ثم عَنَّ لي أنْ أُبَوِّبَ قسم الأفعال أيضاً فبوبته على المنهاج المذكور، وجَمَعْتُ بين أحاديث الأقوال والأفعال.
وأذكر أولاً أحاديث ((منهج العمال))، ثم أذكر أحاديث ((الإكمال))، ثم أحاديث قسم الأفعال كتاباً بعد كتاب، فصار ذلك كتاباً واحداً، مميزاً فيه ما سبق، بحيث إن من أراد تحصيل قسم الأقوال أو الأفعال منفرداً أو تحصيلهما مجتمعين أمكنه ذلك، وسمّيتُه: ((كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال)).
فمن ظفر بهذا التأليف فقد ظفر بـ((جَمْع الجوامع)) مبوّباً، مع أحاديث كثيرة ليستْ في ((جَمْع الجوامع))، لأن المؤلف رحمه الله زادَ في ((الجامع الصغير)) و((ذيله)) أحاديثَ لم تكن في ((جمع الجوامع)).
وقد فرغ المتقي الهندي من تأليفه سنة (957ه).
الحلقة الثالثة: كتب الزوائد
تشتمل هذه المصنَّفات على حصر زوائد أحاديث كتب معينة على الكتب الأصول الخمسة أو الستة، أو على الكتب الستة ومسند الإمام أحمد، وترتيب هذه الأحاديث الزوائد على كتب وأبواب الأحكام الفقهية.
وهذه المصنَّفاتُ - ما عدا ((مجمع الزوائد)) للحافظ الهيثمي - كتبٌ موسوعية إسنادية ومَتْنية، يمكن الاستفادة منها في العمل الموسوعي للحديث الشريف. وأمَّا كتاب ((مجمع الزوائد)) فهو يقصر عن هذه الدرجة في التعامل الموسوعي لعدم اشتماله على أسانيد الأحاديث المذكورة، التي هي شرط من شروط العمل الموسوعي، ويمكن التعامل مع كتاب ((مجمع الزوائد)) والاستفادة منه في العمل الموسوعي المَتْني، وفي أحكام الحافظ الهيثمي عقب الأحاديث من حيث الصحة والحسن والضعف، وفي كلامه على بعض الرواة من حيث الجرح والتعديل.
وفيما يلي أهمّ المصنَّفات في كتب الزوائد، وهي:
1 - ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)): للإمام الحافظ نور الدِّين علي بن أبي بكر الهَيْثَمي (735 - 807ه).
2 - ((مجمع البحرَيْن في زوائد المعجمَيْن)): للحافظ الهيثمي أيضاً.(27/38)
3 - ((إتحاف الخِيَرة المَهَرة بزوائد المسانيد العشرة)): للحافظ شهاب الدّين أبي العباس أحمد بن أبي بكر الكِنَاني البُوصِيري (762 - 840ه).
4 - ((مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه)): للحافظ البُوصِيري أيضاً.
5 - ((المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية)): للإمام الحافظ شيخ الإسلام شهاب الدِّين أبي الفضل أحمد بن علي ابن حَجَر العسقلاني(773-852ه).
1 - ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد))
للإمام الحافظ نور الدِّين علي بن أبي بكر الهَيْثَمي (735 - 807ه).
اشتهر الحافظ الهيثمي بملازمة شيخه حافظ العصر زين الدين العراقي، ومصاهرته، والاستفادة منه، والإفادة من كتبه وأماليه، وقراءة أكثرها عليه.
وكان الهيثميُّ كثيرَ الاستحضار للمتون، يُسرع الجواب بحضرة شيخه العراقي، فيعجب الشيخ لذلك، فلذلك اهتمَّ به كثيراً، واعتنى به عناية فائقة، وتخرَّج به في الحديث الشريف، بل دَرَّبَه على إفراد زوائد أحاديث أمهات الكتب الحديثية على الكتب الستة، وأشار عليه بجمعها وتصنيفها في تصانيف مستقلّة، فكان من ذلك:
1 - ((غاية المقصد في زوائد مسند أحمد)) في مجلدين.
2 - ((كشف الأستار عن زوائد مسند البزار))، وهو مطبوع في أربعة مجلدات.
3 - ((المقصد العَلِيّ في زوائد أبي يعلى المَوْصِلِيّ)) في مجلد.
4 - ((البدر المنير في زوائد المعجم الكبير)) للطبراني، في ثلاثة مجلدات.
5 - ((مجمع البحرين في زوائد المعجمين)) الأوسط والصغير للطبراني، وهو مطبوع في تسعة مجلدات.
وبعد فراغ الحافظ الهيثمي من إفراد زوائد هذه الكتب وغيرها، أشارَ عليه شيخه أبو الفضل العراقي بجمع هذه التصانيف المذكورة مع حذف أسانيدها، لكي يجتمع أحاديثُ كُلِّ بابٍ منها في باب واحدٍ من هذا، فكان هذا التصنيف الجامع لهذه الزوائد بإشارة شيخه الحافظ العراقي وتسميته، مع الكلام على هذه الأحاديث بالصحة والحسن والضعف، وما في بعض رواتها من الجرح والتعديل. وهو مطبوع في عشرة أجزاء.(27/39)
قال العلاّمة محمد بن جعفر الكتاني(1): وهو من أنفع كتب الحديث، بل لم يوجد مثله كتاب، ولا صُنّف نظيره في هذا الباب.
وقد شرح العلاّمة الهيثمي في المقدمة(2) سبب تأليفه هذا الكتاب، وأسماء الكتب التي رتب عليها هذه الأحاديث الزوائد، وخطته في الكلام على الرواة جرحاً وتعديلاً، فقال رحمه الله تعالى:
((فقد كنتُ جمعتُ زوائد مسند الإمام أحمد وأبي يعلى الموصلي وأبي بكر البزَّار ومعاجيم الطبراني الثلاثة، كُلُّ واحدٍ منها في تصنيف مستقلّ، ما خلا المعجم الأوسط والصغير فإنهما في تصنيف واحد؛ فقال لي سيِّدي وشيخي العلاَّمةُ شيخُ الحُفَّاظ بالمشرق والمغرب ومفيدُ الكبار ومن دونهم الشيخ زين الدِّين أبو الفضل عبدالرحيم ابن العراقي: اجْمَعْ هذه التصانيف، واحْذِفْ أسانيدَها، لكي يجتمع أحاديثُ كُلِّ بابٍ منها في بابٍ واحدٍ من هذا.
فلمَّا رأيتُ إشارته إليَّ بذلك صَرَفْتُ همّتي إليه، وسألتُ الله تعالى تسهيله والإعانة عليه، وأسأل الله تعالى النَّفْعَ به، إنه قريبٌ مجيب.
وقد رَتَّبْتُه على كُتُبٍ أذكرها لكي يسهل الكشف منه...
وقد سَمَّيْتُه بتسمية سيِّدي وشيخي له: ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)).
وما تكلَّمتُ عليه من الحديث من تصحيحٍ أو تضعيف، وكان من حديث صحابي واحد، ثم ذكرتُ له متناً بنحوه؛ فإني أكتفي بالكلام عقب الحديث الأول، إلاَّ أن يكون المتنُ الثاني أصحَّ من الأول.
وإذا روى الحديثَ الإمامُ أحمدُ وغيرُه، فالكلام على رجاله، إلاَّ أن يكون إسنادُ غيره أصحَّ.
وإذا كان للحديث سندٌ واحدٌ صحيح، اكتفيتُ به من غيرِ نَظَرٍ إلى بقية الأسانيد، وإنْ كانت ضعيفة.
ومن كان من مشايخ الطبراني في ((الميزان)) نَبَّهْتُ على ضعفه.
ومن لم يكن في ((الميزان)) ألحقتُه بالثقات الذين بعده.
__________
(1) الرسالة المستطرفة)) ص ( 129 ).
(2) 1 / 7 - 8.(27/40)
والصحابةُ لا يُشترط فيهم أن يخرج لهم أهل الصحيح فإنهم عُدُول، وكذلك شيوخ الطبراني الذين ليسوا في ((الميزان)).
2 - ((مجمع البحرَيْن في زوائد المعجمَيْن))
وهو أيضاً للحافظ نور الدّين علي بن أبي بكر الهَيْثَمي (735-807ه).
جمع فيه الحافظ الهيثمي زوائد ((المعجم الأوسط)) و((المعجم الصغير))، كلاهما للإمام الطبراني، على الكتب الستة، فجمع فيه ما انفرد به الطبرانيُّ من حديثٍ بتمامه، أو حديث شارك فيه أصحابَ الكتب الستة مع زيادة عنده، مع تمييز هذه الزيادة والتنبيه عليها.
ولم يقتصر الحافظ الهيثمي في عمله هذا على معجمي الأوسط والصغير؛ بل أخرج فيه أيضاً ما رواه الترمذيُّ في ((الشمائل))، والنَّسائيُّ في ((السنن الكبرى)) ممَّا ليس في ((السنن الصغرى)) وهي ((المجتبى)).
وقد رَتَّب الحافظ الهيثمي هذه الأحاديث الزائدة على الكتب الستة على كتب الأحكام الفقهية، مبتدئاً بكتاب الإيمان، ومختتماً بكتاب الزهد.
وفصَّل رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه(1) خطته في عمله هذا، والعلامات التي استخدمها في الإشارة إلى المعجمين أو أحدهما، أو إلى كلام الطبراني، فقال:
((قد رأيتُ المعجم الأوسط والمعجم الصغير لأبي القاسم الطبراني ذي العلم الغزير، قد حَوَيا من العلم ما لا يحصل لطالبه إلاَّ بعد كشفٍ كبير؛ فأردت أن أجمع منهما كُلَّ شاردة، إلى بابٍ من الفقه يَحْسُنُ أن تكون فيه واردة.
فجمعتُ ما انْفَرَدَ به عن أهل الكتب الستة من حديثٍ بتمامه، وحديثٍ شاركهم فيه بزيادةٍ عنده مميّزاً لها بقولي: أخرجه فلان خلا كذا، أو ذكرتُه لأجل كذا، ولم أره بهذا السياق، وشِبْه هذا.
__________
(1) 1 / 45 - 49.(27/41)
وأخرجتُ فيه أيضاً: ما رواه الترمذيُّ في الشمائل، والنسائيُّ في الكبير ممَّا ليس في ((المجتبى)) الصغير، كعمل اليوم والليلة، والتفسير، والسير، والمناقب، والطب، وكثير من عشرة النساء، وشيء من الصيام. فما كان فيه من كتاب عشرة النساء في الكبير أو الصوم، وليس هو في الصغير، ذكرتُه، وقلتُ: أخرجه الشيخ جمال الدين في ((الأطراف))، وليس هو في ((المجتبى))، أو لم أره في نسختي.
فما كان من حديثٍ على أوله ( ق ) فهو في المعجم الصغير والأوسط، بإسناده سواء ومتنُه بنحوه أو مثله.
وما كان على أوله (ص) فهو ما انفردَ به الصغير، وما كان من الصغير وله أسانيد في الأوسط بدأتُ بإسناد الصغير، وذكرتُ طُرُقَه من الأوسط.
وقد رَتَّبْتُه على كُتُبٍ أذكرها لكي يسهل الكشف إن شاء الله تعالى...
وكُلُّ كلامٍ أقولُ في أوله: قلتُ، فهو من كلامي.
وما كان من كلامٍ على الحديث فهو من كلام الطبراني، وربما اختصرتُ من كلامه لطوله، ولا أُخِلُّ بمعناه إن شاء الله.
وربما قال: لا يُرْوَى عن فلانٍ إلاَّ بهذا الإسناد، ثم يرويه بإسنادٍ آخر، فأُنَبِّه عليه إنْ شاء الله.
وربما عَلَّمْتُ لكلام الطبراني (ط)، للفصل بين كلامه وكلامي.
وربما حصل اعتراضٌ عليه بأن يقول: لا يُرْوَى إلاَّ بهذا الإسناد، ونحوه من الكلام، ويكون رواه بإسنادٍ آخر)).
وقد طبع هذا الكتاب في تسعة مجلدات، وهو مجموع أيضاً - من حيث المتن - في كتابه السابق: ((مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)).
3 - ((إتحاف الخِيَرة المَهرة بزوائد المسانيد العشرة))
للحافظ الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل الكناني البُوصيري (762 - 840ه).
وهو كتاب موسوعي إسنادي ومَتْني، مهمّتُه حصر زوائد كتب معينة على الكتب الستة، مرتّباً على التبويب الفقهي.
وهو يُعَدّ لَبِنَةً في العمل الموسوعي الإسنادي والمَتْني.(27/42)
وقد شرح مصنِّفُه رحمه الله تعالى في المقدمة(1) الخِطَّةَ التي سلكها في هذا الكتاب بقوله: ((فقد استخرتُ الله الكريم الوهاب في إفراد زوائد مسانيد الأئمة الحُفَّاظ، الأعلام الأجلاّء الأيقاظ: أبي داود الطيالسي، ومُسَدَّد، والحُميدي، وابن أبي عمر، وإسحاق بن راهُويه، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن مَنِيع، وعَبْد بن حُمَيد، والحارث بن محمد بن أبي أُسامة، وأبي يعلى الموصلي الكبير؛ على الكتب الستة: صحيحي البُخاري ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنَّسائي الصغرى، وابن مَاجَهْ رضي الله عنهم أجمعين.
فإنْ كان الحديثُ في الكتبِ الستةِ أو أحدِها من طريق صحابيّ واحدٍ لم أُخرجه، إلاّ أنْ يكون الحديثُ فيه زيادةٌ عند أحد المسانيد المذكورة تَدُلُّ على حُكْمٍ فأُخرجه بتمامه، ثم أقول في آخره: رَوَوْه أو بعضهم باختصار، وربما بَيَّنْتُ الزيادة مع ما أَضُمُّه إليه من مُسْنَدَيْ أحمدَ بنِ حنبل والبَزَّار، وصحيحِ ابنِ حِبّان، وغيرِهم، كما سيُرى إنْ شاء الله تعالى.
وإنْ كان الحديث من طريق صحابيَّينِ فأكثرَ وانْفَرَدَ أحدُ المسانيد بإخراج طريقٍ منها أخرجتُه وإنْ كان المتن واحداً، وأُنَبِّهُ عقب الحديث أنه في الكتبِ الستةِ أو أحدِها من طريقِ فلانٍ مَثَلاً إنْ كان، لئلا يُظَنَّ أنَّ ذلك وَهَم.
فإنْ لم يكن الحديثُ في الكتبِ الستةِ أو أحدِها من طريقِ صحابيّ آخرَ ورأيتُه في غير الكتب الستة، نَبَّهْتُ عليه للفائدة وليُعلم أنَّ الحديث ليس بفرد.
وإنْ كان الحديثُ في مُسْنَدَيْنِ فأكثرَ من طريقِ صحابيٍّ واحدٍ، أوردتُه بطُرُقِه في موضع واحدٍ إن اخْتَلَف الإسناد، وكذا إن اتَّحَدَ الإسنادُ بأنْ رواه بعضُ أصحاب المسانيد مُعَنْعَناً وبعضُهم صَرَّحَ فيه بالتحديث.
فإن اتَّفَقَت الأسانيدُ في إسنادٍ واحدٍ ذكرتُ الأولَ منها، ثم أُحيل عليه.
__________
(1) 1/56 - 58.(27/43)
وإن كان الحديثُ في مُسْنَدٍ بطريقَيْنِ فأكثرَ ذكرتُ اسمَ صاحبِ المُسْنَدِ في أول الإسناد، ولم أذكره في الثاني ولا ما بعده، بل أقول: قال، ما لم يحصل اشتباه. هذا كُلُّهُ في الإسناد.
وأمّا المتنُ فإن اتَّفَقَت المسانيدُ على مَتْنٍ بلفظٍ واحدٍ سُقْتُ مَتْنَ المُسْنَدِ الأول حَسْبُ، ثم أُحِيلُ ما بعده عليه.
وإن اختلفت ذكرتُ مَتْنَ كُلِّ مُسْنَدٍ.
وإن اتَّفَقَ بعضٌ واخْتَلَفَ بعضٌ ذكرتُ المُخْتَلَفَ فيه، ثم أقولُ في آخره: فذَكَرَه.
وقد أوردتُ ما رواه البُخاريُّ تعليقاً، وأبو داود في المراسيل، والترمذيُّ في الشمائل، والنَّسائيُّ في الكبرى وفي عمل اليوم والليلة، وغيرَ ذلك مما ليس في شيء من الكتب الستة.
ورَتَّبْتُه على مئةِ كتابٍ، أذكرُها لِيَسْهُلَ الكشفُ منها...)). انتهى كلام الحافظ البُوصيري رحمه الله تعالى.
بدأ المؤلِّف كتابه هذا في شوال سنة (817ه)، وفرغ منه في مستهلّ شهر ذي الحجة من سنة (823ه)، وظلَّ المؤلف يُحقّق ويُحَرِّر فيه أكثر من ست سنوات، وقد قال: فرغت المسودة في ثلاث سنين.
ولا يعد كتابه من كتب الأطراف، لأنَّ الخِطّة المتّبعة في كتب الأطراف ذِكْرُ الصحابي، ثم ذِكْرُ الرواة عنه، وهكذا...، ثم إيرادُ طَرَفٍ من الحديث للدلالة عليه، وليس فيها استيعابُ المتون ولا الترتيبُ الفِقْهيّ.
4 - ((مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه))
وهو أيضاً من تأليف الحافظ شهاب الدين البُوصيري (762-840ه).
جمع فيه زوائد ابن ماجه القزويني على الكتب الخمسة، مع ترتيب هذه الأحاديث الزوائد على الأبواب الفقهية.
وقد أبان في مقدمة كتابه(1) عن خطته التي سلكها في التصنيف بقوله:
((فقد استخرتُ اللهَ عزَّ وجلَّ في إفراد زوائد الإمام الحافظ أبي عبدالله محمد بن يَزيد بن ماجه القَزْوِيني، على الخمسة الأُصول: صحيحي البخاري ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنَّسائي الصغرى رواية ابن السُّنّي.
__________
(1) 1 / 39 - 40.(27/44)
فإنْ كان الحديث في الكتب الخمسة أو أحدها من طريق صحابي واحد لم أُخرجه إلاَّ أن يكون فيه زيادةٌ عند ابن ماجه تدلُّ على حُكْم.
وإنْ كان من طريق صحابيين فأكثر، وانفرد ابنُ ماجه بإخراج طريقٍ منها، أخرجتُه ولو كان المتنُ واحداً، وأُنَبِّهُ عقبَ كُلِّ حديثٍ أنه في الكتب الخمسة المذكورة أو أحدها، من طريق فلان مثلاً إنْ كان.
فإنْ لم يكن ورأيتُ الحديث في غيرها نَبَّهْتُ عليه للفائدة، وليُعلم أنَّ الحديث ليس بفَرْد.
ثم أتكلَّم على كُلِّ إسنادٍ بما يَلِيق بحاله من صحة أو حسن أو ضعف وغير ذلك، وما سَكَتُّ عليه ففيه نظر.
وهذا ترتيب كُتُبه أذكرها ليسهل الكشف منها...)).
5 - ((المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية))
للإمام الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حَجَر العسقلاني ( 773 - 852ه).
وهو كتاب موسوعي إسنادي ومَتْني، جمع فيه الحافظ زوائد أحاديث المسانيد العشرة على الكتب الستة ومسند أحمد، ورَتَّبها على أبواب الأحكام الفقهية.
وإنما زاد العدد مسندَيْنِ، لأنَّ الحافظ ابن حجر وقف على قدر النصف من ((مسند إسحاق بن راهويه)) فأضافه إلى بقية المسانيد، وكذلك تتبَّع ما فات الحافظ الهيثمي من ((المسند الكبير)) لأبي يعلى الموصلي رواية ابن المقرئ، فأضافه أيضاً، فصارت المسانيد عشرة.
ولم يقتصر الحافظ ابن حجر على هذه المسانيد العشرة، بل زادَ إليها بعض الأحاديث من ((مسند البزَّار))، و ((المعجم الكبير)) و ((المعجم الأوسط)) للطبراني، وغيرها.(27/45)
وقد بَيَّنَ الحافظ في المقدمة(1) أسماء المسانيد العشرة التي عمل زوائدها، وكذلك شرطه في كتابه هذا، فقال رحمه الله تعالى: ((فإنَّ الاشتغالَ بالعِلْمِ، خصوصاً بالحديث النبوي، من أفضل القُربات، وقد جَمَع أئمَّتُنا منه الشَّتات على المسانيد والأبواب المُرَتَّبات، فرأيتُ جَمْعَ جميعِ ما وَقَفْتُ عليه من ذلك في كتابٍ واحدٍ ليَسْهُلَ الكشفُ منه على أُولي الرَّغَبات، ثم عَدَلْتُ إلى جَمْعِ الأحاديثِ الزائدةِ على الكُتُبِ المشهوراتِ في ((الكتب المُسْنَدات)).
وعَنَيْتُ بـ((المشهوراتِ)): الأُصولَ الستةَ ومسندَ أحمد.
وبـ((المُسْنَدَاتِ)): ما رُتِّبَ على مسانيدِ الصحابة.
وقد وَقَعَ منها ثمانيةٌ كاملاتٌ، وهي: لأبي داود الطيالسي، والحُمَيْدِيّ، وابنِ أبي عُمَرَ، ومُسَدَّد، وأحمدَ بنِ مَنِيع، وأبي بكر بن أبي شَيْبَة، وعَبْدِ بن حُمَيْد، والحارثِ بن أبي أُسامة.
ووَقَعَ لي منها أشياءُ كاملةٌ أيضاً: كمُسْنَدِ البَزَّار، وأبي يعلى، والطبراني.
لكنْ رأيتُ شيخَنا أبا الحَسَن الهَيْثَمِيَّ قد جَمَعَ ما فيها وفي مسند أحمد في كتاب مُفْرَدٍ محذوفِ الأسانيد، فلم أرَ أنْ أُزاحمَه عليه، إلاّ أنني تَتَبَّعْتُ ما فَاتَه من مُسْنَدِ أبي يعلى لكَوْنِه اقْتَصَرَ في كتابه على الرواية المختصَرة.
ووَقَعَ لي عِدَّةٌ من المسانيد غيرُ مُكَمَّلة: كمسندِ إسحاق بن رَاهُوْيَه، ووَقَفْتُ منه على قَدْرِ النِّصْف، فتَتَبَّعْتُ ما فيه، فصارَ ما تَتَبَّعْتُه من ذلك عشَرة دواوين. ووَقَفْتُ على قِطَعٍ من عِدَّةِ مسانيد: كمسند الحسن بن سفيان، ومحمد بن هشام السدوسي، ومحمد بن هارون الروياني، والهيثم بن كليب، وغيرِها.
__________
(1) 1 / 47 - 48.(27/46)
فلم أكتبْ منها شيئاً لَعَلّي إذا بَيَّضْتُ هذا التصنيفَ أنْ أَرْجِعَ فأَتَتَبَّعَ ما فيها من الزوائد، وأُضِيفَ إلى ذلك الأحاديثَ المتفرقةَ من الكتب التي على فوائد الشيوخ. وسَمَّيْتُه:((المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية)).
وشَرْطي فيه ذِكْرُ كُلِّ حديثٍ وَرَدَ عن صحابيّ لم يُخْرِجْه الأُصولُ السبعةُ من حديثه ولو أخرجوه أو بعضُهم من حديثِ غيرِه مع التنبيهِ عليه أحياناً)).
الحلقة الرابعة: كتب الشروح
من الواجب عند التصدّي للتصنيف الموسوعي الاستفادة من شروح كتب السنة وحواشيها، إذْ نرى فيها أعمالاً موسوعية كثيرة، مجموعة ومناقشة ومدللة، وفيها الترجيح والجمع والتوفيق بين الروايات.
وفائدة هذه الكتب الوقوف عملياً على مواطن العلَّة في الأسانيد والأحاديث المتكلَّم فيها، وعلى اختيارات الأئمة في مصنَّفاتهم من الترجيح والنقد والتصحيح، ومن الآراء والأقوال في الفقه والتشريع.
ومن فائدتها أيضاً: أنها تُلقي الأضواء الكاشفة عند الجمع الموسوعي للتخلُّص من التعارض بين النصوص في الشدائد والمهمات، إذْ في هذه الشروح والحواشي قَدْرٌ كبيرٌ وهائلٌ من هذا النوع، يُستغنى به عن الاضطراب المتوقَّع عند الجمع الموسوعي، وأدنى ما فيه نَقْلُ أقوالِهم وآرائِهم في ذلك، إذْ قد يفتح الله تعالى للباحث شيئاً لم يكن عند المتقدِّمين، وهذا وإن كان نادراً، لكن يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار.
وكنتُ قد أفردتُ مبحثاً بعنوان: ((وجوب الاستفادة من شروح كتب السُّنَّة في العمل الموسوعي))، ولكني لم أستطع إلحاقه في هذا البحث لضيق المقام عن ذلك.
وقد تطرقتُ فيه إلى أهمّ الفوائد المستفادة من الموسوعة الكبرى للحافظ ابن حجر: ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري))، مع ذكر نماذج متعددة لكل فائدة، وفيما يلي عناوين هذه الفوائد:
1 - الجمع الموسوعي يساعدُ في الردّ على من تكلَّم على الحديث بقصورٍ أو إخلال.(27/47)
2- الجمع الموسوعي يرفع الإشكال ممَّا ظاهره التعارض.
3 - الجمع الموسوعي يفيدُ في التحقق من الإدراج في الحديث.
4 - الجمع الموسوعي يصحح التحريف الواقع في الأحاديث.
5 - الجمع الموسوعي يظهرُ الأصحَّ من الصحيح.
6 - الجمع الموسوعي يردُّ ما في بعض المراسيل من العقائد الباطلة.
7 - الجمع الموسوعي يدفع التعليلات الواهية لردّ الروايات الصحيحة.
8 - الجمع الموسوعي يردُّ التأويل أو التخمين في توجيه بعض الأحاديث، وبخاصة في مباحث العقيدة.
9 - الجمع الموسوعي يفيدُ في بيان نسبة الراوي المهمل، أو التمييز بين الرواة.
10 - الجمع الموسوعي يدفع حصر رواية لفظٍ في راوٍ واحد ( التفرد ).
11 - الجمع الموسوعي يُزيل شبهة الانقطاع عن المدلس.
ومن أهمّ كتب الشروح:
1 - ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) للإمام ابن عبدالبرّ
(368 - 463ه).
2 - ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري)) لشيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني (773 - 852ه).
1 - ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد))
للإمام الحافظ يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبَرّ النمري القرطبي
( 368 - 463ه).
وهو دائرة معارف كبرى في علم الحديث، والفقه، والتراجم، والجرح والتعديل، ومصطلح الحديث، واللغة، والشعر.
وهو موسوعة حديثية شاملة، لم يقف المؤلِّف فيها عند كتب الحديث الستة أو العشرة، بل جمع فيها كثيراً من المصنَّفات والمسانيد وكتب الأجزاء والمعاجم.
وفي مصطلح الحديث لا يكتفي بإيراد القاعدة مجردة، بل يصحبها بتطبيق عملي، يجعلك تُدرك مواطن العلَّة في الأسانيد والأحاديث المتكلَّم فيها، فكم من أسانيد ردَّها، وأحاديث أعلَّها.
والإمام ابن عبدالبرّ في جميع ذلك يختار ويُرجح، وينقد ويُصحح، وينفرد بروايات وأحاديث أسندها من طريقه، وبآراء واختيارات في الفقه والتشريع.(27/48)
وبالجملة فهو موسوعة شاملة في الفقه والحديث، استغرق في تصنيفه وتأليفه ثلاثين سنة، وهو كما قال ابن حزم فيه(1): إنه كتابٌ لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه؟!
وقد ذكر الحافظ ابن عبدالبرّ في المقدمة(2) الباعثَ الذي حمله على تأليف هذا الكتاب، فقال: ((إني رأيتُ كُلَّ من قصد إلى تخريج ما في موطأ مالك ابن أنس رحمه الله، من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قصد بزعمه إلى المسند، وأضرب عن المنقطع والمرسل، وتأمَّلتُ ذلك في كل ما انتهى إليَّ ممَّا جُمع في سائر البلدان، وأُلِّف على اختلاف الأزمان، فلم أَرَ جامعيه وقفوا عند ما شرطوه، ولا سَلِمَ لهم في ذلك ما أمَّلُوه، بل أدخلوا من المنقطع شيئاً في باب المتصل، وأَتَوْا بالمرسل مع المسند.
وكُلُّ من يتفقه منهم لمالك وينتحله، إذا سألت من شئتَ منهم عن مراسيل ((الموطأ))، قالوا: صحاحٌ لا يسوغُ لأحدٍ الطعنُ فيها، لثقة ناقليها، وأمانة مرسليها، وصَدَقُوا فيما قالوه من ذلك، لكنها جملة ينقصها تفسيرهم بإضرابهم عن المرسل والمقطوع)).
وقد أشارَ الحافظ ابن عبدالبرّ في المقدمة(3) إلى المنهج الذي سلكه في جمعه وتصنيفه هذا الكتاب، فقال رحمه الله تعالى:
((1 - رأيتُ أنْ أجمع في كتابي هذا كُلَّ ما تضمَّنه ((موطأ مالك بن أنس)) رحمه الله، في رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي عنه، من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مسنده، ومقطوعه، ومرسله، وكلّ ما يمكن إضافته إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
2 - وإنما اعتمدتُ على رواية يحيى بن يحيى خاصَّة، لموضعه عند أهل بلدنا، من الثقة والدِّين والفضل والعلم والفهم، ولكثرة استعمالهم لروايته وراثةً عن شيوخهم وعلمائهم، إلاَّ أنْ يسقطَ من روايته حديثٌ من أُمَّهات أحاديث الأحكام أو نحوها، فأذكره من غير روايته.
__________
(1) انظر ((وفيات الأعيان)) 7 / 67.
(2) 1 / 1 - 2.
(3) 1/8 - 10.(27/49)
3 - ورَتَّبْتُ ذلك مراتب، قَدَّمْتُ فيها المتصل، ثم ما جرى مجراه ممَّا اختُلف في اتصاله، ثم المنقطع والمرسل.
4 - وجعلتُه على حروف المعجم في أسماء شيوخ مالك رحمهم الله، ليكون أقرب للمتناول.
5 - ووصلتُ كُلَّ مقطوعٍ جاء متصلاً من غير رواية مالك، وكُلَّ مرسلٍ جاء مسنداً من غير طريقه، فيما بلغني عنه، وصَحَّ بروايتي جمعه، ليرى الناظرُ في كتابنا هذا موقع آثارِ ((الموطأ)) من الاشتهار والصحة. واعتمدتُ في ذلك على نقل الأئمّة، وما رواه ثقاتُ هذه الأُمّة.
6 - وذكرتُ من معاني الآثار وأحكامها المقصودة بظاهر الخطاب، ما عَوَّلَ على مثله الفقهاءُ أولو الألباب.
7 - وجلبتُ من أقاويل العلماء في تأويلها، وناسخها ومنسوخها، وأحكامها ومعانيها، ما يشتفي به القارئ الطالب ويُبصره، وينبّه العالم ويذكره.
8 - وأتيتُ من الشواهد على المعاني والإسناد، بما حضرني من الأثر ذكره، وصحبني حفظه، ممَّا تعظم به فائدةُ الكتاب.
9 - وأشرتُ إلى شرح ما استعجم من الألفاظ، مقتصراً على أقاويل أهل اللُّغة.
10 - وذكرتُ في صدر الكتاب من الأخبار الدالّة على البحث عن صحة النقل، وموضع المتصل والمرسل، ومن أخبار مالك رحمه الله، وموضعه من الإمامة في علم الديانة، ومكانه من الانتقاد والتوقِّي في الرواية، ومنزلة
((موطئه)) عند جميع العلماء المؤالفين منهم والمخالفين؛ نُبَذاً يَسْتَدِلُّ بها اللبيبُ على المراد، وتُغني المقتصر عليها عن الازدياد.
11 - وأومأتُ إلى ذكر بعض أحوال الرواة، وأنسابهم، وأسنانهم، ومنازلهم.
وذكرتُ من حفظتُ تاريخَ وفاتِه منهم. مُعتمداً في ذلك كُلِّه على الاختصار، ضارباً عن التطويل والإكثار)).(27/50)
وهكذا لم يَسِر الإمام ابن عبدالبرّ في كتابه ((التمهيد)) على نهج ((الموطأ)) في ترتيب الأحاديث والآثار على أبواب الفقه، بل رَتَّبَه ترتيباً معجمياً حسب أسماء شيوخ الإمام مالك، وهم اثنان وتسعون شيخاً، أورد لكُلِّ شيخٍ أحاديثه، ومجموعها: ثمان مئة وخمسون حديثاً، ما بين متصل ومرسل ومقطوع وبلاغ؛ وشرحها شرحاً مسهباً، وأضاف إليها أضعاف أضعافها من الأحاديث والآثار، مع نقد رجال الأسانيد، واستنباط الأحكام، ممَّا جعله أكبر موسوعة حديثية فقهية، وأحلَّه مقاماً خاصّاً بين شروح ((الموطأ))، وعدَّه العلماء من المحدِّثين والفقهاء مرجعاً هاماً في بابه وموضوعه، وفي طريقة شرحه وبحثه.
وقد كمل تحقيق هذا الكتاب وطبعه في أربعة وعشرين جزءاً، ثم أضيف إليها الجزءان الخامس والعشرون والسادس والعشرون، واشتملا على الفهارس العامّة للكتاب، تيسيراً للاستفادة منه عند الرجوع إليه.
2 - ((فتح الباري بشرح صحيح البخاري))
للإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن علي بن حَجَر العسقلاني
( 773 - 852ه).
وهو من أجلّ شروح ((صحيح البخاري)) وأعظمها نفعاً، وأكثرها ذيوعاً وشهرة. اقتصر الحافظ ابن حجر في هذا الشرح على أتقن الروايات، وهي رواية أبي ذرّ الهَرَوِيّ عن مشايخه الثلاثة، لضبطه لها، وتمييزه لاختلاف سياقها، مع تنبيهه على ما يُحتاج إليه مما يخالفها(1).
وهذا الشرح يُعَدُّ من التصانيف التي ارتضاها الحافظ ابن حجر من عمله، قال الحافظ السخاوي(2): ((وقد سمعتُ الحافظ ابن حجر يقول: لستُ راضياً عن شيءٍ من تصانيفي، لأني عملتُها في ابتداء الأمر، ثم لم يتهيَّأْ لي مَنْ يُحَرِّرُها معي، سوى شرح البخاري، ومقدمته، والمشتبه، والتهذيب، ولسان الميزان)).
__________
(1) انظر ((فتح الباري)) 1 / 7.
(2) الجواهر والدرر)) 2 / 659.(27/51)
وقال أبو الفضل بن الشحنة(1): ((وألَّف الحافظُ ابن حجر في فنون الحديث كتباً عجيبة، أعظمها ((شرح البخاري))، وعندي أنه لم يشرح
((البخاريَّ)) أحدٌ قبله، فإنه أَتَى فيه بالعجائب والغرائب، وأوضحه غاية الإيضاح، وأجاب عن غالب الاعتراضات، ووَجَّهَ كثيراً ممَّا عجز غيرُه عن توجيهه)).
وقال الحافظ السخاوي في أهمية هذا الشرح وبيان مراحل العمل فيه(2):
((وهو أَجلُّ تصانيفه مطلقاً، وأنفعها للطالب مغرباً ومشرقاً، وأجلُّها قدراً، وأشهرُها ذكراً، بحيث رأيتُ بخطّ مؤلِّفه قبل تمامه ما نصُّه: ولولا خشيةُ الإعجاب، لشرحتُ ما يستحق أن يوصف به هذا الكتاب، لكنْ لله الحمدُ على ما أَوْلَى، وإيَّاه أسألُ أن يُعين على إكماله منّاً وطَوْلاً.
وكان الابتداء فيه في أوائل سنة سبع عشرة وثمانمئة على طريق الإملاء، ثم صار يكتبُ من خطّه مداولة بين الطلبة شيئاً فشيئاً، والاجتماع في يوم من الأسبوع للمقابلة والمباحثة، وذلك بقراءة شيخنا العلاّمة ابن خضر، إلى أن انتهى في أول يوم من رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمئة، سوى ما ألحق فيه بعد ذلك فلم يَنْتَهِ إلاَّ قُبيل وفاة المؤلِّف بيسير.
وجاء بخطّ مؤلِّفه في ثلاثة عشر سفراً، وبُيِّض في عشر، وعشرين، وثلاثين، وأزيد وأقلّ(3).
وكان عقب فراغ المقدِّمة شرع في شرحٍ أطال فيه النَّفَس، وكتب منه قطعةً تكون قدر مجلد، ثم خشي الفُتُور عن تكميله على تلك الصفة، فابتدأ في شرح متوسط، وهو ((فتح الباري)).
__________
(1) المصدر السابق 1 / 329.
(2) المصدر السابق 2 / 675 - 676.
(3) طبع ((فتح الباري)) طبعات متعددة، أشهرها طبعة المكتبة السلفية بالقاهرة في ( 13 ) مجلداً.
وطبعت مقدمته ((هدي الساري)) في مجلد مفرد.(27/52)
قال شيخنا: فلمَّا كان بعد خمس سنين أو نحوها، وقد بُيِّض منه مقدار الربع على طريقةٍ مثلى، اجتمع عندي من طلبة العلم المهرة جماعةٌ وافقوني على تحرير هذا الشرح، بأن أكتب الكُرَّاس، ثم يُحصِّلُه كُلٌّ منهم نسخاً، ثم يقرؤه أحدهم، ويعارض معه رفيقُه، مع البحث في ذلك والتحرير، فصار السِّفْرُ لا يكمل منه إلاَّ وقد قُوبل وحُرِّر، ولزم من ذلك البُطْءُ في السير لهذه المصلحة، إلى أن يَسَّرَ الله تعالى إكماله في شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وثمانمئة.
ومقدّمته المسمَّاة: ((هدي الساري))، في مجلدٍ ضخمٍ أو مجلدين، كملت في سنة ثلاث عشرة وثمانمئة، تشتمل على جميع مقاصد الشرح سوى الاستنباط)). انتهى.
وقد وصف الحافظ البقاعي في ((عنوان الزمان))(1) أسلوب الحافظ ابن حجر في هذا الشرح بقوله: ((ولقد حرص في هذا الشرح على رشاقة العبارة وإيجازها، مع الإيضاح والبيان، وتتبُّع اختلاف العلماء، فربما وصل الأقوال في المسألة الواحدة إلى ستة وأربعين قولاً، ويذكر الإعراب، واللغة، والبديع، وغير ذلك، وله مسلك بديع في عدم التكرار)).
إنَّ شهرة ((فتح الباري)) وامتيازه على بقية الشروح ترجعُ إلى ما يشتملُ عليه من الفوائد الحديثيَّة والفقهية، وما ينفردُ به من جمع الطرق للحديث الواحد، التي يتبيَّن منها ترجيح أحد الاحتمالات في الإسناد أو المتن.
ولا عجب في ذلك فهو-رحمه الله تعالى- حافظُ الإسلام، وعلاّمةٌ في معرفة الرجال واستحضارهم، والعالي والنازل، مع معرفة قوية بعلل الأحاديث، وبراعة حسنة في الفقه وغيره.
ب – أهم المصنفات الموسوعية عند المعاصرين
1 - ((المسند الجامع)): للدكتور بشَّار عواد معروف وآخرين.
2 - ((موسوعة الحديث النبوي)): للدكتور عبدالملك بكر عبدالله قاضي.
1 - ((المسند الجامع))
__________
(1) انظر ((معجم المصنفات الواردة في فتح الباري)) ص ( 11 ).(27/53)
وهو كتاب موسوعيٌّ إسناديٌّ مَتْنِيٌّ لكتب مخصصة، مرتب على مسانيد الصحابة، مع ترتيب أحاديث كل صحابي على أبواب الفقه المعروفة في كتب الجوامع والسنن.
وقد صدر هذا ((المسند الجامع)) في عشرين مجلداً، قام بجمعه وترتيبه وتحقيقه: الدكتور بشار عواد معروف وآخرون، وبلغ عدد تراجمه (1237) ترجمة، كما بلغت أحاديثه ( 17802 ) من غير المكرر.
وقد جَمَعَتْ هذه الموسوعةُ واحداً وعشرين مصدراً من كتب السُّنَّة المُشَرَّفة، بحيث اشتملتْ على جميع الأحاديث وطرقها الواردة فيها، وهي:
1 - الموطأ: لأبي عبدالله مالك بن أنس (ت179ه)، برواية يحيى بن يحيى الليثي.
2 - المسند: لأبي بكر عبدالله بن الزبير الحُمَيْدي (ت219ه).
3 - المسند: لأبي عبدالله أحمد بن حنبل (ت241ه).
4 - المسند: لأبي محمد عبدبن حُمَيْد (ت249ه).
5 - السنن: لأبي محمد عبدالله بن عبدالرحمن الدَّارمي (ت 255ه).
6 - الجامع الصحيح: لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري
(ت256ه).
7 - الأدب المفرد: للبخاري أيضاً.
8 - رفع اليدين: للبخاري أيضاً.
9 - جزء القراءة خلف الإمام: للبخاري أيضاً.
10 - خلق أفعال العباد: للبخاري أيضاً.
11 - الجامع الصحيح: لأبي الحُسَيْن مسلم بن الحجَّاج القُشَيْري
(ت261ه).
12 - السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث (ت275ه).
13 - السنن: لأبي عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه (ت275ه).
14 - الجامع: لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت279ه).
15 - الشمائل: للترمذي أيضاً.
16 - الزوائد: وهي ما زاده عبدالله بن أحمد بن حنبل (ت290ه) على مسند أبيه، وهي ضمن أحاديث ((المسند)).
17 - السنن: لأبي عبدالرحمن أحمد بن شُعَيْب النَّسائي (ت 303ه)، وهي ((المجتبى)).
18 - عمل اليوم والليلة: للنَّسائي أيضاً.…
19 - فضائل القرآن: للنَّسائي أيضاً.
20 - فضائل الصحابة: للنَّسائي أيضاً.
21 - صحيح ابن خُزَيْمة: وهو القسم الذي تَمَّ العثور عليه حتى الآن.(27/54)
وسبب تسمية هذا الكتاب بـ((المسند الجامع))، يرجع إلى أمرين، بَيَّنهما القائمون على هذه الموسوعة، وهما:
1 - كون هذا الكتاب مرتباً على مسانيد الصحابة.
2 - كونه جامعاً لكل الأحاديث المذكورة في الكتب المتقدم ذكرها.
وقد شرح القائمون على هذا الكتاب الخطَّة التي سلكوها في تصنيف هذه الموسوعة وجمعها وترتيبها، وهي تتلخص في النقاط الآتية:
1 - جمع أحاديث كل صحابي على حدة، مع ترتيب أسماء الصحابة على حروف المعجم.
2 - ترتيب أحاديث كل صحابي على أبواب الفقه المعروفة في كتب الجوامع والسنن.
3 - تقسيم المسانيد إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في مسانيد الصحابة.
الباب الثاني: في مسانيد من اشتهر بالكنية من الصحابة، ثم الأبناء والمجهولين.
الباب الثالث: في مسانيد النساء، على النسق السابق.
4 - بداية كل حديث بذِكْر من رواه عن الصحابي، ثم ذكر متن الحديث كاملاً مضبوطاً بالشكل.
5 - إغفال المقاطيع والمراسيل والمعلقات ومجاهيل الأسماء، من ذكرها في هذا الكتاب.
6 - ذكر مواطن الروايات الواقعة في جُمَّاع هذه الكتب، مرتبة حسب قدم مؤلفيها، لبيان علوّ السند، وأحقية السبق، وإفادة المتأخر من المتقدم.
7 - تتبع تشعب الأسانيد والطرق بدءاً من الشيخ الذي روى عنه صاحب الكتاب، وانتهاءً بالصحابي أو التابعي الراوي عن الصحابي، مع العناية بفَصْل كل طريق مستقل على حدة.
8 - جعل رواية كل من روى الحديث عن الصحابي حديثاً مستقلاً، سواء أكان الراوي صحابياً أم تابعياً، وهو يوضح طرق الحديث، ويعين على معرفة قوة الأسانيد أو ضعفها.
9 - ترقيم الأحاديث بترقيم متسلسل من أول الكتاب إلى آخره، وكذلك ترقيم أحاديث كل صحابي بترقيم متسلسل، في كُلِّ مسند، لمعرفة عدد الأحاديث التي رواها كُلُّ صحابي.
10 - العزو إلى مصادر هذه الموسوعة بذكر رقم الحديث، ما عدا موطأ مالك ومسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم والمجتبى، فبذكر الجزء والصفحة.(27/55)
11 - التنبيه على أنَّ هذا ((المسند الجامع)) قد جمع الأحاديث الواردة في مصادرها، صحيحها وضعيفها، دون الحكم عليها أو بيان عللها، خوفاً من تضخم الكتاب أو أن تكون هناك طرق صحيحة في غير هذه الكتب لم يَقِفْ عليها المحققون.
وفي نهاية المقدمة نبَّه جامعو هذه الموسوعة على سبب اختيار هذه الطريقة، وهي ترتيب الكتاب على المسانيد، فقالوا:
((وإنما فعلنا ذلك لما وجدنا من سهولة هذا الترتيب وجزيل فوائده وعوائده لبيان الأسانيد وتشعُّب طرقها في جمع السنة النبوية المطهرة، وتمييز صحيحها من سقيمها مستقبلاً. على أنَّ الفهارس الكثيرة المختلفة الفنية ستتكفل - من غير شكّ - بتهيئة مادة ((المسند الجامع)) لطلابها، وتُيسِّر عليهم الرجوع إليها، وتُعينهم على ابتغاء طلبتهم بما يشتهون من غير عناءٍ ولا تعب، فهناك:
أ - فهارس جامعة لأحاديث الكتاب، تنظّمها مجدداً على كتب الفقه وأبوابه المتشعبة المفصّلة، بحيث تشيرُ إلى جميع الأحاديث الواردة في أيَّة مسألة فقهية من مسائله الدقيقة.
ب - وأخرى تنظّم أوائل الأحاديث على حروف المعجم.
ج - وثالثة تفهرس ألفاظها.
وهَلُمَّ جرّاً ممَّا سَيَسُرُّ طلبة العلم إن شاء الله تعالى.
وكان الفراغ من كتابة وتنضيد هذه الموسوعة في الخامس عشر من ذي القعدة سنة 1412ه)).
وجاء في الخاتمة:((أنَّ هذا المشروع إنما هو نواة لمشاريع كبرى للعناية بالسُّنَّة النبوية الشريفة، إذْ سيُضاف إليه مستقبلاً العديد من الكتب، بل نأمل أن يخرج مسنداً مُعَللاً لتتم فوائده، وتُرتجى عوائده)).
2 - ((موسوعة الحديث النبوي))
تصنيف د / عبدالملك بكر عبدالله قاضيُ
ويقوم هذا المشروع على جمع أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصنيفها من مصادرها المعتمدة والمعتبرة، بنهج معين، وفي سِفْرٍ جامع.
وقد صدر من هذه السلسة الكتب التالية:
1 - أحاديث الزكاة ( 1406ه).…
2 - أحاديث الصيام ( 1407ه).
3 - أحاديث الحج والعمرة ( 1408ه).(27/56)
4 - أحاديث الحرمين الشريفين والأقصى المبارك ( 1408ه).
5 - صلاة الجمعة ( 1410ه).
ومصادر هذه الموسوعة هي الكتب المطبوعة، والتي بلغت في الكتب الأربعة من هذه السلسلة: ( 164 ) كتاباً، وفي الكتاب الأخير ( 230 ) كتاباً. بدءاً من ((صحيفة هَمَّام بن مُنَبِّه)) (ت132ه)، وختماً بكتاب ((ضوء الشمعة في عدد الجمعة)) للسيوطي ( 911ه).
وهذه الكتب المطبوعة هي من كتب الرواية الحديثية المعتمدة باعتبارها مصادرَ أصليةً للحديث من جوامع، وصحاح، وسُنَن، ومسانيد، ومعاجم، ومستخرجات، ومستدركات، وغيرِ ذلك.
وقد بَيَّن المصنِّف خطَّته في مقدمة ((موسوعة الحديث النبوي))(1) فقال:
((ويتكون هذا المشروع مستقبلاً من ثلاث مجموعات، جميعها مرتبة الأبواب والموضوعات، على النحو التالي:
1 - ديوان الأَثَر.………2 - موسوعة الحديث النبوي.
3 - الهَدْي النبوي.
أولاً: ديوان الأثر: يقوم على استيفاء، واستقصاء، واستيعاب جميع النصوص التي وردت في مصادر المشروع على اختلاف أسانيدها، واختلاف ألفاظها بحيث يكون بين أيدي الباحثين كل السنن والآثار: صحيحها، وحسنها، وضعيفها. مع تعليقات، وتعقيبات المصنفين، ونقولهم عن غيرهم. مع ذكر عناوين كتب، وأبواب، وأجزاء، وأرقام صفحات هذه النصوص كما وردت في المصنفات الحديثية. مرتبة نصوص الباب الواحد حسب أقدمية وفيات المصنفين.
ورقمت أبواب وروايات الديوان ترقيماً تصاعدياً. وأشرت إلى اسم المصنف الذي أخذت منه الرواية واسم مصنفه، ورقم الجزء والصفحة، وذلك في قوس في نهاية الرواية.
__________
(1) انظر ((صلاة الجمعة)) ص 20 – 22.(27/57)
كما أوردت عناوين الكتب والأبواب التي وردت في المصنفات التي تعنى بذلك، وذلك في مقدمة الروايات، يفصلهما خط مائل، وحيثما تكون الإشارة مائلة، فإن ما بعدها هو اسم الباب الذي في المصنف الذي أخذت منه الرواية، وما قبلها اسم الكتاب. وإذا تكررت الإشارة، ولم يذكر قبلها شيء، فهذا يعني أن الباب يتبع الكتاب السابق نفسه.
ثانياً: موسوعة الحديث النبوي: تقوم على إيراد متن واحد للمتابعات المتطابقة، أو المتقاربة في الألفاظ، لكل أحاديث الموسوعة على أن يكون المتن المختار أجمعها معنى، وأقواها درجة. مفضلاً أن يكون هذا المتن من لفظ البخاري، أو مسلم في صحيحهما - إن وجد - مع إيراد متون المتابعات التي تضيف معنى زائداً في الحديث كسبب لورود الحديث، أو زيادة لحكم فقهي. وكذلك إيراد التعليقات التي وردت في مصادر الموسوعة المعتمدة، والتي تتعلق بالحكم على أسانيد ومتون الأحاديث، دون الالتفات إلى الآراء والأقوال الفقهية المستنبطة من الأحاديث.
وفي ترتيب تخريج الحديث التزمت ذكر أصحاب الكتب المعتمدة في الموسوعة بحسب أقدمية وفياتهم. مورداً أسماء المصنفين، ومصنفاتهم، وأجزاء، وأرقام صفحات كل مصنف. واعتمدت في ترقيم الموسوعة الترقيم التسلسلي التصاعدي لأشجار الأحاديث مع ملاحظة أن المتن إذا ورد في مكان لاحق فقد أعطيته رقماً فرعياً متسلسلاً جديداً للمتون، مع الإبقاء على رقمه في التسلسل العام كما ورد أولاً.
وعند الإحالة على المصادر فإنني أشير إلى اسم المصنف، ومصنفه. واقتصرت على ذكر الجزء، والصفحة دون ذكر عنوان الكتاب والباب الذي ورد فيه الحديث خروجاً عن التطويل. واعتماداً على ورود المتون كاملة مع عناوين الكتب والأبواب في كتاب ديوان الأثر. وأوردت طرق أسانيد الحديث الواحد على شكل شجرة. مشيراً بالنجوم إلى وجود التحديث في صيغة تحمل الرواة، وعند عدم ورود النجمة فهذا يعني العنعنة.(27/58)
ثالثاً: الهَدْي النبوي: يقوم على متون أحاديث الموسوعة الصحيحة والحسنة، مع دمج شواهد الأحاديث المتطابقة والمتقاربة ما أمكن ذلك اكتفاء بمتن واحد.
وتتلخص أهداف هذا المشروع، بمجموعاته الثلاث، في النقاط التالية:
تيسير حفظ الأحاديث النبوية.
سدّ متطلبات المحدثين، والفقهاء من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإصدار أحكام شرعية لما استجدَّ في حياة المسلمين من أحوال اجتماعية، واقتصادية وغيرها.
تيسير استخراج سجل مرويات كل راو على حدة في جميع مصادر الموسوعة، أو في مصدر معين، أو عن شيخ معين، مما يسهل عملية إصدار الحكم على الرواة، جرحاً وتعديلاً.
تعرية مؤلفات أهل البدع، والخرافات، والفتن، والأهواء، بعد اتضاح ضعف طرق أحاديثهم. وتيسير الإحاطة بالنصوص التي تدفع أقوالهم.
توفير الجهد والوقت اللذين ينفقهما الباحث جرياً وراء حديث معين. وفتح نوافذ الآفاق الجديدة أمام ناظريه. هذا فضلاً عن كون هذا المشروع مرآة صادقة لتحقيق مستوى الرسالة العالمية التي وصف الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله:( ( ( ( ( ( ([الأنبياء:107].
3- الجهود المبذولة في سبيل إعداد الموسوعة الشاملة باستخدام الحاسب الآلي
لقد حرص المسلمون في جميع العصور على الاهتمام بالسُّنَّة النبوية، وتدوينها، وجمعها في المصنَّفات الحديثية، وتقريبها للباحثين.
إنَّ ظهور الحاسب الآلي في هذا العصر فتح آفاقا واسعة جديدة، في تقديم خدمات جليلة لعلوم الحديث الشريف، واستيعاب الحديث النبوي الشريف في مصنَّف واحد.(27/59)
والحاسب الآلي لديه قدرات فائقة للتخزين والترتيب، تمكن الباحثين من التعامل مع الأحاديث النبوية بصورة دقيقة وسريعة، فهي توفر للباحث خلال ثوان قليلة ما يحتاجه من معلومات تمكنه من الوقوف على ما يريده من متنٍ أو إسناد لأيّ حديث ورد في الكتب المدخلة، وكذلك الوقوف على ما في هذه الكتب من فوائد حديثية في علم الجرح والتعديل وعلم الرجال، وغير ذلك.
وقد ظهرت في السنوات الماضية مشروعات موسوعية معاصرة في مجال تدوين السنن والآثار، باستخدام أحدث آلات العصر ( الحاسب الآلي ) وتطويعها، وقد تسنَّى لي الوقوف على بعض هذه المشروعات، وهي:
1- موسوعة الحديث الشريف.
2- الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه.
3- المكتبة الألفية للسُّنَّة النبوية.
4- موسوعة الأحاديث الصحيحة.
5- موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومكتبة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمعلَّلة والغرائب.
6- مكتبة الأجزاء الحديثية.
7- موسوعة التخريج الكبرى والأطراف الشاملة.
8- المحدِّث.
9- الموسوعة الشاملة للأحاديث النبوية عن ((جامع الأُصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -)).
10- مكتبة الحديث الشريف.
11- رسالة التعريف بموسوعة الحديث النبوي الشريف باستخدام الحاسوب (مشروع مقترح ).
وسوف أعرض لمحتويات هذه المشروعات، وأهدافها، ومداخلها المختلفة، والخدمات العلمية التي تقدمها.
1- موسوعة الحديث الشريف ( الإصدار 2.1)
وهي من برامج ((صخر)) العربية التابعة لشركة البرامج الإسلامية الدولية، ثم نُقل إلى شركة حرف.
تشمل هذه الموسوعة الكتب التسعة: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند أحمد بن حنبل، وموطأ مالك، وسنن الدارمي، وسنن النسائي، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه. يزيد عدد أحاديث هذه الكتب على (62) ألف حديث، وعدد صفحات هذه الموسوعة على (25) ألف صفحة.
توفر هذه الموسوعة للباحثين الخدمات التالية:(27/60)
- إمكانات عرض مختلفة للأحاديث بدلالة رقم الحديث، أو التبويب، أو الأطراف، أو فهارس الحديث، سواء على مستوى مصدر واحد أو أكثر.
- خدمات معلوماتية مختلفة تخدم نصَّ الحديث الشريف مما تمَّ جمعه من أكثر من (500) مجلد من المكتبة الإسلامية، مثل: معاني الكلمات، والرواة، وتحليل نصِّ الحديث، وأطراف الحديث، وتخريج الحديث، والأسانيد، وطرق الرواية.
- الاستفادة من شروح هذه الأحاديث من أوثق كتب الشروح ( ما عدا مسند أحمد وسنن الدارمي ).
-توفير تقنيات بحث متقدمة للبحث عن كلمة أو جملة باستخدام تقنية التحليل الصرفي، كما يوفر إمكانية البحث بدلالة الراوي أو تخريج الحديث.
- البحث بدلالة أحد الموضوعات الإسلامية من خلال تقسيم موضوعي متعدد المستويات يضمُّ (14) موضوعا رئيساً مقسمة إلى موضوعات نهائية تصل إلى ما يزيد عن (8000) موضوع من خلال (8) مستويات فرعية.
- تعريفات وافية لسِيَر المصنِّفين، وللكتب التسعة، وللمراجع التي استخدمت في إعداد البرنامج، مع تلخيصٍ وافٍ لعلم مصطلح الحديث وقسم خاص بالتدريبات.
- توفير قسم خاص للمعاجم، يحتوي على المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ومعجم معاني الألفاظ الغريبة، ومعجم للمبهمات الواردة في متن الحديث.
- نسخ النص مشكولاً أو غير مشكول إلى أيّ محرر نصوص.
ويُعدُّ هذا البرنامج من أفضل البرامج الحديثية من ناحية الضبط والإتقان، والبحث والدقة، والترتيب والجهد، وكذلك من ناحية ندرة الأخطاء فيه.
2- الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه (الإصدار الأول والثاني)
من إصدار مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي
وهي من أضخم الموسوعات الحديثية باستخدام الحاسب الآلي، لخدمة الحديث الشريف وعلومه، بصورة تراعي الجوانب العلمية، فهي توفر الخدمات العلمية التالية:
- خدمة (128) كتاباً في مختلف علوم الحديث تضمُّ (400) مجلد وجزء.
- التخريج الآلي لنحو (200) ألف رواية في كتب المتون.(27/61)
- تراجم لنحو (150) ألفاً من رواة الحديث.
- ربط الأحاديث بكتب الشروح.
- الحكم على أكثر من (80) ألف حديث بالصحة أو الضعف.
- أساليب البحث المتنوعة حيث بلغ عددها ما يزيد على (50) أسلوبا.
- تقديم خدمة العزو إلى الأجزاء والصفحات وأرقام الأحاديث في النشرات المطبوعة.
- إمكان الطباعة والنسخ والتعليق لأي بيانات في الموسوعة.
- كشاف التراث الموضوعي الذي يحوي آلاف الموضوعات، بالإضافة إلى تبويب المصنِّفين.
- موسوعة أطراف الحديث والتي تُعَدُّ أضخم موسوعة حاسوبية.
- وقد تميَّز الإصدار الثاني من هذه الموسوعة بإضافة كتب جديدة، وإعادة التدقيق الإملائي لقرابة (300) مجلد وكتاب، وتطوير الخدمات السابقة وتحسينها، ومن ذلك:
- مراجعة شاملة للتخريج الآلي، وإضافة تخريج مصنَّفَيْ عبدالرزاق وابن أبي شيبة.
- تطوير وإضافة ربط الأحاديث بشروحها، وربط طرق الحديث الأخرى بهذه الشروح.
- تطوير موسوعة التراجم، وتبسيط التعامل معها.
- إضافة خدمة الربط بين الأحاديث المحكوم عليها صحةً وضعفاً بطرقها المختلفة.
- تحسين الخدمات البرمجية، وإضافة أنواع جديدة من البحث المتقدم.
- تطوير برنامج التحليل الصرفي، وربط الجذور بالمشتقات.
3- المكتبة الألفية للسُّنَّة النبوية ( الإصدار 1.5)
صادرة عن مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي
يحتوي هذا البرنامج على أكثر من (1300) مجلد وكتاب، في علوم التفسير والحديث النبوي والتراجم والسيرة والمعاجم وغيرها، وتتضمن هذه المجلدات (450) ألف رواية مسندة، و(30) ألف ترجمة للرواة.
ويعدُّ هذا البرنامج، بالمشاركة مع برنامج ((الموسوعة الذهبية))، مرحلةً ضمن مراحل مشروع حضاري تاريخي يهدفُ إلى جمع السُّنَّة النبوية من جميع مصادرها.
ومن مميزات هذا البرنامج:
- البحث السريع عن أيّ كلمة، أو مفردة، أو عدة كلمات.
- إمكان الطباعة والنسخ، وطباعة جدول النتائج.
- خدمة البحث الموضوعي، وكذلك خدمة المعاجم.(27/62)
- العزو إلى الجزء والصفحة ورقم الحديث والترجمة حسب الطبعة المستخدمة.
- توفير بطاقة تعريف لكُلِّ كتاب مستخدم في هذه المكتبة.
وقد صدر الإصدار الحديث للألفية، ويحتوي على (3000) مجلد، ويمتاز عن سابقه بقلَّة الأخطاء، وعمل الفهارس فيها.
4- موسوعة الأحاديث الصحيحة ( الإصدار الأول )
من إصدار مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي
وهي تتضمن ما اختاره كبارُ أئمة المحدِّثين في كتبهم التي وُصِفَتْ بالصحة، وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وصحيح ابن خُزَيْمة، وصحيح ابن حِبَّان، والمنتقى لابن الجارود، والمختارة للضياء المقدسي.
مميزات البرنامج:
- أول برنامج يضم الأحاديث الصحيحة كما اختارها مصنّفو أشهر كتب الأحاديث.
- تبويب موضوعي لجميع الأحاديث.
- خدمات البحث بالكلمة، أو جزء من الكلمة، أو عدَّة كلمات.
- خدمات العزو إلى الجزء والصفحة.
- خدمات النسخ والطباعة.
5- موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
( الإصدار الأول )
من إصدار مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي
يحتوي هذا البرنامج على أكثر من (70) ألفاً من الأحاديث التي حكم عليها العلماءُ، قديماً وحديثاً، بالضعف أو الوضع.
وقد جُمعت هذه المتون من الكتب المتخصصة بهذا النوع من الأحاديث، وعددها (78) كتاباً، وأشرف على إعدادها العلمي: المكتبة الإسلامية في الأردنّ، وقام مركز التراث بالإعداد البرمجي.
ويتضمن هذا البرنامجُ مجموعةً من الخدمات الأساسية، مثل خدمة البحث بالكلمة، أو بعدة كلمات، وبالعزو والتعليق، والطباعة والنسخ.
كما زُوِّدَ هذا البرنامج بمجموعة من كتب المعاجم والغريب للتسهيل على الباحثين وتوفير الوقت لهم.
ثم أصدر مركز التراث النصوص الكاملة لبرنامج ((مكتبة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمُعلَّلة والغرائب)).
6- مكتبة الأجزاء الحديثية ( الإصدار الأول )
من إصدار مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي(27/63)
وهي مكتبة متخصصة بالأجزاء الحديثية في علوم الحديث، وتعد أول برنامج في هذا الفن، وتشمل ما يقرب من (200) جزء، تحتوي الأجزاء الموضوعية، والمجالس والفوائد ونحوها، وأجزاء ابن أبي الدنيا، وتوفر للباحث خدمات عديدة منها:
- خدمة البحث عن كلمة واحدة أو عدة كلمات بشروط مختلفة.
- العزو إلى الجزء والصفحة في النشرات المطبوعة.
- خدمة النسخ والطباعة.
- خدمة التعليق على الفقرات المختلفة.
- إمكان طباعة أو حفظ جدول لجميع نتائج البحث أو ا لتي يحددها المستخدم.
7- موسوعة التخريج الكبرى والأطراف الشاملة
(الإصدار الأول)
من إصدار مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي
وهي أشمل موسوعة علمية في تخريج الأحاديث النبوية باستخدام الحاسب الآلي، حيث يُعد التخريج الخطوة الأولى للحكم على الحديث من حيث الصحة أوالضعف.
يحتوي هذا البرنامج على خدمات عديدة ومتنوعة، نذكر منها ما يلي:
- تخريج موسوعي شامل لنحو ( 300) ألف نصّ مسند، مع العزو إلى مصادر التخريج.
- إمكان نسخ تخريج أي حديث بطرق مختلفة وطباعته.
- الاستفادة من موسوعة الأطراف الحديثية، وتشتمل على أربع موسوعات: موسوعة الأطراف الشاملة، وموسوعة أطراف الأحاديث القولية، وموسوعة أطراف الأحاديث الفعلية، وموسوعة الآثار.
- تبويب موضوعي شاملٍ للأحاديث النبوية الشريفة من غير تكرار.
- دراسات إحصائية تتعلَّق بالحديث النبوي الشريف، منها إحصائية لتحديد عدد المتون النبوية من غير تكرار، وإحصائية معجمية لكل الألفاظ التي وردت في النصوص المسندة، وإحصائية مفهرسة تحدد طرق كل متن مسند في كتب البرنامج.
- حصر الأحاديث الأفراد التي تفرَّد بروايتها أحد الرواة فقط.
- حصر الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين.
8- المحدِّث( دار الحديث بدمشق، الإصدار الجديد 9.01)
هذا البرنامج صادر عن شركة الحاسب الذهبي، وقد سُمِّي هذا البرنامج بهذه التسمية:(27/64)
1- إشعاراً بشرف علم الحديث، ونِسْبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- إشعاراً بدور كبار محدِّثي الأُمَّة في تحقيق الحديث الشريف وحفظه ونشره عبر القرون والبلدان.
3- تيمُّناً بذكرى المحدِّث الشيخ محمد بدر الدِّين الحسني ودوره في نشر علم الحديث في الديار الشامية.
وهذا البرنامج يشتمل على بعض الكتب الحديثية وغيرها من كتب التفسير والفقه والعقيدة والمصطلح، وعلى جُزْء كبير من الموسوعة الفقهية الكويتية، والبحث فيه ممتع وسريع وسهل.
إنَّ القصدَ من هذا البرنامج في وضعه الحالي لا يتعدَّى محاولة إعلام الباحث عن المرجع الذي يمكن أن يحتوي على النصوص المتعلقة بالبحث، أمَّا بالنسبة لاعتمادِ هذه النتائج بصورة نهائية في شؤون العبادات والمعاملات والفتاوى فإنَّ مراجعة أهل العلم وتدقيق تفاصيل هذه النتائج مع مصادرها الأصلية لا يزال ضمن المسؤولية الشخصية للباحث.
ويعتذر فريق البرمجة عن كثرة الأخطاء في بعض ملفات المراجع المرافقة؛ بسبب كثرة الأخطاء ضمن المراجع الرئيسة المستعملة، وبسبب أخطاء وقعت أثناء طباعة تلك المراجع من قِبَل أطراف خارجية.
9- الموسوعة الشاملة للأحاديث النبوية عن جامع الأُصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -
صادرة عن مجموعة خليفة للكمبيوتر
وهذا البرنامج يحتوي على تعريف بكتاب ((جامع الأُصول)) لابن الأثير، وترجمة مؤلِّفه، وشرح أُسلوبه وطريقته.
وتتوافر في هذا البرنامج خدمة البحث في أشكال هي:
1- طرف ـ سند ـ رقم.
2- كلمة.
3- كلمات ـ جملة.
4- غريب الألفاظ.
5- التراجم.
10- مكتبة الحديث الشريف ( الإصدار السابع )
من إنتاج شركة العريس للكمبيوتر
يحتوي هذا البرنامج على كتب متنوعة في علوم التفسير، والحديث الشريف، والتراجم، والسيرة، والتواريخ، والمعاجم اللغوية، والنحو والأدب.
ويتميز هذا الإصدار بالنقاط التالية:
- ربط كتب الحديث بشروحها ليتمَّ شرح الحديث بشكل تلقائي.(27/65)
- ربط بعض كتب الحديث بكتب الرجال ليتمّ الاستفادة من التراجم مع سند الحديث بشكل سريع.
- إمكان التخريج بإظهار رقم الجزء والصفحة ومصدر الكتاب.
- إمكان القصّ واللصق والطباعة لأيّ مقطع من المؤلفات الموجودة.
- الاستفادة من فهارس متنوعة تشمل: الآيات، ومتن الحديث، وطرف الحديث، وسند الحديث، وأسماء الصحابة، وأسماء العلماء، والأبواب والفصول، والتراجم والرجال.
- الاستعانة في البحث بالطرق التقليدية للكلمة أو للجملة، والاستفادة بالبحث عن عدة كلمات سواء كانت متلاحقة أو متباعدة، وكذلك البحث بواسطة المحلل الصرفي، ليصل الباحث إلى مبتغاه بأسهل الطرق.
11- رسالة التعريف بموسوعة الحديث النبوي الشريف باستخدام الحاسوب
مشروع مقترح مقدم من الأستاذ: راتب عباس الخطيب مدير عام مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي.
وأهداف هذه الموسوعة كثيرة ومتنوعة، ومن أبرزها أمران:
الأول: استيعاب الحديث النبوي الشريف في مصنَّفٍ واحد.
الثاني: تقريب السُّنَّة للمسلمين خاصَّة، وللبشرية عامَّة.
وتشتمل هذه الدراسة على ((بنود مشروع الحديث النبوي الشريف))، وهي تتمثل فيما يلي:
1- حصر أسماء الكتب المرادِ إدخالُها في الموسوعة: ويُشترط أن تكون أحاديث الكتب المدخلة في الموسوعة مسندة من مؤلِّف الكتاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- تحديد المعتمد من الطبعات والمخطوطات: وفيه بيان أُسس اختيار النسخ المطبوعة والمخطوطة، واعتبارُ منهج الاختيار هو المنهج العملي الممكن تنفيذه، خوف التأخير في إخراج الموسوعة.
3- تخزين الأحاديث المسندة في الحاسوب: يتمُّ تغذية الحاسوب بكتب الحديث المسندة، وكذلك الأحاديث المسندة في الكتب الأخرى، بعد مراجعة أرقام صفحاتها، وأرقام أحاديثها، وكتبها الموضوعية، وأبوابها الفقهية، وأرقام تراجم رواة الحديث، ونحو ذلك.(27/66)
4- ترميز الأسانيد والمتون: وذلك بتمييز نهاية الإسناد عن بداية المتن، وصيغ الأداء عن أسماء الرواة، وتعيين الراوي الأول للحديث من جهة المتن، وتحديد طرف الحديث، وتمييز فقرات المتن المختلفة، وتمييز المعلومات الأخرى في السند والمتن.
5- جمع طرق الحديث بالسند والمتن وذكر الشواهد والمتابعات: وهذا يتيح عرض الأحاديث المسندة حسب ترتيب المؤلِّف، وحسب المسانيد مع التبويب الموضوعي المعاصر أو جمع طرق الحديث، أو الترتيب الزمني لوفيات أصحاب هذه الروايات، وحسب التصنيف الموضوعي، وكذلك عرض الحديث بحسب لفظة معينة بعد تجذيرها.
6- شجرة الإسناد والطبقات وصيغ الأداء: وقد تمَّ وضع برامج تتيح للحاسوب رسم شجرة تبيِّن مدارَ الأسانيد بين الروايات المختلفة للحديث الواحد، وتجميع صيغ الأداء لكُلِّ رواية ممَّا يُفيد في دراسة الأحكام الحديثية.
7- موسوعات رواة الحديث ومعاجم الصحابة: وذلك عن طريق بيانات شجرة الإسناد، وبواسطة برنامج خاصّ في الحاسب الآلي، يُعطى كل راوٍ رقماً خاصّاً به، ومن ثَمَّ يتمُّ استخراجُ المعلومات المطلوبة عن كُلِّ راو، ومن نتائج هذا العمل تكوين موسوعات متنوعة في الرجال، وعملُ معجم بألفاظ الجرح والتعديل التي استخدمها العلماء.
8- جداول الزيادات وتصرُّفات الرواة بالألفاظ النبوية: وبواسطته يتمُّ التعرُّف على زيادات الثقات بقسميها المقبولة والشاذَّة، وكذلك على زيادات الضعفاء والكذَّابين.
9- الحكم على الأسانيد والمتون: وتعتمدُ خطَّة العمل على جمع أحكام العلماء على الأسانيد والمتون، ثم على استثمار قدرات الحاسوب في الفهرسة والترتيب والمقارنة للخروج بحكم على الأسانيد والمتون، ثم على لجنة متخصصة ناقدة لأسباب اختلاف حكم العلماء وحكم البرنامج، وأخيراً تعرض الأحكام التي تفردت فيها الموسوعة على هيئة الإشراف العام وغيرهم من العلماء المعاصرين لاتخاذ الرأي النهائي فيها.(27/67)
10- حصر المتون بجميع الزيادات حسب مراتبها في الحكم: وذلك بتقسيم متون روايات كُلّ حديث إلى ستة أقسام، ثم دراسة هذه الأقسام، وحصر المتون بجميع الزيادات داخل المسند، أو على وجه العموم.
11- الكتاب الشامل المختصَر لكُلِّ ما صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أساس تصنيف موضوعي معاصر: وهذا هو أهمُّ أهداف هذه الموسوعة، وهو الثمرة النهائية المطلوبة من هذا المشروع العلمي، وهو يُحقِّق هدف تقريب السُّنَّة إلى عامَّة المسلمين، وتسهيل حفظها على العلماء وطلبة العلم، وتقديمها عبر الترجمة لغير الناطقين باللغة العربية.
12- فقه الحديث ( تراجم الأبواب ووصل الحديث بكتب الشروح ) ومعجم غريب الحديث: وهي خطوة لازمة لترتيب هذه الفوائد وإخراجها مطبوعة وعلى شاشة الحاسوب.
13- موسوعة مصطلحات الحديث وتطبيقاتها الشاملة بعد استقرار دلالاتها: ويمكن أن يصبح في نهاية العمل موسوعات متخصصة بكل مصطلح: موسوعة الصحيح، موسوعة الأحاديث القدسية، موسوعة الأحاديث المقلوبة، موسوعة الأحاديث الشاذَّة.... وهكذا.
14- الفهارس الشاملة الموحدة: وهي أربعة فهارس رئيسة، في غاية الشمول، وهي:
فهرس أطراف المسانيد على طريقة كتاب ((تحفة الأشراف)).
فهرس أطراف الحديث على الترتيب الهجائي.
فهرس الأبواب الموضوعية على طريقة كتاب ((مفتاح كنوز السنة النبوية))، ولكن على نحو أوسع.
فهرس معجمي للكلمات، على غرار كتاب ((المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي)).
15- المقارنات والإحصائيات: وذلك بمراجعة ومقارنة مخرجات الموسوعة مع أعمال علمية قديمة ومعاصرة، وكذلك إبراز إحصائيات شاملة ومتنوعة بعدد الأحاديث المرفوعة، والمرسلة، وبعدد رواة الأحاديث، وعدد مرويات كل واحد منهم... وهكذا.
16- التعاون والتكامل والاستشارات والهيئة المشرفة: وهو من الأمور المهمة في هذا المشروع، لتقويمه وكشف عيوبه والارتقاءِ به إلى أعلى المراتب المنشودة.(27/68)
17- دراسات وثمرات الموسوعة: من ذلك دراسة أسباب ورود الحديث النبوي، ودراسة منهجية لكتب التخريج الموسوعية ولكتب الزوائد، وتأصيل المدخل إلى علم الرجال.... وغير ذلك.
وأخيراً فإنَّ هذه البرامج المنفذة تعدُّ نقلة نوعية في خدمة الحديث النبوي الشريف وعلومه، ومرحلة متقدمة في توفير الوقت والجهد للباحثين في العلوم الشرعية عامة وعلم الحديث الشريف خاصة، ولكنها تقصر عن درجة العمل الموسوعي المنشود، فهي تيسر للباحث فقط سبيل الوصول إلى الحديث الذي يريده بواسطة كلمة أو عدة كلمات، وتمكنه كذلك من الاستفادة من الفهارس المتنوعة والخدمات التقنية التي زُوِّد بها كل برنامج.
وهي تقصر أيضاً عن فكرة الجمع الشامل للأحاديث النبوية، من حيث جمع طرق كل حديث في موضع واحد، وبيان الزيادات، وذكر المتابعات والشواهد، والحكم على الأسانيد من حيث الصحة أو الضعف.
ولاشك أنَّ العمل الموسوعي الأخير يتلمَّس هذه الفكرة وينشدها، ولكنه ما زال في عداد الأعمال المقترحة، وفَّق الله القائمين عليه إلى إنجازه وإخراجه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
4– مراحل طريقة الجمع الموسوعي
يمكن الجمع الموسوعي للأحاديث النبوية على طريقتين:
أ - طريقة التصنيف الموضوعي على المتون: ويشكل على هذا أنَّ جمع أحكام الأسانيد وعللها لا يُمكن إلحاقها إلاَّ باعتبار ترتيب الأسانيد، وهو غيرُ مرعيّ فيها.
ب - طريقة الجمع باعتبار الأسانيد: على طريقة فنِّ كتب الأطراف، وهو المنضبط، وهو الذي مشى عليه المتقدِّمون في تصنيف كتب الأطراف، وهو المعتمدُ لأنَّ مدارَ السُّنَّة على الإسناد.
ومراحل الجمع الموسوعي تتمُّ على النحو التالي:
1 - تعيين أسماء أصحاب المسانيد: ثم ترتيب الرواة عنهم هجائياً.
ويُعتمد في ذلك على الكتب التالية:
أ - ((تحفة الأشراف)) للحافظ المِزّي.
ب - ((جامع المسانيد والسنن)) للحافظ ابن كثير.
ج - ((أطراف مسند الإمام أحمد)) للحافظ ابن حجر العسقلاني.(27/69)
د - ((إتحاف المهرة)) له أيضاً.
ثم تُستقرأ كتب الصحابة، وأهمها ((الإصابة)) للحافظ ابن حجر، ويُؤخذ منها أسماء أصحاب المسانيد، بدون اعتبار تقسيمات الحافظ ابن حجر في ((الإصابة))، بل يُتبع في ذلك الترتيب الهجائي.
2 - وضع سلاسل الأسانيد: بدءاً بالصحابة، ثم التابعين، ثم أتباعهم، ثم الطبقة الرابعة، ويُراعى في ذلك المكثرون والمتوسطون، دون المقلِّين.
ثم ترقيم هذه السلاسل بأرقام متميزة أصلية للصحابي، ثم فرعية للتابعي، ثم فرعية ثانية لتابع التابعي، ثم فرعية ثالثة للطبقة الرابعة، وهكذا حتى يتمّ ترقيم هذه السلاسل بأرقامٍ ثابتةٍ أصليةٍ للصحابي ومَنْ له روايةٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفرعيةٍ لغيرهم.
3 - التوثق من النصوص: وذلك بمقابلة الكتب المدخلة على مخطوطاتها المعتمدة، حسب أصول فنِّ التحقيق وإخراج النصوص، وهو من عمل ((لجنة مقابلة المطبوعات مع مخطوطاتها المعتمدة)).
ويمكن الاكتفاء في الحالة الراهنة بالكتب المحققة الموثقة، والتي اعتمدها العلماء، واعتبرتها الساحة العلمية.
وقد تيسَّر لي خلال عملي في تحقيق المخطوطات وإشرافي على مركز خدمة السنة ورئاسة قسم التحقيق فيه؛ الوقوفُ على نماذج كثيرة، وقع فيها التحريف والسقط، في الأصول المخطوطة والمطبوعة، أو في بعضها.
وقد جمعتُ هذه النماذج في مبحث بعنوان: ((وجوب مقابلة المطبوعات بمخطوطاتها وبكتب الأطراف التي تضمنتها))، ونظراً لضيق صفحات هذا البحث لم أستطع إلحاقه فيه.
وهذا المبحث يُحتِّمُ على القائمين بالجمع الموسوعي، مقابلة المصنَّفات الحديثية مع أصولها الخطية والكتب المستقاة منها، لتكون نقيَّة من الأخطاء والسقط.
وهذه أهمُّ النقاط التي تندرج تحتها هذه الأخطاء، ليتبيَّن أهمية هذا المبحث ومكانته، وهي:
أ - نقص حديث من المطبوع مع وجوده في الأصل المخطوط.
ب - نقص حديث من طبعة مع وجوده في طبعة أخرى.(27/70)
ج - نقص حديث من المخطوط والمطبوع واستدراكه من كتب أخرى فرعية استقت منه المادة العلمية ككتب الأطراف.
د - وقوع سقط في بعض أسانيد الكتب المطبوعة.
هـ - اتفاق المخطوط والمطبوع على سقط معين.
و - اتفاق المخطوط والمطبوع وكتب الأطراف على سقط أو تحريف معين.
ز - وقوع سقط في الإسناد لغفلة المحقق عن لَحَقٍ في حاشية المخطوط.
ح - استدراك المحقق زيادات خاطئة في الإسناد.
ط - حكم المحقق على الحديث بالقبول مع وجود سقط وانقطاع في الإسناد.
4 - إدخال وإفراغ المادة العلمية في كتب السنة النبوية المسندة: ويُبدأ في ذلك بمسند الإمام أحمد بن حنبل، لأنه أوسع دواوين الإسلام استيعاباً وشمولاً، ثم من بعده: يُبدأ بالأقدم ثم الأحدث، وهكذا دواليك.
وبذلك يتمُّ استيعاب جميع الأحاديث التي وردت في كتب السُّنَّة، على اختلاف أسانيدها وألفاظها، مع تعليقات وتعقيبات المصنِّفين، مع ذكر عناوين كتب وأبواب وأجزاء وأرقام صفحات هذه النصوص كما وردت في المصنَّفات الحديثية، مع الالتزام بترتيب النصوص حسب أقدمية وفيات المصنِّفين.
5 - ترقيم أحاديث الموسوعة الحديثية بعد استقرارها ترقيماً تسلسلياً: من أول الموسوعة إلى آخرها، وعلى غراره يكون التعامل مع الحديث من حيث التخريجُ والإحالةُ والربط.
6 - إلحاق علل الأحاديث بأسانيدها: ثم الحكم على هذه الأسانيد من حيث القبول أو الردّ، وذلك بالرجوع إلى كتب الأحكام والعلل والرجال.
7 - مرحلة الجمع لطرق متن الحديث الواحد: ووصفه بالألقاب المعروفة في قواعد هذا الفنّ ( المصطلح )، من حيث: الغريب - العزيز - المشهور - المتواتر... وهكذا. ثم جمع المتابعات والشواهد لهذا الحديث.(27/71)
8 - وضع شجرة أسانيد للحديث الواحد في المتابعات: ويتمُّ فيه تبيين مدار الأسانيد بين الروايات المختلفة للحديث الواحد، مع إيراد المتون الأخرى، ثم المتابعات التي تُضيف معنىً زائداً في الحديث، كسبب لورود هذا الحديث، أو لزيادة حكم فقهي... وهكذا.
وكذلك إيراد التعليقات والتعقيبات التي وردت في مصادر الموسوعة الحديثية، والتي تتعلَّق بالحكم على هذه الأحاديث من حيث الأسانيد والمتون.
ويُراعى في هذا العمل الالتزام بترتيب النصوص حسب أقدمية وفيات المصنِّفين.
9 - ترتيب الأسانيد هجائياً باعتبارِ شيوخ المصنِّفين ومن فوقهم.
10 - غاية الجمع الموسوعي: بعد المراحل المتقدمة وإعطاء كُلِّ طريق حقَّها من الأحكام، من حيث صفاتُ الإسناد، والاتصال وعدمه، والقبول والردّ: صفة إضافة الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بغضّ النظر عن الإسناد، وجمع هذه الطرق كلّها تحت ظلّ هذا الحديث.
فبهذا الاعتبار يُمكن حصر عدد الأحاديث بأقلّ من عشرة آلاف حديث.
فقد أورد الحافظُ الذهبيُّ في ((سير أعلام النبلاء)) (11/187) قول أبي زُرْعة بأنَّ الإمام أحمد يحفظ ألفَ ألفِ حديث، ثم عقَّب عليه قائلاً: ((فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبدالله، وكانوا يَعُدُّون في ذلك: المُكَرَّر، والأَثَر، وفتوى التابعي، وما فُسِّر، ونحو ذلك. وإلاَّ فالمتونُ المرفوعة لا تبلغ عشر معشار ذلك)).
وقال الحافظ ابن حجر في ((النكت على كتاب ابن الصلاح))(1): ((فقد ذكر أبو جعفر محمد بن الحسين البغدادي في كتاب التمييزِ له عن الثَّوْري وشُعْبة ويحيى بن سعيد القطَّان وابن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم: أنَّ جملةَ الأحاديثِ المسندة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - يعني الصحيحة بلا تكرير - أربعةُ آلاف وأربعُ مئة حديث. وعن إسحاق بن راهويه: أنه سبعة آلاف ونيف)).
11 - مرحلة التصنيف الموضوعي ( الحديثي والفقهي ): وهو من عمل ((لجنة التبويب الموضوعي)).
__________
(1) 1/299.(27/72)
12 - كيفية وجود الحديث في الموسوعة: يكون وجود الحديث الواحد في الموسوعة الحديثية على الصور التالية:
أ - كما هو في مصادره.
ب - على شكل جمع الأسانيد ككتب الأطراف.
ج - تجريد متنه من الإسناد، كما هو في مصادره، لبيان المفارقات في المتون المجموعة.
والجدير بالذكر أن كُلَّ ما تقدم من التقعيد والتقسيم والاقتراح أمرٌ نظري، قد يتطور أو يتغيّر بعضه، تبعاً للسير الميداني في الأعمال العلمية والفنية.
5- مقترحات في تأليف أهم اللجان الدائمة للعمل الموسوعي
إنَّ مشروع الموسوعة الشاملة للأحاديث النبوية يتطلب أعمالاً تحضيرية سابقة، تفي بضخامة هذا المشروع وأهميته، ولاسيما أنَّ السنة النبوية هي عمدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، على اختلاف وجهاتهم، بل هي النافذة الأصيلة المعبرة عن ديننا الحنيف بكُلِّ جوانبه بعد كتاب الله تبارك وتعالى، يُطِلُّ منها من يريد التعرُّف على هذا الدِّين... حتى من غير المسلمين.
لذا فإنَّ هذا المشروع هو من الأهمية بمكان، ويتطلب أعمالاً جليلة في جميع المراحل، وهذا يتطلب تأمين كوادر ضخمة وعالية المستوى، تتناسب والمراحل التي يمرُّ بها هذا المشروع، إلى مرحلته الأخيرة، ومن ذلك تأمين اللجان اللازمة في جميع مراحل هذا المشروع، وأهمها:
1 - ((لجنة مقابلة المطبوعات مع مخطوطاتها المعتمدة)): ويمكن في الوقت الحالي اعتماد طبعة موثوقة في الساحة العلمية على نحو مبدئي.
ولا بُدَّ - عند تأليف هذه اللجنة - من اعتماد خبراء في التحقيق، وفنِّ المخطوطات؛ لاعتماد واختيار أهمّ المخطوطات في ذلك.
ومن مهمة هذه اللجنة عند المقابلة، الإشارة إلى اختلاف الروايات في الكتب الحديثية، في هامش الكتاب المقابَل، فإنه هو الغاية من مقابلة النسخ ومعارضتها، وإنَّ الترجيح بين الروايات المختلفة وإثبات أدقّها وأصوبها، يجبُ أن يكون مبنيّاً على أدلةٍ علمية، وإثباتات واضحة.(27/73)
وإنَّ مثالاً واقعياً - سبق إنجازه من قِبَل بعض الجهات العلمية - يُبيِّن لنا أهمية هذه اللجنة وضخامة عملها، فقد نصَّ شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي في تقريره عن الطبعة الأميرية من ((صحيح البخاري)) بأنَّ عدد العلماء المتخصصين الذين ساهموا بصفةٍ أساسيةٍ في خدمة هذا المشروع كانوا ستة عشر عالماً، من جهابذة علماء العصر وفحولهم.
وقد قام هؤلاء العلماء بمقابلة ((صحيح البخاري)) على النسخة اليُونينية، وعلى نسخ خطية أخرى تمَّ جمعها من المكاتب الخاصَّة والعامَّة، ثم قُيِّدت هذه المفارقات في الحاشية، ممَّا يُساعد الباحثَ على الاستفادة من هذه المغايرات المنتشرة في نسخ متنوعة، عن طريق مراجعة نسخة واحدة. وهذا العمل يعطي انطباعاً خاصاً في وجوب تأمين هذه اللجنة وأهميتها في مراحل العمل الموسوعي.
2 - ((لجنة تقعيد علوم الحديث)): وتقوم هذه اللجنة بترتيب هذه العلوم وترقيمها بأرقام أصلية وفرعية، تخدم مصالح العمل الموسوعي، على نحو علمي وفني، وبخاصة قواعد الجرح والتعديل، وتحديد مدلولاتها عند أئمة هذا الفنّ.
3 - ((لجنة علمية وفنية)): تضمُّ علماء وخبراء من كلا الطرفين ( علماء الحديث وعلماء الحاسب الآلي )، ومهمتُها تطويع برامج الحاسب الآلي لقواعد مصطلح الحديث ومفاهيمه، لضبط السير العلمي والفني في جمع الموسوعة والاستفادة منها.
4 - ((لجنة التبوبيب الموضوعي: الفقهي والحديثي)): ومهمة هذه اللجنة ترتيب أحاديث الموسوعة الحديثية على أساس التصنيف الموضوعي للأحاديث، كما هو منهج الأئمة في الكتب الستة، والإمام مالك في ((الموطأ))، وابن الأثير في ((جامع الأصول))، والحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد))، وغيرهم.(27/74)
ويتم التصنيف الموضوعي بتقسيم أحاديث الموسوعة إلى أقسام، وهي العناوين الكبرى للموسوعة، ثم تجزئة هذه الأقسام إلى موضوعات أو إلى كتب حسب تعبير المحدِّثين، ثم تقسيم كل كتاب أو موضوع إلى أبواب وفصول، يحتوي على جملة من العناوين، التي تشتمل على الأحاديث المقصودة.
ويمكن إجمال الأقسام الأساسية الكبرى لهذه الموسوعة على النحو التالي:
1 - السيرة النبوية.………2 - التعريف بالإسلام.
3 - الإيمان والعلم.………4 - العبادات.
5 - نظام الأسرة.………6 - المعاملات المالية والأحكام.
7 - الجرائم والعقوبات.……8 - الحلال والحرام في الإسلام.
9 - الآداب والأخلاق.……10 - الجهاد والغنائم.
11 - متفرقات.
5 – ((المستشارون)): ومهمتُهم مراقبة الأعمال العلمية في سيرها، والتدقيق في الأعمال النهائية، وتجربة صلاحية برامج الحاسب الآلي في تحقيق أهداف الموسوعة بشكل دائم، وتطويرها عند الأحوال الاستثنائية من القواعد العامة للموسوعة.
وهناك لجان أخرى مهمة تقتضيها طبيعة المادة العلمية في العمل الموسوعي، مثل ((لجنة الإخراج العلمي))، ومهمتها تقويم نصوص التعليقات من الناحيتين: الحديثية واللغوية، مع توحيد المنهج العام لها في الإخراج العلمي.
و ((لجنة الإخراج الفني والطباعي))، ومهمتها مراعاة قواعد الطباعة والإخراج الفني.
6- خاتمة في أهداف العمل الموسوعي
وأخيراً، فإنَّ تحقيق هذه الموسوعة الشاملة للأحاديث النبوية، يمكن بواسطته الوصول إلى الأهداف التالية:
1 - حصر السُّنَّة المشرفة في مصنَّف واحد، كما جُمِع كتاب الله تعالى بين دفتي المصحف.
2 - الحكم على الأسانيد، بجمعها في صعيدٍ واحدٍ، بالنسبة لكل حديث، وقد يتقوى الضعيف بالمتابعات والشواهد، وتزول شبهة الانقطاع عن المُدَلِّس الذي يروي بالعنعنة، ويزول الانقطاع بوَصْلِه من طريق آخر، وتوضيح الراوي المبهم، وتقييد المهمل.(27/75)
3 - يُساعد كثيراً على رفع التعارض بين الأدلَّة، وذلك بمعرفة الأصحّ من الصحيح، والمتقدم من المتأخر في النَّسْخ، ومعرفة المطلق والمقيد، بحَمْل أحدهما على الآخر، وعدم حمله، ومعرفة أسباب ورود الحديث.
4 - الردُّ على من تكلَّم على الحديث بقصورٍ في معرفته، وعدم استيعابه لطرق هذا الحديث، فأدَّاه اجتهاده إلى تفسير مخلّ، أو بيان مُقلّ.
5 - معرفة عدد الأحاديث التي رواها كُلُّ راوٍ، من صحابي وغيره.
6 - تصحيح السقط والتحريف والتصحيف الواقع في المطبوعات الحديثية، أو مخطوطاتها الفرعية.
7 - تيسير الحصول على مرويات كلِّ راوٍ على حدة، في جميع مصادر الموسوعة، أو في أحد مصادرها، أو في روايته عن شيخ معيَّن، ممَّا يُسَهِّل على الباحث عمله في إصدار الحكم على الرواة، من حيث الجرح والتعديل.
وفقنا الله لخدمة كتابه وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي يُرضيه عنا، إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كشاف المراجع
إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبُوصيري. دار الوطن، الرياض 1420هـ.
إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة للحافظ ابن حجر. مركز خدمة السنة بالجامعة الإسلامية 1415هـ.
إطراف المسند المعتلي للحافظ ابن حجر. دار ابن كثير والكلم الطيب، دمشق وبيروت 1414 هـ.
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. دار الكتاب العربي بيروت.
تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ المِزّي. المكتب الإسلامي، بيروت 1403هـ.
تدريب الراوي للسيوطي. دار إحياء السنة النبوية، بيروت 1399هـ.
تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي. دار إحياء التراث العربي بيروت.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للإمام ابن عبدالبرّ. مكتبة السوادي، جدة.
جامع الأصول لابن الأثير. دار إحياء التراث العربي 1404 هـ.
جامع المسانيد والسُّنن الهادي لأقوم سَنَن للحافظ ابن كثير. دار الكتب العلمية بيروت 1415هـ.(27/76)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم. دار إحياء التراث العربي بيروت.
الجمع بين الصحيحين للحميدي. دار ابن حزم بيروت 1419هـ.
الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر للسخاوي. دار ابن حزم، بيروت 1419هـ.
ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأحاديث للنابلسي. جمعية النشر والتأليف الأزهرية القاهرة 1352هـ.
الرسالة المستطرفة للكتاني.مصورة دار الكتب العلمية بيروت1400ه.
سؤالات أبي عبيد الآجُرّي أبا داود السجستاني. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية 1403هـ.
سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي. مؤسسة الرسالة، بيروت 1402ه.
عمدة القارئ والسامع للسخاوي. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة 1418هـ.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر.دار المعرفة بيروت.
الفتح الكبير في ضمّ الزيادة إلى الجامع الصغير للنبهاني. دار الكتاب العربي بيروت.
فيض القدير للمناوي. مطبعة مصطفى محمد القاهرة 1356هـ.
القول المفيد في الذَّبّ عن جامع المسانيد لزهير بن ناصر الناصر. دار الخضيري المدينة المنورة 1420هـ.
كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة علاء الدين الهندي. نشر مكتبة التراث الإسلامي بحلب.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي. دار الكتاب العربي بيروت 1402 هـ.
مسند الإمام أحمد بن حنبل. مؤسسة الرسالة بيروت 1416هـ.
المسند الجامع لبشار عواد معروف وآخرين. دار الجيل بيروت والشركة المتحدة الكويت 1413هـ.
مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه للبُوصيري. دار الجنان بيروت 1406هـ.
المصعد الأحمد لابن الجزري. طبع في مقدمة مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر دار المعارف بمصر 1377هـ.
المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر. دار الوطن الرياض 1418هـ.
معجم المصنفات الواردة في فتح الباري لمشهور سلمان ورائد صبري. دار الهجرة الرياض 1412هـ.
المعرفة والتاريخ للفسوي. مؤسسة الرسالة بيروت 1401هـ.(27/77)
موسوعة الحديث النبوي ((صلاة الجمعة)) لعبدالملك بكر قاضي. دار العاصمة، الرياض 1410هـ.
النكت الظراف = تحفة الأشراف.
النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر. المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية 1404هـ.
هدي الساري = فتح الباري.
وفيات الأعيان لابن خلّكان. دار صادر بيروت.
فهرس الموضوعات
تمهيد…2
1 - الجمع الموسوعي عند المتقدِّمين في براعة الحفظ والاستحضار…6
2- التصنيف الموسوعي عند المتقدِّمين والمعاصرين…19
أ - التصنيف الموسوعي عند المتقدمين…19
الحلقة الأولى: كتب الأطراف…20
الحلقة الثانية: كتب جمع المتون…41
الحلقة الثالثة: كتب الزوائد…52
الحلقة الرابعة: كتب الشروح…63
3- الجهود المبذولة في سبيل إعداد الموسوعة الشاملة باستخدام…
الحاسب الآلي…80
1- موسوعة الحديث الشريف ( الإصدار 2.1)…81
2- الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه…
(الإصدار الأول والثاني)…83
3- المكتبة الألفية للسُّنَّة النبوية ( الإصدار 1.5)…84
4- موسوعة الأحاديث الصحيحة ( الإصدار الأول )…85
5- موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (الإصدار الأول)…86
6- مكتبة الأجزاء الحديثية ( الإصدار الأول )…86
7- موسوعة التخريج الكبرى والأطراف الشاملة (الإصدار الأول)…87
8- المحدِّث( دار الحديث بدمشق، الإصدار الجديد 9.01)…88
9- الموسوعة الشاملة للأحاديث النبوية عن جامع الأُصول في…
أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -…89
10- مكتبة الحديث الشريف ( الإصدار السابع )…89
11- رسالة التعريف بموسوعة الحديث النبوي الشريف باستخدام… الحاسوب…90
4– مراحل طريقة الجمع الموسوعي…95
5- مقترحات في تأليف أهم اللجان الدائمة للعمل الموسوعي…100
6- خاتمة في أهداف العمل الموسوعي…103
كشاف المراجع…104
فهرس الموضوعات…107(27/78)
أهمية دراسة السيرة النبوية للمعلمين
إعداد الدكتورة
حصة بنت عبدالكريم الزيد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: وبعد.
فإن الله سبحانه وتعالى جعل محمداً شاهداً على الناس أجمعين، وجعل سلوكه أعظم سلوك، وتصرفاته أهدى تصرف، فكانت بذلك مثلاً يحتذى، وميزاناً صادقاً للبشرية في أعمالها وتصرفاتها، وقد كان هذا الهدي واضحاً لدى الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فكانوا يترسمونه، ويسيرون على هداه، ويتحرونه في كل أمورهم صغيرها وكبيرها.
ولما خبا ضوء السيرة النبوية في حياة الناس، وبخاصة من لهم رأي وتوجيه، وتعليم وتربية، تبع ذلك خلل في سلوك الناشئة التي تتلقى عنهم، فتلفت المربون، وبادر الموجهون إلى البحث عن مواطن الخلل في هذه السلوكيات، أهذا الخلل في المادة العلمية، أم في طريقتها ؟ أهو في المعلم، أم في المتلقِّي؟
وفي ميدان البحث يتذكر الراشدون أنه لن يصلح هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وخير زاد، وأعظم هدي، يستضاء به ويسترشد بخطواته عملياً، هو الهدي المحمدي، في سيرة محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -، أعظم معلم، وأهدى مُرَبًّ.
وفي هذا البحث الذي اخترته بعد تفكير وتأمل حرصت فيه على إبراز أهمية دراسة السيرة النبوية للمعلمين من خلال التركيز على المسائل التالية :
المسألة الأولى: اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتعليم.
المسألة الثانية: موضوعات التعليم في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - 0
المسألة الثالثة: أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم.
المسألة الرابعة: وسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم.
الخاتمة:
نتائج دراسة سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالتعليم، وكيف يمكن توظيف نتائج الدراسة فيما يحقق خدمة المعلمين في العصر الحاضر، ويساعد على تطوير أدائهم التعليمي استناداً إلى سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ؟(28/1)
وأسأله جل شأنه أن يتقبله، ويجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم .
المسألة الأولى : اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتعليم .
لم يُعرف دين رفع قَدْرَ العلم، واحترم العلماء واهتم بطلب العلم، مثل الدين الإسلامي قال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا x@ٹد% لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا x@ٹد% انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اتتب?[المجادلة:11] .
ولقد رغب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العلم وبَيَّن أنه طريق الجنة، كما دل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة ))(1). ولم يرغَّب - صلى الله عليه وسلم - أحداً أن يغبط أحداً على شيء من النعم التي أنعم الله بها على عباده إلا على نعمتين إحداهما: طلب العلم والعمل به، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها))(2)(3).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن رقمه (2699) جـ4 ص (2699).
(2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة رقمه (73) جـ1 ص30، صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه رقمه (816) جـ1 ص558 واللفظ له.
(3) انظر كتاب العلم ص18.(28/2)
ومن المؤكد أن ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحث على التعليم لم يرد على سبيل الإشارة العابرة هنا وهناك بدون امتداد وإثراء للفكرة ذاتها. فالقدر الكبير من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي تحض على طلب العلم والاستمرار فيه تؤكد أن الاهتمام بالتعليم كان فكرة أصيلة ضمن إطار فكري عام(1).
ولهذا فالإنسان المسلم في حاجة ماسة إلى العلم الذي ينمي الإيمان، ويغرس الفضائل، ويفقهه في دينه، فيحصل على الخيرية التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ))(2)، فيعبد ربه على بصيرة، فإذا تعلم وتفقه في أمور دينه ودنياه، وعلَّمه غيره ورغبهم في العلم، وبيَّن لهم أن مجالسه تحفها الملائكة، وتنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، ويذكرها الله في الملأ الأعلى(3) مقتدياً في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رغَّب في العلم، وحرص على تعليم المسلمين أمور دينهم سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً.
__________
(1) رسالة الخليج العربي، العدد (47) نظرية التربية المستمرة وتطبيقاتها في التربية الإسلامية، نور الدين محمد عبدالجواد، ص30.
(2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً رقمه (71) جـ1 ص30، انظر صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة رقمه (1037)، جـ2، ص 718.
(3) انظر: كتاب الرسول والعلم ص10.(28/3)
وكان - صلى الله عليه وسلم - أرفق الناس بالمتعلمين، وأبعدهم عن التشديد والتعسير والفظاظة والغلظة، وهذا ما نوَّه به القرآن الكريم عند الإشارة إلى أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى:? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ اتخزب? [آل عمران: 159](1).
وقد طبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عَلَّمه الله تعالى قولاً وفعلاً وأمر أصحابه رضي الله عنهم بذلك، فعندما أرسل معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن معلمين وقضاة قال لهما: (( يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وَبَشِّروا ولا تُنَفِّروا ))(2).
ولهذا ينبغي للمعلمين الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فعله وقوله بالرفق بطلابهم والصبر عليهم، وعدم تعنيفهم، كما قال الماوردي رحمه الله: (( ألا يعنفوا متعلماً، ولا يحقروا ناشئاً، ولا يستصغروا مبتدئاً، فإن ذلك أدعى إليهم، وأعطف عليهم، وأحث على الرغبة فيما لديهم ))(3).
ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخص فئة دون أخرى بالتعليم أو يتابع مجموعة دون غيرها، بل كان حرصه على التعليم ممتداً ليشمل الصغار والكبار، والنساء والرجال، متابعاً لأمورهم، حريصاً على إرشادهم وتعليمهم بالقول والفعل والقدوة.
__________
(1) انظر: المرجع السابق 119.
(2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا رقمه (69) جـ1 ص30، واللفظ له. انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير رقمه (1732). جـ3 ص1358.
(3) فيض القدير جـ4/338(28/4)
ولتقديم توضيح لاهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بالجميع دون استثناء نتناول كيفية اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الرجال، والنساء، وكذلك الأطفال .
أولاً: الاهتمام بتعليم الرجال .
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تعليم أصحابه وتوجيههم وإرشادهم حسب واقع الحال الذي يتطلبه الموقف، فمثلاً هذا رجل غريب جاء يسأل عن دينه فترك - صلى الله عليه وسلم - خطبته ليعلمه ما سأل عنه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي رفاعة رضي الله عنه قال: (( انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، قال: قلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، ولا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إليّ. فأُتي بكرسي، حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها ))(1).
قال الإمام النووي رحمه الله:(( فيه تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفقه بالمسلمين، وشفقته عليهم، وخفض جناحه لهم ))(2).
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب الجمعة، باب" حديث التعليم في الخطبة، رقمه (876) جـ2/ 597 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ6/165.(28/5)
وفي موضع آخر يصف صحابي جليل اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتعليم أصحابه رضي الله عنهم مشيراً إلى رفقه وحسن تعليمه بقوله:((بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ))، فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم ، فقلت: يرحمك الله؛ فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليّ لِلَّهِ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ماكهرني، ولا ضربني ولا شتمني قال:(( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قلت يا رسول الله: إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكُهَّان؟ قال: (( فلا تأتهم )). قلت: ومنا رجال يتطيرون قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم ))(1).
قال النووي - رحمه الله -: (( فيه بيان ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه من التخلق بخلقه - صلى الله عليه وسلم - في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف، وتقريب الصواب إلى فهمه ))(2).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة رقمه (537) جـ 1/ 381 . وقوله : " ما كهرني " ، أي : ما نهرني .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ5/28.(28/6)
ونلحظ أثر الرفق واللين في معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية رضي الله عنه، إذ بدأ يستفسر عن الأمور التي كانت شائعة في الجاهلية كي يتجنبها إن كانت محرمة - لئلا تظهر منه فينكر عليه(1). فالمعلم شفيق على طلابه حريص على تعليمهم وتقريب المعاني إلى أفهامهم مقتدياً بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا رجل يدخل المسجد ويتبول فيه، من دون مراعاة لحرمة المكان ووجود الناس فيتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ينتهي، ثم يدعوه إليه ليعلمه أن للمسجد حرمة وأنه للصلاة والذكر والتسبيح. فعن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مه مه))(2) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تزرموه(3)،دعوه(4))) فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - دعاه فقال له: (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة، وقراءة القرآن )) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: (( فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه(5) عليه )).
__________
(1) انظر: من صفات الداعية اللين والرفق، ص 34.
(2) مه مه )) هي كلمة زجر، انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/193.
(3) لا تزرموه ) لا تقطعوا عليه بوله، المرجع السابق، 3/192.
(4) دعوه ) اتركوه.
(5) فشنه ) فصبه، صحيح مسلم بشرح النووي، 3/193.(28/7)
قال الإمام النووي رحمه الله: ((وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً(1).فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يترك الأعرابي يبول في المسجد إلا لما خشي من ظهور منكر أعظم من منعه مِن البول ))(2).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (( إنما تركوه يبول في المسجد لأنه كان شرع في المفسدة، فلو منع لزادت، إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: إما أن يقطعه فيتضرر، وإما ألا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد ))(3)
فالمعلم التربوي يقرن تعليمه بالرفق واللين، فيكون له أعظم الأثر في قلوب طلابه. وهكذا كان لمعاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي بالرفق أعظم الأثر في نفسه، ونلاحظ ذلك في قول الأعرابي بعد أن فقه (( بأبي وأمي )) فلم يؤنب ولم يسب.
__________
(1) صحيح مسلم، باب كتاب الطهارة ، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، رقمه ( 285) جـ1/237.
(2) انظر: مراعاة أحوال المخاطبين، ص97.
(3) انظر: فتح الباري، 1/ 323.(28/8)
ومن اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الرجال دعوته المستمرة إلى الاهتمام بالفرد، واغتنام أحسن المناسبات لتوعيته وتوجيهه، ومن ذلك قصة الرجل الذي جاء يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الصلاة (( فعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة. فقال له: صَلِّ معنا هذين - يعني اليومين )). فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن. ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره، فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها.
ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة ؟
فقال الرجل: أنا يا رسول الله..
قال:(( وقت صلاتكم بين ما رأيتم ))(1).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:(( فيه بيان أن للصلاة وقت فضيلة ووقت اختيار، وفيه أن وقت المغرب ممتد، وفيه البيان بالفعل، فإنه أبلغ في الإيضاح، والفعل تعم فائدته السائل وغيره ))(2).
فعلى المعلم أن يقتدي بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء تعليمه لطلابه، فيقرن العلم بالعمل؛ لتثبيت المعلومات في أذهانهم، وحصر الفكرة في مدلول واقعي يدركه المتعلم ويفهمه.
ثانياً: الاهتمام بتعليم النساء.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس رقمه (613)،ج1/428.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ5/159-160.(28/9)
لم يغفل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الاهتمام بتعليم النساء أمور دينهن، بل كان حريصاً على توصيل الأحكام الشرعية إليهن وبخاصة ما يتعلق منها بالمرأة، وله في ذلك شواهد تؤكد اهتمامه وحرصه - صلى الله عليه وسلم - على الاستجابة لأي سؤال أو استفسار يأتيه من النساء، حتى ولو كان في أدق خصوصياتهن. ومن ذلك ما ورد عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض، فأخبرها كيف تغتسل. ثم قال:(( خذي فرصة من مسك، فتطهري بها )) قالت: وكيف أتطهر بها. ثم قال:(( سبحان الله تطهري بها ))، قالت عائشة رضي الله عنها: فجذبت المرأة وقلت:(( تتبعين بها أثر الدم ))(1).
كما كان - صلى الله عليه وسلم - يتفقد أحوال النساء، ويطمئن على صحتهن. فها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على ضباعة بنت الزبير، ويسألها عن الحج، وهل تستطيع ذلك؟ فيشجعها بقوله - صلى الله عليه وسلم - :(( حجي واشترطي )). فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير فقال لها: ((لعلك أردت الحج )) قالت:والله لا أجدني إلا وجعة(2) فقال لها:((حجي واشترطي، قولي: اللهم محلِّي(3) حيث حبستني(4))) وكانت تحت المقداد بن الأسود(5).
__________
(1) صحيح سنن النسائي - كتاب الطهارة، باب ذكر العمل في الغسل من الحيض رقمه (245)، جـ1/53.
(2) وجعة: ذات مرض.
(3) محلي: أي مكان تحللي من الإحرام.
(4) حيث حبستني أي عن النسك بعلة المرض.
(5) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين، رقمه (5089) جـ6 ص149، وصحيح مسلم - كتاب الحج، باب اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه، رقمه (1207) جـ2/867.(28/10)
كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم من أشكل عليها أمراً، وأثار لديها تساؤلاً، حيث عَلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم سلمة رضي الله عنها، حينما أشكل عليها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر لتعارضها ظاهراً مع نهيه - صلى الله عليه وسلم -. فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها ثم رأيته يصليها حين صلى العصر، ثم دخل عليّ وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه، قولي له:(( تقول لك أم سلمة: يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليها )). فإن أشار بيده فاستأخري عنه.
ففعلت الجارية، فأشار بيده ، فاستأخرت عنه . فلما انصرف ، قال: (( يا ابنة أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني أناس من عبدالقيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ))(1).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:(( وفيه الفحص عن الجمع بين المتعارضين(2) فأم سلمة رضي الله عنها استشكلت ما ظهر لها من خلاف بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فأثار لديها تساؤلاً، أجاب عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يكون هناك مجال لظن)).
فالطالب إذا أشكل عليه أمر فظهر له الخلاف بين القول والفعل أو الفعل والأمر، ينبغي له المسارعة بسؤال المعلم، فإنه بالسؤال يسلم من إرسال الظن السيئ بتعارض الأفعال والأقوال(3).
كما كان - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تعليم من جهل منهن أمراً من أمور الدين والرفق بهن، وعدم مؤاخذتهن. ومن ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال:(( اتقي الله واصبري )).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب السهو، باب إذا كُلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع . جزء من حديث رقمه (1233)، جـ2/84.
(2) فتح الباري، جـ3/106.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، جـ6/121.(28/11)
قالت:(( إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه )). فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين. فقالت: لم أعرفك.
فقال:(( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ))(1).
قال العلامة العيني رحمه الله :(( فيه ما كان عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل، وترك مؤاخذة المصاب، وقبول اعتذاره ))(2). وكان لتعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باللطف مع المرأة الأثر الكبير في نفسها. فهذا التعامل بالرفق واللين مع المرأة ولَّد لديها محبةً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومهابة. ومما يؤيد ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال:فلما ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل لها: (( إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت. فأتت بابه...الحديث))(3).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح قول أنس بن مالك رضي الله عنه (( فأخذها مثل الموت )) أي : من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه - صلى الله عليه وسلم -؛ خجلاً منه ومهابة(4).
فحسن تعامل المعلم مع طلابه والرفق بهم، والأخذ بأيديهم يُوَلِّد لديهم محبة المعلم ومهابته، وحسن الاستماع إلى ما يأمر به. وهذا هو المطلوب في العملية التعليمية.
ثالثاً: اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الصغار.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم المعلم لأصحابه متصفاً بصفات الكمال، ومن كمال منهجه التربوي اهتمامه بتربية الصغار وتعليمهم ، وصبره عليهم وأخذه بأيديهم، حيث كان - صلى الله عليه وسلم - يحرص أن يكون معلماً ومؤدباً لهم ليتحقق صلاحهم حينما يكبرون.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، رقمه (1283)، جـ2/99.
(2) انظر: عمدة القاري، جـ8/68.
(3) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى، رقمه (926)، باختصار، جـ2/637.
(4) فتح الباري، جـ3/149.(28/12)
من اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بالصغار ما ورد من توجيهه التدريجي في الصلاة حيث قال:(( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع ))(1). فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة هي الأساس، وأمر بحثِّ الأبناء على إقامتها على الوجه المطلوب وإن في ذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله:(( قال القاضي: يجب على ولي الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويأمره بها، ويؤدبه عليها إذا بلغ عشر سنين ))(2).
لذا ينبغي للمربي أن يأمر الأطفال بالطاعات قبل بلوغهم سن الرشد؛ كي يستأنسوا لها ويعتادوها؛ فالطفل أسلس قياداً، وأسرع مؤاتاة، ولم تغلب عليه عادة تمنعه من اتباع ما يراد منه ، ولا له عزيمة تصرفه عما يؤمر به(3). فإذا اعتادوا هذه الطاعات سهل عليهم القيام بها إذا ما كبروا. قال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي:(( ويجب عليه أيضاً أن يعلمه ما يجب عليه علمه، أويقيم له مَنْ يعلمه ذلك ))(4).
كما كان - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تعليمهم بعض مهارات الحياة التي تفيدهم في دنياهم فعن أبي سعيد رضي الله عنه:(( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بغلام وهو يسلخ شاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( تنح حتى أريك " فأدخل يده بين الجلد واللحم ، فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ، ثم مضى ، فصلى للناس، ولم يتوضأ))(5).
__________
(1) سنن أبي داود - كتاب باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ رقمه (495)، جـ1/97.وقال عنه الشيخ الألباني ( حسن صحيح )، انظر صحيح سنن أبي داود، جـ1/97.
(2) المغني جـ2/350.
(3) انظر: جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب، ص39.
(4) غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب، جـ1/232.
(5) صحيح سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس اللحم النيئ وغسله.. رقمه (185) جـ1/37.(28/13)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - عطوف ورحيم في تعليمه للصغار معالجاً لأخطائهم بدون قسوة ولا تعنيف. ومن ذلك حينما جمعت لدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الزكاة فأكل منها الحسن رضي الله عنه، فوجَّهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلطف، بأنه لا ينبغي له الأكل من الزكاة؛ وذلك لما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:((كخ كخ )) ليطرحها ثم قال:(( أما شعرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة ))(1).
قال الحافظ ابن حجر: كلمة كخٍ كخٍ كلمة زجر للصبي عما يريد فِعْله(2).
لذا يجب على الأولياء إبعاد أطفالهم عن المحرمات، ومنعهم من تعاطيها، ومعاتبتهم عليها، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الحسن بطرح التمرة ورميها مِنْ فيه مع أنه طفل لا تلزمه الفرائض، ولم تَجْرِ عليه الأقلام.
قال الإمام النووي رحمه الله:(( وفي الحديث أن الصبيان يُحَذّرون مما يحذر منه الكبار، وهذا واجب على الولي ))(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب ما يُذكر في صدقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رقمه (1491)، جـ2/164.
(2) فتح الباري- جـ6/185.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي جـ7/175.(28/14)
ولا ينسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرن توجيهه للصغار بالقول حينما يكون ذلك كافياً في التوجيه والتعلم. ومن ذلك حينما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر بن أبي سلمة وهو لا يحسن الأكل من الإناء، فوجَّهه توجيهاً لطيفاً إلى آداب الأكل. فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما يقول:" كنت في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت يدي تطيش في الصحفة(1) فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( يا غلام، سَمِّ الله وكل بيمينك وكُلْ مما يليك )) فما زالت طعمتي بعد(2) (3).
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّم عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه آداب الأكل بالرغم من صغر سنه . ومما يدل على ذلك مخاطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بقوله:(( يا غلام ))، والغلام - كما بيَّن العلماء - هو الصبي من حين يولد إلى أن يبلغ الحلم(4).
فعلى الأولياء والمعلمين الحرص على تعليم الأطفال ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، على أن يكون التعليم بالرفق واللين، حتى يتقبل الطفل من وليه، ويكون له الأثر العظيم في مستقبل حياته.
كما كان في تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة الأثر العظيم حيث قال رضي الله عنه:(( فما زالت تلك طعمتي بعد أي : لزمت ذلك وصار عادة لي ))(5).
__________
(1) الصحفة:" ما تشبع خمسة ونحوها، وهي أكبر من القصعة " المرجع السابق، جـ9/522.
(2) " فما زالت طعمتي بعد - أي صفة أكلي- فلزمت ذلك وصار عادة " والمراد جميع ما تقدم من الابتداء بالتسمية والأكل باليمين، والأكل مما يليه....انظر فتح الباري جـ9/523.
(3) صحيح البخاري، كتاب الأطعمة - باب التسمية علىالطعام والأكل باليمين، رقمه ( 5376)، جـ6/241.
(4) فتح الباري، جـ9/521، وانظر عمدة القاري، جـ21/29.
(5) انظر: فتح الباري، جـ9/523.(28/15)
ومن اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الصغار: أنه - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع من البنت الأنصارية الصغيرة قولاً مخالفاً للشرع، بأن نَسَبت إليه أنه يعلم ما في الغد علَّمها ما ينبغي لها قوله، ومنعها من إعادة كلامها. فقد روت الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنها: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل حين بُني عليّ(1) فجلس على فراشي كمجلسك(2) مني ، فجعلت جويريات(3) لنا يضربن بالدف(4) ويندبن(5) من قُتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن:(( وفينا نبيّ يعلم ما في غد )).
قال:" دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين "(6).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:" إنما أنكر عليها ما ذُكر من الإطراء حيث أُطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى كما قال :? قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ادخب? [النمل:65].
فعلى المعلمين والأولياء الحرص على تعليم الصغار الكلمات الصحيحة التي لا تتنافى مع التوحيد ولا تتعارض مع احترام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يمنعوهم إذا سمعوا منهم كلمات تخالف الشرع ، مِنْ حلفٍ بغير الله ، أو سب أو شتم أو غيبة أو نميمة أو تنابز بالألقاب(7).
__________
(1) بُني علي ) البناء: الدخول بالزوجة - فتح الباري، جـ9/203.
(2) كمجلسك ) بكسر اللام أي مكانك، المرجع السابق جـ9/203.
(3) جويريات ) جمع جويرية، ومصغر جارية، عمدة القاري، جـ20/135.
(4) الدف ) الأفصح في ( الدف ) ضم الدال، وقد تُفتح وهو الذي بوجه واحد عمدة القاري، جـ20/2135.
(5) يندبن ) أي ذكر أوصاف الميت بالثناء عليه وتعديد محاسنه بالكرم والشجاعة ونحوها ( فتح الباري، جـ9/203 ).
(6) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ضرب الدف في النكاح والوليمة، رقمه ( 5147)، جـ6/167.
(7) انظر : الاحتساب على الأطفال، ص45.(28/16)
المسألة الثانية: موضوعات التعليم في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
بينت في المسألة السابقة اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتعليم 0 وهنا أتحدث عن الموضوعات التى كان يوليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - اهتماماً بارزاً في تعليمه للناس والتي يمكن الحديث عنها في الفقرات التالية:
أولاً: العقيدة:
إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى وطاعته وابتغاء مرضاته هو الهدف من خلق الإنسان.وفي حديث جبريل الطويل عندما أرسله الله سبحانه وتعالى ليعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - الأولويات في التعليم بدأ بالعقيدة ثم العبادات ثم المعاملات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان؟ قال:(( أن تؤمن بالله وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر.. )) قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال:(( الإسلام أن تعبدالله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان )) . قال: يا رسول الله لِلَّهِ ما الإحسان ؟ قال:(( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه ، فإنه يراك )). قال: يا رسول الله متى الساعة ؟ قال:(( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، لكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأَمَةُ ربها، فذاك من أشراطها ، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها ، في خمس لا يعلمهن إلا الله )) ، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم -? إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ اجحب? [لقمان: 34].(28/17)
قال : ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ردوا عليّ الرجل )) فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(( هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ))(1).
فالإيمان فَسَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، فقال أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(2).
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلك هذا المنهج في تعليمه للبشرية فبدأ بالعقيدة وقَدَّمها على سائر الموضوعات الأخرى، فتناول أصول الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين، حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة الإسلام(3).
ومن أمثلة ذلك :
ما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادْعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(4).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان رقمه (50) جـ1 ص22.انظر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقمه (9) جـ1 ص 39 واللفظ له.
(2) إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم ص 57.
(3) تاريخ التشريع الإسلامي، ص52.
(4) صحيح البخاري - كتاب الزكاة باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا رقمه (1496) جـ2 /165.(28/18)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (( المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة ، ووقعت البداءة بها ؛ لأنها أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما فمن كان منهم غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين ، ومن كان مُوَحِّداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة ))(1).
كما أن من أقر بالشهادتين، واعتقد ذلك جزماً كفاه ذلك في صحة إيمانه، وكونه من أهل القبلة والجنة(2) ومن ذلك ما وَرَدَ في حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانيَّة(3)، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسَفُ كما يأسفون(4)، لكني صككتها(5) صكةً، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعظم ذلك علي. قلت يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال:(( ائتني بها )) فأتيته بها. فقال لها (( أين الله؟ )) قالت: في السماء. قال (( من أنا ؟ )) قالت:" أنت رسول الله " قال:(( أعتقها فإنها مؤمنة ))(6).
قال النووي رحمه الله تعالى قال:(( كان المراد امتحانها هل هي موحدة تقر بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده؟ ))(7).
__________
(1) فتح الباري جـ3/ 358.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ 5/35 .
(3) الجوانية: الجوانية بقرب أحد. موضع في شمال المدينة.
(4) آسف كما يأسفون: أي أغضب كما يغضبون.
(5) صككتها صكة ) أي ضربتها بيدي مبسوطة.
(6) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، رقمه (537)، جـ1 ص381.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي جـ5/33.(28/19)
فعلى المعلم الابتداء في تعليم طلابه العقيدة الإسلامية الصحيحة مقتدياً في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغرس مفهومها الصحيح في نفوس طلابه، فيربطهم بالخالق عز وجل، حتى يتوجهوا إليه في سائر عباداتهم ودعائهم، ويعلموا يقيناً أنه تعالى هو الرازق الناصر القادر على كل شيء، كما عليه أن يحثهم على أن من حصل له مكروه فعليه التوجه إلى الله تعالى بالدعاء، فإنه سميع مجيب، وليتوكلوا عليه في سائر أمورهم(1).
ثانياً : الشريعة :
وتعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مقتصراً على العقيدة بل اتجهت جهوده - صلى الله عليه وسلم - إلى العبادات التي تعد أمراً أساسياً في الشريعة الإسلامية حتى أوجد منهجاً متكاملاً في أمور العبادات العملية بجميع أشكالها من صلاة وزكاة وصوم وحج..إلخ واتخذ في ذلك منهج التدرج في التشريع ليحصل القبول لهذا الدين عند الناس.وذلك بعد أن عمر قلوبهم بالإيمان الخالص لله وحده، فبدأ بتعليمهم كيفية الصلاة المفروضة وحقوقها وأركانها وحدودها، سواء كان ذلك عن طريق سؤال الصحابة رضي الله عنهم له أو من خلال الممارسة العملية.
__________
(1) انظر: ((آداب المتعلمين)) ص 33.(28/20)
ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُعَلمهم دعاء الاستفتاح في الصلاة . فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كَبَّر في الصلاة سكت هُنيَّةً(1) قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله لِلَّهِ بأبي أنت وأمي ، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال: (( أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد ))(2).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:(( وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته))(3).
فالمعلم الناجح المشفق على طلابه يُعَلِّمهم أدعية الاستفتاح في الصلاة فإذا اعتادت أنفسهم دعاءً أرشدهم إلى غيره، كما يحثهم على الإلحاح بالدعاء إلى الله أن ينقيهم من الخطايا والذنوب.
__________
(1) هنية: أي قليلاً من الزمن.
(2) صحيح البخاري كتاب الأذان باب ما يقول بعد التكبير رقمه (744)،ط/203، وصحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، رقمه (598)،ط/419 واللفظ له .
(3) فتح الباري جـ2/230.(28/21)
كما كان يُعَلِّمهم قراءة الفاتحة آية آية، أي قراءتها ثم قراءة الآية التي بعدها كما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مَجَّدني عبدي ( وقال مرة: فَوَّض إليّ عبدي ) فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين: قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ))(1).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقمه (395) جـ1 ص296 .(28/22)
فالمعلم يحث طلابه ويرغبهم أثناء قراءة الفاتحة في السكوت على الآية والتي بعدها لاستحضار رَدٍّ من رب العالمين، مما يزيد المصلي طمأنينة وخشوعاً، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يترك فرصة للصحابة رضي الله عنهم أن يتعلموا ما يُلْقَى إليهم بعد تكراره. ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد النبي عليه السلام فقال: ارجع، فصل فإنك لم تصل، فصلى، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:(( ارجع فَصَلِّ فإنك لم تصل ثلاثاً )) فقال: والذي بعثك بالحق فما أُحسن غيره، فعلِّمني . قال (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ))(1).
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: ((وفيه حسن التعليم بغير تعنيف))(2)، وقال النووي رحمه الله:((وإنما لم يعلمه أولاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة))(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأذان باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة رقمه (793)، جـ1 ص216. انظر صحيح مسلم، كتاب الصلاة با ب وجوب قراءة الفاتحة، رقمه (397) جـ1 ص298.
(2) فتح الباري، جـ2/ 280.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، جـ4 ص281،143.(28/23)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه رضي الله عنهم بالفعل ليقع التشريع منه؛ لكونه أبلغ من القول، ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه - صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي(1) - قال محمد: وأكثر ظني أنها العصر - ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهابا أن يكلماه، وخرج سَرَعَانُ(2) الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه رسول الله ذا اليدين فقال: أَنَسِيت أم قَصُرَت؟ فقال:(( لم أنس، ولم تقصر ))، قال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه، فكبَّر ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبَّر)(3) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:(( وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره ))(4). وكثير من الطلاب يجهلون من أحكام سجود السهو في الصلاة، فمنهم من يترك سجود السهو في محل وجوبه، ومنهم من يسجد في غير محله، ومنهم مَنْ يجعل سجود السهو قبل السلام وإن كان هو وضعه بعده...ولذا كان تعليم المعلم لطلابه أحكام سجود السهو مُهِمّاً جداًّ؛ ليفهموا أحكام دينهم ويطبقوه(5).
__________
(1) العشي: ما بين زوال الشمس إلى غروبها.
(2) السرعان: المسرعون إلى الخروج.
(3) صحيح البخاري، كتاب السهو، باب يكبرُ في سجدتي السهو رقمه (1229) جـ2 ص83.انظر صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، رقمه (573)، جـ1 ص403.
(4) فتح الباري جـ3، 101.
(5) كتاب سجود السهو، ص 4.(28/24)
وكما عَلَّمهم - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عَلَّمهم ما يكون لهم فيه من بركة أو تزكية للنفوس إذا أخرجوا زكاة أموالهم، ففيها تنمية للأموال وتكثير لبركتها.كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(( ما نقصت صدقة من مال ))(1). فهي ليست غرامةً، ولا ضريبة تنقص المال وتضر صاحبها، بل هي على العكس تزيد المال نمواً من حيث لا يشعر الناس(2).
كما بَيَّن - صلى الله عليه وسلم - ما يترتب على أدائها من الأجر العظيم ألا وهو دخول الجنة وذلك ما ورد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم - : خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة. من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن، وصام رمضان وحج البيت، إن استطاع إليه سبيلاً، وأعطى الزكاة طيبة بها نفسه )(3).
كما بَيَّنَ لهم - صلى الله عليه وسلم - مقدار الزكاة، وأنَّ مَنْ أدَّى زكاته كما أمر بذلك فليس بكانز لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس فيما دون خمس أواق(4)صدقة، وليس فيما دون خمس ذودٍ(5)صدقة وليس فيما دون خمس أوسق(6)صدقة )(7).
__________
(1) صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب استحباب العفو والتواضع رقمه (2588) جـ4 ص2001. انظر صحيح سنن الترمذى أبواب البر والصلة، باب ما جاء في التواضع رقمه (1652) جـ 2/199
(2) انظر الملخص الفقهي، جـ1/321.
(3) صحيح سنن أبي داود. كتاب الصلاة، باب المحافظة على وقت الصلوات رقمه (429) جـ1 ص87.
(4) جمع أوقية وهي أربعون درهماً من الفضة.
(5) الذود: من واحد إلى تسع وقيل درهم، من الفضة .
(6) أوسق: جمع وسق وهو ستون صاعاً.
(7) صحيح البخاري ، كتاب الزكاة ، باب ما أدى زكاته فليس بكنزٍ رقمه (1405) جـ2 ص136، واللفظ له انظر صحيح مسلم، كتاب الزكاة، بدون باب، رقمه (979)، جـ2 ص673.(28/25)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" كل مال أخرجت منه الصدقة فلا وعيد على صاحبه، فلا يُسَمَّى ما يفضل بعد إخراجه الصدقة كنزاً "(1).
لذا فالمعلم يُرغَّب في الصدقة، ويبين أنها إن نقصت المال عددياً فإنها لن تنقصه بركة وزيادة في المستقبل، بل يخلف الله بدلها ويبارك له في ماله"(2).
ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظر حتى يسأل عن الأجر بل إذا رأى منكراً أو أمراً مخالفاً يبادر إلى إنكاره . ومن ذلك ما ورد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها، وفي يدِ ابنتها مسكتان غليظتان(3)من ذهب، فقال لها:" أتعطين زكاة هذا؟" قالت: لا. قال:" أيسرك أن يُسَوِّرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟" قال: فخلعتهما، فألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: هما لله عز وجل ولرسوله "(4).
وشرع صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة بعد أن مرت مشروعيته بمراحل(5)
__________
(1) فتح الباري جـ3//272.
(2) فصول في الصيام والتراويح والزكاة ص21.
(3) مسكتان: يعني سوارين غليظين.
(4) صحيح سنن أبي داود كتاب الزكاة باب العروض إذا كانت للتجارة رقمه (1563) جـ1/291، وانظر صحيح سنن النسائي كتاب الزكاة باب زكاة الحلي رقمه (2304) جـ2/523.
(5) المرحلة الأولى: الأيام المعدودات، كما في قوله تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اترجب?[البقرة:183]. والأيام المعدودات قيل: هي الاثنين والخميس، وقيل: الأيام البيض، وهي ثلاثة أيام من كل شهر وقيل: غير ذلك.
المرحلة الثانية: التخيير بين الصيام أو الإطعام كما في قوله تعالى:? أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اترحب? [البقرة:184].
المرحلة الثالثة: وجوب صيام شهر رمضان على كل مسلم، حتماً إلا من كان له عذر قال تعالى:? شَهْرُ tb$xزtBu' الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ tb$x2 مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ xwur يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اترخب? [ البقرة : 185].
المرحلة الرابعة: التخفيف علىالمسلمين، فقد كان الصوم يبدأ بأول نومة بعد صلاة العشاء، ويبقى الصائم ممسكاً بقية الليل، واليوم الذي يليه كله حتى تغرب الشمس فشق ذلك على المسلمين، فخفف الله عنهم ذلك، وأباح لهم في ليالي رمضان كلها الأكل والشراب والجماع وذلك كما في قوله تعالى? أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى ِNن3ح!$|،خS هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا |=tFx2 اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ xwur تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ xxsù تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اترذب? [البقرة: 187]. انظر " أيام رمضان " للدكتور صالح الزيد .(28/26)
فكان في ذلك مجال لتعليم أصحابه فضل الصوم وأحكامه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(( إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم، وسننتُ لكم قيامه، فمن صامه وقامه احتساباً، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ))(1).
وأيضاً ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال:" تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان "، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئاً أبداً، ولا أنقص. فلما ولَّى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ))(2).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - رغَّب في الصيام وحث عليه لما فيه من تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة ولما له من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اترجب?[البقرة: 183](3).
قال ابن القيم رحمه الله في الصوم:" هو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو يترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر ما بين العبد وربه ولا يطلع عليه سواه"(4).
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/191) عن عبدالرحمن بن عوف (جـ3/127) برقم (1660) وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح.
(2) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة رقمه (1397) جـ2 ص134، صحيح مسلم ، كتاب الإيمان باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة رقمه (14) جـ1 ص44 واللفظ له.
(3) زاد المعاد، جـ2/29.
(4) زاد المعاد، جـ2/29.(28/27)
فلهذا ينبغي للمعلم أن يبين لطلابه حقيقة الصوم، وهو أن يترك طعامه وشرابه لأجل الله فهذا أمرٌ لا يَطَّلع عليه إلا الله، ويحثهم ويرغبهم في صيام شهر رمضان وقيامه، ويبين لهم فضل هذا الشهر، وأنه مضاف إلى الله تعالى يقول سبحانه وتعالى، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به))(1). قال الغزالي:" اعلم أن في الصوم خصيصة ليست في غيره، وهي إضافته إلى الله - عز وجل - وكفى بهذه الإضافة شرفاً "(2).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الصيام باب فضل الصيام، رقمه 164 (1151)، جـ2 ص807.
(2) إحياء علوم الدين جـ3/363.(28/28)
وفي السنة العاشرة من الهجرة أُذن في الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجٌّ، فقدم المدينةَ بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتَّم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويعمل مثل عمله(1) وكان في ذلك فرصة عظيمة لتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أمور دينهم. فعن عبدالرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي - رضي الله عنه -، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بعرفة فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلاً فنادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف الحج؟ فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فنادى (( الحج يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتمَّ حجه. أيام منى ثلاثة. فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه ))(2) وزاد الترمذي لفظاً آخر ((ومن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج))(3). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق:((خذ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر. ثم جعل يعطيه الناس))(4).
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - رقمه (1218) جـ2 ص 887.
(2) صحيح سنن أبي داود، كتاب المناسك باب من لم يدرك عرفة رقمه (1949) جـ1 ص 367.
(3) صحيح سنن الترمذي أبواب تفسير القرآن باب من سورة البقرة رقمه (2376)، جـ3 ص26.
(4) صحيح البخاري، كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان رقم الحديث (171) جـ1 ص58، صحيح مسلم كتاب الحج باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق رقمه(1305) جـ2ص947 واللفظ له.(28/29)
وأيضاً ما رواه جابر رضي الله عنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول:(( لتأخذوا مناسككم(1)، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ))(2).
فالمعلم المحب لتلاميذه يبين لهم أسباب الفوز بالجنة والنجاة من النار فيبين لهم فضل الحج المبرور الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( والحج المبرور(3)ليس له جزاء إلا الجنة ))(4). كما يحثهم على المتابعة ما بين الحج والعمرة لنفي الفقر والذنوب فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(( تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خَبَثَ الحديد ))(5).
قال الشيخ أبو الحسن السندي مبيناً المراد بالمتابعة بين الحج والعمرة: "اجعلوا أحدهم تابعاً للآخر واقعاً على عقبه، أي: إذا حججتم فاعتمروا، وإذا اعتمرتم فحجوا فإنهما متتابعان "(6).
ثالثاً: الأخلاق:
__________
(1) لتأخذوا مناسككم: اللام لام الأمر. والمعنى: خذوا مناسككم.
(2) صحيح مسلم، كتاب الحج باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً رقمه (1297) جـ2 ص943.
(3) الحج المبرور: الذي لا يخالطه إثم، أو المتقبل الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق.
(4) صحيح البخاري، كتاب العمرة، باب العمرة وجوب العمرة وفضلها رقمه ( 1773 ) جـ2، ص240،.صحيح مسلم،كتاب الحج باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة رقمه (1349 ) جـ2/983 واللفظ لهما.
(5) صحيح سنن ابن ماجه كتاب المناسك، باب فضل الحج والعمرة حديث رقمه (2887) جـ2ص148.
(6) حاشية الإمام السندي على سنن النسائي 5/115.(28/30)
بعد تأصيل مبادئ الإيمان والعقيدة في النفوس ووضع القواعد الأساسية لأمور العبادات، يأتي دور محاسن الأخلاق التي تزكو بها النفوس، ويستقيم عوجها(1)واتخذ لذلك وسيلتين: إمَّا التدرجَ، وإما القطعَ الحاسم. وكان التدرج في تربية الأمة وفق ما يمر بها من أحداث. وأوضح مثال لذلك التدرج في تشريع تحريم الخمر.
فقد نزل قوله تعالى:? وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ادذب? [النحل:67].
ثم نزل قوله تعالى? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ ×ژچخ7x2 وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ اثتزب?[البقرة:219] فقارنت الآية بين منافع الخمر فيما يصدر عن شربها من طرب ونشوة أو يترتب على الاتِّجار بها من ربح، ومضارها من إثم تعاطيها، وما ينشأ عنه من ضرر في الجسم وفساد في العقل، وضياع للمال وإثارة لبواعث الفجور والعصيان، ونَفَّرت الآية منها بترجيح المضارِّ على المنافع.
__________
(1) انظر: تاريخ التشريع، ص 52.(28/31)
ثم نزل قوله تعالى? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا xw تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ xwur جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح!$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا احجب? [النساء:43] فاقتضى هذا الامتناع عن شرب الخمر من الأوقات التي يستمر تأثيرها إلى وقت الصلاة، حيث جاء النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر حتى يزول عنهم أثره، ويعلموا ما يقولونه في صلاتهم.
ثم نزل قوله تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ uن!$xزَّt7ّ9$#ur فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ازتب? [المائدة:90-91]. فكان هذا تحريماً قاطعاً للخمر في كل الأوقات(1).
وهناك بعض الأخلاق التي واجهها - صلى الله عليه وسلم - مواجهة حاسمة دون تدرج أو إبطاء عند تعليمه لأصحابه، لما يترتب عليها من أضرار. منها:
"الغيبة :
__________
(1) انظر: تاريخ التشريع ص 54-55 .(28/32)
وهي من الصفات المذمومة والتي يتم فيها ذكر المرء ما يكرهه بظهر الغيب(1)فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بين لأصحابه ما هي الغيبة، وما الفرق بينها وبين البهتان. فعن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:(( ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : (( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه ))(2)(3).
والله تعالى ذكر مثلاً منفراً عن الغيبة فقال:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِن بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ xwur تَجَسَّسُوا xwur يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ x@à2ù'tƒ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ اتثب? [الحجرات:12] قال الشيخ السعدي:"شَبَّهَ أكل لحمه ميتاً المكروه للنفوس غاية الكراهة، باغتيابه فكما أنكم تكرهون أكل لحمه ولاسيما إذا كان ميتاً، فاقد الروح، فكذلك فلتكرهوا غيبته، وأكل لحمه حياً"(4).
وحذَّرهم من الغيبة ، وبيَّن لهم العقاب الشديد لمن أطلق عنان لسانه ليتحدث بما يشاء كيفما شاء.
__________
(1) انظر فتح الباري جـ10/484.
(2) بهته: أي قلت فيه البهتان وهو الباطل.
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الغيبة رقمه (2589) جـ4/2001.
(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان جـ7/138.(28/33)
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم(1)، قال الشيخ السعدي تعليقاً على قوله تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِن بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ xwur تَجَسَّسُوا xwur يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ x@à2ù'tƒ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ اتثب? [الحجرات: 12] وفي هذه الآية دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأنها من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر"(2). وبين - صلى الله عليه وسلم - أن التعريض بالغيبة كالتصريح، سواء كان إشارة أو إيماء أو غمزاً أو لمزاً أو حركة أو إشارة أو محاكاة.
وعن عائشة رضي الله عنها - قالت: فقلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ). قالت وحكيت له إنساناً فقال:" ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا)(3).
قال ابن حجر رحمه الله: "هي ذكر امرئ بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله"(4).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند ( 3/224)، انظر صحيح سنن أبي داود كتاب الآداب باب في الغيبة رقمه (4878) جـ3/923 واللفظ له.
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، جـ7/138.
(3) صحيح سنن أبي داود كتاب الآداب باب الغيبة رقمه (4875)،جـ3 ص923.
(4) فتح الباري جـ10/484.(28/34)
والرسول- صلى الله عليه وسلم - قد حثَّ المسلم على دفع كلام السوء عن أخيه المسلم وأن من فعل ذلك أبعد الله عن وجهه النار فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من رد عن عِرْض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة ))(1).
فعلى المعلم أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحث طلابه على مدافعة بعضهم عن بعض، وعدم تتبع عورات بعضهم بعضاً، فعن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم ))(2).
وقال عمر رضي الله عنه في ذلك: ((وإياكم وذِكْرَ الناس، فإنه داء))(3).
"النميمة:
هي نَقْلُ كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد، ولذلك حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أنها طريق موصل إلى النار، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)).
__________
(1) صحيح سنن الترمذي أبواب البر والصلة باب ما جاء في الذب عن المسلم رقمه (2013)، جـ2 ص181.
(2) صحيح سنن أبي داود كتاب الآداب، باب في النهي عن التجسس رقمه (4888)، جـ3،ص924.
(3) إحياء علوم الدين ( جـ3/152 ).(28/35)
كما أن النمَّام ينال عقاب الله في قبره، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما - أنه قال:" مرّ النبي على قبرين فقال:(( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، - ثم قال-: بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله ))، قال: ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال ((لعله يُخَفف عنهما، مالم ييبسا))(1).
قال الحافظ ابن حجر: "قال الزين بن المنير: المراد بتخصيص هذين الأمرين بالذكر تعظيم أمرهم "(2) .
قال قتادة -رحمه الله-: "ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول"(3).
فالمعلم يبين أن النميمة تؤذي وتضر، وتؤلم، وتجلب الخصام والنفور وتذكي نار العداوة بين المتآلفين، ولم ينقل جواز إباحتها أحد(4). فقد روي عن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً فقال له عمر:" إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ادب? [الحجرات:6]. وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية:? هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ اتتب?[القلم:11] . وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً "(5).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب عذاب القبر من الغيبة والبول، رقمه (1378)،جـ2/125 صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه رقمه (292)، جـ1 ص240. واللفظ له.
(2) فتح الباري جـ3/242.
(3) إحياء علوم الدين جـ3/166.
(4) انظر: نضرة النعيم، جـ11/5671 .
(5) انظر: إحياء علوم الدين جـ3/166.(28/36)
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو المعلم الأول للبشرية يبين الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة وعلومها، ويبين الأخلاق الذميمة والأعمال السيئة ويحذر منها.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : (( فالأخلاق التي شرعها الله لعباده وأمرهم بها هي أسباب سعادة الأمة ورقيها، وبقاء حكمها ودولتها، فعلى كل مسلم ومسلمة التخلق بهذه الأخلاق العظيمة ))(1).
المسألة الثالثة: أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم
الأسلوب هو الإجراء الذي يتخذه المعلم في إيصال المادة التعليمية للمتعلم(2). ويختلف الناس في سرعة استيعابهم وتعلمهم لما يلقى عليهم..ولهذا اهتمت البحوث التربوية بتنويع أساليب التعليم وصدرت العديد من البحوث التربوية التي تتناول الفروق الفردية بين سريع التعلم ، وبطيئه ، والمتوسط بينهما. ومن صفات المعلم الناجح أن يكون قادراً على مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين قادراً على التنويع في مادته العلمية، يمزج بين الأساليب المختلفة، سواء كانت في التطبيق أو الحوار أو المناقشة، مع التنويع في أساليب التشويق من قصة وضرب للأمثال.
__________
(1) انظر: الأخلاق الإسلامية ص 32-33.
(2) دراسات في المناهج والأساليب العامة، ص109.(28/37)
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نِعْمَ المربي والمعلم بل أفضل مُرَبًّ ومعلم لأصحابه رضوان الله عليهم، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - أقدر الناس على الاستفادة من الأساليب التي تقرب المفاهيم إلى الأذهان، وتساعد على ترسيخها في عقولهم وقلوبهم..ينتقل من أسلوب إلى آخر مراعياً حال المخاطبين فتارة، يبدأ بالقول المقرون بالفعل، وتارة يطلب التطبيق من آخرين، وأخرى يستخدم السؤال والحوار، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يلجأ في بعض الأوقات، ووفقاً لواقع الحال، إلى استخدام القصة أو ضرب الأمثال أو التشبيه، أو يستخدم أسلوب التشجيع حرصاً منه - صلى الله عليه وسلم -على أن تنتقل هذه التوجيهات النبوية الشريفة من مرحلة القول إلى مرحلة التطبيق والفعل .
ومن الأساليب التي استخدمها - صلى الله عليه وسلم - في تعليمه وتوجيهه لأصحابه نذكر ما يأتي:
أولاً: أسلوب الحوار والمناقشة.
يساعدنا هذا الأسلوب على شحذ الأذهان وتشويق النفوس لمعرفة المسألة المطلوبة وإثارة عنصر التحدي والترقب لدى المتعلم. وقد أصبحت طريقة الحوار والمناقشة وإثارة الأسئلة من أهم طرق التدريس الحديثة، بكونها تثير الاهتمام، وتدعو إلى التفكير اللذين يعدان من أهم خطوات التعلم. وقد وضعت طرق التدريس الحديثة قواعد لتحقيق فاعلية هذه الطريقة، منها أن يكون السؤال للجميع، وأن تتاح لهم فرصة التفكير قبل الإجابة، وغير ذلك من القواعد التي تَضْمَنُ فاعلية هذه الطريقة(1).
وقد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الأسلوب مرات كثيرة إما من خلال طرح السؤال ليجيب عنه المتعلمون ، إن استطاعوا ، أو ينتظروا ليسمعوا الإجابة منه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) التربية العملية وأسس طرق التدريس، ص29.(28/38)
ومما يؤكد ذلك أن الإمام البخاري رحمه الله خصص باباً في صحيحه تحت عنوان " باب طرح الإمام المسألة ليختبر ما عندهم من العلم "، وأخرج فيه حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مَثَلُ المسلم، حَدِّثوني ما هي ؟! )) فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة.
قال عبدالله: فاستحييت.
فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( هي النخلة )).
قال عبدالله: فحدَّثت أبي بما وقع في نفسي.
فقال: لأن تكون قلتها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا(1).
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله: ( فيه - أي حديث السؤال عن النخلة - وسيأتي بعده في الأمثلة التحريض على الفهم في العلم، وينبغي للمُلغَز له أن يتفطَّن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، كما ينبغي للملغِز ألا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للمُلغَز باباً يدخل منه، بل كلما قرَّبه كان أوقع في نفس سامعه(2).
فعلى المعلم أن يستخدم طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحوار والمناقشة، فها هو عليه الصلاة والسلام لم يُلْقِ على أصحابه رضي الله عنهم هذه الحقيقة إلقاء تقريرياً: أن المسلم مثل النخلة، أو أن المفلس يوم القيامة من يأتي بكذا وكذا، بل حاورهم وناقشهم وأراد أن يتوصل من خلال هذه المحاورة إلى استثارة دفائن ما عندهم وبلغتهم إلى ملاحظة ما حولهم ويشركهم معه في البحث.
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم باب الحياء في العلم رقمه (131)، جـ1 ص 47 - 48.
(2) فتح الباري 1/146.(28/39)
وبهذا لا يصبح المتعلم مجرد جهاز تسجيل ينفعل ولا يفعل، ويتلقى ولا يفكر. بل هو كائن حي عاقل يبحث ويفكر ويحاور ويناقش ويخطئ ويصيب(1). أو يسأل - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن بعض المعاني المعروفة فحينما يخبرونه بما يعرفون يأتي بمعنى آخر لهذه الألفاظ التي سألهم عنها(2). ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(( أتدرون ما المفلس))؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
فقال: (( إن المفلس من أمتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وَسَفَك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار))(3).
ومن ذلك أيضاً ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(( بينا أيوب يغتسل عرياناً فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحتثي في ثوبه فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك ))(4).
ثانياً: أسلوب القصة.
تعتمد القصة على الرواية والتشويق جذباً للسامعين وتهيئة لهم لسماع ما يريد المعلم قوله مما يعين على فهم المعنى وتقريره في نفوسهم.
__________
(1) انظر: الرسول المعلم، ص151.
(2) المرجع السابق ص151-152.
(3) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم، رقمه (2581)، جـ4، ص 1997.
(4) صحيح البخاري - كتاب الغسل، باب من اغتسل عرياناً وحده، وهو في الخلوة رقمه (279) جـ1/84.(28/40)
وقد استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوب القصة في مواضع كثيرة، ومن ذلك ما ورد في الصحيح من قصة الثلاثة الذين خرجوا يمشون، فأصابهم المطر، فدخلوا في غار في جبل فحطَّتْ عليهم صخرة فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بأفضل عمل عملتموه. فأخذ كل واحد منهم يتحدث عن أفضل عمل عمله، وفي كل مرة يتحدث بها أحدهم يفرج الله عنهم فرجة، حتى انتهى الثالث من رواية عمله، فكشف الله عنهم(1).
فمن الصفات التي لابد أن تتوافر في المعلم استخدام الأسلوب القصصي أثناء تدريسه، فهو تربة خصبة، يستطيع المعلم من خلالها توصيل المعلومات إلى أذهان طلابه وزيادة قناعتهم بما يريد تقريره لهم.
ثالثاً: أسلوب ضرب الأمثال.
وضرب الأمثال يساعد على إبراز المعنى في صورة رائعة لها وقعها في النفس سواء كانت تشبيهاً أو قولاً مرسلاً. والتمثيل: هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان بتشبيه الغائب بالحاضر والمعقول بالمحسوس، وقياس النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالاً، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له وإقناع العقل به(2).
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستخدم ضرب الأمثال في مواقف كثيرة ومن ذلك ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها، ويتعجبون، ويقولون: لولا موضع اللبنة))(3).
__________
(1) انظر نص الحديث كاملاً في صحيح البخاري، كتاب الأدب باب إجابة دعاء من بر والديه، رقمه (5974) جـ7 ص92.
(2) انظر: طرائق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ص124.
(3) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - رقمه (3534)، جـ4/196.(28/41)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام))(1). ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد(2) بالسهر والحمى))(3).
قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه جواز التشبيه وضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام"(4).
وفي هذين الحديثين ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - المثالين لتقريب المعاني إلى الأفهام، فينبغي للمعلم أثناء تدريسه نهج هذا المنهج؛ لأن ضرب الأمثال أوقع في النفس، وأبلغ في الوعظ، وأقوى في الزجر، وأقوم في الإقناع(5).
رابعاً: أسلوب التشجيع.
يساعد تشجيع المتعلم على زيادة تركيزه وإقباله على العلم ليستزيد منه أكثر فأكثر، ولهذا فإن على المعلم أن يشيد بالمواقف الحسنة لطلابه، وأن يشجعهم على السؤال والحوار والمناقشة؛ لأن هذا أدعى إلى توسيع مداركهم وتمكينهم من استيعاب المادة العلمية بشكل أفضل. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يترك مناسبة إلا ويثني فيها على من أصاب من أصحابه.
__________
(1) فتح الباري، جـ6/559.
(2) تداعى له سائر الجسد: دعا بعضه بعضاً إلى المشاركة في ذلك، انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ16/140.
(3) صحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ، رقمه 66(2586) ، جـ4/1999.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي، جـ6/139.
(5) انظر: مباحث في علوم القرآن ص 282.(28/42)
ونجد في كتاب فضائل ومناقب الصحابة في صحيحي البخاري ومسلم عدداً من النصوص التي تحمل الكثير من الثناء والتشجيع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على واحد أو أكثر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ثناء الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أبي عبيدة رضي الله عنه حينما قدم أهل اليمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالبين أن يبعث معهم رجلاً ليعلمهم السنة والإسلام، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيد أبي عبيدة قائلاً :(( هذا أمين هذه الأمة ))(1)(2).
خامساً: أسلوب مراعاة الفروق الفردية.
من المعلوم أن الناس يختلفون في قدراتهم الاستيعابية إما بسبب خلفيتهم الثقافية أو الاجتماعية أو التعليمية أو بسبب تفاوت أعمارهم واهتماماتهم، فكل هذه الأشياء تجعل الفروق الفردية بين الناس شيئاً ملموساً ومحسوساً ينبغي للمعلم أن ينتبه له ويلاحظه؛ ليقدم لكل متعلم حسب قدرته الاستيعابية ووفقاً لواقع الحال.
ويندرج تحت مراعاة الفروق الفردية التدرج في التعليم، لكونه يراعي السن والبيئة والثقافة.
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه رقمه (3744) جـ4ص 259، صحيح مسلم،كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح رقمه 54 ( 2419)، جـ4 ص1881، واللفظ له.
(2) انظر : الرسول والعلم ص129 .(28/43)
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرص الناس على مراعاة الفروق الفردية والتدرج في التعليم ويتضح ذلك من وصيته - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن فعن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال:(( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإنْ أطاعوك لذلك، فأعلمهم أنَّ الله فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ))(1).
فينبغي للمعلم أن يُراعي الفروق الفردية بين طلابه، فلا يبدأ بدقائق العلم، وعويص مسائله، فيغرقهم في بحر عميق لا يستطيعون النجاة منه، بل يبدؤهم بالأسهل والأيسر؛لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلاً حُبب إلى مَنْ يدخل فيه، وَتَلقَّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالباً الازدياد منه، بخلاف ضده(2)" .
ومن هذا يتضح أن على المعلم وهو يختار الأسلوب لإيصال المادة العلمية لطلابه أن يتأكد من ملاءمة هذا الأسلوب لمحتوى المادة العلمية وأن تتوافق مع مستويات نمو الطلاب. كما ينبغي له إدراك أن مهمته لا تقتصر فقط على تزويد الطلاب بالمعلومات والحقائق، وإنما تتسع لتشمل إكسابهم مهارات التعلم المستمر(3).
المسألة الرابعة: وسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم .
__________
(1) صحيح البخاري - كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد على الفقراء حيث كانوا،رقمه (1496)، جـ2 / 165.
(2) انظر: الرسول والعلم، ص 134.
(3) دراسات في الأساليب والمناهج العامة، ص 178-179-209.(28/44)
الوسيلة بمعناها التعليمي هي ما يتوصل به المتعلم إلى تطبيق مناهج التعليم من أمور معنوية أو مادية(1). وقد أشارت العديد من الكتب التربوية الحديثة إلى أهمية الوسيلة التعليمية لكونها تساعد على تنمية الإدراك الحسي وسرعة الفهم وإثارة التفكير واكتساب المهارات المتعددة إضافةً إلى ما تقدمه الوسيلة من فرصة لترسيخ عناصر الدرس في أذهان الطلاب(2).
وكلما أحسن المعلم في اختيار الوسيلة المناسبة والتوقيت المناسب، ساعد على تنمية معلومات الطلاب وتثبيتها في أذهانهم، فمثلاً يساعد ربط الخبرات التي يحتوي عليها الدرس مع بعضها، بحيث تعتمد الخبرة على خبرة سابقة، وتؤدي إلى خبرة تالية مع حسن التوقيت على تمكين المتعلمين من الوصول إلى مدركات أوسع وفهم أعمق وتعميمات أشمل(3).
استخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوسائل في تعليمه وتوجيهه لأصحابه تقريباً للمفاهيم وترسيخاً في أذهانهم. ومن الوسائل التي استخدمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يلي:
أولاً: الإشارة:
الإشارة وسيلة تعليمية لتوضيح الفكرة، كما أن التعليم بها أبلغ. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخدم الإشارة وسيلة من وسائل الإيضاح لتقريب المعاني إلى أذهان الصحابة رضي الله عنهم. ومن ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين ، والركبتين وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب والشعر ))(4).
__________
(1) انظر: مدخل إلى علم الدعوة ص282 بتصرف.
(2) انظر: أفكار تربوية، ص60.
(3) انظر: الوسائل التعليمية، ص40.
(4) صحيح البخاري- كتاب الأذان، باب السجود على الأنف رقمه ( 812)، جـ1/222.(28/45)
وأيضاً ما ورد في صحيح البخاري من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم ))(1).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" ويستفاد منه الذي يريد المبالغة في بيان أقواله بحركاته؛ ليكون أوقع في نفس السامع "(2).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:" الاكتفاء بالإشارة المفهمة عن التصريح"(3).
فالإشارة وسيلة مهمة للمعلم أثناء تعليمه لطلابه؛ لأنها تقوم مقام اللفظ والإيضاح باللسان إذا فهم المراد منها(4)، كما أن في الإشارة : اللفظ القليل يدل على المعنى الكثير(5)، لذا ينبغي للمعلم الحرص على استخدام هذه الوسيلة لما لها من فائدة للمتعلم فإنه قد يفهم ويستوعب مقصد المعلم من خلال حركات يده.
ثانياً: رسم الخطوط:
__________
(1) جزء من حديث ورد في صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض، رقمه (1304)، جـ2/105-106.
(2) فتح الباري، جـ10/450.
(3) المرجع السابق،جـ3/9 ،10.
(4) انظر: شرح الكرماني على صحيح أبي عبدالله البخاري جـ4/118.
(5) انظر بديع القرآن، ص 82.(28/46)
رسم الخطوط يساعد على تقريب المفاهيم إلى السامعين لأنه يقرن بين حاستي السمع والبصر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخدم هذه الوسيلة لتقريب ما أراد توصيله إلى السامعين، ومن الشواهد الدالة على هذا ما رواه الإمام البخاري عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطاًّ مربعاً، وخط خطاًّ في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان وهذا أَجَلُه محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض(1)، فإن أخطأه هذا نهشه هذا(2)، وإن أخطأه هذا نهشه هذا "(3).
ومن ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد والحاكم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:" خَطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاًّ، ثم قال:" هذا سبيل الله ". ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال:" هذه سبل " قال يزيد: متفرقة. على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:? قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ xw يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ اتجخب? [الانعام:153](4).
قال الملا علي القاري تعليقاً على قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:" خط لنا " أي لأجلنا تعليماً وتفهيماً وتقريباً؛ لأن التمثيل يجعل المقصود من المعنى كالمحسوس"(5).
__________
(1) الأعراض ) الآفات العارضة له، فتح الباري، 11/238.
(2) نهشه ) أصابه، المرجع السابق، جـ11/238.
(3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله، رقمه ( 6417)، جـ7/ 219.
(4) المسند 1/435، وانظر المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير جـ2/239، وقال عنه الحاكم:" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، المرجع السابق جـ2/239.
(5) انظر:مرقاة المفاتيح جـ1/411.(28/47)
فعلى المعلم أن يقتدي بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويسعى إلى استخدام الرسوم التوضيحية التي تشرح الفكرة أو تفسرها، وتُعنى بالترتيب وبالعلاقات بين الشكل وأجزائه وتوضح قيمة كلٍّ منهما بالنسبة للآخر(1).
ثالثاً: استخدام الأدوات المادية:
الأدوات المادية الملموسة لها أثر بالغ في تثبيت المعاني في الأذهان، لذا فهي من وسائل الإيضاح المهمة في التعليم، ومما يدل على أهميتها استخدام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غرز بين يديه غرزاً(2) ثم غرز إلى جنبه آخر، ثم غرز الثالث، فأبعده، ثم قال:(( هل تدرون ما هذا؟ )) قالوا:" الله ورسوله أعلم "، قال:(( هذا الإنسان وهذا أجله، وهذا أمله، يتعاطى الأمل(3) يختلجه(4) دون ذلك))(5).
__________
(1) الوسائل التعليمية، ص 304.
(2) غرز بين يديه غرزاً ) غرز: أي أدخل في الأرض.
(3) يتعاطى الأمل) يباشره ويستعمله، ويشتغل بما يأمله ويريد أن يحصله، انظر مرقاة المفاتيح، جـ9/129.
(4) يختلجه: أي يجتذبه ويقتطعه، انظر: النهاية في غريب الحديث، والأثر مادة "خلج"، جـ2/129.
(5) مسند الإمام أحمد جـ3/18، وقال عنه الحافظ الهيثمي " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير علي ابن علي الرفاعي وهو ثقة )، مجمع الزوائد، جـ10/255.(28/48)
وقد أشار علماء التربية إلى استخدام الأدوات المادية على أنها خبرات يتم فيها التفاعل بين الظروف الخارجية في البيئة التي يستطيع أن يستجيب إليها، سواءً كانت بيئة طبيعية أو فكرية أو نفسية أو اجتماعية. وقد قسم التربويون الخبرات التي يمكن للفرد اكتسابها من خلال استخدام الأدوات المادية إلى قسمين: خبرات مباشرة تعتمد على تفاعل المتعلم المباشر مع الشيء المراد تعليمه، كما يحدث في واقع الحياة، وخبرات غير مباشرة وهي ليست الحقيقة ذاتها، ولكنها صورة منقحة عنها(1).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استخدم أدوات محسوسة لتفهيم كلامه للسامعين وتقريبه إلى أفهامهم فها هو يستخدم أعواداً، لتعليمهم أن الأجل أقرب إلى الإنسان من أمله، حيث غرز العود الذي كان يمثل الأجل أقرب إلى العود الذي يمثل الإنسان من العود الذي يمثل أمله.
والمعلم الناجح ينبغي له استخدام الأدوات المادية المحسوسة عند تعليمه لتقريب المعاني إلى أذهان الطلاب وتفهيمهم ما يريد توصيله إليهم.
رابعاً: التعليم بالفعل والمشاهدة:
__________
(1) دراسات في المناهج والأساليب العامة، ص115-117.(28/49)
الأداء العملي النموذجي أمام المتعلمين أوقع في النفس وأثبت من القول(1)؛ لأنه يثبت في الذهن بصور أوسع، لذا اهتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الوسيلة لما لها من أهمية في التعليم، وبخاصة في تعليم أصحابه الأمور العملية. ومن ذلك ما رواه عبدالله بن عمرو أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء، فغسل كفيه ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل ذراعيه ثلاثاً، ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال:" هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم - أو ظلم وأساء "(2).
فعلى المعلم أن يقرن القول بالفعل؛ لأنه أبلغ في إيصال رسالته إلى المتعلمين،فإذا امتزج القول بالتطبيق ساعد على ترسيخ المفاهيم في أذهان المتعلمين مما يساعد على سهولة تطبيقهم لما تعلموه . ومما يؤيد ذلك ما ذكره العلامة ابن أبي جمرة الأندلسي بقوله: "الاستدلال بالأعمال أولى من الاستدلال بالمقال، لأن المقال قد يحتمل التجوز في الكلام وغيره والفعل ليس كذلك "(3).
__________
(1) انظر: عمدة القاري جـ4/112.
(2) صحيح سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً رقمه (135)، جـ1، ص28.
(3) بهجة النفوس جـ1/134.(28/50)
وبهذا يتضح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استخدم العديد من الوسائل التي تساعدنا على زيادة الفهم أو تؤكد المعاني، وتجسِّد المعلومات المجردة. وهذا هو بالفعل ما تقدمه الوسائل التعليمية الحديثة في عصرنا الحاضر، حيث إنها ومن خلال الاستخدام الجيد لها تساعد على استثارة اهتمام الطلاب، وإشباع حاجتهم للتعلم، كما أنها تساعد على زيادة خبرة المتعلمين وتجعلهم أكثر استعداداً للتعلم وإقبالاً عليه، هذا خلاف تنويع الخبرات والمساعدة في تكوين المفاهيم السليمة وبنائها، وتنويع أساليب التعزيز، مما يؤدي إلى تثبيت الاستجابات الصحيحة، وتأكيد التعلم، كما أن استخدام الوسائل التعليمية يؤدي إلى تعديل السلوك وتكوين الاتجاهات الحديثة(1).
ولابد من تأكيد أن المعلمين أثناء استخدامهم للوسائل التعليمية التي تعتمد على التقنية الحديثة أو غيرها يجب أن يراعوا في ذلك أن تكون منضبطة بأحكام الشرع، فلا يُستخدم إلا المشروع منها وليبتعد عما سواها.
الخاتمة
إن من الأمور المهمة في هذا العصر السعي إلى ربط الناشئة منذ البداية بالسيرة النبوية العطرة؛ ليتم تلقي المعرفة من خلالها موضوعاً وأسلوباً، وذلك لما يجده الدارس لهذه السيرة من علم ومعرفة تنسجم مع حاجاته ومتطلباته في الدنيا والآخرة، بل إنه ليجد التطبيق الحي لهذا العلم.
__________
(1) انظر: وسائل الاتصال والتكنولوجيا في التعليم، ص44-48.(28/51)
وإن مما يعانيه المجتمع اليوم الانفصام البين بين العلم والتطبيق، فكثير من الناس لا ينقصهم المعرفة، ولكن ينقصهم جانب كبير من تطبيق لتلك المعرفة، وتحويلها إلى سلوك عملي مؤثر، ولذلك فإن من المهم اليوم أن يتجه الأساتذة والمربون، وهم قادة المجتمع ومربُّو أجياله، وقدوة ناشئته، إلى السيرة النبوية للارتباط بها، والسعي على تلقي تلك الدروس النبوية، ومعايشتها موضوعا وأسلوبا ومنهجا، والتي كان النبي يعلمها أصحابه، ثم يتلقاها أصحابه رضي الله عنهم، سلوكاً عملياً في حياتهم.
وهذا هو المطلوب بالدرجة الأولى من المعلّم، أن يكون متمكنا من دفع الطالب للعمل بما علم، وأن تترجم تلك المعرفة التي يتلقاها الطلاب إلى سلوك في حياتهم في المنزل وفي المدرسة وفي الطريق ومع الجميع.
ثم يستشعر أن التعليم من الأمور المطلوبة من الجميع، فهو حق متاح، بل واجب على الرجل والمرأة، فكل منهما كان يسعى ويتعلم من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت تلك سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - العملية، فقد خصص الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوما للنساء يتعلمن منه العلم الشرعي، لكونهن يطلبن ما يطلبه الرجال من الخير، ولما لهن من النصيب الأوفر في الرسالة التربوية المهمة، سواء في تربية أولادهن في المنازل أو التعليم في المدارس، فالأم هي المربية الأولى لجيل المستقبل، ومن حقها أن تنال من التعليم ما يعينها على تحقيق هذه الرسالة العظيمة المسندة إليها، وأن تكون مشاركة فعالة في تعليم بنات جنسها مختلف أنواع المعرفة المطلوبة في هذه الحياة.
كما كان من ضمن اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعليم الصغار، وهذا إشارة عملية منه - صلى الله عليه وسلم - لما لهذا التعليم من مكانة في سلم التربية والتعليم، سواء في المنزل أو في المدرسة.(28/52)
فالأب لا يمكن أن تنحصر رسالته في تأمين مأكل أو مشرب أو كساء، ثم يغفل عن توجيه عقل هذا الناشئ، لقد كانت توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - القولية والعملية تتضافر نحو تأكيد الاهتمام بهذا الواجب، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشارك بنفسه في رعاية الصغار وتوجيههم نحو الصواب عندما يبدر من أحدهم خطأ كما مر معنا. وهو بهذا يعطينا الأسوة والقدوة للاهتمام والمتابعة والتعليم والتوجيه لهؤلاء الصغار، آباء كانوا أومعلمين، فالجميع يشتركون في حمل هذه الرسالة التعليمية المهمة.
ثم يأتي بعد ذلك الارتباط بالسيرة لمعرفة الموضوعات التي كان يوليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - العناية ويديم التركيز عليها، ليقوم معلم اليوم بالتركيز عليها، تأسيا واقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ويوجه طلابه نحوها.
كما يهتم بالأساليب والوسائل التي كان يستخدمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - متناسبة مع عصره، ليأتي معلم اليوم ويدرك أهمية الوسيلة التعليمية في التعليم، ومن ثم يستخدم الوسائل والأساليب المتاحة له اليوم لما لها من دور فعال في إيصال المعلومة إلى الطلاب.
كل هذا تأكد لنا من خلال نتائج هذه الدراسة المختصرة لجزئية من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتعلقة بالتعليم، إذ برز اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم أصحابه وتوجيههم، مما يشير إلى ما للتعليم عنده من عناية فائقة، واتبع في ذلك أرقى الأساليب التعليمية وأنجع الوسائل التي توصل إلى بعضها أخيراً النظريات التربوية الحديثة.
وكان من نتائج هذه الدراسة بروز القيمة العلمية المهمة للجوانب التعليمية التي وردت في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والتي لابد من تنبيه المعلمين على قيمتها العظيمة للاستنارة بها في سيرتهم التعليمية.(28/53)
ولهذا يمكن توظيف نتائج هذه الدراسة فيما يحقق خدمة المعلمين في العصر الحاضر من خلال توجيه المعلمين للاستعانة بطريقة وأسلوب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعليمه الأصحاب، والمزج بينهما وبين النظريات التربوية الحديثة، وإبراز السيرة النبوية الشريفة في مختلف المواقف وتعميق ذلك في نفوس الطلاب، وكذلك دراسة تلك المواقف واستخلاص الفوائد المهمة المتصلة بالمعلم والربط بينها وبين مقدرته في إيصال المادة العلمية لتحقيق نجاح العملية التربوية. هذا خلاف ضرورة لفت انتباه الدارسين والممارسين من رجال التربية والتعليم إلى ما تحفل به السيرة النبوية الشريفة من لفتات تربوية عظيمة ينبغي أن تكون حاضرة في ذاكرة المعلم.
وأخيراً لابد من توجيه نداء إلى القائمين على أمر التربية والتعليم بالاهتمام بإبراز الجوانب المختلفة في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما تفرَّق في البشر من صفات الكمال تجمع في شخصه - صلى الله عليه وسلم - ، وأخص من تلك الجوانب تلطفه - صلى الله عليه وسلم - في تعليم أصحابه وحرصه على ذلك أشد الحرص. فالتركيز على كل هذه الجوانب المشرقة من شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما ما يتعلق منها بالوسائل والأساليب التربوية، وإبرازها من قبل المسؤولين عن المناهج في المؤسسات التربوية؛ لتكون نبراساً يستنير به المعلمون في أداء رسالتهم التعليمية، سيكون له - بإذن الله - أثر إيجابي في العملية التعليمية، وسيكون أدعى للقبول لدى المتلقي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء و المرسلين.
فهرس المراجع
1-آداب المتعلمين للدكتور أحمد بن عبدالله الباتلي، الطبعة الأولى، 1418هـ، دار القاسم للنشر .
2-الاحتساب على الأطفال الأستاذ الدكتور فضل إلهي، الطبعة الأولى 1419هـ-1998م، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض.(28/54)
3-إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، سنة الطبع 1403 هـ، ط دار المعرفة بيروت.
4-الأخلاق في الشريعة الإسلامية أحمد عليان، الطبعة الأولى 1420هـ -2000م. دار النشر الدولي - الرياض.
5-أساليب وطرق تدريس مواد التربية الإسلامية للدكتور عبدالرحمن ابن مبارك الفرج. الطبعة الأولى 1412هـ، مطبعة سفير - الرياض.
6-أفكار تربوية للدكتور إبراهيم عباس ننو - الطبعة الأولى ( 1400هـ-1981م)، تهامة للنشر بجدة .
7-أيام رمضان ( ثلاثون كلمة في الصيام ) للدكتور صالح بن عبدالكريم الزيد، الطبعة الأولى 1416هـ -1995م، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الرياض.
8-إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم للحافظ أبي الفرج زين الدين عبدالرحمن بن أحمد السلامي، بقلم أبي أسامة سليم بن عيد الهلالي. الطبعة الرابعة 1419هـ - 1998م، دار الجوزي للنشر والتوزيع.
9-بديع القرآن لابن أبي الإصبع المصري، الطبعة الثانية، ط دار النهضة - مصر، بتحقيق د. حفني شرف.
10-بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها، شرح مختصر صحيح البخاري المسمى ( جمع النهاية في بدء الخير والغاية ) للحافظ أبي محمد عبدالله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، الطبعة الثالثة، 1979م، دار الجيل - بيروت - لبنان.
11-تاريخ التشريع الإسلامي ( التشريع والفقه ) للشيخ مناع القطان، الطبعة العاشرة 1413هـ -1992م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
12-التربية العملية وأُسس طرق التدريس، دكتور إبراهيم عصمت مطاوع، وللدكتور واصف عزيز واصف.دار النهضة العربية، ودار النهضة العربية للطباعة والنشر - بيروت.
13-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، 1410هـ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، حققه محمد زهير النجار.
14-جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب للشيخ جمال الدين القاسمي، ط: مؤسسة قرطبة: مدينة الأندلس، الهرم.(28/55)
15-حاشية السندي على سنن النسائي للشيخ أبي الحسن السندي، الطبعة الأولى 1348هـ ط: دار الفكر بيروت.
16-دراسات في المناهج والأساليب العامة للدكتور صالح ذياب هندي والأستاذ هشام عامر عليان، الطبعة السابعة 1419هـ-1999م، دار الفكر للطباعة والنشر.
17-رسالة الخليج العربي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، العدد السابع والأربعون، 1414هـ-1993م .
18-الرسول والعلم ، للدكتور يوسف القرضاوي، الطبعة السادسة، 1415هـ- 1995م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت.
19-زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية، الطبعة الأولى 1399هـ مؤسسة دار الرسالة.
20-سجود السهو لفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين - مرامر للطباعة الإلكترونية.
21-شرح الكرماني على صحيح البخاري ( المسمى الكواكب الدراري ) ، الطبعة الثانية، 1401هـ-1981م، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
22-شعب الإيمان للبيهقي، الطبعة الأولى 1410هـ، بومباي، الدار السلفية، بتحقيق وتخريج مختار أحمد الندوي .
23-صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري،، دون طبعة، 1414هـ، 1994م، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، حقق أصولها وأجازها الشيخ عبدالله بن باز .
24-صحيح سنن أبي داود باختصار السند، صحح أحاديثه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، إشراف الأستاذ زهير الشاويش، الطبعة الأولى 1409هـ - مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض.
25-صحيح سنن ابن ماجه، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض.
26-صحيح سنن النسائي باختصار السند، صحح أحاديثه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، إشراف الأستاذ زهير الشاويش، الطبعة الأولى 1409هـ، مكتب التربية العربي لدول الخليج - الرياض.(28/56)
27-صحيح مسلم، للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، بدون طبعة 1400هـ، نشر وتوزيع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
28-صحيح مسلم بشرح النووي، الطبعة الثانية 1414هـ - 1994م، ط مؤسسة قرطبة.
29-طرائق النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم أصحابه رضوان الله عليهم للدكتور أحمد محمد العليمي، ط: دار ابن حزم.
30-عمدة القاري للعلامة العيني، ط دار الفكر - بيروت.
31-غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي، مكتبة الرياض الحديثة: الرياض.
32-فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. قرأ أصله تصحيحاً وتحقيقاً الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز. رقَّم كتبه وأبوابه الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي، قام بإخراجه الشيخ محب الدين الخطيب، 1380هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة.
33-الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني مع شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، كلاهما للشيخ أحمد عبدالرحمن البنا، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
34-فن تعامل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مع الناشئة، إعداد عبدالعزيز بن أحمد يحيى آل صايل ، الطبعة الأولى 1421هـ -2000م ، دار الوطن للنشر - الرياض.
35-فيض القدير شرح الجامع الصغير لمحمد بن عبدالرؤوف المناوي، الطبعة الثانية 1391هـ دار المعرفة.
36-كتاب العلم، لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، الطبعة الأولى 1420هـ/1999م، دار الثريا للنشر والتوزيع - الرياض.
37-مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان، الطبعة الثلاثون، 1417هـ-1996م، مؤسسة الرسالة - بيروت .
38-مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر العيثمي بتحرير الحافظين الجليلين العراقي وابن حجر، دون طبعة 1406هـ/1986م، مكتبة المعارف - بيروت - لبنان.(28/57)
39-المدخل إلى الدعوة والإرشاد، لمحمد أبو الفتح البيانوني، الطبعة الثانية، 1414هـ/1993م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
40-مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للعلامة الملا على القاري، بدون طبعة وسنة طبع، الناشر: المكتبة التجارية مكة المكرمة،، بتحقيق الأستاذ صدقي محمد جميل العطار.
41-المستدرك على الصحيحين للإمام أبي عبدالله الحاكم النيسابوري وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان.
42-مسند الإمام أحمد وفي حاشيته منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، دون طبعة ولا سنة، طبع دار صادر - بيروت.
43-المصنف للإمام عبدالرازق الصنعاني، الطبعة الأولى 1392هـ ط: المجلس العلمي جنوب إفريقيا، بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي.
44-المغني للإمام ابن قدامة، الطبعة الأولى 1406هـ، ط:هجر للطباعة والنشر، القاهرة، بتحقيق د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، ود. عبدالفتاح محمد الحلو.
45-من صفات الداعية اللين والرفق للدكتور فضل إلهي، الطبعة الأولى 1411هـ، إدارة ترجمان الإسلام باكستان.
46-من صفات الداعية مراعاة أحوال المخاطبين في ضوء الكتاب والسنة وسير الصالحين للدكتور فضل إلهي، الطبعة الأولى 1417هـ- 1996م، إدارة ترجمان الإسلام باكستان.
47-موسوعة نضرة النعيم إعداد مجموعة من المتخصصين، بإشراف صالح بن عبدالله بن حميد و عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن ملُوح، الطبعة الأولى 1418هـ/1998م، دار الوسيلة للنشر والتوزيع - جدة.
48-الوابل الصيب من الكلم الطيب لشمس الدين أبي عبدالله محمد بن قيم الجوزية، 1393هـ -1973م، مكتبة المؤيد - الطائف.
49-وسائل الاتصال والتكنولوجيا في التعليم، للدكتور حسني حمدي الطوبجي، الطبعة الثامنة - 1987م، دار القلم الكويت.
50-الوسائل التعليمية للأستاذ الدكتور إبراهيم عصمت مطاوع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1990م.
فهرس المحتويات
المقدمة…1(28/58)
المسألة الأولى : اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتعليم .…3
أولاً: الاهتمام بتعليم الرجال .…5
ثانياً: الاهتمام بتعليم النساء.…10
ثالثاً: اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بتعليم الصغار.…13
المسألة الثانية: موضوعات التعليم في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -…17
أولاً: العقيدة:…17
ثانياً : الشريعة :…20
ثالثاً: الأخلاق:…29
المسألة الثالثة: أساليب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم…35
أولاً: أسلوب الحوار والمناقشة.…36
ثانياً: أسلوب القصة.…38
ثالثاً: أسلوب ضرب الأمثال.…39
رابعاً: أسلوب التشجيع.…40
خامساً: أسلوب مراعاة الفروق الفردية.…41
المسألة الرابعة: وسائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم .…42
أولاً: الإشارة:…43
ثانياً: رسم الخطوط:…44
ثالثاً: استخدام الأدوات المادية:…46
رابعاً: التعليم بالفعل والمشاهدة:…47
الخاتمة…49
فهرس المراجع…53
فهرس المحتويات…59(28/59)
أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها
في حياة المسلمين
إعداد الدكتور
محمد بن محمد العواجي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
وفيها:
1- أهمية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأهمية الكتابة في هذا الموضوع، وسبب اختياره.
2- خطة البحث.
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الذي قال الله عنه:?? ? ( ( ( [الأحزاب: 43] وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً.
وبعد: فإن نعم الله على عباده كثيرة جداً، وإن من أجلّ تلك النعم وأعظمها نعمة الإسلام، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ومما لا ريب فيه أن الدين الإسلامي له شرائع ونظم، منها ما يتعلق بالعبادة ومنها ما يتعلق بالأخلاق والمعاملات والسياسة وغيرها، وهذه كلها مجموعة أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقواله وتقريراته، ولا تُعْرَفُ تلك الشرائع إلا باتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال جل شأنه:( ? ( ( ( ( ( ( (( ( (( ( ( ( ( ([الحشر، آية 7].
وقال سبحانه وتعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأحزاب، آية: 21]. بل وحَذَّر الله من مخالفته، فقال عز من قائل:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النور، آية: 63].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ))(2).
ومما لا شك فيه أيضاً أن سيرته عليه الصلاة والسلام قد اشتملت على أقواله وأفعاله وتقريراته، فهي إذاً التجسيد الحيّ لتعاليم الإسلام، بل هي الصورة المشرقة لسلوكيات النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم (1718) وغيره.
(2) أخرجه البخاري رقم (2697) ومسلم رقم (1718).(29/1)
لذلك كانت الكتابة في هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والسبب في ذلك ما ذكرت من حاجة الناس في هذا الزمن على وجه التحديد من عمر الرسالة المحمدية، والعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، ففي سيرته امتزجت أقواله بأفعاله، وظهر هديه صلى الله عليه وسلم في دعوته ومراحلها، وسياسته في حروبه وتعامله مع الآخرين، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا، لا تعرف إلا من خلال دراسة السيرة النبوية دراسة واعية متأنية، فهي نبراس لكل من أراد النور في الدنيا والآخرة.
من هنا حاولت أن أجمع هذا العنوان الواسع "أهمية دراسة السيرة النبوية والعناية بها في حياة المسلمين".
وأجعله في مقدمة وتمهيد وخمسة مباحث ثم الخاتمة، فالفهارس.
1- المقدمة وفيها: أهمية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأهمية الكتابة في هذا الموضوع وسبب اختياره.
2- وأما التمهيد ففيه:
ـ تعريف السيرة لغة واصطلاحاً.
ـ مدلول كلمة "السيرة النبوية".
ـ خصوصية السيرة النبوية.
وأما المباحث الخمسة فهي:
المبحث الأول: أهمية دراسة السيرة النبوية، من الناحية الدينية [المنهج الدعوي].
المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية.
المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية.
المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية.
المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية.
ثم الخاتمة، وقد اشتملت على ذكر أهم ما جاء في البحث.
فالفهارس العامة.
وأخيراً أشكر الله سبحانه وتعالى أن وفقني للكتابة في هذا البحث وإتمامه، وهذا جهد المقل، ثم أشكر ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة على ما بذلوه، ويبذلونه من جهود لإقامة شرع الله سبحانه وتعالى، نسأل الله لهم الثبات على الحق.(29/2)
والشكر موصول للقائمين على هذا الصرح العظيم "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة" لحسن اختيارهم هذه الموضوعات، وفي هذا الوقت، إذ تعصف بالأمة الإسلامية رياح التغيير بصفة عامة وما تتعرض له هذه البلاد بصفة خاصة.
نسأل الله أن يردّ المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً وأن يؤلف بين قلوبهم ويصلح ذات بينهم إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التمهيد
وفيه:
1ـ تعريف السيرة لغة واصطلاحاً.
2ـ مدلول كلمة السيرة النبوية.
3ـ خصوصية السيرة النبوية.
التمهيد
1- تعريف السيرة لغة واصطلاحاً
فالسيرة لغة: السُّنَّة، وقد سارت وسِرْ تُها، قال الشاعر:
فلا تَجْزَعَن من سُنَّة أنت سرْتهَا سرت سرْتَها سِرْتَها ... فأول راضٍ سنّةً مَنْ يسيرُها(1)
والسيرة: الطريقة، يُقال: سار بهم سيرة حسنةً.
والسيرة: الهيئة، وفي التنزيل:( ? ( ( ( [طه:21].
والسيرة: الضرب من السَّيْر(2).
ويلاحظ أنّ من معاني السيرة لغة: السُّنَّة.
والسيرة النبوية اصطلاحاً: هي الترجمة المأثورة لحياة النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
أو هي: ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقية أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أو بعدها(4).
وهذا التعريف ذكره المحدِّثون للسنة، وهو تعريف للسيرة أيضاً؛ لأنّ من معاني السيرة في اللغة: السُّنّة، ولأنّ التعريف اشتمل على ذكر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها قبل البعثة أي: من ولادته وبعدها حتى وفاته.
2- مدلول كلمة: السيرة النبوية
__________
(1) البيت: لخالد بن زهير، ابن أخت أبي ذؤيب، انظر: لسان العرب، مادة: سير.
(2) لسان العرب، مادة: سير، والقاموس المحيط، مادة: سير.
(3) دائرة المعارف الإسلامية (2/152).
(4) قواعد التحديث، للقاسمي ص (35-38).(29/3)
إذا قيل السيرة النبوية، فإنما يراد بها سيرة نبي الله ورسوله محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -، والتي تشتمل على ذكر أدق التفاصيل عن حياة سيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة المكية والمدنية، وعلى هذا درج المؤلفون عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسمية مؤلفاتهم بالسيرة النبوية، كالسيرة النبوية لابن إسحاق، وتهذيب ابن هشام(1)، والسيرة النبوية لابن حزم (ت: 456ه)، والسيرة النبوية لعبد الغني المقدسي (ت: 600ه)، والسيرة النبوية لابن عساكر، المطبوعة ضمن تاريخه الشهير بتاريخ ابن عساكر (ت:571ه) وغيرها(2).
والملاحظ أنّ هذه المصنفات الموسومة بالسيرة النبوية، جميعها تتحدث عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة المكية والمرحلة المدنية، إلا أن بعضها أكثر تفصيلاً عن حياته عليه الصلاة والسلام من بعض(3).
3ـ خصوصية السيرة النبوية
تمتاز السيرة النبوية بخصائص عدة لا يمكن حصرها منها:
__________
(1) وفيات الأعيان، لابن خلكان (3/177).
(2) هناك مؤلفات أخرى كثيرة تحمل عناوين أخرى، مثل: تسمية البعض لسيرة ابن إسحاق بالمغازي والسير، انظر: فهرسة ابن خير الإشبيلي ص (232)، ومغازي عروة بن الزبير (ت: 94ه)، ومغازي موسى بن عقبة (ت: 141ه) وهي تتحدث عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة المكية والمدنية، انظر: مرويات عروة بن الزبير ص (46-47)، لعادل عبد الغفور، ومغازي موسى بن عقبة ص (19) جمع ودراسة وتخريج محمد باقشيش.
(3) كالسيرة النبوية لابن إسحاق، تهذيب ابن هشام، والسيرة النبوية لابن عساكر.(29/4)
1- كونها ربانية المصدر، بمعنى أنّ صاحبها وهو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مرسل من ربه إلى الناس كافة ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ويتلقى تعاليمه من الله سبحانه وتعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النجم:3، 4]، ولا يقول شيئاً من ذات نفسه فيما يتعلق بأوامر النبوة والرسالة أبداً، ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحاقة:44-46].
وهذه الخصوصية وإن كان يشاركه الأنبياء في بعضها إلا أن نبينا انفرد بكونه - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً إلى الناس كافة، فأوامره ونواهيه ملزمة ومقررة للناس جميعاً.
2- ثبوتها وصحة ما جاء فيها: فقد أورد القرآن الكريم صوراً من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإجمال، حيث أشار إلى الحالة التي نشأ عليها - صلى الله عليه وسلم - في أول حياته: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([ الضحى:6-8]، ثم نزول الوحي عليه:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([ العلق:1-5].
وبداية دعوته:( ? ( ( ( [ الشعراء:214]، ثم بعض أخلاقه وشمائله:( ( ( ( ( ( [ القلم:4]،?? ? ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([ آل عمران:159]، ثم في جهاده وغزواته، ففي بدر: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأنفال:5].
وفي أحد:( ? ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ([آل عمران:121].
وفي الخندق:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([ الأحزاب:10-11].
وفي حنين:( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([ التوبة: 25].
فالقرآن الكريم مليء بمثل هذه الإشارات المقتضبة، وعلى هذا فالقرآن الكريم يعدُّ المصدر الأول لسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكفاك به صدقاً وعدلاً ( ? ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [فصلت:42].
كما أنّ كتب السنة قد نقلت لنا معظم سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبأصح ما جاء فيها، حيث أورد البخاري ومسلم في صحيحيهما جملة كبيرة من السيرة النبوية، وكذا بقية كتب السنة.(29/5)
3- شمولها وكمالها: فلا تكاد تجد سيرة لنبي من أنبياء الله السابقين وصفت وصفاً دقيقاً ابتداء من ولادته حتى وفاته وبقيت بعده، فضلاً عن غيرهم من البشر، لكن سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم شملت جميع مراحل حياته، بل وقبل ولادته حتى وفاته عليه الصلاة والسلام، بل وفي بعض أحداثها ذكر اليوم والشهر والسنة، وشاملة لجميع مناحي الحياة الإنسانية، فتجد فيها الوسطية، والعدل والمساواة والحرية، والرفق بالإنسان والحيوان وغيرها.
4- وسطيتها ويسرها: فدين الإسلام عموماً جاء بالوسطية ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([البقرة: 143].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا))(1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثتم مُيَسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين))(2).
وقال لمعاذ عندما بلغه إطالة صلاته بالناس: ((يا معاذ أفتّان أنت، أو أفاتن أنت؟ ثلاث مرات، فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى))(3).
فأمّة الإسلام أمة وسطية معتدلة، قال أبو جعفر الطبري: ((فلا هم أهل غُلُوٍّ فيه، غُلُوَّ النصارى الذين غَلَوا بالترهب، وقِيلِهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين أبدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل وسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها))(4).
إلى غير ذلك من خصائص السيرة النبوية.
المبحث الأول: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الدينية( المنهج الدعوي )
والحديث في هذا المبحث يقتصر على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: في المراحل الدعوية
الأمر الثاني: التركيز على الجانب العقدي.
__________
(1) البخاري، رقم (69) عن أنس، ومسلم، رقم (1732) عن أبي موسى بلفظ (( بشرو ولا تنفروا …)).
(2) البخاري، رقم (220) .
(3) البخاري رقم (705)، ومسلم، رقم (465).
(4) تفسير الطبري (3/142)، تحقيق، أحمد شاكر.(29/6)
الأمر الثالث: أن السيرة النبوية مصدر معين لمن يريد التبحر في علوم الشريعة.
الأمر الأول: في المراحل الدعوية
تعدُّ السيرة النبوية لب الإسلام وروحه، وتجسيداً حيًّا لجميع تعاليم الإسلام، فلا يستغني عن النظر فيها أي عالم أو طالب علم، فهي دوحة عظيمة فيها كل الثمار اليانعة، كلُّ يقطف منها ما يناسبه، وكيف لا تكون كذلك وهي ربانية المصدر ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النساء:170].
فلو أمعن الإنسان النظر في السيرة النبوية لوجدها من الناحية الدينية كاملة المنهج، وأقصد بذلك المنهج الدعوي الذي سار عليه - صلى الله عليه وسلم - في مكة، فقد وضع - صلى الله عليه وسلم - أسساً لهذا المنهج يتمثل فيما يلي:
1-دعوة الأقارب من زوجة وأبناء، ومن وضعهم الله تحت يده بادئ ذي بدء؛ ولذلك نجد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل عليه الوحي وأمر بتبليغه في قوله تعالى:( ( ( ( ( ( ( [المدثر: 1، 2].
بدأ بأهل بيته، فأسلمت خديجة رضوان الله عليها، بل كانت أول النساء إسلاماً على الإطلاق.
ثم أسلم من الصبيان عليّ رضي الله عنه، ثم من الموالي زيد بن حارثة رضي الله عنه.
وهذا هو المنهج السليم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول:( ? ( ( ( ( ( [البقرة:44]، وقوله سبحانه ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الصف:3]، وقوله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( (: [التحريم:6].
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))(1).
فإذا أصلح الإنسان من نفسه وأهل بيته انتقل إلى المرحلة التالية وهي:
2- إنذار العشيرة، كما قال جل شأنه لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: ( ( ( ( ([الشعراء: 214].
فنهض النبي - صلى الله عليه وسلم - وصعد - صلى الله عليه وسلم - على الصفا منادياً: ((يا بني فهر، يا بني عدي …)) الحديث(2).
__________
(1) صحيح البخاري، رقم (893)، ومسلم رقم (1829).
(2) البخاري، رقم (4770)، ومسلم ، رقم (508).(29/7)
فهذا التدرج في مراحل الدعوة منطقي جدّاً يجب الوقوف عنده، وقد استمر - صلى الله عليه وسلم - في دعوته لقريش ولم يخرج منها إلى أي بلد حتى أكمل عشر سنين، مواصلاً دعوته لهذا الدين القوي دون كَلَل أو ملل. بعد ذلك انتقل إلى قبيلة أخرى تعد من أقرب القبائل العربية لقريش نسباً وصهراً(1) وجواراً، إنها قبيلة ثقيف في الطائف التي ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعوتهم أروع الأمثلة لبذل الجهد وتحمّل الأذى كما سيأتي.
3- بذل الجهد وتحمل الأذى والصبر عليه.
انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ثقيف بالطائف بعد أن مكث في أهل مكة عشر سنين يدعوهم إلى الله عز وجل إلا أن دعوته عليه الصلاة والسلام قوبلت برفض شديد من أهل الطائف، فأصابه - صلى الله عليه وسلم - من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله جراء رفضهم لدعوته - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أما نسباً، فإن كلاًّ من هوازن وقريش يلتقون في مضر، إذ إن هوازن الجد الأعلى لثقيف هو: هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
وأما قريش: فهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
انظر: جوامع السيرة لابن حزم ص (4)، واللباب لابن الأثير (3/112).
وأما صهراً، فقد تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية إحدى قبائل ثقيف، وكان العباس قد تزوج أختها لبابة الكبرى، وكذا الوليد بن المغيرة فقد تزوج أختها لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وغيرهم . انظر: طبقات خليفة بن خياط ص (4، 10، 20) ، وجمهرة أنساب العرب ص (273،270).(29/8)
4- لما استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة وبعد أن فرض الجهاد بدأ عليه الصلاة والسلام يرسل السرايا والبعوث إلى القبائل العربية لنشر الإسلام تارة، ويخرج هوبنفسه الشريفة - صلى الله عليه وسلم - تارة أخرى، فلم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى عمَّ الإسلام الجزيرة العربية كافة، بل وكان قد جهز جيشاً لغزو أطراف الشام قبيل وفاته عليه الصلاة والسلام بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه تمهيداً لفتح الشام والعراق، لكنه توفي - صلى الله عليه وسلم - قبل إنفاذ هذا الجيش.
5- ثم جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأكمل المسيرة، وأنفذ جيش أسامة الذي عقد لواءه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته، وذلك على الرغم من معارضة بعض الصحابة عندما أشاروا على أبي بكر بأن يمسك بعث أسامة؛ خشية أن تميل العرب بعد سماعهم بوفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة، فقال قولته الشهيرة: (( أنا أحبس جيشاً بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟لقد اجترأتُ على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل عليّ العرب أحب إليّ أن أحبس جيشاً بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …))(1) ثم أمضاه.
وما ذلك إلا لأن الإسلام دين عالمي ولا بد أن يَعُمَّ نفعه أرجاء المعمورة، قال جل شأنه: ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأعراف:158] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله عز وجل زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها …))(2).
__________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي، قسم الخلافة الراشدة ص (20)، وانظر إنفاذ أبي بكر لجيش أسامة: تاريخ الطبري (3/226) وما بعدها، والمنتظم لابن الجوزي (4/73) وما بعدها، والبداية والنهاية لابن كثير (6/304) وما بعدها.
(2) مسند أحمد (28/339-340)، رقم (17115)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرين.(29/9)
ولأنّه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، قال جل شأنه:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأحزاب:40].
ولأنّ دينه ناسخ لجميع الأديان السماوية السابقة ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [آل عمران:85].
وهكذا وضعت السيرة النبوية منهجاً متكاملاً للمراحل الدعوية التي مرّ بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وانطلقت الجحافل الإسلامية تنشر الدين في ربوع المعمورة حتى بلغ أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً، مما يؤكد عالمية هذا الدين الحنيف.
وهكذا وضع - صلى الله عليه وسلم - منهجاً متكاملاً لمراحل الدعوة الإسلامية، فلم يُقَدِّم مرحلة على أخرى، وليس هذا من قبيل المصادفة، بل كان عملاً مقصوداً.
فالعاملون في المجال الدعوي لا يسعهم إلا الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجال.
الأمر الثاني: التركيز على الجانب العقدي
ظلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد الخالص. وهذا أمر معلوم، لكن ليس معنى هذا أنه لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد فقط، بل كان يدعو إلى صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، والنهي عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة(1)، إلاّ أن تركيزه - صلى الله عليه وسلم - على الجانب العقدي كان أكثر. والحق أن التركيز على الجانب العقدي في غاية الأهمية؛ لأنّ الإيمان إذا وقر في القلب انتفت جميع الشوائب المؤدية إلى زعزعة الإيمان، وقد آتت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - المكية وتركيزه على الجانب العقدي ثمارها يلحظ من قرأ تاريخ حروب الردة التي أعقبت وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم نجد أحداً ارتد من المهاجرين والأنصار أبداً، وما ذلك إلا لرسوخ الإيمان في قلوبهم رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
(1) انظر: مسند أحمد (3/266،263)، رقم (1740) من حديث أم سلمة، وهو حديث حسن، فقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث.(29/10)
وعلى هذا فالواجب على الدعاة اليوم غرس العقيدة الصحيحة في النفوس أولاً مع الاهتمام أيضاً بالجوانب الأخرى التي مرّ ذكرها آنفاً.
وعندما يركز الداعية اهتمامه على الجانب العقدي، فلا بد أن يدرك معنى قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب))(1).
والحقّ أنّ تلك المضغة إذا وقر الإيمان فيها، منعت صاحبها من الوقوع في الفواحش بأنواعها.
الأمر الثالث: أنّ السيرة النبوية مصدر مَعِين لمن يريد التبحر في علوم الشريعة
فعن طريق السيرة تعرف قضية الناسخ والمنسوخ من الآيات والأحاديث، وهي ناحية مهمة جدّاً يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية(2).
كما أن من معرفة نزول الآيات وأسبابها من الأمور المهمة التي بمعرفتها تعرف أحداث السيرة النبوية كتلك التي نزلت في غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أيضاً هناك بعض الأمور التي لا يستغني عن معرفتها أي طالب علم فضلاً عن العلماء، وذلك مثل المعجزات التي أجراها الله على يدي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - فمعرفتها تزيد - ولا شك - في الإيمان، وكذا معرفة ما كابده - صلى الله عليه وسلم - من مشاق في سبيل تبليغ هذا الدين وصبره على ذلك.
المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في كيفية تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم.
المطلب الثاني: في كيفية تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة وتربيته لهم.
المطلب الثالث: في كيفية تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع بعض المشكلات الاجتماعية.
المطلب الأول: في كيفية تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع خصومه من الكفار وصبره على أذاهم
__________
(1) البخاري، رقم (52)، ومسلم، رقم (4094) .
(2) مصادر السيرة النبوية وتقويمها، ص (62-63) بتصرف.(29/11)
لقد سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقة عجيبة في كيفية دعوة الناس إلى الإسلام، ستظل نبراساً لكل من أراد الاهتداء بهديه سالكاً طريقته عليه الصلاة والسلام، إنّها طريقة الصابرين ( ? ( ( ( (( ( ( ( ( ( ([الروم:60].
إنّ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام مليئة بالمواقف العجيبة التي تَجَلَّى فيها حلمه عليه الصلاة والسلام وصبره على الأذى من أجل المحافظة على العلاقة الاجتماعية.
1- لما نزلت الآية الكريمة( ( ( ( ( [الشعراء:214].
صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرَّجُل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدِّقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ((1)[المسد:1-2].
فانظر إلى موقف أبي لهب العجيب من النبي - صلى الله عليه وسلم - يصدقه أولاً، ثم يكذبه ويسخر منه ومن مقولته، بل إن مجيئه ابتداء وتلبيته لنداء النبي- صلى الله عليه وسلم - يدل على تصديقه، لكنه ما تمالك نفسه حتى نال من النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) البخاري رقم (4770)، ومسلم رقم (204) واللفظ للبخاري.(29/12)
والحق أن الأعجب من ذلك هو موقف النبي- صلى الله عليه وسلم - من أبي لهب، فلم يرد عليه مقولته؛ لأنّه يعلم يقيناً إِنْ ردّ عليه فسينقسم الناس إلى قسمين، قسم مؤيد لأبي لهب مستنكرين رَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم موقع أبي لهب النَّسَبي، فهو عَمُّه، وعمُّ الرجل صنو أبيه(1)، وقد يَعُدُّ بعضهم ذلك الرد تطاولاً من النبي على عمِّه، وقسم مؤيد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا يفسد الهدف الذي من أجله كان الاجتماع، وهو دعوتهم إلى الله، وإقامة الحجة عليهم فآثر السكوت عليه الصلاة والسلام، مفوضاً أمره إلى الله سبحانه وتعالى، فلم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحاشاً ولا صخاباً، فتولى الباري جل وعلا الرد على أبي لهب، فأنزل في شأنه سورة تتلى إلى يوم القيامة ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (الآيات [المسد:1-3].
__________
(1) جزء من حديث، أخرجه مسلم، رقم (983) وغيره.(29/13)
2- قال ابن إسحاق: ((ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده(1)، فلما وصل إليهم ودعاهم إلى الإسلام ردُّوه أقبح رد، وأغلظوا له القول، بل وحرَّشُوا عليه الصبيان والسفهاء، فآذوه ورموه بالحجارة حتى سال الدم من عقبيه الشريفين عليه الصلاة والسلام، فكان موقفاً أليماً، رجل يدعو قومه إلى الله عز وجل، وهم يكذبونه ويتجهمونه، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثته أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على بن عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يُجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ، وأنا مهموم على وجهي(2)، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب(3)
__________
(1) سيرة ابن إسحاق ( ابن هشام ) (1/419).
(2) أي على الجهة المواجهة لي، الفتح (6/315) تحت شرح حديث رقم (3231).
(3) قرن الثعالب، هو ميقات أهل نجد، ويقال له أيضاً قرن المنازل. المصدر السابق.
وهو على طريق الطائف من مكة المار بنخلة اليمانية، يبعد عن مكة ثمانين كيلاً، ومن الطائف ثلاثة وخمسين كيلاً. المعالم الأثيرة في السنة النبوية، لمحمد شراب.(29/14)
، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادى فقال: ((إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: ((يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بل أرجو أن يخرج الله مِن أصلابهم مَن يعبده وحده لا يشرك به شيئاً))(2).
فانظر إلى صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلمه، الدم يسيل من عقبيه الشريفين، ويسأله ملَك الجبال إن كان يريد أن يطبق عليهم الأخشبين يفعل، ومع ذلك يتضرع إلى الله سبحانه، ويدعوه أن يخرج مِنْ أصلابهم مَنْ يعبده وحده، لا يشرك به شيئاً! سبحان الله! ما أعظمها من دروس، أين دعاة اليوم من هذه الدروس العظيمة في الصبر والحلم والعفو والصفح؟
فلو دعا عليهم ووافق الملَك فيما أُمر به لهلكت قريش، ولكن ثم ماذا؟ فإذا هلكت قريش وهي ريحانة العرب فماذا بقي؟
لكن يظهر أيضاً أن القضية أكبر من ذلك، فهي دروس تعليمية للدعاة من أمته عليه الصلاة والسلام، فلو أن كل من أصابه بلاء انتقم لنفسه لم يبق للصبر ثمرة، كيف وقد رتب الله عليه أعظم الأجر، حيث قال جل شأنه:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ([البقرة:155-157].
__________
(1) المراد بالأخشبين: جبلا مكة، أبو قبيس، والذي يقابله وكأنه قُعَيْقِقَان، وسميا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما ، والمراد بإطباقهما : أن يلتقيا على من بمكة . الفتح (6/316)، تحت شرح حديث رقم (3231).
(2) البخاري مع الفتح (16/316) حديث رقم (3231).(29/15)
وما هي إلا سنوات قلائل، وتفتح مكة على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، في السنة الثامنة من الهجرة وتتحقق دعوته - صلى الله عليه وسلم -، ويُسْلم بقية أهل مكة بعد أن عفا عن كل من ناصبه العداء، ثم تأتي ثقيف فتدخل في الإسلام، ويعم الخير العظيم هاتين القبيلتين، وشاء الله أن يقبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويتوفاه بعد فترة وجيزة تقارب السنتين، ويرتد كثير من العرب عن الإسلام، لكن العجب أن قبائل قريش وثقيف لم يرتد منهم أحد، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا))(1). فقد كانت قريش من خيار العرب، وكيف لا يكونون كذلك والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - منهم؟ وهكذا نرى آثار تلك الدعوات الصادقة قد آتت ثمارها، وذلك الحِلْم والعفو والصبر والصفح أثمر غراسه، فصلى الله عليه وسلم.
__________
(1) البخاري، رقم 03353)، ومسلم، رقم (2378).(29/16)
3- خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السابعة من الهجرة لفتح خيبر، وكانت معقل يهود بعد إجلاء بني النضير إليها، فلما وصلها - صلى الله عليه وسلم - حاولت يهود قتله - صلى الله عليه وسلم - بطريقة حقيرة ودنيئة تنم عن خبث ومكر اليهود، فعن أنس رضي الله عنه: ((أن امرأة(1) يهودية أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألها عن ذلك فقالت: أردت لأقتلك، قال: ((ما كان الله ليسلطك على ذاك، قال: أو قال: ((عليّ)) قال: قالوا ألا نقتلها؟ قال: ((لا))(2).
فانظر إلى سماحة الإسلام، لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بقتلها مع أنها اعترفت بجريمتها وظفر بها، ومع ذلك عفا عنها؛ لأنّ الإسلام دين السماحة والعفو.
__________
(1) اسمها: زينب بنت الحارث، أخي مرحب، وهي امرأة سلاَّم بن مِشْكم، ذكر ذلك ابن إسحاق (ابن هشام) (2/337)، وابن سعد في الطبقات (2/201).
(2) صحيح مسلم، رقم (2190) وقد ذكر عبد الرزاق في المصنف، رقم (19814) عن الزهري أنها أسلمت، وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (7/497-498) نقلاً عن مغازي سليمان التيمي أنها أسلمت أيضاً.(29/17)
4- لما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة في السنة الثامنة(1) من الهجرة وبالتحديد في شهر رمضان(2) كان عدد جيش المسلمين عشرة آلاف رجل، فرأت قريش أنه لا طاقة لها بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وظنت أنه سيبطش بها، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - عفا عن الجميع، فأسلم عدد كبير منهم، بل وعندما جاءت غنائم حنين، جعل - صلى الله عليه وسلم - يعطي بعضهم عطاء جزلاً، فقد أعطى صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة(3)، وعندما غضبت الأنصار من ذلك، ذكر لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما أعطاهم من أجل أنه يتألفهم لأنهم حديثو عهد بكفر(4).
إنّ القصد من ذكر تلك الأمثلة المتقدمة هو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحاول جاهداً تجنب المصادمة والمواجهة مع القبائل القرشية في المرحلة المكية، وحرص على تألفهم بعد الهجرة مروراً بقصة الحديبية عندما قال لهم: ((يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة …)) الحديث(5)، وانتهاءً بقصته معهم بعد حنين.
هكذا تتجلى سماحة الإسلام في تألُّف الناس، والتودد إليهم، والصفح عن مسيئهم؛ لتقوية آصرة الروابط الاجتماعية.
المطلب الثاني: في كيفية تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة وتربيته لهم
__________
(1) صحيح البخاري، رقم (4276).
(2) المصدر السابق.
(3) كصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، انظر قصة هروبهما، الموطأ رقم (44)، وابن إسحاق (ابن هشام) (2/417-418)، وفيه ضعف لكن قال ابن عبد البر في التمهيد (12/19): (( وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده » إن شاء الله.
(4) انظر: صحيح مسلم، رقم (2313).
(5) السيرة النبوية لابن إسحاق (ابن هشام) (2/308-309) بسند جيد.(29/18)
إذا كان النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تألف الناس للدخول في الإسلام، فإنّه كان أشد حرصاً على تعليم من أسلم منهم بالرفق واللين في حالة حدوث تصرفات من بعضهم بسبب جهلهم بتعاليم الإسلام أو لقربهم من العهد الجاهلي وعاداته السيئة، من ذلك:
1- قصة الأعرابي(1) الذي قدم من البادية ممتطياً بعيره حابساً بوله حتى قدم المدينة، بل وحتى دخل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام جالس مع أصحابه إذ بهذا الأعرابي ينيخ بعيره، ويتوجَّه إلى ناحية من نواحي مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمام أعين الناس يرفع ثوبه ويجلس ليتخلص من بوله في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنه منظر يثير الدهشة، سلك طريقاً طويلة لم يجد مكاناً يتبول فيه إلا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!!
لذلك أثار فعله هذا حفيظة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاموا ليمنعوه وينهروه، ولكن الرجل استمر في بوله غير عابئ بتلك الصرخات التي تعالت عليه من جوانب المسجد تستنكر هذا الفعل، إلا أن النبي الكريم والمربي الحكيم أنقذ الموقف بقوله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: ((دعوه)).
__________
(1) اختلف في اسم هذا الأعرابي، فقيل: ذو الخويصرة، وقيل: عيينة بن حصن، وقيل: الأقرع بن حابس، انظر: الفتح (1/323-324).(29/19)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي فقام يتبوَّل في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزرموه(1) دعوه(2)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القَذَر، إنّما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه(3)(4).
فانظر إلى هذه الحادثة العجيبة، وكيف ساق الله هذا الأعرابي ليعمل ذلك العمل وكيف تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع تلك الحادثة، ليتعلم الصحابة ومن بعدهم إلى يوم الدين الرفق واللين منه عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) لا تُزْرموه: بضم التاء وإسكان الزاي، وبعدها راء، أي: لا تقطعوا عليه بوله. النووي مع مسلم (3/190).
(2) قال النووي: ((قال العلماء: كان قوله - صلى الله عليه وسلم - : دعوه ، لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجس ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد، والله أعلم» ا.ه. النووي على مسلم (3/191).
(3) فَشَنَّه عليه: أي صَبَّه. المصدر السابق.
(4) مسلم، رقم (661)، والبخاري مختصراً رقم (220).(29/20)
2- وهناك موقف آخر حدث لبعض الصحابة تجلت فيه حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتربيته في معالجة الأمور، فقد دخل رجل في الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هم كذلك إذ عطس رجل ممن كان يصلي معهم، فَشَمَّت هذا الرجل ذلك العاطس بقوله: ((يرحمك الله)) ويظهر أنه كان قد تعلم أن العاطس يُشَمَّت مطلقاً، لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه – أو صاحبه – يرحمك الله …)) الحديث(1). ولا سيما أن الكلام في الصلاة في أول الإسلام كان جائزا ً، فقد قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: ((كنّا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت ( ? ( ( ([البقرة:238] فأُمِرنا بالسكوت، ونُهِينا عن الكلام))(2). ويظهر أيضاً أنه لم يبلغه النهي، إما لأنه كان يسكن خارج المدينة أو لأمر آخر، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - استدعاه، وعلَّمه تعليماً نبويّاً تجلَّت فيه التربية المحمدية.
__________
(1) البخاري، رقم (6226).
(2) صحيح مسلم بشرح النووي (5/26).(29/21)
عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثُكْل(1) أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصَمِّتونني لكني سكتّ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبأبي هو وأمي ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كَهَرَني(2)، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن)) أوكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …الحديث(3).
قال الإمام النووي في شرحه للحديث: ((فيه بيان ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخُلُق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه - صلى الله عليه وسلم - في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه(4).
هذه هي تعاليم الإسلام التي جاء بها الهادي البشير - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كان يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، والتعليم بهذا الأسلوب النبوي العجيب هو المثمر، وهو الذي يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، أما الغلظة والجفاء والسخرية والاستهزاء والازدراء فليست من الإسلام في شيء.
وصدق الله سبحانه إذ يقول في حق نبيه - صلى الله عليه وسلم -:( ? ( ( ( ( ( [القلم:4 ]، والقائل:?? ? ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([آل عمران:159] فصلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) الثُّكْل: بضم الثاء وإسكان الكاف وبفتحها: فقدان المرأة ولدها. شرح النووي على مسلم (5/20).
(2) ما كَهَرَني: أي ما انتهرني . المصدر السابق.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (5/20).
(4) المصدر السابق.(29/22)
المطلب الثالث: في كيفية تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع بعض المشكلات الاجتماعية
إنّ التلاحم والترابط الاجتماعي في ظل العقيدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، يولِّد شعوراً كبيراً في نفس المسلم، تجعله يعيش في حياة سعيدة طوال حياته؛ لأنّه فَقِه قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))(1).
ولا شكّ أن الروابط التي تجمع الناس تختلف من مجتمع لآخر، فهناك روابط مشتركة بين أمة وأخرى بسبب المصالح الدنيوية، فإذا فقدت تلك المصالح انتهت تلك الروابط، وقد تجتمع الروابط بسبب آصرة القربى النَّسبي أو العِرْقي، ولكن رابطة العقيدة تبقى بين المسلمين حتى الموت.
ولذلك حصر الله الأخوة والموالاة في المؤمنين فقط، فقال سبحانه: ( ? ( ( ([الحجرات:10].
وقطعها بين المؤمنين والكافرين حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم(2) قال جل شأنه:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ([التوبة:23].
وسنرى بعد قليل فهم الصحابة رضوان الله عليهم للإسلام، وذلك عندما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بِحَلّ بعض المشكلات الاجتماعية التي واجهته في المدينة والتي تمثلت بتشريعه لنظام المؤاخاة.
__________
(1) البخاري، رقم الحديث (13)، ومسلم رقم الحديث (45).
(2) السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم العمري (1/251) بتصرف.(29/23)
1- فقد واجهت النبي - صلى الله عليه وسلم - مشكلة كبيرة بعد هجرته إلى المدينة تتمثل في عدم وجود مأوى مناسب للمهاجرين بالإضافة إلى عدم تمكنهم، وقدرتهم على شراء بيوت يسكنونها لأن المهاجرين رضوان الله عليهم كانوا قد تركوا ثرواتهم في مكة ولم يتمكنوا من أخذها معهم بسبب مضايقة قريش لهم، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أَنْ شرع نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار اثنين اثنين. وكان من ضمن بنود المؤاخاة أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه(1)، بالإضافة إلى المواساة في كل أوجه الخير والمحبة.
وقد ضرب الأنصار أروع الأمثلة في حبهم وتفانيهم في مواساة إخوانهم المهاجرين، من ذلك قصة سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه، عندما آخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الرحمن بن عوف وهو من المهاجرين، وكان سعد بن الربيع من أكثر الأنصار مالاً، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((لما قدم علينا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد ابن الربيع وكان كثير المال، فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلَّت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك…)) (2)، وفي رواية أنه قال: ((بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقك؟ فدلوه على السوق…)) (3).
وكان الهدف من هذه المؤاخاة إذهاب الوحشة والغربة التي أصابت المهاجرين بمفارقتهم للأهل والعشيرة، فلمّا عَزَّ الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة، وعرفوا أسباب اكتساب الرزق، أبطل الله التوارث، وبقيت الأخوة في الله، وذلك بنزول قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ([الأنفال:75].
__________
(1) البخاري، رقم (3781).
(2) البخاري، رقم (3781).
(3) البخاري، رقم (3780).(29/24)
وبهذا النظام الذي شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - استطاع وبفضل الله أن يجعل من المهاجرين والأنصار لحمة واحدة، وقد أثرت هذه المواقف العجيبة من الأنصار في نفوس المهاجرين فوقفوا مبهورين من تضحيات إخوانهم الأنصار في سبيل إسعاد إخوانهم المهاجرين، فما ملكوا أنفسهم حتى قالوا: ((يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: ((لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم))(1).
وهكذا استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وبفضل الله حل مشكلة من أكبر المشكلات الاجتماعية التي واجهته في المدينة بعد الهجرة.
والحق أنّ موقف سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف لا يصدقه العقل، ولو لم يرد في صحيح كتب السنة لما صدقه كثير من الناس، وذلك لما فيه من تضحيات تفوق الخيال، هل يُعقل أن الإسلام والأخوة الإيمانية تجعل الشخص يبذل ماله وأهله لأخيه المسلم دون مقابل؟ نعم، يُعقل وموقف سعد خير شاهد، والله إننا لمشتاقون إلى لقائهم والنظر إليهم.
غداً نلقى الأحبة ... … ... محمّداً وصحبه
المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية
[سياسته صلى الله عليه وسلم في تكوين دولة الإسلام في المدينة]
__________
(1) مسند أحمد (20/360-361)، رقم 013075)، وسنده صحيح على شرط الشيخين كما قال المحقق.(29/25)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل العربية في مواسم الحجّ وفي أسواقهم لحمايته حتى يبلغ دين الله الذي أمر بتبليغه وكان يقول لهم: ((هل من رجل يحملني إلى قومه فإنّ قريشاً منعوني أن أبلغ كلام ربي))(1) وقوله عليه الصلاة والسلام بسوق ذي المجاز: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا…))(2). ولم يطلب منهم شيئاً غير الحماية والنصرة حتى ينفذ كلام ربه سبحانه وتعالى.
ولكن العجب أنّ تلك الدعوة اللطيفة لم تلق آذاناً صاغية من جميع تلك القبائل؛ لأنّ الله لم يرد لها الخير حينئذ، حتى هيأ الله لها نفراً من أهل المدينة قدموا مكة، فعرض عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإسلام فلم يبعدوا، ثم تتابعت اللقاءات حتى كانت بيعة العقبة الثانية التي بموجب شروطها هاجر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة.
ولما وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة وجد فيها العزة والقوة والمنعة لكثرة من كان قد أسلم من أهلها من الأوس والخزرج ( الأنصار ) بالإضافة إلى أعداد المهاجرين، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - وجد صعوبات في نشر الدعوة، منها القبائل اليهودية الثلاث قريظة والنضير وقينقاع، وكلها تدين باليهودية، ومنها القبائل المجاورة للمدينة وكلها تدين بالوثنية إلا أفراداً قلائل جدّاً دخلوا في الإسلام.
__________
(1) مسند أحمد (23/370)، رقم [15195]، وأبو داود، رقم [346ـ 347]، وسنده صحيح.
(2) مسند أحمد (25/404) رقم [16023]، وسنده صحيح لغيره كما قال المحقق .(29/26)
فهاتان مشكلتان تعيقان نشر الدعوة، ولا سيما مشكلة القبائل اليهودية التي عرف عنها المكر والخداع وقتل الأنبياء، بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية والعسكرية، وتحالفاتها مع بعض القبائل العربية مما قد يسبب في حال مواجهتها عسكريّاً عدم تمكين الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الاستمرار في نشر دعوته، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن وضع التدابير الكفيلة لحماية الدعوة الإسلامية الناشئة.
وقد كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل المدينة -مقر الدعوة الإسلامية- آمنة، حتى يتفرغ لقريش أعتى قبائل العرب في زمانها، والتي تعد الحاجز الأقوى في وجه الدعوة الإسلامية، فبدأ - صلى الله عليه وسلم - بموادعة القبائل المجاورة للمدينة والتي كان معظمها يدين بالشرك وهواها مع قريش، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - قطع الطريق بينها وبين قريش عن طريق الموادعة التي تمت مع بعض القبائل وبخاصة القبائل الواقعة على الطريق التجاري لقريش المؤدية إلى الشام.
وقد تمت هذه المعاهدات بطرق عدة، لكن لا نجد تفصيلاً لبعض هذه المعاهدات، ولا سيما القديمة منها إلا ما جاء ذكره في سرية حمزة - رضي الله عنه - التي أرسلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رمضان من السنة الأولى إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً ليعترضوا عيراً لقريش، لكن حجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان حليفاً للفريقين(1).
فهذا يدل على أنّ هذا الحلف قد تمّ في فترة مبكرة، قبل خروج حمزة - رضي الله عنه -، ومما يدل على قدم تلك المعاهدات مجيء وفد جهينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مقدمه المدينة يطلبون منه أن يوثق لهم حتى يأمنهم ويأمنوه(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن إسحاق (ابن هشام) (1/595)، بدون إسناد، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/6) بدون إسناد أيضاً.
(2) انظر: مسند الإمام أحمد (3/118)، رقم (1539) وفي سنده ضعف كما قال المحقق.(29/27)
وذكر ابن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لبني زُرْعة وبني الرَّبْعة من جهينة أنّهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأنّ لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلاّ في الدين والأهل، ولأهل باديتهم مَن بَرّ منهم واتقى ما لحاضرتهم، والله المستعان(1).
ولكن لم تحدد الرواية تاريخ هذه الوثيقة هل كانت بعد الهجرة مباشرة أو لا؟!
وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأبواء(2)، وفيها وادع مخشي بن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه على ألا يغزو بني ضمرة ولا يغزوه، ولا يكثروا عليه جمعاً ولا يعينوا عدوّاً، وكتب بينهم وبينه كتاباً(3).
ووادع - صلى الله عليه وسلم - بني مدلج في غزوة ذي العشيرة التي كانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً من مهاجره - صلى الله عليه وسلم - (4).
__________
(1) الطبقات الكبرى (1/270) بدون إسناد.
(2) غزوة الأبواء: كانت في شهر صفر على رأس اثني عشر شهراً من مهاجره - صلى الله عليه وسلم -، انظر تفاصيلها في ابن إسحاق (ابن هشام) (1/561)، والطبقات الكبرى (2/8)، وتاريخ الطبري (2/407).
(3) المصادر السابقة.
(4) انظر تفاصيل هذه الغزوة في : سيرة ابن إسحاق (ابن هشام) (1/598)، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/9-10).(29/28)
وبعض هذه المعاهدات كانت في فترة مبكرة وبعضها كان متأخراً(1)، لكنها تدل على اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجانب الأمني لنجاح واستمرار الدعوة الإسلامية، والحق أن كل هذه المعاهدات تهدف إلى أن يأمن تلك القبائل المجاورة للمدينة ليتفرغ - صلى الله عليه وسلم - لقريش واليهود الذين نقضوا العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - تدريجيّاً، والمهم أنه - صلى الله عليه وسلم - استطاع أن يحل مشكلة القبائل المجاورة التي لا شك أنّها كانت له - صلى الله عليه وسلم - هاجساً له شأنه.
ثم سارع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى حل المشكلة الثانية التي تمثل عائقاً كبيراً في قيام الدولة الإسلامية، وهي مشكلة القبائل اليهودية التي كانت تسكن المدينة إبان هجرته - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت تتبوأ مركزاً مرموقاً في المدينة بسبب ما كانوا عليه من كثرة العدد، وسعة الثروة، والمهارة الزراعية والصناعية والتجارية، ثم بسبب ما كان لهم من مكانة دينية وعلمية مستمدة من كونهم أصحاب كتاب سماوي، وكونهم ذوي صلة بالأنبياء والأمم الغابرة(2).
__________
(1) انظر في ذلك: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/264-290) فهناك كتابات ومعاهدات كثيرة.
(2) انظر: سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صورة مقتبسة من القرآن الكريم، محمد عزة دروزة (2/122).(29/29)
ولعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - السابق بغدر يهود وخبثهم ومكرهم، سارع - صلى الله عليه وسلم - إلى إيجاد طريقة وحلّ أمثل تجعل من الطرفين المسلمين واليهود يعيشان في أمن وسلام، هذا الحل تمثل في المعاهدة أو [الوثيقة](1) التي كتبها - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين من جهة وبين اليهود من جهة أخرى.
وقد اشتملت بنود هذه الوثيقة على كثير من الأمور يهمنا هنا الأمور المتعلقة بالناحية الأمنية التي منها:
47ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن برّ واتقى، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
39ـ وإن يثرب حرام جوفها لأهل الصحيفة.
44ـ وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
43ـ وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
42ـ وإن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإنَّ مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة(3).
فهذه البنود الخمسة من أهم البنود التي تحدثت عن الأمن والأمان لأهل المدينة جميعاً مسلمهم وكافرهم.
فقد نصت الوثيقة على أنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
__________
(1) انظر في صحة هذه الوثيقة من عدمها: السيرة النبوية الصحيحة، لأكرم ضياء العمري (1/272-275)، وصحيفة المدينة دراسة حديثية، تحقيق، هارون رشيد محمد إسحاق، وهي رسالة ماجستير من جامعة الملك سعود، بإشراف الدكتور: مصطفى الأعظمي، وبيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة- وثيقة المدينة، لضيدان اليامي، وهي رسالة صغيرة لطيفة قيمة على صغر حجمها، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية من ص (306-313) لمهدي رزق الله أحمد.
(2) أرقام البنود نقلتها من كتاب: السيرة النبوية الصحيحة، للدكتور أكرم العمري (2/282-285)، أما ما يتعلق بالتقديم والتأخير في أرقام البنود فبحسب الأهمية.
(3) المصدر السابق.(29/30)
ومعنى هذا منع الحروب والقتال بين القبائل والعشائر، وتثبيت السلم في المدينة، وبذلك وضعت حدّاً لأقوى عامل في خلق القلق والاضطراب وما يجره من أمور(1).
ونص البند رقم (43) على قطع السبيل على قريش أن تستفيد من المدينة أو من أحد سكانها، حيث حظر على من سكن في المدينة أو يؤوي أحداً من مشركي قريش(2).
ونصت بعض الفقرات في البند ذي الرقم (47) والبند ذي الرقم (42) أن مرد الشجار والتنازع إلى الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ويفهم من هذا -تصريحاً أو تلميحاً- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صار بيده زمام الأمور في المدينة، وتولى تصريف شؤونها الداخلية والخارجية.
فما من خلاف يحصل من أي قبيلة أو شجار يقع إلا ويرجع فيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3).
ومن الجدير بالذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعدَّ اليهود أمة واحدة، بل اعتبر كل قبيلة من قبائلها لا علاقة لها بالأخرى، وفي المقابل جعل المسلمين كلهم مهاجرهم وأنصاريهم أمة واحدة وطرفاً واحداً(4).
وبذلك استطاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاقبة كل قبيلة على حِدَة في نقضها للعهد أو قيامها بأعمال مخلة بالأمن(5).
__________
(1) دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة – دراسة في تكوينها وتنظيمها-د.صالح أحمد العلي ص (114).
(2) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (139).
(3) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (139).
(4) المصدر السابق بتصرف.
(5) النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس ص (141) بتصرف.(29/31)
ففي هذا تحقيق لمبدأ العدالة، فحتى لا تؤاخذ قبيلة محافظة على العهد بجريرة قبيلة أخرى نقضت العهد، وهذا ما تم بالفعل، فلم يتعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقبيلة بني النضير أو قريظة حال نقض بني قينقاع عهدهم لبقائهما على عهدهما، ولم يتعرض لقبيلة بني قريظة حال نقض بني النضير عهدهم لبقائهم على عهدهم.
فطبَّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبدأ العدالة من جهة، ومن جهة أخرى يدل هذا العمل على الحنكة السياسية التي كان يتمتع بها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا اطمأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوضع الأمني للمدينة من هجوم القبائل المجاورة لها، ومن فتنة اليهود المتوقعة وإثارتها للفتن والاضطرابات بين أفراد المجتمع المدني، ثم استطاع بعد ذلك وفي فترة وجيزة مواجهة قريش خاصة والتفرغ لها لإنهاكها اقتصاديّاً، فما من قافلة ذاهبة أو قادمة من الشام إلا وتعرض لها بإرسال السرايا أو الخروج إليها بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتف بذلك، بل تعدى خطر المسلمين على تجارة قريش بإرسال السرايا لقوافلها المتجهة إلى الطائف أو القادمة منه مما سبب إزعاجاً كبيراً لقريش، حتى كانت غزوة بدر التي كسرت فيها شوكة قريش لأول مرة وفي أول لقاء بين المسلمين والكفار، وفيها دَوَّى انتصار المسلمين في جميع أرجاء الجزيرة العربية، وقطع دابر القوم الذين كفروا والحمد لله ربِّ العالمين.
المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال.
المطلب الثاني: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنواحي الاقتصادية
المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال
لا شك أن المال عصب الحياة كما يقال، وقد حث الإسلام على العمل والكسب الحلال، قال جل شأنه:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الملك:15].(29/32)
وقال سبحانه:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الجمعة:10].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اليد العليا خير من اليد السفلى…))(1).
وبما أن الإنسان مأمور بالعمل فلا بد أن يكون كسبه حلالاً حتى يبارك الله له فيه، وإذا أراد الإنسان المسلم تنمية ماله، فلا بد أن يكون خالصاً من الشوائب المحرمة كالربا مثلاً، فإنّه ممحق البركة ( ? ( ( ( ( ([البقرة:276]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس إن الله طيّب لا يقبل إلا طيباً…))(2).
فالإسلام دين متكامل في كل شيء وليس للتواكل فيه مكان، فهو يحث على العمل في كل وقت إلى يوم القيامة، ومما يؤكد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة(3)، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل))(4)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة))(5).
فهذه توجيهات نبوية وحث كريم للعمل على إعمار الأرض بالزرع حتى يأكل منه الإنسان والطير والحيوان، وإذا كان الإنسان قد أمر بالعمل وابتغاء الرزق، فإنّه قد أمر بالاقتصاد في ذلك، قال جل شأنه:( ? ( ( (( ( ( ( ( ([الأعراف:31].
__________
(1) البخاري، رقم (1427)، وأحمد (24/42) رقم (15326) تحقيق الأرناؤوط وآخرين.
(2) صحيح مسلم حديث رقم (1015).
(3) الفسيلة: النخلة الصغيرة، القاموس المحيط للفيروزآبادي، مادة: فسل.
(4) مسند أحمد (20/296) رقم الحديث (12981) تحقيق الأرناؤوط وآخرين، وسنده صحيح كما قال المحقق.
(5) مسند أحمد (21/88) رقم (13389) تحقيق الأرناؤوط، وسنده صحيح.(29/33)
فعدم الإسراف في الشيء يُنمي الاقتصاد ، وهو من الأمور المهمة التي عالجها الإسلام مبكراً وهي نبراس لمن أراد العمل والكسب الحلال، وإذا أراد الإنسان المسلم أن ينفع نفسه وأمته فليأخذ بالتوجيهات الربانية في عدم الإسراف، وأيضاً عدم التقتير على حد قوله سبحانه وتعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الإسراء:29].
ومما يجب التنبيه له أن الإسلام الذي يأمر بإحياء الأرض ينهى أيضاً عن الغلو في ذلك والإسراف فيه، فمن صرف همّه ووقته وجهده في البحث عن المال فحسب فهو غالٍ في عمله هذا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تبايعتم بالعينة(1)، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سَلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزع حتى ترجعوا إلى دينكم))(2).
ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الحديث يحث على العمل، وفي الوقت نفسه يحذر من الإسراف فيه مع ترك الجهاد، لكن إذا كان هذا العمل يخدم المصالح الإسلامية من إعداد العدة للعدو، وإسعاد الآخرين فلا بأس.
المطلب الثاني: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنواحي الاقتصادية
أدت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق أهل المدينة(3).
__________
(1) العِينَة: أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. النهاية (3/333).
(2) أخرجه أبو داود في السنن رقم (6462) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (2956).
(3) في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية جـ(2) ، الحياة الاقتصادية في صدر الإسلام، محمد ضيف الله بطاينة ص (10).(29/34)
إلا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عالج ذلك بنظام المؤاخاة الذي شرعه بين المهاجرين والأنصار حيث كان من بنوده أن يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه، وتقبل الأنصار رضي الله عنهم ذلك تقبّلاً حسناً، واستمر الحال كذلك حتى نسخ التوارث بعد معركة بدر بنزول الآية الكريمة:( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأنفال:75](1).
وعندما نقض بنو النضير العهد وأجلاهم إلى خيبر، كانت أموالهم خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فقسمها - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين، ولم يعط للأنصار شيئاً إلا سماك بن خرشة -أبا دجانة- وسهل بن حُنيف؛ لأنّهما كانا من أشدّ الأنصار فقراً(2)، وكان إعطاء تلك الأموال للمهاجرين عن طيب خاطر الأنصار، وبذلك تحسنت الظروف الاقتصادية عند المسلمين في المدينة، وتقاربت مستويات المعيشة بين الأنصار والمهاجرين.
وبما أن زراعة الأرض كانت من أهم الموارد في العصر النبوي -أو على الأقل في بداية العصر النبوي- فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على استغلالها جيداً حتى يكثر الإنتاج ليسد حاجة الناس، فقد دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بستان نخل للأنصار، فوجدهم يؤبرونه، فقال:(( ماذا لو تركوه؟ فترك القوم تأبير النخل فلم تحمل ذلك العام، فراجعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:((عليكم بما كنتم تصنعون، فإنما قلت لكم ولا أعلم))(3).
__________
(1) انظر: البخاري رقم (2048)، وتفسير ابن كثير (4/63).
(2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/471-472).
(3) الخراج ليحيى بن آدم ص (114).(29/35)
وقد استفاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه التجربة فجعل إصلاح الأرض إلى أهلها، وبهذا يعلم أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها، ولا يحول دون الاستفادة من تجارب الغير شيء أبداً، ولذلك لما فتح الرسول - صلى الله عليه وسلم - خيبر أقرهم على إصلاح الأرض وزراعتها على أن يكون ثمرها بينه وبين أهلها بالتساوي(1).
وانتعش الاقتصاد في المدينة، وزاده انتعاشاً إقامة الأسواق التجارية في المدينة، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقامة سوق مجاور للبقيع(2)، ثم نقلها إلى غربي المسجد النبوي(3).
وقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الأسواق وما يجري فيها من بيع وشراء، ومراقبة ذلك مراقبة شديدة، حتى لا تجلب إليه البضاعة الرديئة إلا إذا عُرِّفت، وإذا عرف عن هذه الأسواق عدم التطفيف في الكيل، وعدم الغش والكذب والخداع أتاه الناس من كل صوب.
وقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ضوابط كثيرة للبيع والشراء والسلع المستوردة، كل ذلك مبثوث في كتب الفقه.
هذا، بالإضافة إلى ما كان يأتي المسلمين من غنائم وزكاة وخراج، حتى تحول المجتمع المدني خاصة في أواخر العهد النبوي إلى مجتمع يمكن أن يكون قد استغنى عن الآخرين بما عنده.
ومما يجدر ذكره أن المسلمين بالإضافة إلى بيعهم وشرائهم في أسواقهم الخاصة إلا أنهم كانوا يعرضون بضاعتهم في أسواق اليهود(4)، كما أن اليهود أيضاً كانوا يشاركون المسلمين في أسواقهم بالبيع والشراء بالبضائع التي لا يجيدها غيرهم كأنواع الأسلحة وأنواع الحُلي، ولا سيما بنو قينقاع الذين اشتهروا بذلك.
__________
(1) ابن إسحاق (ابن هشام) (2/356-357) بسند مرسل.
(2) وفاء الوفاء للسمهودي (2/747-748).
(3) البلاذري، فتوح البلدان (1/15).
(4) البخاري، رقم (2048)، وابن هشام (2/47-48).(29/36)
ويستفاد من هذه المعاملات التجارية بين المسلمين واليهود، أن للمسلمين شراء ما يستفيدون منه من اليهود وغيرهم وبخاصة الأسلحة.
المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية.
المطلب الثاني: في الضوابط التي وضعها الشارع للجيش الإسلامي
المطلب الثالث: الاهتمام باقتناء السلاح
المطلب الرابع: في التنظيم العملي للجيش الإسلامي
المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية
تختلف الغايات والأهداف في إنشاء الجيوش العسكرية عند الدول، فمنها: إنشاء الجيوش لحماية الدولة من التدخل الأجنبي فحسب، ومنها إنشاؤها لحماية المقدرات والمكتسبات، ومنها التعدي على الآخرين لزيادة نفوذ الدولة والسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأرض؛ وذلك لأطماع اقتصادية في الغالب، ويرجع هذا كله إلى طبيعة تكوين الدول وقوة جيشها وتسليحه…إلخ.
وأغلب أهداف كثير من الدول غير شرعية وغير قانونية، وغالباً عند نشوب القتال بين بعض هذه الدول لتحقيق بعض الأهداف السياسية والاقتصادية تكون غير واضحة المعالم لجيشها، ويجهل ما يقاتل من أجله، شأنه في ذلك شأن قتال القبائل العربية قبل الإسلام؛ لأنَّ الهدف في الجملة محدود ودنيوي بحت؛ لذلك يسود القوي ويستعلي على الآخرين، لكن تبقى الاضطرابات مستمرة ولا يستقر الأمن أبداً حتى تسقط تلك الدولة، وتأتي على إثرها أخرى…
لكن إنشاء الجيش الإسلامي تختلف أهدافه تماماً، فغاياته سامية، وغرضه نبيل، فالغرض ديني بحت لنشر الإسلام وإقامة شرع الله في الأرض لا لشيء آخر ( ? ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ([النساء:71]، ولكن لهذا القتال ضوابط ستأتي في المطلب الثاني.
المطلب الثاني: في الضوابط التي وضعها الشارع للجيش الإسلامي(29/37)
مما يدل على أن الدين الإسلامي دين العدل والرحمة والمساواة تلك الضوابط التي وضعها الشارع على الجيوش الإسلامية، وهي ضوابط وقيود خاصة لا يشاركه فيها أي جيش في العالم، والسيرة النبوية مليئة بذلك، فلا قتال دون سابق إنذار إلا لمن بلغتهم الدعوة، ولا قتال يتسم بالعنف الهمجي الذي يجهز على إزهاق الأنفس بحق وبغير حق. عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش، أو سريّة أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: ((اغزُوهم باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر، اغزوهم فلا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام …)) الحديث(1).
قال النووي رحمه الله: ((وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها، وهي تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهية المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق بأتباعهم وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم ويحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب))(2).
فهذه الوصايا الجامعة الشاملة من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ليست لجيشه فقط، وإنما هي للأمة الإسلامية عامة، فمن تمسك بهذه الضوابط كان الفلاح والنصر حليفه إن شاء الله.
وهناك أمثلة أخرى كثيرة، لكن المقام لا يتسع لذكرها، منها قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أهل خيبر(3)، وقصة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع أهل اليمن(4)…إلخ.
المطلب الثالث: الاهتمام باقتناء السلاح
__________
(1) صحيح مسلم، رقم الحديث (1731).
(2) شرح النووي على مسلم (12/37).
(3) مسلم، رقم الحديث (2404).
(4) البخاري، رقم الحديث (4347).(29/38)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدرك أن قوة السلاح لها أثرها البالغ في إحباط معنويات العدو، ولذلك اهتم - صلى الله عليه وسلم - باقتناء السلاح، فقد صالح - صلى الله عليه وسلم - بني النضير عندما أجلاهم إلى خيبر أن لهم ما أقلَّت الإبل من الأمتعة إلا السلاح(1).
وحرص أيضاً على شرائها، فقد أرسل - صلى الله عليه وسلم - مع سعد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه بعضاً من سبايا بني قريظة وأمره أن يبيعهم من أهل نجد، ويشتري بالثمن خيلاً وسلاحاً(2).
كما صالح - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر على أن يُخَلُّوا بينه وبين الصفراء والبيضاء والحلقة …(3)، واستعار - صلى الله عليه وسلم - أدرعاً من صفوان بن أمية يوم حنين(4).
وحثّ عليه الصلاة والسلام المسلمين في غزوة تبوك، فقال عليه الصلاة والسلام:((من جهّز جيش العسرة فله الجنة )). فجهزه عثمان رضي الله عنه(5).
وهذا يدلّ دلالة واضحة على أنّ الجندي المسلم لا بد أن يقتنى السلاح ليكون على أُهبة الاستعداد، وفتّاكاً ليرهب به الأعداء، وذلك على ضوء قوله جل شأنه:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأنفال:60].
وحشد الجيوش والعتاد الحربي لمجابهة العدو لاتكفي، فلا بد من وجود القوة المعنوية المتمثلة في غرس العقيدة الصحيحة في نفس المسلم، وأن يكون القتال لإعلاء كلمة الله، فلا قتال لحسَب ولا لمال ولا لجاه ((مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) (6).
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (5/358) رقم (9733).
(2) ابن إسحاق (ابن هشام) (2/245) بدون إسناد.
(3) سنن أبي داود رقم (3006) وحسنه الألباني، انظر: صحيح سنن أبي داود (2/583-584).
(4) أخرجه أحمد في المسند (24/12) رقم (15302)، وأبو داود رقم 03562)، وقد صححه العلامة الألباني، انظر: إرواء الغليل (5/244) رقم (1513).
(5) البخاري مع الفتح (5/406-407)، رقم (2778).
(6) البخاري، رقم الحديث (123)، ومسلم/ حديث رقم (1904).(29/39)
فهذه من الأمور المهمة التي لا بد أن يدركها الجندي المسلم في كل زمان ومكان.
المطلب الرابع: في التنظيم العملي للجيش الإسلامي
من الأشياء العجيبة تلك التنظيمات التي كان يتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلك السياسة التي كان ينتهجها عليه الصلاة والسلام في غزواته.
1- فقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزو العدو جعل أميراً على المدينة يخلفه عليها حتى يرجع(1)، وإذا أرسل سرية أمَّر عليهم رجلاً منهم(2).
وهذا يدل على أهمية وجود الأمير في السلم والحرب، وأنّ الأمور لا تنضبط إلا بوجوده.
2- من سياسته العسكرية عليه الصلاة والسلام أنّه لا يريد غزوة إلاّ ورَّى(3) بغيرها(4)، حتى يباغت الأعداء ويأخذهم على حين غِرَّة، وهذا في حالة إنذارهم من قبل، أما مباغتتهم بدون إنذار فلا، وذلك كتصبيحه - صلى الله عليه وسلم - بني النضير(5)، وإخفاء خروجه - صلى الله عليه وسلم - لفتح مكة وغيرهما(6).
3- كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - رايات يحملها جماعة من أصحابه، فقد كانت للمهاجرين راية، وللأنصار رايتان واحدة للأوس، وأخرى للخزرج(7).
__________
(1) صحيح مسلم، رقم الحديث (1731).
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/8، و2/9، 2/12) وغيرها.
(3) ورَّى بغيرها: أي أوهم غيرها، والتورية: أن يذكر لفظاً يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد، فتح الباري للحافظ ابن حجر (8/117).
(4) صحيح البخاري، رقم (4418).
(5) انظر: مصنف عبد الرزاق (5/358) وما بعدها، رقم الحديث (9733).
(6) انظر: البخاري، رقم الحديث (4274).
(7) انظر في أمر الألوية والرايات: سنن الترمذي (3/115)، وفتح الباري (7/477)، والتراتيب الإدارية للكتاني (1/320).(29/40)
والهدف من حمل الرايات -والله أعلم- التميّز عن الغير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى تقاتل كل فئة تحت رايتها فتستميت دونها، وحتى لا تأتي الهزيمة من قِبَلها، وبما أنّ حامل الراية هو الأكثر عرضة للقتل، فلا بد أن يكون متصفاً بالشجاعة والإقدام؛ لأنّ الراية إذا سقطت انهار الجيش.
وقد كانت بعضُ راياتِ النبي مكتوباً عليها: لا إله إلا الله(1).
وهذا يدلّ على أنّ العبارات الإسلامية التي تكتب اليوم على الأعلام لها أصل في السيرة النبوية.
4- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استنفر الناس وتجهزوا استعرضهم حتى لا يخرج معه إلا من كان قادراً على القتال، فكان - صلى الله عليه وسلم - لا يسمح باصطحاب الغلمان، والعجزة كما حصل في غزوة أحد(2)، ولا يسمح للمشركين بالقتال مع المسلمين جنباً إلى جنب(3).
وهذا يدل على أخذ الحيطة والحذر؛ لأنّ المشركين يخشى منهم الغدر والخيانة وهم مظنة ذلك مع إخوانهم المنافقين.
5- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وصل أرض المعركة اتخذ له مكاناً مناسباً وجعل جيشه في صفوف حتى لا يخترق، ثم يوصيهم بتقوى الله والصبر والسمع والطاعة، وكان يجعل لهم شعاراً يعرف به بعضهم بعضاً، وهذا الشعار يكون في كلمة أو كلمتين، مثل الشعار الذي كان لهم في غزوة بني المصطلق ((يا منصور أَمِتْ))(4).
لأنّ بعض المقاتلين لا يعرف بعضهم بعضاً من تغطية السلاح لأشياء كثيرة من أجسادهم ووجوههم، فقد لا ترى إلا الحدق -العيون- منهم، فحتى لا يضرب بعضهم بعضاً كانت هذه الشعارات، وهي متوارثة بين الجيوش في هذا الزمن، لكن كلمة السر تختلف بالطبع من بلد إلى آخر.
__________
(1) فتح الباري (7/477).
(2) البخاري، رقم (4097)، ومسلم، حديث رقم (1868).
(3) صحيح مسلم، رقم (1817).
(4) المعجم الأوسط للطبراني (6/134-135) رقم (6015) عن سنان بن وبرة، قال : (( كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة المريسيع…)) فذكره.(29/41)
6- مشاورة أصحابه - صلى الله عليه وسلم -: كان عليه الصلاة والسلام يتخذ كل التدابير وكافة الاحتياطات للعدو، من ذلك مشاوراته لأصحابه مما يجعل الجندي قريباً من الأمير، وفي هذه الحالة يمكن للجندي أن يشارك في صنع بعض القرارات العسكرية ويشير بما يراه، ومن ذلك إشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب(1). وهذا العمل لم يكن معروفاً عند العرب، ولذلك تفاجأت قريش ومن معها عندما رأت الخندق حول المدينة.
7- أيضاً كانت الحرب الإعلامية لها دور كبير، وإن لم تكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصورة التي في زمننا، لكنها قريبة منها، وذلك كقصة نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه في غزوة الخندق عندما خذَّل بين الفريقين المشركين واليهود من بني قريظة بطريقة معينة(2) أدت إلى فشل خطة الفريقين وبالتالي ساهمت في هزيمتهم بفضل الله تعالى، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الحرب خُدعة))(3).
8- كان النبي عليه الصلاة والسلام يحاول جاهداً معرفة العدو وما يتعلق به من عدة وعتاد، وذلك بإرسال الجواسيس كما حصل في غزوة بدر الكبرى(4)، وغزوة الخندق(5)، وبني قريظة(6)، وغيرها.
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/66) معلقاً.
(2) انظر تفصيل ذلك في مصنف عبد الرزاق (5/368-369) من طريق الزهري عن ابن المسيب مرسلاً.
(3) البخاري، رقم (3029)، ومسلم حديث رقم (1740).
(4) صحيح مسلم، حديث رقم (1779).
(5) صحيح مسلم، حديث رقم (1788).
(6) البخاري، حديث رقم (4113)، ومسلم، حديث رقم (2415).(29/42)
فمن خلال تلك التنظيمات والتعليمات السائدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمكن الاستفادة منها في هذا العصر وفي كل عصر، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستفادة من التقنيات الحديثة في الكشف عن مخططات الأعداء، وكل ما يتعلق بتنظيماتهم ومخططاتهم ضد الإسلام والمسلمين، فلها أصل أصيل في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وبهذا يتضح جليّاً أهمية دراسة السيرة النبوية في حياة المسلمين وضرورة العناية بها، وإن كان الموضوع فيه نقص كبير، فالسيرة النبوية هي لُبُّ الإسلام، ولا يمكن أن يفي هذا البحث المتواضع بجميع جوانبها، لكن ذلك جهد المقل، وإلا فالسيرة النبوية معين لا ينضب، وبحر لا تكدِّره الدلاء، والله المستعان، والحمد لله ربِّ العالمين.
الخاتمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأحمد الله عز وجل على إعانته لي لإتمام هذا البحث المتواضع، والذي من خلاله اتضح لي الحاجة الماسة والكبيرة جدّاً لدراسة السيرة النبوية، كيف لا، وقد حوت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما قدم فيها من تضحيات في العهد المكي وتبعها العهد المدني، والذي تجلت فيه شخصيته - صلى الله عليه وسلم - بشكل واضح، في شتى مجالات الحياة، فكانت أعماله نبراساً للأمة تستضيء بنورها، وترشف من معينها الذي لا ينضب، فلا تبحث عن شيء من مناحي الحياة إلا وله أصل في سيرته - صلى الله عليه وسلم -.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان تحت قيادة هذه الحكومة المباركة، وأن يجنبنا مسالك السوء، وأن يرينا الحق حقّاً، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وصلى الله على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
فهرس المصادر والمراجع
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، 1405ه، المكتب الإسلامي، بيروت.(29/43)
أنساب الأشراف للبلاذري (ت 279ه) تحقيق: سهيل زكار، ورياض زركلي دار الفكر، بيروت، ط1، 1417ه.
البداية والنهاية، إسماعيل بن كثير، (ت:774ه)، الطبعة الثالثة، 1979م، مكتبة دار المعارف.
بيان الحقيقة في الحكم على الوثيقة- وثيقة المدينة، ضيدان بن عبدالرحمن اليامي، الطبعة الأولى، 1408ه، مكتبة المعارف، الرياض.
تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، محمد بن أحمد الذهبي، (ت:748ه)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الطبعة الأولى، 1407ه، دار الكتاب العربي، بيروت.
تاريخ الطبري- تاريخ الرسل والملوك، محمد بن جرير الطبري، 310ه، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار سويدان، بيروت، دون ذكر تاريخ.
التراتيب الإدارية، للكتاني، أبي عبد الله محمد بن جعفر، (ت:1345ه).
تفسير الطبري، محمد بن جرير، (ت:310ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، بمصر، دون تاريخ.
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، (ت:774ه)، تصحيح نخبة من العلماء، طبع دار المعرفة، بيروت 1388ه.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد، لابن عبد البر، يوسف بن عبدالله بن عبد البر القرطبي، تحقيق: سعيد أحمد أعراب، 1410ه، المغرب.
جمهرة أنساب العرب، لابن حزم علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، (ت:456ه)، الطبعة الأولى:1403ه، دار الكتب العلمية.
جوامع السيرة، علي بن أحمد بن حزم الأندلسي، (ت:456ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، دون تاريخ.
الخراج، يحيى بن آدم القرشي، (ت:203ه)، تصحيح وشرح: أحمد شاكر، الطبعة الثانية، مكتبة دار التراث، القاهرة، بدون تاريخ.
دولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، دراسة في تكوينها وتنظيمها، صالح العلي، الطبعة الأولى 2001م، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، بيروت.
سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، (ت:275ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.(29/44)
سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، (ت:279ه).إشراف ومراجعة: صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، نشر دار الإسلام، الطبعة الأولى، محرم 1420ه.
سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصور مقتبسة من القرآن الكريم، محمد عزة دروزة، منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، تاريخ الطبع 1412ه، نشر مكتبة العلوم والحكم بالمدينة.
السيرة النبوية، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم، (ت:151ه)، ط: الثانية، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين.
شرح صحيح مسلم للنووي، أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف، (ت:676ه)، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1392ه.
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل (ت:256ه).
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، (ت:261ه).
صحيفة المدينة، دراسة حديثية وتحقيق، لهارون رشيد محمد إسحاق، رسالة ماجستير، مطبوعة على الآلة الكاتبة، قدمت لجامعة الملك سعود بالرياض.
الطبقات الكبرى، لابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري، (ت:230ه)، دار صادر، بيروت، 1388ه.
طبقات خليفة بن خياط شباب العصفري، (ت:240ه)، تحقيق: أكرم ضياء العمري، دار طيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1402ه.
فتح الباري شرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر العسقلاني، (ت:852ه)، مراجعة عبد العزيز بن باز، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي.
فتوح البلدان، للبلاذري، أحمد بن يحيى، (ت:279ه)، تحقيق: مارسدن جونس، الطبعة الثانية، 1404ه لعالم الكتب.
فهرست ابن خير، أبي بكر محمد بن خير، (ت:575ه)، تحقيق: فرانسسكو كديرا، ط:2، دار الآفاق 1399ه، بيروت.
في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، الجزء الثاني، الحياة الاقتصادية في صدر الإسلام، ضيف الله محمد بطاينة، دار الفرقان 1407ه.
القاموس المحيط، للفيروزابادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، (ت:817ه)، الطبعة الثانية، 1407ه، مؤسسة الرسالة، بيروت.(29/45)
لسان العرب المحيط، لابن منظور، إعداد وتصنيف: يوسف خياط، دار لسان العرب، بيروت، دون تاريخ.
مرويات عروة بن الزبير في السير والمغازي، جمع ودراسة: عادل عبد الغفور عبد الغني، رسالة دكتوراه، قدمت للجامعة الإسلامية بالمدينة، نوقشت عام 1414ه.
مرويات موسى بن عقبة، جمع ودراسة: محمد باقشيش أبي مالك، منشورات جامعة ابن زهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أقادير، المغرب.
مسند أحمد بن حنبل، (ت:241ه)، إعداد: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بدمشق، إشراف: إبراهيم الزيبق وآخرين، الطبعة الأولى 1421ه، مؤسسة الرسالة، بيروت.
مصادر السيرة النبوية وتقويمها، فاروق حمادة، الطبعة الأولى 1400ه، دار الثقافة، الدار البيضاء، المغرب.
مصنف عبد الرزاق، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، (ت:211ه)، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، منشورات المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى 1392ه.
المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، محمد محمد حسن شراب، الطبعة الأولى، دار القلم، دمشق:1411ه.
المعجم الأوسط، للطبراني، سليمان بن أحمد الطبراني، (ت:360ه)، تحقيق: أبي معاذ، طارق بن عوض الله بن محمد، وآخر، دار الحرمين 1415ه، القاهرة.
مغازي الواقدي، محمد بن عمر الواقدي، (ت:207ه)، تحقيق: مارسدن جونس، الطبعة الثالثة، 1404ه، لعالم الكتب.
مغازي عروة بن الزبير، برواية أبي الأسود عنه، جمع وتحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض.
المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا وأخيه، الطبعة الأولى 1412ه، دار الكتب العلمية.
الموطأ، للإمام مالك بن أنس، (179ه)، تصحيح وتعليق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، دون تاريخ.
النظام السياسي في الإسلام، محمد عبد القادر أبو فارس، الطبعة الثانية، 1407ه، دار الفرقان، عمان، الأردن.(29/46)
النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري أبي السعادات، (ت:606ه)، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر الزواوي، المكتبة العلمية، بيروت.
وفاء الوفاء، للسمهودي، علي بن عبد الله الحسيني، (ت:911ه)، مطبعة الآداب والمؤيد، مصر، 1326ه.
وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
1- أهمية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأهمية الكتابة في هذا الموضوع، وسبب اختياره.…1
2- خطة البحث.…1
المقدمة…2
التمهيد…6
المبحث الأول: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الدينية ( المنهج الدعوي )…11
الأمر الأول: في المراحل الدعوية…12
الأمر الثاني: التركيز على الجانب العقدي…16
الأمر الثالث: أنّ السيرة النبوية مصدر مَعِين لمن يريد التبحر في علومالشريعة…17
المبحث الثاني: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاجتماعية…18
المطلب الأول: في كيفية تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع خصومه من الكفار وصبره علىأذاهم…19
المطلب الثاني: في كيفية تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة وتربيته لهم…24
المطلب الثالث: في كيفية تعامله - صلى الله عليه وسلم - مع بعض المشكلات الاجتماعية…28
المبحث الثالث: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية السياسية…31
المبحث الرابع: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية الاقتصادية…38
المطلب الأول: في حث الإسلام على العمل والكسب الحلال…39
المطلب الثاني: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنواحي الاقتصادية…41
المبحث الخامس: أهمية دراسة السيرة النبوية من الناحية العسكرية…44
المطلب الأول: في الغاية من إنشاء الجيوش العسكرية…45
المطلب الثاني: في الضوابط التي وضعها الشارع للجيش الإسلامي…46
المطلب الثالث: الاهتمام باقتناء السلاح…47
المطلب الرابع: في التنظيم العملي للجيش الإسلامي…49
الخاتمة…53
فهرس المصادر والمراجع…54
فهرس الموضوعات…59(29/47)
تجربتي مع الإعجاز العلمي
في السنة النبوية
إعداد الدكتور
صالح أحمد رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أضاء القرآن دربها، الحمد لله الذي أنار العقول المسلمة بنور الوحي الإلهي، فلم تتخبط في الظلام، ولم تَضِعْ في متاهات الدنيا، الحمد لله الذي حفظ لنا الإسلام بحفظ كتابه المنزل، وحفظ سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - المرسل.
والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، وهدى، وسلاماً، وأمناً للعالمين، الذي علمه من العلوم ما لم يطلع عليه أحد من قبله، فأنار العقول، وأوضح الكثير مما لم يعرفه ويطلع عليه أحد إلا في القرون الحالية، فكان علمه إعجازاً ربانياً للعالمين.
أما بعد.
فإنني منذ علمت بانعقاد هذه الندوة في المدينة المنورة، وأنا أفكر في البحث الذي أريد أن أتقدم به إليكم فيه، حتى قابلت صاحب الفضيلة " محمد سالم بن شديد العوفي" حفظه الله تعالى في ندوة " القرآن الكريم" التي عقدت في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالشارقة، فطلب مني أن أتقدم بموضوع عن الإعجاز، وذلك بعدما اطلع على كتابي الموسوم بـ " الإعجاز العلمي في السنة النبوية" فكان ذلك إشارة بأن أكتب حول الإعجاز العلمي في السنة النبوية. ولما كان المحور الموجود في أعمال هذه الندوة الوحيد المتعلق بالإعجاز هو" قواعد تناول الإعجاز العلمي والطبي في السنة النبوية، وضوابطه" جعلت هذا البحث بهذا العنوان"تجربتي مع الإعجاز العلمي في السنة النبوية"، وأقصد تجربتي مع هذا الكتاب، وما فيه من الإعجاز، ولهذا سأتناول موضوعات الكتاب بعد أن أضع الضوابط، لأطبق القواعد على ما عملته، والله ولي التوفيق.
خطة البحث
سأسير في هذا البحث وفق الخطة التالية:
1-معنى الإعجاز-لغة واصطلاحاً- وتحرير التعريف المختار.
2-معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
3-سر الإعجاز في القرآن العظيم.(30/1)
4-وجوه الإعجاز كما تؤخذ من كتاب الله تعالى.
5-وجوه الإعجاز في السنة النبوية.
6-ضوابط القول بالإعجاز.
7-عملي في الكتاب.
والله أسأل أن أكون قد وفقت، وأصبت السداد في ذلك، فهو وليي عليه توكلت، وإليه أنبت.
الإعجاز لغة واصطلاحاً
العجز- في اللسان العربي-: الضعف، وأصله التأخر عن الشيء، والقصور عن فعله، وهو ضد القدرة.
وأعجزت فلاناً، وعجزته، و عاجزته: جعلته عاجزاً، وجاء في القرآن الكريم:* E F G ) في آيات كثيرة(1)
__________
(1) الأنعام: 134- ويونس: 53 - وهود: 33 - والعنكبوت: 22- والشورى: 31-
وجاء* " # $ % & )[هود: 20] و* U V لَا )[النحل: 46] و* xw تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ اخذب)[النور:57] و ? فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ اختب? [ الزمر: 51]
وجاء: ? فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ اجب?[التوبة: 2و3]
وجاء: ? وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اجثب?[ الاحقاف: 32]
وجاء: ? أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ xwur فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا اححب?[فاطر: 44](30/2)
، والمقصود بها أن المخاطب بها لا يعجز الله تعالى، بل هو سبحانه قادر عليهم، وهم في قبضته، وتحت قهره، ومشيئته.
وجاء على لسان ابن آدم أنه قال:?y]yèt7sù اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ x@÷WدB هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) )[المائدة: 31] أي ضعفت في عقلي وتفكيري أن أفعل هذا الفعل، ولم أهتد إليه لضعفي وعجزي، وظاهر أن العجز هنا في هذه الآية هو ضعف في التفكير، وعدم التوصل بفكره إلى حفر حفرة يواري فيها جثمان أخيه المقتول، فإنه بعد أن رأى فعل الغراب واراه فقد كان عاجزاً في فكره قادراً بعمله، فالعجز يطلق على الأمور المادية والمعنوية. ومصدر أعجز: إعجاز، ومنه اشتقت "المعجزة" وهي اسم فاعل ألحقت به التاء للمبالغة(1).
وأما في الاصطلاح: فيدور تعريف من عرفها من علمائنا السابقين على المعنى التالي: "أمر خارق للعادة، مقرون، مع عدم المعارضة".
بين مطول في التعريف ومختصر له.
وجاء في شرح العقيدة الطحاوية-نقلاً عن ابن تيمية دون ذكره: "المعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة، وفي عرف أئمة أهل العلم المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل، وغيره، ويسمونها"الآيات"(2).
هذا، ولم تكن كلمة إعجاز ولا معجزة شائعة في الاستعمال، وإنما جاء في القرآن الكريم إطلاق اسم"الآية" و" البينة"و "البينات"، وجاء وصف معجزات الأنبياء-عليهم السلام- بأنها برهان(3)
__________
(1) انظر: الصحاح للجوهري3/884/ معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/232/ مفردات غريب القرآن للأصفهاني (عجز)، لسان العرب لابن منظور، تاج العروس شرح القاموس للزبيدي.
(2) شرح العقيدة الطحاوية 2/ 746 ومجموع الفتاوي 11/311-335.
(3) جاء لفظ(آية) بمعنى العلامة البينة على صدق الرسل دافعة إلى الإيمان بالله تعالى أكثر من ثمانين مرة في القرآن.
…وجاء لفظ(آيات) بهذا المعنى أكثر من ذلك.
كما جاء لفظ (بينة) بهذا المعنى اثنتي عشرة مرة.
وجاء لفظ ( بينات ) بالمعنى المذكور أربعين مرة.
وأما لفظ ( برهان) في المعنى المذكور فورد في آيتين الأولى * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) ) [النساء: 174].
وبالتثنية في قوله تعالى * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ uن!$xزّt/ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ (#qçR$x2 قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) )[القصص: 32].(30/3)
.
وقد بدأ استعمالها- أي المعجزة- في أواخر القرن الثاني، وأوائل القرن الثالث في كتابات العلماء الذين ألفوا في بيان دلائل الإعجاز في القرآن الكريم، فاستعملوا كلمة "الإعجاز والمعجزة".
هذا بالنسبة لما في القرآن الكريم أما خوارق العادة التي جاءت في السنة النبوية، فقد أطلق عليها علماء السنة "علامات النبوة" كما جاء في أبواب صحيح البخاري، وكذا " دلائل النبوة " ألف بهذا الاسم كتباً أئمة مثل: أبي نعيم، والبيهقي، والماوردي، والفريابي"
ولكن العلماء لم يفرقوا بين الدلائل والمعجزات، لأن الأصل في المعجزة أن تكون أمام من ينكر النبوة، وأما الدلائل فهي أعم من ذلك فقد تكون أمام المؤمنين تقوي إيمانهم، وأمام غيرهم تدلهم على أن من ظهرت على يده هو مؤيد من قبل الله تعالى.
وقد قام كثيرون ممن تحدث عن المعجزة بتعريفها تعريفاً جديداً ليدخل فيها ما عُدّ حديثاً من أوجه الإعجاز، وقد اخترت تعريفاً أرجو أن يكون موفقاً، ويكون جامعاً مانعاً، وهو: ((المعجزة أمر يجريه الله تعالى على يد نبيه، أو علم يبديه في قوله، لا يقدر أحد من الخلق على الإتيان بمثله في زمانه، يكون دليلاً على نبوته لخروجه عن طاقة الخلق)).
فيكون التعريف جامعاً لجميع الوجوه التي تعد من الإعجاز حسب ما أرى، وإني أرى أن ما عُدّ من دلائل النبوة، وعلاماتها هو من الإعجاز بلا شك و لا ريب؛ لأن خرق العادة فيها كان لإثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أجراه الله ـ عز وجل ـ ليؤكد للمؤمنين إيمانهم، ويزيدهم رسوخاً في هذا الإيمان، والتسليم لرسول الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ما قاله، وشرعه، وأمر به، وذلك لأن خرق العادة له بمنزلة قول الله سبحانه"صدق عبدي بما يقول"، والفاعل فيها هو الله تعالى وحده لا شريك له إذ ليست من طبيعة فعل البشر.(30/4)
وأما قولي"في زمانه" فذلك لتدخل الأمور العلمية التي تحدث عنها القرآن العظيم في ثنايا آياته، وتحدث عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه المتنوعة، حيث كانت غير مدركة في زمانه، وأصبحت اليوم يستطيع تبينها، ومعرفة كنهها الكثير، وذلك لأن كثيراً من الأمور التي تحدث عنها الوحي أصبحت تفهم شيئاً فشيئاً كلما حدثت اكتشافات جديدة أوضحت أموراً في هذا الكون الفسيح، تكشف ما احتواه الوحي من السبق في الإخبار عن حقائق علمية كانت في أذهان المؤمنين أمراً عادياً، بينما هي في نظر علماء الهيئة، وعلماء الكون حقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا في عصر العلم الذي نعيش، ولذلك نرى أن الله تعالى قال في كتابه العظيم بصيغة المستقبل:? سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) )[فصلت: 53]. فاكتشاف الحقائق العلمية في الكون، وفي النفس الإنسانية دليل واضح بأن ما أنزل على محمد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - حق لا مرية فيه لمن ينظر بعين باصرة، وعقل متفتح.
معجزة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -(30/5)
لكل نبي من أنبياء الله الكرام معجزة يعرف بها، يظهرها الله تعالى على يديه تكون دافعاً لقومه على الإيمان به وتصديقه بأنه نبي من عند الله تعالى، لأن كل دعوى لا بد أن يكون عليها دليل، وجرت سنة الله تعالى في هذه المعجزات أن تكون وفق ما مهر فيه قوم كل نبي، مع التفوق الكبير الذي تتصف به المعجزة في ذلك المجال ذاته ليظهر صدق النبي بصورة واضحة للعيان لا ريب فيها، وليعظم أثر تلك المعجزة في النفوس. فنوح-عليه السلام- أوتي من الجدل الذي اضطر معه قومه أن يقولوا له عند فقدانهم للحجة عليه:? قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) ) [هود: 32].
وقوم فرعون عندما كانوا يعتمدون على السحرة في كثير من شؤونهم، وكان للسحرة مكانتهم في المجتمع، حيث كان الساحر يخيل لأعين الناس بفعل غير واقع، وكأنه واقع، جاءت معجزة موسى-عليه السلام-على وفق ذلك، فلما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم خيل للناس من سحرهم أنها تسعى، فلما ألقى موسى-عليه السلام- عصاه انقلبت ثعباناً حقيقياً ابتلع حبال السحرة وعصيَّهم، علم السحرة- وهم أدرى الناس بنوع أفعال السحرة- أن هذا الأمر الذي جاء به موسى- عليه السلام-ليس من جنس أفعالهم، فكانوا لذلك أول من أذعن لهذه المعجزة.
وهكذا كانت معجزة عيسى-عليه السلام- في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص من جنس ما برع اليهود فيه من علم الطب.(30/6)
وهكذا كل نبي من أنبياء الله تعالى كانت معجزته من النوع الذي برع فيه قومه، ولما كان العرب ليس لهم إلا اللسان، والمقدرة الكاملة على البيان، والرفعة المشهودة في جودة التعبير، كانت المعجزة التي جاءت متحدية لهم من جنس ما برعوا به، ولما كانت الرسالة المحمدية خاتم الرسالات، وكانت ستبقى إلى آخر الدنيا تشهد تقدم الإنسان في العقل والتفكير والعلم، حتى يملك ناصيته، كان لابد أن تكون هذه المعجزة مستمرة مع الدعوة في كل عصر، تمد الدعاة بأنواع من المعجزات توافق كل عصر يظهرونها للناس حتى يؤمنوا بصدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن ما امتاز به رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - على غيره من البشر الذين يعيشون فوق هذه الأرض إنما هو الوحي الذي يصله برب السموات والأرضين، قال تعالى:? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ xwur الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ اخثب*إق؛uژإہ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) ) [الشورى: 52-53].(30/7)
وقال-جل ذكره-: ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا xwur يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) ) [الكهف: 110] فذكر الله تعالى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لا يفترق عن البشر إلا بالوحي الذي يصله برب السماء، هذا الوحي الذي يأتيه من إله الكون الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو سبحانه الذي يُعلِّمه من علمه، ويُلْقي في قلبه هذه العلوم التي تفيض على لسانه حقائق لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها في زمن خيَّم عليه الظلام والجهل، اللهم إلا إذا كان يوحى إليه، وقد أعلمنا الله تعالى أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم رسل الله تعالى، وأن رسالته هي خاتم الرسالات، وأنه أرسل للناس كافة بينما كان من قبله من الرسل يرسل إلى أمته، وقومه، وكذا جاءت أحاديث تبين ذلك، ولن أعرض لذلك خوف الإطالة.
ولعل ذلك- أقصد عالمية الرسالة وختم النبوة- كان لما علم الله تعالى من أن البشرية ستصل في عهد هذه الأمة إلى نهاية النضج العقلي، والتقدم العلمي، وعند إدراكها ذلك تدرك تماماً ما حواه "الوحي" الذي جاء محمداً - صلى الله عليه وسلم - من علوم دقيقة لم تكن تعرف الإنسانية عنها الكثير، سواء أكان ذلك في كتاب ربنا أم في سنة نبينا.
وقد بيّن الله تعالى لنا أنه عَلَّم هذا الرسول من العلوم ما لم يعلم، قال(30/8)
-جل وعز-: ? xwِqs9ur فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ ×pxےح!$©غ مِنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) )[النساء: 113] وقد أمر الله تعالى رسوله أن يدعوه بزيادة هذه العلوم، والفهوم التي أعطيها فضلاً من الله ونعمة، وكأنها مقصودة بعينها، قال سبحانه: * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ xwur تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) [طه: 114] فهذه العلوم التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي من الوحي الرباني الذي أوحاه الله إليه، ومن العلوم التي علَّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة))(1).
فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن معجزات الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-كانت من النوع الذي يقر به أهل أزمنتهم معه على صدق من تظهر منه لأنها كانت خارقة للعادة بصورة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله في زمانهم من الأمور الحسية التي تبهر الأسماع والأبصار، ومن ثَم العقول، فتذعن لصاحبها بالصدق.
__________
(1) رواه البخاري في فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل (4981)8/619 وطرفه(7274) ورواه مسلم في الإيمان (152) 1/134/ وأبو عوانة في المسند1/،110و أحمد في المسند 2/341و451، والبيهقي في دلائل النبوة7/129.(30/9)
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معجزته علمية عقلية مصدرها الوحي الرباني الذي يكون لإدراكه، ومعرفة كنهه، وحقيقته فسحة عمر الإنسانية، ومضي الزمان الذي يعيش فيه الإنسان فوق هذه الأرض، فلا تنقضي عجائبه، ففي كل زمان يظهر من هذا الوحي علامة بينة، وبرهان ساطع، وآية واضحة على صدق من جاء بهذا الوحي، وأنه نبي مرسل من عند الله تعالى العليم الخبير.
وكلمة "الوحي" هنا تشمل القرآن الكريم المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - والسنة المطهرة التي عُلِّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن كليهما من الوحي الذي جاء به محمد من قبل ربه-جل جلاله-: ?sŒخ)ur تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ xw يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ xxsùr& تَعْقِلُونَ (16) ) [يونس: 15-16].(30/10)
وقد بين الله تعالى للمشركين الذين طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات الباهرات، والمعجزات الواضحات أن القرآن كافيهم حيث قال: * وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِن فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) )[العنكبوت: 50-51] وسكوت القرآن عن النوع الثاني من الوحي الذي هو السنة النبوية ليس إلا لأنه بشري الأسلوب لا يستطيع أن يُدرِك ما فيه من المعرفة والعلم إلا المؤمن المتعمق، والعالم المدقق، فأشار إليهم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى الذي لا يستطيع العربي إلا أن يذعن لقرعه القلوب، وامتلاكه الأسماع.
وقال سبحانه: * الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اتب) [إبراهيم: 1] فأنت يا محمد قد أنزل إليك القرآن لتقوم بهداية الناس إلى الله تعالى بالقرآن، وبالسنة الموحاة إليك مما يتأتى إخراجهم مما هم فيه من الظلمات بما تبينه لهم من الحق، وذلك بإذن الله تعالى لك في ذلك.(30/11)
وانظر في هذا إلى قوله تعالى:? Oôf¨Y9$#ur إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ) [النجم: 1-4]، فالله تعالى يبين لقريش أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسوله الأمين، ما أضاع الحق الذي أرسل به، ولا ابتعد عن الطريق الصحيح في دعواه النبوة، ودعوته لكم بتوحيد الله تعالى، وقال عنه"صاحبكم" يعني الذي صحبكم وصحبتموه في طفولته وصباه وشبابه، ورجولته، وعرفكم بكل ما عندكم من العقائد والعبادات والعادات، وعرفتموه بالعقل الصريح، والرأي السديد، والأمانة التامة، والصدق الكامل، ولم يتبع سبل الغواية، والفساد التي تعرفونها تمام المعرفة، وإنما الذي دعاكم به، وخاطبكم به إنما هو وحي من عند الله تعالى يوحيه إليه، فهو لا يتكلم عن هوى نفسه، وأمنياته التي تتصورونها يطلب بذلك مكانة من الدنيا، فيكذب أو يفتري على الله تعالى، بل هو بار راشد صادق لا ينطق إلا عن الوحي الذي يأتيه، سواء أكان هذا الذي يتكلم به من عنده أم كلاماً ينسبه إلى الرب سبحانه.
والدليل على أن المقصود بالوحي هنا الكتاب والسنة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما جمع قريشاً ودعاهم إلى التوحيد تحدث إليهم بحديثه، ولم يخاطبهم بآيات من القرآن الكريم.(30/12)
[ انظر الأحاديث الواردة في أول الدعوة (1)] وقال عبدالله بن عمرو- رضي الله عنهما-: " كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله، فأومأ إلى فيه، وقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق"(2).
فهذا دليل واضح على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينطق عن الهوى، ولا يخرج منه في كلامه إلا الحق، سواء فيما يتكلم به من عند نفسه، أو ما نسبه إلى ربه، فكله وحي من عند الله تعالى عَلَّمه إياه، وملأه في صدره، فهو يصدر عنه.
لذلك نرى في كتاب الله تعالى الآيات الكثيرة التي يأمرنا الله بها أن نطيع هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - واعتبر طاعته من طاعته تعالى، وليس ذلك إلا لأنه يتكلم بالوحي، وينطق به، ويأمر بشريعة الله سبحانه، ويبين سنن الهدى التي أمره الله تعالى أن يبلغها، بل إن العلماء عدوا قوله، وفعله، وسكوته - صلى الله عليه وسلم - سنة متبعة تفيد حكماً
__________
(1) انظر الإعجاز العلمي في السنة النبوية 1/27-28،و التخريج 1/152-157.
(2) رواه أبو داود في العلم باب في كتابة العلم(3646)3/318، والدارمي في المقدمة باب فيمن رخص في كتابة العلم(490)1/103، وأحمد في المسند (6507و6799) 2/162و192و207، وابن سعد في الطبقات بسياق آخر وفيه أنه استأذن بالكتابة فأذن له2/285،و4/198،و7/343، والخطيب في تقييد العلم1/74-83، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم1/71، والحاكم في المستدرك، وصححه وأقره الذهبي1/105،والبيهقي في المدخل/415،وابن أبي شيبة في المصنف(6479)9/49، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (321)/366.(30/13)
قال الله تعالى: * مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) ) [النساء: 80].
وقال-جل وعز-:? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ اختب* وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح!$xےّ9$# (52) )[النور: 51-52].
وقال سبحانه: * لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) )[النور: 63]، إلى آيات كثيرة.
والقرآن الكريم في أكثر من أربعين آية يأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله، وينهى عن معصيته، ومعصية رسوله، ولا ريب أن طاعة الرسول إنما تكون بما جاء في الكتاب أو بما جاء في السنة المطهرة، ولو لم تكن حقاً لما أمر الله تعالى بقبولها، وطاعتها، وأنَّى لرسول الله محمد بن عبدالله أن يتكلم بالحق، ويوافق شرع الله سبحانه، لولا ما أعطاه الله من الوحي، والعلم الذي يقصر عنه كل البشر.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيد من الله-جل وعز- في كل أمر يقدم عليه، وفي كل أمر ينطق به قد أوضح أن طاعته من طاعة الله تعالى، وأن سنته من الوحي الذي أنزله الله عليه، و ليست من ذاته، فعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال:(30/14)
"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه"(1).
__________
(1) رواه الإمام الشافعي في الرسالة(295)وإسناده صحيح رقم(633و1106)،402-404، والإمام أحمد في المسند 6/8، وأبو داود في السنة باب في لزوم السنة (4605)4/200، والترمذي في العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2802) وقال: حسن صحيح 4/145/ وابن ماجه في المقدمةباب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (13)1/6، والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي1/108-109،والبيهقي في دلائل النبوة 6/549، وفي المعرفة(50)1/111، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم2/،189 وابن حبان في الصحيح (13)1/147،والحميدي في المسند(551)1/252،والطبراني في الكبير (934-936)1/316و317و327.(30/15)
وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (وفي رواية"وما يعدله معه") ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال، فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" زاد في رواية"ألا وإنه ليس كذلك"(1).
فكل ما حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته إنما هو إخبار عن تحريم الله تعالى لذلك الأمر، أو أمر من الله تعالى بأن هذا الذي حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو حرام عند الله تعالى، فيجب على المؤمنين أن يأخذوا بما جاءهم في السنة المطهرة، لأنها وحي من عند الله تعالى، وليست من رأي، أو هوى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان هواه - صلى الله عليه وسلم - تبعاً لشريعة الله- عز وجل-.
سر الإعجاز في القرآن الكريم
ما السر في كون القرآن الكريم معجزاً؟
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4/130-131و132و133، وأبو داود في السنة باب لزوم السنة(4604)5/10، والترمذي في العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2666) وقال: حسن غريب من هذا الوجه 4/ 144، وابن ماجه في المقدمة باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (12)1/6، والدارمي في المقدمة باب السنة قاضية على كتاب الله (592)1/117، وابن حبان في صحيحه (12)1/189،والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي1/109، والطبراني في المعجم الكبير (669و670)20/274-275و283-284، والبيهقي في السنن الكبرى9/332/و7/76، وفي الدلائل6/549، وفي المعرفة(53)1/112،والدارقطني في السنن(58-60)1/286-287، والآجري في الشريعة/51، وابن بطة في الإبانة (62).(30/16)
سؤال تردد كثيراً عند الذين كتبوا عن الإعجاز في كتاب الله تعالى، والجواب عنه قريب سهل ميسر، وذلك لأنه كلام الله تعالى، قال الله- عز وجل-: ? وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) )[التوبة: 6].
والكلام صفة من صفات الله تعالى نعتقد بها كما جاءت، وقد قال الله تعالى: ?ِ@è% هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد احب?[سورة الإخلاص] وقال - جل ثناؤه-: * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ x@yèy_ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اتتب? [الشورى: 11].
فالله أحد في ذاته، أحد في صفاته- ومنها الكلام- أحد في أسمائه، أحد في أفعاله، ليس كمثله شيء في ذاته، و لا في أسمائه، ولا في صفاته، و لا في أفعاله، فليس لله مثيل، و لا شبيه، و لا مكافئ في ذلك كله يستطيع أن يأتي بكلام مثل كلام الله تعالى! فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه، وهو مالك الملك، خالق الخلق تعالى وتقدس، وتنزه عن الشبيه، والمثيل؟
فإعجاز القرآن العظيم كان لأنه صفة من صفات الله تعالى، وصفات الله ـ عز وجل _ لا يمكن لأحد أن يتصف بمثلها أبداً، أو يدانيها، بأي صورة من الصور مهما حاول، وقصد إلى ذلك وجهد، حتى لو اجتمعت كل الجن وكل الإنس متعاونين متكاتفين ليأتوا بمثل هذا القرآن؛ فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً: * قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا بb#uنِچà)ّ$# xw يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) )[الإسراء: 88].(30/17)
ولهذا الذي ذكرت جاء في آيات التحدي التي تحدى الله تعالى فيها العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، الاستفتاح في كل آية منها بزعم المشركين أن القرآن من قول محمد بن عبدالله افتراه، وزعم أنه من عند الله تعالى، فقال لهم: إن كان هذا القرآن بشرياً- على زعمكم-قد افتراه، وتقوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو بشر مثلكم، فأنتم إذا كنتم تستطيعون أن تأتوا بقرآن مفترى مثل ما جاء به محمد بزعمكم فأتوا به، ولكنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله لأن القرآن كلام الله، وأنتم بشر مخلوقون، وأنَّى لبشر أن يأتي بمثل صفة الله في الكلام؟! هيهات هيهات. قال الله تعالى: * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) )[الطور: 33-34].
وقال-جل وعلا-: * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) )[هود: 13-14] وقال سبحانه: * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) )[يونس: 38] وقال-جل جلاله-: * وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ اثجب* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) )[البقرة: 23-24].(30/18)
فالآيات كلها تبدأ بهذا الشرط، فإن كنتم أيها العرب الفصحاء تقولون: إن محمداً تقوَّل هذا القرآن على الله تعالى، أو افتراه، ونسبه إلى ربه، أو أصابكم شك وريب في جواز ذلك، فأنتم وهو متماثلون في البشرية وفي كونكم عرباً، متقاربون في الإمكانات فافعلوا فعله، وهاتوا قرآناً مثل ما جاء به هو- على زعمكم- من عند أنفسكم كما فعل هو فجاء بقرآن من عند نفسه كما تدعون.
ولذلك جاء الرد عليهم في سورة هود: * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) )[هود: 14] وفي سورة يونس الحكم القاطع بذلك: * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ x@ٹإءّےs?ur الْكِتَابِ xw رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) )[يونس: 37].
فلا أحد إلا الله يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن أما البشر فعاجزون لبشريتهم أن يأتوا بمثله، وكفى بها ضعفاً، قال الله تعالى: * الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ xw رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) ) [السجدة: 1-3].
وجوه الإعجاز في القرآن الكريم(1)
__________
(1) ذكر الكثير من الباحثين وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، في كتبهم، ومن ذلك:
"الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" عبدالله بن عبدالعزيز المصلح-" تأصيل الإعجاز العلمي"للشيخ عبدالمجيد الزنداني- و "الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق " لكارم السيد غنيم ـ و"إعجاز القرآن" للسيد محمد الحكيم - و "البيان في إعجاز القرآن" لصلاح عبدالفتاح الخالدي- و " الإعجاز العلمي (وجوهه وأسراره)" لعبدالغني محمد سعد بركة - و"مباحث في إعجاز القرآن" لمصطفى مسلم- و"من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم"لحسن أبو العينين-و"إعجاز القرآن الكريم" لفضل حسن عباس و سناء فضل عباس- و " الإيجاز في آيات الإعجاز" للشيخ أبي اليسر عابدين... إلى غير ذلك من الكتب التي ظهرت في عصرنا هذا.(30/19)
هذا من جهة سبب الإعجاز، ومصدره أما بالنسبة لأوجه الإعجاز فإني قد حاولت أن أستخرجها من كتاب الله تعالى مستقرئاً الآيات التي تحدثت عن القرآن الكريم، وقبل المضي في هذا السبيل سأتحدث عن الوجه المعجز في القرآن الكريم، ولعل أقرب التعاريف لذلك هو:
"كل مزية في القرآن خارجة عن طاقة المخلوقين، أو علمهم وقت نزول القرآن".
وبهذا يدخل كل مزية في القرآن لم تأت في غيره سواء كانت في النظم، أو المعاني البيانية، وكذا ما ورد فيه من القضايا العلمية التي لم يكن للإنسان معرفة بها حين نزول القرآن الكريم، وإن عرفها بعد ذلك.
وإني بالرغم من ذكر الوجه المعجز في القرآن فقد اعتمدت على الآيات القرآنية التي تحدثت عن القرآن العظيم وأخذت منها وجوه الإعجاز، فقد وجدت أن كتاب الله قد أشار إلى جميع الوجوه التي ذكرها الأقدمون والمحدثون، وبكلمات أدق، وأجمع للمعاني، وبخاصة في أوائل السور، وبعض الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الحروف المقطعة إشارة إلى تحدّى العرب بالقرآن، وأنه مؤلف من حروف تتحدثون بمثلها، ورغم ذلك لا تستطيعون أن تأتوا بمثل هذا القرآن نظماً وبياناً، وجمعاً لعلوم شتى، وفنون متنوعة.
هذا ولم تتعد وجوه الإعجاز التي استنبطتها أربعة في الإجمال، وهي:
1-كونه عربياً.
2-أنه حق.
3-أنه هدى.
4-أنه شريف، و شرف حملته(1).
هذا ما رأيته، وسأبين ذلك بالتفصيل، وأذكر ما يدخل في كل وجه من هذه الوجوه من نواحي الإعجاز التي ذكرها العلماء في ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان.
الوجه الأول: كونه عربياً
__________
(1) وهذا الذي استخرجته لا شك أنه جهدي، ومن الممكن أن يأتي غيري من الباحثين، فيصل إلى أكثر أو أفضل مما وصلت إليه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.(30/20)
قال الله تعالى: * الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اثب?[يوسف: 1-2]
وقال- عز من قائل -: * حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) )[فصلت: 1-3].
وقال سبحانه: * حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) )[الزخرف: 1-3].
وقال جل ثناؤه: * وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ) [الشعراء: 192-195].
وقال - جل ذكره -:? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ xw رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) ) [ الشورى: 7].
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي ذكرت إنزال القرآن باللسان العربي، فقد ذكر الله تعالى أن اختيار اللغة العربية، واللسان العربي لينزل به القرآن الكريم هذا القرآن لقوم يعلمون العربية، وطرائقها، وأساليبها، وبلاغتها، وأدبها فيعقلون عن الله تعالى ما أراده بكل لفظٍ، وتركيبٍ، وبيانٍ، ووجهٍ، فيشمل ذلك نظم القرآن، ومتانة نسجه، وقوة أسلوبه، وروعة بيانه، وكون كلمه إنما يقع من نفس القارئ والسامع موضع القبول، وتصادف من قلبه موطن الارتياح والانشراح لكونها جاءت مرتبة الترتيب اللائق بها من جهة المعنى.
فكل هذه الوجوه إنما يعرفها أهل اللسان العربي الذين تعمقوا في فهمه، ورسخت أقدامهم في أرضه، ففهموا ما لم يصل ويفطن إليه غيرهم.(30/21)
وقد سماه الله تعالى أحسن الحديث في قوله سبحانه: * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) )[الزمر: 23] فهو أحسن الحديث من كل ناحية من نواحي البلاغة والبيان والنحو والصرف، والتقديم والتأخير، والسؤال والقسم... لا يصل إلى حسنه كتاب آخر.
وقد أشارت هذه الآية إلى ما في القرآن الكريم من تشابه، وتكرار، فهو آيات تتوارد على قضية واحدة، ولكنها في كل موضع تختلف عن الموضع الآخر في تناولها، وإنما يدرك حسنها أهل الصنعة والعلم والمعرفة والبيان.
وقال تعالى: * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) )[يوسف: 3].(30/22)
والقصة فن من فنون العربية قائم بنفسه، وللقصة في القرآن حديث، بل أحاديث تظهر مدى الإعجاز فيها، فأشارت هذه الآية إلى القصة لينبه الباحثين لها بصورة خاصة(1).
والطرف الثاني الذي تشير إليه الآيات الكريمة في كون القرآن عربي اللسان، ويطلب من أهل اللسان أن يعقلوا ما فيه" المقدرة على استنباط الأحكام" ومعرفة وجه التشريع في كل آية، وفي كل لفظة من كلمات القرآن، وماذا تؤدي هذه الكلمة من معنى"فهو حمال أوجه"، وماذا يفيد هذا المعنى من حكم، ولهذا نرى الفقهاء يختلفون في إعطاء حكم لمسألة واحدة، وأدلتهم فيها من كتاب الله تعالى كل بحسب علمه وفهمه، واستنباطه.
وهذا إنما يخوض فيه أهل أصول الفقه الذين تمرسوا فيه، وعرفوا الدلالات والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والنص، والمقيد، والمجمل والمبيّن... فأعطوا لكلٍ حكمه الذي يفيده النص الذي جاء فيه، وهم وإن اعتمدوا كثيراً على أصول اللغة العربية، وما تفيده من أحكام إلا أنهم أضافوا إليها قواعد خاصة استخرجوها من كتاب الله وسنة نبيه.
الوجه الثاني: أنه حق
__________
(1) وأريد أن أنبه على أن بعض الباحثين زعم أن هناك إعجازاً أطلق عليه اسم الإعجاز الموسيقي، ذكره د. كارم السيد غنيم في كتابه الإشارات العلمية في القرآن الكريم، وأظنه في هذا قد ذهب بعيداً، فإن القرآن الكريم لاشك أنه يتصف بالجرس الصوتي المنسجم في كل سورة من سوره مع المعنى الذي جاءت الآيات لبيانه، ومع اللفظة التي اختيرت لهذا المعنى، وليس المقصود أنه موسيقي جاء بالنغمات الموسيقية، حتى لو حاول بعض الناس الذين ساروا مع وسوسة الشيطان ليخرجوا القرآن عن منهج الهداية، كما أخرج بعضهم كتاب" وجوه الإعجاز الموسيقي في القرآن " [د. محيي الدين رمضان-نشر دار الفرقان -عمان الأردن] فإن هذا مما لا ينسجم مع رسالة الإسلام، ومكانة القرآن.(30/23)
فهو حق لا يأتيه الباطل من أي وجه من الوجوه، فهو حق في أخباره التي يوردها، وهو حق في أحكامه التي يقررها، وهو حق في إحكامه لا يستطيع أحد أن يجد فيه وجهاً من الوجوه بعيداً عن الحق، أو مضطرباً في حكمه، لا شك فيه، ولا ريب في شيء منه، وكل من قرأه، وأمعن النظر فيه، علم أنه حق وصدق.
قال-جل شأنه-: * xxsùr& يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا #ZژچدWx2 (82) )[ النساء: 82 ].
فلما كان من عند الله تعالى كان حقاً ولم يكن فيه أي اختلاف.
وقال ـ عز من قائل ـ: * المص اتب* كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ xxsù يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) )[الأعراف: 1-2]
وقال سبحانه: * فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ xxsù تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) )
[ يونس: 94].
وقال الله تعالى: * المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ xw يُؤْمِنُونَ (1) )[الرعد: 1].
وقال سبحانه: ? بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ازةب?[المؤمنون: 90].
وقال - جلّ ثناؤه - : * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ احتب* لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ xwur مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) )[فصلت: 41-42].
إلى آيات أخر اقتصرت على ما ذكرت للاختصار، كلها تبين أن هذا القرآن حق لا مرية فيه، وسيبقى هذا وصفه إلى أن يرث الله تعالى الأرض وما عليها.(30/24)
ومما يدخل ضمن كونه حقاً أنه لا يستطيع أحد أنْ يُدخل فيه شيئاً مما ليس منه، أو يبدل، أو يغير منه شيئاً، أو ينقص أو يزيد، وقد جاء ذلك صريحاً في كتاب الله تعالى بالنسبة لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيره!
قال تعالى:? xwur بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ احثب* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ احجب* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ اححب* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ احخب* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ احدب* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) )[الحاقة: 44-47] هذا جزاء من يتقول على الله بعض الأقاويل، فينسب إليه ما لم يقل، فما ظنكم أيها الناس بمن ينسب كتاباً كاملاً لله جل في علاه! وليبقى القرآن المعجزة الخالدة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليبقى القرآن حقاً في كل زمان، وكل مكان إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فتبقى هذه المعجزة محفوظة لا يقدر أحد على إجراء أي تغيير، أو تبديل فيها تكفل الله تعالى بحفظها، فقال-عز من قائل-: ?$¯Rخ) نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) )[الحجر: 9].
إننا اليوم بعد أربعة عشر قرناً من نزول القرآن على نبي الله سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لو أخذنا أحدث طبعات هذا القرآن الكريم- في أي مكان من المعمورة- وقارنَّا بينها وبين ما هو محفوظ في مكتبات الدنيا من نسخ القرآن المخطوطة منذ زمن مديد لما وجدنا بينهما أي اختلاف، هذا رغم تعرض البلاد الإسلامية إلى الاحتلال الذي أراد أن يسلب البلاد الإسلامية كل خصائصها، ولو أخطأ أحد من الناس كبيراً أو صغيراً في شكل حرف من حروف هذا القرآن، لرد عليه الحفظة المنتشرون في كل بقاع الدنيا، حتى لو كان طفلاً صغيراً.(30/25)
ومن الحق الذي في كتاب الله تعالى " المغيبات" التي كانت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قصص الأنبياء السابقين التي ذكرت في كتاب الله سبحانه. قال تعالى في أول سورة يوسف: * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) )[يوسف: 3] وجاء في آخر السورة ?ô‰s)s9 كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ x@إءّےs?ur كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) )[يوسف: 111] فأحسن القصص هو أصدقها.
وقال تعالى: * طسم اتب* تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ اثب* نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) ) [القصص: 1-3] وجاء بعد ذكر قصة مريم: * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) ) [ آل عمران: 44].
وجاء بعد قصة موسى- عليه السلام-: * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ !$oYّٹxزs% إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ اححب* وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) )[القصص: 44-45].
وقال تعالى: * تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ xwur قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) ) [هود: 49](30/26)
ومن الحق الذي فيه، ما فيه من الإخبار عما سيقع في مستقبل الأيام من الوقائع، سواء في الحياة الدنيا، أو ما بعدها من حوادث الآخرة، كظهور يأجوج ومأجوج، وإخراج الدابة، ووصول الإنسان في العلم إلى درجة يظن معها أنه قادر على كل شيء في هذه الدنيا، وقيام الساعة بما فيها من الأهوال....
ومن الحق الذي في هذا القرآن ما فيه من الدلالات العلمية الباهرة، قال الله تعالى مشيراً إلى هذا الوجه من الإعجاز:? حم اتب* تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ اثب* إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ اجب* وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ احب* وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اخب* تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) )[الجاثية: 1-6].
فبين أن ميدان الإعجاز الذي ينبغي أن يمضي فيه عقل الإنسان مفكراً ومتدبراً هو هذه الطبيعة المحيطة به من أرض وسماء.. وفي الخلق-خلق الإنسان والحيوان- وفي الليل والنهار، وفي مظاهر الطبيعة من مطر نازل، وأرض تحيا بعد يباس... إلى ما هنالك.
وبعد أن ذكر الله تعالى الذي يكذب بآيات الله تعالى قال:
* هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)(30/27)
* اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اتثب* وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) )[الجاثية: 11-13] وهنا يبين سبحانه أن التسخير آية باهرة من آيات الله تعالى تدل على وجوب الإذعان للخالق العظيم.. ويدخل في ذلك كل القوانين التي تسير عليها الطبيعة، فإنها من صنع الله الذي أتقن كل شيء وهيأه لما فيه خير الإنسان، وصلاحه، فكأن الله تعالى يشير إلينا إلى أن نفكر بما في كتاب الله المنزل إلينا من إشارات علمية في هذه المجالات المختلفة لنذعن ونقر بألوهيته التي تشهد بها كل حقائق الكون، ونقر بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه هذا القرآن العظيم، يقول د. عبدالرحمن حسن حبنكه: "ومن الحقائق الثابتة أن القرآن المجيد حق لا ريب فيه، فلا يمكن أن يختلف مع الواقع في شيء (1)".
ومن الحق الذي في القرآن ما جاء فيه من الوعد والوعيد، والإخبار بحدوثه في مستقبل الزمان قَرُب الزمان أو بَعُد، فكل ما جاء من أخبار فلا بد أن تحدث، لأنه من الله تعالى العليم الخبير. وأورد مثالاً على ذلك قوله تعالى: * الم اتب* غُلِبَتِ الرُّومُ اثب* 'خû أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ احب* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) )[الروم: 1-5].
__________
(1) قواعد التدبر الأمثل/225/(30/28)
قال ابن الجوزي في زاد المسير: ذكر أهل التفسير في سبب نزولها أنه كان بين فارس والروم حرب فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فشق ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك لأن فارس لم يكن لهم كتاب، وكانوا يجحدون البعث، ويعبدون الأصنام، والروم أصحاب كتاب، فقال المشركون لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، فإن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فنزلت هذه الآية، فخرج بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى المشركين، فقالوا: هذا كلام صاحبك! فقال: الله أنزل هذا. فقالوا لأبي بكر: نراهنك على أن الروم لا تغلب فارس، فقال أبو بكر: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فقالوا: الوسط من ذلك ست، فوضعوا الرهان... وفي رواية "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا احتطت، فإن البضع ما بين الثلاث والتسع" فخرج أبو بكر فقال لهم: أزايدكم في الخطر، وأمد في الأجل إلى تسع سنين، فقهرهم أبو بكر، وأخذ رهانهم"(1). فالمشركون راهنوا لأنهم لا يؤمنون أنه من عند الله، وأبو بكر راهن لأنه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه من عند الله تعالى، وأنه حق لا مرية فيه.
الوجه الثالث: "كون القرآن هدى"
__________
(1) زاد المسير 6/ 286-288/(30/29)
فكل ما في القرآن هداية لمن أراد الخير والرشاد، ودلالة على ما يجب اتباعه من سبل الحياة المختلفة، والمضطربة، فكل إرشاده هداية للسبيل الأقوم، ودلالة على الطريق الأسلم، ولذا كان القرآن الكريم معجزاً في هدايته، وتشريعه الذي جاء به في محكم آياته، وفي أخلاقه التي دعا إليها، وحث عليها، ومدحها، ومدح المتخلقين بها، وهو وجه أساسي كبير لأن الهداية هي المطلب الرئيس للإسلام، ولذلك علمنا الله تعالى في أول سورة من القرآن أن نطلب الهداية إلى الصراط المستقيم * 7 8 9 : ) وأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأها ـ ضمن سورة الفاتحة ـ في كل ركعة من ركعات الصلاة، وقد بين الله سبحانه أن المهمة الأساسية لهذا القرآن هي الهداية: * الم اتب* ذَلِكَ الْكِتَابُ xw رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) ) [البقرة: 1-2] وقال تعالى: * الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) ) [إبراهيم: 1].
وقال- عز من قائل -: * طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ اتب* هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) )[النمل: 1-2].
وقال-جل اسمه-: * الم اتب* تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ اثب* هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) )[لقمان: 1-3].
وقال رب العزة والجلال: * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) )[يونس: 57].(30/30)
وقال سبحانه: * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) )[ الزمر: 23].
وهذه الآية بينت أمرين:
- الأول كون القرآن هدى.
- والثاني- وهو أحد أركان الدعوة وسُبُلها- أن يكون الكلام مؤثراً في النفوس حتى تقبله، ويستقر فيها، وتستريح القلوب به، وله.
ولا أريد أن أطيل في ذكر الآيات، فكل آية وُصِف القرآنُ فيها أنه مبشر، أو منذر، أو أنه ذكر، أو ذكرى، أو فرقان، أو حكمة... كل ذلك داخل ضمن الدعوة التي يراد منها الوصول إلى الهدى الذي جاء به القرآن الكريم.
ومما يشمله كونه هدى أن فيه من الآيات البينات التي تخاطب صاحب العقل فيفهم ما فيها، ويخاطب صاحب القلب، فينمو حب الله ورسوله فيه، كل إنسان بلغته التي يصل معها إلى الهداية المنشودة، وكذلك فيه تربية للنفس الإنسانية التي يخاطبها حتى تصبح زكية، مرتقية عن سفاسف هذه الدنيا، وترتقي لتكون راضية مرضية، تتلقى آيات كتاب الله بقلب سليم، وتسعى لإيصال الخير إلى الناس بشتى الوسائل.
ومما يدخل ضمن كونه هدى أنه ميسر للذكر قال الله تعالى: * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) ): [لقمر: 17و22و32و40] أي والله قد يسرنا القرآن للحفظ والتدبر والاتعاظ، أي يقسم الله تعالى على أنه يسر هذا القرآن للذكر، والتدبر، فأين أولئك الذين يقرؤونه ليفقهوا ما فيه من الدروس والعبر، والعظات، والحكم العظيمة التي تدلهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة لِلَّهِ(30/31)
وذلك أنه لما كان هدى لجميع الناس، وكان منزلاً من عند الله تعالى، فلا بد أن يكون ميسراً ليستطيع الناس فهمه، والإفادة منه، فبالرغم من أنه في أعلى درجات البلاغة والبيان، و أكمل الكلام في التفصيل والإجمال، رغم ذلك يقرأه العامي فيشعر أنه يفهمه ويعرف ما فيه، ويقرأه العالم فيغوص في بحاره مستخرجاً الدرر، ويقرأه الأعجمي فيشعر براحة نفسية عجيبة، ويقرأه العربي، فيضاف إلى راحته فهم بعض وجوهه ومعانيه، ويكرره هذا وذاك، فلا يزيدهم التكرار إلا قوة في التمسك به، وثباتاً على الاستمرار في الاستهداء بهديه، والاسترشاد بما فيه من آيات الهدى والرشاد.
ولا شك أن هذا من آيات إعجاز القرآن، فكم من كتاب بديع النظم، أدبي الصورة، لا يستطيع أن يقرأه عوام الناس ممن عرف القراءة، ولم يتعمق في العلم، بل إننا نجد في المجتمعات الإنسانية حتى الذين تعمقوا في دراسة الأدب يمجون تلك الكتب المنمقة، المحسنة التي اختيرت لها الألفاظ، وأتقن في تراكيبها أيما إتقان، أما القرآن الكريم فرغم رفعة شأنه، وعظمة إتقانه، وعلو بيانه، فإنه محبب لكل قارئ، ويراه ميسراً في قراءته، ميسراً في حفظه، ويجد في نفسه الدافع القوي ليفهم كل كلمة فيه، وليستمر في الصلة به.
وهنا أقول: إن كونه هدى يجعل كل ما فيه هدى، فهو هدى بما فيه من عقائد وعبادات، وما فيه من أحكام مختلفة، وكذا ما فيه من الآيات البينات ذات الدلالات العقلية والفكرية، وكذا ما فيه من الدلالات العلمية... كل ذلك هدى لأنها تدل في النهاية على أنه منزل من عند الله تعالى العلي الكبير، فلا منافاة بين وجود الدلالات العلمية المعجزة وبين كونه هدى.
الوجه الرابع: أن القرآن الكريم ذو شَرَفٍ ويُشَرِّفُ مَنْ نُسِب إليه
قال الله -عزوجل-:* "! # $ % )[ص: 1].
وقال الله سبحانه: * ¦ ¨ ھ© " )[الزخرف: 44].
وقال جلت قدرته:* ؟ ہ ء آ أ ؤ إ ) [المؤمنون: 71].(30/32)
لو تصورنا الأمة العربية تسير عبر العصور، وكر الدهور على ما كانت عليه قبل نزول القرآن الكريم، لرأيناها أمة قابعة في زاوية النسيان من تاريخ الإنسانية فضلاً عن مسير الحضارات، منزوية في جزيرتها التي تغطيها الرمال، تعيش عالة على غيرها من الأمم المجاورة، يظهر فيها أهل الذكاء والفطنة والكياسة والفهم، فيذوب ذكاؤهم وتنطفئ فطنتهم، وتضيع كياستهم، ويطيش فهمهم في العصبية الجاهلية، والصراعات القومية، والعقائد الوثنية، دون أن يكون لهؤلاء أثر يُذْكر، اللهم إلا في نصيحة يبديها أحدهم بترك قومه ما هم عليه من الصراع الدامي، ولأم الصدع، وتجميع الكلمة، ودفع دية القتلى، والإصلاح بين الجهات المتناحرة، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه، فلما جاء القرآن العظيم جعل أمة العرب أمة تقود الأمم، وتأخذ بأيديها إلى ما فيه صلاحها في الدنيا والآخرة، وأصبح الرجل الفطن في الأمة العربية رجل العالم يعرفه كل الناس، ويتحدثون عنه، ويتناقلون حديثه عبراً في تاريخ الإنسانية قاطبة، وأصبح مثالاً لما برز فيه من المجالات، كل ذلك لأنه فهم القرآن المجيد، وتأدب بأدبه، وفطن إلى ما فيه من دقائق العلم والمعارف.
ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"(1).
__________
(1) رواه البخاري في المناقب ضمن حديث آخر (3493) 6/525/ وأطرافه (3497و3588و3336و3353و3374و3383و4689) ورواه مسلم في فضائل الصحابة (2526) 4/1846-1847، كما رواه أبو داود وأحمد، والبغوي في شرح السنة، والطيالسي وأبو نعيم، وابن حبان والدارمي، والخطيب في الفقيه، وابن عبدالبر في الجامع.(30/33)
ففهمهم للإسلام وما فيه هو الشرط الذي يجعلهم خيار الناس في هذه الحياة الدنيا، فالقرآن الكريم ذو الشرف والمكانة الرفيعة في هذه الدنيا الذي يعظمه الملايين، ويحسب له أعداء الإسلام حساباً في حربهم للإسلام والمسلمين حتى يمسك أحد ساستهم نسخة من القرآن ويقول: ما دام هذا الكتاب بيد المسلمين فلن تغلبوهم.
فهذا القرآن الذي يعظمه المسلمون في أقصى الأرض وأدناها، بلغ من المجد والرفعة والمكانة العظيمة ما لم يبلغه كتاب آخر في الدنيا، وقد خُدِم هذا الكتاب بكتب لا مثيل لها في الدنيا كلها تفسيراً وبياناً، وتوضيحاً لآياته، وفقه ما فيه من الحكم والأحكام، وبياناً لآدابه، وأخلاقه، ودلالة على مواطن موضوعاته بل حتى عدد حروفه وكلماته وجمله...
كل هذا مما يدل على مكانة القرآن في نفوس المسلمين، بل إننا نجد أن أعداء الإسلام قد ألفوا حول هذا القرآن الكتب الكثيرة دراسة وتمحيصاً، أو نقداً وتهجماً...
والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - شرفه الله تعالى بالقرآن الكريم، فأصبح أشرف خلق الله تعالى، وأعلاهم مكانة، وأرفعهم منزلة، وأسماهم ذكراً وشرفاً ومجداً.
وكذا أصبح قومه العرب رغم ضعفهم في هذه الأعصر، وذلتهم، وهوانهم، فإن أكثر ما يخيف العالم أن يستيقظ هؤلاء العرب، ويتمسكوا بكتاب ربهم، ويقودوا العالم مرة ثانية.
والعرب لهم شرف ورفعة لأن القرآن الكريم عربي، بل امض في التاريخ سائلاً عما ألف في اللغة العربية وآدابها لتجد الجم الغفير، والذي صنف، وألف، وبحث فيها له صلة بكتاب الله العظيم، فصار للعرب بفضل القرآن الكريم الشرف العظيم، والذكر الحسن، والمكانة العالية، والصيت الذائع ما لم يكن لهم ولا لغيرهم من الأمم في التاريخ كله، وكذا للغتهم، وأسلوبهم في التخاطب والحديث.(30/34)
وكذا كل من يحمل هذا القرآن، وينشره، ويذيعه، وكل من يخدمه بنوع خدمة يشرف في المجتمع، ويكرم قدره، ويذيع صيته، ويظهر اسمه، ويرفع شأنه، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال نبيكم- صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع آخرين"(1).
وجوه الإعجاز في السنة النبوية الشريفة
ذكرت فيما سبق وجوه الإعجاز في القرآن العظيم الموحى به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما هي وجوه الإعجاز في السنة النبوية المطهرة ؟
أقول في الجواب: لقد سبق أن ذكرت أن السنة النبوية وحي من عند الله تعالى علمه إياها، وليست أقوالاً من عند محمد بن عبدالله القرشي الهاشمي وصل إليها بسعيه وجده، لذلك لا بُدَّ أن تكون وجوه الإعجاز فيها هي وجوه الإعجاز في القرآن الكريم نفسها، اللهم إلا الطرف الأول من الوجه الأول، أقصد إعجازه اللغوي والصرفي والبلاغي، والبنائي لأن ذلك كان في جانب القرآن لأنه كلام الله أما السنة فاختيار الألفاظ والكلمات من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلذلك كانت بشرية الألفاظ، فلم تكن معجزة من هذا الجانب.
__________
(1) رواه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها(817)وابن ماجه في المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه(218) وأحمد في المسند 1/35،كما رواه عبدالرزاق في المصنف والدارمي وابن حبان والطحاوي والبغوي والبيهقي في الشعب والسنن وأبو عبيد في فضائل القرآن، وسبب رواية عمر رضي الله عنه للحديث أنه لقي عامله على مكة فقال له: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى. قال: ومن ابن أبزى ؟ قال: مولى من موالينا. قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله-عز وجل-وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم قال....(30/35)
وفي مقال للشيخ مصطفى الزرقا-يرحمه الله- ذكر الفرق بين أسلوب القرآن والسنة، فقال: الفرق عظيم جداً بين أسلوب الحديث النبوي، وأسلوب القرآن في طريقة البيان العربي، فبينهما شقة واسعة لا يشبه أحدهما الآخر لدى أهل البصر باللغة وأساليبها، وبالمأثور المألوف من بيانها قديمه وحديثه، وإن هذا التفاوت الكبير في الأسلوبين إذا أنعم الإنسان فيه، وكان ذا ملكة بيانية لا يترك لديه مجالاً للشك والريبة في أن الحديث النبوي، والقرآن صادران عن مصدرين مختلفين.
فالحديث النبوي جاء كله على الأسلوب المعتاد للعرب في التخاطب تتجلى فيه لغة المحادثة، والتفهيم، والتعليم، والخطابة في صورها ومناهجها المألوفة لدى العرب، ويعالج جزئيات القضايا والمسائل، ويجيب عليها، ويحاور ويناقش كما يتخاطب سائر الناس بعضهم مع بعض، ولكن يتميز من الكلام العربي المألوف بأن فيه لغة منتقاة غير نابية وأن فيه إحكاماً في التعبير، وجمعاً للمعاني المقصودة بأوجز طريق، وأقربه دون حشو مما استحق به التسمية بـ "جوامع الكلم"(1) فهو كلام عربي الطراز المعتاد المألوف، ولكنه على درجة عالية من أساليب البلغاء المعهودة.
__________
(1) جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله"بعثت بجوامع الكلم.." رواه البخاري في الجهاد باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نصرت بالرعب مسيرة شهر(2977) 6/149، وأطرافه(6998و7113و7273) ورواه مسلم في المساجد(523)1/371-372،مع اختلاف في اللفظ ورواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه، وأحمد وابن حبان، وأبو عوانة، والبيهقي في الدلائل والسنن، وابن أبي شيبة، والبغوي في شرح السنة، وأبو نعيم في الدلائل، وفي صحيفة همام، وأبو يعلى في المسند، والحميدي في المسند.(30/36)
أما أسلوب القرآن فهو أسلوب مبتكر لا يجد الناظر فيه، والسامع شبيهاً له فيما يعرف من كلام العرب، وأساليبهم يعالج الكليات، ويفرض الأحكام، ويضرب الأمثال، ويوجه المواعظ في عموم لا تشبه العمومات المألوفة، وخطاب فيه من التجريد ما يجعل له طابعاً خاصاً منقطع النظير(1).
ومع ذلك فإننا نرى أن أحاديث كثيرة من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها طابع الإعجاز العربي من حيث قوة الأسلوب، ومتانة التركيب، وبلاغة المعنى المقصود، وغزارة المقصود، ولذلك نرى الإمام ابن حجر يقول: " إن دخول القرآن في قوله" بعثت بجوامع الكلم" لا شك فيه، وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟ ثم ذكر أمثلة من جوامع الكلم في القرآن والسنة، ثم قال:
" إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع. قال: وإنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه"(2).
__________
(1) انظر المقال في مجلة البحوث الإسلامية- المجلد الأول -العدد الأول(1395هـ) ص91-95.
(2) انظر فتح الباري 13/262.(30/37)
أما في الجانب الثاني من الوجه الأول للإعجاز وهو كونه عربياً، فيشترك في ذلك القرآن والسنة، لأننا نستطيع أن نستخرج أحكام الشريعة من السنة كما نستخرجها من كتاب الله تعالى بالفهم الصحيح والاستنباط المبني على الأصول التي استخرجها علماء الأصول، ولهذا وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث على التبليغ عنه، فيقول: ((نضَّر الله امرءاً سمع منا حديثاً، فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع))(1).
__________
(1) جاء هذا الحديث عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: رواه أبو داود في العلم باب فضل نشر العلم (3660)3/322، والترمذي في العلم باب الحث على تبليغ السماع (2794) وقال: حديث حسن 4/142، وابن ماجه في المقدمة باب من بلغ علماً (230)1/84، وأحمد في المسند 5/183، والدارمي في المقدمة باب الاقتداء بالعلماء (230)1/84، كما رواه ابن عبدالبر في الجامع والرامهرمزي، وابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والخطيب البغدادي في الفقيه، وفي شرف أصحاب الحديث وفي الكفاية، والحاكم، وأبو نعيم، وابن أبي عاصم، وابن حبان، والطحاوي، والطبراني، والسخاوي والصدفي. انظر تتمة التخريج: الإعجاز العلمي في السنة النبوية1/160-163.(30/38)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني ولو آية))(1). وقال- صلى الله عليه وسلم -: ((ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع))(2). فكونه - صلى الله عليه وسلم - يبين أنه قد يأتي بعض المُبَلَّغين عنه يكون في الوعي، والإدراك، والفهم، والمقدرة على الاستنباط أكثر ممن يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدلنا على أن حديثه مليء بالحكم والأحكام التي يستطيع أهل العلم استخراجها وبيانها للناس ليعملوا بها، وقد كان ذلك في عصر الفقه والفقهاء الذين لم يبتدئوا بأبي حنيفة، ولم ينتهوا بأحمد بن حنبل - رضي الله عن الجميع - الذين كان لهم باع طويل في أخذ الأحكام من الكتاب والسنة، وما يزال أهل العلم في كل مكان، وكل زمان لهم من هذين الأصلين معين لا ينضب، ومورد يحلو ماؤه للواردين.
__________
(1) الحديث عن ابن عمرو رضي الله عنهما: رواه البخاري في الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل(3461)6/572، والترمذي في العلم باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل (2807-2808) وقال: حسن صحيح4/147، وابن حبان 14/51/ و(6223)8/51، وأحمد في المسند(7006)2/159و214،والدارمي(569) فتح المنان3/332.
(2) رواه البخاري في العلم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "رب مبلغ أوعى من سامع" (671/190، وأطرافه: (105و1741و3197و4406و4662و5550و7078و7447) ورواه مسلم في القسامة (1679)3/1305، كما رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبيهقي في المعرفة، وابن حبان، والدارمي، وابن أبي حاتم، وابن عبدالبر، وانظر تتمة التخريج كتاب الإعجاز العلمي في السنة النبوية1/164.(30/39)
وأما الوجه الثاني من وجوه الإعجاز وهو كونه حقاً، فقد سبق أن ذكرت حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أنه عندما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة كل ما يسمعه منه من الحديث أومأ إلى فمه الشريف وقال: ((اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق)) فهذا يدل على أن كل ما جاء في السنة المطهرة حق لا مرية فيه، سواء كان إشارة إلى حقيقة علمية، أو قصة تاريخية عن نبي من الأنبياء، أو عن أحد من أهل زمانه، أو إثبات نسب، أو إثبات خاصية دوائية في طعام ما أو شراب فإن كل ذلك حق لا يجوز الامتراء فيه، أو الزعم بأنه من أمور الدنيا التي يمكن أن يخطئ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، وقد أوردت في كتابي المذكور بعضاً من الأمور التي وردت في السنة النبوية، وأرجو الله تعالى أن يمكنني أو غيري من استخراج كل الأمور العلمية التي سبق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصره بالإخبار عنها.
__________
(1) وهنا أريد أن أنبه أن من يزعم أن رسول الله في إخباره عن بعض الأمور كان مخبراً عن أمور دنيوية لا علاقة لها بالشرع قد أخطأ خطأً فاحشاً في حق رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ووصفه بوصف لا يجوز أن يتصف به الإنسان العدل فكيف برسول رب العالمين الذي كان خليل رب العالمين! وليعلم هذا القائل بهذا أن الخبر يفيد الصدق والكذب إن كان من غير الشارع، أما من الشارع فالخبر لا يفيد إلا الصدق، سواء أكان ذلك يتعلق بأمور الدنيا أم يتعلق بأمور الآخرة أعاذني الله وإياك من أن نخطئ في حق الله تعالى، أو في حق رسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.(30/40)
وأما الوجه الثالث وهو: كون السنة هدى، فالقرآن قد نص في بيانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي إلى الطريق الحق كقوله تعالى: * الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) ?[إبراهيم: 1] وقال -جل ثناؤه-: * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ xwur الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) )[الشورى: 52-53].
وقال-جل جلاله-:* + , - . / 0 1 2 3 4 5 6 7 8 )[الأحزاب: 45-46].
فالسنة النبوية هداية للأمة في طريق الحياة الذي تحياه، تدلها على أفضل السبل، وتأخذ بأيديها إلى ما فيه خيرها في الدار الدنيا والدار الأخرى، ولذلك من أراد معرفة طرق الدعوة إلى الله تعالى، وإلى دينه وشريعته، فما عليه إلا أن يدرس حياة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، فإنه واجد فيها ما يريد من أصول الترغيب والترهيب، وضرب المثل، وإيراد القصص الهادف، وانتهاز الفرص.... إلى ما هنالك من الأساليب الدعوية الناجعة، والناجحة، والتي أثمرت خير قرن وجد فوق هذه الأرض بتربية هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فقد أرسله الله داعياً إلى الحق قال تعالى:* ز س ش ضص ) [المؤمنون: 73].
وأما الوجه الرابع من وجوه الإعجاز وهو كونه ذا شرف ورفعة:(30/41)
فكذلك السنة النبوية لها شرف، وتورث من اشتغل بها، وقام بخدمتها، وأفاد الناس بما فيها، وطبق أحكامها، ونشر نصوصها بين الناس.. شرفاً ومكانة ورفعة، وقد سبق ذكر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نضر الله امرءاً سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه..)) فهو يدعو لمن بلغ حديثه أن يرزقه الله نضارة في وجهه، فكيف بمن دافع عنها، وطبقها في حياته، وعلمها الناس؟! أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل السنة النبوية الذين تهمهم، ويهمهم أمرها وتصحيحها والسهر على خدمتها، إنه سميع مجيب، هذا وقد ألف حافظ المشرق الخطيب البغدادي-يرحمه الله- كتاباً أسماه"شرف أصحاب الحديث" بين فيه الآثار الواردة في فضل أهل الحديث، كما ألف حافظ المغرب الإمام ابن عبدالبر الأندلسي-يرحمه الله- كتابه"جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله".
ضوابط القول بالإعجاز
لابد للعمل الصحيح أن يكون له ضوابط حتى لا يخرج عن المسار الصحيح الذي يسير فيه، أو الذي يجب أن يسير فيه، وبخاصة إذا كان الأمر متعلقاً بأصول الشريعة الأساسية، وبالأخص الإعجاز الذي نحن بصدده، فإنه حكم على كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما يكتشفه أهل العلوم المختلفة، ولهذا كان من الواجب وضع قيود دقيقة تضبط القول بالإعجاز حتى لا يكون هناك شطط، و لا تعد في القول بالإعجاز، وإليكم ذكر الضوابط التي رأيت أن تكون نصب عيني الباحث عند تناول مسائل الإعجاز في الكتاب والسنة(1)
__________
(1) هذا وقد تناول كثير من أهل العلم هذا الموضوع، وذكروا له ضوابط، ولن أتعرض لمناقشة ذلك لأنها في جملتها لا اعتراض عليها، وإنما قمت بتناولها بأسلوب جديد ينسجم مع تناولي لوجوه الإعجاز المستنبطة أصلا من كتاب الله تعالى، وإني سأذكر بعض الكتب التي تناولت ذكر الضوابط، وهي:
" إعجاز القرآن الكريم" لفضل عباس، وسناء عباس- و "من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم" لحسن أبو العينين - و" من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم" لزغلول النجار- و"مباحث في إعجاز القرآن" لمصطفى مسلم-و "تأصيل الإعجاز العلمي" لعبدالمجيد الزنداني- و"المنظار الهندسي للقرآن الكريم" لخالد فائق العبيدي- و"الإشارات العلمية في القرآن" لكارم السيد غنيم- و " الكون والإعجاز العلمي في القرآن" لمنصور حسب النبي - و"الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (تاريخه وضوابطه)" لعبدالله ابن عبدالعزيز المصلح - و"كيف نتعامل مع القرآن الكريم" ليوسف القرضاوي- و"رحيق العلم والإيمان" لأحمد فؤاد باشا. وغير أولئك كثير...(30/42)
:
الضابط الأول
أرى أن الضابط الأول للإعجاز يسير مع الوجه الأول للإعجاز وهو كونه عربي التركيب، عربي المعاني والبيان، فيجب أن يكون القول بالإعجاز ليس فيه تعسف، أو جناية على النص العربي الوارد، بل يجب إجراء النص الوارد على ما تعرفه الأمة العربية وقت نزول القرآن من المفاهيم والمعاني التي تستخدم لها الكلمة العربية الموجودة في النص من الكتاب، أو السنة، فاللغة هي الضابطة للنص، وليس المفهوم الحادث، أو الفهم الذي يخطر للإنسان خارج نطاق اللغة هو الذي ننزل النص عليه.
الضابط الثاني
يسير أيضاً مع الوجه الثاني للإعجاز وهو كونه حقاً، فلما كان القرآن حقاً، وكانت السنة حقاً [وذلك أننا لا يجوز لنا أن نستند في موضوع الإعجاز إلا على حديث صحيح شهد له علماء بذلك، أما الأحاديث الضعيفة، فلا يجوز لنا أن نحتج بها] فلا بد حين مقارنة ما ورد فيهما من نصوص بأمور العلم لا بد أن تكون حقاً أيضاً، فما دام الأمر العلمي لم يزل بين الإثبات والنفي، فلا يجوز مقارنته مع القرآن بأي وجه من الوجوه لأننا نكون قد قارنا حقاً مع ظن، أو وهم..
ويدخل في هذا ما يجب التنبه له، ألا وهو أن الحقيقة المطلقة هي ما عند الله تعالى، أما ما عند الإنسان فإنما هي حقيقة نسبية، ولذلك لا بد أن يكون النص هو الأصل، والحقيقة العلمية هي الفرع الذي يبنى على ذلك الأصل، وبهذا يتبين لنا أنه إذا جاء النص الواضح في نصوص الشريعة فهو الحق حتى لو خالفته النظريات العلمية، ونحن نعتقد أنه لا يوجد نص شرعي يعارض حقيقة علمية، لأن هذا أمر الله، وهذا خلق الله، فلا يمكن أن يتعارض الأمر مع الخلق.(30/43)
كما يدخل في هذا أيضاً ما يوضع من الضوابط التي تقضي أن المتكلم في الإعجاز ينبغي أن يكون عالماً متثبتاً، وذلك لأن غير العالم لا يعرف الحق من غيره. ويدخل أيضاً في هذه النقطة الإشارة إلى أن القول بالإعجاز يجب أن يتوافر عليه فريق متكامل من أهل العلم بشتى أنواع التخصص حتى يستطيعوا أن يحيطوا بدقائق العلوم التي يحويها النص القرآني، أو النص النبوي.
إضافة إلى هذا يجب أن يراعى في جانب تفسير النص القرآني، أو النبوي أن أفضل ما يبين المعنى فيها هو ما جاء فيها حول الموضوع الذي يبحث فيه، فلذا كان على الباحث أن يجمع كافة النصوص الواردة في الموضوع ذاته ليتبين له المعنى الصحيح منه قدر الإمكان.
ويدخل في هذا اعتبار ما في النص القرآني أو النبوي من الحقيقة أو المجاز، فيفسر حسب ذلك على ظاهره ما لم يكن في النص قرينة على إرادة المجاز، أو في نصوص أخرى بيان للمعنى المراد، ولهذا ذكرت أنه لا بد من جمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الواردة في الموضوع لمعرفة المعنى المراد للشارع.
الضابط الثالث
النظر في سياق الآية وسباقها، فلا يجوز أن نقطع الآية الكريمة عما سبقها، أو عما يأتي بعدها لنبين إعجازاً في جزء منها، اللهم إلا إذا كان بيان الإعجاز في جزء من الآية لا يؤثر في سياق الآية، وسباقها، وذلك مثل قوله تعالى:
* - . )[الحديد: 25] فإن بيان أن الحديد ليس في الأصل من معادن الأرض التي خلقت فيها، لا يؤثر في معنى الآية من قريب أو بعيد.
الضابط الرابع(30/44)
معرفة الحدود التي يجب أن يقف عندها العقل الإنساني أمام الحقائق المطلقة الواردة في النصوص القرآنية والنبوية، فالعقل الإنساني يجب أن يقف عند حدود علمه الذي رزقه الله إياه، ولا يحاول أن يفهم النص بما لا يعلمه، قال الله تعالى:* ة ت ث ج ح خ )[الإسراء: 85 ] فإن فهم النصوص الشرعية المتعلقة بالحقائق الكونية وكل ما اتصل إليه من أبعاد لها فسحة عمر الإنسانية لتصل إلى حقيقتها: * سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) )[فصلت: 53] فليس من واجبنا، و لا يقع على عاتقنا أن نتبين جميع النصوص العلمية الواردة في الوحي المنزل من عند الله تعالى، وإنما علينا أن نبذل قصارى جهدنا، وما آتانا الله تعالى من علم لفهم النص قلنا به متوكلين على الله جل جلاله لبيان هذا الفهم، والله المستعان.
******(30/45)
هذا الذي قررته سابقاً من الأمور النظرية في قضايا الإعجاز إنما كانت أمورا ركزت عليها أثناء كتابتي لإعجاز السنة النبوية، فمثلاً لو اتخذنا النواحي الطبية ابتداء من خلق آدم عليه السلام إلى نهاية الهرم، فإنني كنت أقرر ما جاء في السنة النبوية، ثم آتي بما ثبت عند أهل علم الطب من الحقائق حتى إذا لم أجد شيئاً قررت الحقيقة الثابتة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوت أهل البحث والعلم لدراسة هذا الحديث على ضوء المعطيات العلمية الحديثة، وكنت في كل حديث أورده آتي بجميع الروايات، وأثبتها، وأبين ما فيها حتى يظهر لي الحق في المراد بالنص الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى سبيل المثال حديث "خلق الله آدم على صورته" جئت بالروايات التي جاءت في هذا الموضوع، وبمجموعها تبين أن المقصود هو أن الله خلق آدم على صورة آدم، والمراد بهذا الحديث الرد على أولئك الذين يزعمون أن آدم-عليه السلام- تطور فوق هذه الأرض في صورته حتى أصبح على هذه الصورة التي استقر عليها الآن، والحديث يقرر أن آدم نزل إلى الأرض وهو على صورته التي هو عليها الآن لم يتغير ولم يتطور كما يزعم الماديون أنصار من يقول بنسبة الإنسان إلى القردة - والعياذ بالله تعالى-، وكذا ما جاء عن طول آدم حين خلقه الله تعالى، فقد جاء في السنة النبوية الصحيحة أنه خلق بطول ستين ذراعاً، فقررت ذلك معرضاً عما يقوله علماء الآثار، والأحياء عن طول الإنسان الذي وجدوه، فما وجدوا في هذه الدنيا من عظام وآثار لا يستطيعون أن يقولوا هي لآدم-عليه السلام- ولا لحواء أمنا، وإنما هو ظن لا أثر فيه من الصحة، فما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طول آدم هو الصحيح الذي لا مرية فيه، وعلى من يدعي غير ذلك أن يبحث حتى يصل إلى حقيقة ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.(30/46)
إضافة إلى أني قارنت بين ما ذكروه عن الديناصورات، وأثبت أن هذه الحيوانات بالنسبة لآدم كانت مثل الحيوانات الحالية بالنسبة للإنسان الحالي وطوله، فهم يقولون إن أطول دِيناصور وجد هو (15) متراً بعنقه الطويل، وذيله الأطول، وهذا بالنسبة للإنسان لا يتعدى طول جاموس أو فيل، بل لعله لا يتعدى طول أسد، أو فهد، والله أعلم وأحكم.
هذا وقد سرت في الكتاب كله في موضوعاته كافة على هذه الصورة من إثبات ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً، ثم ذكر ما جاء موافقاً لما ثبت عن رسول الهدى- صلى الله عليه وسلم -، لأنه هو الأصل عندنا إذ لا يمكن للإنسان أن يصل إلى حقائق الكون إلا بإقدار الله تعالى له، أما ما أعطيه الرسول الكريم من العلم، وأظهره لنا فإنما هو من تعليم رب العالمين الخالق البارئ، علماً بأن الكتاب قد حوى من الموضوعات الكبيرة، والصغيرة أحياناً- حسب ما هو وارد- (121) واحداً وعشرين، ومائة موضوع، وأرجو أن أكون بهذا قد سرت على المنهج الذي يرضي الله تعالى، ويرضي رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ويرضي أهل العلم، وأهل الإيمان.
وفق الله السميعُ العليمُ الجميعَ إلى السداد في الأمر كله، كما أسأل الله أن يوفق كل من ساهم لإنجاح هذه الندوة المباركة إن شاء الله-عز وجل-، وأن يكون من ثمارها اليانعة ما فيه خير للأمة في الدنيا، وفي الأخرى.
فهرس المراجع
( 1 ) الإبانة، ابن بطة.
( 2 ) الإشارات العلمية في القرآن الكريم، المستشار مدحت حافظ إبراهيم مكتبة غريب - مصر - 1992م.
( 3 ) الإشارات العلمية في القرآن الكريم(بين الدراسة والتطبيق)، د. كارم السيد غنيم-دار الفكر العربي- القاهرة ط1 (1415هـ/1995م).
( 4 ) إعجاز القرآن، د. السيد محمد الحكيم-مطبعة دار التأليف بالقاهرة ط1/1398هـ.
( 5 ) إعجاز القرآن الكريم، أ.د. فضل حسن عباس وسناء فضل عباس. دار الفرقان ط3/ 1420هـ/1999م.(30/47)
( 6 ) الإعجاز الإلهي في خلق الإنسان وتفنيد نظرية داروين، د. محمد نبيل النشواني- دار القلم-دمشق1422هـ/2001م.
( 7 ) الإعجاز العلمي في السنة النبوية، د. صالح أحمد رضا- نشر مكتبة العبيكان- الرياض-1423هـ.
( 8 ) الإعجاز العلمي في القرآن والسنة(تاريخه وضوابطه)، د. عبدالله بن عبدالعزيز المصلح-هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة- رابطة العالم الإسلامي- مكة المكرمة.
( 9 ) الإعجاز القرآني (وجوهه.. وأسراره)، د. عبدالغني محمد سعد بركة- مكتبة وهبة-القاهرة(1409هـ/1989م.
(10) الإيجاز في آيات الإعجاز، الشيخ محمد أبو اليسر عابدين-ت محمد كريم راجح-دار البشائر-دمشق 1419هـ/1999م.
(11) البحر الزخار في مسند البزار، (292 هـ) تحقيق محفوظ الرحمن زين الله، نشر مؤسسة علوم القرآن، بيروت ومكتبة العلوم والحكم،، المدينة المنورة (1409هـ).
(12) البيان في إعجاز القرآن، د. صلاح عبدالفتاح الخالدي-دار عمار. ط3،1413هـ/2000م.
(13) تاج العروس من جواهر القاموس للفيروزابادي محمد بن يعقوب(817 للزبيدي: محمد مرتضى(1205هـ) -القاهرة/1306-1307هـ.
(14) تقييد العلم، الخطيب البغدادي(463هـ) ت: د.يوسف العش- دار إحياء السنة النبوية-ط ثانية1974م.
(15) ترتيب مسند الشافعي، للسندي: محمد بن عابد (1257)هـ نشر دار الفكر بيروت(1417)هـ.
(16) تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني (852 هـ)- دائرة المعارف العثمانية- حيدر آباد الدكن- طبعة أولى (1327 هـ).
(17) توحيد الخالق، عبدالمجيد عزيز الزنداني- مكتبة المثنى بغداد.
(18) جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ابن عبدالبر يوسف ابن عبدالله النمري القرطبي(463 هـ) - دار الفكر- بيروت.
(19) الجامع لشعب الإيمان، البيهقي: أحمد بن الحسين (458 هـ).
(20) حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني: أحمد بن عبدالله بن أحمد المهراني (430هـ) ط: السعادة (1351 هـ).(30/48)
(21) رحيق العلم والإيمان، د. أحمد فؤاد باشا- دار الفكر العربي1422هـ/2002م.
(22) دلائل النبوة، أبو نعيم: الأصبهاني: أحمد بن عبدالله بن أحمد المهراني (430?).
(23) دلائل النبوة، البيهقي (458 هـ)، المكتبة السلفية (1389هـ)
(24) الرسالة، للشافعي محمد بن إدريس(205 هـ).
(25) زاد المسير، ابن الجوزي: أبو الفرج عبدالرحمن (597هـ) نشر المكتب الإسلامي-بيروت.
(26) السنن، ابن ماجة: محمد بن يزيد (273 هـ) تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، ط: عيسى البابي الحلبي.
(27) السنن، أبو داود: سليمان بن الأشعث (275 هـ)، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد- إحياء التراث العربي.
(28) السنن، الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة (279 هـ) تحقيق أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبدالباقي- دار الفكر.
(29) السنن، الدارقطني: علي بن عمر(385 هـ) - دار الفكر-بيروت.
(30) السنن، الدارمي: أبو محمد عبدالله بن عبدالرحمن (255 هـ) تحقيق مصطفى البنا، وانظر فتح المنان.
(31) السنن الكبرى، البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين ط: دار الفكر- بيروت- لبنان.
(32) السنن الكبرى، للنسائي: أحمد بن شعيب ( 303 هـ) تحقيق عبدالغفار البنداري، وسيد كسروي- نشر دار الكتب العلمية- بيروت، (1411 هـ).
(33) السنن، للنسائي أحمد بن شعيب (303)هـ ط: دار الفكر- بيروت.
(34) السنة، ابن أبي عاصم- تحقيق الألباني- ط: المكتب الإسلامي- بيروت.
(35) السيرة النبوية، محمد بن هشام ط: الكليات الأزهرية، القاهرة.
(36) شرح السنة، البغوي: الحسين بن مسعود (516 هـ) تحقيق الأرناؤوط، ط: المكتب الإسلامي- بيروت.
(37) شرح العقيدة الطحاوية، القاضي ابن أبي العز الحنفي- ت د. عبدالله التركي وشعيب الأرناؤوط.
(38) شرح مشكل الآثار، الطحاوي: أحمد بن حمد بن سلامة (321هـ) ت. شعيب الأرناؤوط ط. مؤسسة الرسالة.(30/49)
(39) شرح معاني الآثار، الطحاوي: أحمد بن حمد بن سلامة(321هـ) تحقيق محمد النجار نشر دار الكتب العلمية- بيروت (1399 هـ).
(40) شرف أصحاب الحديث، الخطيب البغدادي(463هـ) ت. محمد سعيد خطيب أوغلي- دار إحياء السنة النبوية-منشورات جامعة أنقرة.
(41) الشريعة، الآجري.
(42) الصحاح، الجوهري: اسماعيل بن حماد(393 هـ)-ت. أحمد عبدالغفور عطار-ط ثالثة 1402هـ.
(43) صحيح البخاري، انظر فتح الباري.
(44) صحيح ابن حبان، ابن حبان: محمد بن حبان البستي (375هـ) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان الفارسي (739 هـ)، ط: أولى- دار الفكر- بيروت.
(45) صحيح ابن خزيمة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (311 هـ) تحقيق محمد بن مصطفى الأعظمي- المكتب الإسلامي- بيروت.
(46) صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261هـ) عناية محمد فؤاد عبدالباقي.
(47) صحيفة همام بن منبه، همام بن منبه.
(48) الطبقات الكبرى، محمد بن سعد (230هـ) دار إحياء التراث العربي- بيروت.
(49) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني (852هـ) ط: الريان- الأولى.
(50) فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي أبو محمد عبدالرحمن (255هـ)، شرح وتحقيق أبو عاصم نبيل بن هاشم العمري-دار البشائر والمكتبة المكية 1419هـ/1999م.
(51) الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي (463هـ).
(52) قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، د. عبدالرحمن حبنكة الميداني-دار القلم-دمشق-ط1409هـ
(53) القرآن العظيم (هدايته وإعجازه في أقوال المفسرين)، د. محمد الصادق إبراهيم عرجون ط2/دار القلم دمشق-الدار الشامية بيروت-1410هـ/1989م.
(54) كشف الأستار إلى زوائد البزار، الهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر (807هـ) تحقيق عبدالرحمن الأعظمي- مؤسسة الرسالة- بيروت (1399هـ).
(55) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (463هـ) ط: الهند (1357هـ).(30/50)
(56) الكون والإعجاز العلمي في القرآن، د. منصور حسب النبي-دار الفكر العربي/مصر ط3/1413هـ/1996م.
(57) كيف نتعامل مع القرآن الكريم، د. يوسف القرضاوي-سلسلة كتاب الجيب (3) المكتب الإسلامي القاهرة.
(58) لسان العرب، ابن منظور: محمد بن مكرم الإفريقي- ترتيب يوسف الخياط ونديم مرعشلي، ط. دار لسان العرب- بيروت.
(59) مباحث في إعجاز القرآن، د. مصطفى مسلم. ط2دار المسلم-الرياض/1416هـ/1996م.
(60) مجلة البحوث الإسلامية، المجلد الأول-العدد الأول-/1395هـ.
(61) مجموع الفتاوى، ابن تيمية: أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم الحراني (728هـ) جمع عبدالرحمن بن قاسم وابنه-ط الحكومة السعودية.
(62) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي: نور الدين علي بن أبي بكر (708هـ) - ط دار الكتاب العربي بيروت (1402هـ)
(63) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، الرامهرمزي: حسن بن عبدالرحمن (360هـ) ت.د. محمد عجاج الخطيب- دار الفكر-بيروت (1404)هـ.
(64) مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم، د. عماد الدين خليل-مطبعة الزهراء الحديثة-ط2-الموصل العراق 1405هـ/1985م.
(65) المدخل، البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين (458)هـ.
(66) المستدرك على الصحيحين، الحاكم: أبو عبدالله محمد بن عبدالله النيسابوري (405هـ)ط دار المعرفة- بيروت.
(67) المسند، ابن الجعد: أبو الحسن علي بن الجعد الجوهري (230هـ) تحقيق عبدالمهدي عبدالهادي- مكتبة الفلاح- الكويت (1405هـ).
(68) المسند، أبو عوانة: يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (316)هـ. ط: دار المعرفة- بيروت.
(69) المسند، أبو يعلى: أحمد بن علي التميمي (307هـ) حققه حسين سليم أسد، ط: دار المأمون- بيروت (1404هـ).
(70) المسند، أحمد بن حنبل (241هـ) ط: المكتب الإسلامي.
(71) المسند، الحميدي: عبدالله بن الزبير (219هـ) حيدر آباد الدكن- الهند (1321 هـ).(30/51)
(72) مسند الشهاب، القضاعي: (454هـ) تحقيق حمدي عبدالمجيد السلفي ت مؤسسة الرسالة بيروت (1407هـ).
(73) المسند، الطيالسي: سليمان بن الجارود (204هـ) ط: حيدآباد الدكن- الهند (1321هـ).
(74) المسند، عبد بن حميد أبو محمد (249هـ) تحقيق السيد صبحي السامرائي ومحمود الصعيدي- ط: عالم الكتب بيروت (1408هـ).
(75) المصنف، ابن أبي شيبة: عبدالله بن محمد (235هـ) تعليق سيد اللحام- دار الفكر.
(76) المصنف، عبدالرزاق بن همام الصنعاني (211هـ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي- المكتب الإسلامي.
(77) المعجم الكبير، الطبراني: سليمان بن أحمد (360هـ) تحقيق حمدي السلفي.
(78) معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس (395هـ) ت عبدالسلام هارون- دار الكتب العلمية إيران.
(79) معرفة السنن والآثار، البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين(458هـ) ت د. عبدالمعطي قلعجي.
(80) المعرفة والتاريخ، للفسوي: تحقيق د. أكرم ضياء العمري (1401هـ) ط: مؤسسة الرسالة.
(81) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني: حسين بن محمد (502هـ) ت محمد السيد الكيلاني- دار المعرفة بيروت.
(82) مقدمة الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم: أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم التيمي الحنظلي الرازي (327)-دائرة المعارف العثمانية بالهند.
(83) من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، د. زغلول النجار-مكتبة الشروق/1422هـ/2001م.
(84) من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ا.د. حسن أبو العينين- مكتبة العبيكان-الرياض- 1416هـ/1996م.
(85) من علم الطب القرآني (الثوابت العلمية في القرآن الكريم)، د. عدنان الشريف - دار العلم للملايين - بيروت1997م.
(86) المنتقى، ابن الجارود: عبدالله بن علي ( 307هـ) نشر حديث أكاديمي- باكستان، ت عبدالله هاشم (1403 هـ).
(87) المنظار الهندسي للقرآن الكريم، د. مهندس خالد فائق العبيدي-دار المسيرة عمان-1422هـ/2001م.(30/52)
(88) الموطأ، الإمام مالك بن أنس الأصبحي (180هـ) عناية محمد فؤاد عبدالباقي.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
خطة البحث…2
الإعجاز لغة واصطلاحاً…3
معجزة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -…7
سر الإعجاز في القرآن الكريم…16
وجوه الإعجاز في القرآن الكريم…19
الوجه الأول: كونه عربياً…21
الوجه الثاني: أنه حق…24
الوجه الثالث: "كون القرآن هدى"…30
الوجه الرابع: أن القرآن الكريم ذو شَرَفٍ ويُشَرِّفُ مَنْ نُسِب إليه…34
وجوه الإعجاز في السنة النبوية الشريفة…37
ضوابط القول بالإعجاز…43
الضابط الأول…43
الضابط الثاني…44
الضابط الثالث…45
الضابط الرابع…46
فهرس المراجع…49
فهرس الموضوعات…57(30/53)
تَرجمَاَتُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
الصادرة في
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
بالمدينة المنورة
حتَّى نهاية عام 1423ه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنفاذاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله بالعناية بكتاب الله بشتى الوسائل ومنها ترجمة معانيه إلى مختلف لغات العالم.
وإيماناً من وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية بأهمية ترجمة معاني القرآن الكريم إلى جميع لغات العالم المهمة تسهيلاً لفهمه على المسلمين الناطقين بغير العربية، قام مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة حتَّى نهاية عام 1423 هبنشر ترجمات معاني القرآن الكريم إلى 44 لغة:
منها 23 لغة آسيوية.
وعشر لغات أوربية.
وإحدى عشرة لغة إفريقية.
والعمل جارٍ على إعداد ترجمات إلى لغات أخرى.
وفيما يلي معلومات مهمة عن هذه الترجمات:
تمتاز هذه الترجمات بكونها على مذهب السلف الصالح.
روجعت كل من هذه الترجمات مراجعة علمية دقيقة من قبل الناطقين بهذه اللغة ممن لهم معرفة باللغة العربية والعلوم الشرعية من ذوي العقيدة السليمة.
أربعون من هذه الترجمات ترجمات كاملة لمعاني القرآن الكريم، وثلاث منها لمعاني جزء عم مع سورة الفاتحة، وواحدة منها لمعاني جزء عم وآيات مختارة.
وقد أفردت ترجمة معاني جزء عم مع سورة الفاتحة من بعض الترجمات الكاملة.
جميع الترجمات - ما عدا ثلاثاً - موافقة لقراءة حفص. أما الترجمات الإسبانية، والأمازيغية، والفلانية فتوافق قراءة ورش، والعمل جار على نشر طبعة أخرى للترجمة الإسبانية توافق قراءة حفص.
جميع الترجمات يصحبها النص القرآني غير أن بعضها لها طبعة أخرى مجردة من النص القرآني، وذلك لتوزيعها على غير المسلمين.(31/1)
جميع الترجمات صادرة بالحجم الكبير(1)، وبعضها لها إصدار آخر بحجم الجيب(2).
الترجمات الأورومية، والأمهرية، والجاخنكية المندنكية ترجمات صوتية، وليس لها إصدارات ورقية.
هذا، والعمل جار الآن على تسجيل ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم من كل الترجمات الصادرة في المجمع على الشريط الممغنط، وعلى القرص الحاسوبي، وقد تم فعلاً تسجيل ذلك باللغات الآتية: الأردية، والألبانية، والإندونيسية، والإنكليزية، والروسية، والفرنسية، والفيتنامية، والمقدونية، والمليبارية، واليوربا، واليونانية.
وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله، ووليّ عهده الأمين سمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، والنائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز حفظه الله أحسن الجزاء على اهتمامهم بنشر كتاب الله، وترجمة معانيه في مشارق الأرض ومغاربها.
وفقنا الله تعالى جميعاً لخدمة كتابه الكريم، وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.
أ.د. محمد سالم بن شديِّد العوفي
الأمين العام لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
بالمدينة المنورة
الترجمات الصادرة في المجمع
قام مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة حتَّى نهاية عام 1423 هبنشر ترجمات معاني القرآن الكريم إلى 44 لغة:
منها 23 لغة آسيوية.
وعشر لغات أوربية.
وإحدى عشرة لغة إفريقية.
وفيما يلي تفصيل ذلك:
(1) اللغات الآسيوية
وفيما يلي الترجمات الصادرة في المجمع إلى اللغات الآسيوية:
1) الأردية (Urdu): ترجمة الشيخ محمد الجوناكرهي، وتفسير الشيخ صلاح الدين يوسف.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجمين العادي والصغير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
الطبعات مع عدد النسخ المطبوعة:
__________
(1) - معظم الترجمات بمقاس 14 × 21 سم، وبعضها بمقاس 16× 23 سم.
(2) 2- مقاس الجيب 5ر8 × 5ر12 سم.(31/2)
الحجم الكبير(1):
1417 ه= 000ر140 نسخة.
1418 ه= 306ر56 نسخة.
1419 ه= 000 ر450 نسخة.
1420 ه= 000ر150 نسخة.
1421 ه= 000ر250 نسخة.
الحجم الصغير:
1417 ه= 000ر40 نسخة.
1418 ه= 613ر112 نسخة.
ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم:
1420 ه= 000ر100 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: باكستان، والهند، وبنغلاديش، والبلاد المجاورة، وتعيش في كثير من البلاد جالية ناطقة بها.
عدد الناطقين: بها: 300 مليون.
2) الإندونيسية (Indonesian): ترجمة وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
الطبعات مع عدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة:
1411 ه= 000ر418 نسخة.
1412 ه= 200ر556 نسخة.
1413 ه = 000ر200 نسخة.
1415ه= 667ر458 نسخة.
1418ه = 000ر300 نسخة.
1419ه= 000ر250 نسخة.
1420ه= 000ر400 نسخة.
1421ه= 000ر400 نسخة.
1422 ه = 000ر396 نسخة.
جزء عمّ: 1420ه= 000ر100 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: إندونيسيا، وماليزيا، وبروناي، والبلاد المجاورة، وتسمى في ماليزيا وبروناي لغة الملايو.
عدد الناطقين بها: 153 مليون.
3) الإيرانونية (Iranonian): ترجمة الشيخ عبدالعزيز غرو عالم سارو منتانج.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1421 ه = 000ر25 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: جزيرة مندناو في الفلبين.
عدد الناطقين بها: قرابة مليون نسمة.
4) الأويغورية (Uighur): ترجمة الشيخ محمد صالح.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413 ه= 000ر500 نسخة.
__________
(1) - سبق أن نشرت ترجمة الشيخ محمود الحسن الديوبندي مع تفسير شبير أحمد العثماني، وفيما يلي بيان بطبعاتها :
1408، 1409، 1410ه = 000ر515 نسخة.
1414 ه= 000ر500 نسخة.(31/3)
1415 ه= 667ر290 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: مقاطعة سينكيانغ في الصين، ودول تركستان الشرقية المجاورة لها. تكتب الأويغورية بالحرف العربي المعدَّل.
عدد الناطقين بها: قرابة سبعة ملايين.
5) البراهوئية (Brahui): ترجمة الشيخ عبدالكريم مراد.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413 ه= 700ر583 نسخة.
1415 ه= 700ر583 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: إقليم بلوشستان في باكستان.
عدد الناطقين بها: قرابة مليون نسمة.
6) البشتو (Pashto): ترجمة فريق من العلماء.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير في مجلدين.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1414 ه = 000ر630 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: أفغانستان، وشمال باكستان.
عدد الناطقين بها: قرابة 19 مليوناً.
7) البنغالية (Bengali): ترجمة الشيخ محيي الدين خان.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم العادي.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413 ه= 000ر1000 نسخة.
1415 ه= 191ر53 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: بنغلاديش، ولاية البنغال بالهند.
عدد الناطقين بها: 193 م.
8) البورمية (Burmese): ترجمة فريق من العلماء.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير في مجلدين.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1419 ه= 000ر50 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: مينمار (بورما سابقاً).
عدد الناطقين بها: 50 م.
9) التاميلية (Tamil): ترجمة الشيخ عبدالحميد الباقوي.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1414 ه= 000ر490 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: ولاية تاملنادو بالهند، شمال سريلنكا، ماليزيا، سنغافورة.
عدد الناطقين بها: قرابة 60 م.
10) التايلندية (Thai): ترجمة جمعية خريجي الجامعات والمعاهد العربية بتايلند.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1419 ه= 000ر50 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: تايلند، الصين، لاوس، فيتنام.(31/4)
عدد الناطقين بها: أكثر من 50 م.
11) التركية (Turkish): ترجمة الدكتور علي أوزاك وآخرين.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1405، 1406، 1407 ه= 500ر662 نسخة.
1408، 1409، 1410 ه= 900ر42نسخة.
1413 ه= 000ر1000نسخة.
1422 ه= 000ر30 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: تركيا، شمال قبرص، بلغاريا.
عدد الناطقين بها: قرابة 65 مليون.
12) التغالوغ (Tagalog): ترجمة الشيخ أبي الخير تراسون وآخرين.
الإصدار: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1420 ه= 000ر50 نسخة.
1422 ه= 000ر50 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: الفلبين، وهي اللغة الرسمية.
عدد الناطقين بها: 50 م.
13) الروسية (Russian): ترجمة الدكتور إلمير كولييف.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم العادي (تحت الطبع)؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم:
1422 ه= 000ر50 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: روسيا، ودول الاتحاد السوفيتي سابقاً.
عدد الناطقين بها: 270 م.
14) السندية (Sindhi): ترجمة الشيخ تاج محمود الأمروتي.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1423 ه= 000ر20 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: إقليم السند في باكستان، وفي الهند جالية سندية كبيرة.
عدد الناطقين بها: 10 م.
15) الصينية (Chinese): ترجمة الشيخ محمد مكين.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم؛ وترجمة معاني جزء تبارك؛ ويجري العمل على إصدار طبعة مجردة من النص القرآني.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة:
1405، 1406، 1407 ه= 000ر500 نسخة.
1408، 1409، 1410ه= 000ر11نسخة.
1422 ه= 000ر50 نسخة.
جزء عمّ: 1411 ه= 000ر100 نسخة.
جزء تبارك: 1411 ه= 000ر100 نسخة.(31/5)
مناطق التحدث بهذه اللغة: الصين، تايوان، والدول المجاورة لهما. وفي الولايات المتحدة الأمريكية جالية صينية كبيرة.
عدد الناطقين بها: أكثر من 1000 م.
16) العبرية (Hebrew): ترجمة لجنة من العلماء.
الإصدار: ترجمة كاملة تحت الإعداد.
مناطق التحدث بهذه اللغة: إسرائيل؛ وفي الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا جالية ناطقة بها.
عدد الناطقين بها: قرابة ثلاثة ملايين.
17) الفارسية (Persian): ترجمة الشاه وليّ الله الدهلوي.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجمين الكبير والصغير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الحجم العادي:
1417 ه= 000ر100 نسخة.
1422 ه= 000ر25 نسخة.
الحجم الصغير:
1417 ه = 000ر40 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: إيران، أفغانستان، طاجكستان، والمناطق المجاورة.
عدد الناطقين بها: قرابة 75 م.
18) الفيتنامية (Vietnamese): ترجمة الشيخ حسن عبدالكريم.
الإصدار: ترجمة كاملة تحت الطبع.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: فيتنام، كمبوديا، لاوس؛ وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي دول أخرى جاليات فيتنامية.
عدد الناطقين بها: 60 م.
19) القازاقية (Khazaki): ترجمة الشيخ خليفة آلطاي.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1411 ه= 000ر220نسخة.
1412 ه= 000ر384 نسخة.
1413 ه= 000ر384 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: قازاقستان، الصين، منغوليا.
عدد الناطقين بها: قرابة 12 م.
20) الكشميرية (Kashmiri): ترجمة الشيخ مير واعظ محمد يوسف شاه.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1418 ه= 000ر25 نسخة.
1421 ه= 000ر35 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: ولاية كشمير في الهند وباكستان.
عدد الناطقين بها: قرابة 5 م.
21) الكورية (Korean): ترجمة الدكتور حامد تشوي.(31/6)
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجمين الكبير والصغير؛ يجري العمل على إصدار طبعة مجردة من النص القرآني بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الحجم العادي:
1417 ه= 000ر50 نسخة.
1422 ه= 000ر20 نسخة.
الحجم الصغير:
1417 ه= 000ر40 نسخة.
إصدار بدون النص القرآني تحت الطبع.
مناطق التحدث بهذه اللغة: الكوريتان، اليابان، الصين.
عدد الناطقين بها: قرابة 60 م.
22) المليبارية [الملايالم] (Malayalam): ترجمة الشيخين عبدالحميد حيدر المدني، وكنهي محمد بربور المدني.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمّ.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة:
1417 ه= 000ر50 نسخة.
1420 ه= 000ر50 نسخة.
1421 ه= 000ر110 نسخة.
ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم:
1420 ه= 000ر50 نسخة.
1421 ه= 000ر50 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: ولاية كيرالا في الهند، وفي دول الخليج، ودول أخرى جاليات ناطقة بهذه اللغة.
عدد الناطقين بها: أكثر من 25 م.
23) المندرية (Mandar): ترجمة الشيخ محمد إدهم خالد بوضي.
الإصدار: ترجمة كاملة تحت الطبع.
مناطق التحدث بهذه اللغة: جزيرة سلويسي في إندونيسيا.
عدد الناطقين بها: قرابة مليون.
(2) اللغات الأوربية
وفيما يلي الترجمات الصادرة في المجمع إلى اللغات الأوربية:
1) الإسبانية (Spanish): ترجمة الشيخ عبدالغني ميلارا نابيو.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجمين الكبير والصغير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمّ؛ الترجمة في الإصدار الحالي موافقة لرواية ورش، ويجري العمل الآن على إصدار ترجمة مطابقة لرواية حفص عن عاصم.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة بالحجم الكبير:
1417 ه= 000ر100 نسخة.
1418 ه= 459ر68 نسخة.
الحجم الصغير:
1417 ه= 000ر70 نسخة.
1418 ه= 918ر136نسخة.
جزء عم:
1417 ه= 000ر100 نسخة.(31/7)
مناطق التحدث بهذه اللغة: إسبانيا، دول أمريكا اللاتينية (ما عدا البرازيل، وبليز، وغيانا البريطانية، وغيانا الفرنسية، وسورينام)، الولايات المتحدة الأمريكية، كوبا، جزر كناري.
عدد الناطقين بها: 371 م.
2) الألبانية (Albanian): ترجمة الشيخ شريف أحمد.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413 ه= 000ر500 نسخة.
1414 ه= 000ر500 نسخة.
1415 ه= 000ر408 نسخة.
تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: ألبانيا، كوسوفا، مقدونيا، الجبل الأسود.
عدد الناطقين بها: قرابة 4 مليون.
3) الألمانية (German): ترجمة الشيخ عبدالله الصامت (فرانك بوبنهايم) والدكتور نديم إلياس.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير؛ ويجري الآن العمل على إصدار طبعة مجردة من النص القرآني؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمّ مع النص القرآني.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة:
1422 ه= 000ر30 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: ألمانيا، النمسا، سويسرا، ليشتنشتاين، ناميبيا.
عدد الناطقين بها: أكثر من 100 م.
4) الإنكليزية (English): ترجمة الدكتور تقي الدين الهلالي، والدكتور محمد محسن خان.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجمين الكبير والصغير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمّ؛ وطبعة مجرَّدة من النص القرآني بالحجمين العادي والصغير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة مع النص القرآني بالحجم الكبير(1):
1417 ه= 000ر180 نسخة.
1418 ه= 313ر76 نسخة.
1419 ه= 000ر450 نسخة.
1420 ه= 000ر250 نسخة.
الترجمة الكاملة مع النص القرآني بالحجم الصغير:
1417 ه= 000ر90 نسخة.
1418 ه= 629ر152 نسخة.
1419 ه= 000ر70 نسخة.
__________
(1) - سبق أن نشرت ترجمة عبدالله يوسف علي، وفيما يلي بيان بطبعاتها :
1408، 1409، 1410 ه= 000ر500 نسخة.
ه= 000ر276 نسخة.
1414 ه= 000ر500 نسخة.(31/8)
الترجمة الكاملة بدون النص القرآني بالحجم الكبير:
1420 ه= 000ر50 نسخة.
الترجمة الكاملة بدون النص القرآني بالحجم الصغير:
ه= 000ر30 نسخة.
1421 ه= 000ر25 نسخة.
ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
ه= 000ر150 نسخة.
ه= 000ر200 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: بريطانيا، أمريكا الشمالية، أستراليا، نيوزيلندا، ودول أخرى كثيرة.
عدد الناطقين بها: 463 مليون.
5) البرتغالية (Portuguese): ترجمة الدكتور حلمي نصر.
الإصدار: ترجمة كاملة تحت الطبع.
مناطق التحدث بهذه اللغة: البرتغال، البرازيل، موزمبيق، أنغولا، غينيا بيساو، سان توم، الرأس الأخضر (إفريقيا)، جوا (الهند)، ملاقا (ماليزيا)، مكاو (الصين)، تيمور الشرقية، أزورس، مديرة (المحيط الأطلسي).
عدد الناطقين بها: 160 مليون.
6) البوسنية (Serbo-Croatian): ترجمة الشيخ بسيم كوركوت.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم العادي.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413 ه= 000ر1020 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: البوسنة والهرسك، صربيا، كرواتيا. تسمّى هذه اللغة الصربية الكرواتية كذلك.
عدد الناطقين بها: 17 مليون.
7) السويدية (Swedish): ترجمة عبدالحليم يوسف.
الإصدار: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمّ (تحت الطبع).
مناطق التحدث بهذه اللغة: السويد، فنلندة؛ كما يتحدث بها جاليات في الولايات المتحدة الأمريكية.
عدد الناطقين بها: 9 مليون.
8) الغجرية (Romany): ترجمة الشيخ محرم سربيزوفيتش.
الإصدار: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمَّ.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1422 ه= 000ر20 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: أوربا الشرقية.
عدد الناطقين بها: قرابة مليون.
9) الفرنسية (French): ترجمة الدكتور محمد حميد الله.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمَّ؛ وترجمة كاملة مجردة من النص القرآني.(31/9)
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة مع النص القرآني:
1408، 1409، 1410 ه= 000ر1000 نسخة.
1411 ه= 000ر4 نسخة.
1415 ه= 500ر187 نسخة.
1420ه= 000ر100 نسخة.
1421 ه= 000ر92 نسخة.
1422 ه= 000ر40 نسخة.
الترجمة الكاملة بدون النص القرآني:
ه= 000ر20 نسخة.
ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم:
1419ه= 000ر50 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: فرنسا، وولاية كيوبيك في كندا، وبلجيكا، وسويسرا، ولوكسمبورغ، وإمارة موناكو، ودول كثيرة في إفريقيا.
عدد الناطقين بها: أكثر من 65 مليون.
10) المقدونية (Macedonian): ترجمة الشيخ حسن جيلو.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
ه= 000ر30 نسخة.
1422 ه= 000ر10 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: مقدونيا، وبلغاريا، واليونان، وألبانيا.
عدد الناطقين بها: قرابة 3 م.
11) اليونانية (Greek): ترجمة مجموعة من علماء الأزهر.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1418 ه= 000ر30 نسخة.
1421 ه= 000ر15 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: اليونان، وقبرص، وتركيا، ومناطق أخرى مجاورة.
عدد الناطقين بها: قرابة 12 مليون.
(3) اللغات الإفريقية
وفيما يلي الترجمات الصادرة في المجمع إلى اللغات الإفريقية:
1) الأمازيغية (Tamashek): ترجمة لجنة من العلماء.
الإصدار: ترجمة معاني الأجزاء الثلاثة الأخيرة تحت الطبع، وسيتم استكمال ترجمة معاني بقية الأجزاء تباعاً، وستصدر بالحرف العربي.
مناطق التحدث بهذه اللغة: الجزائر، المغرب.
عدد الناطقين بها: قرابة مليونين.
2) الأمهرية (Amharic): ترجمة الشيخ عبدالصمد إمام أحمد مصطفى.
الإصدار: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم (ترجمة صوتية).
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1424هـ = 4000 نسخة.(31/10)
مناطق التحدث بهذه اللغة: إثيوبيا (اللغة الرسمية).
عدد الناطقين بها: 13 مليون.
3) الأنكو (Nko): ترجمة الشيخ فودي سليمان كانتي.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1419ه= 000ر50 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: لغة رئيسة في مالي، غينيا، غينيا بيساو، غامبيا، السنغال، ليبيريا، سيراليون، ساحل العاج؛ ولغة ثانوية في بقية دول غرب إفريقيا.
عدد الناطقين بها: قرابة 11 مليون.
4) الأورومية (Oromo): ترجمة الشيخ محمد رشاد عبدالله الهرري.
الإصدار: ترجمة صوتية كاملة لمعاني القرآن الكريم.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413هـ = 000ر18 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: إثيوبيا، كينيا.
عدد الناطقين بها: قرابة 15 مليون.
5) الجاخنكية المندينكية (Malinka): ترجمة كيمادو جساما.
الإصدار: ترجمة صوتية كاملة، وهي في طور الإنتاج.
مناطق التحدث بهذه اللغة: بلاد غرب إفريقيا.
عدد الناطقين بها: قرابة 3 مليون.
6) الزولو (Zulu): ترجمة الشيخ عمر موليليكي.
الإصدار: ترجمة معاني سورة الفاتحة وآيات مختارة من بعض السور.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1419 ه= 000ر10 نسخة.
= 1419 (000ر10 نسخة).
مناطق التحدث بهذه اللغة: جنوب إفريقيا.
عدد الناطقين بها: قرابة 6 مليون.
7) الشيشيوا (Chewa): ترجمة الشيخ إبراهيم بتالا.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1422 ه= 000ر20 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: ملاوي والبلاد المجاورة كجنوب إفريقيا، وموزمبيق.
عدد الناطقين بها: قرابة 5 ملايين.
8) الصومالية (Somali): ترجمة الشيخ محمود محمد عبده.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1413 ه= 500 ر637 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: الصومال، جيبوتي، كينيا، إثيوبيا.
عدد الناطقين بها: قرابة 6 مليون.(31/11)
9) الفلانية (Fulani): ترجمة الشيخ عبدالقدوس جالو بالحرف العربي؛ وأخرى بالحرف اللاتيني للشيخ ديكو حمدون أحمد وآخرين.
الإصدار: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم (تحت الطبع).
مناطق التحدث بهذه اللغة: غرب إفريقيا بين السنغال وبحيرة تشاد.
عدد الناطقين بها: قرابة 15 مليون.
10) الهوسا (Hausa): ترجمة الشيخ أبي بكر محمود جومي.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجمين الكبير والصغير؛ وترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عمّ؛ وترجمة كاملة مجردة من النص القرآني.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
الترجمة الكاملة مع النص القرآني الحجم الكبير: 1405، 1406، 1407 ه= 000ر300 نسخة.
1408، 1409، 1410 ه= 000ر519 نسخة.
1411 ه= 000ر14 نسخة.
1414 ه= 000ر200 نسخة.
1415 ه= 143ر357 نسخة.
1417 ه= 000ر50 نسخة.
الترجمة الكاملة مع النص القرآني الحجم الصغير: 1417 ه= 000ر40 نسخة.
الترجمة الكاملة بدون النص القرآني الحجم الكبير: 1422 ه= 000ر20 نسخة.
جزء عم: 1420 ه= 000ر100 نسخة.
مناطق التحدث بهذه اللغة: نيجيريا، نيجر، والبلاد المجاورة.
عدد الناطقين بها: قرابة 40 م.
11) اليوربا (Yoruba): ترجمة لجنة من العلماء.
الإصدار: ترجمة كاملة بالحجم الكبير.
الطبعات وعدد النسخ المطبوعة:
1418ه = 000ر25 نسخة.
1421ه= 000ر20 نسخة.
لها تسجيل صوتي لترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
مناطق التحدث بهذه اللغة: نيجيريا، بنين، توجو.
عدد الناطقين بها: قرابة 20 مليون.
(4) الترجمات الجارية دراستها
تجري الآن دراسة ترجمات لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الآتية:
الأوارية (من لغات داغستان): ترجمة كاملة.
البولندية: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
التلغو: (من اللغات الهندية، وهي إحدى اللغات الدرافيدية، واللغة الرسمية لولاية آندهرا برديش): ترجمة كاملة.
الجيورجية: (لغة جيورجيا في االقوقاز): سورة الفاتحة وجزء عم.(31/12)
الدنمركية: ترجمة معاني سورة الفاتحة وجزء عم.
الشيشانية: الترجمة الكاملة.
الكمبودية: ترجمة كاملة.
المجرية: الترجمة الكاملة.
الهندية: (لغة الهند الرسمية): الترجمة الكاملة.
فهرس المحتويات
المقدمة…1
الترجمات الصادرة في المجمع…4
(1) اللغات الأسيوية…4
(2) اللغات الأوربية…15
(3) اللغات الإفريقية…22
(4) الترجمات الجارية دراستها…26
فهرس المحتويات…27(31/13)
السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية
دراسة تحليلية لما كُتب تحت مادة "محمد: النبي ورسالته"
د. وليد بن بليهش العمري
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الذي بعث رسوله للناس كافة بالحق وإمام مبين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين محمد المأمور بأن يصدع بالقول ? ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ([يونس:104]، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، أما بعد.
فآخر ما كان يدور في خلدي أن تجد طعونات المستشرقين طريقها إلى موسوعة عُرف عنها أن أول سماتها العلم والمعرفة، وهي الموسوعة البريطانية ذات الصيت والشهرة؛ لتميلها ميلاً عظيماً عن خط الرصانة العلمية الذي رسمته لنفسها منذ أول صدورها، وعندما عكفت على قراءة ما كتب فيها تحت موضوع "الإسلام" هالني ما ساد الموضوع من انحراف عن المنهج العلمي السليم، والتحامل المغرض والرغبة الجارفة في المساس بكل ما يعده المسلمون مقدساً.
ولا عجب في هذا الاستغراب، فالموسوعة البريطانية هي أكثر الموسوعات العالمية العامة شعبية وأوفرها سمعة من حيث الدقة ولاسيما أنها تختار كتابها من أشهر المتخصصين ذوي الرأي والكلمة المسموعة، ويشتهر عنها اعتمادها لغة تربط مادتها باهتمامات القارئ الغربي ومنظومته المعرفية، وتحلل الحقائق من منظور عقلي موضوعي يميل إليه الفكر العلمي التحليلي.
ويرى بعض المستشرقين أن هذه هي منهجية العلم المتبعة في الأوساط العلمية الغربية، ويقول رودي بارت بهذا الصدد إن المستشرقين:"يطبقون على الإسلام وتاريخه وعلى المؤلفات التي يشتغلون بها المعيار النقدي، الذي يطبقونه على تاريخ الفكر عندهم"(1).
__________
(1) رودي بارت، الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الألمانية، ص 10.(32/1)
ورغم هذا تبدى لي جلياً أن الهدف الأول الذي تسعى إليه الموسوعة في مادة "محمد: النبي ورسالته"، التي أدرسها في هذا البحث، هو حشد كل ما يمكن من شبهات وافتراءات وسوقها في خطوط فكرية عامة يلتفت إليها القارئ الذي قد يأخذ بما فيها باسم العلم والمعرفة؛ ليعملوا بذلك -سواء عمدا أو عن غير عمد - على إدامة غرض الاستشراق الأول وهو صد الناس عن الإسلام(1)؛ لينكصوا على أعقابهم خاسرين.
ومن هنا جاءت فكرة هذا البحث، لكشف ستار هذه الطعونات وإبانتها على حقيقتها بعون الله، وتبيين ما فيها من انحراف عن الموضوعية والرصانة العلمية، وتنبيه القارئ عليها.
وأبدأ هذا البحث بخلفية عن الموسوعة البريطانية أعرض فيها باختصار تاريخ الموسوعة وبعض الأرقام؛ ثم أمضي في استعراض السياسة التحريرية للموسوعة التي أقصد من هذا البحث بيان فشلها في تحقيق الحياد والموضوعية عندما يخص الأمر الإسلام، وإن كانت الموسوعة تؤكد على هذا المنهج. بعد ذلك نأتي إلى المادة قيد البحث وهي مادة "محمد: النبي ورسالته"؛ لأكشف ميل الموسوعة إلى الأخذ بآراء كبار رواد الفكر الاستشراقي المعاصر حول تاريخ الرسالة المحمدية، وهي آراء نعلم أنها مليئة بالأباطيل.
أولاً: الموسوعة البريطانية: تاريخ وأرقام
__________
(1) عبدالعظيم الديب، "المنهج عند المستشرقين"، ص 338 – 339.(32/2)
صدرت الموسوعة البريطانية أول ما صدرت عام 1768م، عندما أخرج ثلاثة ناشرين أسكتلنديين كتاباً معرفياً شاملاً وأسموه Encyclopedia Britannica أو الموسوعة البريطانية؛ ليكون بذلك أول الموسوعات باللغة الإنجليزية المستمرة حتى اليوم، ومنذ ذلك الوقت خرج منها خمس عشرة طبعة، وتعدّ الموسوعة البريطانية أكبر الموسوعات المكتوبة بالإنجليزية وأوفرها شهرة، إذ تنتشر في الوقت الراهن(1) في القارات كافة وهي أشملها وأفضلها توثيقاً للمعلومة؛ إذ حرصت منذ بدايتها الأولى على جذب أشهر العلماء، وكتب فيها عدد ممن حصلوا على جائزة نوبل بفروعها المختلفة.
وكانت قد طبعت لأول مرة في إدنبرة بأسكتلندا في ثلاثة أجزاء تتألف من 2659صفحة، صدرت كاملة عام 1771م، ثم طبعت بعد ذلك خمس عشرة طبعة صدرت الطبعة ما قبل الأخيرة من شيكاغو بأمريكا بعدما نقلت ملكيتها إلى وليام بنتون عام 1941م الذي ورّثها مؤسسة بنتون، وهي مؤسسة خيرية يدعم دخُلها قسمَ الاتصال الجماهيري في جامعة شيكاغو(2).
__________
(1) كان المسلمون كعادتهم سباقين في تدوين كتب يمكن إطلاق اسم موسوعات عليها، وذلك منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) ومنها "الفهرست" لابن النديم و"إحصاء العلوم" للفارابي. ولم تبدأ عناية الأوروبيين بتأليف دوائر المعارف إلا في القرن الثامن عشر الميلادي ونتج عن هذه العناية موسوعات تبلغ كل منها ما يزيد عن 100 مجلد مثل دائرة المعارف الفرنسية الكبرى التي بلغ عدد مجلداتها 166 بالإضافة إلى أربعين أطلسا وخارطة، ودائرة دي لاندر de Lander الإنجليزية التي تشمل 132 مجلدا، وقد صدرت أجزاؤها تباعا منذ عام 1829 حتى سنة 1846م. (محمد جمال الدين، "الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم في دائرتي المعارف الإسلامية والبريطانية"، ص 4 – 5)، وتأتي بعدها في المرتبة من حيث الحجم الموسوعة الأمريكية The Encyclopedia Americana.
(2) إفانز وورستر Order Blown to Bits.(32/3)
وصدرت الطبعة الخامسة عشرة والأخيرة عام 1952م وروجعت عام 1985م، وهي لا تزال تراجع سنوياً. ووصلت مبيعات الموسوعة البريطانية ذروتها عام 1990م إذ حققت مبلغاً قدره 650 مليون دولار(1).
وتقع الموسوعة اليوم في ثلاثين مجلدا موزعة في ثلاثة أجزاء: (1) Propaedia وهو عرض شامل لمحتويات الموسوعة في جزء واحد، (2) Micropaedia أو الموسوعة المصغرة وهي ذات مداخل مختصرة تقع في اثنى عشر جزءاً، كتب على كعب كل جزء عبارة "مرجع متأت"، (3) Macropaedia أو الموسوعة الشاملة وفيها يكتب عن موضوعات عامة ومهمة كالإسلام، وتطور البشرية، بإسهاب، يكتبها علماء ومؤلفون مبرزون، وتقع في سبعة عشر جزءا، كتب على كعب كل جزء عبارة "المعرفة بعمق".
ومنذ ظهور الحاسوب كانت الموسوعة البريطانية سباقة للاستفادة من الفرص التي تمنحها هذه التقنية الحديثة، فصدرت الموسوعة بالإضافة إلى النسخة الورقية على أسطوانات ليزر، شاملة لكل ما حوته النسخة الورقية، إضافة إلى آلاف الصور والوسائط المتعددة، كما شملت الأسطوانات معجم ماريام وبستر، وموسوعة أمم العالم التي تحوي معلومات إحصائية.
ولم تغفل الموسوعة البريطانية أهمية الشبكة العالمية حيث نُشرت كاملة على الإنترنت، ويتحتم دفع اشتراك لمن يريد أن يتعمق ويقرأ المقالات كاملة، أما إمكان البحث ومطالعة النُّبَذ المقتضبة فمجاناً. وموقع الموسوعة www.eb.com البريطانية كما هو في شكله الحالي يعد من أقوى مواقع جمع المعلومات العامة على الإنترنت، فبمجرد إدخال كلمات، مثل: encyclopaedia أي موسوعة، أوinformation وbackground أي معلومات خلفية عن موضوع، سرعان ما تظهر الموسوعة البريطانية ضمن أول النتائج.
__________
(1) إفانز وورستر Order Blown to Bits.(32/4)
ويشترك العديد من الجامعات العالمية والمدارس في الموقع لتوفر خدمة البحث به مجاناً للطلبة الذين يريدون أن يكتبوا مقالة حول موضوع ما، بالإضافة إلى آلاف الصور والأشكال التوضيحية والوصلات العديدة التي تم اختيارها بعناية من قبل محرري الموسوعة، وتفاعلها مع القضايا ذات الاهتمام الواسع، بإفراد صفحات تحوي معلومات موسعة - تتعلق بتاريخ القضية وآراء المحللين حولها - يثق أساتذة الجامعات ومعلمو المدارس بقيمة المعلومة التي توفرها الموسوعة التي حققت بها شهرتها الواسعة عبر أكثر من مئتي عام من الانتشار.
أ- السياسة التحريرية للموسوعة البريطانية
لا شك أن مما ضمن هذا الاستمرار والحضور القوي للموسوعة البريطانية هي السياسة التحريرية التي انتهجتها منذ أول ظهور لها، ويلخص توم بانيلاس سياسة الموسوعة التحريرية كما يلي:
"هدفنا هو عرض جميع مجالات المعرفة الإنسانية متخذين موقفاً عالمياً شاملاً، أي أننا نشمل الثقافات الإنسانية الكبرى كلها دون محاباة لثقافة بعينها. فنحن نسعى بجدّ لنكون متوازنين في طرحنا على قدر يتوافق مع الطبع البشري، وسعياً في هذا الاتجاه نقدم جميع الموضوعات، وبالنسبة للموضوعات التي يدور حولها الجدال ويختلف عليها العلماء فإننا نستنفد جهدنا في تلخيص جميع نقاط الجدال لقرائنا عوضاً من الانحياز إلى رأي دون آخر.
ويتم مراجعة وتقويم جميع موادنا دورياً لتحديثها وتصحيحها ولمعرفة ما إذا كانت متوافقة مع آخر ما توصل إليه العلم، وتساعد شبكة من المستشارين العلميين تنتشر في جميع أنحاء العالم محرري الموسوعة في هذه المراجعات، وتعاد كتابة المادة إذا دعا الأمر لذلك، وإذا كان حجم التصحيحات كبيرا قد نكلف أحدا بكتابة مادة جديدة كليا"(1).
__________
(1) توم بانيلاس، مدير الاتصالات [العلاقات العامة] في الموسوعة البريطانية، في اتصال شخصي جرى بيننا عن طريق البريد الإلكتروني، بتاريخ 23 يونيو 2003.(32/5)
إذاً فسياسة الموسوعة التحريرية هي الحيادية والشمولية والمراجعة والمتابعة المستمرة، ولكن إذا ما أردنا التجرد من هذا الرأي الصادر عن مدير العلاقات العامة في الموسوعة فإنه يمكن التعرف على كثير من معالم السياسة التحريرية للموسوعة البريطانية من خلال قراءة متأنية لسطورها. ولا حاجة للباحث لأن يذهب بعيداً في البحث لكي يستشفها، وبخاصة مَنْ يريد قراءة مادة ما من مواد الموسوعة قراءة نقدية، خلاف ذلك الذي يريد الاطلاع لمجرد المعرفة، ويمكن توزيع سياسة الموسوعة على محورين عامين تنطوي تحتهما عدة عوامل.
أولا: اختيار المعلومة بدقة، وانتخاب صفوة من الكتاب المتخصصين. فعند تصفح مجلدات الموسوعة الموسعة يجد القارئ ملحقا بكل موضوع بحث قائمة ببليوجرافية موزعة حسب مواد الموضوع، مثلا تندرج تحت موضوع "الإسلام" المواد: "الإسلام" و "محمد" و "القرآن" و "الحديث" و "اللاهوت والفلسفة" و"الصوفية الإسلامية" و "القانون الإسلامي" و "الأساطير والخرافات الإسلامية"، وتذيَّل كل مادة بثبت بأسماء المراجع والمصادر المهمة التي أخذت منها المادة المكتوبة في الموسوعة ويمكن البحث فيها للاستزادة عن الموضوع، وبالاطلاع على هذه القوائم يمكن لمختص في مجال مّا أن يتأكد من أن الكتابات التي رُجع إليها معتمدة في مجال تخصصها ولها قيمتها العلمية، وهي قد اختيرت من قبل أكاديمي بارز في مجاله، أو كاتب حاصل على أعلى الجوائز العالمية كما ذكر آنفا، وعادة ما يتخذ القارئ من هذه المصادر أول ما يرجع إليه للتوسع في بحثه.
ولكن عندما نقرأ القوائم الملحقة بموضوع الإسلام نجد أنها كلها كتابات مستشرقين معروفين من أمثال نودلكه ووات وآربري، وأن الزاوية التي تناول منها كُتَّاب المواد، أو وجهوا من قبل فريق التحرير إلى تناول الموضوع منها، زاوية مجحفة في حق الإسلام وتاريخه. وسنتابع هذه السياسة التحريرية عن كثب في تحليل مادة "محمد: النبي ورسالته".(32/6)
ثانياً: الموضوعية، وهي بناء المعلومة على الحقائق وتجريدها من الرأي والرؤية الشخصية للباحث. ويكاد يكون هناك إجماع عام في الدوائر العلمية، - خاصة بعد الازدهار الكبير الذي تشهده النزعة النسبية في الجامعات الغربية، التي ترى عدم إطلاق الحقائق وبخاصة فيما يتعلق بوقائع التاريخ(1)- على أن الموضوعية شيء نسبي، ورغم أن الموسوعة البريطانية تبدو للقارئ غير المتمرس - الذي يبحث عن معلومات خلفية - ذات صبغة موضوعية حول موضوع ما، إلا أن غطاء الموضوعية ينكشف سريعا أمام من هو على علم بالموضوع المطروح وبخاصة فيما يتعلق بطروحاتها عن الإسلام، وذلك من خلال اختيار مراجع تكشف لنا الدراسات الاستشراقية الإسلامية أنها عمد في هذا المجال، وأنها شكلت النظرة الغربية وربما العالمية التشكيكية غير المستساغة للإسلام، وهي وإن كانت تبدو أعمالاً علمية رصينة تستحق الرجوع إليها واقتباس طروحاتها، إلا أنها أحادية النظرة تفتقر إلى العلمية والموضوعية ويعوزها كثير من الإنصاف.
ومما يزيد من فرص قبول مادة الموسوعة والتأثر ببعض أفكارها اللغة التي كتبت بها تلك المواد، فهي رغم أنها قد صيغت بلغة يرى العقل الغربي أنها هي لغة العلم والموضوعية بعينها، تبدو كأنها لا تعطي تقريراً نهائياً ورأياً حاسماً بل قلما يجد القارئ فرصة كافية لكي ينفك من تأثيرها القوي وآرائها شبه النهائية، كما أنه ربما يعجز معها عن تكوين رأيه الخاص عن الموضوع المطروح، وبالرغم من هذا فمحصلة ما يكتب عن الموضوع وآرائه هي التي قد يخرج بها القارئ الذي يرى أنها هي بعينها رأي أهل العلم الذين يستحقون ثقته بهم.
__________
(1) السؤال الذي يطرح هو: من يكتب التاريخ؟(32/7)
ومن ملامح هذه اللغة ما يظهر جلياً طريقتهم في النقاش والجدال التي تهدف إلى إقناع القارئ بوجهة نظر الكاتب، وهذه الطريقة تختلف بين الثقافات، ولاسيما الثقافتين العربية والإنجليزية الغربية. وهناك أسلوبان أساسيان لطريقة النقاش(1) وهي: (1) الجدال المستمر (through-argumentation) والجدال المناقِض (counter-argumentation)، ووفقاً للأسلوب الأول يطرح المجادل رأياً ويستمر في دعمه حتى النهاية.
ويرى كثير من منظري الاتصال بين الثقافات أن أسلوب الجدل المستمر هو الأسلوب السائد في الكتابات العربية، ولكن هذه النظرة بدأت تتغير نتيجة لتأثير حركة الترجمة الواسعة التي تشهدها الثقافة العربية.
أما الجدال المناقض فيعمد بداية إلى ذكر الرأي المخالف ربما بشيء من التقدير ثم دحض هذا الرأي بهدوء وتقديم الدلائل المنطقية على موقف المجادل، وعادة ما يقدم المجادل بهذا الأسلوب تنازلاً مراوغاً (false concession) أو اعترافاً بوجاهة الرأي الآخر؛ لكي يوحي للقارئ بأنه فهم الرأي الآخر، ولكن بعد تفكير عميق وبحث واستقراء للواقع وصل إلى نتيجة مخالفة، وهذا الأسلوب هو المتبع غالباً في الأوساط العلمية الغربية، والموسوعة البريطانية لا تشذ عن طوق هذه اللغة العلمية، فتحت العنوان الفرعي "الشخصية والإنجازات" الذي كتب عن نبي الرحمة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - تبدأ الموسوعة بالآتي:
"ورغم الإجحاف في حقه كثيراً من قبل علماء أوربا القرون الوسطى
- الذين لا تزال آراؤهم تحتفظ ببعض التأثير - أصبحت النظرة لمحمد أكثر موضوعية في القرن التاسع عشر فبعض الأدلة ضده، مثل تواطئه في بعض الاغتيالات وإقراره اغتيال بعض رجال قبيلة يهودية، أمور تاريخية لا يمكن تكذيبها".
__________
(1) باسل حاتم وإيان ميسون، The Translator as Communicator، ص 126-127.(32/8)
فالموسوعة بعد أن تورد تنازلاً مراوغاً يرهف إليه سمع القارئ تذكر من الإجحاف ما قالت إنه شيء لا يحتفظ إلا بقليل من التأثير في الوقت الراهن.
ومن مظاهر هذه اللغة العلمية أيضاً اعتماد لغة التحاشي hedging))، وهي لغة يحاول بها الكاتب تحاشي التصريح بالحقائق, وإعطاء انطباعٍ بعدم الوضوح والتأكد، وتوظف هذه اللغة بالاعتماد على وسائل عدة منها صيغة المبني للمجهول مثل: يُقال، ويُعتقد، والقارئ لا يعرف من الذي يقول أو يعتقد أهو الكاتب نفسه أم أحد العلماء المتخصصين؟ وعبارات مثل: يبدو وربما، وصفات وتقديرات مثل: قليل، إلى حد بعيد، بشكل ما، وخلافها. ورغم أن هذه اللغة هي اللغة السائدة في المراكز الأكاديمية الغربية إذ تعد حجر زاوية في أي أطروحة دراسات عليا يراد أن يكتب لها تجاوز المناقشة بنجاح، إلا أن مجرد ذكر القول المُضعَّف يُرجِّحه على غيره دون التزام بما فيه من فكر، ومن مزايا لغة التحاشي أيضاً جعلها الكاتب يبدو أقل تسرعاً وأكثر روية في قراءة معطيات الواقع، وكذلك إعطاؤها انطباعاً بالتشكيك في الموضوع المطروح، وكل هذا يعتمد على الحالة الخاصة معرض الحديث وهذا ما سنناقشه في الموضوع التالي.
وبالإضافة إلى هذا تتميز لغة الموسوعة البريطانية بالسهولة والسلاسة في صياغة الفكرة في عبارات يسهل تحليلها في ذهن القارئ وفهمها، بغض النظر عن مستواه الثقافي، فهي تستخدم الكلمات المتداولة وتتحاشى الألفاظ الغريبة والمتخصصة، وتتميز جمل مواد الموسوعة بالقصر إذ تشكل في جملتها وحدات معنوية ((semantic chunks مما يجعل القارئ ينخرط في القراءة ويتتبع الأفكار المطروحة دون تشويش.
وهناك عدة وسائل لغوية أخرى توظفها الموسوعة في توجيه ذهن القارئ للخروج بقراءة معينة سنناقشها حين ورودها في الموضوع التالي.
ب- مادة محمد في الموسوعة البريطانية(32/9)
تقع مادة "محمد: النبي ورسالته" في الجزء 22 من الموسوعة، في القسم الموسع تحت مدخل "محمد ودين الإسلام" تحت موضوع "الإسلام"، وكتبت المادة في الصفحات من 1 إلى 5 وهي صفحات من القطع الكبير كتبت فيها المادة بالحرف الصغير في عمودين، وعند سؤالي عن كاتب المادة ردَّ توم بانيلاس مدير العلاقات العامة بالموسوعة:
- الكاتب الأساس لمادة محمد هو وليام مونتقمري وات، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة أدنبرة بين عامي 1964-1979، مؤلف: "محمد: نبي ورجل دولة"؛ "مفكر مسلم: دراسة للغزالي"؛ والمحرر المشرف على "دراسات إسلامية" Islamic Surveys. ولكن حياة محمد وتركته التي تم التعرض لها أيضا في مقالتنا الطويلة ساهم فيها عدد من العلماء منهم:
فضل الرحمن، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة شيكاغو بين عامي 1969-1988م، ومؤلف "الإسلام والآخرون". ومحسن س. مهدي، أستاذ اللغة العربية بجامعة هارفارد ومؤلف "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون"، وآن ماري شيميل، أستاذة سابقة للثقافة الإسلامية-الهندية بجامعة هارفارد، ولها "جناح جبريل"(1) و"الخط الإسلامي" وغيرهما.
وأوردت الموسوعة قائمة بالمراجع والمصادر التي استقت منها ما كتب في الموسوعة وهذه ترجمتها:
__________
(1) "جناح جبريل"، عنوان ديوان للشاعر الباكستاني محمد إقبال، وآن ماري شيميل قامت بترجمة الديوان إلى الإنجليزية.(32/10)
- محمد. أعمال مرجعية: و. مونتقمري وات "محمد في مكة" (1953م) و"محمد في المدينة" (156، وأعيد طبعه في 1977م)، وهما معالجة شاملة اختصرا في "محمد: نبي ورجل دولة" (1961م وأعيد إصداره في 1974م) بواسطة المؤلف؛ فرانتس بول "حياة محمد" الطبعة الثالثة وهو ترجمة ألمانية لعمل نشر بالدنمركية عام 1903م ولا يزال يعدّ موثوقاً به؛ تور أندريه "محمد: الرجل وعقيدته" ترجمة ثيوفل منسل (1936م، وأعيد طبعه في 1971م) ويهتم بالجوانب الدينية؛ ابن هشام "حياة محمد: ترجمة سيرة رسول الله لابن إسحق" [ترجمة الفريد جيّوم] (1955م وأعيد إصداره في 1967م) وهي السيرة العربية الأكثر أهمية؛ نابيا أبوت "عائشة: محبوبة محمد" (1942م وأعيد طبعه في 1937م) وهو عمل علمي رصين؛ جون باقوت كلوب "حياة محمد وزمانه" (1970م) وهو عمل ذو شعبية واسعة بني على معرفة المؤلف بالحياة العربية.
المصادر الرئيسة: القرآن بطبيعة الحال يحتوي على مواد أساسية معاصرة عن محمد، ولكن من الصعب تقويمها دون معرفة تاريخية أوسع. المجموعات الكبيرة للأحاديث، أو ما يروى حول ما قاله محمد وما فعله، يثار حولها جدل تاريخي، وخلافاً لهذا فهي نادراً ما تعطي شيئاً ذا بال عن حياة محمد. والمصادر الرئيسة ذات القيمة التاريخية هي السير المبكرة (من القرنين الثامن والتاسع) وبخاصة سيرة ابن هشام، كما صاغها ابن إسحق ومغازي الواقدي، مع المواد المكملة التي سجلها زميله ابن سعد، وهذا يحتوي على مواد عن الصحابة وعن علاقة الرسول بهم وعمله معهم. وحفظت بعض الوثائق مع عهد محمد في السير المبكرة، وأهمها ما يطلق عليه ميثاق المدينة. وهو مدون في ترجمة جيّوم لسيرة ابن إسحاق المذكورة آنفاً والوثائق الأخرى موجودة في كتاب وات "محمد في المدينة".(32/11)
وبقراءة سريعة فيما كتب تحت مادة "محمد: النبي ورسالته" يظهر اعتماد محرري الموسوعة المطلق على كتابات المستشرقين وبخاصة آراء مونتقمري وات، وهذا أمر سيلقي ظلاله على الطروحات الواردة في المادة خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن الاستشراق هو وليد حركة الجدل التنصيري ضد الإسلام ونبيه، وأن ميلاده ونشأته في حضن اللاهوت النصراني والإيديولوجية الغربية، قد أخضع مناهج المستشرقين لتلك الإيديولوجية مما أدى إلى فساد قواعد البحث العلمي، والتغاضي عن المنهجية العلمية، وقلب أصول البحث العلمي رأساً على عقب، ووضع الافتراضات السابقة التي توجه عملية البحث(1)، وهذا ما سنحاول الوقوف عليه في المحور الآتي.
ثانيا: منهج مونتقمري وات في دراسة السيرة النبوية
كتب وات في مقدمة كتابه Muhammad at Mecca أي "محمد في مكة" تعريفاً بمنهجه الذي اتبعه في دراسة السيرة النبوية، وأوضح أن دراسته موجهة أساسا إلى المؤرخين، وأنه حاول التزام الحياد في القضايا الخلافية، ويحاول وات طمأنة المسلمين إلى أنه قد حاول، مع التزامه بقواعد البحث التاريخي الغربية، ألا يقول شيئاً يقتضي رد مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية، ورغم هذا الادعاء يرسم الأستاذ عبدالله محمد النعيم(2) ملامح منهج وات ويفصّله وفقاً للنقاط التالية:
القفز إلى نتيجة مفادها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثر بالبيئة من حوله وبأفكار ورقة بن نوفل والمسيحية واليهودية، وحاول وات جهده إظهار مواطن يزعم أنه انعكس فيها تأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما حوله على الإسلام؛ ليثبت أنه جاء به من تلقاء نفسه.
__________
(1) محمد خليفة حسن، أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، ص 138. و عبدالعظيم الديب، "المنهج عند المستشرقين".
(2) عبدالله محمد النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية، ص 38 – 47.(32/12)
يلقي وات بظلال المنهج العلماني التشكيكي الذي لا يؤمن بالغيب ولا بالمعجزات على السيرة النبوية، فهو ينكر حدوث أي شيء خارق للعادة مثل حادثة شق صدره - صلى الله عليه وسلم - وحدوث الوحي وغيرها من الآثار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث يقول بشأنها: "إن هناك العديد من القصص ذات الطابع الديني يكاد يكون من المتيقَّن أنها ليست حقيقة من وجهة نظر المؤرخ العلماني الواقعية"(1).
يعمد وات إلى المنهج المادي، ويذكر أن المؤرخ أكثر إدراكا للعوامل المادية الكامنة وراء التاريخ، وبأن مؤرخ منتصف القرن العشرين سيثير أسئلة كثيرة عن الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسة للحركة التي بدأها محمد، من غير أن يهمل أو يقلل من شأن الجوانب العقدية(2)، ولذا نراه يعزو ظهور الدعوة إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في مجتمعه - صلى الله عليه وسلم -، ويفسر الغزوات الإسلامية من هذا المنطلق.
يسقط وات الرؤية الغربية المعاصرة على أحداث السيرة، فنراه يطبق نظرية تدرج تطور الأديان أياً كانت على الدين الإسلامي حيث يتحدث عن توحيد غامض في بداية الدين الإسلامي ويتدرج ليصل إلى ما نعرفه اليوم.
التشدد في اتباع منهج الإقصاء واعتماد الضعيف والشاذ، حيث يسرف وات في نفي الروايات الإسلامية إذ لا تكاد رواية إسلامية تنجو من تضعيفه لها دون إعطاء مسوّغ واضح لإقصاء هذه الرواية أو تلك، ونراه في المقابل يعتمد روايات ضعيفة وشاذة تحمل في طياتها التشكيك في دوافع وقائع السيرة وأهدافها؛ ليبين أنه موضوعي يعمد إلى المنطق دون الإيمان.
__________
(1) مونتقمري وات،Muhammad at Mecca ، ص 33.
(2) مونتقمري وات،Muhammad at Mecca ، ص 33.(32/13)
الإكثار من منهج البناء والهدم، حيث لا تخلو بعض جوانب السيرة من الثناء في كتابات وات الذي سرعان ما يتبعه نقداً، فمثلاً نراه يسهب في الحديث عن حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقول إن من له مثل هذه الحكمة لم يكن ليدعو قيصر الروم وكسرى فارس للدخول في الإسلام ليلفت انتباههم بذلك إلى الخطر الذي يشكله على ملكهم(1).
ولكي تكتمل الصورة عن منهج وات، فيجدر بنا الحديث عن المصادر التي اعتمد عليها في دراسته للسيرة النبوية، حيث رجع إلى مصادر موثوقة مثل ابن هشام والطبري والواقدي وابن سعد، فأخذ منها ما اخذ ورد منها ما رد وشكك في كثير من الروايات الواردة فيها، وكذلك رجع إلى دراسات غلاة المستشرقين من أمثال ب. ه. لامانس وجوزيف شاخت وليون كاتياني ورتشارد بي وتيودور نودلكه وبروكلمان، ويصل به التأثر ببعضهم إلى القول: "إن مخالفة قولد زيهر ليست بالأمر السهل"(2).
وبما أن الموسوعة البريطانية استكتبت وات ليشارك فيها بمادة "محمد: النبي ورسالته"، فليس من الغريب أن يؤثر منهجه فيما كتب في المادة وأن تعكس كثيرا من آرائه، وهذا ما سنحاول الوقوف عليه في المحور الآتي.
ثالثا: قراءة مادة "محمد: النبي ورسالته"
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 41 - 42.
(2) مونتقمري وات،Muhammad at Mecca ، ص 82.(32/14)
كتبت المادة تحت العنوان التالي Muhammad: the Prophet and his message أي " محمد: النبي ورسالته"، ومن يعرف تاريخ تهجئة اسم نبينا الكريم عبر تاريخ الاستشراق يرى أن هذه التهجئة تسامت عن التحيز البائن الذي اتصفت به كتابات المستشرقين في الشطر الأول الطويل من تاريخ الاستشراق، فإنها حرِّفت عمداً في العصور الأوروبية الوسطى إلى Mohound التي كان من بين معانيها الشيطان وأمير الظلام(1)، وكتبت تارة Mohomet وتارة Mahomet كما في كتاب فولتير الموغل في الإجحاف Mahomet أو "محمد" الذي نشر عام 1742، وفي الترجمة الفرنسية الأولى للقرآن الكريم التي أخذت عنها الترجمة الإنجليزية الأولى، وهي تهجئة تحاكي النطق التركي للكلمة – وإن كانت محرفة عنها –، ولا غرو فأوروبا كانت تعدّ الخطر العثماني الزاحف وخطر الإسلام أو المحمدية Mahometanism كما أطلقوا هذا اللفظ على الدين احتقاراً(2)، وهذا التحامل يظهر جلياً على غلاف أول ترجمة فرنسية-إنجليزية لمعاني القرآن الكريم، حيث كتب إن هذه الترجمة أعدت "لإرضاء كل من عنده الرغبة في معرفة زيف الأتراك"، بل وإنه حتى الطبعة الحادية عشرة من الموسوعة البريطانية التي تعد طبعة كلاسيكية، وأكثر طبعات الموسوعة شهرة كتب فيها اسم نبينا الكريم وفق التهجئة Mahomet وكيلت فيها الأكاذيب كيلاً. ومن يعرف هذا التاريخ يرى بأن تهجئة اسم نبينا الكريم في هذه المادة سليمة تتسامى عن تلك الأكاذيب واضحة التعسف والخطأ.
__________
(1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص xi.
(2) يناقش الدكتور جان جبور تطور نظرة الغرب للمسلمين من أعمال بارزة كشفت عن مختلف المراحل التاريخية التي مرت بها هذه النظرة عبر تاريخ لقاء الحضارتين في كتابه: النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي.(32/15)
ولكن هذه هي مزية الدراسات الاستشراقية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديداً عام 1840م، عندما ألقى رجل الدين الإنجليزي توماس كارلآيل سلسلة محاضرات بعنوان "عندما يكون البطل نبيا:"محمد والإسلام"؛ إذ شكلت نقطة تحول في الفكر الاستشراقي حيث كشف فيها كثيراً من الحقائق التي تتعلق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والإسلام.
والحقيقة هي أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد نظرة جديدة إلى الإسلام ونبيه، ذلك أن عصر التنوير الأوروبي كان من جوانب عديدة متحرراً من النزعة اللاهوتية المعادية للإسلام، التي شجعتها الكنيسة في أوروبا، إلا أن النظرة الجديدة لم تأت خالية من التحيز والتحريف والتشويه المعهود، حيث أصبح المستشرقون يميلون إلى "صدق الرسول" ولكن قالوا بأن الوحي الذي تلقاه كان من حديث النفس ومن الحيل النفسية التي خدع بها نفسه ليجابه محيطه الاجتماعي الذي ساءه جداً(1).
__________
(1) محمد مهر علي، and the Orientalists Sirat al-Nabî - صلى الله عليه وسلم -، ص viii.(32/16)
ويرى الدكتور عبدالعظيم الديب واقع الاستشراق الحديث ليس فيه موضوعية ولا منهجية ولا استقامة "وإنما كان هذا التغير أو التطور في الأساليب ضرورة أملتها الظروف وواقع الحال، وكان لابد من تغيير الأساليب لتتلاءم وتتواءم مع المواطن الأوروبي المسيحي نفسه – المخاطب أصلاً بالدراسات الاستشراقية – فحيثما كان العصر عصر أمية وجهالة وهمجية كان يكفيهم أن يكتبوا لهم سباً وشتماً في الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وفي المسلمين، حتى يقبحوه ويشوهوه في أعينهم وينفروهم منه. وأما مع التطور والاستنارة ومعرفة هؤلاء الأوروبيين بالمسلمين والإسلام، نتيجة للاحتكاك في القتال والتجارة والانتقال فكان لابد من أن يغير هؤلاء أساليبهم، حتى تنطلي على عقول الأجيال الجديدة، وكان تغيير الأساليب يتلاءم ويتواءم مع درجة معرفة هؤلاء عن الإسلام والمسلمين"(1).
وإذا ما جمعنا الأفكار والآراء المعروضة في مادة محمد في الموسوعة البريطانية وربطنا بين أجزائها فإننا نخرج بتصور عام عن القضايا الرئيسة التي تركز عليها، والشبه والطعونات التي تسوقها. وقد اجتهدت في استخلاص هذه القضايا الكلية وأدرجت تحت كل واحدة منها ما يتصل بها مما ورد في المادة، وأود أن أؤكد هنا الأمور التالية:
أولا: أهمية رجوع القارئ إلى المادة وقراءتها؛ ليكوِّن انطباعاً عاماً عمَّا كتب في المادة، إذ إن الأمثلة المستشهد بها مأخوذة من ذلك السياق.
ثانياً: أني ركزت في مناقشتي هنا على القضايا والطعونات الأساسية التي تعد أفكاراً مركزية في الفكر الاستشراقي المعاصر والتي تكشف تعسفهم في التفسير والاستنتاج والخروج بالنتائج قبل تحليل الحقائق.
__________
(1) عبدالعظيم الديب، مرجع سابق، ص 346.(32/17)
ثالثاً: أن بعض الآراء المطروحة في المادة أهم من بعضها الآخر والتركيز عليها يكون أكبر في المادة، ولكن يظهر جلياً ترابط هذه الآراء وقيامها على القاعدة نفسها وسيرها في اتجاه واحد، أي أن نتائجها تعزز الفكرة نفسها التي يخرج بها قارئ المادة عن رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - ولا يناقض بعضها بعضاً.
رابعاً: إذا كانت آراء مونتقمري وات والشبه التي يثيرها - وهو الكاتب الأساس لمادة "محمد: النبي ورسالته" التي أتناولها تحليلاً في هذا البحث -ذات علاقة توضيحية بما ورد في الموسوعة وتفيد في فهم الشبه المذكورة- أذكر آراءه وفقا لما تقتضيه هذه الحاجة؛ لأن ما يظهر في الموسوعة لا يعدو كونه رأس جبل الجليد الكامن تحت الماء، إذ إن الشبه التي تعرضها الموسوعة تناقش بشكل أوسع في كتابات وات، ونحتاج في مواضع إلى تنبيه القارئ لهذا الخطر.
خامساً: إظهاراً للحق وجَلْواً للبس أقوم بالرد على هذه الشبه كلٍّ على حدة؛ متسلحاً في ذلك بردود عدد من الباحثين المسلمين(1) الذين درسوا هذه الآراء، ومضيفا إليها ما فتح الله عليَّ به، والله نسأل التوفيق والسداد.
سادساً: نظرا لتداخل الشبه وانطلاقها من السياق التفسيري نفسه لأحداث السيرة النبوية، فإن الردود عليها تكون في مواضع مترابطة فيما بينها، وعلى القارئ أخذ السياق العام للشبهة والرد في الحسبان.
__________
(1) ومن الكتابات التي ناقشت آراء مونتقمري وات خاصة وغيره من المستشرقين:
محمد مهر علي، Sirat al-Nabi - صلى الله عليه وسلم - and the Orientalists.
عبدالله محمد النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية.
عبدالرحمن أحمد سالم، "قراءة نقدية في كتابات مونتقمري وات في السيرة النبوية".
جعفر شيخ إدريس، "منهج مونتقمري واط في دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم".
عماد الدين خليل، "المستشرقون والسيرة النبوية: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتقمري وات".(32/18)
سابعاً: على القارئ ملاحظة أن الاقتباسات المأخوذة من الموسوعة تبدأ بالعلامة ? في متن البحث، وأورد الأصل في الحواشي.
الشبهة الأولى: التشكيك في المصادر العربية
ويورد د. فاروق عمر فوزي قول تور أندريه وهو يشكك في الثقة بالمعلومات التي وصلتنا عن محمد - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: "لا نعرف بالضبط متى ولد محمد؟ وأكثر ما جاءنا عن حياته الأولى معلومات أسطورية" (ص 51)، وتعليقاً على هذا يقول د. فاروق عمر فوزي: "وهكذا يفاجئ المؤرخ المتخصص بتاريخ الإسلام... وبعد كل التقدم الذي حصل في تحقيق ونشر المخطوطات العربية وفي طريق البحث العلمي في التاريخ وفي تفسير التاريخ وفلسفته، يفاجئ المؤرخ بفرضيات وتفاسير تعود به إلى تصورات المبشرين المتطرفين في العصور الوسطى"(1).
ويجد هذا المنهج السقيم طريقه إلى الموسوعة في عدة أماكن ويظهر التشكيك في أمور نعدها من المسلمات، ومن أمثلة ذلك:
محمد (الاسم كاملا، أبو القاسم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم) ولد في مكة سنة 570م تقريباً بعد موت والده عبدالله(2).
__________
(1) فاروق عمر فوزي، الاستشراق والتاريخ الإسلامي، ص 51-52.
(2) Muhammad: in full Abu al-Qasim Muhammad ibn 'Abd Allah ibn 'Abd al-Muttalib ibn Hashim born c. , Mecca, http://www.britannica.com/eb/article?eu=118182after the death of his father, 'Abd Allah.(32/19)
وفي حوالي 595م في إحدى هذه الرحلات كان مسؤولاً عن تجارة امرأة ثرية وهي خديجة من بني أسد، وبهرها لدرجة أنها عرضت عليه الزواج. ويقال إنها كانت في الأربعين، ولكنها ولدت لمحمد على الأقل ولدين ماتا صغيرين وأربع بنات وأشهرهن فاطمة زوجة ابن عم محمد، علي(1).
يقول وات: "بولغ كثيرا في عمر خديجة، وتذكر المصادر أسماء سبعة أطفال ولدت لمحمد، ولو كان الأمر كما يذكر ابن سعد أنها أنجبتهم على فترات منتظمة، مما يجعل عمرها ثمانية وأربعين قبل ولادة الطفل الأخير، وهذا ليس أمراً مستحيلا ولكنه من الغرابة بمكان بحيث يستحق الإشارة إليه، أنه أمر يمكن اعتباره معجزة"(2).
ورغم اعتراف وات بأن ولادة المرأة في سن الثامنة والأربعين "ليس أمراً مستحيلا" إلا أنه يلقي بظلال من الشك على هذا الاحتمال، ويقول: بأنه معجزة، وهذا ما يعرف بالتنازل المراوغ أو بمنهج البناء والهدم(3)، وهو ليس إلا تلاعباً بالألفاظ وتدليساً كلامياً، فكم من امرأة ولدت بعد الخمسين، فإن كانت هذه "معجزة" في رأي وات فهي معجزة لا تستحق كثيرا من الاهتمام.
ويقال: إن المكيين خططوا لقتل محمد قبل أن يرحل(4).
__________
(1) About , on such a journey, he was in charge of the merchandise of a rich woman, Khadijah of the clan of Asad, and so impressed her that she offered marriage. She is said to have been about , but she bore Muhammad at least two sons, who died young, and four daughters, of whom the best known was Fatimah, the wife of Muhammad's cousin 'Ali
(2) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 38.
(3) عبدالله محمد النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية، 45 – 47.
(4) The Meccans are said to have plotted to kill Muhammad before he could leave.(32/20)
يستبعد وات محاولة اغتيال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي تعرض لها قبيل هجرته التي حيكت في دار الندوة، إذ يقول "ليس هناك شك في أن هذا الاجتماع قد عقد، وأن الحاضرين أدركوا أن محمداً يهيئ مشاريع معادية لهم، كما يقول ابن إسحق، وتوضح الحوادث التي وقعت فيما بعد أن النية لم تنعقد على قتل محمد...؛ لأن الاتفاق على ذلك لم يكن بالإجماع، ولربما كان قرب وقوع الخطر هو الذي عجل برحيل محمد، ومن الصعب التأكد من طبيعة الخطر الذي كان يهدد محمدا وأتباعه، فلقد أضيفت أشياء كثيرة على قصة الهجرة، حتى إن المصادر الأولى نفسها لم تخل من الإضافات، ولا يستبعد أن يكون محمد قد رُجِم في مكة بعد الاجتماع"(1).
يثير كلام وات هذا تساؤلات أكثر مما يجيب عنها: إذا كان يقطع جازما أن الاجتماع قد عقد، فلماذا عقد هذا الاجتماع؟ ثم لماذا يستبعد مشروع الاغتيال، بحجة أن هذا لا يتم في اجتماع؟ ألا يتم اتفاق كهذا في اجتماع للملأ من أهل مكة؟ لقد أخبرنا العزيز الحكيم بما تم فعلا في هذا الاجتماع في قوله:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( (( ( ( ( ([الأنفال: 30]، وإذا كان يعترف بأن هناك خطراً يهدد محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، فما هو هذا الخطر؟ ولماذا لا يكون الخطر هو محاولة الاغتيال؟ وكيف يفترض احتمال رجم محمد - صلى الله عليه وسلم - دون دليل؟ أو يشكك وات في المصادر الأولى بحجة أنها "لم تخل من الإضافات" ثم يأتي باحتمال لا نعرف من أين أتى به؛ ليوهم القارئ بأنه لم شتات ما بَعثر.
الشبهة الثانية: التشكيك في نزول الوحي
__________
(1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 273.(32/21)
يزعم المستشرقون أن الوحي إنما هو استشعار داخلي ولكنه صادق، فهم لا يشككون بصدق شعور النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة، ولكنهم يظنون إنما هو استشعار داخلي وقناعة ذاتية دون أن يكون هناك شيء خارجي اسمه الوحي(1)، وأن كلمة "الوحي" لا تعني تلقي النص من الله سبحانه وتعالى بل تعني اقتراحاً أو إشارة suggestion أو تكلم ذهني intellectual locution.
__________
(1) أكرم ضياء العمري، "موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية"، ص 60.(32/22)
وفي حوالي 610م بينما كان يتدبر في أمور كهذه تراءى لمحمد مخلوق ذو أبهة (قيل فيما بعد إنه الملك جبريل) وسمع صوتا يقول له: "أنت رسول الإله". وشكلت هذه بداية مهنته رسولاً من الإله ([بالعربية] رسول الله) أو نبياً. ومن وقت لآخر تلقى، على فترات متتابعة، حتى موته "وحياً"، أي رسائل كلامية اعتقد أنها أتت مباشرة من الرب. وأحياناً بقيت هذه في ذاكرة محمد وأصحابه وأحياناً كتبت. وفي حوالي 650م جمعت وكتبت في القرآن (أو Koran كتاب الإسلام المقدس) في الصيغة التي بين أيدينا. ويؤمن [يعتقد] المسلمون بأن القرآن وحي إلهي كتب من كلام الرب نفسه(1).
__________
(1) About , as he reflected on such matters, Muhammad had a vision of a majestic being (later identified with the angel Gabriel) and heard a voice saying to him, “You are the Messenger of God.” This marked the beginning of his career as messenger (or apostle) of God (rasul Allah ), or Prophet (nabi ). From this time, at frequent intervals until his death, he received “revelations” — that is, verbal messages that he believed came directly from God. Sometimes these were kept in memory by Muhammad and his followers, and sometimes they were written down. About they were collected and written in the Qur’an (or Koran, the sacred scriptures of Islam), in the form that has endured. Muslims believe the Qur’an is divine revelation, written in the words of God himself.(32/23)
ونلاحظ في هذا الاقتباس الذي تفوح منه رائحة التشكيك أن كلمة "وحي" حصرت بين فاصلتين معقوفتين قبلها ومثلها بعدها أي ركِّنت. وهذه سنة متبعة في كتابات من يشككون في الوحي ممن ذكرنا آنفا يقصد بها التشكيك فيما بين الفواصل وتأكيده دون سواه في السياق الذي يرد فيه(1).
ويخرج وات بهذه النتيجة من خلال تأثره بأقوال سابقيه وبفهمهم الخاطئ لمعنى كلمة وحي، فهم يقصرون معناه على حديث النفس للنفس ويزعمون بأن مصدره هو "اللاوعي الجماعي، الذي هو مصدر كل وحي ديني"(2)، وعملاً بمنهجهم في اختلاق النتائج ولي أعناق الوقائع التاريخية وتقطيع أوصالها للتوافق مع هذه النتائج، أوّلوا آي الكتاب وبخاصة الآيات 1-12 من سورة النجم، والآيات 22-28 من سورة التكوير، التي تتحدث عن إلقاء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقائه جبريل عليه السلام، حيث يقول وات: إن عدم ذكر اسم الملك يشكك في رؤية الرسول - صلى الله عليه وسلم - له! ثم بعد ذلك يناقش باستفاضة أن كلمة "أوحى" تعني "اقترح"، ويستقرئ الروايات الإسلامية في ضوء هذا الزعم.
وإذا كان وات يرى هذا فما باله بقوله تعالى:( ? ( ( ( ( ([الدخان:3]، وقوله تعالى:( ? ( ( ( ( ([القدر:1]، وقوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([البقرة: 185]، فهل كلمة أنزل تعني اقترح أيضا؟
وماذا سيقول وات وغيره من المستشرقين في آيات الإعجاز التي تشهد يوما بعد يوم أن القرآن ليس من عند رسول أمي عاش قبل ألف وأربعمائة سنة، فهل من حديث النفس للنفس أن ينزل الله سبحانه وتعالى وصفاً دقيقاً لمراحل نمو الجنين لم تهتد إلى مثل دقته البشرية بكل ما أوتيت من أنواع المعارف إلا في القرن التاسع عشر؟
__________
(1) لمناقشة مستفيضة لفكرة "التركين" bracketing ووظائفها المختلفة انظر: وليد بليهش العمري، Social Semiotics for Translation Studies، ص 97- 101.
(2) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 325.(32/24)
وما رأي وات في المظاهر الحسية -التي ذكرتها الروايات المتواترة المنقولة عمن عاصروه - صلى الله عليه وسلم -- من تفصُّد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد، ومن ثقله الشديد الذي لا يحتمله بشر عادي أثناء نزول الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم -؟ ومن ذلك ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عندما كان فخذه تحت فخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزل الوحي عليه وهم على حالهم تلك فوجد زيد ما وجد من الشدة حتى خاف أن تُرَضّ فخذه، وهل هذه المظاهر الحسية أيضا من حديث النفس للنفس؟
الشبهة الثالثة: التفسير المادي لوقائع السيرة
يرى وات أن النمو التجاري وتدفق الثروة كان لهما أثر سلبي على قيم الرحمة والكرم في المجتمع المكي مما انعكس على تصدع اللحمة القبلية، وكانت الحاجة ملحة للموافقة بين الازدهار المادي والنظام الأخلاقي الروحي البدائي الذي كان سائدا في المجتمع، ولتحقيق هذا الهدف تصور محمد - صلى الله عليه وسلم - حلاًّ دينياً للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، ولذا يقول إن: "إعلان الدين الجديد جاء رداً على مرض العصر الذي سببه التطور الذي انتقل بالمجتمع المكي من حياة البداوة إلى اقتصاد حضري"(1).
وتجد هذه الآراء طريقها إلى الموسوعة في الموضوع الفرعي التالي:
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 16-24.(32/25)
الدعوة النبوية والنشاطات الدينية المبكرة. يبدو أن محمداً كان يمر بمرحلة من المزاج التأملي ويقال: إنه تبنى عادة قضاء الليالي في فترات متفرقة في غار في جبل في مكة. ولاشك في أن الفقر والنوازل في حياته المبكرة جعلته مدركاً للتوترات في المجتمع المكي. فمكة التي تقطنها قبيلة قريش التي ينتمي إليها بنو هاشم كانت مركزاً تجارياً بنيت حول ملاذ محرم وهو الكعبة التي ضمنت أمن من يأتون للتجارة في الأسواق. وفي أواخر القرن السادس نشطت التجارة بقوافل الجمال بين اليمن ومنطقة البحر المتوسط (غزة ودمشق)، وجلبت البضائع من الهند وإثيوبيا إلى البحر المتوسط، وفرض كبار تجار مكة احتكاراً على هذه التجارة. ولهذا كانت مكة مزدهرة ولكن أغلب الثروة كانت في يد أقلية. ونتيجة لهذا تصدعت اللحمة القبلية فقد سعى التجار وراء مصالحهم الشخصية وأهملوا واجباتهم التقليدية نحو من هم أقل حظوظاً. وفي حوالي سنة 610م بينما كان يتدبر في أمور كهذه تراءى لمحمد مخلوق ذو أبهة (قيل فيما بعد إنه الملك جبريل) وسمع صوتا يقول له: "أنت رسول الإله". وشكلت هذه بداية مهنته رسولاً من الإله ([بالعربية] رسول الله) أو نبياً(1)
__________
(1) Prophetic call and early religious activity: Muhammad appears to have been of a reflective turn of mind and is said to have adopted the habit of occasionally spending nights in a hill cave near Mecca. The poverty and misfortunes of his early life doubtless made him aware of tensions in Meccan society. Mecca, inhabited by the tribe of Quraysh (Koreish), to which the Hashim clan belonged, was a mercantile centre formed around a sanctuary, the Ka'bah (Kaaba), which assured the safety of those who came to trade at the fairs. In the later 6th century there was extensive trade by camel caravan between the Yemen and the Mediterranean region (Gaza and Damascus), bringing goods from India and Ethiopia to the Mediterranean; and the great merchants of Mecca had obtained monopoly control of this trade. Mecca was thus prosperous, but most of the wealth was in a few hands. Tribal solidarity was breaking up; merchants pursued individual interests and disregarded their traditional duties to the unfortunate. About , as he reflected on such matters, Muhammad had a vision of a majestic being (later identified with the angel Gabriel) and heard a voice saying to him, “You are the Messenger of God.” This marked the beginning of his career as messenger (or apostle) of God (rasul Allah), or Prophet (nabi).(32/26)
.
نحن لا ننكر وجود بعض أفراد في قريش استأثروا برؤوس الأموال دون غيرهم، واستحوذ عليهم الجشع حتى صاغوا من واقع مجتمعهم ومعاملاتهم المعيشية ما صاغوا وفقاً لما تقتضيه المصالح الاقتصادية, وأن المجتمع المكي كان فيه من الدنايا ما فيه، إلا أن اختزال رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - في برنامج ضيق للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لضمان حق المستضعفين في توزيع الثروة، والقفز إلى هذه النتيجة، تفسير تلفيقي للأمور يقوم على فرضية أن هذا الدين مختلق وأن الوحي أتى من داخل النبي وهو أمر رددنا عليه في الشبهة الثانية، وإثبات أن الوحي من عند الله سبحانه وتعالى هو إثبات أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يأت به من تلقاء نفسه.
إن أسباب إعلان الدين الجديد معروفة، فمنها: قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ([يس: 6]؛ وقول الحق سبحانه وتعالى:
( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [السجدة: 3]، ويقول ابن كثير: "بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - في حين فترة من الرسل وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إبراهيم الخليل، فبدلوه وغيروه واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن الله بها... فبعث الله محمداً بشرع عظيم شامل كامل في الهداية والبيان لكل ما يحتاج إليه الناس من أمر معاشهم ومعادهم"(1).
الشبهة الرابعة: دعوى تأثر الإسلام بالبيئة الوثنية
__________
(1) ابن كثير، السيرة النبوية، 1/478.(32/27)
يتحدث وات عن بداية الإسلام بتوحيد غامض لم يتضح إلا فيما بعد، ويقول إن: "الأجزاء الأقدم في القرآن لا تحتوي على أي هجوم على الوثنية، بل كانت تقول بوجود توحيد غامض (vague monotheism) عند أتباع محمد، ثم أخذ الإلحاح يشتد على وجود إله واحد مع اشتداد النقد لعبادة الأصنام"(1)، ويدعي أن التوحيد: "لم يكن في الأصل واضح المعالم وبخاصة لم يُبت في أمر اعتبار الكائنات الأقل أهمية [الأصنام] لا تتفق معه تماماً(2)، ويقول وات بتدرج تطور التوحيد.
واستقراء وات هنا ليس إلا إسقاطاً للنظرة الغربية فيما يتعلق بتطور الأديان على وقائع الدعوة المحمدية، وإيهاماً بأن الرسول لم يكن يدرك حقيقة أبعاد دعوته - صلى الله عليه وسلم - وما يدعو إليه.
وإذا كان القرآن لم يحاول مهاجمة الوثنية على حد زعمه فماذا عن سورة "الكافرون"، وماذا تعني الآيات:( ? ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [ص: 4-5]؛( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأنبياء: 36]، أليس فيها دليل على وقوع خلاف بين محمد - صلى الله عليه وسلم - والمشركين حول مفهوم التوحيد ووجوب عبادة الله وحده دون إشراك، ثم ماذا عن سورة الإخلاص، وما فيها من تكريس لهذا المفهوم ونفي مطلق للشرك؟
لقد كانت الفكرة الجوهرية للدعوة الإسلامية منذ البداية هي عقيدة التوحيد وهي عقيدة لم تنشأ تدريجياً، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أصر في أوائل الرسالة على "لا إله إلا الله" وقريش تساومه(3).
والتصديق بهذه النظرة المنحرفة يظهر في الموسوعة في مواضع منها:
واعتقد بعضهم أن الله "إله أعلى" يفوق الآلهة الأقل مكانة(4).
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 63.
(2) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 104.
(3) ابن كثير، السيرة النبوية، ص 124.
(4) Some men regarded Allah as a “high god” who stood above lesser deities.(32/28)
ولم يلبث أن جمع حوله أصدقاء متعاطفين قبلوا دعواه بأنه نبي وصحبوه في العبادات والصلوات الجامعة. ونتجت هذه عن فعل سجود يلمسون فيه الأرض بجباههم اعترافاً بعظمة الرب - لا يزال هذا العمل عظيماً في العبادة الإسلامية(1).
وتنعكس هذه النظرة المنحرفة أيضاً في تأكيد أهمية الكعبة؛ لكونها معلماً وثنياً مقدساً مما جعلها عظيمة في الإسلام:
ويُرجَّح أنهم أحياناً تعبدوا معاً في الكعبة وهي مكان عبادة لعبدة الأصنام من العرب(2).
وتُؤكد سور القرآن المبكرة الموحاة إلى محمد خيرية وقوة الرب كما ترى في الطبيعة وفي رفاهية المكيين وتدعو هؤلاء إلى الامتنان إلى "رب الكعبة"، الذي عرف على أنه الرب(3).
__________
(1) Soon he gathered some sympathetic friends who accepted his claim to be a prophet and joined him in common worship and prayers. These culminated in an act of prostration in which they touched the ground with their foreheads in acknowledgment of God's majesty—still a cardinal act in Islamic worship.
(2) It is probable that they sometimes worshipped together in the Ka’bah, a sanctuary of the Arab pagans.
(3) The earliest passages of the Qur’an revealed to Muhammad emphasize the goodness and power of God as seen in nature and in the prosperity of the Meccans and call on the latter to be grateful and to worship “the Lord of the Ka’bah,” who is thus identified with God.(32/29)
ويُقترح في بعض الأحيان أن السبب الرئيس وراء المعارضة هو خوف التجار من أن الدين الجديد لن يعترف بالكعبة مكاناً مقدساً، ولكن هذا الاقتراح بعيد عن الواقع. لقد كان هناك بالتأكيد هجوم على الأصنام ظهر في القرآن، وبدأ الإسلام يُنتقد لتمسكه بأنه "لا إله إلا الله"، ولكن لم يكن هناك هجومٌ على الكعبة، والأصنام المذكورة كان لها معابدها الرئيسة في أماكن أخرى(1).
في صيف عام 621م أعلن اثنا عشر رجلاً من المدينة خلال زيارتهم لمكة من أجل الحج السنوي إلى الكعبة (التي كانت لم تزل معبداً وثنياً) إسلامهم سراً وعادوا للدعاية له في المدينة(2).
__________
(1) It is sometimes suggested that the main reason for opposition was the merchants’ fear that the new religion would destroy the recognition of the Ka’bah as a sanctuary, but this is unlikely. Certainly attacks on idols appeared in the Qur'an, and Islam began to be characterized by the insistence that “there is no god but God” (Allah), but no attack was made on the Ka’bah, and the idols mentioned had their chief shrines elsewhere.
(2) In the summer of , men from Medina, visiting Mecca for the annual pilgrimage to the Ka’bah (still a pagan shrine), secretly professed themselves Muslims to Muhammad and went back to make propaganda for him at Medina.(32/30)
والتاريخ يشهد أن الكعبة كانت معلماً توحيدياً رفع قواعدها إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام قال تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([البقرة: 127-128]، وأن قريشاً كانت تفتخر بدين أبيها إبراهيم، وإنما كانت الكعبة مقدسة عند العرب خلال فترة الوثنية لعلمهم بقداستها من عند الله سبحانه وتعالى، ولم ينكروا وجوده وإنما أتوا بالأصنام في الكعبة وحولها؛ جهلاً منهم وتلبيساً للشيطان عليهم تقرباً لله بها وتشفعاً عنده ( ? ( ( ( ( ( ( ([الزمر:3].
ولكن يظهر أن الموسوعة ومن ورائها وات، وهو من درس تاريخ العرب قبل الإسلام، لم يلفت نظر القارئ إلى هذه الحقيقة التاريخية الكبيرة ليجزِّئ تاريخ مكة ويبدأه من عصر الجاهلية ومن ثم يبين أن هذه هي الركيزة والأرضية الثقافية التي قام عليها الإسلام، وهذه مبالغة في بتر أطراف التاريخ لينساق عاجزاً في الطريق التي أرادوا، إنما دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أتت لتطهير هذا البيت من الأوثان والشرك للطائفين والعاكفين والركع السجود من جديد(1).
الشبهة الخامسة: دعوى خصوصية الإسلام للعرب
يذكر وات ما يفيد أن الدعوة المحمدية كانت خاصة بقريش والعرب: "اعتبر محمد نفسه أول الأمر مرسلاً إلى قومه من القرشيين، ثم أخذ شيئا فشيئاً وبدرجات لا تبدو بوضوح في القرآن يتراءى له هدف أوسع لرسالته"(2)، ويزيد: "نحن نعتقد بأن محمداً بعد عودته من الطائف أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، وأن وراء هذا النشاط فكرة غامضة عن توحيد العرب جميعاً"(3).
__________
(1) سأنبه على لفظ ( الدعاية = Propaganda ) الوارد في نهاية هذه الشبهة في ص 63.
(2) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 138.
(3) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 141.(32/31)
جانب وات الصواب لأنه تجاهل الروايات الإسلامية، التي أوضحت مراحل تطور الدعوة وهي: "النبوة، ثم إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه، وهم القرشيون، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير وهم العرب قاطبة، والمرتبة الخامسة إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى يوم القيامة"(1)، وهي مراتب ذكرت بوضوح تام في القرآن خلافاً لما يزعم وات:( ? ( ( ([الشعراء: 214]؛ ( ? ( ( ( ( ( [الشورى: 7]؛ وعالمية الدعوة تظهر جليا في الآي:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [سبأ: 28]؛ ( ? ( ( ( ( ([الأنبياء:107]؛ وغيرها من السور المكية الدالة على عالمية الرسالة المحمدية(2)، فعالمية الدعوة إذا كانت موجودة منذ البداية وأمر بَدَهِيّ ألا تتضح حقيقة معاشة على الواقع إلا بعد أن مكّن الله لدينه في الأرض، فلا يعقل أن يدعو محمد - صلى الله عليه وسلم - كسرى للإسلام قبل أن يدعو أعمامه.
وتعكس الموسوعة هذه الآراء الفاسدة في مواضع:
... وظن بالرؤية العظيمة الأولى وتلقيه للرسائل أنه فوِّض لنقلها إلى مواطنيه ولغيرهم من العرب(3).
... وبدلا من تقديم التنازلات لليهود بغية الحصول على اعترافهم بنبوته، أكد خصوصية الصفة العربية للدين الإسلامي(4).
__________
(1) ابن القيم، زاد المعاد، 1/20.
(2) انظر الآيات: الأنعام: 90، يوسف: 104؛ الفرقان: 1، القلم: 52، التكوير: 27.
(3) … [he came to] believe that by the first great vision and by the receipt of the messages he was commissioned to communicate them to his fellow citizens and other Arabs.
(4) … instead of making concessions to the Jews in the hope of gaining recognition of his prophethood, he asserted the specifically Arabian character of the Islamic religion.(32/32)
وفي حياته كوَّن اتحاداً للقبائل العربية الذي هزم الإمبراطوريتين الرومية والفارسية في أقل من عشرين عاماً بعد موته واستولى على مساحات وتطورت فيما بعد إلى الإمبراطورية العربية أو الإسلامية. وجعل من الإسلام أساسا لوحدة العرب(1).
الشبهة السادسة: دعوى أن نبوغ الرسول السياسي وهمته العالية ساعدا على نشر دينه أكثر من كونه نبياً مؤيداً
ادعى المستشرقون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان شخصاً طموحاً نزع إلى السلطة، فهم يقولون إنه منذ حداثة سنه أعد للدور الذي تبوأه لاحقاً. ويلمح إلى هذا وات في كتابه "محمد: نبي ورجل دولة" بل ويجعله أساساً يستند إليه في تفسيره لكثير من وقائع السيرة، ويعزو له النجاح الباهر الذي حققته الرسالة المحمدية.
ولاشك في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أكمل الناس في كل شيء، ومن بين ذلك توقد الذهن وسداد الرأي، ولكن من المبالغة بمكان أن نعزو نجاح الرسالة المحمدية الباهر إلى شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونغفل التأييد والإلهام الإلهي، ومن جموح الفكر أن نسرح به بعيداً ونضفي بعداً مادياً صرفاً على وقائع السيرة ومن ثم نعود عليها ونقرؤها من وجهة نظر أحادية، كل هذا من أجل أن نرد الأمور كلها إلى منطلق زائف وهو أن هذا الدين هو من عند محمد وليس من عند الله.
__________
(1) In his lifetime he created a federation of Arab tribes, which, in less than years after his death, defeated the Byzantine and Persian empires, occupied a vast territory from Libya to Persia, and then developed into the Arab, or Islamic, Empire. He made the religion of Islam the basis of Arab unity.(32/33)
فإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - مجرد رجل سياسة نابغ طموح لماذا لم يظهر كل هذا الطموح إلا بعد انقضاء أربعين عاماً من عمره، أوليس الطموح والنزوع إلى السلطة تظهران في ريعان الشباب؟ وهو الذي لم يذكر لنا أحد أنه تبوأ منصباً قيادياً في قريش قط. بل إنه لحكمة أرادها علام الغيوب سبحانه وتعالى انتهج خطا هادئاً بين رعي الأغنام والتجارة والتحنث، يقول الله سبحانه وتعالى واصفاً حال نبيه الكريم في بداية دعوته ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الفرقان: 41]، ترى هل كانت قريش لتسخر منه - صلى الله عليه وسلم - لو علمت أنه كان فيه نزوع للسلطة ورغبة في قيادتها وخبروا ذلك فيه وعاصروه، نعم كان في محمد - صلى الله عليه وسلم - طاقات كامنة ما كانت لتتفجر إلا بعد أن اصطفاه رب العالمين سبحانه وتعالى بالرسالة وآزره بتأييده مما أدى إلى ظهورها على أكثر من صعيد وموقف، يقول تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([القصص: 86].
ومن المواضع التي تلمح إلى هذا المنطق في الموسوعة، التالي:
وانسلخ مع كبير ضباطه دون أن يحسوا به، وسلك طرقاً غير مطروقة، ووصل بسلام إلى المدينة في يوم 24 سبتمبر عام 622م(1).
وصفُ أبي بكر هنا بـ "كبير الضباط" لم يأت عفو الخاطر، بل يرى وات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة بعدما هاجر عدد كبير من المسلمين إليها ليوفروا له الحماية عند قدومه إليها من الاعتداءات، ويقللوا من اعتماده على المدنيين(2).
__________
(1) With his chief lieutenant he slipped away unperceived, used unfrequented paths, and reached Medina safely on September ,
(2) انظر محمد مهر علي، Sirat al-Nabi - صلى الله عليه وسلم - and the Orientalists، ص 921-923.(32/34)
أضعف [نصر المسلمين ببدر] أخطر معارضيه هناك المنافق أو المسلم لسانا عبدالله بن أبي الذي تحالف مع اليهود المحليين. وبقية المترددين من العرب ربما أسلموا في ذلك الوقت، ولهذا عزز نصر بدر من قوة محمد. وفي الوقت نفسه استخدم علاقات الزواج ليزيد من ترابط المهاجرين(1).
الفوز بالمكيين. وبُعْد نظر محمد كرجل دولة بدا جليا في السياسات التي تبناها بعد ذلك. كان بوسعه التقدم للقضاء على المكيين-وهو قام بالفعل بممارسة الضغط الاقتصادي عليهم- ولكن غرضه الرئيس كان الفوز باتباعهم الإسلام طواعية(2).
__________
(1) This weakened his most serious opponent there, the “hypocrite” (munafiq), or nominal Muslim, 'Abd Allah ibn Ubayy, who was allied with the local Jews. The remaining waverers among the Arabs probably became Muslims about this time. Thus the victory of Badr greatly strengthened Muhammad. At the same time he was using marriage relationships to bring greater cohesion to the emigrants.
(2) The winning of the Meccans: Muhammad’s farsightedness as a statesman is manifest in the policies he next adopted. He might have proceeded to crush the Meccans, and he indeed put economic pressure on them; but his main aim was to gain their willing adherence to Islam.(32/35)
السنوات الأخيرة: توحيد جزيرة العرب. منذ الهجرة بدأ محمد في تأليف أحلاف مع القبائل البدوية. وفي بداية الأمر ربما كانت هذه معاهدات عدم اعتداء، ولكن عندما أصبح قوياً بقدر كاف بدأ بعرض حمايته عليهم شريطة أن تصبح القبيلة مسلمة(1).
واستفاد محمد من هزيمة إمبراطورية فارس من قبل الإمبراطورية الرومية (النصرانية) (627-628م)؛ لأن الأقليات في اليمن وفي أماكن على الخليج العربي -التي كانت معتمدة على الدعم الفارسي ضد الإمبراطورية الرومانية- وجهت أنظارها تلقاء محمد(2).
وكل هذه استنتاجات من كاتب المادة، ولا دليل عليها من واقع أو تاريخ.
الشبهة السابعة: التشكيك في طبيعة علاقة الرسول مع الأنصار
__________
(1) The closing years: the unification of Arabia: Ever since the hijrah, Muhammad had been forming alliances with nomadic tribes. At first these were probably nonaggression pacts, but, when he was strong enough to offer protection, he made it a condition of alliance that the tribe should become Muslim.
(2) Muhammad benefitted from the defeat of the Persian Empire by the Byzantine (Christian) Empire ( ), for, in the Yemen and in places on the Persian Gulf, minorities that had relied on Persian support against Byzantium now turned to Muhammad instead.(32/36)
لمونتقمري وات آراء كثيرة حول حقيقة العلاقة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأنصار(1)، ولكن ما ينعكس منها على الموسوعة هو الإيحاء بأن الأنصار حين قبلوا محمدا رسولا، وحين نظموا مجيئه إلى المدينة لم يعترفوا له صراحة بحقه في أن يحكم بينهم، وأن محمداً [- صلى الله عليه وسلم -] اكتفى بأن ينظر إليه على أنه رسول، ولم يطالب بأي امتياز آخر، وأن الطاعة لم تكن واجبة صراحة في الصحيفة التي عرفت فيما بعد بدستور المدينة.
هذا ادعاء زائف غير مدعوم بالوقائع لا يلبث أن ينقشع أمام حقائق التاريخ، فإذا ما رجعنا إلى البنود الستة لبيعة العقبة الأولى بين الأنصار والرسول - صلى الله عليه وسلم - وجدنا من بينها ما ينص على الطاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - دون حصر الطاعة في أي إطار سواء أكان دينيا أم سياسيا، فهي طاعة مطلقة، وكذلك أكدت بيعة العقبة الثانية هذا، وزادت النصرة التامة في جميع الظروف، فكيف يسوغ الزعم بأن الأنصار لم يدينوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - سياسياً إذا كانت الطاعة غير المشروطة بنداً ثابتاً في البيعتين؟ وماذا تعني "الطاعة التامة" في نظر وات؟(2) وشدة إعجاب الأنصار بشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصورهم لمكانته القيادية تظهر في قولهم له عندما دعاهم إلى الإسلام: "إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك"(3).
__________
(1) مونقمري وات، Muhammad at Medina، ص 228 - 238.
(2) تاريخ الطبري، 2/356 – 363.
(3) الطبري، المرجع السابق، 2/354.(32/37)
ولم تتأثر شخصية القائد عند وضع صحيفة المدينة والاتفاق عليها فهي تنص على أن: "ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله"(1)، فالخلافات الجسيمة التي يخشى من فسادها على المجتمع ترد إلى شخص واحد، ألا يعني هذا أن هذا الشخص الذي يرجعون إليه في أمورهم هو قائد "أهل هذه الصحيفة" الذين هم أهل المدينة كافة؟
وقبيل غزوة بدر أتى رد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - يؤكد ولاء الأنصار للرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ قال على الملأ: "قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة فامض بنا يا رسول الله لما أردت فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله أن يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله"(2)، أوليس هذا بياناً بتسليم مقاليد السلطة للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أحد سادات الأنصار تكلم فيه باسمهم جميعاً على رؤوس الأشهاد؟
ثم ماذا يعني أن يجيش الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجيوش ويرسل السرايا ويعين عليها القادة والأمراء، ألا يعدُّ هذا تعريفاً عملياً للقائد؟
ويجد هذا الرأي طريقه إلى الموسوعة البريطانية كما يظهر جلياً فيما يأتي:
__________
(1) الطبري، المرجع السابق، 1/122 – 123.
(2) ابن هشام، سيرة النبي، 2/253 – 254.(32/38)
وحفظت وثيقة تعرف بميثاق المدينة... ولكن منصوصاتها العامة هي إلى مدى بعيد ما اتفق عليه محمد ومسلمو المدينة. وبصيغتها تؤلف الوثيقة حلفاً على غرار ما عرفه العرب بين تسع مجموعات - ثماني قبائل عربية، إضافة إلى مهاجري مكة. ولم يعط محمد سلطة خاصة عدا أن الديباجة تقول إن الاتفاق تم بين "النبي محمد" والمسلمين الذين يقطنون المدينة، وتنص على أن الخلافات الحادة يجب أن يرجعوا فيها إليه. ورفضت الجماعات اليهودية الاعتراف بمحمد نبياً، ويظهرون في الوثيقة تابعين لأحلافهم مع القبائل العربية. ولخمسة أعوام على الأقل لم يكن لمحمد سلطة مباشرة على القبائل العربية، ولكن في أواخر سني عمره أضفى عليه مجد نجاحاته العسكرية ما يشبه السلطة الشمولية(1).
__________
(1) A document has been preserved known as the Constitution of Medina … but its main provisions are almost certainly those originally agreed upon between Muhammad and the Muslims of Medina. In form the document creates a confederation on traditional Arab lines among nine groups-eight Arab clans and the emigrants from Mecca. Muhammad is given no special position of authority, except that the preamble speaks of the agreement as made between “Muhammad the prophet” and the Muslims now resident in Medina, and it is stated that serious disputes are to be referred to him. The Jewish groups had refused to acknowledge Muhammad as prophet and in the document appear in a secondary character as attached to various Arab clans. For at least five years, Muhammad had no direct authority over members of other clans, but, in the closing years of his life, the prestige of his military successes gave him almost autocratic power.(32/39)
الشبهة الثامنة: دعوى اضطهاد الرسول لليهود الفاعلين في المجتمع المدني
يرى وات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة كان حريصاً على أن يظفر بتأييد اليهود، حتى لا ينهار البنيان الفكري الذي قامت عليه رسالته، فقد كان يؤكد في البداية أن رسالته متطابقة مع الرسالات السابقة، ومن هنا كان مستعداً لأن يسمح لليهود بالبقاء على دينهم إذا اعترفوا به نبياً كأنبيائهم، فلما أصر اليهود على موقفهم من عدم الاعتراف بنبوته وأخذوا يبرزون الفروق بين اليهودية والإسلام هاجمهم الرسول واتهمهم بالتحريف وادعى أنه على دين إبراهيم(1).
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 303 – 304.(32/40)
وخطأ وات -وغيره من المستشرقين وعلى رأسهم بروكلمان(1)- الأساس يتمثل في نظرتهم القاصرة إلى الأديان، فهم يدرسونها على أنها منفصلة عن بعضها، وهذا في حد ذاته من الأخطاء المنهجية؛ ذلك لأن الأديان السماوية مصدرها في الأصل واحد وهي رغم ما اعترى اليهودية والمسيحية من تحريف تلتقي في عدد من تعاليمها، ويقول الحق سبحانه وتعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الشورى: 13]، فكل ما جاء به الرسل من عند الله فهو متحد المصدر، ونبينا الكريم عندما اختاره الله سبحانه وتعالى لتبليغ الرسالة الخاتمة جاء بالدين الصحيح وهو ما دعا إليه من سبقوه من الرسل، يقول تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الصف: 6]، فإذا كان هناك قدر ما من التلاقي بين رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وما دان به اليهود في المدينة فهذا ليس لأنه - صلى الله عليه وسلم - تأثر به أو سرق أفكارهم، إضافة إلى أن هذا القدر من التلاقي كان ضئيلاً جداً ولا يحتمل كل هذا التضخيم من المستشرقين، فأهل الكتاب حتى في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا بعيدين جداً عن جادة الدين الحق، يقول تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء:51]. وهناك بون شاسع بين أن يكون القرآن ( ? ( ( ( ( ( ( ( ([المائدة: 48] وأن تكون الرسالة التي نزل بها مطابقة تماما لرسالات الأنبياء السابقين، وإلا فما الفائدة من إرسال رسول برسالة جديدة؟.
__________
(1) كارل بروكلمان، History of the Islamic People ، ص 22-36.(32/41)
وأما فيما يخص قول وات بأن الرسول أيقن من عدم اتباع اليهود له وهاجمهم واتهمهم بالتحريف وادعى أنه على دين إبراهيم، فهو كلام مردود؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان حريصاً على أن يدخل الناس كافة في هذا الدين، يهوداً كانوا أم غير ذلك، إلا أنه لم يجبر اليهود على الدخول في الإسلام، وهذا هو موقف الإسلام من أهل الكتاب خاصة، ولا مجال لزعم وات من أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ادعى أنه على دين إبراهيم بعد أن أخذ اليهود يبرزون الفروق بين اليهودية والإسلام، فالمعروف أن القرآن المكي أشار بوضوح إلى ارتباط الرسول - صلى الله عليه وسلم - بملة إبراهيم، ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأنعام: 161]، وقوله سبحانه:( ? ( ( ( ( ( ( ( ([النحل: 123]، ولم يكن هناك احتكاك بين محمد - صلى الله عليه وسلم - واليهود قبل هجرته إلى المدينة باعتراف المستشرقين أنفسهم، هذا بالإضافة إلى إشارة المولى عز وجل في كتابه الكريم إلى ارتباط الرسالة المحمدية برسالات الرسل من قبله بمن فيهم موسى وعيسى عليهما السلام قبل أن يحاول عليه الصلاة والسلام كسب اليهود إلى جانبه كما يدعي وات، ومن ذلك الآية الكريمة ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ([الشورى: 13]، والآية ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأحقاف: 30]. ولعله يتضح من هذا عدم وجود دليل وراء الزعم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلن في بداية عهده في المدينة أن الإسلام متطابق مع اليهودية ليكسب اعتراف اليهود بنبوته، فلما أعرضوا هاجمهم واتهمهم بالتحريف وادعى أنه على دين إبراهيم.(32/42)
ويتناول وات تطور العلاقة بين اليهود والرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين قبائل اليهود الرئيسة في المدينة، فيذكر أن الرسول بدأ بإجلاء بني قينقاع؛ لأن هذه القبيلة كانت أضعف الثلاثة ولم يكن لها حلفاء أقوياء من بين الأنصار ممن كان يستند الرسول إلى تأييدهم على عكس ما كان عليه الوضع بالنسبة للقبيلتين الأخريين، فقد كانتا متحالفتين مع بعض بطون الأوس القوية التي كانت تمثل سندا للرسول - صلى الله عليه وسلم -(1). ويضيف وات سببين آخرين وراء القرار الذي اتخذه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بإجلاء يهود بني قينقاع من المدينة: إما رفضهم الاندماج في المجتمع المسلم؛ وإما رغبة في إفساح المجال أمام المهاجرين ليسيطروا على سوق المدينة بعد أن كانت هذه السيطرة حكراً على يهود بني قينقاع.
__________
(1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 194- 196.(32/43)
والرد على هذا الادعاء الباطل يبدأ بالقول بأن بني قينقاع كانوا هم فعلاً تجار المدينة وقادتها الاقتصاديين حتى إن سوق المدينة كان يسمى بسوق قينقاع، ولكنهم بطروا معيشتهم، وطاش أمرهم في أكثر من اتجاه، أولاً: تجاه ربهم إذ قال كبراؤهم قولاً إداً وسمع الله قولهم ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([آل عمران: 181]، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وإذْ تجرؤوا على ربهم فليس من الغريب أن يتجرؤوا على دولة الإسلام في المجتمع المدني ثانيا، قد أظهروا أمارات كثيرة لتحديهم للسلطة الإسلامية في المدينة والكيد لها والتربص بها، ولا أدل على ذلك من الحادثة التي ذكرها ابن هشام(1): " كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاهم في سوق قينقاع، ثم قال: "يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم، قالوا: "يا محمد إنك ترى أنا كقومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، أما والله لو حاربتنا لتعلمن أنا نحن خير الناس"، والسياق التاريخي الذي وقعت فيه هذه الحادثة هو أنها حدثت بعيد غزوة بدر أي في حال قوة المسلمين التامة وتمكنهم من أمرهم وأمر مدينتهم تماما، وبنو قينقاع لم يأخذوا في ردهم هذا الاعتبار ولم يميلوا مع الريح ولكنهم لكونهم إلى قوتهم، حيث كانوا يشتغلون بصناعة السلاح وعندهم الكثير منه، ردوا - على دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بالحسنى وعمله بأمر ربه بأن يبلغ ما أنزل إليه - بتحد صارخ لسلطته وأظهروا ما تضمره صدورهم من العداء، أليس في هذا المستشرق وات وغيره إعلان حرب صريح من طرف واحد؟
__________
(1) ابن هشام، سيرة النبي، 11/51.(32/44)
وثالثاً: القشة التي قصمت ظهر البعير هي حادثة الأنصارية التي يرويها ابن هشام(1): "أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يراودونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده على ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين فغضب المسلمون على اليهود فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع"، وهذا استفزاز بيّن لحمية العرب وانتهاك لحرمة عرض امرأة مسلمة، حق على السلطان حمايته، ولكن المستشرق الغربي يسقط واقعه الذي يعيش فيه ويصدر الأحكام وفق معطياته على أناس يبعدون عنه كل البعد زماناً ومكاناً وثقافة، حيث يدعي وات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هاجم قبيلة بني قينقاع اليهودية بعد أن أدت خصومة تافهة لموت مسلم(2)، ولكن في واقع الأمر يعد هذا نقضا للعهد(3) الذي بين بني قينقاع والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان من الطبعي أن يُجْلِيَ أيُّ سلطان حازم طغمة باغية كهذه، ومع كل هذا فقد تركهم محمد - صلى الله عليه وسلم - واسع الأناة وراسخ الوطأة لعبدالله بن أبي حليفهم من العرب، فخرجوا من المدينة ولحقوا بأذرعات الشام(4).
__________
(1) ابن هشام، سيرة النبي، 11/51.
(2) مونتقمري وات، Muhammad at Medina، ص 15.
(3) انظر: البيهقي، دلائل النبوة، 2/411.
(4) ابن القيم، زاد المعاد، 2/71.(32/45)
وأما قول وات بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجلى بني قينقاع ليفسح المجال أمام المهاجرين ليسيطروا على سوق المدينة، فيمكن الرد عليه بالقول إن الثابت أن منافذ الرزق لم تسد أمام المهاجرين منذ بداية حياتهم إلى المدينة، فقد شاركوهم إخوانهم في الدين شطر أموالهم وآثروهم بالغالي والنفيس عن طيب خاطر، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ([الحشر: 9]، فمن أبعد الأمور احتمالاً أن يقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خطوة خطيرة كهذه لمجرد أن يفسح المجال لتجارة المهاجرين.
وما كان من أمر إجلاء بني قريظة فإنهم على الرغم من عقدهم معاهدة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد تآمروا مع الجبهة المكية الغطفانية في غزوة الأحزاب موهنين بذلك الجبهة الداخلية للمجتمع المدني وغادرين بالمسلمين من وراء ظهورهم، وهي بذلك لم تساعد المسلمين كما تقضي المعاهدة ولم تبق على الحياد بل كانت تهديدا خطيرا للرسول وأصحابه، مما استدعى ما حل بهم من حكم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ - رضي الله عنه -.
وعندما يأتي وات للحديث عن غزو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخيبر سنة 7 هـ يذكر وات سبباً محتملاً، إضافة إلى تأليب يهود خيبر للعرب وهو سبب لا ينكره وات، وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد الحصول على بعض الغنائم التي يعوض بها أصحابه عن خيبة آمالهم في الحديبية قبل ذلك ببضعة أسابيع(1).
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 217 – 218.(32/46)
رغم اعتراف وات بأن محاولات يهود خيبر تأليب العرب على المسلمين في المدينة كانت سبباً أساساً وراء غزو الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم، فإنه يضيف سبباً آخر جديرا بالمناقشة، وهو كما يزعم أن رغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حيازة بعض الغنائم ليرضي أصحابه، الذين خابت توقعاتهم بعد صلح الحديبية، دفعته لهذه الغزوة، وللدكتور عبدالرحمن سالم(1) رد رزين على هذه الفرية نستحسنه، ومفاده: أن وات لم يحدد تماما ماذا قصد بخيبة الأمل، فإن كان المقصود أن الذين صحبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية كانوا يتوقعون دخول مكة والفوز بالغنائم فإن هذا افتراض فارق الحقيقة؛ لأن الثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج إلى مكة محارباً بل معتمراً، وقد ساق معه الهدي وأحرم بنية العمرة "ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له"(2) فعلام يتوقع من صحبوه أن يدخلوا مكة محاربين وأن يفوزوا بالغنائم، فلا احتمال إذاً لخيبة توقعاتهم، وأما إذا كان المقصود أنهم كانوا يتوقعون دخول مكة والإتيان بالعمرة فإن خيبة توقعاتهم من هذه الناحية أمر لا سبيل إلى تعويضه بفتح خيبر والحصول على الغنائم.
وحقيقة الدافع وراء غزوة خيبر تكمن في المؤامرات التي حاكها اليهود من وراء جدر خيبر وحصونها المحصنة، فهم الذين ألبوا الأحزاب وقد يعاودون الكرة وهم دائمو التربص بالمسلمين، فلبني النضير ثارات مع المسلمين ولقد كانت خيبر في حالة رخاء تمكنها من تمويل أي حركة معارضة للدولة الإسلامية.
__________
(1) عبدالرحمن أحمد سالم، "قراءة نقدية في كتابات مونتجمري وات في السيرة النبوية"، ص 138-139.
(2) ابن هشام، سيرة النبي، 3/356.(32/47)
هذا هو السبب الحقيقي الوجيه الذي حمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجله على خيبر، وليس كما يدعي وات كما تذكر الموسوعة من أن الغزوة نشأت رغبة من محمد - صلى الله عليه وسلم - في ثواب أصحابه على انسحابهم المنظم من الحديبية وانصياعهم التام لأمره.
( وتقريبا في الوقت نفسه طرأ تغير على سياسة محمد العامة في جوانب مهمة. أحدها كان "الانفصال عن اليهود"؛ وبدلاً من تقديم التنازلات لليهود بغية الحصول على اعترافهم بنبوته، أكد خصوصية الصفة العربية للدين الإسلامي. وحتى ذلك الوقت توجه محمد إلى القدس بالصلاة ولكن أمره وحي بالتوجه إلى مكة(1).
( وكانت الزراعة قد طورت من قبل عدة قبائل يهودية استقروا بين ظهراني العرب أصحاب البلد الأصليين ورغم ذلك حازوا أفضل الأراضي(2).
__________
(1) About the same time there was a change in Muhammad’s general policy in important respects. One aspect was the “break with Jews”; instead of making concessions to the Jews in the hope of gaining recognition of his prophethood, he asserted the specifically Arabian character of the Islamic religion. Hitherto the Muslims had faced Jerusalem in prayer, but a revelation now bade them face Mecca.
(2) Agriculture had been developed by several Jewish clans, who had settled among the original Arabs, and they still had the best lands.(32/48)
( وكان المهاجرون (الرجال الذين قدموا من مكة) في بداية الأمر ضيوفاً على إخوانهم المسلمين في المدينة. ولكن لم يكن محمد ليقبل أن يستمر هذا الوضع لمدة غير معلومة، ومارس قليل من المهاجرين التجارة في السوق المحلية التي تديرها قبيلة يهودية(1).
( إضافة إلى هذا جعل من الاضطرابات البسيطة عذراً لطرد القبيلة اليهودية التي كانت تدير السوق(2).
( وطردت قبيلة يهودية أخرى من المدينة(3).
( وبعد حصار المدينة هاجم محمد قبيلة [بني] قريظة اليهودية، ربما لأنهم كانوا يحرضون ضده. وعندما استسلموا أعدم الرجال كلهم، وبيع النساء والأطفال عبيداً(4).
( وليثيبهم على هذا التصرف المنظم قاد محمد بعد شهرين القوة نفسها في هجوم على خيبر الواحة اليهودية، واستسلمت بعد حصار ولكن اليهود سمح لهم بالبقاء شريطة أن يرسلوا نصف محصول التمر إلى المدينة(5).
__________
(1) The emigrants (muhajirun, the men from Mecca) were at first guests of brother Muslims in Medina, but Muhammad cannot have contemplated this situation continuing indefinitely.
(2) He also made a minor disturbance an excuse for expelling the Jewish clan, which ran the market.
(3) And another Jewish clan was expelled from Medina.
(4) After the siege of Medina, Muhammad attacked the Jewish clan of Qurayzah, which had probably been intriguing against him. When they surrendered, the men were all executed and the women and children sold as slaves.
(5) Partly to reward this orderly conduct, Muhammad two months later led the same force against the Jewish oasis of Khaybar, north of Medina. After a siege it submitted, but the Jews were allowed to remain on condition of sending half of the date harvest to Medina.(32/49)
الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه مادي نفعي صِرف
لا يرى وات سوى البعد المادي النفعي الذي ((تبرر الغايةُ فيه الوسيلة)) في غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقدم عدة آراء بهذا الصدد، تنعكس في طروحاتها على الموسوعة:
أ- كان الهدف من الغارات المبكرة التي شنها الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] على قوافل المكيين التجارية هو التماس مصدر رزق للمهاجرين الذين كانوا في ضيافة الأنصار، فلم يرد الرسول للمهاجرين أن يعيشوا ضيوفا دائمين على الأنصار، ولم يتوقع منهم أن يشتغلوا بالزراعة ليكونوا قادرين على الاشتغال بالتجارة، فكان نهب قوافل المكيين التجارية هو الأسلوب الأمثل للحصول على مورد رزق لهم(1).
لا نجد سبباً مقنعاً وراء ادعاء وات بأن الغارات التي شنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قوافل المكيين التجارية بعد هجرته إلى المدينة بقليل كان الهدف منها إيجاد مورد رزق للمهاجرين، فلقد كان المهاجرون قادرين على التماس مصادر أخرى للرزق بطرق أكثر أمناً وأيسر سبلاً، فلم يكن هناك ما يمنعهم من ممارسة التجارة أنى شاؤوا، ولم يكن هناك ما يمنعهم من تعلم حرفة نافعة تدر عليهم الرزق، فهل يعقل لوات أن يدعي أن أبواب الرزق السهلة المتاحة في حاضرة تجارية كالمدينة كانت موصدة أمام المهاجرين، ولم يجدوا إلا باب نهب قوافل المكيين على ما في ذلك من تكبد الصعاب ومجابهة المخاطر؟
__________
(1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 105.(32/50)
أما الغزوات والسرايا قبل بدر فلم يبدأ بها المسلمون إلا بعد إذن إلهي بالقتال يوضح سببه ويشد من أزرهم بتأييده ( ? ( ( ( (( ( ( ( ( ( ([الحج: 39]، وأنزل سبحانه وتعالى هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لدحض الباطل، وتمكين دين الله في الأرض وإقامة شعائره فيها ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الحج: 41]، وكان من المناسب أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية التي تمر بهم إلى الشام وقريش هي عدوهم الأول والأشد تربصاً بهم وظلماً لهم، وفي هذا إضعاف للعدو وقطع للشرايين الاقتصادية عنه، ولقد كانت أشد الضربات قسوة على المكيين تلك التي تعرقل طريق تجارتهم.
ب- يفسر وات غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنها تمثل انعكاساً طبيعياً للحياة الصحراوية العربية التي كانت الغارات فيها لوناً من ألوان الرياضة وليست شكلاً من أشكال الحرب(1)، وهذا يفسر كلمة razzia التي تسرف الموسوعة في استخدامها عندما تتكلم عن غزوات الرسول، وهي تعني: "غارة عسكرية تخريبية"(2).
ولا يمكننا أيضاً أن نقبل الزعم بأن هذه الغزوات والسرايا كانت انعكاساً طبيعياً لحياة الصحراء العربية التي مثل فيها النشاط القتالي لوناً من ألوان الرياضة القومية، إن هذا الزعم لو صح فيما يتعلق بحياة العرب في الجاهلية فإنه لا يمكن أن يصح فيما يتعلق بالحياة في ظل الدولة الإسلامية، وذلك أن الإسلام لم ينظر للقتال على أنه متعة وتسلية ( ? ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ([البقرة: 216]، هذا هو فرض الجهاد، يبين الله سبحانه وتعالى أن هذا مِمّ امتحن المسلمين به وجعله طريقاً موصلاً إلى الجنة، ولكن القول بأن العرب كانت تغزو وتُغير للتسلية، فهذا ما ينم عن جهل عميق بخصائص النفس البشرية، ونزوعها إلى الركون إلى السلم وطلبها السلامة.
__________
(1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 105.
(2) معجم: The World Book Dictionary.(32/51)
( وكان المهاجرون (الرجال الذين قدموا من مكة) في بداية الأمر ضيوفاً على إخوانهم المسلمين في المدينة. ولكن لم يكن محمداً ليقبل أن يستمر هذا الوضع لمدة غير معلومة. ومارس قليل من المهاجرين التجارة في السوق المحلية التي تديرها قبيلة يهودية. وقام الآخرون بالطريقة العربية المعروفة وبموافقة محمد بغزوات أملاً بقطع طريق القوافل المكية المتجهة بمحاذاة المدينة في طريقها إلى سوريا. وقاد محمد بنفسه ثلاثاً من هذه الغزوات في 623م(1).
__________
(1) The emigrants (muhajirun, the men from Mecca) were at first guests of brother Muslims in Medina, but Muhammad cannot have contemplated this situation continuing indefinitely. A few emigrants carried on trade in the local market run by a Jewish clan. Others, with the approval of Muhammad, set out in normal Arab fashion on razzias (ghazawat, “raids”) in the hope of intercepting Meccan caravans passing near Medina on their way to Syria. Muhammad himself led three such razzias in .(32/52)
ج- يرى وات أن اتساع دائرة المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية أدى إلى انتقال النشاط القتالي الإسلامي من مفهوم الغارة إلى مفهوم الجهاد، ذلك أن الغارة تمثل نشاطا قتالياً تقوم به قبيلة ضد أخرى، أما الجهاد فهو عمل يقوم به مجتمع ديني ضد غير المنتمين إليه، ومن هنا كان اعتناق أي جماعة أو قبيلة للإسلام موجباً لوقف القتال ضدها. فعندما انتشر الإسلام انتشاراً واسعاً بين القبائل العربية تضاءلت فرصة الجهاد الداخلي، وكان لابد من تهيئة فرصة الجهاد الخارجي حتى يمكن إيجاد متنفس لطاقات العرب القتالية التي كان لابد أن تفصح عن نفسها بشكل أو بآخر، ويرى وات أن الصبغة الدينية للجهاد هي التي قامت بدورها الكبير في التنفيس عن تلك الطاقات مما أتاح للمسلمين في أقل من قرن من الزمان أن ينشئوا إمبراطوريتهم الواسعة(1).
في ضوء ما ذكرنا ينتفي الزعم بانتقال النشاط القتالي الإسلامي من مفهوم الغارة إلى الجهاد نتيجة اتساع دائرة المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية، ذلك أن القتال دفعاً للأذى ودرءا للكيد وانتصاراً للنفس ليس غارة قبلية، بل هو جهاد يصيب بمعانيه عين الحقيقة، وهو ما اتسم به النشاط القتالي الإسلامي منذ فجره المبكر في المدينة.
وغزوات المسلمين جاءت امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([التوبة: 29]، وتوجهت الحملات العسكرية لخارج جزيرة العرب بعد ضمها تحت لواء التوحيد لا لإيجاد متنفس لطاقات العرب حتى لا يعودوا للاقتتال فيما بينهم، وإنما بقصد تبليغ الدعوة التي كلفوا بها.
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 108- 109.(32/53)
( وكان قد أدرك أنه إذا أصبح العرب مسلمين فسيكون من المحتم توجيه الطاقة الناتجة عن غزواتهم لبعضهم إلى الخارج. فغزو المسلم للمسلم أمر غير مقبول البتة(1).
د- كان الهدف من السرية التي وجهها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى نخلة في رجب في السنة الثانية للهجرة بقيادة عبدالله بن جحش هو الاستيلاء على إحدى قوافل المكيين التجارية، وهذه هي السرية التي أريق فيها أول دم في تاريخ العلاقات بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في تقدير وات، يعلم أن هذه السرية قد يترتب عليها قتال في الشهر الحرام وهو رجب، وكان موافقاً على القتال لو حدث، وحدث القتال فعلاً وأسفر عن قتل أحد المشركين، وهنا فوجئ الرسول بما لم يكن يتوقعه من ردود أفعال حادة من قبل المسلمين في المدينة، فدفعه ذلك إلى أن يتظاهر، كما يدعي وات، أنه لم يكن موافقا على ما حدث، ورفض توزيع الغنائم، وأن يأخذ نصيبه منها.
__________
(1) He had already realized that, insofar as the Arabs became Muslims, it would be necessary to direct outward the energies expended on razzias against one another.(32/54)
وعرض وات لأحداث سرية نخلة يحتاج إلى مراجعة جذرية، إذ يزعم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن هذه السرية قد يترتب عليها قتال في شهر حرام، وهو رجب، وكان موافقاً على ذلك، وهذا زعم لا يستند إلى برهان تاريخي، فإذا رجعنا إلى نص الكتاب الذي سلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن جحش - رضي الله عنه - وفقاً لما يرويه الطبري وابن هشام نجد أن فيه أمراً بالاستطلاع فقط، ولم يفوضهم بالقتال: "إذا نظرت في كتابي هذا فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً وتعلّم أخبارهم"(1)، والترصد هنا معناه الترقب كما يتضح تماماً من السياق، والحقيقة أنّ ما حدث كان سوء تقدير ناجم من اجتهاد شخصي، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسمح لهم بذلك وأنكر عليهم ما فعلوا ومنع التصرف في العير والأسيرين.
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلُّوا ما حرمت العهود والمواثيق العربية، وكثر القيل والقال، حتى نزل وحي حاسم لهذه الأقاويل ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([البقرة: 217]، ومصرح بأن هذه الضجة التي افتعلها المشركون لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام، حين تقرر سَلْبُ أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟
__________
(1) ابن هشام، سيرة النبي، 2/239؛ وتاريخ الطبري، 2/411.(32/55)
( وأخيرا في يناير من عام 624م أرسلت مجموعة صغيرة من الرجال شرقاً بأوامر صارمة تخبرهم بالاتجاه إلى نخلة بالقرب من مكة ومهاجمة القافلة القادمة من اليمن. وقاموا بهذه المهمة بنجاح وبفعلهم هذا نقضوا الأعراف العربية عن الحرمة، ومن ثم نبهوا المكيين على خطورة تهديد محمد(1).
هـ- يرى وات أن بحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أساس اقتصادي متين لدولته كان من بين الأسباب التي أدت إلى تطلعه للغزو الخارجي، وفي نظر وات لا تمثل غزوة تبوك (9 هـ) مجرد ختام لغزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هي بالأحرى مقدمة حقيقية لحروب التوسع التي بدأت بعدها بقليل، فقد كانت الغزوة أضخم غزوات الرسول على الإطلاق(2).
وهذا الزعم لا يقوم على أساس تاريخي، فمن يقرأ في حملات الرسول - صلى الله عليه وسلم - على طريق الشام يدرك أنها كانت في الأساس ردا لعدوان أو درءاً لتهديد، فغزوة دومة الجندل في السنة الخامسة للهجرة لم يكن لها سبب سوى أن العرب المقيمين بدومة الجندل كانوا مصدر تهديد للمدينة وللتجار الذين كانوا يترددون بين المدينة والشام، بل إن الواقدي يذكر في مغازيه أن هؤلاء العرب تجمعوا وهَمُّوا بغزو المدينة(3)، وعندما نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين بساحتهم ولوا مدبرين، فهذه إذاً غزوة ذات غرض محدد لم تتجاوزه، ولم تكن غايتها بكل تأكيد إحراز مكاسب اقتصادية.
__________
(1) At last, in January , a small band of men was sent eastward with sealed orders telling them to proceed to Nakhlah, near Mecca, and attack a caravan from Yemen. This they did successfully, and in doing so they violated pagan ideas of sanctity—thereby making the Meccans aware of the seriousness of the threat from Muhammad.
(2) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 218-219.
(3) المغازي للواقدي، 1/403.(32/56)
والذي يصدق على غزوة دومة الجندل يصدق على سرية مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، وهذه السرية خرجت نتيجة استفزازات متكررة كان يقوم بها العرب المتحالفون مع الروم في شمال الجزيرة، وبخاصة الغساسنة الذين قتلوا الحارث بن عمير الأزدي مبعوث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كبير بصرى، ورغم ما أبلى المسلمون في هذه الغزوة من بلاء حسن، إلا أنهم اضطروا للانسحاب أمام الحشود الهائلة من الروم وأحلافهم، ويصعب على المرء أن يتصور أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ليجابهوا مائتي ألف مقاتل من أجل أي مكسب مادي، ولكن كان انتصاراً لدم مسلم ولدولة الإسلام التي قتل سفيرها وأُعلن عليها الحرب وفرضت عنوة(1).
وأما غزوة تبوك، "غزوة العُسرة" التي يقول وات محاجاً: إنها رائدة الهجوم على سوريا المزدهرة اقتصاديا، فقد أعد لها الصادق المصدوق محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظروف بالغة القسوة من شدة الحر وقلة الزاد، وهي غزوة فرضت على المسلمين فرضاً، إذ لم يكن القيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من وقع طيب في نفوس القبائل العربية، وبدأت بعض القبائل المتاخمة لحدوده في الاستقلال عنه وإرسال الوفود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما جعله يعد العدة لمعركة حاسمة مع المسلمين، ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخبر حشد المسلمين في جيش على حال كما ذكرنا وخرج بهم لمجابهة الخطر المحدق بالدولة الناشئة، ولما لم يجد أحداً في المكان الموصوف عاد بجيشه قافلاً إلى المدينة، وحتى في هذه الغزوة، التي يهول وات من أمر أبعادها وتبعاتها، لم تكن بدافع الهجوم بل الدفاع، ولم يجن منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي مكسب مادي.
__________
(1) تاريخ الطبري، 3/101 وما بعدها.(32/57)
( ومن الجدير ملاحظة أن أكبر غزواته، عدا طلعاته على المكيين، كانت على امتداد الطريق إلى سوريا التي تبعتها الجيوش العربية بعد موته. ومما لاشك فيه أنه أدرك أن المهارات الإدارية لتجار مكة ستكون ذات فائدة لأي توسع لدولته الفتية(1).
( الزحف على حدود سوريا. حدثت أعظم غزوات محمد في نهاية سنة 630م عندما اصطحب ثلاثين ألف رجل في رحلة استغرقت شهرا نحو الحد السوري. وبهذه الحملة كان محمد رائداً للهجوم على سوريا ودخل في اتفاقات أصبحت نماذج لترتيبات المعاهدات مع الشعوب المهزومة(2).
الشبهة العاشرة: التشكيك في مقدار اضطهاد مشركي مكة للمسلمين
يعطي وات قدراً ضئيلاً من الأهمية للاضطهاد الذي تعرض له المسلمون في مكة مما دفعهم إلى الهجرة، ويرى بأن المسلمين قاموا باختلاق هذه الروايات في وقت لاحق رغبة في تضخيم التضحيات التي قام بها المسلمون(3).
__________
(1) It is noteworthy that his largest razzias, apart from the expeditions against the Meccans, were along the route to Syria followed by the Arab armies after his death. He doubtless realized that the administrative skill of the Meccan merchants would be required for any expansion of his embryonic state.
(2) March to the Syrian border: The greatest of all of Muhammad’s razzias occurred at the end of , when he took men on a month’s journey to the Syrian border. In this campaign he pioneered the invasion of Syria and made agreements that became models for treaty arrangements with captured peoples.
(3) مونتقمري وات، Muhammad at Mecca، ص 145-146.(32/58)
ومن الطبعي أن يُضطهد النذر وأصحاب الرسالات ومناصروهم في مجتمعاتهم وأن يضيق عليهم الخناق، ( ? ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ([يس: 30]، والمعارضة القرشية جاءت على القدر الذي جاءت عليه من القوة بسبب أن هذه الرسالة التي خرجت بين ظهرانيهم تحدت جميع ما آمنوا به من لدن آبائهم الأولين وما تعودوا عليه من طريقة عيش وإدارة شؤونهم الحياتية.
وفي هذا الصدد يقول ابن هشام(1) إن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لما بدأ يدعو للإسلام لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله بالإسلام، وهم قليل مستخفون"، ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [ص: 4-6]، ومشوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وساوموه قائلين: "يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة... فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً..." فقالوا: وإنا والله لا نتركك وما بالغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا"(2)، فما بال وات يثير الشبه حول تضخيم الحقائق، وهذه قريش تضع أغلى ما تملك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) ابن هشام، سيرة النبي، 1/275 – 276.
(2) ابن هشام، المرجع السابق، 1/315 – 317.(32/59)
وأما بالنسبة لأمر الهجرة إلى الحبشة فلما كان أن استورى أمر الدعوة غضب المشركون فأخذوا من أسلم مع الرسول بالشدة والقسوة "...فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الإسلام، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فُعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا إلى أرض الحبشة... فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة وخاف عليهم الفتن، ومكث هو فلم يبرح"(1)، فمن الواضح من هذا العرض الذي لا تكاد مصادرنا تختلف عليه أن المسلمين الذين هاجروا بأنفسهم ودينهم من اضطهاد مشركي مكة، وكان ذلك استجابة لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي اختار البقاء، ولكن الموسوعة تذكر دافعاً مادياً وراء الهجرة إلى الحبشة وهو الاشتغال بالتجارة أو ضمان دعم عسكري.
__________
(1) تاريخ الطبري، 2/328 – 329.(32/60)
( ويصعب تقويم طبيعة ومقدار اضطهاد المسلمين في مكة. فقد كان هناك قليل من العنف الجسدي وكان ذلك غالب الوقت من قبل العائلة. وعانى محمد من مضايقات صغيرة مثل وضع النفايات خارج داره. ويقال: إن هذا الاضطهاد أدى إلى هجرة بعض المسلمين إلى أثيوبيا حوالي عام 615م ولكنهم ربما كانوا يبحثون عن فرص للتجارة أو دعم عسكري لمحمد. وبقي بعضهم حتى عام 628م وذلك لمدة طويلة بعد أن دانت الأمور لمحمد في المدينة. ومهما كانت طبيعة هذا الاضطهاد فقد أوغرت صدور المسلمين بسببه(1).
( ومورس ضغط تجاري على مؤيدي محمد، وفي بعض العائلات كان هناك اضطهاد بسيط لأفرادها الصغار الذين اتبعوه(2).
__________
(1) It is difficult to assess the nature and extent of the persecution of the Muslims in Mecca. There was little physical violence, and that almost always within the family. Muhammad suffered from minor annoyances, such as having filth deposited outside his door. The persecution is said to have led to the emigration of some of the Muslims to Ethiopia about , but they may have been seeking opportunities for trade or military support for Muhammad. Some remained until , long after Muhammad was established in Medina. Whatever the nature of the persecution, the Muslims were very bitter about it.
(2) Commercial pressure was brought to bear on Muhammad’s supporters, and in some families there was mild persecution of junior members who followed him.(32/61)
وهناك قضايا أخرى تعرضت لها الموسوعة تفضح بجلاء عدم التزام الموسوعة ومن وراءها الأسلوبَ العلمي الرصين الذي تزعم اتباعه مما يكشف عن الوجه القبيح للموسوعة دون حجاب اللغة العلمية، ومن الأمثلة على هذا التهجم الصريح على الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، واستخدام لغة مغرضة مثل: كلمة propaganda التي تعني "دعاية" وبخاصة دعاية كاذبة لفكر جماعة ذات طابع سياسي تحوم حول نشاطاتها الشكوك، وذلك عند الحديث عن من أسلم من أهل المدينة في بيعة العقبة الأولى والذين قالت عنهم الموسوعة أنهم عادوا بعد البيعة ليشيعوا "دعاية" محمد - صلى الله عليه وسلم - في المدينة؛ واستخدام كلمة razzia وتكرارها عند الحديث عن غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي كلمة إنجليزية أتت إليها عن طريق الفرنسية التي أخذتها بدورها عن كلمة "غزوة" العربية، ولكنه في استخدامها الإنجليزي الحالي أشبه ما تكون بكلمة "غارة"، ويفسر وات بأن "الغارات" التي شنها المسلمون: "تمثل انعكاساً طبيعياً للحياة العربية التي كانت الغارات فيها لوناً من الرياضة وليست شكلاً من أشكال الحرب"(1)، ليعني بذلك أن النهب هو الأسلوب الأمثل للحصول على مورد رزق(2)؛ واستخدام كلمة showdown عند الحديث عن محاولة الرسول - صلى الله عليه وسلم - اللحاق بالمشركين بعد أن ولَّوا هاربين من أرض معركة أحد، والكلمة فيها كثير من السخرية وتعني تظاهراً بفعل الشيء يداخله التمثيل والكذب، والموسوعة تقول إن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قام بتمثيل أنه أراد اللحاق بالمكيين، وذلك للاعتقاد السائد عند المستشرقين بأن معركة أحد كانت نصراً للمكيين.
الخاتمة
__________
(1) مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 105.
(2) عبدالرحمن أحمد سالم، "قراءة نقدية في كتابات مونتقمري وات في السيرة النبوية"، ص 116.(32/62)
يظهر جلياً من هذه الدراسة عوار منهجية الموسوعة التي اتبعتها في كتابة مادة "محمد: النبي ورسالته" وأن لغة التحاشي والجدال المناقض، والتعريفات والتركين التي يعترف بها الغرب لغةً للرصانة العلمية والتي وظفتها الموسوعة بدقة في كتابة المادة قيد البحث، ليست إلا صياغة قريبة من الذائقة الغربية المعاصرة، وحجاباً لا يلبث أن ينكشف ويبرز من ورائه مناهجُ التشكيك والتفسير المادي والميكافيلية التي طُبِعَ وسمُها على الفكر الاستشراقي المعاصر، وفي هذا البحث حاولت كشف هذه العلاقة.
وهذه العلاقة لا تتجلى للقارئ الغربي غير المتخصص الذي تستهدفه الموسوعة قبل أي شخص آخر؛ ويورد الدكتور مصطفى السباعي ضمن أهم وسائل المستشرقين لتحقيق أهدافهم ونشر أفكارهم إعداد الموسوعات المتخصصة(1)، وهم أول من يستكتب في الموسوعات العامة الغربية فيما يخص العرب والمسلمين وكل ما له صلة بهم، وذلك لاعتقاد القائمين على هذه الموسوعات الموضوعية والحياد في هؤلاء من جهة، ولجهلهم بحقيقة الإسلام وجوهره من جهة أو لرغبتهم الخاصة في التعرض للإسلام وأهله.
__________
(1) مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون، ص 26- 28.(32/63)
وتاريخ الموسوعة البريطانية ذات الصيت والسمعة والتي تزود القراء بالمعلومات بشتى الوسائل (ورقية، أسطوانات ليزرية، الشبكة العالمية) وفي شتى الأشكال (موسوعات معمقة، ومختصرة، وموسوعات للأطفال، وكتب تصدر عن الموسوعة في موضوعات محددة، وبلغات مختلفة) لم يكن دائما مذيلاً بالثناء والذكر الجميل، وبخاصة الطبعة الرابعة عشرة التي درسها جوزيف مككيب Joseph McCabe في كتابه المعنون بـ "أكاذيب وأباطيل الموسوعة البريطانية" مقارنة مع الطبعة الحادية عشرة، وكشف مككيب فيه عن أن الطبعة الرابعة عشرة حررت بإشراف اتحاد وستمنستر الكاثوليكي الذي نشر في تقريره السنوي عام 1928م ما يلي: "لقد تمت مراجعة الموسوعة البريطانية أخذاً في الاعتبار الحد من الأمور المتحفظ عليها من وجهة النظر الكاثوليكية، وإضافة ما هو صحيح وموضوعي، ولقد تمت دراسة الأجزاء الثمانية والعشرين كلها، وتمت الإشارة إلى المواضع المتحفظ عليها وذكرت أسباب حذفها أو تعديلها، وهناك أسباب وجيهة لأملنا في أن يجد القراء هذه الطبعة أكثر صواباً وموضوعية بكثير من سابقاتها"!(1)
__________
(1) الفقرة الثانية، ص 18 من تقرير اللجنة الفرعية لليقظة والاحتراز vigilance sub-committee من التقرير السنوي الحادي والعشرين لاتحاد وستمنستر الكاثوليكي.(32/64)
ورغم إعلان الاتحاد أنه لم يتدخل في كتابة طبعة الموسوعة الرابعة عشرة الذي أصدره بعد ردة الفعل التي تُلُقّي بها التقرير(1)، يورد مككيب في كتابه الذي خصصه للرد لكشف بطلان هذا الإعلان أمثلة كثيرة جدا على تدخل الاتحاد الكاثوليكي في تحرير الموسوعة، وبخاصة في المقالات التي كتب في آخرها الحرف x، أي مجهول اختصاراً لاسم المؤلف، بل حتى إن مادة "محمد" التي كتبت في اثنتي عشرة صفحة في الطبعة الحادية عشرة(2) اختُزلت في ثلاث صفحات فقط، ويقول مككيب: إن سبب هذا هو ضمان مبيعات أكثر للموسوعة!
وإذا كان القائمون على الموسوعة سَلَّموا قيادها لمجموعة ضغط ذات أهداف إيديولوجية ضيقة من أجل صياغتها بما يتوافق مع أغراضها من أجل المال، فلا نستغرب إذاً أن تكون الموسوعة موافقة ومداهنة للفكر العام المستقر عن الإسلام الذي صاغته كتابات المستشرقين(3) ونشاط وسائل الإعلام المعادية للإسلام.
__________
(1) جريدة London Times، الصفحة الأولى، بتاريخ 9 أغسطس 1929م.
(2) قمت بمراجعة مادة "محمد" Mahomet في الطبعة الحادية عشرة التي صدرت عام 1911م ووجدتها مليئة بالأباطيل والفِرى، بل كما يظهر من تهجئة اسم نبينا الكريم في هذه المادة هي تنتمي أكثر ما يكون الى الفكر الاستشراقي الذي ساد في العصور الوسطى، والموقع لمن أراد الرجوع إليه هو:
http:// encyclopedia.org
(3) يذكر الدكتور أكرم ضياء العُمري (مرجع سابق، ص 55- 56) أنه ما بين عامي 1800- 1950م نُشر ستون ألف كتاب عن الإسلام، أي بمعدل أكثر من كتاب كل يوم! هذا بالإضافة إلى المجلات والمؤتمرات وبرامج وسائل الإعلام المختلفة.(32/65)
وإذا عرفنا أن الموسوعة قامت بمراجعة 35? من موادها(1) خلال العامين الماضيين، نوصي بتبني هذه الندوة الرد على الموسوعة ومناقشتها لبيان الأخطاء الفاضحة التي وقعت فيها فيما يخص الإسلام، وبخاصة الافتراء العظيم على نبي الرحمة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والشبهات والطعونات الكثيرة التي ساقتها الموسوعة تحت مادة "القرآن"(2).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
1- المراجع العربية:
أزمة الاستشراق الحديث والمعاصر، محمد حسن خليفة، (إصدار) عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض: 1421هـ.
الاستشراق في السيرة النبوية، عبدالله محمد الأمين النعيم،: دراسة تاريخية لآراء وات-بروكلمان-فلهاوزن مقارنة بالرؤية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا: 1417 هـ.
الاستشراق والتاريخ الإسلامي، فاروق عمر فوزي، الأهلية، الأردن: 1409هـ.
الاستشراق والمستشرقون: مالهم وما عليهم، مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت: 1405 هـ.
تاريخ الرسل والملوك (المشهور بتاريخ الطبري)، الطبري (أبو جعفر محمد ابن جرير)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة: 1979م.
دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية: أضاليل وأباطيل، إبراهيم عوض، مكتبة البلد الأمين، مصر: 1419هـ.
الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الألمانية، رودي بارت، ترجمة: مصطفى ماهر، دار الكتاب العربي، القاهرة: 1967م.
دلائل النبوة، البيهقي (أحمد بن الحسين)، تحقيق عبدالرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية، المدينة المنورة: 1989م.
__________
(1) كتالوج الموسوعة البريطانية لعام 2004م، ص 4.
(2) قام د. فضل حسن عباس بتفنيد الشبهات الكثيرة التي ذكرتها الموسوعة فيما يخص محكم التنزيل في كتابه: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية نقد مطاعن وردّ شبهات، دار البشير عمان،1989م.(32/66)
زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم (أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي)، دار الباز، المدينة المنورة.
السيرة النبوية، ابن كثير (أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن عمر)، تحقيق أحمد أبو ملحم وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت: 1985م.
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (المشهورة بسيرة ابن هشام)، ابن هشام (أبو محمد عبدالملك بن هشام)، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الهداية.
الشبهات المزعومة حول القرآن الكريم في دائرتي المعارف الإسلامية والبريطانية، محمد السعيد جمال الدين،. بحث قدم في ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه، المنعقدة في الفترة مابين 3 – 6 رجب 1421 هـ، بإشراف مجمع خادم الحرمين الشريفين لطباعة المصحف الشريف.
قراءة نقدية في كتابات مونتقمري وات في السيرة النبوية، عبدالرحمن أحمد سالم، مجلة المسلم المعاصر، السنة الحادية والعشرون، العدد 82، رجب-شعبان-رمضان 1417 هـ، ص 86-161.
كتاب المغازي (المشهور بمغازي الواقدي)، الواقدي (محمد بن عمر)، تحقيق مارسدن جوزنز، مؤسسة العلمي للمطبوعات، بيروت: 1966م.
المستشرقون والسيرة النبوية، عماد الدين خليل،: بحث مقارن في منهج المستشرق البريطاني المعاصر مونتقمري وات"، بحث منشور في الجزء الأول من كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي: 1405هـ، ص 113 – 201.
مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، عماد الدين خليل (محرر)، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي: 1405هـ.
منهج الاستشراق في دراسة الإسلام، أنور الجندي، مجلة منار الإسلام، السنة الخامسة عشرة، العدد التاسع، رمضان 1410 هـ، ص 82-86.
المنهج عند المستشرقين، عبدالعظيم الديب، حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية (بجامعة قطر)، العدد السابع: 1409ه، ص 335-374.(32/67)
منهج مونتقمري واط في دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، جعفر شيخ إدريس، بحث منشور في الجزء الأول من كتاب مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي: 1405هـ، 205 – 247.
موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية، أكرم ضياء العُمري، مجلة المسلم المعاصر، السنة التاسعة عشرة، العددان 75-76، ص 53-77.
النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، جان جبور، دار الساقي، لندن: 2001م.
الوجيز في علم الاستشراق، سعدون محمود الساموك، دار المناهج، الأردن: 1423ه.
2- المراجع الأجنبية:
Al-Amri, Waleed B. (2002) Social Semiotics for Translation Studies: Applications of a Proposed Social Semiotic Model in the Analysis of a Corpus of Hard News Reports from Arab and British Newspapers. (An unpublished PhD thesis) UMIST.
Brocklmann, C. (1964) History of the Islamic Peoples. London.
Evans, P. & Wurster T. (2000). Order Blown to Bits: How the New Economics of Information Transforms Strategy. Hardvard: Harvard Business School Press.
Grimme, H. (1892) Mohammed. Munster.
Hatim, B. & Mason, I. (1997). The Translator as Communicator. London: Routledge.
Margoliouth, D.S. ([1905] 1985) Mohammed and the Rise of Islam. Ram Swarup: London.
McCabe, J. (1996) The Lies and Fallacies of the Encyclopedia Brittanica: How Powerful and Shameless Clerical Forces Castrated a Famous Work of Reference. The Book Tree.
Mohar Ali, M. (1997). Sîrat al-Nabî - صلى الله عليه وسلم - and the Orientalists. Madinah: King Fahd Qur’an Printing Complex.
The World Book Dictionary.
Watt M. (1960 [1953]). Muhammad at Mecca. Oxford: Clarendon Press.(32/68)
Watt M. (1961). Muhammad: Prophet and Statesman. Oxford: Oxford University Press.
Watt M. (1966). Muhammad at Medina. Oxford: Clarendon Press.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
أولاً: الموسوعة البريطانية: تاريخ وأرقام…3
أ- السياسة التحريرية للموسوعة البريطانية…5
ب- مادة محمد في الموسوعة البريطانية…11
ثانيا: منهج مونتقمري وات في دراسة السيرة النبوية…13
ثالثا: قراءة مادة "محمد: النبي ورسالته"…16
الشبهة الأولى: التشكيك في المصادر العربية…20
الشبهة الثانية: التشكيك في نزول الوحي…23
الشبهة الثالثة: التفسير المادي لوقائع السيرة…26
الشبهة الرابعة: دعوى تأثر الإسلام بالبيئة الوثنية…28
الشبهة الخامسة: دعوى خصوصية الإسلام للعرب…32
الشبهة السادسة: دعوى أن نبوغ الرسول السياسي وهمته العالية ساعدا على نشر دينه أكثر من كونه نبياً مؤيداً…34
الشبهة السابعة: التشكيك في طبيعة علاقة الرسول مع الأنصار…37
الشبهة الثامنة: دعوى اضطهاد الرسول لليهود الفاعلين في المجتمع المدني…41
الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وجه مادي نفعي صِرف…50
الشبهة العاشرة: التشكيك في مقدار اضطهاد مشركي مكة للمسلمين…59
الخاتمة…64
المراجع…67
1- المراجع العربية:…67
2- المراجع الأجنبية:…70
فهرس الموضوعات…71(32/69)
جهود العلماء في تصنيف السيرة النبوية
في القرنين الثامن والتاسع الهجرييْن
عرض تاريخي
للدكتور عبد الحميد بن على الفقيهي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فيعد هذا البحث محاولة أولية بقدر الإمكان، لرصد ما صنف في السيرة النبوية في القرنين الثامن والتاسع الهجريين؛ لإظهارها من حيث القدر، ثم تصنيفها إلى عدة تصنيفات، حسب الموضوعات، وحسب مناهج التأليف، ومقارنة هذه المرحلة بالمراحل التي سبقتها لمعرفة مدى تأثرها بها، وما أضافته إليها.
وهذا الرصد والتصنيف؛ هو المدخل العلمي الحقيقي للتعرف على جهود العلماء في خدمة السيرة النبوية، ويعطي التصور الدقيق لتلك المرحلة علمياً وحضارياً.
وفي الوقت نفسه يفتح الباب للباحثين والدارسين للإفادة من ذلك التراث، ويمهد لهم الطريق الواضح في سبيل ذلك(1).
منهج البحث:
الأسلوب الوصفي هو الأساس في هذا البحث، وإنْ كان الجانب النقدي والمقارنة وتتبع تطور التصنيف في السيرة يظهر في ثنايا البحث، بقدر ما تتيح الفرصة ذلك، وفي الحدود التي لا تخرج عن حدود البحث، بل تفيده وتبرز جوانب هامة فيه.
خطة البحث:
قسمت البحث إلى مقدمة، يتلوها خمسة فصول وخاتمة تحوي بعض الملحوظات.
وقد تم العمل عن طريق انتخاب مصنفي القرنين الثامن والتاسع من كتاب (( معجم ما ألف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - )) للدكتور المحقق صلاح الدين المنجد، ثم من فهارس المخطوطات والمكتبات العربية والأجنبية، ومراجعة المصادر التي تؤرخ للحركة العلمية في تلك الفترة، كمؤلفات الحافظ ابن حجر والسخاوي وابن شاكر وابن الجزري.... وغيرهم؛ للتأكد من صحة نسبة الكتاب إلى مصنفه، وما قالوه عن المُصَنَّف.
__________
(1) انظر عن أهمية حصر التراث العلمي: المدينة المنورة في آثار المؤلفين والباحثين قديماً وحديثاً للدكتور عبدالله العسيلان ص11(33/1)
ثم رتبت المصنفات حسب الموضوعات، وجاءت في أربعة فصول، وكان الفصل الخامس، للمصنفات المنظومة والقصائد والبديعيَّات؛ ثم أنهيته بخاتمة تبرز أهمية هذه الفترة وضرورة التوجه نحو إخراج ما صُنِّف فيها إلى النور، وعلى نحوٍ يقدر تلك الجهود العظيمة، ويوفيها حقها.
الفصل الأول: مراحل تطور كتابة السيرة النبوية
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول…: مرحلة الجمع الأولي (الرواد)
المبحث الثاني…: مرحلة السيرة ضمن مصنفات الحديث
المبحث الثالث…: مرحلة الكتابة في جوانب من السيرة، الشمائل، المولد، الوفاة.
المبحث الرابع…: صياغة السيرة نظماً.
المبحث الأول: مرحلة الجمع الأولي (الرواد)
علم السيرة (( سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - )) كتب فيه العلماء من محدِّثين ومفسرين وفقهاء، وكتب فيه الأدباء والشعراء، وتنوعت هذه الكتابات كثيراً، كما أنها تأثرت بالبيئات التي نشأت فيها سواء كان هذا التأثر حسناً، أو تأثراً استسلمت فيه الكتابة للعاطفة الجياشة، فقادته مع تفلت من كثير من الضوابط العقدية والعلمية، وهذا يلاحظ كثيراً في القصائد والمدائح النبوية … وهذان القرنان الثامن والتاسع كان فيهما من كلا الأمرين الإيجابي وهو الكثير، والآخر وهو السلبي إلى حدٍ ما.
وكتابة السيرة مرّ بمراحل تعد سلسلة من الحلقات المتواصلة المتداخلة يؤثر السابق في اللاحق، كما أن الحالي يؤثر في المستقبل …
ففي القرنين الأول والثاني الهجريين ظهر ما عرف بالمغازي التي كانت تُعنى بمغازي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم توسعت لتشمل جميع حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا المعنى يتبين من محتويات هذه المصنفات التي فقد معظمها ووجدت روايات كثيرة منها في المصنفات اللاحقة.
ومن هؤلاء الأوائل الذين اهتموا بتدوين بعض أحداث السيرة:(33/2)
عروة بن الزبير (ت94هـ)، أبان بن عثمان بن عفان (ت101هـ)، عامر بن شراحيل الشعبي (ت103هـ)، عاصم بن عمر بن قتادة (ت119هـ)، شرحبيل بن سعد (ت123هـ)، محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت124هـ)، عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (ت135هـ)، موسى بن عقبة (ت140هـ)، سليمان بن طرخان (ت143هـ) صاحب (( السيرة الصحيحة )) لعله أقدم ما وصل إلينا فيها، وقد نشرها المستشرق فون كريمر في نهاية مغازي الواقدي في الهند(1). محمد بن إسحاق (ت151هـ).
وكتابه من أشهر ما صنف في السيرة فهو إمام فيها ((وجعل كتابه علماً يهتدى به، وفخراً يستجلى به والناس كلهم عيال عليه في ذلك)) وقد هذَّبه ابن هشام، حتى أصبح الكتاب مقترناً باسمه، وكان أميناً في عمله(2).
ورواية ابن هشام لسيرة ابن إسحاق التي هذبها، من طريق زياد البكائي، وقد روى سيرة ابن إسحاق اثنان غيره وهما: يونس بن بكير، وسلمة بن الفضل، وقد اشتهر الأول منهما، وسيرة ابن إسحاق التي حققها ونشرها محمد حميد الله من طريق يونس بن بكير، وتنتهي في غزوة أحد.
وأما الراوي الآخر سلمة بن الفضل، فقد حفظ لنا الطبري جزءاً كبيراً منها في تاريخه(3).
وقد اعتمد الحافظ ابن كثير في السيرة على مرويات يونس بن بكير لسيرة ابن إسحاق في (108) موضع واسطته فيها البيهقي في كتابه الجليل ((دلائل النبوة )) هذا مع اعتماده الأساسي على سيرة ابن هشام(4).
__________
(1) يوسف هورفيتس : المغازي الأولى ومؤلفوها، مقدمة المترجم : حسين نصار، وانظر عدداً من الدراسات التي تناولت بدايات التأليف في السيرة في المجتمع المدني في عهد النبوة، لأستاذنا أكرم العمري ص 40 وما بعدها.
(2) انظر السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق، للدكتور سليمان العودة ص52 وما بعدها.
(3) انظر السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق للعودة ص64.
(4) انظر أطروحة الدكتور شمس الله محمد صديق (منهج ابن كثير وموارده من البداية والنهاية) ص374.(33/3)
معمر بن راشد (ت153هـ)، يحيى بن سعيد الأموي (194هـ)، محمد ابن عمر الواقدي (207هـ).
وتتجه هذه المصادر إلى جمع الروايات في السيرة، مسندة، من دون تعليق غالباً. وهذه كانت مرحلة مهمة جمعتْ المادة العلمية الأولى وحفظتها، واستفاد منها من جاء بعد هؤلاء.
ولأهمية مصنفات هذه الفترة فقد اتجهت بعض الدراسات المعاصرة إلى جمع روايات هؤلاء الرواد، ممن فقدت مصنفاتهم في عصرنا، فجُمعت كل من مغازي عروة، الذي قال عنه الواقدي:(( وهو أول من صنف في المغازي))(1) جمعها محمد مصطفى الأعظمي، باسم (( مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن الزبير )) من طريق يتيم هو طريق عروة: أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل الأسدي القرشي.(2) وجمعها على نحو أفضل عادل عبدالغفور في رسالته لنيل درجة الدكتوراه في الجامعة الإسلامية.
(( ومغازي الزهري ))، جمعها ونشرها سهيل زكار، وجمعها كذلك على نحو أفضل محمد العواجي(3)، (( ومغازي موسى بن عقبة))، التي قال عنها الإمام مالك ((.. أصح المغازي )) وقال عنها الذهبي: ((.. وأما مغازي موسى ابن عقبة فهي في مجلد ليس بالكبير، سمعناه، وغالبها صحيح، ومرسل جيد، لكنها مختصرة، تحتاج إلى زيادة وبيان وتتمة.. ))(4) وقد جمعها باقشيش محمد(5)، وغير ذلك من المصنفات الأوّليّة المهمة النافعة.
__________
(1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 9/113.
(2) انظر مغازي عروة، جمع الأعظمي، نشره مكتب التربية العربي لدول الخليج.
(3) كانت أطروحته في الدكتوراه، بعنوان : مرويات الإمام الزهري في المغازي النبوية، جمع ودراسة . الجامعة الإسلامية، 1418ه.
(4) سير أعلام النبلاء 6/116.
(5) كانت رسالته في الماجستير بعنوان : مغازي موسى بن عقبة، جمع ودراسة، الجامعة الإسلامية قسم السنة (1406هـ 1986م).(33/4)
وهذه المصادر الأساسية أغلبها في حكم المفقود حالياً، و اعتمد عليها العلماء في القرنين الثامن والتاسع مباشرة وصرحوا بالنقل منها، وكانت جزءاً من مواردهم كما سيأتي.
المبحث الثاني: السيرة ضمن مصنفات الحديث
تضمنت كتب الحديث الشريف روايات كثيرة تتعلق بالسيرة النبوية، في الكتب الستة والصحاح، وغيرها من كتب الحديث المرتبة على الأبواب، وكذلك في كتب المسانيد والمعاجم، إلا أن فيها نوعاً من الصعوبة، بسبب ترتيب الأحاديث على المسانيد؛ وذلك بجعل أحاديث كل صحابي على حدة، أو على مارواه شيوخ المصنف، بالنسبة للمعاجم.
وهذه المصادر وإن لم تُصَنَّف لأجل السيرة النبوية إلاّ أن مادة واسعة عن السيرة قد حوتها هذه المصنفات الحديثية، استفاد منها العلماء في تلك الفترة، وصبغت كتابات كثير منهم، لتمكنهم من علوم السنة عموماً وإحاطتهم بها.
كذلك اعتمدت بعض الدراسات المعاصرة في السيرة كثيراً على المصنفات الحديثية للوثوق الكبير بكثير من رواياتها؛ وتبارى العلماء وبعض الباحثين المعاصرين إلى تأليف ما يُعرف (( بالسيرة الصحيحة ))ـ وإن كان الاسم قد سبقهم سليمان بن طرخان (ت143هـ) إليه ـ وشجعهم على ذلك وجود روايات جمة ووفيرة، مبثوثة في كتب السنن والمسانيد الحديثية...
وقد حاولتْ بعض المصنفات القديمة تقريب الاستفادة من بعض كتب المسانيد الضخمة، فقامت بترتيبها على أبواب الفقه، من ذلك (( ترتيب مسند الإمام أحمد على الأبواب )) لمحمد بن المحب المقدسي الحنبلي (ت788هـ) فأتقن وأجاد. وترتيب (( المعجم الأوسط )) و (( صحيح ابن حبان )) لمحمد بن عبدالرحمن المقدسي الحنبلي، المعروف بالدّيّن، وابن زريق (ت803هـ)(1).
__________
(1) الجوهر المنضد لابن عبدالهادي (133) و (195).(33/5)
وبعضها خدم السيرة مباشرة، مثل كتاب ابن عروة علي بن الحسين الحنبلي (ت837هـ) صاحب كتاب (( الكواكب الدراري في ترتيب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري )) وقد حقق قسم المغازي منه الدكتور محمد ألبان ولد محفوظ.
ومن اُلمحْدثين البنا الساعاتي في ترتيبه لمسند الإمام أحمد بكتابه (( الفتح الرباني ))، ومن المعاصرين الدكتور محمد الأمين محمود في جمعه وترتيبه (( للسيرة النبوية في فتح الباري)). كذلك شُرحت الكتب الستة، وكان ممن له باع طويل في شرح بعض تلك الكتب القيمة، ممن صنف في السيرة في القرنين الثامن والتاسع، ابن سيد الناس (ت734هـ)، وله (( النفح الشذي في شرح جامع الترمذي )) ولم يكمله، وقد حُقق الكتاب. وأتمه بعده الحافظ زين الدين العراقي (ت806هـ) ويُعمل على تحقيقه في كلية الحديث في الجامعة الإسلامية، والحافظ ابن كثير (ت774هـ) له (( جامع السنن والمسانيد )) رتب فيه مسند الإمام أحمد وزاد عليه أحاديث الكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند البزار ومسند أبي يعلى(1).
وسبط ابن العجمي (ت841هـ) و له تعليقات على صحيح البخاري، باسم (( التلقيح …)) و (( تعليق على سنن ابن ماجه )).
والحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ) له (( افتتاح القارئ لصحيح البخاري )). والحافظ ابن حجر (ت852هـ) صاحب الفتح، والذي قيل في شرحه المسمى بالفتح (( لا هجرة بعد الفتح )).
المبحث الثالث: الكتابة في بعض جوانب من السيرة
__________
(1) ابن الجزري : المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد ص22.(33/6)
ثم ظهر نوع آخر من التصنيف اهتم بشمائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه وصفاته الخَلْقية (( وأقدم من أفردها: أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت200هـ) في مؤلفه (( صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - )) ثم أبو الحسن علي بن محمد المدائني (ت224هـ) في كتابه ((صفة النبي))، ثم داود بن علي الأصبهاني (ت270هـ) في كتابه (( صفة أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - ))، والحافظ الترمذي (ت279هـ) في كتابه المشهور (( الشمائل النبوية والأخلاق المصطفوية )) وهو مطبوع.
ثم أبو الشيخ عبدالله بن محمد بن حيّان الأصبهاني (ت369هـ) في كتابه (( أخلاق النبي وآدابه )) وهو مطبوع. ثم أبو سعيد عبدالملك بن محمد النيسابوري (ت406هـ) في كتابه (( شرف المصطفى )). ثم أبو العباس المستغفري (ت432هـ) في كتابه (( شمائل النبي )).
ثم في القرن السادس القاضي عياض (ت 544هـ) في كتابه المشهور الجامع بين الشمائل والدلائل والخصائص (( الشفا بتعريف حقوق المصطفى))(1).
ونوع اهتمّ بما خصه الله عز وجل به وفضَّله، وخصّ أمته لأجله، وعُرف هذا بـ(( الخصائص )) ويدخل فيه ما يتعلق بإثبات نبوته، ودلائلها.
ويشهد على ذلك تأمُّل أهل الكتاب من اليهود والنصارى في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسئلة من نوع محدد يوجهونها إليه.
ولذلك لم يفرق أستاذنا أكرم العمري بين مصنفات الدلائل والخصائص وأدخل بعضها في بعض في كتابيه (( المجتمع المدني )) (( والسيرة الصحيحة )).
__________
(1) السيرة الصحيحة ص52.(33/7)
وممن أفرد هذا النوع بالتصنيف، الفريابي محمد بن يوسف (ت212هـ) شيخ البخاري، في كتابه (( دلائل النبوة ))، والمدائني ـ سبق ذكره ـ في كتابه (( آيات النبي ))، وهشام بن عمار الدمشقي (ت245هـ) من شيوخ البخاري كذلك في كتابه (( المبعث ))(1)، وأبو زرعة الرازي (ت264هـ) في كتابه (( دلائل النبوة )) ويسمى (( أعلام النبوة))(2)، وداود بن علي الأصبهاني (ت270هـ) في كتابه (( أعلام النبوة)) وابن قتيبة (ت276هـ) في كتابه (( أعلام رسول الله )) وابن أبي حاتم (ت327هـ) في كتابه (( أعلام النبوة )) وأبو بكر الخرائطي (ت327هـ) في كتابه (( هواتف الجان ))(3)، وأبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين (ت385هـ) في كتابه ((دلائل النبوة))(4)، والقاضي عبدالجبار المعتزلي (ت415هـ) في كتابه ((تثبيت دلائل النبوة)) وهو مطبوع، وأبو نعيم الأصبهاني (ت430هـ) في كتابه (( دلائل النبوة )) وقد حقق، والمستغفري ـ مر ذكره آنفا ـ والكتاب الجامع (( دلائل النبوة )) للبيهقي(ت458هـ) وأبو القاسم إسماعيل الأصفهاني (ت535هـ) ))(5).
وسلطان العلماء عز الدين أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام (ت660هـ) في كتابه (( منية السول في فضل الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) في القرن السابع. ومن غريب النسيان أن الدكتور المحقق صلاح الدين المنجد لم يذكره في كتابه القيم (( معجم ما ألف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) المطبوع في سنة 1402هـ مع أنه محققه، وطبعه في سنة 1401هـ في الدار التي طبعت المعجم.
المبحث الرابع: صياغة السيرة نظماً
__________
(1) السخاوي : الإعلان بالتوبيخ ص534.
(2) انظر كتاب أبو زرعة الرازي وجهوده في السنة النبوية للدكتور سعدي الهاشمي 1/45 وما بعدها.
(3) حقق الكتاب إبراهيم صالح، ضمن سلسلة نوادر الرسائل، مؤسسة الرسالة، ط2، 1407هـ 1986م.
(4) الرسالة المستطرفة ص105.
(5) السيرة الصحيحة ص51 – 52.(33/8)
ثم ظهر أسلوب جديد في التصنيف وهو نظم السيرة في قصائد وأبيات عرفت بالمنظومات وأحياناً الأرجوزات، وهذه تراعي السياق التاريخي لأحداث السيرة، وتدخل ضمن المصنفات العلمية، وقد يصل عدد أبيات المنظومة إلى ألف بيت عرفت بالألفيات، وبعضها يزيد على أضعاف فيصل إلى خمسين ألف بيت، وبعضها نظم المصنفات المشهورة مثل سيرة ابن إسحاق والسيرة الهشامية، والروض، وسيرة مغلطاي: الزهر الباسم.
ونظم آخر لاينطبق عليه ما تقدم، وإنما تفرضه مناسبة ما أو حدث، تغلب عليه الناحية العاطفية والانفعالية للشاعر.
ولعل من أقدم السير المنظومة، السيرة لأبي العباس الناشي، الشاعر العباسي، المتوفى عام (293هـ) إلا أنها سيرة شعرية(1).
واشتهرت السيرة الشقراطسية للشقراطسي (ت466هـ) وهي سيرة منظومة بقافية اللام.
أما المديح والقصائد التي لا تتقيد بتسلسل تاريخي وإنما تفرضه طبيعة الحدث فجذوره تتغلغل في عصر النبوة، ومن أشهر هذه القصائد التي تركت آثارها الواضحة في العصور اللاحقة وبخاصة العصر المعني بالدراسة، قصيدة الصحابي الجليل كعب بن زهير - رضي الله عنه - (ت26هـ) بانت سعاد، التي يقول فيها:
إنّ الرَّسول لَنُورٌ يُسْتَضاءُ بهِ ... وَصارِمٌ منْ سُيوفِ اللهِ مسلولُ
وكافأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببردته الشريفة.
ثم جاءت قصيدة أخرى سُميت بالبردة (المنامية) ونالت شهرة واسعة، للبوصيري (ت696هـ) وتركت كذلك آثاراً كبيرة ليس في القرنين الثامن والتاسع، بل امتدت إلى هذا العصر، وطبعت طبعات كثيرة في مختلف أرجاء العالم. ونسخها الخطية أكثر من أن تحصى(2).
__________
(1) محمد يسف : المصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها 1/192.
(2) انظر في مظانها: فهرس موسوعة آل البيت، السيرة 1/161 – 190 (428) – (569).(33/9)
أما التصنيف في المولد النبوي، فذكر محمد يسف أنه بدأ على يد الحافظ أبي زكريا يحيى بن مالك الطرطوشي في القرن الرابع الهجري(1).
ولعله صحيح إن أراد المصنّفين في السيرة من المغاربة، لأنه قد نُسب للواقدي المدني البغدادي (ت207هـ) كتابٌ في المولد(2).
وصنف ابن أبي عاصم الشيباني (ت287هـ) كتاباً في المولد، ذكره الذهبي(3).
وكان للتصنيف فيه في القرنين الثامن والتاسع النصيب الوافر.
كذلك ظهر ما عُرف بفقه السيرة، ومن أحسن من كتب فيه، الإمام ابن القيم في كتابه القيم ((زاد المعاد في هدي خير العباد)). وهو أحد أبناء القرن الثامن (ت751هـ)، وكتابه أشمل من ذلك. وإن كان السهيلي المتقدم (ت581هـ) أورد الكثير من الفوائد الفقهية في كتابه (الروض الأُنف).
لذلك لقي كتابه اهتماماً تمثل في التعليق عليه والشرح، مثل ما فعل مغلطاي (ت762هـ) في كتابه ((الزهر الباسم))، أو الانتقاء منه والاختصار كما فعل الذهبي (ت748هـ) في كتابه منتقى الروض، على سبيل المثال.
والاستنباطات والفوائد الفقهية المقتنصة ((من السيرة)) مبثوثة في كتب شروح السنة والفقه والآثار والمصنفات.
وقد شارك المؤلفون في هذين القرنين، في كل ما تقدم ماعدا الجمع الأولي، الذي كان في المرحلة الأولى.
ومن الكتب التي تلقي الضوء على تطور العلوم والفنون وتكشف في الوقت نفسه اهتمامات كل عصر؛ كتب الأثبات والمشيخات والبرامج؛ مثل برنامج ابن جابر الوادي آشي، وثَبَت ابن عطية، وفهرست ابن خير، وكتابي ابن حجر القيمين: المجمع المؤسس، والمعجم المفهرس.
أما التي تحصر المصنفات، مثل الفهرست لابن النديم ونحوه، فتفيد في الدرجة الأولى في الناحية الإحصائية والكمية.
الفصل الثاني: المصنفات في عموم السيرة
__________
(1) المصنفات المغربية في السيرة النبوية 1/11.
(2) خ الظاهرية 74، 75 ـ برلين 9524 (معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ص31.
(3) سير أعلام النبلاء 19/327.(33/10)
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول…: المطولات
المبحث الثاني…: المختصرات
المبحث الثالث…: التعليقات
المبحث الرابع…: الشروح
المبحث الأول: المطولات
1- إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع لأحمد ابن علي المقريزي (ت845هـ)، وهو مطبوع، حققه محمود شاكر.
2- بلوغ المرام من سيرة ابن هشام والروض الأنف والأعلام لابن حجة أبي بكر بن علي بن عبدالله الحموي (ت 837 هـ) أوقاف بغداد 1023، ق 208 نسخة متقنة. ونسخة أخرى: يوجد منها الجزء الأول 5166 مكتبة شستربتي، ق190 س:21 (5166) وهو الجزء الأول.
ويصنف أيضاً ضمن التعليقات.
3 - تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية لأبي الحسن علي بن محمد المعروف بالخزاعي التلمساني الفاسي (ت789هـ) والكتاب مطبوع.
4- توثيق عرى الإيمان في تفضيل حبيب الرحمن لهبة الله بن عبدالرحيم أبي القاسم شرف الدين بن البارزي (ت738هـ) الجزء الأول ق: 289 س: 21 (48) المكتبة العثمانية بحلب 160، نسخت في حياة المؤلف، الجزء الثاني: ق: 339 س: 17 (6) المكتبة الأزهرية 1179.
5- الروض والحدائق في تهذيب سيرة سيد الخلائق لعلي بن محمد البغدادي المعروف بالخازن (ت741هـ) أربعة أجزاء، (خ) شهيد علي 1927 ـ أيا صوفيا، الثالث والرابع 3216 ـ 3218(1).
6- السيرة النبوية لابن كثير (ت 774هـ) وهي من الشهرة بمكان.
__________
(1) آل البيت، سيرة 1/394 (1507).(33/11)
7- السيرة النبوية للشهاب أحمد بن إسماعيل الأبشيطي الواعظ (ت835هـ)، ويذكر الحافظ ابن حجر عن كتاب الأبشيطي في السيرة قوله: ولهج بالسيرة النبوية، فكتب فيها كثيراً إلى أن شرع في جمع كتاب حافل في ذلك، وكتب منه نحواً من ثلاثين سفراً، يحتوي على سيرة ابن إسحاق وما وُضع عليها من كلام السهيلي وغيره، وعلى ما احتوت عليه المغازي للواقدي، وضم إلى ذلك ما في السيرة للعماد ابن كثير، وغير ذلك، وعني بضبط الألفاظ الواقعة فيها(1).
8- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير لمحمد بن محمد ابن سيد الناس (ت734هـ)، والكتاب مطبوع.
9- عيون الأخبار وفنون الآثار في ذكر النبي المصطفى المختارلعماد الدين إدريس بن الحسن (ت872هـ)(2).
10- مقبول المنقول، سيرة مطولة للعلاء علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي (ت741هـ)(3).
المبحث الثاني: المختصرات
11- الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء لمغلطاي ابن قليج (ت 762هـ) أوقاف بغداد 1009، والكتاب مطبوع.
12- الإعلام بسيرة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام للزَّرَنْدي محمد بن يوسف (ت747هـ) جامعة برنستون، جاريت يهودا 388- 4515.
13- تحفة الأخيار في فضل الصلاة على النبي المختار لمحمد بن آيبك بن ألفافا، أبي عبدالله ناصر الدين (ت بعد 782هـ)، شستربيتي ق: 175 ـ 227، 2/3161، الخزانة العامة، الرباط 1260.
14- تلخيص سيرة المصطفى لمغلطاي علاء الدين بن قليج (ت762هـ). الرباط الخزانة الملكية تاريخ 6407.
15- الجوهر الثمين في نخب سيرة الأمين لأحمد بن يلبغ المحسني (ت751هـ) خ فاتح 3414، 3415، بخط المؤلف.
16- الجوهر الثمين في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين لابن دقماق إبراهيم بن محمد (ت809هـ) عاشر أفندي 41/633.
__________
(1) المجمع المؤسس 3/24.
(2) آل البيت، سيرة 2/646 (2135).
(3) الإعلان بالتوبيخ 529.(33/12)
17- الحاوية للمقصد من سيرة النبي الأمجد لأبي الفضل الحافظ عبدالرحيم بن الحسين العراقي (ت806هـ) عارف حكمت 315 مجاميع.
18- حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمَنْزِلي محمد بن محمد (ت852هـ)(1).
19- خلاصة السيرة النبوية للمؤيد بالله يحيى بن حمزة بن علي (ت747هـ) خدابخش، بانكيبور 15: 1009(2).
20- خلاصة السيرة النبوية وزبدة القصص المحمدية لأبي حمزة عبدالله بن الهادي (ت749هـ) وهي مختصر لسيرة ابن هشام. خدابخش، بانكيبور 15/66-68 (1009).
21- الدرة المضيئة في السيرة المرضية لابن شاهين غرس الدين خليل الله الظاهري (ت783هـ)(3).
22- زهر الروض لشمس الدين محمد بن أحمد الكثيري الدمشقي (ت831هـ) وهو مختصر الروض(4).
23- السيرة النبوية للذهبي (ت748هـ) ضمن كتابه المشهور تاريخ الإسلام، محقق.
24- السيرة النبوية لعلي بن محمد القادوسي (ت708هـ) طهران 1/374 (4254).
25- السيرة النبوية لصلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك (ت764هـ) في كتابه الوافي بالوفيات، الجزء الأول، مطبوع. وله مصنف في المولد.
26- السيرة النبوية لابن شاكر الكتبي الدمشقي (ت764هـ) في كتابه (( عيون التواريخ )).
27- السيرة النبوية والمولد النبوي لأحمد بن مالك بن يوسف الرعيني (ت779هـ) خ دار الكتب، مجاميع 494.
28- السيرة النبوية والمولد لمحمد بن أحمد بن جابر الأندلسي الضرير (ت780هـ) خ دار الكتب 494 مجاميع.
عُرِف الضرير بالشعر فكان ينظم، وعرف صاحبه الرعيني السابق ذكره آنفاً بالكتابة، وكانا رفيقين طوال حياتهما، وكان ابن جابر الضرير ينظم، والرعيني يكتب.
29- السيرة النبوية لعلي بن الحسين الخزرجي (ت812هـ) في كتابه عن تاريخ اليمن(5).
__________
(1) آل البيت، سيرة (993) 1/274-275.
(2) بروكلمان 3/14.
(3) كحالة 4/120.
(4) شذرات الذهب 7/196.
(5) الإعلان بالتوبيخ) 528.(33/13)
30- السيرة النبوية لتقي الدين الفاسي (ت832هـ) في كتابه (( العقد الثمين ))، الجزء الأول، مطبوع.
31- الفصول في اختصار سيرة الرسول للحافظ ابن كثير (ت774هـ)، والكتاب مطبوع.
32- مختصر الروض الأنف للسهيلي لمحمد بن أبي بكر بن جماعة (ت819هـ) خ تيمور، تراجم 661.
33- مختصر سيرة ابن هشام لعماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي (ت711هـ) ليدن 862 أحمد الثالث 2791 شهيد علي 1894.
34- مختصر السيرة النبوية لشرف الدين الدمياطي (ت705هـ) حقق، ويسمّى أيضاً (المختصر في سيرة سيد البشر).
35- مختصر السيرة النبوية على صاحبها أفضل التحية لشمس الدين البرماوي محمد بن عبدالدائم (ت831هـ)(1).
36- مختصر سيرة النبي لعبدالعزيز بن محمد بن جماعة (ت767هـ) وهو المختصر الصغير، طب قبو 260ب 6028 – 2796أ 6019 بغداد كشك 260 أولو جامع 2466.
37- المختصر الكبير في سيرة سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسابقه، وفي فهرس بغداد لبدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني (ت733هـ) لعلها نسخة المؤلف، نسخة قديمة نفيسة على حاشيتها تصويبات، ق 44 1134 (957) أوقاف بغداد. الأزهر رواق المغاربة 997، دار الكتب 3267 تاريخ.
38- المختصر في السيرة النبوية لابن جماعة عز الدين عبدالعزيز بن محمد الكناني (ت 767هـ) عدة نسخ، أقدمها؛ ق: 58 س: 17، مكتبة جامعة برنستون (مجموعة يهودا) 1383 نسخت في سنة 737هـ في حياة المصنف. وأخرى نسخت في سنة 791هـ. (117، 118).
39- المختصر الكبير في سيرة سيدنا رسول الله لبدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني (ت733هـ) أوقاف بغداد 1134، ق 44 نسخة قديمة نفيسة على حاشيتها تصويبات، المظنون أنها نسخة المؤلف (957).
40- ملخص السيرة النبوية لعلي بن محمد الخلاطي (ت708هـ)(2).
__________
(1) هدية 2/186.
(2) كحالة 7/190.(33/14)
41- الممتع المقتضب في سيرة خير العجم والعرب لشهاب الدين أبي محمد الشافعي المقدسي (من أهل القرن 8هـ) خ ظاهرية، سيرة 7، قال يوسف العش: ولعله أحمد بن عبدالرحمن الظاهري(1).
42- المنتقى من الروض الأنف للحافظ الذهبي (ت748هـ) فرغ منه سنة 719هـ خ برلين 9565 وذكره السخاوي باسم؛ بلبل الروض. والكتاب مختصر من الروض الأنف للسهيلي (ت581هـ).
43- نور العيون في تلخيص سيرة الأمين المأمون لابن سيد الناس محمد ابن محمد اليعمري (ت734هـ) برلين 9580 دار الكتب 22851ب ظاهرية عام 4375، 6094، أحمد الثالث 001802 طوب قبو 2802أ 6020.
المبحث الثالث: التعليقات
44- إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون لعلي بن برهان الدين الحلبي (ت841هـ) ق: 243 س: 33، المتحف البريطاني 4622.
45- تعليق من مغازي الواقدي للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) ق: 72، دار الكتب 522(2).
46- الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم لعلاء الدين مغلطاي (ت762هـ) خ ليدن 864، وعنها مصورة في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري ـ رحمه الله ـ في مجلدين (754).
47- السيرة النبوية لعلي بن الحسين بن عروة (ت837هـ)(3).
48- النبراس على سيرة ابن سيد الناس لأحمد بن إبراهيم سبط ابن العجمي (ت818هـ) عارف حكمت 124 سيرة، عليها تصحيحات.
المبحث الرابع: الشروح
49- بهجة المحافل في السيرة والمعجزات والشمائل ليحيى بن أبي بكر بن محمد العامري الحرضي (ت 893هـ) مكتبة مكة المكرمة، 1379، 37/ تاريخ. وتشستربيتي، ق: 301 س: 19، 4382. والكتاب مطبوع.
50- تحفة العالم في سيرة العوالم لسابقه (قرئت على المؤلف سنة 782هـ) اعتمد على سيرة ابن هشام. ق: 307 مكتبة شستربتي 3070
__________
(1) شذرات 6/177، فهرس التاريخ في الظاهرية 19 ونسبه بروكلمان إلى أبي شامة ظناً 6/17).
(2) وذكره بروكلمان 3/17.
(3) العش، تاريخ ص20، ويبدو أنها التي مر ذكرها (ص8) وهي جزء من (الكواكب الدراري).(33/15)
51- جلاء الأفكار بسيرة المختار لمحمد بن إبراهيم بن محمد البلبيسي، أبي الفتح (ت في ق9هـ) الجزء الأول، ق: 256 س: 19 (169) المكتبة الخالدية بالقدس، نسخت سنة 926هـ.
52- الدرة المضيئة في شرح السيرة النبوية للإمام المهدي لدين الله أحمد ابن يحيى المرتضى (ت840هـ) خ أيا صوفيا 3308/3(1).
53- الرسالات السلطانية في المباحث النبوية لفضل الله بن أبي الخير رشيد الدين الهمذاني (ت718هـ) خ فاتح 3896/3
54- روضة المؤمنين في أحوال سيد المرسلين لعلي بن محمد بن الحسن البسطامي (كان حياً في ق 9 هـ) ق: 116 س: 13، شستربتي 3884.
55- ريحان المروج وديباج الفكر المنسوج الكاشف ما ادلهم من السيرة المصطفوية لحسام الدين إسماعيل بن إبراهيم بن عطية (ت ق9هـ) خ الآرصفية حيدر أباد 20 تاريخ.
56- السيرة النبوية لمحمد بن علي الدكالي المعروف بابن النقاش (ت763هـ)(2).
57- السيرة النبوية لمحمد بن عبدالدائم البرماوي (ت831هـ)(3).
58- شرح سيرة ابن سيد الناس لعز الدين محمد بن أبي بكر (ت819هـ) خ الخالدية بالقدس 14 سيرة.
59- شرح سيرة مغلطاي لمحمود بن أحمد العيني (ت855هـ)(4).
60- شرح نظم السيرة لأحمد بن الحسين الشهاب ابن أرسلان (ت844هـ)(5).
61- شفاء الأسقام في سيرة غوث الأنام لإبراهيم بن محمد الكازروني (من ق9هـ)(6).
__________
(1) وفي البدر الطالع: الدرر، وشرحها (1/123) وعندي نسخة منها، مصدره الرئيس ابن هشام. وفي موسوعة آل البيت، السيرة 1/244 (844) الجواهر والدرر من سيرة سيد البشر وأصحابه العِتْرة الغرر، وهو الجزء الخامس من (ديباجة البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار) للمؤلف نفسه.
(2) الإعلان بالتوبيخ 530.
(3) الضوء 7/281.
(4) هدية 2/420.
(5) الإعلان بالتوبيخ 532 وله نظم شمائل الترمذي يأتي في النظم.
(6) كحالة 1/28.(33/16)
62- فرائد الدرر وفوائد الفكر في شرح مختصر السيرة لابن فارس للحسن بن علي بن باديس القسنطيني (ت787هـ) خ رواق المغاربة بالأزهر 1014، ومختصر السيرة لابن فارس مطبوع.
63- كشف اللثام في شرح سيرة ابن هشام لبدر الدين محمود بن أحمد العيني (ت855هـ) قال السخاوي: ((شرح منها (أي سيرة ابن هشام) قطعة كبيرة رواها عنه جماعة)). وقال: ((ولشيخنا ـ يعني الحافظ ابن حجر ـ تخريج الأحاديث المنقطعات فيها)).(الإعلان بالتوبيخ 562)(1).
64- محاضر السير في أحوال خير البشر لمحمود بن عبدالله النيسابوري (ت867هـ)(2).
65- المصباح المضيء في كتاب النبي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي لابن حديدة الأنصاري الخزرجي محمد بن علي (ت779ه)، والكتاب مطبوع.
66- المورد العذب الهني في الكلام على سيرة عبدالغني، لقطب الدين الحلبي عبدالكريم بن عبدالنور بن منير (ت 735هـ) ق: 310 داماد إبراهيم (420) وعندي نسخة منه. وذكره الحافظ ابن حجر أيضاً؛ بأنه شرح للسيرة النبوية(3) وأثنى عليه السخاوي.
وصاحب الأصل، المحدث المشهور صاحب كتاب (الكمال في أسماء الرجال) وسيرته بعنوان (الدرة المضيئة في السيرة النبوية) ذكرها الذهبي وقال: كتابه السيرة وهو في جزء كبير(4). وعندي نسختان منه.
أما (الدرة المضيئة في شرح السيرة النبوية) المصورة في مركز إحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، في مكة المكرمة، رقم (65) سيرة، وكتب عليها لمؤلف مجهول فهي التي مر ذكرها برقم (52).
__________
(1) شذرات 7/287.
(2) هدية 2/421.
(3) المعجم المفهرس 398 (1752)
(4) سير أعلام النبلاء 21/448(33/17)
67- نور النبراس في شرح سيرة ابن سيد الناس لسبط ابن العجمي أبي الوفا إبراهيم بن محمد الطرابلسي (ت 841 هـ) الجزء الأول والثالث، عارف حكمت ق 325، 167/242 سيرة، المكتبة الوطنية بتونس 446، والجزء الثالث، مكتبة الأحقاف باليمن 68 تريم، دار الكتب 2078 تاريخ، طلعت. جامع الشيخ الإسكندرية 157 برلين 9579.
الفصل الثالث: ما صنف في الخصائص والشمائل النبوية
وفيه مبحثان:
توطئة……: للمصنفات في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الأول…: أسماء المصنفات.
المبحث الثاني…: بعض المصنفات التي خدمت كتاب (( الشفا)) في هذه الفترة.
توطئة للمصنفات في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -
الشافعية هم أكثر من كتب في الخصائص، ويأتي في مقدمتهم الإمام الشافعي رحمه الله و هو أول من تكلم فيها في كتابيه؛ أحكام القرآن، والأم.
ثم تبعه في ذلك عدد من العلماء، منهم المزني (264هـ) في ((مختصره)) وأبو العباس بن القاص (ت335هـ) والماوردي (ت450هـ) في ((الحاوي)) ومن أشهرهم في هذا المجال البيهقي (ت458هـ) صاحب الدلائل في كتابه ((السنن الكبير))، وأبو القاسم إسماعيل الأصفهاني (ت535هـ)، وابن الأثير في كتابه (( جامع الأصول ))، والحافظ النووي (ت676هـ) في كتابَيْه؛ ((الروضة)) و (( المجموع )).
ثم أفردت الخصائص في كتب مستقلة، وأول من أفردها ابن الجوزي الحنبلي (ت597هـ) في كتابه (( الدر الثمين في خصائص النبي الأمين ))، والضياء المقدسي (ت643هـ) ويوسف بن محمد العبادي (776هـ) وهما حنبليّان. والأخير من القرن الثامن.(33/18)
(( وإذا صحّ أن عمر بن الحسن بن دحية الكلبي (ت633هـ) مالكي وليس ظاهرياً، فإنه الوحيد من هذه المدرسة الذي أفرد الخصائص النبوية))(1) في كتابه (( نهاية السول في خصائص الرسول ))
وألف فيها كذلك سلطان العلماء عز الدين أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام (ت660هـ) في كتابه (( منية السول في فضل الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) في القرن السابع.
وقد أشاد الخيضري (ت894هـ) (( بمختصر السيرة )) للحافظ ابن كثير (ت774هـ) فقال: (( فوجدته عَذْب العبارة، حسن الإشارة، جمع فيه نقولاً لطيفة ونكتاً نفيسة ظريفة، وفيه فصل في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرَّف وعظَّم وكرَّم، أشار فيه إلى إنسان عيونها ودرر مكنونها؛ لكنها لا تروي للظمآن غليلاً، ولا تشفي من المبتلى عليلاً ))(2).
فكان هذا النقص في كتاب ابن كثير الذي ذكره الخيضري الدافع وراء تأليفه ـ لَمَّا ألحّ عليه من لا يستطيع رد طلبه ـ لمصنف في الخصائص النبوية، وهو كتاب (( اللفظ المكرم )).
والعجيب أن إيراد ابن كثير لِمَا يتعلق بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان بسبب النقص الذي لمسه في كتاب شيخه الزملكاني -الذي سيأتي ذكره في الخصائص- وقال عن الكتاب: ذكر في آخره شيئاً من فضائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقد فصلاً في هذا الباب أورد فيه أشياء حسنة، ونبه على فوائد جمة ومهمة، وترك أشياء أخرى حسنة، وقال: إنه لم يستوعب الكلام إلى آخره؛ وعلل ذلك: إمَّا بأنه سقط من خطه، أو أنه لم يكمل تصنيفه.
__________
(1) أكرم العمري، في تقديمه لكتاب اللفظ المكرم في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - للخيضري تحقيق محمد الأمين محمد مولود، ص ( هـ) الطبعة الأولى، (1415ه 1995م).
(2) اللفظ المكرم ص54.(33/19)
وذكر ابن كثير أن بعض أصحابه طلب منه تكميله وتبويبه وترتيبه وتهذيبه والزيادة عليه … فنشط لذلك، وعقد في كتابه (( البداية والنهاية )) (باب البينة على ذكر معجزاتٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله وأعلى منها خارجة عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبله منهم) - صلى الله عليه وسلم - وقد جمعه من مولد ابن الزملكاني ودلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي وأبي محمد عبدالله بن حامد، ومن شعر الصرصري … وكان كتاب الزملكاني المذكور هو الذي دفعه لعقد الباب المذكور(1).
المبحث الأول: أسماء المصنفات
68- الإبريز الخالص عن الفضة في إبراز خصائص المصطفى التي في الروضة لعبدالرحمن بن عمر البُلْقيني (ت842هـ) خ: المكتبة العامة، الرياض 23/1، والروضة للحافظ النووي شارح مسلم (ت676ه).
69- أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل والزبور للإسكندري سعيد بن حسن (ت ق8هـ) المرعشي، رقم 11/87 (4077) /5.
70- أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن عبدالدائم ابن بنت المَيْلق (ت797هـ) برلين 9/114 (9516) لخص فيه كتاب ابن دحية عمر بن الحسن (ت633هـ) أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المستوفى.
71- أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع شرحها لتقي الدين عبدالرحمن بن عبدالمحسن الواسطي (ت744هـ) ظاهرية 2/6840 تاريخ، برلين 9/114 (11/9516).
72- أمان الخائفين من أمة سيد المرسلين في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ابن علي بن حجة الحموي (ت837هـ) مكتبة أوقاف الموصل 9/24
__________
(1) انظر أطروحة الدكتور شمس الله محمد صديق، منهج ابن كثير في البداية والنهاية ص419 . والبداية والنهاية 6/ 291 وما بعدها .(33/20)
73- الأنوار بخصائص النبي المختار للحافظ ابن حجر (ت852هـ)(1). وانظر في المنظومات له؛ قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -، تأتي في المنظومات.
74- الأنوار في آيات ومعجزات النبي المختار للثعالبي أبي زيد عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف (ت873 أو 875هـ) الرباط 2/1/85 (385د) والملكية بالرباط 2881.
75- بلغة السائل عن مقاصد الشمائل لسبط ابن العجمي إبراهيم بن محمد (ت841هـ) وهو شرح للشمائل المحمدية للترمذي(2).
76- ترجمة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالمؤمن بن خلف الدمياطي (ت705هـ)(3).
77- تعاليق على الخصائص النبوية لابن الهائم أحمد بن محمد (ت815هـ) خ: الخالدية بالقدس الشريف(4).
78- ختان النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن العديم عمر بن محمد (ت734هـ) صاحب المؤلف المشهور في التاريخ (بغية الطلب) وهو رد على كتاب ((ختان النبي - صلى الله عليه وسلم - )) للكمال محمد بن طلحة (ت652هـ) أنه ولد - صلى الله عليه وسلم - مختوناً(5). وكتاب ابن طلحة، نسخته في الظاهرية 28/1 مجاميع.
79- خصائص سيد العالمين ليوسف بن محمد بن مسعود العبادي الدمشقي (ت776هـ) خ: الظاهرية 9452.
80- خصائص سيد العالمين ليوسف بن محمد السُرَّمَرِّي (ت776هـ) ولعله السابق(6).
81- خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لمغلطاي (ت762هـ) خ: الملكية بالرباط3650.
82- خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن علي الأنصاري الوادي آشي (ت804هـ) خ: دار الكتب 460 تاريخ (كتبت سنة 889هـ).
__________
(1) الرسالة المستطرفة 202، كشف 195.
(2) الحرم المكي، سيرة 12 (1/87- مجاميع).
(3) انظر نسخها في: موسوعة آل البيت، سيرة 1/201 (634).
(4) مجلة المجمع العلمي بدمشق 4/140.
(5) الإعلان بالتوبيخ ص533.
(6) آل البيت، السيرة 1/283 (1013).(33/21)
83- رسالة في أسرار مهر النبوة بين كتفي النبي عليه السلام لعبدالكريم الجيلي (ت832هـ) خ بايزيد، مجموع 1825 من ق 127-129، وفي فهرس آل البيت، سيرة 1/345 (1231) لمجهول.
84- رسالة في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالواحد بن عبدالكريم الزملكاني (651هـ) دار الكتب 1/119 (مجاميع 521) لعله جد المصنف في (94) إن لم يكن هناك خطأ من الناسخ أو المفهرس.
85- رسالة في معراج النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالعزيز بن محمد بن جماعة (ت767هـ) الأوقاف، حلب 289 (1259/4).
86- الرصف لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفعل والوصف لعبدالله العاقولي (ت797هـ)، مطبوع.
87- الروض الندي في ذكر الحوض المحمدي لابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ)(1).
88- شرح تائية السبكي لابن المحلي جلال الدين محمد بن أحمد بن علي السهنودي الرفاعي (ت890هـ) الحرم المدني 1464، ق 160، س 25، الأزهرية 5/476 (3784).
89- شرح التائية لمحمد بن أحمد بن عثمان بن مقدم شمس الدين البساطي (ت842هـ)(2)، وله شرح البردة.
90- شرح الشمائل النبوية لابن نور الدين محمد بن عفيف بن محمد (ت847هـ)(3).
91- الشفاء المختار في أسماء النبي المختار أو (سر الأسرار) لعبدالرحمن ابن محمد البسطامي (ت858هـ)(4). له مصنف في الوفاة، يأتي في الوفاة.
92- شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه لأبي الفداء بن كثير (ت774هـ)، مطبوع.
93- صفة قميص النبي - صلى الله عليه وسلم - للزركشي بدر الدين أبو عبدالله محمد بن بهادر الشافعي المصري (ت794هـ) الحرم المدني 7 (238 مجموع)
__________
(1) آل البيت، سيرة 1/394 (1503) من ضمنها نسخة دمشقية بخط المؤلف.
(2) الذيل للسخاوي 236.
(3) آل البيت، سيرة 1/508 (1891).
(4) آل البيت، سيرة 1/577 (2008).(33/22)
94- عجالة الراكب في ذكر أشرف المناقب لابن الزملكاني كمال الدين محمد بن علي بن عبدالواحد الدمشقي (ت727هـ) وهو شيخ الحافظ ابن كثير، عارف حكمت 81 سيرة، (نسخة نفيسة كتبت سنة 1272هـ) له مصنف في المولد.
95- غاية السول في خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسراج الدين عمر بن علي ابن الملقن (ت804هـ)، حقق الكتاب.
96- اللفظ المكرم بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن محمد بن عبدالله الخيضري (ت892هـ)، وهو مطبوع.
97- المقتفى في ذكر فضائل المصطفى لحسن بن عمر بن حبيب الحلبي (ت779هـ) دامادا إبراهيم لاله لي 2101 مقابلة على أصل المصنف كُتبت سنة 814هـ. دار الكتب 309 تاريخ رواق الأتراك بالأزهر 884 تاريخ.
98- نفائس الدرر في فضائل خير البشر لحسن بن محمد الحسني النسابة الحلبي (ت766هـ) كشف 1965.
المبحث الثاني: بعض المصنفات التي خدمت كتاب ((الشفا)) في هذه الفترة
من أبرز كتب الشمائل وأوسعها شهرة كتاب الشفا للقاضي عياض (ت544هـ)، لقي اهتماماً كبيراً وعناية خاصة تجاوزت نطاق العلماء والدارسين وطلاب العلم إلى الجماهير المسلمة … فمن تزيين نسخه وتزويقها والعناية بها جيلاً بعد جيل إلى شرحه والتعليق عليه وخدمته من جانب العلماء والمصنفين …(1) لذلك سأفرد عدداً من أبناء القرنين الثامن والتاسع ممن خدم هذا الكتاب الذي كتب له القبول بين المسلمين.
أسماء المصنفات على كتاب الشفا:
99- اختصار الشفا للنجم الأسنوي محمد بن أحمد بن عبدالقوي المصري الشافعي (ت763هـ)(2).
100- أغراض الشفا لعلي بن علي بن عتيق الهاشمي القرشي الغرناطي (ت744هـ).
__________
(1) المصنفات في السيرة والمصنفون المغاربة، محمد سيف، عقد صفحات طويلة 1/290 وما بعدها، وكذلك موسوعة آل البيت، قسم السيرة ( وهو مرتب هجائياً) عُقد فيه صفحات طويلة.
(2) الدر المنثور 3/342.(33/23)
101- الاكتفاء في شرح ألفاظ الشفا لعبدالباقي بن عبدالمجيد اليماني (ت743هـ) خ: كوبرلي 1116/05، دار الكتب 2127 حديث. وأخرى بعنوان؛ الاكتفا بضبط ألفاظ الشفا. ذكرها بروكلمان، الأسكوريال، ثان: 1759.
102- تذكرة المحبين بأسماء سيد المرسلين لأبي عبدالله محمد بن قاسم الرصاع الأنصاري التلمساني التونسي (ت894هـ) الحرم المدني نسخة كاملة برقم (1454) نسخت في حياة المصنف، ق: 191 س: 29. وجاء في آخره قوله: (وهذا الاسم الكريم هو آخر ما رأيت في كتاب الشفا من أسماء نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام …) وأخرى في تشستربيتي ق 173، 1/3161، الخزانة العامة، الرباط 371/ك، المكتبة الوطنية بتونس رقم 40، وأخرى برقم 8980.
103- توضيح ما يخفى من ألفاظ الشفا لمحمد شمس الدين الحجازي (ت بعد840هـ)(1).
104- حاشية على الشفا لأحمد بن محمد بن زِكْري (ت889) الرباط (الحجوي 4/87).
105- ختم (( الشفا بتعريف حقوق المصطفى )) لعلي بن أيبك الدمشقي (ت801هـ)(2).
106- زبدة المقتفى في تحرير ألفاظ الشفا لشمس الدين محمد بن خليل القباقبي الأنطاكي الحنفي (ت 849هـ) ق: 275 س: 25 (90) مكتبة الأوقاف ببغداد حفظها الله 1065.
107- شرح الشفا لابن أهدل (ت855هـ) عارف حكمت.
108- شرح الشفا لابن مرزوق محمد بن أحمد بن أبي بكر العجيسي (الجد) (ت781هـ).
109- شرح الشفا لابن السكاك محمد بن أبي غالب بن أحمد المكناسي (ت818هـ) وقسمه على ثلاثة أقسام، الغنية الكبرى، والغنية الوسطى، والغنية الصغرى. وسماه بروكلمان (غريب الشفا) وذكر قطعة منه في الظاهرية41: 16(3).
110- الصفا بتحرير الشفا لقطب الدين الخيضري (ت894هـ)(4).
__________
(1) آل البيت، سيرة 1/277 (799).
(2) دار الكتب 1/114 (1924).
(3) المصنفات المغربية في السيرة 1/295
(4) كشف 1055.(33/24)
111- فتح الصفا على الشفا لعلي بن محمد بن أقبرس الشافعي (ت862هـ) نسخة بخط المؤلف، داماد زاده 455 ـ 456 (تمبكتو ـ مالي). وأخرى، جامع تونس، الزيتونة 2/262: 6. والرباط 749 ق
ونسخة الحرم المكي، وعنوانها: (فتح الصفا لشرح معاني الشفا) (270) ق: 324 س: 25.
112- لباب الشفا لأبي عبدالله المالقي محمد بن الحسن (ت771هـ) جامع الزيتونة، تونس 2/267.
113- مجلس في ختم الشفا لابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ).
114- مزيل الخفا عن ألفاظ الشفا لأبي العباس تقي الدين أحمد بن محمد الشمني (ت 872هـ) مطبوع بدون عناية بحاشية الشفا. وله نسخة في أوقاف بغداد 1136، ق83، 2/13579 مجاميع.
115- المقتفى في ضبط ألفاظ الشفا لسبط ابن العجمي إبراهيم بن محمد الحلبي (ت841هـ) ق 232 س: 28 الأحمدية بحلب 181
ونسخة أخرى بعنوان؛ المقتفى في حل ألفاظ الشفا، في أوقاف بغداد، 10604، ق 265.
116- نسيم الصبا للحسن بن عمر بن الحسن بدر الدين الدمشقي الحلبي (ت779هـ) قال الشوكاني: يشتمل على نفائس استعمل مفاصل شفاء القاضي عياض فسكبها سجعاً(1).
117- الوفا ببيان الشفا لأبي محمد عبدالله بن محمد بن إبراهيم التجاني التونسي (ت721هـ).
الفصل الرابع: ما صنِّف في مولده، ووفاته - صلى الله عليه وسلم -
وفيه مبحثان:
المبحث الأول…: أسماء المصنفات في مولده - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثاني…:المصنفات في وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الأول: أسماء المصنفات في مولده - صلى الله عليه وسلم -
118- آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن عبدالدائم البرماوي (ت831هـ) ظاهرية، مجاميع 68-81، لعله بخط المصنف.
119- ارتشاف الطرب في مولد سيد العجم والعرب لمحمد بن أحمد الأندلسي الهوَّاري أبي عبدالله شمس الدين المعروف بابن جابر(ت780هـ) ق20 س11 (189) شهيد علي 361.
__________
(1) البدر الطالع 1/205.(33/25)
120- التعريف بالمولد الشريف لمحمد بن محمد بن الجزري (ت833هـ) برلين 9/9547.
121- عرف التعريف في المولد الشريف لسابقه، برلين، مجموع 10/9547 وهو مختصر كتابه السابق.
122- جامع الآثار في مولد المختار لابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ) الظاهرية 42 سيرة، برلين، مجموع 11/9547.
123- حسبي أبي الوفا في مولد المصطفى لإبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أبي الوفا العراقي (ت877هـ) برلين14/9547.
124- درج الدرر في ميلاد سيد البشر لأصيل الدين عبدالله بن عبدالرجمن الشيرازي (ت884هـ) برلين 13/9547.
125- الدر المنظم في مولد النبي المعظم لمحمد بن عثمان اللؤلؤي الدمشقي (ت867هـ) برلين 9/128 (9547) طهران 9/105 (1110/ع).
126- الدرة السنية في مولد خير البرية للحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي (ت761هـ) برلين 4/9547(1).
127- ذكر مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحافظ ابن كثير (ت774هـ)(2).
128- الرد على من أنكر القيام عند ولادته - صلى الله عليه وسلم - لمغلطاي بن قليج (ت762هـ) السعيدية، حيدر آباد 1/294 (46-4و).
129- رسالة في أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو (الرسالة البيانية في حق أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم -) لمحمد بن محمد بن الجزري (ت833هـ)(3).
130- كنز الراغبين العفاة في الرمز إلى المولد المحمدي والوفاة لبرهان الدين إبراهيم بن محمد الناجي الدمشقي (ت900هـ) سوهاج 104 حديث.
__________
(1) آل البيت، سيرة 1/307 (1091).
(2) آل البيت، سيرة 1/332 (1173).
(3) آل البيت، سيرة 1/343 (1217).(33/26)
131- مورد الصادي في مولد الهادي لابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ) مكتبة تشستربيتي ق: 9 كتبت سنة 828هـ وقرئت على المؤلف. ونسختان في الحرم المكي، برقم 52/2 و 38/2، عارف حكمت ق: 27 س 17، 142/سيرة. وذكر له الحافظ ابن حجر، مصنفات حسان، منها: المولد النبوي ـ في ثلاثة أسفار، ومورد الصادي في مولد الهادي(1).
132- مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكمال الدين أبي المعالي محمد بن علي بن عبدالواحد الزملكاني (ت727هـ) برلين (9527) وله مصنف في الخصائص أو مناقب النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً. وربما يكونان كتاباً واحداً، لما سيأتي بيانه. وكتابه هذا أثنى عليه تلميذه الحافظ ابن كثير، وذكر أن شيخه اختصره من سيرة الإمام ابن إسحاق وغيره، وأنه ذكر في آخره شيئاً من فضائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقد فصلاً في هذا الباب أورد فيه أشياء حسنة ونبه على فوائد جمة ومهمة، وترك أشياء أخرى حسنة، وقال إنه لم يستوعب الكلام إلى آخره؛ وعلل ذلك إما بأنه سقط من خطه، أو أنه لم يكمله.
وذكر ابن كثير أن بعض أصحابه طلب منه تكميله وتبويبه وترتيبه وتهذيبه والزيادة عليه … فنشط لذلك، وعقد في كتابه (البداية والنهاية) (باب البينة على ذكر معجزاتٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله وأعلى منها خارجة عمَّا اختصَّ به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبله منهم - صلى الله عليه وسلم -) وقد جمعه من مولد ابن الزملكاني ودلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي وأبي محمد عبدالله بن حامد، ومن شعر الصرصري … وكان كتاب الزملكاني المذكور هو الذي دفعه لعقد الباب المذكور.(2)
__________
(1) المجمع المؤسس 3/286 ـ 287.
(2) انظر أطروحة الدكتور شمس الله محمد صديق، منهج ابن كثير في البداية والنهاية ص419 . والبداية والنهاية 6/ 291 وما بعدها .(33/27)
133- المنتقى في مولد النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للكازروني سعد الدين محمد بن مسعود بن محمد (ت 758هـ) ق: 260 س: 23 الحرم المكي 15 سيرة، وفي الحرم النبوي (1463) ق: 323 س: 23 والكتاب أصله بالفارسية، وعربه ولده المحدِّث المسند عفيف الدين.
المبحث الثاني: المصنفات في وفاته- صلى الله عليه وسلم -
134- الأخبار بوفاة المختار لابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ) الحرم المكي مجاميع 106الظاهرية عام 5567 تشتربتي ق 17 ـ 24 نسخت في 8/10/904هـ رقم 5/3295
135- الإنذار بوفاة النبي المصطفى المختار لزين الدين عبدالرحمن بن أبي بكر بن داود الصالحي الدمشقي (ت856هـ) جامعة برنستون – يهودا 389 (225، 4524).
136- تحفة الأبرار لوفاة المختار لمحمد بن عثمان اللؤلؤي الدمشقي (ت867هـ)(1).
137- سلوة الكئيب بوفاة الحبيب لأبي بكر بن محمد الحصني (ت829هـ) الرباط 105 الكتاني (2694).
138- سلوة الكئيب بوفاة الحبيب لابن ناصر الدين محمد بن عبدالله بن محمد القيسي الدمشقي (842هـ). الظاهرية عام 5567 (ورقة 35 ـ 60) و مكتبة الحرم المكي مجاميع 12/106 بخط ابن فهد، محمد بن عمر الهاشمي المكي ق: 7، س: 22 ولكن اسمه الذي سماه به المؤلف، كالذي جاء في آخره وهو قوله: آخر الأخبار بوفاة المختار.
139- الكواكب الدريّة في وفاة خير البرية لأبي بكر عبدالرحمن بن محمد البسطامي (ت858هـ) برلين 21/5947؛ وقد ذُكر هذا الكتاب باسم (تسلية النفوس الزكية بوفاة خير البرية)(2).
140- مجلس في السيرة لابن ناصر الدين الدمشقي (842هـ) حقق، وموضوعه في وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى بما قيل فيه - صلى الله عليه وسلم - من المراثي التي رثاه بها أصحابه، والتي لم يوردها ابن هشام في السيرة.....
الفصل الخامس: المنظومات والمدائح
وفيه مبحثان:
توطئة.
المبحث الأول…: أسماء المنظومات والقصائد والمدائح.
__________
(1) ذيل 1/231، وله مصنف مضى في المولد.
(2) كشف 404.(33/28)
المبحث الثاني…: بعض المنظومات التي تأثرت بقصيدتي بانت سعاد، والبردة الشهيرة للبوصيري وشروحهما.
توطئة
تختلف المصنفات المنظومة عن السيرة الشعرية، فالأخيرة لا تتقيد بالسياق التاريخي للأحداث، وقد يقتصر الشاعر على مواقف من السيرة تجاوباً مع الأحداث والنوازل..، وهذا خلافا للسيرة المنظومة التي تحرص في المجال التعليمي على سياق المادة التاريخية واستيفائها بقدر ما تسعف به قيود النظم؛ الوزن والقافية، شأنها في ذلك شأن المنظومات في القراءات كالشاطبية، وعلم الحديث كألفية الحافظ العراقي، والنحو كألفية ابن مالك.. وغيرها.(1)
وظهرت في المغرب في العصر الموحدي(2) بشكل واضح، وكذلك في الأندلس بسبب نهضة الشعر في ذلك العصر فقد نظم الطبيب الأندلسي ابن الطفيل (أرجوزة) في الطب تشتمل على 7765 بيتاً، وابن المناصف القرطبي (المذهبة) أرجوزة لغوية ألفية، وأرجوزة (الدرة السنية..) في 7000 بيت، ونظم يحيى بن معط الجزائري (الجمهرة) لابن دريد، والصحاح للجوهري، ومات قبل أن يتمه.
وشاع كذلك شعر المديح النبوي، وكان من سبب هذا أيضاً؛ الحالة النفسية التي صار إليها الغرب الإسلامي بعد سقوط قواعد الأندلس واختلال أمر الموحدين، وكذلك الاحتفال بالمولد النبوي(3) في أغلب الأقطار عموماً، ويمكن أن يضاف كذلك الأشواق والعواطف التي تصاحب الشعراء والأدباء في رحلتهم إلى المشاعر المقدسة وبلاد الحرمين وأرض الهجرة النبوية الشريفة ومثوى خير الخليقة - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) المصنفات المغربية في السيرة 1/192.
(2) الموحِّدون أو الدولة الموحدية نشأت في المغرب على أنقاض دولة المرابطين، وضمت الأندلس وحكمت من ( 514-629 ه)، وقامت على أساس تنقية العقيدة من الشوائب وأطلقوا على أنفسم الموحدين . ( عبدالرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص455) ط3 1407 هـ .
(3) المنوني : قبس من عطاء المخطوط المغربي 2/725، 726 .(33/29)
ومن السير الشعرية أو القصائد، والمنظومات الشهيرة التي تركت أثراً واضحاً في مؤلفات هذه الفترة، قصيدة بانت سعاد للصحابي كعب بن زهير (ت26هـ)، والسيرة الشقراطسية لأبي عبدالله محمد بن يحيى الشقراطيسي (ت466هـ) والبردة للبوصيري (ت 696هـ)، وفي فترة الدراسة ـ بديعية صفي الدين الحلي (ت750هـ) فقد كثرت شروحها ومعارضتها، ومحاكاتها، وألفية الحافظ العراقي (ت806هـ).
أما القصائد والمدائح النبوية فلا يمكن حصرها، فقد بلغ عدد المجلدات التي دونها أمير علي بن أمير حاجب، والي مصر، وأحد أمراء العشرات (ت749هـ) خمسة وسبعين مجلداً.
والمجموعة النبهانية في المدائح النبوية، لأبي المحاسن يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت1350هـ) التي طبعها في بيروت سنة (1320هـ) جمعها لـ (213) شاعراً، وهي أكبر مجموعة منشورة في هذا المنزع، بعد ما اختفت أو ضاعت أكثر مجموعات المدائح النبوية(1).
هذا وقد صرفت النظر عن كثير من هذه المدائح، لورود عدد من الأبيات في بعض المدائح ينطوي على غلو كبير في نبينا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كان يكشف عن تيار أو توجه موجود ومؤثر في تلك الفترة، وما زال موجوداً ومؤثراً إلى هذا العصر.
المبحث الأول: أسماء المنظومات والقصائد والمدائح
141- أبكار الأفكار في مدح النبي المختارلعبدالكريم بن ضرغام الطرائفي (من ق9هـ) خطية في دار الكتب 22541 طبعت في بيروت قديماً سنة 1317هـ.
142- أرجوزة في خصائص النبي عليه السلام، وتسمى = تائية السبكي، والقصيدة التائية في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخباره. لتقي الدين علي بن عبدالكافي الشافعي (ت756هـ) خدابخش، بانكيبور 23/46 (2541).
143- أرجوزة الفتح المبين في أخبار نصيبين لابن العماد شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عماد بن يوسف الأقفهسي القاهري الشافعي (ت808هـ)، مكتبة مكة المكرمة ق:5 س 23، 1365. 69 تاريخ.
__________
(1) المنوني : المرجع السابق 2/740، 754.(33/30)
144- أهنى المنائح في أسنى المدائح لشهاب الدين محمود بن سليمان بن فهد الحلبي الحنبلي (ت 725هـ) ديوان قصائد وأشعار في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تشستربيتي، ق76، 3310، دار الكتب 1396 أدب.
145- بديعية الحلِّي؛ لصفي الدين عبدالعزيز بن سرايا السنبسي الطائي (ت750هـ) وتسمى: الكافية البديعية في المدائح النبوية وهي بقافية الميم، وهي مطبوعة ولها نسخ في: الحرم المدني 3787 ق 15 س 17 عليه تعليقات كثيرة، دار الكتب 5637، أحمد الثالث 2618.
وهو شاعر عصره، وبديعيته مشهورة، وجعل لها شرحاً، ذكر فيه أنه استمد من مائة وأربعين كتاباً(1).
وأولها:
إن جئت سَلْعاً فسلْ عن جيرة العلم ... واقرَ السلام على عُرْبٍ بذي سَلَمِ
وضمنها مائة وخمسين نوعاً من أنواع البديع.
وقد تأثر ببديعية الحلي عدد من المصنفين الشعراء، فنظموا بديعياتهم على طريقته.
146- بديعية ابن جابر، وتسمى: الحلّة السِّيَرَا في مدح خير الورى للشاعر الضرير النحوي شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي المالكي (ت 780هـ) مطبوعة في القاهرة 1348هـ.
147- وقد شرحها رفيق دربه أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الأندلسي، أبو جعفر (ت 779هـ) بعنوان: (طراز الحلّة وشفاء الغلّة).
وكانا رفيقين طوال حياتهما، فكان ابن جابر ينظم وأبو جعفر يكتب(2)
وأولها:
بطيبة أنزل ويمِّمْ سيد الأممِ ... وانشر له المدح وانثر أطيب الكلمِ
148- بديعية ابن العطار، لأحمد بن محمد شهاب الدين ابن العطار الدُنيْسَري (ت 794هـ) نظم بديعيته على طريقة الحلّي(3).
149- وله؛ الموشحات النبوية في جامعة إستانبول، القسم العربي3276.
150- بديعية عيسى بن حجاج السَّعدي، الملقب (عويسا العالية)نظم بديعيته على طريقة الحلي، لكنها على قافية الراء.
__________
(1) الدرر 2/369، والبدر الطالع 1/358.
(2) المجمع المؤسس 2/599، كشف 688، مفتاح السعادة 1/195.
(3) المجمع المؤسس 3/67.(33/31)
وذكر أنه سمع منه ومن صلاح الدين الصَّفدي خليل بن أيبك.
151- بديعية اليمني، لعبدالرحمن بن محمد بن يوسف العلوي الزبيدي. أجازها للحافظ ابن حجر مناولة(1).
152- بديعيات الآثاري، شعبان بن محمد (ت 828هـ) وهي ثلاث بديعيات عارض بها الحلي كذلك؛
الكبرى، وهي: العقد البديع في مدح الشفيع. مخطوطة في عارف حكمت (136) بلاغة.
الوسطى، طبعت في بغداد 1977م بعناية هلال ناجي.
الصغرى، وهي: بديع البديع في مدح الشفيع. مخطوطة في: أحمد الثالث 2679.
153- بديعيّة ابن حجّة الحموي، لأبي بكر بن علي بن عبدالله (ت837هـ) عمل بديعيته متابعاً للحلّي على طريقة العز الموصلي(2).
وأولها:
لي في ابتدا مدحكم يا عُرْبَ ذي سلم ... براعٌ تستهلّ الدمع في العلم
قال الشوكاني: وبديعيته المشهورة، بأيدي الناس، وهو من أحسن تصانيفه(3).
154- وشرحها المصنف باسم، خزانة الأدب وغاية الأرب وشرحه مطبوع.
155- بديعية ابن المقري شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر (ت837هـ).
156- بديعيّة ابن الخراط، عبدالرحمن بن محمد الحموي (ت840هـ).
157- بشرى اللبيب بذكرى الحبيب لابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري (ت734هـ) قصائده في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبة على الحروف، ثم شرحها، ق: 59 س: 25 (26) مكتبة شستربتي 5163. ونسخة في: دار الكتب 5088 أدب.
158- بغية السول في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليحيى بن محمد بن سعيد القباني (ت900هـ)(4).
159- وله؛ مسك الختام في أشعار الصلاة والسلام(5).
160- ترياق العشاق في مدح حبيب الخلق والخَلاّق لعبدالله بن أسعد اليافعي (ت 768هـ)(6).
161- له: الدرر في مدح سيد البشر(7).
__________
(1) المجمع المؤسس 2/162.
(2) المجمع المؤسس 3/97، الدرر 3/43، الضوء 11/54 والكتاب طبع قديماً في بيروت 1905م.
(3) البدر الطالع 1/165.
(4) ذيل 187.
(5) كشف 1676.
(6) هدية 466.
(7) كشف 751.(33/32)
162- له: الشهد الشفا في مدح المصطفى(1).
163- جواهر البحار في نظم سيرة المختار لبرهان الدين إبراهيم بن عمر البقاعي الدمشقي (ت885هـ) دار الكتب 2143 طلعت، شهيد علي 363-2804/1.
164- الجوهر الثمين في مدح سيد المرسلين لأحمد بن عبدالعال (ت820هـ)(2).
165- جواهر الكنز المدخر في مدح سيد البشر لمحمد بن محمد الدمشقي، المعروف بسبط سويدان (ت 852هـ)(3)، وتسمى:كنز الوفا في مديح المصطفى. (كحالة 11/312).
166- جواب سؤال من ماردين عن بيت شعر مُدِح به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ)(4).
167- الدرة الضويّة في الأحكام السنيّة والأحوال الرضيّة في هجرة خير البريّة لابن العماد شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عماد بن يوسف الأقفهسي القاهري الشافعي (ت808هـ) الحرم المدني 3372 ق:10.
168- شرح الدرة الضويّة في هجرة خير البرية للمصنف نفسه. الحرم المدني 1464م ق 78 س 15. شرح فيها المنظومة السابقة وأتى بتعليقات وفوائد.
169- الدر المنظوم في سيرة النبي المعصوم لأحمد بن إسماعيل بن الحسباني الدمشقي (ت815هـ)(5).
170- ديوان البرعي في المدائح النبوية لعبدالرحيم بن أحمد البرعي (ت803هـ)، له طبعات كثيرة جداً.
171- دواوين التلمساني لابن أبي حجة أحمد بن يحيى (ت776هـ) خمسة دواوين في المدائح النبوية(6).
172- ديوان الفيومي لظاهر بن أحمد بن شرف الغصيني الفيومي (ت في بضع وسبعين وثمانمائة هـ) قال الشوكاني: له ديوان شعر مختص بالمدائح النبوية(7).
__________
(1) هدية 465.
(2) هدية 1/122.
(3) ذيل 1/379.
(4) آل البيت، سيرة 1/241 (828) نسخة الحرم المكي بخط عمر بن محمد بن فهد المكي.
(5) هدية 1/120.
(6) كشف 764.
(7) البدر الطالع 1/307.(33/33)
173- ذات الشفا في سيرة المصطفى ومن بعده من الخلفاء لمحمد بن محمد شمس الدين بن الجزري (ت833هـ) ق: 20 س: 15، الحرم المكي 667 حديث، خ لاله لي 2040 كتبت سنة (940هـ) لالا إسماعيل 375
ومطلعها:
قال محمد هو ابن الجَزَري
والشكر لله على ما قد هدى ... الحمد للمهيمن المقتدرِ
من نظم سيرة النبي أحمدا
174- شرح منظومة ذات الشفا للمؤلف نفسه، ق: 230 (1077) 9953 أوقاف بغداد. وقد كتب في فهرس مكتبة أوقاف بغداد؛ (لمؤلف كان حياً سنة 833هـ) ولها شروح أخرى(1).
175- سباق المرتاح وسياق الممتاح في المدائح النبوية لمحمد بن محمد القطان المصري (ت 885هـ)(2).
176- السر المكتوم في العمل بالزيج المنظوم في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الفداء إسماعيل بن علي (ت732هـ)(3).
177- سير الحور إلى القصور لابن الشحنة محب الدين أبي الوليد محمد ابن محمد الحلبي الحنفي (ت815هـ) الحرم المدني 3134 ق 2 س 15 عليها بعض التعليقات.
178- شرح (المنظومة الحلبية في السيرة النبوية لمحمد بن محمد بن الشحنة الحلبي) (ت815هـ) / والشارح ابن الشِّحنة الصغير (ت890هـ)(4).
179- الشفا في بديع الاكتفا في مديح المصطفى لمحمد بن الحسن النواجي (مات قبل 858هـ)(5).
180- شفيعية في مدح خير البرية لسليمان بن داود المصري (توفي قبل 778هـ)(6).
181- صبابة المشتاق في المدائح النبوية لأحمد بن يحيى بن فضل الله العمري الدمشقي (ت 749هـ)(7).
182- فتح القريب في سيرة الحبيب لابن الشهيد محمد بن إبراهيم أبي الفتح النابلسي الدمشقي (ت 793هـ) ق: 277 س: 17 (79) العامة، الرباط 44ق شستربتي 5116، 2/5116
__________
(1) فهرس آل البيت، سيرة 1/21-22.
(2) هدية 2/211.
(3) آل البيت، سيرة 1/425 (1567).
(4) آل البيت، سيرة 1/517-518 (1955) وورد اسم المنظومة بـ(سير النبي - صلى الله عليه وسلم -) هدية 2/180.
(5) كشف 1052.
(6) كشف 1056.
(7) كشف 1070.(33/34)
وجاء في أول الجزء الثاني، نسخة الرباط:
ذكر ما كان بعد غزوة بدر، في بقية العام الثاني من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: فمن ذلك سرية عمير بن عدي الأنصاري لقتل عصماء بنت مروان، وسرية سالم بن عمير لقتل أبي عفك اليهودي:
ذكر أمور بعد مرجع الرسول من بدر في ذا العام تأتي في فصول
وفي آخره: كمل الجزء الثاني من (الفتح القريب في سيرة الحبيب).. يتلوه بعد البسملة الشريفة ـ كتابه - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس.
يوجد الجزء الأول …. … ومجلدان في خزانة حسن حسني عبدالوهاب..(1)، الظاهرية 7938، لاله لي 2058.
قال الحافظ في الدرر: في بضع عشرة ألف بيت. وفي النجوم الزاهرة(2): نظم السيرة النبوية لابن هشام في مسطور مرجز، وجملتها خمسون ألف بيت. وقال ابن العماد في الشذرات(3): في خمسة وعشرين ألف بيت(4). وهكذا قال محمد المنّوني -أمين خزانة الرباط رحمه الله- ووصف مخطوط الرباط من كلامه(5).
وقال ابن شاكر عن نظمه: وشعره دقيق سهل التركيب، منسجم الألفاظ، عذب النظم بلا كلفة.(6)
183- قصائد في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعبدالرحمن بن يخْلُفْتُن الغازاري (مات قبل 726هـ) برلين 7709.
184- قصيدة في مدح خير البرية للسان الدين ابن الخطيب (مات قبل 776هـ) الرباط (887) 774 د.
185- قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - للحافظ ابن حجر (ت852هـ) الحرم المدني 3739. ق 1 بقافية اللام.
186- قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن أحمد الساحلي (ت 735هـ) الرباط (891) 1419 د.
__________
(1) انظر المجمع المؤسس لابن حجر 2/642 وتعليق المحقق .
(2) 12/125).
(3) 6/329.
(4) وفي آل البيت، سيرة (2188) 2/665 وهو نظم عيون الأثر.
(5) قبس من عطاء المخطوط المغربي 2/740
(6) فوات الوفيات 3/288(33/35)
187- قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن علي بن يحيى الغرناطي (مات قبل 715هـ) وهي تزيد على ألفي بيت(1).
188- قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحمد بن علي القلقشندي (مات قبل 821هـ) طبع قديما في الاسكندرية 1288هـ.
189- قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - للأبشيهي محمد بن أحمد (ت850هـ) صاحب الكتاب المشهور المستطرف. دار الكتب 834 مجاميع.
190- القصيدة القيراطية الهمزية في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبرهان الدين إبراهيم بن عبدالله القيراطي (مات قبل 781هـ) دار الكتب، مجموع 3334.
191- المدائح النبوية والمناقب المحمدية لإبراهيم بن أحمد الكناني (ت781هـ)(2).
192- المعشرات في مدح سيد المرسلين لأحمد بن الحسين الشرواني البلغاري (ت في القرن الثامن) خزانة: حسين جلبي 872 بخط المؤلف، كتبها سنة 711هـ.
193- منحة اللبيب في سيرة الحبيب لشمس الدين محمد الباعوني الدمشقي (ت871هـ) وهي نظم سيرة مغلطاي دار الكتب 7 ش تاريخ(3).
194- مِنَح المدح لابن سيد الناس محمد بن محمد اليعمري (ت734هـ)
أورد فيه مدائح الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. شهيد علي 1951، رضا رامبور 3557 (3).
195- مقصورة في السيرة النبوية لعبدالرحمن بن علي المكودي (ت807هـ) خ الرباط 4910ك.
196- نظم الدرر السنية في سيرة خير البرية (ألفية سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -) للحافظ العراقي زين الدين عبدالرحيم بن الحسين (ت 806هـ)، وهو مطبوع.
وله نسخ خطية. الحرم المكي 74 سيرة، ق: 24 الرباط، الخزانة العامة941.
وأوله:
أحمد ربي بأتم الحمدِ ... وللصلاة والسلام أهدي
197- نظم الدرر في مدح سيد البشر لمحمد بن عبدالله ابن العطار الجزائري (مات بعد 707هـ)(4).
__________
(1) كشف 1344.
(2) هدية 1/21.
(3) معجم المؤرخين الدمشقيين 250.
(4) نفح الطيب 7/489.(33/36)
198- نظم الشمائل المحمدية للترمذي (ت279هـ) لابن أرسلان أحمد بن الحسين، شهاب الدين الرملي (ت844هـ) أوقاف بغداد، ق: 9 (9912).
199- الوصول إلى السول في نظم سيرة الرسول وأصل الكتاب (السول) لنجم الدين فتح بن موسى المغربي الشافعي الأندلسي (ت663هـ) وهو نظم لسيرة ابن هشام، وضمّ إليها أحاديث واستشهادات لفظية، فجاء (آخر) فحذف المنثور ورآه تطويلاً وذكر المنظوم فقط، كتبت النسخة في (716هـ) القرن الثامن. الرباط (380) الجزء الأول، عدد الأبيات 3183.(1)
المبحث الثاني: بعض المنظومات التي تأثرت بقصيدة بانت سعاد، والبردة الشهيرة للبوصيري وشروحهما
المنظومات التي تأثرت بالبردة، وبقصيدة بانت سعاد، وحاكاها الأدباء معارضة وتخميساً وتعشيراً، كثيرة جداً، وفهرس موسوعة آل البيت، -قسم السيرة- الذي ظهر حديثاً ذكر من ذلك عدداً كبيراً تجاوزت صفحاته الأربعين، وفي كل صفحة عمودان.. ومن هذه المنظومات والشروح ما يلي:
200- إظهار صدق المودة في شرح قصيدة البردة لمحمد بن أحمد بن مرزوق العجيسي التلمساني ابن مرزوق (الجد) (ت781هـ)
ق: 338 س: 27 (116) حميدية بتركيا 1153. الرباط 1713 د (811).
201- الاستيعاب لما في البردة من البديع والإعراب لمحمد بن أحمد بن مرزوق العجيسي التلمساني (الحفيد) (ت842هـ) والجد وحفيده- الذي سيأتي ذكره ـ نحويّان(2).
202- الأنوار المضيئة في مدح خير البرية، تعليق على بردة البوصيري لجلال الدين محمد بن أحمد المحلّي (864هـ) الرباط ف 29643. بلدية الإسكندرية 3812.
203- تلخيص إظهار صدق المودة في شرح البردة لمحمد بن أحمد بن مرزوق العجيسي التلمساني (الحفيد) (ت842هـ) الرباط (834) 1635د.
204- تخميس البردة لمحمد بن علي الشاطبي الأندلسي (ت بعد 870هـ) الرباط 831 (1641 د).
__________
(1) قبس من المخطوط المغربي 2/737
(2) انظر مؤلفات ابن مرزوق الحفيد ؛ ثبت أبي جعفر الوادي آشي ص293 وانظر المجمع المؤسس 2/263.(33/37)
205- تخميس البردة لإبراهيم بن علي البهنسي (ت 846هـ)(1).
206- تخميس البردة لمحمد بن خليل القباقبي (ت 849هـ)(2).
207- تخميس البردة، مفتاح باب الفرج لشعبان بن محمد الأثاري (ت828هـ)(3).
208- تخميس القصيدة الوترية في مدح خير البرية لمحمد بن عبدالعزيز الوراق (ت 757هـ) طبعت في مصر 1347هـ.
209- تيسير الشدة وبلوغ المراد في تخميس قصيدة بانت سعاد لمحمد بن عبدالقادر الواسطي (ت 838هـ)(4).
210- الجوهر المكنون والسر المصون في شرح قصيدة كعب في النبي المأمون ليوسف بن خالد بن نُعيم القحطاني (من أهل ق 9هـ) خ عارف حكمت 6 مدائح، كتبت سنة 850هـ.
211- حاشية على البردة لمحمد بن بهادر الزرْكشي (ت794هـ) خزانة خدابخش بتنه 1756.
212- حل العقدة شرح قصيدة البردة لشعبان بن محمد الأثاري (ت828هـ)(5).
213- خير القِرى في شرح أم القرى (الهمزية للبوصيري) لمحمد بن عبدالمنعم المصري (ت 889هـ)(6).
214- شرح قصيدة البردة لابن خلدون (ت 808هـ)(7).
215- شرح قصيدة البردة لطاهر بن حسن بن حبيب الحلبي (ت808هـ) سماه (وشي البردة).
216- شرح قصيدة البردة لمحمد بن أحمد البساطي المصري (ت842هـ)(8)، وله شرح (تائية السبكي).
217- شرح قصيدة البردة، نزهة الطالبين وتحفة الراغبين لأحمد بن محمد بن أبي بكر (ت بعد 809هـ)(9).
218- شرح قصيدة بانت سعاد لعبدالله بن يوسف بن هشام النحوي (ت 761هـ) خ عارف حكمت 18 مدائح، والكتاب مطبوع.
219- شرح قصيدة بانت سعاد للفيروز آبادي (ت718هـ)(10).
220- شرح قصيدة بانت سعاد للمولى خير الدين (ت 883هـ) معلِّم السلطان محمد الفاتح رحمه الله. كشف (1330).
221- شرح قصيدة بانت سعاد لشهاب الدولة آبادي (ت849هـ) ط حيدر آباد.
__________
(1) هدية1/20.
(2) هدية2/169.
(3) كشف 1759.
(4) ذيل 1/343.
(5) هدية 1/417.
(6) هدية 2/212.
(7) هدية 529.
(8) هدية 2/192.
(9) كشف 1333.
(10) هدية2/180.(33/38)
222- شرح قصيدة بانت سعاد لشمس الدين محمد بن عبدالرحمن بن الصانع (ت 776هـ)(1).
223- شرح قصيدة لعلاء الدين علي بن محمد البسطامي المعروف بـ مصنِّفَك (ت857هـ) دار الكتب 13382.
224- شرح (( الهمزية )) أم القرى في مدح خير الورى للبوصيري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) الظاهرية 309 شعر (1884 سيرة 32).
225- مصدق الفضل، شرح بانت سعاد لشهاب الدين أحمد بن عمر الهندي (ت 894هـ) ط: في حيدر آباد.
226- معارضة قصيدة بانت سعاد لأبي حيّان محمد بن يوسف النحوي (ت745هـ)(2).
الخاتمة
النقاط المهمة والفوائد التي خرجت بها من هذا البحث متنوعة وجيدة، وكذلك بعض الملحوظات على بعض الفهارس للمكتبات؛ فمن الملحوظات على بعض المعاجم والفهارس:
لاحظت أن الكتاب الواحد (المخطوط) قد يسمى بعدة أسماء، وقد يُظن أنه لعدد من المصنفين -إذا لم يوجد اسم المؤلف- أو أنه عدة كتب للمصنف.
وقد صنّف صلاح الدين المنجد في كتابه القيّم الذي لا يستغنى عنه في هذا الباب (( معجم ما ألف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )). كتاباً واحداً له عناوين مختلفة، على عدة أقسام من كتابه بناءً على تعدد أسمائه. وقد تكرر هذا في كتابه بشكل ملحوظ. وهذا لا شك أنه يرجع إلى فهارس المكتبات
بعض المكتبات العريقة بمخطوطاتها في المدينة المنورة خاصة؛ خدمة فهارسها غير مكتملة، فتهمل الإشارة إلى تاريخ وفاة المصنف، في حين تهتم باسم الناسخ وتاريخ وفاته …
قد يقع الخطأ من صانعي فهارس المخطوطات، في نسبة كتاب إلى غير مصنفه اجتهادا من المفهرس، أو القول بأنه لمؤلف مجهول، ومن الطرق التي تبيّن لي بها هذا الخطأ، وجود نسخة أخرى في مكان آخر تحمل اسم المصنف.
أما الفوائد التي خرج بها هذا البحث فلعل من أبرزها:
أن من المصنفين على طريقة النظم، غالباً ما يشرح نظمه في مؤلف آخر وقد يُنسخ شرحه في حاشية النظم.
__________
(1) كشف (1332).
(2) طبقات الشافعية 9/288.(33/39)
من ميزات المؤلفات الموسوعية، التي ظهرت في هذه الفترة، كإمتاع الأسماع للمقريزي (ت845هـ) على سبيل المثال؛ كثرة النقل من المؤلفات السابقة، وقد يصل إلى صفحات كثيرة من كتاب واحد؛ بل قد وصل الحال ـ وهذا يعد في الوقت نفسه منقبة ـ إلى أنه (حفظ مواد بعض الكتب التي هي في حكم المفقود بالنسبة لنا، مثل سيرة ابن إسحاق، ودلائل أبي نعيم، ودلائل أبي ذر الهروي، ومسند بقي بن مخلد، وكتاب قاسم بن أصبغ … وكتاب ابن عائذ)(1).
ويذكر الحافظ ابن حجر عن كتاب الأبشيطي شهاب الدين الواعظ (ت835هـ) في السيرة قوله: ولهج بالسيرة النبوية، فكتب فيها كثيراً إلى أن شرع في جمع كتاب حافل في ذلك، وكتب منه نحواً من ثلاثين سفراً، يحتوي على سيرة ابن إسحاق وما وُضع عليها من كلام السهيلي وغيره، وعلى ما احتوت عليه المغازي للواقدي، وضم إلى ذلك ما في السيرة للعماد ابن كثير، وغير ذلك، وعني بضبط الألفاظ الواقعة فيها(2).
وقد تنوع اهتمام المصنفات في السيرة في هذه الفترة، فمنها المصنفات التي يغلب عليها الفوائد اللغوية، من ضبط الألفاظ وشرح الغريب … ونحو ذلك، ومنها ما يغلب عليها الصنعة الحديثية، ومنها ما يغلب عليه الاستنباطات الفقهية … ومنها إعادة صياغة المُصَنَّف نظماً …
وكان لبعض المصنفات قبولاً عند العلماء لجودتها وإتقانها وكثرة الفوائد التي تحويها، أو لكونها مصادر أصلية. فقام بعض المعاصرين للمؤلف أو اللاحقين بخدمة كتابه، شرحاً أو اختصاراً أو انتقاءً أو تحريراً. ومعروف ما حصل من خدمات جليلة لسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن إسحاق من قبل ابن هشام، حتى أصبحت تنسب إليه، ثم جاء السهيلي (ت581هـ) فكتب عليه (الروض الأنف).
__________
(1) علي المزيني، في مقدمة تحقيقه لقسم من إمتاع الأسماع ص180.
(2) المجمع المؤسس 3/24.(33/40)
وفي فترة الدراسة، جاء مغلطاي (ت762هـ) فكتب عليهما أي على (سيرة ابن هشام) (والروض) كتابه الكبير (الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم). حتى إن بروكلمان وصفه؛ بحاشية جدلية على الروض.
وقام الحافظ ابن حجر (ت852هـ) بتخريج الأحاديث المنقطعات فيها، أي في (سيرة ابن هشام). واختصر (الروض الأنف) الحافظ الذهبي (ت748هـ) في كتابه (منتقى الروض) أو (بلبل الروض) قال سبط ابن حجر: بلبل الروض، اختصره من كتاب (( الروض الأنف في تفسير ما اشتمل عليه حديث السيرة النبوية لابن هشام )) لنفاسة كتاب الروض وجودته. واختصره عز الدين محمد بن أبي بكر بن جماعة (ت819هـ) في كتابه (نور الروض)، وعليه حاشية لقاضي القضاة يحيى المناوي (ت871هـ) واختصره كذلك التقي يحيى الكرماني في كتابه (زهر الروض).
وشرح قطعة كبيرة منها البدر العيني (ت855هـ).
ومختصر السيرة لعبدالغني المقدسي، شرحها القطب الحلبي عبدالكريم بن عبدالنور (ت735هـ) فأجاد وأفاد واسم شرحه (المورد الهني)(1).
ومن المصنفات القيمة التي صُنِفت في القرن الثامن ولقيت اهتماماً سيرة ابن سيد الناس (ت734هـ) وهي (عيون الأثر في فنون الشمائل والسير) وتسمى كذلك (السيرة الكبرى) واختصره في كتابه (نور العيون) وهي (السيرة الصغرى) ومازالت خطية، والمصنف على درجة عالية في الأدب أثنى عليه الكثير، وهو محدث له شرح لجامع الترمذي.
ومن المصنفات التي خدمت هذا الكتاب (التعليق على السيرة) لسبط ابن العجمي أحمد بن إبراهيم (ت818هـ) وهو (النبراس على ـ في شرح ـ سيرة ابن سيد الناس) وقد قرأها الحافظ ابن حجر بخط المصنف(2) ونسخته موجودة في المدينة النبوية. وشرحها كذلك عز الدين محمد بن أبي بكر بن جماعة (ت819هـ) ونسختها في القدس الشريف.
__________
(1) السخاوي : الذيل على رفع الإصر ص217 رقم (126) والجواهر والدرر ص727 .
(2) المجمع المؤسس 3/12.(33/41)
ولسبط ابن العجمي أبي الوفا (ت841هـ) (نور النبراس في شرح سيرة ابن سيد الناس) ونسخته موجودة في المدينة المنورة.
واختصرها المحلّي محمد بن عبداللطيف (ت872هـ) ونسختها في إستانبول. وصاغها نظماً ابن الشهيد في كتابه (الفتح القريب في سيرة الحبيب) الذي مازال مخطوطاً، كذلك نظمها من أهل هذه الفترة؛ شمس الدين محمد بن زين بن محمد الطنتدائي (ابن الزين) (ت845هـ)(1).
ومن المصنفات القيمة التي خُدمت، كتاب (الزهر الباسم في سيرة أبي القاسم) للحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج (ت762هـ) في القرن الثامن. والكتاب في الأصل خَدَم كتاب (الروض الأنف)، والمصنف عالم في الحديث والرجال واللغة وغيرها، فوظف هذه القدرات في خدمة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختصر (الزهر) الذي ما زال مخطوطاً في (الإشارة إلى سيرة المصطفى) مطبوع، وله (تلخيص سيرة المصطفى) مخطوط في الرباط، وله (الخصائص)، و (الشمائل) مخطوطان.
وقد شرح سيرة مغلطاي، محمد بن أحمد العيني (ت855هـ) وصاغها نظماً بعنوان (منحة اللبيب في سيرة الحبيب) شمس الدين محمد الباعوني الدمشقي (ت871هـ) وهي مخطوط في دار الكتب بالقاهرة.
وممن اهتم بالتصنيف في السيرة النبوية، وهم من بيت واحد ابن جماعة؛ بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة (ت733هـ) له المختصر الكبير، والمختصر الصغير. وابن جماعة عز الدين عبدالعزيز بن محمد (ت767هـ) له مختصر. وابن جماعة عز الدين محمد بن أبي بكر (ت819هـ) وقد سبق ذكر شرحه لسيرة ابن سيد الناس، وله اختصار للروض الأنف، باسم (نور الروض) ونسخته في التيمورية. وجميع مصنفات بيت ابن جماعة في السيرة موجودة في خزائن المخطوطات ولله الحمد.
__________
(1) المرجع السابق 2/743.(33/42)
وممن له عدد من المصنفات في السيرة ابن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ) العالم المتبحر في الحديث ورجاله والتفسير والقراءات والفقه واللغة وغيرها، له من المخطوط الموجود إلى الآن (جامع الآثار)، وهو من المصنفات الكبيرة، وله مصنفات في المولد، وعمله في مولده جمع الروايات ونقدها وهي تتجاوز هذه الفترة الزمنية من السيرة العطرة، كما يتضح من تصفح المخطوط، وله مخطوطات في الوفاة، ومجلس في ختم السيرة. والروض الندي في الحوض المحمدي.
هذه أمثلة لكوكبة من العلماء، وفي البحث فوائد أخرى من مصنفات قيمة لعلماء لهم منزلتهم التي لا تخفى على أحد، آمل أن يتسنى لها من يخرجها إلى النور وينشرها بين الناس لتعم الفائدة وتنسد الفجوة العلمية والحضارية بين طلاب العلم في عصرنا وعلماء تلك الفترة الزمنية المشرقة علمياً. فحقيقة لا أبالغ إن قلت إن أكثر من 90% من مصنفات السيرة في تلك الفترة ما زالت خطية!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
المصادر والمراجع
- الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي (ت901هـ) (علم التاريخ عند المسلمين) فرانز روزنثال، ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، مؤسسة الرسالة، ط2 (1403هـ 1983م).
- إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع لأحمد ابن علي المقريزي (ت845هـ)، تحقيق الدكتور علي بن عايش المزيني، أطروحة دكتوراه، في قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية.
- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للعلاّمة محمد بن علي الشوكاني (ت1250هـ)، دار المعرفة، بيروت.
- برنامج ابن جابر الوادي آشي لشمس الدين محمد بن جابر الوادي آشي (ت749هـ)، تحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة، جامعة أم القرى (1401هـ 1981م).
- تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، كارل، تعريب عبدالحليم النجار، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية 1977م.(33/43)
- ثبت أبي جعفر أحمد بن علي البلوي الوادي آشي (ت938هـ) تحقيق د/ عبدالله العمراني، دار الغرب الإسلامي ط1 (1403ه -1983م).
- الجواهر والدرر للسخاوي (علم التاريخ عند المسلمين) فرانز روزنثال ترجمة الدكتور صالح أحمد العلي، مؤسسة الرسالة، ط2 (1403هـ 1983م).
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852هـ)، بعناية محمد سيد جاد الحق، القاهرة 1966م.
- الذهبي ومنهجه في كتابة تاريخ الإسلام للدكتور بشار عواد معروف، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط1 (1976م).
- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة للسيد محمد بن جعفر الكتاني (ت1345هـ) الطبعة الرابعة 1406 – 1986م.
- السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء أحمد العُمري، مركز بحوث السنة والسيرة، قطر.
- سير أعلام النبلاء للذهبي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت748هـ)، تحقيق عمر عبدالسلام التدمري، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، القاهرة 1350هـ.
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي شمس الدين محمد بن عبدالرحمن (902هـ) مكتبة الحياة، بيروت.
- فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، تحقيق إحسان عباس، بيروت.
- قبس من عطاء المخطوط المغربي لمحمد المنّوني، الطبعة الأولى 1999م دار الغرب الإسلامي.
- اللفظ المكرم بخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن محمد بن عبدالله الخيضري (ت894هـ) تحقيق الدكتور محمد الأمين بن محمد محمود، الطبعة الأولى (1415هـ 1995م).
- المجتمع المدني في عهد النبوة للدكتور أكرم العمري، الطبعة الأولى، الجامعة الإسلامية.
- المجمع المؤسس للمعجم المفهرس للحافظ أحمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) تحقيق الدكتور يوسف بن عبدالرحمن المرعشلي.
- مجلس في ختم السيرة لابن ناصر الدين محمد بن عبدالله الدمشقي (842هـ) تحقيق إبراهيم صالح، دار البشائر، الطبعة الأولى.(33/44)
- المصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها لمحمد يَسْف الطبعة الأولى 1412 – 1992 الرباط.
- معجم ما أُلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للدكتور صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الأولى (1402هـ 1982م).
- معجم المؤرخين الدمشقيين للدكتور صلاح الدين المنجد، بيروت.
- المعجم المفهرس للحافظ أحمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) تحقيق محمد شكور محمود الحاجي أمرير المياديني، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى (1418هـ 1998م).
فهارس المخطوطات
- رصيد مكتبة حسن حسني عبدالوهاب، بدار الكتب الوطنية، تونس، إعداد عبدالحفيظ منصور 1975م.
- فهارس الخزانة التيمورية بالقاهرة 1948م.
- فهارس دار الكتب المصرية، لغاية سبتمبر 1925م.
- فهارس مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في بغداد، إعداد: عبدالله الجبوري.
- فهارس مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في الموصل.
- فهارس مخطوطات التاريخ والسير والتراجم في مكتبة المتحف العراقي.
- فهارس المخطوطات العربية بمكتبة الإسكندرية.
- فهرس مركز إحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة ـ قسم السيرة ـ.
- فهارس مكتبة الحرم المكي الشريف.
- فهارس مكتبة الحرم النبوي الشريف.
- فهارس مكتبة مكة المكرمة العامة.
- فهارس مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.
- فهارس مكتبة المحمودية بالمدينة المنورة.
- فهارس مكتبة تشستربيتي دبلن – ايرلندا.
- فهارس مكتبة ستراسبورغ.
- فهارس المخطوطات في بعض المكتبات الخاصة في اليمن.
- فهارس المكتبة الحسنية بالرباط.
- فهارس الخزانة الملكية بالرباط، القسم الخاص بالتاريخ والرحلات
- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية، إعداد يوسف العش، التاريخ وملحقاته 1947م.
- مخطوطات التاريخ والتراجم والسير، في مكتبة المتحف العراقي، نشر وزارة الثقافة في العراق.
- فهرس موسوعة آل البيت، قسم السيرة، إشراف الدكتور، ناصر الدين الأسد، الطبعة الأولى.(33/45)
فهرس الموضوعات
المقدمة…2
منهج البحث…2
خطة البحث:…3
الفصل الأول: مراحل تطور كتابة السيرة النبوية…4
المبحث الأول: مرحلة الجمع الأولي (الرواد)…5
المبحث الثاني: السيرة ضمن مصنفات الحديث…9
المبحث الثالث: الكتابة في بعض جوانب من السيرة…11
المبحث الرابع: صياغة السيرة نظماً…14
الفصل الثاني: المصنفات في عموم السيرة…17
المبحث الأول: المطولات…18
المبحث الثاني: المختصرات…20
المبحث الثالث: التعليقات…25
المبحث الرابع: الشروح…26
الفصل الثالث: ما صنف في الخصائص والشمائل النبوية…30
توطئة للمصنفات في خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -…31
المبحث الأول: أسماء المصنفات…33
المبحث الثاني: بعض المصنفات التي خدمت كتاب ((الشفا)) في هذه الفترة…38
الفصل الرابع: ما صنِّف في مولده، ووفاته - صلى الله عليه وسلم -…42
المبحث الأول: أسماء المصنفات في مولده - صلى الله عليه وسلم -…43
المبحث الثاني: المصنفات في وفاته- صلى الله عليه وسلم -…46
الفصل الخامس: المنظومات والمدائح…48
توطئة…49
المبحث الأول: أسماء المنظومات والقصائد والمدائح…51
المبحث الثاني: بعض المنظومات التي تأثرت بقصيدة بانت سعاد، والبردة الشهيرة للبوصيري وشروحهما…62
الخاتمة…66
مصادر ومراجع البحث…72
فهارس المخطوطات…75
فهرس الموضوعات…77(33/46)
جهود المملكة في نشر السنة
والسيرة النبوية في الخارج
إعداد
الدكتور مساعد بن إبراهيم الحديثي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن اهتمام المملكة العربية السعودية وعنايتها بنشر السنة والسيرة النبوية في العالم، يعود إلى أيام تأسيسها، وبعناية خاصة من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود - رحمه الله - فقد كان سخيَّ اليد في ذلك، إذ أمر بطباعة العديد من أمهات الكتب، وتوزيعها على نفقته الخاصة، كما أمر بشراء كميات كبيرة من النسخ لكتب مطبوعة وتوزيعها على الناس عامة، وعلى طلاب العلم خاصة في مختلف أنحاء المعمورة. وسار على هذا النهج وهذه السنة أبناؤه البررة من بعده، وإلى يومنا هذا، وسيستمر - بإذن الله- هذا العطاء من المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في أنحاء العالم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
واهتمام المملكة العربية السعودية وعنايتها بالسنة النبوية ونشرها في العالم من الموضوعات التي لا يمكن حصرها في بحث واحد، وإنما تحتاج لعدد من المجلدات والبحوث والدراسات، وإنما حاولت في هذا البحث إعطاء بعض النماذج عن جهود المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.(34/1)
وقد جاء هذا البحث في أربعة فصول، تناول الفصل الأول، التعريف بموضوع البحث، وأهميته، وأهدافه، والمفاهيم المستخدمة فيه، ومنهجية البحث، أما الفصل الثاني فقد خصص للإطار النظري للبحث، حيث شمل موضوعين أساسين، الموضوع الأول أسباب اهتمام المملكة بنشر السنة والسيرة، والثاني سياسة المملكة في نشر السنة والسيرة في العالم، أما الفصل الثالث فقد خصص لإعطاء نماذج من جهود المملكة العربية السعودية في نشر السنة، وجاء هذا الفصل في سبعة مباحث، تناول المبحث الأول جهود المملكة من خلال طباعة الكتب ونشرها، أما المبحث الثاني فقد خصص لجهود المملكة خلال تعليم أبناء المسلمين، وخصص المبحث الثالث لجهود المملكة من خلال إنشاء مركز خدمة السنة والسيرة النبوية، والمبحث الرابع تناول جهود المملكة من خلال بث برامج السنة عبر إذاعة القرآن الكريم، أما المبحث الخامس فقد خصص للحديث عن جهود المملكة من خلال إيفاد العلماء والحفاظ للخارج، وخصص المبحث السادس لجهود المملكة من خلال المراكز والمساجد والأكاديميات في العالم، أما المبحث السابع فقد خصص لجهود المملكة من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية والجوائز العالمية، أما الفصل الرابع فقد تناول موجز البحث وتوصياته. والله ولي التوفيق.
الفصل الأول: موضوع البحث
- موضوع البحث.
- أهمية البحث.
- أهداف البحث.
- المفاهيم المستخدمة في البحث.
- منهج البحث.
الفصل الأول: موضوع البحث
تمهيد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:(34/2)
فقد أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة والشريعة الجامعة، التي تكفل للناس الحياة الكريمة، وتصل بهم إلى أعلى درجات الرقي والكمال، ولم تكن رسالة الإسلام موضعية محددة يختص بها جيل من الناس دون جيل، أو قبيل دون قبيل، شأن الرسالات التي تقدمتها، بل كانت رسالة عامة للناس جميعاً، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال تعالى:? ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ((الفرقان1)، وقال تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ((سبأ:28)، ومما يؤكد عموم هذه الرسالة وشمولها أنه ليس فيها ما يصعب على الناس اعتقاده أو يشق عليهم العمل به، قال تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ((البقرة:185)، وإن كل ما فيها من تعاليم إنما يقصد به حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العِرْض، وبدهي أن هذا يناسب الفطرة، ويساير العقول، ويجاري التطور، ويصلح لكل زمان ومكان.
ومن المتفق عليه بين المسلمين كافة أن السنة النبوية هي المرجع الثاني في الشريعة الإسلامية، في كل نواحي الحياة من أمور غيبية واعتقادية، وجاء وجوب اتباع السنة النبوية المطهرة والاحتكام إليها في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ((الأحزاب:36).
وقال تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( (( ( (( ( ( ( ( (((الحجرات:1) وقال تعالى:( ? ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ((آل عمران:32)، وقال تعالى:( ? ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ((المائدة:92) وقال تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (((النور:52).
وهنالك كثير من الأحاديث الصحيحة والنصوص الثابتة التي تدل على اتباع السنة منها عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" رواه البخاري، في صحيحه كتاب الاعتصام.(34/3)
وعن رافع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه، وإلا فلا" رواه أحمد وأبوداود والترمذي، وصححه ابن ماجه والطحاوي وغيره بسند صحيح. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض". أخرجه مالك مسنداً، والحاكم مسنداً وصححه.
وتدل الآيات والأحاديث السابقة على وجوب التمسك والاتباع لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو بالتمسك بالكتاب والسنة، وأن ذلك حكم مستمر إلى يوم القيامة. وأن اتباع السنة أمر واجب على كل مسلم في كل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن من لم يقبل بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمناً، قال تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( (( ( (( ( ( ( ( ( ((الحشر:7). وقال تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ((النور:63).
من أجل هذا عُني الصحابة رضوان الله عليهم بتبليغ السنة؛ لأنها أمانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأجيال المتلاحقة من بعده. وبقي المسلمون محافظين على العناية بالسنة وتعليمها وبعلوم الشريعة عامة على مر الدهور والعصور، فامتلأت المساجد بحلقات العلم، تلقيناً للمبادئ وتحفيظاً للقرآن وإملاءً للكتب ورواية للحديث، ودروساً في الفقه، ثم أنشأ المسلمون مدارس مستقلة لكثرة الطلاب وتفرقهم للعلم، وتسابقوا في عمارتها، وأوقفوا عليها الأوقاف، وأجرَوا الجرايات على طلابها وشيوخها والمعيدين فيها، وعلى القائمين عليها من النظار، وتسابق الناس في ذلك.
موضوع البحث(34/4)
ولما للسنة من مكانة عظيمة في الشريعة الإسلامية؛ إذ هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، واهتم المسلمون بنشرها والتعريف بها كما سبق بيانه، فقد أولت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها اهتماماً كبيراً وعناية خاصة بنشر السنة والسيرة النبوية ويعود ذلك الاهتمام والعناية إلى زمن مؤسسها الملك عبدالعزيز - رحمه الله - إذ كان حريصاً على نشر التراث الإسلامي من كتب السنة النبوية الصحيحة وكتب السيرة المعتمدة، وكان سخي اليد في ذلك، حيث أمر بطباعة العديد من أمهات الكتب، وتوزيعها على نفقته الخاصة، كما أمر بشراء كميات كبيرة من النسخ لكتب مطبوعة، وأمر بتوزيعها على الناس عامة وعلى طلاب العلم خاصة، وطبعت على نفقته كتب كثيرة، لم يذكر عليها اسمه؛ وذلك طلباً في الثواب من رب الأرباب.
وقد دلَّ الكثير من الدراسات الخاصة في هذا المجال على أن أغلب الكتب المطبوعة على نفقة الملك عبدالعزيز كانت من مؤلفات أعلام السلف ومن سار على نهجهم، مثل الإمام أحمد وابن كثير وابن تيمية وابن قدامة، إضافة إلى العناية الخاصة بنشر آثار الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلامذته.
ويشير عدد من المصادر الوثائقية إلى أن جهود الملك عبدالعزيز رحمه الله في نشر الكتب الإسلامية الصحيحة لم تكن مقصورة على داخل المملكة فحسب، بل امتدت إلى كثير من طلبة العلم في مختلف أنحاء العالم، ولا تزال المملكة إلى يومنا هذا -بفضل الله وتوفيق منه لولاة الأمور- تسير في هذا الطريق القويم، وتستنير بهذه السنة الحسنة التي سنّها مؤسسها، وتمثل ذلك في الصعيد الداخلي في تنشيط الحركة العلمية وإعطائها الأولوية في خطط التنمية الشاملة ودعم مؤسساتها، حتى خطت خطوات قياسية في هذا المجال بالنظر إلى التحديات والإمكانات والعامل الزمني، وهذا ما يتضح جلياً فيما تم إنجازه من جامعات ومكتبات عامة ومراكز بحوث.(34/5)
ولم تقتصر جهود المملكة في نشر السنة والسيرة النبوية على المجال الداخلي، بل امتدت ليشمل العالم كافة، والمسلمين أينما وجدوا شعوباً وأقليات، وذلك بهدف تعريفهم بالسنة والسيرة النبوية من مصادرها الصحيحة الموثوقة.
وعليه فإن موضوع هذا البحث يتلخص في محاولة تسليط بعض الأضواء وإعطاء بعض النماذج من جهود المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
أهمية البحث
تأتي أهمية هذا البحث من أهمية موضوعه إذ إنه يتعلق بأفضل القربات إلى الله تعالى، وهي نشر العلم الشرعي في أنحاء العالم كافة، مع التركيز على دور المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم، وتتلخص أهميته فيما يلي:
توثيق هذه الخصيصة من خصائص المملكة العربية السعودية المتعددة في خدمة الإسلام والمسلمين في الجانب الخاص بنشر السنة والسيرة النبوية، بهدف تسليط الضوء عليها والتعريف بها.
الإسهام العلمي في إثراء الجانب النظري والتراث العلمي في مجال نشر السنة والسيرة النبوية والاهتمام بها.
تعريف الأجيال الحالية والقادمة بجهود المملكة العربية السعودية في مجال العناية بنشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
الاستفادة من الرؤيا الثاقبة لمؤسس هذه البلاد الملك عبدالعزيز - طَيَّب الله ثراه- ثم أبنائه الذين ساروا من بعده على نهجه في الاهتمام بنشر العلم الشرعي، ونشر السنة والسيرة النبوية لاستفادة المسلمين كافة في أنحاء العالم.
تزداد أهمية هذا البحث في بعده العلمي من جهة كونه سيوضح الأساليب والوسائل التي اتبعتها المملكة العربية السعودية في مجال نشر السنة والسيرة النبوية في العالم، مسايرة في ذلك تطورات العصر وتقنياته في تنويع سبل نشرها وتطويرها.
أهداف البحث
يهدف هذا البحث إلى تحقيق الآتي:
1- التعريف بعناية المملكة العربية السعودية بالشريعة الإسلامية والاهتمام بمصادرها الأساسية، القرآن والسنة.(34/6)
2- التعريف بعناية المملكة العربية السعودية بنشر السنة والسيرة النبوية في أنحاء العالم كافة.
3- تسليط الضوء على اهتمام المملكة العربية السعودية بالإسلام والمسلمين والحرص على تعريفهم بسنة وسيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
4- التعريف بالسبل والطرق والآليات التي اتبعتها المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية.
5- الإسهام في توثيق هذه الخصيصة من خصائص المملكة العربية السعودية في نشر العلم النافع للمسلمين.
المفاهيم المستخدمة في البحث
حيث إن هذا البحث يهدف إلى التعريف بعناية المملكة العربية السعودية بنشر السنة والسيرة النبوية، فإن المفاهيم المستخدمة في هذا البحث هي السنة والسيرة النبوية.
أولاً: مفهوم السنة
المفهوم اللغوي للسنة
السنة في اللغة: هي الطريقة محمودة كانت أو مذمومة، وسنة الله حكمه في خليقته(1).
المفهوم الاصطلاحي للسنة
وهي في اصطلاح المحدثين ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة أو بعدها.
وفي اصطلاح الأصوليين ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولٍ أو فعل أو تقرير، ومثال القول ما تحدث به النبي - صلى الله عليه وسلم - في مختلف المناسبات مما يتعلق بتشريع الأحكام، كقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"، ومثال الفعل:"ما نقله الصحابة من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شؤون العبادة وغيرها، كأداء الصلوات ومناسك الحج، وآداب الصيام، ومثال التقرير: "ما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفعال صدرت عن بعض أصحابه بسكوت منه مع دلالة الرضا، أو بإظهار استحسان وتأييد.
__________
(1) المعجم الوسيط، 1980م: 456 .(34/7)
والسنة في اصطلاح علماء العقيدة، هي:" ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، علماً واعتقاداً، وقولاً، وعملاً" وهي السنة التي يجب اتباعها ويحمد أهلها ويُذَمُّ من خالفها(1).
ثانياً: مفهوم السيرة
المعنى اللغوي للسيرة
السيرة في اللغة السنة، والطريقة، والحالة التي يكون عليها الإنسان وغيره(2).
المعنى الاصطلاحي للسيرة
والسيرة النبوية وكتب السير مأخوذة من السيرة بمعنى الطريقة، وأدخل فيها الغزوات وغير ذلك، ويقال قرأت سيرة فلان:"تاريخ حياته".
منهج البحث
يعتمد هذا البحث على المنهج الوصفي، الذي يستخدم بكثرة في العلوم الاجتماعية، والأنثروبولوجية، وهو من أنسب المناهج مع طبيعة البحث الحالي، لأنه يرمي في النهاية إلى وصف دور المملكة في العناية بنشر السيرة والسنة النبوية في العالم، كما تم استعمال منهج التحليل الوثائقي أو منهج البحث المكتبي؛ لأن الباحث اعتمد في استقاء المعلومات التي تخدم موضوع البحث على ما توافر له من وثائق منشورة أو غير منشورة، وعلى استقراء الأدبيات ذات الصلة الوثيقة بالظاهرة تحت الدراسة. وتم تعزيز هذا المنهج بمشاهدات الباحث وملحوظاته خلال قيامه بالزيارات الميدانية لبعض المراكز وتعامله مع بعض الجهات المعنية بموضوع البحث.
الفصل الثاني: الإطار النظري
- أسباب اهتمام المملكة بنشر السنة والسيرة.
- سياسة المملكة في نشر السنة والسيرة في العالم.
الفصل الثاني: الإطار النظري
أسباب اهتمام المملكة بنشر السنة والسيرة
__________
(1) العقل، ناصر (بدون تاريخ)، مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، دار الوطن، الرياض، ص13 .
(2) المعجم الوسيط، 1980م: 467.(34/8)
إن المطلع على تاريخ المملكة العربية السعودية سيدرك أن هذه الدولة المباركة التي كتب الله لها الاستقرار والاستمرار، قامت لنصرة الإسلام والمسلمين ونشر الدعوة الإسلامية، والعقيدة السلفية الصالحة، والعلم الصحيح، وسيعرف أن الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- المؤسس لهذه الدولة جعل الاهتمام بالدعوة الإسلامية ونشر السنة والسيرة في أنحاء العالم كافة ضمن اهتماماته الأساسية، وهنالك العديد من الوثائق التي تشير إلى ذلك فعلى سبيل المثال نشرت جريدة أم القرى في عددها الصادر في رمضان عام 1347هـ، الموافق 1928م، إلى أن الملك عبدالعزيز أراد أن ينشر الدعوة إلى الدين الخالص في سائر الأمصار، فاستشار العلماء في خير الكتب التي ينبغي نشرها بين الناس، لِيُعْمِلَ جهده في توفيرها، فذُكرت له الكتب التي تبين حقيقة التوحيد، منها ما هو مطبوع ومنها ما لم يطبع، فاشترى من المطبوع مئات الكتب بل الألوف، وما لم يطبع منها أمر بطبعه وتوزيعه، حتى بلغت الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز نحو مائة كتاب.
امتثل الملك عبدالعزيز في ذلك لقول الله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( (الحج:41).
وسار من بعده - بتوفيق الله - أبناؤه على هذه السنة الحسنة التي سنها والدهم مؤسس هذه البلاد، في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم إلى يومنا هذا.
فما الأسباب التي جعلت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها تهتم بنشر السنة والسيرة النبوية في العالم؟ والإجابة عن هذا التساؤل يستدعي العديد من المؤلفات والكتب والأبحاث، إلا أننا في هذا البحث سوف نشير إلى أبرز تلك الأسباب وبإيجاز، وتتلخص تلك الأسباب فيما يلي:
أولاً: النهج الواضح والغاية المحددة من قيام المملكة العربية السعودية(34/9)
نجد أن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - قد حدد المنهج والغاية من قيام المملكة العربية السعودية منذ البداية حيث يقول:" نحن دولة تقوم على كتاب الله وسنة نبيه محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة والسلام، نناهض كل ما يتعارض مع ذلك أو يخرج بنا عنه"(1). وقال رحمه الله وهو المؤسس لهذا الكيان يوم دعا علماء الحجاز وأهل الرأي فيه عقب دخوله مكة المكرمة: "إن أفضل البقاع هي التي يقام فيها شرع الله، وأفضل الناس من اتبع أمر الله، وأن لهذا البيت شرفه ومقامه منذ أن رفع قواعده سيدنا إبراهيم عليه السلام"(2).
ولم تَحِدْ هذه البلاد - بتوفيق الله - عن هذه الجادة رغم كل الأحداث والمتغيرات والتقلبات السياسية والتيارات والمذاهب والتوجهات العقدية التي هبت وتهب على هذا العالم خلال الأعوام الماضية.
وهذا الالتزام بهذا المنهج يتطلب الدعوة إلى الإسلام وإلى الشريعة الإسلامية وتعريف الناس كافة بها، وهذا يستدعي القيام بنشر السنة والسيرة النبوية في أرجاء العالم كافة.
ثانياً: المملكة العربية السعودية تضم أطهر البقاع وأفضلها
إن المملكة العربية السعودية هي أرض الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهي مهبط الوحي، وينظر المسلمون إليها على أنها مصدر الإيمان والنبوة ومحور الوحدة والتلاحم بينهم، وبالتالي يجدون فيها الآمال والقوة والخير والطمأنينة؛ لذا كان من الواجب عليها نشر الدعوة الإسلامية الصحيحة من خلال نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
ثالثاً: المملكة العربية السعودية قبلة المسلمين في كل عباداتهم
__________
(1) هارون، منير عبدالحميد 1993م، المملكة العربية السعودية، الشريعة الإسلامية تحكم، مطابع الإثراء، الرياض، ص 7-8.
(2) الشثري، محمد بن ناصر 1417، الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز، ط(1)، ص 85.(34/10)
يتجه المسلمون في كافة أنحاء العالم إلى قبلة واحدة، مكة المكرمة خمس مرات في اليوم ويأتون إلى المملكة العربية السعودية سنوياً لأداء مناسك الحج، ويحضرون على مدار السنة لأداء مناسك العمرة والزيارة، كما أن أغلب الدول الإسلامية ترتبط مع المملكة العربية السعودية في إثبات دخول شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، إضافة إلى أن المملكة العربية السعودية، هي الدولة الوحيدة التي تحكم بشرع الله وتطبقه، وهي مصدر العقيدة الإسلامية الصحيحة للمسلمين كافة. وهذا بدوره أدى إلى ضرورة أن تقوم بنشر السنة والسيرة النبوية في العالم لتعريف المسلمين بالطرق الصحيحة لأداء صلواتهم وصيامهم ونسكهم.
رابعاً: صيانة الحقائق الدينية والمفاهيم الإسلامية من التحريف والبدع
تسعى المملكة جاهدة منذ تأسيسها إلى محاربة البدع والقضاء على الوثنية وصيانة المفاهيم الإسلامية من التحريف والجد والاجتهاد في عرض حقائق الإسلام ودرء الشبهات عن رجال الدعوة وتبيان محاسن العقيدة الإسلامية، عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق نشر السنة والسيرة النبوية في كافة أنحاء العالم.
خامساً: رعاية الحجاج وخدمتهم
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام وهو أمنية كل مسلم ومسلمة في هذا العالم، لذا فقد آلت المملكة على نفسها القيام بخدمة الحجاج ورعايتهم وتسهيل مناسكهم. وبُذِل في ذلك الغالي والنفيس من توسعة للحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وتسهيل كل سبل الراحة للحجيج، وتبصيرهم بأداء نسكهم على الوجه الصحيح والأمثل، وتوعيتهم بأمور دينهم وهذا لا يتأتى إلا بالعمل على نشر السنة والسيرة النبوية.
سادساً: العمل على توحيد المسلمين وتضامنهم(34/11)
وانطلاق المملكة من مبادئ الشريعة الإسلامية، يجعلها تستشعر أهمية الأخوة الإسلامية وتحقيق التكافل بين المسلمين على ما تقتضيه أوامر الإسلام ونواهيه وإرشاداته وتوجيهاته، ومقاصده وغاياته في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية، وقد أخذت المملكة على عاتقها خدمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ عهد مؤسسها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الذي كان همه الاهتمام بأمور المسلمين عامة أينما كانوا حيث قال:" والذي نشهد الله عليه …إننا ما ننام إلا وأمر جميع المسلمين يهمنا"، ودعا -رحمه الله- إلى التضامن الإسلامي وجمع كلمة المسلمين والتفافهم وتعاونهم وقال مخاطباً حجاج بيت الله: "وكل ما ندعو إليه هو جمع كلمة المسلمين، واتفاقهم ليقوموا بواجبهم أمام ربهم وأمام بلادهم" ونصحهم وأوصاهم بالأخوة الإسلامية والتعاون حين قال: "يجب على كل مسلم أن يأمر بالتآخي والتآزر لتكون كلمة الله العليا"، كما طالب ـ رحمه الله ـ بالمحافظة على حقوق الأقليات الإسلامية قائلاً: "إن لنا في الديار النائية إخواننا من المسلمين والعرب، نطلب مراعاتهم، وحفظ حقوقهم، فإن المسلم أخو المسلم يحن عليه، كما يحن على نفسه في أي مكان كان(1).
وتحقيق هذا التضامن يتطلب تعريف المسلمين في أنحاء العالم كافة بالسنة والسيرة النبوية.
سياسة المملكة في نشر السنة والسيرة في العالم
إن المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها أخذت على عاتقها الدعوة إلى نشر الإسلام في كافة أنحاء المعمورة وتبصير المسلمين بأمور دينهم، وانطلقت في ذلك من خلال نشر السنة والسيرة في كافة أنحاء العالم وفقاً لسياسة محددة نوجزها فيما يلي:
أولاً: القيام في ذلك عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة
__________
(1) المغامسي، سعيد بن فالح 1419هـ، تعليم أبناء المسلمين من خلال المنح الدراسية التي تقدمها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام، ص11(34/12)
كما بينا أن المملكة العربية السعودية قد اتخذت من الشريعة الإسلامية منهاج حياة في كافة شؤونها، وهذا يتطلب الانطلاق من المرتكزات الأساسية للشريعة الإسلامية في الدعوة إليها، لذا نجدها انطلقت من قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( (( ( (النحل:125)، وقال تعالى:( ? ( ( ( ( (( ( ( ( ( ((الإسراء:53).
ثانياً: القيام على بصيرة وعلم
والناظر في دور المملكة في نشر السنة والسيرة النبوية يجد أنها منطلقة من ذلك من بصيرة ثاقبة وعلم سليم من حيث حال المدعوين وحال الداعية، فبالنسبة للمدعوين فإنها تتحرى الوقت المناسب والزمن المناسب والوسيلة المناسبة، بحسب الحال والمقام، وبالنسبة للداعين فإنها تتوخى، وتحرص على أن يكونوا من العلماء المؤهلين الذين لديهم الموهبة في الدعوة بعد أن يتم صقلهم بالعلم الصحيح.
ثالثاً: التدرج
ونجد أن منهج المملكة العربية السعودية في نشرها للسنة والسيرة النبوية قد كان متدرجاً ومرتباً مع تطور المملكة في كافة المجالات، حيث كانت في البداية تنشر الكتب وتوزعها على المسلمين، ثم بعد نشر التعليم فيها أصبحت ترسل الدعاة والعلماء، ثم فتحت باب المنح لطلاب العلم من أنحاء العالم كافة لتزويدهم بالعلم الشرعي، ثم أنشئت الجامعات والمراكز في الداخل والخارج، وأنشأت المطابع الضخمة والعملاقة. ومن أبرزها مجمع خادم الحرمين الشريفين لطباعة المصحف الشريف، كل ذلك كان وفقاً لتدرج منطقي علمي سليم في نشر السنة والسيرة النبوية عالمياً.
رابعاً: استخدام الوسائل كافة(34/13)
لم تألُ المملكة جهداً في سبيل نشر السنة والسيرة واستخدمت في ذلك الوسائل الدعوية كافة من طباعة الكتب ونشرها، وإرسال العلماء والدعاة واستضافة طلاب العلم وتعليمهم، وإقامة الندوات والمؤتمرات، والمشاركة في المنظمات الإسلامية العالمية، وإقامة الصروح العلمية والمراكز البحثية والجامعات، والمراكز الإسلامية في الخارج، وإقامة المسابقات الدولية والمحلية، واستخدام وسائل التقنية الحديثة من أشرطة وبرامج حاسب آلي، ومواقع على "الإنترنت"، وغير ذلك.
الفصل الثالث: نماذج من جهود المملكة في نشر السنة والسيرة
- المبحث الأول جهود المملكة من خلال طباعة الكتب ونشرها.
- المبحث الثاني جهود المملكة من خلال تعليم أبناء المسلمين.
- المبحث الثالث جهود المملكة من خلال إنشاء مركز السنة والسيرة النبوية
- المبحث الرابع جهود المملكة من خلال بث برامج السنة والسيرة النبوية عبر إذاعة القرآن الكريم.
- المبحث الخامس جهود المملكة من إيفاد العلماء والأئمة والحفاظ إلى الخارج.
- المبحث السادس جهود المملكة من خلال المراكز والمساجد في العالم.
- المبحث السابع جهود المملكة من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية والجوائز العالمية.
الفصل الثالث: نماذج من جهود المملكة في نشر السنة والسيرة في الخارج
تمهيد:
آلت المملكة العربية السعودية ومنذ تأسيسها على يد موحدها الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، على نصرة الإسلام والمسلمين، والدعوة إلى الله وإيصالها إلى أنحاء المعمورة كافة، ونشر السنة الصحيحة وتبصير المسلمين بأمور دينهم، واستخدمت في ذلك إمكاناتها المتاحة كافة، في كل عصر من عصورها، وذلك بمختلف الوسائل والطرق والآليات.(34/14)
ودور المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم، لا يسعه بحث واحد، وإنما يحتاج للعديد من البحوث لكل جزئية من جزئياته، وتمثل ذلك عن طريق نشر الكتب وطباعتها وتوزيعها، وعن طريق تعليم أبناء المسلمين سواءً داخل المملكة أو خارجها، وإقامة المراكز العلمية والبحثية، وكذلك من خلال إرسال الدعاة وإقامة المؤتمرات والندوات وتنظيم المسابقات وغيرها من المناشط.
وفي هذا الفصل سوف نحاول تقديم إشارات ونماذج تبين جهود المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية وذلك من خلال المباحث الآتية:
المبحث الأول: جهود المملكة من خلال طباعة الكتب ونشرها في الخارج
عرف عن الأسرة السعودية منذ عهد الإمام محمد بن سعود اهتمامهم بالعلم الشرعي، حيث حرصت الأسرة على اقتناء الكتب وحفظها والعناية بها، بل وتخطى هذا إلى محاولة نشرها وتيسير سبل الاطلاع عليها لطلاب العلم، واستمر هذا الاهتمام حتى جاء عهد مؤسسها الملك عبدالعزيز
-رحمه الله- موحد المملكة العربية السعودية، وكان اهتمامه بنشر السنة والكتب وتوزيعها، حيث أولى عناية واهتماماً خاصاً بالكتب والمخطوطات الإسلامية النادرة، وعمل على طباعتها ونشرها على نفقته الخاصة، وذلك لما عرف عنه - رحمه الله - من تشجيع ملحوظ لأبنائه والعلماء والمفكرين والمقتدرين على وقف الكتب ونشرها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الملك عبدالعزيز لم يكن ليكتفي بطباعة الكتب وتوزيعها داخل المملكة العربية السعودية فقط، بل كان يهتم أيضاً بتوزيعها خارج المملكة العربية السعودية، ولم يقتصر وقفه على طباعة الكتب ونشرها باللغة العربية فحسب، بل تعدى ذلك إلى طباعة عدد من الكتب بلغات أخرى غير العربية مثل الجاوية والهندية وغيرها، وكان يهدف من ذلك إلى تعميم نشر الدعوة في الأقطار الإسلامية.(34/15)
وكان - يرحمه الله - لديه صيغة معينة على الكتب الوقفية تكاد تكون ثابتة لا تتغير إلا فيما ندر، وتلك الصيغة هي:" يعلم من يراه بأن الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل وقف هذا الكتاب لوجه الله تعالى على طلبة العلم، لا يباع، ولا يورث، ولا يحبس، فمن بدله من بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم"، وحيث إن المقام هنا لا يتسع لإعطاء النماذج الكثيرة على اهتمام الملك عبدالعزيز وعنايته بوقف الكتب وطباعتها ونشرها، إلا أن هنالك العديد من المخطوطات التي تحدثت عن هذا الأمر، وإنما الهدف هو مجرد الإشارة لذلك، ومن أراد الاستزادة فليعد إلى الكتب والبحوث التاريخية التي اعتنت بهذا الموضوع(1).
وعموماً فإن هناك سمات عامة لمجموعة المؤلفات التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - خلال حياته يمكن إيجازها في الآتي:-
أولاً: تركيز هذه المؤلفات على كتب أعلام السلف مثل أحمد بن حنبل، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم.
ثانياً: تنوع موضوعاتها، حيث تشمل العقيدة والتفسير والفقه واللغة العربية وآدابها والتاريخ الإسلامي والجغرافيا والأنساب وغيرها.
ثالثاً: نشر كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلامذته بهدف نشر حقيقة دعوة الشيخ، والرد على أصحاب الأقاويل المعادية لها.
رابعاً: تعدد المطابع التي طبعت فيها تلك المؤلفات ومنها:-
المطبعة المصطفوية في بومباي بالهند.
مطبعة النهضة بمصر.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام، الرياض، الفترة من 7-11 شوال 1419هـ، وبحوث ندوة المكتبات الوقفية في المملكة العربية السعودية المنعقدة في المدينة المنورة في الفترة من 25-27 محرم 1420هـ، وبحوث ندوة الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز التي نظمتها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في الرياض في الفترة من 21-24 صفر 1420هـ.(34/16)
مطبعة الاعتدال بدمشق.
مطبعة الترقي بدمشق.
مطبعة السلفية بالقاهرة ومكة المكرمة.
مطبعة أم القرى بمكة المكرمة.
والجدول ذو الرقم (1) يبيّن عناوين بعض الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز - رحمه الله -
م ... اسم الكتاب ... اسم المؤلف
1- ... تفسير ابن كثير 4 مجلدات ... ابن كثير
2- ... البداية والنهاية 14 مجلداً ... ابن كثير
3- ... المغنى والشرح الكبير 20 مجلداً ... ابن قدامة
4- ... كشاف القناع 6 مجلدات ... البهوتي
5- ... الشريعة للآجري ... الآجري
6- ... منتهى الإرادات 6 مجلدات ... البهوتي
7- ... العدة شرح العمدة ... ابن قيم
8- ... الإنصاف 20 مجلداً ... ابن قدامة
9- ... مجموعة الفتاوى النجدية 4 مجلدات ... ابن القاسم
10- ... زاد المعاد 4مجلدات ... ابن القيم
11- ... الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ... ابن القيم
12- ... مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... محمد بن عبدالوهاب
13- ... الجواب الكافي ... ابن القيم
14- ... روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ... ابن حبان البستي
15- ... التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح ... ابن الناصح ثم أكمله تلميذه الشهاب الشويكي
16- ... الروض المربع شرح زاد المستقنع مجلدان ... منصور البهوتي
17- ... عقيدة الطحاوية ... الطحاوي
18- ... طبقات الحنابلة ... أبي الحسن محمد بن محمد بن أبي يعلي
19- ... شرح السنة ... البغوي
20- ... مدارج السالكين شرح منازل السائرين ... ابن القيم
21- ... رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية ... ابن تيمية
22- ... فتح المجيد ... آل الشيخ
23- ... حاشية المقنع ... ابن قدامة
24- ... الإقناع ... أبو النجا الحجاوي
25- ... جامع العلوم والحكم ... ابن رجب
26- ... جامع الأصول ... الجزري
27- ... تأسيس التقديس ... الشيخ أبا بطين
28- ... مجموعة التوحيد ... ابن تيمية
29- ... رد شيخ الإسلام ابن تيمية على ابن البكري ... ابن تيمية(34/17)
30- ... رد شيخ الإسلام ابن تيمية على الأخنائي ... ابن تيمية
31- ... منهاج السنة ... ابن تيمية
32- ... شرح دليل الطالب ... البليهي
33- ... نقض المنطق ... ابن تيمية
34- ... الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ... ابن تيمية
35- ... شرح نونية ابن القيم ... ابن عيسى
36- ... الروضة الندية ... صديق حسن خان
37- ... كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ... ابن خزيمة
38- ... مختصر الصواعق المرسلة ... ابن القيم
39- ... محاكمة الأحمدين ... الألوسي
40- ... ذيل الحنابلة ... ابن رجب
41- ... ديوان ابن سحمان ... سليمان بن سحمان
42- ... كتاب الزهد ... الإمام أحمد
43- ... مختصر سنن أبي داود 4 مجلدات ... المنذري
44- ... جامع الأصول 10 مجلدات ... ابن الأثير
45- ... الآداب الشرعية 4 مجلدات ... ابن مفلح
46- ... منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب ... ابن تيمية
47- ... مختصر الفتاوى المصرية ... ابن تيمية
48- ... كتاب الرد على المنطقيين ... ابن تيمية
49- ... الرسائل والمسائل النجدية ... ابن قاسم
وغيرها من الكتب والمخطوطات النفيسة حيث نجد أنه - يرحمه الله - أوقف العديد من الكتب منها:
كتاب معونة أولى النهى لشرح المنتهى البهوتي.
الآداب الشرعية لابن مفلح المقدسي.
كتاب بهجة الناظر المنتخب من صيد الخاطر لابن سلوم.
المقنع في الفقه لابن قدامة المقدسي.
العمدة في الفقه لابن قدامة.
ومن استعراض هذه العناوين يتأكد توجه الملك عبدالعزيز وحرصه على نشر السنة والسيرة النبوية خدمة للعقيدة الصحيحة ولديننا الإسلامي الحنيف(1).
نماذج لبعض الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز -رحمه الله-
__________
(1) الحديثي، مساعد بن إبراهيم 1423، نماذج من جهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في العناية بالأوقاف، الرياض، مركز البحوث والدراسات الإسلامية، ص 38-40(34/18)
وسار على هذا النهج وعلى هذه السنة الحميدة أبناؤه البررة من بعده الملك سعود والملك فيصل والملك خالد رحمهم الله إلى أن جاء هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين والذي شهد إنشاء وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في عام 1414هـ بموجب الأمر الملكي الكريم ذي الرقم أ/3 المؤرخ في 20/1/1414هـ، من ضمن وكالاتها وكالة متخصصة في شؤون المطبوعات والنشر، والتي تحرص على طباعة ونشر كتب السنة والسيرة النبوية وتوزيعها في كافة أنحاء العالم إضافة إلى الكتب الإسلامية الأخرى.
كما أن العديد من المؤسسات في المملكة وأهل الخير يقومون بطباعة كتب السنة والسيرة ويقومون بتوزيعها في أنحاء العالم كافة انطلاقاً من تشجيع ولي الأمر في هذه البلاد على الدعوة الإسلامية ونشر الكتب المفيدة والنافعة لكافة المسلمين وليس المجال هنا يسمح بعرض تلك الكتب وأعدادها لأنها كثيرة لا يمكن حصرها. إلا أننا سوف نكتفي بعرض إحصائية للكتب التي قامت وكالة الوزارة لشؤون المطبوعات والنشر وتوزيعها خلال الأعوام الماضية والجدول أدناه يوضح عدد الكتب التي تم نشرها وتوزيعها من قبل وكالة الوزارة لشؤون المطبوعات والنشر:-
الجدول ذو الرقم (2) يبين عدد الكتب التي وزعت من قبل وكالة الوزارة للمطبوعات والنشر خلال الأعوام (1415-1420هـ) (1).
م ... العام ... عدد الكتب التي وزعت ونشرت
1 ... 15-1416هـ ... 4.855.957 مليون كتاب
2 ... 16-1417هـ ... 5.722.496 مليون كتاب
3 ... 17-1418هـ ... 5.65.000 مليون كتاب
4 ... 18-1419هـ ... 2.496.636 مليون كتاب
5 ... 19-1420هـ ... 1.562.366 مليون كتاب
مع ملاحظة أن هذه الأعداد من الكتب تشتمل على مجموعة كبيرة من كتب السنة والسيرة النبوية.
__________
(1) المصدر الكتاب الإحصائي لوزارة الشؤون الإسلامية للأعوام المذكورة.(34/19)
كما تكفل خادم الحرمين الشريفين بطباعة عدد من كتب السنة النبوية على نفقته حرصاً منه على نشر العلم النافع بين المسلمين ووجه بتوزيعها مجاناً - لوجه الله تعالى- ومن هذه الكتب:
( 1 ) مسند الإمام أحمد بن حنبل ت 241هـ رحمه الله: والذي جاء محققاً في خمسين مجلداً وصدر عن مؤسسة الرسالة ببيروت وشرع في طبعه منذ عام 1413هـ حتى عام 1421هـ.
( 2 ) تهذيب الآثار للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ت 310هـ رحمه الله: وعنوان الكتاب كاملاً "تهذيب الآثار وتفصيل معاني الثابت عن رسول الله من الأخبار" وهو مرتب على مسار مسانيد الصحابة وفقد أكثره وعثر منه على ثلاثة مسانيد هي:
أ/ قسم من مسند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
ب/ الجزء الأخير من مسند علي - رضي الله عنه -.
ج/ وقسم من مسند عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
وصدر عن مطابع الصفا بمكة المكرمة في ثلاثة مجلدات عام 1404هـ.
( 3 ) الفوائد المنتخبة العوالي عن الشيوخ الثقات المعروفة بـ "الغيلانيات" لأبي بكر بن محمد بن عبدالله الشافعي البزاز ت 354هـ وصدر عن دار المأمون للتراث ببيروت عام 1417هـ.
( 4 ) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ت 728هـ رحمه الله: طبع على نفقة خادم الحرمين الشريفين عندما كان ولياً للعهد عام 1398هـ ثم أمر بطبعه مرة أخرى -حفظه الله- عام 1404هـ. كما أمر بطبعه في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة عام1416هـ في سبعة وثلاثين مجلداً.
( 5 ) جامع العلوم والحكم للإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: صدر عن الأمانة العامة للاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة عام 1419هـ في مجلد كبير.
( 6 ) الورد المصفى المختار من كلام الله تعالى وكلام سيد الأبرار وهو من اختيار الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى، طبع على نفقة خادم الحرمين الشريفين وصدر عن الأمانة العامة للاحتفال بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة عام 1419هـ.(34/20)
( 7 ) مجموعة الحديث المعروفة بـ "الأحاديث النجدية" مجموعة كتب ورسائل في الحديث الشريف طبعت على نفقة خادم الحرمين الشريفين وصدرت عن الأمانة العامة بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة عام 1419هـ.
( 8 ) السيرة النبوية في الصحيحين. طبع على نفقة خادم الحرمين الشريفين وصدر في مجلد واحد عام 1414هـ ضمن مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بمناسبة افتتاح المدينة الجامعية بالرياض.
المبحث الثاني: جهود المملكة من خلال تعليم أبناء المسلمين
حرصت المملكة منذ تأسيسها على تعليم أبناء المسلمين السنة والسيرة النبوية وذلك من خلال إنشاء الدور والمعاهد والكليات والجامعات التي تعنى بتدريس السنة والسيرة النبوية وعلومها وفي هذا المجال وعلى سبيل المثال لا الحصر نستعرض ما يلي:
1- إنشاء دار الحديث المدنية
ففي عام 1350هـ افتتح الشيخ أحمد بن محمد الدهلوي -رحمه الله- مدرسة دار الحديث المدنية بترخيص من الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وذلك لتدريس علوم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وتخريج متخصصين على نهج المحدثين ونشر عقيدة أهل السنة والجماعة.
وقد كانت مدة الدراسة فيها عند إنشائها عشر سنوات على ثلاث مراحل ابتدائية ومتوسطة وعالية وفي إطار النهوض بمستوى هذه الدار ودعمها رفع المسؤولون عنها التماساً للملك فيصل -رحمه الله- بضم الدار إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ودارت المكاتبات بهذا الخصوص وفي عام 1384هـ صدرت الموافقة السامية على ضمها للجامعة الإسلامية بالكتاب رقم 15712 وتاريخ 1/7/1384هـ.(34/21)
وكان عدد طلابها آنذاك 307 طالب ونتيجة لهذا الضم حدث تغيير في مراحلها الدراسية فأصبحت على مرحلتين الابتدائية والمتوسطة وبعد ذلك ألغيت المرحلة الابتدائية وأصبحت الدراسة قاصرة في الدار على المرحلة المتوسطة فقط، وسميت بدار الحديث المدنية، وهي تستقبل طلابها من أبناء المملكة العربية السعودية وأبناء العالم الإسلامي الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية أو ما يعادلها(1).
2- إنشاء دار الحديث المكية
تعود فكرة إنشاء دار الحديث المكية إلى أواخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري حيث قام سماحة الشيخ عبدالظاهر أبو السمح إمام وخطيب المسجد الحرام برفع خطاب إلى مقام الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يستأذنه في افتتاح المدرسة فأجابه الملك بخطاب أفصح فيه عن معرفته وغيرته على العلوم الشرعية وعن المستوى العلمي الرفيع الذي كان يتمتع به وطرح فيه
-رحمه الله- تساؤلات مهمة تدل على حرصه على أمته كما حوى الخطاب على توجيهات سديدة كان لها أبرز الأثر في نشر السياسة العامة للدار وفيما يلي نص الخطاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل
إلى جناب المكرم الشيخ عبدالظاهر أبو السمح …… سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد:
__________
(1) الباتلي، أحمد بن عبدالله 1423هـ، جهود خادم الحرمين الشريفين في خدمة السنة النبوية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ص 35-57(34/22)
فقد وصل إلينا كتابكم الذي بشأن المدرسة وأحطنا علماً بما ذكرتم به ومن قبل المدرسة وفتحها فهذا أبرك ما يصير ولكن بارك الله فيك تعرف حالة الناس اليوم وتخالفهم وتعاطيهم أموراً ليست في الشرع إنما هي بعضها عن تعنت وبعضها عن جهل والمقصد من ذلك تعرفون أئمة الإسلام أنهم الأئمة الأربعة وأن لهم ما بينوه من الأمور الفقهية التي من الكتاب والسنة ومذهب السلف الصالح اليد الطولى بذلك ولا يعترض عليهم إلا كل إنسان ما له معرفة بالدين الحقيقي. ولا شك أن المرجع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل أمر يخرج عنه باطل فإذا وجد الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وما عليه السلف الصالح فهو البرهان والدليل فإذا وجد المرجع من المذاهب الأربعة أولى من الجهل أو الاجتهاد الذي ما تحمد عقباه لأنه ثابت عند الأمة - ولايشك في ذلك إلا ناقص عقل - أن الأئمة الأربعة ما خالفوا الكتاب والسنة ولابينوا ما يخالفهما، إلا اللهم أن يكون أحد يشكك في حديث المنقول عن صاحبه ولعدم صحته ويختار غيره أو أحد ما يطلع على الحديث ومعلومك قول الرسول أن كل قول روى عنه يوافق ما كان عليه وما أرسل به فهو أحق به وكل قول مخالف لذلك أنه باطل والأئمة اجتهدوا فيما يلزم عليهم جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً فإذا كانت المدرسة التي تريدون فتحها أنه يعلم فيها الحديث والفقه وبالأخص فقه الإمام أحمد وعدم الإعابة على أحد من الأئمة فهذا نحن ممنونون فيه ونوافق عليه فإن كان تخشى أن يصير اعتراض أو كلام يشوش الأمة كلها فهذا لا فائدة فيه فأنت يجب عليك تتراجع مع الشيخ عبدالله بن حسن في ذلك وتنظرون في الأصلح وتقررون قراراً اعتمد عليه، فبهذا نفتح المدرسة ونحن نساعد في كل شيء نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه الخير والسداد في الأقوال والأفعال هذا ما لزم بيانه والله يحفظكم والسلام. في 1/صفر/1352هـ.(34/23)
وفي اليوم التالي رفع الشيخ أبو السمح خطاباً آخر للملك عبدالعزيز ضمنه منهج الدار ونظامها الذي وضع من قبل الشيخين أبي السمح وعبدالله ابن حسن آل الشيخ رئيس القضاة آنذاك.
وبعد اطلاع جلالته على النظام العام للدار ومنهجها الدراسي صدرت الموافقة السامية برقم 65 وتاريخ 3/صفر/1352هـ بافتتاح دار الحديث بمكة المكرمة وفيما يلي نص موافقة جلالته:
من عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل
إلى جناب المكرم الشيخ عبدالظاهر أبو السمح …… سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد:
فقد وصل إلينا كتابكم المؤرخ في 2 صفر 1352هـ وأحطنا علماً بما ذكرتم به ولقد اطلعنا على النظام الذي وضعتموه لمدرسة دار الحديث ونحن نوافق على ذلك النظام هذا ما لزم بيانه والسلام. حرر في 3/صفر/1352هـ.
وفي صبيحة يوم الاثنين 12/ربيع الأول / 1352هـ بدأت الدراسة في الدار.وتم ضم دار الحديث المكية للجامعة الإسلامية بموجب الأمر السامي الكريم ذي الرقم 2898/3/ش المؤرخ في 10/2/1391هـ(1).
صورة من وثيقة خطاب جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى الشيخ عبدالظاهر أبو السمح بشأن افتتاح دار الحديث في مكة
3- إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
أنشئت الجامعة الإسلامية بالأمر الملكي رقم 11 وتاريخ 25/3/1381هـ وتلاه الأمر الملكي رقم 21 في 16/4/1381هـ بالمصادقة على نظام المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة وبدأت الدراسة فيها يوم الأحد 2 من جمادى الآخرة في العام نفسه.
وضمت العديد من الكليات منها كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين وكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وكلية الحديث والدراسات الإسلامية وكلية اللغة العربية.
__________
(1) الباتلي، المرجع السابق، ص 61-66.(34/24)
وأنشأت كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بهدف زيادة عدد المتخصصين في علوم السنة في العالم الإسلامي والعناية بالسنة النبوية وخدمتها والمحافظة عليها والذب عنها وتأهيل العلماء المتمكنين في مجال السنة النبوية وعلومها وقد زاد عدد طلابها من (96) طالباً عام افتتاحها إلى (452) طالباً عام 1418-1419هـ وبلغ إجمالي الخريجين منذ تخريج الدفعة الأولى وحتى عام 18-1419هـ (1596) طالباً ينتمون إلى (77) قطراً.
وتمنح هذه الكلية درجة الليسانس والماجستير والدكتوراه وتعد هذه الكلية من ضمن مكرمات هذا البلد المعطاء في خدمة السنة والسيرة النبوية وتأهيل أبناء المسلمين العاملين في مجال خدمة السنة والسيرة النبوية(1).
كما تهتم الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة اهتماماً كبيراً في إقامة الدورات التعليمية والتثقيفية في العلوم الإسلامية والعربية في مختلف أنحاء العالم، والجدول ذو الرقم (3) يوضح تفاصيل ذلك.
الجدول ذو الرقم (3) يبين الدورات التعليمية والتثقيفية في العلوم الإسلامية والعربية التي أقامتها الجامعة الإسلامية في الفترة من 1403هـ وحتى نهاية 1419هـ(2).
م ... العام الدراسي ... عدد الدورات ... مقرات الدورات التي تم إقامتها ... عدد الملتحقين بها
1 ... 1403-1404هـ ... 5 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا ... 820
2 ... 1404-1405هـ ... 7 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا – أفغانستان – السنغال ... 1134
3 ... 1405-1406هـ ... 7 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا – أفغانستان – السنغال ... 1332
4 ... 1406-1407هـ ... 7 ... باكستان – بنغلاديش – الهند – أفغانستان – السنغال – ماليزيا – بريطانيا ... 1065
5 ... 1407-1408هـ ... 8 ... باكستان – بنغلاديش – الهند – أفغانستان – السنغال – ماليزيا ... 999
__________
(1) المغامسي، مرجع سابق، ص 23-30
(2) المغامسي، 1419هـ، ص19.(34/25)
6 ... 1408-1409هـ ... 8 ... باكستان – بنغلاديش – الهند – أفغانستان – السنغال – ماليزيا ... 1314
7 ... 1409-1410هـ ... 8 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا – أفغانستان – السنغال – ماليزيا – الهند – تركيا ... 1249
8 ... 1410-1411هـ ... 10 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا – أفغانستان – السنغال – ماليزيا – الهند – تركيا - أندونيسيا ... 1613
9 ... 1411-1412هـ ... 9 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا – أفغانستان – السنغال – الهند – تركيا – أندونيسيا ... 1792
10 ... 1412-1413هـ ... 8 ... باكستان – بنغلاديش – نيجيريا – السنغال – الهند – تركيا – أندونيسيا ... 1642
11 ... 1413-1414هـ ... 22 ... الصين – سريلانكا - باكستان – بنغلاديش –تايلاند – الهند – سيراليون – روسيا - السنغال – غانا – بريطانيا – البرازيل – أفغانستان – ماليزيا – تركيا – أندونيسيا – نيجيريا ... 2750
12 ... 1414-1415هـ ... 20 ... الصين – سريلانكا - باكستان – بنغلاديش –تايلاند – الهند – سيراليون – روسيا - السنغال – غانا – بريطانيا – البرازيل – أفغانستان – ماليزيا – تركيا – أندونيسيا – نيجيريا ... 2383
13 ... 1415-1416هـ ... 27 ... الصين – سريلانكا - باكستان – بنغلاديش –تايلاند – الهند – سيراليون – روسيا – السنغال – غانا - بريطانيا – البرازيل – أفغانستان – ماليزيا – تركيا – إندونيسيا – نيجيريا ... 3608
14 ... 1416-1417هـ ... 20 ... الصين – سريلانكا -تايلاند – الهند – سيراليون – غانا – بريطانيا - البرازيل – أفغانستان – ماليزيا – تركيا – نيجيريا – باكستان – السنغال ... 2985
15 ... 1417-1418هـ ... 26 ... إندونيسيا – ماليزيا – أفغانستان – باكستان – السنغال - الصين – سريلانكا – تركيا – بنغلاديش – غينيا كوناكري - بريطانيا – تايلاند – غانا - الهند – نيجيريا ... 4012(34/26)
16 ... 1418-1419هـ ... 20 ... إندونيسيا – ماليزيا – أفغانستان – باكستان – السنغال - الصين – سريلانكا – تركيا – بنغلاديش – غينيا كوناكري - بريطانيا – تايلاند – غانا - الهند – نيجيريا – أمريكا – إسبانيا – أستراليا ... 5000
المجموع ... 212 ... 33698
4- إنشاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
مع انتشار وتوسيع التعليم العالي في المملكة العربية السعودية ومؤسساته المتنوعة تم إنشاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بنواتها العلمية الأولى -المعهد العلمي في مدينة الرياض- عام 1370هـ تلي ذلك كلية الشريعة بمدينة الرياض عام 1373هـ وتوالى بعد ذلك التوسع في افتتاح الكليات الشرعية واللغوية والاجتماعية وغيرها سواءً داخل مدينة الرياض أو خارجها أو على مستوى العالم وذلك بهدف تعليم أبناء المسلمين في العالم العلوم الشرعية ونشر السنة والسيرة النبوية وذلك من خلال المنح التي تقدمها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في معاهدها المختلفة والجدول أدناه يوضح الكليات والمعاهد الإسلامية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعدد الطلاب فيها وعدد المنح الدراسية فيها منذ التأسيس:
الجدول ذو الرقم (4) يوضح عدد طلاب المنح الدراسية في المعاهد والكليات التي أنشأتها المملكة في الخارج(1)
م ... المعهد أو الكلية ... المقر ... تاريخ الإنشاء ... عدد الطلاب ... عدد المنح الدراسية منذ التأسيس
1 ... كلية الشريعة واللغة العربية ... الإمارات- رأس الخيمة ... 1388هـ ... 1585 ... 3762
2 ... معهد العلوم الإسلامية والعربية ... موريتانيا- نواكشوط ... 1399هـ ... 1761 ... 8541
3 ... معهد العلوم الإسلامية والعربية ... إندونيسيا- جاكرتا ... 1400هـ ... 985 ... 3891
4 ... معهد العلوم الإسلامية والعربية ... أمريكا- واشنطن ... 1410هـ ... 383 ... 1368
__________
(1) المغامسي، 1419هـ: 18.(34/27)
5 ... المعهد الإسلامي في جيبوتي ... جيبوتي ... 1402هـ ... 1368 ... 3673
6 ... المعهد العربي الإسلامي ... اليابان- طوكيو ... 1402هـ ... 199 ... 199
المجموع ... 21434
وهكذا نجد دور الجامعات الإسلامية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم كان امتداداً لدور أرض الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية مهبط الوحي حيث كان ومنذ عصور قديمة وطلبة العلم من شتى أنحاء العالم يقصدون ويفدون إلى الحرمين لينهلوا ويتعلموا من العلماء العلم الشرعي فتدفق العلماء والباحثون من كل فج عميق إلى الحرمين الشريفين وما زالوا حيث ينهلون من العلم الشرعي من الحرمين الشريفين ومن الجامعات والمعاهد الشرعية والإسلامية في المملكة العربية السعودية.
ونجد أن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أسوة ببعض مؤسسات التعليم العالي السعودية لا تألو جهداً في استضافة أعداد سنوية من أبناء المسلمين للالتحاق بمعاهدها وكلياتها المختلفة وهي تقدم منحاً دراسية لأبناء العالم الإسلامي لمختلف المراحل التعليمية (متوسط ثانوي معهد لغة جامعي ماجستير دكتوراه).
وقد بدأت جامعة الإمام برنامج المنح الدراسية لأبناء العالم الإسلامي منذ وقت مبكر وتحديداً في العام الجامعي (96-1397هـ) بعدد محدود وقدره (280) طالباً واستمر ازدياد أعداد طلاب المنح الدراسية حتى وصل مجموع الأعداد النهائية منذ البداية وحتى العام الجامعي 20-1421هـ إلى أكثر من (17.000) طالب وهؤلاء الطلاب ينتمون إلى أكثر من (92) دولة عربية وإفريقية وآسيوية وأوربية وأمريكية درسوا في مراحل التعليم المختلفة التي تقدمها الجامعة كالمعاهد العلمية ومعهد اللغة العربية والمستوى الجامعي والدراسات العليا(1).
__________
(1) السميح، عبدالمحسن بن محمد، الصعوبات التعليمية والإدارية لطلاب المنح الدراسية، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الحادي والأربعون، محرم 1424هـ، الرياض، ص 522-523(34/28)
5- المنح الدراسية بجامعات المملكة الأخرى
وتقدم الجامعات الأخرى بالمملكة العربية السعودية عدداً من المنح لطلاب العالم الإسلامي في عدد من التخصصات الشرعية والإسلامية والتاريخية والجدول أدناه يوضح جامعات المملكة الأخرى وعدد طلاب المنح لأبناء المسلمين في تلك الجامعات:
الجدول ذو الرقم (5) يبين عدد المنح الدراسية التي قدمتها بعض جامعات المملكة لأبناء المسلمين(1)
__________
(1) المغامسي، 1419هـ 17.&%
م
الجامعات
المنح والخريجون
عدد المنح حسب المراحل الدراسية
المجموع
الدراسات العليا
المرحلة الجامعية
معاهد اللغة العربية لغير الناطقين بها
1
جامعة أم القرى
عدد المنح
547
2533
1633
4716
عدد الخريجين
398
2448
1322
4168
2
جامعة الملك سعود
عدد المنح
118
4839
3274
8231
عدد الخريجين
112
4707
3174
7993
3
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن
عدد المنح
991
2351
0
3342
عدد الخريجين
776
1731
0
2507
4
جامعة الملك فيصل
عدد المنح
5
607
0
612
عدد الخريجين
3
544
0
547
المجموع الكلي لعدد المنح
1661
10330
4910
16901
المجموع الكلي لعدد الخريجين
1289
9430
4496
15215
وهكذا يتضح الدور الكبير الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية من خلال المنح الدراسية التي تقدمها لأبناء المسلمين في أنحاء العالم كافة في الجامعات السعودية وفي الحرمين الشريفين وذلك منذ تأسيسها وحتى هذا العهد الزاهر.
المبحث الثالث: جهود المملكة من خلال إنشاء مركز خدمة السنة والسيرة النبوية
انطلاقاً من الدور الريادي للمملكة العربية السعودية في خدمة السنة والسيرة النبوية أنشئ مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بناءً على الموافقة السامية رقم 5/793/م وتاريخ 20/4/1406هـ القاضي بإنشاء مركز لخدمة السنة والسيرة النبوية بالجامعة الإسلامية بالتعاون مع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة.... ويهدف إلى الآتي:
أ - جمع وحفظ الكتب المخطوطة والمطبوعة والوثائق والمعلومات المتعلقة بالسنة والسيرة النبوية وتيسيرها للباحثين.
ب - إعداد موسوعة في الحديث النبوي وموسوعات أخرى في خدمة السنة والسيرة النبوية وفقاً للخطط التي يضعها مجلس المركز.
ج - تحقيق ما يمكن من كتب السنة والسيرة النبوية وإعداد البحوث العلمية التي تخدم السنة والسيرة النبوية.
د - ترجمة ما تدعو الحاجة إليه من كتب السنة والسيرة النبوية وما يتعلق بها.
هـ - رد الأباطيل ودفع الشبهات عن ساحة السنة والسيرة النبوية.
و - نشر الأعمال المنجزة في المركز في مجال التأليف والتحقيق والترجمة.
ز - التعاون مع المراكز والهيئات والمؤسسات العلمية التي تعمل في خدمة السنة والسيرة النبوية داخل المملكة وخارجها فيما يخدم المركز ويحقق أهدافه.
ح - الاستفادة من خبرات ذوي الشهرة العلمية في السنة والسيرة النبوية.
ط - الاستفادة من الحاسوب في جمع السنة وبرمجة المعلومات المتعلقة بها وبعلومها.
ويضم المركز الأقسام الآتية:
قسم التحقيق.
قسم موسوعة الرواة.
قسم موسوعة المتون.
قسم موسوعة السيرة النبوية.
قسم إدارة نظم المعلومات.
وقد صدر عن المركز الكتب التالية:
الأحاديث الواردة في فضائل المدينة المنورة للدكتور صالح بن حامد الرفاعي في مجلد واحد.
بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للإمام نور الدين الهيثمي في مجلدين.
السيرة النبوية والمستشرقون باللغة الإنجليزية في مجلدين للدكتور مهر علي.
إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة من أطراف العشرة للحافظ بن حجر العسقلاني وقد صدر منه (18) مجلداً وبقية أجزائه تحت الطبع وسيكمل في عشرين مجلداً.
عمل المركز بالتكليف الخارجي على وضع فهارس علمية دقيقة لكتاب "المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" للإمام أبي محمد عبدالله ابن علي بن الجارود النيسابوري -رحمه الله-.
تبنى المركز مشروع تحقيق كتاب "لسان الميزان" للحافظ بن حجر العسقلاني المتوفى عام 852هـ وهو موسوعة ضخمة في الجرح والتعديل صدرت موافقة المركز على تحقيقه بتاريخ 29/7/1410هـ.
يعتزم المركز تحقيق الكتب التسعة وتخريج أحاديثها وضبطها وهي:
( أ ) صحيح البخاري.
(ب) صحيح مسلم.
(ج ) سنن أبي داود.
( د ) سنن الترمذي.
(ه ) سنن النسائي.
( و ) سنن ابن ماجه.
( ز ) سنن الدارمي.
( ح ) مسند الإمام أحمد.
( ط ) موطأ الإمام مالك.
كما يهدف المركز إلى إصدار عدد من البرامج الموسوعية وهي:
( أ ) موسوعة الرواة: وتهدف لإخراج موسوعة شاملة لكل من له رواية في مجال السنة والسيرة النبوية.
(ب) موسوعة المتون: وتنقسم إلى ثلاثة أقسام المتون الصحيحة والضعيفة والموضوعية.
(ج ) برنامج فضائل المدينة المنورة.
( د ) برنامج فهرس المصادر في السنة.
وهكذا يتبين الدور الكبير الذي يقوم به مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة المنورة في خدمة ونشر السنة والسيرة النبوية.
المبحث الرابع: جهود المملكة من خلال بث برامج السنة عبر إذاعة القرآن الكريم
تعد إذاعة القرآن الكريم من أهم الوسائل في القيام بالمسؤولية الإعلامية التي تتفق مع أهداف المملكة في العناية بنشر السنة والسيرة النبوية في العالم وقد بدأت إذاعة القرآن الكريم بثها في الثاني من شهر صفر عام 1392هـ وهي تهدف إلى إيصال القرآن الكريم مرتلاً مجوداً لجميع المستمعين على مدى (24) ساعة مع تقديم برامج تفسير القرآن وعلومه وشرح الأحاديث النبوية وبرامج الفتاوى الفقهية والدعوية المفيدة للمسلمين.
وتعنى إذاعة القرآن الكريم بنشر السنة النبوية عبر عدد من البرامج الإذاعية من قراءات مختارة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنتقى من أحاديث الفضائل والآداب تناسب المستمعين وتلقى بين فترات البرامج وقبيل الأذان وهناك برامج خاصة بالسنة والسيرة النبوية نذكر منها على سبيل المثال:
شرح منتقى الأخبار لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
قراءة من صحيح البخاري مع شرحها للدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله.
شرح التجريد لصحيح البخاري للدكتور عبدالكريم الخضير.
شرح مختصر صحيح مسلم للدكتور عبدالله المطلق.
شرح سنن أبي داود للشيخ عبدالمحسن العباد.
شرح بلوغ المرام للدكتور فالح الصغير.
دراسة أحاديث بلوغ المرام للدكتور سعد الشثري.
شرح أحاديث الأحكام للشيخ محمد المختار الشنقيطي.
الأمثال النبوية للدكتور مسفر الدميني.
بيان السنة للقرآن للدكتور مسفر الدميني.
شرح أحاديث الأذكار للدكتور عبدالرزاق البدر.
بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للشيخ محمد المنجد.
القصص في السنة النبوية للدكتور محمد أديب الصالح.
من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - للدكتور حمزة زهير حافظ.
الأحاديث المشتهرة بين الناس للدكتور إبراهيم الريس.
أعمال القلوب في الكتاب والسنة للدكتور عبدالله وكيل الشيخ.
التمني في الكتاب والسنة للدكتور أحمد بن عبدالله الباتلي.
قضايا معاصرة في ضوء الكتاب والسنة للشيخ محمد بن حسن الدريعي.
فقه الدعوة من أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - للدكتور خالد القريشي.
وقفات تربوية في الحديث النبوي للدكتور محمد لطفي الصباغ.
المفلحون في الكتاب والسنة للدكتور بدر بن ناصر البدر.
أدب الحوار في القرآن والسنة للدكتور يحيى زمزمي.
وإلى غير ذلك من البرامج العلمية النافعة.
المبحث الخامس: جهود المملكة من خلال إيفاد العلماء والأئمة والحفاظ للخارج
تقوم حكومة المملكة العربية السعودية في سبيل نشر السنة والسيرة النبوية بإيفاد بعض العلماء وطلاب العلم والدعاة وحفظة كتاب الله إلى الدول الإسلامية وإلى الدول التي يوجد بها جاليات أو أقليات إسلامية؛ وذلك بغرض إرشادهم ووعظهم وتبيين ما يخفى عليهم من بعض الأحكام ونشر السنة والسيرة النبوية، وكذلك لإمامتهم في الصلاة، وإقامة المحاضرات والدروس الشرعية للمسلمين هناك ودعم هذه الجهات مادياً ومعنوياً.
وتحرص وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على إيفاد بعض طلاب العلم والدعاة وحفظة كتاب الله إلى عدد من بلدان العالم كل عام في شهر رمضان المبارك لإمامة الناس في الصلاة وتعليمهم أحكام دينهم وهذا من العوامل المهمة في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم بصورة سليمة وصحيحة لأن هؤلاء العلماء والحفاظ الذين توفدهم وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد قد تم إعدادهم وتأهيلهم بصورة سليمة وتم تسهيل مهماتهم أيضاً ليقوموا بنشر السنة والسيرة النبوية والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
كما تقوم الوزارة بإيفاد الدعاة في الصيف إلى عدد من الدول للدعوة إلى الله من خلال الخطب والمواعظ والدروس وحلقات تحفيظ القرآن الكريم وتعليم الحديث الشريف ونشر العقيدة والفقه وقد أوفدت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالتعاون مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (404) أئمة للدعوة إلى الله وإمامة المصلين في عدد من المساجد والمراكز الإسلامية في كثير من دول العالم وفي جميع القارات على النحو الآتي:
الجدول ذو الرقم (6) يوضح عدد الأئمة الذين أوفدوا إلى خارج المملكة خلال الأعوام من (18-1422هـ) $%&(1) المصدر: التقارير السنوية الصادرة عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في السنوات المذكورة.(34/29)
.
م ... العام ... عدد الأئمة الموفدين
1 ... 1418هـ ... 21
2 ... 1419هـ ... 47
3 ... 1420هـ ... 104
4 ... 1421هـ ... 172
5 ... 1422هـ ... 60
والمطلع على التقارير السنوية الصادرة عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف في خلال السنوات الماضية يرى أن دوراتها قد شملت - بتوفيق الله سبحانه - عدداً كبيراً من الدول الإسلامية ومن الدول التي بها أقليات إسلامية والجدول التالي يبين تفاصيل ذلك:
الجدول ذو الرقم (7) يوضح عدد الدورات التي عقدت في خارج المملكة خلال الأعوام من (1415-1422هـ) (1)
م ... التاريخ ... مكان انعقاد الدورات
1 ... 1415هـ ... باكستان النيجر بنغلاديش
2 ... 1416هـ ... ليننغراد سراتوف غوركي أوفار قازان تومين
3 ... 1417هـ ... قازان تومين غوركي
4 ... 1418هـ ... شمكنت كازاخستان كراكاس نيروبي غوركي موسكو قازان
5 ... 1419هـ ... نيروبي قازان موسكو الفلبين ألماتي كازاخستان
6 ... 1420هـ ... كراكاس جبل طارق
7 ... 1421هـ ... جبل طارق سيريلانكا كازاخستان كراكاس
8 ... 1422هـ ... جبل طارق نيبال قامبيا روسيا النرويج لندن تايلاند الأرجنتين تشاد أيرلندا
المبحث السادس: جهود المملكة من خلال المساجد والمراكز في العالم
تؤدي المملكة العربية السعودية جهوداً متميزة في نشر السنة والسيرة النبوية من خلال دعم العديد من الهيئات والمنظمات الإسلامية وإقامة العديد من المراكز الإسلامية والمساجد وذلك لدورها وأهميتها في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم وفي حياة المسلم اليومية.
__________
(1) المصدر: التقارير السنوية عن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في السنوات المذكورة.(34/30)
وذلك عن طريق تمويل بناء المساجد والمراكز الإسلامية أو الإسهام في تنفيذها وتخصيص الأوقاف الاستثمارية لها وأشارت آخر الإحصاءات الحديثة إلى أن عدد المراكز الإسلامية التي أنشأتها المملكة أو ساهمت في إنشائها تجاوز (22) مركزاً وبلغ عدد المساجد (5000) مسجد وتفاصيل ذلك كما يلي:
أولاً: في القارة الآسيوية
- مركز الملك فهد في جزر المالديف.
- المركز الإسلامي الإندونيسي السعودي للدراسات والتنمية الإسلامي.
- جامع الملك فيصل والمركز الإسلامي في إسلام آباد.
- المركز الإسلامي في كولومبيا.
ثانياً: في القارة الأفريقية
- مركز الملك فيصل في أنجامينا في تشاد والذي بدأ العمل في تنفيذه عام 1394هـ.
- مركز الملك فيصل في كوناكري بغينيا.
- مركز الملك فيصل في نيامي بالنيجر.
- مسجد ياوندي.
- المركز الإسلامي في أنوفيا -نيجيريا.
- مسجد الملك فيصل في باماكو في مالي.
- مركز الملك فهد في أوغندا.
- مسجد التضامن الإسلامي في مقديشو بالصومال.
- أربعة مساجد في المدن الرئيسة في الجابون.
- مسجد في وغادوقو في بوركينافاسو.
- جامع زنجبار بتنزانيا.
- الجامع الكبير بداكار في السنغال.
- أسهمت المملكة في إنشاء المركز الإسلامي في أبوجا بنيجيريا والمركز الإسلامي الإفريقي في الخرطوم ومسجد الأمير عبدالقادر في الجزائر.
ثالثاً: في القارة الأوروبية
- المركز الإسلامي في روما.
- المركز الثقافي الإسلامي في فيينا.
- المركز الثقافي الإسلامي في بروكسل.
- مركز الجمعيات الإسلامية في أستكهولم بالسويد.
- المركز الإسلامي في مدريد بإسبانيا.
- المركز الإسلامي في مونت لاجولي في فرنسا.
أما أهم المراكز والمساجد التي أسهمت المملكة في إنشائها بالقارة الأوروبية
- المركز الإسلامي في جنوب هولندا تلبرخ.
- المركز الإسلامي في وارسو بولندا.
- المؤسسة الثقافية الإسلامية في سويسرا.
- مركز الملك فيصل في بازل بسويسرا.(34/31)
- المركز الإسلامي الثقافي في آخن بألمانيا.
- المركز الإسلامي في مدينة زغرب بكرواتيا.
- المركز الإسلامي في لشبونة بالبرتغال.
رابعاً: في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا
- المركز الإسلامي في واشنطن.
- المركز الإسلامي في نيويورك.
- مسجد عمر بن الخطاب في لوس أنجلوس.
- المركز الإسلامي في بولدر بولاية كلورادو.
- المركز الإسلامي في مدينة كولومبيا.
- المركز الإسلامي في ضاحية هاريسون بنيويورك.
- مسجد جنوب غرب شيكاغو.
- المركز الإسلامي في توليدو بولاية أوهايو.
- المركز الإسلامي بشمال فرجينيا.
- المركز الإسلامي في مدينة كويبك.
خامساً: في أمريكا الجنوبية
- المركز الإسلامي في برازيليا.
- الإسهام بنفقات إنشاء وإدارة عشرات المساجد في مدن البرازيل المختلفة.
- إنشاء مركز خادم الحرمين الشريفين في الأرجنتين ببيونس آيرس إضافة إلى المساعدة في إنشاء عدة مساجد ومراكز مهمة هناك.
سادساً: في أستراليا
- المركز الإسلامي في سدني.
- المدرسة الإسلامية في ملبورن.
- المدرسة الإسلامية في سدني(1).
المبحث السابع: جهود المملكة من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية والجوائز العالمية
أولاً: من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية
__________
(1) العبودي، محمد بن ناصر، بدون تاريخ، جهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في خدمة الأقليات المسلمة، بحوث الندوة العالمية عن جهود خادم الحرمين الشريفين في خدمة الإسلام والمسلمين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ص 18-20.(34/32)
ورغبة من المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية بصورة علمية دقيقة وفي تشجيع الباحثين والدارسين في ذلك فقد أقامت العديد من الكراسي والأكاديميات العلمية بناءً على أمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -حفظه الله- بإنشائها وتهدف تلك المؤسسات إلى نشر السنة والسيرة النبوية والثقافة الإسلامية في بلدان الأقليات المسلمة ومن هذه الأكاديميات التي ما فتئت تنير الطريق:-
- الأكاديمية الإسلامية في واشنطن وتأسست بدعم خادم الحرمين الشريفين عام 1405هـ.
- أكاديمية الملك فهد في لندن وتأسست عام 1406هـ
- أكاديمية الملك فهد في موسكو 1413هـ.
- أكاديمية الملك فهد في بون 1416هـ.
أما الكراسي العلمية فهي:-
- كرسي الملك عبدالعزيز للدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة وتأسس عام 1984م.
- كرسي الملك فهد للدراسات الشرعية بكلية الحقوق في جامعة هارفارد العريقة وتأسس عام 1412هـ.
- كرسي الملك فهد للدراسات الإسلامية بمعهد الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن وقد تأسس عام 1995م.
- معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في فرانكفورت بألمانيا.
- كرسي الأمير نايف بجامعة موسكو وقد تأسس عام 1416هـ.
وهذه المعاهد والأكاديميات والكراسي التي أنشأتها المملكة العربية السعودية وما زالت ترعاها، وتقدِّم لها الدعم، تمثل حرص المملكة العربية السعودية على حماية عقائد المسلمين وعلى نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
ثانياً: الجوائز العالمية
وحرصاً من حكومة المملكة العربية السعودية على نشر السنة والسيرة النبوية على مستوى العالم فقد صدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين على إنشاء جائزة عالمية تعنى بالسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة في 29/شوال/1422هـ بمسمى جائزة "نايف بن عبدالعزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة" وتهدف تلك الجائزة إلى:(34/33)
تشجيع البحث العلمي في مجال السنة النبوية وعلومها والدراسات الإسلامية المعاصرة.
إذكاء روح التنافس العلمي بين الباحثين في كافة أنحاء العالم.
الإسهام في دراسة الواقع المعاصر للعالم الإسلامي واقتراح الحلول المناسبة لمشكلاته بما يعود بالنفع على المسلمين حاضراً ومستقبلاً.
إثراء الساحة الإسلامية بالبحوث العلمية المؤصلة.
إبراز محاسن الدين الإسلامي الحنيف وصلاحيته لكل زمان ومكان.
الإسهام في التقدم والرقي الحضاري للبشرية.
الفصل الرابع: موجز البحث وتوصياته
أولاً: موجز البحث.
ثانياً: التوصيات.
ثالثاً: المراجع.
الفصل الرابع: موجز البحث وتوصياته
أولاً: موجز البحث
سعى هذا البحث إلى محاولة تسليط بعض الأضواء وإعطاء بعض النماذج من جهود المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم وذلك بهدف التعريف بعناية المملكة العربية السعودية بالشريعة الإسلامية والاهتمام بمصادرها الأساسية القرآن والسنة وكذلك التعريف بعناية المملكة العربية السعودية بنشر السنة والسيرة النبوية في أنحاء العالم كافة. وتسليط الضوء على اهتمام المملكة العربية السعودية بالإسلام والمسلمين والحرص بتعريفهم بسيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والوقوف على الطرق والآليات والسبل التي اتبعتها المملكة في نشر السنة والسيرة النبوية والإسهام في توثيق هذه الخاصية من خصائص المملكة في نشر العلم النافع للمسلمين كما تم التعريف بأهمية البحث ومناقشة المفاهيم المستخدمة فيه وتحديد المنهج العلمي المتبع في تنفيذه وتم ذلك من خلال الفصل الأول من البحث أما الفصل الثاني فقد اختص بالتعريف بأسباب اهتمام المملكة بنشر السنة والسيرة النبوية والتي تم تلخيصها في الآتي:
النهج الواضح والغاية المحددة من قيام المملكة العربية السعودية.
لأن المملكة العربية السعودية تضم أطهر البقاع وأفضلها.
لأن المملكة العربية السعودية قبلة المسلمين في كل عباداتهم.(34/34)
صيانة الحقائق الدينية والمفاهيم الإسلامية من التحريف والبدع.
رعاية الحجاج وخدمتهم.
العمل على توحيد المسلمين وتضامنهم
كما تم تحديد السياسة التي تتبعها المملكة في نشر السنة والسيرة النبوية والتي تتلخص فيما يلي:
القيام في ذلك عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة.
القيام على بصيرة وعلم.
التدرج.
استخدام الوسائل كافة.
أما الفصل الثالث فقد تم التركيز فيه على نماذج من جهود المملكة في نشر السنة والسيرة النبوية والتي تلخصت من خلال الآتي:
جهود المملكة من خلال طباعة الكتب ونشرها.
جهود المملكة من خلال تعليم أبناء المسلمين.
من خلال إنشاء مركز خدمة السنة والسيرة النبوية.
من خلال بث برامج السنة عبر إذاعة القرآن الكريم.
من خلال إيفاد العلماء والأئمة والحفاظ للخارج.
من خلال المساجد والمراكز والأكاديميات في العالم.
من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية والجوائز العالمية.
ولقد خلص البحث إلى النتائج الآتية:
أن المملكة العربية السعودية جعلت خدمة السنة والسيرة النبوية هدفاً ومرتكزاً أساسياً من مرتكزات الدولة السعودية.
أن المملكة العربية السعودية ومنذ إنشائها عملت على خدمة السنة والسيرة النبوية.
إن اهتمام المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية يأتي من كونها أرض الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين وهذا يحتم عليها القيام بنشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
أن المملكة العربية السعودية تتبع في نشر السنة والسيرة النبوية أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ونشر ذلك على بصيرة وعلم.
أن المملكة العربية السعودية استخدمت الوسائل والإمكانات كافة في سبيل نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
أن المملكة العربية السعودية لا تبخل بأي جهد مادي أو معنوي، في سبيل خدمة السنة والسيرة النبوية ونشرها في العالم.
أن المملكة العربية السعودية تضع إمكاناتها كافة، وتحرص كل الحرص على نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.(34/35)
ثانياً: التوصيات
العمل على إبراز هذه الخصيصة من خصائص المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم في أجهزة الإعلام المختلفة لتعريف الأجيال المختلفة بهذا الجهد الذي تبذله المملكة في هذا المضمار.
العمل على أن تشتمل المقررات الدراسية على جوانب من التعريف باهتمام المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
إصدار دليل يشتمل على جميع الجهود التي بذلتها وتبذلها المملكة العربية السعودية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
العمل على جمع الخطب والكلمات التي قيلت في سبيل نشر السنة والسيرة النبوية في العالم منذ عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلى هذا العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين ونشرها.
توجيه طلاب الدراسات العليا لتسجيل رسائل الماجستير والدكتوراه لإبراز جهود المملكة العربية السعودية في العناية بالسنة والسيرة النبوية ونشرها في العالم.
تكثيف المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية لدراسة دور المملكة العربية السعودية في خدمة المسلمين في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم.
العمل على إنشاء بنك معلومات وطني يوثق جهود المملكة العربية السعودية الرسمية والشعبية في نشر السنة والسيرة النبوية في العالم لإعطاء صورة حقيقية عنها وتقديم إحصاءات موثقة وأرقام دقيقة عن ذلك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثالثاً: المراجع
القرآن الكريم ... 1
إنجازات وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد (18-1419هـ)وكالة الوزارة للتخطيط والتطوير والبرامج وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الرياض.
إنجازات وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد (19-1420هـ)وكالة الوزارة للتخطيط والتطوير والبرامج وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الرياض.(34/36)
تعليم أبناء المسلمين من خلال المنح الدراسية التي تقدمها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.سعيد بن فالح المغامسي (1419هـ) بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام.
جهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في خدمة الأقليات المسلمة بحوث الندوة العالمية عن جهود خادم الحرمين الشريفين في خدمة الإسلام والمسلمين.محمد بن ناصر العبودي (بدون تاريخ) جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
جهود خادم الحرمين الشريفين في خدمة السنة النبوية.أحمد بن عبدالله الباتلي (1423هـ) جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
الدعوة في عهد الملك عبدالعزيز. محمد بن ناصر الشثري(1417هـ) ط/1.
الدولة السعودية والدعوة الإصلاحية. عبدالله بن محمد العجلان (1419هـ) بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام.
السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي . الشيخ مصطفى السباعي(1405هـ) المكتب الإسلامي بيروت.
الصعوبات التعليمية والإدارية لطلاب المنح الدراسية دراسة ميدانية على طلاب المنح الدراسية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عبدالمحسن بن محمد السميح(1424هـ) مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية العدد الحادي والأربعون/محرم/1424هـ الرياض.
عقيدة أهل السنة والجماعة. مفهومها خصائصها خصائص أهلها. محمد بن إبراهيم الحمد(1416هـ) دار الوطن للنشر الرياض.
عناية الملك عبدالعزيز بنشر الكتب. عبدالعزيز أحمد الرفاعي (1408هـ) مكتبة الملك فهد الوطنية الرياض.
الكتاب الإحصائي (15-1416هـ).وكالة الوزارة للتخطيط والتطوير والبرامج وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الرياض.
الكتاب الإحصائي (16-1417هـ).وكالة الوزارة للتخطيط والتطوير والبرامج وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الرياض.(34/37)
الكتاب الإحصائي (17-1418هـ).وكالة الوزارة للتخطيط والتطوير والبرامج وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الرياض.
مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة. ناصر العقل(بدون تاريخ) دار الوطن الرياض.
مجالات الدعوة ونشر العلم الشرعي في عهد خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- الندوة العالمية عن جهود خادم الحرمين في خدمة الإسلام والمسلمين. فهد بن عبدالكريم السنيدي بدون تاريخ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الرياض.
المعجم الوسيط.مطابع دار المعارف جمهورية مصر العربية (1980م).
المكانة الدينية للمملكة العربية السعودية مع ذكر نماذج من الجهود الدعوية داخلياً وخارجياً. صالح بن غانم السدلان (1419هـ) بحوث مؤتمر المملكة العربية السعودية في مائة عام الرياض.
المملكة العربية السعودية الشريعة الإسلامية تحكم. منير عبدالحميد هارون (1993م) مطابع الإسراء الرياض.
نماذج من جهود خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز في العناية بالأوقاف. مساعد بن إبراهيم الحديثي (1423هـ) الرياض مركز البحوث والدراسات الإسلامية.
فهرس الجداول
والجدول ذو الرقم (1) يبيّن عناوين بعض الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز - رحمه الله -…26
نماذج لبعض الكتب التي طبعت على نفقة الملك عبدالعزيز - رحمه الله –…29
الجدول ذو الرقم (2) يبين عدد الكتب التي وزعت من قبل وكالة الوزارة للمطبوعات والنشر خلال الأعوام (1415-1420هـ).…31
صورة من وثيقة خطاب جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى الشيخ عبدالظاهر أبو السمح بشأن افتتاح دار الحديث في مكة…38
الجدول ذو الرقم (3) يبين الدورات التعليمية والتثقيفية في العلوم الإسلامية والعربية التي أقامتها الجامعة الإسلامية في الفترة من 1403هـ وحتى نهاية 1419هـ.…40
جدول ذو الرقم (4) يوضح عدد طلاب المنح الدراسية في المعاهد والكليات التي أنشأتها المملكة في الخارج…42(34/38)
الجدول ذو الرقم (5) يبين عدد المنح الدراسية التي قدمتها بعض جامعات المملكة لأبناء المسلمين…45
الجدول ذو الرقم (6) يوضح عدد الأئمة الذين أوفدوا إلى خارج المملكة خلال الأعوام من (18-1422هـ).…53
الجدول ذو الرقم (7) يوضح عدد الدورات التي عقدت في خارج المملكة خلال الأعوام من (1415-1422هـ)…54
فهرس المحتويات
المقدمة…2
الفصل الأول: موضوع البحث…5
تمهيد…5
موضوع البحث…8
أهمية البحث…9
أهداف البحث…10
المفاهيم المستخدمة في البحث…11
أولاً: مفهوم السنة…11
المفهوم اللغوي للسنة…11
المفهوم الاصطلاحي للسنة…12
ثانياً: مفهوم السيرة…12
المعنى اللغوي للسيرة…12
المعنى الاصطلاحي للسيرة…13
منهج البحث…13
الفصل الثاني: الإطار النظري…15
أسباب اهتمام المملكة بنشر السنة والسيرة…15
أولاً: النهج الواضح والغاية المحددة من قيام المملكة العربية السعودية…16
ثانياً: المملكة العربية السعودية تضم أطهر البقاع وأفضلها…17
ثالثاً: المملكة العربية السعودية قبلة المسلمين في كل عباداتهم…17
رابعاً: صيانة الحقائق الدينية والمفاهيم الإسلامية من التحريف والبدع…18
خامساً: رعاية الحجاج وخدمتهم…18
سادساً: العمل على توحيد المسلمين وتضامنهم…19
سياسة المملكة في نشر السنة والسيرة في العالم…20
أولاً: القيام في ذلك عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة…20
ثانياً: القيام على بصيرة وعلم…20
ثالثاً: التدرج…21
رابعاً: استخدام الوسائل كافة…21
الفصل الثالث: نماذج من جهود المملكة في نشر السنة والسيرة في الخارج…23
تمهيد:…23
المبحث الأول: جهود المملكة من خلال طباعة الكتب ونشرها في الخارج…24
المبحث الثاني: جهود المملكة من خلال تعليم أبناء المسلمين…34
1- إنشاء دار الحديث المدنية…34
2- إنشاء دار الحديث المكية…35
3- إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة…39
4- إنشاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية…41
5- المنح الدراسية بجامعات المملكة الأخرى…44(34/39)
المبحث الثالث: جهود المملكة من خلال إنشاء مركز خدمة السنة والسيرة النبوية…46
المبحث الرابع: جهود المملكة من خلال بث برامج السنة عبر إذاعة القرآن الكريم…50
المبحث الخامس: جهود المملكة من خلال إيفاد العلماء والأئمة والحفاظ للخارج…52
المبحث السادس: جهود المملكة من خلال المساجد والمراكز في العالم…55
أولاً: في القارة الآسيوية…55
ثانياً: في القارة الأفريقية…55
ثالثاً: في القارة الأوروبية…56
أما أهم المراكز والمساجد التي أسهمت المملكة في إنشائها بالقارة الأوروبية…56
رابعاً: في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا…57
خامساً: في أمريكا الجنوبية…57
سادساً: في أستراليا…58
المبحث السابع: جهود المملكة من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية والجوائز العالمية…59
أولاً: من خلال الأكاديميات والكراسي العلمية…59
ثانياً: الجوائز العالمية…60
الفصل الرابع: موجز البحث وتوصياته…62
أولاً: موجز البحث…62
ثانياً: التوصيات…64
ثالثاً: المراجع…66
فهرس الجداول…69
فهرس المحتويات…70(34/40)
جهود علماء المسلمين
في تمييز صحيح السيرة النبوية من ضعيفها
د. عبدالكريم عكيوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
إن من المتفق عليه عند علماء الإسلام في القديم والحديث أن المحدِّثين من علماء الإسلام كانوا أمناء على السنة النبوية، بما وضعوه من القواعد الدقيقة لفحص الأخبار ونقد المرويات. وكان غرضهم من ذلك تمييز ما صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقدموه للباحثين والمجتهدين، حتى يتم بناء الأحكام على الصحيح دون غيره. ولما كانت السيرة النبوية – في جزء كبير منها- موضعا للأحكام الفقهية في مجالات مختلفة من الأسرة والبيت إلى التصرفات العامة والعلاقات الدولية، فقد أولاها المحدثون عناية بالغة، فعملوا على تصحيح مروياتها. ومن أسباب العناية بها أيضا أن السيرة النبوية هي من الظروف العامة المحيطة بنزول الوحي وبورود الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(35/1)
ومعلوم أن أسباب الورود لها فائدة في شرح الأحاديث وبيان فقهها. ولهذا لما صنفت كتب مصطلح الحديث عقد المصنفون أنواعا من علوم الحديث تدخل في ظروف الحديث وملابساته لفائدتها في الفهم الصحيح. منها ما ذكره الحاكم النيسابوري في النوع الثامن والأربعين من علوم الحديث وهو معرفة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد فيه ما لا يسع المحدث جهله من سيرة رسول الله ومغازيه وبعوثه وسراياه وسنته في ذلك كله. ووجه ذلك أن عهد النبي صلى الله عليه وسلم هو الزمن الذي وردت فيه الأحاديث، وأن أحوال عهد النبوة هي الظروف العامة المحيطة بالحديث النبوي، وأن استحضار أحداث السيرة والمغازي له فائدة في تنزيل الأحاديث على محالها، لأن أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجهيز الجيوش وبعث السرايا وغيرها، مما يدخل في السيرة من السنن الفعلية التي تدل على أنواع هذه التصرفات: أهي تصرف بالتبليغ أم بالإمامة أم بالقضاء. يقول الحاكم:" هذا النوع من هذه العلوم: معرفة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه وكتبه إلى ملوك المشركين وما يصح من ذلك وما يشذ وما أبلى كل واحد من الصحابة في تلك الحروب بين يديه، ومن ثبت، ومن هرب، ومن جبن عن القتال، ومن كرَّ، ومن تدين بنصرته صلى الله عليه وسلم، ومن نافق، وكيف قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، ومن زاد، ومن نقص، وكيف جعل سلب القتيل بين الاثنين والثلاثة وكيف أقام الحدود في الغلول. وهذه أنواع من العلوم لا يستغني عنها عالم…"(1)
__________
(1) "معرفة علوم الحديث" ص: 238.(35/2)
ومن الأسباب العلمية أيضا التي حملت المحدِّثين على العناية بنقد أخبار السيرة وتصحيحها، أن استحضار أحوال عصر النبوة وأخبار المغازي له فائدة في نقد الأحاديث والأخبار. فنقد الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يتوقف على عرضه على الوقائع التي صحت في السيرة النبوية. وبناء على هذا الأصل تم نقد كثير من الأحاديث، وسيأتي شيء من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى. فهذه هي الأسباب التي حملت المحدِّثين على العناية بتحقيق السيرة النبوية. ولهذا نجد أخبار السيرة مبثوثة في كتب الحديث ودواوين السنة، ومنها ما خصص فيه المؤلفون كتبا للمغازي والسير مثل ما فعل البخاري في جامعه الصحيح حيث عقد كتاباً للمغازي، أخرج فيه ما صح عنده من أخبار المغازي. ومعنى ذلك أن السيرة النبوية عند المحدِّثين جزء من السنة النبوية.
ومع مرور الزمن صارت السيرة النبوية علما قائما بذاته، فانفصلت عن الحديث، فوجدت كتب خاصة بها دون غيرها، واشتهر من علماء الإسلام طائفة ممن لهم عناية واهتمام بالتواريخ والسير والمغازي وأخبار الإسلام، وهم المعروفون بأئمة المغازي أو الأخباريين. وكان الغالب على هؤلاء الجمع والتقميش، دون الفحص والتفتيش، فوجد بذلك التساهل في كتب المغازي والسير. يقول الدكتور فاروق حمادة: "ومما ينبغي التنبه له… أن كتب السير ومثلها كتب التاريخ تسوق كل ما ورد في الباب مما صح أو لم يصح من الأخبار لتمحيصه وغربلته لا قطعا منهم بصحته، ولا جزما بصدقه…وفي هذا يقول الحافظ زين الدين العراقي المتوفى 806 ه في فاتحة ألفيته في السيرة النبوية:
وليعلم الطالبُ أنَّ السِّيرا ... تجمع ما صح وما قد أنكرا
والقصد ذكر ما أتى أهل السير ... به وإن إسناده لم يعتبر(35/3)
ولهذا كان الأئمة عبر العصور يتتبعون ما ورد في كتب السير ويبينون ما فيه من الضعيف والواهي والموضوع"(1). ومعنى ذلك أن منهج النقد الذي وضعه المحدثون، لم يكن له حضور عند أكثر من كتب في السيرة النبوية وتاريخ الإسلام، فكانوا يسوقون الأخبار والروايات من غير نقد ولا تمحيص. ولهذا بقي المحدثون يتتبعون أخبار السيرة النبوية بالنقد والتمحيص ليتميز الصحيح فيها من الضعيف. وبفضل جهود المحدِّثين والاعتماد على مناهجهم أمكن لعلماء الإسلام التمييز بين الصحيح من السيرة النبوية وضعيفها، وذلك لدقة مناهجهم وقوة مسالكهم في النقد. ويمكن بيان منهج المحدِّثين في نقد أخبار السيرة النبوية في الخطوات الآتية:
1- استقصاء مصادر الخبر وطرقه ورواته وألفاظه وصيغه:
إن الناظر في كتب المحدِّثين والمتتبع لتصرفاتهم في التصحيح والتضعيف، يستوقف نظره ولوع علماء الحديث ونقاده بجمع طرق الحديث الواحد واستقصاء الأسانيد التي ورد بها، وحصر طرقه ومخارجه التي أتى منها، وبلغ منهم ذلك أَنْ حَمَلَ بعضَ مَنْ لم يعرف مسلك المحدِّثين على وصفهم بزوامل للأسفار.
أو كما قال بعضهم:
زوامل للأشعار لا علم عندها ... لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بجيدها إلا كعلم الأباعر ... بأحماله أو راح ما في الغرائر(2)
__________
(1) مصادر السيرة النبوية وتقويمها " للدكتور فاروق حمادة ص 104، وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" للدكتور أكرم ضياء العمري 1/39-40.
(2) "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص 17. والغرائر جمع غِرارة، وهي:وعاء من الخيش ونحوه توضع فيه الحبوب.(35/4)
وذلك لما رآهم لا يكتفون بالسند الواحد للحديث حتى يضموا إليه غيره، وكانوا يفرحون بذلك؛ لأنه الطريق إلى معرفة هذا الحديث والحكم الصحيح عليه، ومعرفة أوصافه، وكل ما يمكن أن يعرض للأحاديث، ولهذا يقول يحيى بن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه"(1). فكلما توسع الناظر في الحديث في جمع الطرق وتتبع الأسانيد التي ورد بها، كثرت فوائده وضَعُفَ احتمال غَلَطه في الحكم على الحديث، وعرف من ذلك ما لم يعرفه لو وقف عند السند الأول الذي وقف عليه أولاً. يقول الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا"(2). فكل سند للحديث الواحد يأتي بفائدة جديدة في الحكم على الحديث ومعرفة صفته، ولهذا جعل المحدثون الطريق الواحد بمنزلة خبر مستقل ولو كانت الطرق كلها تحكي عن الواقعة نفسها وتحمل المتن نفسه، وكانوا في العد يجعلون كل طريق حديثا واحدا، وفي هذا المعنى يقول الإمام مسلم بن الحجاج في بيان مسلكه في صحيحه:" إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس، على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد؛ لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام، فلابد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة."(3) فصرح أن الزيادة في الإسناد تقوم مقام حديث تام.
__________
(1) "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" 2/212.
(2) المصدر نفسه.
(3) مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 48 –49.(35/5)
ويتأكد هذا خاصة في أخبار السير والمغازي لأنها في الغالب عبارة عن حكايات لوقائع وحوادث، وهذه الحوادث تكون متلاحقة، والرواة لها ليسوا كلهم في مرتبة واحدة من الحفظ والضبط، فيحفظ بعضهم ما لم يحفظ غيره، ويروي بعضهم ما لا يرويه غيره. ولهذا نص المحدثون على ضرورة استقصاء طرق الخبر وتتبع أسانيده التي ورد بها، حتى يمكن حصر صيغه واستكمال وقائعه وأجزائه. فكل إسناد من أسانيد الحديث الواحد لا يخلو في الغالب من فوائد وزيادات في نص الحديث ومتنه. فأسانيد الخبر تتعدد بتعدد رواة ذلك الخبر ونقلته، والرواة والنقلة يختلفون في الحفظ والاستيعاب، وقد ينقل بعضهم ما غفل عنه الآخر، ولا سيما في نقل الأحاديث الطويلة ورواية الوقائع المتلاحقة الحوادث، والنوازل المتنوعة المشاهد والمواضع، فمن اقتصر على سند واحد فقد اكتفى برواية واحدة، فلم يؤمن عليه ألا يكتمل عنده متن الحديث، وأن تغيب عنه أجزاء كثيرة من الواقعة، أو يقف على الحديث بمعناه دون لفظه، فلا مناص من البحث عن الروايات الأخرى. وما أكثر الأخبار الواردة في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يمكن استكمال وقائعها وجمع أجزائها إلا بجمع الروايات المختلفة واستقصاء أسانيدها وطرقها؛ ولهذا وجد عند بعض علماء المغازي ورواة السيرة النبوية ما سماه بعضهم بالسند الجماعي: وهو أن يجمع الراوي في الرواية بين أكثر من واحد ممن سمع منه الواقعة، ويضم سماعاته منهم بعضها إلى بعض لتستقيم الواقعة وتكتمل أجزاؤها، ولو اقتصر على الواحد لجاءت الواقعة قاصرة؛ لأن هؤلاء روى بعضهم من الواقعة ما لم يرو غيره؛ لأن كل واحد حفظ ما لم يحفظ غيره، فلابد من ضم ذلك كله بعضه إلى بعض.(35/6)
وهذا من منهج إمام الحديث والمغازي في عصره ابن شهاب الزهري، فقد أخرج البخاري بسنده عنه في قصة الإفك، قال الزهري: حدثني عروة ابن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة ابن مسعود عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض."(1) قال الحافظ ابن حجر في شرح قول الزهري "وبعضهم كان أوعى..": "هو إشارة إلى أن بعض هؤلاء الأربعة أميز في سياق الحديث من بعض من جهة حفظ أكثره، لا أن بعضهم أضبط من بعض مطلقاً، ولهذا قال: "أوعى له" أي للحديث المذكور خاصة… وحاصله أن جميع الحديث عن مجموعهم لا أن مجموعه عن كل واحد منهم"(2). فهذا هو المنهج الذي وضعه المحدثون لجمع الأخبار الطويلة التي تتفرق أجزاؤها بحسب تفاوت حفظ الحفاظ، عندما يروي بعضهم ما لم يرو غيره. فلاستكمال الأخبار لابد من تتبع أسانيدها واستقصاء طرقها، فتجتمع بذلك ألفاظه وصيغه، فيكتمل متنه. وهذا المسلك هو المعروف عند علماء الحديث بالمتابعات أي أن المحدث لا يكتفي بالحديث الواحد في مصدر واحد بسند واحد وإنما يبحث له عن أسانيد أخرى فإن وجدت فالحديث له متابعات، وهي مما يتقوى بها الحديث، وإذا لم تكن له متابعات سموه فرداً غريباً.
__________
(1) "صحيح البخاري" كتاب المغازي، باب حديث الإفك. (فتح الباري 7/431). ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول التوبة ( صحيح مسلم 4/2129)، صحيح مسلم بشرح النووي 17/102-103). وأخرجه أيضا الإمام احمد في مسنده، 6/194.
(2) فتح الباري 8 / 457(35/7)
وأما الفائدة الثانية: فهي أن اعتبار المصادر المتنوعة وضم بعضها إلى بعض، يتم به استكمال الخبر وجمع أطرافه؛ لأن كل مصدر إنما يورد منه طرفا أو جزءا، فبعضها يكمل بعضا. وإن هذا المنهج الذي وضعه المحدثون منهج عام يصلح في النقد التاريخي عامة، وليس في الحديث والسيرة النبوية فقط. وقد عبر المؤلفون في النقد التاريخي في العصر الحاضر عن هذا المسلك بتعابير مختلفة، لكنها لا تخرج في حقيقتها عما سطره المحدثون. فقد نصوا على أن منهج النقد التاريخي يقوم أولا على استقصاء الخبر في جميع المصادر المتوافرة، ولا يجوز للناقد أن يزدري أي مصدر قد يرد به الخبر.
إن المؤرخ الذي يقف على خبر تاريخي في مصدر من المصادر أو في وثيقة، لا يكتفي بهذا الخبر من خلال مصدر واحد وإنما يجب عليه استقصاء مصادر الخبر ومظانه المتنوعة. واستقصاء مصادر الخبر "يقتضي عدم الاكتفاء بما يبين للعين أو يعثر عليه بأيسر جهد، بل يتطلب الاستقصاء البعيد والتفتيش الدقيق في كل ركن وزاوية أملا في أن ينكشف شيء جديد"(1). فكلما عثر المؤرخ على الخبر المنظور فيه في مصدر عَبَرَ منه إلى غيره، فينظر في الخبر الواحد من خلال مصادر عديدة وشواهد متنوعة، " فلا يزدري أيا من المصادر أو يهمله؛ لأن أقلها لدى النظرة الأولى قد يغدو بعد التحقيق أكثرها خطورة، وأغناها بالمعلومات"(2). فهذا ما نص عليه المحدثون لما ذكروا وجوب تتبع مصادر الخبر واستقصاء أسانيده ومخارجه، وبهذا تمكن علماء الإسلام من جمع أخبار السيرة النبوية.
2- تحكيم علم الرجال وقواعد الجرح والتعديل:
__________
(1) "نحن والتاريخ" ص: 97.
(2) نفسه ص: 71.(35/8)
وهذا أيضا منهج راسخ عند المحدِّثين. فقد اشترط المحدثون لمن ينظر في الخبر لتحقيقه ومعرفة درجته من حيث الصحة والضعف، أن يستحضر أحوال رواته من جهة العدالة والضبط، ومن جهات أخرى لا صلة لها بالعدالة ولا بالضبط، مثل حياة الراوي، مولدا ووفاة، وبلدا ورحلة وتواريخ ذلك كله. بل إنه في بعض الحالات قد يعرف عدالة الرجل وضبطه، لكنه مع ذلك يحتاج إلى أخباره الأخرى، مثل حاجته إلى معرفة البلاد التي دخلها، ومقامه بين أقرانه وغيره ممن يشاركه في الرواية، وفهمه لهذا الحديث الذي يرويه وعلمه به، والطريقة التي تحمل بها هذا الحديث، وتاريخ سماعه، وتاريخ التحديث به.وكلما توسع الناظر في الحديث في استحضار ذلك، حصلت له فوائد جليلة، ولا سيما إذا كان للحديث المنظور فيه معارض، فيحتاج إلى الحكم بالنسخ أو التوفيق أو الترجيح، وإن كثيرا من ضوابط الترجيح ترجع إلى أحوال رواة الحديث من هذه الجهات المختلفة. ولهذا ذكر المصنفون في مصطلح الحديث أنواعا كثيرة تتعلق بأحوال الرواة وأخبارهم، ونصوا على ضرورة استحضارها. وهذه الأنواع هي(1):
معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد.
معرفة الصحابة.
معرفة التابعين.
معرفة رواية الأكابر عن الأصاغر.
معرفة رواية الأقران.
معرفة الأخوة.
معرفة رواية الآباء عن الأبناء.
معرفة رواية الأبناء عن الآباء.
معرفة من اشترك في الرواية عنه اثنان تباعد ما بين وفاتيهما.
معرفة من لم يرو عنه إلا واحد.
معرفة من ذكر بأسماء أو صفات مختلفة.
معرفة المفردات من الأسماء والكنى والألقاب.
معرفة الأسماء والكنى ومن اشتهر بها.
معرفة كنى المعروفين بالأسماء.
معرفة ألقاب المحدِّثين والرواة.
معرفة المؤتلف والمختلف.
معرفة المتفق والمفترق.
معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم.
معرفة النسب التي على خلاف ظاهرها.
معرفة المبهمات من الرجال والنساء.
__________
(1) الأنواع مأخوذة من مقدمة ابن الصلاح مع زيادات السيوطي عليه في " تدريب الراوي".(35/9)
معرفة الثقات والضعفاء.
معرفة من اختلط من الثقات.
معرفة طبقات العلماء والرواة.
معرفة الموالي والمنسوبين إلى القبائل منهم.
معرفة أوطان الرواة وبلدانهم.
معرفة رواية الصحابة بعضهم عن بعض والتابعين بعضهم عن بعض.
معرفة ما رواه الصحابة عن التابعين عن الصحابة.
معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه وعكسه.
معرفة من وافقت كنيته كنية زوجه.
معرفة من وافق شيخه اسم أبيه.
معرفة من اتفق اسمه واسم أبيه وجده.
معرفة من اتفق شيخه والراوي عنه.
معرفة من وافق اسمه نسبه.
معرفة الأسماء التي يشترك فيها الرجال والنساء.
معرفة من لم يرو إلا حديثا واحدا.
معرفة الحفاظ وما اختص به كل منهم من ناحية العلم.
ويظهر أن هذه الأنواع تتعلق بأحوال الرواة وأخبار الرجال من جهات مختلفة زائدة على العدالة والضبط. وباستحضار هذه الجهات كلها من أخبار الرواة، تمكن المحدثون من تحقيق الأخبار وتمييز الصحيح من غيره، والترجيح بين الأخبار المختلفة. فكان الناقد يسمع الخبر أو يقف عليه في مصدره المكتوب، فيستحضر جميع ما يتصل بالرجل الذي رواه في حياته وأحواله وتواريخ مولده ووفاته ورحلاته والبلاد التي دخلها، ومن لقيه من الرجال والشيوخ، وكانوا يستحضرون هذه الأخبار حتى بالنسبة للصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإنهم وإن كانوا عدولا، فإن الاعتبار بأخبارهم وأحوالهم وتواريخهم وتراجمهم له فائدة في نقد مرويات السيرة النبوية خاصة.
وبالاعتبار بأحوال رجال الحديث وأخبار رواته استخلص المحدثون فوائد جليلة في الحكم على الحديث وبيان أقسامه وأنواعه وصفاته، منها:
1- معرفة الصحيح والضعيف(35/10)
فقد اشترط المحدثون لصحة السند عدالة رواته وضبطهم مع الاتصال وانتفاء الشذوذ والعلة القادحة. أما العدالة والضبط فإنما تعرفان بتتبع أحوال الرجل وأخباره من جهة التزامه أحكام الشريعة ومن جهة عنايته بالعلم وحفظه وصيانته. فإن الغرض في الرواية أن يبتعد الرجل عن الكذب والغلط، والكذب إنما يبعد عنه الدين والورع، وقلة الغلط تعرف بمقارنة الرجل في علمه وروايته بغيره ممن شاركه الرواية. ومن هنا يتبين لنا خطورة هذا المسلك والجهد الكبير الذي بذله المحدثون لتحقيق الحديث، فإن معرفة التزام الرجل الشريعة من عدمه، وضبطه من عدمه يحتاج إلى تتبع لحياة الرجل وأعماله وتصرفاته طول عمره، فإن أفعال الرجل وأعماله ممتدة في الزمان على مدى عشرات السنين، وممتدة في المكان أيضا، مع ما هو معروف من طبيعة الإنسان، فإنه تارة يقبل على الطاعة وتارة يفتر عنها، وتارة يقع في المعصية، وتارة يقلع عنها، وتارة متيقظ متقن، وتارة غافل، وفي فترة من عمره جيد الحفظ صافي الذهن، وفي فترة أخرى تغلب عليه أسباب الشرود والاضطراب بسبب الهمِّ والغمِّ والهرم، فهذا كله حاضر في أذهان المحدِّثين وهم يفحصون الأحاديث. فقولهم بصحة السند إنما كان بعد استحضار جميع ما تقدم وتتبع كل ما سبق من حالات الرجل وحياته عبر سنوات عمره، وعبر المكان الذي أقام فيه وارتحل في أرجائه. وقولهم بأن الرجل ضابط حافظ، إنما هو بعد استحضار أحوال غيره من أقرانه ومقارنة روايته بروايتهم. وتجد المحدِّثين أحيانا يحكمون على الرجل بأنه ثقة تغير بآخرة، وإنما قالوا ذلك؛ لأنهم استحضروا حياته كلها حتى أواخر عمره وتغير حاله بسبب الهرم، أو بسبب عارض آخر يختلف باختلاف الأشخاص والرجال. وأما اتصال السند فإنما يعرف باستحضار تواريخ المواليد والوفيات وطبقات الرواة والبلدان التي دخلوها وتواريخ ذلك أيضا. وكذلك العلل والشذوذ إنما يعرف بمقارنة رواية الرجل بغيره واعتبار روايته برواية غيره.(35/11)
2- اكتشاف كذب الرواة:
فالمحدِّثون عندما ينظرون في حديث الرجل يستحضرون زمانه وعمره من مولده إلى وفاته، وبلده ورحلاته والبلدان التي دخلها ومن لقيه بها من الشيوخ والأقران وأخبار شيوخه وأقرانه وتواريخهم ورحلاتهم، وكثيرا ما يكتشفون كذب الراوي باعتبار ذلك. وهذا ما قصده الثوري في قوله: "لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ"(1). من ذلك مثلاً ما أخرجه الخطيب البغدادي بسنده عن عفير بن معدان الكلاعي قال: "قدم علينا عمرو بن موسى حمص، فاجتمعنا إليه في المسجد فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر علينا قلت له: من شيخنا الصالح هذا؟ سمه لنا نعرفه. فقال: خالد ابن معدان. قلت له في أي سنة لقيته؟ قال: سنة ثمان ومائة. قلت: فأين لقيته؟ قال: لقيته في غزاة أرمينية. فقلت له: اتق الله يا شيخ ولا تكذب، مات خالد ابن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنَّك لقيته بعد موته بأربع سنين. وأزيدك أخرى، أنَّه لم يغز أرمينية قط، كان يغزو الروم.(2) فهذا عفير بن معدان الكلاعي نظر في حديث عمرو بن موسى مستحضراً حياته ورحلاته وتواريخ ذلك، وحياة من روى عنه ورحلاته وتواريخ ذلك. ومثال آخر، قال أبو الوليد الطيالسي، كتبت عن عامر بن أبي عامر الخزامي، فقال يوماً: حدثنا عطاء بن أبي رباح، فقلت له: في كم سمعت من عطاء؟ قال: في سنة أربع وعشرين ومائة. قلت: فإن عطاء توفي سنة بضع عشرة."(3) وكان المحدِّثون أيضا يكتشفون التحريف والكذب بالاعتبار بكتب الرجل وما كتبه وخطه والمداد الذي يكتب به. قال زكريا بن يحيى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقاياتٍ على ظهور كتبه، فسألته عنه، فقال: رأينا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها"(4)
__________
(1) "الكفاية" 119.
(2) المصدر نفسه.
(3) "ميزان الاعتدال" 2/360.
(4) المصدر نفسه 4/451.(35/12)
. فهذه أمثلة من فوائد علم الرجال والجرح والتعديل.
ومعلوم أن المصنفين في السيرة النبوية وفي تاريخ الإسلام من المتقدمين، كانوا يلتزمون بشرط المحدِّثين، وهو النقل بالسند وعزو الروايات إلى مصادرها وبيان مخارجها. ولهذا كانت أخبار السيرة منقولة بأسانيدها، وذلك لبيان رواتها والكشف عن أصحابها. والغاية المرجوة من ذلك هي أن يتمكن الناظر في هذه الأخبار من معرفة درجتها وقيمتها من حيث الصحة والضعف. وإنما يحصل ذلك بتتبع أحوال الرواة في كتب الرجال ومعرفة مراتبهم في الجرح والتعديل. فعلماء الرجال جمعوا أخبار كل من له عناية بالعلم وكل من نقل ولو خبرا واحدا من الحديث أو السيرة النبوية، ودونوا ذلك في كتب الجرح والتعديل. ولهذا فإن من منهج تحقيق أخبار السيرة النبوية الاستعانة بعلم الرجال وتوظيف حقائق الجرح والتعديل. وعلى هذا المسلك يمكن وضع أخبار السيرة في مراتبها، وهذا ما نجده عند من اهتم بالسيرة من المحدِّثين خاصة، فتجدهم يزنون الأخبار اعتماداً على مراتب رجالها وأحوال رواتها. مثال ذلك: خبر ابن عباس أن خديجة ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: "عبدالله والقاسم وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وولدت له ماريا القبطية إبراهيم". فالخبر في سنده أبو شيبة إبراهيم ابن عثمان وهو متروك. وعليه فإن هذا الخبر بحسب ميزان المحدِّثين من الضعيف(1).
3- ترتيب مصادر الأخبار بحسب قوتها:
__________
(1) "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للهيثمي 9 / 217.(35/13)
من القواعد العلمية التي سار عليها علماء الإسلام وبخاصة المحدِّثون، في تحقيق أخبار السيرة النبوية، تحديد المصادر الصحيحة للسيرة، وتقويم هذه المصادر. فمن المعلوم أن السيرة النبوية قد جمعت في كتب كثيرة، واهتم بها أصناف مختلفة من الباحثين والدارسين: من المفسرين والمحدِّثين، والمؤرخين والقصاص والأخباريين، وأهل الأدب والسمر… وهذه الكتب ليست في منزلة واحدة من حيث النقد والتمحيص، والمهتمون بها ليسوا كلهم من أهل الأمانة والتحري في النقل.(35/14)
ولهذا قرر علماء الإسلام أن أعلى المصادر وأوثقها مطلقا هو القرآن الكريم، وقد حوى قدرا غير يسير من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه وأحواله وأحوال دعوته. ثم يليه في القوة كتب الحديث ومصادر السنة النبوية، ثم تأتي بعدهما المصادر الأخرى من كتب المغازي والسير وتاريخ الإسلام وغيرها(1). فلابد من مراعاة هذا الترتيب. وبهذا يظهر الانحراف الكبير الذي حصل لكثير من الدارسين في العصر الحاضر في جمعهم أخبار السيرة على غير منهج، ومن غير مراعاة لمكانة المصادر ولا ترتيبها بحسب قوة منهجها. فليس من المنهج العلمي ما سار عليه كثير من المستشرقين، وكثير من المؤرخين العرب والمسلمين المعاصرين، من أخذهم أخبار السيرة النبوية من كتب السير والمغازي فقط دون القرآن الكريم وكتب الحديث والسنة النبوية. فالمنهج السديد والمسلك القويم أن يؤخذ الخبر من القرآن الكريم، ثم من كتب الحديث، ثم من كتب السير والمغازي، ثم من كتب التاريخ العام، ثم يتتبع في سائر الكتب التي يمكن أن تكون مظاناً للسيرة، مثل كتب الأدب ونحوها، مع تقدير كل مصدر حق قدره وإعطائه المكانة التي يستحقها، فبهذا تكتمل صورة الخبر، ويمكن المقارنة بين المصادر من جهة الزيادة والتفصيل، ومن جهة الاختلاف والتعارض إن وجد، فيلجأ إلى الترجيح. فورود الخبر مثلا في صحيح البخاري ليس كوروده في الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، فصحيح البخاري من أصح كتب الحديث وقد التزم فيه البخاري منهج التحقيق والنقد الحديثي في أعلى درجاته، فجمع الصحيح دون غيره، ولهذا وقع الاتفاق على صحة ما ورد فيه. أما كتاب الأغاني فهو من كتب الأدب، واهتم فيه صاحبه بإمتاع النفوس والأذواق فجمع فيه من الطرف والأخبار ما تغذى به مجالس اللهو ونوادي السمر. ومن كان هذا غرضه فإنه لاشك متساهل في نقد ما ينقله. ومن استحضر
__________
(1) انظر في هذه المصادر كتاب الدكتور فاروق حمادة "مصادر السيرة النبوية وتقويمها".(35/15)
حال هذا الكتاب وهو ينظر فيما ورد فيه من الأخبار التاريخية، فإنه يقدر هذه الأخبار حق قدرها، ويتلقاها بمزيد من الحذر وغاية الاحتياط والتحري. ولبيان هذا الجانب في كتاب الأغاني ليعتبر به عند النظر فيه، يقول الدكتور زكي مبارك:" أريد أن أنص على ناحيتين في الأصبهاني وكتابه… وسيكون لهما أثر عظيم في دعوة المؤلفين إلى الاحتياط حين يرجعون إلى كتاب الأغاني يتلمسون الشواهد في الأدب والتاريخ".
أما الناحية الأولى التي ذكرها الدكتور زكي مبارك فهي أحوال المؤلف صاحب الكتاب أبي الفرج الأصبهاني من جهة خلقه ومنهجه في الحياة، وهذا يدخل في الاعتبار بأحوال صاحب الخبر كما سبق بيانه.
وأما الناحية الثانية فهي أحوال كتاب "الأغاني"، وذلك ما بينه الدكتور زكي مبارك بقوله:"… فهو كتاب أدب لا كتاب تاريخ، وأريد بذلك أن المؤلف أراد أن يقدم لأهل عصره أكبر مجموعة تغذى بها الأندية ومجامع السمر، ومواطن اللهو ومغاني الشراب… ولهذا النحو في التأليف قيمة عظيمة جدا إذا فهمه القارئ على وجهه الصحيح، فهو دليل على خصوبة التصور والخيال، وبرهان على أن كُتَّاب اللغة العربية لم يحرموا من القصص الشائق الخلاب… ولكن الخطر كل الخطر، أن يطمئن الباحثون إلى أن لرواية الأغاني قيمة تاريخية، وأن يبنوا على أساسها ما يشاؤون من حقائق التاريخ"(1).
__________
(1) – انظر " مصادر السيرة النبوية وتقويمها" للدكتور فاروق حمادة ص: 132-133.(35/16)
فهذا مثال لفائدة الاعتبار بقيمة الكتاب ومنهجه ومكانته من جهة التاريخ. ولتيسير هذا العمل على الباحثين في السيرة النبوية، قام أستاذنا الدكتور فاروق حمادة بتقويم الكتب والمصادر التي تضم أخبار السيرة النبوية، وبيان مكانتها التاريخية ليأخذ الناظر ذلك بعين الاعتبار، ورتب هذه المصادر بحسب قوتها ومكانتها ودرجة الوثوق بها، وذلك في كتابه "مصادر السيرة النبوية وتقويمها". ومما قاله في التمهيد: "لذلك فإن عملية تحديد المصادر الأصلية للسيرة النبوية أهم عمل أمام الدارس للسيرة النبوية خصوصا وللإسلام عموما، وتقويم هذه المصادر يعطيه العدة الكافية لتناول السيرة المحمدية نقية من الشوائب، ويطلع على حقيقتها وأبعادها…"(1) وهي إشارة إلى ضرورة استحضار مكانة الكتاب عند أخذ الخبر التاريخي منه، واستحضار موقعه بين سائر الكتب والمصنفات، بحسب منهجه والتزامه الاحتياط في النقل من غير ذلك.
فالواجب على المؤرخ تتبع الخبر في مصادره واستقصاؤه من مظانه. وللتمثيل لعمل علماء الإسلام المحققين بهذه القاعدة، يمكن تتبع البخاري في كتاب المغازي من جامعه الصحيح، فهو لا يكاد يخرج في مصادره عن القرآن الكريم، ثم ما صح عنده من الأخبار التي يرويها بأسانيده عن الرواة الموثقين، ثم ينزل أحيانا ليأخذ عن أئمة المغازي والسير، لكن يبقى الأصل المعتمد عنده هو القرآن الكريم وما صح له بأسانيده. فإذا وجد في الخبر آية أو آيات من القرآن الكريم، فإن البخاري لا يستجيز لنفسه أن يورد شيئا مما صح عنده حتى يقدم له بالقرآن. فكان يورد الآيات في أول تراجم الأبواب، لتكون هي الأصل المعتمد، ثم يخرج أخباره بعد ذلك.
من أمثلة ذلك قوله:
__________
(1) "مصادر السيرة النبوية وتقويمها" ص: 29.(35/17)
بَاب قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (:[آل عمران: 123-127].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ....الآية [الأنفال: 7].
بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ([الأنفال: 9-13].
بَاب غَزْوَةِ أُحُدٍ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:( ? ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ([آل عمران: 121].
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([آل عمران: 139-143].
وَقَوْلِهِ:( ? ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( (( ( ( (( ( ( ( ( ( ([آل عمران: 152].
وَقَوْلِهِ:( ? ( ( ( ( ( ( ( (الآية[آل عمران: 169].
بَاب:( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([آل عمران: 122].
بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( (( ( ( ( ( ([آل عمران: 155].
بَاب ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([آل عمران: 154].
بَاب غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ([الفتح: 18].(35/18)
وكما يظهر فإنه يحرص على أخذ الأخبار من القرآن الكريم، بل في كثير من التراجم لا يزيد على آية من القرآن أو آيات. وأما نقله عن أصحاب المغازي فإنه يورده في التراجم، وقد نقل عن ابن إسحاق، وعروة بن الزبير رواية الزهري عنه، وموسى بن عقبة. مثال ذلك قوله: بَاب غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ أَوِ الْعُسَيْرَةِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوَّلُ مَا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَبْوَاءَ ثُمَّ بُوَاطَ ثُمَّ الْعُشَيْرَةَ.
بَاب غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ وَهِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَانَ حَدِيثُ الإِفْكِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ * بَاب حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ وَمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ وَمَا أَرَادُوا مِنَ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ كَانَتْ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ أُحُدٍ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( وَجَعَلَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَأُحُدٍ.
فهذه أمثلة من منهج علماء الإسلام في ترتيب مصادر السيرة والتعامل معها بحسب قوة منهجها. فلا يقدمون على كتاب الله تعالى شيئا ثم يثنون بكتب الحديث، ثم تأتي بعد ذلك المصادر الأخرى.
4- النقد الداخلي للأخبار.(35/19)
إن قواعد البحث والنقد التي سبق بيانها تتعلق كلها ببحث وتحليل العناصر الخارجية للخبر. فاستقصاء الطرق والأسانيد يحصل بها جمع أجزاء الخبر وضم بعضها إلى بعض. وتحكيم قواعد الرجال يتم به معرفة مراتب رواة الخبر من حيث العدالة والضبط مما يمكن من سبر روايتهم. وترتيب المصادر يمكن من الرجوع إلى المصادر الصحيحة المعتمدة. لكن هذه العناصر كلها إنما هي من متعلقات الخبر ولوازمه، وليس من مضمونه ومعناه. وهي جزء مهم من النقد، لكن النقاد ينظرون بعد ذلك إلى متن الخبر ومضمونه، فيحللون أجزاءه ومضامينه. فقد يكون المصدر المرجوع إليه مصدرا معتمدا في السيرة النبوية، مثل السنن الأربعة أو المسانيد أو غيرها من أمهات السنة النبوية، ورواته ممن تقبل روايتهم. لكن مع هذا كله يزيد النقاد في التثبت، فيتوقفون: لعل أحد هؤلاء الرواة قد حصل له وهم أو غلط، لأنه لا أحد يسلم من الغلط، لأن الثقة والأمانة لا تمنع من الوهم والخطأ. فالحكم بالثقة على الرجل ليس قطعا بعدم احتمال صدور الخطأ منه، وإنما حكم بالظن الراجح. قال ابن الصلاح:" ومتى قالوا: "هذا حديث صحيح" فمعناه أنه اتصل سنده، مع سائر الأوصاف المذكورة. وليس من شرطه أن يكون مقطوعا به في حقيقة الأمر؛ إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول".(1). وبسبب هذا الاحتمال يعمد النقاد إلى النظر في متن الخبر فيحصرون عناصره المختلفة مثل ما ورد فيه من أعلام وأماكن ووقائع وغيرها، ثم يعرضونها على ما ثبت عندهم من الأخبار، وما تقرر من قواعد الشريعة وأصولها وقواعدها العامة، وما عرف من أصول العادة في أحوال البشر، وبناء على ذلك يكون الحكم على الخبر.
ويمكن تفصيل ذلك من خلال القواعد الآتية:
أ- مراعاة أحوال الخبر واستحضار لوازمه وما يحتفُّ به من قرائن وملابسات
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ص 83.(35/20)
إن الأخبار والحوادث حلقات متصلة بعضها ببعض، فكل حدث له صلة بما بعده وما قبله، وكل واقعة لا تكون مستقلة بذاتها شاذة عن غيرها من الحوادث. ولهذا فإن التحقيق في الحدث التاريخي يوجب النظر فيه موصولا بغيره من الحوادث السابقة واللاحقة، مضموما إلى ما سواه من الأخبار والحوادث المتصلة بالزمان الذي يتعلق به، والمكان الذي يجري فيه.
ولهذا فإن الناقد من علماء الإسلام لا ينظر في الخبر معزولاً عن غيره، وإنما ينظر فيه آخذاً في الاعتبار كل ما يتصل به من الأخبار والحوادث، أي أنه يستحضر الإطار العام كله، فينظر في الخبر في انسجام مع الحوادث المتعلقة به سابقا ولاحقاً، وآخذاً بعين الاعتبار كل ما له صلة بالخبر المنظور فيه، وكل ما يتعلق بمضمونه وعناصره المتنوعة وكل ما يدخل في الظروف العامة للخبر. وإن هذه القاعدة – قاعدة استحضار ظروف الخبر ولوازمه- قاعدة عظيمة تدل على دقة مسلك النقد التاريخي عند علماء الإسلام، وتكشف تهافت ما تردد على بعض الألسنة من غفلة علماء الإسلام عن النقد الداخلي وفحص المتون، والاكتفاء بالنقد الخارجي المعتمد على أوصاف الرواة دون أحوال المتون.
وإن الظروف العامة للخبر متنوعة ومختلفة، ولا يمكن حصرها أو عدها، لأنها تختلف باختلاف الأخبار. فهي كل ما له تعلق بالخبر المنظور فيه من جهة موضوعه ومضمونه، ومن جهة الأطراف والعناصر المذكورة في الخبر، من أعلام وأشخاص ومواضع جغرافية، ومعالم حضارية وقيم فكرية ومعنوية.(35/21)
والخطوة الأولى لعملية استحضار الظروف العامة للخبر هي حصر العناصر التي يتكون منها الخبر، فيتم تقسيمه إلى وحدات بحسب عناصره المتنوعة، فقد تكون عناصر جغرافية إذا ذكر في الخبر بلد أو موقع، وقد تكون عناصر فكرية وثقافية إذا كان الخبر يتعلق بقضية فكرية وعلمية، وقد تكون أعلاماً إذا ورد فيه أسماء أشخاص، وغيرها من العناصر المتنوعة التي يمكن أن يتضمنها الخبر. وهذه العناصر قد تكون منها عناصر أساسية هي صلب الخبر. وقد تكون ثانوية لأنها إنما تذكر فيه عرضا. وبعد حصر العناصر الواردة في الخبر، يعمد الناقد إلى كل عنصر فيبحث عنه مفصلا في مصادره ومظانه. وكلما توسع الناظر في جمع ما يتعلق بالعناصر الواردة في الخبر، كان أكثر فائدة وأعظم لمعرفة حال الخبر المنظور فيه. مثال ذلك نقد العلماء لحديث صحيح من جهة رواته وإسناده وهو قول ابن عباس: "كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث أعطنيهن، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم"(1). ولفحص هذا الخبر عمد النقاد إلى البحث خارج الخبر عما عرف واشتهر عن عناصره التي وردت فيه وهي: أبو سفيان بن حرب، وبخاصة زمن إسلامه، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، ومعاوية بن أبي سفيان. ولما استحضر الأئمة ما عرف من أحوال هذه العناصر ظهر أن هذا الخبر لا ينسجم معها، لأن المعروف في أخبار السيرة أن أبا سفيان إنما أسلم عام الفتح، وأن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة كان قبل ذلك بسنين. وفي ذلك يقول النووي: "إن هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال، وهذا مشهور لا خلاف فيه، وكان النبي -
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي سفيان.(35/22)
صلى الله عليه وسلم - قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمن طويل"(1). ولهذا حكم ابن حزم لهذا الحديث بالوضع(2) .
ومثاله أيضاً نقد الحافظ ابن حجر لخبر أورده الواقدي وهو أن قدوم ضمام بن ثعلبة على النبي صلى الله عليه وسلم كان سنة خمس. ولفحص هذا الخبر استحضر الحافظ ابن حجر رحمه الله الظروف العامة المتعلقة بالخبر فرجع إلى ما ثبت من أخبار عن قوم ضمام بن ثعلبة، وأخبار الوفود وغيرها.وهذا ما بينه بقوله عن هذا الخبر: "لكنه غلط من أوجه: أحدها: أن في رواية مسلم أن قدومه كان بعد نزول النهي عن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدا. ثانيها: أن إرسال الرسل إلى الدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد فتح مكة. ثالثها: أن في القصة أن قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة. رابعها: في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم يدخل بنو سعد وهو ابن بكر بن هوزان في الإسلام إلا بعد وقعة حنين وكانت في شوال سنة ثمان … فالصواب أن قدوم ضمام كان سنة تسع"(3).
__________
(1) "شرح النووي على صحيح مسلم" 16/63.
(2) انظر "المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل" ص: 383.
(3) "فتح الباري" 1/152.(35/23)
ومن أمثلة ذلك أيضا نقد الخطيب البغدادي لخبر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجزية عن يهود خيبر، وكتب لهم عهدا بذلك، وأمر الإمام عليا بالكتابة، وأشهد سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان. فهذه وثيقة تاريخية يراد فحصها ونقدها. فلما نظر الخطيب البغدادي في الوثيقة قال: هذا مزور، قيل له وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن فيه شهادة سعد بن معاذ، وقد مات قبل فتح خيبر، وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان، وإنما أسلم عام الفتح بعد فتح خيبر(1). وإنما عرف الخطيب البغدادي زور هذه الوثيقة وعدم صحتها لما اعتبر بما يتصل بالعناصر الواردة في مضمونها، وبالظروف العامة التي ترجع إليها. فقد استحضر ما يتصل بالوثيقة من أخبار السيرة النبوية، مثل فتح خيبر، وعلاقة النبي صلى الله عليه وسلم باليهود، وأخبار الصحابة خاصة تواريخ وفياتهم وزمن إسلامهم وحضورهم الغزوات والمشاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستحضر أيضا أحكام الجزية في الإسلام فظهر له أن الوثيقة مجافية لجميع ذلك، فهي شاذة عن التوجه العام للمجتمع الإسلامي في عهد النبوة. وزاد ابن قيم الجوزية في العناصر المعتدّ بها، في قوله:" … إن الجزية لم تكن نزلت حينئذ ولا يعرفها الصحابة ولا العرب، وإنما نزلت بعد عام تبوك… إن فيه " وضع عنهم الكلف والسخر" ولم يكن في زمانه كلف ولا سخر ولا مكوس… إن أهل خيبر لم يتقدم لهم من الإحسان ما يوجب وضع الجزية عنهم، فإنهم حاربوا الله ورسوله وقاتلوا أصحابه، وسَلُّوا السيوف في وجوههم، وَسَمُّوا النبي صلى الله عليه وسلم، وآووا أعداءه… إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسقطها عن الأبعدين مع عدم معاداتهم له كأهل اليمن… ليس في الصحابة رجل واحد قال: لا تجب الجزية على الخيبرية"(2). فانظر: كيف يتحرك نظره رحمه
__________
(1) انظر " الوافي بالوفيات" 1/44-45، " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ" ص: 26.
(2) "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" ص: 94-97.(35/24)
الله خارج الوثيقة، وكيف ينتقل بين الأخبار المختلفة والحوادث المتنوعة، فينظر في الوثيقة مع اتساع نظره لينتشر خارجها ويستوعب كل ما يتصل بها، ويحتف بها من أخبار السيرة وأحكام الإسلام وشرائعه المتصلة بمضمون الوثيقة، وهي أحكام الجزية وعلاقة المسلمين بأهل الكتاب عامة واليهود خاصة. ومن أمثلة ذلك أيضاً: ما فعله الإمامان أبو الفتح بن سيد الناس وشمس الدين الذهبي في فحص خبر بحيرى الراهب وهو عن أَبِي مُوسَى الأشعري. قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلا يَلْتَفِتُ قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ فَقَالَ إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلا حَجَرٌ إَِلا خَرَّ سَاجِدًا وَلا يَسْجُدَانِ إِلا لِنَبِيٍّ وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ قَالَ أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ. فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ(35/25)
الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ. فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا؛ إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا فَقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ قَالُوا إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ. فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلالاً وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ*(1). قال ابن سيد الناس: "في متنه نكارة وهي إرسال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً، وكيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسنُّ من أبي بكر بأزيد من عامين، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة أعوام على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره، واثنا عشر على ما قاله آخرون، وأيضا فإن بلالاً لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، فإنه كان لبني خلف الجمحيين، وعندما عذب في الله على الإسلام اشتراه أبو بكر رضي الله
__________
(1) الخبر عند الترمذي في جامعه، كتاب المناقب، باب ما جاء في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والحاكم في المستدرك 2/615 والطبري في تاريخه 2/277-278.(35/26)
عنه رحمة له واستنقاذاً له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور"(1).
فقد نظر ابن سيد الناس في الخبر مع استحضار الأخبار المتصلة به والظروف العامة المحيطة به، وهي أخبار أبي بكر وتاريخه، وبلال بن رباح وعلاقته بأبي بكر وتاريخ عتقه، فتبين له أن الخبر لا يستقيم، ولو حصر نظره في الخبر منفرداً معزولاً عن غيره ما اجتمعت له هذه الفوائد.
وتبع أبا الفتح بن سيد الناس في ذلك الإمام شمس الدين الذهبي وزاد عليه في تفصيل نقد الخبر من داخله فقال:"… وأيضا فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة، لأن ظل الغمامة يعدم في الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبا طالب قط بقول الراهب، ولا تذاكرته قريش ولا حكته الأشياخ مع توافر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار، ولبقي عنده صلى الله عليه وسلم حس من النبوة، ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولا بغار حراء وأتى خديجة خائفا على عقله، ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه. وأيضا فلو أثر هذا الخوف في أبي طالب ورده كيف كانت تطيب نفسه أن يمكنه من السفر إلى الشام تاجرا لخديجة؟"(2) ولهذا حكم الذهبي على الخبر بقوله: "أظنه موضوعا وبعضه باطل"(3) فانظر سعة نظر الذهبي رحمه الله، وانتشار فكره خارج الخبر المنظور فيه ليستحضر وقائع بعيدة في الظاهر عن خبر بحيرى، لكن بالتدبر يظهر فائدتها في فحص الخبر. فبادئ النظر لا يجد وجها للصلة بين خبر بحيرى وبين دخول النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة بعد أن جاءه الوحي بحراء. وأيضا ما وجه الصلة بين خبر بحيرى وذهاب النبي إلى الجبال ليرمي نفسه؟ فهذه الوقائع تبدو بعيدة عن هذا الخبر، ولهذا فهي مظنة الغفلة عنها، ولن يستحضرها إلا من فطن لفائدتها
__________
(1) "عيون الأثر" 1/55.
(2) "السير" للذهبي 1 / 49، وانظر " السيرة النبوية الصحيحة" 1/107-108.
(3) "تلخيص المستدرك" بهامش المستدرك 2/615-616.(35/27)
وصلتها بالخبر المنظور فيه. ففي هذه الأمثلة يظهر كيف كان علماء الإسلام ينقدون متون الأخبار اعتمادا على الظروف العامة واللوازم والملابسات.
ومن فوائد استحضار الظروف العامة معرفة كون الخبر منسجما مع غيره من الأخبار والوقائع المعروفة المقررة، أو معارضته لذلك، فإن وجد ما يعارضه من الوقائع والأخبار الثابتة فإنه يكون موضعا للتوقف في صحته، أو يرد بالمرة، ولهذا يحرص النقاد – وهم ينظرون في متن الخبر- على استحضار ما قد يكون معارضا للخبر محل البحث والنظر، وهو ما يمكن تسميته باستحضار معارض الخبر.
ب- استحضار معارض الخبر
لقد نص المحدثون من علماء الإسلام على أن النظر في الخبر الواحد لتحقيقه وفحصه، تستصحب معه الأخبار التي تعارضه حقيقة أو ظاهرا، لأنه قد يكون في الوقائع المقررة ما قد يعارضه، أو يرد في أخبار أخرى ما قد يشوش عليه. ولهذا فقد أفرد المصنفون في مصطلح الحديث نوعين لمعارض الحديث وهما معرفة الناسخ والمنسوخ من الحديث، ومعرفة مختلف الحديث.(35/28)
وقد طبق النقاد هذا المنهج فكانوا ينظرون: لعل للخبر ما يناقضه.وإن هذا المنهج مقرر في مناهج النقد التاريخي عامة، وليس فقط في مجال الحديث والسيرة النبوية. فالواجب على المؤرخ الناقد - وهو ينظر في الخبر- أن يستحضر احتمال وجود خبر يعارضه، ينفي ما يثبته، أو يثبت ما ينفيه. ولهذا فالواجب عليه أن ينتشر بحثه ويتسع نظره خارج الخبر، فإن وجد له معارضا وجب ضمه إليه. "فقد تتعدد الروايات التاريخية في أمر واحد، فتتوافق أو تتناقض، وحيث تتناقض يحسن بالمؤرخ أن يؤكد بادئ ذي بدء وقوع التعارض".(1) ثم عليه في هذه الحال الترجيح بين الخبرين. فلا يجوز بحال للمؤرخ أن يقتصر على خبر واحد له ما يعارضه. ولهذا نجد ابن جرير الطبري – وهو من أشهر من ألف في التاريخ - قد يورد في تاريخه الروايات المتناقضة في الحدث الواحد، في موضع واحد من كتابه(2)، وقصده من ذلك التيسير على المؤرخ الناقد ليعتبر هذه الروايات بعضها ببعض فيجتهد في الترجيح. ثم إن المؤرخ لا ينزل الخبر الذي له معارض منزلة الخبر الذي لم يجد له معارضاً.
وهذا الأصل - كما تقدم - راسخ عند علماء الحديث حتى عَدُّوه نوعاً من مصطلح الحديث سموه "مختلف الحديث".
__________
(1) "مصطلح التاريخ" ص: 86.
(2) "انظر " مصادر السيرة النبوية وتقويمها" للدكتور فاروق حمادة، ص: 111.(35/29)
ومن أمثلة استحضار معارض الخبر في نقد أخبار السيرة النبوية أن البخاري أخرج في صحيحه(1) حديث ابن عباس: "تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم". والحديث من جهة إسناده صحيح ثابت عن ابن عباس، ومع ذلك فإن الحافظ ابن حجر لم يقتصر عليه، وإنما بحث له عن معارض فوجد أحاديث تعارضه، ونقل عن العلماء أقوالاً في بيان وقوع التعارض وفي الترجيح. مما ذكر من ذلك قول ابن عبدالبر:"اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوجها وهو حلال، جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم من الواحد أقرب من الوهم من الجماعة، فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد".(2)
__________
(1) كتاب النكاح، باب نكاح المحرم. ( فتح الباري 9/165)
(2) "فتح الباري" 9/165-166.(35/30)
ومما حصل فيه التعارض أيضاً في سيرة الخلفاء الراشدين المهديين بيعة عليٍّ أبا بكر رضي الله عنهما، ففيه روايات أنه من أول من بايع كما بايع غيره من الصحابة في السقيفة، وفيه أنه بايع مرتين، وفيه أنه لم يبايع إلا متأخراً. فلا يجوز للمؤرخ أن يقف على رواية دون أخرى، وإنما الواجب ضم الروايات بعضها إلى بعض والترجيح بينها. من هنا يظهر لنا القصور الكبير الذي وقع لكثير من المصنفين في السيرة النبوية وتاريخ الإسلام في العصر الحديث، عندما يظفرون برواية فيوردونها مقتصرين عليها، والحال أن ما يعارضها أكثر عدداً وأقوى درجة. من ذلك مثلا أن هناك رواية نقلها غير واحد من المؤرخين، واعتمدها كثير من الباحثين المعاصرين دون شك أو تردد، وهي أن عثمان بن عفان في خلافته نفى أبا ذر إلى الربذة لمعارضته توسع الصحابة، وبخاصة الولاة، في الأموال واقتناء متاع الدنيا. وقد بنى غير واحد من الباحثين المحدَثين من المستشرقين وغيرهم على هذه الرواية أحكاماً خطيرة منها أن عثمان قد اشتط في السلطة وقرب عشيرته وأجزل لهم العطاء، وغض الطرف عن ظلمهم واغتنائهم بسبب الولاية والسلطة، وأنه لحماية هذا الوضع كان لا يتردد في إنزال العقاب بمن يخالفه، فكان يضرب خيار الصحابة وينفيهم. انظر من ذلك قول أحدهم وهو يتحدث عن مالية الدولة في عهد عثمان: "فقد رأى فيها عثمان رضي الله عنه والولاة من أقاربه وفي مقدمتهم معاوية رضي الله عنه أن المال مال الله الموكول إليهم للتصرف فيه، كيفما شاؤوا، بينما رآه آخرون، وعلى رأسهم الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه مال المسلمين، وللمسلمين الحق في مراجعة الخليفة بشأنه ومحاسبته عليه".(35/31)
ويقول أيضاً: "هذا الفهم العثماني لطبيعة السلطة هو الذي دفع عثمان رضي الله عنه إلى التخشن في معاملة كثيرين من خيار الصحابة مثل عبدالله ابن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر رضي الله عنهم، فضرب بعضهم ونفى بعضهم الآخر."(1) وإن المنهج التاريخي في التعامل مع الروايات لا يجيز تفسير الرواية وقبولها وبناء الأحكام عليها، إلا بعد إثبات سلامتها من المعارضة، أو بيان أن الروايات المعارضة مرجوحة لا تقوم أمامها، وفي هذه الحالة يجب الإشارة إلى الروايات المرجوحة. ولا تجد أثرا لذلك عند هؤلاء الباحثين، وإنما يذكرون هذه الرواية الوحيدة، ويوردونها وكأنها من البدهيات المسلمة التي لا معارض لها بوجه من الوجوه، ولو معارضة ضعيفة. وهذه – كما لا يخفى، ومن دون أدنى شك - مخالفة صريحة وخيانة واضحة لمنهج النقد التاريخي، القائم، من بين ما يقوم عليه على اعتبار الروايات المتعارضة ومقابلة بعضها ببعض.
__________
(1) انظر " نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي" لعبدالعظيم الديب، ص: 174، 179.(35/32)
وإعمال هذه القاعدة في هذا الخبر يوجب البحث في المصادر التاريخية والتفتيش في سائر مظان الرواية التاريخية، لعل هناك ما يعارضها. وإن هذه الرواية إذا كانت تذكر أن عثمان بن عفان نفى أبا ذر وأخرجه من المدينة إلى الربذة، فإن هناك روايات أخرى تنفي ذلك وتثبت خلافه، منها ما أخرجه البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال:كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في( ? ( ( ( ( ( ( ( ( (، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. قلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن اقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت وكنت قريباً. فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا علي حبشياً لسمعت وأطعت(1). ورواية أخرى أوردها الحافظ ابن حجر وعزاها إلى أبي الحسن بن جدلم في فوائده عن عبدالله بن الصامت قال: "دخلت مع أبي ذر على عثمان فحسر عن رأسه فقال: والله ما أنا منهم، يعني الخوارج. فقال: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة. قال نعم."(2) ورواية أخرى أوردها الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب "العواصم من القواصم" لابن العربي، وعزاها إلى القاضي أبي الوليد بن خلدون وهي أن أبا ذر استأذن عثمان في الخروج من المدينة وقال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً، فأذن له ونزل الربذة وبنى بها مسجداً، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقاً، وكان يتعاهد المدينة".(3) وإن أيَّ مؤرخ محقق يريد
__________
(1) البخاري: كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز.
(2) "فتح الباري" 3/274.
(3) " العواصم من القواصم" ص: 88، تعليق رقم 92، وانظر " حلية الأولياء" 1 / 160.(35/33)
أن يسجل في تاريخه خروج أبي ذر إلى الربذة وسببه، يفترض فيه أن يضع هذه الروايات جميعاً بين يديه، فينظر فيها على الاجتماع ثم يرجح ما تؤيده الشواهد بحسب الاعتبارات الأخرى. ومن اكتفى برواية دون غيرها، وأغفل الروايات المعارضة، فمثله مثل القاضي الذي استمع إلى شهادة شاهد واحد، وتجاهل أمثاله من الشهود الذين يخالفونه في شهادته.
ويجب التنبيه هنا على أن المعارضة قد تكون صريحة، كما في هذه الروايات في خروج أبي ذر إلى الربذة، وقد تكون غير صريحة، كأن يكون الخبر يتعلق بحادثة أخرى غير الحادثة التي يتعلق بها الخبر المنظور فيه أولا، لكنه بالتأمل والتدبر تظهر معارضته له في جهة من جهاته. مثال ذلك أن رواية فيها أن علي بن أبي طالب وبني هاشم رفضوا بيعة أبي بكر. فقد وردت روايات تعارضها معارضة صريحة. وهناك أخبار تعارضها، لكنها ليست صريحة في ذلك لأنها ليست في موضوع البيعة، وإنما في موضوع آخر بعيد عن ذلك، وهي سائر أخبار علي بن أبي طالب وأحواله وأعماله ومواقفه في سائر الأحداث التي شهدها زمن أبي بكر.
ومن هذه الأخبار:
- أن علياً لم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلف أبي بكر الصديق.
أن علياً خرج مع أبي بكر إلى ذي القصة لما خرج إليها لقتال المرتدين.
لم يتخلف علي بن أبي طالب عن مشهد من المشاهد التي شهدها عامة الصحابة مع أبي بكر في خلافته.
فهذه الأخبار - وإن لم تكن في بيعة علي أبا بكر أو عدم بيعته- فإنها تتصل بذلك؛ لأن ما تفيده يعارض أن يكون علي قد رفض بيعة أبي بكر، فلو رفضها فكيف يشهد الصلوات خلفه، وكيف يخرج معه إلى الجهاد؟، وكيف يحضر المجالس التي يجلس فيها أبو بكر خليفة يبتُّ في أمور الدولة؟.(35/34)
فهذه الأخبار ليست صريحة في المعارضة، لكن مضمونها لا ينسجم مع هذه الرواية. والاعتبار بالمعارض غير الصريح يلتقي مع الاعتبار بالظروف العامة للخبر وبكل ما له صلة به، لأن هذه الأخبار المعارضة إنما تعرف من خلال استحضار ظروف الخبر وما يتصل به.
فلابد للناقد إذن من الالتفات إلى كل ما يعارض الخبر المنظور فيه معارضة صريحة أو ضمنية، وعلى هذا المنهج سار النقاد من علماء الإسلام كما يظهر من الأمثلة المتقدمة.
ج- تحكيم قواعد العادة وسنن الكون والحياة(35/35)
لقد تقرر عند المحدِّثين أن من علامات الحديث الموضوع فساد معناه ومخالفته الصريحة لمقتضيات العقول السليمة، ومناقضته لقواعد العادة التي فطر الله عليها البشر. يقول ابن الجوزي:" ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع"(1) وورد أيضا قولهم" من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفا للعقل…ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة… أو يكون خبرا عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع ثم لا ينقله منهم إلا واحد".(2) وقد اعتمد النقاد من علماء الإسلام هذا المنهج في تحقيق أخبار السيرة النبوية. لكن يجب التنبيه في هذا المقام على مسألة مهمة تتصل بهذا الموضوع وهي أن هناك أخبارا في السيرة النبوية في بيان معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنظر فيها بهذا المنظار إبطال لما ثبت قطعا من النبوة والرسالة، وإنما يشترط في ذلك أن يكون النقل نقل الثقة في دينه، العاقل الضابط لما يحدث به، وألا يوجدَ من أمثاله المعاصرين له، مَنْ ينكر ذلك، أما من سوى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل ذلك عنه كائناً من كان حتى يتفق مع قوانين الكون والحياة وقواعد العادة.(3) ومعنى ذلك أن رد ما يخالف قواعد العادة من أخبار السيرة النبوية ليس على إطلاقه، وإنما هو خاص بالأخبار التي ليست في سياق دلائل النبوة. فإذا ورد خبر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصه الله بما لا يخص به غيره من التصرفات التي هي على خلاف العادة، وثبت ذلك بالسند الصحيح عن الثقات الأثبات، فإنه يقبل دون تردد، لأن الله تعالى خص نبيه صلى الله عليه وسلم بالوحي، فكيف لا يخصه بما دون ذلك من خوارق العادات؟ أما ما سوى ذلك فقد عمل فيه النقاد بهذا المنهج. والشواهد
__________
(1) "تدريب الراوي في شرح تقريب النووي" للسيوطي 1 / 277.
(2) المصدر نفسه 1 / 276.
(3) انظر "المنهج الإسلامي في الجرح و التعديل" ص 133، هامش 142.(35/36)
على ذلك كثيرة منها ما تقدم في خبر بحيرى الراهب، فقد حكم قواعد العادة وسنن الحياة وقوانين الاجتماع الإنساني، يظهر ذلك من بيانه عدم اشتهار هذا الخبر مع أن دواعي العادة توجب اشتهار مثله لأنه خطير في أمره عظيم فيما يدل عليه، بل كيف يغيب هذا حتى على صاحب الخبر نفسه صلى الله عليه وسلم، فلا يذكره، ولو في حال حاجته إليه؟ ويتجلى ذلك أيضا في إنكار الذهبي أن يميل فيء الشجرة مع وجود ظل الغمامة؛ فقواعد العادة وسنن الحياة لا تؤيد ذلك.
د- استحضار الكليات وتحكيم الأصول القطعيات(35/37)
ومعنى ذلك أن الناقد الفاحص لخبر من الأخبار لا تغيب عنه أصول الشريعة وأحكامها الكلية وما ثبت منها من القطعيات. فكل خبر يجب أن ينسجم مع أصول الشريعة. وكل خبر يناقض أصلا مقررا بالقطع في الشريعة يحكم عليه بالرد من غير تردد. ولهذا رد علماء الإسلام أخباراً وردت في السيرة، لما رأوها تعارض ما تقرر من عصمة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الأصل يوجب رد كل خبر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لصنم، أو مدحه أو أقر باطلا أو نحو ذلك مما لا يتفق مع أصل العصمة. وعلى هذا المنهج رد المحققون خبر قصة الغرانيق. وفيه: أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم مدح آلهة العرب وهي اللات والعزى ومناة. ففي بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه يومئذ، فأنزل الله:( ? ( ( ([النجم:1] فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله:( ( ( ( ( ( ( ( ([النجم: 19–20] ألقى الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى … وقد رد النقاد هذا الخبر من جهات مختلفة، منها مناقضته لما ثبت بالقطع من أحكام الشريعة وأصول الملة. وفي هذا المعنى يقول ابن العربي المعافري في نقد الخبر: "اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من يتفضل به على من يشاء، ويصرفه عمن يشاء… ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغمَّاءَ، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء في عشرة مقامات:
المقام الأول:(35/38)
أن النبي إذا أرسل الله إليه المَلَك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به حتى يتحقق أنه رسول من عنده، ولولا ذلك ما صحت الرسالة ولا تبينت النبوة… ولو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري أملك هو أم إنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاما وبلغت إليه قولا، لم يصح له أن يقول إنه من عند الله ولا ثبت عندنا أنه أمر الله…ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها، ولو جاز للشيطان أن يتمثل فيها أو يتشبه بها، ما أمناه على آية ولا عرفنا منه باطلا من حقيقة، فارتفع بهذا الفصل اللبس وصح اليقين في النفس.
المقام الثاني:
أن الله قد عصم رسوله من الكفر وآمنه من الشرك، واستقر ذلك في دين المسلمين بإجماعهم فيه وإطباقهم عليه، فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله أو يشرك فيه طرفة عين، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال، فضلاً عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد.
المقام الثالث:
أن الله قد عرف الرسول بنفسه وبصره بأدلته وأراه ملكوت سمواته وأرضه، وعرفه سنن من كان قبله من إخوته، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشي مكباً على وجهه غير عارف بنبيه ولا بربه.
المقام الرابع:
تأملوا – فتح الله أغلاق النظر عنكم - إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ممن صرح بعداوته، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل عليه من الله وحي، فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه وسلم آثر وَصْلَ قومه على وَصْلِ ربه، وأراد ألا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من ربه الذي كان حياة جسده وقلبه وأنس وحشته وغاية أمنيته! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، فإذا جاءه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فيؤثر على هذا مجالسة الأعداء.!
المقام الخامس:(35/39)
… وأنا من أدنى المؤمنين منزلة، وأقلهم معرفة بما وفقني الله له… لا يخفى علي وعليكم أن هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله(1) فهذه - كما لا يخفى - كلها أصول مقررة في الشريعة جعلها ابن العربي حكما تعرض عليه الأخبار. بعد أن أقام رحمه الله الحجة على بطلان خبر الغرانيق، واستحالة وقوعه لمناقضته أصول الشريعة، عبر عن هذا المنهج الذي اعتمده وأوصى به من أراد التحقيق فقال: "وقد أوعدنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم وحروفه أمامكم".(2) وذلك لأن القرآن والسنة الصحيحة هما الأصل المعتمد في معرفة أصول الشريعة وكلياتها.
خاتمة
هذه هي الخطوات التي سار عليها علماء الإسلام لتحقيق أخبار السيرة النبوية، وهذه هي جهودهم في فحصها وتمييز الصحيح منها من الضعيف. وخلاصة هذا المنهج هو النظر في الخبر مع استحضار جميع مخارجه وطرقه، واستقصاء مظانه ومصادره التي ورد فيها مع وضع كل مصدر في موضعه بحسب قوة منهج النقد أو ضعفه، والالتفات إلى أحوال الرواة والمؤرخين الذين نقلوا الخبر، والاعتداد بكل ما يتعلق به وبمضمونه من الظروف العامة، واللوازم، والاهتداء بقواعد العادة وسنن الكون والحياة والإنسان، وعدم الغفلة عن كل ما يعارضه من الأخبار والحوادث، وتحكيم أصول الشريعة وقواعدها القطعية.
المصادر والمراجع
1- "أحكام القرآن" أبو بكر محمد بن عبدالله ابن العربي -(ت:543). تحقيق علي محمد البجاوي- دار المعرفة.
2- "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ". شمس الدين السخاوي. نشر فرانز روزنتال.
3 – "تأويل مختلف الحديث" أبو محمد ابن قتيبة. ط: 1. 1405ه – 1985 دار الكتب العلمية.
4 - "تدريب الراوي". السيوطي. 1409ه/1988م دار الفكر.
5 - "تهذيب التهذيب" أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852). ط: 1. 1404ه/1984م دار الفكر.
__________
(1) أحكام القرآن 3 / 1300 – 1301.
(2) نفسه 3 / 1303.(35/40)
6 – "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع". الخطيب (ت463) تحقيق د.محمود الطحان.- 1403ه-1983م مكتبة المعارف الرياض.
7 - "السنن للترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي".
8 - "سنن ابن ماجه: 1395ه-1975م دار إحياء التراث العربي.
9 - "سنن النسائي" بشرح الحافظ السيوطي وحاشية الإمام السندي: دار إحياء التراث العربي بيروت.
10 - "السيرة النبوية الصحيحة" الدكتور أكرم ضياء العمري. ط:6-1415ه-1994م مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة.
11 - "صحيح البخاري بشرح فتح الباري" للحافظ ابن حجر– دار الفكر.
12 - "صحيح مسلم" مسلم بن الحجاج (ت.261) ط: 1- 1374ه – 1955م دار إحياء الكتب العربية.
13- "شرح صحيح مسلم" أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت:676) دار الكتب العلمية.
14- " العواصم من القواصم" لأبي بكر بن العربي. (ت: 543). حققه وعلق حواشيه الشيخ محب الدين الخطيب. ط:1- 1405ه. دار الكتب السلفية.
15- "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" أبو الفتح محمد ابن محمد بن سيد الناس اليعمري الأندلسي (ت.734) ط. 3: 1402ه/1982م. دار الآفاق الجديدة.
16- "فتح الباري" أحمد بن علي بن حجر. دار الفكر.
17 – "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي.ط: 2، دار التراث العربي.
18 - "المدخل إلى التاريخ" نور الدين حاطوم- نبيه عاقل.
19 – "المستدرك على الصحيحين" الحاكم أبو عبدالله النيسابوري. دار المعرفة- بيروت.
20 - "مسند الإمام أحمد بن حنبل". الطبعة المصرية 1306ه.
21 - "مصطلح التاريخ" د. أسد رسم. ط:1-1984م منشورات المكتبة البولسية بيروت.
22 – "مصادر السيرة النبوية وتقويمها" فاروق حمادة.ط:2. دار الثقافة.
23-"معرفة علوم الحديث" الحاكم أبو عبدالله النيسابوري. اعتنى بنشره السيد معظم حسين. ط: 2. 1397ه – 1977 م. دار الكتب العلمية.(35/41)
24-"مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث" ابن الصلاح الشهرزوري. توثيق وتحقيق عائشة عبدالرحمن. 1974م – مطبعة دار الكتب.
25 -"المنار المنيف في الصحيح والضعيف" شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت.751) – 1408ه/1988م دار الكتب العلمية.
26-"منهج كتابة التاريخ الإسلامي مع دراسة لتطور التدوين ومناهج المؤرخين" محمد بن صامل العلياني السلمي. ط:1 1406ه/ 1986م. دار طيبة الرياض.
27- "المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل". فاروق حمادة. ط: 2.
28- "نحن والتاريخ" قسطنطين زريق ط:3 نيسان 1974م.
29-"الوافي بالوفيات"خليل بن أيبك الصفدي.ط:2 1394ه/1974م دار النشر فرانز شتاير.
فهرس الموضوعات
تمهيد…1
1- استقصاء مصادر الخبر وطرقه ورواته وألفاظه وصيغه:…4
2- تحكيم علم الرجال وقواعد الجرح والتعديل:…9
1- معرفة الصحيح والضعيف…12
2- اكتشاف كذب الرواة:…13
3- ترتيب مصادر الأخبار بحسب قوتها:…16
4- النقد الداخلي للأخبار.…23
أ- مراعاة أحوال الخبر واستحضار لوازمه وما يحتفُّ به من قرائن وملابسات…24
ب- استحضار معارض الخبر…32
ج- تحكيم قواعد العادة وسنن الكون والحياة…32
د- استحضار الكليات وتحكيم الأصول القطعيات…32
المقام الأول:…32
المقام الثاني:…32
المقام الثالث:…32
المقام الرابع:…32
المقام الخامس:…32
خاتمة…32
المصادر والمراجع…32
فهرس الموضوعات…32(35/42)
حُجيَّة خبر الآحاد في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور
عامر حسن صبري
أُستاذ الحديث النبوي وعلومه
بجامعة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من رحمة الله عز وجل بخلقه أن أرسل سيدنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن دستوراً ونوراً للأمة ومنهاجاً يضيء طريقها، وجعل رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم - في مقام الشارح للكتاب والمبيِّن له. ولقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك خير قيام، فتولى تفصيل مجمله وتقييد مطلقه وتخصيص عامه، وربما ذهب في البيان إلى ما لم يتناولْهُ كتاب الله عز وجل مما يدخل في نطاق مهمته الربانية رسولاً يوجه الأمة إلى الخير، سبيله في ذلك عليه الصلاة والسلام قول يخاطب به الصحابة معبرِّاً فيه عن قصده، أو فعل يوضح لهم به مراده، أو موقف بدا منه على الرضا عن قول أو فعل صدر من أصحابه أو بلغه عنهم فيقرهم عليه برضاه عن ذلك القول أو الفعل وسكوته عليه، فهذه الممارسات الثلاث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي التي يُعبرَّ عنها بالسنة أو بالحديث النبوي(1).
ومن هنا تتحدد طبيعة العلاقةِ القائمة بين الكتاب والسنة؛فالسنة النبوية تفصِّل مجمل القرآن، وتقيِّد مطلقه، وتخصص عامَّه، وتشرح وتبين ما يحتاج منه إلى بيان، وذلك مصداقاً لقول الله عز وجل: ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( [ النحل: 44 ].
__________
(1) هذا هو تعريف الأصوليين للسنة، أما عند المحدثين فهي: ( ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خُلقية سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها ).(36/1)
والله عز وجل اختار نبيه عليه الصلاة والسلام للرسالة وحمله الأمانة وعصمه من الزلل فيما بلغه عن ربه من قرآن، وفيما نطق به من قول، أو صدر عنه من فعل، أو أَقَرَّ عليه أصحابه مما يدخل في مجال التشريع؛ لأن كل ذلك من عند الله: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النجم: 3،4]. ولذلك أوجب طاعته وقرنها تعالى بطاعته، فقال عز وجل: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [النساء: 59].
وقال تعالى: ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( [ النور: 54 ].
ورتب على طاعته الجزاء الوفير فقال سبحانه: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 71]. وحذر الله من مغبة المخالفة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [ النور: 63 ].
وتوعد على معصيته وأخبر بعقوبة من عصاه فقال: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء: 14]. وقال: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 66].
ونبه عباده أن يكونوا عند أمر الرسول ونهيه فقال: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [ الحشر: 7 ].
وأقسم الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يكون المؤمنون مؤمنين حقاً حتى يرتضوه حكماً فيما بينهم، وأن يتلقوا حكمه بغاية الإذعان الذي لا تكلف فيه ولا تصنع، وإنما هو نابع عما انعقد عليه القلب من ولاء وتسليم، فقال عز وجل: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (
[النساء:65]. وقد أجمع العلماء على أن هذا التحاكم يكون بعده إلى سنته. فمن هذا المنطلق وبهذا الاعتبار نقرر أن السنة النبوية الصحيحة مع القرآن الكريم في مرتبة واحدة من حيث الاحتجاج بهما في الأحكام الشرعية، فإنها وحي مثله، فيجب القول بعدم تأخرها عنه في الاعتبار(1).
__________
(1) انظر كتاب ((حجية السنة)) للشيخ عبد الغني عبد الخالق رحمه الله، فقد أكد هذا المعنى وأجاد في إثباته أيّما إجادة.(36/2)
وقد قام الأئمة بخدمة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير قيام، وأولوه الرعاية والعناية، وبذلوا أقصى ما في الوسع الإنساني احتياطاً لدينهم وشريعتهم أن يدخل فيها ما ليس منها، وكان من نتاج ذلك وضع قواعد مصطلح الحديث، وقواعد علم الجرح والتعديل؛ تلك القواعد التي كفلت لهم التمييز بين الصحيح وغيره، وهذه القواعد نجدها مبثوثة في كتب أصول الرواية وعلوم الحديث وتاريخ الرجال.
وكان من أهم موضوعات علم مصطلح الحديث: تقسيم الحديث من حيث طرق وصوله إلينا إلى قسمين رئيسين، هما: المتواتر والآحاد. وسنتكلم على هذين القسمين وأنواعهما، وحجية كل نوع. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
أولاً: المتواتر
وهو: ما رواه جمع تحيل العادة تواطؤَهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه، وشروط التواتر ما يلي:
عدد كثير تحيل العادة اجتماعهم على الكذب.
أن تكون هذه الكثرة في جميع طبقات السند.
أن يكون مستند خبرهم الحس، كقوله سمعنا أو أخبرنا، أما إذا كان مستندهم العقل كحدوث العالم مثلا، فلا.
فإذا اختل شرط من شروط التواتر، في أي طبقة من طبقات السند فلا يسمى متواتراً، وإنما هو آحاد.
والمتواتر قسمان:
لفظي، وهو: ما تواتر لفظه ومعناه. ومن أمثلته:
حديث ((?من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) فقد رواه نحو مائة من الصحابة كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(1)، ونقله عنه السخاوي في فتح المغيث(2). وقد جمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتابه «الموضوعات» فجاوز تسعين طريقاً.
معنوي، وهو: ما تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه.ومن أمثلته:
__________
(1) فتح الباري 1 / 203.
(2) فتح المغيث 3 / 41 – 42.(36/3)
أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أكثرُ من خمسين حديثاً فيه رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك منها - وهو الرفع عند الدعاء – تواتر باعتبار المجموع، وقد جمع طرقها الإمام السيوطي في كتاب سماه ( فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء ).
ما يفيده المتواتر:
اتفقت كلمة العلماء على أنه يفيد العلم القطعي الضروري لا النظري، لذا لا يصح إنكاره ولا البحث عن استدلاله لأنه ثابت قطعاً.
قال الإمام الغزالي في المستصفى: ((أما إثبات كون المتواتر مفيداً للعلم فهو ظاهر، خلافاً للسُّمنِيَّة(1)حيث حصروا العلم في الحواس وأنكروا هذا. وحصرهم باطل... أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري، فإنا نقول: النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض... ونحن لا نجد أنفسنا شاكّين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله...))(2) الخ كلامه. وقال الشوكاني في إرشاد الفحول: ((وقد اختلف في العلم الحاصل بالتواتر هل هو ضروري أو نظري؟ فذهب الجمهور إلى أنه ضروري، وقال الكعبي وأبو الحسين البصري: إنه نظري... والحق قول الجمهور...))(3) إلى آخر كلامه.
قلت: والكعبي وأبو الحسين البصري هما من المعتزلة.
__________
(1) في القاموس: السمنية (كعُرَنِيَّة)، قوم بالهند دهريون قائلون بالتناسخ أهـ.
وجاء في كتاب (( القول الأصيل فيما في العربية من الدخيل )) للدكتور ف. عبد الرحيم ص: 12: (( أن كلمة سمن لقب لبوذا، وضبطت الكلمة بضم وفتح كعُرنية في القاموس. وصوابها: بفتحتين كعَرَنية. وهو كذلك في بعض نسخ القاموس كما ذكر الزبيدي في تاج العروس )).
(2) المستصفى 1 / 132 – 133.
(3) إرشاد الفحول ص 46.(36/4)
وقال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: ((المتواتر، وهو المفيد للعلم اليقيني... واليقين: هو الاعتقاد الجازم المطابق، وهذا هو المعتمد: أن الخبرَ المتواتر يفيدُ العلم الضروري، وهو الذي يضطر الإنسان إليه، بحيث لا يمكنه دفعه، وقيل: لا يفيد العلم إلا نظرياً؛ وليس بشيء؛ لأن العلم المتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي، إذ النظر: ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون، وليس في العامي أهلية ذلك، فلو كان نظرياً لما حصل لهم، ولاح بهذا التقرير الفرق بين العلم الضروري والعلم النظري، إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلال، والنظري يفيده ولكن مع الاستدلال على الإفادة، وأن الضروري يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلا لمن فيه أهلية النظر...))(1) إلى آخر كلامه.
وبهذا يتبين أن المتواتر يفيد العلم الضروري اليقيني عند عامة المسلمين خلافاً لبعض المعتزلة، وبعض الفرق الضالة، وهذه الإفادة اتفق عليها علماء الحديث والفقه والأصول والعقيدة وغيرهم.
ثانياً: الآحاد
وهو: ما لم يجمع شروط المتواتر المتقدمة أو أحدها، سواء كان رواته واحداً أو عدداً.
وينقسم الآحاد باعتبار عدد طرقه ورواياته إلى ثلاثة أقسام:
الغريب، وهو: ما ينفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، وقد يعبر علماء الحديث عنه بالفرد.
ومثاله: حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) فقد تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يرويه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا يرويه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا يرويه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر الحديث.
العزيز، وهو: ما يرويه اثنان عن اثنين في كل طبقة، ولو كان ذلك في طبقة واحدة، ولا مانع من أن يزيد في بعض طبقاته، فالمدار تحقق التثنية في طبقة ما.
__________
(1) شرح نخبة الفكر ص 65.(36/5)
ومثاله ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، والشيخان من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) فقد رواه من الصحابة أنس وأبوهريرة، ورواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صُهَيب، ورواه عن قتادة اثنان: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز اثنان: إسماعيل ابن عُلية وعبد الوارث، ثم رواه عن كل منهما جماعة.
المشهور، وسماه جماعة من الفقهاء: المستفيض، وهو: ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر.
وقد جعل الحنفية المشهور قسيم المتواتر والآحاد، وعرَّفوه بأنه ما كان آحاداً في القرن الأول، ثم تواتر بعد ذلك وكثرت رواته في القرن الثاني والثالث(1).
ومثاله: حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الشيخان: ((أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قنت شهراً يدعو على رِعْل وذكوان))، فقد رواه عن أنس: قتادة وعاصم وأبو مِجْلَز: لاحق بن حُميد، وأنس بن سيرين، ورواه عن كل واحد جماعة.
ما يفيده خبر الآحاد:
ذهب العلماء في مجال الأخذ به مذاهب مختلفة، وإليك بيانها مع ذكر حُجج كل مذهب:
المذهب الأول: أن خبر الواحد الثقة يفيد العلم اليقيني مطلقاً.
__________
(1) انظر: تيسير التحرير شرح كتاب التحرير للشيخ محمد أمين باد شاه 3 / 37.(36/6)
وهذا مذهب داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي، ونقل عن الإمام أحمد في رواية، وحكاه ابن خويزمنداد عن الإمام مالك، وجزم به الإمام الشافعي في كتاب اختلاف مالك(1).وقد أطال ابن حزم النَفَس في إيراد الأدلة على صحة هذا المذهب والرد على مخالفيه في الإحكام، فقال بعد سرد مقدمات: ((وإذا صح هذا فقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مثله مُبَلَّغا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ مقطوعٌ به، موجب للعلم والعمل معا))(2) وقال عبد العزيز البخاري في شرح أصول البزدوي: ((ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التي حكم أهل الصنعة بصحتها توجبُ علمَ اليقين بطريق الضرورة، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل))(3).
__________
(1) ذكره ابن القيم في الصواعق المرسلة انظر: مختصر الصواعق ص 575.
(2) الإحكام في أصول الأحكام1 / 137.
(3) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2 / 371.(36/7)
واختاره من المتأخرين العلامة صديق حسن خان فقال في كتابه "الدين الخالص": ((والضرب الآخر من السنة خبر الآحاد يرويه الثقات الأثبات بالسند المتصل والصحيح والحسن، فهذا يوجب العمل عند جماعة من علماء الأمة وسلفها الذين هم القدوة في الدين والحجة الأسوة في الشرع المُبِين، ومنهم من قال: يوجب العلم والعمل جميعاً، وهو الحق وعليه درج سلف هذه الأمة وأئمتها، لأن المتواترات – على حساب اصطلاح القوم – قليل جداً، وغالب السنة الشريفة آحاد، والعمل بها واجب حتم))(1) واختار هذا القول من المعاصرين الأستاذ العلامة أحمد شاكر فقال في الباعث الحثيث بعد أن ذكر أقوال العلماء في إفادته: ((والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله، من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، لا يتحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل... وهذا العلم اليقيني النظري يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته، واطمأن قلبه إليها...))(2). وممن قال هذا الرأي أيضاً الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث حيث قال: ((ورأي ابن حزم أولى بالاتباع؛ إذ لا معنى لتخصيص أحاديث الصحيح بإفادة القطع، لأن ما ثبت صحته في غيرهما ينبغي أن يحكم عليه بما حكم عليه فيها... كما أنه لا معنى للقول بظنية حديث الآحاد بعد ثبوت صحته، لأنَّ ما اشْتُرط فيه لقبول صحته يُزيل كل معاني الظن ويستوجب وقوعَ العلم اليقيني به))(3).
قلت: وهذا الحق الذي لا يعول على غيره، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.وسأذكر تفصيل ذلك بعد سرد المذاهب الأخرى.
المذهب الثاني: أنه يفيد العلم اليقيني إذا احتفت به قرائن.
__________
(1) الدين الخالص 3 / 284.
(2) الباعث الحثيث ص 37.
(3) علوم الحديث ص 151.(36/8)
وهذا مذهب عامة أهل الحديث وكثير من محققي الفقه والأصول والكلام من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وغيرهم.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنواع الخبر المحتف بالقرائن فقال في نزهة النظر: ((والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما، مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن:
منها جلالتهما في هذا الشأن.
وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما.
وتلقي العلماء كتابيهما بالقبول.
وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا مختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح، لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.
وماعدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته... وممن صرح بإفادة ما أخرجه الشيخان العلم النظري: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ومن أئمة الحديث: أبو عبد الله الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما)).
قلت: ويضاف إلى ذلك أيضاً: وجود المستخرجات الكثيرة على هذين الكتابين، بحيث لا يوجد حديث فيه علة إلا وجاء في المستخرجات في كثير من الأحيان سليماً، مما يفيد تعدد طرق حديث الصحيحين ويزيدها قوة على قوة.
وقال الحافظ: ((ومنها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر بن فُوَرك وغيرهما.(36/9)
ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، حيث لا يكون غريباً؛ كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة بالعلم وأخبار الناس أن مالكاً مثلاً لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة وبَعُدَ عما يُخشى عليه من السهو))(1).
وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث: ((وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة؛ منهم القاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد وأبو يعلى بن الفراء وأبو الخطاب وابن الزاغوني و أمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السَّرخسي من الحنفية، قال: وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم؛ كأبي إسحاق الإسفراييني وابن فُوَرك، قال: وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة))(2).
وقال ابن تيمية: ((ومن الحديث الصحيح ما تلقاه المسلمون بالقبول، فعملوا به... فهذا يفيد العلم، ويجزم بأنه صدق؛ لأن الأمة تلقته بالقبول تصديقاً وعملاً بموجبه، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ فلو كان في نفس الأمر كذباً لكانت الأمة قد اتفقت على تصديق الكذب والعمل به وهذا لا يجوز عليها)).
ثم قال: ((ومن الصحيح ما تلقاه بالقبول والتصديق أهل العلم بالحديث كجمهور أحاديث البخاري ومسلم؛ فإن جميع أهل العلم بالحديث يجزمون بصحة جمهور أحاديث الكتابين، وسائر الناس تبع لهم في معرفة الحديث...))(3).
__________
(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 10.
(2) مختصر علوم الحديث ص 36.
(3) الفتاوى 18 / 16 – 17.(36/10)
وقال الإمام الصنعاني: ((قد عُلم أن خبر الواحد يفيد الظن، فإذا حفته القرائن أفاد العلم كما قال الحافظ في النخبة وشرحها: وقد يقع فيها - أي أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب، وهي أقسام الآحاد - ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار))(1).
المذهب الثالث: أن خبر الواحد الثقة يفيد الظن ولا يفيد العلم، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، ولكنه حُجة من حُجج الشرع يلزم العمل به سواء أكان في العقائد أم غيرها. وممن قال بهذا المذهب الإمام ابن عبد البر القرطبي، فهو يقول عن حديث الآحاد: ((إنه يوجب العمل دون العلم))(2).
وقال في أول كتاب التمهيد ما نصه: ((أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار - فيما علمت - على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافاً. وقد أجمع المسلمون على جواز قبول الواحد السائل المستفتي لما يخبره به العالم الواحد إذا استفتاه فيما لا يعلمه، وقبول خبر الواحد العدل فيما يخبر به مثله))(3) وقد أفرد أبو عمر بن عبد البر لهذه المسألة كتاباً مستقلاً سماه ((الشواهد في إثبات خبر الواحد)) ذكره في مقدمة التمهيد.
ومن القائلين بهذا المذهب أيضاً: النووي ووافقه الإمام العز بن عبدالسلام، فقال النووي في كتاب التقريب: ((وذكر الشيخ تقي الدين
- يعني ابن الصلاح – أن ما روياه - يعني في الصحيحين - أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر))(4).
__________
(1) توضيح الأفكار 1 / 26.
(2) نقله ابن تيمية في المسودة ص 244.
(3) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1 / 2 - 3.
(4) التقريب ص 6.(36/11)
وممن قال بهذا الرأي أيضاً: الإمام أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة ((جامع الأصول))، حيث قال: ((وخبر الواحد لا يفيد العلم، ولكنا مُتَعبدون به))(1).
وقد استدل أصحاب هذا الرأي بجواز الخطأ والنسيان على الثقة عقلاً، ومع هذا الجواز العقلي لا يمكن ادعاء القطع، وتلقي الأمة الحديث بالقبول إنما أفاد وجوب العمل به.
قلت: أرى الخلاف بين هؤلاء وبين الذين يقولون إنها تفيد العلم خلافاً نظرياً ليس له أثر في الواقع، فالجميع يوجبون العمل بخبر الواحد إذا توافرت فيه شروط القبول.
هذا، وإننا لا نقول باستحالة الخطأ على جميع النقلة ولا بعصمتهم من تعمد الكذب، ولكننا نقول بالجزم والتصديق عند ظهور علامات تؤيد ذلك، ويقول الإمام ابن القيم: ((إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلابد أن يقوم دليل على ذلك، ولابد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته، ولا تلتبس بما ليس منها))(2).
وينبغي أن نشير إلى أنه لا يمكن أن يكلف الله عز وجل بأمر - ولم يثبت هذا التكليف من طريق التواتر - ثم يعمل المسلم ذلك التكليف وهو يعتقد أن هذا الذي يفعله أمر ظني أو احتمالي والعلم بصحته غير واجب شرعاً، وقد سُئل الإمام أحمد عن إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، فعاب ذلك وقال: ما أدري ما هو؟!(3).
__________
(1) جامع الأصول في أحاديث الرسول 1 / 125.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 604.
(3) نقله ابن تيمية في المسودة ص 242.(36/12)
المذهب الرابع: أن خبر الآحاد يفيد الظن، ولذلك لا يصح الاعتماد عليه في العقيدة وفي الغيبيات، أما ما سوى ذلك في الأحكام العملية وغيرها فإنه يجب العمل به، وممن قال بهذا المذهب: بعض علماء الكلام، وقال به جمع من المتأخرين والمعاصرين، منهم الشيخ عبد الوهاب النجار؛ فقد قال في كتاب قصص الأنبياء مانصه: ((الخبر إذا كان رواته آحادا فلا يصلح أن يكون دليلاً على ثبوت الأمور الاعتقادية الغرض منها القطع، والخبر الظني الثبوت أو الدلالة لا يفيد القطع))(1).
ومنهم أيضاً: الشيخ محمود شلتوت، فقد قال في الفتاوى - بعد أن ذكر وفاة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه لا يَنْزل في آخر الزمان - ما نصه: ((وإذا صح هذا الحديث – يعني حديث أبي هريرة في نزول عيسى – فهو حديث آحاد، وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيَّبات))(2).
__________
(1) قصص الأنبياء في القاعدة رقم (4) وقد رد عليه الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتاب (آدم عليه السلام) وفي كتاب (عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام).
(2) الفتاوى ص 54. وما ادعاه من الإجماع ليس صحيحاً؛ حيث إن ذلك مذهب جماعة من المتكلمين، وبعض من سار على نهجهم من المتأخرين. وخالفهم كثير من العلماء المحققين والأئمة المرضيين الذين نقلنا طرفاً من كلامهم في ثنايا هذا البحث. وقد رد عليه جماعة من العلماء منهم الشيخ مصطفى صبري في كتابه القيم (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين) والشيخ محمد زاهد الكوثري في كتابه (نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام قبل الآخرة).(36/13)
ويستدل هؤلاء على هذا القول بأن العقائد قطعية فلا يجوز أن يحتج عليها إلا بقطعي، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع الظن فى العقائد فقال تعالى:( (( } ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النجم: 23].وقال تعالى: ( ( ( ( ( (( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( [النجم: 28 ].وقال عز وجل: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (
[ الأعراف: 33 ].
وقولهم هذا ضعيف؛ لأن كل ما ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو واجب التصديق واجب الاتباع خبراً كان أو إنشاء، عقيدة كان أو غير عقيدة، للنصوص الكثيرة التي ذكرنا بعضها فيما سبق والتي تأمر بطاعة الرسول مطلقاً من غير تقييد، وأما الآيات الناهية عن اتباع الظن فإنها تعني الظن المذموم الذي لا يقوم عليه دليل وليس له أسس ثابتة، بل هو قائم على الهوى والغرض المخالف للشرع، مثل إثبات الألوهية لغير الله عز وجل كما هو الحال فى ظن المشركين فى معبوداتهم، وهذا الظن يختلف تماماً عن الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد فهو ظن راجح ملحق بالقطعي فى وجوب الاعتقاد والعمل به، فلا ارتباط بينه وبين النوع الأول من الظن المشار إليه بالنسبة لمعتقدات المشركين، ((فإطلاق كلمة الظن على أحاديث الآحاد
- وهي في حقيقتها أكثر السنة النبوية - وربطها بالمعنى الوارد عند بعضهم فى عبارة: إن الأئمة قاطبة يرون أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن، وأن الظن لايغني عن الحق شيئاً، خطأ مبين؛ حيث أورد للظن معنى واحداً حصره فى المفهوم الذي اتبعه المشركون فى مواجهة حقائق القرآن الكريم))(1).
__________
(1) السنة المفترى عليها ص 154، وانظر كتاب ( إقامة البرهان على نزول عيسى آخر الزمان ) للعلامة عبدالله بن الصديق الغماري.(36/14)
وقد ألف العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى كتاباً سماه ( وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام) وذكر عشرين وجهاً تدل على وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وغيرها، ورد على هذا المذهب القائل بأنه لا يُحتجُّ بهذه الآحاد فى العقيدة لأنها لا تفيد اليقين، وذكر أن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة قول مبتدع محدث لا أصل له فى الشريعة، ولم يقل به أحد من الصحابة وسلف هذه الأمة، ومن المعلوم أن كُلَّ أمر مُبتَدع في أمر من أمور الدين باطل مردود، كما أن هذا القول يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجرد كونها في العقيدة، وقال أيضاً: ((إن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية، وإيجاب الأخذ بحديث الآحاد في هذه دون تلك إنما بُني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام العملية لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل)). ثم قال: ((ومما يوضح لك أنه لابد من اقتران العقيدة في العمليات أيضاً أو الأحكام: أنه لو افترض أن رجلاً يغتسل أو يتوضأ للنظافة أو يصلي مرتبطاً، أو يصوم تطبباً، أو يحج سياحة، لا يفعل ذلك معتقداً أن الله تبارك وتعالى أوجبه عليه وتعبده به لما أفاده شيئاً، كما لا يفيده معرفة القلب إذا لم تقترن بعمل القلب الذي هو التصديق. فإذن كل حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولابد ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أُخبرنا به في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لما وجب التصديق والعمل به)).(36/15)
ومما قاله أيضاً: ((إن قولهم يستلزم تعطيل العمل بحديث الآحاد في الأحكام العملية أيضاً، وهذا باطل لايقولون هم أيضاً به، وما لزم منه باطل فهو باطل، وبيانه: أن كثيراً من الأحاديث العملية تتضمن أموراً اعتقادية، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنا: إذا جلس أحدكم فى التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال. رواه الشيخان...)) إلى آخر كلامه.
المذهب الخامس: وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، وهؤلاء لا يحتجون بأحاديث الآحاد لا في العقائد ولا في الأحكام.
وحجة هؤلاء هي نفس حجة المذهب السابق الذكر، أي أن هذه الأحاديث لا تفيد إلا الظن ولا تفيد علماً مقطوعاً به لما فيها من احتمال الخطأ والوهم والكذب.
قلت: وهذا القول باطل؛ لأن من لوازمه الاقتصار على ما جاء في القرآن الكريم، وعلى الأحاديث المتواترة، والتي لا يصل عددها إلى مائتي حديث. وكأن هؤلاء هم الذين عناهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من حديث المقدام ابن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ألا هل عسى رجل يبلُغُهُ الحديث عنّي، وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللْناهُ، وما وجدنا فيه حراماً حرَّمناه، وإن ماحرم رسول الله كما حرم الله))(1) وقال الإمام القرطبي في تفسيره: ((وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به؛ تحكُّماً فى الدين ودعوى في المعقول، وليس فى ذلك أصل يعوَّل عليه...))(2).
القول الحق في قبول خبر الآحاد
__________
(1) رواه أبو داوود ( 4604 )، والترمذي ( 2666 )، وابن ماجه ( 12 )، وأحمد 4 / 130، واللفظ للترمذي.
(2) تفسير القرطبي 16 / 332.(36/16)
وبعد أن سردنا المذاهب فى الاحتجاج بخبر الآحاد نقول: إن الحق الذي لا يعول على غيره: أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً، إذا توافرت فيه شروط القبول، ولم يطعن فيه أحد من العلماء المعتبرين، سواء أكان في الصحيحين أم في غيرهما. وإليك الأدلة التي تفيد ذلك من الكتاب والسنة والإجماع.
أولاً: الكتاب:
قول الله عز وجل: ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة: 122] فالفرقة في الآية يراد بها الثلاثة فأكثر، والطائفة تصدق على الواحد والاثنين فهي جزء من الفرقة، ومن ذلك أن الله أمر بتشكيل واحد أو اثنين للخروج من كل فرقة تضم ثلاثة أفراد من أجل التفقه فى الدين ومن أجل الإنذار بعد العودة، فدل ذلك على صحة أخذ العلم عن خبر الآحاد ودل بالتالي على وجوب العمل به(1).
وقوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحجرات: 6].?وفى قراءة لحمزة والكسائي وخلف: ( فتثبَّتوا ( .
ذكر الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي فى أضواء البيان: أنَّ أهل الأصول استدلّوا بالآية على ((قبول خبر العدل؛ لأن قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( يدل بدليل خطابه - أعني مفهوم مخالفته - أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لايلزم التبين فى نبئه على قراءة: فتبينوا. ولا التثبيت على قراءة: فتثبتوا. وهو كذلك))(2).
وقال تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النور: 63] قال ابن القيم: ((وهذا يعم كل مخالف بلغه أمره - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ولو كان ما بلغه لم يفده علماً لما كان متعرضاً بمخالفة مالا يفيد علماً للفتنة والعذاب الأليم، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر))(3).
__________
(1) انظر الفقيه والمتفقه ص 110.
(2) أضواء البيان 7 / 627، وذكر نحو ذلك الأستاذ العلامة محمد الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير 26/231.
(3) مختصر الصواعق المرسلة ص 603.(36/17)
وقال الله عز وجل: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [ النساء: 59 ].
قال ابن القيم: ((ووجه الاستدلال: أنه أمر أن يُرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سننه بعد وفاته، فلولا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النّزاع لم يكن في الرد إليه فائدة، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى مالا يفيد علماً ألبتة؟ ولا يدري حق هو أم باطل؟ وهذا برهان قاطع بحمد الله))(1).
وقال تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( [المائدة: 49-50].
قال ابن القيم: ((وجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما أنزل الله، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله، وقد تكفل سبحانه بحفظه، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة، ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه، وهذا من أعظم الباطل))(2).
وقال الحافظ ابن حجر: ((واحتج بعض الأئمة لقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( [المائدة:67]مع أنه كان رسولاً إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الآحاد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة، لتعذر خطاب جميع الناس شفاهاً، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم)). قال الحافظ: ((وهو مسلك جيد))(3).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم: ((قال الله عز وجل عن نبيه ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النجم:3-4]وقال تعالى آمراً نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ( ( ( ( ( ( ( ( [الأنعام:50]وقال تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ([الحجر:9]
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 603.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 603 – 604.
(3) فتح الباري 13 / 235(36/18)
وقال تعالى: ( ( ( ( ( ( ( . [النحل:44]فصح أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لاشك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر مُنَزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه وأن لا يُحَرف منه شيء أبدًا تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه؛ إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعال كذباً وضمانه خائساً، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد - صلى الله عليه وسلم - محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا، قال تعالى: ( ( ( ( ( ( . [الأنعام:19]
فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدين، ولا سبيل ألبتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين؛ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم))(1).
ثانياً: السنة:
ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله إلى الملوك فى مختلف الأمصار لدعوتهم إلى دين الإسلام، كما كان يبعث برسله إلى الآفاق لنشر الدعوة الإسلامية وبيان أحكام هذا الدين، فقاموا بذلك وهم فرادى(2).
__________
(1) الإحكام فى أصول الأحكام 1 / 36.
(2) ألَّفَ الإمام محمد بن علي بن حُدَيدة المتوفى سنة (783 ه) كتابا سماه (المصباح المضيء فى كتاب النبي الأمي ورسله الى ملوك الأرض من عربي وعجمي) جمع فيه الرسل الذين أرسلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والكتاب مطبوع بالهند.(36/19)
قال الشافعي: ((وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عماله واحداً واحداً ورسله واحدًا واحداً، وإنما بعث عماله ليخبروا الناس بما أخبرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شرائع دينهم، ويأخذوا منهم ما أوجب الله عليهم، ويعطوهم مالهم، ويقيموا عليهم الحدود، وينفذوا فيهم الأحكام.. ولو لم تقم الحجة عليهم بهم إذ كانوا في كل ناحية وجههم إليها أهل صدق عندهم ما بعثهم))(1) فمن ذلك:
عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله بعثني رحمة للناس كافة، فأدوا عني رحمكم الله... فبعث ابن حذافة إلى كسرى، وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب هَجَر، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني الجُلندي ملكي عمان، وبعث دحية الكلبي إلى قيصر، وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي، فرجعوا جميعاً قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير العلاء بن الحضرمي، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو بالبحرين))(2) فالحديث يدل على أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل معاً.
وقال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني فى كتاب الانتصار: ((لو لم يقع العلم بخبر الواحد فى أمور الدين لم يقتصر على إرسال الواحد من الصحابة فى هذا الأمر))(3).
__________
(1) الفقيه والمتفقه ص 113_ 114.
(2) أخرجه الطبراني في (( المعجم الكبير )) (20 /8) رقم 12، وفي الأحاديث الطوال رقم 23، وذكره الهيثمي فى مجمع الزوائد 5 / 305 وعزاه للطبراني. وقال: « وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف». قلت: ومفردات الحديث رويت من طرق أخرى صحيحة، انظر كتاب المصباح المضيء.
(3) نقله عنه ابن القيم فى مختصر الصواعق المرسلة ص 609.(36/20)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))(1).
قال الحافظ ابن حجر: ((وفي الحديث قبول خبر الواحد ووجوب العمل به))(2).
مارواه الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((نَضَر الله عبداً سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها، فَرُبَّ حامِل فقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه))(3).ووجه دلالته أنه أمر كل عبد يسمع مقالته أن يبلغها، مع إمكان كونه غير فقيه، والعبد حقيقة للشخص الواحد، ولا يأمره إلا وخبره مما تقوم الحجة به.
__________
(1) رواه البخاري 8/51، ومسلم (19)، ورواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم.
(2) فتح الباري 3/360.
(3) في الرسالة (1102) وهو حديث صحيح رواه أصحاب السنن والمسانيد عن زيد بن ثابت وغيره.(36/21)
وقال الإمام الشافعي: ((فلما ندب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرأ يؤديها، والمرء واحد، دلَّ على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه، لأنه إنما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحدّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، ودلَّ على أنه قد يحمل الفقهَ غيرُ الفقيهِ يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً))(1).
حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه الآنف الذكر: ((ألا هل عسى رجلٌ يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته...)) الحديث. ووجه الاستدلال كما قال ابن القيم: ((أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخالفه أو يقول: لا أقبل إلا القرآن، بل هو أمر لازم، وفرض حتم بقبول أخباره وسننه، وإعلام منه - صلى الله عليه وسلم - أنها من الله أوحاها إليه، فلو لم تفد علماً لقال من بلغته: إنها آحاد لا تفيد علماً فلا يلزمني قبول مالا علم لي بصحته، والله تعالى لم يكلفني العمل بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده، بل هذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ونهاهم عنه، ولما علم أن في هذه الأمة من يقوله حذرهم منه، فإن القائل إن أخباره لاتفيد العلم هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث، وكان سَلَفُ هؤلاء يقولون: بيننا وبينكم القرآن، وخَلَفُهُم يقولون: بيننا وبينكم أدلة العقول، وقد صَرَّحوا بذلك وقالوا: نقدم العقول على هذه الأحاديث، آحادها ومتواترها ونقدم الأقيسة عليها))(2).
__________
(1) الرسالة ( 1103،1104 ) ونقله عنه ابن القيم فى مختصر الصواعق المرسلة ص 604.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 605.(36/22)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتي يؤذن ابنُ أمِّ مكتوم))(1).
ودلالة هذا الحديث فى الأمر بتصديق المؤذن وهو واحد والعمل بخبره فى فعل الصلاة، والعلم بدخول وقت الصلاة، وأول وقت الإفطار والإمساك، مع أن هذه من العبادات التي تختل بتغير وقتها، ولم يزل المسلمون فى كل وقت ومكان يقلدون المؤذنين، ويعملون بأذانهم في أوقات مثل هذه العبادات، وإن هذا لأوضح دليل على وجوب العمل بخبر الآحاد.
ما ثبت عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهني رضي الله عنهما في قصة العسيف، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اغد يا أُنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)) فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت.(2)
ووجه الاستدلال فيه أن النبي اعتمد خبره في اعترافها، مع ما فيه من إقامة حد وقتل نفس مسلمة. وقال الحافظ ابن حجر فى الفتح: ((فيه دليل على أن الحكم المبني على الظن ينقضي بما يفيد القطع))(3).
ثالثاً: الإجماع(4):
__________
(1) رواه البخاري 4 / 117، ومسلم ( 1092 )، ومالك 1 / 74، والنسائي 2 / 10.
(2) أخرجه البخاري ( برقم 6842، 6843 ).
(3) فتح الباري 12 / 124.
(4) ولعل الباحث – وفقه الله – لم يقصد الإجماع الاصطلاحي، وإنما قصد الإجماع اللغوي؛ فإن الإجماع بمعناه الاصطلاحي لم يقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما بعد وفاته، لذا فإن الدليلين الثاني والثالث اللذين ذكرهما الباحث لا يدخلان في أدلة الإجماع بالمعنى الذي أراده. ( اللجنة العلمية ).(36/23)
1- قال الإمام أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتاب الانتصار: ((أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموجودين من المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار الرقاق وغيرها مما يكثر ذكره، وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولاينفعه، ويصير كأنهم قد دوَّنوا في أمور الدين مالا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه)). ثم قال: ((وربما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من الصحابة، وهذا الواحد يؤديه إلى الأمة وينقله عنه، فإذا لم يُقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدِّي، نعوذ بالله من هذا القول البشع والاعتقاد القبيح))(1).
2- ما ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ((كنت ساقي القوم في منْزِل أبي طلحة، فكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأتاهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها...)) الحديث(2). وهذا فيه دليل على أنهم اعتمدوا خبر هذا الشخص، وأن العمل بخبر الواحد كان معروفاً عندهم.
__________
(1) نقله ابن القيم فى الصواعق المرسلة انظر مختصره ص 608_609.
(2) رواه البخاري 13 / 232، ومسلم ( 1980 )، ومالك 2 / 846.(36/24)
3- وقال الإمام القرطبي فى تفسير قول الله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( [البقرة: من الآية150] مانصه: ((في الآية دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعاً به من الشريعة عندهم، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي، وأخبرهم أن القبلة قد حُوِّلت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون))(1).
وقال ابن القيم: ((إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة والفروض ويُجْعَلُ ذلك ديناً يدان به في الأرض إلى آخر الدهر، فهذا الصدّيق رضي الله عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدَّة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة بخبر محمد بن مَسلمة والمغيرة بن شعبة فقط، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد، وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل بن مالك دية الجنين وجعلها فرضاً لازماً للأمة، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده، وصار ذلك شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة، وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده، وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر فريعة بنت مالك وحدها، وهذا أكثر من أن يذكر، بل هو إجماع معلوم منهم، و لا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ونحن لاننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا على قبوله والعمل بموجبه، ولو جاز أن يكون كذباً أو غلطاً في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة عل قبول الخطأ والعمل به، وهذا قدح فى الدين والأمة))(2).
__________
(1) تفسير القرطبي 2/151، وقصة أهل قباء المذكورة رواها البخاري 13 / 233، ومسلم ( 926 ) ومالك 1/195.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 609.(36/25)
وبعد: فهذه بعض الأدلة التي تشير إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل جميعاً إذا كان صحيحاً وقبله علماء الحديث من غير نكير منهم عليه أو طعن فيه، وأنه حجة قاطعة فى الدين سواء أكان فى العقائد أم في غيرها، وأن الادعاء بأن أحاديث الآحاد تفيد الظن أو لايعمل بها في العقائد ليس عليه أي دليل من القرآن والسنة وعمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان، بل أفادت هذه الأدلة مجتمعة أن الحديث إذا صحت نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسَلِمَ من القوادح الخارجية والداخلية وجب العمل به فى جميع أمور الدين، وأما ما نجده من تردد بعض الأئمة فى العمل به فى بعض الأحوال، فإنَّ ذلك كان لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد، من ريبة فى الصحة أو تهمة للراوي، كالذي حدث من سيدنا عمر رضي الله عنه فى عدم قبوله لخبر فاطمة بنت قيس، فإنَّ عدم القبول لم يكن لأنه خبر آحاد، ولكن لأن عمر لم يثق برواية فاطمة بدليل قوله: ((لا ندري حفظت أم نسيت))(1).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مراجع البحث
الإحكام فى أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي، القاهرة.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1358هـ.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، طبعة المدني بالقاهرة.
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، للأستاذ أحمد شاكر، دار الكتب العلمية فى بيروت.
التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر 1984 م.
تفسير القرطبي، المسمى: الجامع لأحكام القرآن، مطبعة دار الكتب المصرية.
التقريب، للإمام النووي، مطبعة محمد علي صبيح بالقاهرة سنة 1388هـ.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبدالبر، وزارة الأوقاف المغربية 1967 م.
__________
(1) رواه مسلم 1481.(36/26)
توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار، للإمام الصنعاني، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة السعادة بالقاهرة 1366 هـ.
تيسير التحرير، لأمير بادشاه الحنفي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1350 هـ.
جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط. دمشق 1389 هـ.
حجية السنة النبوية، للدكتور عبدالغني عبدالخالق.
الدين الخالص، لصديق حسن خان، طبع فى القاهرة.
السنة المفترى عليها، للأستاذ سالم البهنساوي، دار البحوث العلمية الكويت 1401 هـ.
صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط، للإمام ابن الصلاح: تحقيق الدكتور موفق عبدالله، طبع فى دار الغرب.
علوم الحديث، لابن الصلاح، تحقيق الدكتورة عائشة عبدالرحمن 1984 م.
علوم الحديث، للدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت 1988 م.
الفتاوى، لابن تيمية، دار المعرفة بيروت.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر. مكتبة الرياض الحديثة.
فتح المغيث شرح ألفية الحديث، للسخاوي، دار الكتب العلمية في بيروت 1403 هـ.
الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، نشر زكريا علي يوسف بالقاهرة.
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، للعلامة عبد العلي محمد بن نظام الدين، مطبوع بهامش المستصفى.
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز البخاري، طبع في استنبول سنة 1308 هـ.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي.
مختصر الصواعق المرسلة، لابن قيم الجوزية اختصار الموصلي، مكتبة المتنبي بالقاهرة.
مختصر علوم الحديث لابن كثير، طبع مع الباعث الحثيث.
المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد الغزالي، المطبعة الأميرية، ببولاق سنة 1322 هـ.
المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة المدني بالقاهرة سنة 1384 هـ.
نزهة النظر شرح نخبة الفكر، لابن حجر العسقلاني،المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.(36/27)
وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة والأحكام للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
أولاً: المتواتر…4
ما يفيده المتواتر:…5
ثانياً: الآحاد…7
ما يفيده خبر الآحاد:…8
مراجع البحث…31
فهرس الموضوعات…34(36/28)
حجية خبر الآحاد
في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، أحمدُه سبحانه، وأستغفره وأستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، جعله رحمة للعالمين وخاتماً للأنبياء والمرسلين، وفتح الله به آذاناً صماً وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أما بعد:
فإن السنة المطهرة جعلها الله صنو القرآن، فقال سبحانه:?? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النساء: 113] والحكمة هنا المراد بها – عند جمهور المفسرين – السنة. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))(1). وكما أن الله تعالى أمرنا بالإيمان بالقرآن والعمل به فكذلك أمرنا بالإيمان بالرسول وبما جاء به مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من السنة قولاً أو عملاً أو اعتقاداً؛ قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( [الحشر: 7]. وقد سار على هذا الأصل صحابته ومن جاء بعدهم واقتفى أثرهم من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا ولله الحمد والمنة.
__________
(1) أخرجه أبو داود 4/200، كتاب السنة، باب لزوم السنة والترمذي 5/37، كتاب العلم باب ما يُنهى عنه أن يقال عند حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال حديث حسن، وأحمد في المسند 4/130 – 131.(37/1)
وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثرة الاختلاف والافتراق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تفترق اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ))(1).
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ(2)، وإياكم ومحدثات الأمور))(3).
كما أن الله حذر من الافتراق وبين أن عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة فقال الله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([آل عمران: 105].
وقد عاش سلف هذه الأمة - الصحابة والتابعون - في ظل الكتاب والسنة يعملون بأوامرهما وينتهون عن نواهيهما، وما أشكل عليهم ردوه إلى القرآن والسنة فاستنبطه الذين أوتوا العلم منهم، عملاً بقول الله تعالى:
( ? ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [النساء: 59].
وقوله عزوجل: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النساء 83].
__________
(1) أخرجه أبو داود 4/5 ك السنة، والترمذي 5/25 ك الإيمان قال الترمذي: "حسن صحيح من حديث أبي هريرة" ونقل الشيخ الألباني تصحيحه عن جمع من الأئمة "انظر: السلسلة الصحيحة" رقم204.
(2) جمع ناجذ – بالذال المعجمة – وهو الناب وقيل الضرس.
(3) أخرجه أبو داود برقم 4607، وأحمد في المسند 4/126، الدارمي في السنن 1/44، وإسناده صحيح.(37/2)
فلما امتد الزمن بالناس، ودخل فيهم أو خالطوا من لم يقِرّ الدين في قلوبهم، وتحركت دفائن الحقد على الإسلام وأهله في قلوب اليهود والنصارى والمجوس، أخذوا يثيرون الشكوك والشبه في دلالات الألفاظ وأسانيد الأخبار، ونمت هذه البذور الفاسدة شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تثار في مجالس العلم ومجامع الناس، بقصد وبغير قصد، فتلقفها من لا يعرف مقاصد باذريها، واتسع نطاقها حتى أصبحت تعقد لها المناظرات، وأخذ كل فريق يستخدم ما يشاء من الألفاظ وأسانيد الأخبار ويتلاعب بها، حتى نشأ ما يعرف بظنية ثبوت الخبر وقطعية ثبوته، ومن ثمَّ ظنية دلالته وقطعيتها، وهذا التصنيف وإن كان يمكن أن ينطبق على عموم الأخبار، إلا أنه لا ينطبق على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة. لكنهم أجروه على الكل، فنشأ علم التأويل بالنسبة للقرآن، ومصطلحُ المتواتر والآحاد بالنسبة للسنة، وجعلوا الميزان في معرفة التأويل وتحديد المصطلح هو العقل، وجعلوه حاكماً على القرآن –كما سيأتي– ثم قسموا الدين إلى أحكام وعقائد، وجعلوا لأدلة الأحكام ضوابط وشروطاً، ولأدلة العقائد ضوابط وشروطاً أخرى، في ضوء ما تمليه عليهم عقولهم، ويتفق مع قواعدهم وأصولهم التي هي أساساً مبنية على أوهام عقلية.
وما كان سلف الأمة ومن تبعهم بإحسان يفسرون القرآن إلا في ضوء ما ثبت من السنة أو أقوال الصحابة وعملهم، فإن لم يجدوا عمدوا إلى اللغة العربية السليمة فأرجعوه إليها.
وكذا الحال بالنسبة للسنة، ولم يكن يعرف عندهم الحديث المتواتر ولا الآحاد، وإنما ما ثبت عندهم عملوا به إن لم يكن منسوخاً أو معارضاً بما هو أرجح منه، سواء أكان ذلك في باب الأحكام أم في باب العقائد.
وقد تصدى سلف الأمة لظاهرة التفريق بين أحاديث الأحكام وأحاديث العقائد، سواء من حيث الشروط لكلٍّ أو من حيث الاحتجاج بها، وبينوا في ذلك وجه الحق.
وهذا البحث الذي بين يديك إنما هو جمع ما قيل حول هذا الموضوع(37/3)
-حجية أحاديث الآحاد في الأحكام والعقائد– سواء من جهة من يحتج بها أو من يخالفها – وتحرير الكلام في هذه المسألة وبيان الراجح إن شاء الله. وقد سرت فيه وفق المنهج التالي:
الفصل الأول: أقسام الحديث وفيه:
( أ ) توطئة: وفيها بيان أقسام الحديث إجمالاً.
(ب) أقسام الحديث باعتبار طرقه: متواتر، وآحاد.
1- تمهيد: في بيان نشأة هذين المصطلحين وتطورهما.
2- المبحث الأول: في المتواتر وفيه:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته.
أنواعه.
شروط الحديث المتواتر.
ما يفيده الحديث المتواتر من العلم.
وجود الحديث المتواتر.
حكم العمل به.
أهم الكتب المصنفة فيه.
3- المبحث الثاني: في حديث الآحاد وفيه:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
أنواعه:
أ- المشهور:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
الفرق بينه وبين المستفيض.
أنواعه مع التمثيل لكل نوع.
أهم الكتب المصنفة فيه.
ب- العزيز:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
التمثيل له وشرح التمثيل.
ج- الغريب:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
الفرق بينه وبين الفرد.
أنواعه مع التمثيل لكل نوع.
أهم الكتب المصنفة فيه.
د- ما يفيده خبر الآحاد من العلم.
الفصل الثاني: في شروط قبول حديث الآحاد، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الشروط المتفق عليها.
المبحث الثاني: الشروط المختلف فيها.
الفصل الثالث: الأقوال في حجية خبر الآحاد.
1- توطئة.
المبحث الأول: أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد في الأحكام والعقائد مطلقاً.
أ- من الكتاب.
ب- السنة.
ج- الإجماع.
د- القياس.
هـ- العقل.
المبحث الثاني: أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد في الأحكام دون العقائد.
توطئة.
شبهتهم.
أدلتهم:
أ- من القرآن.
ب- من السنة.
ج- القياس.
د- العقل.
المبحث الثالث: أدلة القائلين بعدم الاحتجاج بالسنة مطلقاً.
توطئة:
أ- من القرآن.
ب- من السنة.
ج- من العقل.
الخاتمة.
الفهارس.
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.(37/4)
وأخيراً: أسأل الله العلي العظيم أن يجعل عملنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يرزقنا الإنصاف فيما نقول ونحكم، وأن يتقبل هذا العمل ويجعله في ميزان الأعمال الصالحة ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الشعراء: 88-89] وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد.
الفصل الأول:
أقسام الحديث
الفصل الأول: أقسام الحديث
توطئة:
قسم العلماء الحديث باعتبارات عدة إلى أقسام على النحو التالي:
أ) أقسام الحديث باعتبار القبول والرد:
وقسموه بهذا الاعتبار إلى قسمين:
الأول: المقبول. ويدخل فيه الصحيح بأنواعه – لذاته ولغيره – والحسن – لذاته أو لغيره -.
الثاني: المردود – وهو الضعيف وهو قسمان:
الأول: ضعيف منجبر – وأسبابه كثيرة دون الكذب أو التهمة به.
الثاني: ضعيف لا ينجبر – وهو الحديث الذي يكون في إسناده كذاب أو متهم بالكذب.
ب) أقسام الحديث باعتبار طرقه:
ينقسم الحديث باعتبار طرقه إلى:
1- عند الجمهور قسمان:
الأول: المتواتر.
الثاني: الآحاد.
2- عند الأحناف ثلاثة:
1- المتواتر.……2- المشهور.……3- الآحاد.
وفيما يلي تفصيل ذلك، بعد تمهيد بين يدي هذا التقسيم.
تمهيد: وفيه بيان نشأة مصطلحي المتواتر والآحاد.(37/5)
أولاً: من المسلم به عند العلماء - على اختلاف تخصصاتهم – أن تقسيم الحديث وفق طرقه إلى متواتر وآحاد لم يكن معروفاً في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -. ومن المتيقن – أيضاً – أنهم كانوا ينزلون حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة واحدة من حيث القبول والعمل، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمعهم كلما أراد أن يحدثهم عن ربهم مع علمه وعلمهم بكثرة المنافقين والكذابين وكثرة خصومهم – في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - - وبعد موته، وكان كل واحد منهم يحدث بما بلغه عن رسول الله – قولاً أو عملاً – ويحدث به مَنْ لم يحضر مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد هذا قول البراء بن عازب رضي الله عنهما: "ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت لنا ضَياع(1) وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب"(2).
ومثله قول أنس - رضي الله عنه -: "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا"(3). ولم ينقل عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - حرف واحد في أنهم طلبوا التحري في حديث بعضهم لشبهة عرضت لهم فيه، لكن للتثبت وزيادة الاحتياط.
واستمر الأمر كذلك إلى نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، فكان ذلك بمنزلة الإجماع منهم.
__________
(1) جمع ضيعة، وهي المعايش والعيال، النهاية 3/107.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" وأخرجه أحمد 4/283، والحاكم في المستدرك 1/95، وصححه ووافقه الذهبي.
(3) مجمع الزوائد 1/153.(37/6)
قال الإمام ابن القيم "ت 751 هـ": " فهذا لا يشكك فيه من له خبرة بالمنقول، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك تابع التابعين مع التابعين، وهذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم ونقلهم ذلك عن نبيهم "(1).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم " ت 457هـ ": " إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يجري على ذلك كل فرقة في عملها، حتى حدث متكلمو المعتزلة(2) بعد المائة من التاريخ فخالفوا"(3).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/433.
(2) المعتزلة: فرقة بزغت في أوائل القرن الثاني الهجري في عصر الحسن البصري ،حيث سأله أحد تلاميذه فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء – أحد تلاميذ الحسن – أنا أقول إن صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو فيها لا مؤمن ولا كافر، فأغضب ذلك الحسن البصري فطرده من حلقته فاعتزل واصل إلى سارية في المسجد يقرر ما ذهب إليه... وانضم إليه نفر وصار له أتباع فسموا المعتزلة.، انظر: الفرق بين الفرق، ص20، والملل والنحل للشهرستاني 1/48.
(3) الإحكام في أصول الأحكام 1/88.(37/7)
وقال الشيخ الألباني – رحمه الله -: "إننا على يقين أنهم – يعني الصحابة كانوا يجزمون بكل ما يحدث به أحدهم من حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر، بل لم يكونوا يعرفون هذه الفلسفة التي تسربت إلى بعض المسلمين بعدهم"(1).
وقال شيخنا الدكتور عبد الله الجبرين حفظه الله: "ومن المتحقق أن هذا التقسيم لم يكن معروفاً بين الصحابة والتابعين الذين إنما يعتبرون صحة المنقول وبطلانه – غالباً - باعتبار حال الناقل له من ثقته وأمانته أو ضد ذلك"(2).
ثانياً: أن تقسيم الحديث على ما يفيد التواتر وإلى ما هو آحاد كان نتيجة لعلم الكلام الذي بدأ ظهوره في المجتمع المسلم بظهور الفرق- كما أشار ابن حزم وغيره -.
ثالثاً: أن علم الكلام اعتمد العقل في الاستدلال على القبيح والحسن من الأقوال والأفعال، وقدمه على القرآن والسنة، بل إن ما خالف العقل من القرآن فلابدَّ من تأويله حتى يخضع لمراد العقل، وكذلك ما خالفه من السنة أو يُرْفَض، فقسموا السنة إلى متواتر وآحاد، حتى يتسنَّى لهم قبول ما يريدون ورفض ما يريدون.
ومن الأسس التي بنى عليها المعتزلة أصولهم – تقديم العقل على النقل– القرآن والسنة.
قال أبو علي الجبائي: (ت 303هـ) -وهو من رواد هذا الفكر والمنظرين له–: "إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكداً لما في العقل، فأمَّا أن يكون دليلاً بنفسه يمكن الاستدلال به فمحال "(3).
ويقول النظام: (ت 222هـ) "إن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار"(4).
وأقوال المعتزلة وتطبيقاتهم في رفض ما خالف العقل معلومة مشهورة.
__________
(1) وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، ص 12.
(2) أخبار الآحاد في الحديث النبوي، ص 30.
(3) المحيط بالتكليف 4/174.
(4) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ص 43.(37/8)
رابعاً: وبناءً على ما تقدم فإن المعتزلة والجهمية(1) كانوا أول من اشترط العدد في الحديث المتواتر - كما سيأتي – إذ أثاروا قضية قطعية أو ظنية ثبوت دلالتها ومن ثم قطعية أو ظنية دلالاتها. ولم يسعهم ما وسع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من قبول ما توافرت فيه شروط الحديث المقبول من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بناءً على مسلك الصحابة والتابعين أومسلك المتأخرين الذين قعدوا القواعد ووضعوا الشروط -كما سيأتي -.
ويرى أحمد أمين (ت 1373هـ) أن هذه النزعة عند المعتزلة لم تكن وليدة الصدفة، وإنما ذلك نتيجة لتأثرهم بالفلسفة اليونانية، إمَّا عن طريق مخالطة الداخلين في الإسلام من هذا الجنس، أو لقراءتهم في كتبهم المترجمة حيث قال: "وكان المعتزلة أسرع الفرق استفادة من الفلسفة اليونانية، وصبغها بصبغة الإسلام، والاستعانة بها على نظرياتهم وجدلهم، وكان من أشهر من استخدم الفلسفة في ذلك أبو الهذيل العلاف، والنظام، والجاحظ، وهؤلاء الثلاثة هم أبرز قادة ومنظِّري المعتزلة "(2).
ولماَّ كان الخبر – مطلقاً – يحتمل أن يكون صدقاً أو كذباً، نشأ هذا التساؤل وهو: ما الحد الذي يكون به الخبر صدقاً؟ ثم إذا كان صدقاً هل هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة أم أنه ظني الثبوت ظني الدلالة؟(3).
وقد تأثر بأفكار المعتزلة والجهمية من عاصرهم أو جاء بعدهم، وكان تأثرهم إمَّا من باب المقارعة والمجادلة، وإمَّا من باب المجاراة والقناعة بأفكارهم، حتى تحوَّل علم التوحيد والعقيدة إلى علم كلام، وكذا الحال بعلم الأصول.
خامساً: كان الإمام الشافعي (ت 204هـ) هو أول من تكلم في أصول الفقه والحديث؛ نتيجة لسريان تلك المفاهيم في الحياة العلمية في زمانه.
__________
(1) هي إحدى فرق المرجئة أتباع الجهم بن صفوان السمرقندي " قتل سنة 128هـ".
(2) فجر الإسلام، ص299.
(3) انظر الفروق للقرافي 1/24، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/44.(37/9)
قال رحمه الله: "قال لي قائل: اُحدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة. فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مَن انتهى به إليه دونه، ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً:
منها: أن يكون حدث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون من يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى... حافظاً إن حدث من حفظه، حافظاً لكتابه إن حدث من كتابه، وإذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً... وأن يكون هكذا مَن فوقه من حدثه حتى ينتهي الحديث موصولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من انتهى به إليه دونه... "(1).
والجميع يعلم أن الإمام الشافعي كان فقيهاً أصولياً -أكثر منه محدثاً- إلاَّ أنه اعتمد الحديث وطريقة أهله في تقعيده لعلمي أصول الفقه وأصول الحديث، بعيداً عن علم الكلام وتطبيقاته العملية، لذا نجده يحذر من علم الكلام وأهله، واشتهر عنه قوله: " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الرأي "(2).
سادساً: أن من جاء بعد الإمام الشافعي - ولاسيما علماء الأصول - لم يَسْلموا من تأثير علم الكلام في تصانيفهم، حتى أصبح يطلق عليهم فيما بعد: علماء المتكلمين، ويراد بهم علماء الأصول.
__________
(1) الرسالة، ص 369 – 373، بتصرف.
(2) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، ص 156.(37/10)
ولمَّا كان أصول الفقه الغرض منه وضع القواعد الكلية التي تستخرج بها الأحكام من أدلتها التفصيلية، وكانت السنة المطهرة هي المصدر الثاني لتلك الأدلة، فقد كان لعلماء الأصول عناية بالسنة النبوية من حيث معرفة طرقها وتعددها وما يترتب على ذلك من قوة الدليل وترجيح دليل على آخر، لكنهم لمَّا كانوا متأثرين بعلم الكلام نجد أنهم لم يتحرروا من قضايا قطعية الثبوت للدليل أو ظنيته، ومن ثم ظنية الدلالة وقطعيتها، مع أنهم قسموا الخبر – ومنه الحديث – إلى متواتر وآحاد، فإن المتواتر أيضاً لم يسلم من وضعه تحت هذا المحك نتيجة لتأثرهم بعلم الكلام.
ويعدّ الأصوليون هم أول من قسم الحديث إلى متواتر وآحاد، وقد شهد لهم بهذا علماء الحديث أنفسهم.
فهذا الإمام الخطيب البغدادي ينقل في "الكفاية"(1) تعريف الأصوليين للخبر، وتقسيمهم له إلى متواتر وآحاد، ويكاد يكون كلامه نقلاً لما ذكره الأصوليون، وقد أفصح عن ذلك الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمته فقال: "ومن المشهور: المتواتر(2) الذي يذكره أهل الفقه وأصوله. وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره ففي كلامه أنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم "(3).
__________
(1) ص 50.
(2) قال الشيخ محمد راغب الطباخ – في تعليقه على التقييد، ص 225 –: ظاهره يفيد أن المتواتر من أقسام المشهور ولعله أراد المشهور بالمعنى اللغوي أما بالمعنى الاصطلاحي فليس المتواتر من أقسام المشهور بل هو قسم على حدة " ا.هـ.
(3) ص 267.(37/11)
وقال ابن أبي الدم الشافعي(1): "اعلم أن خبر المتواتر إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين، خلا الخطيب أبا بكر البغدادي، فإنه ذكره تبعاً للمذكورين، وإنما لم يذكره المحدثون؛ لأنه لا يكاد يوجد في رواياتهم ولا يدخل في صناعتهم"(2).
وقال النووي – عند كلامه على الحديث المشهور -: "ومنه المتواتر المعروف في الفقه وأصوله، ولا يذكره المحدثون ولا يكاد يوجد في رواياتهم"(3).
قال العراقي زين الدين عبد الرحيم: "وقد اعترض عليه بأنه قد ذكره أبو عبدالله الحاكم وأبو محمد بن حزم وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم من أهل الحديث "(4).
وأجاب عن ذلك فقال: "إنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص،وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم التعبيرعنه بما فسره به الأصوليون، وإنما يقع في كلامهم أنه تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو أن الحديث الفلاني متواتر، كقول ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين إنه استفاض وتواتر، وقد يريدون الاشتهار لا المعنى الذي فسره به الأصوليون والله أعلم"(5).
وخلاصة هذا التمهيد:
1- أن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان حتى نهاية القرن الأول لم يكونوا يعرفون تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد، وإنما حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم بمنزلة واحدة، يؤمنون به ويعملون به من غير تمييز بين من كثر رواته ومن قلُّوا.
2- أن أول من أحدث بوادر هذا التقسيم هم المعتزلة والمرجئة، ثم من تفرع عنهم أو تأثر بهم من الفرق.
__________
(1) هو إبراهيم بن عبد المنعم الهمْداني الحموي(ت 642هـ).
(2) لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي، ص 17.
(3) تدريب الراوي 2/626.
(4) التقييد والإيضاح، ص 225.
(5) المرجع السابق، وانظر محاسن الاصطلاح للبُلقيني حاشية على مقدمة ابن الصلاح، ص 453، تحقيق عائشة بنت الشاطئ.(37/12)
3- أن هذا التقسيم كان نتيجة للتأثر بعلم الكلام الذي يستخدم الحقيقة والمجاز وما يترتب على ذلك من القطعية أو الظنية في الثبوت والدلالة، وكان أول من تأثر بعلم الكلام هم المعتزلة - كما تقدم من كلام أحمد أمين -.
4- أن أول من قَعَّد علم أصول الفقه والحديث هو الإمام الشافعي، لكن بعيداً عن علم الكلام ومنطلقاته.
5- أن علماء الأصول – بعد الإمام الشافعي - قد تأثروا كثيراً بعلم الكلام، وهم أول من قسم الخبر – ومنه الحديث - إلى قطعي الثبوت، وظني الثبوت، ومنه المتواتر والآحاد.
6- أن أول من ذكر المتواتر في أصول الحديث هو الإمام الخطيب البغدادي، ثم نقله عنه من جاء بعده، حتى استقر التقسيم بمعناه الاصطلاحي في زمن الإمام الحافظ ابن حجر "ت852هـ" والله أعلم.
المتواتر
تعريفه في اللغة:
المتواتر: اسم فاعل من التواتر، أصلها: وتر التاء الأولى مبدلة من الواو، كتاء تقوى، والتواتر التتابع، يقال: تواتر القوم أو تواتر القطا على الماء، إذا جاؤوا واحداً بعد واحد بينهما فترة زمنية(1).
ومنه قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( [المؤمنون: 44] أي واحداً بعد واحد بينهما فترة؛ لأن "ترى" من الوتر وهو الفرد(2).
وقيل: التواتر التتابع سواء كان بينهما فترة أم لا(3).
وتواتُر الخبر: مجيء المخبرين به واحداً بعد واحد من غير اتصال(4).
وفي الاصطلاح:
هو ما رواه جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، وأسندوه إلى شيء محسوس، ويصحب خبرهم إفادة العلم بنفسه لسامعه.
وهذا التعريف يكاد يجمع عليه الأصوليون(5) والمحدثون، وإن كان بهذا اللفظ هو الأشهر عند المحدثين.
__________
(1) تاج العروس 3/596، ولسان العرب 5/275.
(2) مختار الصحاح، ص 708.
(3) تاج العروس، ولسان العرب "تقدما".
(4) توجيه النظر 1/109.
(5) انظر: الإحكام للآمدي 1/15، مختصر ابن الحاجب 2/51، مقاصد المحدثين في القديم والحديث 2/7.(37/13)
وهو مستخلص من كلام الإمام الخطيب البغدادي"ت463هـ"(1)، حيث قال: "فأما الخبر المتواتر: فهو ما أخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدًّا يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر عنهم الخبر فيه متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم"(2).
ويزيد الحافظ ابن حجر "ت 852هـ" الأمر وضوحاً وتحديداً فيقول:
"المتواتر: هو الخبر الذي جمع أربعة شروط هي:
عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب.
رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.
وكان مستند انتهائهم الحس.
وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه"(3).
شروط المتواتر:
شروط الحديث المتواتر المتفق عليها:
1 – أن يرويه جماعة كثيرة.
2 – أن يستحيل تواطؤهم على الكذب.
3 – استمرار تلك الكثرة في جميع طبقات الإسناد.
4 – أن يكون إخبارهم عن علم لا عن ظن.
5 – أن يكون مستند خبرهم الحس لا العقل.
أقسام المتواتر:
ينقسم المتواتر إلى قسمين:
الأول: المتواتر اللفظي: وهو الحديث الذي تواتر لفظه، بمعنى أن يتتابع الرواة على روايته بلفظ واحد.
مثاله: وأشهر مثال له عند المحدثين حديث: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(4).
قال الإمام النووي "ت 676هـ": "لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلاّ هذا الحديث، ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابياً إلاّ هذا، وقال بعضهم رواه مئتان من الصحابة"(5).
__________
(1) تقدم ص: 16.
(2) الكفاية، ص: 50.
(3) شرح نخبة الفكر، ص: 3.
(4) هذا الحديث له طرق كثيرة منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في غيرهما، وقد جمعها الإمام الطبراني وغيره كما سيأتي.
(5) شرح النووي على مسلم 1/68.(37/14)
وقال زين الدين العراقي "ت 806هـ": "ليس هذا المتن وإنما هي أحاديث في مطلق الكذب والخاص بهذا المتن رواه بضعة وسبعون صحابياً". ثم عدهم(1).
وقال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "وأستبعد أن يكون ذلك العدد أو أكثر منه، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة"(2).
قلت: وللإمام الطبراني "ت 360هـ": جزء جمع فيه طرق هذا الحديث(3)، فأوصلها إلى ستين طريقاً.
الثاني: المتواتر المعنوي: وهو الحديث الذي ورد بألفاظ مختلفة ومعناها واحد.
مثاله: أمثلته كثيرة منها:
حديث رفع اليدين في الدعاء فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القدر نحو من مائة صحابي في وقائع مختلفة.
وكأحاديث الشفاعة.
وأحاديث رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.
وجود الحديث المتواتر:
اختلف العلماء في وجوده على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه معدوم ولا وجود له، وإلى هذا ذهب ابن أبي الدم "ت642هـ"، وابن حبان "ت 354هـ"، والإمام الحازمي "ت 584هـ".
قال ابن أبي الدم:"ومن رام من المحدثين وغيرهم ذكر حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متواتر وجدت فيه شروط المتواتر فقد رام محالاً"(4).
وقال الإمام ابن حبان: "أما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد؛ لأنه ليس يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خبر من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استحال هذا وبطل ثبت أن الأخبار كلها؛ آحاد ومن شَرَطَ ذلك فقد عمد إلى ترك السنن كلها؛ لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد"(5).
__________
(1) انظر: التبصرة 2/277.
(2) فتح الباري 1/11، والتلخيص الحبير 1/54.
(3) حققه علي حسن علي عبد الحميد وآخر.
(4) لقط اللآلي المتناثرة، ص: 16، للزبيدي.
(5) شروط الأئمة الخمسة، ص: 32.(37/15)
قلت: وكلامه هنا منصب على ما يعرف عند المحدثين بـ(العزيز) وهو أحد أقسام الآحاد – كما سيأتي(1) – فوجود المتواتر من باب أبعد، ووافقه الحازمي فقال: "ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب"(2).
القول الثاني: أن الحديث المتواتر قليل نادر يعز وجوده، وأشار إلى هذا الإمام النووي "ت 676هـ" حيث قال: "وذهب كثير من العلماء إلى أنه قليل نادر، لا يكاد يوجد في روايات العلماء"(3).
وعليه الحافظ ابن الصلاح "ت 643هـ": حيث قال: "ومن سئل عن أبرز مثال لذلك فيما يرويه من الحديث أعياه طلبه"(4)، ووافقهم من المعاصرين الشيخ محمود شلتوت رحمه الله(5).
القول الثالث: أن الحديث المتواتر في السنة موجود وكثير، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
وحجتهم: أن كتب السنة والمسانيد وغيرها قد انتشرت واشتهرت بين أهل العلم، وقطعوا بصحة نسبتها إلى أصحابها الذين صنفوها، وكثيراً ما تتفق على إخراج أحاديث قد تعددت طرقها في كل طبقات رواتها، تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أو صدوره منهم اتفاقاً، وكلها قد انتهت إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت إلى إخراج حديث، وقد تعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب – إلى آخر الشروط – أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير"(6).
__________
(1) ص:37.
(2) شروط الأئمة الخمسة، ص: 32.
(3) انظر: تدريب الراوي 2/627.
(4) علوم الحديث له، ص 162.
(5) انظر: كتابه الإسلام عقيدة وشريعة ص: 62، حيث بوب لذلك فقال: باب الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر وأسبابه.
(6) نزهة النظر، ص: 19.(37/16)
وقال في الرد على القولين الأولين -يعني القلة والندرة(1)-: "ممنوع وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك ناشئ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقاً"(2).
قلت: ويمكن الجمع بين القولين الأولين من جهة والقول الثالث من جهة أخرى، وذلك بحمل القولين على المتواتر اللفظي؛ فإنه فعلاً قليل نادر إذا قورن بالمتواتر المعنوي، وبحمل قول الجمهور على المتواتر المعنوي، فإنه كثير إذا قورن بالمتواتر اللفظي والله أعلم(3).
ما يفيده الحديث المتواتر من العلم:
يكاد العلماء - من أهل الفقه والأصول والحديث – يجمعون على أن الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري، والمراد به: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. وخالف في ذلك من الفرق القديمة: البراهمة(4)، والسُّمنية(5)، والنظّام من المعتزلة.
وقالوا: إن العلم الضروي لا يدرك إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها.
وقد ردَّ عليهم الإمام الآمدي "ت 631هـ" في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"(6)، فقال: "اتفق الكل على أن الخبر المتواتر يفيد العلم خلافاً للسمنية والبراهمة في قولهم لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها.
__________
(1) هذا من عندي للإيضاح.
(2) النكت على نزهة النظر، ص: 61.
(3) وانظر: شرح النووي على مسلم 1/120.
(4) هم: قوم دهريون ينكرون الرسالات ويزعمون أنهم أولاد إبراهيم عليه السلام - ولا يزالون إلى اليوم يعبدون الأوثان - وهم بالهند، انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/174.
(5) بضم السين: طائفة دهرية أيضاً تقول بالتناسخ وتنكر حصول العلم بالأخبار. انظر: فواتح الرحموت 1/113.
(6) 2/15.(37/17)
ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين بما يرد علينا، ومن أنكر ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته" ا.هـ.
وفي العمدة(1) للقاضي أبي يعلى "ت 458هـ": العلم الواقع بالأخبار المتواترة معلوم من جهة الضرورة لا من جهة الاكتساب والاستدلال، وهو قول أكثر أهل العلم...".
وقال الشوكاني "ت 1250هـ": "واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر المتواتر يفيد العلم الضروري، وما روي من الخلاف في ذلك عن السُّمنية والبراهمة فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه"(2).
وذهب إمام الحرمين الجويني "ت 478هـ"، وأبو القاسم الكعبي(3)، من المعتزلة إلى أن: "الحديث المتواتر لا يفيد إلا العلم النظري، أي أنه لايفيد العلم بذاته من خلال شروطه المتقدمة، ولكن لابدَّ من النظر في أدلة وقرائن أخرى تكسبه القوة"(4).
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "وهذا ليس بشيء؛ لأن العلم الحاصل بالمتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي، إذ النظر ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون، وليس في العامي أهلية ذلك، فلو كان نظرياً لما حصل لهم ولا لاح بهذا التقرير بين العلم الضروري والعلم النظري؛ إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلال، والنظري يفيده لكن مع الاستدلال على الإفادة، والضروري يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلاّ لمن فيه أهلية النظر"(5).
__________
(1) 3/847.
(2) إرشاد الفحول 1/202.
(3) هو عبد الله بن أحمد البلخي من شيوخ المعتزلة.
(4) انظر: المنهاج بشرح الإسنوي 2/217، 218، ومناهج العقول شرح منهاج الوصول 2/217، والمسودة في الأصول ص: 234.
(5) النكت على نزهة النظر، ص: 59.(37/18)
وقال أيضاً: "والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل يجب العمل به من غير بحث"(1).
وقال العلامة طاهر الجزائري: "ت1338هـ": "أراد بما ذكر أن المتواتر لا يبحث فيه عن رواته وصفاتهم على الوجه الذي يجري في أخبار الآحاد، وهذا لا ينافي البحث عن رواته إجمالاً من جهة بلوغهم في الكثرة إلى حد يمنع تواطؤهم على الكذب فيه أو حصوله منهم بطريق الاتفاق... وكذلك البحث عن القرائن المختصة به"(2).
حكم العمل بالحديث المتواتر:
تقدم معنا أن الإجماع قام على أن الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري إلاّ من شذ، وهذا يعني لزوم العمل به ولهذا:
قال ابن عبد البر "ت 463هـ: "تنقسم السنة إلى قسمين: أحدهما: إجماع تنقله الكافة عن الكافة، فهذا من الحجج القاطعة للأعذار إذا لم يكن هناك خلاف، ومن رد إجماعهم فقد رد نصاً من نصوص الله يجب استتابته عليه وإراقة دمه إذا لم يتب؛ لخروجه عما أجمع عليه المسلمون، وسلوكه غير سبيل جميعهم"(3).
وتقدم كلام الحافظ ابن حجر في هذه المسألة قريباً.
ويفهم مما نقله الشيخ طاهر الجزائري في "توجيه النظر"(4) عن الجصاص وآخرين، أنهم يكفرون من أنكر الحديث المتواتر؛ لأنه يعني تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
من أهم الكتب المؤلفة في المتواتر:
1 – "الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة" - للإمام جلال الدين السيوطي "ت 911هـ".وهو مرتب على الأبواب مع ذكر إسناد كل حديث ومن رواه من الصحابة عشرة فصاعداً.
وقد جرده من الأسانيد في كتاب آخر سماه:
2 – "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة".
3 – "اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، لشمس الدين محمد بن محمد ابن طولون "ت 953هـ".
4 – "لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، لأبي الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي "ت 1205هـ".
__________
(1) السابق، ص: 60.
(2) توجيه النظر1/139، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة.
(3) جامع بيان العلم وفضله، 2/33.
(4) 1/114.(37/19)
5 – "نظم المتناثر من الحديث المتواتر "للسيد محمد بن جعفر الكتاني "ت 1345هـ " جمع فيه ما سُبق إليه مع زيادات، وهو يعد أوسع ما صنف في بابه.
الآحاد
تعريفه:
لغة: الآحاد جمع أحد بمعنى واحد - كشاهد مفرد أشهاد - وأصل الكلمة: أأحاد - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفاً لسكونها وانفتاح ما قبلها(1).
وسمي الآحاد بهذا الاسم؛ لأن رواته أفراد قليلون بالنسبة للمتواتر، والمراد أحاديث الآحاد، لكن حذف المضاف لكثرة الاستعمال، والمعنى اللغوي مطابق لخبر الواحد، وهو ما رواه فرد واحد أو من هو في حكم الواحد.
وفي الاصطلاح: هو الحديث الذي لم يبلغ حدَّ التواتر(2).
أقسامه:
قسم جمهور العلماء من المحدثين، والأصوليين، والفقهاء حديث الآحاد إلى ثلاثة أقسام(3):
1 - المشهور……2 - العزيز……3 - الغريب.
أمّا الحنفية فقد أخرجوا المشهور من الآحاد وجعلوه واسطة بين المتواتر والآحاد، فالحديث عندهم: "متواتر، مشهور، آحاد"(4) وسيأتي تعريف المشهور عندهم.
القسم الأول: المشهور(5).
تعريفه لغة: مصدر من الفعل شهر أو اشتهر، يقال: شهر الأمر أو اشتهر الأمر إذا ظهر وبان أو ذاع وانتشر، وسمي الحديث المشهور بهذا لوضوحه واشتهاره(6).
__________
(1) القاموس المحيط 1/240.
(2) نزهة النظر للحافظ ابن حجر،ص: 22.
(3) انظر: المرجع السابق، ص: 19 - 24، والإحكام للآمدي 2/31، ومختصر ابن الحاجب مع شرحه 2/52.
(4) انظر: مختصر ابن الحاجب وشرحه 2/55، والإحكام للآمدي 2/31، وكشف الأسرار 2/368.
(5) من مراجع هذا القسم: علوم الحديث لابن الصلاح ص 92، فتح المغيث للسخاوي 4/8، تدريب الراوي 2/173، شرح نخبة الفكر، ص 192.
(6) انظر فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت 2/111، وإرشاد الفحول 1/49، انظر: الصحاح للجوهري ص 705، ولسان العرب ص 431، ومعجم مقاييس اللغة 3/223.(37/20)
وفي اصطلاح الجمهور: هو الحديث الذي له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر. وعند الحنفية: ما كان آحادي الأصل متواتر الفرع، بمعنى أن يكون الصحابي الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - له واحداً ثم يتواتر في طبقة التابعين فمن بعدهم(1).
قوله: "محصورة"، قيد خرج به الحديث المتواتر، فإنه لا يحصر بطرق معينة على الصحيح، وقوله: "بأكثر من اثنين" قيد خرج به العزيز والغريب.
واعتبره الجصاص الرازي "ت370هـ" من الحديث المتواتر، خلافاً للجمهور، وسماه بعض الأصوليين بالمستفيض لاشتراكهما في المعنى اللغوي؛ لأن المستفيض في اللغة مأخوذ من قولهم: فاض الماء إذا كثر حتى سال على طرف الوادي، ويقال: استفاض الخبر أي شاع وانتشر(2).
وقيل: المستفيض في الاصطلاح ما تساوى فيه الطرفان والوسط، والمشهور أعم من ذلك.
وقيل: المستفيض ما تلقته الأمة بالقبول دون اعتبار لعدد، فهو والمتواتر سواء(3).
والصحيح: أنهما بمعنى واحد، لكن الاختلاف في الاستعمال، فالأصوليون يسمون المشهور مستفيضاً، والمحدثون عندهم المشهور والمستفيض بمعنى واحد.
أقسام الحديث المشهور:
ينقسم إلى قسمين:
1- المشهور عند المحدثين " الاصطلاحي " وتقدم تعريفه.
2- المشهور على ألسنة العامة، وهذا أنواع كثيرة ويدخل فيه المتواتر، والعزيز، والفرد، وما ليس له أصل، والموضوع.
الأمثلة:
أولاً: من أمثلة المشهور الاصطلاحي:
حديث: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)).
هذا الحديث رواه عدد من الصحابة ورواه عنهم جماعة من التابعين فرواه من الصحابة.
__________
(1) أصول الفقه للسرخسي، ص 392.
(2) انظر: تاج العروس 18/503.
(3) انظر: فتح المغيث للسخاوي 4/9.(37/21)
1 - عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه -، وأخرج روايته: الإمام أحمد في المسند(1)، وأبو داود(2)، والدارمي(3)،ثلاثتهم من طريق: حماد بن سلمة(4)، عن يونس بن أبي إسحاق(5) وحميد(6)، عن الحسن البصري(7)، عن عبد الله ابن مغفل، وهذا إسناد صحيح.
2 - أبو هريرة - رضي الله عنه -، أخرج روايته: ابن ماجه(8) من طريق أبي بكر بن عياش(9)، عن الأعمش(10)، عن أبي صالح(11)، عن أبي هريرة. وهذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات كلهم.
__________
(1) 4/87.
(2) في السنن برقم " 4807 " كتاب الأدب، باب في الرفق.
(3) في السنن برقم " 2690 " كتاب الرقاق، باب في الرفق.
(4) هو ابن دينار أبو سلمة الإمام أحد الأعلام ثقة عابد روى عنه مسلم والأربعة، ت 167هـ، التقريب (1499).
(5) هو السبيعي، صدوق يهم روى عنه مسلم والأربعة، ت 159هـ، التقريب (7899).
(6) هو الطويل أبو عبيدة البصري ثقة يدلس عن أنس وقد تابعه يونس – كما تقدم – فعضد كل منهما الآخر وروى عنه الجماعة، ت 142هـ، الكاشف (1248).
(7) هو الإمام التابعي، ابن أبي الحسن أبو سعيد ثقة كبير القدر رفيع الشأن روى عنه الجماعة، ت 110هـ، الكاشف (1022).
(8) في السنن برقم 3688 – كتاب الأدب، باب الرفق.
(9) هو الأسدي الموفي الحناط المقرئ أحد الأعلام، ثقة تغير بآخره، روى عنه البخاري والأربعة، ت 193هـ، الكاشف (6535).
(10) هو الإمام سليمان بن مهران، ثقة حافظ، روى عنه الجماعة، ت 148هـ، التقريب (2615).
(11) هو ذكوان السمان المدني، ثقة ثبت، روى عنه الجماعة، ت 101هـ، التقريب (1841).(37/22)
3 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أخرج روايته: الإمام أحمد(1)، والبخاري في التاريخ الكبير(2)، كلاهما عن عبد الله(3) بن وهب(4) بن منبه عن أبيه، عن أبي خليفة(5) عن علي - رضي الله عنه -.
وهذا الإسناد ضعيف؛ لأن عبدالله بن وهب بن منبه وأبا خليفة مقبولان حيث يتابعان، لكن يشهد له ما تقدم.
4- عن عائشة رضي الله عنها أخرجه الإمام مسلم(6).
وله طرق أخرى لا يخلو كل منها من مقال، لكن الحديث صحيح –كما تقدم - فهذا الحديث له طرق أكثر من اثنين لكنها لم تبلغ حدَّ التواتر، بمعنى أنها لم تتحقق فيها شروط المتواتر التي تقدم ذكرها، وإن كان قد اشتهر أمره عند العلماء.
والحديث المشهور منه ما هو صحيح - كما تقدم – ومنه الحسن، كحديث ((الأذنان من الرأس)) رواه عدد من الصحابة منهم:
1- أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أخرجه الترمذي(7)، وأبو داود(8)، وابن ماجه(9)، كلهم من طرق عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة. وشهر بن حوشب صدوق يرسل ويهم، كما قال الحافظ(10).
2- عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - أخرجه ابن ماجه(11) وفي سنده سويد بن سعيد بن سهل الهروي، صدوق إلا أنه عمي فصار يتلقن(12).
__________
(1) في المسند 1/112.
(2) 1/307.
(3) اليماني، مقبول، التقريب (3695).
(4) أبو عبد الله، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 115هـ، التقريب (7485).
(5) هو الطائي البصري، مقبول، التقريب (637).
(6) في صحيحه برقم (2593) كتاب البر، باب فضل الرفق.
(7) برقم (37)، كتاب الطهارة باب ما جاء في الأذنين.
(8) برقم (34) كتاب الطهارة باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(9) في السنن برقم (443)، كتاب الطهارة.
(10) التقريب (2830).
(11) برقم (444).
(12) التقريب (2690).(37/23)
3- أبو هريرة - رضي الله عنه - أخرجه ابن ماجه(1)، وفي سنده عمرو بن الحصين(2)، ومحمد بن عبدالله بن عُلاثة(3)، وكلاهما ضعيف. فهذا الحديث ورد من طرق أكثر من اثنين، ولكن كل طريق فيها مقال، وبمجموعها يكون الحديث مشهوراً حسناً لغيره.
ومن الحديث المشهور ما هو ضعيف، كحديث: ((ارحموا من الناس ثلاثة: عزيز قوم ذَلَّ، وغني قوم افتقر، وعالم بين جهال )) رواه جمع من الصحابة وهم: أنس، وعبدالله بن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -، لكن كل طريق فيها مجاهيل أو ضعفاء أو متهمون بالكذب، ولذا أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات(4)، وتعقبه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"(5).
ثانياً: المشهور غير الاصطلاحي:
وهو المشهور على الألسنة من غير شروط معتبرة، فهو أعم من المشهور الاصطلاحي، وهذا أنواع كثيرة منها:
1- المشهور على ألسنة المحدثين خاصة، ومثاله: حديث أنس - رضي الله عنه -: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان)) أخرجه الشيخان(6).
__________
(1) برقم (445).
(2) هو العُقيلي الجزري، متروك، التقريب (5012).
(3) بضم العين المهملة – العُقيلي الجزري، صدوق يخطئ، ت 168هـ، روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجة، التقريب (2539).
(4) 1/236.
(5) 1/211.
(6) البخاري 2/32، كتاب الوتر، ومسلم 1/468، كتاب المساجد رقم (299).(37/24)
ووجه كونه مشهوراً عند المحدِّثين خاصة: أنه من رواية سليمان التيمي(1)، عن أبي مجلز(2)، عن أنس لا يعلمه إلا أهل الحديث(3)، أمَّا عند غيرهم فغريب من هذه الطريق؛ لأن المشهور عندهم: أنه من رواية سليمان التيمي عن أنس بدون واسطة(4).
2- المشهور عند الفقهاء خاصة مثاله حديث ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر)) رواه مسلم(5).
وكونه مشهوراً عندهم: أنه أصبح كالقاعدة التي يندرج تحتها فروع عدة. وكحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه الحاكم(6).
3- المشهور عند الأصوليين خاصة، كحديث ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران)) أخرجه الشيخان(7).
4- المشهور عند المؤدبين، كحديث: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) وهو حديث ضعيف أخرجه السمعاني(8).
5- المشهور عند العامة، كحديث ((العجلة من الشيطان))أخرجه أبو يعلى(9).
ونظراً لقلة المشهور الاصطلاحي من الحديث لم يصنف فيه أحد، أما المشهور غير الاصطلاحي -المشهور على الألسنة- فقد اعتنى به العلماء، وصنفوا فيه، ومن أهم تلك المصنفات وأشهرها:
- "التذكرة في الأحاديث المنتثرة" لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبدالله الزركشي "ت: 794هـ"، لخصه وزاد عليه الحافظ السيوطي "ت 911ه" في كتاب سماه "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة".
__________
(1) هو سليمان بن بلال أبو محمد المدني، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 177هـ، التقريب (2539).
(2) هو لاحق بن حُميد السدوسي، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 106هـ، التقريب (7490).
(3) الغاية شرح البداية 1/237، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 93.
(4) انظر اليواقيت والدرر 1/156.
(5) كتاب البيوع، 3/53.
(6) المستدرك 2/75، وصححه ووافقه الذهبي.
(7) الفتح 13/218 – ومسلم 3/1342.
(8) أدب الإملاء والاستملاء، ص 87.
(9) المسند 7/ 4256، وإسناده حسن.(37/25)
- "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة" للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي " ت 902هـ " وهو كتاب أظهر فيه مصنفه كثيراً من لطائف وفنون الصناعة الحديثية، كطرق الأحاديث والمتابعات والشواهد والكلام عليها.
- وقد اختصره تلميذه ابن الديبع الشيباني وجيه الدين عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن عمر اليمني الشيباني " ت 950هـ ".
- "البدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير" لعبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني " ت 973هـ " ذكر فيه نحواً من ألفين وثلاثمائة حديث مرتبة على حروف المعجم.
- "تيسير السبيل إلى كشف الالتباس عما دار من الحديث بين الناس" لعز الدين محمد بن أحمد الخليلي " ت 1057هـ.
- "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" للإمام إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي العجلوني أبي الفداء الجراحي "ت 1162هـ" لخصه من كتب من سبقوه.
القسم الثاني: العزيز(1)
تعريفه:
لغة: صفة مشبهة على وزن فعيل، مأخوذ من الفعل عزَّ يَعِزُّ –بكسر العين– بمعنى قلَّ وندر.
وقيل: مأخوذ من عزَّ يَعَزُّ – بفتح العين – بمعنى قوي واشتد، ومنه قول الله تعالى:( ? ( ([ يس?: 14].
وهذان المعنيان ينطبقان على العزيز، فهو قليل نادر بالنسبة لغيره من أنواع الحديث، وهو يقوي بعضه بعضاً لكونه جاء من طريقين فيعزز أحدهما الآخر ويقويه.
وفي الاصطلاح: ما رواه اثنان عن اثنين في جميع طبقات الإسناد أو بعضها(2). وقيل: ما رواه اثنان أو ثلاثة(3).
__________
(1) لمزيد المعرفة بهذا النوع، انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 270، الباعث الحثيث ص 161، وفتح المغيث للسخاوي 4/5، تدريب الراوي 2/180، منهج النقد في علوم الحديث ص 415.
(2) هذا اختيار الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو الراجح إن شاء الله؛ لأنه يميزه عن المشهور وغيره. انظر: شرح النخبة، ص 197.
(3) وهذا قول النووي وابن الصلاح.(37/26)
فخرج بقوله " اثنين " المشهور؛ لأنه ما كان محصوراً بأكثر من اثنين ما لم يبلغ حدَّ التواتر، وخرج به الغريب؛ لأنه ما رواه راوٍ واحد – كما سيأتي.
مثاله: حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ماله وولده والناس أجمعين)) أخرجه الشيخان(1) من حديث أنس.
فقد رواه من الصحابة اثنان هما:
1) أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
2) أبو هريرة - رضي الله عنه - (2).
ورواه عن أنس اثنان هما:
1) عبد العزيز بن صهيب(3).
2) قتادة بن دعامة السدوسي(4).
ورواه عن عبد العزيز بن صهيب اثنان هما:
1) عبد الوارث بن سعيد العنبري(5).
2) إسماعيل بن عُلَيَّة(6).
ورواه عن قتادة اثنان هما:
1) شعبة بن الحجاج(7).
2) حسين المعلم(8).
__________
(1) البخاري برقم 15 – كتاب الإيمان باب حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم من الإيمان، ومسلم برقم 44 – كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .
(2) رواية أبي هريرة، أخرجها ابن ماجه برقم " 2769 " كتاب الجهاد، باب التكبير في سبيل الله،والحاكم في المستدرك 2/86.
(3) هو البناني، البصري، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 130هـ، التقريب (4102).
(4) أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، روى عنه الجماعة، ت 196هـ، التقريب (5518 ".
(5) أبو عبيدة التنوري، ثقة ثبت، روى عنه الجماعة، ت 180هـ، التقريب (4251 ".
(6) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم أبو بشر البصري، المشهور بابن علية، ثقة حافظ، روى عنه الجماعة، ت 173هـ، التقريب (416).
(7) أبو بسطام الواسطي، ثقة حافظ متقن، روى عنه الجماعة، ت 160هـ، التقريب (2790).
(8) هو ابن ذكوان العوذي، المُكْتِب، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 145هـ، التقريب (1320).(37/27)
فنجد فيما تقدم أن الحديث قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان: أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما ورواه من التابعين ثلاثة وهم: عبد العزيز بن صهيب، وقتادة عن أنس، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج(1) عن أبي هريرة. ورواه عن عبد العزيز بن صهيب اثنان هما: عبد الوارث وابن علية. وعن قتادة اثنان هما: شعبة وحسين المعلم.
وهكذا يزداد العدد في الطبقات التالية.
حكم الحديث العزيز:
قد يكون مقبولاً – صحيحاً أو حسناً – وقد يكون ضعيفاً، بناء على توافر شروط القبول من عدمها.
وجوده:
ذهب أبو حاتم البستي -المعروف بابن حبان- "ت 354 هـ" إلى أن الحديث العزيز يَعِزُّ وجوده أو لا يكاد يوجد؛ بدليل أنه لم يصنِّف فيه أحدٌ(2).
وقد تعقبه الحافظ ابن حجر فقال: "إن أراد أن رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلاً فيمكن أن يُسَلَّم، وأمَّا صورة العزيز التي حررناها فموجودة بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين". ثم ذكر الحديث السابق(3).
قلتُ: والذي يظهر أنه لا خلاف بين القولين، فإن الإمام ابن حبان لم ينف وجود العزيز وإنما أشار إلى قلته بالنسبة للحديث المتواتر والمشهور والغريب، ولهذا قال: لا يكاد يوجد... ولم يصنِّف فيه أحد، وكلام الحافظ ابن حجر يدل على أنه موجود ولكنه لا ينفي القلة، فالخلاف شكلي، والله أعلم.
القسم الثالث: الغريب " أو الفرد ":
أولاً: الغريب: تعريفه:
لغة: الغريب – صفة مشبهة على وزن فعيل، مأخوذة من الغربة وهي النزوح والبعد عن الوطن، ومنه غروب الشمس. وسمِّي الغريب غريباً لانفراده وبعده عن وطنه وأقاربه(4).
__________
(1) أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، ت 117هـ، روى عنه الجماعة، التقريب (4033).
(2) انظر: الإحسان 1/118.
(3) انظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص 206.
(4) انظر معجم مقاييس اللغة، 3/695.(37/28)
وفي الاصطلاح: هو الحديث الذي تفرد بروايته راو واحد في أي طبقة من السند(1).
وسواء كان التفرد بكل الحديث أو بشيء منه.
أنواعه:
قسم علماء الحديث الغريب إلى أربعة أنواع:
الأول: الغريب سنداً ومتناً: وهو الحديث الذي لا يعرف متنه إلا عن طريق راو واحد، وهذا يسمى الفرد المطلق وسيأتي.
مثاله: ما رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث(2)، بسنده عن طريق محمد بن سوقة(3)، عن محمد بن المنكدر(4) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا الدين متين(5) فأوغلوا(6) فيه برفق، ولا تُبغض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبت(7) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
قال الحاكم: هذا الحديث غريب المتن والإسناد؛ فلم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا جابر، ولم يروه عن جابر إلا محمد بن المنكدر، ولم يروه عن محمد بن المنكدر إلاّ محمد بن سوقة.
الثاني: الغريب سنداً لامتناً. وهو: الحديث الذي عرف متنه عن صحابة معينين ثم ينفرد بروايته راوٍ عن صحابي آخر.
__________
(1) انظر مقدمة ابن الصلاح مع التقييد ص 270، وشرح الهندابة للسخاوي، 1/308.
(2) ص 96).
(3) هو أبو بكر الغنوي: الكوفي، ثقة عابد، روى عنه الجماعة، الكاشف برقم (4895).
(4) هو ابن عبدالله، التيمي، المدني حافظ إمام، روى عنه الجماعة، ت 130هـ، السابق برقم (5170).
(5) أي قوي شديد، النهاية 4/293.
(6) الإيغال: الدخول في الشيء، والمعنى: سيروا فيه برفق وابلغوا الغاية القصوى منه بالرفق لا على سبيل التهافت ولا الخرق ولا تحمل نفسك وتكلفها ما لا تطيق فتعجز فتترك الدين والعمل، المرجع السابق5/209.
(7) أي دائم السير فينقطع عنه فيقال له منبت أي منقطع، والمراد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب ظهره، أي راحلته – النهاية 1/92.(37/29)
مثاله: ما رواه أبو كريب عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معىً واحد))
قال الحافظ ابن رجب "ت 795هـ": هذا حديث معروف المتن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة(1) ومن حديث ابن عمر(2)، أما حديث أبي موسى الأشعري: فخرجه مسلم(3) عن أبي كريب(4)، عن أبي موسى. وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه، ومنهم البخاري وأبو زرعة، وذكروا أن أبا كريب تفرد به".(5)
الثالث: غريب في بعض الإسناد، ويمثل له بالشاذ(6) في مقابل المحفوظ(7)، ويمكن أن ينطبق عليه المثال السابق.
الرابع: غريب في بعض المتن، وهو أن ينفرد راوٍ بزيادة في المتن لم يوافقه عليها الآخرون.
__________
(1) أخرجه البخاري 9/469، كتاب الأطعمة باب المؤمن يأكل في معي واحد، ومسلم برقم 2063، كتاب الأشربة باب المؤمن يأكل..
(2) البخاري 9/468 في الكتاب والباب السابقين، ومسلم برقم 2060.
(3) في صحيحه- برقم 2062، في الكتاب والباب السابقين.
(4) هو محمد بن العلاء بن كُريب الهَمْداني، ثقة حافظ، روى عنه الجماعة، ت 147هـ.
(5) انظر شرح علل الترمذي 1/440.
(6) الشاذ: مارواه المقبول – أي راوي الصحيح والحسن – مخالفاً لمن هو أوثق منه.
(7) المحفوظ: ما رواه الثقة الذي رجحت روايته على رواية غيره من الثقات بأي وجه من وجوه الترجيح. قال الحافظ ابن حجر: "إن خولف راوي الصحيح والحسن بأرجح منه لمزيد ضبطه أو كثرة عدده أو غير ذلك من المرجحات فالراجح يقال له: المحفوظ والمرجوح يقال له الشاذ )).ا.ه، انظر نخبة الفكر، ص 28.(37/30)
مثاله: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((الأرض كلها مسجد إلاَّ المقبرة والحمَّام))(1) رواه عمرو(2) بن يحيى(3) بن عمارة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد مرفوعاً هكذا، بزيادة الاستثناء وما بعده(4).
بينما أصل الحديث: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) بدون الاستثناء، رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة من الصحابة(5) بهذا اللفظ.
أمَّا الفرد وعلاقته بالغريب: فقبل الكلام على هذه القضية لابدَّ من تعريف الفرد وبيان أنواعه فأقول وبالله التوفيق: .
ثانياً: الفرد:
الفرد لغة: أصل يدل على الواحد مأخوذ من فرد بمعنى انفرد والفرد الوتر أي الواحد، والجمع أفراد، وتفرَّد أو استفرد بكذا أي انفرد به(6).
وفي الاصطلاح: هو الحديث الذي تفرد بروايته راوٍ واحد(7).
أنواع الحديث الفرد:
قسم علماء الحديث الفرد إلى نوعين(8) رئيسين هما:-
أ) الفرد المطلق: وهو الحديث الذي يتفرد بروايته راوٍ واحد عن جميع الرواة بحيث لا يرويه غيره.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 492، كتاب الصلاة باب في المواضع كلها تجوز فيها الصلاة، والترمذي برقم 317، وكتاب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني في أحكام الجنائز، ص 211.
(2) ثقة روى عنه الجماعة، التقريب (5139).
(3) الأنصاري المدني، ثقة، روى عنه الجماعة، التقريب (7612).
(4) أخرجه أبو داود والترمذي كما تقدم،وانظر شرح علل الترمذي، 2/627.
(5) وهم: علي، وابن عمرو، وأبو هريرة، وجابر بن عبدالله، وابن عباس، وحذيفة وأنس وأبو أمامة، وأبو ذر كذا عدهم الترمذي في الموضع السابق.
(6) مختار الصحاح ص 496.
(7) انظر مقدمة بن الصلاح، ص 187، واختصارها لابن كثير 2/460.
(8) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح 2/703.(37/31)
مثاله: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء(1) وهبته)).
أخرجه الإمام البخاري(2) بسنده عن عبد الله بن دينار(3)، عن عبد الله ابن عمر – رضي الله عنهما – مرفوعاً به.
فهذا الحديث لا يرويه أحد عن ابن عمر - رضي الله عنه - إلا عبد الله بن دينار، ولا يعرف إلاَّ من طريقه.
ب) الفرد النسبي: وهو ما يقع فيه التفرد بالنسبة على جهة خاصة.
وهو أنواع أيضاً(4).
منها: ما تفرد به راوٍ عن راوٍ:
مثاله: حديث أيمن بن نابل – بنون وموحدة(5) – قال: أتيت جابراً - رضي الله عنه - فقال: إنَّا يوم الخندق(6) نحفر فعرضت كُدْية(7) شديدة فجاؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا نازل))، ثم قام وبطنه معصوب بحجر... الحديث – أخرجه البخاري(8).
فهذا الحديث تفرد به أيمن عن جابر - رضي الله عنه - وقد روي من طرق أخرى من غير حديث جابر.
__________
(1) الولاء أي: ولاء العتق وهو إذا مات المعتق ورثه معتقه، وكانت العرب تبيعه وتهبه فنهي عنه؛ لأن الولاء كالنسب، النهاية 5/227.
(2) في صحيحه برقم (6756)، كتاب الفرائض باب إثم من تبرأ من مواليه، ومسلم – شرح النووي على مسلم 3/740.
(3) أبو عبدالرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 127هـ، التقريب (3301).
(4) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح 2/705.
(5) أبو عمران ويقال: أبو عمرون الحبشي، المكي، صدوق، روى عنه، البخاري والأربعة إلا أبا داود، التقريب (597).
(6) أي غزوة الخندق وكانت في السنة الخامسة من الهجرة.
(7) بضم الكاف وسكون الدال، هي قطعة غليظة صلبة لا تعمل فيها الفأس، النهاية 4/156.
(8) برقم (4101 (كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب.(37/32)
ومنها: تفرد أهل بلد بالرواية عن(1) شخص:
مثاله: حديث حنش الصنعاني(2)، قال: كان علي - رضي الله عنه - يضحي بكبشين، كبش عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكبش عن نفسه وقال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبداً. أخرجه الحاكم في المعرفة(3).
وهذا الحديث تفرد به أهل الكوفة من أول الإسناد إلى آخره لم يشركهم فيه أحد.
ومنها: ما تفرد به شخص عن أهل بلد – عكس السابق–:
قال الحافظ: "وهو قليل جداً، وصورته أن ينفرد شخص عن جماعة بحديث تفردوا به"(4).
ومنها: ما تفرد به أهل بلد عن أهل بلد أخرى:
__________
(1) ليس معنى ذلك أن أهل البلد رووا الأحاديث أو الحديث عن ذلك الشخص، وإنما هذا من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
(2) هو ابن عبدالله – ويقال: ابن علي - بن عمرو السبائي أبو رشيدين، نزيل أفريقيا، روى عنه مسلم والأربعة، (ت 100هـ)، التقريب (1576).
(3) ص 96، وأخرجه أبو داود 3/94، كتاب الضحايا، باب الأضحية عن الميت، والترمذي في 4/84، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من شريك، قلت: وحنش الصنعاني مختلف فيه. انظر: عون المعبود
7/486 وما بعدها.
(4) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/707.(37/33)
ومثاله: ما أخرجه الحاكم في "معرفة علوم الحديث(1)" بسنده عن الحسين بن داود البلخي قال: حدثنا الفضيل بن عياض(2) قال: حدثنا منصور(3) عن إبراهيم(4) عن علقمة(5) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله عزوجل للدنيا: يا دنيا اخدمي من خدمني، وأتعبي يا دنيا من خدمك)).
قال الحاكم: "هذا حديث من أفراد الخراسانيين عن المكيين؛ فإن الحسين ابن داود البلخي والفضيل بن عياض عداه في المكيين"(6).
قلت: هذا حديث ضعيف جداً؛ فالحسين بن داود ضعيف جدا،ً أغلب أحاديثه موضوعة(7).
تفرد أهل بلد بالحديث دون غيرهم:
مثاله: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد)). أخرجه مسلم وغيره، وهذا الحديث له طريقان(8) عن عائشة، رواتهما كلهم مدنيون.
قال الحاكم: "تفرد أهل المدينة بهذه السنة"(9).
العلاقة بين الغريب والفرد:
بالنظر إلى ما تقدم يتبين أن العلاقة بين الغريب والفرد علاقة عموم وخصوص؛ ذلك أن الغريب أعم من الفرد فكل غريب فرد ولا عكس.
__________
(1) ص 101.
(2) هو ابن مسعود التميمي أبو علي الزاهد، (ت 187 هـ)، تذكرة الحفاظ 1/245.
(3) هو ابن المعتمر أبو عتاب، ثقة ثبت، روى عنه، الجماعة، (ت 132 هـ)، التقريب (6908)
(4) هو ابن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، ثقة كان يرسل كثيراً، روى عنه الجماعة، (ت 96هـ)، الكاشف (221).
(5) هو ابن قيس أبو شبل الفقيه، ثقة مشهور، روى عنه الجماعة، (ت 62هـ)، الكاشف (3873).
(6) معرفة علوم الحديث، ص 101.
(7) انظر: تاريخ بغداد 8/44.
(8) الأولى عند مسلم برقم 99، كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد، والثانية برقم101، الكتاب والباب السابقان.
(9) معرفة علوم الحديث، ص 97.(37/34)
قال ابن الصلاح "ت 643هـ": "ليس كل ما يعد من نوع الأفراد معدوداً من أنواع الغريب كالأفراد المضافة إلى البلاد"(1).
ولذا نجد أن الحافظ ابن حجر- رحمه الله – قد مزج بينهما ولم يفرق، وقال: "ويقل إطلاق الفرد النسبي على الغريب؛ لأن الغريب والفرد مترادفان لغة واصطلاحاً، إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي، هذا من حيث إطلاق الاسم عليهما، وأمَّا من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون، فيقولون في المطلق والنسبي: تفرد به فلان أو أغرب به فلان"(2).
الفصل الثاني:
في شروط قبول حديث الآحاد
الفصل الثاني: في شروط قبول حديث الآحاد
شروط قبول خبر الآحاد بأنواعه الثلاثة:
الشروط المتفق عليها عند جماهير العلماء خمسة شروط(3) هي:
1) أن يكون الراوي عدلاً.
2) أن يكون ضابطاً.
3) أن يكون الإسناد متصلاً.
4) أن يكون الخبر سالماً من الشذوذ.
5) أن يكون الخبر سالماً من العلة.
معنى هذه الشروط إجمالاً:
- عدالة الراوي: بأن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً(4) سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة وسيئ العادات(5).
__________
(1) علوم الحديث، ص 244.
(2) انظر شرح النخبة، ص337.
(3) انظر: مقدمة بن الصلاح ص 15، والنكت على نزهة النظر ص 82، تحقيق الأثري.
(4) هذا الشرط لازم عند الأداء أما عند التحمل فقد أجمع العلماء على قبول ما تحمله الراوي حال صغره كرواية الحسن والحسين وابن عباس.
(5) خرج بهذا رواية غير العدل، وهو مجهول العدالة من المسلمين والفاسق والمبتدع الذي يدافع عن بدعته ويدعو إليها وإن كان صادقاً.(37/35)
وقال ابن السمعاني "ت 489هـ": "لابد في العدل من أربعة شرائط: المحافظة على فعل الطاعة، واجتناب المعصية، وألاّ يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض، وألا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم، وأن لا يقتصر من المذاهب ما يرد أصول الشرع"(1).
- ضبط الراوي: أن يكون حافظاً متقناً لما حفظ في صدره، قادراً على استحضاره عند الحاجة إليه إن كان يحدِّث من حفظه، وأن يكون كتابه معارضاً على كتاب شيخه، ومحافظاً عليه من أن تناله أيدي العابثين، عالماً بما فيه إن كان يحدث من كتابه، وعليه فالضبط عند العلماء ضبطان:
1- ضبط صدر……2- ضبط كتاب.
وخرج بما تقدم: فحش الغلط، وكثرة الأوهام، وسوء الحفظ، والغفلة، والمخالفة للثقات، فإن هذه كلها أو بعضها من الأسباب التي تخلُّ بضبط الراوي(2).
- واتصال السند: معناه أن يكون كل راوٍ في الإسناد قد أخذ عمن فوقه مباشرة(3).
- والسلامة من الشذوذ: ألاّ يكون الراوي مخالفاً من هو
أوثق منه، سواء في الإسناد أو في المتن(4).
- والسلامة من العلة: ألاَّ يكون في الحديث – سنداً أو متناً – سبب خفيٌّ يقدح في صحته، وإن كان الظاهر سلامته من ذلك.
قال ابن الصلاح "ت 643 هـ ": "أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي اتصل إسناده، بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ وما فيه علة قادحة، وما في راويه نوع جرح"(5).
والشرطان الأخيران زادهما أصحاب الحديث كما قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح"(6) وزاد: "وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء".
__________
(1) إرشاد الفحول، 1/265.
(2) انظر: النكت ص 114 – 139، تحقيق الأثري.
(3) المرجع السابق، ص 97.
(4) المرجع السابق، ص 97.
(5) علوم الحديث/ ص 15 – 16.
(6) ص 6.(37/36)
قال الحافظ العراقي: "والجواب: أن من يصنف في علم إنما يذكر الحدَّ عند أهله لا عند غيرهم من أهل علم آخر... وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما"(1).
قلتُ: ولذا قال ابن الصلاح بعد تعريفه للصحيح: "فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث"(2).
الفصل الثالث: الأقوال في حجية خبر الآحاد
ويشمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد.
المبحث الثاني: أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد مطلقاً إذا احتفت به القرائن.
المبحث الثالث: أدلة القائلين بعدم الاحتجاج بخبر الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد.
المبحث الأول: قبول حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد:
1- القائلون به:
ذهب جمهور العلماء من السلف الصالح – الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث والفقه والأصول- إلى أن خبر الواحد حجة في الأحكام والعقائد، يلزم من بلغه العمل به إذا توافرت فيه شروط الحديث المقبول الخمسة المتفق عليها: اتصال السند، عدالة الراوي، وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، ما لم يكن منسوخاً أو مرجوحاً.
قال الإمام الشافعي "ت 204هـ": "لو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الآحاد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلاَّ قد أثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت بأن ذلك موجود على كلِّهم"(3).
وبوَّب البخاري لذلك فقال: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، وذكر فيه خمسة عشر حديثاً.
__________
(1) التقيد والإيضاح ص 8.
(2) علوم الحديث ص 16.
(3) الرسالة ص 457.(37/37)
قال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ": "المراد بالإجازة: جواز العمل به والقول بأنه حجة، وقصد بالترجمة الرد على من يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به إلاَّ إذا رواه أكثر من شخص واحد يصير كالشهادة ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر"(1).
وقال ابن بطال "ت 444هـ": انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد "(2).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم "ت 457 هـ": "قال أبو سليمان، والحسين بن علي الكرابيسي(3)، والحارث بن أسد المحاسبي(4) وغيرهم: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معاً وبهذا نقول ".
وقال أيضاً: " القرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله، فمن جاءه خبر عن رسول الله يقرُّ أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أولقول فلان وفلان فقد خالف الله وأمر رسوله"(5).
وقال الخطيب البغدادي "ت 463هـ": "وعلى العمل بخبر الواحد كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه "(6).
وقال ابن عبد البر "ت 463هـ": "وكلهم يرون خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرناه "(7).
__________
(1) فتح الباري 13/233.
(2) فتح الباري 13/321.
(3) الفقيه الشافعي (ت 248).
(4) أبو عبدالله من كبار الصوفية كان زاهداً وعظاً (ت 243).
(5) الإحكام 1/98، 102، 108 بتصرف.
(6) الكفاية ص 72.
(7) التمهيد 1/34.(37/38)
وقال: "خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل الإسناد يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة "(1).
وقال ابن دحية(2) " ت 633هـ": "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد ويدينون به في الاعتقاد"(3).
وهو ما رجحه الحافظ ابن الصلاح "ت 643هـ" في (( مقدمة علوم الحديث))(4) قال - بعد ذكره لأقسام الصحيح -: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لمن نفى ذلك".
وتعقبه الإمام النووي "ت 676 هـ" فقال: "خالفه المحققون والأكثرون"(5).
قلتُ: ولم أجد من وافق الإمام النووي على هذا القول، بل إنه قال في "شرحه لصحيح مسلم"(6): "الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل...".
__________
(1) جامع بيان العلم 2/34.
(2) هو أبو الخطاب عمر بن الحسن الأندلسي. يلقب بذي النسبين نسب إلى دحية الكلبي ونسب إلى الحسن
ابن علي.
(3) الابتهاج في أحاديث المنهاج ص 78.
(4) ص 24.
(5) التقريب ص 14.
(6) 1/131.(37/39)
وقال الإمام ابن كثير "ت 774 هـ": - بعد كلام ابن الصلاح –: "وهذا جيد وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، ثم وقفت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية مضمونه: نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة، منهم: القاضي عبدالوهاب المالكي(1)، والشيخ أبو حامد الإسفراييني(2)، والقاضي أبو الطيب الطبري(3)، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد(4) وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب(5) وابن الزعفراني(6) وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية... ".
وقال أيضاً: " وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحاق الإسفراييني(7) وابن فورك، وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"(8).
قال ابن كثير: "وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء الأئمة الأربعة "(9).
__________
(1) هو الإمام الفقيه أبو محمد البغدادي (ت 422هـ).
(2) هو محمد بن أحمد شيخ الشافعية في زمانه (ت 406هـ).
(3) الإمام العالم ظاهر بن عبدالله أحد فقهاء الشافعية (ت 450هـ).
(4) أبو عبدالله الحسن بن حامد البغدادي (ت 403هـ).
(5) هو الفقيه محفوظ بن أحمد الكلوزاني البغدادي (ت 510هـ).
(6) هو الفقيه شيخ الحنابلة في عصره علي بن عبيد الله بن نصر البغدادي (ت 527هـ).
(7) هو إبراهيم بن محمد بن مهران (218هـ).
(8) انظر الفتاوى 18/40.
(9) الباعث الحثيث 1/127.(37/40)
وقال ابن القيم: "ت 751هـ":"ومعلوم مشهور استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القبول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى ومسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة وإخراج الموحدين من المذنبين من النار... وهذه الأشياء، علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"(1).
وقال أيضاً: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها في الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث العملية التي تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم من أهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه يجوِّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟! نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين..."(2).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 1/332.
(2) المرجع السابق 2/412.(37/41)
وقال أيضاً: "والذي ندين به ولا يسعنا غيره: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد كائنا من كان لا راويه ولا غيره"(1).
وقال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ" :يقبل خبر الواحد وإن كان امرأة(2) وقال أيضاً: " قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به"(3).
ونقل عن الإمام ابن دقيق العيد "ت 702هـ قوله: "المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة"(4).
وقال أبو الحسنات اللكنوي "ت 1304هـ": - عن حكم العمل بحديث الآحاد-: "وحكمه أنه يجب العمل به مالم يكن مخالفاً للكتاب والسنة... وهو الصحيح المختار عند الجمهور"(5).
وقال الشيخ محمد الخضري " ت 1345 هـ ": "تواتر عن الصحابة في وقائع لا تحصى العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على إيجاب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التي ظنوها باجتهادهم إذا روي لهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(6).
__________
(1) إعلام الموقعين 4/408 تحقيق مشهور.
(2) فتح الباري 1/308.
(3) فتح الباري 1/308.
(4) فتح الباري 1/381.
(5) ظفر الأماني ص 61.
(6) أصول الفقه ص 280.(37/42)
وقال أحمد شاكر " ت 1377هـ ": "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، وهذا العلم يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته واطمأن قلبه.... ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد، ومنه زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنكاراً لما يشعر به كل واحد من الناس من اليقين بالشيء ثم ازدياد هذا اليقين"(1).
2- أدلة القائلين بوجوب قبول خبر الآحاد في الأحكام والعقائد:
استدلوا بأدلة كثيرة من: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والعقل. وفيما يلي تفصيل ذلك وبالله التوفيق.
الدليل الأول: القرآن:
فالآيات القرآنية تدل صراحة أو ضمنياً على أخذ ما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان ذلك عن طريق التواتر أو عن طريق الآحاد، وتقدم معنا أن السلف – من الصحابة والتابعين – لم يكونوا يفرقون بين الأحاديث – آحاد ومتواتر – وإنما كانوا يقبلون ما بلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما الصحابة، أما التابعون فمن بعدهم فقد كانوا يفتشون عن الإسناد فلا يقبلون إلاَّ ما رواه العدل الضابط واشتهر عنهم: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"(2).
وكان سلف الأمة والتابعون لهم بإحسان يتلقون ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تفريق كذلك، عملاً بقول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحشر: 7].
__________
(1) الباعث الحثيث 1/125.
(2) رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه1/84،مع شرح النووي عن الإمام محمد بن سيرين (ت110ه) رحمه الله.(37/43)
لكن لما نبتت فرق الفتنة واتخذت كل طائفة لها أصولاً تبني عليها ما تراه عقولها اضطروا إلى معارضة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك النتائج، فأخذوا يبحثون عن مخرج، فما كان منهم إلا أن لجؤوا إلى علم الفلسفة والكلام وأخذوا يقسمون الأخبار إلى قطعي الثبوت وظني الثبوت، ومن ثمَّ إلى قطعي الدلالة وظني الدلالة، ومنها إلى متواتر وآحاد. ولما كان أغلب السنة آحاداً ركزوا جهودهم عليها، وقالوا إنها ظنية الثبوت فهي ظنية الدلالة، وفرقوا بين الأمور الاعتقادية والأمور العملية، فأجازوا الاستدلال بالأحاديث الآحاد في الأحكام ورفضوا الاستدلال بها في العقائد، بل تمادوا في غيهم فكان منهم من أنكر حتى المتواتر - كما سيأتي - وسار على طريقهم آخرون فأنكروا السنة مطلقاً، وهم الذين عرفوا في هذه الأزمنة المتأخرة بالقرآنيين – كما زعموا- فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وما سأذكره من الآيات الدالة على حجية السنة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر، فمن ذلك:
1) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة: 122].
ووجه الدلالة من الآية من وجهين:
الأول: من حيث المعنى اللغوي، فإن الله أمر الطائفة بالتفقه والإنذار، والطائفة القطعة من الشيء فيدخل فيه الواحد والاثنان والثلاثة، كما قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( [الحجرات: 9]، فيدخل فيه الاثنان إذا اقتتلا بدليل قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( (
[الحجرات:10] وقال:( ( ( ( ( ([التوبة: 66]، وكان رجلاً واحداً.
قال السرخسي "ت 490هـ": "ولا يقال الطائفة اسم للجماعة؛ لأن المتقدمين اختلفوا في تفسير الطائفة فقال محمد بن كعب: اسم للواحد. وقال عطاء: اسم للاثنين. وقال الزهري: للثلاثة، وقال الحسن: للعشرة، فيكون هذا اتفاقاً منهم أن الاسم يحتمل أن يتناول كل واحد من هذه الأعداد ولم يقل أحد بالزيادة على العشرة "(1).
__________
(1) أصول السرخسي 1/323.(37/44)
قال ابن الأثير "ت: 606هـ"الطائفة من الناس وتقع على الواحد"(1).
ولم يقل أحد بشرط بلوغها حدَّ التواتر.
الوجه الثاني: أن الله أمر الطائفة – واحداً فصاعداً – بالإنذار، والأمر يقتضي الوجوب، فلو لم يكن في الإنذار – من الواحد فصاعداً – فائدة تقتضي العمل لما أوجب الإنذار؛ لأن الإنذار معناه الإعلام المخوف بما يفيد العلم المقتضي للعمل.
ولهذا قال: ( ( (( "ولعل" هنا ليست للترجي، فإنه محال في حق الله تعالى لما يشعر به من علمه بالعاقبة، بل هو للطلب فيفيد وجوب المطلوب وهو الحذر اعتماداً على إنذار الطائفة (2).
وقد بوب الإمام البخاري بما يدل على هذا فقال: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق وقول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة:122]الآية، وساق في الباب اثنين وعشرين حديثاً مستدلاً بها على خبر الواحد.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ" شارحاً هذه الترجمة: "المراد بالإجازة: جواز العمل به أي بخبر الآحاد، والقول بأنه حجة، وقصد الترجمة الرد به على من يقول إن خبر الواحد لا يحتج به إلا إذا كان رواه أكثر من شخص حتى يصير كالشهادة"(3).
وقال أبو محمد بن حزم "ت: 456هـ": "لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلاً أو فاسقاً ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقاً فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته، فأوجب ذلك سقوط قبوله، فلم يبق إلاّ العدل، فكان هو المأمور بقبول نذارته، وقد حذر الله من مخالفة نذارة الطائفة، والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء، ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلماً ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوماً إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لزاماً لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة..."(4).
__________
(1) النهاية 3/153.
(2) انظر أخبار الآحاد للشيخ عبدالله بن جبرين.
(3) فتح الباري 13/233.
(4) الإحكام في أصول الأحكام 1/100.(37/45)
وقال السرخسي "ت 490 هـ": "لو لم يكن خبر الواحد حجة لوجوب العمل لما وجب الإنذار بما سمع... والأمر بالحذر لا يكون إلا بعد توجه الحجة، فدل أن خبر الواحد موجب للعمل"(1).
الاعتراض على هذا الدليل: اعترض على هذا الدليل بما يأتي:
أ) أن الضمير في قوله:( ( ( وقوله:( ( ( راجع إلى الطائفة الباقية لا إلى الطائفة النافرة للجهاد، وعليه فالآية لا تدل على إثبات العمل بخبر الواحد؛ بدليل أن الله توعد المتخلفين في غزوة تبوك، وعليه فلابدَّ من تقدير كلام في الجملة، فتكون: فلولا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة ليتفقهوا. ويجاب عن هذا: بأن الأصل عدم التقدير، وقد قال النحاة: وعدم التقدير أولى من التقدير(2).
ب) أن الوجوب المستفاد من الآية هو وجوب الإنذار لا وجوب العمل، كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها ولكن إذا انضم إليها غيرها.
وإلى هذا ذهب الإمام الغزالي " ت 505هـ"(3).
والجواب: أنه قياس مع الفارق، فإن الشاهد لا يجب عليه أداء الشهادة إذا كان لوحده؛ لأن ذلك لا ينفع المدعي إلا إذا انضم إليه ثانٍ؛ لأن وجود الشاهدين مطلب شرعي في محل الخصومات إلاَّ ما ورد النص بتخصيصه زيادة أو نقصاً، بينما الأمر بالعمل بما بلغه وصح سنده لا يحتاج إلى شهادة عدلين.
ج) أن المراد بالإنذار الفتوى؛ لأن الإنذار متوقف على التفقه، والخبر لا يلزم له التفقه، وعليه فالآية تدل على وجوب قبول خبر الواحد في الفتوى فقط.
والجواب: أنه يلزم من هذا أن يكون الخطاب في قوله تعالى:
( ( ( خاص بالمقلدين؛ لأن المجتهدين لا يقلد بعضهم بعضاً وعدم التخصيص أولى من التخصيص؛ لأن المجتهد يستفيد من الرواية باستنباط الأحكام منها والمقلد يستفيد الزجر وحصول الثواب فيكون عدم التخصيص أرجح(4).
__________
(1) أصول السرخسي 1/324.
(2) انظر روح المعاني للألوسي 11/44.
(3) المستصفى 1/120.
(4) أصول الفقه لأبي النور زهير 3/140.(37/46)
د) أن قوله تعالى:( ( ( ليس من صيغ الأمر الصريح فلا يكون الأمر واجباً.
والجواب: أن الله قد أمر بالتفقه في الدين، ثم بينه للناس وذم الذين يكتمون ما أنزل الله، ففي هذه الآية من الحض على التفقه والإنذار ما يؤيد ذلك، ولما كانت صيغة ( ( ( هنا ذكرت لتعليل الحض على التفقه، دل على وجوب التفقه ثم الإنذار، وهو التخويف الموجب للحذر؛ إذ لا تخويف في ترك غير واجب(1).
هـ) أن الأمر قد لا يدل على وجوب المأمور به.
والجواب: أن الأمر المطلق لا يصرف عن الوجوب إلا بقرينة، وها هنا دلت القرائن – وهي أدلة وجوب البيان والنهي عن الكتمان – على أنه للوجوب(2).
2) قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحجرات:6].
قال الإمام ابن القيم "ت 751ه": "وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وفعل كذا وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة. وفي صحيح البخاري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما نسبه إليه من قول أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم"(3).
__________
(1) أخبار الآحاد في الأحاديث النبوية، لشيخنا عبدالله بن جبرين، ص 116.
(2) المرجع السابق.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 2/394.(37/47)
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "ووجه الدلالة منها – يعني (( ( ( ( ( ( - يؤخذ من مفهومَيْ الشرط والصفة، فإنهما يقتضيان قبول خبر الواحد، وهذا الدليل يورَد للتقوّي لا للاستقلال؛ لأن المخالف قد لا يقول بالمفاهيم، واحتج الأئمة أيضاً بآيات أخرى، وبأحاديث في الباب، واحتج من منع بأن ذلك لا يفيد إلاَّ الظن.
وأجيب بأن مجموعها يفيد القطع كالتواتر المعنوي، وقد شاع فاشياً عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير، فاقتضى الاتفاق منهم على القبول، ولا يقال: لعلهم عملوا بغيرها أو عملوا بها لكنها أخبار مخصوصة بشيء مخصوص؛ لأنا لا نقول العلم حاصل من سياقها بأنهم إنما عملوا بها لظهورها لا لخصوص"(1).
ولو كان خبر الواحد لا يقبل مطلقاً لم يحتج إلى تعليل التثبيت فيه بالفسق؛ لأن علة الرد موجودة قبل الفسق فكان التعليل تحصيل حاصل(2).
وقد اعترض على هذا الاستدلال: بأنه استدلال بالمفهوم، وهو ليس بحجة، أو هو حجة ظنية، والظن احتمال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
والجواب: أن هذا الظن راجح بقرينة تأييد الفطرة، وعمل الأمة بالتفريق بين خبر العدل وخبر الفاسق واقع.
3) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( [الإسراء: 36]، أي لا تتبعه ولا تعمل به، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يَقْفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم(3).
4) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( [الأنبياء: 7].
__________
(1) فتح الباري 13/233.
(2) انظر روح المعاني للألوسي 24 /146.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 2/396.(37/48)
قال ابن القيم "ت 751هـ": فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علما،ً وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقاً، فلو كان واحداً لكان سؤاله وجوابه كافياً(1).
وقال شيخنا عبد الله الجبرين: "فقد أمر من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر ولو لم يجد إلا واحداً منهم، ولابدَّ أن جواب المسؤول يكتفى به، ويلزمه اعتقاده"(2).
وقد اعترض على الاستدلال بهذه الآية من وجهين:
الأول: أن قوله:( (? ليست صيغة أمر، وإن كانت كذلك فهي لا تفيد الوجوب.
والجواب: أنها صيغة أمر لكونها جاءت على صيغة "افعل" وهي من أصرح الصيغ الدالة على فعل الأمر عند المحققين.والأمر المطلق يفيد الوجوب، ولا يصرف عنه إلاَّ لقرينة.
الثاني: أن المراد بالسؤال – الاستفتاء من أهل العلم ويجوز قبول قول المفتي من غير شروط.
والجواب: ظاهر الآية أن الأمر فيها يدل على وجوب سؤال أهل الذكر من غير تخصيص المجتهد والمقلد.
5) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( [البقرة: 159].
وقوله:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [آل عمران: 187]. وهاتان الآيتان وإن كانتا نزلتا في أهل الكتاب على الخصوص، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد صرحتا بوجوب البيان وتحريم الكتمان للعلم، ويدخل فيه علم الكتاب والسنة، كما يدخل فيه الأفراد والجماعة.
قال الإمام ابن جرير الطبري "ت 310هـ": في الآية الأولى: "وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معني بها كل كاتم علماً فرض الله بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار))"(3)(4).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/396.
(2) أخبار الآحاد، ص 98.
(3) أخرجه أبو داود 2/288.
(4) جامع البيان في تأويل القرآن 2/53.(37/49)
قلتُ: وهذا يدل على وجوب تبليغ العلم ولو من واحد أو لواحد، وهذا يدل على أن خبر الواحد يفيد العلم ويقتضي وجوب العمل.
وقال شمس الأئمة السرخسي: "وفي هاتين الآيتين نهي لكل أحد عن الكتمان، وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى الجماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الأمر بالإظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به؛ إذ أمر الشارع لا يخلو من فائدة حميدة، ولا فائدة في النهي عن الكتمان والأمر بالبيان سوى هذا "(1).
وقد اعترض على الاستدلال بهذه الآية بأمور منها:
1- أن المراد منها تبليغ القرآن والخلاف في خبر الآحاد.
والجواب: أن السنة هي المبينة للقرآن والمكملة له، فهي من الدين الذي أمرنا بتبليغه، وكتمانها ككتمان القرآن، مع أن السنة أوحى الله تعالى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أوحى بالقرآن، كما قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [ النجم: 3-4].
وقال حسان بن عطية(2) "ت 120هـ": "كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن"(3).
2 - أن الوعيد في الآية على الكتمان، ولم تتعرض لحكم قبوله من الآحاد.
والجواب: أن الله قد أوجب على أهل العلم البيان وأوجب على أهل الجهل السؤال، ولا شك أن الوعيد يعم من كتم العلم ولو كان واحداً
-كما تقدم-.
3 - أن المراد من الآية إظهار كل فرد علمه لينضم خبره إلى خبر غيره، وهكذا فيحصل التواتر.
والجواب: أنه لا دليل على هذا التأويل، بل التحريم يعم كل من كتم علماً واحداً أو أكثر.
__________
(1) أصول السرخسي 1/322.
(2) أبو بكر المحاربي الدمشقي تابعي، ثقة، روى عنه الجماعة.
(3) أخرجه الدارمي في السنن 1/153.(37/50)
6) قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( (( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( [المائدة: 67]، فالآية فيها أمر بتبليغ جميع ما أنزل إليه لجميع الناس، ولو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر تبليغ الناس هذه الشريعة؛ لتعذر وصول خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل أحد، كما أنه يتعذر إرسال من يفيد خبرهم التواتر، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شهد الله له بإبلاغ الرسالة وإتمام النعمة، وإنما التبليغ عن طريق تبليغ الشاهد للغائب أفراداً أو جماعات.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: ((وأنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت...))(1).
ومعلوم أن هذا خطاب يدخل فيه كل واحد، وتبلُّغ الواحد تقوم به الحجة، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الواحد من الصحابة يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت الحجة على الخلف بما بلغه الثقات من السلف – آحاداً أو مثاني أو ثلاثاً أو متواتراً - وعدم الأخذ بهذا يلزم منه أمران – كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله-:
1 - إمَّا أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ إلاَّ القرآن وما رواه عنه عدد متواتر، وما سوى ذلك لا تقوم به حجة ولا تبليغ.
2 - أن يقال: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً، وهذان الأمران باطلان، وببطلانهما يبطل القول بأن أخباره - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علما،ً وهذا ظاهر لا خفاء فيه (2).
7) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء: 135].
وهذا خطاب لأهل الإيمان يتناول كل واحد، فمن أمر بالقسط وشهد لله وأخبر عن رسوله فقد أدى الشهادة وقام لله بالقسط، وهذا يعني قبول خبر الواحد، وأن ذمته تبرأ بذلك البلاغ والشهادة.
__________
(1) رواه مسلم 4/41.
(2) مختصر الصواعق 2/396.(37/51)
8) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 53].
فقد أمر الله بالاستئذان عند الرغبة في دخولهم أحد بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم من التطبيق العملي لهذا المبدأ - سواء من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله أو تقريره أو فعل الصحابة ومن تبعهم – أنه يكفي إذن الواحد للجماعة، ولا يلزم الاستئذان من كل أحد إذا كانوا جميعاً.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ ": "وهذا متفق على العمل به عند الجمهور، حتى اكتفوا فيه بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق"(1).
9) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (
[النساء: 65].
قال الإمام ابن القيم: "وفرض تحكيمه لم يسقط بموته، بل هو ثابت بعد موته كما كان ثابتاً في حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات... وقد افتتح – سبحانه – هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما تنازعوا فيه من دقيق الدين وجليله وفروعه وأصوله، ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم حتى ينتفي الحرج وهو الضيق مما حكم به فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحاً لا يبقى معه حرج ( ( ( ( أي ينقادوا انقياداً لحكمه، والله يشهد ورسوله وملائكته والمؤمنون أن من قال: أدلة السنة القرآن والسنة لا تفيد اليقين وأن أحاديث الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم بمعزل عن هذا التحكيم وهو يشهد على نفسه بذلك"(2).
10) قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 34].
والمقصود من الحكمة: ما زاد على القرآن بلاشك؛ لأنه عطف الحكمة على القرآن، والحكمة هنا هي السنة عند جمهور المفسرين من السلف والخلف(3).
__________
(1) الفتح 13/240.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/352.
(3) انظر السنة لأبي نصر المروزي ص 112.(37/52)
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: "فنوَّع المتلو إلى نوعين: آيات وهي القرآن، وحكمة وهي السنة، والمراد بالسنة ما أخذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، كما قال: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إنه مثل القرآن وأكثر))(1).
وقال الأوزاعي عن حسان بن عطية: " كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن"(2). فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم أنزل بها جبرائيل من عند الله عز وجل كما نزل بالقرآن"(3).
فأمر الله نساء النبي أن يبلغن ما تلاه عليهن وما علمنه من سنته - وهي غير القرآن - ما من شأنه أن يخفى على غيرهن غالباً – كتحريم الصلاة والصيام على الحائض، وكقضاء الصوم دون الصلاة، وهذا تشريع عام حدّثن به في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته، وما أمرهن بذلك إلاَّ وقد أوجب على الأمة قبوله وقبول غيره عن الواحدة منهن، فالآية ترد على من لا يقبل في العقائد والتشريع إلا ما نقل بالتواتر، والغالب أنهن حدثن وهن متفرقات.
الدليل الثاني: السنة:
تقدم معنا أن الحديث المتواتر يعتبر قليلاً - إن لم يكن نادراً - إذا قورن بحديث الآحاد، وعليه فإن أغلب السنة آحاد، والأخذ بالآحاد أخذ بالسنة وَرَدُّه رد لها.
وفيما يلي بعض الأحاديث التي تدل على وجوب الأخذ بحديث الآحاد، وهي - كما قلت - على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
__________
(1) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 295، وأحمد في المسند 6/8، وأبو داود 4/187، كتاب السنة باب لزوم السنة، والترمذي 5/177، كتاب العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي، وابن ماجه
1/77 – المقدمة، والحاكم 1/108 وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، كلهم من حديث أبي رافع مرفوعاً به وله شاهد من حديث عبد الله بن معد يكرب عند الدارمي 1/144 وأحمد 4/130.
(2) تقدم تخريجه ص 69.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 2/340.(37/53)
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل)) وفي رواية: ((فادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة..)) الحديث. متفق عليه(1).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً وهو واحد أن يعلم أهل اليمن شرائع الإسلام، سواء منها ما كان علمياً كالشهادتين أو عملياً كالصلوات والزكاة.. فبدأ بعقيدة التوحيد، ما يجب عليهم أن يعرفوه في حق الله، ومن وجوب توحيده والإيمان بأسمائه وصفاته من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، وهكذا يعلمهم سائر الشرائع.
وهذا دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد وتقوم به الحجة على الناس ولولا ذلك لما اكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإرسال معاذ وحده.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "الأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أُمِّر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة"(2).
وقال الشيخ الألباني "ت1420هـ": "من لم يُسَلِّم لزمه أحد أمرين لا ثالث لهما:
1) القول بأن رسله - رضوان الله عليهم- ما كانوا يعلمون الناس العقائد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بذلك، وإنما أمرهم بتبليغ الأحكام فقط، وهذا باطل بالبداهة مع مخالفته لحديث معاذ.
__________
(1) البخاري مع الفتح 7/611 ـ كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، ومسلم مع شرح النووي 1/228 ـ كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
(2) الفتح 13/247.(37/54)
2) أنهم كانوا مأمورين بتبليغها، وأنهم فعلوا ذلك فبلغوا الناس كل العقائد الإسلامية، ومنها هذا القول المزعوم "لا تثبت العقيدة بخبر الآحاد" فإنه في نفسه عقيدة كما سبق، فعليه: فقد كان هؤلاء الرسل - رضوان الله عليهم - يقولون للناس: آمنوا بما نبلغكم إياه من العقائد لكن لا يجب عليكم أن تؤمنوا بها؛ لأنها أخبار آحاد، وهذا باطل كالذي قبله، فثبت بطلان هذا القول وثبت وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد"(1).
2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه يؤذن -وقال ينادي - بليل، ليرجع قائمكم(2)، وينبِّه نائمكم)) (3).
ووجه الاستدلال منه: أن الأذان إخبار واحد في أمر تشريعي قبله النبي - صلى الله عليه وسلم - وزكاه، فيلزم قبول خبر الواحد إذا صح سنده في سائر الشرائع والأحكام.
3- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه الشافعي(4) وغيره عن زيد بن ثابت(5).
ووجه الاستدلال: أنه حث على تبليغ مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه كل واحد، ولا يلزم وجود التواتر، ولا يلزم أن يكون المبلغ فقيهاً.
__________
(1) مصطلح الحديث للمحدث الألباني ص 87.
(2) قوله "ليرجع قائمكم" أي ليعود إلى نومه أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان. النهاية 2/202.
(3) أخرجه البخاري ـ الفتح 13/231 ـ كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق...
(4) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 175.
(5) أبو داود 3/322 كتاب العلم باب فضل نشر العلم، والترمذي 5/33 كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجه 1/84 المقدمة باب من بلغ علماً. وهو حديث حسن.(37/55)
قال الإمام الشافعي "ت204هـ": "فلما ندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرئ يؤديها، والامرؤ واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدي إليه؛ لأنه إنما يؤدى عنه حلال يُتَّبع أو حرام يُجتنب، أو حدٌّ يقام أو مال يؤخذ ويُعطى أو نصيحة في دين ودنيا. ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً))(1).
4- عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله قد أُنزل عليه قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"(2).
ووجه الاستدلال: أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر واحد، وتحولوا عن قبلة هي يقين عندهم إلى قبلة قد تكون في أول الأمر غير متحققة الثبوت، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بأمرهم فأقرهم ولم ينكر عليهم.
قال الشافعي: "أهل قباء أهل سابقة في الإسلام وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم به عليهم الحجة، ولم يَلْقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، وانتقلوا بخبر الواحد من أهل الصدق من فرض كان عليهم، ولم يكونوا ليفعلوه بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله"(3).
واعترض بعضهم بأن خبر المذكور أفادهم العلم بصدقه لما عندهم من قرينة ارتقاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوع ذلك؛ لتكرار دعائه به، والبحث إنما هو في خبر الواحد إذا تجرد عن القرينة.
__________
(1) الرسالة ص 402.
(2) أخرجه البخاري 1/87 ـ كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة ـ وفي التفسير باب من سورة البقرة، وفي مسلم 4/10، وكتاب المساجد، باب تحويل القبلة.
(3) الرسالة ص 406.(37/56)
والجواب: أنه إذا سلم لهم أنهم اعتمدوا على خبر الواحد كفى في صحة الاحتجاج به والأصل عدم القرينة(1).
5- حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأُبيّ بن كعب شراباً من فضيخ(2) وتمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس(3) لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت". أخرجه البخاري(4).
ووجه الاستدلال: أنهم عملوا بخبر الواحد بدليل استجابتهم الفورية لهذا الخبر، ولم ينتظروا حتى يتواتر الخبر أو يلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتثبتوا منه مع قربهم منه، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت.
قال الإمام الشافعي: " 204هـ ": "ولم يقل هو - يعني أبا طلحة - ولا هم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قربه منهم - أو يأتينا خبر عامّةٍ"(5).
6- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيساً(6) أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت، فإن اعترفت فليرجمها، فاعترفت فرجمها(7).
ووجه الاستدلال منه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتمد خبر أنيساً في اعتراف المرأة، وقبل أهلها إقامة الحد بخبر أنيس، مع ما في ذلك من إقامة حد وقتلٍ لنفسٍ مؤمنة.
__________
(1) الفتح 13/237.
(2) الفضيخ: هو شراب من البُر المشروخ ـ النهاية 3/453.
(3) هو حجر مستطيل منقور يدق فيه ويتوضأ منه ـ النهاية 5/259.
(4) الفتح 10/37 كتاب الأشربة، باب نزل تحريم الخمر وهي من البروالتمر.
(5) الرسالة ص 170.
(6) مصغراً، ابن أبي مرثد الأنصاري.
(7) أخرجه البخاري 4/491 كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود وفي مواضع أخرى ومسلم 3/1324 كتاب الحدود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما.(37/57)
7- حديث النور بنت عبد الله بن الحارث قالت: بينما نحن بمنى إذا علي ابن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذه أيام طعام وشرب فلا يَصُومَنَّ أحد فاتَّبع الناسَ وهو على جمل يصرخ فيهم بذلك(1).
قال الإمام الشافعي: "والنبي - صلى الله عليه وسلم -لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبره عن النبي بصدقه عند المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه.. وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق، وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان هكذا مع ما وصفت من مقدرة النبي بعثه جماعة إليهم كان ذلك - إن شاء الله -فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم أولى أن يثبت به خبر الصادق"(2).
8- حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ابعث لنا رجلاً يعلمنا الإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: ((هذا أمين هذه الأمة)). أخرجه مسلم(3).
__________
(1) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 411.
(2) السابق 412-413.
(3) الصحيح مع شرح النووي 7/29.(37/58)
ووجه الاستدلال من قوله: "ابعث لنا رجلاً" وقوله: "فأخذ بيد أبي عبيدة" الحديث، فهم فهموا أن الواحد يكفي في الإخبار والتعليم، وهو سيقوم بتعليم الإسلام شريعة وعقيدة، فلو لم تقم الحجة في ذلك بخبره وهو واحد لم يبعثه - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان هناك فرق في خبر الواحد عن الشريعة والعقيدة لبينه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عملياً، ولما اكتفى بإرسال واحد، وهكذا القول في إرسال علي ومعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، ولا ريب أن هؤلاء كانوا يعلِّمون الذين أُرسلوا إليهم العقيدة والشريعة، فلو لم تكن الحجة قائمة بهم على من أُرسل إليهم لم يبعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفراداً.
"وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث عليهم قائمة بقبول خبره - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق"(1).
9- عن سعيد بن جبير(2) قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي(3) يزعم أن موسى - صاحب الخضر - ليس موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب(4) عدو الله، أخبرني أُبيّ بن كعب قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر حديث موسى والخضر بما يدل على أن موسى بني إسرائيل هو موسى صاحب الخضر(5).
__________
(1) الرسالة ص 412.
(2) الوالبي أبو محمد أحد الأعلام ثقة ثبت فقيه تابعي مشهور روى عنه الجماعة، قتل شهيداً في شعبان 95هـ.
(3) بكسر الباء - وهو نوف بن فضالة وأمه كانت امرأة كعب الأحبار ـ تابعي ت بين 90-100هـ.
(4) يعني أخطأ وليس المراد به التكذيب لأن السلف ولا سيما الصحابة والتابعين يطلقون الكذب على الخطأ ـ كما قال الخطابي وغيره ـ انظر غريب الحديث للخطابي 1/187.
(5) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 442، والبخاري 1/35 ومسلم 2/227.(37/59)
قال الشافعي: ((فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أُبيّ بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يُكذب به امرأً من المسلمين؛ إذ حدثه أُبيّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر"(1).
قال الشيخ الألباني "ت 1420هـ": "وهذا القول من الإمام الشافعي
- رحمه الله - دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد؛ لأن كون موسى - عليه السلام - هو صاحب الخضر ـ عليه السلام ـ هي مسألة علمية وليست حكماً عملياً كما هو مبين، ويؤيد ذلك أن الإمام - رحمه الله -عقد فصلاً هاماً في الرسالة تحت عنوان: الحجة في تثبيت خبر الواحد(2)، وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وهي أدلة مطلقة أو عامة تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضاً، وكذلك كلامه عليها عامٌّ أيضاً، وختم هذا البحث بقوله: "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل، وكذلك من حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان(3)"(4).
10- رسل ورسائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض المجاورين لجزيرة العرب يدعوهم إلى الإسلام ـ شريعة وعقيدة ـ ولم يثبت أنهم إنما كانوا يخبرون من أُرسلوا إليهم بأحكام الشرع، بل كانت دعوتهم عامة إلى الإسلام بأحكامه وعقائده، وهذا مما تواتر علمه عند العامة والخاصة، فألزم - صلى الله عليه وسلم - كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه إليهم.
__________
(1) الرسالة ص 442-443.
(2) المرجع السابق ص401-453.
(3) المرجع السابق ص401-453.
(4) مصطلح الحديث للمحدث الألباني ص 116.(37/60)
قال الإمام الشافعي"ت204هـ ": "وبعث - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - في دهر واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام... ولم تزل كتب رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد ولاته ترك نفاذ أمره"(1).
قال الإمام ابن القيم"ت: 751هـ: "وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل الواحد من الصحابة يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسننه، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل"(2).
وقال أيضاً: "هذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلمية - يعني في العقيدة - كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته. ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرقين بين البابين؟! نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين.. وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعاً عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين..."(3).
__________
(1) الرسالة ص 181.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/394
(3) المصدر السابق 2/395 بتصرف.(37/61)
وقال ابن أبي العز الحنفي "ت 792هـ" في شرحه لقول الطحاوي: "وجميع ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرح والبيان كله حق" قال: "يشير الشيخ - رحمه الله - بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات، قالوا: والآحاد لا تفيد العلم ولا يحتج بها من جهة طريقها ولا من جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في الحقيقة ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( "((1) [النور: 39].
وبالجملة فقد ذكر ابن القيم "ت751هـ" واحداً وعشرين دليلاً على أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل معاً في الأحكام والعقائد، ثم قال:
"إن صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم، فيما سبيله العلم هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، أما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال فلابدّ من نقله عن طريق التواتر لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم من ذلك رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول"(2).
الدليل الثالث: الإجماع:
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 398.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/394، وانظر مبحث: ما يفيده خبر الآحاد من العلم من هذا البحث.(37/62)
أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يومنا هذا على حجية خبر الآحاد الصحيح - في الأحكام والعقائد - ولم يرد في القرآن ولا في السنة ولا في عمل أحد من الصحابة وقوله تخصيص أدلة لا يعمل بها إلا في الأحكام وأدلة لا يعمل بها إلا في العقائد، وأنهم قالوا: لا يحتج في العقائد إلا بالأحاديث المتواترة، ولم يرد عنهم -كما تقدم - تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، فضلاً عن أن يشترطوا شيئاً في المقبول من السنة، وإنما احتيج لتلك الشروط بعد ظهور الفتنة وركوب الناس الصعب والذلول، وأصبح من شاء يقول ما شاء.
وفيما يلي نذكر بعض الوقائع من الصحابة والتابعين الدالة على ذلك ومنها:
1- عمل أبي بكر في توريث الجدة، وقد أخذ بخبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، وتقدم.
2- قبول عمر بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -أخذها من مجوس هجر(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وكان عمر يقول: ما أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت - وعمل بخبر حَمْل بن مالك في دية الجنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد(2) أو وليدة(3).
وورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، بعد أن أخبره
__________
(1) أخرجه البخاري ـ الفتح 6/357 ـ كتاب الجزية، ومالك في الموطأ 1/207 والشافعي في الرسالة ص 186، والدارقطني في السنن 2/154، وهو صحيح،(انظر: إرواء الغليل رقم 1249).
(2) قوله: عبد أو وليدة ـ بدل من غرة ـ أي: العبد أو الوليدة نفسها وتجب إذا سقط ميتاً: النهاية 3/353
(3) أخرجه البخاري ـ الفتح 9/14، ومالك في الموطأ 2/855، والشافعي في الرسالة ص 185.(37/63)
الضحاك بن سفيان(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه بذلك(2).
واشتهر عن الصحابة الرجوع إلى عائشة، وأم سلمة، وميمونة، وحفصة، وفاطمة بنت أسد، وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم(3).
قال الشافعي "ت204هـ ": "ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدناه هذه السبيل، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا من أهل البلدان قال: وجدنا سعيداً بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا فيثبت حديثه سنة، ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيثبت حديثه سنة، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنة ـ وذكر طائفة من التابعين من بعدهم إلى عهده - هذا دأبهم مجمعون على تثبيت خبر الواحد واعتماده إذا كان مقبولاً".
ثم قال: "وغيرهم من محدثي المدينة كلهم يقولون: حدثني فلان لرجل من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من التابعين عن رجل من الصحابة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنُثَبِّت ذلك سنة ووجدنا...، ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إليه والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن فوقه ويقبله عنه من تحته، ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"(4).
__________
(1) الكلابي صحابي ولي نجداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أحرجه أبو داود 2/117 ـ كتاب الفرائض، باب المرأة التي ترث من دية زوجها. والترمذي 5/286، وابن ماجه 2/883 كتاب الديات باب الميراث من الدية.
(3) انظر فتح الباري 13/235.
(4) الرسالة ص 453-458 بتصرف.(37/64)
قال القاضي أبو يعلى "ت 458هـ": "يجب عندنا سماعاً وقال عامة الفقهاء والمتكلمين وهو الصحيح المعتمد عند جماهير العلماء من السلف والخلف"(1).
وقال الرازي "ت 606هـ: " في معرض ذكر أدلة حجية خبر الواحد..." العقل: وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع خبر مظنون فكان العمل به واجباً"(2).
وقال الآمدي "ت 631هـ": "إن عمل بعض الصحابة - بل الأكثر من المجتهدين منهم - بأخبار الآحاد، مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك"(3).
وقال الحافظ الخطيب البغدادي "ت 463هـ": "إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على قبول خبر الواحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشتهار ذلك منهم في وقائع كثيرة إن لم يتواتر آثارها حصل العلم بمجموعها".
وقال الإمام ابن عبد البر "ت 463": "إنه تواتر عن الصحابة في وقائع لا تحصى العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على وجوب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التي ظنوها باجتهادهم إذا روي لهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(4).
وقال ابن دقيق العيد "ت702 هـ": "ومن تتبع أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وجمهور الأئمة - ما عدا هذه الفرقة اليسيرة - علم ذلك قطعاً"(5).
__________
(1) العدة في أصول الفقه 3/809.
(2) المحصول 2/508.
(3) الإحكام 2/97.
(4) جامع بيان العلم وفضله 2/34.
(5) الاقتراح ص 27.(37/65)
قال ابن القيم: "وأما المقام الثامن، وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها، فهذا بلا شك فيه لمن له أقل خبرة بالمنقول؛ فإن الصحابة هم الذين رووا الأحاديث، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميعُ التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابعو التابعين مع التابعين"(1).
وقال أيضاً: "ومشهور ومعلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك إجماع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحدين من المذنبين من النار وفي صفة الجنة والنار وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وفي فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناقب الصحابة والأنبياء المتقدمين والرقاق وغيرها مما يكثر ذكره... وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا: خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، وكأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"(2).
وقال الإمام الشوكاني "ت 1250هـ": "ومن الإجماع: إجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد، وشاع كذلك وذاع ولم ينكره أحد، ولو أنكره منكر لنقل إلينا، وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح"(3).
__________
(1) مختصر الصواعق 502.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/505.
(3) إرشاد الفحول 1/253.(37/66)
وقال الشيخ الدكتور عبد الله الجبرين: "إن الاعتبار في الإجماع على كل فن بأهله المشتغلين به، فلا تضر مخالفة من أعرض عنه واشتغل بغيره، كما لا تضر مخالفة أهل الطب والعربية وأهل الكلام في هذا الباب؛ لعدم أهليتهم لمعرفة طرقه ومتونه ونقلته ونحو ذلك. ثم إنه لا يراد ـ أيضاً ـ بالإجماع اتفاق كل فرد من الأمة على العمل بكل فرد من الأحاديث"(1).
الدليل الرابع: القياس:
إن العقول السليمة والفهوم القويمة لا تفرق بين الأحاديث الصحيحة من حيث الثبوت والعمل؛ لأنها من شرع الله الذي أمرنا بالأخذ به، فيقاس العمل بالأحاديث في العقائد على الأخذ بالأحاديث الآحاد في الأحكام بجامع أنها:
1- من شرع الله الذي أمرنا بالأخذ به.
2- صدورها من مشكاة واحدة وهي مشكاة محمد صلى الله عليه وسلم.
3- أن السنة عموماً هي صنو القرآن؛ لكونها مأموراً بالأخذ بها، ولكونها البيان القولي والعملي لما أشكل فهمه وأجمل من القرآن.
قال الفخر الرازي "ت606هـ" في ذكر أدلة حجية خبر الآحاد: "ولنا النص، والإجماع والقياس والعقل".
ثم قال: "القياس: أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته "خبر الواحد" مقبول في الفتوى والشهادات موجب أن يكون مقبولاً في الروايات، والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة"(2).
__________
(1) أخبار الآحاد في الحديث النبوي ص 67 بتصرف.
(2) المحصول 2/508.(37/67)
قال الإمام ابن القيم "ت 751هـ": "ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها - يعني بالأحاديث الآحاد - كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولاسيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرقين بين البابين؟"(1).
ويقول الشيخ عبد العزيز الراشد: "هذا التفريق تأباه الفطرة السليمة والدين والعقل؛ لأنه لا يعقل أن يتقرب أحد إلى الله بعمل شيء أو تركه تدعو الطبيعة والفطرة إلى الأخذ به وفعله أو كراهته إلا وقد عقل قلبه على وجوبه أو حرمته أو كراهته أو استحسانه، وهذا عين العقيدة"(2).
قلتُ: إن القائلين بأنه لا يحتج بالحديث الآحاد في العقائد قد ثبت عنهم قبوله في إثبات عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ورؤية المؤمنين لله بالأبصار يوم القيامة ـ إلا من شذّ ـ ونعيم الجنة وعذاب النار... إلخ.
المبحث الثاني: قبول خبر الآحاد مطلقاً إذا احتفت به القرائن
ذهب إلى هذا القول طائفة من الحنابلة كالموفق ابن قدامة(3) وابن عقيل(4) وأبي البقاء.
__________
(1) محتصر الصواعق المرسلة 2/412.
(2) رد شبهات الإلحاد عن خبر ص 24.
(3) هو شيخ الإسلام عبد الله بن أحمد بن محمد أحد الأئمة الأعلام المقدسي الصالحي الدمشقي"620هـ".
(4) هو الإمام علي بن عقيل بن محمد بن عقيل أبو الوفاء شيخ الحنابلة في عصره)ت 513هـ".(37/68)
وهو قول النظام من المعتزلة، ووافقه عليه آخرون، واختاره الآمدي، وقال به أبو بكر بن الباقلاني، والفخر الرازي، وابن الحاجب وآخرون(1).
ولهذا قال الحافظ بن حجر "ت852": "وقد يقع في أخبار الآحاد ما يفيد العلم.. لكنه لا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح، والخبر المحتف بالقرائن أنواع.. منها:
1- ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن، منها:
جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة على التواتر. إلا أن هذا مختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين وبما لا يقع التجاذب(2) بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر. وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته(3).
2- المشهور إذا كان له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل.
3- ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، فإنه يفيد العلم عند سامعيه؛ لجلالة رواته، ولما يفهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم العدد الكثير من غيرهم، كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس. وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة المطلع على العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينبغي حصول العلم للمتبحر المذكور ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها:
أن الأول: يختص بالصحيحين.
__________
(1) انظر نهاية السول شرح منهاج الأصول 2/215، الإحكام للآمدي 2/32، المختصر لابن الحاجب
2/56، روضة الناظر 1/260.
(2) أي التعارض ـ شرح شرح النخبة ص43.
(3) أي ثبوته فإن فيهما ما هو حسن على الاصطلاح.(37/69)
والثاني: بما له طرق متعددة.
والثالث: بما رواه الأئمة"(1).
وأما القرائن المنفصلة عن الراوي فلا علاقة لأخبار الآحاد بها، ولابد من التفريق بين الأخبار النبوية وغيرها من سائر الأخبار، فالأولى محفوظة بحفظ الله لها، ولذا قيض الله لها، من الأمة المسلمة من يقوم على حفظها وتمحيصها وبيان صحيحها من ضعيفها حتى تميز منها المقبول الذي يعمل به، والمردود الذي لا يعمل به، فهو يكتسب حجته بحسب مصدره وناقله ويدل عليه.
قال الإمام بن القيم "ت751": "خبر الواحد يفيد العلم في مواضع:
أحدها: خبر من قام الدليل القطعي على صدقه، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يخبر به.
الثاني: خبر الواحد بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصدقه، كخبر الذي أَخبر بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أن الله يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع... فضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعجباً وتصديقاً له))(2) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصدق أصحابه، كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة الدجال(3)، وروى ذلك عنه على المنبر، ولم يقل: أخبرني جبريل عن الله بل قال: حدثني تميم الداري، ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيراً فيما يجزم بصدق أصحابه ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل. والقتال ونحن نشهد بالله شهادة على البت والقطع لا نمتري فيها ولا نشك في صدقهم ونجزم به جزماً ضرورياً لا يمكن دفعه عن أنفسنا.
الثالث: أن يخبر الواحد ويدعي أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ننكره، ويدل على أنه حق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب.
__________
(1) انظر النكت على نزهة النظر ص 73-81 بتصرف.
(2) أخرجه البخاري 8/423 كتاب التفسير باب قوله تعالى:( ? ( ( ( ( (.
(3) أخرجه مسلم وأبو داود.(37/70)
الرابع: أن يخبر الواحد ويدعي عدد كثير أنهم سمعوه منه فلا ينكره منهم أحد فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب لأنه واقع عن نظر واستدلال.
وقد اتخذ منكرو السنة ـ قديماً وحديثاً ـ مثل هذا المنطق سلّماً للطعن في السنة ونقلتها وبنوا عليه شبهاتهم ـ كما تقدمت الإشارة إليه"(1).
وبعد، فلا يهولنك تتابع كثير من الأصوليين ومتأخري أهل الحديث على هذا القول - كما فعل الإمام النووي في تقريبه، وكلامه على مقدمة صحيح مسلم ـ فإن السبب في ذلك تأثرهم بمن تقدمهم من أهل الكلام، وليس لهم دليل صحيح على ما ذهبوا إليه لا نقلياً ولا عقلياً وإنما اعتمدوا خيالات وشبهات جعلوها أدلة لما ذهبوا إليه، ومن ذلك:
1 – قولهم: إن صفة كل مخبر وطبيعته توجب أن يكون خبره صدقاً أو كذباً، وقبول خبر من كانت هذه صفاته في التشريع والعقيدة يعني التعبد بما ليس هو ثابت.
ويرد عليهم: بأن هذا مسلَّم، لكن ليس ببعيد أن يهيئ الله من الأمة من يعصمه من الكذب تحقيقاً لوعده تعالى بحفظ هذا الدين، والواقع العملي من حال الرواة وعلماء الحديث يصدق ذلك.
2- لو علم الله صدق خبر الواحد لأرسل لنا دليلاً على ذلك.
ويرد عليهم بما تقدم، وأن الله تعالى قد زكى المؤمنين من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، فقال:( ? ( ( ( ( ( [آل عمران: 110]. وقال تعالى:
( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ([آل عمران: 104].
فلو لم يكن خبر الواحد موجباً للعلم وتقوم به الحجة لما كلفت الأمة المسلمة - جماعات وأفراداً- بهذا الواجب، وهذا أكبر دليل على صدق خبر الواحد من مؤمني هذه الأمة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليبلغ الشاهد الغائب))(2).
__________
(1) انظر ص(11).
(2) أخرجه مسلم 2/987، وأبو داود 1/294، والترمذي 1/165 وابن ماجه 1/84، والدارمي 2/67.(37/71)
ولمّا مرت جنازة فذكرها بعض الصحابة بخير قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجبت))، ولمّا مرت جنازة فذكروها بشر قال: ((وجبت))، فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: ((الأولى ذكرتموها بخير فوجبت لها الجنة، ومرت الثانية فذكرتموها بشر فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض))(1).
3- أن الله أمرنا بالحكم بما يشهد به العدل مع يمين الطالب، وبما يشهد به العدلان فصاعداً، وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي البينة، ولو كان خبر الواحد يحصل به العلم لما احتيج إلى تعدد الشهود ولا إلى يمين المدعي مع الشاهد.
ويرد عليهم: بأن حقوق العباد مبناها على المشاحة والنزاع، فجعل الله الحكم بينهم بأمر ظاهر منضبط وهو البينة، ولا تقاس الأخبار النبوية على الشهادة للفرق بينهما كما تقدم.
4- إن الإجماع منعقد على عدم تكفير من ردّ خبر الواحد أو تفسيقه، وهذا دليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم الموجب للعمل.
ويرد عليهم: بأن إدراك العلم بالخبر يتفاوت فيه الناس بحسب القرائن والأحوال، فكون بعضهم لا يأخذ بخبر الآحاد لا يعني ذلك كذب المخبر أو عدم صدقه، ولكن اجتهاده هو الذي أوصله إلى عدم الأخذ بذلك الحديث، والمجتهد إذا أصاب الحق فله أجران وإذا لم يصب فله أجر واحد. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
ولذا فإن من المعلوم أن المجتهد إذا خالف حديثاً صحيحاً فإنه يجب أن يحمل ذلك منه على أنه لم يبلغه الحديث، أو بلغه ولكن لم يصح عنده، أو أن له تأويلاً مسوغاً عنده، وهذا أمر معلوم من عصر الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، فليس لأحد حق في ادعائه أنه جمع السنة وأحاط بها، وإنما كل يأخذ بما علم ولهذا تباينت أقوال العلماء في أغلب مسائل الفروع - وهذا أمر معلوم- أيضا. وهم يعلمون علم اليقين أنهم لم يحيطوا بالسنة؛ ولهذا نجد أن كل واحد منهم يأمر تلاميذه بالرجوع إلى الحديث إذا جاء مخالفاً لرأيه.
__________
(1) أخرجه البخاري 3/181، ومسلم 1/184.(37/72)
فهذا الإمام أبو حنيفة "ت150هـ" يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"(1).
وقال الإمام مالك(2) " ت179هـ ": "فإنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب، فانظروا في رأيي: فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"(3).
وقال الإمام الشافعي "ت204هـ": "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزب(4) عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قولي"(5).
وبعد: فإن هذا القول يمكن أن يكون مندرجاً تحت القول الأول؛ لأن القرائن التي أشاروا إليها هي الشروط نفسها التي اشترطها أهل القول الأول، ولا سيما القرائن المتصلة وأما المنفصلة فقد تبين لك بطلانها. لكن جعلت هذا قولاً ثانيا،ً لما رأيت كثرة من أفرده وجعله قولاً مستقلاً.. والله أعلم.
المبحث الثالث: قول القائلين بعدم حجية حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد وأدلتهم والرد عليها.
بيان شبهاتهم:
شبهة أهل هذا القول: أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظنّ، والظن لا يغني عن الحق شيئاً.
ثم إنهم قاسوا الرواية على الشهادة واعتبروا في الرواية ما يعتبر في الشهادة وقد ذهب إلى هذا:
(1) متأخرو المعتزلة والشيعة، وجماهير القدرية(6).
قال الإمام ابن حزم"ت456هـ": "إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجري على ذلك كل فرقة في عملها كأهل السنة والخوارج والشيعة، حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك"(7).
__________
(1) الانتقاء في فضل الأئمة الفقهاء لابن عبد البر ص 145.
(2) هو مالك بن أنس الأصبحي.
(3) جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/91.
(4) أي: تغيب.
(5) إعلام الموقعين 2/363.
(6) انظر ص 11 من هذا البحث.
(7) الإحكام 1/107.(37/73)
وبعدم حجية الآحاد مطلقاً - يقول الشريف المرتضي- من الشيعة "ت433هـ" حيث قال: "لابد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم، ولذلك أبطلنا العمل بأخبار الآحاد؛ لأنها لا توجب علماً ولا عملاً...؛ لأن راوي خبر الواحد إذا كان عدلاً فغاية ما يقضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذباً"(1).
وتابعتهم جماهير المستشرقين من اليهود والنصارى، ومن سار على دربهم من المستغربين من أبناء جلدتنا المنتسبين إلى ملتنا(2).
وقد استدلوا بما يأتي:
أ- من القرآن:
قوله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( [الإسراء: 36].
ووجه الاستدلال: إن العمل بخبر الواحد اقتفاء لما ليس لنا به علم، وشهادة وقول بما لا نعلم؛ لأن العمل به موقوف على الظنّ.
والجواب على هذا الاستدلال: إن هذه الآية رد عليهم؛ لأن القائلين بحجية خبر الآحاد لم يقفوا ما ليس لهم به علم، بل قد صح عندهم العلم من عدة وجوه:
1- اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم بإحسان لخبر الواحد والعمل بمقتضاه - كما تقدم.
2- انعقاد الإجماع على حجية خبر الواحد ووجوب العمل به، والإجماع دليل قطعي، فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس لهم به علم ولا اتباعاً للظن.
__________
(1) أصول الفقه للمظفر السمعاني 1/70.
(2) انظر: السنة ومكانتها من التشريع للدكتور مصطفى السباعي، ودفاع عن السنة للدكتور محمد أبي شهبة، والأضواء الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة للشيخ عبد الرحمن المعلمي، توثيق السنة في القرن الثاني الهجري للدكتور رفعت فوزي، حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق، دراسات في الحديث النبوي للدكتور محمد مصطفى الأعظمي، السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام لعماد الدين السيد الشربيني، وانظر: أصول الفقه المحمدي لشاخت ـ ترجمة الأستاذ الصديق بشير..(37/74)
3- ثم إن الامتناع عن التعبد بخبر الواحد ليس عليه دليل قطعي، فمن نفاه فإنما عمدته الظن فيدخل في الذم المذكور في الآية.
4- إن الظن المذموم إنما هو الظن المبني على التخرص والوهم الذي ليس له مستند، بخلاف الظن الراجح فهو ملحق بالقطعي، في وجوب العمل به
- كما تقدم - ثم الظن المذكور في الآية ورد في سياق ظن المسلم بأخيه إذا اغتابه أو حسده أو قصد به الشر ونحو ذلك مما ينقله الوشاة لقصد إثارة العداوة والبغضاء، مع أن أكثره غير صحيح، فأمر المؤمنين بتجنب كثير من هذا الظن وليس في الآية الأمر ببعض الظن أصلاً(1).
قوله تعالى:( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( (
[النجم: 28].
ووجه الاستدلال: : أن خبر الواحد يفيد الظن، وجاء الظن هنا في الآية في معرض الذم وهو يقتضي التحريم.
ولأنه لا يجوز التعبد بخبر الآحاد في الفروع من باب أولى ألا يتعبد به في الأصول.
والجواب على هذا: أنه قد ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة العمل بخبر الآحاد متى صح، من غير تفريق، وما ادعيتموه من عدم جواز التعبد بخبر الآحاد مجرد دعوى تحتاج إلى دليل، ولا دليل عندكم إلا ما قلتم بأنه لا يفيد إلا الظن - وتقدم ردّ هذا - والله جل وعلا قد أكمل لنا الدين - شريعة وعقيدة - ونُقلت عبر أجيال المسلمين إلى يومنا هذا سواء ما كان منها متواتراً أو ما كان آحاداً، والعمل بما صح من ذلك منهج جماهير المسلمين من السلف والخلف دون تفريق بين الأصول والفروع.
__________
(1) انظر: أخبار الآحاد لشيخنا عبد الله الجبرين ص 87.(37/75)
ثم إن الظنّ يطلق ويراد به الشك، ويطلق ويراد به اليقين، فليس كل ظن شكّاً بمعنى احتمال الخطأ على الراوي، وإنما الظن مراتب يرتقي فيها من الشك إلى اليقين وذلك بحسب ما يصاحبه، فاحتمال الخطأ أو الكذب يزول بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوي وضبطه، فيكون خبره مفيداً للعلم اليقيني، وحتى مع القول بأن خبر الواحد يفيد الظن، فالمراد به الظن الراجح بصدق الخبر، فإن هذا الظن يستند إلى أصل قطعي وهو القرآن الكريم.
يقول الإمام الشاطبي "ت790هـ": "وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت؛ لأنها استندت إلى أصل معلوم، فهي من قبيل المعلوم جنسه، فعلى كل تقدير خبر واحد صح سنده فلابدّ من استناده إلى أصل من الشريعة قطعي فيجب قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء فلابدّ من ردها"(1).
وبناءً على ما تقدم، فإن القول بظنية السنة لا ينطبق على كل السنة، وإنما يمكن حصره في الأحاديث الضعيفة أو المتكلم فيها، ولذا ذهب جمهور العلماء إلى قبول ما تلقته الأمة بالقبول كأحاديث الصحيحين وما في حكمها.
وهناك أمر آخر، وهو أن الظنية التي يتكئ عليها هؤلاء إنما هي أمر نسبي غير متفق عليه يختلف إدراكه باختلاف الأحوال.
قال الإمام ابن القيم "ت 751هـ": "كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل ليس هو صفة للدليل في نفسه، فهذا أمر لا ينازعه فيه عاقل، فقد يكون قطعياً عند زيد ما هو ظني عند عمرو، فقولهم: إن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة المتلقاة بين الأمة بالقبول لا تفيد العلم بل هي ظنية هو إخبار عمّا عندهم، إذ لم يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلمَ أهلُ السنة ما حصل لهم،(2).
2- استدلالهم من السنة:
__________
(1) الاعتصام 1/190.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/572(37/76)
1) قصة ذي اليدين(1) التي رواها أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - إما الظهر وإما العصر - فسلم في ركعتين، ثم أتى جزعاً في قبلة المسجد فاستند إليه مغضباً - وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما - وخرج سرعان(2) الناس، فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يميناً وشمالاً فقال: ((ما يقول ذو اليدين؟)) قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلَّى ركعتين وسلم.. الحديث(3).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقف في قبول خبر ذي اليدين حتى تابعه غيره. فلو كان خبر الواحد حجة لقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن ينتظر من يؤيده.
والجواب على هذا من وجوه:
1- معارضة خبر ذي اليدين لما هو غالب على ظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أتم الصلاة ولابد من مرجح لخبر ذي اليدين فلما شهد أبو بكر وعمر زال هذا العارض وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين.
2- إن خبر ذي اليدين كان مقابل سكوت الجميع فظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذا اليدين كان واهماً، فلما تكلم من تكلم قبله النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) هو الخرباق بن عمرو السلمي يقال له ذو اليدين لطول في يديه، وقيل: كان قصير اليدين: صحابي جليل.
(2) أي المستعجلين في الخروج من المسجد بعد انقضاء الصلاة.
(3) أخرجه البخاري ـ الفتح 13/245 ـ كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد...، ومسلم بشرح النووي 3/66 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له.(37/77)
قال الآمدي "ت631": "إنما توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر ذي اليدين لتوهم غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير، ومع ظهور أمارة الوهم يجب التوقف فيه، فلما ارتفع الوهم بشهادة أبي بكر وعمر عمل بموجب خبره وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا عمل بخبر لم يبلغ حد التواتر ـ أي أنه آحاد"(1).
2) رد أبي بكر لخبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة، ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري، وردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله(2)، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة المشهورة.
ووجه الاستدلال: أنها أخبار آحاد، ولو كانت تفيد علماً أو عملاً لقبلها أصحاب رسول الله ابتداءً.
والجواب على هذا: أن ردهم لهذه الأخبار لا لأنها أخبار آحاد، فقد تقرر - كما تقدم - أنهم لم يكونوا يعرفون هذين المصطلحين(3)، وإنما ردوا ذلك زيادة في التثبيت، ولئلا يجترئ الناس على التحديث دون تثبت. لهذا قال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك ولكني أردت أن أتثبت في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن قبولهم للأخبار بعد مجيء من يثبت ذلك لا يخرج تلك الأخبار عن كونها آحاداً؛ لأنها لم تبلغ حد التواتر كما هو معلوم.
قال الآمدي"ت631هـ": "فعلم من ذلك أن ما ردوه من الأخبار أو توقفوا فيه لم يكن لعدم حجية خبر الآحاد عندهم، وإنما كان لأمور اقتضت ذلك: من وجود عارض أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها، مع كونهم متفقين على العمل بها، ولهذا أجمعنا على أن ظاهر الكتاب والسنة حجة، وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها"(4).
__________
(1) الإحكام 2/98.
(2) تقدم تخريج هذه الأحاديث في ص 85-86.
(3) انظر ص 3-4 من هذا البحث.
(4) الإحكام 1/61(37/78)
3) استدلوا بالقياس، فقاسوا الرواية على الشهادة، وقالوا: كما أنه لا يجوز الاعتماد على شهادة الواحد في الأحكام فكذلك لا يقبل خبر الواحد؛ لأنه لا يفيد علماً يوجب حكماً.
والجواب: أنه لا يصح قياس خبر الواحد على الشهادة؛ لأنه قياس مع الفارق، فالشهادة تخالف الرواية في أشياء كثيرة منها:
1- أن الشهادة دخلها التعبد بخلاف الرواية.
2- أن الرواية تقبل من المرأة ولا تقبل منها الشهادة إلا عند الضرورة، فتقبل شهادة امرأتين مع الرجل، وإلا في أمور مخصوصة للضرورة وهي ما لا يطلع عليه الرجال.
3-أن الشهادة على معين فاحتيط له، بخلاف الرواية فإنها جملة أحكام الناس، وينبني عليها قواعد كلية، فالمسلم العاقل لا يتجرأ في مثلها على الكذب لعظم الخطر فيها ولذلك اعتبر في الشهادة في الزنى أربعة بخلاف الرواية(1).
قال الخطيب البغدادي "ت 463": "إن كان هذا قياساً صحيحاً فإنه يجب القطع بتكذيب جميع آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين متى انفردوا بالخبر ولم تكن معهم دلالة على صدقهم، وهذا خروج عن الدين وجهل ممن صار إليه، ولو كان قياس مدعي النبوة وراوي الخبر واحداً لوجب أن يكون في الشهادة مثله، وأن يقطع على كل شهادة لم يقم دليل على صحتها أو يبلغ عدد الشهود عدد أهل التواتر أنها كذب وزور، هذا لا يقوله ذو تحصيل؛ لأن ذلك لو كان صحيحاً لم يجز لأحد من حكام المسلمين أن يحكم بشهادة اثنين ولا بشهادة أربعة وبشهادة من لم يقم الدليل على صدقه؛ لأنه إنما يحكم بشهادة يعلم أنها كاذبة"(2).
وأخيراً فإن أهل هذا القول يلزمهم ما يأتي:
__________
(1) انظر روضة الناظر 1/280
(2) الكفاية ص75.(37/79)
1- أن ما تداوله المسلمون ـ فضلا عن غيرهم ـ من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من نسبة كل قول إلى قائله وقبوله ممن نقله وإن كان واحداً أن ذلك كذب أو ظن راجح. وهذا أمر في غاية المكابرة؛ إذ إنه يترتب على ذلك إنكار كل العلوم وعلى رأسها القرآن والسنة والمعارف التي خدمتهما، وهذا مثل إنكار الشمس في رابعة النهار.
2- أن كل تلميذ تلقى عن واحد أي نوع من العلوم لا يعتمد هو ولا غيره على ذلك العلم حتى يتيقن أن أساس علم شيخه يقين، وهذا لا يتحقق بناءً على قولهم إن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن، وهذا يترتب عليه أحد أمرين:
الأول: الاعتراف بأن جميع ما تعلموه وما يعتقدوه كله ظن.
الثاني: أن علماءهم امتازوا على سلف الأمة ونقلة الحديث وفضلوهم؛ لأن علمهم يفيد اليقين وعلم الصحابة والتابعين ومن تبعهم - مهما بلغوا من الصدق والثقة والحفظ والديانة ـ إنما يفيد الظن، وهذا كله مباهتة ومكابرة يردها العقل والواقع"(1).
وقد أفاض الإمام الشافعي - رحمه الله - في الرد على منكري حجية خبر الآحاد مطلقاً، وذلك فيما سطره في كتبه "الرسالة"، و"الأم"، و"اختلاف" الحديث. وتبعه علماء أهل السنة والجماعة القائلين بحجية حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد، ومن أحسن ما كُتب في ذلك ما كتبه الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الصواعق المرسلة"، وما كتبه شيخنا ناصر الدين الألباني "ت 1420هـ" في رسالة وجوب "العمل بحديث الآحاد في العقائد"، وكذلك ما كتبه شيخنا الدكتور عبد الله الجبرين في كتابه "أخبار الآحاد في الحديث النبوي"، ولكن ما ذكروه طويل جداً لا يتسع له مجال هذا البحث.
وعليه فأختصر ما قالوه في النقاط التالية:
أولاً: أن هذا القول مبتدع ولا يستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع.
__________
(1) انظر: أخبار الآحاد لشيخنا د. عبد الله الجبرين ص 64-65 بتصرف(37/80)
ثانياً: أنه مناقض لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في تعاملهم مع السنة النبوية عقيدة وعملاً.
ثالثاً: أن القول بهذا يترتب عليه ردّ مئات من الأحاديث الصحيحة لمجرد كونها في العقيدة.
رابعاً: أن هذا القول مخالف لجميع أدلة القرآن والسنة التي احتج بها القائلون بحجية خبر الآحاد مطلقاً.
خامساً: أن تخصيص حجية أحاديث الآحاد بالأحكام دون العقائد تخصيص بغير مخصص فلا يعتد به.
سادساً: أن الله قد أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ ما أُنزل إليه، كما في قوله تعالى:
( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (
[المائدة: 67].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني)) متفق عليه، فيلزم من عدم حجية خبر الآحاد أمران:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد متواتر، وما سوى ذلك لا تقوم به حجة ولا تبليغ، ومن المجمع عليه أن أغلب سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث آحاد، بل إن من العلماء من أنكر وجود الحديث المتواتر كما تقدم(1).
2- وإما أن يقول إن البلاغ والحجة حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً وهذان الأمران باطلان.
سابعاً: أن من المجمع عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث أصحابه أفراداً لتبليغ رسائله وأحكام الشريعة، وأهم أمور الدين العقيدة، فكانوا يبدؤون بها، كما في حديث معاذ ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا عرفوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات...)) الحديث متفق عليه(2).
وهذا الحديث وغيره دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد، ومن لم يسلم بهذا لزمه أمران أيضاً:
1- القول بأن رسله ما كانوا يعلِّمون الناس العقائد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بذلك، وإنما أمرهم بتبليغ الأحكام فقط، وهذا باطل.
__________
(1) ص 104
(2) تقدم تخريجه ص74.(37/81)
2- أنهم كانوا مأمورين بتبليغ العقيدة مع الأحكام فبلغوها وقالوا للناس: لا تؤمنوا بها، لأنها أخبار آحاد، وهذا باطل كسابقه.
ثامناً: أن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية مبني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل؛ لأن المطلوب في المسائل العملية أمران: العلم والعمل، والمطلوب في المسائل العلمية: العلم والعمل ـ أيضاً ـ فليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وعمل الجوارح تبع، ومن قال بالتفريق فعليه الدليل، ولا دليل.
بل إن أغلب الأحاديث العملية والأحكام تتضمن أموراً اعتقادية، ففي التشهد الأخير - مثلاً - يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جلس أحدكم في التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا وفتنة الممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)) رواه الشيخان.
فهذا الحديث وأمثاله يلزم القائلين بعدم حجية خبر الواحد في العقائد، يلزمهم ولا يمكنهم نقضه.
تاسعاً: أن دعوى اتفاق الأصوليين على ظنية خبر الآحاد وعدم إفادته للعلم الموجب للعمل، دعوى باطلة.
قال القاضي أبو يعلى "ت458هـ": "خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف الرواية فيه، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه الأمة بالقبول"(1).
وقال أبو إسحاق الشيرازي "ت 476": "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل، به الكل أو البعض"(2).
وبهذا ينتهي تلخيص الرد على من زعم أن خبر الآحاد يفيد الظن المرجوح ولا يفيد العلم.
وأخيراً فما نتيجة هذا القول والأخذ به؟
والجواب يتلخص فيما يأتي:
1-ردّ كثير من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم الأخذ بها لا في الأحكام ولا في العقائد.
__________
(1) العدة 2/187.
(2) شرح اللمع ص 75.(37/82)
2- اتخاذ أهل الزيغ والحقد والهوى هذا القول أساساً بنوا عليه شبهاتهم التي اتخذوها سلماً للتشكيك والطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام من المستشرقين والمستغربين ومن تبعهم من أمثال: جولد زيهر(1)، ويوسف شاخت(2)، ومرجليوث(3)، وهاملتون جيب(4) وزويمر(5)، ومحمود أبو ريَّه(6)، ونصر أبو زيد (7)، والشيخ محمود شلتوت(8) والشيخ محمد الغزالي(9) وغيرهم.
الخاتمة
وبعد، فإني أحمد الله على توفيقه لإتمام هذا البحث، كما أسأله –تعالى-أن يجعله نافعا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب
أما عن النتائج التي توصلت إليها فيمكن إجمالها فيما يأتي:
1-إن تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد تقسيم طرأ بعد القرن الأول
-أعني بعد عصر الصحابة وكبار التابعين- ذلك لأن الصحابة وكبار التابعين لم يكونوا يفرقون بين المتواتر والآحاد من الأحاديث النبوية، وإنما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندهم بدرجة واحدة.
__________
(1) يهودي مجري، تعلم العربية وتسلح بها وتتلمذ على العلامة الشيخ طاهر الجزائري"ت 1921م".
(2) تلميذ سابقه، تعلم العربية كان عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، له كتب كثيرة عن الإسلام كلها تشويه وضلال.
(3) يهودي إنجليزي متعصب ضد الإسلام "ت1940م".
(4) ولد بالإسكندرية بمصر، وهو إنجليزي أصبح خليفة لسابقه في جامعة اكسفورد ومجمع اللغة العربية بدمشق ت"1965م".
(5) اسمه صمويل زويمر، مستشرق، عمل مبشراً في البحرين، وضع خريطة تنصير العالم الإسلامي.
(6) في كتابه "أضواء على السنة المحمدية".
(7) معاصر.
(8) في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" ص 61 حيث قال: "إن حديث الآحاد لا يفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليه في المغيبات".
(9) حيث قال في كتابه "مائة سؤال عن الإسلام 1/249:"إن خبر الواحد لا ينهض على إثبات حرمة أو إثبات فريضة".(37/83)
2-إن هذا التفريق نشأ عندما ظهرت الفرق-ولاسيما المعتزلة- الذين جعلوا العقل مقدما على القرآن والسنة في معرفة الأشياء والاستدلال، ولما تصادم الاستنتاج العقلي مع النص الشرعي أخذوا يبحثون عن مخرج يبقي للعقل منزلته، فأوحت لهم شياطينهم من الإنس والجن بظنية الأخبار وقطعيتها، ومن ثم القول بظنية الدليل أو قطعيته، ولما كان القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة ما كان أمامهم إلا تأويل الآيات بما يتفق و ما تراه عقولهم، ومن هنا برز عند السلف ما يعرف بالتأويل المقبول والتأويل المردود، أما السنة فإن حائطها أدون عندهم فقالوا إنها ظنية الثبوت باعتبار أنها أخبار بشر يخطئون وينسون، فلا يمكن قبولها في الأمور الاعتقادية؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يبني عقيدته على أمر ظني، فردوا أحاديث الآحاد لذلك وحشدوا لتأييد مذهبهم أدلة من القرآن والسنة حملوها على غير مقاصدها فباؤوا بالخسران، وتصدى لهم علماء أهل السنة والجماعة من السلف والخلف وبينوا بطلان ما ذهبوا إليه.
3- أن الذين قالوا بعدم حجية حديث الآحاد قد فتحوا الباب على مصراعيه لأعداء الإسلام من المستشرقين وتلاميذهم المستغربين من بني جلدتنا وأهل لغتنا، الذين تلقفوا تلك الأفكار وبنوا عليها شبهاتهم للطعن في السنة ورواتها، ولكن هيهات وأنى لهم ذلك؛ لأن السنة من الذكر الذي أوحى به الله إلى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد تكفل الله - سبحانه - بحفظ ذلك الذكر كما قال جل وعلا:( ( ( ( ( ( ( (.([الحجر:9].
هذا ما ظهر لي، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فهرس المصادر والمراجع
إحكام الأحكام: لسيف الدين الآمدي/ ط مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.
الإرشاد في معرفة علماء الحديث: لأبي يعلى الخليلي/ط مكتبة الرشد، بالرياض.
أصول الفقه: للسرخسي / دار المعرفة، بيروت.
الأعلام: للزركلي/ ط3/1389هـ.
الاقتراح في بيان الاصطلاح: لابن دقيق العيد/ عناية بنت الشاطئ.(37/84)
ألفية السيوطي في علم الحديث: شرح أحمد شاكر.
الأنساب: لأبي سعد السمعاني / عناية عبد الرحمن المعلمي/ ط دار المعارف العثمانية، الهند/ ط1.
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: أحمد شاكر/ تحقيق علي ابن حسن الأثري/ ط دار العاصمة، بالرياض.
بحوث في تاريخ السنة المشرفة: د/أكرم ضياء العمري/ ط4.
بغية الملتمس في تاريخ أهل الأندلس: لأحمد بن يحيى الضبي/ ط دار الكتاب العربي.
تاج العروس للسيد محمد مرتضى الزبيدي/ مصورة دار صادر، بيروت.
تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي/ ط دار الكتاب العربي، بيروت.
تاريخ يحيى بن معين رواية الدارمي/ عناية د. أحمد نور سيف/ ط دار المأمون، دمشق.
تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: للحافظ ابن حجر/ عناية علي محمد البجاوي، المؤسسة المصرية العامة.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: لجلال الدين السيوطي/ عناية عبد الوهاب عبد اللطيف.
تذكرة الحفاظ: للإمام الذهبي/ ط دار إحياء التراث.
ترتيب المدارك: للقاضي عياض/ ط دار مكتبة الحياة، بيروت.
تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: للحافظ ابن حجر/ ط دار الكتاب العربي، بيروت.
التعديل والتجريح: للباجي/ عناية أبي لبابة حسين/ ط دار اللواء، بالرياض.
التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح: للحافظ العراقي/ ط المكتبة السلفية، بالمدينة النبوية.
التمهيد: للحافظ أبي عمر بن عبد البر/ ط وزارة الأوقاف المغربية.
التنكيل: لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي/ عناية الألباني ومحمد عبد الرزاق حمزة/ ط دار الكتب السلفية.
تهذيب الكمال: للحافظ المزي/ ط مؤسسة الرسالة.
توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني/ عناية محمد محي الدين.
الثقات: لابن حبان البستي.
جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لمجد الدين بن الأثير/ عناية عبد القادر الأرنؤوط.
جامع بيان العلم وفضله: للحافظ ابن عبد البر/ ط المكتبة السلفية، بالمدينة النبوية.(37/85)
الجامع الصحيح: للإمام البخاري/ ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الجامع الصحيح: للإمام مسلم/ عناية محمد فؤاد عبد الباقي.
الجامع لأحكام القرآن: للإمام القرطبي/ ط دار الشعب، مصر.
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي/ عناية د/محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض.
الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم/ ط مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد، الهند.
جزء فيه طرق حديث(من كذب عليّ متعمداً): للطبراني/ عناية: علي حسن عبد الحميد.
جمع الجوامع: لتاج الدين السبكي/ مطبعة مصطفى الحلبي.
خلاصة أصول الحديث: للطيبي/ عناية صبحي السامرائي.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: للحافظ ابن حجر/ عناية سالم الكرنكوي/ مطبعة دائرة المعارف، الهند.
الرحلة في طلب الحديث: للخطيب البغدادي/ عناية د. نور الدين عتر.
الرسالة المستطرفة: لمحمد بن جعفر الكتاني/ طبعة دار البشائر.
الرفع والتكميل: للكنوي/ عناية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
السنن: للدار قطني/ طبعة الدار السلفية، الهند.
السنن: لأبي داود/ عناية محيي الدين عبد الحميد.
السنن: لابن ماجه / عناية الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي.
السنن الكبرى: للنسائي/ عناية عبد الغفار البنداري وآخر.
السنن الكبرى: للبيهقي/ دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الهند.
سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي/ عناية شعيب الأرنؤوط وآخرين.
الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح: للأبناسي/ عناية صلاح فتحي.
شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي/ ط دار الآفاق الجديدة.
شرح ألفية العراقي في الحديث: لجلال الدين السيوطي.
شرح النووي على صحيح مسلم/ طبعة دار الفكر.
شرح علل الترمذي: لابن رجب/ عناية د.نور الدين عتر.
شروط الأئمة الخمسة: للحازمي.
شروط الأئمة الخمسة: لابن القيسراني.
الضعفاء الكبير: للعقيلي/ عناية د. عبد المعطي قلعجي.
طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين السبكي/ عناية د. عبد الفتاح الحلو.(37/86)
الطبقات الكبرى: لابن سعد.
ظفر الأماني: للكنوي/ عناية تقي الدين الندوي، ط دار القلم.
العبر: للإمام الذهبي/ ط دار الكتب العلمية.
العلل: لابن المديني/ عناية د/ محمد مصطفى الأعظمي.
علل الحديث: لابن أبي حاتم، مكتبة المثنى، بغداد.
العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله/عناية د. وصي الله عباس.
علوم الحديث: لابن الصلاح/ عناية د. نور الدين عتر.
فتح الباري: للحافظ ابن حجر/ مصورة الطبعة السلفية.
فتح الباقي على ألفية العراقي: زكريا الأنصاري.
فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للسخاوي/عناية عبد الرحمن عثمان.
فتح الباب فيمن اشتهر من المحدثين بالألقاب: للشيخ حماد الأنصارى/ ط مؤسسة الرسالة.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية: للكنوي/ ط مكتبة دائرة المعارف، الهند.
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: لعبد العلي الأنصاري.
قاعدة في الجرح والتعديل: لتاج الدين السبكي/ ضمن مجموعة رسائل حققها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
القاموس المحيط: للفيروزآبادي/ ط مؤسسة الحلبي وشركاه.
الكاشف لمن له رواية في الكتب الستة: للذهبي.
الكامل في الضعفاء: لابن عدي/ ط دار الفكر.
الكفاية: للخطيب البغدادي/ عناية محمد الحافظ التيجاني/ ط مطبعة السعادة، مصر.
لسان العرب: لابن منظور/ نشر دار صادر، بيروت.
لسان الميزان: للحافظ ابن حجر.
المجروحين: لابن حبان/ عناية محمد إبراهيم زايد.
المحدث الفاصل: للرامهرمزي/ عناية د. محمد عجاج الخطيب/ ط دار الفكر.
معالم السنن: للخطابي/ الطبعة العلمية.
معجم البلدان: لياقوت الحموي/ طبعة دار صادر.
معجم مقاييس اللغة: لابن فارس/ عناية عبد السلام هارون، ط دار الفكر.
معرفة علوم الحديث: للحاكم، ط دار الآفاق الجديدة، بيروت.
المقنع في علوم الحديث: لابن الملقن، عناية عبد الله بن يوسف الجديع.
منهج النقد عند المحدثين: د. نور الدين عتر، ط دار الفكر، بيروت.(37/87)
الموقظة: للإمام الذهبي/ عناية الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.
ميزان الاعتدال: للإمام الذهبي/ عناية علي محمد البجاوي/ ط دار المعرفة، بيروت.
نزهة النظر شرح نخبة الفكر: للحافظ ابن حجر/ عناية علي حسن الحلبي.
النكت على نزهة النظر: للحافظ ابن حجر.
النكت على كتاب ابن الصلاح: للحافظ ابن حجر، عناية د. ربيع المدخلي.
نهاية السول شرح منهاج الأصول: للإسنوي/ ط عالم الكتب، بيروت.
النهاية في غريب الحدث: لابن الأثير الجزري/ عناية أحمد طاهر الزاوي وآخر.
هدي الساري مقدمة فتح الباري: للحافظ ابن حجر/ عناية الشيخ عبد العزيز بن باز.
الوافي بالوفيات: لابن الصفدي، ط2.
وفيات الأعيان: لابن خلكان/ عناية إحسان عباس، ط دار صادر، بيروت.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
الفصل الأول: أقسام الحديث…9
توطئة:…9
تمهيد: وفيه بيان نشأة مصطلحي المتواتر والآحاد.…10
وخلاصة هذا التمهيد:…18
المتواتر…19
تعريفه في اللغة:…19
وفي الاصطلاح:…19
شروط المتواتر:…20
أقسام المتواتر:…21
وجود الحديث المتواتر:…22
ما يفيده الحديث المتواتر من العلم:…25
حكم العمل بالحديث المتواتر:…27
الآحاد…29
تعريفه:…29
القسم الأول: المشهور.…30
أقسام الحديث المشهور:…31
أولاً: من أمثلة المشهور الاصطلاحي:…31
ثانياً: المشهور غير الاصطلاحي:…34
القسم الثاني: العزيز…37
تعريفه:…37
حكم الحديث العزيز:…39
القسم الثالث: الغريب " أو الفرد ":…40
أنواعه:…40
ثانياً: الفرد:…43
أنواع الحديث الفرد:…43
العلاقة بين الغريب والفرد:…46
الفصل الثاني: في شروط قبول حديث الآحاد…49
شروط قبول خبر الآحاد بأنواعه الثلاثة:…49
المبحث الأول: قبول حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد:…53
1- القائلون به:…53
2- أدلة القائلين بوجوب قبول خبر الآحاد في الأحكام والعقائد:…59
الدليل الأول: القرآن:…59
الدليل الثالث: الإجماع:…84
الدليل الرابع: القياس:…89(37/88)
المبحث الثاني: قبول خبر الآحاد مطلقاً إذا احتفت به القرائن…91
المبحث الثالث: قول القائلين بعدم حجية حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد وأدلتهم والرد عليها.…98
الخاتمة…111
فهرس المصادر والمراجع…113
فهرس الموضوعات…119(37/89)
حجية خبر الآحاد
في العقائد والأحكام
الدكتور محمد جميل مبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن بيان هذه القضية يجيب عن أسئلة ذات بال منها:
ما مدى حجية السنة النبوية؟ وما مدى حجية خبر الآحاد؟ وهو سؤال أخص من سابقه، لكن العلاقة بينهما آتية من أن معظم السنة أخبار آحاد، فإذا كان الاحتجاج بخبر الآحاد من حيث هو محل شك، فالاحتجاج بمعظم السنة يكون محل شك!!
غير أن من الذين يجادلون في حجية خبر الآحاد من يؤمنون بالسنة، النبوية، ويعتقدون حجيتها، ولكنهم يحصرون حجية خبر الآحاد منها في إطار محدود، فلابد إذاً من التفرقة بين السؤالين.
وأما الطوائف المنكرة لحجية خبر الآحاد فكلما كاد الزمان يطويهم عاودت نابتتهم إثارة الجدل في هذه الحجية، واجدين البيئة المناسبة في التراكمات الفكرية التي تتفاعل في واقع المسلمين.
وهذا ما يفرض العمل من أجل تحصين الأجيال من التأثر بأفكار هذه الطوائف عن طريق البحث العلمي، الذي تتحمل أعباء القيام به الطائفة المتفقهة في الدين.
والجدل في حجية خبر الآحاد موغل في القدم، ويكفي دليلاً على ذلك أن الإمام الشافعي رحمه الله (ت:204ه) قد تصدى لهؤلاء الذين يثيرون هذا الجدل يقيناً منه أن التساهل مع هؤلاء يؤدي إلى التنكر للسنة برمتها، والتنكر للسنة تنكُّرٌ للإسلام جملة من حيث إن السنة بيان للقرآن، ولا فهم للقرآن بلا بيان من السنة، ولا عمل بالقرآن بلا فهم ولا بيان.
وقد تصدى العلماء لِشُبَه المجادلين في حجية خبر الآحاد في ثلاثة علوم بارزة هي: علم الحديث، وعلم العقائد، وعلم أصول الفقه، والعلماء في هذه الفنون الثلاثة يجمعهم همٌّ واحد في هذا التصدي هو همُّ إثبات حجية خبر الآحاد في مجال الاعتقاد وفي مجال الأحكام العملية.(38/1)
فعلماء الحديث انطلقوا في مقاومتهم لهذا التيار من أن التشكيك في خبر الآحاد يعود بالإبطال على تلك الجهود الجبارة التي قام بها علماء الحديث في مجال خدمة السنة جمعا وتمحيصا ومنهجا من خلال "مصطلح الحديث" وعلم الرجال، وهما مجالان من إبداع العلماء المسلمين، ولذلك كان من منهج علماء الحديث أن يثيروا هذه القضية في علوم الحديث.
وعلماء الأصول انطلقوا من أن استنباط الأحكام عبر القواعد الأصولية يكون من مصدرين هما القرآن الكريم والسنة النبوية، فإذا وقع التشكيك في خبر الآحاد انهدم الأصل الثاني من أصول الاستنباط، فكان من منهج الأصوليين أن يتناولوا هذه القضية من خلال بحثهم في الأدلة، ولذلك طولوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين كما قام الإمام الجويني(1).
وعلماء التوحيد يقلقهم أن استبعاد خبر الآحاد من مجال العقائد يؤدي إلى إنكار كثير من قضايا العقيدة التي لم تثبت إلا بأخبار الآحاد، كما يؤدي إلى تعطيل الصفات وإبطالها.
وقد ترشح هذا البحث لدحض الشبهات التي تعلق بها منكرو حجية خبر الآحاد، حتى يعود الحق في هذه القضية الشائكة إلى نصابه.
وسيتناول البحث –إن شاء الله - المباحث الآتية:
المبحث الأول: خبر الآحاد: التعاريف والنشأة.
المبحث الثاني: جهود العلماء في الدفاع عن حجية خبر الآحاد.
المبحث الثالث: أدلة وجوب العمل بخبر الآحاد من الكتاب والسنة والإجماع.
المبحث الرابع: إفادة خبر الآحاد للعلم أو الظن.
المبحث الخامس: نشأة التفرقة بين العقائد والأحكام في الاحتجاج بخبر الآحاد.
المبحث السادس: ظاهرة التشكيك في حجية خبر الآحاد ودوافعه.
وهي مباحث أرى أنها كفيلة بإضاءة أهم الجوانب الغامضة في موضوع خبر الآحاد.
__________
(1) البرهان في أصول الفقه ج1/600.(38/2)
ولم يتجه الاهتمام إلى بحث كل القضايا التي لها صلة ما بحجية خبر الآحاد، كقضية الاحتجاج بخبر الآحاد إذا ما تعارض مع ما هو أقوى منه، كما نجد عند بعض الفقهاء؛ لأن الخلاف نشأ بين المثبتين لحجية خبر الآحاد، والنقاش إنما ينصب على مبدأ الحجية نفسها.
على أن في البحث إشارة إلى ما يشبه الخيط الرابط بين موقف من ينكرون حجية خبر الآحاد، وموقف من ينفون عنه الحجية إذا تعارض مع ما هو أقوى منه.
كما لم يتجه الاهتمام إلى استعراض الشروط الواجب توافرها في خبر الآحاد ليكون حجة؛ لأن ذلك يفرض إطالة ذيول البحث ويتحول به من بحث في الحجية إلى بحث في شروط الحجية، والبحث في الشروط لا يتم إلا بتسليم المشروط، والبحث إنما هو فيه.
وأعترف – بعد كل هذا – أن البحث في الحجية يحتاج إلى مزيد من المكابدة في مسألة الرد على الشبه، وفي مسالة التعارض بين الأخبار، والشروط المنهجية لهذه الندوة، ومحدودية مدة الإنجاز من موانع الاسترسال في هذه المكابدة، والعزم معقود على استكمال القضايا الجزئية المكملة لهذه القضية الكلية: قضية حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام.
المبحث الأول: خبر الآحاد: التعاريف والنشأة
الخبر في اللغة هو النبأ، ويقصد به ما يخبر به أو يرويه شخص واحد(1) ويجمع على أخبار، والآحاد جمع أحد، وأصله وحد، وهو هنا بمعنى واحد، ولذلك يقال: خبر الواحد، وخبر الآحاد، وأخبار الآحاد.
أما خبر الآحاد اصطلاحاً فقد عرف بأنه: "ما كان من الأخبار غير مُنْتَهٍ إلى حد التواتر"(2)، وعرف أيضاً بأنه: "ما لم يجمع شروط التواتر"(3).
__________
(1) قال في لسان العرب: "الخبر ما أتاك من نبأ عمن تستخبر" مادة خبر.
(2) البحر المحيط 1/255-256، وشرح الديباج المذهب في مصطلح الحديث لشمس الدين التبريزي.
(3) نزهة النظر لابن حجر ص 26.(38/3)
ومؤدى التعريفين أن خبر الآحاد لا ينحصر في الخبر الذي ينقله الواحد كما قد تفيده عبارة "خبر الواحد" بل يشمل الذي ينقله اثنان أو أكثر ما لم ينته إلى حد التواتر كما تفيده عبارة "خبر الآحاد". قال الزركشي: "وليس المراد ما يرويه الواحد فقط، وإن كان موضوع خبر الواحد في اللغة يقتضي وحدة المخبر الذي ينافيه التثنية والجمع، لكن وقع الاصطلاح به على كل ما لا يفيد القطع، وإن كان المخبر به جمعاً إذا نقصوا عن حد التواتر"(1).
أما نشأة المصطلح فلم أهتد بعدُ إلى نصوص تبين أول من أطلقه، لكن ما أستطيع أن أجزم به أن المصطلح قديم، وأقل ما يمكن قوله: إنه استعمل في أوائل المائة الثانية، فقد استعمله الإمام الشافعي رحمه الله (ت:204ه) في ((الرسالة)) تسع عشرة مرة بعبارة "خبر الواحد"(2) واستعمله مرات في كتابه "اختلاف الحديث"(3) وفي كتابه "جماع العلم"(4).
كما استعمله الإمام البخاري (ت:256ه) في ((صحيحه)) وقد ترجم لأحد أبواب "كتاب الأحكام"(5) بعنوان:((باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام)).
__________
(1) البحر المحيط1/255-256.
(2) انظر الرسالة ص:369-383-384-386-387-390-401-407-408-410-433-435-453-457-458.
(3) من بداية الجزء السابع من الأم إلى ص 38.
(4) في الجزء السابع من الأم من ص 250.
(5) وقع في نسخة الصغاني كتاب أخبار الآحاد،وعلى ما في هذه النسخة فقد خصص البخاري كتابا لأخبار الآحاد،و الكتاب يحتوي على أبواب، وعلى ما في النسخ الأخرى يكون هذا الباب وما بعده من أبواب كتاب الأحكام، أو يكون من جملة أبواب كتاب الاعتصام بعده،وهو مناسب له فيكون تقديمه عليه من فعل بعض المبيضين للكتاب، كما ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 27/268.(38/4)
وهذا يدل على أن تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد، أو إلى متواتر ومشهور وآحاد،لم يعده العلماء المتقدمون -فيما اطلعت عليه- بدعة، وإن أوهمت عبارة بعض الباحثين المعاصرين أن هذا التقسيم بدعة؛ فقد كرر الأستاذ القاضي برهون ((أن تقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد من ابتداع الجهمية والمعتزلة والرافضة))(1)، "فخالفوا بهذا التقسيم إجماع الصحابة والتابعين"(2). فهو إذاً " قول محدث من غير أهل الحديث"(3) لكنه لم يلبث أن استدرك قائلا: "وهذا لا يعني أن ما رواه العدد الكثير الذي اصطلح عليه بالمتواتر غير موجود فهو واقع فعلاً، وموجود بكثرة، وإنما نعني ما أدى إليه التقسيم من آثار على ما روي آحادا وهو أكثر"(4).
فالمستنكر ليس تقسيم الأخبار في حد ذاته؛ إذ لا ينتج عنه ما يخدش حجية السنة، وإنما المستنكر ما بناه بعض الناس على التقسيم، فكان لازماً بيان أن المبتدع ليس أصل التقسيم، وإنما المبتدع ما فرعوه على التقسيم من القبول أو الرد، وإلا فكثير من المصطلحات الحديثية غير معروفة في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فهل يقال:إن تلك المصطلحات بدع غير محمودة؟!
ألا ترى أن ابن القيم رحمه الله لم ينتقد تقسيم الأخبار نفسه، وإنما انتقد تقسيم الدين إلى ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت، فقال: "تقسيم الدين إلى ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت به تقسيم غير مطرد، ولا منعكس، ولا عليه دليل صحيح"(5).
__________
(1) خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته ص 92.
(2) السابق ص 93.
(3) السابق ص 94.
(4) السابق ص 93.
(5) مختصر الصواعق المرسلة ص 495.(38/5)
فها أنت ترى ابن القيم لم ينكر تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، وإنما أنكر تقسيم الدين إلى ما يثبت بخبر الواحد كالأحكام، وإلى ما لا يثبت به وهو العقائد، ولعل هذا ما حاول الأستاذ القاضي برهون التعبير عنه بقوله: "ومن نظر فيما ذكرنا علم أن تقسيم الدين إلى متواتر وآحاد، وعقائد وفروع باطل"(1) لكن ما عبر عنه غير ما عبر عنه ابن القيم، والباطل الذي حكم به يحتاج إلى دليل، وإلا فما الذي دفع أميرُ المؤمنين في الحديث الإمامُ البخاريُّ إلى عقد باب بعنوان: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد.. في صحيحه؟ فهل الدافع هو رده التفرقة بين المجالين كما يتضح من الأحاديث التي ساقها؟ وهل ذلك إقرار منه بصحة التقسيم وبِرَدِّ التفرقة بين العقائد والأحكام، كما صنع الإمام الشافعي في الرسالة؟
وادَّعى الأستاذ بعد ذلك أن تقسيم الأصوليين للحديث إلى متواتر وآحاد كان نتيجة تأثرهم بمنهج المعتزلة(2).
لكن كلام الشافعي – وهو رأس الأصوليين، ومن أعلام المحدِّثين – يفيد أن هذا التقسيم معروف في عهده، بدليل تكراره لمصطلح "خبر الواحد" كما سبق، وبدليل قوله: "لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبت للحجة وأطيب لنفس السامع"(3).
فقوله: "لأن الأخبار كلما تواترت" إقرار منه بوجود أحاديث متواترة، وإن أمكن ادعاء أن التواتر في كلامه يحتمل المعنى اللغوي بدليل عطف التظاهر عليه.
__________
(1) خبر الواحد ص 98.
(2) خبر الواحد للقاضي برهون ص97.
(3) الرسالة ص 433.(38/6)
ومن ثم فلا نُسَلِّم قول من قال: "لم يذكر التواتر باسمه الخاص إلا الحاكم النيسابوري (ت:405ه) وابن حزم (ت:456ه) والخطيب البغدادي (ت:463ه)وابن عبدالبر (ت:463ه) وابن الصلاح (ت:643ه)، وقد تبعوا فيه أهل الأصول(1)"، لوجود إشارات قوية للمتواتر في كلام الإمام الشافعي في النص السابق، وقد وافق مناظره على إطلاق التواتر في قوله: "فما الوجه الثاني؟ قال: تواتر الأخبار، فقلت له حدد لي تواتر الأخبار بأقل ما يثبت الخبر...؟"(2) فهو لم ينكر تقسيم مناظره الأخبار، وإلا لقال له: لقد جئت شيئاً نكراً بابتداعك تواتر الأخبار.
بل إن ابن القيم نفسه قسم الأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام: متواترة لفظاً ومعنى، ومتواترة معنى لا لفظاً، ومستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة، وأخبار آحاد عدول(3)، فكيف ينكر التقسيم، ثم يقره؟
ونقل عن شيخه ابن تيمية رحمه الله أنه قسم الأخبار إلى متواتر وآحاد(4).
المبحث الثاني: جهود العلماء في التأليف والدفاع عن حجية خبر الآحاد
يتسم أسلوب العلماء في دفاعهم عن حجية خبر الآحاد بالإسهاب والإيعاب والقوة، مما ينبئ عن كثرة الدوافع التي دفعتهم للإفاضة في الاستدلال، وأهم هذه الدوافع ثلاثة.
الأول: قوة الخلاف وكثرة التشغيب اللذان يوردهما المخالفون.
الثاني: رغبة هؤلاء العلماء في استئصال تشغيب المخالفين المنكرين لحجية خبر الواحد مطلقاً، أو لحجيته في العقائد.
الثالث: خطورة الأثر الذي يخلفه القول بعدم حجية خبر الواحد من حيث إفضاؤه إلى إنكار معظم السنة، فإذا ترك هذا القول دون تفنيد فربما يغتر به الكثيرون في رد السنن.
__________
(1) خبر الواحد ( مرجع سابق) ص 96.
(2) جماع العلم بهامش الأم 7/258-259.
(3) مختصر الصواعق المرسلة ص 453.
(4) السابق ص 464.(38/7)
ويتعين استحضار هذه الدوافع أثناء تتبع استدلالات العلماء، حتى إذا نبتت نابتة جديدة تدعو إلى رفض خبر الواحد جملة أو إلى رفضه في العقائد ووجهت بهذه الأدلة الموعبة، وأضيفت إليها أدلة أخرى قد تستنبط بالنظر في نصوص أخرى في الشرع.
وأكثر من أفاضوا في الاستدلال لحجية خبر الواحد من السلف: الإمام الشافعي رحمه الله، ثم الإمام البخاري، وسار كثير من العلماء على منوالهما كالإمام ابن حزم في (( الإحكام ))، وكالحافظ ابن عبدالبر في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله.." وفي مناسبات في كتاب "التمهيد" وفي كتابه الذي ألفه في الموضوع بعنوان: "الشواهد في إثبات خبر الواحد" الذي قال عنه في مقدمة كتابه "التمهيد": "وقد أفردت لذلك كتاباً موعباً كافياً، والحمد لله"(1).
وكالخطيب البغدادي في كتابه: "الدلائل والشواهد على صحة العمل بخبر الواحد"(2) وفي كتابه: "الكفاية في علم الرواية" الذي عقد فيه باباً لصحة العمل بخبر الواحد.
وألف الإمام السيوطي (ت:911ه) كتابا في الاحتجاج بالسنة سمَّاه: "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة".
أما الإمام الشافعي فقد أطال في الاحتجاج لخبر الواحد في ثلاثة من كتبه هي:
(( كتاب الرسالة ))
(( كتاب اختلاف الحديث ))
(( كتاب جماع العلم ))
وذكر الزركشي أن الشافعي صنف كتاباً في إثبات العمل بخبر الواحد أورد فيه نحواً من ثلاثمائة حديث، وذكر وجوه الاستدلال فيها(3).
__________
(1) التمهيد 1/2 وكرر ذكره في الجزء الخامس ص 116.
(2) ذكره في كتابه الكفاية في علم الرواية ص 66.
(3) انظر البحر المحيط 1/261، قال ذكر في أوله الحديث المشهور: (رحم الله امرأً سمع مقالتي…) فاعترض أبو داود وقال: أثبت خبر الواحد بخبر الواحد، والشيء لا يثبت بنفسه…قال الأصحاب: هذا الذي ذكره باطل، فإن الشافعي لم يستدل بحديث واحد، وإنما ذكر نحوا من ثلاثمائة حديث وذكر وجوه الاستدلال فيها فالمجموع هو الدال عليه…" البحر المحيط 1/261.(38/8)
وقد ساق في هذه الكتب عشرات الأدلة في حجية خبر الواحد، معظمها من السنة، وبعضها من القرآن الكريم دون استقصاء للأدلة كما يفهم من قوله: "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها"(1).
أما الإمام البخاري فقد ساق في صحيحه اثنين وعشرين حديثا لإثبات حجية خبر الواحد، واحد وعشرون حديثا مسندا، وواحد معلق عن ابن عباس، وهي موزعة على ستة أبواب، وكل باب مترجم بما يفيد وجوب العمل بخبر الواحد وهي:
1 – باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق…
2 – باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير طليعة وحده.
3 – باب قول الله تعالى:?? ? ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب:53] فإن أذن واحد جاز.
4 – باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد.
5 – باب وصاة النبي صلى الله عليه وسلم ود العرب أن يبلغوا مَنْ وراءهم.
6 – باب خبر المرأة الواحدة.
وتعدد هذه الأبواب قد يؤيد ما في نسخة الصغاني من ترجمته كتاب أخبار الآحاد، وتخصيص كتاب لأخبار الآحاد دليل على شدة اهتمام البخاري بإقامة البراهين على حجية خبر الواحد، وعلى القول بأنها أبواب ضمن كتاب "الاعتصام بالكتاب والسنة"، فإنَّ ذِكْرَه لهذه الأبواب تحت هذا الكتاب إشارة إلى أن من وسائل الاعتصام بالكتاب والسنة تثبيت حجية خبر الواحد.
وأضاف ابن حزم رحمه الله أدلة أخرى بطريقته الحجاجية القوية من مثل قوله: "من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرئ واحد أو محدث واحد أو مفت واحد فنقول لمن خالفنا: ماذا تقولون: أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرئ أن يؤمن بما أقرأه، وأن يصدق بأنه كلام الله…؟"(2).
__________
(1) الرسالة ص 453.
(2) الإحكام 1/99.(38/9)
وتتابع العلماء بعدهم في إثبات حجية خبر الواحد بتضمين كتبهم أدلة حجية خبر الواحد، كما نجد عند ابن القيم في كتابه: "الصواعق المرسلة" فقد ضمنه مباحث في الاحتجاج بالسنة عامة، وفي الاحتجاج بخبر الواحد خاصة في مجال إثبات العقائد.
وللإمام أبي الحسن الأشعري (ت:324ه) إشارات إلى القضية في كتابه "الإبانة" ونجد عند معظم شراح كتب الحديث وقفات ينبهون فيها على حجية خبر الواحد، كما نجد عند ابن عبدالبر في التمهيد، وعند النووي في "شرح مسلم"، وعند الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
فلا يتركون فرصة لإثبات حجية خبر الواحد من خلال شرح الأحاديث إلا انتهزوها، فابن عبدالبر مثلا يجعل من فقه حديث أم سلمة(1): "إيجاب العمل بخبر الواحد الثقة ذكراً كان أو أنثى، وعلى ذلك جماعة أهل الفقه والحديث وأهل السنة، ومن خالف ذلك فهو عند الجميع مبتدع..."(2).
والنووي وابن حجر جعلا مِنْ فقه حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قبول خبر الواحد والعمل به.
أما الأصوليون فقد أبلَوا البلاء الحسن في الدفاع عن السنة، وعن خبر الآحاد خاصة، وقد عبر إمام الحرمين عن حسن بلائهم بقوله: "وقد أكثر الأصوليون، وطوَّلوا أنفاسهم في طرق الرد على المنكرين"(3).
ولم يغفل المفسرون استثمار بعض الآيات لتثبيت حجية خبر الواحد، كالآيات التي استدل بها جمهور العلماء على حجية خبر الواحد(4)، والتي سيأتي بعضها في المبحث الثالث.
__________
(1) وهو حديث: أن رجلاً قَبَّل امرأته وهو صائم في رمضان، فوجد من ذلك وجداً شديداً، فأرسل امرأته تسأل له عن ذلك، فدخلت على أم سلمة فذكرت ذلك لها، فأخبرتها أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم، فرجعت فأخبرت زوجها بذلك ... الحديث بطوله.
(2) التمهيد 5/115.
(3) البرهان 1/600.
(4) انظر مثلا: روح المعاني 26/146 وقارن بأحكام القرآن للجصاص 5/279.(38/10)
وللعلماء والباحثين المعاصرين جهود طيبة في الدفاع عن حجية خبر الآحاد، كما أن الجدل قد أثير حوله في هذا العصر. ومن أبرز الأمثلة لهذه الجهود:
1 – وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
2 – فتح الغني الماجد ببيان حجية خبر الواحد للشيخ عبدالله بن الصديق الغماري.
3 – خبر الواحد في السنة أثره في الفقه الإسلامي، للدكتورة سهير رشاد مهنا.
4 – خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته للقاضي برهون.
5 – الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد لسليم الهلالي.
6 – رد شبهات الإلحاد عن أحاديث الآحاد لعبدالعزيز بن راشد.
7 – حديث الآحاد لخليل إبراهيم ملا خاطر.
8 – دراسة في خبر الآحاد لمحمد مبارك السيد.
المبحث الثالث: أدلة وجوب العمل بخبر الواحد والرد على شبه منكريه
الأدلة من الكتاب:
1 – قوله تعالى:? ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب:36].
فقد استدل به ابن عباس رضي الله عنهما على طاوس لما سأله عن الركعتين بعد العصر، فنهاه عنهما فقال له طاوس: ما أدعهما، فتلا عليه ابن عباس الآية.
قال الشافعي: "فرأى ابن عباس الحجة قائمة على طاوس بخبره عن النبي، ودلَّه بتلاوة كتاب الله على أن فرضاً عليه أن لا تكون له الخيرة إذا قضى الله ورسوله أمرا، وطاوس حينئذ إنما يعلم قضاء رسول الله بخبر ابن عباس وحده، ولم يدفعه طاوس بأن يقول: "هذا خبرك وحدك فلا أثبته عن النبي، لأنه يمكن أن تنسى"(1).
2 – قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة:122].
__________
(1) الرسالة ص 443 – 444 ، وانظر مفتاح الحجة للسيوطي ص 47.(38/11)
ووجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أوجب على كل فرقة قبول نذارة من نفر منها للتفقه في الدين، وأوجب على النافر التفقه والإنذار، وإنذار النافر إخبار، والناذر طائفة، والطائفة تطلق في اللغة على الواحد فصاعداً، فدلَّت الآية على وجوب قبول خبر الواحد(1).
وقد استدل بها الإمام البخاري في صحيحه إذ ضمنها ترجمة أول باب من أبواب أخبار الآحاد حين قال: "ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( [الحجرات:9] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية.
3 – قوله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحجرات:6].
والاستدلال بالآية على قبول خبر الواحد من وجهين:
أحدهما: أنه لو لم يقبل خبره لما علل عدم قبوله بالفسق.
وثانيهما: مفهوم الشرط وهو حجة، ومفهومه وجوب العمل بخبر الواحد إن لم يكن فاسقا(2).
وقد ركب ابن حزم الدليل من هذه الآية والتي قبلها فجعلهما "مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان"(3).
واستدل البخاري بها وبالتي قبلها في صحيحه، وهذه الآيات لا يخلو الاستدلال بأي منها من اعتراضات أوردها المستدلون بها أنفسهم كالرازي والآمدي والكلوذاني، وحاولوا أن يجيبوا عنها(4)، ولذلك قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على استدلال البخاري بقوله تعالى:( ( ( ( ( ( ([الحجرات:6] "وهذا الدليل يورَد للتَقوِّي لا للاستقلال؛ لأن المخالف قد لا يقول بالمفاهيم"(5).
وهذا ما دفع آخرين إلى الإحجام عن الاستدلال بها كالجويني والغزالي.
الأدلة من السنة:
__________
(1) انظر: الإحكام لابن حزم 1/98 ، والإحكام للآمدي 2 /58.
(2) انظر: روح المعاني 26/146 ، والإحكام للآمدي 2/58.
(3) الإحكام 1/100.
(4) انظر: المحصول للرازي 2/1/509 وما بعدها، والإحكام للآمدي 2/56 وما بعدها، والتمهيد للكلوذاني 3/46 وما بعدها.
(5) فتح الباري 13/234.(38/12)
أدلة تثبيت حجية خبر الآحاد كثيرة في السنة النبوية، واستقصاؤها غير لازم هنا منهجياً، وسأورد منها ما لعله يفي بالغرض.
الدليل الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه قال:(( بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"(1).
وقد استدل بالحديث على حجية خبر الواحد الإمامان الشافعي والبخاري، وأفاض الشافعي في بيان وجه الاستدلال بالحديث على المطلوب، وخلاصته: أن أهل قباء أهل سابقة في الإسلام، وأهل فقه، ولم يكن لهم أن يتحولوا عن القبلة التي كانوا عليها بخبر واحد إلا وهم على علم بأن الحجة ثابتة بخبره مع كونه من أهل الصدق، فلما تحولوا من فرض إلى فرض بخبر واحد دلَّ على أن العمل بخبره فرض، وإلا لأنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد علمه بتحولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها(2).
ففي الحديث حجة قوية على وجوب العمل بخبر الواحد، ويكفيه قوة أن اتفق على الاستدلال به هذان الإمامان.
الدليل الثاني: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(( كنت أسقي أبا طلحة الأنصاري وأبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب شراباً من فضيخ(3) وهو تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس(4) لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت(5).
__________
(1) أخرجه الإمام الشافعي في الرسالة ص 123 – 124 – 406 والبخاري في كتاب خبر الواحد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد… وغيرهما.
(2) انظر الرسالة ص 407 – 408.
(3) في الرسالة: من فضيخ وتمر، والفضيخ شراب يتخذ من البسر.
(4) المهراس حجر مستطيل منقور. يُدقُّ فيه، ويُتوضأ منه.
(5) أخرجه البخاري في أخبار الآحاد باب ما جاء في إجازة خبر الواحد …والشافعي في الرسالة ص 409.(38/13)
ووجه الاستدلال بالحديث واضح من حيث إنهم –وهم أهل مكانة في العلم والنصيحة- اعتمدوا على خبر واحد في تحريم ما كان حلالا لهم، وفي كسر الجرار إهراق ما فيها، ولم يعترض أحد منهم على خبر الواحد بالبقاء على حِلِّية الخمر حتى يشافههم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهم قريبون منه، كما لم ينههم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قبول خبر الواحد(1)، وأثبت هؤلاء ما كان مباحاً بخبر الواحد(2).
وقد اتفق الإمامان الشافعي والبخاري على الاستدلال بالحديث على حجية خبر الواحد، ومما يزيد هذه الحجية قوة ما ورد في بعض طرقه: "فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل(3)".
الدليل الثالث: جملة من الأحاديث التي فيها بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - آحادا من الصحابة دعاة وولاة وقضاة وأمراء ورسلا؛ فبعث أبا بكر والياً على الحج ليقيم للناس مناسكهم "وأخبرهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لهم وما عليهم"(4)، وخبره خبر واحد، وبعث علي بن أبي طالب لينبذ إلى قوم عهدهم، ولولم تكن الحجة قائمة بخبر كل واحد منهما لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وولى زيد بن حارثة بعث مؤتة، وبعث ابن أنيس سرية وحده، وبعث اثني عشر رسولا إلى اثني عشر ملكا يدعو كل واحد منهم من بعث إليه إلى الإسلام(5).
وقد ضمن الإمام البخاري هذا المعنى بابين: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد… وكيف بعث النبي صلى الله عليه وسلم أمراءه واحداً بعد واحد، فإن سها أحد منهم رد إلى السنة، وباب ما كان يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد.
دليل الإجماع:
__________
(1) انظر: الرسالة ص 409 – 410.
(2) فتح الباري 27/276.
(3) السابق 27/276.
(4) الرسالة ص 414.
(5) انظر السابق ص 414 – 418.(38/14)
إجماع الصحابة من أقوى الأدلة على وجوب العمل بخبر الواحد، إذ لم يكن يثبت عن أحد منهم أنه رفض قبول خبر الواحد من حيث هو كذلك، حتى إن الأصوليين أكدوا أن "إجماعهم على العمل بخبر الواحد منقول تواتراً"(1) والتواتر دليل قطعي لا يتطرق إليه شك، وقد رويت وقائع كثيرة جداً تدل على أنهم جميعاً يقبلون خبر الواحد ويعملون به.
ومن هذه الوقائع الكثيرة: اعتماد أبي بكر الصديق رضي الله عنه على خبر الواحد في توريث الجدة السدس(2).
ومنها: ما صح عن سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر"(3).
ومثله: ما روى طاوس أن عمر قال: ((أذكر الله امرأ سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئاً؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لي –يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره"(4).
قال الشافعي: "فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه"(5).
__________
(1) البرهان للجويني 1/600.
(2) انظر الحديث في جامع الترمذي كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الجدة، وفي غيره.
(3) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 426 وانظر أيضاً: الأم 6/77.
(4) الرسالة ص 427.
(5) السابق ص 429.(38/15)
ففي هاتين الواقعتين دليل واضح على قبول خبر الواحد العدل مع كون عمر أعلم ممن أخبره، وأكثر صحبة، ولم يقل للضحاك:(( أنت رجل من أهل نجد، ولحمل بن مالك: أنت رجل من أهل تهامةلم تريا رسول الله، ولم تصحباه إلا قليلاً، ولم أزل معه ومن معي من المهاجرين والأنصار، فكيف عزب هذا عن جماعتنا وعلمته أنت، وأنت واحد، يمكن فيك أن تغلط وتنسى؟))(1).
ومنها: اعتماد عثمان بن عفان رضي الله عنه على خبر الفريعة بنت مالك في كون المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الزوجية(2).
قال الشافعي: "وعثمان في إمامته وعلمه يقضي بخبر امرأة بين المهاجرين والأنصار"(3).
وقد صرَّح كثير من علماء الحديث وعلماء الأصول بحصول إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد، واستمر ذلك الإجماع إلى أن حدثت مذاهب تشكك في خبر الواحد.
ولم يمنع الشافعي من التصريح بالإجماع إلا تحفظه المعروف في الموضوع، ولكن كلامه غير بعيد عن التصريح بالإجماع، وذلك أنه لمَّا ذكر كثيراً من أعلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال: "كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد عن مَن فوقه ويقبله عن مَن تحته".
ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته – جاز لي- ولكن أقول: "لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"(4).
وصرَّح ابن عبدالبر بإجماع أهل العلم في جميع الأمصار على قبول خبر الواحد وإيجاب العمل به(5).
وهكذا "شاع فاشياً عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير، فاقتضى الاتفاق منهم على القبول"(6).
__________
(1) اختلاف الحديث بهامش الأم 7/20.
(2) الرسالة ص 438 – 439.
(3) السابق ص 439.
(4) السابق ص 456 – 457.
(5) انظر التمهيد 1/2.
(6) فتح الباري 27/270.(38/16)
ومثل المحدِّثين علماء الأصول، فقد قال الآمدي بعد أن ساق أدلة من القرآن الكريم على حجية خبر الواحد، وأورد اعتراضات عليها: "والأقرب في هذه المسألة إنما هو التمسك بإجماع الصحابة"(1).
وقبله الإمام الجويني الذي اختار في الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد مسلكين:
أحدهما: يستند إلى أمر متواتر لا يتمارى فيه إلا جاحد، ولا يدرؤه إلا معاند. "والمسلك الثاني مستند إلى إجماع الصحابة "(2).
والجويني يلخص بهذا موقف الأصوليين، ويوحد بينهم وبين المحدثين في وجوب العمل بخبر الواحد، رغم المناقشات المستفيضة التي أثارها الأصوليون حول إفادة خبر الواحد العلم أو الظن كما سيأتي، لكن العبرة بهذه النتيجة التي جمع فيها الجويني حجتين يقينيتين قاطعتين هما: التواتر والإجماع، أي التواتر في نقل الروايات التي توجب العمل بخبر الواحد، وإجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد، وهذا الإجماع منقول نقلاً متواتراً مفيداً للقطع واليقين.
فلم يُبْقِ الأصوليون بعد هذه الحجج عذراً لأحد في مخالفة خبر الواحد.
ولم يكتف العلماء بإقامة هذه الحجج على وجوب العمل بخبر الواحد حتى دحضوا كل الشبه، وفندوا كل الحجج التي تعلق بها منكرو حجية خبر الآحاد، سواء منهم أولئك الذين ردُّوه جملة، وأولئك الذين ردوه إذا كان في موضوع العقائد.
__________
(1) الإحكام ج 2/64 ، ومثله قول الكلوذاني الحنبلي: أجمع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد، التمهيد في أصول الفقه 3/54.
(2) البرهان 1/600 – 601، وأضاف الزركشي إلى هذين مسلكا ثالثا وهو:" أن العمل بخبر الواحد يقتضي رفع ضرر مظنون فكان العمل به واجبا…" البحر المحيط 1/260.(38/17)
ومن تلك الشبه: ما تعلقوا به من قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( [الإسراء:36] فقد فهموا أن النهي يتناول الأخذ بخبر الواحد من حيث إن الأخذ به اتباع ما ليس للآخذ به علم، وقد عَدَّ ابن حزم تعلقهم بهذه الآية أقوى ما شغبوا به، ورد عليهم بقوله: "وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة؛ لأنا لم نَقْفُ ما ليس لنا به علم، بل قد صَحَّ لنا به العلم، وقام البرهان على قبوله، وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به، فسقط اعتراضهم بهذه الآية..."(1).
ورد عليهم إمام الحرمين تمسكهم بظاهر هذه الآية بأن "مضمون الآية: النهي عن اقتناء الظنون من غير ضبط متأيد بمراسم الشرع، وليس الغرض الإضراب عن كل ما ليس معلوما"(2).
وقد عاكسهم ابن القيم في الاحتجاج بالآية على عكس ما احتجوا بها عليه، وهو وجوب العمل بخبر الواحد، وإفادته للعلم من حيث إن المسلمين لم يزالوا منذ عهد الصحابة يتبعون أخبار الآحاد ويعملون بمقتضاها، ويثبتون بها صفات الله تعالى "فلو كانت لا تفيد علما لكان الصحابة و التابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قَفَوْا ما ليس لهم به علم"(3).
__________
(1) الإحكام 1/103.
(2) البرهان 1/605.
(3) مختصر الصواعق المرسلة ص 479.(38/18)
ومن تلك الشبه: أنهم رأوا وقائع في عهد الصحابة فهموا منها أنهم يرفضون الاحتجاج بخبر الواحد، كرد أبي بكر لخبر المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى استظهر بمحمد بن مسلمة(1)، وكرد عمر لخبر أبي موسى في الاستئذان حتى ظاهَرَهُ أبو سعيد الخدري(2)، وكرده لخبر فاطمة بنت قيس في السكنى(3)، وكرد علي لخبر أبي سنان الأشجعي في قصة بَرْوَع بنت واشق أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لها بعد أن توفي زوجها -ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها- أن لها مثل صداق نسائها، ولها الميراث وعليها العدة(4).
وقد رد العلماء تمسكهم بهذه الشبهة بأن هناك فرقا بين التثبت والاستظهار، وبين رفض الاحتجاج، فهؤلاء الصحابة إنما أرادوا بفعلهم التثبت في قبول خبر الواحد في تلك الوقائع لأسباب اقتضت ذلك، بدليل أنهم في وقائع أخرى اعتمدوا على خبر الواحد(5).
ولا عيب في الاستظهار على الخبر بخبر ثان وثالث ورابع وخامس وسادس "لأن الأخبار كلما تواترت وتظاهرت كان أثبت للحجة وأطيب لنفس السامع"(6).
وما فعله بعض الصحابة من تحليف الراوي الواحد أو اشتراط شهادة آخرين على قبول خبر الواحد محمول على التثبت والاستظهار(7).
__________
(1) انظر: سنن أبي داود كتاب الفرائض باب في الجدة، وسنن الترمذي كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الجدة.
(2) انظر: صحيح البخاري في كتاب الاستئذان باب التسليم والاستئذان ثلاثا، وصحيح مسلم كتاب الأدب باب الاستئذان.
(3) انظر قصتها في: صحيح مسلم كتاب الطلاق باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
(4) انظر: سنن أبي داود كتاب النكاح باب فيمن تزوج ولم يسم صداقا حتى مات، وسنن الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء في الرجل يتزوج امرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها.
(5) انظر: تدريب الراوي 1/73 وما بعدها.
(6) الرسالة ص 433.
(7) انظر: البرهان 1/609 – 610.(38/19)
والحاصل أن تَرْكَ الاحتجاج ببعض أخبار الآحاد في فروع فقهية لا يستلزم عدم الاحتجاج بها من حيث الأصل؛ إذ قد يكون ترك الاحتجاج بتلك الأخبار آتياً من أسباب أخرى كالاحتياط والتثبت في الرواية.
ومن تلك الشبه: أنهم رأوا اختلاف الأئمة في العمل بالخبر الواحد في فروع فقهية، فظنوا أن ذلك بسبب رد خبر الواحد، وقد ألمح الشافعي إلى هذه الشبهة بقوله: "فإن شبه على رجل بأن يقول: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث كذا، وحديث كذا، وكان فلان يقول قولاً يخالف ذلك الحديث"(1) ثم أجاب عنها بأن ذلك ليس بسبب رد الخبر، بل إما أن يكون عنده خبر آخر يخالفه، أو يكون سمع خبراً ممن هو أوثق عنده من الذي سمع منه الخبر الذي رده، أو يكون سمعه من غير حافظ أو من متهم، أو يكون الحديث محتملا عنده معنيين فيذهب إلى أحدهما دون الآخر(2).
ومن تلك الشبه: أن خبر الواحد يمكن فيه الغلط، وإمكان الغلط فيه دفعهم إلى رده بناء على مبدأ انطلقوا منه وهو أن الحجة لا تقوم "بأمر يمكن فيه الغلط"(3).
وقد رُدَّتْ عليهم هذه الشبهة بأن إمكان الغلط لا يستلزم وجوده وعدم اطلاع أهل العلم عليه؛ لأن ذلك يتنافى مع وعد الله بحفظ دينه(4)، ويستلزم إضلال العباد "فإن ما يجب قبوله شرعاً من الأخبار لا يكون باطلا في نفس الأمر"(5).
المبحث الرابع: نشأة ظاهرة التشكيك في حجية خبر الآحاد وأسبابها
__________
(1) الرسالة ص 458.
(2) انظر السابق ص 458 – 610.
(3) جماع العلم بهامش الأم 7/256.
(4) انظر تفصيل هذا الرد في الإحكام لابن حزم 1/109 ومختصر الصواعق المرسلة ص 462.
(5) وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للشيخ الألباني ص 13.(38/20)
هذه القضية من أهم القضايا المرتبطة بخبر الواحد من حيث نشأة النابتة التي ابتدعت رفض قبول خبر الواحد جملة، وهذه النابتة قد بذرت بذرتها منذ عقد الأربعين الذي ينظر إليه على أنه الحد الفاصل بين صفاء السنة والتزيد فيها(1).
بل إن تيار الاقتصار على ما في القرآن قد ظهر مبكراً منذ عهد الصحابة كما يظهر من موقف الرجل (الخارجي) الذي جاء إلى عمران ابن حصين وهو يحدِّث الناس عن السنة فقال: يا أبا نجيد: حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك تقرؤون القرآن؟ أكنت تحدثني عن الصلاة وما فيها وحدودها؟ أكنت تحدثني عن الزكاة في الذهب والإبل والبقر وأصناف المال؟ لكن قد شهدت وغبت أنت، ثم قال: فرض رسول صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني، أحياك الله.
قال الحسن: "فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين"(2).
وقد نفهم من هذه الواقعة إشارات:
الأولى: أن الدوافع التي دفعت هذا الرجل وأمثاله ليقول لهذا الصحابي: حدثنا بالقرآن دوافع غامضة، فهل هو دافع الرغبة في تحصيل قدر أكبر من أسرار القرآن؟ أو هو دافع الاقتصار على ما في القرآن واستبعاد ما في السنة؟ أو هو دافع الجهل بموقع السنة من هذا الدين؟ أو هو دافع الارتياب و الشك في ثبوت السنة؟ أو هي هذه الدوافع كلها؟!
الثانية:أن هذا الرجل ليس وحده الذي يقول هذا، بل من ورائه آخرون يرون الرأي نفسه، بدليل قول عمران له: "أنت وأصحابك" لكن يبدو أن لا تأثير لهم في ذلك العهد لأنهم مازالوا في طور النشأة.
الثالثة: أن هذا الرجل ليس ذا طوية خبيثة، ولو كان كذلك لما تراجع عن فكرته بعد محاورة عمران له، ولما قال له ممتنَّاً: "أحييتني أحياك الله" وإنما وقع فريسة الجهل بمكانة السنة النبوية وبأثرها المحمود في تسديد مسار المسلم في الحياة.
__________
(1) انظر: خبر الواحد للقاضي برهون ص 76.
(2) مفتاح الجنة للسيوطي ص 38.(38/21)
ومن أعلام النبوة: ما أشار إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجود ظاهرة التشكيك في سنته؛ فقد روى أبو داود وغيره عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه))، الحديث...(1).
واستمرت الظاهرة في تصاعد مع مرور الزمن حتى جعلتها طوائف من سمات منهجها في التعامل مع السنة كطوائف المعتزلة والخوارج والروافض.
وقد حاول ابن حزم تحديد زمن نشأة هذه الظاهرة بقوله: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، تجري على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدَّث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ، فخالفوا الإجماع في ذلك"(2).
فابن حزم في هذا النص ينسب إلى متكلمي المعتزلة في القرن الثاني بدعة رفض قبول خبر الواحد بعد أن كان حجة عند جميع الفرق.
ويبدو أن هذه الظاهرة قد تنامت خلال القرن الثاني وما بعده وتفرعت إلى أكثر من فرع، وقد حمل لواء هذه الظاهرة أهل الكلام الذين ليس لهم موقف واحد في المسألة كما نفهم من قول الإمام الشافعي رحمه الله: "ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقاً متبايناً، وتفرق غيرهم ممن نسبته العامة إلى الفقه فيه تفرقاً"(3).
فلبدعة نشأة الكلام والاشتغال به أثر واضح في نشأة ظاهرة التشكيك في خبر الواحد، ولا شك أن سيل البدعة إذا كان جارفاً سيتحطم على حصون السنة.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة.
(2) الإحكام 11/102 ، وانظر أيضا ص 119.
(3) جماع العلم بهامش الأم 7/250.(38/22)
وقد كان لأهل الكلام وجود بارز في عصر الإمام الشافعي في كثير من البلاد، ونال خبر الواحد نصيباً من معارضتهم الجدلية كما يفهم من قول الإمام الشافعي: "فقد وجدت أهل الكلام منتشرين في أكثر البلدان، فوجدت كل فرقة منهم تنصب منها ما تنتهي إلى قوله، وتضعه الموضع الذي وصفت"(1).
ويعد الإمام الشافعي رحمه الله أبرز العلماء الذين تعدُّ كتاباتهم تاريخًا أمينًا لهذه الظاهرة، كما يعد أبرزهم في التصدي لها.
وقد صرَّح أكثر من مرة في كتبه أن جميع العلماء منذ عهد الصحابة والتابعين كانوا يثبتون حجية خبر الواحد إلا فرقة يبدو أنها تفرعت إلى فرقتين(2) في عهده:
فرقة رفضت الاحتجاج بالسنة كلها
وفرقة رفضت الاحتجاج بأخبار الآحاد
وقد خصص للرد على الفرقتين بابين:
أحدهما: باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها(3)!!
وثانيهما: باب حكاية قول مَنْ ردَّ خبر الخاصة(4).
ويبدو من نتيجة حوار الإمام الشافعي مع الطائفة الأولى التي ردت الأخبار كلها أن مناظره منها قد رجع إلى جادة الصواب وأقر بحجية السنة كما يفهم من قوله للإمام: "والحجة لك ثابتة بأن علينا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرت إلى أن قبول الخبر لازم للمسلمين لما ذكرت وما في مثل معانيه من كتاب الله، وليست تدخلني أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره إذا بانت الحجة فيه، بل أتدين بأن علي الرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيته الحق"(5).
وإذا كان هذا المجادل المنصف الباحث عن الحق قد رجع إليه بتجلية الشافعي إياه له، فإن كثيرين من ذوي الأغراض السيئة قد لا يقنعهم هذا الحق الأبلج.
__________
(1) جماع العلم بهامش الأم 7/256.
(2) انظر السابق 7/250.
(3) السابق 7/251.
(4) السابق 7/256.
(5) السابق 7/251 – 252.(38/23)
أما حواره مع الطائفة الثانية فيبدو منه أنهم كثيرون، كما يفهم من بعض عبارات الشافعي كقوله: "ثم كلَّمني جماعة منهم مجتمعين ومتفرقين بما لا أحفظ أن أحكي كلام المتفرد عنهم منهم وكلام الجماعة، ولا ما أخبر به كُلاًّ"(1).
وكقوله: "قال هو وبعض من حضر معه"(2)وكقوله: "وقلت له أو لبعض من حضر معه(3)" وكقوله: "فقال جماعة ممن حضر منهم"(4).
وتصور هذه العبارات ضراوة المعارك التي خاضها الإمام الشافعي مع هؤلاء وبسالته في مصاولتهم انتصاراً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن المؤكد أن الإمام الشافعي أراد بهذا الحجاج العلمي أن يثبت أموراً:
الأول: أن السلف - مجمعون صحابةً وتابعيهم- على تثبيت حجية خبر الواحد ووجوب العمل به بشروطه.
وقد نال هذا الأمر قسطاً كبيراً من اهتمام الشافعي رحمه الله وإن تحاشى التصريح بالإجماع كما سبق وعدل عنه إلى قوله: "ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد… جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد..."(5).
وقصده من تثبيت هذا الإجماع بيان أن ما ذهبت إليه الطوائف التي يرد عليها خرق لهذا الإجماع، فيلزم التصدي لهذا الخرق، والشبه التي يثيرها هؤلاء.
وقد صرح كثير من الأصوليين والمحدثين فيما بعد بحصول الإجماع على هذا، بل صرح ابن القيم بأن إجماع الصحابة على ذلك معلوم بالضرورة(6).
وصرح إمام الحرمين أن إجماع الصحابة على حجية خبر الواحد منقول تواترا(7).
__________
(1) السابق 7/255، وفي نسخة (( ولا ما أجبت به كُلاًّ )).
(2) السابق 7/256.
(3) السابق 7/259.
(4) السابق 7/261.
(5) الرسالة ص 457 – 458.
(6) مختصر الصواعق المرسلة ص 457، وانظر أيضا ص 502.
(7) انظر: البرهان 1/601.(38/24)
عدَّ ابن عبدالبر الخارقين لهذا الإجماع من الخوارج وطوائف من أهل البدع" شرذمة لا تعد خلافاً"(1).
الثاني: أن مبدأ تثبيت حجية خبر الواحد لا يجوز التساهل فيه مع تلك الطوائف كيلا يغتر بهم الأغرار من المسلمين، وهذا ما يفسر تلك الإطالة الملحوظة عند الشافعي في تثبيت حجية خبر الواحد رغم تصريحه بأنه لم يحفظ فيه خلافاً عن أحد من فقهاء المسلمين.
وتنفيراً للمسلمين من الاغترار بهؤلاء، وصفهم الشافعي بقوله: "فمن فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله وأهل العلم بعدهم إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة! "(2).
الثالث: أن دحض كل الشبه وكل الأدلة التي تستمسك بها الطوائف التي ترفض الاحتجاج بخبر الواحد من مهمات العلماء، وإذا لم تدحض تلك الشبه فإنها تتغلغل شيئا فشيئا حتى تصبح في صورة أدلة.
الرابع: أن التيار الخارق للإجماع في حجية خبر الواحد يبدو أنه قوي كما يفهم من بعض عبارات الشافعي كقوله: "قلت له: أنت تسأل عن الحجة في ردِّ المرسل وترده، ثم تجاوز فترد المسند الذي يلزمك عندنا الأخذ به"(3)، وقوة هذا التيار يجب أن تقابلها قوة الرد.
أسباب نشأة ظاهرة التشكيك في خبر الآحاد
من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور التشكيك في خبر الآحاد خاصة وفي السنة عامة:
1 – ظهور قرن الفتنة التي عصفت بالأمة منذ مقتل عثمان رضي الله عنه، فالخوارج أدت بهم قضية "التحكيم" إلى تجريح الصحابة، لأنهم رضوا بالتحكيم، والروافض جرحوا كثيراً من الصحابة إلا علياً وأبناءه وشيعته، وكان من منهجهم ألا يقبلوا من الأحاديث إلا ما جاء عن طريق آل البيت(4).
__________
(1) التمهيد 1/2.
(2) اختلاف الحديث بهامش الأم 7/26.
(3) الرسالة ص 470 – 471.
(4) انظر خبر الواحد في: التشريع الإسلامي وحجيته للقاضي برهون ص 77 و ص 283.(38/25)
2 – طغيان المنهج العقلي في التعامل مع السنة، ولا سيما عند المعتزلة الذين جعلوا دلالة العقل أولى الدلالات، فالأدلة عندهم على الترتيب هي: "حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع"(1).
وقد رأى القاضي عبدالجبار-وهو أحد أقطابهم- أن خبر الآحاد لا يعلم كونه صدقاً ولا كذباً فيلجأ فيه إلى الحجة العقلية التي هي الدليل الأول "فإن لم يكن موافقاً لها كان الواجب أن يرد! وأن يحكم أن النبي لم يقله، وإن قاله فإنما قاله حكاية عن غيره!!"(2).
ومن نتائج طغيان هذا المنهج أن خبر الواحد يمكن أن يكون في نفس الأمر كذباً أو خطأ، وقد جعلت "المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به، وقالوا: ما جاز أن يكون كذباً أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز وجل، ولا أن يضاف إلى الله تعالى، ولا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يسع أحداً أن يدين به"(3).
3 – قضية الصفات وما أثير حولها من تعطيل وتجسيم وتأويل، فنفاة الصفات ومعطلوها قالوا: "لا يحتج بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من صفات ذي الجلال والإكرام"(4).
وقد انطلقوا في التعطيل من زعم تنزيه الله عن صفات البشر: إذ "لو كان الله عالماً بعلم لكان يجب في علمه أن يكون مثلاً لعلمنا" كما قال القاضي عبدالجبار(5)، والصفات الواردة في القرآن الكريم لابد أن تؤول بما يتفق مع هذا المنطلق(6)، وهو منطلق تنزيه الله عز وجل، والخوف من تشبيهه بمخلوقاته، إذ جعلوا قوله تعالى: ( ? ( ( ( [الشورى:11] مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة"(7).
__________
(1) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار ص 88.
(2) شرح الأصول الخمسة ص 770، وانظر أمثلة لردهم الأحاديث المخالفة للمعقول في الاعتصام للإمام الشاطبي 1/231 وما بعدها.
(3) الإحكام 1/107.
(4) مختصر الصواعق المرسلة ص 438.
(5) شرح الأصول الخمسة ص 201 وص 770.
(6) انظر السابق ص 212.
(7) مختصر الصواعق المرسلة ص 509.(38/26)
وقضية الصفات دفعت الكثيرين إلى التوقف في آيات الصفات من القرآن الكريم نفسه؛ لأن الصفات لابد فيها من القطع، والآيات القرآنية وإن كانت لها صفة القطع من جهة الثبوت لا تفيد القطع من جهة الدلالة، وأخبار الآحاد فقدت القطع من الجهتين معاً، "وبهذا قدحوا في دلالة أحاديث الآحاد؛ لأنها لا تفيد العلم، فسدُّوا على القلوب معرفة الرب تعالى، وأسمائه وصفاته من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - "(1).
4 – انتشار الوضع في الحديث، وقد شككت هذه الظاهرة كثيراً من الفرق في حجية السنة جملةً، رغم الجهود المضنية التي بذلها علماء الحديث لتمييز الحديث الصحيح عن غيره، ولتحذير الأمة من الأحاديث الموضوعة، لكن أهل الأهواء وفاقدي العلم بالحديث وجدوا في هذه الظاهرة مستنداً لهم لرد أخبار الآحاد.
بل إن بعض المعاصرين تَعدَّوْا التشكيك في أخبار الآحاد إلى التشكيك في الأحاديث المتواترة، وتساءل بعضهم: "هل كل ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله وأمر به يكون واجبا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة وإن لم يرد له ذكر في القرآن؟"(2) ثم أجاب عن السؤال بقوله: "إنه لا يجب!!"(3).
5 – دعوى معارضة القرآن الكريم أو السنة المتواترة أو الأصول.
لكن يجب بصدد الحديث عن هذا السبب أن نفرق بين مذهب مَنْ يرفض العمل بخبر الواحد أصلاً، ومذهب مَنْ يرفضه إذا عارضه ما هو أقوى منه، كما هو مذهب أبي حنيفة مثلاً، وكما نسب إلى الإمام مالك في تقديم ظاهر القرآن الكريم على خبر الواحد.
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 438.
(2) مجلة المنار 9/522 عن موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، للدكتور الأمين الصادق الأمين ص 277.
(3) انظر تأسيس النظر للدبوسي ص 99.(38/27)
وتجب ملاحظة هذه التفرقة حتى لا يظن بمثل أبي حنيفة أنه من الرافضين لحجية خبر الواحد، فهو رحمه الله إمام أهل الرأي، ويحتل القياس عنده مكانة بارزة في الاستدلال، ومع ذلك يقدم خبر الواحد على القياس، ومعه في هذا التقديم الإمامان محمد وأبو يوسف، وهذا من أقوى البراهين على حجية خبر الآحاد عندهم.
غير أن المشكل – منهجياً - أن هناك ما يشبه خيطاً رابطاً بين اتجاه من يرفض حجية خبر الواحد جملة، واتجاه من يرفض حجيته إذا عارضه ما هو أقوى منه، من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة، وهو ما يدخل في ما يطلق عليه "تعارض الأخبار" وقد ميَّز الإمام الشافعي بين الاتجاهين لما قال لمناظره: "قد أجد الناس مختلفين فيها (أي السنة) منهم من يقول بها، ومنهم من يقول بخلافها، فأما سنة يكونون مجتمعين على القول بخلافها فلم أجدها قط"(1).
ويتمثل هذا الخيط الرابط بين الاتجاهين في مبدأ رد خبر الواحد، وفي مبدأ اتساع رقعة هذا الرد، وفي أدلة الرد، وأظهر هذه الأدلة ما استشهد به أصوليو المذهب الحنفي لردِّ خبر الواحد إذا تعارض مع الكتاب والسنة المتواترة أو المشهورة من حديث منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونصه: "تكثر الأحاديث لكم بعدي، فإذا روي لكم عن حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه، واعلموا أنه مني، وما خالفه فردوه، واعلموا أني منه بريء"(2).
__________
(1) الرسالة ص 470.
(2) أصول السرخسي 1/365 مفتاح الجنة السيوطي ص36، وقد استشهد أبو يوسف بنص هذا الحديث انظر كتاب سير الأوزاعي في الأم 7/308، وانظر دراسات في السنة لأستاذنا د/محمد بلتاجي حسن ص99.(38/28)
لكن هذا الحديث غير صحيح، فقد قال عنه يحيى بن معين: إنه موضوع وضعته الزنادقة، وقال عنه الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، ونقل الحافظ ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله عن عبدالرحمن بن مهدي قوله: "الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فأنا لم أقله"(1).
على أن أسلوب هذا الحديث يوحي بالاختلاق والوضع!
وقد توسع الحنفية في ردِّ بعض أخبار الآحاد، لا لأن منهجهم هو ردُّ أخبار الآحاد، كما هو منهج المبتدعة، لكن لاعتبارات علمية ومنهجية لم يسلمها لهم غيرهم، فمتأخرو الحنفية ردوا خبر الواحد إذا كان في ما تعم به البلوى"(2).
كما ردوه إذا ورد مخالفا للأصول، قال الدبوسي: "الأصل عند أصحابنا أن خبر الآحاد متى ورد مخالفا لنفس الأصول مثل ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أوجب الوضوء مِنْ مَسِّ الذكر، لم يقبل أصحابنا هذا الخبر لأنه ورد مخالفاً للأصول؛ لأنه ليس في الأصول انتقاض الطهارة بمس بعض أعضائه"(3).
__________
(1) جامع بيان العلم 2/191.
(2) قال ابن القيم: "وحكوه عن أبي حنيفة وهو كذب عليه وعلى أبي يوسف ومحمد، فلم يقل ذلك أحد منهم ألبتة، وإنما هذا قول متأخريهم، وأقدم من قال به عيسى بن أبان، وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره" مختصر الصواعق المرسلة ص 509.
(3) تأسيس النظر ص 156.(38/29)
وقضية مخالفة خبر الواحد للأصول لم تُسَلَّمْ لفقهاء المذهب الحنفي وأصوليِّيه، ومثلهم فقهاء المذهب المالكي وأصوليوه، إذ كيف يكون خبر الواحد مخالفا للأصول، وهو نفسه من الأصول؟! فقد وجدت للعلماء نصوصا تثبت أن خبر الواحد أصل بنفسه، والأصل لا تجوز مخالفته، فقد قال الإمام الشافعي: "وتثبيت خبر الواحد أقوى من أن أحتاج إلى أن أمثله بغيره؛ بل هو أصل في نفسه"(1)، ومثله قول ابن حزم في رده على بعض الحنفيين: "وأما قولهم:مخالف للأصول، فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل؛ لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين، وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه، ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين"(2).
وبالرغم من وجود هذا الشبه الظاهري في ظاهرة الرفض، فإن علماء الحنفية وغيرهم ممن ردوا بعض أخبار الآحاد يختلفون منهجا واعتقادا مع الرافضين لمبدأ الحجية نفسها.
المبحث الخامس: إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن
هذه قضية من القضايا التي أثيرت حول خبر الواحد بين الذين يقولون بوجوب العمل بخبر الواحد من حيث هو، وهم جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، فهم متفقون على حجية خبر الواحد وإفادته للعمل، ومختلفون في إفادته للعلم.
ومن الذين ينكرون حجيته من يجعل إفادته للظن من دواعي رده؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئاً، لكن الذي يعنينا دراسة هذا الخلاف بين المثبتين لحجيته ووجوب العمل به، أما المنكرون فلا فائدة من إثارة الظنية أو العلمية عندهم، إذ الرفض جملة هو حصيلة مذهبهم.
ومجمل الأقوال في هذه القضية تعود إلى قولين:
__________
(1) الرسالة ص 384.
(2) الإحكام 1/105.(38/30)
القول الأول: أن خبر الواحد الصحيح يفيد العلم بنفسه، وهذا هو الاتجاه العام عند المحدثين، وهو ما نجده عند فقهاء الظاهرية وعلى رأسهم داود وابن حزم الذي أطال في الاحتجاج له وأفاض في ترجيحه(1)، وما كان له ليقول غير ذلك؛ لأنه لا يقبل بناء أي حكم على الظن، ويرى أن الله تعالى حرم القول في دينه بالظن الذي لا يتيقن، إذ " هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا"، وهو " غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى"(2).
بل إن إيجاب العمل بخبر الواحد يستلزم عنده إفادته للعلم، فكأنه يلزم الجمهور القائلين بوجوب العمل بخبر الواحد بالقول بإفادته للعلم، ولا يتردد في اعتبار " كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم، قائلا بأن الله تعالى تعبَّدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم، وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين، وهذا عظيم جدا"(3).
وانتصر ابن القيم رحمه الله لهذا القول(4)، وربط المسألة بتحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الشؤون بناء على قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء:65] فمن ادعى أن خبر الواحد لا يفيد العلم فهو"بمعزل عن هذا التحكيم".
كما ربطها برد المتنازعين ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بناء على قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء:59] فإن كانت أخبار الآحاد "لا تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه"(5).
__________
(1) انظر: الإحكام 1/97 وما بعدها.
(2) السابق 1/113.
(3) السابق 1/113.
(4) مع أنه استدل على إفادة خبر الواحد للعلم بنفس الأدلة التي استدل بها الشافعي وغيره على إيجاب العمل بخبر الواحد. انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص 477 وما بعدها.
(5) مختصر الصواعق المرسلة ص 451.(38/31)
وإذا كان الاتجاه العام عند أهل الحديث أن خبر الواحد يفيد العلم، فإن قولهم أولى بالقبول والصواب من قول غيرهم؛ فهم أهل الاختصاص، وقول أهل الاختصاص في كل فن مقدم على قول غيرهم، وهذا ما أيد به ابن القيم ترجيحه للقول بإفادة خبر الواحد للعلم، فإذا "كان أهل الحديث عالمين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الأخبار وحدث بها في الأماكن والأوقات المتعددة، وعلمهم بذلك ضروري؟!!لم يكن قول من لا عناية له بالسنة والحديث، وأن هذه أخبار آحاد لا تفيد العلم، مقبولاً عليهم، فإنهم يدعون العلم الضروري، وخصومهم إما أن ينكروا حصوله لأنفسهم أو لأهل الحديث؛ فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مكابرين لهم على ما يعلمون من نفوسهم..."(1).
أما أن يقول أهل الكلام إنه لا يفيد العلم فإنهم و أتباعهم "في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاهتمام به"(2).
ويلاحظ أن في كلام ابن القيم رحمه الله مبالغة في المسألة من حيث جعل العلم الذي يفيده خبر الواحد علماً ضرورياً، وهذه المبالغة تؤدي إلى زوال الفرق بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد؛ فالفرق بينهما أن المتواتر يفيد العلم الضروري، وخبر الواحد يفيد العلم النظري، وإذا زال هذا الفرق لم يبق لتقسيم الأخبار إلى متواتر وآحاد معنى.
فهل العلم الذي يفيده خبر الواحد ضروري أو نظري؟
والمقصود بالعلم الضروري هو العلم الذي يفيد اليقين والقطع بلا نظر وبلا استدلال، فهو يحصل لكل سامع، وسمي ضرورياً لأنه "يضطر الإنسان إليه بحيث لا يمكن دفعه(3)، أما العلم النظري فهو العلم الذي يتوقف حصوله على نظر واستدلال، وهو لا يحصل إلا لمن له أهلية النظر، والمقصود بالنظر: ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون"(4).
__________
(1) السابق ص 455.
(2) السابق 454.
(3) نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر ص 21.
(4) السابق ص 22.(38/32)
وخبر الواحد لا يفيد إلا العلم النظري الاستدلالي المبني على البرهان وهو علم "لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث"(1)حسب تعبير الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ومن المعلوم أن العلم الذي يفيده خبر الواحد لا يمكن أن يكون ضروريا بالمعنى السابق بحيث يضطر الإنسان إليه، ولا يمكنه دفعه، ولا يتوقف حصوله على النظر والاستدلال وإقامة البرهان، ولم أقف لأحد على القول بإفادة خبر الواحد للعلم الضروري إلا لبعض العلماء كابن القيم في النص السابق، ولعله تبع في ذلك مَنْ قال به قبله كابن خويز منداد على ما نسب إليه.
وقد وافق جمهور المحدثين بعض الفقهاء وبعض الأصوليين في إفادة خبر الواحد للعلم النظري، وحكوا عن ابن خويز منداد أنه نسب القول بذلك إلى الإمام مالك رحمه الله، وذكر ابن القيم رحمه الله أن ابن خويز منداد ذكر في كتابه "أصول الفقه" أن خبر الواحد الذي يرويه الواحد والاثنان يفيد العلم الضروري وأن مالكاً نص عليه(2).
ونلاحظ مرة أخرى أن ابن القيم جعل العلم الذي يفيده خبر الواحد عند ابن خويز منداد علما ضروريا، وهو كذلك فيما قرره المازري من كلام ابن خويز منداد، فقد حكى الزركشي عن المازري قوله: "ذهب ابن خويز منداد إلى أنه يفيد العلم ونسبه إلى مالك، وأنه نص عليه، وأطال في تقريره، وحاصله أنه يوجب العلم الضروري، لكن تتفاوت مراتبه، ونازعه المازري وقال: لم يعثر لمالك على نص فيه(3)
وحكى ابن حزم القول بإفادة خبر الواحد للعلم عن الحارث بن أسد المحاسبي، لكن الزركشي انتقد حكاية ذلك عنه وقال:وفيما حكاه عن الحارث نظر، فإني رأيت كلامه في كتاب "فهم السنن"، نقل عن أكثر أهل الحديث وأهل الرأي والفقه أنه لا يفيد العلم، ثم قال: وقال أقلهم: يفيد العلم، ولم يختر شيئًا...."(4).
__________
(1) الباعث الحثيث ص 37.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 457.
(3) البحر المحيط 1/263.
(4) السابق 1 /262.(38/33)
وإذا صحَّ ما ذكره المحاسبي في "فهم السنن" فإنه نسب لأغلب أهل الحديث أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وأن أقلهم هم الذين قالوا إنه يفيد العلم، وهو عكس ما نسبه إليهم آخرون.
وتحقيق نسبة ذلك إلى الأكثر أو إلى الأقل يحتاج إلى تقص للأقوال لا يسمح الوقت للقيام به الآن، إذ في نسبة الأقوال إلى العلماء اضطراب في المصادر. ومن أوجه هذا الاضطراب:أن ابن القيم رحمه الله نسب القول بإفادة خبر الواحد للعلم إلى مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة بما يفيد أنهم نصوا على ذلك، وعبارته: "فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم: مالك والشافعي و أصحاب أبي حنيفة إلخ"(1)بل ذكر أن الشافعي قد صرح في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم، قال:" نص على ذلك صريحاً في كتابه: اختلاف مالك"(2).
أما في الرسالة فذكر أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر المتواتر، لكنه على كل حال يفيد العلم، وساق نصه في مناظرته مع بعض منكري أخبار الآحاد.
بينما نجد آخرين ينسبون إليهم القول بإفادته للظن لا للعلم، قال ابن عبدالبر: "والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعاً…"(3).
ونسب إلى الإمام أبي حنيفة أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإنما يفيد الظن قال أستاذنا د. محمد بلتاجي: "وقد راجعت كل ما استخلصته على فقه أبي حنيفة ومسائله وأقواله ذاتها، وانتهيت إلى أن أبا حنيفة كان يرى أن خبر الواحد لا يوجب علم اليقين، إنما يوجب العمل به بشروط"(4).
وإذا صحَّ هذا فإن القول بإفادة خبر الواحد للظن قد راج منذ عهد الأئمة المجتهدين خلافا لما يعتقد من أنه لم يحدث إلا بعدهم على يد المتكلمين.
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 457.
(2) السابق ص 459 وانظر اختلاف مالك والشافعي في الأم 7/177.
(3) التمهيد 1/7.
(4) دراسات في السنة ص 92.(38/34)
وقد تفرع عن القول بإفادة خبر الواحد للعلم قولان آخران يقيدان إطلاقه:
أحدهما: أنه يفيد العلم لكن لا بنفسه بل بالقرائن التي حفت به، وهذا القول فرع عن سابقه، ويتفقان في أن خبر الواحد يفيد العلم، لكن على القول الأول يفيد العلم بنفسه من غير قرينة، وعلى هذا القول يفيد العلم بالقرائن لا بنفسه.
وقد رجح هذا القول بعض الأصوليين كالآمدي(1) وابن الحاجب والسبكي في جمع الجوامع(2) وإليه مال الحافظ ابن حجر، قال في "النخبة" وشرحها: "وقد يقع فيها – أي في أخبار الآحاد- ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار خلافاً لمن أبى ذلك"(3).
ونقل في ((الفتح)) عن الكرماني قوله في حديث ذي اليدين: "لم يخرج عن كونه خبر الآحاد وإن كان قد صار يفيد العلم بسبب ما حَفَّه من القرائن"(4).
ومن القرائن التي أوردها الحافظ، ويفيد بها خبر الواحد العلم النظري: إخراج الشيخين لخبر الواحد، ونسب القول بإفادة ما أخرجه الشيخان للعلم النظري للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني، وأبي عبدالله الحميدي وأبي الفضل بن طاهر(5).
ومنها: تعدد طرق خبر الواحد مع سلامتها مِنْ ضعف الرواة والعلل.
ومنها: اشتراك أئمة حفاظ متقنين في رواية خبر الواحد.
وهذه القرائن التي ذكرها الحافظ أولى من القرائن التي أوردها بعض الأصوليين كقرينة إخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء وإحضار الكفن والنعش(6).
ثانيهما: أنه يفيد العلم الظاهر، وقد نسب الحافظ ابن عبدالبر هذا القول إلى قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر(7).
__________
(1) قال في الإحكام 2/ 32 : "والمختار حصول العلم بخبره إذا احتفت به القرائن".
(2) انظر: جمع الجوامع بحاشية العطار 2/157 ط دار الكتب العلمية بيروت.
(3) نزهة النظر ص 26.
(4) فتح الباري 27/274.
(5) نزهة النظر ص 27.
(6) انظر مثلا جمع الجوامع بحاشية العطار 2/157.
(7) التمهيد 1/8.(38/35)
غير أن قيد العلم بالظاهر مما يصعب تحديده وضبطه، ولذلك أوَّله بعض العلماء ليوافق رأي جمهور الأصوليين والفقهاء أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن كما سيأتي، فالإمام الغزالي في "المستصفى" يفسر العلم الظاهر عند من قال به من المحدثين بأنه يعود إلى الظن؛ لأنَّ العلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن(1).
وجعل القاضي عبدالوهاب الخلاف لفظياً بين من يقول:"إن خبر الواحد يفيد العلم الظاهر وبين من يقول: إنه لا يفيده لأن مرادهم أنه يوجب غلبة الظن، فصار الخلاف في أنه هل يسمى علما أو لا(2)؟".
بينما سَخِرَ ابن حزم من هذا القيد ووصفه بأنه: "كلام لا يعقل، وما علمنا علماً ظاهراً غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر، بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معاً، وكل ظن يتيقن فليس علماً أصلاً لا ظاهراً ولا باطناً، بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى"(3).
القول الثاني من القولين الأصليين: أن خبر الواحد يفيد الظن، وهو الاتجاه العام عند جمهور الأصوليين والفقهاء، وهو مذهب الحنفية والشافعية وجمهور المالكية وجميع المعتزلة وغيرهم(4).
وهو الذي رجحه بعض محدثي الفقهاء كالحافظ ابن عبدالبر ونسبه إلى الإمام الشافعي(5).
وقد دفع بعض العلماء إصرارهم على أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن إلى تعريفه بقولهم: "خبر الواحد ما أفاد الظن"(6)وبقولهم: "خبر الواحد العدل أو العدول المفيد للظن"(7).
__________
(1) المستصفى 1/145.
(2) عن البحر المحيط للزركشي 1/264.
(3) الإحكام 1/114 – 115.
(4) الإحكام للآمدي 1/107.
(5) التمهيد 1/8.
(6) الإحكام للآمدي 1/31 ، وقد انتقد الآمدي هذا التعريف بأنه غير مطرد ولا منعكس.
(7) شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 356.(38/36)
ومنطلق الجمهور في قولهم: إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن أنه لا يمكن أن يقطع على غيبه، وأنه بمنزلة شهادة الشاهد الواحد، كما صرح به ابن القصار وقال: "وصار خبر الواحد بمنزلة الشاهد الذي قد أُمِرنا بقبول شهادته، وإن كنا لانقطع على صدقه"(1)، وقال الحافظ ابن عبدالبر:"الذي نقول به أنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء"(2).
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن عبارات بعض العلماء يفهم منها أن خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول يفيد العلم. قال ابن الصلاح عن هذا النوع من الخبر: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافا لمن نفى ذلك محتجا بأنه لا يفيد إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ" قال: "وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح... "(3).
ويبدو أن مرادهم بالذي تلقته الأمة بالقبول: هو الذي لا خلاف فيه بين جماهير الأمة، بل كلهم يعملون به أو يصدقونه، وقد مثلوا له بخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((إنما الأعمال بالنيات)) وبخبر أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها))(4).
__________
(1) مقدمة في الأصول ص 69.
(2) التمهيد 1/8 وقد انتقد ابن حزم تشبيه خبر الواحد بشهادة الواحد، وأورد فروقا بين المقامين انظرها في الإحكام 1/119.
(3) مقدمة ابن الصلاح:(ص14).
(4) انظر: السابق ص 464.(38/37)
وقد جعلوا معظم الأحاديث المخرجة في صحيح البخاري ومسلم مما تلقته الأمة بالقبول، وقد نص على ذلك أبو عمرو بن الصلاح، وقبله الحافظ أبو طاهر السلفي وغيره(1)، وعقب ابن تيمية على ذلك بقوله: "فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين والأصوليين"(2).
وإذا أضفنا إلى خبر الواحد الذي تلقَّته الأمة بالقبول خبر الواحد الذي احتفت به القرائن من حيث إن كليهما يفيدان العلم النظري، فإن الخلاف في إفادة خبر الواحد للعلم ينحصر في خبر الواحد المستوفي لشروط الصحة دون أن يكون مما تلقته الأمة بالقبول، ودون أن يكون مما احتفت به القرائن.
والمقصود أن هذه القيود مما يقلص شقة الخلاف بين العلماء في إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن، ولاسيما إذا وسعنا دائرة القرائن، فقلما يوجد حديث صحيح لا تحتف القرائن بمضمونه ليفيد العلم.
وقد اعترف ابن القيم بوجود خلاف بين العلماء في إفادة خبر الواحد للعلم إذا لم يرتق إلى درجة ما تلقته الأمة بالقبول، وقد حكي القولان عن الإمام أحمد، وقد نص ابن القيم على أن من بين القائلين بإفادة خبر الواحد للظن "جماعة من أهل الحديث"(3)، وبذلك لا يُسَلَّمُ قول من ادَّعَى أن الخلاف إنما حدث خارج دائرة أهل الحديث.
ولعل الرغبة في تقليص شقة الخلاف في المسألة هي التي حدت بالحافظ ابن حجر أن يقول: " والخلاف في التحقيق لفظي، لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظريا، وهو الحاصل عن الاستدلال، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالتواتر، وما عداه عنده كله ظن، لكن لا ينفي أن ما احتفت به القرائن أرجح مما خلا عنها"(4).
__________
(1) انظر: مختصر الصواعق المرسلة ص 465 نقلا عن الإمام ابن تيمية.
(2) عن مختصر الصواعق المرسلة ص 465.
(3) السابق ص 466.
(4) نزهة النظر ص 26.(38/38)
وإن كان الزركشي رفض كون الخلاف لفظيًّا، فالنتيجة أن الخلاف ليس بذي بال إذا كان الاتفاق حاصلاً على وجوب العمل بخبر الواحد في جميع المجالات.
على أن بعض الأصوليين والفقهاء لجؤوا إلى تأويل مذهب أهل الحديث ومن معهم من الظاهرية في إفادة خبر الواحد للعلم حتى يجعلوا قولهم آيلا إلى قولهم، فابن دقيق العيد حاول أن يجمع بين مذهب الظاهرية ومعهم المحدثون، وبين مذهب غيرهم في إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن بقوله: "قد أكثر الأصوليون من حكاية إفادته القطع عن الظاهرية أو بعضهم، وتعجب الفقهاء وغيرهم منهم!!؛ لأنا نراجع أنفسنا فنجد خبر الواحد محتملا للكذب والغلط، ولا قطع مع هذا الاحتمال، لكن مذهبهم له مستند لم يتعرض له الأكثرون وهو أن يقال: ما صح من الأخبار فهو مقطوع بصحته لا من جهة كونه خبر الواحد… وإنما وجب أن يقطع بصحته لأمر خارج عن هذه الجهة، وهو أن الشريعة محفوظة، والمحفوظ ما لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه، فلو كان ما ثبت عندنا من الأخبار كذباً لدخل في الشريعة ما ليس منها، والحفظ ينفيه، والعلم بصدقه من هذه الجهة لا من جهة ذاته، فصار هذا كالإجماع"(1).
فابن دقيق العيد في هذا النص يجعل مسألة القطع بالصحة مشتركة بين الجميع، واختلاف الجهة المأخوذ منها القطع لا يجعل الخلاف حقيقياً.
__________
(1) عن البحر المحيط للزركشي 1/264 – 265.(38/39)
وأحسب أن ابن دقيق العيد استخلص هذا المستند من كلام مُدَوِّن فقه الظاهرية الإمام ابن حزم في كتابه "الإحكام"، فقد حام حول هذه الفكرة للدفاع عن مذهبه في إفادة خبر الواحد للعلم منطلقاً من أن الوحي محفوظ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون أن لا يضيع منه حرف، وأن لا يحرف منه شيء، ثم لا يعقبه بيان الضياع أو التحريف أو البطلان؛ إذ لو جاز ذلك لكان الوحي غير محفوظ، وهو محفوظ قطعاً، وما هو محفوظ لابد أن يفيد القطع والعلم اليقيني(1).
والإمام الغزالي يقول بعد نفيه إفادة خبر الواحد للعلم: "وما حُكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل؛ إذ يسمى الظن علما"(2).
وقد قرر هذا المعنى قبله الإمام الباجي مدعيا أن الغلط إنما دخل على القائلين بإفادة خبر الواحد للعلم " من أن العمل بأخبار الآحاد معلوم وجوبه بالقطع واليقين، وأما ما يتضمنه من أخبار فمظنون، فلم يتميز لنا العلم بوجوب العمل من العلم بصحة الخبر"(3).
وأوَّلَ بعضهم مذهب المحدثين بأنهم يقصدون أن الخبر يفيد العلم بمعنى الظن محتجين بأن العلم قد يأتي بمعنى الظن كما في قوله تعالى: ( ? ( ( ([الممتحنة:10](4).
والإمام ابن تيمية رحمه الله، وإن كان توجهه العام أن خبر الواحد يفيد العلم، لا يمانع في كون بعض الأخبار تفيد ظناً قد يتحول إلى علم بوجود مؤيدات لتلك الأخبار، وقد يتحول ذلك الظن إلى أوهام مع انعدام مؤيدات لتلك الأخبار، فقد نقل عنه ابن القيم رحمه الله قوله: "والآحاد في هذا الباب قد تكون ظنوناً بشروطها، فإذا قويت صارت علوما، وإذا ضعفت صارت أوهاماً وخيالات فاسدة"(5).
__________
(1) انظر تفصيل الفكرة في الإحكام 1/109 وما بعدها.
(2) المستصفى 1/145.
(3) إحكام الفصول ص 324.
(4) انظر الإحكام للآمدي 2/49.
(5) مختصر الصواعق المرسلة ص 465.(38/40)
ويعترف الذين لا يفيد عندهم خبر الواحد إلا الظن أن الظن الذي يفيده قد تختلف درجته باختلاف درجات رواته أو بكثرتهم؛ فالظن المستفاد من أخبار أكابر الصحابة آكد من الظن المستفاد من غيرهم من عدول الأزمان بعدهم"(1)، والخبر "الصادر من اثنين آكد ظناً وأقوى حسباناً من الخبر المستفاد بقول الواحد، وكلما كثر المخبرون كثر الظن بكثرة عددهم إلى أن ينتهي خبرهم إلى الاعتقاد، فإن تكرر بعد حصول الاعتقاد انتهى إلى إفادة العلم".
فهذا الكلام يكاد يكون صريحا في أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأن كثيرا من أخبار الآحاد تنتهي إلى إفادة الاعتقاد بصحتها.
لكن عبارات أهل الأثر صريحة في أن مرادهم أن خبر الواحد يوجب العلم بصحته، وكفى على ذلك دليلاً قولهم: إنه يصح أن تشهد على الله وعلى رسوله بمضمونه، وتأكيدهم أن الأمة منذ عهد الصحابة "لم تزل تشهد على الله ورسوله بمضمون هذه الأخبار....."(2).
المبحث السادس: نشأة التفرقة بين العقائد والأحكام في الاحتجاج بخبر الآحاد
قد تسأل بعد هذا النقاش المحتدم حول إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن؟ ما ثمرة الخلاف بين الفريقين؟ والبحث عن هذه الثمرة يفيد في فَهْم إصرار كل فريق على رأيه، فنجد ابن حزم مثلا ينفي القول بالظن في دين الله جملة، ويجعل قول القائلين بإفادة خبر الواحد للظن بمنزلة القول بأن الله " تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم"(3).
وإمعاناً منه في رفضه إفادة خبر الواحد للظن وصف الظن باليقين في قوله: "وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا….بل هو ضلال وشك محرم القول به في دين الله تعالى"(4)إيماء إلى أن الظن وإن كان قوياً قوة تُقَرِّبه من اليقين لا عبرة به، ولا يبنى عليه أي حكم، وإلا فكيف يكون الظن متيقنا؟!
__________
(1) قواعد الأحكام 2/ 219.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 484.
(3) الإحكام 1/113.
(4) السابق 1/115.(38/41)
ونجد في المقابل قول الجويني: "ذهبت الحشوية(1) من الحنابلة وكتبة الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يوجب العلم، وهذا خرق لا يخفى مدركه على ذي لب"(2)ولا متعلق لهم إلا ظنهم أن خبر الواحد يوجب العمل"(3).
وجعل الإمام الغزالي بعده عدم إفادة خبر الواحد للعلم معلوما بالضرورة! وفسر ذلك بقوله " فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا
وقدرنا تعارض الخبرين فكيف نصدق بالضدين"(4).
والجواب عن السؤال في بداية المبحث: ما ثمرة الخلاف بين الفريقين؟(5) إن تتبع أقوال العلماء في هذا الموضوع هدى إلى أن هناك ثمرتين واضحتين لهذا الخلاف:
الثمرة الأولى للخلاف تتمثل في التفرقة بين خبر الواحد في مجال العقائد وخبر الواحد في مجال الأحكام، فمن قال: إن خبر الواحد يفيد العلم قَبِلَه في العقائد، ومن قال لا يفيده لم يقبله فيها "إذ العمل على الظن فيما هو محل القطع ممتنع".
لكن هذه الثمرة لا تظهر إلا عند المتأخرين القائلين بالتفرقة بين المجالين، إذ ذهبوا إلى أن العقائد لا تثبت إلا بعلم يقيني، وخبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني فلا تثبت به العقائد.
__________
(1) وهذا التعبير يغمز به أهلُ البدع أهلَ الحديث!!
(2) البرهان في أصول الفقه 1/606.
(3) السابق 1/607.
(4) المستصفى ج 1/145.
(5) البحر المحيط ج م/266.(38/42)
وقد أبرز العز بن عبدالسلام الفرق بين العقيدة فلا يجوز فيها الظن وبين الفروع التي يكتفى فيها بالظنون بقوله: "إذ لو شرط فيها العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، ولا يكفي فيما يتعلق بأوصاف الإله إلا العلم والاعتقاد، والفرق بينهما أن الظان مجوز بخلاف (لخلاف) مظنونه، وإذا ظن صفة من صفات الإله فإنه يجوز نقيضها وهو نقص، ولا يجوز تجويز النقص على الإله؛ لأن الظن لا يمنع من تجويز نقيض المظنون، بخلاف الأحكام، فإنه لو ظن الحلال حراما والحرام حلالا لم يكن ذلك تجويز نقص على الرب سبحانه وتعالى، لأنه لو أحل الحرام وحَرَّم الحلال لم يكن ذلك نقصاً، بخلاف الصفات فإن كمالها شرف وضده نقصان"(1).
لكن ترتيب هذه الثمرة على قول جمهور الأصوليين والفقهاء بإفادة خبر الواحد للظن دون العلم فيه إشكال كبير بالنظر إلى الاتجاه العام عند سلفهم الذين لم ينفوا إثبات العقائد بخبر الواحد، بل سياق كلامهم يدل على عدم الفرق بين العقائد والأحكام في ثبوتها بخبر الواحد، كما سنرى.
ومن ثم فإما أن يقال: إن مذهب الجمهور أن خبر الواحد يفيد الظن في غير العقائد، أما فيها فلا بد أن يقولوا بإفادته للعلم إذا قلنا بوجوب بناء العقائد على العلم وعدم جواز العمل بالظن فيها؛ لقوله تعالى:
( ? ( ( ( ( ( ( ( [النجم:23].
وإما أن يقال: إن مذهب الجمهور يشمل العقائد والأحكام، ويصح إثبات العقائد بالظن الغالب كما قرر الحافظ ابن عبدالبر؛ فهو قد رجح إفادة خبر الواحد للظن، وفي الوقت نفسه رجح إثبات العقائد به، وعزا ذلك إلى "أكثر أهل الفقه والأثر، وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعا ودينا في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة"(2).
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص 266.
(2) التمهيد 1/8.(38/43)
فبناء على هذا التقرير يكون خبر الواحد حجة في العقائد كما يكون حجة في الأحكام، وفي الوقت نفسه لا يوجب العلم وإن أوجب العمل، فتصير هذه الثمرة لهذا الخلاف منعدمة على هذا التقرير.
بل إن من الأصوليين الذين اشتهر عنهم القول بإفادة خبر الواحد للظن مَنْ يصرح بصحة إثبات العقائد بخبر الواحد، على أن يكون الاحتجاج بمجموع أخبار الآحاد لا بآحادها. قال الزركشي: " سبق منع بعض المتكلمين من التمسك بأخبار الآحاد فيما طريقه القطع من العقائد، لأنه لا يفيد إلا الظن، والعقيدة قطعية، والحق: الجواز، والاحتجاج إنما هو بالمجموع منها، وربما بلغ مبلغ القطع، ولهذا أثبتنا المعجزات المروية بالآحاد"(1).
وهنا يأتي سؤال على تقرير الحافظ ابن عبدالبر وغيره ممن أوجبوا العمل بخبر الواحد في العقائد والأحكام معاً، لكنه مع ذلك لا يفيد إلا الظن، والسؤال هو: لماذا لم يجعلوه مفيدا للعلم كما جعلوه مفيداً للعمل موجبا له؟
وقد علق ابن تيمية في "المسودة" تعليقا لطيفا على تقرير ابن عبدالبر بما يشبه هذا السؤال فقال: "هذا الإجماع الذي ذكره في خبر الواحد العدل في الاعتقادات يؤيد قول من يقول: إنه يوجب العلم، وإلا فما لا يفيد علما ولا عملا كيف يجعل شرعا ودينا يوالى عليه ويعادى؟"(2).
وقد سبق أن ابن حزم يتلازم عنده إيجاب العمل بخبر الواحد وإفادته للعلم، فلم يبق للخلاف المذكور عند الجمهور إلا الثمرة الثانية التي سيأتي الحديث عنها.
وأيًّا ما كان فإن جماهير العلماء عدُّوا قول من يفرق بين العقائد والأحكام في إثباتها بخبر الواحد قولاً مبتدعاً لم يكن معروفاً عند السلف الماضين، وإنما تسرب إلى المتأخرين من الفقهاء والأصوليين وبعض المشتغلين بالحديث.
__________
(1) البحر المحيط 1/266.
(2) المسودة في أصول الفقه ص 245.(38/44)
ويبدو أن السلف مجمعون إجماعاً سكوتياً على قبول خبر الواحد في العقائد كقبوله في مجال الأحكام، وقد صرَّح ابن القيم وغيره بأن الإجماع على قبول أخبار الآحاد في إثبات صفات الرب سبحانه بها إجماع معلوم متيقن "لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول"(1).
ولم يخرق هذا الإجماع إلا بعض متأخري المتكلمين(2)، وتسربت منهم هذه التفرقة بين العقائد والأحكام إلى الأصوليين والفقهاء وبعض المشتغلين بالحديث، واشتهرت هذه التفرقة حتى ادعى بعضهم الإجماع عليها إجماعاً مضاداً للإجماع السابق، كما يفهم من السؤال الذي أورده الآمدي على قبول خبر الواحد وهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كما أنه كان ينفذ الآحاد لتبليغ الأخبار كان ينفذهم لتعريف وحدانية الله تعالى، وتعريف الرسالة، فلو كان خبر الواحد حجة في الإخبار بالأحكام الشرعية لكان حجة في تعريف التوحيد والرسالة وهو خلاف الإجماع"(3)!! أي: إن إثبات التوحيد والرسالة بخبر الواحد خلاف الإجماع، فيا ترى إجماع من هذا؟ الناقض لإجماع السلف على عكس ما يثبته؟! مع أن أصوليين آخرين لم ينسبوا التفرقة إلا لبعض المتكلمين(4)، فأين ذلك من الإجماع؟
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 502.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 489.
(3) انظر: الإحكام 2/63.
(4) البحر المحيط 1/262.(38/45)
بل إن تتبع أقوال السلف قد هدى إلى أن القول بالتفرقة قول مبتدع؛ فالإمام الشافعي مثلا، وهو أبرز علماء السلف الذين دافعوا عن حجية خبر الواحد لم أقف في كلامه على أي إشارة لهذه التفرقة المبتدعة، فهو لم يتطرق للتنصيص على حجية خبر الواحد في العقائد، والأحكام، وذلك يعزز بدعية هذه التفرقة وحدوثها بعده، ويؤذن بتسويته بين المجالين في الاحتجاج بخبر الواحد كما يفهم من كثير من إطلاقاته كقوله بعد سرد أعلام من التابعين وغيرهم: "كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه، والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن فوقه، ويقبله عنه من تحته"(1)، وكتمثيله بعقائد ثبتت بخبر الواحد، دون أن يخص منكري حجية خبر الواحد في العقائد برد، مما يدل على عدم وجود القائلين بالتفرقة في عهده، ومن ذلك قوله: "ومن زعم أن الحجة لا تثبت بخبر المخبر الصادق عند من أخبره فما يقول في معاذ إذ بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن والياً ومحارباً من خالفه، ودعا قوما لم يلقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أخذ الصدقة منهم وغيرها....؟"(2)
ففي هذا النص دليل واضح على عدم وجود من يفرق بين العقائد والأحكام في عهد الإمام الشافعي، وإنما فيه رد خبر الواحد جملة لا في العقائد ولا في الأحكام.
وقد صنع مثل صنيعه الإمام البخاري في صحيحه، فقد ساق أمثلة عديدة لوجوب العمل بخبر الواحد مع التسوية بين العقائد والأحكام، فقد ساق حديث وفد عبدالقيس الذي أمرهم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأركان الإسلام وقال لهم في آخره: ((احفظوهن وأبلغوهن مَنْ وراءكم)) ومن بين الأمور التي أمروا بحفظها وإبلاغها: أمر العقيدة، فدل ذلك على أن الحجة تقوم بخبر الواحد في العقائد كما تقوم به في الأحكام.
__________
(1) الرسالة ص 457.
(2) كتاب اختلاف الحديث بهامش الأم 7/13.(38/46)
ويفهم من عدم تصريحه كسابقه الإمام الشافعي بالتسوية بين العقائد والأحكام ولا بالتفرقة بينهما: أن التفرقة بينهما لم تنشأ إلا بعد زمنهما ولم أقف فيما اطلعت عليه على من يفرق بين المجالين في عهدهما ولا قبل عهدهما، فلم يثبت أن أحداً من الصحابة والتابعين وتابعيهم ولا أحداً من الأئمة المعروفين ذهب إلى هذه التفرقة، ويبدو أن التفرقة نشأت نشأة غير بريئة ترمي إلى رفض كثير من العقائد التي لم يكن لها مستند إلا خبر الواحد.
وقد جزم ابن القيم رحمه الله بأن الشافعي "لم يفرق هو ولا أحد من أهل الحديث البتة بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات، ولا يعرف هذا الفرق عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين ولا عن تابعيهم ولا عن أحد من أئمة الإسلام وإنما يعرف عن رؤوس أهل البدع ومن تبعهم"(1).
ولا شك أن هؤلاء الذين لا يعرفون الفرق بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات قد تواطؤوا على الاستدلال بخبر الواحد على أمور العقيدة، فتكون بدعة التفرقة بين أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات قد نشأت متأخرة عن بدعة رفض الاحتجاج بخبر الآحاد، وكأن تلك بنيت على أنقاض هذه، فبعد أن فشل المبتدعون في رد أخبار الآحاد لجأوا إلى رد ما تعلق منها بالعقيدة ظاهرين بمظهر المدافعين عن العقيدة حتى تكتسي بدعتهم بعض المشروعية، وإلا فإن الوقائع التاريخية تدحض هذه التفرقة من حيث إن صحابياً إذا روى لغيره حديثاً في موضوع الصفات تلقاه عنه بالقبول، واعتقد مضمونه على القطع واليقين بمجرد سماعه، وإذا تثبت أحد منهم في قبول خبر الواحد ففي بعض الأحكام. أما في الصفات فلم يطلب أحد منهم الاستظهار فيها "بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(2).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 503.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 457.(38/47)
ولكن المؤسف أن هذه البدعة تسربت عبر الزمان إلى فكر الذين لا يحملون أي دخلة خبيثة لهذا الدين من متأخري الأصوليين والفقهاء، وبذلك اختلطت أسباب التفرقة بين العقائد والأحكام باختلاف دوافع التفرقة.
فالمبتدعة ردوا كل العقائد التي رويت بطريق أخبار الآحاد فراراً منهم من التجسيم -زعموا- وهروباً إلى التعطيل، بل عمموا المسألة في السنة كلها متواترها وآحادها بناء على قاعدة بناء العقائد على القطع ولا يمكن أن تبنى العقائد على الأخبار كلها، أما المتواتر منها فرغم كونه قطعي الثبوت غير قطعي الدلالة، ولا شك أن النص القرآني نفسه ينطبق عليه هذا الوصف، فهو غير قطعي الدلالة وإن كان قطعي الثبوت؛ لأن في النصوص القرآنية الواردة في العقائد ما يتنافى مع ما يعتقدون من التعطيل والإبطال.
فإذا كانت نصوص القرآن والسنة المتواترة التي لا تفيد القطع من جهة الدلالة، ونصوص أخبار الآحاد لا تفيد القطع من الجهتين معا:جهة الدلالة وجهة السند فذلك "إبطال لدين الإسلام رأساً "كما قال ابن القيم رحمه الله(1).
فالدافع الأقوى إلى هذه التفرقة هو الموقف من الأسماء والصفات التي يثبتها السلف بنصوص القرآن والسنة معا كما وردت، مع تفويض الكيف إلى الله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن مشابهة المخلوقات، بينما المبتدعة يعطلون حذراً من التجسيم الذي تُصَوِّره عقولهم.
__________
(1) مختصر الصواعق 2/439.(38/48)
أما الذين تسربت إليهم هذه التفرقة مع سلامتهم من تلك البدعة، فكان دافعهم الحرص على سلامة منطلقات العقيدة، وأول منطلقاتها هو العلم، فمعرفة الله ومعرفة صفاته لا يكفي فيها مجرد الظن، فالظن في هذا الموضع مذموم؛ لأن الله ألزم المكلفين القطع واليقين في عقيدتهم، وذلك ما لا سبيل للظن إلى تحقيقه، وفي هذا قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها… أما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قررها، وأخبر بها عن الله عز وجل فإن خبر الواحد فيها مقبول والعمل بها واجب"(1).
ومثله قول أبي بكر السمرقندي: "خبر الواحد لا يحتج به في العقائد لأنه يوجب الظن وعلم غالب الرأي لا علماً قطعياً، فلا يكون حجة فيما يبتني عليه العلم القطعي والاعتقاد حقيقة"(2).
وجاهر ابن برهان بمخالفته لأصحاب الحديث في قوله إن " خبر الواحد لا يفيد العلم خلافا لأصحاب الحديث ولا تثبت به العقائد"(3)، فهم إنما يفرون بهذه التفرقة من الذمِّ الذي يستوجبه بناء العقيدة على الظن، وفي هذا قال العز بن عبدالسلام: "وإنما ذم الله العمل بالظن في كل موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم كمعرفة الإله ومعرفة صفاته، والفرق ظاهر"(4).
فالدافع هو تنزيه صفات الله عن النقص الناجم عن بنائها على الظن، فمن ظن صفة من صفات الله فيمكنه أن يجوز نقيضيها وذلك نقص"(5).
__________
(1) الكفاية ص 432.
(2) ميزان الأصول 2/643.
(3) الوصول إلى علم الأصول لابن برهان ج1/163.
(4) قواعد الأحكام 2/ 232.
(5) السابق 1/149.(38/49)
بل إن بعض أولئك الذين تسربت إليهم التفرقة حاولوا الرد على أدلة مثبتي الحجية لخبر الواحد في مجالي العقائد والأحكام معا، وكان ردهم متكلفاً بارداً. ومن أمثلة تلك الردود المتكلفة قول أبي الوليد الباجي رحمه الله: "فإن قالوا: فيجب قبول خبر الواحد في التوحيد وأعلام النبوة وما طريقه العلم؛ لأن رسله أيضاً ينفذون بذلك إلى أهل النواحي".
قال: "والجواب:أن هذا غلط، لأنه إنما كان ينفذ رسله بأحكام الشريعة بعد انتشار الدعوة وإقامة الحجة"(1).
وأجاب الآمدي عن هذه المسألة حيث قال: "إن إنفاذ الآحاد لتعريف التوحيد والرسالة لم يكن واجب القبول!! لكونه خبر واحد، بل إنما كان واجب القبول من جهة ما يخبرهم به من الأدلة العقلية…!!" ولم يذكر هذه الأدلة العقلية التي زعم أن الرسل يخبرون بها من بعثوا إليهم بالرسائل و الأوامر، أما مضمون ما حملوا تبليغه فلا يجب عليهم قبوله إلا بالأدلة العقلية(2).
والظاهر أن الآمدي رحمه الله أبان بهذا الكلام عن تأثره بمنهج المعتزلة، ودليل ذلك أن القاضي عبدالجبار المعتزلي لا يثبت لخبر الآحاد من حيث هو حجية في العقائد، لكن موجب خبر الواحد عنده يعتقد "لا لمكانه، بل للحجة العقلية!!"(3)
وأما الثمرة الثانية لإفادة خبر الواحد للعلم أو الظن: فتتمثل في كفر جاحد ما ثبت بخبر الواحد أو عدم كفره، فمن ذهب إلى أن خبر الواحد يفيد العلم القطعي اليقيني كفَّرَ من جحده، ومن ذهب إلى أنه لا يفيد العلم القطعي اليقيني لم يكفره، قال الزركشي: "وقد حكى ابن حامد من الحنابلة أن في تكفيره وجهين، ولعل هذا مأخذهما"(4).
__________
(1) أحكام الفصول ص 339.
(2) الإحكام 2/64.
(3) شرح الأصول الخمسة ص 770.
(4) البحر المحيط 1/266.(38/50)
غير أن هذه الثمرة لم يكن النص عليها شائعا في المصادر شيوع سابقتها بمعنى أنه من غير المجزوم به أن كل من قال بإفادة خبر الواحد للعلم يكفر جاحده، ولم أعثر إلا على نصوص لابن العربي وابن القيم والزركشي، فابن العربي أكد أنَّ مَنْ رَدَّ الحديث "لأنه خبر آحاد فهو مبتدع أو كافر على التأويل في أحد القولين، وبه أقول فإن من أنكر خبر الواحد فقد رد الشريعة كلها ولم يعلم مقاصدها، ولا اطلع على بابها الذي يدخل منه إليها"(1).
أما ابن القيم فقد عزا إلى جماعة من أصحاب أحمد وغيرهم تكفير "من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل، والتكفير مذهب إسحاق بن راهويه..."(2).
غير أنه لم يفرع التكفير على إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن كما فعل الزركشي، وإن كان في كلامه بعد ما يفيده، فقد قال: "وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه لكونه من الحجج العلمية كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع"(3).
غير أن للإمام الشافعي كلاما يومئ إلى هذه الثمرة من حيث تفرقته في الحجية بين خبر الواحد والخبر المتواتر، لا من حيث أصل الاحتجاج بل من حيث ترك الاحتجاج، فمن لم يقبل خبر الواحد وشك فيه لا من جهة صحة سنده فلا يستتاب مِن رفضه قبول خبر الواحد، ومِنْ شكه فيه، ومن لم يقبل الخبر المتواتر يستتاب، فهذه التفرقة قد تكون دليلا على أن الشافعي يقول بإفادة خبر الواحد للظن لا للعلم، وقد نسب ذلك إليه الحافظ ابن عبدالبر، ونسب إليه عكسه الإمام ابن القيم كما سبق.
__________
(1) عارضة الأحوذي 10/131.
(2) مختصر الصواعق المرسلة ص 461.
(3) السابق ص 462.(38/51)
وهذا نصُّ الشافعي: "أما ما كان من نص كتاب بَيِّنٍ أو سنةٍ مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع، ولا يسع الشك في واحد منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب، فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة، كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك -إن كنت عالما- أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم".
فمن هذا النص تؤخذ أمور:
أولها: أن هذه التفرقة قد تكون دليلا على أن الشافعي يقول بإفادة خبر الواحد للظن لا للعلم.
ثانيها: أن من شك في السنة المجتمع عليها كمن شك في النص القرآني فيستتاب، والظاهر أنه يقصد الاستتابة من الكفر، أما من شك في خبر الواحد فليس بكافر ولا يستتاب.
ثالثها: أنه لا يفرق من حيث الحجية بين النص القرآني والحديث المتواتر وخبر الآحاد، فالجميع عنده حجة وإن كان الاختلاف في درجة قوة الحجية.
المصادر والمراجع
الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن أحمد بن حزم (ت:456ه) تحقيق الشيخ أحمد شاكر. إدارة الطباعة المنيرية.
الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي بن أبي علي الآمدي، المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1402ه.
أصول السرخسي، لأبي بكر محمد بن أحمد السرخسي (ت:490ه)تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، مطابع دار الكتاب العربي.
الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي(ت:204ه) طبعة دار الشعب، مصورة عن الطبعة الأميرية 1312ه.
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، للشيخ أحمد شاكر طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.(38/52)
البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمد بن بهادر الزركشي (ت:794ه) طبعة 1/1409ه – 1988م.
البرهان في أصول الفقه، لإمام الحرمين عبدالملك بن عبدالله الجويني (ت:478ه) تحقيق د. عبدالعظيم الديب ط.2 دار الأنصار – القاهرة.
تأسيس النظر، لأبي زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي، تحقيق مصطفى محمد القباني – نشر دار ابن زيدون – بيروت و مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، للحافظ أبي عمر يوسف بن عبدالبر (ت:463ه) ط. وزارة الأوقاف – المغرب-
التمهيد في أصول الفقه، لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني الحنبلي (ت:510ه) تحقيق د. محمد بن علي بن إبراهيم وزميله ط. مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي –كلية الشريعة- مكة المكرمة.
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، للحافظ أبي عمر يوسف بن عبدالبر - دار الكتب العلمية - بيروت.
خبر الواحد في السنة وأثره في الفقه الإسلامي، د. سهير رشاد مهنا، دار الشروق - الطبعة1.
خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته، للقاضي برهون ط1/1415ه مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب.
دراسات في السنة، د. محمد بلتاجي حسن، نشر مكتبة الشباب، القاهرة 1983م.
الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر الطبعة 2/1993م.
شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبدالجبار بن أحمد، تحقيق د.عبدالكريم عثمان نشر مكتبة وهبة - القاهرة ط2/1408ه-1988م.
شرح صحيح مسلم، للإمام يحيى بن شرف النووي (ت:676ه) طبعة دار الشعب القاهرة.
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت:852ه) ط.الكليات الأزهرية - القاهرة.
الكفاية في علم الرواية، لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت:463ه) المكتبة العلمية.
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لمحمد الموصلي، دار الكتب العلمية بيروت 1405ه – 1985م.(38/53)
المستصفى من علم الأصول لأبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي (ت:505ه) دار صادر – بيروت.
المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، جمع شهاب الدين أحمد ابن محمد الحراني الدمشقي (ت:745ه) تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد – نشر دار الكتاب العربي- بيروت.
مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للإمام جلال الدين السيوطي (ت:911ه) تحقيق مصطفى عبدالقادر عطا – دار الكتب العلمية - بيروت ط1/1407ه.
ميزان الأصول في نتائج العقول في أصول الفقه، للشيخ علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، تحقيق د.عبدالملك عبدالرحمن السعدي.
نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852ه).
وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، للشيخ ناصر الدين الألباني نشر ط. الدار السلفية بالكويت، ودار العلم ببنها.
الوصول إلى الأصول، لأحمد بن علي بن برهان البغدادي تحقيق د. عبدالحميد أبو زنيد – مكتبة المعارف - الرياض ط1/1404ه.
فهرس المحتويات
مقدمة…1
المبحث الأول: خبر الآحاد: التعاريف والنشأة…5
المبحث الثاني: جهود العلماء في التأليف والدفاع عن حجية خبر الآحاد…10
المبحث الثالث: أدلة وجوب العمل بخبر الواحد والرد على شبه منكريه…16
الأدلة من الكتاب:…16
الأدلة من السنة:…18
دليل الإجماع:…21
المبحث الرابع: نشأة ظاهرة التشكيك في حجية خبر الآحاد وأسبابها…29
أسباب نشأة ظاهرة التشكيك في خبر الآحاد…36
المبحث الخامس: إفادة خبر الواحد للعلم أو الظن…42
المبحث السادس: نشأة التفرقة بين العقائد والأحكام في الاحتجاج بخبر الآحاد…57
المصادر والمراجع…70
فهرس المحتويات…70(38/54)
حجية خبر الآحاد
في العقائد والأحكام
إعداد الدكتورة
فرحانة علي شويته
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين نحمده ونشكره ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، عبد الله ورسوله، إمام المتقين ورحمة الله للعالمين وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا بحث في حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام: ويشتمل على تمهيد، وفصلين، وخاتمة.
التمهيد
ويشتمل على مطلبين
المطلب الأول: مكانة السنة في التشريع
السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم، سواء أكانت قولية أم فعلية أم تقريرية. وتعد السنة وحياً غير متلو. ويلحق بهذه الأقسام اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأي أكثر العلماء فيما أقره الله سبحانه وتعالى عليه.
وعلاقة السنة مع القرآن الكريم في التشريع على ثلاثة أوجه:
أولاً: أن تكون موافقة له من كل وجه وحينئذ تكون مقررة ومؤكدة لما جاء في القرآن الكريم؛ مثل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس"(1) مع قوله تعالى:? ? ( ( ( ( [سورة البقرة آية:110]. وقوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ([سورة البقرة آية: 183]. وقوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( [سورة آل عمران آية: 97].
__________
(1) صحيح البخاري ج 1/64، كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم رقم/8.(39/1)
ثانياً: أن تكون السنة مبينة للقرآن الكريم؛ كأن تفصل مجمله وتوضح مبهمه وتقيد مطلقه وتخصص عامَّه . فمن أمثلة تفصيل المجمل قوله تعالى: ( ( ( ( فقد أمر الله سبحانه وتعالى بإقامة الصلاة في القرآن مجملة، ولم يبين وقتها وكيفيتها وعدد ركعاتها وشروطها، فبيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك عملياً، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(1).
ومن أمثلة توضيح المبهم قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( [سورة الأنعام آية:82]. حيث وضح الظلم بأنه خصوص الشرك.
ومن أمثلة تقييد المطلق: قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( [سورة المائدة آية:38] إذ اليد تطلق على الكف وعلى الساعد وعلى الذراع، فقيدت السنة هذا الإطلاق وبينت أن القطع من الكوع(2).
ثالثاً: أن تأتي السنة بأحكام جديدة سكت عنها القرآن فلم ينص عليها. كالأحاديث الدالة على تحديد الرضعات المحرمة، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، والحكم بشاهد ويمين، وغير ذلك من الأحكام التي سكت عنها القرآن.
وإذا تبينت مكانة السنة في التشريع فبوحي الله تعالى ثبت ذلك، فقال تعالى: ( ? ( ( ( ( ( [سورة النحل آية:44]. وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [سورة النساء آية:105].
فاستبعاد السنة من التشريع وإنكارها - مصدراً ثانياً بعد القرآن- هو رفض لوحي الله المتلو وغير المتلو.
حجية السنة:
وحجية السنة نافذةٌ، وفرضيتها على المسلمين ثابتة، وطاعتها واجبة بمقتضى كثير من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( [سورة آل عمران آية:132] وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء آية:59]. وقوله: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( [سورة الحشر آية:7] وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( [سورة محمد آية: 33].
__________
(1) صحيح البخاري ج 1/153. كتاب الأذان. باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة. جزء من حديث رواه مالك بن حويرث .
(2) أصول الفقه للمقدسي ج 1/ 329.(39/2)
ويكون الاحتجاج بالسنة بما صح من الأحاديث والعمل بها في كل شعب الإسلام عقيدة وشريعة.
وتقسيم السنة إلى متواتر وآحاد تقسيم حادث مخالف لما عليه منهج الصحابة والتابعين فقد كان منهجهم رضوان الله عليهم في رواية السنة والعمل بها والاحتجاج بها في كل أبواب الدين وشعبه، عقيدة وعبادة ومعاملة وسلوكاً.
وصاحب هذا التقسيم مفاهيم ضيعت أحكاماً بُنِيت على أخبار الآحاد، فكانت بداية إعلان رد أحاديث الآحاد والتقليل من أهميتها ودورها في التشريع الإسلامي، أو تضعيف العمل بها مع أنها أكثر السنة.
كما أن علماء الحديث - وهم أصحاب الفن وأولى من اعتمد قوله- لم يعرفوا هذا التقسيم في عهد الصحابة والتابعين، ولم يكن من صنيعهم، فالمعتبر في الحديث عن عامتهم هو ثبوته وصحته، وعلى هذا مدار القبول أو الرد سواء رواه الواحد أو الجماعة.
ومن هنا بدأ أعداء الإسلام التشكيك والطعن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فظنوا أنهم سيتوصلون إلى ذلك عن طريق زعزعة الثقة والتشكيك في صحة أخبار الآحاد، فوجدوا التفاوت الملحوظ في درجة نقل السنة النبوية: فمنها المتواتر، وهو الأقل عدداً، وغالبيتها العظمى أخبار آحاد، فعدُّوا هذه النسبة هي الثغرة التي تمكنهم مما أرادوا. ولكن هيهات لهم ذلك.
المطلب الثاني: بيان مصطلحات البحث:
من مقتضيات الدراسة المنهجية فَهْمُ مداخل الموضوع ومصطلحاته التي تحمل كل واحدة منها دلالتها الخاصة التي تعطي للموضوع بُعْدَه المميز، وبالتالي تحدد المفاهيم الأولية أو الكلية التي يراد بحثها.
والبحث هو: "حجية أخبار الآحاد في العقائد والأحكام".
ويتكون من المصطلحات الآتية:(39/3)
حجية: والحجية في اللغة مِنْ حجّ أي احتج على خصمه بحجة شهباء وبحجج شهب(1). واحتج عليه: أي أقام الحجة مستنكراً فعله، وتحاجُّوا: تجادلوا. والحجة أي الدليل، والبرهان، وصك البيع، والعالم الثبت.(2) وقيل: الحجة والدليل واحد.
وفي الاصطلاح: ما دلَّ به على صحة الدعوى(3).
والخبر في اللغة: بالتحريك واحد الأخبار، وهو ما أتاك من نبأ عَمَّنْ تستخبر، فيقال: خبَّره بكذا وأخبره نبأ. واستخبره: سأله عن الخبر، وطلب أن يخبره(4).
وفي الاصطلاح: اختلف العلماء في حدِّ الخبر، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحدُّ، والبعض الآخر إلى أنه يحدُّ. فذكر ابن الحاجب عن بعض أهل العلم أنهم قالوا: لا يحد لعسره، ويحتمل أن يكون لوضوحه؛ لأن توضيح الواضحات من المشكلات(5).
والذين قالوا إنه يحدُّ اختلفوا في تعريفه:
فذهب الأصوليون إلى أن الخبر هوكلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور نفياً أو إثباتاً(6). وقيل هو "المحتمل للتصديق والتكذيب لذاته"(7) وقيل: هو "عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام، مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها"(8).
والخبر عند المحدِّثين: مرادف للحديث(9)، والمراد بالخبر هنا ما أضيف إلى النبي صلى الله علية وسلم من قول أو فعل أو وصف .
__________
(1) أساس البلاغة /112.
(2) المعجم الوسيط ج1/17.
(3) التعريفات للجرجاني/112.
(4) لسان العرب ج2/ 1090مختار الصحاح/131 القاموس المحيط 2/17.
(5) شرح مختصر بن الحاجب ج2/45.
(6) المعتمد ج2/544.
(7) الفروق للقرافي ج1/18.
(8) الإحكام للآمدى ج2/9.
(9) شرح نخبة الفكر لابن حجر/ 3.(39/4)
الآحاد: في اللغة جمع أحد وهو بمعنى الواحد أول العدد مأخوذ من اسمه خبر رواه واحد عن واحد(1) ، فهمزة أحد مبدلة من واو، وأصلها "وحد" وأصل آحاد أأحاد بهمزتين أبدلت الثانية ألفاً؛ للتخفيف مثل آدم(2).
وقيل الأحد لا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى لخلوص هذا الاسم له وحده(3) وخبر الواحد هو ما يرويه شخص واحد. وإذا قيل للخبر آحاد فلأن رواته آحاد فهو إما من باب حذف المضاف أو تسمية الأثر باسم المؤثر مجازاً لأن الراوية أثر الراوي(4).
والخبر مفرد وآحاد جمع وأضيف "الآحاد إلى الخبر، والمراد بخبر الآحاد عند الأصوليين: هو "مالم ينته إلى حد التواتر"(5).
والمراد بخبر الواحد عند المحدثين: ما لم يتواتر سواء أكان من رواته شخص واحد أم أكثر(6).
وذكر إمام الحرمين: أنه لا يراد بخبر الواحد الذي ينقله الواحد ولكن كل خبر عن جائز ممكن لا سبيل إلى القطع بصدقه ولا القطع بكذبه لا اضطراراً ولا استدلالاً فهو خبر الواحد وخبر الآحاد سواء نقله واحد أو جمع منحصرون، وقد يخبر الواحد فيعلم صدقه قطعاً كالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر به عن الغائبات ولا يعد من إخبار الآحاد(7).
العقائد: أي ما يتعلق بالعقيدة، والعقيدة ما يدين الإنسان به وله "عقيدة حسنة سالمة من الشك" واعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير حتى قيل العقيدة(8).
__________
(1) لسان العرب ج 8/4779. القاموس المحيط ج 1/356، التعريفات للجرجاني/96.
(2) القاموس المحيط ج 1/ 383.
(3) خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته ج 1/ 150. للقاضي.
(4) نزهة الخاطر على روضة الناظر ج 1/ 260.
(5) إرشاد الفحول / 47 شرح مختصر ابن الحاجب ج 2/655. البحر المحيط ج 4/ 255.
(6) فتح الباري ج 9/ 15.
(7) البرهان في أصول الفقه ج 1/ 583.
(8) المصباح المنير ج 2/ 71 .(39/5)
والإنسان بحاجة إلى الدين، فآفاق دين الله واسعة وأموره كثيرة متنوعة وفي القرآن والسنة من أسرار الهداية ووسائل التوحيد والتربية والتقويم
ما تعالج به النفوس المضطربة والعقول الحائرة والقلوب المريضة، كما تعالج به قضايا الإنسان وأمور حياته، فيصير أطولَ وأسلسَ قيادة لتوجيهات شرع الله.
والعقيدة بكل جزئياتها لا سبيل إلى معرفتها والعلم بها إلا سبيل الخبر الصادق الصحيح ولقد أخبر الرسل عليهم الصلاة والسلام أممهم بأمور الغيب كلها عن طريق ما أوحى الله به إليهم. وقد أتم الله بناء النبوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله لهذه الأمة بشيراً ونذيراً وهادياً ورحمة مهداة مبلغاً لها عن الله وقد بلَّغها الدين كاملاً عقيدة وشريعة، وهو الصادق والمصدوق فيما أخبر به عن الله (1).
والأحكام: جمع حكم، والحكم في اللغة: المنع ومنه قيل للقضاء حُكْم؛ لأنه يمنع من غير المقضي به. وحكمت عليه كذا: إذ منعته من خلافة(2).
وفي الاصطلاح هو: "إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه" نحو زيد قائم، وعمرو ليس بقائم" وهو ينقسم بدليل الاستقراء إلى ثلاثة أقسام(3):
حكم عقلي: وهو ما يَعْرف فيه العقل النسبة إيجاباً أو سلباً نحو: "الكل أكبر من الجزء" إيجاباً. أو "الجزء ليس أكبر من الكل" سلباً.
حكم عادي: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة نحو، السيقمونيا مسهل للصفراء.
حكم شرعي: وهو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
والمراد به هنا هو النصوص الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين، وليس المراد بالأحكام الواردة في عنوان البحث هي النصوص الشرعية وإنما المراد بها "الفروع الفقهية" أو الأحكام الشرعية العملية.
__________
(1) خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته للقاضي برهون ج1/397.
(2) المصباح المنير /145.
(3) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي/10.(39/6)
والبحث المقصود منه: ذكر الأدلة الصحيحة على كون خبر الواحد مقبولاً في العقائد والأحكام، أو البرهان على قبول خبر الآحاد في العقائد والأحكام الشرعية.
الفصل الأول: الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد
المبحث الأول: إفادة خبر الآحاد العلم أو الظن
المبحث الثاني: الأدلة الدالة على وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد
المبحث الثالث: شبه منكري الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد والرد عليها
المبحث الأول: إفادة خبر الآحاد العلم(1) أو الظن(2)
لما كان البحث في الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد والأحكام، كان لزاماً علينا أن نصدر البحث بـ"هل يفيد خبر الآحاد العلم أو الظن؟"؛ لأن من قال: إن خبر الآحاد يفيد العلم قال بالاحتجاج به في العقائد، ومن قال إنه يفيد الظن اختلفوا فيه: منهم من قال بالاحتجاج به في العقائد، ومنهم من قال بعدم الاحتجاج به.
وقبل أن أتعرض لآراء الأصوليين والمحدثين في هذا الأمر لا بد أن نحرر محل النزاع والخلاف.
حكى الشوكاني أن الخلاف في هذه المسألة مقيد بما إذا كان خبر الآحاد لم ينضم إليه ما يقويه أو كان مشهوراً أو مستفيضاً(3).
__________
(1) العلم: هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع (التعريفات للجرجاني/ 154) أما العلم الذي يفيده خبر الآحاد فقد اختلف فيه العلماء هل المراد به العلم الضروري وهو الذي يحصل دون استدلال، أو العلم النظري وهو الذي يحصل بعد نظر وتأمل، أو العلم اليقيني وهو القطعي الذي لا يحتمل الشك أو التردد. العدة ج1/88.
(2) الظن: هو أحد طرفي الشك بصفة الرجحان (التعريفات / 144) ويطلق الظن على معنى العلم كما في قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( [الحاقة آية:20] وعلى معنى اليقين كما في قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( [سورة البقرة آية: 46] وعلى معنى الشك كما في قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( [سورة الجاثية آية: 32].
(3) إرشاد الفحول / 50.(39/7)
والذي ذكره جمهور الأصوليين أن خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف(1).
والذي ذكره أيضاً أهل الحديث: "أن خبر الآحاد إذا تلقَّته الأمة بالقبول عملاً وتصديقاً يفيد العلم عند جماهير الأمة"(2).
ومذهب الأئمة الأربعة أن خبر الآحاد إذا حفَّت به قرائن، وتلقته الأمة بالقبول يفيد العلم(3).
وذكر ابن الصلاح أن من ضمن ما تلقته الأمة بالقبول ما انفرد به كل من البخاري ومسلم لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول(4).
وذكر ابن حجر أن خبر الآحاد المحتف بالقرائن المتصلة: منه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما والمسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين(5).
والذي نستطيع أن نقوله هو أنه اتفق أكثر أهل العلم من الأصوليين والمحدثين على أن خبر الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول أو احتفت به قرائن فإنه يفيد العلم.
ولكنهم اختلفوا فيما إذا لم تتلقَّه الأمة بالقبول ولم تحتف به قرائن هل يفيد العلم أو يفيد الظن؟
فذهب جمهور الأصوليين إلى أن خبر الواحد العدل لا يفيد إلا الظن(6)، وذهب جمهور أهل الظاهر وأهل الحديث إلى أن خبر الواحد العدل يفيد القطع(7).
الأدلة:
استدل أصحاب المذهب الأول القائل بأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن وهم جمهور الأصوليين وعزاه النووي إلى الأكثرين والمحققين(8) بما يلي:
__________
(1) الإحكام للآمدي ج 2/ 31. المسودة/242 فواتح الرحموت ج 2/121. أصول السرخسي ج1/32.
(2) شرح العقيدة الطحاوية / 228.
(3) الإحكام للآمدي ج 2 / 32 شرح العضد ج 2 / 56 نهاية السول ج2 /215 غاية الوصول/97.
(4) التقييد والإيضاح / 41 – علوم الحديث لابن الصلاح/ 25.
(5) النزهة للحافظ ابن حجر / 15.
(6) أصول السرخسي ج / 32 كشف الأسرار للبخاري ج 2 / 370 فواتح الرحموت ج 2/ 121.
(7) مختصر الصواعق ج 2 /480. المسودة / 242 المدخل / 91. شرح الروضة ج 2 / 603.
(8) شرح النووي على صحيح مسلم ج 1 /20.(39/8)
أولاً: أنا نعلم ضرورة أنا لا نصدق كل خبر نسمعه(1) فلو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لما ورد احتمال الكذب. فلما احتمل الكذب في الخبر ثبت أنه لا يوجب العلم.
أجيب عن هذا الدليل بما يلي:
1 - إننا جعلنا خبر الواحد مفيداً للعلم للقرائن التي انضمت إليه ككون المخبر من أهل العدالة وكون الخبر قد تلقته الأمة بالقبول، وقد حصل اتفاق على هذا ولم ينكره أحد ممَّنْ يعتدُّ بقوله.
2 -إننا لم نقل إن كل خبر واحد مفيد للعلم، بل اشترطنا في الخبر أن يرويه العدل الضابط عن مثله، من أول السند إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقبل إلا خبر الواحد العدل أما الفاسق فلا مجال للاحتجاج بحديثه ألبتة(2).
3 - هذا الدليل فيه ضعف؛ لأن حاصله يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير دلالة ومع ذلك هي مقابلة بمثلها، وهو أن نقول: "ونحن نجد في أنفسنا العلم بذلك، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر"(3).
ثانياً: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لما صح ورود خبرين متعارضين
- لاستحالة اجتماع الضدين - لكن رأينا وجود التعارض في أخبار الآحاد كثيراً. إذ لو كانت مفيدة للعلم لما وقع التعارض بينها؛ لأن الخبرين المفيدين للعلم لا يتعارضان(4).
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
__________
(1) إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3 / 123.
(2) الإحكام للآمدي ج 2 / 32 المعتمد ج 2 /566.
(3) إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3/123.
(4) الإحكام للآمدي ج 2/ 33. إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3/ 123.(39/9)
1 - أن خبر الواحد إذا حُفَّت به قرائن تدل على صدقه لا يسوغ ولا يجوز أن يتعارض مع غيره أبداً في الأمر نفسه إلا كما يسوغ ويجوز التعارض بين الأخبار المتواترة أو التعارض بين الآيات الكريمة، والتعارض في واقع الأمر نفسه لا يقع بين الأدلة الشرعية، وإنما يبدو لذهن المجتهد، وحينئذ لابد من الترجيح، وذلك بحمل العام على الخاص أو المطلق على المقيد أو الحقيقة على المجاز. وقبل الترجيح يسلك المجتهد طريقَ معرفةِ تاريخ ورود كل منهما، فإن علم تقدم أحدهما على الآخر حَكَمَ بالنسخ، ولا كلام في ذلك، فإن لم يعلم التاريخ فإنه يلجأ إلى الجمع بين الدليلين المتعارضين.
ثالثاً: أن خبر الواحد لو كان مفيداً للعلم لجاز أن ينسخ القرآن والحديث المتواتر، لكونه بمنزلتهما في إفادة العلم، ولكن لما لم يجز نسخ خبر الواحد للقرآن والحديث المتواتر دلَّ على أنه لا يفيد العلم فصارت مرتبته أقل وأضعف من مرتبتهما فهو يفيد الظن.
أجيب عن الدليل بما يلي:
أن هذا القول على مذهب بعض العلماء، ولكن البعض الآخر قالوا إن خبر الواحد ينسخ القرآن والسنة المتواترة، والدليل على ذلك الوقوع، إذ روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه القرآن وقد أُمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"(1).
والتحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه، والدليل الوقوع(2).
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي ج 5/10. كتاب المساجد. باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.
(2) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي/ 103.(39/10)
رابعاً: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لأفاده على أي صفة وُجِد المُخْبِر، سواء أكان المخبر عدلاً أم فاسقاً نظراً لاستوائهما في حصول العلم بخبرهما ولكن خبر الواحد يشترط في المخبر أن يكون عدلاً تقوية له فلا يقبل خبر الفاسق، فلو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لما فرق بينهما(1).
أجيب عن هذا الدليل بما يلي:
نظراً إلى اشتراط العدالة في المخبر فإنه يقبل خبر الراوي العدل ولا يقبل خبر الراوي الفاسق، بخلاف الخبر المتواتر فنظراً لكثرتهم فإنه يستوي الفاسق والعدل وغيرهما فيه.
كما أن هذا قياس عكس وقياس العكس يفيد الظن.
خامساً: لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لحصل العلم بنبوة من يخبر بكونه نبياً من غير حاجة إلى معجزة دالة على صدقه(2).
أجيب عن هذا الدليل بما يلي:
أن النبوة أمر في غاية الندرة ونهاية العظمة والعادة تحيل صدق مُدَّعيها
من غير معجزة دالة على صدقه؛ لأنه يخبرنا عن الله تعالى. أمَّا من يُخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما يشترط فيه ما اتفق عليه من العدالة والضبط والإسلام والحفظ وغيرهما(3).
أدلة المذهب الثاني:
وهو المذهب القائل بأن خبر الواحد العدل إذا صح فإنه يفيد العلم.
وذهب إلى هذا المذهب بعض أهل الحديث، وحكاه ابن حزم في الإحكام عن داود الظاهري، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن أسد المحاسبي، وقال: وبه نقول واختاره ابن خويز منداد من المالكية(4) وذكر
ابن القيم أكثر من عشرين وجهاً في كتابه الصواعق المرسلة تدل على ذلك نذكر منها ما يلي:
الأدلة من القرآن:
__________
(1) إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظرج 3/ 125.
(2) الإحكام للآمدي ج 2/ 31.
(3) التقرير والتحبير ج 2 /272.
(4) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج 1 /107. العدة ج 3 / 899. المسودة / 242. مختصر الصواعق 2/ 457. إتحاف ذوي البصائر ج 3 /127.(39/11)
أولاً: قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( [سورة المائدة آية:67] وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( [سورة النور آية:54].
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله بالبلاغ، وحصر البلاغ عليه لأن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل به العلم فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم. لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الواحد من الصحابة يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسننه، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة(1).
ثانياً: قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ([سورة الإسراء آية:36] وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( [سورة النجم آية:28].
وجه الدلالة: حيث نهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع الظن ونعى على من يتبع الظن، ولم يزل الصحابة ومن بعدهم يعتدُّون بأخبار الآحاد ويعملون بها ولو كانت لا تفيد علماً لكانوا قد قَفَوْا ما ليس لهم به علم واتبعوا الظن المنهي عنه(2).
الأدلة من السنة:
أولاً: بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن قائلاً له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض في أموالهم صدقة ترد من أغنيائهم إلى فقرائهم"(3).
وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل رجلاً واحداً يبلغ شرائع الإسلام وقد قامت الحجة على أهل الكتاب بهذا الرجل، فلو كان مثل هذا البلاغ لا يفيد علماً لم تكن الحجة على أي إنسان يبلغه عن الله تعالى أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيرده(4).
__________
(1) مختصر الصواعق 2/ 479.
(2) مختصر الصواعق 2/ 478.
(3) صحيح البخاري ج2 /529. كتاب الزكاة – باب لا تؤخذ كرائم الناس في الصدقة.
(4) مختصر الصواعق / 479.(39/12)
ثانياً: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزل عليه القرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة(1).
وجه الدلالة: أنهم قبلوا خبره، وتركوا الجهة التي كانوا عليها، واستداروا إلى القبلة، ولم يُنْكِرْ عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بل شُكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة الأولى فلولا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا يفيد العلم(2).
ثالثاً: أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لو رويا شيئاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمعاه منه أو أخبرا عن شيء قد رأياه، فإن السامع يصدق ذلك نظراً لحصول العلم بخبره، ولا يمكن أن يشك أدنى شك في هذا النقل(3).
رابعاً: أن علماء السلف- رحمهم الله – قد أجمعوا على نقل أخبار صفات الله عز وجل، ومعروف أن تلك الصفات ليس فيها عمل وإنما المراد بها العلم والاعتقاد والإيمان بها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه فهنا أفادت أخبار الصفات العلم مع أن أكثرها آحاد، وسبب ذلك أن تلك الأخبار قد أيدت بقبول الأمة لها وعدم وجود أي منكر يعتد بقوله - منهم لها فهذا يدل دلالة واضحة على أن خبر الواحد يفيد العلم إذا توافرت فيه تلك الشروط.
تعقيب:
بعد عرض آراء العلماء في إفادة خبر الآحاد للعلم أو الظن وذكر أدلة كل منهم نستطيع أن نقول ما يلي:
أولاً: أن هذا الخلاف لفظي؛ لأن الذين يقولون إن خبر الآحاد يفيد الظن يقولون بوجوب العمل به فكيف يتصور العمل بدون علم؟ فالعمل فرع تصور العلم.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي. ج 5/ 10 كتاب المساجد باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة .
(2) مختصر الصواعق 2/ 477.
(3) إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3 /130.(39/13)
ثانياً: لا بد أن نستفسر عن حقيقة الظن الذي يفيده هل المراد به الشك والخرص والوهم والتخمين الوارد في قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( [سورة النجم آية:23] أو قوله تعالى: ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( [سورة النجم آية:28] أو قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( [سورة الجاثية آية:32] وهذا هو الظن المذموم.
أو المراد به الظن الغالب الملحق باليقين أو الظن الراجح دون مرتبة اليقين كما في قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( [سورة يوسف آية:110] وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( [سورة ص آية: 24]. وهذا هو الظن المحمود.
ولا أعتقد أن أحداً من أهل العلم يقول بالمعنى الأول، وإنما المعنى الذي يتفق مع إفادة أخبار الآحاد هو الظن الغالب الملحق باليقين أو الظن الراجح دون مرتبة اليقين، يؤيد هذا أن من العلماء الذين قالوا بإفادة أخبار الآحاد للظن قالوا بوجوب الاحتجاج بها في العقائد كأبي الحسين البصري وابن عبد البر والغزالي والقرافي والنووي والبيضاوي والأسنوي.
ثالثاً: أن أهل الحديث - وقولهم مقدم على غيرهم في هذا الموضوع -
لم يختلفوا في إفادة أخبار الآحاد العلم، وإنما اختلفوا في نوعية العلم: أهو قطعي، أم ضروري أم نظري ولم يفرقوا بين أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعضها يفيد العلم وبعضها يفيد الظن لأن مصدر الأخبار عندهم واحد.
رابعاً: أن الذين قالوا إن أخبار الآحاد تفيد الظن نجدهم يقولون بصحة أقوال أئمتهم ومذاهبهم، مع أن هذه الأقوال وصلت إليهم بطريق الآحاد فكيف حصل لهم ذلك.
المبحث الثاني : الأدلة على وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد
استدل القائلون بوجوب الأخذ بأخبار الآحاد في العقيدة بأدلة كثيرة، فذكر الدكتور عمر الأشقر أن الشيخ ناصر الدين الألباني ساق عشرين وجهاً تدل على ذلك.
ولكننا نركز على أهم الأدلة التي استدلوا بها ونذكر منها ما يلي:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:(39/14)
1- قوله تعالى: ( ? ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة آية:122].
وجه الدلالة: أن الطائفة تطلق على الواحد فما فوق في اللغة. وذكر الإمام البخاري أن الرجل يسمى طائفة لقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [الحجرات آية:9]. فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية(1).
فأفادت الآية أن الطائفة تنذر قومها إذا رجعت إليهم، والإنذار: الإعلام بما يفيد العلم، وهو يكون بتبليغ العقيدة وغيرها مما جاء به الشرع، وإذا كان الرجل يؤخذ بما يخبر به من أمور دينه، كان هذا دليلاً على أن خبره حجة، والتفقه في الدين يشمل العقائد والأحكام، بل إن التفقه في العقيدة أهم من التفقه في الأحكام(2).
2- قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء آية:59].
وجه الدلالة: أجمع المسلمون على أن الرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرجوع إليه في حياته والرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا على أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته، فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علماً ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه،(3) ولما كانت أخبار الآحاد تفيد العلم كانت حجة في العقيدة.
ثانيا: الأدلة من السنة:
1- قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب(4).
__________
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج 3 / 231.
(2) أصل الاعتقاد/ 63. العقيدة في الله / 51.
(3) مختصر الصواعق ج 2 / 352.
(4) صحيح البخاري ج 2/529. كتاب الزكاة. باب لا تؤخذ كرائم الناس في الصدقة .(39/15)
وجه الدلالة: الحديث نص في المطلوب؛ إذ إن فيه دعوة صريحة إلى التوحيد أي الإيمان بالله والرسول والإيمان بالله ورسوله من أصول العقائد وبالتالي فخبر الآحاد حجة في العقائد.
2- عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نضر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه وَرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(1).
وجه الدلالة: ما ذكره الشافعي في رسالته بقوله: "دلَّ على أنه لا يأمر أن يُؤَدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدى عنه حلال، وحرام يجتنب، وحدٌّ يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة في دين ودنيا، ودل على أنه يحمل الفقه غير فقيه، يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً. وأمرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين لازم"(2).
وهذا الحديث هو الحديث الأول من جملة أحاديث ساقها الشافعي للاحتجاج بأخبار الآحاد في العقائد.
وهذا الحديث عام متناول لأحاديث الأعمال والأحكام والعقائد، ولولم يكن الإيمان بما يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من عقائد بأخبار الآحاد واجباً لما كان لهذا الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ حديثه مطلقاً معنى.
3- ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن وفد عبد القيس لما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من الوفد أو من القوم؟" قالوا : ربيعة ، فقال : "مرحباً بالقوم - أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى". قالوا: يا رسول الله،
__________
(1) سنن الترمذي ج 5 /33. كتاب العلم. باب ما جاء في الحثِّ على تبليغ السماع رقم / 2656.
(2) الرسالة / 403.(39/16)
إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحيُّ من كفار مضر، فمرنا بأمر فصلٍ نخبر به مَنْ وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده قال: "هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة - و صيام رمضان - وأن تعطوا من المغنم الخمس، ونهاهم عن أرْبع: الدباء والحنتم والمزفت والنقير"(1) قال: احفظوهن وأبلغوهن من وراءكم(2).
وجه الدلالة: ما ذكره ابن حجر بقوله: "والغرض من قوله في آخره احفظوهن وأبلغوهن من وراءكم، فإن الأمر بذلك يتناول كل فرد فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما حضهم عليه"(3).
4- ما تواتر من إرسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسله وسعاته إلى الآفاق والملوك المجاورين لجزيرة العرب والقبائل لتبليغ الرسالة.
فمن ذلك أنه بعث - صلى الله عليه وسلم - دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم بصرى، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي بكتابه إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة، وعثمان بن أبي العاص إلى الطائف، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس. وغيرهم ولم يبعث هؤلاء إلا ليقيم بهم الحجة على من بعثوا إليهم ومن المعلوم أن أهم ما بعث به هؤلاء هو الدعوة إلى التوحيد(4).
ثالثا: من العقل:
__________
(1) الدباء : هو القرع. وقال النووي المراد هو اليابس منه. والحنتم : الجرة وفي رواية إنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم. والمزفت. ماطلي بالزفت والمقير ما طلي بالقار ويقال له القير وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها. والنقير أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء. ( فتح الباري ج 1/134).
(2) صحيح البخاري ج 1 / 129 كتاب الإيمان. باب أداء الخمس من الإيمان. رقم /53.
(3) فتح الباري ج 1 / 133.
(4) خبر الواحد وحجيته د. أحمد الشنقيطي / 204- 205.(39/17)
1- أن القول بأن أخبار الآحاد لا يحتج بها في العقائد قول مخالف لجميع أدلة الكتاب والسنة التي نحتج جميعاً بها على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام الشرعية؛ وذلك لعمومها وشمولها لما جاء به رسول الله عن ربه سواء كان عقيدة أو حكماً لتخصيص هذه الأدلة بالأحكام دون العقائد، تخصيص بدون مخصص وذلك باطل وما لزم من الباطل فهو باطل(1).
2- أن القول بعدم قبول خبر الآحاد في العقائد يستلزم رد السنة؛ لندرة المتواتر، ولأن كل حكم شرعي عملي يقترن به عقيدة ولا بد أن ترجع إلى الإيمان بأمر غيبي لا يعلمه إلا الله تعالى، ولولا أنه أخبرنا به في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - لما وجب التصديق والعمل ولذلك لم يجز لأحد أن يُحَرِّمَ أو يحلل بدون حجة من كتاب أو سنة قال تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النحل آية:116]. فأفادت هذه الآية الكريمة أن التحريم والتحليل بدون إذن منه كذب على الله تعالى وافتراء عليه، فإذا كنا متفقين على جواز التحليل والتحريم بحديث الآحاد وإننا به ننجو من القول على الله فكذلك يجوز إيجاب العقيدة بحديث الآحاد، ولا فرق بينهما، ومن ادعى الفرق فعليه البرهان من كتاب الله وسنة رسوله، ودون ذلك خرط القتاد(2).
__________
(1) أصل الاعتقاد / 64.
(2) وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة / 20. خبر الواحد للشنقيطي / 215.(39/18)
3- أن أخبار الآحاد لولم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمنع إثبات الأحكام الطلبية فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر؛ وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بأحاديث الآحاد في الخبريات العلميات كما تحتج به في الطلبيات العملية، ولاسيما أن الأحكام العملية تتضمن الخبر من الله بأنه شرع كذا أو أوجبه ورضيه دينا، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم يزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ولم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جَوَّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته.
فأين سَلَفُ المفرقين بين البابين..؟ نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين. فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية، وسمُّوها أصولاً وفروعاً(1).
__________
(1) مختصر الصواعق 2/ 489. خبر الواحد في التشريع الإسلامي. أبي عبد الرحمن برهون/ 381.(39/19)
4- أن الخلاف في الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد مسبوق بانعقاد الإجماع المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى والأمور العلمية الغيبية بها فيقول ابن القيم: "فهذا لا يشك فيه من له خبرة بالمنقول، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقَّاها بعضهم عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على مرادها، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومَنْ سمعها منهم تلقَّاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابع التابعين عن التابعين. هذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث، كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم وأمانتهم، ونقلهم ذلك عن نبيهم كنقلهم الوضوء والغسل من الجنابة وأعداد الصلوات وأوقاتها ونقل الأذان والتشهد والجمعة والعيدين، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا أحاديث الصفات، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها مما ذكرنا، وحينئذ فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ألبتة وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل(1).
تعقيب:
__________
(1) أصل الاعتقاد / 77. مختصر الصواعق 2/ 502 مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي/ 125.(39/20)
وبعد عرضنا الأدلة الدالة على وجوب الآخذ بخبر الآحاد في العقائد، فالحق الذي لا يجوز العدول عنه أن أخبار الآحاد الصحيحة كما تقبل في الفروع تقبل في الأصول. وبهذا نعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد، ولا يثبت بها شيء من صفات الله، زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين باطل لا يعول عليه، ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم ردَّ الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرد تحكيم العقل(1). ولاسيما أن الذين لا يأخذون بخبر الواحد في العقائد يلزمهم أن يردوا كثيراً من العقائد التي تثبت بأحاديث الآحاد ومنها(2):
1 - أفضلية نبينا محمد على جميع الأنبياء والمرسلين.
2 - شفاعته العظمى في المحشر.
3 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الكبائر من أمته.
4 - معجزاته كلها ما عدا القرآن.
5 - كيفية بدء الخلق وصفة الملائكة والجن وصفة الجنة والنار ممالم يذكر في القرآن الكريم.
6 - سؤال منكر ونكير في القبر.
7 - ضغطة القبر للميت.
8 - الإيمان بأن الله تعالى كَتَبَ على كل إنسان سعادته أو شقاوته ورزقه وأجله وهو في بطن أمه.
9 - الصراط والحوض والميزان ذو الكفتين.
10 - خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - مما جمعه السيوطي في كتاب "الخصائص الكبرى" مثل دخوله في حياته الجنة، وإسلام قرينه من الجن.
المبحث الثالث: شبه منكري الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد والرد عليهم
ترتب على الخلاف السابق خلاف للعلماء في الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد، فمن ذهب إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم قال بالاحتجاج به في العقائد، ومن قال إن خبر الآحاد يفيد الظن قال بعدم الاحتجاج به في العقائد.
__________
(1) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي / 125.
(2) أشراط الساعة يوسف الوابل / 52.(39/21)
وبالتالي فنحن أمام مذهبين في الاحتجاج به في العقائد: مذهب أوجب الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد، ومذهب أنكر الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد.
أولاً: الذين أنكروا الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد قديماً:
وقد ذهب جمع من العلماء(1) إلى عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد، وهو مذهب أهل الكلام والأصوليين، وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي عن خبر الواحد: فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا(2).
وقال البزدوي: خبر الواحد لما لم يفد اليقين لا يكون حجة فيما يرجع إلى الاعتقاد لأنه مبني على اليقين، وإنما كان حجة فيما قصد به العمل(3).
وقال الأسنوي: إن رواية الآحاد إن أفادت فإنما تفيد الظن، والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية، وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين(4).
وقال ابن برهان: "خبر الواحد لا يفيد العلم - خلافاً لأصحاب
الحديث - ولا تثبت به العقائد"(5).
وقال السمرقندي: "خبر الواحد لا يحتج به في العقائد لأنه يوجب الظن"(6).
وقال أبو الوليد الباجي - في معرض مناقشته لمنكري جواز العمل بخبر الواحد -: فإن قالوا: فيجب قبول خبر الواحد في التوحيد وأعلام النبوة
وما طريقه العلم؛ لأن رسله أيضاً كانوا ينفذون بذلك إلى أهل النواحي. قال: والجواب: أن هذا غلط لأنه إنما كان ينفذ رسله بأحكام الشريعة بعد انتشار الدعوة وإقامة الحجة، وكيف يقول رسوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبركم في الزكاة بكذا وكذا، وهم لا يعرفون الله ولا رسوله(7).
وهؤلاء المنكرون لهم شبه تتمثل فيما يلي:
أن خبر الآحاد يفيد الظن ويعنون به الظن الراجح؛ لجواز خطأ الواحد
__________
(1) تحقيق الوصول إلى الأصول / 2 /ص163.
(2) شرح الأصول الخمسة / 769.
(3) أصول البزدوي ج 2/ 408.
(4) نهاية السول للأسنوي/258.
(5) الوصول إلى الأصول ج 2 / 163.
(6) ميزان الأصول ج 2 / 643.
(7) أحكام الفصول للباجي / 339.(39/22)
أو غفلته أو نسيانه، والظن الراجح يجب العمل به في الأحكام اتفاقاً، ولا يجوز الأخذ به عندهم في المسائل الاعتقادية، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات التي تنهى عن اتباع الظن كقوله تعالى: ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( [النجم آية: 28].
الجواب عن هذه الشبهة:
إن الظن في هذه الآية وأمثالها ليس الظن الغالب الذي عنوه، وإنما هو الشك والكذب والخرص والتخمين، فقد ذكر ابن الأثير أن المراد بالظن في اللغة الشك يعرض لك في شيء فتحققه وتحكم به(1).
وذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى:( ? ( ( ( ( ( أي ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع" إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً" أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"(2).
فالشك والكذب هو الظنُّ الذي ذمَّه الله تعالى ونعاه على المشركين؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( (
[الأنعام آية:116] حيث وصفهم بالظن والخرص الذي هو مجرد الحَرْز والتخمين، وإذا كان الخرص والتخمين هو الظن فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام لأن الأحكام لا تبنى على الشك والتخمين.
وأمَّا ما قيل من احتمال غفلة الراوي ونسيانه فهو مدفوع بما يشترط في خبر الواحد من كون كل من الرواة ثقة ضابطاً، فمع صحة الحديث لا مجال لتوهُّم خطأ الراوي، ومع ما جرت به العادة من أن الثقة الضابط لا يغفل ولا يكذب لا مجال لرد خبره لمجرد احتمال عقلي تنفيه العادة(3).
ثانياً: الذين أنكروا الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد حديثاً:
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر ج 3 /162_163.
(2) تفسير ابن كثير ج 4 /434.
(3) أشراط الساعة/ 46-47.(39/23)
وقد امتد الإنكار للاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد من القديم إلى الحديث، فنجد الشيخ محمد عبده يقول: "وأخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد ولو صحت"(1).
ويقول محمد فريد وجدي: "وقد ضعف كثيرون من أئمة المسلمين أحاديث المهدي واعتبروها مما لا يجوز النظر فيه"(2).
ويقول الشيخ شلتوت: "والأحاديث المروية إذا لم تتوفر فيها أركان التواتر فلا تفيد بطبيعتها إلا الظن والظن لا يثبت العقيدة"(3).
ويقول سيد قطب: "ونحن على منهجنا في هذه الظلال لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي متواتر فهي من أمور الاعتقاد التي لا يُلتزم فيها إلا بنص هذه درجته ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض"(4).
ويقول الغزالي في كتاب هموم داعية: "خبر الآحاد لا مدخل له في إنشاء العقائد"(5). ولهم شبه تتمثل فيما يلي:
الشبهة الأولى:
العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد لأن العقيدة ما يطلب الإيمان به، والإيمان معناه اليقين الجازم إلا ما كان قطعي الورود والدلالة وهو المتواتر والأحاديث المروية إذا لم تتوافر فيها أركان التواتر فلا تفيد بطبيعتها إلا الظن، والظن لا يثبت العقيدة(6).
الرد عليها:
إن الذين يقولون إن أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآحاد والصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منها العلم، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد العلم لأهل الحديث والسنة(7).
الشبهة الثانية:
__________
(1) التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبي ج 2 /574.
(2) دائرة المعارف ج 10 /481.
(3) الإسلام عقيدة وشريعة/524.
(4) في ظلال القرآن ج 3 / 1531.
(5) هموم داعية للغزالي / 116.
(6) الإسلام عقيدة وشريعة / 524.
(7) الصواعق المرسلة / 490.(39/24)
دعوى الإجماع على أن خبر الآحاد لا تثبت العقيدة فيقول الشيخ شلتوت: "ومن هنا يتأكد أن ما قررناه من أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات قول مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء"(1).
الرد عليها:
أن هذه عادة أهل الكلام يحكون الإجماع على ما لم يقله أحد من أئمة المسلمين بل أئمة الإسلام على خلافه.
وذكر الشنقيطي: أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا يثبت بها شيء من صفات الله تعالى زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد لا بد فيها من اليقين، باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرد تحكيم العقل(2).
ومن ادعى الإجماع فقد كذب وهذه دعوى يريدون بها إبطال سنن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .
فقد ذكر الخطيب البغدادي: وإنما دفع خبر الآحاد بعض أهل الكلام لعجزه - والله أعلم - عن علم السنن، رغم أنه لا يقبل منها إلا ما تواترت به أخبار من لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهذا عندنا ذريعة إلى إبطال سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام(3).
الفصل الثاني: الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام
المبحث الأول : الأدلة على وجوب الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام
المبحث الثاني : أدلة منكري الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام والرد عليهم
المبحث الأول: الأدلة على وجوب الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة / 75.
(2) مذكرة في أصول الفقه للشنقيطي / 124.
(3) الفقيه والمتفقه ج 1/ 98.(39/25)
ذهب إليه كثير من الأصوليين والفقهاء(1) ونسبه ابن قدامة للجمهور(2) وقال الشافعي: "لو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت من أن ذلك موجود على كلهم"(3).
وذكر الخطيب البغدادي: "وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه"(4).
وهذا المذهب قول السلف والخلف من الأئمة الأربعة والظاهرية وغيرهم. واستدل الجمهور على وجوب الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام بأدلة كثيرة نذكر منها ما يلي:
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
1- قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( [البقرة آية:159].
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى توعد على كتمان ما أنزل من البينات، فيجب على الواحد الإخبار بما سمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوجب العمل بخبره وإلا لم يكن لإخباره فائدة(5).
__________
(1) المستصفى ج 1 / 146. شرح الأسنوي ج 2 /318. الوصول إلى الأصول ج 2/ 163. نهاية السول ج 3 /104. أصول السرخسي ج 1/ 321. شرح العضد ج 2 / 59. إحكام الفصول / 334. بيان المختصر ج 1 / 672. شرح تنقيح الفصول/ 357. كشف الأسرار للبخاري ج 2/370. تيسير التحرير ج 3/82. فواتح الرحموت ج 2/131 العدة ج 3 / 859. المسودة / 214. شرح الكوكب المنير ج 2 /361. الإحكام للآمدي ج 2 / 45. الإحكام لابن حزم ج 1 /107. إرشاد الفحول / 48.
(2) إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3 / 153.
(3) الرسالة / 458.
(4) الكفاية / 48.
(5) الإحكام للآمدي ج 2 / 59. شرح العضد ج 2 /62.(39/26)
وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: "وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس فإن لها معنى بها: كل كاتم علماً فرض الله تعالى بيانه للناس وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله أنه قال: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار(1).
2- قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحجرات آية:6].
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى علق وجوب التثبت على خبر الفاسق، فدلَّ على أن العدل إذا جاء بنبأ يقبل قوله(2).
وذكر القرطبي في تفسير الآية أن فيها دلالة على أن قبول خبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق(3).
3- قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( (
[المائدة آية:67].
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله في هذه الآية الكريمة بإبلاغ جميع ما أرسله به إلى الناس كافة، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم. ومعلوم أنه بلغ الرسالة على أتم وجه وأكمله(4).
4- قوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء آية:135].
وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالقسط والشهادة لله ومن أخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما سمعه فقد قام بالقسط وشهد لله، وكان ذلك واجباً عليه بالأمر، والوجوب جاء من وجوب القبول وإلا كان وجوب الشهادة كعدمها، وهو ممتنع(5).
ثانيا: الأدلة من السنة:
__________
(1) تفسير الطبري ج 4 / 202.
(2) العدة ج 3/ 863. الإحكام للآمدي ج 2 /58.
(3) الجامع لأحكام القرآن ج 16 / 312.
(4) فتح الباري ج 13 / 234. خبر الواحد وحجيته / 231.
(5) كشف الأسرار للبخاري ج 2 / 372.(39/27)
1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نَضَّرَ الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يُغَلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تحيط مِنْ ورائهم"(1).
وجه الدلالة: هو ما ذكره الشافعي في رسالته بقوله: "فلما نَدَبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امْرَأً يؤديها، والامْرُؤُ واحد، دل على أنه لا يأمر أن يُؤَدَّى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه"(2).
2- ما رواه أنس بن مالك قال: "كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأبيَّ بن كعب شراباً من فضيخ وتمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت"(3).
وجه الدلالة: هو ما ذكره الشافعي في رسالته: "وهؤلاء في العلم والمكان من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتقدّم صحبته بالموضع الذي لا ينكره عالم، وقد كان الشراب عندهم حلالاً يشربونه، فجاءهم آت وأخبرهم بتحريم الخمر فأمر أبو طلحة - وهو مالك الجرار- بكسر الجرار ولم يقل هو، ولاهم، ولا واحد منهم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله مع قربه منا أو يأتينا خبر عامة. وذلك أنهم لا يهريقون حلالاً إهراقه سَرَفٌ وليسوا من أهله. والحال أنهم لا يَدَعُون إخبار رسول الله ما فعلوا، ولا يَدَعُ، لو كان ما قبلوا من خبر الواحد ليس لهم أن ينهاهم عن قبوله"(4).
__________
(1) سنن الترمذي ج 5 / 33. كتاب العلم. باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع رقم / 2656.
(2) الرسالة / 402.
(3) سنن الترمذي ج 3/88. كتاب البيوع. باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك رقم /1293.
(4) الرسالة/409-410.(39/28)
3- اعتماد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الواحد في التبليغ، فلو كان الواحد لا تقوم به الحجة في التبليغ لم يكن لإرسال الرسل فائدة.
ومن ذلك ما يلي:
1 - أمر رسول الله أنيساً أن يغدو على امرأة رجل ذُكِرَ أنها زنت "فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها(1).
2 - ما روي عن عبد الله بن أبي سلمة عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه قالت: "بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله يقول: إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد" فأتبع الناس وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك.
ورسول الله لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبره عن النبي بصدقه عند المنهيين عمَّا أخبرهم أن النبي نهى عنه، ومع رسول الله الحاج وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عدداً فبعث واحداً يعرفونه بالصدق(2).
3 - أن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيد. فقال: "هذا أمين هذه الأمة"(3).
وهناك أمثلة كثيرة في بيان اعتماده - صلى الله عليه وسلم - على الواحد في التبليغ؛ فقد بعث من الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر أميراً على الحج، وبعث عمر ساعياً على الصدقة، وبعث علياً قاضياً على اليمن، وبعث معاذاً إلى اليمن قاضيًا، وبعث مصعب بن عمير إلى المدينة.
فلو لم يجب العمل بخبر الواحد لما جاز للرسول - صلى الله عليه وسلم - إنفاذ أمير واحد في شيء من ذلك وقد تواتر منه هذا الفعل مما لا مجال لإنكاره(4).
ثالثاً: الإجماع:
__________
(1) صحيح البخاري ج 6 / 2650 حديث رقم / 6832. كتاب التمني. باب ما جاء في إجازة خبر الواحد.
(2) الرسالة / 412.
(3) صحيح البخاري ج 6 / 2649. حديث رقم / 6827. كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد.
(4) شرح الكوكب المنير ج 2/ 375. تيسير التحرير ج 3/ 83. العدة ج 3 / 863 بيان المختصر جـ1/ 678. التمهيد جـ 3/ 52.(39/29)
1- إجماع الصحابة
أجمع الصحابة على الاحتجاج بخبر الآحاد في وقائع كثيرة خارجة عن العدد والحصر. ونقل الإجماع أبو الحسين البصري، وأبو يعلى، وابن قدامة، وأبو الوليد الباجي وإمام الحرمين والغزالي وابن الحاجب وأبو الخطاب والأصفهاني وابن برهان وغيرهم(1). من هذه الوقائع ما يلي:
أولاً: روي عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها قال قبيصة: فقال: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما أعلم لكِ في سنة رسول الله شيء، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس. فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس فقال: هل معك غيرك..؟ فشهد له محمد بن مسلمة فأمضاه لها أبو بكر(2).
وجه الدلالة: أن أبا بكر قبل خبر الواحد وهو خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، حيث لم يصل إلى حد التواتر وعمل بمقتضاه فأعطى الجدة السدس.
ثانياً: أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في إملاص(3) المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة: عبد أو أمة. قال: لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة(4).
وجه الدلالة: أن عمر بن الخطاب قبل خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة ولم ينكر عليه أحد الصحابة فكان إجماعاً.
__________
(1) المعتمد ج 2 / 591. العدة جـ 3/ 865. إتحاف ذوي البصائر ج 3/ 153. أحكام الفصول / 334. البرهان ج 1/ 601 المستصفى ج 1/ 150. شرح العضد ج 2/ 580. التمهيد ج 3/ 54. شرح المنهاج ج 2/ 0557. الوصول إلى الأصول ج 2/ 168.
(2) سنن بن ماجه ج 2/ 99 كتاب الفرائض. باب ميراث الجدة. رقم /2724.
(3) قال الخليل: أملصت المرأة والناقة إذا رمت ولدها، والمراد في الحديث: هي المرأة التي تضرب بطنها فتلقي جنينها، هكذا فسر الحديث ـ انظر الفتح 12/250.
(4) صحيح البخاري (مع الفتح) ج 12/ 246، كتاب الديات باب جنين المرأة رقم (6105).(39/30)
ثالثاً: أن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، فقال له الضحاك بن سفيان الكلابي: كتب إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضابي من دية زوجها أشيم(1).
وجه الدلالة: أن عمر - رضي الله عنه - قبل خبر الواحد وهو خبر الضحاك، وعمل به فأصبح يعطي المرأة حقها من دية زوجها إذا قتل، ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد من الصحابة في هذا، فكان إجماعاً على الاحتجاج بخبر الآحاد.
رابعاً: أن عمر بن الخطاب كان لا يأخذ من المجوس الجزية حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"(2).
وجه الدلالة: أن عمر - رضي الله عنه - كان لا يأخذ الجزية من المجوس، فلما أخبره عبد الرحمن بن عوف بهذا الحديث قبله وعمل بمقتضاه فأخذ منهم الجزية وعاملهم معاملة اليهود والنصارى ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعاً على الاحتجاج بخبر الآحاد.
__________
(1) سنن ابن ماجه ج 2/38. كتاب الديات. باب الميراث من الدية رقم / 2642.
(2) موطأ الإمام مالك. كتاب الزكاة. باب جزية أهل الكتاب والمجوس ج 1/33. رقم /42. بلفظ أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس.(39/31)
خامساً: عن فريعة بنت مالك بن سنان الخدرية أخت أبي سعيد الخدري - أنها قالت: جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته أن زوجي خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القَدُوم - اسم جبل على بعد ستة أميال من المدينة - فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة - قالت: فقال رسول الله: "نعم" فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدُعيت له فقال رسول الله: "كيف قلت؟" فرددت عليه القصة فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"، فاعتدَّت فيه أربعة أشهر وعشراً فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرتُه فاتبع وقضى به(1).
وجه الدلالة: أن عثمان بن عفان عمل بخبر فريعة، وقضى به على مسمع من الصحابة فلم ينكروه، فدلَّ على إجماع الصحابة على الاحتجاج بخبر الآحاد.
سادساً: روي عن أبي موسى الأشعري قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار فقال الأنصار: لا يجب الغسل إلا من الماء الدافق أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل فقلت: أنا أشفيكم من ذلك فقمت فاستأذنت على عائشة. فقلت: يا أماه أو يا أم المؤمنين ـ: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيك، فقالت: لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلاً عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك، قلت: فما يوجب الغسل..؟ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل"(2).
__________
(1) سنن ابن ماجه ج 1/654. كتاب الطلاق. باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها رقم / 43.
(2) صحيح البخاري ج 1/ 195. كتاب الغسل. باب إذا التقى الختانان من حديث أبي هريرة
برقم /291.(39/32)
وجه الدلالة: أن الصحابة اختلفوا في مسألة هل الغسل يجب وإن لم يُنْزِل أو لا؟ فذهب بعضهم إلى أنه لا يجب الغسل إلا إذا أنزل الماء، وذهب آخرون إلى أنه يجب الغسل على المجامع وإن لم ينزل. فلما روت عائشة هذا الحديث رجع الصحابة جميعاً إلى قولها وعملوا به، ولم يخالف في ذلك أحد فكان إجماعاً بالاحتجاج بخبر الآحاد.
سابعاً: ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول: "إنما الربا في النسيئة"(1) ثم حكي عنه أنه رجع وذهب إلى تحريم كل من ربا النسيئة وربا الفضل آخذاً بخبر أبي سعيد الخدري في الصرف وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثلاً بمثل"(2) وقال ابن حجر: "روى الحاكم أن ابن عباس كان لا يرى بأساً زماناً من عمره ما كان منه عيناً بعين يداً بيد وكان يقول: "إنما الربا في النسيئة" فلقيه أبو سعيد وحدثه الحديث. فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه(3).
وجه الدلالة: أن ابن عباس كان يفتي بجواز ربا الفضل، فلما سمع خبر أبي سعيد الخدري هذا قبله وعمل به فرجع عن رأيه وهو تحريم الربا بنوعيه، ولم ينكر عليه أحد في ذلك فكان إجماعاً على الاحتجاج بخبر الآحاد.
ثامناً: روي عن علي بن أبي طالب: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء منه وإذا حدَّثني غيره حلفته فإذا حلف صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر(4).
وجه الدلالة: أن علي بن أبي طالب قد قبل خبر أبي بكر وعمل بمقتضاه ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً على الاحتجاج بخبر الآحاد.
__________
(1) صحيح مسلم ج 11/25. كتاب المساقاة. باب الربا. بلفظ إنما الربا في الدين.
(2) صحيح مسلم ج 11/14. كتاب المساقاة. باب الربا بلفظ الذهب بالذهب.
(3) فتح الباري ج 2/ 196.
(4) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي/ 68.(39/33)
تاسعاً: ما روي عن ابن عمر أنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة(1).
وجه الدلالة: أن ابن عمر كان يخابر طوال أربعين سنة، فلما أخبره رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة قبل الخبر وعمل به، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وكان إجماعاً على الاحتجاج بخبر الآحاد.
عاشراً: عمل زيد بن ثابت بخبر امرأة من الأنصار أن الحائض تنفر بلا وداع، فروي عن طاوس قال: كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت..؟ فقال له ابن عباس: إما لا فاسأل فلانة الأنصارية..؟ هل أمرها رسول الله بذلك؟ قال: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت(2).
وجه الدلالة: أن زيد بن ثابت كان يأمر الحائض بالمقام لطواف الوداع، فلما أخبرته تلك المرأة الأنصارية أن النبي لم يأمرها بالمقام لطواف الوداع لما حاضت عمل به ورجع عما كان عليه ولم يُنْكر عليه أحد من الصحابة فكان إجماعاً على الاحتجاج بخبر الآحاد.
والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى، فاشتهر عن الصحابة الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وحفصة وميمونة وفاطمة بنت أسد، وإلى زيد وأسامة بن زيد وأبي الدرداء وغيرهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي مما يدل دلالة واضحة على أن الصحابة كانوا يحتجون بخبر الواحد(3).
اعترض على دليل الإجماع بما يلي:
__________
(1) صحيح البخاري ج 5/ 49كتاب المساقاة. باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل رقم/2381.
(2) صحيح البخاري ج 3/ 586 كتاب الحج. باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت. برقم /1760 رواه بلفظ رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت.
(3) المستصفى ج 1/ 148. الإحكام للآمدي ج 2/ 057 كشف الأسرار للبخاري ج 2/ 374 إتحاف ذوي البصائر ج 3/ 167.(39/34)
الأول: لا نسلم أن الصحابة في الوقائع السابقة قد عملوا بمجرد تلك الأخبار الآحادية، بل يحتمل أنه اقترن بكل خبر قرائن أفاد العلم فعمل به.
وأجيب عن ذلك الاعتراض:
1 - أن هذه الوقائع التي استدللنا بها لم يكن مع الخبر أي قرينة اقترنت به، بل على العكس فقد صرح الصحابة بأنهم عملوا بمجرد خبر الواحد فقط دون أية قرائن اقترنت به.
فمثلاً قول عمر في إسقاط الجنين: "لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره" وفي خبر عائشة "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" أن الصحابة أخذوه وعملوا به وارتفع الخلاف دون أية قرينة. وفي خبر رافع بن خديج بأن النبي نهى عن المخابرة: أن ابن عمر صرح أنه لما أخبره رافع بالنهي عن المخابرة انتهى وأمر بتركها. فلو كانت هناك قرينة لَرُويت لنا وبلغتنا كما بلغنا الخبر، فثبت أنه لا قرينة(1).
2 - إن تقدير قرينة في خبر الواحد يلزم منه تقدير قرينة في نص الكتاب وخبر المتواتر، فلا يعمل بهما إلا بقرائن وأن الصحابة لم يعملوا بها إلا بقرائن وأنه لو لم توجد هذه القرائن لما عملوا بالآية أو المتواتر. وهذا باطل قطعاً لأنه يؤدي إلى إبطال أدلة الشريعة عن العمل(2).
2- إجماع التابعين:
فقال الخطيب البغدادي وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار ذلك ولا اعتراض عليه فثبت أن من دين جميعهم وجوبه؛ إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه(3).
__________
(1) إتحاف ذوي البصائر ج 3/ 171.
(2) إتحاف ذوي البصائر ج 3/ 171.
(3) الكفاية للخطيب البغدادي / 72.(39/35)
ويقول الشافعي: وجدنا علي بن حسين يقول: أخبرنا عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي قال: "لا يرث المسلم الكفار" فيثبتها سنة ويثبتها الناس بخبره سنة، ووجدنا كذلك محمد بن علي بن حسن يخبر عن جابر عن النبي وعن عبد الله بن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي فيثبت كل ذلك سنة.
ووجدنا محمد بن جبير بن مطعم ونافع بن جبير بن مطعم ويزيد بن طلحة بن ركانة ومحمد بن طلحة بن ركانة ونافع بن عجير بن عبد يزيد وأبا سلمة بن عبد الرحمن وحميد بن عبد الرحمن وطلحة بن عبد الله بن عوف وخارجة بن زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن كعب بن مالك وعبد الله بن أبي قتادة وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وغيرهم من محدثي أهل المدينة كلهم يقول حدثني فلان لرجل من أصحاب النبي عن النبي أو من التابعين عن رجل من أصحاب النبي عن النبي فيثبت ذلك سنة.
ووجدنا عطاءً وطاوساً ومجاهداً وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد وعبيد الله بن أبي يزيد وعبد الله بن باباه، وابن أبي عمار ومحدّثي المكيين. ووجدنا وهب بن منبه باليمن هكذا ومكحولاً بالشام وعبد الرحمن بن غنم والحسن وابن سيرين بالبصرة، والأسود وعلقمة والشعبي بالكوفة ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار: كلهم يُحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه والإفتاء به ويقبله كل واحد عن من فوقه ويقبله عنه من تحته.
ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبّته جاز لي(1).
وبالتالي فأجمع التابعون وتابعو التابعين على الاحتجاج بخبر الآحاد ولم ينكر عليهم أحد، ولما انقضى عصر التابعين حدث الاختلاف في الاحتجاج بخبر الواحد فخالف من خالف(2).
رابعاً: القياس (قياس الرواية على الفتوى)
__________
(1) الرسالة /455-457.
(2) إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3/ 169.(39/36)
وهو أن المفتي إذا أفتى شخصاً بحكم شرعي فإنه يجب على المستفتي وهو العامي أن يصدق ذلك المفتي ويقبل تلك الفتوى ويعمل بالإجماع. مع أن ذلك المفتي ربما يخبر عن ظنه، فإذا كان الأمر كذلك في الفتوى فإنه إذا أخبر هذا المفتي بخبر سمعه، فكذلك يجب قبول خبره وتصديقه قياساً للمخبر على المفتي بجامع أن كلاً منهما يجوز عليهما الغلط، فإن تطرق الغلط على المفتي كتطرقه إلى الراوي فإن كل مجتهد وإن كان مصيباً فإنما يكون مصيباً إذا لم يفرط، وربما ظن أنه لم يفرط ويكون قد فرط وهذا عند من يجوز تقليد مقلد بعض الأئمة أولى، فإنه إذا جاز أن يروي مذهب غيره فلم لا يجوز أن يروي قول غيره(1).
اعترض على هذا الدليل بما يلي:
أولاً: إنه قياس لا يصح الاستدلال به هنا؛ وذلك لأنه لا يفيد إلا الظن، والظن لا يقوى على إثبات قاعدة أصولية كالعمل بخبر الواحد.
وأجيب عن ذلك الاعتراض بما يلي:
أن قياس الرواية على الفتوى ليس قياساً ظنياً بل هو قياس جلي مقطوع به حيث إنه في معنى أصله؛ لأنه لو صح العمل بخبر الواحد في باب البيوع لقطعنا به في باب النكاح - مثلاً - ولم يختلف الأمر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه، والراوي يروي عن قول غيره فلا فرق بين الراوي والمفتي .
ثانياً: أن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق حيث يوجد فرق بين الرواية والفتوى، وهو أن العمل بالفتوى ضروري لأن تكليف كل واحد من العوام الاجتهاد في كل واقعة لا يمكن. أما العمل بخبر الواحد فغير ضروري لأنا إن وجدنا في المسألة دليلاً قاطعاً عملنا به، وإن لم نجد عملنا بالبراءة الأصلية ولا يلزم من جواز العمل بالظن عند الضرورة جواز العمل لا عند الضرورة.
وأجيب عن ذلك الاعتراض بما يلي:
__________
(1) إتحاف ذوي البصائر ج 3/ 192-196.(39/37)
أن قولكم – لو كلفنا كل عامي الاجتهاد في كل حادثة حدثت له فإنه يفضي إلى تعذر الأحكام ووجود حوادث بلا أحكام - ليس بصحيح؛ فإن العامي ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية، ويستصحب حال الحكم السابق الذي يعرفه؛ لأنه لا طريق له إلى المعرفة.
المبحث الثاني: أدلة منكري الاحتجاج بخبر الواحد في الأحكام والرد عليها
ذهب محمد بن داود الظاهري ومحمد بن إسحاق الكاساني -ونسبه الغزالي إلى جماهير القدرية (1) وقوم من أهل البدعة من الرافضة ومن المعتزلة(2)- إلى منع العمل بخبر الواحد في الأحكام فأنكروا الاحتجاج به، وقال الجبائي: لا يقبل في الشرعيات أقل من اثنين:(3) وهؤلاء استدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الإسراء آية:36] وقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( ( ( [البقرة آية:169] وقوله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النجم آية:28].
وجه الدلالة: حيث ذكر ذلك في معرض الذم وهو يقتضي التحريم والعمل بخبر الآحاد عمل بغير علم.
أجيب عن ذلك بما يلي:
1 - أن وجوب العمل بخبر الآحاد معلوم؛ لأن الدليل على وجوب العلم بخبر الواحد موجب للعلم قاطع للعذر - وهذا ينقلب عليهم في إبطالهم القول بخبر الواحد فإنهم حكموا بذلك، وهو غير معلوم عندهم(4).
__________
(1) المستصفى ج1 / 153. إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ج 3 / 152.
(2) خبر الواحد وحجيته. د. أحمد الشنقيطي / 452. العدة ج 3 / 861.
(3) العدة ج 3/ 861. المستصفى ج 1 / 154. الإحكام للآمدي ج 2 / 46.
(4) العدة ج 3 / 847. شرح العضد ج 2 / 057 تيسير التحرير ج 3 / 46.(39/38)
2 - أن المراد من الآيات من الشاهد عن الجزم بالشهادة فيما لم يبصر ولم يسمع والفتوى بما يرد ولم ينقله العدول. وأن وجوب العمل بخبر الآحاد معلوم بالإجماع، وهو دليل قاطع، وأن إنكارهم للعمل به حكم بغير علم والحكم بغير علم باطل، ولأن تجويز الكذب والخطأ لو كان مانعاً من العمل لمنع العمل بشهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين، وقد دل النص القرآني على وجوب الحكم بها مع جواز الكذب والخطأ فيها أو إذا كنا متفقين على العمل بها فما صح عن رسول الله أولى بالعمل(1).
ثانياً: لو جاز التعبد به في الفروع (الأحكام)؛ لجاز في الأصول والعقائد وهو خلاف الإجماع بيننا وبينكم، فكما لا يُقبل في العقائد لا يقبل في الأحكام.
أجيب عن ذلك بما يلي:
قد دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على العمل بخبر الآحاد متى صح وتوافرت فيه شروط القبول فيما تضمنه من أحكام وعقائد من غير تفريق، وما ادَّعاه المخالف من إجماع على عدم قبول خبر الآحاد في العقائد يحتاج إلى إثبات حتى يكون إجماعاً قطعياً تقوم به الحجة(2).
أما ولم يرد غير دعوى مجردة عن الدليل فلا يُتْرك العمل بالحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما دل عليه سواء كان أصولاً أو فروعاً لأنه مقتضى ما دلت عليه آيات الكتاب وأحاديث السنة وما نقل من إجماع الأمة.
ويؤيد ذلك ابن حزم بقوله: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجري على ذلك كل فرقة في عملها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك"(3).
__________
(1) خبر الواحد وحجيته. د.أحمد الشنقيطي / 255.
(2) خبر الواحد وحجيته. د.أحمد الشنقيطي / 255.
(3) الإجماع لابن حزم ج 401/103.(39/39)
ثالثاً: لم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر ذي اليدين، حيث توقف في خبر ذي اليدين حين سلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اثنتين وهو قوله: "أقصرت الصلاة أم نسيت" حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف فصدقه فأتم وسجد للسهو، ولو كان خبر الواحد حجة لأتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير توقف ولا سؤال.
فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة. وفي القوم
أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله نسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: "لم أنس ولم تقصر". فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أكما قال ذو اليدين؟". فقالوا: نعم، فقام فصلى ما ترك ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلم(1).
وجه الدلالة: حيث لم يقبل النبي خبر الواحد (ذي اليدين) بل طلب
ما يؤيده ويقويه حيث قال: "أكما يقول ذو اليدين؟" فلما شهدوا معه بقولهم: (نعم) قبل الخبر(2).
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهم غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير، ومع ظهور الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه، فحيث وافقه الباقون على ذلك ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين وعمل بموجب خبره(3).
__________
(1) صحيح البخاري ج 2/205. كتاب الأذان. باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس رقم /714.
(2) إتحاف ذوي البصائر ج 3 /176.
(3) الإحكام للآمدي ج 2 /62.(39/40)
2 - أن توقف النبي ليس لكونه يردُّ خبر الواحد، ولكن توقَّف لسبب ذلك الخبر، وهو أن النبيَّ وإن علم صدق ذي اليدين أراد أن يعلم الأمة أن الحكم للإمام إذا نبهه واحد من المأمومين هو وجوب التوقف حتى يؤيده كثير من المأمومين، إذ لو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم النبي ذلك وبينه(1).
رابعاً: ورد عن عدد من الصحابة ردُّ خبر الآحاد، فرد أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة، وردَّ عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان، وردَّ عليٌّ خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة - وأنه كان لا يقبل خبر الواحد حتى يحلفه سوى أبي بكر - وردَّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه(2).
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
1 - يحتمل أن الصحابة ردُّوا خبر الآحاد في هذه الوقائع احتياطاً، ويؤيد ذلك ما رواه عمر أنه لما فعل ذلك قال: خفت أن يُجترأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنه احتاط فأما أن يكون فعله على الوجوب فلا(3).
2 - أن هذا الدليل يعتبر دليلاً على الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام؛ وذلك لأن شهادة محمد بن مسلمة مع المغيرة، وشهادة أبي سعيد مع أبي موسى لا تنقل الخبر عن كونه آحاداً؛ لأن خبر الاثنين خبر آحاد.
__________
(1) إتحاف ذوي البصائر ج 3 /184.
(2) إتحاف ذوي البصائر ج 3 /184. إرشاد الفحول / 48. المستصفى ج 1 /153. الإحكام للآمدي ج2 /60. المعتمد ج 2 / 604. العدة ج 3 / 174. خبر الواحد وحجيته / 254.
(3) العدة ج 3 /872.(39/41)
3 - توقفهم كان لمعان مختصة بهم؛ فأبو بكر عندما توقف في قبول خبر المغيرة في ميراث الجدة - لم يتوقف بناء على عدم قبوله خبر الواحد مطلقاً، بل إنه توقف في قبول خبر المغيرة لسبب خاص بهذه الحادثة، وهو أنه رضي الله عنه أراد أن يتأكد ويستظهر من الخبر ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم آكد. وذلك لأن الخبر يخص المال والحقوق فيكون في معنى الشهادة على المال، ولا سيما إذا كان الحكم الثابت به مؤبداً، وهو ميراث الجدة، فكان توقفه وجيهاً للاحتياط والاستظهار.
وأما توقف عمر في خبر أبي موسى أيضاً لم يتوقف بناء على عدم قبوله خبر الواحد مطلقاً، ولكن توقفه كان لسبب خاص بهذه الواقعة وهو أن أبا موسى لما استأذن عمر ثلاث مرات انصرف عن بابه. ثم سأله عمر لماذا تصرَّفت هذا التصرف؟ فروى الحديث، فلما رآه عمر قد روى حديثاً يوافق الحال ويخلص به، خشي أن كل واحد إذا نابه أمر أن يصنع حديثاً بحسب حاله ليتخلص به، فطالبه بالشاهد، ويؤيد ذلك أن أبا موسى لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر: إني لا أتهمك لكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما توقف عائشة عن قبول خبر ابن عمر أيضاً: ليس لأنها لا تقبل خبر الواحد، وإنما لسبب خاص وهو أنها رأت ابن عمر قد وهم في رواية الحديث ونسب إلى النبي شيئاً لم يَقُله عن طريق الوهم، فأرادت أن تبين الحق في ذلك، فبينت أنَّ المراد بذلك الحديث هو "الكافر" وليس المؤمن. وهذا وارد بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"(1).
__________
(1) صحيح البخاري ج 3 / 150. كتاب الجنائز. باب قول النبي صلي الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته رقم /1288.(39/42)
وذكر ابن حجر: "أن عائشة رضي الله عنها توقفت عن قبول خبر ابن عمر لأنه عارض القطعي حيث استدلت بقوله تعالى: ( ? ( ( ( ( ( "(1) [سورة فاطر آية:18] فهي لم تردَّه لكونه خبرَ واحدٍ.
أما توقف عمر في خبر فاطمة بنت قيس أيضاً فليس لأنه لا يقبل خبر الآحاد، وإنما لسبب خاص بفاطمة ويؤيد ذلك قوله: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري صدقت أم نسيت" فقوله: "نسيت" صريح في سبب الرد(2).
وأما استحلاف عليٍّ للمخبر ليس لأنه لا يقبل خبر الواحد، وإنما كان عليٌّ رضي الله عنه يحتاط لنفسه، فكان لا يقبل خبر الواحد، إلا إذا حلف هذا الراوي أنه سمعه من رسول الله - ومع ذلك قبل خبر أبي بكر رضي الله عنه بغير يمين. فلو لم يكن خبر الواحد حجة مطلقاً لما قبل خبر أبي بكر رضي الله عنه بمفرده، ولأن من لا يقبل خبر الواحد مطلقاً لا يقبله مع اليمين(3).
خامساً: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتصر في الإشهاد على عقوده على اثنين، فدل على أن الواحد غير مقبول(4).
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
أنه لم يشهد على عقوده النساء والعبيد ولم يدل ذلك على امتناع قبول خبرهم(5).
سادساً: قياس الخبر على الشهادة فكما أن الشهادة لا تقبل إلا من اثنين فكذلك الخبر.
أجيب عن ذلك الدليل بما يلي:
أن الشهادة قد تقبل من واحد في رؤية الهلال وفي شهادة القابلة، وأن الشهادة مؤكدة بما لم يؤكد به الخبر، وهو أنها لا تسمع حتى يبحث عن حال الشهود، وقبل الخبر ممن ظاهره العدالة من غير بحث عنه.
__________
(1) فتح الباري ج 3 / 151.
(2) الإحكام للآمدي ج 2 / 61. المستصفى ج 1 / 154.
(3) إتحاف ذوي البصائر ج 3 /185.
(4) العدة ج 3 / 875.
(5) العدة ج 3 / 875.(39/43)
ويقبل خبر العنعنة، وهو قول الراوي عن فلان كذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهادة العنعنة لا تقبل حتى ينقل اللفظ فيقال: أشهدني فلان على شهادته بكذا واللفظ يعتبره في الشهادة دون الخبر، وتقبل فيه النساء ولا تقبل في كثير من الشهادات فكانت الشهادات أقوى فاعتبر فيها العدد، ولم يُعتبر في الخبر وإنما كان كذلك؛ لأن حكم الخبر يستوي فيه المخبر والمختبر - والشهادة لا يستوي فيها الشاهد والمشهود له. فلهذا قبلنا الواحد في هلال رمضان لأنه يستوي فيه الشاهد والمشهود له فبان الفرق بينهما(1).
تعقيب: ذكره الشوكاني في إرشاده بقوله: "وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له مصنف بسيط، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل في بعض الأحوال فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة أو تهمة الراوي أو وجود معارض راجح ونحو ذلك"(2).
وبالتالي فأخبار الآحاد جزء لا يتجزأ من السنة النبوية بل هي الجزء الأغلب منها، نظراً لندرة المتواتر بسبب صعوبة توافر شروطه، لذلك فإن حجية أخبار الآحاد لا ينفك عن إثبات حجية السنة.
الخاتمة
وتتضمن أهم النتائج التي توصل إليها البحث:
أولاً: أن الخلاف في إفادة خبر الآحاد العلم أو الظن خلافٌ لفظيٌ؛ لأن الذين يقولون إن خبر الآحاد يفيد الظن يقولون بوجوب العمل به فكيف يتصور العمل بدون علم؟ فالعمل فرع تصور العلم.
ثانياً: أن تخصيص الاحتجاج بأخبار الآحاد في الأحكام دون العقائد تخصيص بدون مخصص ولا أصل له يعتمد عليه ولا سند له.
__________
(1) العدة ج 3 / 878 .
(2) إرشاد الفحول/ 49.(39/44)
ثالثاً: أن الاحتجاج بأخبار الآحاد في العقائد يؤكد وحدة الاحتجاج بالسنة، كما يؤكد استمرار منهج السلف في عدم التفريق بين ما رواه الواحد والاثنان وما رواه الجماعة في العقيدة والشريعة سواء بسواء.
رابعاً: لا يظن ظان أن الأصوليين كلّهم رفضوا الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد؛ بل من الأصوليين المنصفين من ذهبوا إلى الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد.
خامساً: حجية أخبار الآحاد ثابتة على الأحكام كافة.
سادساً: أن خبر الواحد العدل الصحيح لا يقوم على شيء، ولا يعارض بآراء الناس ولا يجوز أن يرد بما اشترطه الناس من شروط ليست في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولاهي مما أجمع عليه علماء الحديث.
سابعاً: منهج الصحابة والتابعين وأئمة السنة بعدهم الاحتجاج بالأحاديث في أمور الدين دون تمييز بين متواترها وآحادها.
ثبت بأهم المصادر والمراجع
إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر للدكتور/عبد الكريم النملة، ط/الأولى 1996م.
إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي، تحقيق د.عبد الله الجبوري مؤسسة الرسالة.
الأحكام في أصول الأحكام الآمدي، مكتبة ومطبعة الحلبي.
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ط الأولى 1345هـ.
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، طبعة الحلبي 1356هـ.
أشراط الساعة، يوسف عبد الله الوابل، ط السادسة عشر 1423هـ دار ابن الجوزي.
أصول الاعتقاد، د.عمر سليمان الأشقر، ط أولى1410هـ دار النفائس.
البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
البرهان لإمام الحرمين الجويني تحقيق د.عبد العظيم الديب، الدوحة 1399هـ.
التمهيد في أصول الفقه، تحقيق د. مفيد أبو عمشة، مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي جامعة أم القرى، مكة المكرمة.
تيسير التحرير لأمير بادشاه دار الكتب العلمية بيروت.(39/45)
الجامع الصحيح، هو سنن الترمذي لأبى عيسى بن سورة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار الكتب العربية. بيروت – لبنان.
خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته، للقاضي برهون.
خبر الواحد وحجيته، د. أحمد الشنقيطي.
سنن ابن ماجه، الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، حقق نصوصه محمد فؤاد عبد الباقي. مطبعة دار إحياء الكتب العربية.
شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، تصحيح د/شعبان إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية.
شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، حققه جماعة من العلماء المكتب الإسلامي 1399هـ.
شرح الكوكب المنير، للفتوحي الحنبلي، تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد.
صحيح البخاري بشرح فتح الباري - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر للنشر والتوزيع.
العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الحنبلي، مؤسسة الرسالة.
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام للبزدوي الإمام عبد العزيز البخاري دار الكتاب العربي ـ بيروت.
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم اختصره الشيخ محمد الموصلي.
مذكرة أصول الفقه محمد الأمين محمد المختار الشنقيطي، ط الأولى 1409هـ مكتبة ابن تيمية.
المسودة في أصول الفقه لأبي تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
المعتمد في أصول الفقه لابن الحسين البصري، تقديم خليل الميس.
الوصول إلى الأصول، للبغدادي، تحقيق د/عبد الحميد أبو زنيد.
فهرس المحتويات
المقدمة…1
المطلب الأول: مكانة السنة في التشريع…2
المطلب الثاني: بيان مصطلحات البحث:…6
الفصل الأول: الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد…11
المبحث الأول: إفادة خبر الآحاد العلم أو الظن…12
المبحث الثاني : الأدلة على وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد…23
المبحث الثالث: شبه منكري الاحتجاج بخبر الآحاد في العقائد والرد عليهم…31
الفصل الثاني: الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام…37(39/46)
المبحث الأول: الأدلة على وجوب الاحتجاج بخبر الآحاد في الأحكام…38
المبحث الثاني: أدلة منكري الاحتجاج بخبر الواحد في الأحكام والرد عليها…53
الخاتمة…61
ثبت بأهم المصادر والمراجع…62
فهرس المحتويات…65(39/47)
حجية خبرالآحاد
في العقائد والأحكام
إعداد الشيخ
ربيع بن هادي عمير المدخلي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنّ الله ابتعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - والبشرية كلها تتخبط في ظلمات حالكة مطبقة من الجهل والشرك والكفر والضلال والظلم، قال تعالى: ? الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اتب? ? [إبراهيم: 1].
فقام بهذه الرسالة على أكمل وجوهها، واستجاب له خير أمة أخرجت للناس ممن اختارهم الله لحمل رسالة الإسلام والجهاد والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل نشرها والذود عن حياضها، فقاموا بكل ما يتطلبه الإسلام من التلقي الواعي لما جاء به هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة مشرقة وضاءة شارحة ومبينة لأهداف القرآن ومقاصده ومبادئه ومثله.
ثم بتبليغ هذين النورين- بعد تطبيقهما الكامل في حياتهم- إلى أمم الأرض وشعوبها بالدعوة الواضحة والبيان.
فهدى الله تلك الأمم وأخرجها من الظلمات إلى النور واستضاءت بنور الإسلام وتفيأت ظلاله بعد أن رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وأقبلت على تعاليم الإسلام وتوجيهاته من كتاب وسنة تنهل من نميرهما حفظاً واعياً وتطبيقاً صادقاً في مجال العقيدة والعبادة والاقتصاد والحكم، فبلغوا بهذه الحياة على هذين المصدرين أوج العزة وقمة السعادة في الدنيا والآخرة، ونعموا بحياة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية من العدالة والأخوة والمحبة الصادقة في الله، والإيثار في جنب الله، والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع أجناس الأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام لا فرق بين عربيهم وعجميهم ولا بين أبيضهم وأسودهم وأحمرهم.(40/1)
فأثارت هذه الحياة الهنيئة الراضية مكامن الحسد والبغضاء والغيظ على هذه الأمم التي أصبحت أمة واحدة كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد؛ فشرع أولئك الحاقدون من سلالات المجوس واليهود يحيكون الدسائس السياسية ويرسمون الخطط لزلزلة هذا البنيان المحكم وتحطيم أركانه سياسياً واجتماعياً وعقدياً من عدة طرق.
منها: الطعن في الإسلام عموماً وفي القرآن والسنة والصحابة الكرام.
ومنها: اختراع الأحاديث الباطلة على رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - حتى وصلت الأحاديث المكذوبة إلى ألوف مؤلفة، فتصدى لهم الجهابذة من نقاد أئمة الحديث، ففندوا أكاذيبهم وكشفوا عوارهم، فلم يتركوا كاذباً ولا أحاديث مفتراة إلا سلطوا عليها الأضواء الإسلامية، وجعلوها تحت المجاهر فانكشف حالها وحال مخترعيها.
بل امتد نشاط هؤلاء النقاد العباقرة إلى وضع قواعد متينة يعرف بها الصحيح من السقيم ولو كان غير كذب، وألَّفوا في ذلك المؤلفات، ووضعوا قواعد للجرح والتعديل؛ تميّز الراوي العدل الضابط من الضعيف والمجروح، وألفوا في ذلك المؤلفات فبلغوا بهذه الأعمال الجليلة في الحفاظ على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة درجة لا نظير لها في تأريخ الإنسانية.
وأضافوا إلى ذلك التأليف في العلل والموضوعات، وقبلها التأليف في الصحيح والحسن، فأصبح بذلك أمر السنة واضحاً كالشمس لا يلتبس فيه الصحيح بالضعيف فضلاً عن الموضوع والمختلق.
وإلى جانب هؤلاء طوائف زائغة تبنت عقائد وأفكاراً باطلة.
ومن المؤلم المؤسف جداً أن وجدوا أنفسهم وعقائدهم في مواجهة نصوص الكتاب والسنة فلجؤوا إلى التحريف والتأويل لنصوص الكتاب والمتواتر من السنة حتى تتفق هذه النصوص في زعمهم مع معتقداتهم الباطلة، ولجؤوا إلى وضع قواعد تدفع في نحور السنن أحياناً، وتلوي أعناقها أحياناً إلى حيث توافق أهواءهم واتجاهاتهم الضالة الباطلة.(40/2)
فمن تلكم القواعد قولهم: "إنّ أخبار الآحاد لا يحتج بها في باب العقيدة؛ لأنها لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن"، فكم أساءت هذه المقولة الباطلة إلى الإسلام، وكم أهانت من حديث عظيم من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخفت به. وامتدت هذه القاعدة إلى إنكار قضايا عقدية تبلغ أدلتها حد التواتر، مثل: أحاديث نزول عيسى، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وأحاديث المهدي، وغيرها مما يؤدي إنكاره إلى هدم عقيدة الإسلام من أساسها، بل بعضها تطابق في الدلالة عليها الكتاب والسنّة، مثل: رؤية الله في الدار الآخرة.
ومن تلكم القواعد الضالة: " كل ما لم يوافق العقل وكل ما لم يوافق الذوق من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب رده "، ويجعلون من جهلهم بالكتاب والسنة ومن عقولهم القاصرة وأذواقهم الفاسدة موازين لأخذ ما شاؤوا ورد ما شاؤوا من أقوال أفضل الرسل، وأعقل العقلاء الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وكادت هاتان الطائفتان أن تنقرضا، ولكن عزّ على أعداء الإسلام أن تخبو نار الفتنة، وأن تضع الحرب الموجهة ضد الإسلام أوزارها.
فهب أعداء الإسلام من يهود وماسونيين ومستشرقين ومستعمرين لإيقاظ هذه الفتنة من سباتها أو نبشها من قبورها المندثرة، ثم بثها في الشرق والغرب وفي صفوف أبناء الأمة الإسلامية ولا سيما المثقفين والجامعيين، وانضم إلى صفوف هؤلاء الأعداء سفهاء وأغبياء من أبناء جلدتنا ومن يتكلم بلغتنا، فكان هجومهم على السنة أشد وأعنف، وكانوا أشد خطراً على الإسلام من أعداء الإسلام المكشوفين الواضحين.
ولكن الله الذي تعهد بحفظ دينه ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ازب?[الحجر:9] لهؤلاء جميعاً - من أعداء الإسلام الواضحين، وأعداء السنن المندسين في صفوف الإسلام، واللاهثين وراءهم- بالمرصاد.(40/3)
فكما جنَّد لحماية السنة المطهرة في السابق جنوداً من أئمة الحديث والسنة مخلصين، فدحرت جيوش الباطل وجنود إبليس في السابق، فكذلك جنَّد في اللاحق وفي هذا العصر بالذات من يتصدى لهؤلاء المتربصين بالسنن النبوية والعقائد الإسلامية ويدحرهم ويردهم على أعقابهم خاسئين ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ اتذثب*¨bخ)ur جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) ?[الصافات:171-173].
فلقد هبّ حماة الإسلام في السابق واللاحق يدافعون عن سنن المصطفى، ويهاجمون خصومها حتى تعلو كلمة الحق ويزهق الباطل:? وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ x@دـ"t7ّ9$# كَانَ زَهُوقًا ارتب? [الإسراء:81]. ففي السابق كان علماء الحديث والسنة وعلى رأسهم: الشافعي (ت204هـ)، وأحمد
ابن حنبل(ت241هـ)، وابن قتيبة (ت276هـ)، ثم ابن تيمية (ت728هـ)، وابن القيم (ت751هـ)، جنوداً بواسل في دحر هذه الشراذم الضالة.
وفي العصر الحاضر هبّ لدحرهم علماء السنة الفضلاء مثل: الأستاذ محمد عبد الرزاق حمزة، وعبد الرحمن المعلمي، وعلامة الشام ومحدثها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد الله بن يابس النجدي، وغيرهم من الغُيُر على الإسلام والسنّة.
ولا يزالون - ولله الحمد - بالمرصاد لكل من يرفع رأسه بفتنة أو بشغب على الإسلام من قريب أو بعيد ويريد النيل من القرآن والسنة، قال تعالى: ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ازب? [الحجر:9].
ولقد أسهمت أنا العبد الضعيف في الذب عن السنة والمنهج الإسلامي بعدة إسهامات منها: " كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها".
ومنها: "تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف".
ومنها: هذا البحث المتواضع الذي أشارك به اليوم في "ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية". هذا وقد قسمت بحثي إلى مقدمة وفصول:(40/4)
الفصل الأول: بيان منزلة السنّة في الكتاب والسنّة.
الفصل الثاني: منزلة السنة عند الصحابة الكرام فمن بعدهم من خيار الأمة وسادتها.
الفصل الثالث: ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها.
الفصل الرابع: ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها.
الفصل الخامس: حجج أهل السنة على أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تفيد العلم لا الظن.
والله أسأل أن ينفعني والمسلمين بهذا البحث وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
الفصل الأول:بيان منزلة السنّة في الكتاب والسنّة
تعريف السنة:
هي في اصطلاح المحدثين: كل ما أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو سيرة، والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوي.
ولها منزلة عظيمة وميزات مرتبطة بميزات ومنزلة الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - منها:
1- لقد ميز الله رسوله بالعصمة فيما يبلغه عن ربه -عز وجل-، وهي ميزة جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. وهذه العصمة ليست خاصة بتبليغ القرآن بل في كل ما يبلغه عن ربه - عز وجل - من قول أو فعل أو تقرير فهو لا ينطق عن الهوى كما قال تعالى: ?ةOôf¨Y9$#ur إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى احب?[النجم: 1-4]، ومن خصّ هذه العصمة بتبليغ القرآن دون سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد ضل وغوى.
2- وقرن الله الإيمان بهذا الرسول الكريم بالإيمان به - عز وجل- في كثير من الآيات .(40/5)
قال تعالى:? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا (#qçR$x2 مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ادثب? [النور:62].
وقال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اثرب? [الحديد: 28].
وقال تعالى:? لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ازب? [الفتح: 9].
فالإيمان به يقتضي الإيمان بكل ما جاء به وأخبر عنه من الأمور الماضية والمستقبلة من أخبار الرسل وأممهم وأخبار الجنة والنار وأهلهما وأشراط الساعة والملاحم وغيرها.
3- وأحلّه الله عز وجل منزلة رفيعة، هي أن يكون المبين لكتابه، والمفسر لما أجمل من آياته، والمخصص لعموماته، والمقيد لمطلقاته، فقال عز من قائل:? بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ اححب? [النحل:44]. فيالها من منزلة عظيمة أرغم الله بها أنوف من لم يرضوها ومضوا يجادلون فيها بالباطل.
4- وأمر سبحانه بطاعته في مواضع كثيرة تربو على ثلاثين موضعاً، وقرن طاعته بطاعته. بل جعل طاعته طاعة لله، ومعصيته معصية لله، قال تعالى:? مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ارةب? [النساء: 80].(40/6)
وقال تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ xwur تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ اثةب? [الأنفال:20].
وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اخزب? [النساء:59].وقال تعالى : ? قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ xw يُحِبُّ الْكَافِرِينَ اجثب?[آل عمران:32].
فهذا التأكيد على طاعته مقرونة بطاعة الله، وهذا الأمر بالرد إلى الله والرسول ليس له معنى إلا الانقياد له - صلى الله عليه وسلم -، واعتقاد وجوب طاعته، والحذر من معصيته.
5- ووعد الله بأعظم الجزاء لمن يطيع الله ورسوله في غير ما آية، منها: قوله تعالى عقب تفصيل المواريث: ? تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ اتجب? [النساء:13].
ومنها: ? وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا اذةب? [النساء:69-70].
6- ونفى الإيمان عمن لا يحكمه في شؤون الدين والدنيا أو يجد حرجاً في الاحتكام إليه أو لا يسلّم تسليماً ظاهراً وباطناً لقضائه.(40/7)
قال تعالى: ? xxsù وَرَبِّكَ xw يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ xw يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا |Mّٹxزs% وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ادخب? [النساء:65].
7- وحذّر الله من مخالفته أشد التحذير، وتوعَّد من يخالف أمره بالسقوط في الفتنة وبالعذاب الأليم، قال تعالى: ? لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ادجب? [النور: 63].
8- ووصف من يتهرب من الاحتكام إليه ويصد عنه وعن حكمه بالنفاق، قال تعالى: ? وَإِذَا x@ٹد% لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ادتب? [النساء:61].
9- ووصف من يعرض عن حكمه ولا يذعن له بأنّهم غير مؤمنين، وأن دعواهم الإيمان كاذبة، وبأنّ في قلوبهم مرضاً، ووصفهم بالظلم وسوء الظن بالله وبرسوله.
فقال: ? وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ اخةب? [النور 48- 50].(40/8)
10- وجعل الله من علامات المؤمنين الصادقين الاستجابة لمن يدعوهم إلى حكم الله ورسوله، وإعلان السمع والطاعة، وشهد لهم بأنهم هم المفلحون والفائزون فقال:? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrâ"ح!$xےّ9$# اخثب? [النور:51-52].
ووعد الله سبحانه وتعالى من يطيع الرسول بالهداية إلى الحق فقال تعالى:? قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا x@دiHنq وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اخحب? [النور: 54].
11- وميز الله الذكر المنزل عليه بالحفظ، وهذا الذكر يشمل القرآن والسنة، وهي بيانه ولا يتم حفظ القرآن إلا بحفظ بيانه.
وهذا كما يشهد به القرآن يشهد به الواقع وتاريخ هذه الأمة، وجهاد فحولها في الحفاظ على السنة وحفظها واتخاذ كل الوسائل الحكيمة، واستخدام الأصول والطرق والمناهج لتحقيق هذا الحفظ في أجلى صوره وأمتنها ولا يجحد هذا إلا مكابر.
هذه المزايا وغيرها - مما لا يتسع المقام لذكره- لهذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - تعطي بداهة عند أولي النهى والألباب مكانة وإجلالاً لسنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنها براهين ساطعة وحجج قاطعة مع القرآن، جنباً إلى جنب في كل أبواب الدين والدنيا في العقائد والعبادات والمعاملات والسياسة والاجتماع والاقتصاد .(40/9)
ومن رأى أو قال غير هذا فقد تاه، وضل ضلالاً مبيناً، وشاقَّ الله ورسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين.? إِنَّ اللَّهَ xw يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا اتتدب? [النساء:115].
ومن السنّة:
ما جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي"(1).
وعن المقدام بن معديكرب -- رضي الله عنه -- قال: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: "يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدّث بحديث من حديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله -عز وجل- فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإنّ ما حرم رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مثل ما حرّم الله" (2).
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/899)، بلاغاً، والحاكم في المستدرك (1/93) متصلاً مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2937)، وقال ابن عبدالبر في التمهيد (24/331): ((وهذا أيضاً محفوظ معروف مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد)).
(2) أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن (1/6) حديث (12)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه حديث (12)، وأخرجه أبو داود في السنة حديث (4604) بلفظ أطول وفيه: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه...))، وأخرجه الترمذي في العلم، حديث (2664).(40/10)
وعن أبي رافع -- رضي الله عنه -- أنّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: "لا ألفينّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" (1).
وعن أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أنّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: "كلّ أمتي يدخلون الجنّة إلا من أبى"، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟، قال: "من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى" (2).
وعن أبي موسى -- رضي الله عنه -- عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: "إنّما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً، فقال: يا قوم إنّي رأيت الجيش بعينيَّ، وإنّي أنا النذير العريان، فالنّجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذّبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتّبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق" (3).
الفصل الثاني:منزلة السنّة عند الصحابة الكرام فمن بعدهم من خيار الأمة وسادتها
أولاً: منزلة السنة عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة حديث (4605)، والترمذي في العلم حديث (2663)، وابن ماجه في المقدمة حديث (13)، وإسناده صحيح وصححه الألباني في صحيح أبي داود وصحيح ابن ماجه.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام حديث (7280).
(3) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام حديث (7283)، ومسلم حديث (2283).(40/11)
1- سألت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراثها مما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها أبو بكر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، فغضبت على أبي بكر وهجرته... فأبى عليها ذلك أبو بكر وقال: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ"(1).
كأنه كان نصب عينيه قول الله تعالى: ? لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ادجب? [النور: 63].
2- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي وائل قال: جلست إلى شيبة في هذا المسجد، قال: جلس إليّ عمر في مجلسك هذا، فقال: "هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت: ما أنت بفاعل، قال:لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك قال: هما المرآن يقتدى بهما " (2).
وقد يكون حكم المسألة الكبيرة في القرآن والسنة، فيكتفي الصحابة في الاستدلال عليها ببعض من السنة، فلا يسمع معارضاً لا من الصحابة ولا من التابعين؛ لأن سنّة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم جميعاً حجة وأي حجة مثل القرآن، ولها عندهم منزلة وأي منزلة.
__________
(1) …صحيح البخاري فرض الخمس حديث (3093 ).
(2) …الصحيح، الاعتصام بالسنة حديث (7275 ) وهو في مسند الإمام أحمد (3/410 ).(40/12)
3- وروى الشيخان عن أبي هريرة- - رضي الله عنه -- قال: "لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر- رضي لله عنه-: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله -عز وجل- قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحق"(1).
إنَّ كُلاًّ من أبي بكر وعمر قد احتج بالسنة في حضور الصحابة الكرام وأقروهما على هذا الاستدلال، وهما أفضل الصحابة، وفي المسألة نصان من القرآن الكريم، وهما: قوله تعالى:? فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا no4qx2¨"9$# فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اخب? [التوبة:5]. وقوله تعالى:? فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا no4qx2¨"9$# فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتتب?[التوبة: 11]. وترجح رأي أبي بكر؛ لأنّ مانعي الزكاة أخلُّوا بشروط العصمة الواردة في الحديث الذي استدل به عمر وفي الآيتين المذكورتين وفي غيرهما.
__________
(1) …البخاري في الزكاة حديث (1400 ) ومسلم في الإيمان حديث (20 ).(40/13)
والشاهد أن في احتجاج أبي بكر وعمر بالسنة في مسألة عظيمة منصوص عليها في القرآن وبحضور الصحابة الكرام، دليلاً واضحاً على منزلة السنة عند الصحابة جميعاً، وأنه لا ينكر على أحد إذا سلك هذا المنهج، وأن للمسلم أن يسلك هذا المنهج وله أن يجمع بين القرآن والسنة، وله أن يكتفي بالنص من القرآن؛ شريطة أن يكون استدلاله صحيحاً بعيداً عن اتباع الهوى وتتبع المتشابهات، كما هو فعل أهل الأهواء والزيغ، ومنهم أعداء السنة وخصومها.
4- ولما قال معبد الجهني وجماعة معه في البصرة بالقدر، وبلغ ذلك ابن عمر من طريق يحيى بن يعمر وحميد بن عبدالرحمن الحميري قال ابن عمر: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"، ثم روى عن أبيه الحديث المشهور الذي فيه سؤال جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان. فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أسئلته إجابة شافية، ومن إجابته عن السؤال عن الإيمان قوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" (1).
والشاهد أن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر اكتفى في هذه المسألة العقدية الكبيرة بالاحتجاج بالسنة النبوية مع أن هناك آيات في الإيمان بالقدر، وفي هذا دليل على منزلة السنة عند أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والأدلة من تصرفاتهم كثيرة لا يتسع المقام لسردها.
__________
(1) …صحيح مسلم، الإيمان حديث (1).(40/14)
5- وعن سالم بن عبدالله بن عمر أن عبدالله بن عمر قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها " قال: فقال بلال بن عبدالله: والله لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبدالله فسبّه سباً سيئاً ما سبَّه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: "والله لنمنعهن"(1).
6- وعن سعيد بن جبير أن قريباً لعبدالله بن مغفل خذف فنهاه، وقال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف، وقال: "إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدواً ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، ثم تخذف لا أكلمك أبداً " (2).
7- ورحل كل من أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبدالله الأنصاري مسيرة شهر من أجل حديث واحد.
هذه هي منزلة السنة النبوية عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سار على نهجهم التابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى في تعظيم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحتجون بها في كل جوانب الدين العقدية والعملية، ويعملون بها في كل شؤون حياتهم ويشدون الرحال إلى مختلف البلدان لحفظها وتدوينها ونشرها وتعليمها كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ثانياً: منزلة السنّة عند التابعين وأهل الحديث والفقهاء.
1- اهتموا بحفظها والتفقه فيها والتعبد بها، فتجد الواحد منهم يحفظ ألوف الألوف من الأحاديث.
2- اهتموا بالرحلة في سبيلها، فتجد الكثير منهم يرحل إلى البلدان المختلفة ليتلقاها من أفواه العلماء بها، حتى إن بعضهم ليرحل مسافة شهر من أجل حديث واحد.
3- اهتموا بتدوينها في المصنفات والجوامع والمعاجم والمسانيد وكتب الصحاح والسنن.
__________
(1) صحيح مسلم، الصلاة حديث (442 ).
(2) صحيح مسلم، الصيد والذبائح حديث (1954 ) وأخرجه البخاري في الذبائح والصيد حديث (5479 ) وفيه " لا أكلمك كذا وكذا ومثله في مسلم أيضاً ".(40/15)
4- اهتموا بتواريخ رجالها من ولادتهم إلى وفياتهم، وبيان أحوالهم من قوّة وضعف، وأحوالهم في شيوخهم -أيضاً- من قوّة وضعف. وبيان أحوال الحفاظ المتقنين والنقاد المبرزين، وأحوال من تغيّر حفظه ومتى حصل هذا التغير، ومن روى عنهم قبل التغير وبعده، كل ذلك في كتب الرجال المشهورة، بل خصّصوا كتباً في الحفاظ وطبقاتهم، وفي المدلّسين وطبقاتهم، وفي المختلطين، وفي الضعفاء والمتروكين، وألفوا كتباً في علومها، وألّفوا الكتب في الوضع والوضاعين.
كلّ ذلك نصحاً لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين، وحفاظاً على السنّة النبوية، وحماية لها، وتمييزاً بين مقبولها ومردودها.
وتحقّق بهذه الأعمال وعد الله ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ازب? [الحجر:9].
مما حدا بأحد أئمة الحديث -وهو أبو حاتم محمد بن حبان البستي- أن يقول::" ولو لم يكن الإسناد وطلب هذه الطائفة له لظهر في هذه الأمة من تبديل الدين ما ظهر في سائر الأمم، وذلك أنه لم يكن أمة لنبي قط حفظت عليه الدين عن التبديل ما حفظت هذه الأمة، حتى لا يتهيأ أن يزاد في سنة من سنن رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- ألفٌ ولا واوٌ، كما لا يتهيأ زيادة مثله في القرآن، لحفظ هذه الطائفة السنن على المسلمين، وكثرة عنايتهم بأمر الدين، ولولاهم لقال من شاء ما شاء." (1).
الفصل الثالث:ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها
لأهل الأهواء من المتكلمين وغيرهم شبه أثاروها ضدّ سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتهم وجهوها ضد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضد أئمة الحديث، فتصدى لأباطيلهم وشبهاتهم وطعونهم عددٌ من أئمة الإسلام: كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، وابن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم.
__________
(1) …كتاب المجروحين (1/25).(40/16)
ولقد رأيت الإمام ابن قتيبة أطال النفس في تصديه لهم، ونصّ على عدد من رؤوس أهل الضلال، وفنّد مطاعنهم؛ فآثرت أن أقدم للقراء بعض جهوده -رحمه الله- في كتابه "تأويل مختلف الحديث"(1):
قال - رحمه الله - "بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: أسعدك الله تعالى بطاعته، وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله، فإنك كتبت إليّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضاً وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث، فالخوارج تحتج بروايتهم " ضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم"(2).
و"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم". و"من قتل دون ماله فهو شهيد".
والقاعد يحتج بروايتهم: "عليكم بالجماعة فإن يد الله عزّ وجل عليها".
و"من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".
و"اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدّع الأطراف"(3).
ثم ساق عدداً من الروايات الباطلة والروايات الصحيحة التي يرون أنها متناقضة، ويطعنون بالجميع في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي أهل الحديث، وفي هذا دلالة على ضلالهم وجهلهم، فالصحيح من الروايات غير متناقض، والباطل منها إنما هو من افتراءات أهل الأهواء، وقد بيّن ذلك أهل الحديث فلا وجه للطعن عليهم ".
ثم قال مبيناً حال أهل الكلام:
"(باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي).
__________
(1) …(ص:3).
(2) …ضعيف، انظر: السلسلة الضعيفة للألباني، حديث (1643 ).
(3) …هذه الأحاديث صحيحة، لكن القوم لم يفقهوها.(40/17)
1- قال أبو محمد: "وقد تدبرت -رحمك الله- مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل.
ومعاني الكتاب والحديث، وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية(1).
ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما؛ وضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج.
ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً.
ولو ظهر لهم من يدعي النبوة -مع معرفتهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية- لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً.
وقد كان يجب -مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون؛ لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق.
لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين.
فـ"أبو الهذيل العلاف" يخالف "النظَّام" و"النجار" يخالفهما، و"هشام بن الحكم" يخالفهم، وكذلك "ثمامة"، و"مويس"، و"هاشم الأوقص"، و"عبيدالله ابن الحسن"، و"بكر العمى"، و"حفص"، و"قبّة"، وفلان وفلان.
ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه، وله عليه تبع"(2).
2- قال أبو محمد: "لو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم.
__________
(1) …هذه ألفاظ يستعملها المتكلمون يخالفون بها نصوص الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح، ولا سيما في أبواب صفات الله عز وجل.
(2) ص:14-15)(40/18)
ولكن اختلافهم، في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبيّ إلا بوحي من الله تعالى.
ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم.
فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما، يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد"(1).
3- "ولو أردنا - رحمك الله - أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف، لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون.
وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين، وعلى الإيمان بعذاب القبر، لا يختلفون في هذه الأصول، ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه.
وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموض وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال -مقروءاً ومكتوباً، ومسموعاً، ومحفوظاً- غيرُ مخلوق فهذا الإجماع"(2).
4- "فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام، لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس، وحسن النظر، وكمال الإرادة، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم، ونعتقد شيئاً من نحلهم، وجدنا النظّام شاطراً من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش، والشائنات وهو القائل:
ما زلتُ آخذُ رُوح الزِقِّ في لُطُف
... وأستبيحُ دماً من غير مجرُوحِ
... حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدي
... والزقُّ مُطَّرَحُ جسمٍ بلا روحِ"(3)
__________
(1) …(ص:15).
(2) …(ص:16).
(3) ص:17-18).(40/19)
ثم ذكر من ضلالاته قوله: يجوز أن يجمع المسلمون جميعاً على الخطأ، وأنه طعن في حديث:" بعثت إلى الناس كافة"، وادعى أن كل نبي كذلك.
وحكى عنه أقوالاً باطلة في الطلاق والظهار والوضوء والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت بالتناقض في أقوال افتراها عليهم، والطعن في عبدالله بن مسعود -- رضي الله عنه -- وتكذيبه في حديث انشقاق القمر وحديث خلق الجنين في بطن أمه..."(1)، وفيه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
كما طعن في حذيفة -- رضي الله عنه --، وأبي هريرة -- رضي الله عنه --، وأن عمر وعثمان وعلياً وعائشة قد كذبوه.
وقد تابعه في الطعن في أبي هريرة أحمد أمين وأبو رية كافأهما الله بما يستحقان، وقد رد ابن قتيبة هذه الطعون(2).
ثم ذكر بكراً صاحب الطائفة البكرية، وذكر من أقواله: أن من سرق حبة خردل، ثم مات غير تائب فهو في النار مخلد فيها أبداً مع اليهود والنصارى، وذكر بعض ضلالاته ثم ناقشه فيها(3)، وذكر هشام بن الحكم وأنه كان رافضياً غالياً وأنه غال في الجبر. وذكر له شناعات أخرى(4).
ثم قال: " ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله تعالى ويؤمن به.
__________
(1) ومن المؤسف أن محمداً الغزالي المعاصر قد تابعه في الطعن في ابن مسعود وتكذيبه في هاتين القضيتين، وطعن في عبدالله بن عمرو بن العاص ومعاوية -رضي الله عنهما- كما شارك في الطعن في أهل الحديث وكثير من الأحاديث النبوية.
(2) …انظر: (ص:18-43).
(3) …(ص: 46).
(4) …(ص :48-49).(40/20)
ومن المحفوظ عنه المشهور أنه رأى قوماً يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة، فقال: انظروا إلى البقر انظروا إلى الحمير، ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي بالناس"(1)، يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالرجل شعوبي حاقد على الإسلام ونبي الإسلام.
ثم ذكر محمد بن الجهم البرمكي، وذكر اشتغاله بكتب أرسطاطاليس في الكون والفساد والكيان وحدود المنطق بها يقطع دهره في ذلك. ويعارض رسول الله في عدد من الأحاديث فيقول بخلافها عمداً وعناداً (2).
ثم ذكر الجاحظ وتلاعبه إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج لفضل السودان على البيضان.
وتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة، ومرة يفضل علياً -- رضي الله عنه -- ومرة يؤخره. ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين.
وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث ، يريد بذلك استمالة الأحداث، وشرّاب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوَّده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وذكر له مساوئ أخرى.
ثم قال: "وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل(3)".
ثم قال: "وبلغني أن من أصحاب الكلام من يرى الخمر غير محرمة، وأن الله تعالى إنما نهى عنها على جهة التأديب كما قال تعالى: ? xwur تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ xwur تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا اثزب? [الإسراء: 29].
__________
(1) …(ص: 49).
(2) …(ص: 49-50).
(3) ص: 59 - 60).(40/21)
ومنهم من يرى نكاح تسع، ومنهم من يرى شحم الخنزير وجلده حلالاً ومنهم من يقول: إن الله لا يعلم شيئاً حتى يكون، ولا يخلق شيئاً حتى يتحرى، وذكر لهم آراء فاسدة، منها: اختلافهم في ثبوت الخبر إلى أقوال، منها أنه يثبت بعشرين رجلاً، ومنها أنه يثبت بسبعين بناء على استدلالات عجيبة ثم رد عليهم رداً علمياً جيداً.
وذكر لهم تفاسير للقرآن عجيبة، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم.
وذكر أنه أعجب من تفسيرهم تفسير الرافضة وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر، وفسّر الجفر بأنه جلد جفر ادَّعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إلى علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة.
وقولهم في قول الله عز وجل: ? وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ اتدب? [النمل: 16]. إنّه الإمام ورث علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله عز وجل: ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ادذب? [البقرة: 67]، إنّها عائشة، وقوله:? فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ اذجب? [البقرة: 73]، إنّه طلحة والزبير.
وقولهم في الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر.
والجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو"، ثم قال: "مع عجائب أرغب عن ذكرها".
ثم ذكر بعض فرقهم، ثم قال: "ولا نعلم في أهل البدع والأهواء أحداً ادّعى الربوبية لبشر غيرهم وذكر أن ابن سبأ فعل ذلك" (1).
__________
(1) ص: 60- 73).(40/22)
ذكر هذه الفرق ورؤوسها ليبين ضلالهم ومن ذلك طعنهم في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقد ناقش ضلالاتهم خلال هذه الصفحات وفيما بقي من كتابه رحمه الله، وقد ورثهم أقوام في هذه الضلالات سيأتي ذكر بعضهم ومناقشتهم إن شاء الله.
ثمّ ذكر أهل الحديث وفضائلهم فقال: "فأما أصحاب الحديث، فإنهم التمسوا الحق من جهته وتتبعوه من مظانّه، وتقربوا من الله باتباعهم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً وشرقاً وغرباً يرحل الواحد منهم راجلاً مقوياً(1) في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة، ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي"(2).
ثم ضرب عدداً من الأمثلة لأحاديث موضوعة كيف ردوها ونصوا على واضعيها، وذكر أحاديث صحيحة كشف وجوه إشكالها وبيَّن مخارجها على طريق أهل العلم الراسخين.
ثم واصل بحثه في رد الأباطيل وبيان مخارج الأحاديث وصحة معانيها ورداً لمطاعن الزنادقة والمنحرفين عن النهج القويم، ومنها أحاديث باطلة تعلق بها أبو رية وأمثاله للطعن في السنة، ومنها أحاديث صحيحة هوش عليها النظام وأمثاله.
وقد تصدَّى للرد على هؤلاء المرجفين على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" تحت عنوان "الحجة في تثبيت خبر الواحد" ذكر فيه حججاً كثيرة توجب قبول خبر الواحد العدل، ثم قال -رحمه الله تعالى-: "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان. وذكر أهل المدينة، ومنهم: سعيد بن المسيب وعروة والقاسم بن محمد وعدَّد آخرين منهم.
__________
(1) المقوي هو: الذي لا زاد معه. [انظر مختار الصحاح، مادّة قوي].
(2) ص: 73 - 74).(40/23)
وذكر من أهل مكة: عطاء، وطاوساً، ومجاهداً، وابن أبي مليكة، وعكرمة ابن خالد.
ومن أهل اليمن: وهب بن منبه، ومكحولاً. وعبد الرحمن بن غنم بالشام، والحسن، وابن سيرين بالبصرة.
وعلقمة والأسود والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إليه والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن فوقه ويقبله عنه من تحته.
ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي.
ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"(1).
وفي كتاب "جماع العلم"(2) حيث ناظر رؤوس منكري السنة بحضور عدد من هذه الفئة الضالّة التي ترد الأخبار كلّها فدحض أباطيلهم وشبهاتهم بردود قوية وحجج دامغة تبين منزلة الرسول الكريم ومنزلة سنته - صلى الله عليه وسلم - وتدحض أباطيل هؤلاء المرجفين المعارضين وتثبت حجية السنة النبوية.
كما ناقش في كتابه "جماع العلم"(3) -أيضاً- فئة أخرى ترد أخبار الآحاد بحجج بيّنة واضحة قويّة.
كما تصدى لهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي -رحمه الله- في كتابه "الرد على بشر المريسي"(4)، فقد ضمَّن هذا الكتاب الردّ على تحريفهم وتعطيلهم لصفات الله كاستواء الله على عرشه وتأويل الوجه واليدين والسمع والبصر وإنكار رؤية الله في الآخرة.
ثم دلف إلى الحثّ على طلب الحديث، والرد على من زعم أنه لم يكتب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والذب عن الصحابة وأصحاب الحديث وأهل السنة وفضّلهم على غيرهم، والذب عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، والذب عن معاوية وعبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-.
__________
(1) الرسالة (ص:453-458)
(2) ص:4-19).
(3) ص:20-57).
(4) ص:127-140)(40/24)
والذابون عن السنة والصحابة وأهل الحديث لا يحصون في قديم الزمان وحديثه وإنما نذكر في هذا البحث من ذلك ما يتيسر لنا ذكره.
كما نذكر من خصوم السنة وأهلها ما يتسر لنا ذكره مع دحض أباطيلهم وجهالاتهم.
الفصل الرابع:ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها
وفي القرن الرابع عشر استفحلت الفتنة ضد الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة، وأقول: كتاباً وسنة؛ لأنّ الطعن في السنة طعن في القرآن. على أيدي أناس ينتمون إلى الإسلام.
وجاءت فتنتهم امتداداً للفتن السابقة ومبنية على شبهاتها، وانتشرت الفتنة في الشرق والغرب على أيدي بعض أعداء الإسلام من المستشرقين أحياناً، وعلى أيدي أناس ينتسبون إلى الإسلام في الغالب، ويرجع هذا البلاء في نظري إلى مدرستين يجمعهما عصر واحد وهدف واحد كان من ورائهما الاستعمار الصليبي.
إحداهما: مدرسة أحمد خان الهندي مؤسس جامعة عليكره.
لقد تأثر هذا الرجل بالحضارة الغربية تأثراً عميقاً فدفعه ذلك إلى الدعوة بحماس إلى تقليدها، وإلى تفسير الإسلام والقرآن بما يطابقها ويطابق هوى الغربيين، بل أرى أنه إلى جانب هذا كان متأثراً بفكر الباطنية يظهر ذلك في تفسيره وكتاباته.
لقد نسب إليه أنه أنكر الجنة والنار.
وقال عن الملائكة إنها: "القوى المدبرة للعالم التي يمكن السيطرة عليها أو هي القوى التي في مقدور الإنسان تسخيرها"(1).
وقال عن الجن بأنهم:" سكان الغابات والصحاري من البشر"(2).
__________
(1) مقالات سرسيد (2/220 )، كل ما عزوته إلى المقالات فهو نقل عن كتاب القرآنيون لخادم حسين من (ص102-106 ).
(2) في كتابه الجن والجان (ص:5) ، نقلاً عن كتاب القرآنيون وشبهاتهم للأستاذ خادم حسين (ص: 102).(40/25)
ومثل تأويله الشيطان: بأنه القوى العدائية التي لا يملك الإنسان السيطرة عليها(1). بل أنكر الأحاديث الثابتة التي تدل على أنهم خلقوا من نار، وأنها تتحرك بالإرادة وتتشكل بأشكال مختلفة(2).
هذا ما نقله عنه الشيخ محمد إسماعيل السلفي في كتابه "مقالات سرسيد"، وأضف أن إنكاره هذا لم يتوقف عند إنكار السنة بل تجاوزه إلى إنكار الآيات القرآنية المصرحة بأن الله خلق الجان من مارج من نار.
قال تعالى: ?ڑYn=y{ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ اتخب?[الرحمن: 14-15].
وقال تعالى:? وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ اثذب? [الحجر:27].
وقال تعالى لإبليس حين أبى أن يسجد لآدم:? قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ اتثب? [الأعراف:12].
ومن الجنّ ذرية إبليس، قال تعالى: ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا اخةب? [الكهف:50].
ولقد جره تهوُّره في إنكار المغيبات وإنكار المعجزات إلى إنكار ما صرح به القرآن الكريم، كإنكاره إلقاء إبراهيم- عليه الصلاة السلام- في النار، وإنكاره ولادة عيسى -عليه الصلاة السلام- من غير أب، والتقام الحوت ليونس -عليه الصلاة والسلام-.
فمثل هذا الرجل الذي جمع بين العقلية الغربية والباطنية لا يستغرب منه أن يتناول السنة بالطرق الباطنية، أو ينكرها، أو يضع لتأويلها وإنكارها القواعد والمناهج الفاسدة المشككة فيها.
__________
(1) مقالات سرسيد (1/219 ).
(2) المصدر السابق (2/252 )(40/26)
انظر إليه يقول: "بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ظلت الروايات تتناقل على الألسنة إلى عهد التصنيف في الكتب المعتمدة غير أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الهيئة التي دونت بها كتب الأحاديث تلك التي كان مبناها روايات الذاكرة. بينما البعد الزمني كفيل بمزج الزائد بها وإضافة الجديد إليها"(1).
ويؤكد تشكيكه في السنة ورواتها بقوله: "بأن مادُوِّن في هذه الكتب من الأحاديث إنما هي ألفاظ للرواة ولا نعرف ما بين الأصلي-الصادر من شفتيه عليه الصلاة والسلام- والمعبر به من وفاق وخلاف، وليس من العجب أن يخطئ أحد الرواة في فهم الحديث مما يكون سبباً في ضياع المفهوم الصحيح"(2).
ويقول: "وإنَّا لا ندري عن الأحاديث التي وثقت، أَوُجِّهَت الجهود إليها من حيث المضمون والمحتوى أم لا؟، وأي السبل سلكت في ذلك؟."(3).
وجهل هذا الرجل أو تجاهل ما كان يتمتع به الصحابة والتابعون وأئمة الحديث وحفاظه من الأمانة والعدالة والحفظ المذهل، وجهل أو تجاهل العناية التي لا نظير لها في أمة من الأمم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفظاً ومراعاة لألفاظها ومعانيها.
وإذا كان لا يدري: هل الجهود قد وجهت إلى الأحاديث من حيث المضمون والمعنى أو لا، ولا يدري أي السبل التي سلكت في ذلك؛ فكل هذا راجع إلى جهله أو سوء قصده، وتاريخ أئمة الحديث وواقعهم يشهدان أن جهودهم العظيمة كانت موجهة إلى الأسانيد وإلى ألفاظ الحديث ومعانيه بدقة بالغة لا تجد لها نظيراً.
__________
(1) مقالات (2/23 ).
(2) مقالات (1/49 ).
(3) مقالات (1/23 ).(40/27)
ومن المستنكر المستفظع لدى العقلاء أن يأتي إنسان جاهل بعلم من العلوم أو صناعة من الصناعات الدنيوية فيضع لها قوانين وشروطاً يمليها على كبار خبرائها وعباقرتها ظاناً أنه قد أَتى بما لم تستطعه الأوائل، وظاناً أنّ أهل تلك العلوم قد قصرت مداركهم عن الشروط والقوانين التي عن طريقها يتقنون علومهم وصناعاتهم ويحفظونها من الخلل والضياع.
فلو جاء هذا المسكين إلى كبار المتخصصين في الطب أو الهندسة أو علماء الذرة، أو جاء أعجمي لا يعرف العربية إلى فطاحل علوم النحو والتصريف والبلاغة بأنواعها يقترح عليهم ضوابط وقواعد لعلومهم فهل سيقابل بالتقدير والاحترام؟.
وما مصير العلوم الشرعية والدنيوية لو قبلوا من الجهلة والموسوسين ما يتخيلونه من المقترحات والشروط عليهم؟
إنه الهدم كما يريد هذا الرجل وأمثاله لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل للقرآن نفسه.
يقول أحمد خان:" والمعيار السليم لقبولها: هو أن ينظر إلى المروي بمنظار القرآن فما وافقه أخذناه وما لم يوافقه نبذناه..، وإن نسب شيء من ذلك إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيجب فيه توافر شروط ثلاثة:
1- أن يكون الحديث المروي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجزم واليقين.
2- أن توجد شهادة تثبت أن الكلمات التي أتى بها الراوي هي الكلمات النبوية بعينها.
3- ألاَّ يكون للكلمات التي أتى بها الرواة معان سوى ما ذكره الشرَّاح.
فإن تخلف أحد هذه الشروط الثلاثة لم يصح نسبة القول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أنه حديث من أحاديثه"(1).
والجواب أن يقال:
أولاً: إذا تحقق الشرط الأول على ما فيه من بلاء فيكون اشتراط الأخيرين من هذيان يقصد بهما التهويل.
__________
(1) مقالات (1/40 ).(40/28)
لقد وضع علماء الحديث شروطاً حيث قالوا في تعريف الحديث الصحيح:" هو رواية عدل تام الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ"، ولهم بحوث عميقة في رد الروايات المردودة -ومنها المكذوب المفترى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -- كفيلة بحفظ السنة وحمايتها من الدخيل والكذب والأخطاء والأوهام.
قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-: " معرفة الموضوع المختلق المصنوع، وعلى ذلك شواهد كثيرة:
منها:
1- إقرار واضعه على نفسه قالاً أو حالاً.
2- ومن ذلك ركاكة ألفاظه وفساد معناه.
3- أو مجازفة فاحشة.
4- أو مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة.
فلا تجوز روايته لأحد من الناس إلاَّ على سبيل القدح فيه ليحذره الناس ومن يغترّ به من الجهلة والعوام والرعاع"(1).
ثم قال:" والواضعون أقسام كثيرة:
منهم زنادقة،ومنهم متعبدون يحسبون أنهم يحسنون صنعاً... إلخ "(2).
وقد بين الحافظ ابن حجر الدوافع إلى الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رحمه الله:
" والحامل للواضع على الوضع:
1- إما عدم الدين، كالزنادقة.
2- أو غلبة الجهل، كبعض المتعبدين.
3- أو فرط العصبية، كبعض المقلدين.
4- أو اتّباع هوى بعض الرؤساء.
5- أو الإغراب لقصد الاشتهار"(3).
وهناك أسباب أخرى يطعن بها في الرواة تضمن التعريف السابق الإشارة إليها؛ منها ما يتعلق بالعدالة، ومنها ما يتعلق بالضبط.
فالمتعلق بالعدالة، مثل: الكذب وتهمة الراوي به والفسق والجهالة والبدعة.
والمتعلق بالضبط، مثل: فحش الغلط أو الغفلة أو وهم الراوي أو مخالفته للثقات أو سوء الحفظ.
وهناك شروط تتعلق بالإسناد، حيث اشترط فيه المحدثون الاتصال بعد اشتراطهم للعدالة والضبط في الرواة.
__________
(1) مختصر ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح (ص: 78) تعليق أحمد شاكر.
(2) المصدر نفسه (ص: 78).
(3) نزهة النظر (ص: 45) نشر مكتبة طيبة.(40/29)
ولقد اشترط المحدثون لصحة الرواية اتصال الإسناد من أوله إلى آخره، فإذا حصل سقط راو في إسناد في أي موضع منه لا يقبل المتن الذي جاء عن طريق هذا الإسناد الذي حصل فيه السقط، فما وقع السقط من آخره -بأن سقط منه الصحابي بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والراوي عنه- سمي: مرسلاً.
وإن كان السقط من أوله من بعض المصنفين سمي: معلقاً.
وإن كان السقط في أثناء الإسناد فإن كان الساقط واحداً سمي: منقطعاً، وإن كان باثنين فصاعداً على التوالي سمي: معضلاً، ويلحق بذلك التدليس، وهو: أن يروي الراوي عن شيخ قد سمع منه ما لم يسمعه منه موهماً أنه قد سمعه من شيخه.
والإرسال الخفي، وهو: أن يروي الراوي عن شيخ عاصره ولم يلقه، وهناك أمور أخرى روعيت بدقة ودراسات طويلة ودقيقة جداً لحماية سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تسلل الكذب وتطرق الخلل إليها من أي ناحية من النواحي، ولا يتسع المقام لذكرها وموضعها كتب علوم الحديث.
وهي أحوط، وأشد حماية وضبطاً ودفعاً للدخيل على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يضعه الجاهلون المغرضون من الشروط.
ولأئمة الحديث من الإدراك والوعي وقوة التمييز بين الحق والباطل، وما يصح نسبته إلى رسول الله وما لا يصح ما يبهر العقول. ولا أدل على ذلك من القصة التي ساقها ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه: الجرح والتعديل(1) عن أبيه وأبي زرعة حيث جاء رجل من جلة أصحاب الرأي ومعه دفتر فيه أحاديث فعرضها على أبي حاتم، فحكم عليها أبو حاتم -طبعاً من واقع خبرته بالأسانيد ورجالها ومن واقع تذوقه الأحاديث الصحاح وألفاظها، أن هذا باطل، وهذا كذب، وهذا منكر وسائر ذلك أحاديث صحاح.
فبهت الرجل واندهش فذهب وعرضها على الإمام أبي زرعة فقال فيها نحوا مما قال به أبو حاتم فازداد استغراباً واندهاشاً فقال: "ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما".
__________
(1) ص : 349 - 351 )(40/30)
فقال ابن أبي حاتم معلقاً على هذه القصة:
((قال أبو محمد: تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في الماء والصلابة علم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم)).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: " فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره"(1).
قال: "واعلم أن حديث(2) المنكر يقشعر له جلد طالب العلم منه وقلبه في الغالب"(3).
وقال الإمام ابن القيم في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف(4)": "فصل: وسئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط، من غير أن ينظر في سنده؟.
فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع من معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول - صلى الله عليه وسلم -، كواحد من أصحابه.
ثم قال -رحمه الله-: فصل: "ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً.
فمنها:
1- اشتماله على مثل هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضرب لذلك مثالاً (5).
2- ومنها: تكذيب الحس له كحديث:
"الباذنجان لما أكل له"، و"الباذنجان شفاء لكل داء" قبح الله واضعهما فإن هذا لو قاله يوحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه... إلخ".
وضرب عدداً من الأمثلة لهذا النوع.
__________
(1) الموضوعات (1/106 ).…
(2) الظاهر أنه "الحديث".
(3) الموضوعات (1/103 ).
(4) ص: 43-44 ).
(5) ص: 50 ).(40/31)
3- ومنها: سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه، كحديث: "لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ما أكله جائع إلا أشبعه "؛ فهذا من السمج البارد الذي يصان عنه كلام العقلاء، فضلاً عن كلام سيد الأنبياء.
وحديث: " الجوز دواء والجبن داء، فإذا صار في الجوف صار شفاءً "، فلعن الله واضعه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
ثم ذكر أمثلة متعددة لهذا النوع.
4- ومنها: مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بينة، فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه بريء.
ومن هذا الباب:
أحاديث مدح من اسمه محمد أو أحمد وأن كل من تسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار.
وهذا مناقض لما هو معلوم من دينه - صلى الله عليه وسلم -: أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة... (2).
5- ومنها: "أن يدعي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل فعلاً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم، وأنهم اتفقوا على كتمانه، ولم ينقلوه كما يزعم أكذب الطوائف وضرب لذلك مثلاً بحديث الوصية لعلي، وأن الشمس رُدَّتْ له بعد العصر، والناس يشاهدونها (3)".
6- ومنها: أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وضرب لذلك عدداً من الأمثلة منها:
حديث:" المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش ".(4)
7- ومنها: أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو وحي يوحى... بل لا يشبه كلام الصحابة".(5)
ثم ضرب لذلك عدداً من الأمثلة.
8- ومنها: أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله:
"إذا كان سنة كذا وقع كيت وكيت".
__________
(1) ص: 54 ).
(2) ص: 56-57 ).
(3) ص: 57 ).
(4) ص 59 ).
(5) ص 61 ).(40/32)
وضرب لذلك مثالاً ثم قال: "وأحاديث هذا الباب كلها كذب مفترى".(1)
9- ومنها: أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق كحديث " الهريسة تشد الظهر ".(2) ثم ذكر أمثلة أخرى.
10- ومنها: أحاديث العقل كلها كذب كقوله لما خلق الله العقل قال له أقبل... إلخ ثم نقل عن الدارقطني: أن كتاب العقل وضعه أربعة فذكرهم منهم ميسرة بن عبد ربه.
11- ومنها: الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد وساق في ذلك أقوال بعض الأئمة وحججهم من الكتاب والسنة ومن المعقول من عشرة أوجه (3).
12- ومنها: ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل، مثل: حديث:" وضع الجزية عن أهل خيبر"، ثم قال: "وهذا كذب من عدة وجوه(4) وساق عشرة أوجه.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: "فصل: في ذكر جوامع وضوابط كلية في هذا الباب(5)".
وساق عدداً من هذه الجوامع والضوابط مقرونة بأمثلتها إلى آخر كتابه(6) تركتها لأن المجال لايتسع لها.
فهل يعرف هؤلاء الجهال المغرضون هذه الضوابط والأصول التي حافظت على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يفلت منها حديث مكذوب أو حديث فيه خطأ ولو كلمة واحدة؟، وهل عرفوا مدى العبقرية التي حباها الله لأئمة الحديث النقاد الصيارفة الذين أعدهم الله أيما إعداد لحماية السنة والحفاظ عليها وفاءً بما وعد من حفظه وحيه وذكره؟ وهل عرف الجهلة المغرضون مدى الجهل الذي يتخبطون فيه ومدى الحماقات التي ارتكبوها، ومنها: التطاول على سنة رسول الله ورجالها الأفذاذ. وهل أدركوا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه سيفضحهم ويرد كيدهم خاسئين؟.
13- ومنها: أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الطويل، الذي قصد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء(7).
__________
(1) ص: 63-64 ).
(2) ص: 64 ).
(3) ص: 67-76 ).
(4) ص102-105).
(5) ص106).
(6) ص155).
(7) ص: 76-79 ).(40/33)
ثم بين بطلانه بالأدلة من وجوه، ثم ضرب أمثلة أخرى لهذا النوع.
14- ومنها: مخالفة الحديث صريح القرآن.
كحديث مقدار الدنيا: " وأنها سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة".
ثم قال: " وهذا من أبين الكذب لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسون سنة ".
وساق الأدلة من القرآن والسنة على بطلان هذا الحديث.
أقول: ومما يؤكد كذب هذا الحديث أن هذه الأمة قد تجاوزت الألف السابعة بأربع وعشرين وأربعمائة سنة.
قال العلامة المجاهد المحدث الشيخ ثناء الله الأمرتسري رحمه الله(1)في الرد على فتنة أحمد خان وما ترتب عليها ونشأ عنها:
"ما أشأم ذلك اليوم الذي خرج فيه صوت عليكره المخالف لجميع الأمة الإسلامية الداعي إلى اعتماد القرآن وحده في الدين، وأن السنة لا تكون دليلاً شرعياً، فأثر هذا الصوت على الحافظ محب الحق عظيم آبادي في بتنه (بالهند)، كما أثر في عبد الله جكرالوي في لاهور تأثيراً عظيماً"، يعني بالرجلين المذكورين مؤسسي دعوة القرآنيين.
والجكرالوي هذا قد ترجم له الشريف عبد الحي بن فخر الدين الحسني في كتابه "نزهة الخواطر"(2).
ومن ترجمته قوله: "الذي دعا الناس إلى مذهب جديد سماهم أَهلَ الذكر دعاهم إلى القرآن وأنكر الأحاديث قاطبة، وصنف الرسائل في ذلك، وقال إن الناس افتروا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورووا عنه الأحاديث وما كان ينبغي له أن يقول ويفعل شيئاً ليس له ذكر في القرآن.
__________
(1) مجلة أهل الحديث ص 3 عدد مارس 1948م نقلاً عن كتاب القرآنيون وشبهاتهم حول السنة.
(2) 8/289-291 ).(40/34)
وأما ما ورد في القرآن ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اخزب? [النساء:59]، والمراد به القرآن فليس القرآن والرسول شيئين متغايرين يجب اتباع كل واحد منهما على حدة.
فالمراد بالرسول في قوله تعالى:? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا اتذةب? [النساء:170].
وقوله تعالى:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اخزب? [النساء: 59].
وقوله: ? وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ احرب? [النور: 48].
وقوله: ? قَاتِلُوا الَّذِينَ xw يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ xwur بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ xwur يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ xwur يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ اثزب? [التوبة:29].
وقوله: ? قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ اجتب? [آل عمران:31].
وغيرها من الآيات الكريمة في(1) القرآن".
__________
(1) كذا، وواضح أن كلمة (في) أقحمت خطأً(40/35)
وهذه زندقة واضحة تجاوزت زندقة الباطنية، وإسقاط للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
وللقرآنيين زعماء آخرون، مثل: الخواجة أحمد الدين، والحافظ محمد أسلم، وغلام أحمد برويز، ولهم تلاعب بدين الله وشعائره لا يتسع المقام لذكره، وقد تولى نقاشهم علماء الهند وباكستان، وبينوا كفرهم وزندقتهم، وأنهم ليسوا من هذه الأمة المحمدية.
وفتنتهم امتداد لفتنة أحمد خان وللحركات الباطنية، كما أن لها تعلقاً بتأويلات وآراء الجهمية والمعتزلة والروافض والفرق التي تابعتها في هذه الآراء والتأويلات، مما يحتم على المسلمين رفض هذه الآراء والتأويلات التي تفتح الباب للزنادقة لهدم الإسلام وتقويض مقوماته وأركانه والتلاعب بشعائره، والعودة إلى الإسلام الفطري الخالص من الشوائب والبعيد كل البعد عن هذه الآراء المنحرفة والتأويلات الباطلة.
أقول: يجب رفض هذه التأويلات والآراء المنحرفة؛ لأنني رأيت لهذه الفرقة الملحدة شبهاً من بينها شبه موروثة عن المعتزلة والخوارج والروافض، كالقول بأن أخبار الآحاد تفيد الظن، وأنها تحتمل الصدق والكذب.
قال أحد زعمائهم وهو الحافظ محمد أسلم:
" لا تتجاوز السنة مرحلة أخبار الآحاد طبقاً للأصول التي أقرَّها المحدثون، ولا تبلغ رواية من رواياتها إلى التواتر المفيد للعلم واليقين"(1).
ويقول: "كما أن تمحيصها بعلم الجرح والتعديل قياسي مبناه التخمين والظن.. فليست السنة ظنية وحدها بل معيار فحصها ظني أيضاً"(2).
__________
(1) سيأتي الرد على هذا في الرد على القائلين بأن أخبار الآحاد تفيد الظن.
(2) مجلة أهل الحديث (ص: 9) عدد 3 إبريل 1936م وتعليمات قرآن (ص: 2): ويقول بمثله برويز ومحب الحق، انظر: " مقام حديث " (ص: 37) وبلاغ الحق (ص: 115) "، نقلاً عن صاحب كتاب القرآنيون (ص: 253).(40/36)
ألا يكفي هذا زاجراً لمن عنده احترام لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرة عليها عن التعلق بهذا الأصل الفاسد، وألا يكفيه دافعاً لمحاربته ورفضه، ثم السير على منهاج السلف وفي ركاب أهل السنة والحديث الذين رفضوه وحاربوه من فجر التاريخ.
ثانياً: مدرسة جمال الدين الأفغاني أو الإيراني المتوفىسنة 1314? .
فإن على هذا الرجل مآخذ كبيرة وقوية لا يتسع المقام لذكرها.
أما موقفه من السنة، فيوضحه قوله:
أ- "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده".
وهذا القول هو الذي تراجع إليه محمد توفيق صدقي مع الشك في صدق هذا التراجع.
ب- " القرآن القرآن، وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز، وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المدقع "(1).
ولا أدري ما هذه الكنوز التي دفنها المسلمون وطفقوا يفتشون في فيافي الجهل عن الفقر المدقع طوال أربعة عشرة قرناً حتى جاء الأفغاني فاكتشفها أهي تفسيرات الباطنية؟! أم هي تأويلاته لنصوص القرآن لمطابقة سياسة الغرب واكتشافاته وتقاليده الفاسدة؟!.
__________
(1) خاطرات جمال الدين الأفغاني محمد المخزومي (ص:99)، بواسطة المدرسة العقلية (ص:76).(40/37)
وقال جمال الدين الأفغاني:" قرأت في القرآن أمراً تغلغل في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو ? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا xw تَعْلَمُونَ اجةب?[البقرة:30]، فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان، وأن ذلك الإنسان - الخليفة - سيصدر منه موبقات وسيئات، أعظمها وأهمها:ـ أنه يسفك الدماء، فقالت - بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى، وعالم الأنوار والأرواح، الذي لا يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق? قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ y7s9?[البقرة:30]، ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان، ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغواً بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء".
ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول:" وبأبسط المعاني أن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض، وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء، وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال:? وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ اجتب? [البقرة:31]".
وهذا تفسير ديمقراطي، كأن الملائكة حزب معارض.(40/38)
ويفسر آيات أخرى فيقول:" غضب سليمان -عليه السلام- على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال: ?y]s3yJsù غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) ? [النمل:22]، غير ملفق ولا مشوب بالكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام
?'خoTخ) وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ اثجب? [النمل:23]، ثم يقول بعد ذلك ?$yg?‰y`ur وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ xw يَهْتَدُونَ اثحب? [النمل:24]،" ثم يقول بعد ذلك: "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة ? قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً #¶گِDr& حَتَّى تَشْهَدُونِ اجثب? [النمل:32]، وبعد أن تداول مجلس الأمة - الوزراء اليوم مثلاً- واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا للملكة وأنبؤوها أنه في إمكانهم محاربة سليمان بما توافر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب ? قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيد وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ اججب? [النمل:33]"، ثم مضى بعد يقول:" فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من الريح يمتطيها وتجري بأمره -طيارات مثلاً- وسرعة نقل الأخبار والأشياء - التلغراف اللاسلكي مثلاً -".(40/39)
وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا xw تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا Zpxےyè"xزoB وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اتجةب?[آل عمران:130]،بـ"جواز أكل الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المدين ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة".
ويفسر ? وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً xwur وَلَدًا اجب?[الجنّ:3] "بالعرش" "لأنَّ جدّ معرب كدّ، ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية"، وهذا تفسير باطل إذ يصير المعنى "وأنه تعالى عرش ربنا".
ويفسر ? وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا اجب?[النساء:3] بأنه " قيّد من خاف أن لا يعدل ((بالمرأة الواحدة)) وترك لمن يخشى أن لا يعدل - حتى مع الواحدة- عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل مادام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل".
ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول? وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا احذب? [الكهف:47] : "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي، وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم، فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً، وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدث من الزلزال العظيم، لا شك تتبعثر الأرض لبعدها عن المركز، وتنسف الجبال نسفاً، وتتحول براكين هائلة، وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من الحيوان وتقوم القيامة والله أعلم"(1).
__________
(1) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 87-90).(40/40)
وهذا تفسير باطل ، فمصير الأرض والسموات والجبال والشمس والقمر والكواكب مصير واحد ، تحدث عنه القرآن في عدد من سوره من ذلك قول الله تعالى: ?#sŒخ) السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ اجب?[الانفطار:1-5].
وقوله تعالى: ?#sŒخ) الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ اتحب? [التكوير:1- 14].
وقال تعالى: ? فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى $ygح!%y`ِ'r& وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ xw تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ اترب? [الحاقة:13- 18].
فمصير هذا الكون واحد والنهاية واحدة، فلماذا لا يتحدث الأفغاني إلا عن مصير الأرض فقط مفصولة عن الكون وبحديث يختلف عن حديث القرآن والإسلام والمسلمين؟!.
ولماذا يتحدث على الطريقة الغربية لا على الطريقة الإسلامية المستمدة من القرآن -الذي يرى أنه وحده كتاب الهداية- فلماذا لا يهتدي به؟!.
وهل يرى أزلية الكون أو أبديته، فلا يلحقه التغير الذي تحدث عنه القرآن وآمن به المؤمنون؟!.(40/41)
قال محمد حميد الله في مجلة الفكر الإسلامي(1)في مقال" صلات آرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني" العبارات الآتية: عند قراءة المحاضرة (يعني: محاضرة رينان التي يرد عليها الأفغاني) لا يقدر الإنسان على منع نفسه من التساؤل: أن أصل تلك العوائق هل هو من دين المسلمين أو من خصائص الملل التي أكرهت بالسيف على قبول ذلك الدين "؟
ومنها: "وفي الحقيقة إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية وطرد الأذهان عن طلب الحقيقة العلمية".
ومنها: "كان هذا صحيحاً أن دين المسلمين يعوق من تطور العلم، فهل يقدر أحد على أن يدعي أن هذه الطائفة سوف لا تزول يوماً؟ ففيم يختلف دين المسلمين في هذا من سائر الأديان؟ إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً كل واحد حسب شاكلته، إن المجتمع النصراني الذي تحرر واستقل الآن يتقدم بادي الرأي سريعاً في سبيل التقدم والعلوم بينما المجتمع الإسلامي لم يتحرر إلى الآن من تسلط الدين".
ومنها: "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر ما هو معروف نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن الخلاص من مخالبه".
ومنها: "... ولماذا لم يزل العالم العربي مغطى بالظلمات العميقة؟ في هذه الناحية تظهر مسؤولية الدين الإسلامي كاملة. ومن الظاهر أن هذا الدين حيثما حل حاول خنق العلوم".
هذه النصوص نقلها الأستاذ محمد حميد الله من جريدة "جورنال ديه ديبا" الفرنسية المؤرخة في 18 مايو1883 "(2).
__________
(1) بيروت، السنة الثانية، العدد الثاني.
(2) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 160).(40/42)
فإن صحت عنه فإنما تدل على حقده الخطير على الإسلام وظلمه الكبير له بتصويره في هذه الصورة الشوهاء التي لا يفتريها ألد الأعداء لهذا الدين العظيم، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأعتقها من الأغلال والآصار التي ضربها عليها محرفو الأديان وفتح الآفاق أمام العقول والمدارك.
ج- ومن أقواله الخطيرة التي خاطب بها أتباعه في مصر قوله:
"إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتنتزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط".
إلى أن قال: "وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار تيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح"(1)
انظر كيف عدَّ الفتح الإسلامي دخول مستعمرين مستبدين لا يفرق بينه وبين الاستعباد والاستبداد اليوناني والروماني إلخ.
وانظر كيف يشيد بحضارة الفراعنة ويحض المصريين على الاعتزاز بها، ورؤية الفلاح والرشد في التشبه بهم.
إنّه لا يستغرب مثل هذا المكر والموقف من الإسلام من رجل فيلسوف رافضي ماسوني، وإنما المستغرب أن يكون له أتباع في بلاد الإسلام من مفكرين ومفسرين يعظمونه، ويسيرون على منواله، إن لم يكن في كل شيء ففي أصول ومناهج أثخنت في الإسلام والمسلمين.
__________
(1) زعماء الإصلاح في العصر الحديث (ص: 72-73)، والأستاذ الإمام (ص:46-47).(40/43)
يرى هذا الرجل -إن صدق في قوله- أن سبب الهداية هو القرآن وحده وهو وحده العمدة فيقول (1):"القرآن وحده سبب الهداية، أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم، فينبغي ألا نعول عليه كوحي، وإنما نستأنس به كرأي، ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه، لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه، ألسنا مكلفين بالدعوة إلى الإسلام وحمل الأمم على قبوله؟ وهل تمكن الدعوة من دون ترجمة تعاليم الإسلام إلى لغة الأقوام الذين ندعوهم؟
هل في طاقة سكان البرازيل -مثلاً- إذا أردنا دعوتهم إلى الإسلام أن يفهموا كنه الإسلام من ترجمة علماء الإسلام وآرائهم المتشعبة في تفسير القرآن والحديث؟
ألق نظرك على فهرست أحد الكتب الدينية الكبرى، وتأمل فيها ما الذي يمكن عرضه والدعوة إليه من أحكامه وتعاليمه وما لا يمكن تجد أن ما لا يمكن العمل به ولا الدعوة إليه ولا تطبيق مفاصله أصبح عبئاً يجب الاستغناء عنه بما يمكن، والممكن هو ما في القرآن وحده" (2).
أقول:
أ- وهذا فيه صرف الناس عن السنة النبوية التي لا يفهم كثير من نصوص القرآن ولا يمكن تطبيقها إلا بالسنة المبينة لمجملاته والمخصصة لعموماته والمقيدة لمطلقاته والمتحدثة عن كثير مما سكت عنه القرآن، كما هو إلغاءٌ لتفسير أئمة الإسلام، ومن سار على نهجهم من أعلام الأمة في فهم القرآن ومعرفة معانيه ومقاصده ومراميه.
ب- إن الرجل يريد أن يفك ارتباط المسلمين بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتراث سلفهم الصالح ثم ربطهم بضلالاته وخرافاته بما فيها من إلحاد وهدم للإسلام تلك الطوام التي أسلفنا الإشارة إليها قريباً.
__________
(1) جمال الدين الأفغاني، لعبدالقادر المغربي، بواسطة المدرسة العقلية (ص: 86).
(2) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين للشيخ مصطفى صبري (1/281).(40/44)
هذا هو مغزى هذا الرجل ومن وراءه من الاستعماريين والماسونيين، وبهذا القول أخذ منكرو السنة النبوية ومنهم محمد توفيق صدقي في أول أمره حيث كتب مقالاً أو مقالين تحت عنوان "الإسلام هو القرآن وحده".
وحامل لواء هذه المدرسة ومرسخ جذورها هو محمد عبده المصري الذي ضخمه النافخون في كير هذه الفتنة الكبيرة، فسمَّوه بالأستاذ الإمام، فإنَّ له مقالات تدل على فساد عقيدته وقبح منهجه، فمنها-على سبيل المثال-قوله:
"إن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنزاع فيه، ونحن الآن مبينون -بعون الله- ماهيّة هذا الوطن وبعض ما يجب على ذويه"(1)، ثم قام ببيان ذلك بطريقة ليست من الإسلام في شيء.
إنّ الإسلام هو الذي يحارب النزاع والخلاف بين أهله، أما القومية والوطنية فلم تمنع النزاع والخلاف بين أهلها في يوم من الأيام لا في غابر التاريخ ولا في حاضره.
ثم أين وضع هذا الرجل الإسلام حينما دعا إلى هذه الوحدة بين طوائف المسلمين واليهود والنصارى والأغلبية فيها للمسلمين؟.
ومن كوارثه المزلزلة للإسلام وأهله: دعوته إلى التقريب بين الأديان السماوية، فبعد عودته من فرنسا إلى بيروت أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة السماوية (الإسلام واليهودية والنصرانية) وإزالة الشقاق من بين أهلها، والتعاون على إزالة ضغط أوربا عن الشرقيين، ولا سيما المسلمين منهم، وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام وحقيته من أقرب الطرق.
واشترك معه في تأسيس هذه الجمعية: ميرزا باقر، وبيرزادة، وعارف أبو تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لنتر وشمعون مويال وبعض الإنكليز، واليهود.
__________
(1) تاريخ الأستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا (2/194 ).(40/45)
وكان الشيخ محمد عبده صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها، وميرزا باقر هو الناموس (السكرتير) العام لها وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام كما يزعم.
ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم.
ولا ندري إلى أي إسلام يُدْعى الإفرنج؟ أهو الإسلام الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أدان اليهود والنصارى وعقائدهم بالكفر والشرك؟ أم المزيج المركب من الرفض والماسونية وغيرها من الضلالات التي تحملها هذه الجمعية؟!!.
وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها: "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده"، إلى أن قال: "...ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين"(1).
ويقول أيضاً:" وإنا لنرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أصحاب الدينين فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله" (2).
أقول:? يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ onجچx2 الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي x@y™ِ'r& رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ onجچx2 الْمُشْرِكُونَ اججب? [التوبة: 32-33].
__________
(1) تاريخ الأستاذ الإمام للسيد رشيد رضا(1/828،820،819)،وانظر:المدرسة العقلية(ص:137-138).
(2) الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع وتحقيق محمد عمارة(2/363)بواسطة منهج المدرسة العقلية(ص:138).(40/46)
لقد أمر الله بجهاد اليهود والنصارى الأمر الذي يريد محمد عبده إبطاله ونص في هذه الآيات على كفرهم وشركهم.
ومن أسباب كفرهم وشركهم أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله، وأضافوا إلى هذا الكفر والشرك بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأنهم أعداء الله وأعداء الرسالة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا المنطلق يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ليعيشوا هم والإنسانية جميعاً في ظلمات الجهل والكفر حسداً وبغياً على محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته وأمته.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره ذلكم النور الذي لا يوجد إلا في الإسلام ولو جاء موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والرسل فلا يسعهم إلا اتباع خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، يأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون وفي طليعتهم اليهود والنصارى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والشرك والجهل والضلال ولقد حصر الهدى ودين الحق في الإسلام وحده وحصر فيه نور الله ويأبى إلا أن يظهر الإسلام على الأديان كلها، لكن محمد عبده يرى ضد ذلك، يرى أنه لا يتم نور الله إلا باجتماع الأديان الثلاثة؛ وكفى بما يراه ضلالاً ومصادمة واضحة لما قرره القرآن والسنة في نصوص كثيرة لا يتسع المقام لسردها ولإجماع المسلمين، ومنها قول الله تعالى : ? وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اتجخب? [البقرة:135]. فلقد أبطلوا أسباب الهداية من الكتابين بتحريفهم وكفرهم وجرأتهم على هذا التحريف.(40/47)
وأخيراً يقول الله تعالى : ? وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ xwur النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِن هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ xwur نَصِيرٍ اتثةب?[البقرة: 120].
قال فهد بن عبد الرحمن الرومي:
"نشر محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه، وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ.
وقال: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير.
وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً: " إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً "(1) وهذا أمر ينطوي على كفر غليظ فإن ثبت هذا عن الشيخ محمد عبده، فإنها لطامة كبرى تدل على كيد كبير للإسلام وتكذيب للقرآن نفسه ونرجو أن يكون هذا افتراءً عليه.
وفي خطاب له يخاطب فيه شيخه جمال الدين يقول:
"نحن الآن على سنتك القويمة، لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين، ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعاً سجداً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون"
تساءل بعض النقاد(2) فقال: هل هي دعوة باطنية يخفيها الرجلان ويسعيان تحت ستارة الدين و"بسيف الدين نقطع رأس الدين وقيامهم بالصلاة أمام الناس هل هو سعي إلى القبض على سيف الدين؟ ثم تركهم للصلاة بعض الأحيان هل هو تنفيس " لضيق العيش وعودتهم إليها حيناً لأجل "فسحة الأمل"؟.
موقفه من أخبار الآحاد:
__________
(1) منهج المدرسة العقلية ص (165-166 ) وأحال على (ص: 180) من الفن القصصي في القرآن الكريم لمحمد أحمد خلف الله وعلى (ص :ح) من مقدمة هذا الكتاب.
(2) هو فهد بن عبدالرحمن الرومي وحق له ذلك.(40/48)
قال أبو رية: "قال الأستاذ الإمام محمد عبده- رضي الله عنه-(1): "إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن، وإن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه الصدر الأول قبل ظهور الفتن".
وقال رحمه الله تعالى:" لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دامت هذه الكتب فيها (يعني: الكتب التي تدرس في الأزهر وأمثالها، كما ذكره في الحاشية) ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول وهو (القرآن) وكل ما عداه فهو حجاب قائم بينه وبين العلم والعمل"(2).
فإن صح هذا النقل من أبي رية - ولا يستبعد من محمد عبده- فإنه قد سار على منهج أستاذه جمال الدين الأفغاني، ويخفف من وطأة هذا القول
-شيئاً ما- ما قاله في كتابه المسمى بـ"رسالة التوحيد" تحت عنوان: "التصديق بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -"، حيث قال: "بعد أن ثبتت نبوته -عليه السلام- بالدليل القاطع على ما بيّنا وأنه إنما يخبر عن الله تعالى؛ فلا ريب أنه يجب تصديق خبره والإيمان بما جاء به.
ونعني بما جاء به ما صرح به الكتاب وما تواتر الخبر به تواتراً صحيحاً مستوفياً لشرائطه، وهو ما أخبر به جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة في أمر محسوس، ومن ذلك أحوال ما بعد الموت من بعث، ونعيم في جنة، وعذاب في نار، وحساب على حسنات وسيئات وغير ذلك مما هو معروف؛ ويجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح، ولا تجوز الزيادة على ما هو قطعي بظني"(3).
فترى في كلامه هذا:
1- أنه لا يلزم الناس من تصديق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بما صرح به الكتاب العزيز والخبر المتواتر من السنة.
2- وأنه يجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، ولا تجوز الزيادة في الاعتقاد على ما هو قطعي بظني.
ومقتضى هذا:
__________
(1) أضواء على السنّة (ص:378-379)، الطبعة الخامسة، دار المعارف.
(2) أضواء على السنة (ص:379).
(3) رسالة التوحيد ص (157 ).(40/49)