملهم من باب تقديم الرأي على السنة حاشا وكلا، وإنما هو تقديم لعمل يراه قام على الكتاب والسنة، والترجيح عند تعارض النصوص في الظاهر أصل من أصول أهل السنة ومع هذا فقد خالف مالكاً علماء مثل الليث والشافعي وأحمد وأتباعهم وأبي حنيفة وأتباعه، وقد يقدم العالم -مالك وغيره- سنة على سنة ترجحت له، وقد يقع في مخالفة سنة أو نص من القرآن لعذر يعذره الله به.
ولا يجوز لمسلم أن يتهم أحداً من هؤلاء الأئمة الذين عرفوا بالتقوى والعلم وتعظيم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحث على التمسك بهما بأنهم يردون السنة لهوى من الأهواء.
الشبهة العاشرة:
قال محمد صدقي:
"أجمع جمهور المسلمين على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها".
الجواب:
من أين لك هذا الإجماع؟، ومن هؤلاء الجمهور؟.
أهم الخوارج والروافض والمعتزلة؟!.
يقول أخوك في عداوة السنة وأهلها أبو رية: "إن شيوخ الدين يعتقدون أن الأحاديث كآيات القرآن في وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أو يرتد أو يفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أو شك فيها".(40/70)
وهذا الذي نسبه أبو رية إلى شيوخ الدين حق -وإن كان قد قاله على سبيل الإنكار أو السخرية - وسنة رسول الله حَرِيّة بذلك فالله يقول في بيان منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته: ? xxsù وَرَبِّكَ xw يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ xw يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا |Mّٹxزs% وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ادخب? [النساء:65].
ويقول تعالى: ? تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ادجب? [النور: 63]. فكيف بمن ينكر سنته ويحاربها؟.
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي -رحمه الله- تعليقاً على قول أبي رية:
"أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتاً تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به.
وأما الثابت فقد قامت الحجج القطعية على وجوب قبوله والعمل به، وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مراراً، فمنكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً تقام عليه الحجة، فإن أصر بَانَ كفره، ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور وإلا فهو عاص لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق، وقد يتفق ما يجعله في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً وقد مرَّ" (1).
ويروى عن الإمام إسحاق بن راهويه أن من رد حديثاً فهو كافر.
وقال الشيخ صالح اليافعي في مناقشة هذه الفقرة: " قلت: إن من أنكر ذلك لأنه لم يصح لديه، فالأمر كذلك ونحن نقول بذلك، وأما من رد ما عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله بلا مسوغ فهو كافر برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -"(2).
الشبهة الحادية عشرة:
قال محمد صدقي:
__________
(1) الأنوار الكاشفة (ص:81-82 ).
(2) المنار، المجلد 12/526.(40/71)
"إن تناقضها كثير، ومعرفة ناسخها من منسوخها عسير أو مستحيل، وكذلك أكثر أسباب قولها".
والجواب:
أنه ليس في القرآن والسنة تناقض بحمد الله؛ لأنهما من عند الله قال تعالى:? xxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا #ZژچدWx2 ارثب? [النساء: 82].
وقد يتبادر إلى أذهان بعض الملاحدة أو الجهلة من أهل الزيغ أن بين نصوص القرآن والسنة تعارضاً، وليس الأمر كذلك، ولدفع ما يوهم التعارض عن النصوص النبوية ألف عدد من كبار الأئمة في هذا الباب؛ فَأَلَّف الإمامُ الشافعي كتاب "مختلف الحديث"، وألَّف ابن قتيبة "تأويل مختلف الحديث"، وألف الطحاوي كتاب "مشكل الآثار"، وألَّف ابن قتيبة "مشكل القرآن"، وألَّف العلامة الشنقيطي "دفع إيهام الاضطراب".
والواقع كما ذكرنا أنه ليس في نصوص القرآن أو نصوص السنة تعارض، والأئمة يعلمون هذا ويوقنون به، ولهذا أزالوا ما قد يتوهم الجاهلون من التعارض في تلك المؤلفات التي ذكرناها وغيرها.
قال الإمام ابن خزيمة: "لا أعرف أنه روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان بإسنادين صحيحين متضادان، فمن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما"(1).
الشبهة الثانية عشرة:
قوله: " قام الدليل الحسي على أن الله لم يتكفل بحفظها من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان ".
والجواب: أن هذه دعوى عريضة باطلة.
فلقد حفظ الله هذه السنة العظيمة التي هي البيان القولي والعملي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى للقرآن الكريم، وهي داخلة في ضمان الله لحفظ الذكر في قوله تعالى:? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ازب? [الحجر:9].
__________
(1) انظر : "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي (ص473).(40/72)
ومن حرف شيئاً أو زاد أو نقص منها شيئاً: فإن كان متعمداً فضحه الله، وإن كان مخطئاً وفق الله حماة هذه السنة والذابين عنها لبيان خطئه تحريفاً كان أو زيادة أو نقصاً.
حتى قال الإمام ابن حبان في كلام له حول حفظ السنة:"...حتى لا يتهيأ أن يزاد في سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف ولا واو، كما لا يتهيأ زيادة مثله في القرآن، لحفظ هذه الطائفة السنن على المسلمين وكثرة عنايتهم بأمر الدين، ولولاهم لقال من شاء ما شاء."(1).
وقد ألفت كتب في المدرج، وكتب في العلل لبيان كل أنواع العلل من الزيادة والحذف والقلب في المتون وأسماء الرواة، وألفت كتب في بيان المصحَّف والمحرف كما ألفت كتب في الموضوعات والعلل والأحاديث الضعيفة، وما ذلك إلا تحقيق لوعد الله وضمانه لحفظ الذكر - أي الوحي- الذي يشمل القرآن وبيانه.
فهذه الأعمال العظيمة أدلة حسية وبراهين عملية على رعاية الله وحفظه لهذا الدين، دين الإسلام الذي ختم الله به الرسالات، هذا الدين العظيم الذي بعث الله به محمداً إلى الناس أجمعين ورحمةً للعالمين.
أترى أيها المسكين أن الله لا يحمي حياض دينه؟
إن مؤدى كلامك: أن الله ترك دينه لعبث العابثين تعالى الله عما يقوله ويعتقده الظالمون علواً كبيراً.
الشبهة الثالثة عشرة:
قال محمد صدقي:
"لم يجمعها الصحابة ولم يتفقوا عليها".
الجواب: أن الأمر ليس كما تدَّعي؛ فلقد حفظوها وجمعوها في صدورهم، وطبقوها في حياتهم، وكتبوا الكثير منها في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعد موته بحيث نقطع بأنه لم يضع منها شيء.
__________
(1) كتاب المجروحين (1/25).(40/73)
وإذا كان العرب قد حفظوا في جاهليتهم تاريخهم، ودواوين شعرهم وأنسابهم ولغتهم، فكيف يضيعون سنة نبيهم، وهم يعلمون قيمة أي كلمة يقولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعلمون مكانة سنته - صلى الله عليه وسلم - وأنها مع القرآن جنباً إلى جنب مصدر سعادتهم في الآخرة، ومصدر عزتهم وكرامتهم وسيادتهم في هذه الحياة. كيف يحفظون أخبار الجاهلية ودواوين شعرهم ومنه القصائد الطوال ومنها الفخر الجاهلي أو الهجاء أو الغزل والهزل ويضيعون سنة نبيهم وهي مصدر سعادتهم وعزتهم، وعليها يقوم دينهم وحياتهم؟! كيف يهملون ويضيعون ما لا تقوم أركان دينهم من صلاة وزكاة وصيام وحج إلا به؟!.
كيف يضيعون ما تقوم عليه عقائدهم وأخلاقهم وجهادهم وتجارتهم وسائر شؤون حياتهم؟.
وإذا كان الضالون المنحرفون ينظرون إلى السنة، وإلى الصحابة الكرام الأمناء الذين ائتمنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سنته وأمرهم بتبليغها وأشهد الله عليهم في حجة الوداع بهذا التبليغ، واعترفوا له به، إذا كان الضائعون المضيعون الذين ضاقت صدورهم بهذه السنة العظيمة ينظرون إليهم بالمنظار الأسود قياساً على أنفسهم، فإن المؤمنين الصادقين الواثقين بأمانة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتقدون اعتقاداً جازماً أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حفظوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن شاهدهم كان يؤديها إلى غائبهم كما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بهذا الأداء بقوله: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب".(40/74)
وكان يأمر من تلقى منه شيئاً أن يبلغه من وراءه من عشيرته وغيرها، كما يعتقد المؤمنون في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم أشد الناس ذكاء وأغزرهم علماً وأقواهم حفظاً وأرسخهم في الأمانة والصدق وأنهم أشد الناس حرصاً على حفظ دينهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، بل هم أشد حرصاً وحفاظاً عليها من حرصهم على حياتهم وحياة أبنائهم، وأشد الناس غيرة عليها حتى إنهم ليهجرون أقرباءهم وأبناءهم إن هم تهاونوا في تطبيقها والتزامها.
وأما قولك:"ولم يتفقوا عليها"، فلا ندري ماذا تعني بعدم الاتفاق بينهم؟، هل كانت بينهم معارك في حفظها وتطبيقها ومعارضات كمعارضات الأحزاب الجاهلية، هذا يبني وهذا يهدم، هذا يبلغ وهذا ينقض ما بلغ ذاك ويكذبه؟!.
ألا تذكر قول الله -تعالى- ممتناً عليهم بما أسبغ عليهم من نعمة الأخوة والمحبة والتآلف:? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا xwur تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ اتةجب? [آل عمران: 103].
هؤلاء الذين أكلتهم العداوة والفرقة في جاهليتهم، فلم تمنعهم هذه الحال من حفظ تاريخهم وأنسابهم وأشعارهم، أيهملون دينهم الذي لم تعرف الإنسانية مثله بعد اجتماعهم وتآخيهم وتآلف قلوبهم، وبعد أن أظهر الله دينهم ودخلت أمم وشعوب في هذا الدين العظيم؟.
وحياتهم وحياة هذه الأمم قائمة على الحفاظ على كل جزئية من جزئيات الرسالة وتبليغ كل شيء ائتمنهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(40/75)
اللهم إننا نشهد أنهم قد بلغوا عن نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - كل ما سمعوه منه وما رأوه حتى ما يتعلق بالنوم والأكل والشرب وحتى تقليم الأظافر وقص الشوارب، وحتى ما يتعلق بالخراءة والبول والمخاط والعطاس.
فكيف يفرطون أو يختلفون في مهمات الأمور دينيةً ودنيويةً.
فليمت غيظاً وكمداً كل مبغض وشانئ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته وأصحابه رضوان الله عليهم.
الشبهة الرابعة عشرة:
قوله: "لم يبلغوها للأمم بالتواتر مع علمهم بأن اتباع الظن غير جائز في الإسلام إلا لضرورة".
والجواب:
أنهم بلغوها على أحسن وجوه البلاغ، والمبلغ الواحد منهم أحفظ وأصدق وأوثق عند الناس من عشرات ومئات من الجهمية والمعتزلة والخوارج وتلاميذ المستشرقين الذين يشترطون التواتر في التبليغ وقيام الحجة، وما جاؤوا بهذه الشروط إلا لهدم الإسلام لا حفاظاً عليه.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله له ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ xw يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ادذب?[المائدة:67]،كان يكتفي بإرسال الأفراد من أصحابه الأمناء دعاة ومبلغين عنه القرآن والسنة، وكان الناس عربهم وعجمهم يقبلون ويصدقون بكل ما جاءهم به هؤلاء الأفراد لا يشكون في شيء مما بلغهم به كل واحد بمفرده، والناس على اختلاف شعوبهم ومللهم لهم عقول وفطر ومدارك ومع ذلك لم يكذبوا هؤلاء الأفراد ولا شكوا في صدقهم وأحقية ما بلغوهم، لأنه لم يكن قد نشأ فيهم الفكر الجهمي والمعتزلي والاستشراقي(1).
__________
(1) ونحن لا ننفي أنهم قد بلغوا الكثير عن طريق التواتر.(40/76)
ولم يكن الواحد من المبلغين يعتقد أنه يبلغ الناس الظنون وإنما يعتقد أنه يبلغ العلم الحق الذي تقوم به الحجة على المبلَّغين، وهذا الاعتقاد نفسه متوافر عند المبلَّغين من التابعين -أي لا يعتبرون ما يبلغهم ظنوناً- ويبلغه الثقات والمأمونون إلى غيرهم على أساس أن ما يبلغونه حجة توجب العلم والعمل.
ولما ظهر هذا المذهب المخترع المبتدع حاربه أهل العلم وقمعوه بالحجج والبراهين؛ لأنه مذهب فاسد يفسد العقول ويفسد على الناس حياتهم ودينهم ويقتضي تعطيل تجاراتهم وسائر معاملاتهم ومناكحهم ومطاعمهم ومشاربهم ويبث الشكوك فيما يقوله المعلمون وطلابهم والأزواج وزوجاتهم والأبناء وآباؤهم والمرضى وأطباؤهم.
لماذا تُشَنُّ الحرب على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدها من بين سائر العلوم والفنون والأديان الفاسدة؟. مع أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حظيت من الحياطة والحفاظ عليها والعناية الفائقة والشروط القوية بما لم يحظ بعشر معشاره أي علم أو فن من الفنون. ولقيت من المعاقل والحصون المنيعة ما يحميها من كل كيد ومكر أو شوب كذب أو خطأ ونسيان من ألوف ألوف الرجال الحفاظ الثقات الأمناء بعد رعاية الله وحفظه لها.
فهل يا ترى ضحايا البدع والخرافات من الجهمية والمعتزلة والخوارج وأفراخ المستشرقين أشد غيرة على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فرسانها وحاملي لوائها وجنودها المخلصين؟ أو هو الجهل والهوى بل والكيد لسنة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -؟.
الشبهة الخامسة عشرة:
قال محمد صدقي:
"إنهم نهوا عن كتابتها وأمروا بإحراق ما كتبوه منها كما في الروايات التي صحت (1) عندكم".
مفاد الشبهة:
1- أن كلامه يفيد أن الصحابة كلهم قد نهوا عن كتابة السنة وأمروا بإحراق ما كتبوه منها.
__________
(1) هذه مجازفة كبيرة فأكثر الروايات في هذا الصدد لم تثبت، وما ثبت لا حجة فيه لأهل الأهواء.(40/77)
2- وأن الروايات في هذا الباب كلها صحيحة، كأن الصحابة كلهم قد اتفقوا على حرب السنة النبوية.
3- أنه قد وردت بعض الآثار في النهي عن الكتابة.
والجواب عنها:
أن جُلَّها لا يثبت، وما ثبت منها لا يقول أصحابها: إن الله قد حرم كتابة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقولون:إن رسول الله قد حرم ذلك أو نهى عنه.
وأنا أسوق باختصار تلك الآثار التي نُسبت إلى الصحابة رضوان الله عليهم:
1- ما نسب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من إحراقه الحديث.
قال الحافظ الذهبي- رحمه الله-:
"وقد نقل الحاكم فقال: حدثني بكر بن محمد الصيرفي بمرو، أنا محمد بن موسى البربري، أنا المفضل بن غسان، أنا علي بن صالح، أنا موسى بن
عبد الله بن حسن بن حسن، عن إبراهيم بن عمر بن عبيد الله التيمي حدثني القاسم بن محمد قالت عائشة:
"جمع أبي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيراً، قالت: فغمني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها، فدعا بنار فحرقها، فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذاك".(1)
ثم تعقب الحافظ الذهبي هذه الرواية المنكرة قائلاً: "هذا لا يصح"،
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "هذا غريب من هذا الوجه وعلي بن صالح لا يعرف"(2).
والأمر كما قالا وأشد لأمور:
1- كيف يكتب أبو بكر الصديق هذا المقدار من الحديث، وهو يعلم أن رسول الله قد نهى عن كتابة الحديث؟، وكيف لم تنبهه عائشة -رضي الله عنها-؟، حاشاهما من مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) تذكرة الحفاظ (1/5).…
(2) انظر: كنز العمال(10/286) وانظر الأنوار الكاشفة للمعلمي (ص:37) فإنه قد طعن في هذه الرواية ووجهها على فرض صحتها.(40/78)
2- أين أبو بكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يروي عنه إلا بوسائط؟، وإذا كان بعض الأحاديث رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعضها بوسائط؛ أفما كان في استطاعته أن يميز بينهما، فيُبقي ما سمعه من رسول الله مباشرة، ويحرق ما كان عن هؤلاء الوسائط التي يشك في أمانتها وثقتها ثم يروي ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أداء للأمانة؟.
3- والحقيقة أن هؤلاء الشاغبين على سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - لا يرضيهم نقل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواية ولا كتابة، ولهذا تراهم يتعلقون بأوهى من بيوت العنكبوت من الروايات وبسلوك المسالك الوعرة في الاستدلالات لنسف ما هو أرسخ من الجبال الراسيات.
وأخيراً لو سَلَّمنا جدلاً بصحة هذه الرواية لما كان إلا حجة على هؤلاء الثائرين على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ إن أبا بكر لم يقل إني كتبت هذه الأحاديث بعد أن نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة حديثه، وإنما علّل الإحراق بعدم ثقته بمن روى عنهم، وهذا إنما يدل على تَحَرِّيه وتثبُّته في رواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أصل أصيل عند الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وأهل الحديث والأئمة العظام.
4- هذه الرواية في إسنادها من لم أقف له على ترجمة بعد بحث في عدد من المصادر، ولم تذكرهم المصادر التي وقفت عليها في تراجم شيوخهم ولا تلاميذهم، فكل من المفضل بن غسان، وعلي بن صالح، وإبراهيم بن عمر ابن عبيد الله، لم أقف لأحد منهم على ترجمة.
5- في إسنادها محمد بن موسى البربري إخباري، قال فيه الذهبي: "قال الدارقطني: ليس بالقوي"، وأقره الذهبي والحافظ ابن حجر(1).
__________
(1) انظر: الميزان (4/51)، ولسان الميزان (5/400).(40/79)
6- وفي الإسناد موسى بن عبدالله بن الحسن وثقة ابن معين، وقال البخاري: "فيه نظر" (1). وقد ثبت عن أبي بكر الصديق كتابة الصدقات وهي من السنة وسيأتي ذكر ذلك.
2- ما نسب إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-.
روى ابن عبد البر بإسناده إلى يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: " من كان عنده شيء فليمحه"(2).
وإسناده ضعيف؛ يحيى بن جعدة لم يدرك عمر.
وعنه أثر آخر من طريق عروة بن الزبير، وإسناده منقطع؛ لأن عروة أيضاً لم يدرك عمر - رضي الله عنه -، وفي الأثر طول وفيه أنه استفتى الصحابة في كتابة السنة فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء" (3).
وهو إن صح يدل على أن الصحابة كانوا يرون جواز كتابة السنة، ففيه ردٌّ لقول محمد صدقي إن الصحابة نهوا عن كتابة السنة، وأمروا بإحراق ما كتبوا. وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه كتابه في الصدقات وغيرها وسيأتي ذكر ذلك.
3- ما نسب إلى علي - رضي الله عنه-.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى جابر الجعفي عن عبد الله بن يسار قال سمعت علياً يخطب يقول: "أعزم على كل من كان عنده كتاب إلا محاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم " (4).
__________
(1) انظر: الميزان (4/ 211)، واللسان (123)، والضعفاء للعقيلي (4/195).
(2) جامع بيان العلم (1/77)، وهو في تقييد العلم (ص 53).
(3) جامع بيان العلم (1/77)، وتقييد العلم (ص:51).
(4) في المصنف(9/52)والخطيب في تقييد العلم(ص:37)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم(1/271-272).(40/80)
وإسناده ضعيف؛ فيه جابر الجعفي ضعيف رافضي يقول بالرجعة، ثم إن علياً لم يقل إن الله نهى عن ذلك أو نهى عنه رسوله، ثم ليس فيه نهي عن كتابة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما علل ذلك بتتبع الناس لكلام علمائهم.
وكيف ينهى عن كتابة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قد كتب منها واحتفظ بما كتبه ولم يمحه ولم يحرقه.
4- ما نسب إلى أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
وروى بإسناده إلى أبي نضرة: قلنا لأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "لو أكتبتنا الحديث فقال: "لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -".
وبإسناد آخر عن أبي نضرة قلت لأبي سعيد: ألا نكتب ما نسمع منك قال:" أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟! إنّ نبيكم كان يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنا نحفظ".
وهذان الأثران ثابتان عنه وله أثر ثالث ضعيف بلفظ: "أردتم أن تجعلوه قرآنا"(1).
فنرى أبا سعيد - رضي الله عنه - لا يحتج بحديثه الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن كتابة الحديث، وإنما يبدي وجهة نظره حثاً منه على الحفظ في الصدور كما هي عادة كثير من الصحابة.
5- ما نسب إلى زيد بن ثابت -رضي الله عنه-.
روى أبو داود بإسناده إلى المطلب بن عبد الله بن حنطب(2) قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث فأمر إنساناً أن يكتبه فقال له زيد: "إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا ألا نكتب شيئاً من حديثه" فمحاه.
وإسناد هذه الرواية ضعيف، قال أبو حاتم في المراسيل: "رواية المطلب عن زيد بن ثابت مرسلة".
وقال الحافظ ابن حجر فيه: " ثقة كثير الإرسال والتدليس".
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن الشعبي أن مروان دعا زيد بن ثابت وقوماً يكتبون، وهو لا يدري، فأعلموه، فقال:
__________
(1) تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص: 37 ).
(2) السنن برقم (3647 )، والخطيب في تقييد العلم (ص: 35).(40/81)
"أتدرون لعل كل شيء حَدَّثتكم به ليس كما حدثتكم"(1).
أقول:
أ- الظاهر أن الشعبي لم يدرك زيد بن ثابت فقد قال ابن أبي حاتم لأبيه: "هل أدرك الشعبي أسامة -يعني أسامة بن زيد- قال:" لا يمكن أن يكون الشعبي سمع من أسامة هذا -يعني حديثين سبق ذكرهما- وأسامة توفي سنة أربع وخمسين وزيد بن ثابت توفي قبله سنة خمس وأربعين. وقيل: ثمان. وقيل: إحدى وخمسين"(2).
ب- على فرض صحة هذا الأثر فإنه لم يقل فيه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة. وإنما خشي أن يكون قد وهم فيما حدثهم به، ونفهم منه أنه لو كان متأكداً من ضبطه لأقرهم على الكتابة، وقد روى زيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً كثيراً يبلغ اثنين وتسعين حديثاً(3).
وكان يكتب مراسلاته - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك(4)، فيبعد منه أن يكون ممن يرى عدم كتابة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
6-10- وقد نسب مثل ذلك إلى أبي موسى الأشعري(5)،
وعبدالله بن مسعود(6)، وعبدالله بن عباس(7)، وعبدالله بن عمر(8)،
وأبي هريرة(9) - رضي الله عنهم -.
والناظر في هذه الآثار يتضح له ما يأتي:
__________
(1) المصنف (9/53) وجامع بيان العلم (1/78).
(2) انظر الخلاصة للخزرجي (ترجمة زيد ).
(3) انظر الخلاصة للخزرجي (ترجمة زيد ).
(4) انظر الرياض المستطابة، ترجمة زيد رضي الله عنه.
(5) المصنف (9/53)، وإسناده ضعيف.
(6) المصنف (9/53-54)، وجامع بيان العلم (ص: 78)، وتقييد العلم (53)، وفي إسناده الأعمش وهو مدلس وقد عنعن ويمكن حمله على من يكتب الإسرائيليات.
(7) تقييد العلم (ص: 43)، وجامع بيان العلم (1/78)، وفي إسناده ابن ديج، وهو مدلس وقد عنعن.
(8) المصنف (9/54)، وجامع بيان العلم (1/89)، وتقييد العلم (ص: 43-44)، وإسناده صحيح، لكنه توقع من سعيد بن جبير.
(9) الدارمي في سننه (1/101)، وجامع بيان العلم (1/79)، وتقييد العلم (ص: 42).(40/82)
1- أن هؤلاء الصحابة الذين نقلنا أقوالهم ومواقفهم لم يقل أحد منهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة حديثه أو حرمها.
2- أن هذه الآثار غالبها لا يثبت، وما يثبت منها فليس فيه حجة لهؤلاء المشوشين على المسلمين الذين يريدون أن يهدموا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يريدون التهوين من شأنها.
3- أن بعضهم يحتمل أن يكون إنكارهم إنما هو على من يكتب الإسرائيليات لا على من يكتب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
4- وبعضهم يريد حمل الناس على حفظ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
5- يدرك القارئ مدى جرأة هذا الرجل على هذا القول الفظيع عن الصحابة: "إنهم لم يكتبوها وأمروا بإحراق ما كتبوه منها كما في الروايات التي صحت عنهم".
فأين هي الروايات التي صحت عنهم جميعاً كما يوهم كلامه؟.
ثم يزداد القارئ عجباً من رجل لا يقبل من حديث رسول الله إلا المتواتر العملي ويرد المتواتر القولي ويرد أخبار الآحاد ولو كانت في الصحيحين، وتلقَّتها الأمة بالقبول، ثم يحتج بآثار رويت في غير مصادر السنة وأهلها لم يلتزموا في مصادرهم الصحة ولا الأحاديث المسندة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذه الآثار ما لا يثبت، وما ثبت منها ليس فيه دلالة على ما يدعيه.
مشروعية كتابة السنة وثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين فضلاً عمن بعدهم
1- كتابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
قال الإمام البخاري رحمه الله: "باب كتابة العلم"، ثم أورد أربعة أحاديث:
1- بإسناده إلى أبي جحيفة قال:" قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال:لا إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة قال: قلت: وما في هذه الصحيفة، قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر"(1).
__________
(1) البخاري حديث (111 ).(40/83)
2- وروى بإسناده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فركب راحلته فخطب فقال:"إن الله حبس عن مكة الفيل" وذكر في خطبته أشياء، قال أبو هريرة بعدها: فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله. فقال: "اكتبوا لأبي فلان" (1)، ورواه مسلم. والشاهد أمر رسول الله بكتابة هذه الخطبة التي حوت أشياء عظيمة.
3- وروى بإسناده إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال:" ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"(2).
4- وروى بإسناده إلى ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه قال: "ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده"، قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: "قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع", فخرج ابن عباس يقول:"إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كتابه" (3).
__________
(1) البخاري حديث (112 ) ومسلم في الحج حديث 1355.
(2) البخاري حديث (113 ).
(3) البخاري حديث (114 ) وأخرجه مسلم في الوصية حديث (1637 ).(40/84)
5- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عبدالله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق"(1).
ورواه الحاكم في المستدرك(2)بإسناده إلى الليث بن سعد حدثني خالد بن يزيد عن عبد الواحد بن قيس عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً بنحوه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وفي إسناده عبد الواحد بن قيس، وثَّقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة الدمشقي، وهو أعلم بحاله لأنه بَلَدِيُّه، وضعفه يحيى القطان وغيره.
وعلى كل فهو على أقل أحواله صالح للاعتبار.
قال الحاكم عقب رواية حديث عبد الواحد: "وهذا حديث صحيح الإسناد أصل في نسخ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
ثم قال: "وله شاهد قد اتفقا على إخراجه على سبيل الاختصار عن همام ابن منبه عن أبي هريرة أنه قال: ليس أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثاً مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب".
وعن عمرو بن دينار عن وهب بن منبه عن أخيه همام عن أبي هريرة بنحوه.
__________
(1) المسند حديث (6510 ) وأبو داود في العلم حديث (3646 ) وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين غير الوليد بن عبيدالله وهو ابن أبي مغيث العبدري فمن رجال أبي داود. قال الحافظ في التقريب:" ثقة"، وفي إسناده عبدالله بن الأخنس وثقه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي وقال ابن حبان يخطئ كثيراً قال الحافظ في الفتح (10/199 ):" وشذَّ ابن حبان فقال في الثقات : " يخطئ كثيراً ".
(2) 1/104 - 105 ).(40/85)
أما حديث عبد الواحد بن قيس وحديثه عن عبد الله بن عمرو فقد وجدت له شاهداً من حديث عمرو بن شعيب ونقل بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال: إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر.
ثم ساق له شاهداً من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل بن خالد عن عمرو بن شعيب أن شعيباً حدثه ومجاهداً أن عبد الله بن عمرو حدثهم أنه قال: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك؟ قال:"نعم"، قلت: عند الغضب وعند الرضا قال: "نعم إنه لا ينبغي أن أقول إلا حقاً"، ثم ساقه بإسناده إلى عبيد الله بن الأخنس عن الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو به "(1).
وبالجملة فالحديث صحيح وقد صححه من سبق ذكرهم.
6- حديث: "قيدوا العلم بالكتاب".
رواه عدد من الأئمة من طرق عن أنس وابن عباس وعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهم-، وقد أورده العلامة الألباني من طرق عن الصحابة المذكورين وحسنه عن أنس وصححه بمجموع طرقه إلى الصحابة المذكورين(2).
7- قال الإمام أحمد رحمه الله:
ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا يحيى بن أيوب حدثني أبو قبيل قال: "كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً، القسنطينية أو رومية؟، فدعا عبدالله بصندوق له حلق. قال: فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكتب إذ سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي المدينتين تفتح أولاً القسنطينية أو رومية؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مدينة هرقل تفتح أولاً"(3).
وأخرجه الإمام الدارمي في سننه(4)، والحاكم في المستدرك(5).
__________
(1) المستدرك (1/ 105 ).
(2) انظر الصحيحة حديث (2026 ).
(3) المسند (2/176).
(4) الدارمي (ص 104 ).
(5) المستدرك (4/422، 508 ).(40/86)
وأورده الألباني في الصحيحة، ونقل عن عبد الغني تحسين إسناده، وتصحيح الحاكم والذهبي له، وقال: "وهو كما قالا"(1).
8- قال الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس: أن رسول الله كتب إلى أهل جرش ينهاهم أن يخلطوا الزبيب والتمر" (2).
روى الإمام ابن حبان بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها، وذكر فيه زكاة الحبوب والثمار، وزكاة الإبل والغنم والذهب والفضة وتحريم الصدقة على آل محمد وذكر أكبر الكبائر مثل الإشراك بالله وقتل النفس بغير حق وذكر أموراً أخرى"(3).
ورواه الحاكم وقال:" هذا حديث كبير مفسر في هذا الباب يشهد له أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز وإمام العلماء في عصره محمد بن مسلم الزهري بالصحة"(4).
وأخرجه النسائي في سننه(5) بإسناده إلى الحكم بن موسى قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود قال حدثني الزهري به، ثم قال: خالفه محمد بن بكار بن بلال أخبرنا الهيثم بن مروان بن الهيثم بن عمران العنسي قال: حدثنا محمد بن بكار بن بلال قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا سليمان بن أرقم، قال حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله كتب إلى أهل اليمن. ثم قال: وهذا أشبه بالصواب والله أعلم.
وسليمان بن أرقم متروك الحديث، ثم قال: وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلاً.
والظاهر أن النسائي يرجح إرسال هذا الحديث، لكنه قد صححه عدد من الأئمة.
قال الزيلعي في "نصب الراية": "قال الحاكم: إسناده صحيح وهو من قواعد الإسلام -يعني أنه صحيح من طريق سليمان بن داود-"(6).
__________
(1) الصحيحة حديث رقم (4)
(2) المسند (1/224 ) وإسناده صحيح.
(3) الإحسان (14/501).
(4) 1/395-397).
(5) 8/57-58 )
(6) 2/341-342).(40/87)
وقال ابن الجوزي -رحمه الله- في "التحقيق": "قال أحمد بن حنبل
-رضي الله عنه-: "كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح.."(1).
وقال بعض الحفاظ من المتأخرين: "ونسخة كتاب عمرو بن حزم تلقاها الأئمة الأربعة بالقبول، وهي متوارثة كنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده". ثم رجح الزيلعي رواية سليمان بن أرقم المتروك قال:" لكن قال الشافعي-رضي الله عنه- في الرسالة: "لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -".
وقال أحمد رضي الله عنه:" أرجو أن يكون هذا الحديث صحيحاً".
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي:" لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم".
ورواه البيهقي في سننه بسند ابن حبان ثم قال:" وقد أثنى جماعة من الحفاظ على سليمان بن داود الخولاني منهم أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وعثمان بن سعيد الدارمي وابن عدي الحافظ، قال:" وحديثه هذا يوافق رواية من رواه مرسلاً ويوافق رواية من رواه من جهة أنس بن مالك وغيره موصولاً".
وقد روى بعض هذا الحديث الإمام مالك في ((الموطأ)) (2) في كتاب العقول عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه هكذا مرسلاً.
فقال ابن عبد البر في التمهيد(3):
"لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث بهذا الإسناد، وقد روي مسنداً من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة وقد روى معمر هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وذكر ما ذكره مالك سواء في الديات"، وزاد في إسناده عن جده.
__________
(1) انظر "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/1361).
(2) 2/ 849 ).
(3) 17/338-339 ).(40/88)
وروي هذا الحديث أيضاً عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم عن أبيه عن جده بكماله، وكتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه فمتفق عليه إلا قليلاً. وبالله التوفيق.
ومما يدلك على شهرة كتاب عمرو بن حزم وصحته ما ذكره ابن وهب عن مالك والليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: وجد كتاب عند آل حزم يذكرون أنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه:".. وفيما هنالك من الأصابع عشر عشر فصار القضاء في الأصابع إلى عشر عشر..".
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله- بعد نقل كلام من ضعف الحديث بسليمان بن أرقم: " وصححه الحاكم وابن حبان كما تقدم والبيهقي ونقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: أرجو أن يكون صحيحاً".
وذكر تزكيات لسليمان بن داود الخولاني ثم قال: وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة؛ فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عبد البر:" هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم..."، إلى آخر كلام ابن عبد البر.
قال: "وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ إلا أننا نرى أنه كتاب غير مسموع عمن فوق الزهري"(1).
1-ومما يؤكد شهرته وصحته ما رواه أبو عبيد في" الأموال"(2): بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن الأنصاري قال:" لما استخلف عمر بن عبدالعزيز أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات وكتاب عمر بن الخطاب فوجد عند آل عمرو بن حزم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن حزم في الصدقات، ووجد عند آل عمر كتاب عمر في الصدقات مثل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فنسخا له.
__________
(1) التلخيص الحبير (4/18 ).
(2) الأموال (ص: 497-498).(40/89)
قال: فحدثني عمرو بن هرم أنه طلب إلى محمد بن عبد الرحمن أن ينسخه ما في ذينك الكتابين فنسخ له ما في هذا الكتاب من صدقة الإبل والبقر والغنم والذهب والورق والتمر أو الثمر والحب والزبيب"(1)، ثم ذكر باقي الحديث.
إذن فالكتاب كان مشهوراً لدى التابعين.
2- وقال أبو عبيد: "وحدثنا حجاج، عن ابن جريج قال أعطاني عثمان ابن عثمان كتاباً كتب به عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إلى محمد بن هشام -وهو عامل على أهل مكة- قال: -وهو زعموا- الكتاب الذي كتب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن حزم بسم الله الرحمن الرحيم هذا فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فريضة الغنم والإبل.."(2).
3- وروى الدارقطني بإسناده إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب له إذ وجهه إلى اليمن: في الأنف إذا استوعب جدعه الدية كاملة، والعين نصف الدية، والرجل نصف الدية، والمأمومة ثلث الدية، والمنقلة خمس عشرة من الإبل، والموضحة خمس من الإبل، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل.." (3).
4- وبإسناده إلى عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده:" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لهم كتاباً: في الموضحة خمس من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة، وفي العين خمسون من الإبل، وفي الأنف إذا أوعى جدعه الدية كاملة، وفي السن خمس من الإبل، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك من أصابع اليدين والرجلين عشر عشر.."(4).
5- روى الإمام عثمان بن سعيد الدارمي بإسناده إلى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كتب لعمرو ابن حزم في خمس من الإبل شاة...وساق نعيم الحديث بطوله"(5).
__________
(1) الأموال (ص: 500-501).
(2) الأموال (ص: 500 ).
(3) سنن الدارقطني (3/209-210 ).
(4) المصدر السابق.
(5) رد الإمام الدارمي على المريسي (ص:131).(40/90)
6- وقال أبو داود:" حدثنا موسى بن إسماعيل قال حماد: قلت لقيس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم فأعطاني كتاباً أخبر أنه أخذه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لجده فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل فقص الحديث إلى أن يبلغ عشرين ومائة..."الحديث (1).
7- روى الطحاوي بإسناده عن عمارة بن غزية الأنصاري عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم الأنصاري أخبره أن هذا كتاب رسول الله لعمرو بن حزم في الصدقات...فذكر فيما زاد على العشرين والمائة كذلك أيضاً.."(2).
8- روى الطحاوي أيضاً: "عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم فرائض الإبل ثم ذكر فيما زاد على العشرين والمائة كذلك أيضاً.."(3).
فهذه الروايات بالإضافة إلى ما سبق تفيد علماً يقيناً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب هذا الكتاب لعمرو بن حزم في الصدقات.
قال أبو عبيد: "حدثنا أبو الأسود عن ابن لهيعة، عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب قال: هذه نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، قال: وكانت عند آل عمر بن الخطاب؟ قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر..."، ثم اقتصر أبو عبيد على صدقة الإبل بتفاصيلها لأنه أورده في باب الصدقة في الإبل.
وقال أبو عبيد:" وحدثنا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد عن يونس ابن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بمثل هذه النسخة والقصة.
قال: وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سليمان بن كثير عن الزهري عن سالم، قال أبو عبيد: أحسبه عن أبيه - بمثل ذلك أيضاً أو نحوه-.
__________
(1) المراسيل (ص: 128)، وشرح معاني الآثار للطحاوي (4/375 ).
(2) شرح معاني الآثار (4/374).
(3) شرح معاني الآثار (4/374).(40/91)
قال أبو عبيد: وكان عباد بن العوام يحدث بهذا الحديث عن سفيان بن حسين عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه حدثت بذلك عنه"(1).
2- كتابة الصحابة لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وكتابة التابعين من بعدهم.
1- أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-:
روى البخاري -رحمه الله- بإسناده إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنساً حدثه أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين:" بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله..."، ثم ذكر فرائض الإبل وفرائض الغنم بتفاصيلها ثم قال: وفي الرقة ربع العشر"(2).
وأخرجه من هذا الوجه ابن ماجه(3) وابن خزيمة(4) وابن حبان(5)، وأخرجه غيرهم كابن الجارود والطحاوي والبيهقي.
وأخرجه أحمد في مسنده(6).
وأخرجه أبو داود (7) والنسائي(8) والدارقطني (9) كلهم من طريق حماد بن سلمة به.
2- وقال الإمام أحمد في المسند(10): حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتب الصدقة ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفى ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها قال: فلقد هلك عمر يوم هلك وإن ذلك لمقرون بوصيته".
__________
(1) هذه الروايات كلها في الأموال لأبي عبيد (ص: 499-500 ).
(2) في الزكاة حديث (1454 ) وأخرجه في عدد من المواضيع مقطعاً.
(3) في الزكاة حديث (1800 ).
(4) 4/14 ) حديث (2261 ).
(5) 8/57 ) حديث (3266 ).
(6) 1/11 ).
(7) في الزكاة، حديث (1567 ).
(8) والنسائي في الزكاة، حديث (2455 ).
(9) في سننه (2/115 ).
(10) 2/15 ).(40/92)
وذكر فيها فريضة الإبل بتفاصيلها ثم فريضة الغنم بتفاصيلها وأخرجه أبو داود(1) قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا عباد بن العوام عن سفيان ابن حسين به.
قال الألباني:" قلت: إسناده صحيح ورجاله ثقات رجال الشيخين على ضعف في روايته عن الزهري خاصة لكنه قد توبع وأشار البخاري إلى تقويته كما ذكرت في "الإرواء (792)" وتشهد له رواية الزهري الآتية بعد الرواية الثانية عن نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عند آل عمر".
وأخرجه الترمذي(2) من طريق زياد بن أيوب البغدادي وإبراهيم بن عبدالله الهروي ومحمد بن كامل المروزي قالوا حدثنا ابن العوام عن سفيان بن حسين به، وقال عقبه: "حديث ابن عمر حديث حسن، والعمل على هذا الحديث عند عامة الفقهاء، وقد روى يونس بن يزيد وغير واحد عن الزهري عن سالم بهذا الحديث ولم يرفعوه وإنما رفعه سفيان بن حسين".
وقد أخرج أبو عبيد هذا الحديث من طرق عديدة إلى الزهري وغيره، وقال عقبها: "قال أبو عبيد: وقد تواترت الآثار من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة وكتاب عمرو وما أفتى به التابعون بعد ذلك"(3).
وانظر تعليق شعيب الأرناؤوط وشركائه على حديث سفيان بن حسين هذا من مسند الإمام أحمد(4).
2- كتابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
قال أبو عبيد:" وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن عكرمة بن خالد أن أبا بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر كتب إليه بكتاب نسخه أبو بكر بن عبيد الله من صحيفة وجدها مربوطة بقراب عمر بن الخطاب"(5).
__________
(1) في الزكاة، حديث (1568 ).
(2) في الزكاة، حديث (621 ).
(3) الأموال (497-503)
(4) 8/253-256 )
(5) الأموال (ص: 501).(40/93)
قال أبو عبيد: وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح عن الليث بن سعد قال: هذا كتاب الصدقة في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة ثم ذكر مثل ذلك -أيضاً-، وقال: قال الليث: حدثني نافع أن هذه نسخة كتاب عمر بن الخطاب وكانت مقرونة مع وصيته.
وقال الليث: وأخبرني نافع أنه عرضها على عبد الله بن عمر مرات"(1).
وتقدمت رواية أبي عبيد بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن عمر بن عبدالعزيز لما استخلف أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات وكتاب عمر بن الخطاب.... وفيه:" ووجد عند آل عمر كتاب عمر في الصدقات مثل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فنسخا له... إلى آخره".
وقال الإمام البخاري- رحمه الله -: "حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، قال: "كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن لبس الحرير إلا هكذا -وصف لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه ورفع زهير الوسطى والسبابة-" (2).
3- كتابة علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
روى الإمام البخاري بإسناده(3): عن أبي جحيفة قال: "قلت: لعلي: هل عندكم كتاب؟... الحديث تقدم قريباً أول الباب.
روى الإمام البخاري- أيضاً-:
عن ابن الحنفية قال:" أرسلني أبي خذ هذا الكتاب، فاذهب به إلى عثمان فإن فيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة" (4).
4- كتابة أنس بن مالك - رضي الله عنه -:
__________
(1) الأموال (ص: 501).
(2) كتاب اللباس حديث (5829 ) ومسلم في اللباس حديث (2069 ).
(3) كتاب العلم حديث (111 ).
(4) كتاب فرض الخمس حديث (3112 ).(40/94)
روى الإمام مسلم(1) بإسناده إلى ثابت عن أنس بن مالك قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك... قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعثت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأتخذه مصلى، قال: فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن شاء الله من أصحابه، وذكر حديثهم حول مالك بن دخشم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟، قالوا: إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، قال: لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه"(2).
قال أنس:" فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني اكتبه فكتبه".
5- كتابة أبي هريرة - رضي الله عنه -:
سبق قوله:" ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب"، وسبق عنه رواية أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة خطبته في تحريم الحرم وفي بيان أن القتل موجب للقَوَد أو الدية.
فهو يروي هذا لبيان مشروعية كتابة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا نرى أن عدداً من أصحابه كانوا يكتبون عنه حديثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أصحابه الذين كتبوا حديثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - همام بن منبه، وله صحيفة مشهورة باسم "صحيفة همام بن منبه"(3).
__________
(1) كتاب الإيمان (33 ).
(2) هذا القول قد ورد مقيداً بقوله - صلى الله عليه وسلم - " يبتغي بذلك وجه الله " رواه البخاري في الصلاة برقم (1186) من طريق الزهري عن محمود بن الربيع.
(3) وقد طبعت عدة مرات منها طبعة المكتب الإسلامي بتحقيق علي حسن عبد الحميد ومنها طبعة الخانجي بتحقيق د/ رفعت فوزي وتحتوي هذه الصحيفة على (138 ) حديثاً.(40/95)
ومنهم بشير بن نهيك قال:" كنت أكتب ما أسمع من أبي هريرة فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت: هذا ما سمعته منك؟ قال: نعم "(1) وإسناده صحيح.
6- كتابة أبي سعيد - رضي الله عنه -:
روى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي نضرة قال: "سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: أيداً بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به. فأخبرت أبا سعيد فقلت: إني سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيداً بيد؟ قلت: نعم قال: فلا بأس به، قال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه"، ثم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً في تحريم ربا الفضل في التمر(2).
وهذا يدل على أن أبا سعيد يجيز كتابة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يكتب إلى ابن عباس في هذا الموضوع الكبير إلا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا رأيه.
وروى الخطيب البغدادي قول أبي سعيد: "ما كنا نكتب شيئاً غير القرآن والتشهد" من طريقين، ثم قال:" قلت: أبو سعيد هو الذي روي عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكتبوا عني سوى القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ".
ثم هو يخبر أنهم كانوا يكتبون القرآن والتشهد، وفي ذلك دليل أن النهي عن كتب ما سوى القرآن إنما كان على الوجه الذي بيَّناه من أن يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، وأن يشتغل عن القرآن بسواه، فلما أُمن ذلك، ودعت الحاجة إلى كتب العلم لم يكره كتبه كما لم تكره الصحابة كتب التشهد ولا فرق بين التشهد وغيره من العلوم في أن الجميع ليس بقرآن، ولن يكون كتب الصحابة ما كتبوه من العلم وأمروا بكتبه إلا احتياطاً كما كان كراهتهم لكتبه احتياطاً -والله أعلم-" (3).
__________
(1) المصنف (9/50 ) وانظره في سنن الدارمي (1/105 ) والعلم لأبي خيثمة (ص: 145 ) وتقييد العلم (ص: 101 ) وجامع بيان العلم (1/87).
(2) في الصحيح، كتاب المساقاة، حديث (1594 ) وهو في مسند الإمام أحمد (3/60 ).
(3) تقييد العلم (ص: 93-94 ).(40/96)
قال ابن القيم:" قد صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر، فيكون ناسخاً لحديث النهي فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غزاة الفتح:" اكتبوا لأبي شاه"، يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن
لعبد الله بن عمرو في الكتابة وحديثه متأخر عن النهي، لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة" ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً لمحاها عبد الله، ولأمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، وهذا واضح والحمد لله.
وقد صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال لهم في مرض موته:" ائتوني باللوح والدواة والكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً".
وهذا إنما كان يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه.
وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم كتاباً عظيماً: فيه الديات، وفرائض الزكاة وغيرها.
وكتبه في الصدقات معروفة، مثل كتاب عمر بن الخطاب، وكتاب أبي بكر الصديق الذي دفعه إلى أنس - رضي الله عنهم-.
وقيل لعلي: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ فقال:لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقول وفكاك الأسير وألاَّ يقتل مسلم بكافر".
وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره، فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة.
وقد قال بعضهم: إنما كان النهي عن كتابة مخصوصة، وهي: أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، خشية الالتباس، وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقاً، وكان بعضهم يرخص فيها، حتى يحفظ فإذا حفظ محاها.(40/97)
وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل."(1)
وقد ثبتت كتابة الحديث النبوي عن ابن عمر(2)، وابن عباس(3)، وجابر
ابن سمرة(4)، وجابر بن عبدالله(5)، ورافع بن خديج(6)، وزيد بن أرقم(7)- رضي الله عنهم -.
والحديث يطول عمن كان يَكتبُ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يَكتبُ عنهم، وقد ذكر الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: "دراسات في الحديث النبوي" اثنين وخمسين صحابياً ممن كتب عنهم الحديث، وذكر عدداً كثيراً ممن كتب عنهم من التابعين، يبلغ (152)، وأضعافهم ممن كتب عن التابعين من أهل العلم وطلابه، لا يتسع المقام لذكر ودراسة الأسانيد إليهم.
الشبهة السادسة عشرة:
قول محمد صدقي:
"من كان من الصحابة كثير الحديث ملوا منه ونهوه وزجروه كما فعل عمر بأبي هريرة، وشكوا فيه وقالوا إنه يضع الشيء في غير موضعه، ونسبوه للجنون كما في كتبكم".
أقول:
هذا الكلام كله هذيان بالباطل وافتراء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) تهذيب السنن (5/245-246).
(2) المسند (2/90) إسناده يحتمل التحسين، والمسند (2/152) إسناده حسن.
(3) المسند (1/224)، وانظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد، حديث (1812)، فقد أورده من عدة
طرق بنحو ما في المسند. وانظر: صحيح البخاري في الرهن حديث (2514)، والشهادات حديث (2668).
(4) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث (1822)، وهو في مسند أحمد (5/89).
(5) تذكرة الحفاظ، للذهبي (1/43)، والجرح والتعديل (4/136).
(6) صحيح مسلم، الحج، حديث (1361)، وهو في المسند (4/141).
(7) صحيح البخاري، التفسير، حديث (4906).(40/98)
وقد سبقه إلى مثل هذا الباطل الملاحدة وغلاة الرفض، وشاركه في الإرجاف به المستشرقون ومن سار على نهجهم من المنتسبين إلى الإسلام مثل أحمد خان وأتباعه ومثل أحمد أمين وأبي رية ومن خذله الله باتباعهم، وقد دفع أباطيل هؤلاء عدد من العلماء منهم الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"، والشيخ عبد الرزاق حمزة في كتابه "ظلمات أبي رية".
قال العلامة المعلمي في كتابه " الأنوار الكاشفة لما في أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة " (1)، الذي دحض فيه أباطيل أبي رية وبين فيه أكاذيبه وخيانته ومجازفاته.
قال - رحمه الله -:
"وقال (ص:162) -يعني: أبا رية- " كثرة أحاديثه"(2)، ثم قال (ص:163): وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأَحْرِ بك أن تكون كاذباً".
1- قال المعلمي: "أقول: لم يعز هذه الحكاية هنا وعزاها (ص:171) إلى شرح "النهج" لابن أبي الحديد حكاية عن أبي جعفر الإسكافي، وابن أبي الحديد من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة.
والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض -أيضاً- في القرن الثالث ولا يعرف له سند.
ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم، بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة وغيرهم، وإنما يتشبث بها من لا يعقل.
__________
(1) ص: 152).
(2) يعني أبا هريرة - رضي الله عنه-.(40/99)
وقد ذكر ابن أبي الحديد (1/360) أشياء عن الإسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة، وذكر من ذلك مزاح أبي هريرة فقال ابن أبي الحديد: " قلت: قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب ((المعارف))(1) في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه".
وفي هذا إشارة إلى أن الإسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقف الأكاذيب من أفاكي أصحابه الرافضة والمعتزلة.
وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة، ولو ذكرها كبار أئمة السنة فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان".
ثم قال: "قال أبو رية (ص:163): "ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة إذ أصبح لا يخشى أحداً بعده".
قال المعلمي: أقول: لم يمت الحق بموت عمر -رضي الله عنه- وسيأتي تمام هذا".
ثم ذكر أثرين إلى أبي هريرة أحدهما معلّ بالانقطاع، وفي إسناد الثاني متهم وذكر أنه يقابلهما آثار.
ثم قال المعلمي -رحمه الله-: "وبعد فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار مع ثناء جماعة منهم عليه، وسماع كثير منهم منه، وروايتهم عنه كما يأتي يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه.
بل لو ثبت المنع ثبوتاً لا مدفع له لدلّ إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحساناً محضاً لا يستند إلى حجة ملزمة، وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر-رضي الله عنه-"(2).
__________
(1) لم يسق ابن قتيبة مزاح أبي هريرة -رضي الله عنه- بقصد الطعن فيه وإنما ذكره في ترجمته ولعله ينوه بتواضعه لأن مزاح أبي هريرة - رضي الله عنه- صورة من صور تواضعه، والمنصف المتأمل لهذا المزاح اللطيف يدرك هذا وانظر كلام ابن قتيبة في "المعارف" (ص: 277-278).
(2) الأنوار الكاشفة (ص:152-156).(40/100)
إن عدداً من الصحابة معدودون في المكثرين من الرواية فمنهم أصحاب الألوف ومنهم من روى ما يربوا على ألف حديث ومنهم أصحاب المئين ومنهم أصحاب المائتين.
فإذا كان أبو هريرة- رضي الله عنه- قد روى خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً فقد روى ثلاثة من الصحابة ما يزيد مجموعه على هذا العدد فقد روى عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- ألفي حديث وستمائة وثلاثين حديثاً.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه ألفي حديث ومائتين وستة وثمانين حديثاً.
وروت عائشة -رضي الله عنها- ألفي حديث ومائتي حديث وعشرة أحاديث.
فمجموع ما رواه هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم يبلغ سبعة آلاف حديث ومائة وستة وعشرين حديثاً.
أي أنها تزيد على مجموع ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - بسبعمائة حديث وألف حديث.
وأربعة آخرون وهم عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبو سعيد وابن مسعود -رضي الله عنهم- يروون خمسة آلاف حديث ومائتين وعشرة أحاديث أي أن الفارق بسيط جداً بين مارواه أبو هريرة ومجموع ما رواه هؤلاء الأربعة، فمن هم الصحابة الذين ملوهم ونهوهم وزجروهم؟!.
لم تستطع أن تذكر من هؤلاء الزاجرين الناهين إلا عمر رضي الله عنه البريء -والحمد لله- من هذه التهمة التي يفتريها عليه الروافض والزنادقة ليشوهوه ويشوهوا أبا هريرة الذي هو قذى في أعينهم لأنه أحفظ حفاظ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لسنة رسول الله التي تغيظهم كما يغيظهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
2- ما كان الصحابة يشك بعضهم في بعض، ولا يكذب بعضهم بعضاً؛ فهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي يحشد أهل الإلحاد والرفض قواهم لإسقاطه وإسقاط رواياته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يلقى من الصحابة والتابعين وأفاضل الأمة - رغم أنوف الحاقدين - إلا الإجلال والإكبار والثقة الكبيرة به.
فيروي عنه من أهل العلم والفضل من الصحابة والتابعين نحو من ثمانمائة.(40/101)
والأمة من التابعين الكرام ومن تبعوهم بإحسان يقدرونه ويعتزون به وبحفظه لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان ثمرة لملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على السنة كما شهد له بهذا الحرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الفصل الخامس
حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة
بالقبول تفيد العلم لا الظن
إن أعداء الإسلام ليتسللون إلى هدم الإسلام من شتى المنافذ، فتبذل جهود علماء المسلمين للدفاع بكل ما يستطيعون عن دينهم وسنة نبيهم التي كثرت عليها الغارات من فئات الإلحاد والضلال المتسترة بالإسلام.
وفي هذا العصر تظافرت جهود علماء الإسلام لصد هذه الغارات، فسدُّوا عليهم كل الأبواب والمنافذ إلا باباً واحداً فتحه عليهم المعتزلة في مطالع القرن الثاني الهجري، فتابعهم الروافض والخوارج.
وأهل السنة يحاولون جاهدين إغلاق هذا الباب الخطير ألا وهو باب: "إن أخبار الآحاد تفيد الظن"، ولكن على مر الزمان انخدع بعض المنتسبين إلى السنة فولجوا بعض أبواب المعتزلة والمتكلمين.(40/102)
ومنها هذا الباب الخطير، ثم وقفوا مع الأسف مع المعتزلة والخوارج والروافض يعاركون أهل السنة. فإذا هجم أعداء الإسلام أو هذه الفرق على بعض العقائد الإسلامية أو على السنة امتشقوا أسلحتهم جنبا إلى جنب مع أهل السنة المحضة وواصلوا مطاردتهم وسدوا عليهم كل الأبواب، حتى إذا لم يبق إلا بعض الأبواب ومن أخطرها هذا الباب فعندها يضعون أسلحتهم ويقولون بلسان حالهم للمعتزلة والمتكلمين: نحن معكم لا نزاع بيننا وبينكم في أن أخبار الآحاد لا تفيد العلم، ونوافقكم على أنها لا تفيد إلا الظن؛ ولذا لا نبني عليها عقائدنا؛ لأننا لا نبنيها إلا على القطعيات وهي النصوص الواضحة من القرآن أو المتواتر من السنة، أما الظواهر من نصوص القرآن والسنة المتواترة فلا نبني عليها عقائدنا، لأنها هي -أيضاً- ظنيّات الدلالة وإن كانت قطعيات الثبوت، ثم تقوم المعارك بينهم وبين أهل السنة المحضة بناء على هذه النظريات الفلسفية التي استقتها المعتزلة والمتكلمون ومن تابعهم من الفلسفات اليونانية وغيرها من الفلسفات التي استهدفت عقائد الإسلام وأصوله قبل فروعه من وقت مبكر.
ولو استعرض المحب للسنة بعض الكتب التي قامت بالدفاع عن السنة في هذا العصر وتصدت لرد عدوان أعدائها من المستشرقين والملحدين والقرآنيين وأفراخ هؤلاء من المعاصرين لوجد جهوداً قد بذلت لمواجهة هذه الفئات، وأباطيلها ولكنه لا يلبث إلا قليلاً حتى يفاجأ باستسلام هؤلاء المنافحين عند عتبات هذا الباب والاستحذاء أمام هؤلاء الأعداء والأخذ بشبهاتهم ولو أنكر عليهم أهل السنة المحضة لواجهوهم بتلك الشبهات التي ورثها القرآنيون والمستشرقون عن المعتزلة والخوارج والروافض.
ومن المؤسف جداً أن هذه الشبهات تقوم عليها مدارس إسلامية من وقت مبكر، وما عرفوا أنها من مكايد فلاسفة المعتزلة ومن ركض وراءهم من فرق الضلال.
دعوة جادة(40/103)
وإني لأوجه بهذه المناسبة دعوة جادة إلى القائمين على هذه المدارس في هذا العصر الذي تعاني فيه الأمة الويلات والذل نتيجة مخالفتهم لكتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، أوجه الدعوة إلى هذه المدارس لتعيد النظر بجدٍّ في مناهجها وإلى السعي في إصلاحها إصلاحاً جذرياً وشاملاً بما يتفق مع الكتاب والسنة وفقه السلف الصالح لهما عقدياً ومنهجياً وعبادات ومعاملات، ومن هذا الإصلاح سد باب أن أخبار الآحاد تفيد الظن، إن هذا الإصلاح ليسير على من يسره الله عليه واطلع الله منه على نية صادقة وعزم ماض.
ومن نظر نظرة صادقة متجردة إلى تفسير السلف الصالح للقرآن الكريم، مثل: تفسير ابن جرير والبغوي وما جرى مجراهما من تفاسير السلف، وتأمل نصوص الأمهات الست في أبواب الإيمان والتوحيد والسنة، وفي مؤلفات أبي الحسن الأشعري الأخيرة كالإبانة والمقالات والموجز، وقرأ ما قرره ابن عبدالبر وابن أبي زيد وأمثالهما تبين له بكل وضوح العقائد التي قررها الله في كتابه ورضيها وقررها رسوله في سنته ودان بها الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان، وتبيَّن له بوضوح بطلان كل المذاهب التي تخالف مقررات الكتاب والسنة وما دان به السلف الصالح من القرون الخيرة.
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اثحب? [الأنفال:24].
واعلموا يا من بأيديهم أَزِمَّةُ أمور الأمة أنكم مسؤولون أمام الله عن بقائها على ما هي عليه الآن من جهل بحقائق القرآن والسنة ومخالفات لها ذلكم الجهل الخطير والمخالفات المهلكة في الدنيا والآخرة.(40/104)
وإنه لمن المناسب لقطع دابر شبهات أن أخبار الآحاد تفيد الظن ولا تفيد العلم أن أسوق بعض حجج أهل السنة التي تدمغ هذه الشبهات لتساعد من يريد نصرة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويريد حمايتها من غوائل أعدائها ويريد سدّ أبواب الفتن وذرائعها عن دين الله الحق.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"(1):"ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع، فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي، قال ابن خويز منداد في كتاب "أصول الفقه"، وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان: ويقع بهذا الضرب أيضاً العلم الضروري نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث الرؤية نعلم أنها حق ونقطع على العلم بها (2)، وكذلك روي عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً فعابه، وقال: لا أدري ما هذا، وقال القاضي: وظاهر هذا أنه يسوي بين العلم والعمل، وقال القاضي في أول "المحبر": خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم
__________
(1) 2/362) طبعة مكتبة الرياض الحديثة. اخترت كلام ابن القيم لأنه عبارة عن خلاصة حجج أهل السنة في هذا الباب. وعلى رأسهم الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد والسمعاني وابن تيمية.
(2) كذا بالتأنيث ولعل الصواب "به".…(40/105)
تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول وأصحابنا يطلقون القول وإن لم تتلقه بالقبول..".
ومن كلامه رحمه الله بهذا الصدد قوله في المرجع نفسه(1):
"ومما يبين أن خبر الواحد العدل يفيد العلم أدلة كثيرة:
أحدها: أن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره وتركوا الحجة التي كانوا عليها واستداروا إلى القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد العلم، وغاية ما يقال فيه: إنه خبر اقترنته قرينة، وكثير منهم يقول لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها وهذا في غاية المكابرة. ومعلوم أن قرينة تلقِّي الأمة له بالقبول وروايته قرناً بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها(2).
__________
(1) ص:394-405).
(2) يرى الإمام ابن القيم أن كل حديث صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يضعفه أحد من أئمة الحديث أن هذا تلق من الأمة بالقبول لهذا النوع من الأحاديث، وهذا بخلاف ما يفهم بعض الناس من القرائن ومن تلقي الأمة بالقبول ، فإنهم يكادون يقصرونها على أخبار الصحيحين فقط، وما قرره ابن القيم هو الحق والله أعلم.(40/106)
الدليل الثاني: أن الله تعالى قال:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ادب? [الحجرات:6]، وفي القراءة الأخرى ?فَتَثَبَّتُوا? وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أيضاً أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وفعل كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا.
وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة، وفي صحيح البخاري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما نسبه إليه من قول أو فعل.
فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم.
الدليل الثالث: أن أهل العلم بالحديث لم يزالوا يقولون صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك جزم منهم بأنه قاله، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض المتأخرين إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن بل هذا مراد من زعم أن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفيد العلم، وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه وأنه قال كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر ونهى وفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يُذْكر عن(40/107)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويُروى عنه ونحو ذلك، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول أحدهم هذا الحديث صحيح وبين قوله إسناده صحيح فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثاني شهادة بصحة سنده وقد يكون فيه علة أو شذوذ فيكون سنده صحيحاً ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه.
الدليل الرابع: قوله تعالى:? * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا Zp©ù!$x2 xwِqn=sù نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح!$sغ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ اتثثب? [التوبة:122]، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم والإنذار الإعلام بما يفيد العلم وقوله: * خ د ) نظير قوله في آياته المتلوة والمشهودة: ? " ¼ ).* " K ).
* O ¥ ) وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل به العلم لا فيما لا يفيد العلم.
الدليل الخامس: قوله: ? xwur تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا اجدب? [الإسراء:36]، أي: لا تتبعه ولا تعمل به ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم.
الدليل السادس: قوله تعالى: ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا x@÷dr& الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ xw تَعْلَمُونَ احجب? [النحل:43]، فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علماً، وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقاً فلو كان واحداً لكان سؤاله وجوابه كافياً.(40/108)
الدليل السابع: قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ xw يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ادذب? [المائدة:67]، وقال:? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا اخحب? [النور:54]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بلغوا عني"، وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة: أنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت.
ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلَّغ، ويحصل به العلم فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم لم يقع به التبليغ الذي تقوم به
حجة الله على العبد فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من بلغه وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسنته ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل فيلزم من قال: إن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفيد العلم هو أحد أمرين:
1- إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ.
2- وإما أن يقول: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً.
وإذا بطل هذان الأمران بطل القول بأن أخباره - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علماً وهذا ظاهر لا خفاء به.(40/109)
الدليل الثامن: قوله تعالى:* وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) )[البقرة:143]، وقوله:* وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا x@yèy_ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ اذرب? [الحج:78]، وجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمة عدولاً خياراً؛ ليشهدوا على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم عن الله رسالته، وأدوا عليهم(1) ذلك، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم الماضية وشهادتهم على أهل عصرهم ومن بعدهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بكذا ونهاهم عن كذا، فهم حجة الله على من خالف رسول الله وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه(2) الحجة، وتشهد هذه الأمة الوسط عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه ويشهد كل واحد بانفراده بما وصل إليه من العلم الذي كان به من أهل الشهادة فلو كانت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفيد العلم لم يشهد به الشاهد ولم تقم به الحجة على المشهود عليه.
__________
(1) كذا ولعله " إليهم".
(2) كذا ولعله "عليهم".(40/110)
الدليل التاسع: قوله تعالى:* xwur يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) )[الزخرف:86]، وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفاظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما أن تكون حقاً أو باطلاً أو مشكوكاً فيها لا يدري هل هي حق أو باطل.
فإن كانت باطلاً أو مشكوكاً فيها وجب اطراحها وألاَّ يلتفت إليها وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلية، وإن كانت حقاً فيجب الشهادة بها على البت أنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الشاهد بذلك شاهداً بالحق وهو يعلم صحة المشهود به.
الدليل العاشر: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على مثلها فاشهدوا" إشارة إلى الشمس ولم يزل الصحابة والتابعون وأئمة الحديث يشهدون عليه - صلى الله عليه وسلم - على القطع أنه قال كذا وأمر به ونهى عنه وفعله لما بلغهم إياه الواحد والاثنان والثلاثة فيقولون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وحرم كذا وأباح كذا، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن المشهود به كالشمس في الوضوح، ولا ريب أن كل من له التفات إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون ربهم عياناً يوم القيامة، وأن قوماً من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة، وأن الصراط حق وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك، وأن الولاء لمن أعتق إلى أضعاف أضعاف ذلك، بل يشهد بكل خبر صحيح متلقى بالقبول لم ينكره أهل الحديث شهادة لا يشك فيها.(40/111)
الدليل الحادي عشر: أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا ولو قيل لهم إنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار، وتعجبوا من جهل قائله ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم لم يروها عنهم عدد التواتر وهذا معلوم يقيناً فكيف حصل لهم العلم الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا ولم يحصل لهم العلم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بما رواه عنهم التابعون، وشاع في الأمة وذاع وتعددت طرقه وتنوعت، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم، إن هذا لهو العجب العجاب، وهذا وإن لم يكن نفسه دليلاً يلزمهم أحد أمرين:
1- إما أن يقولوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتاواه وأقضيته تفيد العلم.
2- وإما أن يقولوا أنهم لا علم لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم وأن النقول عنهم لا تفيد علماً.
وأما أن يكون ذلك مفيداً للعلم بصحته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من أبين الباطل.(40/112)
الدليل الثاني عشر: قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اثحب? [الأنفال:24]، ووجه الاستدلال أن هذا أمر لكل مؤمن بلغته دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ودعوته نوعان: مواجهة ونوع بواسطة المبلغ وهو مأمور بإجابة الدعوتين في الحالتين وقد علم أن حياته في تلك الدعوة والاستجابة لها، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علماً أو يحييه بما لا يفيد علماً أو يتوعده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علماً بأنه إن لم يفعل عاقبه وحال بينه وبين قلبه.
الدليل الثالث عشر: قوله تعالى: ? لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ادجب?[النور:63]، وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة ما لا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذرٌ.(40/113)
الدليل الرابع عشر: قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اخزب?[النساء:59]، ووجه الاستدلال أنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى مالا يفيد علماً البتة، ولا يدرى أحق هو أم باطل ؟ وهذا برهان قاطع -بحمد الله- فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفيد علماً إنا نرد ما تنازعنا فيه إلى العقول والآراء والأقيسة فإنها تفيد العلم.(40/114)
الدليل الخامس عشر: قوله تعالى:? وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ xwur تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اخةب? [المائدة:49-50]، ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما أنزل الله وهو ذكر من الله أنزله على رسوله وقد تكفل سبحانه بحفظه فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه وهذا من أعظم الباطل، ونحن لا ندعي عصمة الرواة، بل نقول: إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن يقوم دليل على ذلك ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته ولا تلتبس بما ليس منها، فإنه من حكم الجاهلية بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحاداً كذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده: "إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين".
وهناك أدلة أخرى على أنَّ أخبار الآحاد تفيد العلم، ذكرها ابن القيم وابن حزم(1) وغيرهما لم يتسع المقام لسردها، فليرجع إليها من أراد الاستزادة من الحجج والبراهين.
والله أسأل أن يوفق المسلمين للعودة إلى ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في كل شأن من شؤونهم بما في ذلك القناعة بأن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فهرس المصادر والمراجع
__________
(1) انظر: "الإحكام في أصول الأحكام"(1/97-120).(40/115)
"الإبانة، للإمام ابن بطة، ط: دار الراية، ت: رضا نعسان.
"الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ط: مؤسسة الرسالة.
"أضواء على السنة، لأبي رية، الطبعة الخامسة، دار المعارف.
"الأعمال الكاملة لمحمد عبده، جمع وتحقيق محمد عمارة.
"الأموال، للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
"الأنوار الكاشفة، للمعلمي، نشر حديث آكادمي- باكستان-.
"تاريخ الأستاذ الإمام، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار الطبعة الأولى.
"التاريخ الأوسط، للإمام البخاري، دار الصميعي.
"التاريخ الكبير، للإمام البخاري، ط: مؤسسة الكتب الثقافية.
"تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ط: دار الجيل.
"تذكرة الحفاظ، للحافظ الذهبي، ط: دار إحياء التراث العربي.
"تفسير المنار، ط: مكتبة القاهرة.
"تقييد العلم، للخطيب البغدادي، نشر دار إحياء السنة النبوية.
"التلخيص الحبير، للحافظ ابن حجر، تحقيق عبد الله هاشم يماني.
"التمهيد، لابن عبدالبر، ط: وزارة الأوقاف المغربية.
"تهذيب السنن، لابن القيم،ط: المطبعة العربية باكستان.
"جامع الترمذي، ط: الحلبي.
"جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر،نشر المكتبة السلفية بالمدينة النبوية.
"الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، نشر دار الكتب العلمية.
"جماع العلم، للإمام الشافعي، نشر دار الآثار.
"جوامع السيرة، نشر إدارة إحياء السنة - باكستان-.
"خلاصة تذهيب التهذيب، للخزرجي، نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية.
"دراسات في الحديث النبوي، للدكتور الأعظمي، مطابع جامعة الرياض.
"الرد على بشر المريسي، للإمام الدارمي، مطبعة الأشراف - لاهور-.
"الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق أحمد شاكر.
"رسالة التوحيد، لمحمد عبده، ط: إحياء العلوم، بيروت.
"رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
"الرياض المستطابة، مكتبة المعارف، بيروت.
"زعماء الإصلاح في العصر الحديث.
"السلسلة الصحيحة، للشيخ الألباني، مكتبة المعارف الرياض.(40/116)
"السلسلة الضعيفة، للشيخ الألباني، مكتبة المعارف الرياض.
"سنن ابن ماجه، ط: الحلبي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
"سنن أبي داود، تعليق عزت عبيد الدعاس.
"سنن الدارقطني، ت: عبد الله هاشم يماني.
"سنن الدارمي، ت: عبد الله هاشم يماني.
"سنن النسائي، ط: دار البشائر الإسلامية.
"شرح معاني الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، مطبعة الأنوار المحمدية.
"صحيح البخاري، دار طوق النجاة.
"صحيح الجامع الصغير وزيادته، للشيخ الألباني، المكتب الإسلامي
"صحيح ابن خزيمة، المكتب الإسلامي.
"صحيح سنن ابن ماجة، للشيخ الألباني،إشراف المكتب الإسلامي.
"صحيح مسلم، دار إحياء الكتب العربية، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
"صحيفة همام بن منبه، مكتبة الخانجي.
"صفة صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم -، للشيخ الألباني، مطبعة المكتب الإسلامي.
"الضعفاء، للعقيلي، ت: حمدي السلفي.
"الطبقات الكبرى، لابن سعد، ط: دار صادر ودار بيروت.
"العلم، للإمام أبي خيثمة، المطبعة العمومية بدمشق، تحقيق الألباني.
"فتح الباري، للحافظ ابن حجر، المطبعة السلفية، ت: محب الدين الخطيب.
"فتح المجيد، للشيخ عبدالرحمن بن حسن ت: العلامة ابن باز.
"الفوائد المجموعة، للشوكاني، مطبعة السنة المحمدية، ت: المعلمي.
"القرآنيون، لخادم حسين، نشر مكتبة الصديق.
"قصة المسيح الدجال، للشيخ الألباني، ط دار المعارف.
"كنز العمال، لتقي الدين الهندي، ط: مؤسسة الرسالة.
"لسان الميزان، للحافظ ابن حجر، ط: دار إحياء التراث العربي.
"المجروجين، لابن حبان، طبعة دار الوعي.
"مجلة أهل الحديث، بواسطة كتاب:" القرآنيون".
"مجلة المنار، الطبعة الثانية.
"مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، مطابع الرياض.
"مختار الصحاح، للفيروزابادي.
"مختصر ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح، تعليق أحمد شاكر.
"مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم، للموصلي، مكتبة الرياض الحديثة.
"مختصر المؤمل، لأبي شامة، مكتبة الصحوة الإسلامية.(40/117)
"المراسيل، لأبي داود، ت: شعيب الأرناؤوط، ط: مؤسسة الرسالة.
"مسائل أبي داود للإمام أحمد، ت: محمد رشيد رضا.
"المستدرك على الصحيحين، للحاكم النيسابوري، مكتبة النصر الحديثة.
"مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت: أحمد شاكر، وت: شعيب الأرناؤوط،.
"المصنف، لابن أبي شيبة، ت: عامر العمري الأعظمي.
"المعارف، لابن قتيبة، ت: ثروت عكاشة.
"مقالات سرسيد، للشيخ محمد إسماعيل السلفي، بواسطة كتاب:
" القرآنيون".
"المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن القيم، مكتبة المطبوعات الإسلامية حلب.
"منهج المدرسة العقلية، للدكتور فهد الرومي، ط: مؤسسة الرسالة.
"الموضوعات، لابن الجوزي، نشر المكتبة السلفية.
"موطأ الإمام مالك بن أنس، ط: الحلبي.
"موقف العقل والعلم من رب العالمين، مصطفى صبري، ط: دار إحياء التراث العربي.
"ميزان الاعتدال، للحافظ الذهبي، ط: دار إحياء الكتب العربية.
"نزهة الخواطر، لعبد الحي بن فخر الدين،ط: دائرة المعارف العثمانية.
"نزهة النظر، للحافظ ابن حجر، نشر مكتبة طيبة.
"نصب الراية، للزيلعي، ط: المجلس العالمي - الهند-.
"نظم المتناثر من الحديث المتواتر، للكتاني، نشر دار الكتب العلمية.
"النكت على ابن الصلاح، للحافظ ابن حجر، ت: ربيع المدخلي.
فهرس الموضوعات
مقدمة…1
الفصل الأول:بيان منزلة السنّة في الكتاب والسنّة…7
تعريف السنة:…7
الفصل الثاني:منزلة السنّة عند الصحابة الكرام فمن بعدهم من خيار الأمة وسادتها…13
أولاً: منزلة السنة عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.…13
ثانياً: منزلة السنّة عند التابعين وأهل الحديث والفقهاء.…17
الفصل الثالث:ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها…19
الفصل الرابع:ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها…29
إحداهما: مدرسة أحمد خان الهندي مؤسس جامعة عليكره.…29
ثانياً: مدرسة جمال الدين الأفغاني أو الإيراني المتوفىسنة 1314? .…44
محمد توفيق صدقي…67(40/118)
الشبهة الأولى:…71
الشبهة الثانية:…74
الشبهة الثالثة:…74
الشبهة الرابعة:…75
الشبهة الخامسة:…76
الشبهة السادسة:…76
الشبهة السابعة:…77
الشبهة الثامنة:…80
الشبهة التاسعة:…81
الشبهة العاشرة:…82
الشبهة الحادية عشرة:…84
الشبهة الثانية عشرة:…85
الشبهة الثالثة عشرة:…86
الشبهة الرابعة عشرة:…88
الشبهة الخامسة عشرة:…90
مشروعية كتابة السنة وثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين فضلاً عمن بعدهم…98
2- كتابة الصحابة لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وكتابة التابعين من بعدهم.…108
الفصل الخامس حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم لا الظن…120
دعوة جادة…122
فهرس المصادر والمراجع…133
فهرس الموضوعات…138(40/119)
دراسات إسبانية للسيرة النبوية
د. محمد برادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
1- تمهيد:
جاء الصادق الأمين في حياة الناس ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويعيد التوازن بعدما فشا في الأرض الكذب والبهتان، وتعددت الآلهة وطرق التقرب إليها. فكان مفتاح الخير والدال على الصراط المستقيم. وقد لخص الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب كل ما نريد أن نقوله منذ حوالي ألف وأربعمائة سنة، حينما كان ناطقا رسميا للمسلمين عند النجاشي فقال له: " أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور …" فعدد عليه أمور الإسلام -(1). من أجل كل هذه الخصال درستُ سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وترجمتُ بعضَها عمليا عندما كنت أدرس بديار الأندلس عسى أن أغير فكرة بعض الغربيين عن الإسلام والمسلمين. فرسالة الإسلام في الغرب تحتاج إلى من يقرأ السيرة العطرة، ويطبقها عملياً؛ لأن أفضل نظرية هي التطبيق. إن مانملكه نحن المسلمين كبير جداً وإذا استثمرناه آمن الغرب بالله كما فعل النجاشي. إذن لماذا لم يقرأ المسلمون في الغرب السيرة العطرة؟ ولماذا كوَّن الإسبان أحكاماً جزافاً عن الرسول؟ ولماذا نظروا إلى صاحب الرسالة العظمى نظراً شزراً؟ كلها أسئلة نجيب عنها في هذا البحث، آملين أن نغير ما بأنفسنا ليغير الغرب عموما والإسبان خصوصا نظرتهم لهذا الدين ولخاتم المرسلين محمد بن عبدالله صلوات ربي وسلامه
__________
(1) صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم ، 1996 م، دار المؤيد، ص 95.(41/1)
عليه.
المبحث الأول
كلمة عن المعاجم :
أصبحت المعاجم في وقتنا الراهن من الكتب الضرورية في حياة الباحث. فهي لا تساعد فقط على تفسير كلمة أو شرحها أو إعطاء السياق المناسب لاستعمالاتها، بل أصبح المعجم نفسه أداة من أدوات البحث العلمي للتأثير في شخصية الباحث. فعندما نقرأ تعريف القرآن كما يأتي: «الكتاب الذي يحتوي على الوحي الذي يظن محمد أنه أنزل عليه، وهو كتاب أساسي في دين المحمديين». يلحظ المتتبع أن المعجم أيضا كتاب فيه أفكار معينة مما يعني اقتناء هذه التعاريف بحذر شديد. والإسبان اليوم مهتمون بشكل كبير بمعاجمهم ونادراً ما تجد بيتاً من دون معجم. والغريب أن أهم معجم إسباني يعرّف شخص الحبيب كما يأتي: إنسان كسلان وغافل (descuidado y gandul). ووضعوا لها في البداية أنها صفة وليست اسم علم. ويتساءل الإنسان العاقل ألا توجد كلمات أخرى لإعطاء الشروح نفسها في لغة تعدُّ من أغنى اللغات في العالم؟ إن الهدف واضح وتفسّره الكلماتُ التي تعقب كلمة محمد mahometano محمدي mahometismo ويقصدون بها الإسلام كما فعلوا بـ cristianismo…
ما نود توضيحه هنا هو أن هذه المعاجم لا تعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعد الإسلام عبارة عن secta وهي تعني عقيدة خاصة لبعض المؤمنين في دين يعده المتكلم كاذبا(1) أي أن هذا الدين غير صحيح وباطل. وهي في كل تعاريفها تتكلم على دين محمد وكأنه جاء به من غير وحي، ونسوا أن الله تعالى قال: ( ( ( ( ( ( ( [النجم:4]
المبحث الثاني
كلمة عن السيرة:
__________
(1) Real Academia Espa?ola, Diccionario de la lengua espa?ola, .Espasa Calpe, Madrid
الأكاديمية الملكية ، معجم اللغة الأسانية ، دار إسباسا كالبي ، مدريد ، 1992م .(41/2)
يقول بعض الباحثين(1): "تسلسل مدلول "السيرة" اللغوي من (المسلك) أو (طريقة الحياة). والمعنيان يعدان تطورا طبيعيا للأصل سير أي (سلك) أو (ذهب في الأرض). وفي القرآن الكريم نجد الكلمة قد وردت في موضع واحد (في سورة طه في الآية 21): ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( .
فدلت من خلال سياقها في الآية الكريمة على الهيئة والحالة. والذي استقر عليه الاصطلاح في العصور المتأخرة هو: تسليط الضوء على حياة شخص ما من يوم مولده إلى يوم وفاته، مع قراءة شخصيته على ضوء الأحداث التي مر بها.
وإذا كان الجميع – تقريبا – يتفق على هذا القدر من التعريف لمعنى "السيرة" فإن هناك وجهات نظر متعددة تتعلق بتفاصيل هذا المضمون المعرفي… فأول ما يثار حوله مِنْ تساؤلات: أية تسمية هي الأوفق "السيرة" أم "الترجمة"؟.. وتساؤل آخر يتعلق بطبيعتها: أين يجب تصنيفها؟
يقول إحسان عباس في كتابه فن السيرة(2) « ففي أحضان التاريخ إذن نشأت السيرة وترعرعت، واتخذت سمتا واضحا، وتأثرت بمفهومات الناس عنه على مر العصور، وتشكلت بحسب تلك المفهمومات، فكانت تسجيلا للأعمال والأحداث والحروب المتصلة بالملوك عند الصينيين والمصريين والأشوريين».
__________
(1) الأستاذة مهدية أمنوح في بحث لها لم ينشر بعد تحت عنوان : "بين الإقصاء والإثبات : قراءة في كتابات إسبانية عن السيرة النبوية"؛ إحسان عباس ، فن السيرة ، بيروت ، دار الثقافة ، 1956م ، عبد المتعال محمد الجبري ، السيرة النبوية وأوهام المستشرقين ، القاهرة مكتبة وهبة ، 1988م .
(2) إحسان عباس : فن السيرة : بيروت ، دار الثقافة ، 1956م ، ص9 .(41/3)
وهناك مقولة أخرى للباحث محمد بيومي مهران(1): «ولا ريب في أن الدراسات التي تبحث في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه، إنما هي من أعلى الكتابات منزلة، وأكرمها موضوعاً، وأحلاها أخباراً، وأنداها على القلوب المؤمنة روحاً وذكراً، وقد فطن لذلك الحافظ الذهبي فأنزلها المنزلة التي تليق بها، عندما أخذ في تصنيف المؤلفات التاريخية، وما تنطوي عليه من فنون، فأعطى فن السيرة الأولوية في تصنيفه الذي عدد فيه أربعة فنون، تنتهي في موضوعها إلى علم التاريخ، وتدخل في حيز المؤلفات التاريخية».
صحيح أن السيرة - عموماً - قد ابتعدت عن هذا الأصل التاريخي، حين أصبحت غايتها تعليمية أو أخلاقية، ولكن الطابع الغالب على السيرة هو ذلك الفضاء التاريخي الذي يعرض للفرد في نطاق المجتمع، ويعرض الأعمال الجليلة التي قام بها والتي تكون سببا في تغيير مجتمع ما.
وإذا ما أردنا أن نربط موضوع السيرة بسيرة خير رسول، فإن المرء يجزم أن السيرة النبوية جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة بل البشرية كلها. نحن نميل إذن مع رأي بعض الباحثين (أمينة الصاوي وعبد العزيز شرف ومحمد عبد المنعم خفاجي)(2) في أن السيرة النبوية تلخص لنا فترة زاهرة من تاريخ الأمة الإسلامية، بل هي منبع تاريخ الإنسانية كلها. ونضيف إلى ذلك كلمة الشيخ محمد علي الحركان(3) الذي قال: «وسيرته - صلى الله عليه وسلم - هي أقواله وأفعاله وأخلاقه الكريمة وهي الرسالة التي حملها الرسول الكريم إلى المجتمع البشري»(4).
__________
(1) محمد بيومي مهران: السيرة النبوية الشريفة، بيروت، دار النهضة العربية، 1990م، ص9.
(2) أمينة الصاوي، وعبد العزيز شرف ومحمد عبد المنعم خفاجي، السيرة النبوية والإعلام الإسلامي، مكتبة مصر (بدون سنة).
(3) صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، 1996 م، دار المؤيد، ص، 5.
(4) نفس المصدر، ص، 15.(41/4)
وقد كان محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أول من استعمل كلمة "سيرة" وقصد بها حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتتلمذ على يديه كل من موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق والحق كما ذكر بعض الباحثين(1) "أن فضل هؤلاء الثلاثة لا ينكر على السيرة النبوية".
المبحث الثالث: المستشرقون الإسبان والسيرة النبوية
اهتم الغربيون بتدوين سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبترجمتها. وقد كانوا واعين بالمستوى الرفيع للمسلمين، ولهذا لم يكن بدٌّ من محاربتهم بالسيف والقلم، وذلك بدراسة القرآن الكريم وحياة الرسول العظيم.
بدأ اهتمام الإسبان بالسيرة والحديث النبويين منذ القرن التاسع الميلادي. وكان أول من أدخل هذه العلوم إلى إسبانيا السوري صعصعة ابن سلام(2) (807م).
وقد اهتم الإسبان بحادث الإسراء والمعراج على نحوٍ يلفت نظر الباحث. وسنخصص فقرات من هذا البحث لهذا الموضوع. هذا الاهتمام زاد عند الإسبان على غيرهم لأسباب نوردها تباعاً:
القرب الجغرافي من المسلمين فهم يبتعدون عن أول بلد مسلم بخمسة عشر كيلومتراً فقط.
الصراع التاريخي بين الإسبان والمسلمين عموماً والمغاربة خصوصاً.
التاريخ المشترك بين المسلمين والإسبان (لا يمكن أحداً مسح ثماني قرون من ذاكرته؛ لأنه اشترك فيها مع أجناس آخرين).
__________
(1) أمينة الصاوي وعبد العزيز شرف ومحمد عبد المنعم خفاجي، السيرة النبوية والإعلام الإسلامي، مكتبة مصر (بدون سنة)، ص356 وأيضا محمد بيومي مهران في الصفحات 38-42.
(2) El Fathi, Abderrahman El libro de la Escala de Mahoma: relacines y contextos espa?oles del Medievo y del Renacimiento, Universidad Abdelmalek Essadi. Tetu?n, . p?s. .
الفتحي عبد الرحمن، كتاب إسراء ومعراج محمد، علاقات وقرائن إسبانية للعصر الوسيط وعصر النهضة، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، 2003م.(41/5)
الدور الرائد للكنيسة (إلى يومنا هذا) في اتخاذ القرارات التي تهم البلاد ومن جملتها التعرف على شخص الرسول للنيل منه وزرع الفتنة بين أتباعه.
وجود عدد هائل من المستشرقين والمنصرين الإسبان على أرض المغرب إبان عهد الحماية واشتغالهم بترجمة ما يهمهم من الإسلام.
فالمدرسة الإسبانية _ " تتميز عن غيرها من المدارس الأوربية بعكوفها على الإنتاج الفكري الذي تركه المسلمون في إسبانيا. ومن ثمة أتيحت للإسبان فرصة تأسيس دراسات تاريخية – فكرية – نقدية اعتمادا على الوثائق والآثار الشاهدة وليس على الفرض والتخمين. بالإضافة إلى الثنائية الأولى (ذات/آخر) يأتي الوجه الآخر للإشكالية وهو (سيرة/تأريخ) = (سيرة/استشراق)"(1).
فالإسبان ليسوا أغراراً بل لديهم زخم هائل من المعلومات والدراسات، فلا عجب أن نقرأ لأحدهم مثل هذا الكلام(2):
« C?mo hemos de entender a fondo nuestra historia nacional, ni escribirla con acierto, sin tener un verdadero conocimiento de los ritos y creencia de los ?rabes ? ».
"كيف بنا نعرف تاريخنا بعمق أو ندونه على حقيقته إذا لم يكن لدينا علم (دراية) حقيقي بمعتقدات ودين المسلمين (العرب)".
الفصل الثاني:
الكتابات الإسبانية للسيرة: دراسة ونقد:
المبحث الأول: اهتمامات الباحثين الإسبان بالسيرة إلى غضون القرن التاسع عشر:
__________
(1) مهدية أمنوح، "بين الإقصاء والإثبات : قراءة في كتابات إسبانية عن السيرة النبوية"، ماثلة للطبع.
(2) مقدمة كتاب "ملخص تاريخي لحياة النبي غير الحقيقي (الكاذب) محمد" وهو في الحقيقة "تنبيه المترجم للقراء".
Pastoret, Compendio hist?rico de la vida del falso profeta Mahoma, Madrid, p. .(41/6)
قال الباحث الإسباني F?rneas (1) عند تقديمه كتاب "الإنجيل والقرآن": "لن يكون للحضارة الإسلامية وجود بدون قرآن " وبدون سيرة لن نفهم هذا القرآن الكريم. هذه حقيقة لا أحد ينكرها.
إن الحضارة العريقة للأندلس اهتمت بسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودليلنا كثرة المصادر التي تتحدث عن شخصه - صلى الله عليه وسلم -. إلا أنه ومع كل هذا نميل إلى ما قيل من كون هذه المصادر قليلة بالمقارنة مع ما يتوقعه الباحث. فنادراً ما تجد كتابا جامعا شاملا لسيرة المصطفى، إلا إن كان مترجماً من الفرنسية أو الإنكليزية: " إن الباحث عن المصادر الإسبانية التي تؤرخ لشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تقرؤها (بأسلوب فكري) لا يجد القدر الذي يتصوره، بل يحصل على أسماء قليلة، وذلك مقارنة مع ما يكون في أقطار أخرى (مثل فرنسا، ألمانيا…) كما يُحال على مصادر لو توجه قبلتها لخرج الموضوع عن هدفه ولما تمكن من شيء".
كل ما قلناه لا يلغي مشاركة بعض الأندلسيين في تدوين السيرة العطرة على نحو ما نجد عند الفقيه عبد الملك بن حبيب الألبيري، الذي تناول السيرة على نحو مفصل، وأبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي البلنسي(2) واهتمامهم أيضا بكتب الرعيل الأول من مؤلفي السيرة العطرة.
كتاب الإسراء والمعراج:
__________
(1) Jomier, Jacques, Biblia y Cor?n, traducci?n espa?ola F?rneas, José Mar?a, Madrid, Raz?n y Fe, , (pr?logo del traductor) .
(2) أمينة الصاوي وعبد العزيز شرف ومحمد عبد المنعم خفاجي، السيرة النبوية والإعلام الإسلامي، مكتبة مصر (بدون سنة)، ص 358 و360.(41/7)
ترجم حادث الإسراء والمعراج(1) إلى اللغة الإسبانية في عهد الملك ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم. وقد ترجمه أبراهام الحكيم الملقب بالطليطلي في 1264م. حيث قام بعمل جبار على حد قول النقاد. فقد جمع العديد من الروايات المتداولة في الأندلس لعدم توفره على مخطوطات أصلية، وأنجز على ضوئها كتاب الإسراء والمعراج.
والمثير للغرابة أن حادث الإسراء والمعراج لم يشرب من منبعه، وإنما شربه المستشرقون عموما من كؤوس باريسية أو بريطانية أو إيطالية(2): إنَّ حدث الإسراء والمعراج في صيغته المعروفة الآن في الغرب وصل إلينا عن طريق مخطوطات باريس وأكسفورد والفاتيكان، وكلها مخطوطات مترجمة من اللاتينية أو البروفنسال (لغة كانت متداولة في إسبانيا).
ولكي نعرف الأفكار التي تروج من خلال هذا الكتاب نورد بعض الملاحظات كما جاءت في كتاب عبد الرحمن الفتحي وكتاب الإسراء والمعراج (دار Siruela). فأولى هذه الملاحظات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في دار زوجه أم هانئ ليلة الإسراء. ثانيها كون الترجمات تحفظت في مسألة رفعه - صلى الله عليه وسلم - إلى سدرة المنتهى ودنوه من الخالق سبحانه وتعالى. ثالثها: إسهابها في وصف جهنم متغافلة حقيقة ما جاء في الأحداث الحقيقية. إضافة إلى كل هذا لم تورد العديد من الترجمات وحتى الأصل اللاتيني حقيقة أو جملة من الحقائق التالية:
الصلاة التي صلاها الصادق الأمين.
تغاضت الطرف أيضاً عن إمامته بالرسل الكرام.
ذكر الأنهار الأربعة الموجودة في الجنة.
رؤيته مالكاً خازن النار.
__________
(1) للمزيد من المعلومات يجب الرجوع إلى Libro de la Escala de Mahoma, Madrid, Siruela, .(pr?logo)
(2) El Fathi, Abderrahman El libro de la Escala de Mahoma: relacines y contextos espa?oles del Medievo y del Renacimiento, Universidad Abdelmalek Essadi. Tetu?n, , pp. .(41/8)
الحوار الذي دار بين الله تعالى ونبيه وخليله(1).
إن الله سبحانه وتعالى أسرى بعبده ورسوله كما جاء في آي القرآن الكريم والسنة العطرة، وعرج به - صلى الله عليه وسلم - إلى السموات العلا ليطلع على عجائب الملكوت كما قال تعالى: ( ( ( ( ( [الإسراء:1].
إن حادث الإسراء والمعراج الذي جعل منه الغرب كتاباً، وصوَّروا لبعض قرائه أنه "كتاب مقدس" للمسلمين هو حدث أراد به بعض المستشرقين النيل من هذا الدين ويمكن أن ندخلهم في كلمة للشيخ محمد الغزالي حين قال: " إن الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث، وهي أبعد أن تكون عن بيئة العلم والتجرد، وجمهرة المستشرقين مستأجرون لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه(2)". فالعديد من الباحثين المسلمين ينعتون هذا الكتاب بالمتزن والحيادي ولا أراهم اطلعوا عليه كله.
وقد أثر الحادث في المؤلفات الأدبية والشعرية في إسبانيا، حتى إن الباحث لا يحصي تلك المؤلفات لكثرتها سواء في العصر الوسيط أو عصر النهضة(3) عندهم. ولكي لا أطيل كثيراً أورد مجموعة من الكتاب الذين كتبوا عن الإسراء والمعراج(4): ألبرو دي كوردوبا، بيدرو دي بينرابلي، ريكلدو دي منتكرسي، سان بيدر بسكوال والكاردينال خوا دي توركمادا ?lvaro de C?rdoba, Pedro el Venerable, Ricoldo de Montecroce, San Pedro Pascual, El cardenal Juan de Torquemada…
__________
(1) للمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى كتاب عبد الرحمن الفتحي.
(2) محمد الغزالي، دفاع عن العقيدة و الشريعة ضد مطاعن المستشرقين، نهضة مصر للطباعة والنشر، 1999م مقدمة الطبعة الخامسة.
(3) لا أرى هذا التقسيم يهم الحضارة الإسلامية لأنها في غنى عنه.
(4) للمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى كتاب عبد الرحمن الفتحي.(41/9)
يضيف الباحثون كتاباً يتميز -كما قالت أمنوح – "بإبعاد الآخر بعنف شديد ومبالغ فيه. والنماذج على هذا كثيرة، وأبرزها ما جاء في كتاب Verdadero car?cter de Mahoma y de su religi?n justa idea de
este falso profeta sin alavarle con exceso ni deprimirle con odio
المميزة الحقيقية لمحمد ولدينه، الفكرة البارزة لهذا النبي غير الحقيقي، من دون مبالغة في مدحه أو كراهية لحطه وهو لسانطوطوماس دي أكينو Santo Thomas de Aquino .ولا يحتاج الأمر هنا إلى استنطاق نصوص وتأويل عسير بل عناوين البحوث صارخة من خلال مفاتيحها "Falso Profeta" (النبي المكذوب = المدعي = غير الحقيقي) وهو حكم يهدف إلى إبعاد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الحق وإبعاد الحق عن النبي..وإبعاد الفكرة الدينية الإسلامية عن الواقع المسيحي (وبخاصة إسبانيا) وذلك بالتنفير منها.
إقصاء الآخر بالتماس التسويغ؛ لأن شريعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيها الخطر الكبير والنبي ذاته خطر على الإسبان، ودائما مع التماس نوع من التسويغ الذي يقود إلى التناقض: Falso? Sin odio: أي غير حقيقي دون كراهية. كما أن هاجس الإقصاء (وليس الإلغاء) يقود إلى استعمال المنهج الإسقاطي وسيلة (وهي وسيلة هشة جداً) للتخلص من الطارئ المزعج الأمر الذي يسبب الوقوع في أخطاء كثيرة في مواضع عدة، وبخاصة منها ما يحتاج إلى توثيق: أسماء، وأحداث، وتواريخ…(41/10)
في الصفحة الأولى لهذا الكتاب نقرأ ما يلي: " ذلك الإنسان (يقصد النبي) المشهور بسلاحه وبسرعة فتوحاته ...والذي لا يسقط السلاح الأبيض من يديه، قد وجد أقلام كتاب تدافع عنه بالرغم من أنهم لم يعصبوا له عمامته". إن هذا الكاتب قد غاظه الحال عندما وجد أقلاماً منصفة من بني جلدته وهم يدافعون عن نبي الهدى. فحقده صار مضاعفا وهجومه زاد شراسة لعدم استقطابه هذه الأقلام. بل الأكثر من هذا كتابته في الصفحة (17) " أن الكتابة في هذا الموضوع (سيرة النبي) هو مضيعة للوقت "لأنه لا يستحق اهتماما. ويتساءل الإنسان العاقل كيف بنا ننتقد رسولا كريما ونحن لا نعرف حتى لغته؟ وحتى لو كان من أبناء هذه اللغة، أنملك القدرة على فهم كل ما جاء في هذا الدين إن لم نكن قد تتلمذنا على أيادي علماء مخلصين؟
فهذا الإلغاء للآخر يأتي حسب علماء النفس من ذلك الخوف الكبير الذي يجده ذلك الإنسان في نقصانه. فهو يرى سرعة انتشار الإسلام وكثرة أتباعه وبالرغم من هذا يقول في الصفحة (213): "إن قانون محمد فيه أكاذيب كثيرة ومعتقدات ضد القانون الطبيعي بالرغم من كل هذا يتمسك المورو (المسلم) بها ...إن هذا المورو بليد؛ لأن جمال الدين لا يُرى من خلال ملاحظات أساتذته ولكن من خلال قداسة قانونه".
لقد كان الغرب عموما في صراع كبير مع الذات، وقد كان رجال الدين عندهم عاجزين عن إرجاع الناس إلى تدينهم بعد القطيعة التي عرفوها مع معتقداتهم، فكان الحل الوحيد عندهم هو الهجوم على الإسلام والمسلمين. وهيهات هيهات أن يحصلوا على مبتغاهم، فهذا الدين حفظه الله كما حفظ الذكر الحكيم (سنعود للرد على كتاب أكينوس في المبحث الرابع من الفصل الثاني).
المبحث الثاني: القرن العشرين قرن الاهتمام بالسيرة:
1- دراسات أنجزت في أمريكا الجنوبية:(41/11)
في سنة 1990م أصدرت دار النشر Editorial de Ciencias Sociales la Habana كتابا تحت عنوان محمد والعرب(1) لكاتبه Waldo D?as Garc?a وقد كان الكتاب مليئا بالمغالطات والسب والقذف والنيل من شخص رسولنا - صلى الله عليه وسلم -. ويعد الكتاب نموذجا للكتابات غير العقلانية. ففي الصفحة (135) يقول الكاتب: «إن النبي ترعرع في وسط يسوده الشرك بالله، وبتأثير من اليهودية والنصرانية استطاع أن يصل إلى حقيقة وجود إله واحد". وتحت عنوان اليهودية والنصرانية في شخص محمد قال الكاتب: "عن طريق تأثره بالمسيحية والنصرانية تأكد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلي:
وجود إله واحد عليم لا شريك له (إله النصارى ـ على حد قوله ـ يؤمن بالثالوث ولكنه في الأصل إله واحد).
أن الله خلق السموات والأرض والإنسان.
أن الإنسان عند موته سيكون مآله إما إلى الجنة في حال إيمانه، أو إلى النار في حال جحوده.
أن الملائكة خلائق موجودة.
تجنب النجاسات في اللباس عندما يكون العبد في اتصال مع الله. (ص 138).
ماذا يقصد الكاتب بكل هذه العبارات؟ يود D?az Garc?aإيصال فكرة واضحة المعالم: وهي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عن اليهود والنصارى. إن الكاتب لم يقرأ نبوات عيسى وموسى عليهما السلام. يعقب محمد رضا على مثل هذه الأقاويل الكاذبة بنصوص قطعية مستمدة من التوراة والإنجيل: فعيسى عليه السلام يقول: (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم فارقليطا آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم وفيكم)(2).
__________
(1) Waldo D?az Garc?a, Mahoma y los ?rabes, Editorial de Ciencias
. , p Sociales la Habana,
(2) محمد رضا، محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بيروت، دار الكتب العلمية، ص 55.(41/12)
وجاء في وصية موسى عليه السلام (جاء الرب من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار. أحب الشعوب جميع الأطهار بيده والذين يقتربون من رجليه يقبلون من تعليمه) ويضيف محمد رضا أيضا: إن الله سبحانه وتعالى أخبر أن عيسى عليه السلام بشر بالصادق الأمين في سورة الصف: ( ( ( ( ( ( ( ( ([الصف:6]. إن عيسى وموسى عليهما السلام براء من هذه الأكاذيب وإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقرأ ولم يكتب قط في حياته كما قلنا في دراسة فائتة:
" إنه مما لا شك فيه أن القرآن الكريم نزل على خير من طلعت عليه الشمس - صلى الله عليه وسلم - وقد كان الحبيب أميا ودليلنا آيات كثيرة من آي القرآن منها الآيتان (157-158) من سورة الأعراف. وقد أكد الطبيب موريس بوكاي أنه في "كل مرة يتم فيها التأكيد أمام علماء الغرب على هذه الصفة في شخصية محمد، مقارنة بالقيمة الأدبية الرفيعة للقرآن، يثير هذا اهتماما كبيرا مما يبين استحالة أن يكون النبي هو مؤلف القرآن على عكس ما يزعمون في كثير من الأحيان في الغرب. فإذا لم تترجم كلمة أمي إلى Illiterate وإلى كلمة مماثلة فإن هذه الصفة الأساسية من صفات النبي يتم إخفاؤها". وقد حذا المترجمون الإسبان حذو المترجمين الأوروبيين الذين أبوا إلا أن يخفوا حقيقة ثابتة في القرآن والسنة. هذه الترجمة gentiles التي تعني كما قال الطبيب "نبي الوثنيين" تدل على غياب النزاهة العلمية عند هؤلاء المترجمين وغلبة الفكر التعصبي الذي لن يؤدي إلا إلى المزيد من التباعد بين المسلمين وغيرهم لأن هذا "الخطأ" الفادح يؤدي إلى المساس بجوهر الرسالة والإيمان بها"…وقبل أن نغلق باب هذا الموضوع الخطير لا بد أن نشير إلى الشروحات والتفسيرات التي يعطيها أبناء جلدتنا قاصدين من ورائها النيل من الإسلام والمسلمين. هؤلاء - للأسف الشديد - نثق بهم و هم يسقوننا سُمًّا مازجين معه العسل.(41/13)
يقول محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن"(1) "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً، ولكنه يعرف الكتابة والقراءة". أمي بالنسبة لهذا القائل تعني الإنسان الجاهل بكتب النصارى واليهود. وأيضاً الإنسان الذي لا ينتمي لهاتين الفئتين، فالمهندس والطبيب والمحامي إذا لم يكونوا يهوداً أو نصارى يعدون من الأميين.
فالنبي إذن كان عربيا ولا يعرف كتب أهل الكتاب فهو إذن ليس أميا. هذا التحليل المسموم لقي إقبالاً وترحاباً كبيرا من طرف المستشرقين الذين أصبحوا يعتمدون عليه للرد على أقوال المسلمين "(2).
إضافة إلى ما سردناه سابقا نقرأ في كتاب "محمد والعرب" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغير بعض الحقائق طبقا للفترة الزمنية التي يعيش فيها: فآيات خلق الإنسان تتغير ويعاد فيها النظر تباعا ودليله ما يأتي: في سورة العلق
[الآية: 2] يقول الله تعالى: ( ( ( ( ( ( وفي سورة الطارق [الآية: 6،7] تغير المفهوم وأصبح كالآتي ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( وفي سورة القيامة [الآية: 37-38] نجد مفهوما آخر على حد تعبيره ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( وفي سورة الحجر [الآية: 28] يقول الحق سبحانه وتعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [الفرقان: 54] فكل هذه الآيات في نظره متناقضة ولا انسجام بينها. وقد تغافل كغيره من الباحثين عن أسباب النزول والتفريق بين الآيات المكية والمدنية، ولا أظنه قرأ القرآن أصلا، وإنما أخذ هذه الأفكار من مفكرين سبقوه كويل وبلاشير ونلدكي وغيرهم من أساتذة نشر البهتان والمعلومات الخاطئة.
__________
(1) شحرور محمد، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة، دمشق، 1994م، ص 139-143.
(2) محمد برادة، "دراسة ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الإسبانية"، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 2002، ص.(41/14)
وتحت عنوان "الصراع الديني"، ويقصد به غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يقول فيه: "لم يقبل اليهود بالدين الجديد، ولم يعتنقوا الإسلام، مما جعلهم يخيبون آمال الرسول، واليهود أيضا تأكدوا من أن الرسول لن يتبع ملتهم. لقد صبر اليهود كثيرا على المسلمين وبعد ذلك دخلوا في صراع معهم. فنعتوا النبي بالكاذب ولم يصدقوا أن الآيات والسور التي تتحدث عن أنبياء بني إسرائيل تنزل من عند الله، وبخاصة السور التي تتكلم على سيدنا موسى وإبراهيم عليهما السلام وأضافوا أن القرآن مليء بالأكاذيب والأخطاء " (ص 161). وتكلم أيضا على استعمار مكة عوض فتح مكة (ص 189). أما عن رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح إلى المدينة فقد قال فيه:" فقد كانت (العودة) لخوفه من المسلمين الجدد في مكة فهو ليس في أمان؛ ولهذا لابد له من العودة إلى المدينة للعيش مع الأمناء والمؤمنين حقاً، وأيضاً من أجل نشر الإسلام بين القبائل الأخرى".
أما موته - صلى الله عليه وسلم - فيقول فيه: إن عمر بن الخطاب أخبر الصحابة بوفاته مذكرا إياهم بالآية التالية: ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( [آل عمران: 144].
وأكد في كتابه أن الناس رجعوا إلى عاداتهم الجاهلية، وأن المهاجرين بحكم حسدهم لابد سيفرضون وجهة نظرهم لاختيار الخليفة منهم.(41/15)
إن المستشرقين الإسبان واللاتينيين يرغبون بكل الوسائل في إيقاف نشر هذا الدين، ويركزون على الهجوم عليه في شخص رسوله، دون إعطاء أي دليل علمي لذلك. فكل دارس للسيرة العطرة يعرف أن أبا بكر هو الذي قال قولته المشهورة: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". فعمر كما نعلم أراد أن يقتل من يشيع خبر وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجد أبا بكر يذكِّره بالآية التي سردناها من آل عمران. أما خليفة المسلمين فكلنا يعلم أن أبا بكر كان الأحق بها، ولاسيما أنه رفيق الحبيب في الغار، بل الأكثر من هذا أمره بالصلاة عندما كان مريضاً في آخر حياته. فكيف لا يرضى المسلمون بأبي بكر ليسير لهم أمور دنياهم وقد رضيه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً؟
أما عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة خوفا من بطش أهل مكة فلنعد أولاً لما كتبه المباركفوري(1) الذي قال: "ولما تم فتح مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
-وهي بلده ووطنه ومولده– قال الأنصار فيما بينهم: أترون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها – وهو يدعو على الصفا رافعا يديه – فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم". إضافة إلى ما قلنا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عاش في مكة ثلاث عشرة سنة وكان معه مجموعة قليلة من الصحابة، أما الآن وبعد فتح مكة فالمسلمون كثر، والدولة قوية، والعدل موجود، والأمان أيضاً، فكيف ستسول نفس هذا الإنسان له أن ينوي القيام بهذا الفعل وهو يعلم العواقب الوخيمة لهذا الجرم.
__________
(1) صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، 1996م، دار المؤيد، ص408.(41/16)
أما كنسينس(1) Cansinos الذي ألف كتابا تحت عنوان "محمد والقرآن" فقد فاق دياز في الكذب والبهتان والتهجم على شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالإمكان محاكمته خائناً في مجال البحث العلمي ومغير لحقائق تاريخية واضحة وموثقة بالتواتر. يقول كنسينس "إن سيرة محمد كسيرة الرجال الكبار من أمثال موسى وبوذا تظهر عليها غمامات ونوع من الغموض والظلامية. وهذا راجع إلى غياب الكتابات المعاصرة، للتناقضات التي حوكمت بها تصرفاته " ثم يضيف كلاما يجرح شعور كل مسلم: "بداية أود أن أقول: إننا نتكلم على إنسان مصطنع، يريد خدع الآخرين بأهداف باطلة وطموحات شخصية ومع ذلك يناقش الناس القيمة الحقيقية لمؤلفه. هل هو فعلا عبقري؟" (ص: 35).
كل صفحات الكتاب منها طعنات قوية تُسيل دماء ضعاف العلم، وتجعل القارئ الإسباني أمام وابل من المعلومات الخاطئة، ونقد لاذع لسيرة خير البشر. إنَّه عندما تحدث عن مولده - صلى الله عليه وسلم - ابتداء من الصفحة (44) قال: بأن طفولته مأخوذة من كتب مؤسسي الديانات الجديدة، فمولده كان في سنة معجزات: عام الفيل، قصة أمير الحبشة …
__________
(1) Cansinos-assens, Rafael, Mahoma y el Koran (biograf?a cr?tica del profeta y estudio y versi?n de su mensaje, Bell, Buenos Aires .(41/17)
كان النبي فقيرا، ولكن عائلته محترمة حتى يذكر مع نسبه العريق، وفي الوقت نفسه يكون له أتباع فقراء شأن الأنبياء. فمحمد ليس أميراً ولكنه بنسبه أنبل منهم. هذه ترهات مأخوذة من كتب مختلفة هدفها واضح كوضوح النهار. لقد خاض الكاتب في بحر عميق دون معرفة سابقة بفن السباحة، وبعد نهاية كتابة مقالاته غرق ولم يذكر في التاريخ إلا بعدم معرفته بالسباحة. أما ما ألفه فترك لينتقده الباحثون. لقد خاض أثناء سباحته في موضوع مقارنة الأنبياء الذين سبقوا النبي - صلى الله عليه وسلم -. فكلهم مُفَضَّلون عليه. أما عيسى فله رسالة سماوية لكل العالم، وهو ليس رسول الله، بل هو ابن الله. ثم يضيف في ص(167) إن محمدا هو مسيح العرب أنشأ لهم دينا، وفرضه عليهم، فهو إذن رسول عرقي étnico.
لقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة ناسخا بشريعته الشرائع الأخرى، قال تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [سبأ: 28]، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبلغ عن ربه مرشدا إلى الحق وهاديا إلى طريق مستقيم. وما كان الحبيب بدعا من الرسل؛ وإنما جاء لإتمام البناء، فهو اللبنة وهو خاتم النبيين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -. وقد ردَّ القرآن على مزاعم "مشايخ" Cansinos حينما قال:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحقاف: 9].(41/18)
وفي (ص 78) يقول الكاتب إن "اليهود دخلوا في الإسلام لأنهم اعتقدوا أن النبي هو المسيح المنتظر، فدخل بعضهم في الدين الجديد ولكن أغلبيتهم رفضوا حتى يتأكدوا من صدق نبوته، فقبل النبي لأنه فكر كرجل استراتيجي، ولكنه فرض عليهم ضريبة للبقاء على دينهم. ولكن بعد مرور العام الأول بدأ يفكر فيهم ويعاديهم حتى يؤمنوا بدينه. وقد طلبوا منه مراراً وتكراراً معجزة من السماء فرفض كما رفض في مكة فولى اليهود ظهورهم ولم يتبعوه. وبعد رفضهم هذا أخذ النبي يتخذ قرارات جذرية radicales فأمر بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بمكة ثم أذاع نشر سورة البقرة (لم تنزل في نظره) التي تفضل مكة على القدس. بعدها فرض ثلاث صلوات يومية ثم أرجعها خمسا وتباعا فرض الحج إلى مكة وصوم رمضان عوض اليوم العبراني yom kippur وختم كل هذا بالزكاة ملغيا كل الصدقات التي كانت من قبل … وفي قرآنه تناقضات منها مثلا: أن اليهود والنصارى والصابئين سيكونون من الناجين يوم القيامة، وفي أخرى يقول العكس. ويرجع تغيير العبارات في القرآن إلى حالة النبي النفسية، فكان في مكة مثلا يعطي عبارات عامة أما في المدينة فهو يتحدث كرئيس وقائد يعطي أوامر وقوانين ".
إضافة إلى هذه الكهانة والختل فهو يشير إلى أن دراسة السيرة النبوية تعني مرورك بألغام، ولا بد إذن من التأني والتفكير جيدا قبل كتابة أي شيء. نتخيل جيدا لو أن Cansinos لم يفكر جيدا قبل كتابته فيما كتب ما كان علينا إلا أن نشتري كل كتبه ونحرقها قبل أن تحرق قلوب إسبان أبرياء اطلعوا على سيرته، وظنوها المثال المقتدى به في العلم والتعلم.
2. دراسات أنجزت في إسبانيا:
تقول مهدية أمنوح: " إذا ما قرأنا هذه المصادر بحسب تتابعها الزمني نلاحظ أن الهاجس الديني والتاريخي قد طغى على المؤلفات الأولى على خلاف المتأخرة التي سوف يأطرها الغلاف الفكري على نحو أدق.(41/19)
وبعد هذا ما هو الشيء الذي يهمنا من هذه الأعمال التي عبرت عنها بـ "كتابات إسبانية"؟ إن المبحوث عنه قي هذه المادة المعرفية هو ملامح صورة معينة وموقع عنصر خاص جدا. فالبحث عن الملامح هو تحديد لحقيقة الشيء المدروس، أما البحث عن الموقع فهو ضبط للموقف تجاه المدروس. إذن فتسليط الضوء على نقطتين من هذه الدرجة: حقيقة وموقف يستحضر مجموعة من العلاقات المتشابكة فيما بينها.
فنحن إزاء ثنائية موقفية تستتبع أو تعكس ثنائية أخرى من طبيعة أكثر تعقيدا وإشكالا.
وبمعنى آخر نركز هنا على إشكالية قراءة الآخر (كتابات إسبانية) لنسيج تاريخي ليس منها وليست منه هو سيرة نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومن المعروف عند الجميع أن مخاطرات معرفية من هذا القبيل تستلزم شروطا منهجية – معرفية قاسية جدا حتى تتحقق لها صفة العلمية، وإلا كانت ضربا من العبث الذي تراكم عبر قرون في سجل علاقة الذات بالآخر والتي تمثلها ظاهرة " الاستشراق" في أجلى صورة ممكنة.
ونفوراً من هذا الاصطلاح المثقل بتبعات معرفية – أيديولوجية – سياسية..ارتأيت أن أعبر بـ"كتابات إسبانية" (وقد يدخل فيها المترجَم من لغات أخرى والمكتوب بهذه اللغة من قبل باحثين غير إسبان). كي لا أدخل في حديث شائك كله متاهات ومناقضات.
وهذا لا يعني أن الإسبان لم يساهموا في بناء هرم الاستشراق، بل كانوا من الأوائل السباقين إلى التعامل مع الدراسات الإسلامية بشكل خاص بهم."(41/20)
إن العثور على كتب أنجزها باحثون إسبان يكاد يكون أمراً مستحيلاً ومردُّ ذلك في نظرنا إلى بعض الباحثين الذين لا يرغبون في ذكر الماضي العربي الإسلامي في الأندلس. وقد لاحظنا هذه السنة (2003) مجموعة من الاحتجاجات على بناء مسجد غرناطة؛ وذلك بسبب التخوف من إعادة الذاكرة إلى الوراء. وقد علقت القناة الخامسة الإسبانية على حدث الافتتاح قائلة: بالرغم من تشييد هذه المعلمة لا يزال هناك الشيء الكثير لكي يعود الإسلام إلى الأندلس. كل هذه هواجس نفسية يعيشها بعضهم ناسين بأن التعايش الذي ساد الأندلس يُضْرب به المثل وأيضا –كما قال غيتيسولو: "لم يكن لإسبانيا ذكر في التاريخ، لولا وجود الإسلام على أرض الأندلس".
بعد بحث مستمر في مكتبات شتى عثرنا على كتاب كامل شامل يتحدث عن سيرة الحبيب المصطفى وقد نشر في سنة (1926) تحت عنوان محمد حياته والقرآن(1) لمؤلفه منترو بدال. الكتاب في مجلدين، وتطرق الكاتب فيهما لحياة خير البشر، ولتاريخ خير كتاب أنزل من فوق سبع سموات ومضمونه.
يقول الكاتب في المجلد الأول ص 255 "كاد حدث الإسراء والمعراج يقضي على دعوة الرسول، فكان أبو بكر هو المنقذ للرسول من صخب قريش واستهوائها". ثم يضيف "بفضل أبي بكر كما قلنا (كان قد ذكر الحدث في صفحات سابقة) وتعقل الرسول عندما حذف هذه القصة (الإسراء والمعراج) من القرآن الكريم وقد عدَّها رؤيا رآها، بفضل كل هذا استطاع تفادي الخطر (نهايته)".
__________
(1) Montero Vidal, José de, Mahoma su vida y el Cor?n, Madrid, Reus, .(41/21)
وفي صفحات لاحقة تكلم على إجماع كفار قريش على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعزا الفشل الفاحش لكفار قريش إلى انتشار الخبر بين أهل مكة ويضيف ساخرا "وهناك من يقول: إنه أتاه الخبر من السماء فنُجي بفضل العناية الربانية" ولكي نرد عليه نرجع إلى ((كتاب الرحيق المختوم)) ص(163) لنقرأ ما يلي: "ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على رؤوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([ ( :9] ألم تكن فعلا عناية الله سبحانه وتعالى؟ ولماذا يستهزئ هؤلاء من هذه الأخبار الصحيحة؟ ولماذا لم يأخذوا السيرة من منبعها؟ لماذا لا نترجم الكتب الإسلامية من العربية؟ لماذا ننقل الكتب الأخرى من أصولها؟ ألأنهم لا يعرفون العربية أم لغرض في نفوسهم قضوه؟
وفي المجلد الثاني تحدث عن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلمه وتواضعه ومعاملاته مع أزواجه وبناته وحفدته والأطفال الصغار وقد كان الكاتب موضوعيا -نسبيا- في كثير من الأمور. فقال في (ص232) "كان محمد يجلس على الأرض، وكان يصلح ويرفو ثوبه بيديه، وكان يشعل النار ويكنس بيته ويقضي حوائجه بنفسه …كانت الألوان المفضلة لديه الأبيض والأخضر، وكان لا يلبس الأحمر والأصفر إلا أثناء الحروب، كان يرتدي أجمل اللباس يوم الجمعة، وكان دائما يتصدق بملابسه القديمة".
قال أيضا في ص 234 بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأكل حتى يسمي الله وكان يأكل بيده اليمنى ويحث أصحابه على ذلك ويوصيهم بعدم ترك الطعام ولعق الصحن في الأخير.(41/22)
وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - يحب المساكين والفقراء ويحسن إليهم وخاصة أهل الصفة. فقد كان ينادي أحدهم للأكل معه ويرسل الآخرين إلى أصحابه. كان أيضا يحسن إلى الأطفال الصغار: "استقبله ذات يوم عبد الله بن جعفر وحفيداه الحسن والحسين، فحملهم على الجمل حتى دخلوا المدينة …وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي فجلس الحسين على ظهره، فانتظر حتى نزل الصبي".
بالإضافة إلى هذا ذكر الكاتب سؤال النبي عن أهله كل يوم، وكان يقول: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يفرق بين أحد من أصحابه، فلم يميز يوما بين عربي وعجمي ولا أبيض ولا أسود ولا ضعيف ولا فقير ولا غني ولا قوي فكان ميزانه عادلا لا يغلبه إلا الحق (ص 239).
أما زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول فيهن الكاتب: "كان لمحمد خمس عشرة امرأة، وتوفي عن تسع، عائشة وحفصة وسودة وزينب وميمونة وأم حبيبة وصفية وجويرية وأم سلمة" أما الملاحظات التي استقيناها من بحثه فهي كما يلي:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج من زينب لافتتانه بها.
لا يُسمَّى كل نساء النبي بأمهات المؤمنين فقد تحدث فقط عن عائشة وخديجة رضي الله عنهما.
أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرة جارية منهن:
ريحانة بنت عمرو يهودية من قريش، ذات جمال فتان عاشت معه طوال حياته ولم يعتقها إلا عند موته، كما فعل مع باقي الجاريات. ويضيف لاحقا "هناك من يقول إنه تزوجها عندما أسلمت" (ص 252).
لقد خاض المستشرقون في موضوع التعدد، وكتبوا فيه ما شاؤوا آملين في الوصول إلى النتيجة التي يرغبون فيها، وهي شهوانيته، وحاشى لله أن يكون الأمر كذلك، ودليلنا ما يلي:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوج قط على خديجة كما نعلم، وكان سنها يناهز الأربعين.
أن زواجه الأول كان في عنفوان شبابه، ولو كان كما قالوا لتزوج من شاء.(41/23)
لم يكن الرسول في راحة طوال حياته الدعوية، فقد كان في جهاد مستمر، ولا وقت له للتفكير فيما يظنه أهل الغرب.
كان زواجه - صلى الله عليه وسلم - لحكمة أرادها الباري تعالى: فمثلا تزوج سودة لكون زوجها توفي عند عودته من هجرته إلى الحبشة. وزوجه الله زينب بنت جحش لإبطال عادة التبني ونسخ تحريم الزواج بامرأة المتبني.
كان لجل الأنبياء نساء كثر، فلماذا يميزون بين الأنبياء؟
إن كتاب Montero Vidal فيه مجموعة من المعلومات المفيدة، استاقها الكاتب من منابع أصلية، ولكنه لم ينس قط هدفه من وراء كتابة هذه السيرة، ألا وهي النيل من الإسلام والمسلمين.
ثاني كتاب شامل ألفه (1) Machordom Comins, ?lvaro سنة (1979). وهو كذلك مترجم لمعاني القرآن الكريم.
تطرق في هذا البحث لأحداث السيرة كما جاءت في أمهات الكتب المهتمة بالموضوع. فتطرق إلى موقع العرب وأقوام العرب والديانات الموجودة هناك. ثم تحدث عن مولد الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ودعوته سرا وجهارا، وما لاقاه من إيذاء ومعاناة. كل هذا من دون المس بجوهر البحث العلمي. وسأعلق فقط على عنوان كتبه في الصفحة (127) قال فيه: معجزة واحدة: القرآن الكريم. لقد تحدى الحبيب - صلى الله عليه وسلم - كل أهل مكة، بل كل أهل الأرض أن يأتوا ولو بسورة، بل ذهب أكثر من هذا فطلب منهم الإتيان بعشر آيات، فعجزوا وولَّوا خائبين مدبرين. فجعله الله له معجزة خالدة أبد الآبدين.
__________
(1) Machordom Comins, ?lvaro, Muhammad ( ) Madrid, Fundamentos, .(41/24)
ولكن مع هذه المعجزة العظيمة هناك معجزات أخرى للحبيبب منها على سبيل المثال لا الحصر: انشقاق القمر كما قال تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [القمر: 1- 2]. ومنها أيضا نبع الماء بين أصابعه - صلى الله عليه وسلم -، وأيضا حنين الجذع كما وقع في مسجد المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وأيضا إبراء المرضى وذوي العاهات، وإنزال المطر بدعائه وتكثير الطعام في أكثر من موضع كما وقع في غزوة الخندق (1) …
فهذه كلها معجزات ما وجدناها في كتب السير التي كتبها الإسبان.
بالإضافة إلى هذين الكتابين اهتم الإسبان بالسيرة عن طريق مقالات أو فصول خاصة بهذا الغرض. وسنعرج للحديث عن بعضها لأن إحصاءها كلها ضرب من الخيال.
أولى هذه البحوث نقرؤها في كتاب تصحيحي(2)، هدف من خلاله مؤلفه تغيير مفاهيم خاطئة من الكتب المدرسية الإسبانية. ويتضح ذلك جليا من خلال عنوان الكتاب Mahoma y el Islam en los manuales de Bachillerato espa?ol وقد كانت تكلفة طبع الكتاب على نفقة فاعل خير من المملكة كما كتب المؤلف في المقدمة.
راجع الكاتب حوالي (168) كتابا مدرسيا ليرى إلى أي حد يتوافق ما كتب وما تزود به التلميذ الإسباني مع الحقائق الإسلامية. وخلص إلى ما يلي:
أن الكتب تتحدث عن جزيرة عربية مليئة بالرحل.
أن سكان الجزيرة العربية ينهبون ويقتلون ويثأرون لأنفسهم.
أن محمداً بدأ دعوته من المدينة حيث أسس دولة عوض التقسيمات السياسية بين القبائل.
انتشر الإسلام بحد السيف عن طريق الجهاد guerra santa.
دخل العرب التاريخ عن طريق عبقرية محمد السياسية والدينية.
__________
(1) طه عبد الرؤوف سعد وسعد حسن محمد علي، معجزات النبي وسيرته، مكتبة الصفا، 2002م.
(2) Darek Nyumba, Grafesa, Mahoma y el Islam en los manuales de bachillerato espa?ol, .(41/25)
وقد رد الكاتب على هذه المزاعم وصحح مفاهيم مغلوطة وأفكارا خاطئة لجيل الغد، عسى ألا تبقى مادة التاريخ الإسلامي معلقة وسببا في عدم وجود حوار حقيقي مع الغرب عموما والإسبان خصوصا.
وبعد ذلك بخمس عشرة سنة، نشر مركز التعاون الدولي بمدريد كتابا يحمل بصمات العديد من الباحثين(1). وقد كان بمنزلة معين للأساتذة على فهم صحيح للإسلام والمسلمين. وهكذا سهر هؤلاء الباحثون على تقديم معلومات للأساتذة، حتى يلقنوا تلامذتهم علما صحيحا يفهمون في ضوئه سيرة الصادق الأمين.
في هذا الكتاب نقرأ أكاذيب تروج بين التلاميذ والطلبة من مثل:
أن القرآن كتبه محمد في إبان دعوته الدينية.
دخول الناس في دين الله أفواجاً.
أن الجهاد ركن من أركان الإسلام. وعلى المسلم نشر الدين بالقوة.
أن العرب كانوا معتادين الحرب. فمعتقداتهم كانت بدائية.
تصدت الباحثة القديرة Gema Mart?n وآخرين لمثل هذه الأكاذيب ولخصوا إثر ذلك حياة خير البشر. فأشاروا إلى المعاناة التي لاقاها النبي وأصحابه، ولخصوا ركائز الإسلام الخمس. ولا تخلو هذه التصحيحات من هفوات:كإرجاع النصر والتمكين لشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ناسين أو متناسين رعاية الله تعالى وإرشاده لنبيه.
في سنة (2000) تم نشر أحد أخطر كتب الاستشراق(2). وقد تعمد فيه الكاتب العنف والتطاول؛ لأنه خرج من قلم خبيث أراد الضرب الموجع، وظن المسكين أن الضربة ستكون قاضية. ولكن لم يستطع إقناع بني جلدته ودخل معهم في عراك سبب له في الأخير عزلة في قسمه بجامعة أوتونما بمدريد في انتظار عزله عن العالم الثقافي إجمالا.
__________
(1) Mart?n Mu?oz y Otros, El Islam y el mundo ?rabe gu?a did?ctica para profesores y formadores, Agencia espa?ola de Cooperaci?n Internacional, Madrid, .
(2) Fanjul Seraf?n, Al- Andalus contra Espa?a: la forja del mito, siglo veintiuno, .(41/26)
وقد عنون الكتاب بما يلي: Al- Andalus contra Espa?a: la forja del mito وفيه أماط بنفسه اللثام عن وجهه وأظهر حقيقته العارية. فقد أقحم في هذا الكتاب كل النصوص السلبية في التاريخ ليعزز فكرته القائلة بأن إسبانيا لم تعش أبدا تاريخا عربيا ولا تعايشت مع ديانات أخرى. ولنأخذ مثالاً على ذلك وهو عن الصادق الأمين الذي ظل يرقى – كما قال الغزالي رحمه الله-في مدارج الكمال حتى بلغ شأوا من سناء القلب واللب، وجلال الخلق والعمل لم يعرف لأحد من المستقدمين والمستأخرين. قلت: جمع هذا "الباحث" نصوصاً لتوضيح ما يكن لنبينا من ضغن وإنكار. فقد كتب في ص (41) ما يلي: "في كتاب Primera Cr?nica General نجد نقدا صريحا ومباشرا للإسلام وقد بدأ تدوين الكتاب سنة 1269 إلا أن الفصول المتعلقة بمحمد -كما قال- Menéndez Pidal كتبت بمداد الملك ألفونسو الملقب بالحكيم …وتبعا لموقف الكنيسة الكاثوليكية، فألفونسو لا يعترف بذرَّة واحدة من صدق محمد، ولا يقبل حتى تحركه بنية صادقة. إنه النبي الكاذب بكل تأكيد، وإجرامه يتمثل في إنشاء دين يتسم بالإفك".
وفي معرض حديثه عن الإسراء والمعراج لخص ما جاء في كتاب Estoria de Espa?a حيث عدَّ بعض من الباحثين الحدث كأكذوبة وسخرية واستهتار ونوع من ملء القرآن للفراغ الذي لحقه لغياب قصص عن حياة الرسول.
أما ألفونسو العاشر فقد صوره الكاتب كالعدو اللدود للرسول. وهكذا يعد الحكيم محمدا رجلا كذابا لسببين اثنين: أولهما لكون الملك مسيحياً وثانيهما لكونه ورث عرش الآباء وهو يعي المسؤولية التي على عاتقه، حيث لا بد من معاداة الإسلام والمسلمين ويركز الكاتب على الفترة الزمنية.(41/27)
وفي كتاب آخر La Primera cr?nica سرد الكاتب ما ورد من حادثة الإسراء والمعراج. وعرف الأخطاء الكثيرة في الكتاب منها أن النبي غزا دمشق، وأنه (مؤلف La Primera cr?nica) لا يميز ما بين خديجة و هداية (عمة الرسول) وأن النبي في هذا الظرف الحرج تلقى الوحي واستغله فيما بعد لدعوته.
وفي النهاية قتل محمد شر قتلة مسموماً، ولم يَفِ بوعده بعودته إلى الحياة بعد ثلاثة أيام.
وقد أسس ألفونسو العاشر –على حد تعبير فنخول في مدينة إشبيلية مدرسة لتعلم اللغة اللاتينية والعربية. وقال الكاتب أن مردَّ ذلك هو التفكير المصلحي؛ لأن الأساتذة العرب في ذلك الوقت كانت لهم تخصصات علمية لا يتوفر عليها الإسبان كالطب.
بالإضافة إلى كل هذا هناك سب وقذف ونيل من شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد بحث الكاتب عن هذه النصوص وقرأها قراءته الشاذة حتى لا تبقى "أسطورة" التعايش بين الديانات والأجناس، ولاسيما في بلده إسبانيا.
كل هذه الأفكار مدحوضة ومردودة عليه، ودليلنا أن الملك ألفونسو لم يكن فقط مهتما بالتراث الإسلامي بل كان شغوفا به(1). وقد ساهم في إنجاح مدرسة طليطلة للترجمة، إحدى أهم المدارس في العالم وقد كان يعمل فيها مسلمون ويهود ونصارى. وقد أمر الملك بترجمة التراث الإسلامي بما فيه من فن وأدب وتاريخ … أما الكتب التي ذكر Fanjul فهي فعلا تحوي العديد من المغالطات، وفيها سب وقذف للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد انتقدها العديد من الباحثين القدامى والمستحدثين.
__________
(1) للمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى:
Barrada, Mohammed, Traducciones del alcor?n: lingü?stica y estil?stica, Tesis doctoral , pp: .(41/28)
إنFanjul كان يعيش عزلة لا مثيل لها ولكي يخرج منها وتعود له الأضواء، كما كانت من قبل ارتأى كتابة كتاب لسب الإسلام والمسلمين؛ لأنه هو الوحيد الكفيل بشهرته. فالإسلام أصبح اليوم تجارة يربح من خلاله ذوي الضمائر الميتة قوتا حراما يقدمونه لأفواه المتعلمين والعنصريين.
3- دراسات مترجمة:
اشتهر الإسبان بترجمة الكتب في القرن الماضي. وعدد الكتب المترجمة في هذا البلد يفوق بكثير ما يترجم في العالم العربي بأسره. فالترجمة أصبحت سلاحا فتاكا في عصرنا الراهن. من جملة الكتب المترجمة مجموعة كتب ومقالات تتحدث عن حياة خير البشر - صلى الله عليه وسلم -. سنقتصر على ذكر ثلاثة منها وهي كالآتي:
Para comprender las religiones en nuestro tiempo (1)
لكي نفهم الديانات في عصرنا الراهن.
Compendio hist?rico de la vida del falso profeta Mahoma(2) ملخص تاريخي لحياة النبي غير الحقيقي محمد..
Mahoma (3) محمد.
إن من يطلع على سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجده ذلك الرجل الكامل بأخلاقه وحلمه وجهاده وعدله. ولكن إذا كان القارئ أعمى فكيف سيرى هذا الكمال وهذا الجمال؟. لقد ترجم الإسبان كتبا للدفع بعجلة الحقد والكراهية إلى الأمام. فترجموا الكتاب الثاني الذي سردناه ولم يوردوا حتى اسم المترجم لغرض في نفوسهم. وقد ترجمه لصدق الانتقادات الموجودة فيه كما ورد في مقدمة المترجم. ولكيلا أطيل كثيراً أسرد خصائص هذا الكتاب:
لم يُذكر النبي في كل الكتاب إلا مصحوباً بالكذاب (falso apostol).
__________
(1) Samuel, Albert, Para comprender las religiones en nuestro tiempo, Navarra, Verbo Divino, .
(2) DJDT, Compendio historico de la vida del falso profeta Mahoma, Oficina de Don Antonio de Sancha.
(3) Rodinson, Maxime, mahoma, Biblioteca Eva.(41/29)
كون النبي استغل ذكاءه في نشر دينه. فهو إنسان مثل أهل مكة، ولكنه استطاع بفضل قراءته بعض أمثلة الإنجيل التعالي عليهم وقيادتهم.
إعطاء صبغة القداسة للقرآن حتى يثق الناس في صدق نبوته.
عدم انسجام أفكار محمد لعدم تخميره إياها.
الاستهزاء باللغة العربية عدّها دون المستوى.
أما الكتابان الآخران فقد كانا أقل عنفا، ووصف في أحدهما الصادق الأمين بكونه كاهنا، وأنه كان يمر بأزمة نفسية خطيرة. يقول الكاتب:
no sabemos cu?ndo comenz? a retirarse habitualmente en una caverna de la colina de Hira a pocos quil?metros al noreste de Macca, una de esas monta?as ?ridas y desnudas, de fealdad absoluta, con matices sucios o mon?tonos, que alteraban el amarillo sucio, el casta?o p?lido y sucio y un gris opaco, seg?n las vio Charles Huber poco antes de morir (Rodinson, p.) .
هذا وصف للمكان الذي كان يخلو فيه الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم -: جبال قاحلة وعارية، قبيحة المنظر، ذات ألوان باهتة وشاحبة، بها ملل ورتابة … وكأن الكاتب يريد أن يقول من خلال هذا الوصف كيف تتوقعون الرجل الذي يوجد في هذا المكان؟ وما الأفكار التي سيأتي بها من هذا المكان؟ ومباشرة يقول: "إن فلاسفة القرن 18 والمتدينين المسيحيين يعدّون محمداً المثال الحقيقي للدجال" (ص 83).
وقد ازداد سيلان لعابه مع الاسترسال في الكتابة فخاض في الموضوعات التي ظنها تلبي رغباته، فكتب عن زواج النبي، وفكره الاشتراكي …
4- دراسات كتبها مسلمون في الغرب:(41/30)
لقد كثر الباحثون في زماننا هذا وكثرت معهم الفتن، فأخذ أحدهم يُشَرِّق والآخر يُغَرِّب، ولا مناص من هذا. في ظل هذا الإنتاج الغزير يتساءل العاقل أين نحن من كل هذا؟ أين هم كتابنا حتى يردوا على هؤلاء؟ الكثير من كتابنا وعقلائنا منشغلون بردّ بعضهم على بعض. انشغلنا بأنفسنا وبالبحث عن عيوب بعضنا، ونسينا الدفاع عن ديننا ومقدساتنا. وقليلة هي الأقلام التي كتبت عن سيرة الحبيب بالإسبانية وأظنّ أنها لا تكاد تتعدّى خمسة كتب. والغريب أنها لم تردّ ولو جزئياً على هذه الافتراءات والأكاذيب التي مر عليها زمن طويل. وأهم هذه الكتابات(1) – التي لا تجدها في مكتبات أو جامعات أو معاهد وإنما عليك أن تطلبها من أحد خازنيها - تلك التي نشرها مركز سهيل الإسلامي. وتتسم هذه الكتابات بالنزاهة والتدقيق في الحقائق وأيضا بالقراءة المستفيضة للحدث مع إعطاء عبر وعظات منه. والمؤاخذة الوحيدة على هذه الكتابات هو عدم توزيعها والاستفادة منها. فعلى ذوي النيات الحسنة التدخل لنشر سيرة صحيحة للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
الكتاب الأول تحت عنوان أضواء على حياة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لمؤلفه محمد كمال مصطفى، وقام بترجمته ماهر العزيز، فهو إذن كتاب مترجم. بدأ الكاتب بالحديث عن دور السيرة في فهم دين الإسلام. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عبقريا بل كان رسول الله بوحي ومعونة من الله.
__________
(1) محمد كمال مصطفى، أضواء على سيرة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، برشلونة، دار الكتاب العربي 2000م.
Maher Safi, Muhammad el enviado de Dios, Centro Isl?mico en Espa?a
محمد كمال و Nicolas Nebot، محمد - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي وقف له التاريخ.(41/31)
وفي الفصل الأول تحدث محمد كمال عن ميلاد خاتم النبيين والمرسلين وبدأ كلامه بالآية الكريمة:( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 56]. ليذكرنا بالمكانة الرفيعة لهذا الرسول العظيم، ثم استرسل في الحديث عن ميلاد خير البشر والأنوار التي أضيئت يوم مولده إيذانا بمقدم الصادق الأمين.
وفي معرض حديثه عن بداية الدعوة أورد العصبية التي دافعت عنها قريش ووقوفهم ضد نصرة الحق ودين الإسلام. بل الأكثر من هذا (انظر ص790) أفاض في الحديث عن إيذاء الصحابة الأبرار الذين مافتئوا يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - النصرة من الله. وكان جوابه - صلى الله عليه وسلم - أن يصبروا؛ لأن سلعة الله غالية، ومن أراد الجنة فعليه بالتحمل في هذه الدار الفانية.
وبعد حفظ الله لرسوله عند المؤامرة الكبرى هاجر - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ليبني بها دولته ومجتمعه الجديد. وقد قسم الشيخ كمال هذه الحقبة إلى عشرة فصول ليلخص كل سنة في فصل مستقل. ففي السنة الأولى أنعم الله على المؤمنين بالطمأنينة التي افتقدوها في مكة فأمر الله نبيه بزيادة عدد الركعات عند صلاة الظهر والعصر والعشاء. كما أوجب الله تعالى صلاة الجمعة في هذه السنة. وفي السنة الثانية أمر الله نبيه بتغيير القبلة نحو بيت الله الحرام، وفي هذه السنة أيضا أظهر الله دينه الحق في غزوة بدر. وفي الفصل الثالث تحدث محمد كمال عن غزوة أحد والهزيمة التي مني بها المسلمون عندما عصوا أوامر رسولهم. واسترسل في سرد الأحداث واستنباط العظات حتى وصل إلى آخر فصل عند حجة الوداع ومفارقة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - لهذه الدنيا بعد أن أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده.(41/32)
أما الكتاب الثاني محمد - صلى الله عليه وسلم -: الرجل الذي وقف له التاريخ فهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة. أبان فيه محمد كمال مصطفى ونكلاس نيبت محنة بعض الصحابة الأطهار كعبدالله بن جحش وأبي لبابة بن المنذر وغيرهم، الذين اختاروا الله والدار الآخرة على البقاء في هذه الدنيا التي لا تساوي جناح بعوضة. عبد الله بن جحش كان يمتلك بيتا في مكة وعند الهجرة إلى دار الإسلام أخذها أبو سفيان وباعها. يخلص الكاتبان إلى أن المؤمن عليه أن يجعل الله غايته، فيجعله وكيلاً وحافظاً ومعيناً ورازقاً.
بالإضافة إلى هذه المعاني الجليلة يستخلص القارئ مجموعة من العبر والعظات من سيرة الصادق الأمين والجيل القرآني الفريد.
المبحث الثالث
1- مقدمات لترجمات القرآن الكريم:
اهتم المترجمون بسيرة الحبيب ووضعوا في مقدمتهم ملخصا لحياته - صلى الله عليه وسلم -. وسنلقي الضوء على نموذج من ذلك، وهو مقدمة Cortés و Vernet.
أ- مقدمة كرتيس للقرآن:
خصص Cortés عشر صفحات في مقدمة ترجمته للحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلالها ركز على خمس نقاط:
المولد وأربعون سنة قبل البعثة.
بداية الإسلام.
قرآن مكة وقرآن المدينة.
غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ملخص هذه السيرة - التي يقرؤها العديد من الإسبان لثقتهم في المؤلف - لا تخلو من معلومات خاطئة منها:
إعطاؤه دورا كبيرا للمسيحيين في بداية الدعوة (دور بحيرى وورقة بن نوفل).
أن دعوة النبي استمرت (20) سنة بدل (23).
يشكك في كثير من الحقائق التاريخية عن طريق إعطاء معلومات إضافية مزيفة.
ب- مقدمة برنيت (Vernet):(41/33)
لم تخل مقدمة ترجمة Vernet من افتراءات على الإسلام وعلى رسول الهدى ولهذا لا محيص من إماطة اللثام عن وجهه وإبراز "حقائقه". فهو يقول بأن الرسول هو مؤلف القرآن الكريم وبكونه كان يعتمد على الحفاظ والرواة بالرغم من تعلمه. فهو بالتالي ليس أمياً.
بالإضافة إلى ما ذكرناه نختم بمجموعة من المراجع التي تحدثت عن الصادق الأمين فهناك:
Cuende Mar?a التي كتبت Aspectos del monote?smo de Mahoma ونشر في1995م Bolet?n de la Asociaci?n espa?ola de Orientalistas
Morales Artega, Teresita الذي كتب Dos profetas regatean por un pueblo, Abrahan y Mahoma, Actes du VI symposium international d'études morisque
Ridha Mami, الذي كتب Los milagros del profeta Mahoma en algunos manuscritos moriscos,
Lugo Acevedo, Mar?a Luisa, التي كتبت La imagen lun?nica de (leyenda aljamiada sobre la Mahoma en el“Libro de las luces”: geneolog?a de Mahoma
Juan, Vernet الذي كتب Mahoma ونشره في 1987م.
المبحث الرابع: التطبيقات العملية للسيرة النبوية في الغرب
إن كثيرا من أهل العلم حرموا الهجرة إلى ديار الغرب لخوفهم من ضياع الدين. وقد كانوا محقين إلى درجة كبيرة. فهناك العديد من المسلمين تنصروا وآخرين يسخرون من دين الله. أما الأبناء فحدث ولا حرج: أطفال بلا هوية ولا عقيدة ولا علم ولا حياء ولا سمت ولا أي خصلة من الخصال الحميدة. إن المسلم سفير للإسلام أينما حل وارتحل وإذا أردنا من خلال هذه الدراسة تبيان حقيقة الكتابات حول السيرة فلا بد لنا أيضا من وقفة مع سيرة المهاجرين الذين - أبيْنَا أم أحببنا- خربوا الدار والنفوس. فالمهاجر المسلم في إسبانيا أصبح رمزا للسرقة والاغتصاب والوسخ والجهل … والإسبان البسطاء يظنون أن هذه الرذائل مستمدة من القرآن وسيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ، وهما بريئان من كل هذا.(41/34)
ماذا نريد أن نقول بعد كل هذا، على الغُيُر على هذا الدين نشر كتب للسيرة للأطفال المهاجرين بأسلوب إسباني بسيط ومفهوم حتى يستوعبوا دروسا من سيرة خير البشر، وإلا فسنعرض هؤلاء الأبناء إلى مزيد من الإهمال ومزيد من الضياع. ولم لا يُقام بزيارات للمؤسسات الإسبانية في إطار التعاون الثقافي وإبلاغ هؤلاء الشباب والتلاميذ بالدور الذي يجب أن يقوموا به في إسبانيا. هذه تطبيقات عملية لسيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في الغرب عموما وإسبانيا خصوصا.
خاتمة
لقد قمنا في هذا البحث بسرد أغلب الكتب الإسبانية التي تطرقت لسيرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -. وفي غياب دراسات عميقة ونزيهة لسيرته فإن أغلب ما كتب إلى اليوم لا يرقى إلى شخصه - صلى الله عليه وسلم -. والأمر –كما قال الغزالي- أكبر من أن تناقش فيه قوما بينهم وبين الحق أشواط وأشواط …إن ذلك كإقناع اللصوص بنزاهة رجال الشرطة، أو إقناع الملحدين باستقامة أهل الإيمان. وكم كنت أتمنى أن نجد شرطة قوية ومخلصة لتوقف أهل الغرب الذين يسوقون بدون رخصة. فهم يخوضون في موضوع كبير يهم أكثر من مليار مسلم من دون موضوعية ولا إنصاف.
في هذا البحث تطرقنا لمفهوم السيرة، وأعطينا نماذج من الكتب التي اهتمت بسيرة الحبيب ابتداء من القرن التاسع الميلادي، وخلصنا إلى نتيجة واحدة وهي عدم نزاهة أغلبية الباحثين في موضوع السيرة، وأرجعنا ذلك إلى عدم أخذهم المعلومات من منبعها الأصلي وأيضا لحاجتهم إلى تشويه صورة الإسلام في شخص نبي الرحمة المهداة - صلى الله عليه وسلم -.
وأخيرا أقترح مراجعة ما كتب عن السيرة، والدفع بمشروع كبير شبيه بترجمات القرآن لكي يجد القارئ نصا يعتمد عليه في دينه ودنياه. وأيضا كي لا يبقى الطفل المسلم حبيس ما ينشره الغرب من تشويه وافتراء ودجل.
المصادر والمراجع
مراجع عربية:
بين الإقصاء والإثبات، مهدية أمنوح، " قراءة في كتابات إسبانية عن السيرة النبوية"، ماثلة للطبع.(41/35)
دراسة ترجمات القرآن الكريم إلى اللغة الإسبانية، محمد برادة، ندوة ترجمات القرآن الكريم: تقويم للماضي، وتخطيط للمستقبل، المدينة المنورة، 2002م.
دفاع عن العقيدة و الشريعة ضد مطاعن المستشرقين، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، 1999م.
الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار المؤيد،1996م.
السيرة النبوية الشريفة، محمد بيومي مهران، بيروت، دار النهضة العربية، 1990م.
السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، مهدي رضا الله، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1992م.
السيرة النبوية والإعلام الإسلامي، أمينة الصاوي وعبدالعزيز شرف ومحمد عبدالمنعم خفاجي، مكتبة مصر (بدون ذكر سنة النشر).
السيرة النبوية وأوهام المستشرقين، عبدالمتعال محمد الجبري، القاهرة، مكتبة وهبة، 1988م.
صور من حياة الرسول، أمين دويدار، القاهرة، دار المعارف، الطبعة الخامسة.
فن السيرة، إحسان عباس، بيروت، دار الثقافة، 1956م.
الكتاب والقرآن، شحرور محمد، قراءة معاصرة، دمشق، 1994م.
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محمد رضا، بيروت، دار الكتب العلمية.
معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، طه عبد الرؤوف سعد وسعد حسن محمد علي، القاهرة، مكتبة الصفا، 2001م.
مراجع بلغات أخرى:
Barrada, Mohammed, Traducciones del alcor?n: lingü?stica y estil?stica, Tesis doctoral , pp:.
Bernabé, Luis y De Epalza M?kel, Novedades bibliogr?ficas sobre el Cor?n y Mahoma, Separat de la revista Sharq al- andalus n°5 de la Universidad de Alicante,
.
Buena Ventura de Siena, Libro de la Escala de Mahoma, Madrid, Siruela,.
Cansinos-assens, Rafael, Mahoma y el Koran (biograf?a cr?tica del profeta y estudio y versi?n de su mensaje), Bell, Buenos Aires.
Cortes, Julio, El Cor?n, Barcelona, Herder,.(41/36)
- Darek Nyumba, Mahoma y el Islam en los manuales de bachillerato espa?ol, Grafesa,.
De Mora, Joaquin, Cuadernos de la historia de los ?rabes, Murcia.
El Fathi, Abderrahman El libro de la Escala de Mahoma: relacines y contextos espa?oles del Medievo y del Renacimiento, Universidad Abdelmalek Essadi. Tetu?n, .
Jomier, Jacques, Biblia y Cor?n, traducci?n espa?ola F?rneas, José Mar?a, Madrid, Raz?n y Fe, .
Klabund, Mahoma: la novela de un profeta
Machordom Comins, ?lvaro, Muhammad () profeta de Dios, Madrid, Fundamentos,
Mart?n Mu?oz y Otros, El Islam y el mundo ?rabe gu?a did?ctica para profesores y formadores, Agencia espa?ola de Cooperaci?n Internacional, Madrid, .
Montero Vidal, José de, Mahoma su vida y el Cor?n, Madrid, Reus, .
Pastoret, Compendio hist[orico de la vida del falso profeta Mahoma, Oficina deDon Antonio de Sancha.
Real Academia Espa?ola (), Diccionario de la lengua espa?ola, Espasa Calpe, Madrid .
Rodinson, Maxime, mahoma, Biblioteca Eva.
Samuel, Albert, Para comprender las religiones en nuestro tiempo, Navarra, Verbo Divino, .
Seraf?n, Fanjul Al- Andalus contra Espa?a: la forja del mito, siglo veintiuno,.
Safi, Maher, Muhammad, Centro Isl?mico en Espa?a.
Mohamed Kamal Mostafa, Luces sobre la vida del profeta Muhammad, La Casa del Libro ?rabe,.
Vernet, Juan, El Cor?n. Introducci?n y notas de Juan Vernet, Barcelona, Planeta,.
Waldo D?az Garc?a, Mahoma y los ?rabes, Editorial de Ciencias Sociales la Habana,.
فهرس الموضوعات
الفصل الأول…1
1- تمهيد:…1
المبحث الأول: كلمة عن المعاجم…3
المبحث الثاني: كلمة عن السيرة …5(41/37)
المبحث الثالث: المستشرقون الإسبان والسيرة النبوية…8
الفصل الثاني: الكتابات الإسبانية للسيرة: دراسة ونقد…10
المبحث الأول: اهتمامات الباحثين الإسبان بالسيرة إلى غضون القرن
التاسع عشر:…10
كتاب الإسراء والمعراج:…11
المبحث الثاني: القرن العشرين قرن الاهتمام بالسيرة:…17
1- دراسات أنجزت في أمريكا الجنوبية:…17
2. دراسات أنجزت في إسبانيا:…27
3- دراسات مترجمة:…39
4- دراسات كتبها مسلمون في الغرب:…41
المبحث الثالث…45
1- مقدمات لترجمات القرآن الكريم:…45
أ- مقدمة كرتيس للقرآن:…45
ب- مقدمة برنيت (Vernet):…46
المبحث الرابع: التطبيقات العملية للسيرة النبوية في الغرب…47
خاتمة:…48
المصادر والمراجع…49
مراجع عربية:…49
مراجع بلغات أخرى:…51
فهرس الموضوعات…53(41/38)
دور الجامعات بالمملكة في خدمة السنة والسيرة النبوية
إعداد الدكتور
عبدالله بن عبدالمحسن التويجري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً وبعد:
فإن من فضل الله على الإنسان أن يأخذ بيده إلى سبيل المؤمنين، وأن يقفو به أثر سيد المرسلين، ويجعله من خَدَمة سنته، وهذه حال المحدثين منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، فهم ولله الحمد من خير طوائف أهل الإسلام، ولذا كان عدد من المحدثين يتمثَّل بهذه الأبيات:
دين النبي محمد أخبار
... نِعْمَ المطية للفتى آثار
لا تعدلنَّ عن الحديثِ وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
ولربماَ غَلط الفتى أثرَ الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار(1)
كما كان من فضل الله عليَّ أن سلكت جادة أولئك، فأحسن القائمون على ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية الظن بي - أثابهم الله - فرشحوني للكتابة في أحد موضوعات هذه الندوة المباركة - بإذن الله - وأرجو أن أكون عند حسن ظنهم.
__________
(1) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/149).(42/1)
والموضوع الذي رغبوا أن أكتب عنه هو الموضوع الخامس من موضوعات المحور الثالث، وعنوانه «دور الجامعات بالمملكة في خدمة السنة والسيرة النبوية» وهو موضوع لا يقل أهمية عن بقية موضوعات الندوة المهمة، كيف لا ؟ وهو يتعلَّق بدور هذه المؤسسات التعليمية الكبيرة، والأثر الذي تركته في هذا المجال، ويلقي الضوء أيضاً على بعض جوانب النقص والخلل التي ينبغي تداركها، فما من شك أنَّ ما يُعرض في مثل هذه الندوات لا يقتصر على بيان المزايا فقط، بل يتعداه إلى تصوير الواقع، ليتم تعزيز الإيجابيات ومعالجة السلبيات، أو الحدُّ من آثارها. وما ميَّز الله به هذه البلاد من التمسك بكتاب الله والاهتداء بسنة نبيه يجعل مسؤوليتها في العناية بهذين الوحيين، وتنشئة المجتمع على أحكامهما مسؤولية كبيرة، والجامعات هي أولى المؤسسات لتحقيق هذا الهدف العظيم، وتوجيه المجتمع إلى معالمهما.
إنني حين كلفت ببيان هذا الدور الكبير، وبعد التصور الإجمالي لجوانب الموضوع، اتضح لي أنه واسع مترامي الأطراف، ومتشعب الأجزاء، إذ إن الجهود والمناشط التي تقوم بها جامعة واحدة في هذا المجال تحتاج إلى أضعاف صفحات هذا البحث، فكيف بثمان جامعات، والمقام لا يسمح بمثل هذا البسط والتطويل ؟ ولذا حاولت الإجمال قدر الإمكان، وأن أرسم صورة متكاملة موجزة في عناصره التي سأذكرها في هذه المقدمة بعد قليل بإذن الله تعالى، وقد دفعني أيضاً إلى هذا الإجمال أن عدداً من عناصره سيتطرق لها بعض الأساتذة الكرام في بحوثهم التي سيقدِّمونها في الندوة على مستوى محاور بحوث الندوة جميعاً.
إنني وبعد استعراض لجملة البرامج والمناشط التي تقوم بها الجامعات، والتي تشتمل على خدمة السنة والسيرة النبوية، خلصتُ إلى أنها تنتظم تحت العناصر الآتية التي ذكرتها في خطتي للبحث التي تتكون من مقدِّمة وخمسة أبواب وخاتمة وفهارس وهي:
أولاً: المقدمة، وفيها بيان أهمية الموضوع وعناصره وخطة العمل فيه.(42/2)
ثانياً: الباب الأول: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال التدريس، ويشتمل على الفصول التالية:-
1- إنشاء الكليات والأقسام العلمية المتخصصة.
2- وضع المناهج التي تعنى بالسنة في المراحل الجامعية.
3- تخريج المتخصصين في المرحلة الجامعية والعليا.
4- عقد الدورات المتخصصة داخل وخارج المملكة.
5- تحقيق شمولية العمل بالسنة بمفهومها العام في الاعتقاد والأحكام والآداب.
6- إظهار تميز البحث في السنة والسيرة النبوية عما سواها.
ثالثاً: الباب الثاني: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال التأليف، ويشتمل على الفصول التالية:
1- إعداد الرسائل العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
2- إعداد البحوث العلمية المقدمة للمجالس والمراكز والمجلات العلمية.
3- تأليف الكتب العلمية ونشرها .
رابعاً: الباب الثالث: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال توفير الوسائل المعينة على المعرفة والفهم والتحقق، ويشتمل على الفصول التالية:
1- العناية بجمع كتب السنة والسيرة النبوية من مطبوعات ومخطوطات وتيسير وصول الباحثين إليها.
2- العناية بالفنون الخادمة للسنة والسيرة النبوية.
3- العناية بالمصطلحات المتعلقة بالسنة والسيرة النبوية.
4- توفير البرامج الحاسوبية التي تخدم البحث في مجال السنة والسيرة النبوية.
خامساً: الباب الرابع: تبادل الخبرات مع المؤسسات التعليمية والجامعات ومراكز البحوث، ويشتمل على الفصول التالية:
1- مساهمة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات في وضع وتقويم المناهج والخطط التعليمية.
2- إيفاد الأساتذة للتدريس في الجامعات والمؤسسات التعليمية داخل المملكة وخارجها.
3- الارتباط بمراكز البحث والمعلومات عن طريق الشبكة الحاسوبية.
سادساً: الباب الخامس: المناشط العامة، ويشتمل على فصلين هما:
1- المناشط التي تقدم من خلال وحدات الجامعة ومنها:
(أ) عقد المؤتمرات والندوات وإلقاء المحاضرات.(42/3)
(ب) إنشاء الجمعيات العلمية والمراكز المتخصصة.
(ج) عقد المسابقات الثقافية.
2- المناشط التي تقدم من خلال أساتذة الجامعة ومنها:
(أ) جهود الأساتذة عبر وسائل الإعلام المختلفة.
(ب) جهود الأساتذة عبر المشاركة في المناشط الدعوية.
سابعاً: الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها في البحث.
ثامناً: الفهارس العامة وهي:
1- فهرس المصادر والمراجع.
2- فهرس الموضوعات.
بيدَ أنه ينبغي أن يُعلم أن من أبرز المصاعب التي واجهتني في الحصول على بعض المادة العلمية افتقارها إلى المراجع التي يمكن الرجوع إليها، إذ إن أكثر هذه المادة مودعة في مستندات رسمية لدى الإدارات المختصة في الجامعات كالمقررات الدراسية، أو مناشط تم التنويه بها في وقتها في وسائل الإعلام فيصعب حصرها، إلا أنني استطعت بفضل الله أن أقلل من أثر هذه المشكلة، وأن ألمَّ شتات المادة العلمية اعتماداً على الله ثم - على الوسائل التالية:
1- مخاطبة سعادة وكلاء الجامعات للدراسات العليا والبحث العلمي للحصول عن طريقهم على بعض ما أحتاج إليه مما هو مسجل في المستندات الرسمية للجامعات، فتفضل بعضهم بالرد على الخطاب مع تزويدي ببعض المواد التي أحتاجها أثابهم الله، وقد ألحقت في نهاية هذا البحث نماذج من تلك المخاطبات.
2- تصفح مواقع الجامعات في شبكة المعلومات الدولية ((الإنترنت)) ولاسيما وأن بعض وكلاء الجامعات أطالوا على مواقع جامعاتهم في الشبكة، والحق يقال: إن بعض هذه المواقع غني بالمعلومات، وقد استفدت - بحمد الله - منه كثيراً.(42/4)
3- أن بعض المعلومات معروف لدى جلِّ الناس كوجود كليات أو أقسام، أو تقديم برامج ومناشط مشهورة، كبرامج الإعلام ومناشط وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وكان دوري هو تنظيم هذه المادة العلمية ووضعها في قوالب مناسبة يظهر معها جهود هذه الجامعات ودورها المميز، إذ قد يجهل الكثير أن هذه الأسماء التي تشارك في تلك البرامج والمناشط لأساتذة في الجامعات.
وفي الختام أسأل الله التوفيق والسداد وأن يغفر لي زللي وجهلي وما هو أعلم به مني، ولا أنسى أن أزجي الشكر للمسؤولين في الندوة الذين أحسنوا الظن بي، وقاموا على هذا المشروع المبارك، فأسأل الله أن يأجر الجميع، وأن يبارك في الجهود، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتب
د.عبدالله بن عبدالمحسن التويجري
الباب الأول: خدمة الجامعات للسنة والسيرةالنبوية في مجال التدريس
ويشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: إنشاء الكليات والأقسام العلمية المتخصصة:
بلغت عناية الجامعات بالسنة والسيرة إلى حدِّ إنشاء كليات وأقسام علمية متخصصة في الدراسات العليا بشكل خاص، وفي مرحلة البكالوريوس بشكل أقل، وهذا نتج عنه - بفضل الله - تخريج جيل متخصص يعرف مصطلحات المحدثين، ويغوص في مصنفاتهم لاستخراج مكنوناتها وينشر تلك الدرر. فعمَّ هذا الأثر المبارك أرجاء هذه البلاد الطيبة خاصة، وعموم بلاد المسلمين في أنحاء العالم التي تفرَّق فيها خريجو هذه الجامعات من تلك التخصصات، فعرف الناس كثيراً من السنن التي كانوا يجهلونها، ورأوا التطبيق الصحيح لها، وأهمُّ من ذلك أن تعرَّفوا على أدلة عباداتهم واعتقاداتهم، فالصحيح منها يقبل ويعمل به، وغير الصحيح يرد ويترك العمل به.(42/5)
ومما لا شك فيه أن الكلية المتخصصة - غالباً - أعمق وأقوى وأكثر شمولاً من القسم المتخصص ، وهذا أمكن من شعبة داخل قسم ، أو قسم مشترك، وأقلُّ من ذلك الاقتصار على بعض المواد التخصصية التي يدرسها الطالب ضمن خطته الدراسية، وعليه فسأذكر فيما يلي واقع الجامعات في ضوء التقسيم الآنف فأقول:
أولاً: إنشاء كلية متخصصة:
وهذا ما قامت به الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، حيث أنشأت كلية الحديث الشريف بالأمر السامي الكريم رقم 15653 وتاريخ 23/6/1396هـ ، وبدأت الدراسة فيها في 24/10/1396هـ ، وتهدف الكلية إلى العناية بالسنة النبوية وخدمتها والمحافظة عليها، والذبِّ عنها، وتأهيل العلماء المتمكنين في مجال السنة النبوية وعلومها، وتضم قسمين علميين هما:
أ- قسم فقه السنة ومصادرها، ويدخل في اختصاصه المواد التالية: الحديث، ودراسات في كتب السنة، وتدوين السنة.
ب- قسم علوم الحديث، ويدخل في اختصاصه المواد التالية: مصطلح الحديث، والجرح والتعديل، ورواة الحديث وطبقاتهم، والوضع والوضاعون، والتخريج ودراسة الأسانيد.
وتمنح الكلية درجة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في التخصصات المتاحة بها.
ثانياً: إنشاء قسم متخصص:
وهذا ما قامت به عدد من الجامعات، ودور هذا - القسم غالباً - وضع المناهج المتعلقة بالتخصص وإيجاد الأساتذة الذين يدرسونها ومنح الدرجات العلمية الجامعية والعليا، كما يناط به القيام بأي برنامج أو منشط له تعلُّق بالتخصص، مثل المؤتمرات والندوات والمسابقات والاستشارات وغيرها. وبإلقاء نظرة إلى الأقسام في الجامعات نجد الأقسام التالية:(42/6)
أ- قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض والذي نشأ أولاً في كلية الشريعة بالرياض تحت مسمى قسم الكتاب والسنة ، ثم أنشئت كلية أصول الدين في عام 1396هـ ، وضمَّت ثلاثة أقسام هي: قسم التفسير ، والحديث ، والعقيدة والمذاهب المعاصرة . علماً بأن المرحلة الجامعية عبارة عن قسم عام ، وإنما يكون التخصص في الدراسات العليا.
ثم في عام 1401هـ تمّ تقسيم الكلية إلى ثلاثة أقسام جامعية، وأعيد تسمية قسمي التفسير والحديث لتصبح أقسام الكلية على النحو التالي :
- قسم القرآن وعلومه.
- قسم السنة وعلومها.
- قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة.
واستمرَّ الأمر على ذلك حتى عام 1418هـ حيث أعيد دمج الأقسام في المرحلة الجامعية ليعود التخصص للدراسات العليا فقط.
ومما ينبغي أن يُعلم أن قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام يعد أكبر الأقسام المتخصصة في جامعات المملكة حيث بلغ عدد طلاب وطالبات القسم في الفصل الأول عام 1418هـ ألفين ومئتين واثنين وأربعين طالباً وطالبة(1)، وهذا رقم كبير لا تصل إليه كليات كثيرة في جامعات عريقة، ولذا فقد تخرَّج فيه بفضل الله آلاف الطلاب والطالبات في المرحلة الجامعية، كما تخرَّج فيه مئات في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
ب- قسم السنة وعلومها بجامعة الملك خالد بأبها، وهو قسم أكاديمي ضمن أقسام كلية الشريعة وأصول الدين، وأصل هذا القسم قد نشأ مع نشأة الكلية عام 1396هـ بموجب الأمر السامي رقم 3/ج/20527 وتاريخ 26/8/1396هـ حين كانت تابعة لفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في أبها والذي تم ضمه إلى فرع جامعة الملك سعود بالمنطقة ليصبحا جامعة جديدة وذلك بتاريخ 9/1/1419هـ تحت مسمى "جامعة الملك خالد"، وهذا القسم لا يمنح درجات علمية، وإنما يُعْنى بوضع الخطط والمناهج وتدريس المواد المتعلقة بالتخصص نفسه .
__________
(1) نقلاً عن البيان الإحصائي الصادر من الكلية للفصل الدراسي الأول عام 1418هـ.(42/7)
جـ- قسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى، وهو قسم من أقسام كلية الدعوة وأصول الدين التي أنشئت في العام الجامعي 1401/1402 هـ، وهو قسم يمنح درجة البكالوريوس في الكتاب والسنة، وكذلك الماجستير والدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، والحديث وعلومه، كما أنه يعنى بكل ما يتعلَّق بهذا التخصص من وضع الخطط والمناهج وتدريس المواد والإشراف على الرسائل والبحوث العلمية ومناقشتها، وكل ما يتعلَّق بذلك من مناشط وبرامج.
ثالثاً: إنشاء شعبة في قسم متخصص أو كون التخصص جزءاً منه:
وهذا في مثل جامعة الملك سعود بالرياض، حيث أنشئ قسم الثقافة الإسلامية ضمن أقسام كلية التربية في العام الجامعي 1393/1394هـ ويضم القسم ثلاثة مسارات هي:
- قسم التفسير والحديث.
- قسم العقيدة.
- قسم الفقه وأصوله.
ويتولى القسم تخريج طلاب وطالبات في درجة البكالوريوس في تلك التخصصات، وفي السنوات الأخيرة بدأ القسم الدراسة في مرحلة الماجستير.
كما أن القسم يتولى وضع مناهج وتدريس المواد الشرعية لعموم طلاب الجامعة حيث إن منها متطلبات أساسية للجامعة.
الفصل الثاني: وضع المناهج التي تعنى بالسنة في المراحل الجامعية.(42/8)
تقدَّم في الفصل السابق أن الجامعة الإسلامية خصصت كلية للحديث، بينما خصصت جامعة الإمام قسماً، وقريباً منها جامعة الملك خالد وجامعة أم القرى،وهذه ستكون أكثر من غيرها فيما يتعلَّق بمناهج السنة والسيرة لعمق التخصص وسعته، كما أن أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الأخرى عنيت أيضاً بوضع مناهج في السنة والسيرة تدرس لطلابها، وبعرض طائفة من هذه المناهج والمقررات في مرحلة البكالوريوس - مع بيان الجامعات التي تدرس تلك المقررات - يتبين مدى العناية التي أولتها جامعات المملكة - ولله الحمد - للسنة النبوية والسيرة، وهذا يدعونا للإشادة بذلك التميز عن كثير من جامعات العالم، وأن نشدَّ على أيدي القائمين على هذه الجامعات كي يحافظوا على هذا المستوى بل يزيدوه عناية واهتماماً، وهذه المقررات هي:
1- الحديث:
ويدرس الطالب فيه فقه الحديث وشيئاً من القضايا المتعلِّقة بالإسناد والتخريج، وقد تصل الوحدات الدراسية التي يأخذها الطالب المتخصص إلى ما يزيد على ثلاثين ساعة طوال المرحلة الجامعية. ولا يحسب في ضمن ذلك مواد التخصص الأخرى كالمصطلح والتخريج ودراسة الأسانيد، وقد لا تتجاوز في بعض الجامعات عدداً محدوداً من المحاضرات، لكن هذه المادة على كل حال واردة ضمن مقررات جميع الجامعات ولله الحمد - عدا جامعة الملك فهد التي لم أستطع التأكد منها إلى هذا الوقت.
2- المصطلح أو علوم الحديث:(42/9)
ويتضمن أيضاً كل ما يتعلَّق بذلك كالجرح والتعديل والتخريج ودراسة الأسانيد والعلل ونحو ذلك، ويلاحظ أنه كلما كانت الكلية أو القسم أكثر تخصصاً كلما كانت عنايته بهذه المواد أكثر، فمثلاً نجد في كلية الحديث بالجامعة الإسلامية مواد أكثر تخصصاً من بقية الجامعات كما تقدَّم في «أولاً» من الفصل الأول(1)، وكذلك الحال في قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام حين كان قسماً متخصصاً في المرحلة الجامعية. وفي المقابل نجد مثل قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك فيصل اقتصر على عدد محدود من المواد والساعات التي يدرسها طالب القسم خلال دراسته الجامعية وذات صبغة عامة في المحتوى هي:
1- علوم الحديث الشريف "1".
2- علوم الحديث الشريف "2"(2).
3- السيرة النبوية.
وهذه المادة - أي الأخيرة - تدرس في الجامعة الإسلامية وأم القرى والملك فيصل والملك خالد والملك سعود، وكانت تدرس في قسم السنة وعلومها بجامعة الإمام بشكل موسع في أربعة مستويات وبمجموع ثماني ساعات، إلا أنها بعد دمج أقسام كلية أصول الدين في المرحلة الجامعية تم الاقتصار على ساعتين فقط في مستوى واحد.
هذا عن المواد في مرحلة البكالوريوس، أما في الماجستير والدكتوراه فهي أكثر تخصصاً وعمقاً، خصوصاً وأنها مدعمة ببحوث علمية فيها من التوسع والشمول والدقة ما يدعو للفخر والإعجاب، ولا أدلَّ على ذلك من كون هذه البحوث تتم مناقشتها والحكم عليها من أساتذة، عدد كبير منهم يأتون من جامعات عريقة، ومع ذلك تنال المستويات العليا - غالباً - عند تقويمها.
الفصل الثالث: تخريج المتخصصين في المرحلة الجامعية والعليا.
__________
(1) انظر (ص8 ) السابقة.
(2) خطاب سعادة وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي برقم 607/35/أ وتاريخ 3/1424هـ وموقع الجامعة على الإنترنت.(42/10)
لقد كان بفضل الله من ثمار تلك الجهود والعناية بالسنة والسيرة النبوية التي أينعت من الجامعات السعودية آلاف الخريجين والخريجات، ولم يقتصر الأمر على السعوديين فقط، بل تعداهم إلى غير السعوديين من الجنسيات الأخرى، عرباً وعجماً، من بلدان العالم قاطبة، فأحدث بذلك - بعد توفيق الله - عناية بالسنة وعودة إليها، وتتبعاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشكل لم يكن معهوداً في القرن الهجري الماضي، وحتى نكون منصفين فلا بد من القول إن الجامعات لم تستقل لوحدها بهذا التغيير، فهناك الجامعات الإسلامية في البلدان الأخرى، وهناك المؤسسات والدروس العلمية النظامية وغير النظامية، لكن الحق بأن هذه الجامعات السعودية كان لها النصيب الأكبر والحظ الأوفر، وأكبر دليل على ذلك محلياً وعالمياً أن خريجي هذه الجامعات هم الأكثر حضوراً في الساحة العلمية، وأكثر تطبيقاً وتمسكاً بالسنة النبوية، وهذا على مستوى خريجي المرحلة الجامعية، بيد أن خريجي المراحل العليا وإن كانوا أقل أهمية من حيث المقدار فإنهم أكثر أهمية من حيث الكيف، كيف لا ؟ وهم ينتشرون في جامعات العالم ومراكز البحث وميادين الدعوة في كل جزء من أجزائه، وهم بفضل الله على مستوى عالٍ في تخصصهم، وقد دللت على ذلك في أواخر الفصل السابق، فليرجع إليه، ويكفي هذه الجامعات شرفاً أن يكون من خريجيها أمثال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - وسماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، وسماحة الشيخ صالح ابن محمد اللحيدان، وغيرهم كثير ممن لهم اليد الطولى في نشر السنة والدعوة إليها.
وهناك الكثير في داخل البلاد وخارجها من خريجي هذه الجامعات وممن لهم الأثر الكبير في التعليم والتأليف والدعوة، وهم من الأعلام المشهورة، وحصرهم غير ممكن، وذكر البعض دون البقية قد يفهم منه تفضيلهم على من لم يذكر، لكن حسبي من الإشارة ما يغني عن العبارة.(42/11)
الفصل الرابع: عقد الدورات المتخصصة داخل وخارج المملكة.
مساهمة من الجامعات السعودية في خدمة البلاد وعموم المسلمين في أنحاء العالم، وسعياً لتحقيق الأهداف التي من أجلها أنشئت، لم يقتصر دورها على تأهيل طلابها وطالباتها، بل تعدى ذلك إلى غيرهم، ولذا قامت بعقد دورات علمية تعنى بالسنة النبوية والسيرة، وهي على النحو التالي:
1- الدورات الداخلية:
وهي أكثر تخصصاً من الدورات الخارجية، وعادة ما تتم من خلال المركز الجامعي لخدمة المجتمع والتعليم المستمر في الجامعات، وتقوم بالتنفيذ الكليات والأقسام المتخصصة ومثال ذلك:
- دورة «السنة وعلومها»: المصادر، التخريج، الأسانيد، المصطلح.
- والدورة التعليمية في الحديث وعلومه - متون: وهي من دورات المركز الجامعي بجامعة الإمام(1).
- والدورة التوضيحية لعلوم الحديث، والتي عقدت في جامعة الملك فيصل بالأحساء في الفترة من 25-28/2/1424هـ استفاد منها سبعون معلمة من معلمات وزارة التربية والتعليم بالأحساء(2).
- ودورة في التخريج وأخرى في دراسة الأسانيد أقامها قسم السنة في جامعة الملك خالد ، الأولى أقيمت خلال الفترة من 8/8-18/8/1421هـ ، والثانية من 23/11-4/12/1421هـ(3).
2- الدورات الخارجية:
__________
(1) الخطة المعتمدة لعمادة المركز الجامعي لخدمة المجتمع والتعليم المستمر 1420/1421 (ص20-23).
(2) خطاب سعادة وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي برقم 607/35/1 وتاريخ 3/4/1424هـ.
(3) خطاب سعادة وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي برقم 348/7 وتاريخ 18/3/1424هـ.(42/12)
وتعد جامعة الإمام والجامعة الإسلامية هما الأكثر أداءً لهذه الدورات إن لم تنفردا بذلك. فحسب علمي ليس ثمة نشاط لبقية الجامعات في هذا المجال فيما مضى من الأعوام، وإن وجد فربما يكون على نطاق محدود، لا يعدُّ شيئاً كبيراً إذا ما قورن بجهود الجامعتين المذكورتين، وهذه الدورات فيها ما هو متخصص ولكنه الأقل، والأكثر أنها دورات في العلوم الشرعية يكون للسنة والسيرة النبوية نصيب وافر، وقد آتت هذه الدورات - وهي غالباً في حدود ثلاثة أسابيع - ثماراً طيبة في تعريف المستفيدين بالسنة، وتشجيعهم على تطبيقها والسير على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف هذه الأمة، وتنوعت مستويات الدارسين فيها ما بين عالم وداعية إلى المبتدئين والعوام، من كلا الجنسين الذكور والإناث، فأصبحت بحمد الله هذه الدورات - والتي تعقد غالباً خلال فترة الصيف - رافداً من الروافد التي استثمرتها هاتان الجامعتان في زيادة عدد المستفيدين من إمكانات الجامعة العلمية والفنية، ولاسيما لمن لا يتيسر له الحضور - للدراسة في مقرِّ الجامعة، فكانت مبادرة - مشكورة - من الجامعتين للوصول إليهم مهما كانت مناطقهم، ومما يجدر العلم به أن برامج هذه الدورات بدأت منذ سنوات طويلة تقرب من عشرين عاماً، وبدعم سخي ورعاية وتشجيع من لدن قيادة هذه البلاد زادها الله توفيقاً، ومن المواد التي تدرس في هذه الدورات: الحديث والتخريج وعلوم الحديث والسيرة النبوية.(42/13)
كما أن الجامعات وأعضاء هيئة التدريس فيها يشاركون في إقامة كثير من الدورات المتخصصة داخل المملكة وخارجها وترعاها بعض الجهات الحكومية مثل وزارة الشؤون الإسلامية بالمملكة وبعض المؤسسات والجمعيات الخيرية، وهي كثيرة جداً وبخاصة منها ما يعقد في مناطق المملكة، وزاد في نفعها تسجيلها وتداول أشرطتها، وأفضل من ذلك نقلها مباشرة عبر شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» مما مكّن كثيراً من المسلمين في أنحاء العالم من متابعتها والاستفادة مما يدرس فيها، بل بلغ النفع ببعض الدورات أن كلفت الدارسين فيها بحفظ بعض متون السنة الكبار كالكتب الستة، وهذا إذا استمر وتوسع وأحسنت رعايته والعناية به يبشر بمستقبل زاهر - بإذن الله - لهذه البلاد خصوصاً ولجميع بلاد العالم عموماً؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن(1) - إلا النسائي - وهو صحيح - عن زيد ابن ثابت - رضي الله عنه - : «نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه»، ثم إن نشر السنة بين الناس أمانة ومسؤولية، وأولى من يقوم بذلك الجامعات ومن ينتسب إليها من العلماء والأساتذة المتخصصين.
الفصل الخامس: تحقيق شمولية العمل بالسنة بمفهومها العام في الاعتقاد والأحكام والآداب.
__________
(1) المسند (5/183)، وسنن أبي داود (4/68 : 3660 - كتاب العلم - باب فضل نشر العلم)، والترمذي (5/33 : 2656 - كتاب العلم - باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع)، وابن ماجه (1/84 : 230 - المقدمة - باب من بلغ علماً).(42/14)
السنة حين تطلق في كتب علماء الشريعة لها معنى خاص عند كل طائفة منهم(1)، فالمراد بها عند المحدثين: ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية مما له صلة بالتشريع، وعلى هذا فمدلول الحديث عند المحدثين أشمل من السنة حيث يدخل فيه ما له صلة بالتشريع وما لا صلة له، بل وما بعد البعثة وما قبلها.
- أما السنة عند علماء العقيدة: فهي ما يقابل البدعة، وهي ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الاعتقادية، ولذا ألَّفوا كتبا بهذا العنوان - أي السنة - ويقصدون بها المعنى الذي ذكرت، كالسنة للإمام أحمد، والأثرم، والخلال، وأبي داود، وعبدالله بن الإمام أحمد، وابن أبي عاصم، وغيرهم –رحمهم
الله-(2). كما أننا نجدهم يقولون فلان على السنة، أو من أهل السنة، يعني ليس من أهل البدع.
- أما السنة عند الفقهاء: فهي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
ولذا يجعلونها مقابل الواجب، وبمعنى المستحب والمندوب، ومثال ذلك سنن الصلاة والوضوء والحج وغيرها.
- أما السنة عند الأصوليين: فهي ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير(3).
__________
(1) وانظر للمزيد عن ذلك أيضاً: إرشاد الفحول (ص67-68)، والسنة قبل التدوين (ص15-20)، ومنهج النقد في علوم الحديث (ص27-28).
(2) انظر: الرسالة المستطرفة (ص37).
(3) انظر أيضاً: الإحكام للآمدي (1/223).(42/15)
بيد أن هناك قاسماً مشتركاً بين هؤلاء جميعاً وهو: أن السنة هي هديه - صلى الله عليه وسلم - الثابت عنه، سواء كان في العقائد أو الأحكام أو الآداب، وبهذا المعنى سعت الجامعات لتحقيق الشمول في معنى السنة، فدرست سنته - صلى الله عليه وسلم - في العقائد محررة من البدع في مقررات العقيدة، ودرست طلابها الأحكام وفق ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - دون التعصب لمذهب أو إمام معين، فكانت بحمد الله على منهج قويم، هو منهج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في الأصول والفروع.
الفصل السادس: إظهار تميز البحث في السنة والسيرة النبوية عما سواها.
وأعني بذلك أن الجامعات سلكت في البحوث المتعلقة بالسنة والسيرة النبوية منهج المحدثين - رحمهم الله - في التحقق والتحري واعتماد الأسانيد ودواوين السنة ونقد الرواة وسيلة لإثبات الصحيح وردِّ ما سواه ، فبمجرد نظرة عابرة في الخطط والمناهج التي تقرها الأقسام المختصة، ومدى القيود وأساليب التوثيق وضبط النص، إلى حدِّ يبعث على الفخر والإعجاب، فلا يكفي مجرَّد عزو الحديث إلى مصدر من مصادر السنة فقط، بل إن كان في غير الصحيحين فلا بد من البحث في إسنادها، والحكم على رواتها، وتتبع طرقها، ثم الحكم تبعاً لذلك، مع النظر في شواهده إن احتاج لذلك، أما ضبط النصِّ وتحقيقه فالقيود التي وضعها علماء المصطلح والقواعد التي ضبطوا بها التعامل مع نصوص الكتب تجعلها محلَّ تقدير الباحث واحترامه وعنايته وقوَّة أمانته في النقل والتصحيح والمقابلة(1)، وهذه الضوابط ضمنتها الأقسام العلمية الخطط التي ألزمت بها الباحثين في مجال السنة والسيرة النبوية، مما يضمن لها بإذن الله درجة كبيرة من السلامة والدقة تجعل المستفيد أكثر طمأنينة حين تعاطيه مع تلك البحوث.
الباب الثاني: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال التأليف
__________
(1) انظر: تفصيل ذلك في فتح المغيث (2/141-206)، وتدريب الراوي (ص64-91).(42/16)
ويشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: إعداد الرسائل العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.
الدراسات العليا في الجامعات السعودية تعتمد البحث العلمي والذي – غالباً- ما يكون رسالة علمية، ضمن متطلبات التخرج في المرحلة، وهذه الرسائل تنقسم إلى قسمين :
1- موضوعات يقوم الباحث بجمع مادتها العلمية وترتيبها وتوثيقها ودراسة ما يحتاج إلى دراسة أو تعليق، وهي إما أن تكون في موضوع من موضوعات الحديث أو علومه أو ترجمة عالم من علمائه مع دراسة لمنهجه، مثل رسالة في الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به للدكتور عبدالكريم الخضير من قسم السنة بجامعة الإمام، ورسالة (( الإمام يحيى بن معين وكتابه التاريخ )) للدكتور أحمد محمد نور سيف من جامعة أم القرى(1).
2- كتب تراثية يقوم الباحث بضبط نصوصها وتحقيقها وتخريج أحاديثها والحكم عليها، مثل تحقيق مسند أبي يعلى الموصلي، وعلل الحديث لابن أبي حاتم، والذي قام به في كلا الكتابين مجموعة من الباحثين في مرحلة الدكتوراه بجامعة الإمام.
هذه الرسائل مع كونها تؤهل من قام بإعدادها، وترفع من المستوى العلمي للأقسام العلمية، فإنها في الوقت نفسه ساعدت على إزاحة الستار عن مقدار كبير من كتب السنة والسيرة كانت في عالم المخطوطات، بل بعضها في دائرة المنسيات، وتم بفضل الله نشرها بين الناس، ولاسيما تلك الجامعات التي اعتنت بنشر المتميز من رسائلها العلمية، وتأتي جامعة أم القرى في صدارة هذا المجال عبر معهد البحوث العلمية وإحياء التراث، والذي قام بنشر عدد كبير من الكتب المهمة مثل تاريخ ابن معين، وتاريخ الدارمي، وشرح صحيح البخاري للخطابي.
وبالجملة فكم كان لهذه الرسائل العلمية من فضل - بعد فضل الله - في نشر السنة والسيرة النبوية وتوثيقها والذب عن حياضها.
الفصل الثاني: إعداد البحوث العلمية المقدمة للمجالس والمراكز والمجلات العلمية.
__________
(1) دليل الرسائل الجامعية لجامعة أم القرى.(42/17)
مما تميزت به الجامعات أنها رسمت لأعضاء هيئة التدريس فيها خطة تعتمد البحوث العلمية المستمرة ركيزة أساسية لتكوين الأستاذ الجامعي، ووسيلة لتحقيق الأهداف التي تربط الجامعة بالمجتمع، حتى لا تصبح الجامعة مكاناً للتدريس فقط، وبلغ اهتمام الجامعات بالبحث العلمي أن كونت له قطاعاته ومجالاته المختصة، فهناك عمادة البحث العلمي والمجلس العلمي، مع ما تقوم به مجالس الأقسام والكليات من دور مهم في ذلك، بل خصص في الهيكل الإداري للجامعات وكيل للجامعة يعني بهذا الأمر وهو: وكيل الجامعة للدراسات العليا والبحث العلمي، ثم توِّج ذلك بصدور اللائحة الموحدة للجامعات والتي صدرت في عام 1417هـ(1) والتي تضمنت في موادها ما يدل على مدى العناية الكبيرة بالبحث العلمي ووضع الضوابط الدقيقة التي تحفظ وترفع مستواه، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
1- نصت المادة التاسعة والعشرون من اللائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات على أنه يدخل ضمن الحدِّ الأدنى للإنتاج العلمي المطلوب لترقية عضو هيئة التدريس ما يأتي:
أ- البحوث المنشورة أو المقبولة للنشر في مجلات علمية محكمة.
ب- البحوث المقدمة للمؤتمرات والندوات العلمية المتخصصة.
جـ- البحوث المحكمة المنشورة أو المقبولة للنشر من مراكز البحوث الجامعية المتخصصة.
د- المحكَّم من الكتب الجامعية والمراجع العلمية.
__________
(1) تنظر: اللائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات السعوديين من أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم.(42/18)
2- وفي المادة الثانية والثلاثين: أن الترقية من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك تحتاج إلى أربعة بحوث منشورة أو مقبولة للنشر على الأقل، وتقدَّم في المادة التاسعة والعشرين أن مجالات النشر لا بد أن تكون محكمة، و المادة الثلاثون أوجبت على المتقدِّم للترقية إلى أستاذ مشارك أن ينشر بحثاً واحداً على الأقل في مجلَّة علمية محكمة، وأوجبت على المتقدم للأستاذية نشر بحثين على الأقل، وفي المادة الثالثة والثلاثين : أن الترقية من أستاذ مشارك إلى أستاذ تحتاج إلى ستة بحوث منشورة أو مقبولة للنشر على الأقل.
3- أجازت المادة الحادية والستون والثانية والستون لعضو هيئة التدريس أن يتفرَّغ علمياً كل خمس سنوات مدَّة عام دراسي، أو فصل دراسي بعد مضي ثلاث سنوات على أن يقدِّم خلال تفرغه مشروعاً علمياً، وجعلت من حقه الحصول على البدلات التي تعينه على إنجاز مشروعه العلمي كتذاكر السفر ومصاريف البحث والمراجع ونحو ذلك.
4- أجازت المادة السابعة والستون - وبموافقة الجامعة - المشاركة في المؤتمرات والندوات التي تعقد داخل المملكة وخارجها ، والتي عادة ما تطلب من المشارك بحثاً في تخصصه للمشاركة به، وأجازت للجامعة أن تصرف له انتداباً وتذاكر سفر لمهمته.
5- أجازت المادة الثامنة والسبعون لمدير الجامعة الموافقة لعضو هيئة التدريس بالسفر خلال العطلة الصيفية لإجراء بحوث في غير جامعته، مع صرف تذكرة سفر بالطائرة له.
من هذا وغيره يتبيَّن بعض ما توليه الجامعات من عناية ودعم للبحث العلمي، والذي بدوره آزر نشر السنة والسيرة النبوية وتعريف الناس بها.
الفصل الثالث: تأليف الكتب العلمية ونشرها .
كما اهتمت الجامعات بالتعليم والبحث العلمي، كذلك اهتمت بالتأليف والنشر لما له من دور مهم في تعريف الناس بالعلوم النافعة، ويمكن تلخيص ذلك الاهتمام فيما يلي:
1- إنشاء الإدارات والمراكز المتخصصة: ومن ذلك:(42/19)
أ- مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالجامعة الإسلامية.
ب- معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى.
ج- إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
2- نشر بحوث الندوات والمؤتمرات والمناسبات، ومثل ذلك الأسبوع الذي أقامته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله – سنة أربعمائة وألف هجرية ، وجمعت فيه كل تراث الشيخ الذي وصلت إليه وطبعته، وكان من ضمن ذلك قسم كبير في الحديث وأيضاً مختصر السيرة النبوية.
3- نشر المميز من الرسائل العلمية، وهذا العمل له فائدة عظيمة للمستوى الجيد الذي تمت به تلك الرسائل، وأن الذي لا تتصدى الجامعات لنشره غالباً ما يبقى قابعاً في رفوف خاصة أشبه ما يكون بالكتب المحدودة الاطلاع.
ومن أبرز الجهود في ذلك ما قامت به جامعة أم القرى عبر معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي حيث طبعت ما يزيد على أربعمائة وستين كتاباً باللغة العربية(1) منها كتب كثيرة مهمة في الحديث وعلومه والسيرة النبوية، مثل تاريخ ابن معين، والدارمي، وتخريج الأحاديث الواردة في مدونة الإمام مالك، وذيل ميزان الاعتدال للعراقي.
الباب الثالث: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال توفير الوسائل المعينة على المعرفة والفهم والتحقق
ويشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: العناية بجمع كتب السنة والسيرة النبوية من مطبوعات ومخطوطات، وتيسير وصول الباحثين إليها.
__________
(1) انظر: دليل مطبوعات جامعة أم القرى.(42/20)
يعتبر الكتاب - مطبوعاً أو مخطوطاً - أحد الركائز الأساسية التي تعتمد عليها الجامعات في الوصول إلى أهدافها وتحقيق مقاصدها، فلا عجب حينئذ أن تنشئ المكتبات العامة بل وتخصص عمادة بطاقمها الإداري وما تحتاج إليه من إمكانات وهي عمادة شؤون المكتبات لتقوم بالإشراف عليها، وتدعمها بميزانيات ضخمة لتزويدها بالمراجع والتجهيزات، وكان لكتب السنة والسيرة النبوية النصيب الأوفر في هذه المكتبات، ولاسيما مكتبات جامعة الإمام والجامعة الإسلامية وأم القرى وجامعة الملك سعود والملك خالد، وذلك لعمق التخصصات المتعلقة بالسنة والسيرة فيها. وحسب علمي فإن جامعة أم القرى تميزت بشكل واضح في جمع قدر كبير من المخطوطات، وبلغني - والله أعلم - أن الفضل - بعد الله - يعود أولاً للدكتور عبدالرحمن العثيمين حين كان عميداً لشؤون المكتبات في الجامعة حيث بذل جهوداً عظيمة في الحصول على هذه المخطوطات والمصورات من أنحاء العالم، نسأل الله أن يأجر كل من ساهم في مثل هذه الجهود خير الجزاء.
أعود وأقول: إذا أخذنا على سبيل المثال مقتنيات جامعة الإمام سنجد أنها نحو مليون ومائتي ألف كتاب مطبوع وما يزيد على عشرين ألف مخطوط(1).
ومن ضمن الخدمات المهمة التي قدمتها الجامعات للسنة والسيرة النبوية ما قامت به جامعة الإمام قبل عشر سنوات من إنشاء معامل للتخريج ودراسة الأسانيد في كلية أصول الدين بالرياض حيث جهزت خمسة معامل للطلاب بكل ما تحتاج إليه من مراجع وأثاث، أخبرني رئيس قسم السنة آنذاك أنها كلفت ما يزيد على خمسة ملايين ريال، وهي بحق خطوة رائدة كان تحقيقها في ذلك الوقت أشبه بالحلم، حيث أراحت الأساتذة والطلاب، وتركت بصمات جيدة على تدريس تلك المادتين، بل صارت مرجعاً للأساتذة والطلاب في كل المواد الشرعية، ثم أضافت الجامعة بعد ذلك معملين للطالبات في مركز دراسة الطالبات.
__________
(1) ينظر: موقع عمادة شؤون المكتبات ضمن موقع الجامعة على الإنترنت.(42/21)
وإجمالاً فإن توفير هذه المراجع الكثيرة، وتهيئة الأماكن المناسبة لها، ووضع الفهارس والأدلة، أراح الباحثين والمستفيدين كثيراً، واختصر عليهم الجهد والوقت والمال، حيث كانوا في السابق لا يتمكنون من الوصول إلى المرجع، وإذا كان الوصول إليه ممكناً فهو يحتاج إلى شدِّ الرحال والتغرُّب عن البلاد.
ولا ننسى في هذا المقام أن نبرز الدور الكبير الذي قامت به الجامعات في إقامة معارض الكتب - الدولية منها والمحلية - حيث اجتمعت مئات المكتبات ودور النشر العالمية والمحلية في مكان وزمان واحد، مما سهل على المستفيدين اقتناء المصادر والاختيار بينها، ولا يعرف قيمة ذلك إلا من عانى جمع المراجع العلمية المهمة.
الفصل الثاني: العناية بالفنون الخادمة للسنة والسيرة النبوية.
يمكن تقسيم الفنون الخادمة للسنة والسيرة النبوية إلى قسمين رئيسين هما:
1- الفنون المباشرة: كعلوم الحديث ولاسيما علم الرواية والدراية والتخريج ودراسة الأسانيد والجرح والتعديل ومناهج المحدثين وتاريخ السنة ونحوها، وأيضاً ككتب الشروح لدواوين السنة، وكتب غريب الحديث.
2- فنون غير مباشرة: كالتفسير والفقه والأصول والنحو والبلاغة والمعاجم والتاريخ.
فعلى عدّ هذه الفنون - المباشرة وغير المباشرة - روافد لفهم السنة وتحقيقها وحمايتها، خصصت لها الجامعات - بما في ذلك الكليات والأقسام المختصة بعلوم السنة والسيرة - برامج في خطتها الدراسية للمرحلة الجامعية والعليا، حتى تزود الطالب بها، لتكتمل لديه المعرفة، ويأخذ بجميع الأسباب المعينة له للوصول إلى مقصوده.
الفصل الثالث: العناية بالمصطلحات المتعلِّقة بالسنة والسيرة النبوية(42/22)
في كلِّ فنٍّ من فنون العلم مصطلحات يصطلح عليها أهل الفن، قد لا يكون مدلولها مفهوماً عند الآخرين، وقد يكون له مدلول مغاير، مما يستدعي العناية بهذه المصطلحات واستخراجها وترتيبها. والسنة والسيرة النبوية كغيرها من التخصصات، فيها الكثير من المصطلحات التي جعلت الأقسام المختصة تعتني بدراستها عبر الرسائل والبحوث العلمية، وتوفير المراجع المتعلقة بها، فمثلاً هناك رسائل علمية اعتنت ببيان المراد بمن وصف بأنه «مقبول» من الرواة، كما أن هناك رسائل وضحت المراد بالزوائد في الأحاديث وكذا ((العلَّة)) و((المجهول)) و((المستور))، وكثير من عبارات الجرح والتعديل التي قد يكون مدلولها محل خلاف عند أهل الاختصاص، فضلاً عن غيرهم.
الفصل الرابع: توفير البرامج الحاسوبية التي تخدم البحث في مجال السنة والسيرة النبوية
كان من فتح الله على خلقه اختراع هذا الحاسوب الذي أحدث تحولاً هائلاً في عالم المعلومات والإنتاج والرصد، وكان للعلوم الشرعية ولاسيما السنة والسيرة النبوية حظ عظيم من خدمات هذا الحاسوب وبرامجه المعرفية، التي أتاحت للباحثين في السنة والسيرة النبوية مجالاً واسعاً وسهلاً بحمد الله، وقد تعددت هذه البرامج وتوسعت، فمنها البرامج التجارية التي تنتجها وتسوِّقها المؤسسات التجارية مثل مجموعة التراث(1) والعالمية ((صخر))(2)، وقد أنتجت الأولى أكثر البرامج وأشهرها في السوق، ومن أشهر برامجهم ((الموسوعة الذهبية)) و((المكتبة الألفية))، ومنها البرامج الخدمية وهذه متوافرة بشكل كبير على شبكة ((الإنترنت)) وهناك بعض المراكز والمكتبات العامة أيضاً تتوافر فيها مثل هذه الخدمة، كما أن للجهود الخاصة من بعض الأساتذة دوراً في إفادة طلابهم وتدريبهم على هذه البرامج.
__________
(1) انظر: موقعهم على الشبكة المعلوماتية "الإنترنت" www.turath.com".
(2) انظر: موقعهم على الشبكة المعلوماتية "الإنترنت" www.sakhr.com" .(42/23)
وبكل حال فيمكن تقسيم خدمة الجامعات المتعلقة بتوفير البرامج الحاسوبية إلى ثلاثة أقسام هي:-
1- توفير خدمة الإنترنت لقطاعات الجامعة وأساتذتها: مما أتاح الاستفادة مما في هذه الشبكة من برامج بحثية للتدريب عليها، وخصوصاً في مادتي التخريج ودراسة الأسانيد وكذلك الاستفادة منها في البحث وجمع المادة العلمية وهي بحقٍّ خدمة مهولة يصعب الإشارة في هذا المقام ولو إلى طرف منها، ويكفي أن نعرف أن موقعاً واحداً هو ((صفحة البواحث العربية والإسلامية))(1) قد جمع سبعة بواحث خاصة في الحديث ناهيك عن غيرها من البواحث العامة.
2- الارتباط حاسوبياً بالجهات الأخرى: وذلك مثل مركز الملك فيصل، ومكتبة الملك فهد، وهذه يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى بشكل أوسع في الفصل الثالث من الباب الرابع .
3- توفير البرامج المستقلة: وذلك لتدريب الطلاب عليها والاستفادة منها في البحوث، فهي لا تزال على نطاق محدود وفي إطار جهود شخصية من بعض الأساتذة، وفي رأيي أن السبب الأهم الذي قد يكون وراء عدم حماس الجامعات للتوسع في هذه الخدمة هو توفير خدمة الاتصال بالإنترنت ومراكز البحث والمعلومات الأخرى.
الباب الرابع: تبادل الخبرات مع المؤسسات التعليمية
والجامعات ومراكز البحوث
ويشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: مساهمة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات في وضع وتقويم المناهج والخطط التعليمية.
__________
(1) عنوانه على الشبكة "www.sultan.org"(42/24)
الجامعات ليست محصورة ضمن إطار محدود يقتصر على طلاب الجامعة وبرامجها، بل يدخل في نطاق مهامها مدُّ الجسور مع المؤسسات التعليمية الأخرى، بل وحتى غير التعليمية، داخل المملكة وخارجها، على سبيل المساعدة في قيام تلك الجهات بمشاريعها وتقديم الإستشارات في تلك المجالات، فعلى سبيل المثال هناك تعاون بين الجامعات ذاتها في تبادل الخبرات والمناهج، كما أن وزارة التربية والتعليم بقسميها: البنين والبنات، قد استفادت من أساتذة الجامعات في رسم مناهج السنة والسيرة، وتأليف المقررات وتقييمها، وممن قام بذلك عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمام وجامعة الملك سعود.
الفصل الثاني: إيفاد الأساتذة للتدريس في الجامعات والمؤسسات التعليمية داخل المملكة وخارجها.
في إطار التعاون مع المؤسسات التعليمية يتم إيفاد عدد من أساتذة الجامعات للتدريس ورسم الخطط والمناهج، وأبرز المستفيدين من ذلك كليات البنات والكليات العسكرية والكليات الأهلية، ويدخل في ذلك الإشراف على الرسائل العلمية ومناقشتها، وهذا جعل الفائدة من أساتذة الحديث متعدية إلى خارج الجامعة، وهو لا يقتصر على المؤسسات التعليمية الداخلية، فهناك أيضاً تعاون مع الجامعات والمراكز في الدول العربية والإسلامية، ومعاهد جامعة الإمام في الخارج، والتي تدرس أغلبها المرحلة الجامعية وتوفد لها الجامعة عدداً من أعضاء هيئة التدريس، وهذه المعاهد تقع في الإمارات وجيبوتي وإندونيسيا وموريتانيا وأمريكا واليابان، هذه المعاهد تقوم بدور رئيس في هذا النطاق، وتعتبر إحدى القنوات التي من خلالها أمكن نشر السنة والمنهج الصحيح في تلك المجتمعات والبلدان.
الفصل الثالث: الارتباط بمركز البحث والمعلومات عن طريق الشبكة الحاسوبية.(42/25)
تقدَّم في الفصل الرابع من الباب السابق الإشارة إلى الأثر الذي تركه ابتكار الحاسوب بما يتبعه من برامج، وما قدَّمه من خدمات مذهلة، استفادت منها الجامعات بشكل أكبر، وكان من وجوه الاستفادة إمكان الارتباط فيما بينها، وكذلك الارتباط بمراكز البحوث، مثل مركز الملك فيصل، ومكتبة الملك فهد بالرياض، وغيرها، والتي يمكن التواصل معها على مدار الوقت، وزاد من سعة هذا التواصل توفير شبكة الإنترنت للأساتذة والطلاب مما أمكن معه القيام بجولة سريعة على أنحاء العالم للاطلاع على أي مادة علمية أو كتاب أو رسالة علمية، كما أن هذا الارتباط مكَّن الباحث من التساؤل عن أي قضية تتعلق بالسنة أو السيرة النبوية ليجد الجواب بين يديه في وقت وجيز.
الباب الخامس: المناشط العامة للجامعات
تضم الجامعات إلى جانب برنامجها التعليمي بعض المناشط العامة التي تكمِّل دورها تجاه المجتمع والعالم أجمع، هذه المناشط التي تتم أحياناً بشكل جماعي أو فردي، داخل الجامعة أو خارجها، وفي كل الأحوال تخرج عن النطاق التعليمي البحت إلى رحاب سبل الإفادة المتنوعة، التي يستفيد منها شرائح مختلفة، وعليه يمكن تقسيم هذه المناشط إلى مناشط تقدَّم من خلال وحدات الجامعة، وأخرى من خلال أساتذة الجامعة، وبيان ذلك في الفصلين الآتيين:
الفصل الأول: المناشط التي تُقدَّم من خلال وحدات الجامعة.
ويشتمل على المباحث التالية:
1- عقد المؤتمرات والندوات وإلقاء المحاضرات:
تقدَّم في الفصل الثالث من الباب الثاني أن جامعة الإمام عقدت قبل ربع قرن أسبوعاً عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وكان هذا الأسبوع أشبه بمؤتمر، اشتمل على ندوات ومحاضرات تضمنت بيان جهوده رحمه الله في مجال السنة والسيرة النبوية.(42/26)
كما أقامت جامعة الإمام أيضاً وكذلك الجامعة الإسلامية ندوات ومحاضرات كثيرة تعنى بالسنة والسيرة النبوية، وذلك ضمن البرامج الخارجية التي تقام عادة في الصيف في أنحاء متفرقة في العالم.
2- إنشاء الجمعيات العلمية والمراكز المتخصصة:
يعد مركز خدمة السنة والسيرة النبوية في الجامعة الإسلامية من أشهر المراكز المتخصصة وله جهود عظيمة في هذا المجال حيث قام بنشر عدد من الكتب المهمة منها الكتاب الكبير «اتحاف المهرة» للحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - والذي طبع في عام 1418هـ بالتعاون مع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .
كما أنه في عام 1423هـ تمت موافقة وزارة التعليم العالي على إنشاء الجمعية السعودية للسنة النبوية وعلومها بقسم السنة وعلومها بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لتنتظم في عقد الجهود التي تبذلها هذه البلاد المباركة - إن شاء الله - في خدمة السنة النبوية.
3- عقد المسابقات الثقافية:
وهي مسابقات في السنة النبوية وعلومها تعقد عادة تحت إشراف عمادات شؤون الطلاب في الجامعات، وهي على سبيل المثال تعقد سنوياً في جامعة الإمام والملك سعود والملك خالد والملك فيصل، وتعتمد هذه المسابقات على حفظ المشاركين لمقدار معين من الأحاديث مع فهمها ومعرفة بعض علوم الحديث، وتمنح للفائزين جوائز تشجيعية.
الفصل الثاني: المناشط التي تقدَّم من خلال أساتذة الجامعة.
ويشتمل على المباحث التالية:
1- جهود الأساتذة عبر وسائل الإعلام المختلفة:(42/27)
وهذه في الحقيقة من أبرز الجهود وأكثرها، ويشارك فيها جميع منسوبي الجامعات تقريباً، وذلك عبر الإذاعة والتلفزيون والصحافة، بل لم يقتصر دورهم على داخل المملكة حيث لحظ مشاركتهم في وسائل الإعلام الخارجية أيضاً، وهي مشاركات ذات أثر طيب ونافع، وهي وسائل ينقلون من خلالها إلى الناس ما لديهم من العلم والخير والهدى، وتعتبر إذاعة القرآن الكريم بالرياض، وإذاعة نداء الإسلام بمكة المكرمة، أكبر المجالات التي تتم فيها مشاركة أعضاء هيئة التدريس، وذلك بتقديم برامج تعنى بالسنة والسيرة النبوية، وكنموذج لمستوى المشاركة في إذاعة القرآن الكريم يمكن أن نستعرض هيكل البرامج الأسبوعية للدورة الإذاعية بين 1/7-30/12/1421هـ ليتضح لنا أن البرامج المتخصصة في السنة النبوية هي:
1- شرح كتاب المنتقى للمجد ابن تيمية لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ. (( جامعة الإمام سابقاً )) وحالياً المفتي العام للمملكة .
2- شرح مختصر صحيح مسلم لمعالي الدكتور عبدالله المطلق ((جامعة الإمام)).
3- السنة والبدعة للأستاذ الدكتور ناصر العقل (( جامعة الإمام )).
4- أسئلة النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - للأستاذ الدكتور فالح الصغير «جامعة الإمام».
5- الأمثال النبوية للأستاذ الدكتور مسفر الدميني (( جامعة الإمام )).
6- أعمال القلوب في الكتاب والسنة للدكتور عبدالله وكيل الشيخ (( جامعة الإمام )).
7- شعب الإيمان للشيخ محمد الدريعي (( جامعة الإمام )).
8- مخطوطات إسلامية للدكتور علي الشبل (( جامعة الإمام )).
9- قراءة وتعليق من كتاب السنة لابن أبي عاصم للأستاذ الدكتور علي فقيهي (( الجامعة الإسلامية سابقاً )) ، وحالياً مدير إدارة الشؤون العلمية بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف .
10- عمل اليوم والليلة للأستاذ الدكتور عبدالرزاق البدر (( الجامعة الإسلامية )).(42/28)
11- أحاديث مشتهرة في الميزان للدكتور إبراهيم الريس (( جامعة الملك سعود )).
هذه هي البرامج المتخصصة فقط، ناهيك عما تتضمنه البرامج الأخرى من دعوة إلى السنة وعناية بها، مثل خطب الحرمين الشريفين، فضلاً عن البرامج اليومية، مما يبين قوَّة المشاركة التي ستترك - بإذن الله - أثراً أقوى وفائدة أعمق، ولاسيما إذا عرفنا عالمية هذه الإذاعة المباركة، وأنها تبث أيضاً عبر الإنترنت، وعلى موقع القناة الفضائية للتلفزيون السعودي، مما يوسع مجال انتشارها، ويزيد عدد جمهور المستمعين لها والمستفيدين منها.
2- جهود الأساتذة عبر المشاركة في المناشط الدعوية:
وهذا مجال واسع لو لم يكن فيه إلا مناشط وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ولاسيما الدروس العلمية والدورات المتخصصة والتي تعقد في المساجد طيلة شهور السنة، لو تم الاقتصار على ذلك لكان فيه خير كثير، كيف وأنواع المشاركات كثيرة ومتنوعة، فللّه الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، فبفضله سبحانه ثم بجهود القائمين على هذه المناشط المباركة أمكن استثمار ما لدى أساتذة الجامعات من علم ومعرفة، وإفادة الناس - على اختلاف طبقاتهم - بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته، حتى بلغ الأمر ببعض الدورات التخصصية أن قررت على المشاركين فيها حفظ بعض المتون المهمة في السنة النبوية، وكنموذج لما تشتمل عليه هذه الدورات من عناية بالسنة والسيرة النبوية يمكن الاطلاع على برنامج الدورة العلمية بجامع الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة ، المرافق صورة له في نهاية هذا البحث، ونظراً لكثرة هذه المناشط واتساعها فيمكن أن أجمل أبرزها فيما يلي:-
1- الدورات العلمية الداخلية والخارجية.
2- المحاضرات والندوات العامة.
3- الخطب.
4- الدروس العلمية.
5- برامج توعية الحجاج والمعتمرين.
6- المخيمات الدعوية.
7- تأليف الكتب وإعداد البحوث المتخصصة.(42/29)
8- المشاركة في المؤتمرات والمناسبات الداخلية والخارجية.
ومما دعاني للإجمال أن الأساتذة الكرام المشاركين في بحوث المحور الثالث من بحوث هذه الندوة المباركة سيعرضون بإذن الله على نحوٍ موسع لمثل هذه المناشط والجهود.
الخاتمة
وفي نهاية المطاف، وبعد هذه الجولة الواسعة في ميادين الجامعات، وتتبع شعاع النور المنبثق من مصابيحها، والماء الزلال المتدفق من ينابيعها، وحيث اتضح بشكل جلي أن جامعات المملكة - ولاسيما تلك التي تضم كليات أو أقسام شرعية - تقوم بدور كبير في العناية بالسنة والسيرة النبوية تعليماً وتطبيقاً ونشراً، بيد أن هذا الدور لا يخلو من نقص يحتاج إلى تنبيه، أو خلل يحتاج إلى توجيه، ويمكن تلخيص نتائج هذا البحث ومقترحاته وملحوظاته فيما يلي:-
1- أن الجامعات السعودية تقوم بدور رائد ومؤثر محلياً وعالمياً في العناية بالسنة والسيرة النبوية تعليماً وتطبيقاً ودعوة ونشراً لمفاهيمها.
2- أن ما قامت به بعض الجامعات من نشر للمميز من رسائلها العلمية في مجال السنة والسيرة النبوية أمرٌ تشكر عليه، وآتى ثماراً طيبة، إلا أنها مع ذلك لم تنشر إلا القليل من تلك الرسائل، والمؤمَّل أن تتوسع هذه الجامعات في نشر تلك الرسائل ليعم نفعها، ولا تبقى حبيسة أدراج، ومحدودة الاطلاع.
3- بما أن هذه البلاد الطيبة تتبنى المنهج الحق - منهج أهل السنة والجماعة - في التشريع والتعليم وكل مناحي الحياة، فينبغي للجامعات أن تقوم بدورها الرئيس في تحقيق هذا الأمر وذلك بالتوسع في تدريس السنة والسيرة النبوية، وجعل المواد التعليمية بها مواد أساسية من متطلبات الجامعة، حتى تكون الأجيال على صلة قوية بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو طوق النجاة في بحر الفتن الذي يسبح فيه هذا العالم.(42/30)
4- زيادة عدد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، واستثمار وسائل الإعلام، لتعريف الناس بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرته المشرقة التي حملت للكون أعظم مشعل نور عرفه التاريخ.
5- بما أن التعليم عن بعد عبر وسائل الاتصالات وشبكة الإنترنت أصبح مجالاً تتنافس فيه الجامعات العالمية للوصول إلى الدارسين في أي مكان في العالم، وكثير من هذه الجامعات إما أنها تنشر مذاهب باطلة، أو تسعى للكسب المادي فقط، وعليه فالجامعات التي تقوم على المنهج الصحيح أولى بالمنافسة والمزاحمة لتعرض ما لديها من الحق والهدى، وأحسب أن العناية بتعليم الكتاب والسنة من خلال هذه الوسيلة سيحقق ثماراً كثيرة وكبيرة، وبجهود يسيرة، وأن جامعاتنا بما لديها من إمكانيات وكفاءات، وما لها من سمعة طيبة ستكون مؤهلة بشكل جيد للقيام بدور عظيم في هذا الميدان.
وختاماً أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفق هذه الجامعات لتحقيق الخير والنفع لهذه البلاد خاصة وعموم المسلمين في بقاع العالم عامة، وأن يوفق قادة هذه البلاد لدعمها ومؤازرتها لتحقيق تلك الأهداف العظيمة المنوطة بها إنه سميع مجيب.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
المصادر والمراجع
1- الإحكام للآمدي - ت: سيد الجميلي - ش: دار الكتاب العربي - بيروت1404هـ.
2- إرشاد الفحول للشوكاني - ت: محمد البدري - ش: دار الفكر - بيروت 1412هـ.
3- البيان الإحصائي لطلاب كلية أصول الدين بالرياض عام 1418هـ الصادر عن الكلية.
4- جامع الترمذي – ت: أحمد شاكر - ش: المكتبة الإسلامية.
4- تدريب الراوي، للسيوطي – ت: عبدالوهاب عبداللطيف – نشر: دار الباز – مكة المكرمة 1399هـ.
5- خطاب فضيلة وكيل الجامعة الإسلامية للدراسات العليا والبحث العلمي 312/1673 وتاريخ 27/3/1424هـ ومرفقاته .
5- خطاب سعادة وكيل جامعة أم القرى للدراسات العليا والبحث العلمي 41696 وتاريخ 3/3/1424هـ ومرفقاته .(42/31)
5- خطاب سعادة وكيل جامعة الملك خالد للدراسات العليا والبحث العلمي رقم 348/7 وتاريخ 18/3/1424هـ ومرفقاته .
5- خطاب سعادة وكيل جامعة الملك فيصل للدراسات العليا والبحث العلمي 607/35/أ وتاريخ 3/4/1424هـ ومرفقاته.
6- الخطة المعتمدة لعمادة المركز الجامعي لخدمة المجتمع والتعليم المستمر بجامعة الإمام - ش: جامعة الإمام - 1420هـ.
7- دليل الرسائل الجامعية لجامعة أم القرى - «قرص حاسب صادر عن الجامعة».
8- دليل مطبوعات جامعة أم القرى «قرص حاسب صادر عن الجامعة».
9- الرسالة المستطرفة، للكتاني - ش: دار البشائر - بيروت 1406هـ.
10- سنن أبي داود - ت: عزت عبيد الدعاس – ش: محمد السيد – حمص 1388هـ.
11- السنة قبل التدوين للدكتور محمد عجاج الخطيب - ش: دار الفكر - بيروت 1400هـ.
12- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - ت: د. أحمد ابن سعد حمدان - ش: دار طيبة - الرياض 1403هـ.
13- فتح المغيث، للسخاوي - ت: صلاح عويضة- ش: دار الكتب العلمية - بيروت 1417هـ.
14- اللائحة المنظمة لشؤون منسوبي الجامعات السعوديين من أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم - ط: جامعة الإمام 1418هـ.
15- المسند للإمام أحمد - ش: دار صادر - بيروت.
16- منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر - ش: دار الفكر - دمشق 1401هـ.
17- موقع الجامعة الإسلامية على الإنترنت www.iu.edu.sa
18- موقع جامعة الإمام على الإنترنت www.imamu.edu.sa
19- موقع جامعة أم القرى على الإنترنت www.uqu.edu.sa
20- موقع جامعة الملك خالد على الإنترنت www.kku.edu.sa
21- موقع جامعة الملك سعود على الإنترنت www.ksu.edu.sa
22- موقع جامعة الملك عبدالعزيز على الإنترنت www.kaau.edu.sa
23- موقع جامعة الملك فيصل على الإنترنت www.kfu.edu.sa
24- موقع العالمية «شركة صخر» على الإنترنت www.sakhr.com
25- موقع مجموعة التراث على الإنترنت www.turath.com(42/32)
26- هيكل البرامج الأسبوعية لإذاعة القرآن الكريم - إذاعة القرآن الكريم.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
الباب الأول: خدمة الجامعات للسنة والسيرةالنبوية في مجال التدريس…7
الفصل الأول: إنشاء الكليات والأقسام العلمية المتخصصة:…7
الفصل الثاني: وضع المناهج التي تعنى بالسنة في المراحل الجامعية.…12
الفصل الثالث: تخريج المتخصصين في المرحلة الجامعية والعليا.…15
الفصل الرابع: عقد الدورات المتخصصة داخل وخارج المملكة.…17
الفصل الخامس: تحقيق شمولية العمل بالسنة بمفهومها العام في الاعتقاد والأحكام والآداب.…20
الفصل السادس: إظهار تميز البحث في السنة والسيرة النبوية عما سواها.…22
الباب الثاني: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال التأليف…23
الفصل الأول: إعداد الرسائل العلمية في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.…23
الفصل الثاني: إعداد البحوث العلمية المقدمة للمجالس والمراكز والمجلات العلمية.…25
الفصل الثالث: تأليف الكتب العلمية ونشرها .…28
الباب الثالث: خدمة الجامعات للسنة والسيرة النبوية في مجال توفير الوسائل المعينة على المعرفة والفهم والتحقق…30
الفصل الأول: العناية بجمع كتب السنة والسيرة النبوية من مطبوعات ومخطوطات، وتيسير وصول الباحثين إليها.…30
الفصل الثاني: العناية بالفنون الخادمة للسنة والسيرة النبوية.…32
الفصل الثالث: العناية بالمصطلحات المتعلِّقة بالسنة والسيرة النبوية…33
الفصل الرابع: توفير البرامج الحاسوبية التي تخدم البحث في مجال السنة والسيرة النبوية…34
الباب الرابع: تبادل الخبرات مع المؤسسات التعليمية…36
والجامعات ومراكز البحوث…36
الفصل الأول: مساهمة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات في وضع وتقويم المناهج والخطط التعليمية.…36
الفصل الثاني: إيفاد الأساتذة للتدريس في الجامعات والمؤسسات التعليمية داخل المملكة وخارجها.…37(42/33)
الفصل الثالث: الارتباط بمركز البحث والمعلومات عن طريق الشبكة الحاسوبية.…38
الباب الخامس: المناشط العامة للجامعات…39
الفصل الأول: المناشط التي تُقدَّم من خلال وحدات الجامعة.…39
الفصل الثاني: المناشط التي تقدَّم من خلال أساتذة الجامعة.…41
الخاتمة…44
المصادر والمراجع…46
فهرس الموضوعات…49(42/34)