التبيين
لجهالات الدكتور أحمد بن نصر الله صبري
في كتابه أضواء على أخطاء كتاب الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين
ومدى خطورة منهج الدكتور على كتب فحول المحدثين
تأليف
المقدمة
الحمد لله نحمده تعالى، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
ففي إحدى ليالي أول شهر ذي الحجة لعام سبعة وعشرين وأربعمائة، وألف للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام اتصل لي أحد أخواننا الأفاضل من مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، وأخبرني أن بين يديه في حينها كتابا بعنوان «أضواء على أخطاء كتاب الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» مائة وخمسين استدراكا على المؤلف مقبل بن هادي الوادعي في كتابه إعداد الدكتور أحمد بن نصر الله صبري، تقديم الدكتور حميد بن طاهر السندي، فأحببت أن أرى الكتاب المذكور فأرسله لي مشكورا.
وجاءني الكتاب قبل صلاة الجمعة في السادس عشر من الشهر المذكور.
فبدأت القراءة فيه متوقعا أحد ما سأذكره:
الأول:
* إما أن الدكتور المذكور عثر على كلام في بعض الأحاديث هي محل اجتهاد النقاد، وهذا الأمر ليس بغريب من المؤلف أو الناقد، فقد انتقد الإمام أبوالحسن علي بن عمر الدارقطني عدة أحاديث على البخاري ومسلم في صحيحيهما كما في كتاب «التتبع» وكتاب «العلل».
وانتقد الحافظ أبو الفضل محمد بن أحمد بن عمار الشهيد على الإمام مسلم في جزء مفيد مطبوع.
قال الذهبي في ترجمته من «السير»:
ورأيت له جزءا مفيدا فيه بضعة وثلاثون حديثا من الأحاديث التي بين عللها في «صحيح مسلم».(1/1)
وفي علل ابن أبي حاتم بعض الأحاديث من الصحيحين كحديث جابر عند الإمام البخاري رقم (614) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة))، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن تفسير حديث أبي الدرداء، وجابر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من سمع النداء فقال: اللهم رب هذه الدعوة التامة)) هل يثبت هذان الخبران أم لهما معارض، أو دافع، أو فيهما علة، وما معنى هذه الكلمة ((رب هذه الدعوة التامة))؟.
قال أبي: وهذا الحديث، فلا نعلم لأبي الدرداء في هذا رواية عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وإنما رواه عفير بن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وعفير واهي الحديث، لا يشتغل بروايته وبحديثه، منكر الحديث، يحدث عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أحاديث كثيرة منها ما لا أصل لها، ومنها ما يرويه الثقات عن سليم قال: قال أبو الدرداء: مرسل، ومنها ما يرويه الثقات، عن سليم، عن جبير بن نفير قوله: وقد وصله عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كثير من هذا النحو، وقد رأيت أبا اليمان الحكم بن نافع، ويحيى بن صالح الوحاظي يرويان عنه أحاديث معضلة كنا نتنكب كتابتها، وأما حديث جابر فرواه شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، وقد طعن فيها، وكان عرض شعيب على ابن المنكدر كتابا فأمر بقراءته عليه فعرف بعضها، وأنكر بعضا، وقال لابنه، أو لابن أخيه: اكتب هذه الأحاديث فروى شعيب ذلك الكتاب، ولم يثبت رواية شعيب تلك الأحاديث على الناس، وعرض علي بعض تلك الأحاديث فرأيتها مشابهة لحديث إسحاق بن أبي فروة، وهذا الحديث من تلك الأحاديث. انظر «علل ابن أبي حاتم» (2/172) رقم (2011).(1/2)
وقال -رحمه الله- رقم (248) على حديث ابن مسعود الذي عند مسلم رقم (673): سألت أبي عن حديث أوس بن ضمعج، عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: قد اختلفوا في متنه فرواه فطن، والأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أوس بن ضمعج، عن ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة)) ورواه شعبة والمسعودي، عن إسماعيل بن رجاء، لم يقولوا: ((أعلمهم بالسنة)).
قال أبي: كان شعبة يقول: إسماعيل بن رجاء كأنه شيطان من حسن حديثه، وكان يهاب هذا الحديث يقول: حكم من الأحكام عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يشاركه أحد.
قال أبي: شعبة أحفظ من كلهم، قال أبو محمد: ليس قد رواه السدي، عن أوس بن ضمعج.
قال: إنما رواه الحسن، عن يزيد الأصم، عن السدي، وهو شيخ. أين كان الثوري، وشعبة عن هذا الحديث، وأخاف ألا يكون محفوظا. اهـ
وقد كان شيخنا العلامة مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- إذا أعلم أو أخبر بحديث أن الإمام الفلاني أعله، أودعه كتابه المسمى «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» مع بيان علته، وهو في ذلك منشرح الصدر وشاكر لمن أطلعه على هذا النوع، حرصا منه أن لا يكون في «صحيحه المسند» ما قد أعله بعض الحفاظ.
وانظر مثالا على ذلك:
* حديث رقم (47) عن أنس بن مالك الذي أخرجه أبو يعلى في مسنده (7/229) قال:(1/3)
حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا الصعق بن حزن، حدثنا علي بن الحكم البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((أتاني جبريل بمثل المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء، قلت: يا جبريل: ما هذه؟ قال: هذه الجمعة، جعلها الله عيدا لك ولأمتك، فأنتم قبل اليهود والنصارى، فيها ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه))، قال: ((قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذا يوم القيامة، تقوم في يوم الجمعة، ونحن ندعوه عندنا المزيد))، قال: ((قلت: ما يوم المزيد؟ قال: إن الله جعل في الجنة واديا أفيح، وجعل فيه كثبانا من المسك الأبيض، فإذا كان يوم الجمعة ينزل الله فيه، فوضعت فيه منابر من ذهب للأنبياء، وكراسي من در للشهداء، وينزلن الحور العين من الغرف فحمدوا الله ومجدوه))، قال: ((ثم يقول الله: اكسوا عبادي، فيكسون، ويقول: أطعموا عبادي، فيطعمون، ويقول: اسقوا عبادي، فيسقون، ويقول: طيبوا عبادي فيطيبون، ثم يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: ربنا رضوانك))، قال: ((يقول: رضيت عنكم، ثم يأمرهم فينطلقون، وتصعد الحور العين الغرف، وهي من زمردة خضراء، ومن ياقوتة حمراء)).
هذا الحديث ظاهر إسناده الحسن.
ولكن انظر ما يقول عنه أئمة العلل، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي، وأبا زرعة، عن حديث رواه الصعق، عن حزن، عن علي بن الحكم، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فذكره.
قال أبو زرعة: هذا خطأ، رواه سعيد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن عثمان [بن عثمان]، عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. قال أبي: نقص الصعق رجلا من الوسط. اهـ من «العلل» (1/198 199).
قلت: عثمان هو أبو اليقظان ففي «تهذيب التهذيب» قال فيه البخاري، وأبو حاتم، وأحمد في رواية الجوزجاني: منكر الحديث. زاد البخاري: ولم يسمع من أنس. اهـ المراد.
في «التقريب»: ضعيف واختلط، وكان يدلس ويغلو في التشيع. اهـ(1/4)
فقوله: [ابن عثمان] هكذا في «العلل»، ولعله خطأ، ولهذا جعلناه بين معكوفتين كما ترى فيقال فيه: ابن عمير، وقيل ابن قيس، وقيل ابن أبي حميد
قلت: وتابعه أبو النعمان عارم، عن الصعق نفسه، عن علي بن الحكم، عن عثمان، عن أنس به. أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/293) فبان الأمر جليا أن الوهم من الصعق كما يقول الرازيان، والله أعلم أفادنا بهذا الأخ أحمد بن سعيد.
* ورقم (509) قال الإمام ابن حبان -رحمه الله- كما في الإحسان (7/437):
أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((كسر عظم الميت ككسره حيا)).
* ورقم (3) قال الإمام أبو يعلى الموصلي -رحمه الله- (8/145):
حدثنا أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام، عن عمران بن أبي أنس المكي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأصحابه: ((تدرون أزنى الزنا عند الله))؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإن أزنى الزنا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم))، ثم قرأ: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} [الأحزاب: 58].
هذا الحديث كنت حكمت عليه في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (2/471) بالصحة ظانا أن عمران بن أبي أنس هو القرشي، حتى أفادنا الشيخ الفاضل عبدالرقيب الإبي بأن الصحيح أنه عمران بن أبي أنس المكي، وهو ضعيف، وأحالنا على شعب الإيمان للبيهقي (5/298) رقم (6711) فوجدنا في شعب الإيمان: عن ابن سلام عن يحيى بن واضح، سمع عمران. قال البخاري: لا يتابع عليه، ورواه عبدالعزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة، عن عبدالله بن الراهب، عن كعب من قوله وهو أصح. اهـ
* ورقم (51) قال الإمام أبو يعلى الموصلي -رحمه الله- (5/78):(1/5)
حدثني مخلد بن أبي زميل، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال: ((أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ؟)) فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقال قائل أو قال قائلون إنا لنفعل، قال: ((فلا تفعلوا ليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه)).
الحديث ظاهره الحسن، ولكن ابن أبي حاتم يقول كما في «العلل» لولده (1/174) رقم (502): وهم فيه عبيد الله بن عمرو، والحديث ما رواه خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن محمد بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
من فوائد أخينا الحربي.
* ورقم (52) قال ابن جرير -رحمه الله- (22/284):
حدثنا الحسن بن أبي يحيى المقدمي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن أبي سلمة، قال: ثني الأقرع بن حابس التميمي أنه أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فناداه، فقال: يا محمد إن مدحي زين، وإن شتمي شين; فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((ويلك ذلك الله))، فأنزل الله: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}... الآية.
هذا الحديث يحتمل الصحة، ولكن الحافظ ابن حجر يقول في «الإصابة» بعد أن ذكره في ترجمة الأقرع بن حابس. قال ابن مندة: روى عن أبي سلمة، أن الأقرع بن حابس نادى فذكره مرسلا، وهو الأصح، وكذا رواه الروياني من طريق عمرو بن أبي سلمة، عن أبيه، قال: نادى الأقرع...... فذكره مرسلا.
وأخرجه أحمد على الوجهين، ووقع في رواية ابن جرير التصريح بسماع أبي سلمة من الأقرع؛ فهذا يدل على أنه تأخر. اهـ
قال أبو عبدالرحمن: يحتمل أن يكون الوهم في التصريح بالتحديث من بعض رجال السند، لا سيما والحسن بن أبي يحيى لم نقف له على ترجمة، والله أعلم.(1/6)
فائدة: قال أحمد بن سعيد: رواية أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن الأقرع بن حابس ذكر في ترجمته أنه توفي سنة (94)هـ وهو ابن 72 سنة، وعلى هذا فولادته سنة (22)هـ آخر خلافة عمر بن الخطاب، وقبل وفاته بعام واحد، هذا ما قيل في أبي سلمة.
أما الأقرع فقيل: توفي باليرموك كما في «الإصابة».
قلت: واليرموك كانت في آخر خلافة الصديق، وأول خلافة الفاروق في سنة (13)هـ كما في «البداية» (7/141)، و«تاريخ الإسلام» مجلد الخلفاء (285 286).
وقيل: توفي في خلافة عثمان.
قال ابن الأثير: واستعمله عبدالله بن عامر على جيش سيره إلى خراسان، فأصيب بالجوزجان هو والجيش. اهـ قال الذهبي في «تاريخه»، وابن كثير في «بدايته»، وابن حجر في «إصابته»: وذلك في زمن خلافة عثمان، وذكر هذا الحافظ في «التعجيل»، ورجح أنه توفي في خلافة عثمان، ثم قال في آخر الترجمة: رواية أبي سلمة، عن الأقرع منقطعة. اهـ المراد وانظر الفتح (8/592 593).(1/7)
وقد جمع الأخ سعيد بن حبيشان صاحب دار الآثار جملة الأحاديث التي أودعها الشيخ -رحمه الله- في كتابه «أحاديث معلة ظاهرها الصحة»، وقد كانت ضمن كتابه «الصحيح المسند» في حاشية المجلد الأول الصفحة السادسة من «الصحيح المسند» المنشور في دار الآثار بعناية الأخ سعيد حبيشان مشكورا، فقال الناشر: وهذه الطبعة الجديدة تتميز باحتوائها على آخر ما زاده الشيخ إلى هذا الكتاب من أحاديث، وتتميز أيضا بحذف الأحاديث التي تراجع عن تصحيحها الشيخ -رحمه الله- –ثم قال في الحاشية-: وغالب هذا الصنف هو من الأحاديث التي يكون ظاهر سندها الصحة وهي معلة، ولذا فقد أوردها الشيخ -رحمه الله- جميعها في كتاب «أحاديث معلة ظاهرها الصحة»، وأرقامها كما في الطبعة الثالثة من أحاديث معلة وهي: 30، 31، 39، 42، 45، 47، 48، 50، 70، 97، 110، 111، 125، 126، 164، 165، 211، 220، 233، 234، 238، 251، 265، 269، 270، 271، 275، 285، 304، 307، 309، 312، 336، 354، 359، 372، 388، 396، 463، 466، 467، 469، 479، 506، 509، 514.
التوقع الثاني مما دار في خلدي:
أن المدعو أحمد بن نصر الله لعله اجتمع عنده من تلك الأحاديث التي كانت في الطبعة الأولى عدد مما قد حذف منها فأخرجه عجلا في هذا الجزء المسمى –جنفا- بالأضواء، دون نظر في الطبعة الأخيرة من السفر المذكور.
التوقع الثالث:
أن المستدرك أحمد بن نصر الله قصير اليراع، هش الاطلاع على كتب الشأن عزب عنه اصطلاح فحول المحدثين، وعلق بذهنه بعض الاصطلاحات التي هي من مبادئ علوم الحديث فذهب ينشرها في مقدمة جزئه ليتوصل بها إلى رتبة الاستدراك على «الصحيح المسند» وعديد مما يضارعه في بابه من ثروة المسلمين العلمية حقا لقد كان ولله الحمد هذا التوقع هو اللائق بالدكتور أحمد بن نصر الله وإليك بيان ذلك:
قال في كتابه المسمى «بالأضواء» ص (9):
فوائد وقواعد:(1/8)
أولا: مذهب أهل الحديث وأئمة السلف على أن أحاديث الصحيحين البخاري ومسلم قد بلغت أعلى درجة من الصحة؛ وذلك لما اشترطوه من شروط؛ والتزموا به في كتابيهما اللذين تلقتهما الأمة كافة بالقبول، قال الإمام النووي -رحمه الله- في مقدمة شرحه على صحيح مسلم (1/20): وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر، وتوجد فيه شروط الصحيح. اهـ
وقال ابن الصلاح في «علوم الحديث» ص (20): وهذه نكتة نفيسة نافعة.
ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به البخاري، أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول. اهـ
أما الأحاديث اليسيرة التي انتقدها بعض الحفاظ كالدارقطني على الصحيحين، فلا يعني ذلك أنها ضعيفة، إنما أقصى ما في الأمر أنها نزلت من الدرجة العالية من الصحة تبعا لشروطهم الشديدة إلى درجة أقل في الصحة... قال الحافظ السخاوي في «فتح المغيث» (1/47) عن أبي إسحاق الإسفرائيني قال: أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها، ومتونها، ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها.. وعلق صاحب «أصول التخريج ودراسة الأسانيد» ص(184) على كلام أبي إسحاق فقال: إذن فالإجماع في نهاية الأمر حاصل على القطع بصحة أصول ومتون الأحاديث التي في الصحيحين، والخلاف في اليسير منها ليس في تصحيحها، أو عدم ثبوتها، وإنما في أمور فنية. اهـ
وهذه الفائدة تمهد لنا الطريق إلى القاعدة التالية:
ثانيا: الأحاديث التي في الصحيحين لا تحتاج إلى النظر في بيان مدى صحتها، وذلك لاتفاق الأمة على قبولها، وثبوتها.. قال النووي -رحمه الله- مقدمة شرح صحيح مسلم (1/20): وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا. اهـ(1/9)
فالاشتغال بتصحيح المتون التي ثبتت في الصحيحين، أو أحدهما تحصيل حاصل، وتبديد للجهد، والطاقة فيما لا منفعة للأمة فيه، كمن يريد أن يكيل البحر، فلا هو بمستطيع، ولا هو مستفيد شيئا.. خاصة في المتون التي اتفق البخاري، ومسلم على إخراجها في أعلى درجة في الثبوت بعد كتاب الله عز وجل، وهذا مقرر بإجماع أهل العلم، فلا وجه للاشتغال بأحاديث الصحيحين؛ لأنها كما يقولون: عبرت القنطرة.
وهذه القاعدة تحتاج كذلك لتقريرها إلى القاعدة التالية:
ثالثا: إجماع أهل العلم، وأئمة الجرح والتعديل على ترتيب درجات صحة الأحاديث على النحو الذي ذكره النووي في «تدريب الراوي»؛ قال: الصحيح أقسام؛ أعلاها: ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ما كان صحيح عند غيرهما. اهـ «تدريب الراوي» (1/95).
فبين هذا التسلسل قدر ما اتفق عليه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وأنه على رأس القائمة في الصحة.
فإذا فرغنا من تقرير ذلك، وهو معلوم لا يخفى نتوجه إلى:(1/10)
رابعا: فرق علماء المصطلح، وأهل الجرح والتعديل بين حكم المحدث على حديث بقوله: هذا صحيح الإسناد، أو: حسن الإسناد، أو ضعيف الإسناد، فرقوا بين ذلك وقوله على حديث ما: هذا حديث صحيح، أو هذا حديث حسن، أو هذا حديث ضعيف، وذلك: لأنه في الحالة الأولى يعني الحكم على الإسناد القائم أمامه، وفيها احتراز لطيف عن احتمال وجود علة خفية يمكن أن تقدح في صحة المتن، أو وجود طرق أخرى مختلفة عن هذا الطريق الصادر بشأنه الحكم، ويمكن أن تغير من هذا الحكم، أما في حالة إطلاق الحكم: حديث حسن، أو حديث صحيح، أو حديث ضعيف،، فإن هذا الإطلاق يعني حكما عاما على الحديث يلزم صاحبه أن يكون قد أحاط بطرق هذا الحديث، حتى يطمئن على صحة الحكم النهائي الذي أصدره... قال ابن الصلاح «علوم الحديث» ص(35): قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد، أو حسن الإسناد، دون قولهم هذا حديث صحيح، أو حديث حسن، لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا يصح؛ لكونه شاذا أو معللا. اهـ وقال صاحب «أصول التخريج ودراسة الإسناد» ص (198): يستحسن في حق الباحث في الأسانيد أن يقول في نهاية بحثه عن درجة الحديث: صحيح الإسناد، أو حسن الإسناد، أو ضعيف الإسناد، ولا يتعجل فيقول: صحيح، أو حسن، أو ضعيف، لأنه بالنسبة لقوله عن الحديث صحيح، أو حسن ربما يوجد حديث آخر يعارضه في معناه، وسنده أقوى فيكون الحديث الذي حكم عليه بالصحة شاذا... وبالنسبة لقوله عن الحديث ضعيف ربما وجد له تابع، أو شاهد يقويه ويجبره فيرتقي إلى مرتبة الحسن لغيره. اهـ
وهذه النتيجة المقررة في تلك القاعدة تقودنا إلى:(1/11)
خامسا: إذا استحسن أهل المصطلح إطلاق صيغة حديث إسناده حسن، احترازا من أن يكون للحديث طريق آخر، أو شاهد يتقوى به، ويرتقي لدرجة أعلى في الصحة، إذا كان ذلك كذلك فإنه لا يجوز إصدار حكم هذا حديث حسن على الحديث الذي يعلم الباحث سلفا أنه صحيح من طريق آخر، أو في أحد الصحيحين البخاري ومسلم فضلا على كونه متفق عليه عندهما، فضلا عن أن يكون حديثا متواترا... فلا يجوز أن يسكت المحقق على وصف الحديث بالحسن والحال غير ذلك، ولا يتعذر له بأن مقصده الحكم على هذا الإسناد، فإن ذلك مخالف لمنهج أهل العلم، ولا قيمة له، بل فيه تغرير، ويشبه أن يكون تدليسا إذ أن ترك الحكم على هذا الإطلاق يوهم القارئ وطالب العلم بأن هذه هي الدرجة النهائية للحديث بينما الحقيقة غير ذلك.
ولا بد من العلم بأن ثمة فارقا كبيرا بين الحديث الحسن والحديث المتفق عليه عند الشيخين، أو بين الحديث الحسن، وبين ما انفرد بإخراجه البخاري ومسلم.
ويتضح هذا الفارق ببيان الفائدة التالية:
سادسا: أن الحديث الحسن كما عرفه أهل المصطلح هو: ما اتصل سنده بنقل العدل الذي قل ضبطه وخلا من الشذوذ والعلة القادحة، وهو وإن كان محتجا به إلا أنه دون الصحيح في القوة، بل هو أدنى مراتب القبول بعد الحسن لغيره، وذلك لأنه قد وقع ضعف في الضبط، وخفة في التحمل، فأين يأتي هذا أمام أسانيد البخاري ومسلم، التي وصفت بالمتانة والقوة، لدرجة تسليم الأمة لأحاديثهما.(1/12)
سابعا: كتب المستدرك، والتخريج لا بد فيها من الاستقصاء وجمع المرويات، وأقوال أهل الحديث في الأسانيد المقصودة بالدراسة حتى يكون الحكم الصادر بشأن الحديث صحيحا شاملا، ولا يكتفي في الكتب التي قصدت التخريج بإيراد الحديث دون التعليق عليه، ولا يكتفي كذلك بقول صاحب الكتاب: هذا حديث حسن، بل لا بد من ذكر أسباب نزول الحديث من مرتبة الصحة إلى الحسن، ولقد شاهدنا في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني، وكذلك تخريجات العلامة أحمد شاكر رحمهما الله وغيرهما كيف كانت تبسط الصفحات الطوال من أجل حديث واحد يتم جمع مروياته وشواهده، وإن أحدهم قد سطر بضعا وثلاثين صفحة من أجل جمع ألفاظ حديث واحد له طرق وشواهد عديدة.
ثامنا: يحسن لمن انتصب للتخريج وخدمة السنة أن يستفيد من الجهود المباركة للأئمة الأوائل ومن سبقوه في هذا الشأن كالحافظ العراقي، والإمام ابن حجر، والعلامة أحمد شاكر، والشيخ ناصر الألباني، وغيرهم ممن أفنوا أعمارهم في طلب الحديث رواية ودراية، فقد يغني الباحث عن خوض غمار البحث والتنقيب في أحاديث قاموا بجهد رائع وفق قواعد الجرح والتعديل بتحقيقها، فيعتمد أحكامهم في ذلك ويوجه همته وجهده فيما اختلفوا فيه، أو سكتوا عنه، ومن تواضع واتصف بصفات أهل العلم من الإخلاص والتجرد لنصرة الدين، فعليه أن يستفيد بجهودهم ويعضد رأيه بآرائهم، لأن المقصود هو إعلاء السنة، وإرشاد الأمة لحديث نبيها -صلى الله عليه وسلم-.
تاسعا: الأحاديث التي تنطوي على قصص ومواقف، ويرجح أهل العلم أن القصة لم تكرر وأن الموقف واحد لم يتعدد، ثم ترد روايات للقصة الواحدة مختلفة الألفاظ بعضها مجملة والأخرى مفصلة، فإنه يراعي حينئذ الاعتبارات التالية:
أ اعتماد الرواية المفصلة دون المجملة للقصة أو الموقف، استنادا إلى قاعدة (من ذكر حجة على من لم يذكر).(1/13)
ب الألفاظ الزائدة في إحدى الروايات، والتي لا تتعارض مع ألفاظ الروايات الأخرى تعارضا يتعذر معه التوفيق، فإن هذه الألفاظ يجب أن تعتمد إذ أن زيادة الثقة مقبولة.
ج في حال ورود لفظ أو جملة في رواية متعارضة مع لفظ أو جملة في رواية أخرى تعارضا يصعب معه محاولة الجمع والتوفيق فإنه يعتمد والحال كذلك الرواية الأقوى إسنادا، نضرب لذلك مثالا عمليا وسيأتي بيانه مفصلا تحت عنوان: (الخطأ الرابع وهو خطأ فاحش إذ فيه نسبة الشرك للنبي -صلى الله عليه وسلم-) ففي قصة زيد بن عمرو بن نفيل، وهو يسعى للبحث عن الدين الحق ولقاؤه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- رواها البخاري في «صحيحه» في موضعين، وكلاهما نص على أن ناسا قدموا للنبي شاة قد ذبحوها على غير اسم الله، بل لنصب من الأنصاب أي لصنم من الأصنام فأبى أن يأكل منها، ولا ينتظر منه إلا ذلك، ثم جاءت القصة من رواية البزار والحاكم وفيها ما يتعارض مع رواية البخاري، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم الشاة لزيد بن عمرو فسأله ما هذا؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا طعام ذبحناه لنصب من هذه الأنصاب)). فلا بد حينئذ اعتماد رواية البخاري، وطرح رواية البزار والحاكم.
هذا ما يحضرني في هذه العجالة من فوائد ونصائح، آثرت أن أقدم بها بين يدي البحث عما ورد من أخطاء في كتاب «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» للشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمه الله- والذي سمح بالاستدراك على كتابه المذكور انظر: مقدمة الكتاب: ص (21)، وأعتقد أن الشيخ كان في حسه وقوع جملة من الأخطاء بالفعل في كتابه ما جعله يكرر القول في المقدمة ص (20) كنت أكتب وأنا على وجل من تكرار الحديث وقد حصل... وعلى وجل من أن يكون الحديث في الصحيحين، أو في أحدهما، فأكون كالحاكم الذي يقول صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، الواقع أنهما أخرجاه وكذا أخاف أن أصحح حديثا وهو ضعيف. اهـ(1/14)
بيد أن ثقتنا وحسن ظننا بالشيخ يدفعان الوهم بأنه كان على علم بحجم الأخطاء على الحقيقة، وإلا ما سمح بطبعه ولا أجاز نشره، ولقد تمنيت حالما وقع الوجل والخوف من الشيخ في جميع الأحاديث وتخريجها، تمنيت لو أبقاه مخطوطة تحت المراجعة والتنقيح، أما وقد انتشرت طبعاته فنقول: قدر الله وما شاء فعل، ونعتقد حينئذ أن واجب النصح لطلاب العلم وعامة المسلمين يقضي بنشر هذا التصحيح، والاستدراك، كيلا يحفظوا عشرات الأحاديث، ويكون مبلغ علمهم كما قرر الشيخ في كتابه أنها حسنة بينما هي في أحد الصحيحين، أو فيهما معا أو من الأحاديث المتواترة والمعصوم من عصم الله تعالى.
وللعلم، فإننا قد أطلعنا على الكتاب في آخر طبعاته، والمرتبة على النحو الموضوعي، فساءنا مرور بضع سنين على الكتاب بينما الأحاديث كما وردت في الطبعات الأولى دون استدراك، أو تصحيح، ولقد أرجأت تسجيل ملاحظاتي العامة على منهج الكتاب وطبيعة الأخطاء الواقعة فيه، وذلك في آخر بياني واستدراكي بعد اكتمال الدراسة، ولكي يشاركني طلاب العلم الرؤية في صحة هذه الملاحظات، أو عدم صحتها.
وقد اشتملت هذه المقدمة على عدة قواعد، فلما لم يحسن تطبيقها انقلبت منه أوابد، وخلاصة تلك الأوابد في الآتي:
1 بعد نقله لإجماع العلماء على جلالة الصحيحين، وصحة أحاديثها إلا أحاديث يسيرة اختلف فيها اجتهاد النقاد في أمور فنية، وأن أحاديث الصحيحين لا تحتاج إلى النظر في بيان مدى صحتها لاتفاق الأمة على قبولها، وحين تقرأ هذه النقولات هنا ربما داهمك التعجب عن سبب هذا النقل، هل هو لأن العلامة الوادعي -رحمه الله- عمد إلى أحاديث الصحيحين يلقي النظر عليها تصحيحا وتضعيفا، فهذا لم يكن.
وعناية العلامة الوادعي -رحمه الله- بالصحيحين، ونفاحه عنها، وعن السنة وكتبها، معلوم لكل من قرأ أيسر كتاب تناله يده للعلامة الوادعي.(1/15)
ومن النماذج: خدمته لكتابي الدارقطني الإلزامات والتتبع لما لهما من تعلق بالصحيحين مع تدريسه المتواصل للصحيحين، وشدة اعتماده على أحاديثهما في كتاباته ودعوته، أم أنه قال: هذا الكلام حشوا من باب قول النحويين: لا محل له من الإعراب، ولكن عند التأمل يظهر المقصود من مرامه الغابر، بأن هذه النقولات كانت تمهيدا للتوصل إلى الطعن الشديد ولو من طرف خفي في هذا الكتاب المبارك الذي ملأ نفعه الأقطار، وسار به الركبان إلى سائر الديار فحاول المستدرك هداه الله بغيا وعدوا، أو جهلا وهذرا أن يحط من بعض شأنه، أو يقلل من عظيم نفعه بعديد من الإلماحات والغمزات الهادفة.
أولها: قوله: إن الاشتغال بتصحيح المتون التي ثبتت في الصحيحين أو أحدهما تحصيل حاصل.
الثاني: أنه تبديد للجهد والطاقة.
الثالث: أنه لا منفعة فيه.
الرابع: أن من صحح تلك المتون التي أشار إليها الدكتور أحمد أن صنيعه سيصير أشنع من صنيع وتصرف من سلب عقله من البله والمجانين.
لأن إرادة كيل البحر الخضم لا يحصل من إنسان بقي معه مسحة من عقل.
وهنا يبدأ النقاش مع المستدرك:
فأقول: يا دكتور! إن كنت تعني أن أحاديث الصحيحين لا حاجة للنظر منا فيها فهذا أمر مسلم به يقينا كما تقدم، وليس ثم في «الصحيح المسند» منه شيء بنصه وفصه عن نفس الصحابي الذي في الصحيح بلا أي زيادة فيه، وذلك لأمور منها:
* أن شرط الشيخ وتحريه -رحمه الله- في هذا الكتاب أن يكون كل ما يورده فيه من الأحاديث الثابتة الزائدة على الصحيحين كما بينه في عنوان الكتاب ومقدمته فقال: الحمد لله حمدا كثيرا مباركا طيبا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.(1/16)
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإني أحمد الله سبحانه وتعالى الذي وفقني لطلب العلم النافع، وهيأ لي سبله، وحبب إلي سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبغض إلي البدع، فله الحمد حتى يرضى.
وإني بحمد الله أحب كتاب ربي والسنة الغراء سيما الصحيحين والقراءة فيهما عندي أحلى لذة في الدنيا، وإني إذا فتحت صحيح البخاري، وقلت: قال الإمام البخاري -رحمه الله-: حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: حدثنا مالك.
أو فتحت «صحيح مسلم»، وقلت: قال الإمام مسلم -رحمه الله-: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك. أنسى جميع مشاغل الدنيا، ومشاكلها.
وكنت أتمنى لو قدر لي أن أجمع مجموعة من الحديث الصحيح، تضاف إلى «الصحيحين» تكون نقية من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. وقد قام الحاكم -رحمه الله- بتأليف «المستدرك» وبعده الضياء المقدسي.
فأما المقدسي فلم يتم كتابه، والظاهر أن منه ما هو مفقود، والموجود ليس مطبوعا فيستفاد منه.
وأما الحاكم -رحمه الله-: فإنه واسع الخطو في التصحيح، كما ذكره ابن الصلاح في «المقدمة»، وقال الحافظ ابن كثير في «مختصر علوم الحديث»: إن الحاكم يلزمهما بإخراج أحاديث لا تلزمهما، لضعف رواتها عندهما، أو لتعليلهما ذلك. اهـ
ثم قال ص (26) من المقدمة مبينا وجله وحذره من ذلك:
قال كنت أكتب وأنا على وجل من تكرار الحديث وقد حصل، ولكن إن شاء الله عند الجمع سيحذف المكرر، وعلى وجل من أن يكون الحديث في الصحيحين أو أحدهما فأكون كالحاكم الذي يقول: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه والواقع أنهما أخرجاه. اهـ
ثانيا: أن الشيخ -رحمه الله- لكثرة قراءته وتدريسه ونقله في سائر كتبه الأخرى، وشدة عنايته بأحاديثها في خطبه ومحاضراته، وخدمته المتعلقة بها مثل تحقيقه لكتابي الدارقطني الإلزامات والتتبع.(1/17)
وتدريسه وتعليقه وتتبعه لمستدرك الحاكم كما هو مبين في مقدمته على «الصحيح المسند» وحرصه على عرض الأحاديث التي يودعها في صحيحه على «تحفة الأشراف» للحافظ المزي -رحمه الله-.
وكثرة من يحفظ «الصحيحين» و«الصحيح المسند» من طلاب الشيخ -رحمه الله-، مع علمهم وفهمهم لاصطلاح الشيخ المشهور على ظاهر كتابه، هذا مما يجعل الخطأ في إدخال حديث من الصحيحين أو أحدهما في كتابه هذا يندر جدا، ومع هذا وذاك فإن وجد ذلك النادر بعينه، فهو إما قد حذف في النسخ المطبوعة التي تم تدريسها في حياة الشيخ -رحمه الله- أو بعد موته.
وإما هو في حكم المحذوف حتى أوان طبعه مرة أخرى فيتم حذفه بما لا يحتاج إلى أي عناء أو اعتراض.
وإن كنت يا دكتور، تعني: أن ما كان أصله في الصحيحين أو أحدهما عن صحابي وأن الشيخ -رحمه الله- أخرج حديثه في«صحيحه» عن نفس الصحابي بزيادة فيه كلفت إخراجه فهذا موجود في «الصحيح المسند» من أجل الزيادة التي فيه مع بيان أن أصله في الصحيحين أو أحدهما.
ولا بأس أن أذكر للقارئ جملة من ذلك ثم أردف كل حديث ذكره الشيخ -رحمه الله- في «الصحيح المسند» بذكر أصله من الصحيحين أو أحدهما ليرى القارئ أن الشيخ لم يخرجه عن غفلة، ولكن عن عمد، وقصد لما فيه من الزيادة الثابتة التي ليست في أحد الصحيحين، وهو سلك في ذلك طريقة من سبقه من أئمة الشأن الذين كتبوا في الزوائد، وبرهان ذلك ما قاله الإمام أحمد بن أبي بكر البوصيري في مقدمة كتابه «إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة» (1/33 34) قال: فإن كان الحديث في الكتب الستة أو أحدهما من طريق صحابي واحد لم أخرجه إلا أن يكون الحديث فيه زيادة عند أحد المسانيد المذكورة تدل على حكم، فأخرجه بتمامه ثم أقول في آخره رووه، أو بعضهم باختصار وربما بينت الزيادة.(1/18)
وقال الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي -رحمه الله- في مقدمة «كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة» (1/5): وبعد فقد رأيت في مسند الإمام أبي بكر البزار المسمى بـ «البحر الزخار» قد حوى جملة من الفوائد الغزار، يصعب التوصل إليها على من التمسها، ويطول ذلك عليه قبل أن يخرجها فأردت أن أتتبع ما زاد فيه على الكتب الستة من حديث بتمامه، وحديث شاركهم وفيه زيادة، مميزا بقولي: قلت: رواه فلان خلا كذا، أولم أره بهذا اللفظ، أو لم أره بتمامه اختصره فلان أو نحو هذا.
وكذا قال في مقدمته على كتابه «مجمع البحرين في زوائد المعجمين» الأوسط والصغير للطبراني ص (45)، قال: فجمعت ما انفرد به عن أهل الكتب الستة من حديث بتمامه، وحديث شاركهم فيه بزيادة عنده مميزا لها.
وقال في مقدمة «المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي»:
فذكرت فيه ما تفرد به عن أهل الكتب الستة من حديث بتمامه، ومن حديث شاركهم فيه، أو بعضهم وفيه زيادة، وأنبه على الزيادة بقولي: أخرجه فلان خلا قوله كذا، أو لم أره بتمامه عند أحد منهم ونحو هذا.
وقال الدكتور خلدون الأحدب في مقدمة «زوائد تاريخ بغداد» (1/66) قال: تقدم أن الذين صنفوا في فن الزوائد اتفقوا على ثلاث قواعد في اعتبار الحديث من الزوائد وهي:
أولا: أن يكون متن الحديث الزائد بلفظه أو بمعناه، ولم يخرج البتة في الأصول الستة، أو بعضها.
ثانيا: أن يكون متن الحديث الزائد بلفظه أو بمعناه قد خرج في الأصول الستة أو بعضها، ولكن عن صحابي آخر غير الذي روى الحديث الزائد.
ثالثا: أن يكون متن الحديث بلفظه، أو بمعناه قد خرج في الأصول الستة أو بعضها، لكن في متن الحديث الزائد، زيادة مؤثرة لم يخرجوها.
وقال في ص (71): اعتبار الحديث من الزوائد إذا رواه الخطيب بإسناده عن صحابيين معا، أحدهما حديثه مخرج في الأصول الستة أو بعضها، أما الآخر فلم يخرجوا حديثه، فهو زائد من جهته.(1/19)
مثاله: ما روى الحافظ الخطيب (5/106 107) بإسناده عن عمران بن حصين، وسمرة بن جندب: ((أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند الموت، لم يكن له مال غيرهم، فأقرع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة)) فهذا الحديث الشريف قد رواه عن عمران بن حصين وحده مسلم رقم (1668).
وهذه جملة أحاديث أصلها في الصحيح وهي في كتاب «زوائد أبي يعلى» للهيثمي:
1 حديث جابر عند مسلم (1242): حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج ح وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا محمد بن بكر، أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله رضي الله عنه يقول: ((لم يطف النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا)).
وذكره الهيثمي في زوائد أبي يعلى (571) لزيادة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يطف هو وأصحابه لعمرتهم وحجتهم إلا طوافا واحدا.
2 حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ((أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن أبدا الوتر قبل النوم، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، والغسل يوم الجمعة)).
قال الهيثمي في «زوائد أبي يعلى» (361): أخرجته للغسل يوم الجمعة، والحديث أصله في «البخاري» رقم (1981)، و«مسلم» (721)، و«أبي داود» (1433).
3 حديث جابر في اتخاذ المنبر، أخرجه البخاري (2095).
قال الهيثمي في «المقصد الأعلى» (22): حديث جابر في الصحيح، وليس هو بهذا السياق.
وذكر الهيثمي في «زوائد أبي يعلى» رقم (230) من حديث أنس قال: قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من أكل هاتين الشجرتين الثوم والبصل فلا يقربن مصلانا، وليأتني أمسح وجهه وأعوذه)).
قال الهيثمي في «المجمع» (2/17): رواه أبو يعلى، وفيه سلام ابن أبي حمزة، وهو ضعيف جدا.
قلت: الحديث أصله في مسلم (562)، وكما ترى ذكره الهيثمي في الزوائد.(1/20)
5 ذكر الهيثمي في «كشف الأستار» (252) حديث أبي هريرة، قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تقبل صلاة بغير طهور)).
قال الهيثمي: قلت: له في الصحيح: ((لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتطهر)).
وبلفظ حديث أبي هريرة -الذي ذكره الهيثمي في «كشف الأستار» على أنه من زوائد الكتب الستة- أخرجه مسلم رقم (224) من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، ولم يعتبر الهيثمي إخراج مسلم له عن ابن عمر مانعا له من إخراجه زائدا بهذا اللفظ عن أبي هريرة.
7 وذكر الهيثمي في «كشف الأستار» (302) من طريق عبيد الله عن سالم، عن أبيه عن عمر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مسح على خفيه.
قال الهيثمي: لعمر في مسلم ذكر في قصة سعد في المسح بغير هذا السياق.
8 وذكر الهيثمي في «كشف الأستار» (238) حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبيه -طارق بن أشيم-: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا أسلم الرجل كان أول ما يعلمنا الصلاة، أو قال: علمه الصلاة.
قلت: الحديث في مسلم (2695) بلفظ: كان الرجل إذا أسلم علمه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الصلاة، ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني)).
9 وذكر الهيثمي في «كشف الأستار» (504) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((إني لأنظر من ورائي كما أنظر من بين يدي سووا صفوفكم، وأحسنوا ركوعكم وسجودكم)).
قلت: الحديث أخرجه مسلم رقم (423) بلفظ: ((ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي))، ورقم (424) بلفظ: ((ترون قبلتي هاهنا فو الله ما يخفى علي ركوعكم، ولا سجودكم إني لأراكم من وراء ظهري)).
10 ذكر الهيثمي في «الكشف» رقم (510) حديث أنس قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأقامني عن يمينه.(1/21)
قلت: الحديث أخرجه مسلم (660) عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى به وبأمه أو خالته. قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا.
11 ذكر البوصيري في «إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة» رقم (1754) حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((أقيموا صفوفكم، وتراصوا، فوالذي نفسي بيده! إني أرى الشيطان بين صفوفكم، كأنها عفر غنم)).
قلت –أي البوصيري-: يزيد هو ابن أبان الرقاشي ضعيف.
ورواه أبو داود في سننه دون قوله: ((كأنها غنم عفر))، وهو في الصحيحين وغيرهما بغير هذا اللفظ.
12 وذكر -رحمه الله- في «إتحاف الخيرة» رقم (1519) من طريق أبي يعلى الموصلي (154) حيث ابن عمر مرفوعا: ((لا تمنعوا إيماء الله مساجد الله)).
قال هذا إسناد رجاله ثقات، وأصله في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر.
وبهذا يعلم أن الزوائد تنقسم إلى متصلة ومنفصلة:
فالزوائد المتصلة بأحاديث أصولها في الكتب التي اشترط أن يكون الحديث زائدا عليها كما مثلنا.
وهذه الزوائد المتصلة هي في كثير من الحالات مظنة الشذوذ، أو النكارة.
ومثل ذلك زيادة ((وإذا قرأ فأنصتوا)) في حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عند الإمام مسلم -رحمه الله- رقم (404).
قال النووي -رحمه الله- واعلم أن هذه الزيادة وهي قوله: ((وإذا قرأ فأنصتوا)) مما اختلف الحفاظ في صحتها.
فروى البيهقي في «الكبير» عن أبي داود السجستاني أن هذه اللفظة ليست بمحفوظة.
وكذلك رواه عن يحيى بن معين، وأبي حاتم الرازي، والدارقطني، والحافظ أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم أبي عبدالله.
قال أبو علي الحافظ: هذه اللفظة غير محفوظة قد خالف سليمان التيمي فيها جميع أصحاب قتادة، واجتماع هؤلاء الحفاظ على تضعيفها مقدم.
زيادة: ((فسلم)) في حديث ((أفتان أنت يا معاذ))(1/22)
قال الإمام البيهقي: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ ثنا أبو عبدالله محمد بن يعقوب ثنا الحسين بن محمد القباني ثنا محمد بن عباد ثنا سفيان عن عمرو عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان معاذ يصلي مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ليلة العشاء، ثم أتى قومه فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل وسلم، ثم صلى وحده وانصرف.. وذكر باقي الحديث بمعناه، ولم يقل أحد في هذا الحديث ((وسلم)) إلا محمد بن عباد، رواه مسلم في «الصحيح» عن محمد بن عباد المكي.
وقال الإمام البيهقي -رحمه الله- (5251): أخبرنا أبو سعيد يحيى بن محمد بن يحيى الاسفراييني أنبأ أبو بحر محمد بن الحسن البربهاري ثنا بشر بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عمرو بن دينار وأبو الزبير -كم شاء الله- أنهما سمعا جابر بن عبدالله يقول: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- العشاء، ثم يرجع إلى قومه بني سلمة فيصليها بهم، وإن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخر العشاء ذات ليلة فصلاها معاذ معه، ثم رجع فأم قومه، فافتتح سورة البقرة فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده، فلما انصرف قالوا: أنافقت يا فلان؟ فقال: ما نافقت؛ ولكني آتي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأخبره، فأتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا رسول الله إنك أخرت العشاء البارحة، وإن معاذا صلاها معك، ثم رجع فأمنا فافتتح سورة البقرة، فتنحيت فصليت وحدي، وإنما نحن أهل نواضح نعمل بأيدينا، فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى معاذ فقال: ((أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت؟ اقرأ بسوره كذا، وسورة كذا)).
((1/23)
5252): قال عمرو: وعد سورا، قال سفيان: وقال أبو الزبير: وقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والسماء والطارق، والسماء ذات البروج، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، ونحوها)) فقلت لعمرو: فإن أبا الزبير كان يقول: إن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان قال له: ((اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والسماء والطارق، والسماء ذات البروج، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى)) فقال عمرو: هي هذه أو نحو هذه.
أخبرنا أبو عبدالله الحافظ أنبأ أبو بكر بن إسحاق الفقيه أنبأ بشر بن موسى ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عمرو بن دينار عن جابر فذكره ثم ذكر زيادة أبي الزبير، وبهذا المعنى رواه جماعة عن ابن عيينة.
(5253): ورواه محمد بن عباد المكي عن سفيان بن عيينة فقال في الحديث: فانحرف رجل فسلم، ثم صلى وحده وانصرف.
أخبرنا محمد بن عبدالله الحافظ ثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ أنبأ أبو يعلى ثنا محمد بن عباد ثنا سفيان فذكره.
رواه مسلم في الصحيح عن محمد بن عباد. اهـ من «السنن الكبرى» وحاصله أنه تفرد بها محمد بن عباد.
3 زيادة: ((إلا المغرب)) أخرج البخاري رقم (624و627)، ومسلم رقم (838) من طريق سعيد الجريري، وكهمس بن الحسن، عن عبدالله بن بريدة عن عبدالله بن مغفل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((بين كل أذانين صلاة، وقال في الثالثة لمن شاء)).
وأخرج الدارقطني (1/264)، والبيهقي في «الكبرى» رقم (4493) من طريق حيان بن عبيد الله العدوي، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه، وزاد فيه: ((إلا المغرب)) فأخطأ في إسناده ومتنه.
قال البيهقي: رواه حيان بن عبيد الله، وأخطأ في إسناده، وأتى بزيادة في متنه لم يتابع عليها.
ونقل الزيلعي في «نصب الراية» أن الفلاس قال: كان حيان كذابا، وجعل ابن الجوزي حديثه هذا عن بريدة بهذه الزيادة في الموضوعات (2/92)، وكذا ذكره الشوكاني في «الفوائدالمجموعة»(1/24)
4 زيادة: ((يحركها)) في حديث وائل بن حجر.
قال الإمام ابن خزيمة في «صحيحه» (1/354) رقم (714).
أخبرنا محمد بن يحيى، قال: أخبرنا معاوية بن عمرو. قال حدثنا زائدة، وهو ابن قدامة. قال: أخبرنا عاصم بن كليب الجرمي، قال: أخبرني أبي أن وائل بن حجر أخبره، قال: قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كيف يصلي؟. قال: فنظرت إليه يصلي، فكبر -فذكر بعض الحديث-، وقال: ثم قعد فافترش رجله اليسرى، ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى، وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها)).
قال أبو بكر ابن خزيمة: ليس في شيء من الأخبار ((يحركها)) إلا في هذا الخبر، زائدة ذكره. اهـ وذكر البيهقي في «الكبرى» بعد الحديث برقم (2787): فيحتمل أن يكون المراد بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها، فيكون موافقا لرواية ابن الزبير والله تعالى أعلم. اهـ
ولمزيد معرفة ذلك انظر: رسالة «البشارة» لأخينا الفاضل أحمد بن سعيد الحجري بتقديم شيخنا العلامة الوادعي -رحمه الله-.
ومضمونها في تحقيق مسند أحمد طبع مؤسسة الرسالة (31/160) رقم (18870).
قال المحقق: حديث صحيح دون قوله: فرأيته يحركها يدعو بها. فهو شاذ انفرد به زائدة بن قدامة بين أصحاب عاصم بن كليب، ثم ذكر ممن خالفهم زائدة أحد عشر واحدا من الأئمة منهم: عبدالواحد بن زياد، قال: فحديث عبدالواحد بن زياد سلف (18885) ولفظه: ((وأشار بأصبعه السبابة)).
وشعبة، وحديثه سلف رقم (18855) ولفظه: ((وأشار بأصبعه)).
وسفيان الثوري، وحديثه سلف (18858).
وزهير بن معاوية؛ وحديثه سيرد (18876).
وسفيان بن عيينة عند الحميدي (885)، والنسائي (3/34) ولفظه: ((أشار بالسبابة)).
وأبو الأحوص سلام بن سليم عند الطيالسي (1020) إلى آخرهم –كما- ذكرهم شيخنا -رحمه الله- في «الصحيح المسند» (2/239) طبعة دار الآثار.(1/25)
5 وزيادة: ((إنك لا تخلف الميعاد)) في حديث جابر -رضي الله عنه- عند البخاري رقم (614) من حديث جابر بن عبدالله أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)).
قال الحافظ في «الفتح» زاد في رواية البيهقي ((إنك لا تخلف الميعاد)).
وقال العلامة الألباني في «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» (1/260): تنبيه: وقع عند البعض زيادات في متن هذا الحديث فوجب التنبيه عليها -وذكر منها-:
الأولى: زيادة ((إنك لا تخلف الميعاد)) في آخر الحديث عند البيهقي، وهي شاذة؛ لأنها لم ترد في جميع طرق الحديث عن علي بن عياش.
قلت: وفي هذا رد على من قال: أن الزيادة لا تكون شاذة إلا إذا كانت منافية، كما ذكر الصنعاني في منظومته في المصطلح التي أسماها «قصب السكر» فقال:
وإن تجد زيادة للراويه ... فإنها تقبل لا المنافيه
فهذه زيادة موافقة لقوله ((الذي وعدته))، وأيضا أصلها في القرآن وهو قوله: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} [سورة آل عمران: 194].
وقد حكم عليها بالشذوذ، والحكم عليها بالشذوذ في هذا الحديث هو الصواب لما تقدم.
زيادة الثقة
وبما أن الشاذ له ارتباط بزيادة الثقة، وقد ذكرها الدكتور أحمد بن نصر الله (ص13 14) فيحسن نقل نبذة مفيدة في ذلك حتى لا يتوهم متوهم أن كل زيادة تكون شاذة، ولا كما يقول الدكتور أحمد: أن كل زيادة من ثقة مقبولة.
وتعريف الزيادة كما قال ابن رجب في «شرح العلل» (1/425): قال: أما مسألة زيادة الثقة فصورتها: أن يروي جماعة حديثا واحدا، بإسناد واحد ومتن واحد، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة. اهـ
قال الإمام الترمذي -رحمه الله-:(1/26)
ورب حديث إنما استغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد عليه.
مثل: ما روى مالك بن أنس، عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((فرض رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكرا أو أنثى من المسلمين صاعا من تمر، أو صاعا من شعير)).
فزاد مالك في هذا الحديث: ((من المسلمين)).
وروى أيوب السختياني، وعبيد الله بن عمر، وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر، ولم يذكر فيه ((من المسلمين)).
وقد روى بعضهم مثل ما روى نافع ممن لا يعتمد على حفظه وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك، واحتجوا به منهم: الشافعي، وأحمد.
قالا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر عنهم واحتجا بحديث مالك، فإذا زاد الحافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك عنه. اهـ
وقال الحافظ ابن رجب في شرحه على «علل الترمذي» (1/419):
هذا نوع من الغريب وهو أن يكون الحديث في نفسه مشهورا، لكن يزيد بعض الرواه في متنه زيادة تستغرب، وقد ذكر الترمذي أن الزيادة إن كانت من حافظ يعتمد على حفظه فإنها تقبل يعني: وإن كان الذي زاد ثقة لا يعتمد على حفظه لا تقبل زيادته، وهذا أيضا ظاهر كلام الإمام أحمد إلى أن قال (ص423): فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب أن زيادة الثقة للفظة في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزا في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة، ولم يتابع عليها فلا يقبل تفرده، وإن كان ثقة مبرزا في الحفظ على من لم يذكرها.
وفي ص (429) نقل عن الدارقطني في حديث زاد في إسناده رجلان ثقتان وخالفهما الثوري، فلم يذكره قال: لولا أن الثوري خالف لكان القول قول من زاد فيه؛ لأن زيادة الثقة مقبولة. قال ابن رجب: وهذا تصريح بأنه إنما يقبل الزيادة إذا لم يخالفه من هو أحفظ منه.(1/27)
وقال الحافظ ابن حجر في «نزهة النظر شرح نخبة الفكر» ص (95) مع النكت: واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن، والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبدالرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة، وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك، فإنه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه(1) : ويكون إذا أشرك أحدا من الحفاظ لم يخالفه، فإن خالفه فوجد حديثه أنقص كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر ذلك بحديثه انتهى كلامه،-قال الحافظ-: فإن خولف أي: الراوي بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات، فالراجح يقال له: المحفوظ، ومقابله وهو المرجوح يقال له: الشاذ. اهـ
وقال ابن عبدالبر -رحمه الله- في «التمهيد» كما في «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (2/690): إنما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبتت عنه، وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ، لأنه كأنه حديث آخر مستأنف.
وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ، ولا متقن؛ فإنها لا يلتفت إليها. اهـ
__________
(1) ... «الرسالة» (463و464).(1/28)
فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظا متقنا حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عددا منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه، أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقا، فإن زيادته لا تقبل وهذا مغاير لقول من قال وأطلق: زيادة الثقة مقبولة كما في «النكت على ابن الصلاح» بتحقيق العلامة ربيع المدخلي حفظه الله (2/690)
وأقول: إن من أكثر من شاد بهذا القول: أن زيادة الثقة مقبولة مطلقا النووي -رحمه الله-، وقد خرم قاعدته في شرحه على «صحيح مسلم» عند حديث أبي موسى رقم (404) زيادة: ((وإذا قرأ فأنصتوا)) فقال بما قاله الحفاظ فيها أنها زيادة غيرمحفوظة، وقد زادها سليمان بن طرخان التيمي وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، والنسائي، وابن سعد وغيرهم.
وقال شعبة بن الحجاج: شك ابن عون وسليمان التيمي يقين، كما في ترجمته من «تهذيب الكمال» للحافظ المزي -رحمه الله-.
وكذا انتقدوا إطلاق القول بقبولها على ابن الصلاح فنقل الإمام الصنعاني -رحمه الله- في «توضيح الأفكار» (1/339) قال: قال البقاعي: إن ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإن للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظرا لم يحكه وهو الذي لا ينبغي أن يعدل عنه وذلك أنهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد إنما يديرون ذلك على القرائن. اهـ(1/29)
قال الحافظ: الذي صححه الخطيب شرطه أن يكون الراوي عدلا ضابطا، وأما الفقهاء والأصوليون فيقبلون ذلك مطلقا، وبين الأمرين فرق كثير، وقال: وهاهنا شيء يتعين التنبيه عليه، وهو أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذا وفسروا الشاذ بأنه: ما رواه الثقة مخالف فيه من هو أحفظ منه، أو أكثر عددا، ثم قالوا: تقبل الزيادة مطلقا، فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عددا، أو أضبط حفظا، أو كتابا، على من وصل أيقبلونه أم لا؟ وهل يسمونه شاذا أم لا؟ أو لا بد من الإتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض، والحق في هذا زيادة الثقة لا تقبل دائما، ومن أطلق ذلك من الفقهاء والأصوليين لم يصب، وإنما يقبلون ذلك إذا استووا في الوصف ولم يتعرض بقيتهم لنفيها لفظا ولا معنى، وممن صرح بذلك الإمام فخر الدين، وابن الأنباري شارح «البرهان» وغيرهما.
قال ابن السمعاني: إذا كان راوي الناقصة لا يغفل، وكانت الدواعي متوفرة على نقلها أو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا عن تلك الزيادة، وكان المجلس واحدا فالحق أن لا تقبل رواية راوي الزيادة هذا الذي ينبغي. انتهى من «توضيح الأفكار».
وقد نقله شيخنا العلامة الوادعي من توضيح الأفكار بتمامه في مقدمة تحقيقه على الإلزامات والتتبع ص (17) وأقره، وكان يفتي بهذا التفصيل إلى أن مات -رحمه الله-. ونقل الحافظ في «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (2/688) قال: قال ابن خزيمة في «صحيحه»:
لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ، ولكنا نقول إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان، فروى حافظ عالم بالأخبار زيادة في خبر قبلت زيادته فإذا تواردت الأخبار فزاد وليس مثلهم في الحفظ زيادة لم تكن تلك الزيادة مقبولة، وفي «سؤالات السهمي للدارقطني» سئل عن الحديث: إذا اجتمع فيه الثقات قال: ينظر على ما اجتمع عليه ثقتان، فيحكم بصحته، أو ما جاء بلفظة زائدة في خبر فتقبل تلك الزيادة من متقن، ويحكم لأكثرهم حفظا وثبتا على من دونه.(1/30)
قال الحافظ: قلت: وقد استعمل الدارقطني ذلك في «العلل»، «والسنن» كثيرا وذكر أمثلة على ذلك.
وسئل العلامة الألباني -رحمه الله- عن زيادة الثقة كما في «الدرر في مسائل المصطلح والأثر» (ص16) فقال: الذي فهمناه أن الراجح عند أئمة العلم والذي نحن نجري عليه أن زيادة الثقة مقبولة إذا كان ليس هناك من هو أرجح منه حفظا أو كثرة فزيادة الثقة بهذا القيد، وليس على الإطلاق كما هو مذهب بعض الأصوليين. اهـ
قلت: من أعجب ما قاله هذا الدكتور المهوش أحمد هداه الله (ص12) من«أضوائه» أنه يحسن لمن انتصب لخدمة السنة أن يستفيد من الجهود المباركة للأئمة الأوائل ومن سبقوه في هذا الشأن كالحافظ العراقي، وابن حجر، والعلامة أحمد شاكر وغيرهم وعند أن تقارن قوله هذا بفعله في هذه المسألة وغيرها مما مضى وسيأتي من جهود هؤلاء الأئمة ونحوهم ترى أن بين قوله وفعله بعد المشرقين، فأين استفادته من هذه الجهود التي ألمحنا إليها في هذه المسألة فلعدم ثبات قدمه في هذا العلم تراه يقرر قاعدة من قواعده تلك؛ ويناقضها بعدها بسطر أو أسطر، وما أحسن ما قيل:
أثبات ضدين معا في حال ... أقبح ما يأتي من المحال
ونعود فنقول: وإن كان الدكتور أحمد نصر الله يهدف بقوله: فالاشتغال بتصحيح المتون التي ثبتت في الصحيحين أي: عن صحابة غير من أخرج لهم الشيخان من الصحابة ولو بلفظ أحد الإمامين أو أحدهما؛ فهذا القول مؤداه أن البخاري ومسلما قد استوعبا جميع الحديث الصحيح ويكون أحمد نصر الله بجهله هذا قد تأبط من الشر، وقال قولا غير معتبر فيناسب هنا أن نحيل الدكتور أحمد إلى مبادئ علوم هذا الفن «كاختصار علوم الحديث» للحافظ ابن كثير (ص35) قال -رحمه الله-:
ثم إن البخاري ومسلما لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صححا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها. اهـ(1/31)
وقال النووي في «التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير» ص(22):
ولم يستوعبا الصحيح ولا التزماه، قيل: ولم يفتهما منه إلا قليل، وأنكر هذا، والصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير، (إلى أن قال): ثم إن الزيادة في الصحيح تعرف من السنن المعتمدة، كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي وغيرهما. اهـ
قلت: ومما يؤيد ما قاله هذان الإمامان وغيرهما من أنهما لم يقصدا استيعاب الصحيح ما في تاريخ بغداد (2/9 8) أن الإمام البخاري قال: ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطوال. اهـ
وقال الإمام مسلم في «صحيحه» (1/304) حديث رقم (404) بعد زيادة: ((وإذا قرأ فأنصتوا)) من حديث أبي موسى الأشعري قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه. اهـ
ومقدمته لصحيحه ناطقة بذلك، والواقع شاهد بذلك، فلو كانا قد استوعبا الصحيح، فإن عمل من جاء بعدهما من أصحاب السنن، والمسانيد، والمعاجم عمل لا فائدة له، ولا جدوى على نحو ما عبر به الدكتور أحمد صبري فيما نقلناه عنه، وهذا تجاه جهود الأئمة، وسائر المسلمين، طعن رذيل، وهو يعتبر من أبطل الأباطيل، إذ أن من لازمه أن أهل العلم وطلابه يضيعون أنفس أعمارهم، وخالص أموالهم، في تأليف وشراء ما لا فائدة فيه، وحاشاهم من هذا العبث.
ثم قال الدكتور هداه الله في (ص11):
فرق علماء المصطلح وأهل الجرح والتعديل بين حكم المحدث على حديث بقوله: هذا صحيح الإسناد:، أو حسن الإسناد، أو ضعيف الإسناد، فرقوا بين ذلك، وبين قوله: على حديث ما هذا حديث صحيح، أو هذا حديث حسن، أو هذا حديث ضعيف، وذلك لأنه في الحالة الأولى يعني الحكم على الإسناد القائم فيها احتراز لطيف عن احتمال وجود علة خفية يمكن أن تقدح في صحة المتن أو وجود طرق أخرى مختلفة عن هذا الطريق الصادر بشأنه الحكم، ويمكن أن تغير من هذا الحكم.(1/32)
أما في حالة إطلاق الحكم: حديث حسن، أو حديث صحيح، أو حديث ضعيف، فإن هذا الإطلاق يعني حكما عاما على الحديث يلزم صاحبه أن يكون قد أحاط بطرق هذا الحديث، حتى يطمئن على صحة الحكم النهائي الذي أصدره، ثم نقل عن ابن الصلاح أنه قال في «علوم الحديث» (ص35):
قولهم: هذا حديث صحيح الإسناد، أو حسن الإسناد، دون قولهم: حديث صحيح، أو حديث حسن، لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولا يصح؛ لكونه شاذا أو معلا. اهـ
وبيان خطأ استدراك الدكتور أحمد في هذه المسألة اليسيرة عند طلاب العلم من وجوه:
الوجه الأول: تهويله بأن هذا التفريق المذكور هو تفريق علماء المصطلح، وعلماء الجرح والتعديل، فأطلق العام على الخاص، وقوله هذا يشعر: أن لا خلاف في المسألة، ومثل هذا في ميدان النقد معيب، فهو إما أنه يطلق الألفاظ على عواهنها في مواطن ينبغي التدقيق فيها، وهذا جهل وغباء، وإما أنه يتعمد هذه الإطلاقات تمويها على القارئ، حتى يظن أن المسألة قام عليها إجماع علماء الشأن، وليس هناك إجماع، ولا شبهه في المسألة، بل إن اصطلاح عامة أهل الشأن في الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ولا يكون شاذا، ولا معلا أنه حديث صحيح هكذا يقولون عن الحديث المستوفي لشروط الصحة أنه (حديث صحيح)، ولا يقولون: إسناده صحيح.
وإليك النقل عن الإمام ابن الصلاح نفسه الذي لم يفهم دقة كلامه هذا الدكتور المجعجع قال: أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا، ولا معلا، وفي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل، والمنقطع، والمعضل، والشاذ، وما فيه علة قادحة، وما في راويه نوع جرح.
فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث انتهى من «علوم الحديث» لابن الصلاح ص (10-11).
وقال النووي -رحمه الله- في «التقريب والتيسير» (ص21): الحديث: صحيح، وحسن، وضعيف.(1/33)
الأول: الصحيح، وفيه مسائل:
الأولى: في حده، وهو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين، من غير شذوذ ولا علة، وإذا قيل: صحيح، فهذا معناه.... إلخ.
قال السيوطي في «التدريب» (1/75): أي: ما اتصل سنده مع الأوصاف المذكورة قبلناه عملا بظاهر الإسناد. اهـ
وعلى ذلك درج أئمة الحديث، ولو فطن المستدرك إلى ما نقله قريبا من إجماع أهل الحديث على صحة أحاديث الصحيحين إلا أحاديث يسيرة انتقدها بعض الحفاظ هي محل اجتهاد النقاد؛ فهذا الحكم هو على الحديث نفسه، الذي هو ثمرة هذا الجهد المبذول في معرفة شروط الصحة، وإليك نماذج من أحكام الأئمة على الحديث نفسه:
قال الإمام مسلم -رحمه الله- في «صحيحه» رقم (404):
وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة: ((وإذا قرأ فأنصتوا)).
قال أبو إسحاق: قال أبو بكر ابن أخت أبي النضر في هذا الحديث، فقال مسلم: تريد أحفظ من سليمان؟ قال له أبو بكر: فحديث أبي هريرة؟ فقال: هو صحيح، يعني: ((وإذا قرأ فأنصتوا))؟ فقال: هو عندي صحيح.
قال: لم لم تضعه هاهنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه. اهـ
فعلم بهذا النص أن الإمام مسلم يسأل عن الحديث، فيحكم عليه بعينه، ولم يحكم على الإسناد، فيقول: إسناده صحيح، وأنه وضع في صحيحه الأحاديث الصحاح.
وعلم من قول الإمام البخاري فيما ذكرناه قبل أنه قال: ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح.
فكان حكمه على الأحاديث التي سمى صحيحه بها، فقال: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وسننه وأيامه كما في مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر -رحمه الله- ص (10).(1/34)
وأحكام الترمذي على أحاديث جامعه الذي فيه الصحيح، والحسن، والضعيف، غير خافية على أحداث طلاب هذا العلم سواء في ذلك ما حكم عليه هو بقوله: هذا حديث حسن صحيح، أو هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، فيحكم على الحديث بذاته بما لا يعرف له وجها آخر.
وكثيرا ما يقول: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: هو حديث صحيح.
وكذا الإمام البغوي يقول في «شرح السنة»: هذا حديث صحيح، وهذا معروف لكل من قرأ في كتابه المذكور.
وبهذه النبذة من النقولات والإحالات يعلم أنه لا انتقاد، ولا غضاضة على من حكم على حديث بما ظهر من توفر شروط الصحة المتفق عليها في إسناده. فقال: هذا حديث صحيح.
وأن الانتقاد في ذلك بنحو ما صنع الدكتور من التقعيدات يعتبر ضربا من التعنت في اصطلاح قديم لأئمة الحديث، لا تثريب فيه على من عبر بقوله: هذا حديث صحيح، أو هذا حديث إسناده صحيح، أو حديث ضعيف، أو إسناده ضعيف؛ إذا كان جاريا على ضوابط الحديث المعلومة، فالله أعلم ما الباعث في نفس المستدرك لهذا التعنت:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم ... كم حار فيها عالم متكلم
وهذا تعقيب على كلام ابن الصلاح لا أدري جهله المستدرك أو غفل عنه.
قال الإمام الزركشي -رحمه الله- في «نكته على مقدمة ابن الصلاح» (1/121): ومتى كان المتن غير صحيح، فمحال أن يكون له إسناد صحيح على الشرط المذكور، لأن من جملة الشروط: أن لا يكون شاذا ولا معلا (إلى أن قال(: وإنما فيه أنه لا يستفاد ولا يفهم من قولهم: هذا الحديث غير صحيح. أكثر من أنه لم يصح له إسناد على الشرط المذكور. اهـ
وقال الإمام ابن كثير في «اختصار علوم الحديث» ص (93): وقد نبه الشيخ أبو عمرو هاهنا على أنه لا يلزم من الحكم بضعف سند الحديث المعين، الحكم بضعف في نفسه، إذ قد يكون له إسناد آخر، إلا أن ينص إمام على أنه لا يروى إلا من هذا الوجه، ثم قال ابن كثير:(1/35)
قلت: يكفي في المناظرة تضعيف الطريق التي أبداها المناظر، وينقطع إذ الأصل عدم ما سواها حتى يثبت بطريق أخرى.
وأفاد العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- في حاشيته على هذا الكلام من وجد حديثا بإسناد ضعيف، فالأحوط أن يقول: إنه حديث ضعيف بهذا الإسناد، ولا يحكم بضعف المتن مطلقا من غير تقييد بمجرد ضعف ذلك الإسناد، فقد يكون الحديث واردا بإسناد آخر صحيح، إلا أن يجد الحكم بضعف المتن منقولا عن إمام من الحفاظ المطلعين على الطرق.
وإن نشط الباحث للبحث عن طرق الحديث، وترجح عنده أن هذا المتن لم يرد من طريق أخرى صحيحة، وغلب على ظنه ذلك فإني لا أرى بأسا بأن يحكم بضعف الحديث مطلقا، وإنما ذهب ابن الصلاح إلى المنع تقليدا لهم في منع الاجتهاد. اهـ أي: في التصحيح، والتضعيف، في هذه الأعصار.
وقال في حاشيته (ص38) تحت باب: الزيادات على الصحيحين من المصدر المذكور.
ذهب ابن الصلاح إلى أنه قد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، ومنع بناء على هذا من الجزم بصحة حديث لم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، وبنى على قوله هذا: أن ما صححه الحاكم من الأحاديث، ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحا ولا تضعيفا، حكمنا بأنه حسن، إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه، وقد رد العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجاز لمن تمكن، وقويت معرفته، أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن إسناده وعلله، وهو الصواب.
والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه، أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث وهيهات! فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل لا برهان عليه من كتاب، ولا سنة، ولا تجد له شبه دليل. اهـ(1/36)
وهو تحرير جيد مع ما قبله محصل المجموع: أن لا مانع من الحكم بالصحة على ما توفرت للمحدث الفهم شروط الصحة فيه، ولو من طريق واحدة وإذا صح الحديث عنده من طريق بعينها فإن شاء زاد من إضافة طرقه التي يتحصل عليها لمزيد التقوية،كما صنع الإمام مسلم في «صحيحه» كما بينه في مقدمته فقال مخاطبا من سأله تصنيف جملة من الحديث الصحيح قال: ثم إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألت وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك وهو أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته، فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم فأما ما وجدنا بدا من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى، فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم، فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من(1/37)
الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية. اهـ من مقدمة صحيح مسلم ص (4).
وإن شاء اقتصر على الطريق التي بلغ علمه صحتها على قواعد الفن، كما صنع الإمام ابن الجارود في «منتقاه»، حيث وهو معدود عند أهل الحديث من صحاح المصنفات كما ذكر الذهبي في ترجمة ابن الجارود من «السير» (11/271)، و«طبقات أصحاب الحديث» لابن عبدالهادي رقم (722)، وكذا ترجمة ابن حزم من «السير» للذهبي (13/548) طبعة الباز.
وتراه غالبا يسوق الحديث بسنده، ولم يذكر له غير طريق واحدة، مع أن له في الصحيحين، والسنن، طرقا عديدة، وقل أن تجد حديثا انفرد به ابن الجارود عن الكتب الستة، إلا في نحو ستة وعشرين حديثا جمعها بعض الكتاب في جزء صغير، وهذا الذي سلكه الشيخ -رحمه الله- في «صحيحه» أنه تارة يحكم على ما يجده من طرق الحديث بذاتها ويكتفي بذلك، وتارة يسوق من المتابعات لسنده وهذا واضح.
وقد أبان في «مقدمة صحيحه» أنه لم يهتم بكثرة التخريج فقال ص (26): لم أهتم بكثرة التخريج عن عمد، لكي أقدم للقارئ نبذة يسيرة تضم إلى الصحيحين، وقد اخترت من الأسانيد أحسنها، وربما أكتب الحديث بسند حسن فأراه بسند صحيح فأضيفه، وأنبه على ذلك والحمد لله. اهـ
وأبان أيضا في «مقدمة صحيحه» أنه لم يخرج فيه الحسن لغيره، وعلل ذلك بقوله: إذ هو يحتاج إلى وقت طويل، والبحث واسع كما ترى، فلم أتمكن. اهـ فعلى هذا فشرط الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب هو أن يكون الحديث ليس في «الصحيحين» أو أحدهما عن ذلك الصحابي الذي أخرجه له إلا بزيادة مبينة، وأن يكون الحديث صحيحا، أو حسنا لذاته فمن طالبه في مؤلفه هذا بإخراج الصحيح، أو الحسن لغيره فقد طالبه بغير شرطه الذي التزمه في هذا الكتاب.(1/38)
وقد سلك في بعض كتبه الأخرى جمع طرق الحديث بشواهده ومتابعاته، فلا يحكم عليه بالصحة مطلقا، أو الحسن، أو الضعف، حتى يلم بما يجعله مطمئنا لذلك الحكم، كما استفدناه من دروسه وبحوثه الأخرى مثل: كتاب «الصحيح المسند من أسباب النزول»، و«كتاب الشفاعة»، «وشرعية الصلاة في النعال»، «وذم المسألة»، «وتحريم تصوير ذوات الأرواح»، «وتحريم الخضاب بالسواد»، «والجمع بين الصلاتين في السفر» ونحوها أنه لا يحكم على حديث حتى يطمئن لما يقوله فيه، فأرجو بهذا أن يكون قد تشتت، بل تفتت تهويش المذكور الدكتور أحمد بن نصر الله في مقدمته تيك الشاخصة بطرفها الأرمد إلى «الصحيح المسند» ومؤلفه شيخنا المحدث الإمام الوادعي -رحمه الله-.
والآن نأتي إن شاء الله تعالى على ما زعم أنه استدركه على «الصحيح المسند» من الأحاديث.
الجواب على دعواه: الخطأ الأول
قال في ص (15) من «أضوائه»:
قال –يعني الإمام الوادعي -رحمه الله-- (ص366 ج2) رقم (1366): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (8257):
حدثنا أبو عبدالرحمن، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا محمد بن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: ((لا يزال لهذا الأمر أو على هذا الأمر عصابة على الحق ولا يضرهم خلاف من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله)). هذا حديث حسن.
قال الدكتور: قلت: قد بلغ هذا الحديث مبلغ التواتر، (ثم ذكر أنه جاء عن عدد، وذكر أن عددا من الأئمة صرحوا بتواتره، وفي نهاية تخريجه لتلك الطرق في أربع صفحات، قال (ص18):
فتبين من ذلك أن إطلاق القول على هذا الحديث هذا حديث حسن ليس بحسن، بل هو قصور كبير، ونزول بالحديث عن المرتبة الحقيقية له.(1/39)
قلت: والرد على هذا القول هو: أن كون هذا الحديث متواترا هذا لم يكن بحمد الله خافيا على شيخنا الإمام الوادعي -رحمه الله-، وبرهان ذلك أنه خرج هذا الحديث في كتابه «الجامع الصحيح في القدر» (ص411 415) عن تسعة من الصحابة -رضي الله عنهم-.
1 عن معاوية بن أبي سفيان، أخرجه من صحيح البخاري (6/632)، ومسلم (3/1524).
2 عن المغيرة بن شبعة أخرجه من «صحيح البخاري»، (6/632)، و«مسلم» (3/1523).
3 عن عقبة بن عامر أخرجه من «صحيح مسلم» (3/1524).
4 عن ثوبان. أخرجه من «صحيح مسلم» (3/1524).
5 عن جابر بن سمرة. أخرجه مسلم (3/1524).
6 عن جابر بن عبدالله. أخرجه من «صحيح مسلم» كذلك.
7 عن قرة بن إياس عند الترمذي (6/433) مع «تحفة الأحوذي»، وذكر في «الصحيح المسند» (2/138) من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة)).
وأخرجه من «مسند أحمد» (5/34)، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة به. وقال هذا حديث حسن.
8 عن عمران بن حصين. أخرجه أحمد في «المسند» (4/429)، وأبو داود (7/162) مع عون المعبود، والصحيح المسند (2/96)، وحكم عليه بالصحة.
9 سلمة بن نفيل السكوني. أخرجه البخاري في «التاريخ الكبر» (4/70)، وأحمد في «المسند» (4/104)، وحكم عليه بالصحة.
وبهذا تعلم أن العلامة الوادعي -رحمه الله- لم يحكم على حديث أبي هريرة حسب سنده هذا بالحسن، غفلة منه عن بقية الأحاديث الصحاح في الباب، ولكن الغفلة، والجهل الطارئ على الدكتور أحمد بطريقة المحدثين، هو الذي كلفه أن يتقحم لججا لا يحسن سباحتها، برهان ذلك:(1/40)
أن الشيخ حكم على كل حديث بما يقتضيه سنده، كما يصنع الهيثمي في «مجمع الزوائد» بما لا يخفى على من نظر فيه، إذ يحكم على كل حديث بما يستحقه، معللا بما علمه من حال سنده، وهذا شأنه، وشأن غيره من الأئمة، وانظر مثالا على ذلك: حديث كفارة المجلس من «فتح الباري» للحافظ ابن حجر (13/679) إذ ساقه عن جم غفير من الصحابة، يحكم على كل طريق، فمنها ما حكم عليه بالصحة، ومنها ما حكم عليه بالضعف، وكذلك صنع العلامة الألباني في «الصحيحة» (4/597 603) ذكر الحديث عن عدد من الصحابة، ويحكم على كل طريق بما تستحقه، ومنها حديث أبي هريرة هذا من إحدى طرقه، قال: هذا حديث حسن إن شاء الله.
فلو سلك المحدثون مسلك الدكتور أحمد لكان يكفي الإمام ابن حجر عن ذلك الجهد الذي بذله في طرق حديث كفارة المجلس، أن يأتي بأصلها من الصحيحين عن أبي هريرة ولا حاجة له إلى سرد ما عداها، وكذلك يكفي الهيثمي إذ ذكر حديث المغيرة المذكور هنا الذي أصله في الصحيحين أن لا يزيد عليه.
وكذا العلامة الألباني يكفي أنه خرج الحديث رقم (1955) عن المغيرة، والحديث متفق عليه، ولا حاجة أن يسوق غيره، ويحكم عليه بالحسن كما صنع في المصدر المذكور، فإن كان هذا فهم الدكتور، فهذا منهج هدام لجهود ألوف المحدثين الذين أفنوا أعمارهم في معرفة أحوال طرق الأحاديث.
ولعله قد تناوله سوء تعبيره في مقدمته كيفما كان أصلها (ص10) بقوله: فالاشتغال بتصحيح المتون التي ثبتت في الصحيحين تحصيل حاصل، وتبديد للجهد، كمن يريد أن يكيل البحر. اهـ إذ أن هؤلاء الأئمة الذين ذكرناهم ليس منهم من يقول بتصحيح أحاديث الصحيحين، ولكن بالحكم على أحاديث قد جاءت عن صحابة آخرين في الصحيحين، أو أحدهما.(1/41)
وإن كان نقده على ما يعبر عنه في كتب المصطلح بـ (لا مشاحة في الاصطلاح)، من حيث أنه سلك طريقة من ذكرناهم قيل: في الحكم على الحديث بصيغة حديث حسن، أو إسناده حسن مع مراعاة قواعد الفن، فقد قدمنا الرد عليه كافيا إن شاء الله ، وإلا كان الرد على الترمذي، والبغوي، وغيرهم ممن عبر بهذا التعبير، وليس ردا على الشيخ -رحمه الله- وحده في ذلك.
ونقول للدكتور أحمد: كيف تعرف حال الزوائد التي تبنى عليها الأحكام في دين الله من هذه الأحاديث صحة، وضعفا؟ إلا بالحكم على كل طريق بما تستحقه، وكيف يكون الترجيح إلا بذلك إلى آخر ما يترتب على الحكم على الحديث الذي سنده حسن، بأنه حسن، ولو كان في بابه أعداد الصحاح، والحديث الذين سنده ضعيف أو موضوع، كذلك وقد شحنت كتب الحديث بهذا بما لا يحسن ضرب المثل فيه لكثرته، وشهرته، ولا يتكلف من أراد النظر في ذلك إلى فتح مثل: «التلخيص الحبير» لابن حجر، و«والبدر المنير» لابن الملقن، و«التحقيق» لابن الجوزي، و«نصب الراية» للزيلعي، ونحوها.
فما تفسير انتقادك على العلامة الوادعي -رحمه الله- في حديث رأى سنده يقتضي له الحكم بالحسن، فحكم عليه بالحسن، كما حكم على غيره في نفس الصحيح المسند من بابه بالصحة حسب ضوابط الفن.
وما أنت قائل أمام ما ألمحت لك من صنيع جحافل أهل الحديث على هذا المنوال؟؟
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني
قال الدكتور ص (19) من ظلماته التي سماها: «أضواء»:
وهو خطأ فاحش قال: (1/275) الحديث رقم (368): قال الإمام البخاري -رحمه الله- (3/449):
حدثنا مكي قال حدثنا الجعيد، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن امرأة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((يا عائشة أتعرفين هذه؟)) قالت: لا يا نبي الله. فقال: ((هذه قينة بني فلان تحبين أن تغنيك؟)) قالت: نعم. قال: فأعطاها طبقا فغنتها. فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((قد نفخ الشيطان في منخريها)).(1/42)
ثم قال: قلت: هذا خطأ فاحش إذ لم يرو البخاري هذا الحديث في «صحيحه» ولا في «الأدب المفرد» له، فلا أدري كيف وقع هذا الوهم الكبير.
ثم ذهب يتشدق بكلام يحاول به إعلال الحديث، بلا أي مستند صحيح، ولا مثال سابق من الأئمة، وإلى الله المشتكى من هؤلاء العابثين.
وحين وقفت على هذا التهويل من ظلمات الدكتور أحمد هداه الله سارعت متعجبا إلى النظر في مسند السائب بن يزيد من طبعات الكتاب الأخيرة حسب قول الدكتور في مقدمة ظلماته (ص14)، قال:
وللعلم فإننا قد اطلعنا على الكتاب في آخر طبعاته، والمرتبة على النحو الموضوعي، فساءنا مرور بضع سنين على الكتاب بينما الأحاديث كما وردت في الطبعات الأولى دون استدراك.
والواقع أن الدكتور لم يصدق في قوله: أنه اطلع على الكتاب في آخر طبعاته، وأن هذا الخطأ فيه، وهذا رقم الحديث من الطبعة الأخيرة المطبوعة عام/ (1426هـ) في (دار الآثار) أول مسند السائب بن يزيد رقم (361)، ولم تخرج في السوق إلا في آخر عام (1427هـ)، وظلمات الدكتور طبعت في عام (1427هـ) كما هو مؤرخ فيها، فأي طبعة جديدة اطلع عليها.
والطبعة التي قبلها من «الصحيح المسند» في عام (1416/هـ) طبع دار الحرمين رقم (357)، ولا نعلم طبع من «الجامع الصحيح» المرتب على أبواب الفقه إلا في هاتين الدارين طبع دار الحرمين (1/367)، وطبع (دار الآثار) (1/404)، وليس فيها تخريج الحديث إلى البخاري، وإنما من «مسند أحمد» (3/449).
وإنما تشبث الدكتور هداه الله بخطأ مطبعي في أول طبعة للكتاب، وهي طبعة دار القدس بصنعاء اليمن فبنى على هذا الخطأ المطبعي قصورا وعلاليا.
ومما يؤكد أنه خطأ مطبعي:
أولا: أن الشيخ قرأ علينا الكتاب، وصححنا هذا الخطأ المطبعي بإملاء منه أنه خطأ مطبعي، وهذا التصحيح موجود في نسختنا الأولى إلى الآن، أن الحديث في «مسند أحمد» وليس في البخاري.(1/43)
ثانيا: أن هذا خلاف شرط الشيخ الواضح على ظاهر الكتاب، وفي مقدمته مما يلفت نظر الشيخ -رحمه الله- ونظر غيره من الطلاب، وسائر القراء إلى التنبيه على هذا الحديث أن يلغى لو أنه وجد في «الصحيح المسند»، وهو في «صحيح البخاري».
ثالثا: لو كان أحمد صاحب إنصاف، وليس صاحب إلتماس للبراء العنت كان يكفيه أن عثر على الحديث بنفس الرقم الذي وضعه الشيخ -رحمه الله- من «مسند أحمد» (3/449)، كما ذكر الدكتور في حاشية ظلماته (ص21)، فقال: وأن الحديث في «مسند أحمد» (3/449)، فلا أدري ما الحامل له على تجشم إلتماس الخطأ في «الصحيح المسند» ولو بهذه التلفيقات.
رابعا: أن هذا الحديث الذي أنكره الدكتور بغير أي مستند صحيح على حساب غيرته المزعومة، ليس الشيخ -رحمه الله- أول من صححه، فقد قال الإمام الهيثمي -رحمه الله- في «مجمع الزوائد» (8/130) كتاب الأدب باب غناء النساء رقم (13358): رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» (6686)، ورجال أحمد رجال الصحيح. اهـ
وهذا الحكم على تحفظ من قوله: رجاله ثقات، إلا أنه يفيد بمضمونه مع غيره، الحكم على الحديث بأنه صحيح.
وصححه العلامة الألباني في «الصحيحة» رقم (3281)، ونقل عن الزبيدي في «شرح الإحياء» أنه قال: وإسناده صحيح.
والدكتور قد أرشدنا في مقدمته مشكورا إلى الاستفادة من جهود هؤلاء الأئمة، ومنهم: الألباني، ثم هنا نقض غزله أنكاثا {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.(1/44)
وقال محقق المجلد الرابع والعشرين من «المسند» ص (497): إسناده صحيح وذكر الحديث الإمام النسائي في «الكبرى» رقم (8911)، ولم يذكر له أي علة مع عنايته بهذا الجانب، وهذا الذي يقتضيه سند الحديث أن يحكم له بالصحة، فإن رجاله كلهم ثقات، وقد صرح مكي بسماعه من الجعيد، كما في «تهذيب التهذيب» قال البخاري: قال مكي: سمعت منه سنة (144هـ)، وروى عن يزيد كما في «التهذيب»، والجعيد سمع من يزيد بن خصيفة، وهو روى عن السائب بن يزيد، وأخرج له البخاري حديثا عن السائب عنه فروى عن يزيد كما في «صحيحه» كتاب الطهارة رقم (190) في الوضوء باب: (40) وصرح بسماعه من السائب.
ولهذا قال ابن حبان: روى عن السائب بن يزيد إن كان سمع منه، فتعقبه الحافظ في «التهذيب» فقال: ولا معنى لشكه في ذلك، فقد أخرج له البخاري بسماعه من السائب في الطهارة.
ويزيد بن عبدالله بن خصيفة روى عن السائب، ورمز الحافظ المزي في «تهذيب الكمال» لروايته عنه إلى (خ) يعني: البخاري، ورمز له في «تحفة الأشراف» إلى النسائي، وابن ماجه.
ولقد نظرت فيما لدي من كتب العلل، فلم أر ما يكون عذرا للدكتور أحمد في القول بنكارة الحديث، إلا مجرد الهوى! هوى النفوس الأمارة بالسوء، وليس عذرا لها في الدنيا ولا الآخرة، وصدق ربنا إذ يقول: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون} [المؤمنون: 71].
فقد أخرج البخاري رقم (952)، ومسلم (892) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث. قالت: وليستا بمغنيتين. فقال: أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وذلك في يوم عيد. فقال: رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يا أبا بكر، لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا)).
وهذا نظير حديث السائب فما عسى الدكتور أن يقول فيه.(1/45)
وهاك توجيه أهل العلم للحديث وبيان معناه، بعيدا عن تعسفات الدكتور:
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث:
((يوم بعاث)) يوم جرت فيه بين قبيلتي الأنصار: الأوس والخزرج في الجاهلية حرب، وكان الظهور فيه للأوس. (إلى أن قال):
وقولها: ((وليستا بمغنيتين)) معناه: ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به.
وقال القاضي عياض في شرحه على مسلم: إن كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب، والمفاخرة بالشجاعة، والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: ((وليستا بمغنيتين)) أي: ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال، وما يحرك النفوس، ويبعث الهوى والغزل، (إلى أن قال) والعرب تسمي الإنشاد غناء. إلخ.
وقال النووي: قوله: ((أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله)): فيه أن مواضع الصالحين، وأهل الفضل تنزه عن اللهو، واللغو ونحوه، وإن لم يكن فيه إثم. اهـ المراد.
وقال الإمام ابن حبان في «صحيحه» (13/187) «الإحسان»:
ذكر البيان بأن الغناء الذي وصفناه، إنما كان ذلك أشعارا قيلت في أيام الجاهلية، فكانوا ينشدونها، ويذكرون تلك الأيام دون الغناء الذي يكون بغزل يقرب سخط الله جل وعلا من قائله.
ثم ذكر حديث عائشة المخرج آنفا من «الصحيحين» وأتبعه بحديث خالد بن ذكوان، عن الربيع بنت معوذ، قالت: جاء رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فدخل علي صبيحة عرسي فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بدف لهن، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن:
وفينا نبي يعلم ما غد
فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((دعي هذا، وقولي ما كنت تقولين)). وأخرجه البخاري رقم (4001).
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث
قال الدكتور في «استدراكه» (ص22):(1/46)
قال (1/308) رقم الحديث (426): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/44):
حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي مسلمة أنه سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: ((من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).
هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأبو مسلمة هو سعيد بن يزيد، وأبو نضرة هو منذر بن مالك.
وقال في «الصحيح المسند» المرتب على الموضوعات الفقهية الطبعة الأخيرة عام / (1995/م) (1/34): هذا حديث حسن.
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ كبير في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الحديث على أعلى درجة من درجات الصحة والثبوت، فكيف يعطى هذا الحديث الجليل القدر، حكما بأنه حديث حسن، وهو من الأحاديث القلائل المتواترة.
وهذا النهج يخالف منهج أهل الجرح والتعديل، وأئمة التخريج، ففيه من التغرير بطالب العلم ما فيه، إذ تجتمع لديه معلومات قاصرة وخاطئة عن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ثم جعل يحشد أسماء الصحابة رضوان الله عليهم الذين رووا هذا الحديث ليخبرنا أنه متواتر، وعند أن تنظر في صنيع الدكتور أحمد في هذا الموضع، ترى أنه امتطى التكلف والاعتساف، ولم يتحر جانب العدل والإنصاف.
توضيح ذلك من وجوه:
أولها: أن الدكتور هداه الله زعم كما في مقدمته لظلماته أنه نظر في آخر طبعة من طبعات «الصحيح المسند».
وبيان عدم صدقه في ذلك أن هذا الرقم الذي يحيل إليه (1/308/426) رقم أول طبعة على وجه الأرض من «الصحيح المسند» التي كان الشيخ -رحمه الله- وجلا أن يحصل له وهم فيذكر فيها حديثا هو في «الصحيحين» أو أحدهما فقال: (ص20): كنت أكتب وأنا على وجل من تكرار الحديث، وقد حصل، ولكن إن شاء الله عند الجمع سيحذف المكرر.(1/47)
وعلى وجل من أن يكون الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، فأكون كالحاكم الذي يقول: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، والواقع أنهما قد أخرجاه (إلى أن قال) وعلى كل فهذا عنواني من أجل من اطلع على وهم يفيدني وجزاه الله خيرا: اليمن صعدة ص ب 90070/انتهى.
وفعلا حصل في هذه الطبعة الأولى أخطاء مطبعية وبعضها مما أشار إليه الشيخ -رحمه الله- في الكلام المذكور، وأظن الدكتور أحمد تعمد النقل منها لحاجة في نفسه كما هو مشاهد، وإلا فإن الحديث المذكور هنا عن أبي سعيد قد حذف من الطبعة الجديدة التي لدى دار الآثار، لأنه ليس على شرط الشيخ -رحمه الله- إذ هو في «صحيح مسلم» رقم (3004) كتاب الزهد والرقاق باب: التثبيت في الحديث وحكم كتابة العلم.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).
فتعمد الدكتور للنقل من طبعة قديمة قد تم حذف الحديث بعدها أمر مريب.
والأمر الثاني: أشد منه ارتيابا، وهو أن النسخة القديمة التي نقل منها الدكتور أحمد على ما فيها من الأخطاء أيضا فيها أن الشيخ -رحمه الله- حكم على الحديث بالصحة. فقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وأبو مسلمة: هو سعيد بن بريد. وأبو نضرة: هو منذر بن مالك.(1/48)
وبهذا حكم عليه في «الجامع الصحيح» المرتب على الأبواب الفقهية (1/35) المطبوع في عام/1995/م، وهو نفس التاريخ الذي ذكره الدكتور في كتابه متقولا على الشيخ فيها أنه حسن الحديث، ومثير العجب في هذا الموضع أن الدكتور غير حكم الشيخ على الحديث من أصله (1)، ثم ذهب ينتقد عليه، فجمع كما قيل: حشفا وسوء كيله فأين الورع يا دكتور؟!!
الأمر الثالث: أنه عمد كعادته في تسويد الصفحات بشيء مشهور عند البادئين من طلبة علم الحديث، أن حديث من كذب علي متعمدا متواتر كما قيل:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض
وكان يكفيه أن يقول الحديث متواتر نص عليه فلان، وهنا انعكس على الدكتور قوله ص (10): من مقدمة «ظلماته» إن هذا هو تحصيل الحاصل فعلا .
الأمر الرابع: مما يدل عليه حديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)). أخرجه الترمذي (5/220) فقال:
حدثنا مسدد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمع أميمة. فذكر الحديث.
وقال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر.
وروى سفيان الثوري، ومالك بن أنس وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن المنكدر نحوه، وسألت محمدا يعني البخاري عن هذا الخطأ؟ فقال: لا أعرف لأميمة بنت رقيقة غير هذا الحديث.
قلت: وأخرجه أحمد في «المسند» (6/357)، والنسائي في «المجتبى» (7/149)، والطبراني (24/470)، والدارقطني في «السنن» (4/146) من طرق: عن الثوري، عن محمد بن المنكدر، ومحمد قد صرح بالسماع من أميمة بنت رقيقة.
__________
(1) وليس هناك احتمال أنه نقل من طبعة أخرى فيها هذا التقول على الشيخ أنه حسن الحديث، لأن النسخة التي اعتمدها أحمد هي النسخة القديمة التي نقل منها من أول كتابه هذا إلى آخره.(1/49)
وإنما سقنا الحديث دليلا على أن الكلام لواحد يكفي لمائة واحد، وقد تكلمنا في الرد على ما ذكره في المقدمة وما بعدها أن هذا المنهج هو منهج أصيل لأهل الحديث المتقدمين والمتأخرين، وأنه اصطلاح لا مشاحة فيه من إطلاق الحكم على المتن، وعلى السند، وأقرب مثال للقارئ: كلام الترمذي على هذا الحديث حيث حكم على المتن بقوله: هذا حديث حسن صحيح وتبعه الشيخ على ذلك في الحكم على المتن، فلا حاجة بنا إلى مجاراة الدكتور أحمد في تضخيم الكتاب بتكرار الكلام الذي يمكن إجماله في أسطر.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع
قال الدكتور في «ظلماته» ص (26):
وهو خطأ فاحش فيه نسبة الشرك للنبي -صلى الله عليه وسلم- (إلى أن قال) قصة زيد بن عمرو بن نفيل....ثم قال:
وقد أخرجها الإمام البخاري في «صحيحه» في أكثر من موضع بسنده المتصل على أتم وأجمل سياق، وأحسنه وأصوبه بعيدا عن اللفظ الشاذ، والرواية المنكرة.....إلى أن قال:
فماذا فعل الشيخ مقبل غفر الله لنا وله في كتابه «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين»؟ ترك رواية الصحيح، وأورد القصة نفسها بسند مسند البزار.
فلا السند يضاهي سند الصحيح، ولا السياق في صحته وبهائه، بل انطوى كل مخالفة فاحشة منكرة للسياق الصحيح، وهذه المخالفة تنسب فعل الشرك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه ذبح لغير الله حاش لله وها نحن نورد روايته المنكرة الشاذة، ونقابلها بما في «صحيح البخاري» ليتبين موضع المفارقة وبالله تعالى التوفيق.
قال (1/267) رقم (362): قال البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (3/283):(1/50)
حدثنا بشر بن خالد العسكري، قال: نا أبو أسامة، قال: نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن أبيه زيد بن حارثة، قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وهو مردفي في يوم حار من أيام مكة، ومعنا شاة قد ذبحناها وأصلحناها، فجعلناها في سفرة، فلقيه زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يا زيد، -يعني زيد بن عمرو- مالي أرى قومك قد شنفوا لك))، قال: والله يا محمد إن ذلك لغير ترة لي فيهم، ولكن خرجت أطلب هذا الدين حتى أقدم على أحبار خيبر فوجدتهم يعبدون الله، ويشركون به،......)).
قلت: ثم ساق الحديث بطوله، والحديث قد أخرجه النسائي في «الكبرى» (7/325) رقم (8132)، والبزار كما في «كشف الأستار» رقم (2755)، والطبراني في «الكبير» (5/86) رقم (4663)، وأبو يعلى (13/171) رقم (7212)، وحسنه المحقق على ظاهر سنده، والحاكم (3/216 217)، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وابن الأثير في «أسد الغابة» (2/157).
وقال البوصيري في «إتحاف الخيرة» (4/96 97) رقم (3404): رواه أبو يعلى، وأحمد بن حنبل مختصرا، والنسائي في «الكبرى» بسند رجاله ثقات.
وكذا قال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/418) رقم (6182) قال: ورجال أبي يعلى والبزار، وأحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث. اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (7/182) تحت حديث ابن عمر رقم (3827): وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى، والبزار وغيرهما.. فذكر الحديث.
ثم ذكر أقوال عدد من أهل العلم في توجيهه، ولم يستنكره، ولا تعقبه في «النكت الظراف على تحفة الأشراف» (3/228)، ولا في «إتحاف المهرة» (5/6).(1/51)
والحديث أصله في «صحيح البخاري» رقم (3826) كتاب مناقب الأنصار باب: 24 حديث زيد بن عمرو بن نفيل عن ابن عمر -رضي الله عنه-.
ورقم (5499) في كتاب الذبائح باب: ما ذبح على النصب والأصنام.
فنقول: ما هذا التجاهل يا دكتور؟ فإن الكتاب الذي استدركت عليه -فيما تزعم- اسمه وشرط صاحبه «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين»، فهل مثلك لقبه دكتور فخرا بها يعزب عليه أن (ليس) فعل استثناء.
إذ من الميسور أن ترجع إلى باب المستثنى من بعض المختصرات كمتممة الأجرومية وتجد فيها قوله -رحمه الله-: وأدوات الاستثناء ثمانية حرف باتفاق وهو إلا، واسمان باتفاق وهما غير وسوى بلغاتها، وفعلان باتفاق وهما ليس ولا يكون... إلخ
ونبه الشارح على أنها ليست فعلا باتفاق وإنما على الأصح.
وقال الإمام ابن مالك في «ألفيته»:
واستثن ناصبا بليس وخلا ... وبعدا و بيكون بعد لا
ـلا
قال ابن عقيل في«الشرح» (1/616) أي: استثن بـ (ليس وما بعدها ناصبا المستثنى فتقول: قام القوم ليس زيدا). اهـ
فإذا كان مثل هذا الدرس المختصر مفهوما عندك فإن الشيخ -رحمه الله- عنون كتابه، وبين شرطه أن فيه أحاديث صحيحة مما ليس في الصحيحين، فكيف تنتقد عليه ص (26) من كتابك: لم ترك رواية ما في الصحيح.
ثانيا: أنت قلت بعد هذا السطر بسطرين: وها نحن نورد روايته المنكرة الشاذة، ونقابلها بما في «صحيح البخاري» ليتبين موضع المفارقة. اهـ فلو كنت بدأت بالمقارنة بين قولك: (وأورد القصة نفسها) وقولك: (ليتبين موضع المفارقة)، وعلى هذا فكان اللائق بضبط الكلام أن تقول: وأورد القصة التي أصلها في «الصحيح»، وإلا فكيف تكون نفسها وأنت ترى فيها مفارقة بينة، هذا تناقض بعد سطرين غير لائق بمن لقبه دكتور أن لا يفطن لضبط مثل هذه المباديء، فهو على حد تعبير العامة دكتور البركة.
ثالثا: قولك ص (29) من كتابك:(1/52)
ولذلك انعقد إجماع الفقهاء والأصوليين على عصمة الأنبياء من الكبائر لا سيما الشرك بكافة أنواعه..
وهذا الإطلاق إن كان عن عمد ففيه تلبيس، وعدم إيضاح، والتلبيس شأن من قال الله فيهم {لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} [سورة آل عمران: من الآية 71] فنعيذك والمسلمين بالله من التشبه بهم.
وإن كان عن غير عمد؛ ففيه تأييد لما ذكرته قريبا في درس الاستثناء بـ [ليس] من أهمية ضبط الكلام وبيان ذلك: أن أهل العلم في هذا الموضع فصلوا، ولم يطلقوا نقل الإجماع.
قال الإمام الشوكاني في «إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول» ص (69): ذهب الأكثر من أهل العلم إلى عصمة الأنبياء بعد النبوة من الكبائر، وقد حكى القاضي أبو بكر: إجماع المسلمين على ذلك، وكذا حكاه ابن الحاجب وغيره من متأخري الأصوليين، وكذا حكوا الإجماع على عصمتهم بعد النبوة مما يزري بمناصبهم، كرذائل الأخلاق والدناءات، وسائر ما ينفر عنهم، وهي التي يقال لها صغائر الخسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة.. (إلى أن قال) (ص71): وأما قبل الرسالة فذهب الجمهور إلى أنه لا يمتنع من الأنبياء ذنب كبير، ولا صغير، وقالت الروافض: يمتنع قبل الرسالة منهم كل ذنب، وقالت المعتزلة: يمتنع الكبائر دون الصغائر، واستدل المانعون مطلقا أو مقيدا بالكبائر، بأن وقوع الذنب منهم قبل النبوة منفر عنهم، عند أن يرسلهم الله فيخل بالحكمة من بعثهم، وذلك قبيح عقلا، ويجاب عنه: بأنا لا نسلم ذلك. اهـ(1/53)
نقل الآمدي في «الإحكام في أصول الأحكام» (1/224) عن أبي بكر القاضي أيضا ، وعن أكثر أصحابهم إلى أنه لا يمتنع عليهم العصمة قبل النبوة من كبيرة كانت أو صغيرة، بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم، وآمن بعد كفره، وذهبت الروافض إلى امتناع ذلك كله منهم قبل النبوة؛ لأن ذلك مما يوجب هضمهم في النفوس، واحتقارهم، والنفرة عن اتباعهم، وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل ووافقهم على ذلك أكثر المعتزلة إلا في الصغائر، والحق ما ذكره القاضي، لأنه لا سمع قبل البعثة يدل على عصمتهم عن ذلك، وأما بعد النبوة، فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه، من دعوى الرسالة، والتبليغ عن الله تعالى. إلى آخر مبحث عصمة الأنبياء عن الكبائر.
وقال الشاطبي في «الموافقات» (4/13) بتحقيق الشيخ: مشهور بن حسن سلمان وفقه الله:
الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة، وعن الصغائر باختلاف. اهـ وصحح عصمتهم من الصغائر أيضا .
وصحح القاضي أبو بكر عدم عصمتهم منها، وقال: الآمدي في «الأحكام» (1/224): وهو الأشبه. اهـ
وهذا منقول عن الجمهور جواز وقوع الصغائر غير الذميمة منهم، ولكنهم لا يصرون فيكونون معصومين من الإصرار عليها، كما هو مضمون كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
وصوب القاضي عياض في كتاب «الشفاء» مع الشرح (4/147): عصمتهم قبل البعثة وبعدها، ونقله عنه الزركشي في «البحر المحيط» (3/241). طبعة دار الكتب العلمية،فقال:
أما قبل النبوة، فقال المازري: لا تشترط العصمة، ولكن لم يرد في السمع وقوعها، وقال القاضي عياض: والصواب عصمتهم قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته، والتشكيك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار عن الأنبياء بتبرئتهم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان.(1/54)
ونقل ابن الحاجب عن الأكثرين عدم امتناعها عقلا....والأصح قول الأكثرين، ومنهم القاضي؛ لأن السمع -أي: القرآن والسنة- لا دلالة له على العصمة قبل البعثة. انتهى المراد من المبحث في العصمة.
ومن هذا المنطلق ذهب شيخنا العلامة الوادعي -رحمه الله- إلى إثبات هذا الحديث في «الصحيح المسند» هذا، وفي «الصحيح المسند من دلائل النبوة» (ص90) طبعة مكتبة ابن تيمية بالقاهرة فقال: على ما ظهر من حسن سنده، فبعد ذكر حديث زيد بن حارثة في قصة زيد بن عمرو بن نفيل، ومن تأمل هذا الحديث عرف فضل زيد وتقدمه في الإسلام قبل الدعوة... إلخ.
هذا والقصة المذكورة كانت قبل البعثة مع زيد بن عمرو بن نفيل، فإن زيدا مات قبل البعثة.
قال الإمام ابن حجر في ترجمته من «الإصابة» (2/507) رقم (2930): زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد بن زيد ذكره البغوي وابن مندة وغيرهما من الصحابة، وفيه نظر؛ لأنه مات قبل البعثة بخمس سنين، ولكنه يجيء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي وهو أنه رأى النبي مؤمنا به. اهـ
هذا وإن كان القول بعصمتهم عن كبائر الذنوب قبل البعثة وبعدها هو الصحيح عندنا، وإنما القصد من ذلك بيان: أن نقل الدكتور أحمد إجماع العلماء على عصمة الأنبياء على هذا المعنى فيه تهور، فقد رأيت الخلاف في ذلك، ونقل الشوكاني الخلاف عن جمهور العلماء فإلى أين يا دكتور؟!
وبعد هذا التقرير نقول: إن من حسن حديث زيد بن حارثة في قصة زيد بن عمرو بن نفيل على ظاهر سندها الدائر عند من تقدم تخريج الحديث من مصنفاتهم على محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد بن حارثة عن أبيه زيد بن حارثة من حسن الحديث على ظاهر هذا السند لا تثريب عليه اليوم، ولا بعد ذلك.
فإن محمد بن عمرو بن علقمة قد وثقه ابن معين، والنسائي، وقال ابن المبارك: لم يكن به بأس.(1/55)
وقال ابن عدي: له حديث صالح وقد حدث عنه جماعة من الثقات كل واحد ينفرد عنه بنسخة، ويغرب بعضهم على بعض وروى عنه مالك في «الموطأ» وأرجو أنه لا بأس به.
وقال يحيى بن سعيد القطان: صالح ليس بأحفظ الناس للحديث.
وقال أبو حاتم: صالح الحديث يكتب حديثه، وهو شيخ وقد تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه.
وروى له البخاري مقرونا، ومسلم في المتابعات، فهو صدوق حسن الحديث.
وأبو سلمة بن عبدالرحمن ثقة إمام في الحديث والفقه.
قال أبو زرعة: ثقة إمام.
وقد ذكر الحافظ المزي في ترجمته أنه روى عن أسامة بن زيد بن حارثة وعدد كبير من أكابر الصحابة رضوان الله عليهم ، وهو مقرون بـ يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة وهو ثقة. وثقه النسائي والدارقطني، وابن سعد، وغيرهم.
وقال ابن خراش: جليل رفيع القدر روى عنه الناس.
وذكر المزي أنه روى عن أسامة بن زيد وعدد من الصحابة، ولم أر من نفى سماع واحد من الاثنين من أسامة بن زيد وسماع أسامة من أبيه، بل وسماعه من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- معلوم.
ولهذا ساق الحافظ ابن حجر في «الفتح» تحت حديث (3828) عدة توجيهات عن أهل العلم، ولم يضعفه أو يقل: هو منكر.
ولكن نقول أيضا : إن من أخذ بما أشار إليه الإمام ابن كثير من نكارة بعض ألفاظ الحديث فله ذلك، لأن للاجتهاد في مثله مسوغ.
قال الإمام ابن كثير في «البداية والنهاية» (3/325) تحقيق التركي: ترجمة زيد: وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا وفي بعضها نكارة شديدة. اهـ
وقال الإمام الذهبي في ترجمة زيد بن حارثة من «سير أعلام النبلاء» (3/139) رقم (41) وساق الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة به -ثم قال-: وفي بعضه نكارة بينة. اهـ(1/56)
وهذه الفائدة من إنكار هذين الإمامين لبعض ألفاظ هذا الحديث، وإن كان كلام ابن كثير ليس صريحا فيه، لو عثر عليها الدكتور أحمد لرأيت منه، ومن نظيره الدكتور حميد ضجة على الحديث أكبر مما ذكر، فقد أرعدا وأزبدا من أول المقدمة إلى هذا الموضع، وفي آخر خطأ أيضا على حد زعمه على ما في تحريرهما على الحديث من الهزل العلمي، فكيف إذا طالت أيديهما في هذا الباب اللهم سلم (1).
هذا وليعلم أن الحديث ليس مغفولا عما قيل فيه عند الشيخ ولا عند جل طلابه، فقد رأيت كلام الشيخ فيه في كتابه «الصحيح المسند من دلائل النبوة» وهو قبل«الصحيح المسند» بسنين فهو كتبه عن قناعة بحسن سنده، وقد ألف أحد طلاب الشيخ وهو أخونا الفاضل علي بن أحمد الرازحي جزءا صغيرا في طرق هذا الحديث، وكلام العلماء فيه خلص فيه بما رآه.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس
قال الدكتور في «ظلماته» ص (30):
قال (1/178) رقم (262): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/383):
حدثنا روح، قال حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((خيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)). هذا حديث حسن على شرط مسلم.
قلت: بل الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، فقد رواه البخاري من طرق عن أبي هريرة.
وشحن صفحة ونصف يخرج فيها حديث أبي هريرة المتفق عليه من الصحيحين! وأقول: اسمح لي يا دكتور أن أقول: إنك إما غبي أو صاحب هوى.
__________
(1) لقد ذكرني ذلك بقول ابن المبارك -رحمه الله-: لقد من الله على المسلمين بسوء حفظ أبي إسرائيل إسماعيل بن خليفة، وقال عنه الجوزجاني مفتر زائغ، قال الحافظ في «التقريب» نسب إلى الغلو في التشيع.(1/57)
الشيخ -رحمه الله- خرج ما هو على شرطه وهو حديث جابر الذي في خارج الصحيحين، وترك حديث أبي هريرة المتفق عليه عمدا ولو وهم فذكره في كتابه لحذفه، وأنت تعلم من شرطه في مقدمة كتابه فما هذا التعامي عن أمر واضح.
ثم إن حديث جابر قد خرجه محقق مسند أحمد رقم (14945) و(15112) وعافاه الله مشكورا أن يخلط مثل تخليطك هذا بل قال: إنه على شرط مسلم وله شاهد من حديث أبي هريرة، ولم يقل أخرجه الشيخان!!
ثم إن الهيثمي خرجه في «مجمع الزوائد» على الكتب الستة (1/491) رقم (490).
وأخرجه ابن عبدالبر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/86) رقم (73) من حديث جابر، وأخرج بعد رقم (74) حديث أبي هريرة، ولم يجعله حديثا واحدا، وأخرج الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/86 87) حديث أبي هريرة، ثم أخرج حديث جابر بعده، ولم يجعله واحدا، وهذا المنهج في الحقيقة، وهو أن كل حديث في الصحيحين أو أحدهما إذا أخرجه أحد عن صحابي آخر ليس في الصحيحين، يذهب الدكتور أحمد يستدرك عليه، لا ندري على أي أصل مبناه! فالدكتور أحمد في هذه الطريقة لم يخطئ الشيخ مقبلا وحده، ولكن هو يخطئ كل من ذكرناه سواء قصد ذلك أو قال: أنني أخص الشيخ مقبلا وحده لحاجة في نفس أحمد فلا يصفو له هذا.
ثم إن الدكتور أحمد قال في ص (12) من مقدمة «ظلماته»:
ثامنا: يحسن لمن انتصب للتخريج وخدمة السنة أن يستفيد من الجهود المباركة للأئمة الأوائل ومن سبقوه في هذا الشأن كالحافظ العراقي، والإمام ابن حجر، والعلامة أحمد شاكر، والشيخ ناصر الدين الألباني وغيرهم.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس
قال الدكتور أحمد (ص32):
قال (2/27) الحديث رقم (861): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3819):(1/58)
حدثنا عبدالصمد، حدثنا حماد، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أري الأمم بالموسم فراثت عليه أمته قال: فأريت أمتي فأعجبني كثرتهم قد ملئوا السهل والجبل فقيل لي إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقال عكاشة: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فدعا له، ثم قام يعني آخر فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني معهم. قال: ((سبقك بها عكاشة)).
ثم قال الدكتور: قلت: هكذا عزاه إلى الإمام أحمد في «مسنده»، وأبي يعلى، والطيالسي بينما الحديث بسياق أتم وأحسن رواه البخاري في مواضع متفرقة، ومسلم في «صحيحه»، ثم خرجه عن ابن عباس.
قلت: تقدم في الحديث الخامس وما قبله أيضا فلا حاجة لتكرار الرد بما يكثر الصفحات فنقع فيما وقع منه مما عابه ص (10) وهو هنا يتعمده بلا خجل ولا وجل.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع
قال الدكتور في «ظلماته» ص (36):
قال (2/496) رقم (1621): قال أبو داود -رحمه الله- (5/277):
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن إسحق قال: ذكرت لابن شهاب فقال: حدثني سالم بن عبدالله أن عبدالله يعني ابن عمر كان يصنع ذلك يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد كان رخص للنساء في الخفين فترك ذلك)). قال الشيخ: هذا حديث حسن.
وصفية بنت أبي عبيد الثقفي لم يوثقها معتبر، ولكن قبول عبدالله بن عمر وعمله بروايتها يدل على أنها ثقة عنده.
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ من وجوه:
فالحديث صحيح رواته ثقات أثبات وصفية من التابعيات الكبيرات الجليلات كادت أن تكون صحابية كما سيأتي بيانه.
(ثم ذكر الدكتور تراجم رواة الحديث وخلص بأنهم ثقات حتى محمد بن إسحاق، ثم قال:(1/59)
أما صفية بنت أبي عبيد: فكلام الشيخ عنها غريب، وغير صحيح، كأنه لا يعرفها فهي بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفية، وزوجة عبدالله بن عمر، وأخت المختار.....(فذكر ترجمتها وأن ابن حبان والعجلي وثقاها، وأنه اختلف في صحبتها ثم قال:
قلت: فكيف يحكم عليها الشيخ مقبل بقوله: لم يوثقها معتبر مع أنه قد روى لها أصحاب الكتب الستة عدا البخاري ففي «تاريخه» وروى عنها كبار أهل العلم.
ومن له خبرة بأئمة الجرح والتعديل يعلم أن توثيق ابن حبان فيما عدا المجاهيل يعض عليه بالنواجذ، فهو كان ممن يسبر غور الراوي، ومن راجع ترجمته يعلم ذلك علم اليقين.
أما قوله: ولكن قبول عبدالله بن عمر، وعمله بروايتها يدل على أنها ثقة عنده.
يدعو للعجب فكيف لا تكون ثقة عنده وهي امرأته كما قرر أهل العلم، وقد توفيت في حياة زوجها عبدالله كما في «سنن النسائي» كتاب الجمع بين الصلاتين فثبت من ذلك والحمدالله: أن رواة الحديث ثقات أثبات لا مطعن فيهم، وأن الحديث صحيح بلا ريب، وليس بحسن وبالله التوفيق.
قلت: حياك الله يا دكتور أحمد، وحي هذا التأصيل الحديثي المخترع، والآن يتم فحص هذا البهرج إن شاء الله:
أولا: قوله وهذا خطأ من وجوه، ثم ذكر من تلك الوجوه الكالحة [أن الحديث بهذا السند صحيح: رواته ثقات إثبات].
وعلى هذا الكلام عدة مآخذ:
المأخذ الأول: أن محمد بن إسحاق بن يسار مختلف فيه كثيرا فمن أهل العلم من وثقه، ومنهم من ضعفه بما ينزله عن رتبة الثقة الذي يصحح حديثه إلى رتبة الصدوق الذي يحسن حديثه كما حكم الشيخ -رحمه الله- على حديثه بذلك.
والدكتور أحمد لو ساق للقراء بعض الطعون في ابن إسحاق لكفانا، ولكنه ذكر ماله، ولم يذكر ما عليه ولو باختصار فكان ينبغي ذكر ذلك وإضافة إلى ما ذكره الدكتور من ترجمته من «التهذيب» لابن حجر.
قال فيه مالك: دجال من الدجاجلة.
قلت: ولم يقبل منه ذلك.
وقال علي بن المديني: ما رأيت أحدا يتهم ابن إسحاق.(1/60)
وقال ابن نمير: إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق(1)، وإنما أتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة.
وقال أبو داود: وسمعت أحمد ذكر محمد بن إسحاق فقال: كان رجلا يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس، فيضعها في كتبه.
قلت: وهذه قاصمة، فمعنى ذلك أنه كان يسرق.
وقال أبو عبدالله: قدم ابن إسحاق بغداد، فكان لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره، والكلبي: هو محمد بن السائب كذاب كما في ترجمته من «تهذيب التهذيب».
قال: فقلت له: أيهما أحب إليك ابن إسحاق أو موسى بن عبيدة(2)؟ قال: ابن إسحاق.
وقال حنبل: سمعت أبا عبدالله يقول: ابن إسحاق ليس بحجة، وقال عبدالله بن أحمد: لم يكن يحتج به في السنن.
واختلفت أقوال ابن معين فيه.
قال الدراوردي عن ابن معين محمد بن إسحاق ثقة وليس بحجة.
وقال مرة: هو صدوق.
وقال مرة: ليس به بأس.
وقال مرة: ليس بذاك.
وقال مرة: ليس بالقوي.
وقال مرة: ضعيف.
وقال النسائي: ليس بالقوي.
وسبر حاله ابن عدي فقال: وقد فتشت أحاديثه الكثير فلم أجد فيها مما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف وربما أخطأ، أو يهم في الشيء بعد الشيء كما يخطئ غيره وهو لا بأس به انتهى. وروى له مسلم في المتابعات وعلق له البخاري.
قلت: وقد وثقه جماعة كما تقدم، لكنه معيب على الباحث أن يهمل من هذا القدح الذي ينزله عن رتبة الثقة إلى رتبة صدوق حسن الحديث إن صرح بالتحديث.
ولهذا جمع الحافظ ابن حجر أقوال العلماء فيه: في «التهذيب»، ثم لخص ذلك في التقريب فقال عنه: صدوق يدلس.
ورمي بالتشيع والقدر.
__________
(1) قلت: وعلى هذا العمل عند من سيأتي ذكرهم من أئمة الحديث.
(2) هو: الربذي ضعفه النسائي وغيره.
وقال ابن معين: ليس بشيء في ترجمته من «الميزان» للذهبي فاقتران ابن إسحاق به غمز لابن إسحاق.(1/61)
ومن أجل ابن إسحاق حسن العلامة الألباني هذا الحديث في «صحيح سنن أبي داود» (6/93) رقم (1607)، ومحقق مسند أحمد في «المسند» (2/29) رقم (24067)، فقال: إسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق وبقية رجاله ثقات.
وأما صفية بنت أبي عبيد، فقد حاول الدكتور أحمد تجهيل الشيخ لمعرفة حالها قائلا: (ص37): كأنه لا يعرفها.
مع أنه نقل عن الشيخ أنه نسبها فقال: صفية بنت أبي عبيد الثقفي وهذه النسبة كافية في معرفتها، وأيضا نقل عنه أنه نظر كلام العلماء في ترجمتها، وقال: لم يوثقها معتبر.
ومن نظر ترجمتها من «تهذيب الكمال» للحافظ المزي، أو «تهذيب التهذيب» لابن حجر ونحوهما لم ير لها توثيقا من غير العجلي، وذكرها ابن حبان في «الثقات» واستشهد بها البخاري، ونص الدارقطني أنها لم تدرك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقال صاحب «تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل»: ذكرها ابن عبدالبر في الصحابة، وقال غيره: لم تدرك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم يستطع الدكتور أن يزيد على ما قاله الشيخ -رحمه الله-: عن إمام أنه وثقها ومع ذلك فالشيخ قال في سياق كلامه، ولكن قبول عبدالله بن عمر، وعمله بروايتها يدل على أنها ثقة.
فكان تعصب الدكتور أحمد على الشيخ هنا لا معنى له، إذ لم يأت بأكثر مما أتى به الشيخ إلا مجرد هذر.
وأما قول الدكتور أحمد (ص37): فكيف يحكم عليها الشيخ مقبل بقوله لم يوثقها معتبر؟.
فقد رأيت أن الدكتور لم يأت بتوثيق لغير ابن حبان والعجلي.
وابن حبان متساهل في توثيق المجاهيل، ونحوه العجلي.
وإليك نص أهل العلم في ذلك:
قال الحافظ ابن حجر في «مقدمة لسان الميزان» (1/21): قال ابن حبان من كان منكر الحديث على قلته، لا يجوز تعديله إلا بعد السبر، ولو كان ممن يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار، لكان عدلا مقبول الرواية، إذ الناس في أقوالهم على الصلاح والعدالة، حتى يتبين منهم ما يوجب القدح.(1/62)
فتعقبه الحافظ: فقال: قلت: وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان، من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه، كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه، مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتابه «الثقات» الذي ألفه، فإنه يذكر خلقا ممن ينص عليهم أبو حاتم وغيره على أنهم مجهولون، وكان عند ابن حبان جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهورة، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره، وقد أفصح ابن حبان بقاعدته، فقال: العدل من لم يعرف فيه الجرح. اهـ
وقال ابن عبدالهادي في «الصارم المنكي في الرد على السبكي» ص (103): وقد علم أن ابن حبان ذكر في هذا الكتاب الذي جمعه في «الثقات» عددا كثيرا، وخلقا عظيما من المجهولين، الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم.
وقد صرح ابن حبان بذلك في غير موضع من هذا الكتاب، -وذكر أمثلة على ذلك-:
فقال: سهل يروي عن شداد بن الهاد، وروى عنه أبو يعقوب ولست أعرفه، ولا أدري من أبوه، هكذا ذكر هذا الرجل في كتاب «الثقات»: ونص على أنه لا يعرفه. انظر: «الثقات» (6/406).
وقال: حنظلة شيخ يروي المراسيل، لا أدري من هو. انظر: «الثقات» (6/226).
وقال: الحسن أبو عبدالله شيخ يروي المراسيل، روى عنه أيوب النجار، لا أدري من هو، ولا ابن من هو. انظر «الثقات» (6/170).
وقال: جميل شيخ يروي عن أبي المليح بن أسامة، روى عنه عبدالله بن عون، لا أدري من هو، ولا ابن من هو. انظر «الثقات» (6/146).
قال ابن عبدالهادي: وقد ذكر ابن حبان في هذا الكتاب خلقا كثيرا من هذا النمط، وطريقته فيه أنه يذكر من لم يعرفه بجرح، وإن كان مجهولا لم يعرف حاله.
قلت: بل قوله: لا أدري من هو، يدل أنه قد يذكر فيه من لا يعرف عينه.
قال: ويعرف أن توثيق ابن حبان للرجل بمجرد ذكره في هذا الكتاب من أدنى درجات التوثيق. اهـ(1/63)
قلت: هذا بالنسبة لمن ذكر مجردا عن التوثيق في كتابه، أما من نص ابن حبان على توثيقه، فإليك كلام العلامة المعلمي رحمه لله – من «التنكيل مما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» (1/437) بتحقيق الألباني قال: والتحقيق أن توثيق ابن حبان على درجات:
الأولى: أن يصرح به، كأن يقول: كان متقنا، أو مستقيم الحديث، أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى: لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم.
والثانية: قريب منها.
والثالثة: مقبولة.
والرابعة: صالحة.
والخامسة: لا يؤمن فيها الخلل والله أعلم. اهـ
قلت: والمتأمل لهذه الطبقات يرى أن الطبقة الأولى هي المقبولة، لأنها خرجت عن اصطلاح ابن حبان الواسع في ثقاته كما تقدم.
وتوثيق ابن حبان الصريح مقبول، وما عدا هذه الأولى ممن ذكرهم في ثقاته، يرد عليه احتمال التساهل كما يظهر ذلك عند التأمل، وصفية بنت أبي عبيد ممن ذكرهم ابن حبان في «ثقاته» مجرد ذكر، ولم ينص أنها ثقة.
ثم إن قاعدة جمهور العلماء: أن مجهول الحال من روى عنه اثنان فأكثر، ولم يوثقه معتبر كما في «نزهة النظر» للحافظ ابن حجر ص (135) قال -رحمه الله-: فإن سمي الراوي وانفرد راو واحد بالرواية عنه، فهو مجهول العين، كالمبهم فلا يقبل حديثه إلا أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح، وكان من ينفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك وإن روى عنه اثنان فصاعدا، أو لم يوثق أي من معتبر فهو مجهول الحال وهو المستور. اهـ
وقال الألباني: إنما يمكن أن يتبين له حاله بأن يوثقه إمام معتمد في توثيقه ص (262) من «منتهى الأماني»، و«تقريب النووي» (1/41) باب: رواية مجهول العدالة.(1/64)
وعلى هذا فدخولها ضمن مجهولات الحال في الرواية لائق من حيث قواعد المصطلح لولا قرينة قبول زوجها عبدالله لروايتها، فإن ذلك يتضمن أنها ثقة في روايتها ولهذا قال الشيخ: إنها ثقة، ونظير ذلك قول العلامة الألباني كما في كتاب «منتهى الأماني بفوائد مصطلح الحديث للمحدث الألباني» ص (262) قال:
وكأن الحافظ أشار إلى هذا بقوله أن مجهول الحال هو الذي روى عنه اثنان فصاعدا، ولم يوثق، وإنما قلت معتمد في توثيقه لأن هناك بعض المحدثين لا يعتمد عليهم في ذلك، لأنهم شذوا عن الجمهور فوثقوا المجهول منهم ابن حبان. اهـ
ثم بين أن رواية مجهول الحال قد تقبل بقرينة فقال: نعم، يمكن أن تقبل روايته إذا روى عنه جمع من الثقات، ولم يتبين في حديثه ما ينكر عليه، وعلى هذا عمل المتأخرين من الحفاظ: كابن كثير، والعراقي، والعسقلاني، وغيرهم. اهـ
وبهذا تعلم أن العلامة الوادعي سائر في هذه القواعد مسار الأئمة، وأن الدكتور يقرر ردودا من دماغه الكاسد على غير أصل ثابت.
وأما عبدالله بن صالح العجلي، فقال العلامة المعلمي في«التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» (1/66): فابن حبان قد يذكر في الثقات من يجد البخاري سماه في «تاريخه» من القدماء، وإن لم يعرف ما روى، وعمن روى، ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد، وربما تعنت فيمن وجد في روايته ما استنكره، وإن كان الرجل معروفا مكثرا، والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء. اهـ
وقال العلامة الألباني في «الصحيحة» عند ذكر عبدالرحمن بن ميسرة عند حديث رقم (2817) من «الصحيحة»: ولم يوثقه غير الحاكم، وهو متساهل في التوثيق، كابن حبان، والعجلي. اهـ
فتلخص من هذا أن بن حبان والعجلي متساهلان في توثيق المجاهيل، وأن ابن حبان متشدد في الجرح.(1/65)
ونعود فنقول: إن الحديث المذكور حكم عليه الألباني وغيره -من الراسخين في هذا العلم- بالحسن، لأن كثيرا منهم يحكمون على حديث ابن إسحاق إذا صرح بالتحديث بالحسن، ومن خذلان هذا الدكتور أنه جعل من قواعده في «مقدمة ظلماته» الاستفادة من جهود العلماء، وكان ذلك منه مجرد حبر على ورق! فلم نر منه لهذه القاعدة إلا النقض، والتنقص، وسوء الأدب.
وبوجه الخصوص: فقد أساء الدكتور أحمد الأدب جدا مع العلامة الوادعي -رحمه الله- الذي لو كان الدكتور أحمد على مستوى أحاد طلابه لكان أرفع من هذا المستوى الركيك في فهم الزوائد، فقال في ص (13) من مقدمة «ظلماته» معرضا بالشيخ -رحمه الله-: فقد يغني الباحث عن خوض غمار البحث والتنقيب في أحاديث قاموا بجهد رائع وفق قواعد الجرح والتعديل بتحقيقها، فيعتمد أحكامهم في ذلك، ويوجه همته وجهده فيما اختلفوا فيه، أو سكتوا عنه، ومن تواضع واتصف بصفات أهل العلم من الإخلاص، والتجرد لنصرة الدين، فعليه أن يستفيد بجهودهم، ويعضد رأيه بآرائهم؛ لأن المقصود هو: إعلاء السنة وإرشاد الأمة لحديث نبيها -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
قلت: وهذا الكلام في حد ذاته يستدعي بيان ما فيه في (رسالة مستقلة) توضح ما فيه من التبجح والتناقض الذي حصل من كاتبه في كتابه هذا، والوخز في أخلاق الشيخ الجميلة بالتعريض به أنه لم يتواضع، ولم يتصف حتى بصفات أهل العلم فضلا من أن يكون عالما شهيرا، والتدخل في إخلاصه وقصوره في التجرد لنصرة الدين، وغير ذلك من الاستجاشة على إمام قضى عمره -رحمه الله- في دعوة المسلمين إلى السنة ونشرها والذود عنها وقد جدد الله به الدين، وأظهر به علوما كانت مطوية، فلم يتوفاه الله حتى أثرى للمسلمين من العلم ما لا يتجاهله إلا من لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وما تجاهل أحمد، وأمثاله لمكانة الإمام الوادعي إلا من باب قول الشاعر:
وقال السهى للشمس أنت خفية ... وقال الدجى للصبح لونك حائل(1/66)
ولهذا فإن عذري واضح عند القراء وفقهم الله إن تعاونت مع الدكتور أحمد في تهذيبه بشيء من التخشين المذكور في طيات هذه الرسالة بما يستحق أضعافه.
والحديث أخرجه أيضا ابن خزيمة في «صحيحه» (4/201) رقم (2686)، والبيهقي في «الكبرى» (5/52)، والدارقطني (2/272) من هذه الطريق، ولكن الصحيح في الحديث أنه من فتوى عائشة موقوفا عليها.
فقد أخرجه الدارقطني، والبيهقي بعد هذا: من طريق الشافعي في «الأم» (2/147) عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنه كان يفتي النساء أن يقطعن الخفين حتى قالت له صفية: إن عائشة كانت تأمرهن أن لا يقطعن.
قال الدارقطني بعده: موقوف.
وهو كذلك فإن مخرجه الزهري فرفعه عنه ابن إسحاق وأوقفه عنه سفيان بن عيينة، وسفيان أرجح.
والحمد لله أن الدكتور أحمد استدراكه هذا قام على ضعف في المادة العلمية، وخمول في البحث، وإلا لو أنه عثر على مثل هذا النقد لربما رقاه المقدم له، وهو المغفل الثاني: الدكتور حميد بن طاهر السندي من رتبة ما سمعه عنه أنه ألباني اليمن إلى رتبة أعلى عنده، ولكن كما قيل:
ومن تزي بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن
قال الدكتور ص (39):
قال (1/516) رقم (750): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (1/532):
حدثنا محمد بن المصفى الحمصي، حدثنا محمد بن حرب، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليس من البر الصيام في السفر)).
ثم قال: قلت: بل الحديث متفق عليه، رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» كما أنه من الأحاديث المتواترة.
والجواب: هناك مثل في مجمع الأمثال للميداني (1/142) يضرب لضعيف الفهم وهو (حدث حديثين امرأة، فإن لم تفهم فأربعة).
ونحن لا بأس أن نصبر على الدكتور أحمد وفقه الله أكثر، حتى يفهم شأن الزوائد، فنقول له: هذا الكتاب يعتبر من الزوائد على الصحيحين هكذا تحرى صاحبه فيه.(1/67)
وحديث ابن عمر هذا لم يخرجه البخاري، ولا مسلم أبدا فقد عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (6/167) رقم (8110) إلى ابن ماجه فقط ، وعزاه الحافظ المنذري في «الترغيب والترهيب» رقم (1566) إلى ابن ماجه رقم (1665)، وابن حبان (3540)، وصححه المحقق.
وقال البوصيري في «مصباح الزجاجة»: إسناد حديث ابن عمر صحيح، وصححه العلامة الألباني في «الإرواء» (4/59) إذ نقل تصحيح الهيثمي في«المجمع» (1/6) له وأقره، وقال: له شاهد في «الصحيحين»، يعني: حديث جابر.
قلت: سنده عند ابن ماجه ظاهره الحسن من أجل محمد بن مصفى قال فيه الحافظ في «التقريب»: صدوق له أوهام، وباقي رجاله ثقات، أما بالنظر إلى مخرج الحديث فظاهر سنده أنه صحيح.
إلا أن الإمام ابن أبي حاتم قال في «العلل» رقم (726): وسألت أبي عن حديث رواه محمد بن حرب الأبرش، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليس من البر الصيام في السفر)).
فقال أبي: هذا الحديث منكر. اهـ
وقال برقم (774): لم يروه غير محمد بن حرب.
وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر إلا محمد بن حرب، وعلى هذا فالحديث معل.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع
قال الدكتور ص (41):
قال (2/95) رقم (966): قال أبو داود -رحمه الله- (6/375):
حدثنا عباد بن موسى، أن إسمعيل بن جعفر حدثهم عن إسرائيل، عن أبي إسحق عن هانئ وهبيرة عن علي قال لما خرجنا من مكة تبعتنا بنت حمزة تنادي يا عم يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال دونك بنت عمك فحملتها فقص الخبر قال: وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي فقضى بها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لخالتها وقال: ((الخالة بمنزلة الأم)). هذا حديث حسن.(1/68)
ثم قال: قلت: هكذا أطلق الحكم، ولم يبين لماذا ينزل الحديث من مرتبة الصحة إلى الحسن إن كان هناك سبب، والحقيقة ليس ثم سبب إنما الحديث رواه البخاري، والإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي والترمذي، والطحاوي، والخطيب، كما سيتبين بشيء من التفصيل الذي يقتضيه مقام الإثبات، والحديث ورد من طرق عن عدد من الصحابة.
فذكر منهم بعضا، وانطلق في تخريجاته لأحاديث معلومة على المعتاد.
والجواب: أن هذا الرجل أمره مريج في إثباته لأحاديث خارج الصحيح يضيفها إلى الصحيح، ويتجلد ويصنف كتابا مبنيا على هذا الغلط، ويجد بعض الدكاترة الذين أحدهم إذا رأيت نصيبه من فهم هذا العلم على هذا المعنى من الزوائد وصناعتها، قد يخالجك الشك أن لقب دكتور الذي اتسم به لعله عني به أنه بيطري، وليس على ما وصفوه دكتور في علوم السنة والله المستعان.
يا أستاذ أحمد، هداك الله وهدى من جعلك تعلم أبناء المسلمين سابقا هذا العلم في الجامعة الإسلامية على ما ذكر في غلاف الكتاب فما عساك أن تخرج على حد هذه المفاهيم إلا كما قيل:
تلك العصا من تلك العصيه ... وهل تلد الحية إلا حويه
فالحديث عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يعتبر زائدا على البخاري فليس فيه البتة حسب تقرير الحفاظ.
وإلا لزمك على حد طريقتك هذه التي تعتبر وليدة العصر أن ترد على كل الأئمة الذين كتبوا في الزوائد فهل قرأت في «مجمع الزوائد»، و«كشف الأستار»، «وإتحاف الخيرة»، «والمطالب العالية»، وزوائد كثيرة جدا انظر أسماءها في «كشف الظنون» لحاجي خليفة.
فلماذا خصصت زوائد الشيخ مقبل -رحمه الله- على الصحيحين من بين هذه الزوائد عليهما وعلى الكتب الستة، فإما أن ترد عليهم جميعا، وأنهم أخطأوا بفعلهم هذا، فجل ما ذكروه أصوله فيها، وإما أن تخضع لهذا النعت، وهو أنك متناقض ومغرض.
وها أنا أثبت لك بأقوال أئمة يلزمك أيضا الرد عليهم أن الحديث زائد على الصحيح.(1/69)
ذكر الإمام أبو حفص عمر بن علي بن أحمد بن الملقن -رحمه الله- في كتابه «البدر المنير» (8/324 325): حديث البراء بن عازب وعزاه للإمام البخاري وهو عنده برقم (2699) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال فيه: ((الخالة بمنزلة الأم))،ثم قال: وعزاه المجد في أحكامه،(1) وابن الأثير في «جامعه» إلى مسلم أيضا وهو ظاهر إيراد العمدة أيضا ولم يعزه البيهقي في «سننه» (2)، والمزي في «أطرافه» إلا للبخاري وحده، وكأن مراد الأولين بإخراج مسلم منه قصة الحديبية.
ثم قال ابن الملقن: قال البيهقي في «الكبرى» (8/6): وروينا هذه القصة أيضا من حديث علي -رضي الله عنه- في قصة بنت حمزة قال: فقال: جعفر أنا أحق بها، فإن خالتها عندي فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أما الجارية فأقضي بها لجعفر، فإن خالتها عنده، وإنما الخالة بمنزلة الأم)).
قال: والحديث الأول أصح من هذا ثم قال: وحديث علي هذا أخرجه
أحمد،(3) وأبو داود رقم (2274)، والبزار في «كشف الأستار» (744)، وقال: لا يروى عن علي إلا من الطريق المذكور.
وقال الزيلعي في «نصب الراية» (3/267): وأما حديث علي فرواه إسحاق بن راهويه في «مسنده» قال:
أخبرنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق فذكره، وقال في آخره: رواه أحمد في «مسنده».
والحديث رواه البخاري في «صحيحه» عن البراء بلفظ: ((الخالة بمنزلة الأم)). ورواه أبو داود من حديث علي بلفظ: ((الخالة أم))، وذكر الحافظ ابن حجر حديث البراء في «بلوغ المرام»، وعزاه للبخاري ثم قال: وأخرجه أحمد من حديث علي، فذكر بعض ألفاظه، وعزاه العلامة الألباني في «الإرواء» (7/246) إلى أحمد (1/98)، وأبي داود رقم (2280) وآخرين.
__________
(1) مع «نيل الأوطار» (6/368) رقم.
(2) «الكبرى» (8/6).
(3) في «المسند» رقم (770) من طريق إسرائيل عن أبيه به، وحسنه المحقق.(1/70)
وبهذا القدر تعلم أن الحديث الذي في«صحيح البخاري» هو حديث البراء، أما حديث علي الذي في «الصحيح المسند» لشيخنا -رحمه الله-، فليس فيه، وكون الحديث اتفق لفظه، وتعدد أصحابه يضاف إلى كل من رواه أنه أيضا حدث به، وإلا لتناقض الدكتور أحمد بقوله في بعضها أنه متواتر، كما تقدم في عدة مواضع كيف يكون متواترا وهو عن واحد من الصحابة، ولكن إذا أضيف إليه ما في بابه وبلغ هذه الدرجة صار متواترا، وكما ذكر هنا أفلا يصح أن يقال: هذا من حديث البراء، ومن حديث علي، وأخرجه أبو داود، وحديث فلان وفلان، وكل حديث يضاف إلى من خرجه وله حكمه، وفي الحقيقة هذه المسائل من البديهات لكنا ابتلينا بتلقين أحمد هذه البدائيات ومن ابتلي فليصبر.
الجواب على دعواه: الخطأ العاشر
قال الدكتور ص (44):
قال (2/95) رقم الحديث (968): قال الإمام الترمذي (10/246):
حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا زائدة، عن عاصم عن زر عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير بن العوام)). هذا حديث صحيح.
قال أبو عبدالرحمن -هذه كنية الشيخ مقبل-: هو حديث حسن.
(وبعد أن سرد الطرق التي ساقها شيخنا رحمه الله قال):
قلت: هكذا أطال في التخريج على غير عادة الكتاب، ومنهجه، ولم يأت إلا بالأسانيد الحسنة، بينما الحديث على أعلى درجة في الصحة حيث أخرجه البخاري ومسلم بالنص، وانتهى تخريج الشيخ وقد أسدل ستارا كثيفا على روايات الشيخين دون أدنى إشارة إلى ورود أصل الحديث في «الصحيحين»، ولا أعلم أحدا من الأئمة قط سار على هذا النهج في كتب الحديث، وأي فائدة ينالها طالب العلم من حفظ، أو دراسة هذا الحديث من «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» وبعد أن ينفض يديه، ومبلغ علمه، أن الحديث بكل الطرق المعروضة حديث حسن.(1/71)
بل أي جهل فاحش سيتزود به في مسيرة الدعوة إذ ينطلق، وقد حجب عنه العلم بأن الحديث في أحد «الصحيحين» بل وفي «الصحيحين» معا فالله المستعان .
قلت: انظر أخي القارئ، على حملة شرسة يشنها الدكتور أحمد على شيخنا العلامة الإمام الوادعي -رحمه الله- وعلى كتابه «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» وقبل البدء في مناقشة تلك الفرى أضع بين يديك ما انطوى عليه هذا الكلام من الباطل والصد، والتزهيد، والشناعة، والأقذاع على الشيخ -رحمه الله- وصحيحه، كما هو مدلول كلام الدكتور بلا كلفة، فمن ذلك:
1 قوله: أطال في التخريج على غير عادة الكتاب. كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2 قوله: ولم يأت إلا بالأسانيد الحسنة. وما يتضمنه من أن الشيخ -رحمه الله- يهون من أمر السنن الثابتة.
3 قوله: وقد أسدل ستارا كثيفا على روايات الشيخين....الخ وما يتضمنه من اتهام الشيخ بالغش، وإلباس الحق، وتغطيته الأمر الذي هو من أقبح صنائع أهل الكتاب اليهود والنصارى.
4 ثم تحول إلى كتابه «الصحيح المسند» فقال: وأي فائدة من حفظ، أو دراسة هذا الحديث من «الصحيح المسند»، وما يتضمنه هذا الكلام من أن حفظ، أو دراسة «الصحيح المسند» في غاية من الضياع، الأمر الذي ينسب إلى المؤلف أنه جند نفسه لتضييع نفسه، وبذل وسعه في تضييع المسلمين بهذا الكتاب.
5 ثم ترقى الدكتور أحمد إلى أن حفظ، أو دراسة هذا «الصحيح المسند» جهل فاحش.
6 وأنه كتاب يحجب من حفظه، أو درسه عن صحيحي البخاري ومسلم، ومعناه أنه كتاب صد عن أجل مصنفات السنة، وصد عن العلم الذي احتوى عليه «الصحيحان» صد عن سبيل الله، وعن عظيم من دينه الحق، ولا أدري هل أدرك الدكتور خطورة كلامه وبغيه وعدوه وظلمه هذا للشيخ مقبل -رحمه الله- وكتابه المذكور أم لا؟ أما أنا فأشهد بالله أني لم أر بغيا وعدوا وظلما لهذا الكتاب المبارك مثل هذا ومثل شناعة ما نال به من مؤلفه -رحمه الله-.(1/72)
ونحن بمشيئة الله عز وجل وتوفيقه نأتي على هذه الأوهام والتخرصات، فنبينها حتى تولي، ولها حصاص مع النصائح والتوصيات للدكتور أحمد بالتوبة إلى الله عز وجل مما تجناه على عالم إمام من أئمة السنة، ومصنف عظيم من مصنفاتها ثم ندلف إن شاء الله إلى دلالة الدكتور أحمد على مواضع خطئه هنا على جاري عادته فيما مضى من كتابه هذا.
الموضع الأول:
قوله: إن العلامة الوادعي -رحمه الله- أطال في التخريج لهذا الحديث على غير عادة الكتاب ومنهجه: هذا غير صحيح. ومن قلب بعض الصفحات من «الصحيح المسند» يعلم بطلان قول الدكتور أحمد، فهذا الحديث مخرجه هنا عاصم بن أبي النجود يرويه عن زر بن حبيش، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد ذكر له الشيخ -رحمه الله- أربع طرق عن عاصم به.
1 طريق زائدة عن عاصم..
2 طريق سفيان عن عاصم..
3 طريق شيبان عن عاصم..
4 طريق حماد بن سلمة عن عاصم.. وإليك ذكر أمثلة من «الصحيح المسند» تثبت أن الدكتور أحمد هداه الله إما أنه يهري بما لا يدري، أو أنه لا يتورع عن التقول على العلامة الوادعي -رحمه الله- وعلى «صحيحه» بأقاويل لا خطم لها ولا أزمة.
1 حديث وائل بن حجر قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد حلق الإبهام والوسطى ورفع التي تليها يدعو بها في التشهد.
ذكره من طريق عاصم بن كليب عن أبيه، عن وائل بن حجر الحديث له إلى عاصم أربعة عشر طريقا وهم: عبدالله بن إدريس، وبشر بن المفضل، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وعبدالواحد بن زياد، وشعبة بن الحجاج، وزهير بن معاوية، وخالد بن عبدالله الطحان، ومحمد بن فضيل، وأبو الأحوص سلام بن سليم، وأبو عوانة، وغيلان بن جامع، وقيس بن الربيع، وموسى بن أبي كثير كلهم: رووا الحديث عن عاصم بن كليب عن أبيه به.
بهذا اللفظ الدال على الإشارة، وأبان أن زائدة بن قدامة وحده هو الذي شذ فروى الحديث بلفظ: ((التحريك)).(1/73)
2 حديث أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دخل مكة في عمره القضاء، وعبدالرحمن بن رواحة يمشي بين يديه، وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله. الحديث.
ذكره من طريق عبدالرزاق عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس به، وذكره له إلى عبدالرزاق ثمان طرق وهم:
أبو عاصم خشيش بن أصرم، ومحمد بن عبدالملك، ومنصور، وأبو بكر بن زنجويه،وسلمة بن شبيب، والحسين بن مهدي، وزهير بن محمد، ومحمد بن سهل كلهم: عن عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس به.
3 حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث في الإسراع بالجنازة: إنا لنكاد نرمل بها رملا. رقم (1182) ذكره من طريق عيينة بن عبدالرحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة عند النسائي (4/42)، وله إلى عيينة بن عبدالرحمن ست طرق:
من طريق محمد بن عبدالأعلى، وأشار إلى طريقين آخرين عند أبي داود.
ومن طريق شعبة ووكيع وهشيم ويحيى بن سعيد كلهم: عن عيينة بن عبدالرحمن به.
وحتى لا أطيل على القارئ بذكر الأحاديث وأسماء رجال طرقها فلينظر هذه الأرقام من «الصحيح المسند» طبعة دار الحرمين.
(127) (170) (218) (273) (342) (343) (345) (549) (352) (411) (412) (811) (843) (863) (848) (870) (871) (889) (902) (956) (969) (1072) (1105) (11032)، كل هذه إنما هي أمثلة من «الصحيح المسند» أحاديث لا تنزل طرقها الموصولة إلى مخرج الحديث عن أربع طرق.
فإذا اطلع القراء وفقهم الله على هذه الطرق وغيرها في «الصحيح المسند»: فليسموا قول الدكتور أحمد في «أضوائه» (ص45) إن الشيخ أطال في تخريج ذلك الحديث إذ ذكره من أربع طرق على غير عادة الكتاب ومنهجه، يسمونه بما شاءوا من التسميات والأوصاف المطابقة له، والمخالفة للواقع.(1/74)
وبعد هذا النقض لدعوى الدكتور أحمد بذكر عدة أمثلة أن الشيخ -رحمه الله- كان يعجبه سوق الطرق ما أمكن على طريقة الأئمة المحدثين: كالإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري، فقد ساق من طرق حديث مواقيت الصلاة في «صحيحه» رقم (612) عن جملة طيبة مباركة من الأئمة، ثم أتبعه بأثر يحيى بن أبي كثير لا يستطاع العلم براحة الجسم.
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه على «الأثر»:
جرت عادت الفضلاء بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية، عن يحيى مع أنه لا يذكر في كتابه إلا أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- محضة، مع أن هذه الحكاية لا تتعلق بأحاديث مواقيت الصلاة، فكيف أدخلها بينها.
وحكى القاضي عياض -رحمه الله- عن بعض الأئمة أنه قال: سببه أن مسلما -رحمه الله- أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبدالله بن عمرو وكثرة فوائدها، وتلخيص مقاصدها، وما اشتملت عليه من الفوائد في «الأحكام» وغيرها، ولا نعلم أحدا شاركه فيها، فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا، فقال: طريقه أن يكثر اشتغاله وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم. اهـ
وذكر الحاكم النيسابوري -رحمه الله- حديث البراء بن عازب من طريق طلحة بن مصرف اليامي عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((زينوا القرآن بأصواتكم)).
ثم ساق له نحو واحد وعشرين طريقا إلى طلحة بن مصرف عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء، وهذه أسماؤهم:
1 مالك بن مغول.
2 منصور.
3 أبو إسحاق السبيعي.
4 زبيد الباجي.
5 جرير بن حازم
6 الأعمش.
7 شعبة.
8 الحسن بن عبيد الله.
9 عبدالرحمن بن زبيد الباجي.
10 حماد بن أبي سليمان.
11 مطر بن خليفة.
12 محمد بن طلحة عن أبيه.
13 زيد بن أبي أنيسة.
14 أبو هاشم الرماني.
15 الحسن بن عمارة.
16 الحجاج بن أرطأة.
17 ليث بن أبي سليم.
18 عيسى بن عبدالرحمن السلمي.
19 محمد بن عبيد الله الفزاري.(1/75)
20 أبو اليسع المكفوف.
21 عبدالملك بن بجر.
الموضع الثاني:
قوله ص (45): لم يأت إلا بالأسانيد الحسنة، بينما الحديث على أعلى درجة في الصحة، حيث أخرجه البخاري ومسلم بالنص.!
وهذا القول: فيه خلط وخبط من أننا قدمنا في بيان طرقه الموصلة إلى مخرجه هنا عن أربعة من الثقات ليس منهم دون ذلك وهم:
زائدة، وسفيان، وشيبان، وحماد، وهذه الطرق أوصلت إلى عاصم بن أبي النجود، ويقال: بن بهدلة، وهو صدوق حسن الحديث، ومن أجله حكم على الحديث من هذه الطريق بالحسن.
فاستبان بهذا سوء فهم الدكتور أحمد، أو على الأقل عدم دقة تعبيره هنا لأنه إن أراد أن الرجال الذين تتابعوا في نقل هذا الحديث عن عاصم دون الثقة، فهذا غلط واضح.
وإن أراد أن مخرج الحديث من أجله صار حسنا، فإنما مخرجه طريق واحدة وليست عدة طرق.
وأما تكرار دعواه العريضة أن الحديث في «الصحيحين»، وليس فيه فهذا كثير في كتابه، ومنها حديث علي هذا فقد عزاه وذكره الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (7/374) إلى الترمذي فقط.
وذكره ابن الأثير في «جامع الأصول» (9/5) رقم (6522)، وقال أخرجه الترمذي وساق بعده حديث جابر، وقال: أخرجه البخاري ومسلم، والترمذي، ولم يقل محقق «مسند أحمد» (1/89)، ولا «مسند أبي يعلى» (1/446)، ولا الشيخ الألباني في «تحقيقه السنة» لابن أبي عاصم (1388)، ولا محقق: «فضائل الصحابة» لأحمد (2/920 921)، ولا محقق «مسند» الطيالسي (158) ولا غيرهم، لم يقل أحد علمته أن حديث علي هذا أخرجه البخاري ومسلم، حتى أحمد بن نصر الله الملقب بـ [الدكتور] بهذه العجائب والغرائب يعربج بها على صحيح أحد كبار علماء السنة في هذا العصر فنعوذ بالله من الفضائح.
الموضع الثالث:
قوله الزور: وقد أسدل ستارا كثيفا على روايات الشيخين.(1/76)
والجواب: أن المكتبة الإسلامية تزخر بالزوائد على الكتب الستة بما فيها صحيح البخاري ومسلم، ولم نر من قال: إن تلك الزوائد تسدل ستارا على الصحيحين، أو غيرها، فالصحيحان في بابها وهذه كتب نافعة في بابها.
وأنا أتحدى الدكتور أحمد والمقدم له الدكتور حميد السندي أن يثبتا منهجهما هذا المحدث من كتب الزوائد التي صنفها الأئمة، سواء الكتب التي صنفها الهيثمي «كمجمع الزوائد»، أو «كشف الأستار»، أو «مجمع البحرين»، أو «بغية الباحث»، أو الكتب التي صنفها الزيلعي، «كمصباح الزجاج» و«زوائد سنن ابن ماجه»، أو «إتحاف الخيرة».
أو الكتب التي صنفها الحافظ ابن حجر «كالمطالب العالية»، أو غير هؤلاء ممن اعتنى بهذا الفن.
إن الواحد منهم يذكر الحديث الزائد حسب شرطه، ثم يتبعه بذكر أنه قد جاء عن فلان وفلان في الكتب التي التزم أن يخرج زوائدها، والحق أن كلام الدكتور هذا يستحق الإعراض عنه من باب قول الله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199].
لولا أنه يخشى أن تروج هذه الجهالات على بعض البادئين.
الموضع الرابع:
قول الدكتور: وأي فائدة ينالها طالب العلم من حفظ، أو دراسة هذا الحديث من «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» وبعد أن ينفض يديه ومبلغ علمه أن الحديث بكل الطرق المعروضة حديث حسن.
أقول: يا دكتور، كيف عميت عن أي فائدة في هذا الكتاب الذي كله علم نافع وفوائد عظيمة.
أخشى أن ينطبق عليك قول الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].(1/77)
وكيف لم تهد لأي فائدة منه، وقد نهل من أحاديثه وعلومه وفوائده الذهبية طلاب علم السنة في أصقاع المعمورة، وصار عندهم مصدرا موثوقا لمعرفة جملة كبيرة من ثوابت السنة بها يخطبون، ومنها في تآليفهم يغترفون، ويدونون، وبما دلت عليه لربهم يتعبدون، أخشى أن ينطبق عليك قول الله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين} [الصف: 5].
وما عسى تزهيدك هذا أن يصنع، فإن كنت قد عميت عن فوائد هذا الكتاب، فملايين المسلمين لفوائده قد أبصروا.
وإن كنت قد ظللت فملايين المسلمين لعلومه قد اهتدوا، وما شأنك مع هذا الكتاب، ومؤلفه إلا كما قيل:
فقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح قلوبا أطفأ الله نورها ... بأهوائها فلا تفيق ولا تعي
الموضع الخامس:
وأقول: يا دكتور، هون عليك هذا الإرجاف كله فبحمد الله صغار طلاب علم الحديث أفقه منك لما تضمنه الكتاب وما دل عليه عنوانه وشرط صاحبه فيه، فهم يعلمون أنه اشتمل على أحاديث اشترط فيها الإمام المحدث الوادعي -رحمه الله- الصحة.
ليست موجودة عن هؤلاء الصحابة في «صحيح البخاري» و«صحيح مسلم» فيأخذون منهما، ويضيفون إليهما ما ذكر في الباب من «الصحيح المسند» للعلامة الوادعي ومن «السلسلة الصحيحة» للعلامة الألباني، وهكذا يصنع طلاب العلم في الانتفاع بهذه الكتب العلمية النافعة، فاستفد من طريقتهم هذه الرشيدة، واحذر طريقتك هذه الضالة البعيدة التي هي قائمة على منهج هظم وظلم، وتحقير آلاف كتب السنة، وظلم أهلها، وتحقير جهودهم العلمية التي قضوا فيها نفائس أوقاتهم وخلاصة أعمارهم رحمهم الله وعاملك بما تستحق.
الموضع السادس:(1/78)
أقول: يا دكتور، أي جهل فاحش يتزود به في مسير الدعوة؟ كيف صارت حفظ صحاح أحاديث السنة عندك جهلا فاحشا، وما هو الذنب الذي جعل الحقائق تتقلب عندك؟ فلا تعرف هذا الأمر المعروف عند عوام المسلمين: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران: 8].
يا دكتور، إن شئت أن نجعل لعنة الله على الكاذبين، أن الجهل الفاحش هو هذا الفكر الذي أنت منغمس فيه.
فاتق الله عز وجل، وتضرع إليه أن يلهمك رشدك ويقيك شر نفسك، فإنك بفعلك هذا تزهد في شيء من سنته، وتصد عن سبيله والله عز وجل قد توعد هذا الصنف بقوله: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم} [النحل: 94].
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي عشر
قال الدكتور (ص47) من «ظلماته» التي سماها «أضواء»:
قال (2/89) رقم (959): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله-:
حدثنا علي بن محمد حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس الأودي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الله أحد الواحد الصمد تعدل ثلث القرآن)). هذا حديث حسن.
قال الدكتور: قلت: بل الحديث صحيح، وقد أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» بأتم من ذلك، وأحسن سياقا.
قلت: فانظر إلى تمويه الدكتور أحمد إذ يقول: إن الحديث المذكور هنا عن أبي مسعود قد أخرجه البخاري ومسلم ثم يخرج الحديث من «صحيح البخاري» عن أبي سعيد الخدري، أو من مسلم عن أبي الدرداء وأبي هريرة.
وعند تأملي لهذا التمويه الذي هو قطب رحى أضواء الدكتور أحمد تذكرت بيتين من الشعر مما حفظناها في دروس شيخنا -رحمه الله- وهما:
شكونا إليهم خراب العراق ... فعابوا علينا لحوم البقر
فصرنا كما قيل فيما مضى ... أريها السهى وتريني القمر(1/79)
يا دكتور! ما عذرك عند الله في تعطيل أحاديث الصحابة التي رويت خارج الصحيحين؟ وقد رواها صحابة آخرون في «الصحيحين» أو أحدهما ألا تخشى أن يكون ذلك الصحابي الذي عطلت شرف روايته الثابتة لحديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يكون خصمك يوم القيامة؟ هل هذا من الإنصاف في التعامل مع أحاديث الصحابة؟ أن تعطل حديث واحد وتثبت حديث آخر، لغير دليل يكون عذرا لك بين يدي الله عز وجل.
فتنبه يا دكتور لهذا المنعطف الخطر، وأفق من هذه الغفلة، وليسعك ما وسع السلف الصالح رضوان الله عليهم في تعاملهم مع أحاديث الصحابة، إذ تراهم بعد تصنيف الصحيحين يجعلونهما في مقدمة كتب الحديث، ويبحثون فيما صح خارجهما لإثراء المسلمين بالسنن الثابتة حسب قواعد هذا العلم، فاحذ حذوهم تسلم من هذا الإجحاف والتخبط، فو الله ما جانب أحد سبيل السلف الصالح رضوان الله عليهم إلا أوكله الله إلى شر نفسه فيعرضها لنقمة الله وبطشه بقدر مجانبته لهديهم.
قال الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} [النساء: 115].
وأنا أطالب الدكتور أحمد:(1) فأقول: كيف ساغ لك أن تثبت هذا الحديث عن عدد من الصحابة منهم: أبو سعيد، وأبو الدرداء، وأبو هريرة؟ ولم يسغ لك أن تثبته عن أبي مسعود خارج الصحيح على قوة سنده.
__________
(1) وأمثاله ممن يسلك هذا المنهج المنحرف.(1/80)
فما أشبه هذا المنهج بمنهج الأشاعرة في الصفات إذ أثبتوا بعض الصفات، وعطلوا نظيرها وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- نقاشا جميلا فقال: القول في بعضها كالقول في البعض الآخر، فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته، ورضاه، وغضبه، وكراهيته، فيجعل ذلك مجازا، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر. اهـ من الرسالة «التدمرية» ص(31) باختصار.
قال الدكتور (49) من «أضوائه»:
وبعد فقد تبين صحة الحديث على أعلى درجة بما لا يدع مجالا للشك ولا يليق بمحدث أن يطلق على هذا المعنى الثابت أنه حسن، حتى مع اعتبار أن اللفظ به نوع اختلاف إلا أن المعنى واحد بلا ريب وهذه القضية معتبرة أعني قضية أن يأتي الحديث بألفاظ فيها اختلاف يسير، ولا يغير من الحكم النهائي على الحديث والشيخ مقبل -رحمه الله- يعمل بهذه القاعدة في بعض الأحوال مثالا على ذلك قوله (2/97) رقم الحديث (969) في «الصحيح المسند» أورد حديثا من زوائد عبدالله بن أحمد وفيه: ((من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين)). قال: هذا حديث حسن.
وأخرجه ابن ماجه ثم قال: وهو في «البخاري» (1/199) من حديث منصور قال: سمعت ربعي بن حراش يقول: سمعت عليا يقول: قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليج النار)). ورواه مسلم (1/9). اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: وهو في البخاري ليس فيه دقة في الحكم وفق قواعد التخريج.
والأصوب: أن يقول بنحوه، أو بلفظ آخر لأن الحديثين، كما هو واضح متباعدان في اللفظ حقيقة، وإن كانا يلتقيان في نهاية المطاف حول معنى واحد، وهو ذم الكذب على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(1/81)
وموضع الشاهد هنا: أن الشيخ أورد رواية البخاري في هذا المثال ليعضد بها رواية ابن ماجه الحسنة ويستشهد بذلك على ثبوت الحديث رغم الاختلاف الكبير للألفاظ فلماذا سكت عن عشرات الأحاديث التي وردت بالنص في «الصحيحين»ولم يشر إليها مجرد إشارة عند هبوطه لرواية حديث حسن في المسانيد كمسند البزار، أو أبي يعلى!!؟
ولماذا سكت عن عشرات أخرى من الأحاديث وردت كذلك في «الصحيحين» بنحوها، وأوردها هو في كتابه «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» راجع: إن شئت كمزيد أمثلة على محل الشاهد الحديث رقم (792) والحديث رقم (549) ورقم (1329) ورقم (1558) ورقم (1565) انتهى.
قلت: وهذا الكلام مصبوغ بقالب من التلبيس، فإن الشيخ -رحمه الله- لم يحكم على الحديث من جميع طرقه الذي يعبر عنه الدكتور أحمد بقول هذا المعنى : إنه حسن.
فإذا بلغ بك سوء الظن بالعلامة الوادعي أنه جهل ما علمته أنت من أحاديث فضل هذه السورة من «الصحيحين» ذكر حديث فضل سورة قل هو الله أحد، فعلى الأقل أيها الدكتور كنت تعتبر ما ذكره هو في «الصحيح المسند»، وتلخص بأن الشيخ يحسنه من جميع طرقه، وإنما حسنه بمفراداتها فيصير بمجموع ذلك صحيحا.. فقد أخرجه في كتابه هذا «الصحيح المسند» عن ثلاثة من الصحابة، كما في النسخة المرتبة لأبواب الفقهية (5/478).
ومنها: حديث أنس بن مالك وحسنه.
وحديث ابن مسعود، وحسنه، فالشيخ حسن كل طريق على حدة.
فلو أنصف الدكتور لما أطلق أن الشيخ حسن ما يدل على أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، لأن حسنا مع حسن يرتقي عند المحدثين إلى صحيح لغيره.
ثانيا: انتقاده على الشيخ قوله عن حديث: ((لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار)).
فقال الدكتور: قوله: وهو في البخاري ليس فيه دقة في الحكم وفق قواعد التخريج، والأصوب أن يقول: بنحوه، أو بلفظ آخر... إلخ(1/82)
قلت: هذا اللفظ المذكور مضمونة النهي عن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبما أن صحابيه واحد فإنه يقال: هو في البخاري، لأن اللفظ قد يتفاوت من رواية إلى أخرى في «صحيح البخاري» نفسه، وصحابي الحديث واحد، فلا يعتبرونه أكثر من حديث، وانظر: حديثا من صحيح البخاري.
قوله: وموضع الشاهد هنا أن الشيخ أورد رواية البخاري في هذا المثال ليعضد رواية ابن ماجه الحسنة....الخ
أقول: يا دكتور! أتيت في تخليطك هذا من سوء الفهم ولا أدري إن كان انضاف منك على ذلك سوء القصد فالله عز وجل يقول: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} [يونس: 30].
وبيان سوء فهمك في هذه المسألة أن الشيخ -رحمه الله- لما كتب الحديث عن علي -رضي الله عنه- من هذه الطريق في «الصحيح المسند» كتبه لزيادة فيه على ما في البخاري ومسلم، وإنما أبقاه في «الصحيح المسند» من أجلها مع علمه أنه في «الصحيحين» وأبقاه لبعض الكلمات المختلفة، كما أعلمناك في أول هذا البحث أن أصحاب الزوائد قد يذكرون حديثا هو نفسه في الكتب التي اشترطوا أن لا يكتبوا إلا ما زاد عليها من أجل زيادة فيه كلفت كتابته عندهم، لأن هذه الزيادة ينبني عليها حكم، ولما علم أن الاختلاف في اللفظ بين ما في الصحيحين، وما في «الصحيح المسند» يسير فقد حذف حديث علي هذا من الطبعة الأخيرة التي تدعي في ص (14) من مقدمتك أنك اطلعت على الكتاب في آخر طبعاته، وصنيعك يثبت أنك إنما اعتمدت في استدراكاتك المزعومة على أول طبعة للكتاب.
فهذا هو الفهم الصحيح لإيراد الشيخ لحديث علي، ثم أتبعه بالتنبيه أنه في «الصحيحين» أي: أصله، فلما علم أن الفرق يسير بين اللفظين حذف، فنحن أعلم منك «بالصحيح المسند» وبصنيع مؤلفه شيخنا العلامة الوادعي -رحمه الله- فيه والله عز وجل يقول: {ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14].(1/83)
أما دعواك أنه استشهد برواية البخاري ومسلم للرواية التي خارجهما فغلط بين مبني على أوهام وتخرصات؛ لأن الشيخ -رحمه الله- اشترط أن لا يذكر في «صحيحه» هذا أي حديث في «الصحيحين»، أو أحدهما، لا اعتمادا ولا اعتضادا، كما هو موضح في مقدمة كتابه «الصحيح المسند».
ثم بنى الدكتور على وهمه هذا إلزامات، وهي في الحقيقة إيهامات.
ومن تلك الإيهامات أنه لماذا لم يخرج الحديث في «الصحيح المسند»؟ وقد تكرر بيان ذلك أن هذا ليس بلازم لا له، ولا لمن صنف في الزوائد قبله.
فائدة:
قال النسائي في «الكبرى» (9/255) تحقيق حسن شلبي باب ذكر الاختلاف على أبي إسحاق فيه.
وأخرجه رقم (10457) من طريق زكريا، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: حدثني بعض أصحاب محمد فذكر الحديث، وأخرجه بعده من طريق زائدة عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: فذكره مرسلا.
وأخرجه بعده رقم (10459) من طريق سفيان الثوري. وساقه بعده من طريق شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن، وهذا مرسل.
ورواه شعبة عن أبي قيس قال: سمعت عمرو بن ميمون يحدث عن أبي مسعود عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فذكر الحديث.
وقال النسائي: لم يتابع أحد علمته أبا قيس عن عمرو عن أبي مسعود. اهـ
وذكر الحديث ابن أبي حاتم في «العلل» رقم (1669)، وجعله من حديث شريك عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله بن مسعود، وليس عن أبي مسعود. وذكر الدارقطني الخلاف فيه في «العلل» (6/رقم 1051)، وسئل في رقم (839) عن حديث عمرو بن ميمون، عن عبدالله عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)).
فقال: يرويه أبو إسحاق السبيعي واختلف عنه، فرواه شريك عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(1/84)
وخالفه أبو طيبة الجرجاني فرواه عن أبي إسحاق عن الحارث، عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود.
وقول شريك أصح، وذكر الحارث فيه وهم. اهـ أي: إنه حديث ابن مسعود.
وعزا الحديث الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (7/337) إلى النسائي، وابن ماجه عن أبي مسعود، وعن ابن مسعود مرفوعا وعزاه أيضا موقوفا.
قلت: فلا مانع أن يحمل الحديث على الوقف، والرفع، والاتصال، والإرسال، وأنه جاء عن الصحابيين: أبي مسعود، وابن مسعود؛ لأن إسناده صحيح عنهما، كما تقدم ذكره في حديث أبي مسعود قال البوصيري في «زوائده على سنن ابن ماجه» في حاشية سنن ابن ماجه رقم (3789):
هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وأبو قيس هو عبدالرحمن بن ثروان. اهـ
قال الإمام أحمد رقم (17106):
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)). وساقه ابن كثير في «تفسيره» عند سورة قل هو الله أحد،ثم قال: وهكذا رواه ابن ماجه، عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع به.
قلت: وصححه العلامة الألباني في حكمه على أحاديث «سنن ابن ماجه».
ورواه النسائي في «اليوم والليلة» من طرق أخرى، عن عمرو بن ميمون مرفوعا، وموقوفا، ولم يرجح أحدهما، وهذا يؤيد ما قلناه من رواية الحديث على الوجوه المتقدمة. وبالله التوفيق.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني عشر
قال الدكتور في «أضوائه» ص (51):
قال (2/9) رقم (828): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (9/10):(1/85)
حدثنا الفضل بن سهل أبو العباس الأعرج البغدادي، حدثنا عبدالرحمن بن غزوان أبو نوح، أخبرنا يونس بن أبي إسحق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين.....))، (ثم ساق الحديث بطوله إلى قول الشيخ -رحمه الله-):
قال أبو عبدالرحمن: ذكر أبي بكر وبلال في الحديث وهم، كما قاله الحافظ في «الإصابة» في ترجمة بحير الراهب (1/179)، وكما قاله الجزري كما في «تحفة الأحوذي». اهـ
قال الدكتور: قلت: سكت الشيخ عن الحديث ولم يعط له حكما صحيحا بالصحة أو التحسين، وإن كان إيراده للحديث برقم خاص (828) في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» يدل على اعتباره وقبوله للحديث.
قلت: الحديث رجاله ثقات، إلا يونس بن أبي إسحاق فصدوق حسن الحديث، الفضل بن سهل الأعرج ثقة، أخرج له البخاري ومسلم ووثقه النسائي، وعبدالرحمن بن عزوان، قال ابن المديني، وابن نمير، ويعقوب بن شيبة، وابن سعد: ثقة.
وقال الدارقطني: ثقة له أفراد. واعتمد هذا الوصف الحافظ في «التقريب».
ويونس بن أبي إسحاق صدوق حسن الحديث كما يعلم من ترجمته، وأبو بكر بن أبي موسى قال العجلي: كوفي تابعي ثقة.
وذكره ابن حبان في «الثقات» وروى له الجماعة كما رمز له الحافظ في «التقريب» وقال: ثقة.
ولهذا فقد حسن الحديث حسب ما ترى من حال إسناده شيخنا -رحمه الله- في هذا الكتاب، ثم قال: ذكر أبي بكر وبلال فيه وهم، كما قال الحافظ في ترجمة بحيرا الراهب، وكما قاله الجزري كما في «تحفة الأحوذي» انتهى.(1/86)
قلت: ونص كلام الجزري من المصدر المذكور «المناقب» باب/ (24) ما جاء في بدء نبوة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رقم (3864) قال: إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح أو أحدهما.
وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، وعده أئمتنا وهما، وهو كذلك فإن سن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ ذاك ثنتا عشر سنة، وأبو بكر أصغر منه بسنتين، وبلال لعله لم يكن ولد في ذلك الوقت. اهـ
وقال الحافظ في «الإصابة»: رجاله ثقات وليس فيه سوى هذه اللفظة، فيحتمل أنها مدرجة فيه منقطعة من حديث آخر، وهما من أحد رواته كذا في «المواهب اللدنية». اهـ
وقال ابن القيم في «زاد المعاد» (1/75):
خرج به عمه إلى الشام، وقيل: كانت سنة تسع سنين، وفي هذه الخرجة رآه بحيرا الراهب، وأمر عمه أن لا يقدم به إلى الشام خوفا عليه من اليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا، وهو من الغلط الواضح، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا، وإن كان فلم يكن مع عمه، ولا مع أبي بكر، وذكر البزار في «مسنده» هذا الحديث، ولم يقل: وأرسل معه عمه بلالا، ولكن قال: رجلا. اهـ
قلت: لعلها تصحفت هذه الكلمة على بعض الرواة.
وذكره البغوي في «مصابيح السنة» في فصل الحسان، ونقل صدر الدين السلمي المناوي في «كشف المناهج والتناقيح تخريج أحاديث المصابيح» (5/222) عقب الحديث نقل تحسين الترمذي للحديث، ثم قال: وليس في سنده إلا من روى عنه البخاري، أو مسلم أو كل منهما، لكن ذكر أبي بكر وبلال فيه وهم. اهـ
وبهذا قال القاري في «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» كما في «حاشية كشف المناهج».
وقال العلامة الألباني في «هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة» (5/344):
قلت: ورجاله ثقات، والحديث صحيح كما كنت بينته في مقال نشرته «مجلة التمدن الإسلامي» منذ بضع سنين، لكن ذكر بلال فيه خطأ ظاهر فإنه لم يكن يومئذ قد خلق بعد! اهـ(1/87)
وذكر له ابن الأثير في «جامع الأصول» شاهدا عند رزين من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ثم قال: وأخرجه الترمذي عن أبي موسى الأشعري بغير ذكر بلال.
ثم قال: وذكر نحو هذه الرواية، وليس بين الألفاظ كبير اختلاف، وحسنه المحقق، وقال كما قال من قبله: إن ذكر بلال فيه غير محفوظ.
ولم يذكر الدكتور أحمد من هذا التحرير العلمي عن أئمة الشأن إن كان عرف ذلك شيئا إلا ما قد قرئ على شيخنا العلامة الوادعي -رحمه الله- ولم يرضه من «سير أعلام النبلاء» باب: سفره مع عمه، وخبر بحيرا الراهب إنه أنكر الحديث كله ومن ترجمة عبدالرحمن بن غزوان من «الميزان» أنه أنكره معتمدا في إنكاره على زيادة ذكر بلال وأبي بكر فيه.
فقال الذهبي: ومما يدل على أنه باطل قوله: ورده أبو طالب وبعث معه أبا بكر وبلال، وبلال لم يكن خلف بعد، وأبو بكر كان صبيا.
قلت: وما اعتمد عليه الذهبي، وقلده فيه ذلك الدكتور وزاد تخمينا من لدنه أن الحديث عليه علامات الوضع والتلفيق، قد رأيت أن عددا من المحققين المدققين لم يرتضوا إنكار الذهبي للحديث كله.
وإنما نبهوا على أن تلك الزيادة فيه هي المنكرة مع ثبوت بقية الحديث.
فيا ألباني اليمن! -كما يزعم أستاذك- استح على نفسك أن تتصدر لنقد جهابذة الحديث، وأنت على هذا الحال، رأس مالك في هذا الفن مقدمات من مصطلح الحديث يحسنها البادئون فيه مع ما انضاف إلى ذلك عندك من ضعف الفهم، وكسل في تحرير المسائل.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث عشر
قال الدكتور ص (54):
قال (2/269) رقم (1267): قال الإمام أبو داود -رحمه الله- (1/223):
حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا زيد يعني ابن الحباب، حدثنا عبدالرحمن بن ثوبان حدثنا عبدالله بن الفضل الهاشمي، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((توضأ مرتين مرتين)). هذا حديث حسن.(1/88)
قال الدكتور: قلت: الحديث أخرجه البخاري في «صحيحه». (ثم ساقه من حديث عبدالله بن زيد -رضي الله عنه- ثم قال):
وقال الحافظ في «الفتح»: وقد روى أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- توضأ مرتين مرتين. اهـ
قلت: إسناد حديث أبي هريرة عند أبي داود رجاله رجال مسلم ما خلا عبدالرحمن بن ثوبان، فهو صدوق وفيه كلام لا يضر لا سيما إزاء حديث الباب إذ هو ثابت ومحفوظ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ثم تناكد الدكتور، فنقل الرد على نفسه من كلام الحافظ في «الفتح» (1/211)، مختصرا له دون الشاهد.
قال الحافظ -رحمه الله-: وقد روى أبو داود، والترمذي، وصححه، وابن حبان من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((توضأ مرتين مرتين))، وهو شاهد قوي لرواية فليح هذه.
وكان يكفي الدكتور هذا الرد أن الحافظ لم يعتبر حديث أبي هريرة هو حديث عبدالله بن زيد، كما صنع الدكتور أحمد، ولكن اعتبره حديثا آخر، وعزاه إلى أبي داود والترمذي أي: أنه زائد على حديث البخاري.
فلله در أهل الحديث، ونسأل الله أن يسلم هذا العلم الشريف، والدين الحنيف، من تلويث الأيدي العابثة، كيد الدكتور أحمد.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع عشر
قال الدكتور أحمد ص (55):
قال (2/215) رقم (1141): قال الإمام أبو داود -رحمه الله- (13/122):
حدثنا أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو بن السرح، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه، عن معاوية اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأؤخره كيما تشفعوا فتؤجروا فإن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((اشفعوا تؤجروا)).
قلت: وقد أخرجاه بالنص في «صحيحيهما».
ثم ذهب يسود الصفحات بتخريج الحديث عن أبي موسى، فيخرجه من موضع كذا، وموضع كذا، وموضع كذا بما لا طائل تحته.(1/89)
وأقول: يا دكتور، الحديث عن أبي موسى قد خرجه الشيخ -رحمه الله- من الصحيح في عدة مواضع في كتبه، فساقه بسند البخاري في كتابه «الجامع الصحيح في القدر» رقم (62) وفي «ذم المسألة» رقم (48)، ولم يكن خافيا عليه بحمد الله أن الحديث في «الصحيحين» عن أبي موسى الأشعري، ولكن حديث معاوية هذا زائد على ما في «الصحيح»، وانظر: الحديث قبل هذا وكلام الحافظ عليه.
فلو أنك نشطت على فتح «تحفة الأشراف» للمزي (8/449) رقم (11447) فتستفيد من عزوه للحديث إلى أبي داود والنسائي فقط وأنه ليس في «الصحيحين» تكون قد استرحت وأرحت.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس عشر
قال الدكتور ص (57):
قال (2/28) رقم (862): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3820):
حدثنا عبدالصمد، حدثنا حماد، عن عاصم عن زر، عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قيل له: كيف تعرف من لم يرك من أمتك؟ فقال: ((إنهم غر، محجلون، بلق من آثار الوضوء)). هذا حديث حسن.
قال الدكتور: قلت: الحديث صحيح قد أخرجه مسلم بسياق أتم وأحسن عن حذيفة وأبي هريرة.
قلت: واعجبا لك يا دكتور!، كيف تقول: (الحديث قد أخرجه مسلم) أي: المذكور عن ابن مسعود لأن ((أل)) هنا: للعهد الذكري، وتخرجه من «صحيح مسلم» عن صحابي آخر، ما أسرع ما تنقض قولك بفعلك فتثبت أن حديث ابن مسعود ليس في أحد «الصحيحين»، ولو كان في أحدهما لأخرجته عنه، ولم تذهب تخرجه عن صحابي آخر اعتمادا على اتفاق في لفظ المتن، أو بعض ألفاظه.
وهذا هو الواقع أن حديث ابن مسعود ليس في أحد الصحيحين، ولهذا جعلوه في الزوائد على الكتب الستة كلها إلا ابن ماجه، فأخرجه رقم (284)، كما في «تحفة الأشراف» رقم (9225)، وحكم عليه البوصيري في المصدر المذكور بالحسن من أجل عاصم.
وقال الإمام المنذري في «الترغيب والترهيب»: رواه ابن ماجه، وابن حبان في «صحيحه»، وأحمد، والطبراني، بإسناد جيد.(1/90)
قلت: والحديث في «صحيح الترغيب» (1/187)، وحسن إسناده محقق مسند أحمد رقم (3820)، ومحقق «مسند أبي يعلى» رقم (5048)، ومحقق «مسند الطيالسي» (361)، وغيرهم.
ولقد أقحم أحمد نفسه بمنهجه هذا الأهوج في مجابهة، بل ومهاجمة جحافل أهل الحديث.
هل كل هؤلاء العلماء الذين اعتبروا حديث ابن مسعود زائدا على أحاديث «الصحيحين» وأن أحدهما لم يخرجه، وقضوا نفائس أعمارهم في تحري إثبات أن مثل هذا الحديث زائد، وأقاموا على ذلك مئات الكتب كل هؤلاء تقف أنت في وجوههم، ووجوه رواة تلك الكتب عنهم، ووجوه الأمة التي تشكر جهودهم وتدعو لهم، وتستفيد من زوائدهم هذه جرأة فادحة لا أعلم لها نظيرا.
وشذ الدكتور كعادته، فقال ص (58) من «ظلماته»: كما أن إسناد الحديث في «مسند أحمد» إسناد صحيح في ذاته، وليس (حسن)، فرجاله ثقات رجال الشيخين ما عدا عاصم وهو ابن أبي النجود أحد الثقات الفضلاء روى له البخاري ومسلم مقرونا بغيره، وفيه كلام يسير لا يضر، ولا ينزل بمقامه إلى مرتبة الحديث الحسن.
قلت: عاصم بن أبي النجود حسن الحديث، وشذ الدكتور من بين عامة المحققين المعتبرين فقال: صحيح الحديث، والدكتور أحمد بن نصر الله ضعيف جدا لشدة غفلته، وكثرة تفرداته مع قلة ما كتب في هذا الشأن، فلم يعرف عندنا إلا بهذا الكتاب المليء بالآراء الشاذة والمنكرة.
وانظر كلام الأئمة في عاصم مع ما تقدم من أحكامهم على حديثه.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في «ميزان الاعتدال»: عاصم بن أبي النجود، هو في الحديث دون الثبت صدوق يهم.
ونقل عن أبي حاتم أنه قال: ليس محله أن يقال: ثقة.
وقال ابن خراش: في حديثه نكرة فتعقبه الذهبي وقال: قلت: هو حسن الحديث. اهـ
وقال ابن رجب -رحمه الله- في ملحق «علل الترمذي» (2/630):
كان حفظه سيئا، وحديثه خاصة عن زر وأبي وائل مضطرب. اهـ
وقال الإمام الترمذي في «العلل» (1/141) مع شرح ابن رجب: وممن يضطرب في حديثه سماك وعاصم بن بهدلة.(1/91)
قال ابن رجب: هؤلاء وأمثالهم ممن تكلم فيه من قبل حفظه، وكثرة خطئه، لا يحتج بحديث أحد منهم إذا انفرد يعني في الأحكام الشرعية، والأمور العلمية، وإن أشد ما يكون ذلك: إذا اضطرب أحدهم في الإسناد فزاد فيه، أو نقص، أو غير الإسناد، أو غير المتن تغييرا يتغير به المعنى. اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في «التقريب»: عاصم بن بهدلة صدوق له أوهام حجة في القراءة، وحديثه في «الصحيحين» مقرون. اهـ فتعقبه صاحبا التحرير على تساهل فيهما في بعض المواضع منها هذا فقالا: بل هو ثقة يهم، فهو حسن الحديث.
قلت: وهذا تناقض منهما، فكيف يحسن حديث الثقة وإن كان يهم، إلا أن يكون من أوهامه فقد ينزل حديثه عن الحسن، وأما حديثه الذي لم يهم فيه فرتبته الصحة، وليس الحسن، كما هو مبين في تعريف الحديث الصحيح من كتب المصطلح.
فلعل الدكتور أحمد قلدهما في الخطأ، وأضاف إلى خطئهما خطأين آخرين فهما قالا: ثقة يهم وحسنا حديثه، وهو زاد الطين بلتين:
البلة الأولى: على أن عاصما عنده ثقة مطلقا، ولم يذكر أنه يهم.
والبلة الثانية: أنهما حسنا حديثه، وهو يرى أن حديثه لا ينزل إلى رتبة الحسن.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس عشر
قال الدكتور ص (59):
قال (2/37) الحديث رقم (883) قال الإمام النسائي -رحمه الله- (3/231):
أخبرنا يحيى بن حكيم، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، أنه كان في مسجد عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إني كنت أوتر. قال وسئل عبدالله: هل بعد الأذان وتر؟ قال: نعم وبعد الإقامة، وحدث عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس، ثم صلى.
هذا حديث صحيح رجاله الصحيح إلا يحيى بن حكيم، وقد قال أبو داود كان حافظا متقنا كما في «تهذيب التهذيب». اهـ(1/92)
قال: قلت: الحديث أخرجه البخاري ومسلم، ونومه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الصلاة، حتى طلعت الشمس مشهور عند قفوله من غزوة خيبر كما سيأتي بيانه، وكان الأصوب أن يوضح المناسبة بعد الإشارة لورود أصل الحديث في الصحيحين لئلا يتوهم أحد أن ذلك وقع من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بيته بالمدينة، ولم يعهد عنه قط أنه نام في بيته عن الصلاة، حتى طلعت الشمس (إلى أن قال):
أما رواية النسائي التي أوردها الشيخ مقبل في كتابه فهي تشتمل كذلك على لفظ غريب منكر، وكان يحسن التعليق عليه ألا وهو قوله في الرواية: وسئل عبدالله: هل بعد الأذن وتر؟ قال: نعم وبعد الإقامة!! فلينظر في صحة هذا اللفظ لا سيما قوله: ((وبعد الإقامة))، فإنه معارض بما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رأى رجلا وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لاث به الناس، وقال له رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الصبح أربعا الصبح أربعا)). «الفتح» (2/173) الحديث رقم (663).
وأخرجه مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)) (1/493) الحديث رقم (710/63) بترتيب عبدالباقي. ولذلك قال الحافظ في «الفتح»: فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة سواء كانت راتبة أم لا، لأن المراد بالمكتوبة المفروضة، وزاد مسلم بن خالد، عن عمرو بن دينار في هذا الحديث قيل: يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر؟ قال: ((ولا ركعتي الفجر)).(1/93)
أخرجه ابن عدي في ترجمة يحيى بن نصر بن الحاجب، وإسناده حسن. اهـ (2/175) كتاب الأذان. وقال الشيخ الألباني: ومما يشهد لهذا، حديث قتادة عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: ((من أدرك الصبح، ولم يوتر، فلا وتر له)) أخرجه الحاكم (1/302)، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. اهـ «إرواء الغليل» (2/153) الحديث رقم (422).
قلت: وعليه فإن إيراد الحديث كيفما اتفق دون تحقيق ألفاظه، وتخريج رواياته، بل والسكوت عن الطرق التي تتوفر للحديث بحيث يتقوى بها، أو عن اختلاف عباراته يعد خطأ كبيرا في حق المحدث.. والله المستعان.
أقول: إن هذا الحديث منه ما هو موقوف وهو قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: لما سألوه هل بعد الأذان وتر؟ قال: نعم وبعد الإقامة، فهذا القدر موقوف كما هو واضح من لفظه المذكور بين يدي القارئ، وقد أخرج الطحاوي في شرحه «مشكل الآثار» رقم (941) الموقوف منفردا عن المرفوع.
وأخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/287) فعلم من أن هذا القدر من الأثر قول: لابن مسعود ليست رواية له وأن تعبير الدكتور أحمد غير دقيق والقائلون به، لا نعلم أحدا منهم يقول: إنه يجوز بهذا أن الناس يكونون في صلاة فريضة الصبح والآخر يجوز له أن يشرع في الوتر، ولكن يحمل على أنه صلى الوتر بعد الإقامة والصلاة فيكون معناه قضاء الوتر بعد صلاة الصبح، وهذا القول لا إشكال فيه إذ هو مؤيد بحديث عائشة عند مسلم رقم (746) قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع، أو غيره صلى من النهار اثنتي عشر ركعة)).
وفي الباب حديث أبي سعيد الآتي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من نام عن وتره فليصله إذا ذكر)).
قال العلامة الشوكاني -رحمه الله- في «نيل الأوطار» (2/262): تحت باب: قضاء ما يفوت من الوتر، وبعد ذكر حديث أبي سعيد قال:(1/94)
وفي الباب عن عبدالله بن عمر عند الدارقطني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من فاته الوتر من الليل فليقضه من الغد)). قال العراقي: وإسناده ضعيف وله حديث آخر عند البيهقي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أصبح فأوتر.(1)
وعن أبي هريرة عند الحاكم،(2) والبيهقي، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر)) وصححه الحاكم على شرط الشيخين.
وعن عائشة عند أحمد (6/242) بسند حسن قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((يصبح فيوتر)). وفي الباب آثار في «الموطأ» للإمام مالك (1/126).
ثم قال: الحديث يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات، وقد ذهب إلى ذلك من الصحابة: علي بن أبي طالب، وسعد، وابن مسعود، وابن عمر، وعبادة بن الصامت، وعامر بن ربيعة، وأبو الدرداء، ومعاذ، وفضالة، وابن عباس، ثم نقل هذا عن عامة الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم.
قال: ثم اختلف هؤلاء إلى متى يقضي على ثمانية أقوال:
أحدها: أنه ما لم يصل الصبح، وعزاه إلى ابن عباس، وعطاء، ومسروق، والحسن، وآخرين.
ثانيها: أنه يقضي الوتر ما لم تطلع الشمس، ولو بعد صلاة الصبح، وبه قال النخعي.
ثالثها: أنه يقضي بعد الصبح وبعد طلوع الشمس إلى الزوال، وعزاه إلى عدد منهم ابن عمر.
رابعها: أنه لا يقضيه بعد الصبح، حتى تطلع الشمس فيقضيه نهارا، حتى يصلي العصر فلا يقضيه بعده، ويقضيه بعد المغرب إلى العشاء، ولا يقضيه بعد العشاء لئلا يجمع بين وترين في ليلة، وعزاه إلى الأوزاعي.
خامسها: إذا صلى الصبح لا يقضيه نهارا؛ لأنه من صلاة الليل، ويقضيه ليلا قبل وتر الليلة المستقبلة، ثم يوتر للمستقبلة، وعزاه إلى سعيد بن جبير.
سادسها: أنه إذا صلى الغداة أوتر حيث ذكره نهارا.
سابعها: أنه يقضيه أبدا ليلا ونهارا، وهو الذي عليه فتوى الشافعية.
__________
(1) ... أخرجه البيهقي (2/478).
(2) ... (1/303).(1/95)
ثامنها: التفرقة بين أن يتركه لنوم أو نسيان، وبين أن يتركه عمدا، فإن تركه لنوم أو نسيان قضاه إذا استيقظ، أو إذا ذكر في أي وقت كان ليلا أو نهارا، وهو ظاهر الحديث، واختاره ابن حزم، واستدل بعموم قوله: ((من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)). قال: وهذا عموم يدخل فيه كل صلاة فرض أو نافلة، وهو في الفرض أمر فرض، وفي النفل أمر ندب، ومن تعمد تركه حتى دخل الفجر، فلا يقدر على قضائه أبدا.
وقد استدل بالأمر بقضاء الوتر على وجوبه وحمله الجمهور على الندب انتهى بتصرف.
وقد حكى ابن المنذر في «الأوسط» (5/190) أقوال أهل العلم في هذه المسألة على نحو ما ذكر هنا.
وقال الطحاوي في شرحه «مشكل الآثار» رقم (941): بعد ذكره أثر ابن مسعود: والمرفوع لا نكارة فيه لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها)). من حديث أنس بن مالك متفق عليه.
وصح عند أبي داود (431) من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره)).
وقصة نومه عن صلاة الصبح في بعض أسفاره معلومة في «صحيح مسلم» رقم (681) من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه-.(1/96)
وكونه ساق حديث ابن مسعود فيه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس، وليس فيه ذكر أنه كان في حضر ولا سفر يعاد في هذا إلى باب أصولي معروف عند أهل العلم وهو باب المطلق والمقيد، وفي القرآن والسنة من ذلك كثير كقوله تعالى في سورة النساء في سياق ذكر كفارة قتل الخطأ {فتحرير رقبة مؤمنة}(1) هنا بالإيمان، ولم تقيد الرقبة بالإيمان في كفارة الأيمان ولا في كفارة الظهار، بل ولا في كفارة من جامع زوجته في نهار رمضان وهو صائم فهذا مثال واحد لهذا المعنى وأمثلة ذلك في المطلق والمقيد يطول ذكرها، ولسنا قاصدين حشدها هنا، فكان الأجدر بالدكتور حتى لا يتعارض مع من أخرج الحديث سواء كان الشيخ أو من قبله، واكتفى بذكره بدون إضافة أن الحديث قد أخرجه فلان وفلان بزيادة كيت وكيت الأولى لأحمد؛ إن كانت له لفتات إلى العلم من شتى جوانبه أن لا يهمل هذا المعنى الأصولي المهم، ولكن قد جعل الله لكل شيء قدرا.
فالحديث صحيح كما قال الشيخ -رحمه الله-، رجاله ثقات، لا نعلم معتبرا طعن فيه بما طعن فيه الدكتور، وقد صححه العلامة الألباني في «الإرواء» (2/156).
فإذا علم ثبوته، فإن رده بغير برهان لا يجوز، وتوجيهه لازم ولو أطلق عنان القول بالتضارب والتصادم بين أدلة الكتاب والسنة لفسد هذا الدين الحنيف، ولهذا صنف الإمام ابن قتيبة تأويل مختلف الحديث، وكان الإمام ابن خزيمة يقول: ائتوني بحديثين متعارضين، أوفق لكم بينهما، وصنف الطحاوي «مشكل الآثار» كل ذلك لصد عدوان مثل هذا التقول المبني على الأوهام والتخمينات، من توقع التعارض بما يؤدي إلى رد بعض الأدلة على توهم مخالفتها للأخرى والله المستعان.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع عشر
قال الدكتور في «أضوائه» زعم ص (63):
قال (2/29) رقم (889): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (6/555):
__________
(1) ... سورة النساء، الآية: 92.(1/97)
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي)) قال أبو عبدالرحمن وهو الشيخ مقبل : هو حديث صحيح على شرط مسلم. اهـ (قال الدكتور على المعتاد من مبدئه في اللجوج في العناد):
قلت: وقد أخرجه مسلم والبخاري كذلك في صحيحيهما....
ثم انطلق يعدد طرق الحديث من الصحيحين عن صحابة آخرين، وفي أثناء كلامه على طرق الحديث التي جمعها من بعض المؤلفات في المتواتر كفانا المؤنة بالرد على نفسه.
فقال: انظر «الفتح الرباني» (17/224)، «وجامع الأصول» (3/83)، «ومجمع الزوائد» (7/181).
ومنها: حديث ابن مسعود هذا خارج الصحيح، وقد تعجبت من سرعة تناقضه إذ يقول الحديث في «الصحيحين» ثم يخرج جملة من الأحاديث وبعضها خارجهما، ومنها: حديث ابن مسعود في «مجمع الزوائد» الذي اشترط صاحبه أن لا يخرج حديثا في الكتب الستة بما فيها الصحيحان.
فهو إما أنه يقصد تجميع أحاديث من كتب المصنفات في المتواتر يسميه استدراكا على العلامة الوادعي، وإما أنه يسير على غير تأصيل، فيبرم في صفحة، وينقض في أخرى، وهذا الذي لمسناه في كتابه هذا تضييع وقته على منوال ما يقوله بعض المدربين للجيش (مكانك در).
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن عشر
قال الدكتور ص (68):
قال (2/45) الحديث رقم (902): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (4/55):(1/98)
أخبرنا محمد بن عبدالأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا أشعث، عن الحسن عن عبدالله بن المغفل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من تبع جنازة حتى يفرغ منها فله قيراطان، فإن رجع قبل أن يفرغ منها فله قيراط)). هذا حديث حسن، إن كان أشعث هو ابن عبدالله الحراني، وصحيح إن كان أشعث هو ابن عبدالملك الحمراني، وكلاهما روى عنه خالد، وهو ابن الحارث وروى عن الحسن أيضا أشعث بن سوار، وأشعث بن بزاز، كما في «الميزان». اهـ
قال الدكتور: قلت: سبحان ربي ما أضعف هذا التخريج الذي لا يتفق وطريقة أهل التحقيق، إذ يترك طالب العلم في حيرة لا يدري مدى درجة الحديث فضلا عن أنه يحجب العديد من الروايات والمتابعات التي ترفع بالحديث إلى قمة سامقة في الصحة بعيدا عن السفح الهابط الذي أورد فيه هذه الرواية، والتي فيها عنعنة الحسن، وهو الإمام الزاهد الفقيه الحسن البصري إلا أن جمهور المحدثين لا يقبلون روايته إلا إذا صرح بالتحديث لما اشتهر عنه بالتدليس. الحديث أصله في الصحيحين والسنن وبعض المسانيد.
وقول الدكتور هداه الله : (ما أضعف هذا التخريج) هذا من باب المثل المذكور في «مجمع الأمثال» (2/125) (أسمع صوتا وأرى فوقا)، وقول الآخر: (أسمع جعجعة ولا أرى طحنا)، فالدكتور يزمجر، ولكنها زمجرة الشوارف.
إنك يا دكتور، قد أولعت بكثرة التخريج، حتى أنك تذهب تجمع لك أحاديث من «الصحيحين» ومما ذكره الحافظ في الشرح لقصد تملأ الصفحات بشيء معلوم، بل ومحفوظ عند طلاب العلم حقا.
وأما قولك في الرواية التي ساقها الإمام الوادعي: التي فيها عنعنة الحسن، وهو الإمام الزاهد الفقيه الحسن البصري إلا أن جمهور المحدثين لا يقبلون روايته إلا إذا صرح بالتحديث لما اشتهر عنه بالتدليس.(1/99)
فأقول: مراسيل الحسن مختلف فيها كثيرا، فردها أكثر الأئمة –كما ذكرت- وقبلها بعضهم، ومما ذكر الإمام الترمذي -رحمه الله- في علله الصغرى مع شرح ابن رجب عليها (1/275)، ساق إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال: ما قال الحسن في حديثه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ووجدنا له أصلا، إلا حديثا أو حديثين.اهـ
وتبعه ابن رجب في ص(285) فساق إلى أبي زرعة الرازي أنه قال: كل شيء قال الحسن: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث.اهـ
وعلى هذا فمن رد مراسيل الحسن فهو مسبوق بمثل قول الذهبي في الموقظة: إن مراسيله من أوهى المراسيل.
ومن قبلها فهو مسبوق بمثل هذه الأقوال، وعليه فلا مجال للانتقاد.
وبما أن الغرض هو الوصول إلى ثبوت الحديث، وقد وصل الشيخ -رحمه الله- إلى تصحيح الحديث بأيسر الطرق، فكان الأجدر بك أن تشكر له جدراته العلمية في هذا الفن؛ إذ يغوص في البحث عن أجود وأنظف طريق يراها في السنن والمسانيد فيذكرها في «صحيحه» الماتع، وهذا صنيع الإمام البخاري، كما ذكر في مقدمة «الفتح» (ص8 9) طبعة: دار السلام.
والإمام مسلم كما ذكر في مقدمة «صحيحه» (ص13) طبعة دار الكتاب العربي، فهل هناك مقارنة تستطيع إبرازها بوجه صحيح بين لفلفتك هذه، وبين غوص الإمام الوادعي في البحث عن أصح ما يجد، فيذكره للمسلمين بأيسر طريق وأحسن تفسير، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووه، وما أحسن ما قيل:
وما عبر الإنسان عن فضل نفسه ... بمثل اعتقاد الفضل في كل فاضل
وإن أخس النقص أن يرمي الفتى ... قذا العين عنه بانتقاص الأفاضل
وأنا أطالبك يا دكتور، أن تأتي بمسألة واحدة، أو حديث واحد حررته في كتابك هذا تحريرا علميا دقيقا حتى يعلم أنك ناقد بفهم ودراية.(1/100)
وإنما بضاعتك هنا: تنزيل أحاديث «الصحيحين» إما من جهاز الحاسوب ونحوه بعنوان استدراك على أخطاء الصحيح المسند.. فجئت فيه بالعجائب التي تضحك عليك وعلى ضعفك آلاف طلاب العلامة الوادعي -رحمه الله- وغيرهم من طلاب علوم السنة الشريفة.
هذا وأشعث المذكور في هذا السند هو ابن عبدالملك الحمراني، بدليل أنه أخرجه أحمد في «المسند» (5/57) رقم (20575) فقال:
حدثنا روح، قال: حدثنا أشعث عن الحسن، عن عبدالله بن مغفل فذكر الحديث وروح هو ابن عبادة ولم نر له رواية في «تهذيب الكمال» للمزي إلا عن الحمراني، ولم نر له رواية عن الحداني.
فتبين أن الحديث صحيح؛ لأن أشعث بن عبدالملك الحمراني، وسائر رجال السند ثقات.
ومن فضل الله أن استدراك الدكتور أحمد على «الصحيح المسند» كان حليفه عدم التوفيق، وعدم النشاط في البحث والتنقيب، وإلا لو عثر على مثل هذا الترجيح لربما كبر رأسه علينا، ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع عشر
قال الدكتور ص (72) من «أضوائه»:
قال (2/46) رقم (904): قال أبو داود -رحمه الله- (13/163):
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن يونس وحميد عن الحسن، عن عبدالله بن مغفل أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)).
هذا حديث صحيح فحماد هو ابن سلمة من رجال مسلم. اهـ(1/101)
قلت: لو أن الدكتور أتى بحديث عبدالله بن مغفل من الصحيح لاعتبرتها فائدة ذهل عنها شيخنا العلامة الوادعي -رحمه الله- وشكرت له ذلك، وأنى لأحمد أن يستطيع الإتيان به من الصحيح فقد عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» إلى أبي داود، وكذا عزاه ابن الأثير وغيره إليه، وصاحب مبدأ عنز ولو طارت (1) لا يزال يكرر بعناده هذا النقد المضحك.
الجواب على دعواه: الخطأ العشرون
قال الدكتور ص (73):
قال (2/65) رقم (924): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (6/148):
أخبرنا علي بن حجر قال أنبأنا هشيم قال: أنبأنا يحيى بن أبي إسحق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن عباس أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها فقال: يا رسول الله، هي كاذبة وهو يصل إليها ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليس ذلك حتى تذوقي عسيلته)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. اهـ
قال الدكتور قلت: كان الصواب أن يذكر بأن الحديث في البخاري ومسلم عن امرأة أخرى وهي امرأة رفاعة القرظي(2)، والأصوب بعد ذلك لا سيما في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» الاكتفاء برواية الشيخين لأنها أتم وأحسن.
__________
(1) يذكرون أن رجلين اختلفا في شيء بعيد فقال أحدهما: هذه عنز، وقال الآخر: بل هذا طير فانطلقا إلى ذلك الشيء، فلما دنيا منه فإذا هو طائر فطار، فقال: لصاحبه ألم أقل لك أنه طير فقال: هي عنز ولو طارت، فصار مثلا لصاحب العناد.
(2) ... الذي في البخاري (5260)، ومسلم (1433) من حديث عائشة -رضي الله عنهما-، وليس عن امرأة رفاعة، وإنما القصة قصتها، وليست هي صحابية الحديث، وهذا الموضع من جملة تخليطات الدكتور أحمد!!(1/102)
قلت: الحديث عن ابن عباس تفرد به النسائي دون أصحاب الكتب الستة، وأخرجه أحمد في «المسند» (1/214)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2/40)، وأبو يعلى (6718 من طريق هشيم به. وليس لعبيد الله بن عباس في شيء من الكتب الستة سوى هذا كما بينته في كتابي: «الرياض المستطابة بصحيح مفاريد الصحابة» ولو عمل العلامة الوادعي ومن قبله من الأئمة رحمهم الله بمثل مشورة أحمد البعيدة عن الرشد والصواب، ما صنف أحد منهم زوائد على الصحيحين، فما هي الفائدة من اشتراط [مما ليس في الصحيحين] ثم يملأ الكتاب بأحاديثهما؟ هذا لا يصنعه من شم رائحة هذا العلم.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والعشرون
قال الدكتور ص (76):
قال (2/97) الحديث رقم (969): قال عبدالله بن أحمد في «زوائد المسند» (903):
حدثني عثمان بن محمد بن أبي شيبة حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أكذب الكاذبين)). حديث حسن وأخرجه ابن ماجه (1/15). اهـ
قلت: الحديث أخرجه مسلم عن اثنين من الصحابة هما: سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهما-، (ثم ساقه وقال):(1/103)
وإن تعجب فعجب في هذا الموضع، إذ أنه الموضع الوحيد في كتابه كله تقريبا الذي يعلق فيه على الحديث ببيان وروده في البخاري، أو مسلم، فقد قال بعد ذلك وهو في البخاري (1/199).. وهذا خطأ كذلك، وليس فيه دقة في عبارات التخريج والتحقيق، إذ أن رواية البخاري لا تشتمل على النص المذكور، وإنما ينبغي أن يقال: وهناك شاهد له في البخاري، فالفارق بين الألفاظ كبير من الناحية الحديثية، فقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أكذب الكاذبين)). وقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: وهو الذي في البخاري: ((لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي فليلج النار)). يفترقان لفظا، فرقا كبيرا، ويشهد أحدهما للآخر من حيث المعنى، ويلتقيان في ذم الكذب على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
بيد أنه يلاحظ ثمة تناقض آخر في هذا الموضع، فعلى اعتبار كما قال الشيخ بنص عبارته: وهو في «البخاري» (1/199).. ورواه مسلم فإلام تدعو الحاجة لإيراد الحديث في الكتاب الذي اختط نهج «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» (!!).. وهل يتقوى الحديث الذي اتفق عليه البخاري ومسلم برواية حسنة لابن ماجه، أو لزوائد المسند (!!).. لا أدري لعمري أي جهد ضائع هذا، وأي منهج مقرر؟!.
قلت: يا دكتور! هذا أحد البراهين على أنك غير صادق في قولك ص (14) من مقدمة «أضوائك»: وللعلم؛ فإننا قد اطلعنا على الكتاب في آخر طبعاته والمرتبة على النحو الموضوعي. اهـ
فهذا الحديث ليس في طبعاته الجديدة التي على المسانيد، وأما التي على النحو الموضوعي، فقد علق الشيخ -رحمه الله- في حاشيتهما حين درس الكتاب بالأمر بحذفه، كما في النسخة الأخرى، وذكره الشيخ -رحمه الله- في كتابه «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» رقم (339) فقال:
وأخرجه عبدالله بن أحمد في «زوائد المسند» (903)، وابن ماجه (1/15).(1/104)
الحديث ظاهر سنده الحسن، ولكن إليك ما قاله الإمام الترمذي -رحمه الله- (5/36) بتحقيق كمال يوسف الحوت. قال -رحمه الله-: وروى شعبة عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا الحديث.
وروى الأعمش وابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن علي عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وكأن حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة عند أهل الحديث أصح. اهـ
وقال ابن أبي حاتم في «العلل» وقد سأل أبا زرعة عن هذا الحديث، فقال أبو زرعة: هذا خطأ، ثم ذكر أن الصحيح أنه عن ابن أبي ليلى، عن سمرة. اهـ المراد منه.
وبعد هذا فلا حاجة إلى مجاراة الدكتور بكثرة الولولة على شيء قد حذف.
وأما قول الدكتور ص (76): وإن تعجب فعجب في هذا الموضع إذ أنه الموضع الوحيد في كتابه كله تقريبا الذي يعلق فيه على الحديث ببيان وروده في البخاري، ثم عمل ثلاث نقط كأنه أراد بها ومسلم؛ لأن الحديث في «الصحيح المسند» مخرج منهما.
فأقول: هذا كذب واضح، ولم أقل خطأ؛ لأن الدكتور أحمد استدرك على الصحيح المسند زعم! والمستدرك شأنه خوض الكتاب الذي استدرك عليه، حتى يكون ملما بأكثره، إن لم يكن بكله، وهذه بعض أرقام الأحاديث التي أصولها في البخاري ومسلم، أو أحدهما وذكرها الشيخ في «الصحيح المسند» لأجل بعض الزوائد فيها كما صنع الهيثمي والبوصيري، ويذكر أن أصله من الصحيح حديث عثمان بن أبي العاص ((أنت إمامهم واقتد بأضعفهم..)) رقم (906)، وحديث عروة البارقي: ((بارك الله في صفقة يمينك)). أخرجه البخاري (924)، وحديث علي بن أبي طالب في صفة الوضوء رقم (970).
وأما رمي الشيخ -رحمه الله- بالتناقض فهذا من البغي عليه -رحمه الله- لأنه -رحمه الله- كان يذكر ما يرى فيه زيادة، فإن كانت الزيادة غير صحيحة فيه، أو كانت ليس فيها كبير فرق حذفه كما صنع هنا.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والعشرون(1/105)
قال الدكتور في كتابه المسمى «بالأضواء» ص (78):
قال (2/101) رقم (979): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (8/213):
حدثنا مسعود بن جويرية قال: حدثنا وكيع عن هشام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب عن علي قال: صنعت طعاما فدعوت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فجاء فدخل فرأى سترا فيه تصاوير فخرج وقال: ((إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح إلا مسعود بن جويرية، وقد قال النسائي ومسلمة بن قاسم: لا بأس به. كما في «تهذيب التهذيب». اهـ
قال الدكتور: قلت: ورد هذا النص في «الصحيحين» من حديث أبي طلحة وعائشة -رضي الله عنهم-، وقد أخرجه الإمام البخاري في «صحيحه» في تسع مواضع. (ثم ساقها).
قلت: الدكتور بتر كلام الشيخ بترا مخلا، ورمز له بعلامة انتهى.
والكلام لم ينته، فقد قال: كما في «الصحيح المسند» بنفس الرقم، وقد تابعه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني عند ابن ماجه (2/1114)، وأبي يعلى (1/342) كلاهما يرويانه عن وكيع به.
ثم ساق الحديث بمتابعة أبي كريب لمسعود بن جويرية.
فعلى بتر الدكتور أحمد سيصير حكم الشيخ -رحمه الله- على الحديث بالصحة في غير موضعه، لأن من قيل فيه: لا بأس به، ولو من ابن معين وأمثاله لا يكون بذلك صحيح الحديث.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في مقدمة «ميزان الاعتدال»:
ولم أتعرض لذكر من قيل فيه: محله الصدق ولا من قيل فيه: لا بأس به، ولا من قيل: هو صالح الحديث، أو يكتب حديثه، أو هو شيخ، فإن هذا وشبهه يدل على عدم الضعف المطلق.
فأعلى العبارات في الرواة المقبولين ثبت حجة، وثبت حافظ، وثقة متقن، وثقة ثقة، ثم ثقة، ثم صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس...
فإن تعمد الدكتور بتر هذا الكلام من لحاق كلام الشيخ -رحمه الله- فهذه خيانة في النقل.(1/106)
وإن كان عن غير عمد فهي غفلة، وعدم معرفة بعلوم الحديث ينبغي لمثله أن يضاعف جهوده في تعلم هذا الفن على أيدي أهله فضلا من أن يقحم نفسه في مصادمة جهابذة الحديث، وإنما رأس ماله فيه كما قدمنا مقدمات من مبادئ علوم الحديث أخذها تقميشا دون تفتيش.
ثانيا: أن قول الدكتور في «صحيح البخاري» هذا من جنس تلفيقاته التي تقدم الرد عليها مرارا، وإنما أزيد القارئ يقينا بكذب الدكتور أحمد من أن الحديث عن علي ليس في أحد الصحيحين بتنصيص أهل العلم على ذلك.
فقد عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (7/380) رقم (10117) إلى النسائي وابن ماجه فقط وهذا لفظ النسائي،وكذا عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (4/816)، وعزاه العلامة الألباني في «آداب الزفاف» إلى ابن ماجه، وأبي يعلى، وقال: بسند صحيح.
فمن أصدق حديثا، وأقوم قيلا، هؤلاء الأئمة أم الدكتور؟!
الجواب: لا مقارنة، فأين الثريا وأين الثرى!
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والعشرون
قال الدكتور ص (82) في «أضوائه»:
قال (2/112) رقم (995): قال أبو داود -رحمه الله- (12/469):(1/107)
حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن موسى قال يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم، فقال: أنت أبونا آدم؟ فقال له آدم: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ قال: نعم، قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: ومن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء الحجاب، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ قال: نعم، قال: أفما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال: نعم، قال: فيم تلومني في شيء سبق من الله تعالى فيه القضاء قبلي؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عند ذلك: ((فحج آدم موسى، فحج آدم موسى)).
قال الدكتور: قلت: هكذا لم يزد في التخريج عن قول: [هذا حديث حسن] وهو خطأ كبير، وتخريج ضعيف متقاصر، إذ أن الحديث في «الصحيحين» بألفاظ متقاربة، وسياقات حسنة، كان الصواب الاكتفاء بها، أو على الأقل الإشارة إليها، ليرتفع مقام الحديث عن رتبة الحسن.
قلت: يا دكتور! فلست بالحكم الترضى حكومته ولا البصير ولا ذي الرأي والجد، حتى يقبل منك أن الحكم على هذا الحديث بالحسن خطأ كبير.(1)
وقولك عن الحديث المذكور: عن عمر في «الصحيحين» هذا جهل مركب، ومزج وتخليط، وجرأة منك على الكذب الواضح الذي يعرفه من له عين مبصرة.
ومن القبائح: أنك تجعل من غبائك علما، ومن تخليطك نقدا، ثم تتفوه بعد ذكر حديث عمر مباشرة أنه في الصحيحين.
__________
(1) الحديث فيه هشام بن سعد المدني قال الحافظ في «التقريب»: صدوق له أوهام يحسن حديثه لا سيما في زيد بن أسلم فهو أثبت الناس فيه كما في «الميزان» للذهبي.(1/108)
وتذكره عن أبي هريرة، فهل رأت عيناك مثل هذا التناقض السريع الذي قام عليه كتابك هذا من أسه إلى رأسه.
وهذا الحديث عن عمر في «سنن أبي داود» رقم (4702).
وعزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (8/8) رقم (10397) إليه فقط.
وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/292) إلى أبي داود، والآجري (682)، والبيهقي، فهم في حد نقدك البارد، مرتكبون لخطأ كبير فبادر بإصلاحه مشكورا.
وعزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (10/127)، إلى أبي داود فقط ، وعزاه الألباني في «الصحيحة» (1702) إلى أبي داود، وقال: إسناد حسن من طريق أبي داود، وخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (193)، وابن خزيمة في «التوحيد» ص(94). اهـ
وحديث أبي هريرة المتفق عليه الذي خرجه شيخنا -رحمه الله- في كتابه «الجامع الصحيح في القدر»، وذكره بعضهم، ولم يقل أحد أن حديث أبي هريرة هو حديث عمر، ولا أنه يكفي عنه، فمن أين ظهر هذا البلاء على الأمة؟! ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، حقيقة أنا أعتبر أنه ما أضعف ولا أسخف عقل إنسان يدعي العلم، يكون هؤلاء الأئمة وأمثالهم في جانب، وهو راكب مطية هواه في جانب آخر.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والعشرون
قال الدكتور ص (85):
قال (2/346) رقم (1321): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (1/548): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدالرحيم بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أيام منى أيام أكل وشرب)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث صحيح متواتر (ثم تكلم على رجال الإسناد، وخلص بأنهم ثقات ثم قال): ولهذا قال البوصيري في «الزوائد»: إسناده صحيح رجاله ثقات، فلا أدري على أي ميزان علمي قال: هذا حديث حسن، دون أدنى بيان!!(1/109)
قلت: الحديث أخرجه ابن ماجه رقم (1719)، وأحمد (2/229)، (1) وأبو يعلى في «المسند» (10/320)، وابن حبان في «صحيحه» -الإحسان- (3601)، وابن أبي شيبة (4/21) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو حسن الحديث كما تقدم الكلام عليه تحت ما زعم الدكتور أنه الخطأ الرابع!.
ولهذا فقد قال محقق «مسند أحمد»، وكذا محقق «مسند أبي يعلى»: إسناده حسن.
وخرج العلامة الألباني -رحمه الله- حديث أبي هريرة في «الإرواء» (4/129) من سنن ابن ماجه (1719)، وقال: قلت: وإسناده حسن. وقال البوصيري في «الزوائد»: إسناده صحيح رجاله ثقات، ونقل عنه أبو الحسن السندي في حاشيته على ابن ماجه أنه قال: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وهو خطأ قطعا. اهـ
قلت: ففي هذا الحكم من هؤلاء المحققين المدققين بما فيهم العالمان الجليلان الألباني، والوادعي على الحديث بهذا السند من طريق محمد بن عمرو بالحسن قمع لهذيان الدكتور أحمد، ولله الحمد على هزيمة الباطل وأهله.
أما قول الدكتور أحمد: أن الحديث أخرجه مسلم فهذا شنتنة أعرفها من أخزم، فالكتاب نفسه المسمى بـ «الأضواء» عبارة عن مجموعة من هذه اللفلفة، والتلفيقات، بل والتخرصات، وبيان ذلك أن الحديث الذي في مسلم إنما هو عن نبيشة الهذلي، وقد حسنه الشيخ من هذا الطريق، وصححه من حديث عقبة بن عامر في هذا الكتاب.
ولقد كررنا التنبيه على هذا الغلط كثيرا، حتى صار حالنا مع الدكتور كما قيل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والعشرون
قال الدكتور ص (89):
قال (2/113) رقم (999): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- في «المسند» (1/145):
__________
(1) عند أحمد عمر بن أبي سلمة، والصواب: ما أثبتناه، كما في المصادر الأخرى.(1/110)
حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن أبيه، عن ابن عباس عن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)). هذا حديث حسن (!!). اهـ
قال الدكتور: بل هو بالنص حديث متفق عليه.
قلت: يا دكتور، الحديث الذي في «الصحيح المسند» عن عمر لا تستطيع أن تثبت أنه متفق عليه، فقد عزاه الهيثمي في «المجمع» (3/406) رقم (5034) إلى أبي يعلى والبزار، وإنما الذي في «الصحيح» عن غير عمر، وأنت نفسك قد ملأت صفحة ونصف من تخريجك عن غير عمر ولم تخرج حديث عمر من أحد الصحيحين فهل أنت تشعر بما يخرج من رأسك أم لا.
قال: (عار دكاترة علم الحديث) أحمد بن نصر الله ص (90): وهنا يقع السؤال إذا ثبت الحديث بالنص في البخاري ومسلم، فعلام إذن الاشتغال برواية أبو يعلى(1) يا دكتور، أصلحك الله الذي تلتبس عليه مثل هذه الأمور اليسيرة إن كان موفقا يرحل إلى عالم من علماء الحديث مع ملازمة الأدب الجم، وحسن السلوك، ثم يدرس هذه المبادئ مع تعلم التربية القويمة على أيدي علماء السنة، فالله عز وجل يقول: {وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}، أما أنت أصلحك الله ؛ فإنك تريد أن تتعلم حلول هذه المسائل على حساب التطاول على قدرات وجهود فطاحل المحدثين هذا ما يصير وفقنا الله وإياك .
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والعشرون
قال الدكتور ص (91):
قال (2/131) رقم (1026): قال الإمام النسائي -رحمه الله- في «الخصائص» ص (45):
__________
(1) كذا قال (أبو يعلى): وهو لحن فإن كان من الطابع فذاك، وإن كان من الدكتور فالأولى له أن يبتدئ بدراسة التحفة السنية في النحو خير من أن يشغل نفسه بالرد المضحك على العلامة الوادعي وغيره من الأئمة.(1/111)
أخبرنا العباس بن عبدالعظيم العنبري، قال: حدثنا عمر بن عبدالوهاب، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه عن منصور، عن ربعي، عن عمران بن حصين أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، أو قال: يحبه الله ورسوله، فدعا عليا، وهو أرمد، ففتح الله على يديه)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد ورد في الصحيح، فأخرجه البخاري ومسلم.
ثم ساقه من حديث سلمة بن الأكوع وسهل بن سعد -رضي الله عنهم-، فقدر الله له من ذلك تعبئة صفحة يضخم بمثلها البحث حتى خرج في شبه مجلد!!
وقد رددنا على مثله بما يغني عن إعاداته هنا.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والعشرون
قال الدكتور ص (93):
قال (2/172) رقم (1089): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (3/27):
حدثنا هارون بن معروف، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن قيس بن سعد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس)). هذا حديث صحيح، وقد أخرجه البزار كما في «كشف الأستار». اهـ
قال الدكتور: قلت: وهو من قبل البزار وأبي يعلى قد أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
قلت: انظر الرد عليه فيما مضى، فإن الدكتور يحوس ويدوس في نفس ما تقدم بيانه بلا زيادة، إلا إذا أضاف في بعض المواضع شيئا من التطاول، أو الغمز على الشيخ -رحمه الله-، أما مادة كتابه فهي هي!!
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والعشرون
قال الدكتور في كتابه المسمى «بالأضواء» ص (94):
قال (2/237) رقم (1170): قال الإمام الطبراني -رحمه الله- في «الدعاء» (2/865):(1/112)
حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل السراج، وعبيد بن غنام، قالا: ثنا محمد بن عبدالله بن نمير، ثنا محمد بن أبي عبيدة بن معن، ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((كان ثلاثة نفر يمشون في غب السماء إذ مروا بغار فقالوا: لو أويتم إلى هذا الغار، فأووا إليه، فبينما هم فيه إذ وقع حجر من الجبل مما يهبط من خشية الله عز وجل حتى إذا سد الغار، فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا شيئا خيرا من أن يدعو كل امرئ منكم بخير عمل عمله قط......)).
(ثم ساق الحديث بطوله إلى قول الشيخ: هذا حديث صحيح. اهـ ثم قال): قلت: قصة أصحاب الغار مشهودة في كتب السنة، وقد وردت في البخاري ومسلم بسياق أتم وأحسن من سياق الطبراني.
(ثم ساقه من الصحيحين من حديث ابن عمر) وقال:
وعليه.. فقد كان الصواب عدم إيراد رواية الطبراني بعد ثبوت الحديث في البخاري ومسلم على أحسن وجه، وأتم سياق وأضبط ألفاظ... ولكن التوفيق عزيز.
قلت: هل هناك مانع صحيح من أن يكون الحديث ثابتا عند البخاري ومسلم عن ابن عمر، وثابتا في خارج الصحيح عن غيره؟ فإن قال: هناك مانع، فليوضحه ليراه الناس.
وإن قال: لا مانع، وهذا الذي نراه يفعله من ذكر أحاديث خارج الصحيح باعتبار أن الحديث قد تواترت فهذا برهان ليس فيه أدنى شك أنه رجل صاحب هوى، وأن الهوى هو أخذ بزمامه لهذا التخبط في رسالته هذه، وصدق ربنا سبحانه إذ يقول: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}.
أما قول الدكتور: فقد كان الصواب عدم إيراد رواية الطبراني بعد ثبوت الحديث في البخاري ومسلم على أحسن وجه، وأتم سياق وأضبط، ولكن التوفيق عزيز.
قلت: يا دكتور! هل كتاب الدعاء للطبراني، وأمثاله من الكتب التي نقلت هذا الحديث ومثله كثير لها فائدة عندك أم أنها عبث؟!
فإن قلت: أنها لها فائدة فهل من التوفيق إخراج ما صح منها، أم من الخذلان؟!(1/113)
وإن قلت: لا فائدة لها، وهذا مؤدى منهجك المهلك، أن ما عدا الصحيحين من المصنفات العظيمة ليس لها عندك كبير مقدار، وأن مصنفيها قد أسدلوا ستارا كثيفا على الصحيحين، وأن من اعتنى بحفظ ما ثبت منها يكون قد تزود الجهل الفاحش في مسير دعوته -كما تقدم كلامك هذا تحت الخطأ المزعوم رقم عشرة- فو الله ما تصنعه في هذا التصرف المذؤم المدحور، أن لن يبقى للأمة الإسلامية من سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلا نحو من (6602) حديثا، مجموع ما في «صحيح البخاري» من الأحاديث الموصولة بغير المكرر (2602).
وما في «صحيح مسلم» بغير المكرر أربعة آلاف كما في «اختصار علوم الحديث» لابن كثير مع الحاشية (36)، وما عدا ذلك من أحاديث السنة في منهج الدكتور أحمد وأمثاله كبر عليه أربعا.
وكم سيكون قسط أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي قال عنه الذهبي في «الموقظة» والحفاظ طبقات ذروتهم أبو هريرة.
وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وقد روى عنه أكثر من ثمانمائة واحد من أهل العلم كما في ترجمته من «الإصابة» «والتهذيب».
وروى عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أكثر من خمسة آلاف حديث كما في «شرح الأربعين» للنووي -رحمه الله- «وجامع المسانيد» لمحمد فؤاد عبدالباقي (1/343)، وغيرهما.
وهذا العدد الهائل على حد فكر الدكتور أحمد وأمثاله لم يبق لأبي هريرة من ذلك غير نحو (325) حديثا متفق عليها.
ونحو: (79) حديثا انفرد بها البخاري.
ونحو: (93) انفر بها مسلم.
فجملة ما لأبي هريرة في «الصحيحين»: (497) حديثا حسب ما ذكر فؤاد في المصدر المذكور على القول بإلغاء ما عدا ذلك.(1/114)
وعلى هذا فما وجه قولهم أكثر أبو هريرة؟ كما في «صحيح البخاري» رقم (2350) أنه -رضي الله عنه- قال: إنهم يقولون أكثر أبو هريرة من الحديث والله الموعد حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: يقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث والله الموعد؛ ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوما: ((لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئا أبدا))، فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا، والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم شيئا أبدا: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} إلى قوله {الرحيم} وأخرجه مسلم (2492).
وأيضا: علم أن سبعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ورضي الله عنهم قد روى كل واحد منهم عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أكثر من ألف حديث.
المكثرون في رواية الأثر ... أبو هريرة يليه ابن عمر
وأنس والحبر كالخدري ... وجابر وزوجة النبي
وأوضح منها: ما في «قواعد التحديث» للقاسمي (72):
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا ... من الحديث عن المختار خير مضر
أبو هريرة سعد جابر أنس ... صديقة وابن عباس كذا ابن عمر
فهل إهدار أحاديث هؤلاء الصحابة عدا ما في الصحيحين من العدد المذكور، هل هذا منك توفيق حتى تعتبر من لم ينح نحوه غير موفق؟ أم أنه ظلم وإجحاف، وزيغ وانحراف الأخير؟ هو المطابق عليك، كما يظهر من صنيعك هذا ولله في خلقه شئون.(1/115)
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والعشرون
قال الدكتور ص (96):
قال (2/242) الحديث رقم (1174): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/267): حدثنا هاشم قال: حدثنا شيبان عن عاصم عن خيثمة والشعبي عن النعمان بن بشير: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم، وشهادتهم أيمانهم)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو صحيح لذاته، وأخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما»، ثم هو متواتر مشهور وبيان ذلك من ثلاث أوجه:
الأول: أن سند الحديث عند الإمام أحمد -رحمه الله- إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين ما عدا عاصم وهو ابن بهدلة ابن أبي النجود، أحد القراء الثقات المشهورين الفضلاء روى له الجماعة كلهم، وروى له البخاري ومسلم مقرونا بغيره، وفيه كلام من قبل حفظه إذا تفرد بالحديث، أما حديثنا فقد تابع عليه الكثير من الرواة، كما سيأتي بيانه مفصلا بعون الله، فسلم السند بحمد الله من أي مطعن ينزل مقامه إلى الحديث الحسن.
أما قول البزار في «كشف الأستار» (3/290): لا نعلم أحدا جمع بين الشعبي وخيثمة إلا شيبان فهذا لا يدل على لمزه للسند، أو أن ثمة شذوذا في الرواية، وإنما هو مجرد إثبات حال لا يضر بشيبان، إذ أنه شيبان بن عبدالرحمن أبو معاوية البصري من رجال البخاري ومسلم ثقة ثبت، قال صالح بن أحمد عن أبيه: شيبان ثبت في كل المشائخ. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: فشيبان ما حاله في الأعمش قال: ثقة في كل شيء..) وهذا التوثيق والتعديل ما أعلم أن أحدا حظي به، يكفي لشيبان وهو قد جمع في السند بين الشعبي وخيثمة عن النعمان بن بشير، فكان ماذا.؟!(1/116)
وقد تعلق الشيخ مقبل بغير متعلق حيث قال: تعقيبا على كلام البزار: فعلى هذا يكون ذكر الشعبي شاذا إذ شيبان وهو ابن عبدالرحمن قد خالف حماد بن سلمة وزائدة بن قدامة، وأبا بكر بن عياش. وهذا غير صحيح، ولا تثبت حالة الشذوذ بهذا، إذ أن شيبان -رحمه الله- أوثق ممن ذكر، والشعبي من طبقة خيثمة، وروايته عن النعمان بن بشير محتملة، وزيادة الثقة مقبولة.. فصح السند ولله الحمد.. وهذا هو الوجه الأول.
الثاني: أن الحديث أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما».
(ثم ساقه من حديث ابن مسعود) وقال:
الثالث: سرد عدد من الطرق والروايات من غير البخاري ومسلم، وإن كان على خلاف منهجنا في هذا البحث، الذي يكتفي بإثبات ورود الحديث في البخاري، أو مسلم أو فيهما معا استدراكا على كتاب «الصحيح المسند مما لي في الصحيحين»، وإنما حملنا على ذلك بيان أن الحديث متواتر، ولا ينبغي أن يكتفى بالحكم على الحديث أنه حسن مع نوع الحديث المتواتر، فنقول وبالله التوفيق: نقل هذا الحديث من الصحابة اثنا عشر نفسا. (ثم ذكرهم وقال):
ورواه (يعني حديث عمران بن حصين) الحاكم في «مستدركه» (3/471)، وقال: هذا حديث عال على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.!!
قلت: وهذا من أوهام الحاكم رحمة الله عليه ، فالحديث كما رأيت في البخاري ومسلم من نفس طريق عمران بن حصين -رضي الله عنه-، وقد وقع الشيخ مقبل -رحمه الله- فيما وقع فيه الحاكم، وحدث ما كان يتخوف منه حيث قال: وللحاكم أوهام كثيرة منها قدر سدس الكتاب الذي يقول فيه: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، أو على شرط البخاري ولم يخرجه، أو على شرط مسلم ولم يخرجه، أو صحيح ولم يخرجاه، مع أنهما قد أخرجاه، فإن مد الله في العمر فإني إن شاء الله أجمع ذلك في مؤلف مستقل حتى يستريح الباحث من البحث في سند الحاكم الطويل، ويثق بأن الحديث في الصحيح. اهـ(1/117)
قلت: وهذا عين ما نفعله بصدد أوهام «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» محتسبين الأجر عند الله عز وجل، إبراءة للذمة، ونصيحة للأمة.
قلت: وقد اشتمل كلام الدكتور هذا على مخالفات عديدة تنتظم في الآتي:
المخالفة الأولى: قوله: بل هو صحيح لذاته.
وقوله: سند الحديث عند الإمام أحمد صحيح رجاله ثقات. وهذا الحكم على أن عاصم بن أبي النجود يصحح حديثه شذوذ عن أحكام ذوي الخبرة في هذا العلم، كما قدمنا إيضاح ذلك عند ما زعمه أحمد الخطأ الخامس عشر، وسيأتي مزيد لذلك عن الهيثمي وغيره.
المخالفة الثانية: قوله عن هذا الحديث المذكور الذي صححه لذاته: أخرجه البخاري ومسلم، وهذا كذب صراح، فقد ذكره البوصيري -رحمه الله- في «إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة» على الكتب الستة.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/742) رقم (16405)، وقال: رواه أحمد، والبزار، والطبراني في «الكبير»، «والأوسط» وفي طرقهم عاصم بن بهدلة، وهو حسن الحديث، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح انتهى.
وقال محقق مسند أحمد رقم (18349): وهذا إسناد حسن من أجل عاصم وهو ابن بهدلة وبقية رجاله ثقات. اهـ
وهنا لفته لطيفة وهي أن الدكتور لا يثبت على ساق، فتارة يلمح إلى أنه لا حاجة إلى ما عدا أحاديث الصحيحين، وتارة يصحح أحاديث خارج الصحيحين بذاتها، وينتقد الشيح -رحمه الله- تصحيح ما هو نظيرها، أو أجود منها، وليس له ميزان يضبطه، فأمره مريج مما يفيد أنه لا معرفة له بهذا العلم، وإنما هو من ذوي التهريج.
المخالفة الثالثة: قوله: إن هذا التوثيق والتعديل ما أعلم أحدا حظي به أي: من شيبان بن عبدالرحمن، وهذه مجازفة أو غباوة.
وانظر ترجمة سفيان بن سعيد الثوري من «تهذيب التهذيب»، قال صالح بن محمد: سفيان ليس يقدمه أحد عندي في الدنيا، أي: عنده في زمنه.
وقال أحمد: لم يتقدمه في قلبي أحد.(1/118)
وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان.
وقال شعبة: سفيان ساد الناس بالورع والعلم.
قال الخطيب البغدادي: كان إماما من أئمة المسلمين، وعلما من أعلام الدين، مجمعا على إمامته، بحيث يستغنى عن تزكيته مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد.
وقال النسائي: هو أجل من أن يقال فيه: ثقة، وهو أحد الأئمة الذين أرجو أن يكون الله ممن جعله للمتقين إماما.
وقال أبو إسحاق الفزاري: لو خيرت لهذه الأمة لما اخترت لها إلا سفيان، وقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث.
ولهذا قال فيه الحافظ في «التقريب»: ثقة حافظ عابد إمام حجة.
وقال في شيبان بن عبدالرحمن: ثقة صاحب كتاب.
وانظر ترجمة شعبة بن الحجاج الملقب بأمير المؤمنين في الحديث.
وانظر ترجمة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. قال عنه الشافعي خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد، ولا أورع، ولا أعلم من أحمد بن حنبل.
وقال الخريبي: كان أفضل أهل زمانه.
وقال قتيبة: أحمد إمام الدنيا.
وقال عنه الحافظ في «التقريب»: أحد الأئمة ثقة، حافظ، فقيه، حجة.
قلت: فأين شيبان من هؤلاء الجبال رحمهم الله جميعا ، وأين قول الأعمش: ثقة في كل شيء من هذا التعديل الذي تقدم ذكر في هؤلاء وأمثالهم، فيا دكتور أحمد، أذكرك حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو)).
المخالفة الرابعة: تجاسر الدكتور هداه الله على مناوشة الإمام الوادعي -رحمه الله-، (وإشارة البزار قبله إلى شذوذ زيادة ذكر الشعبي في السند)، وأنى للدكتور التناوش من مكان بعيد.
فشيبان وإن كان ثقة، فقد خالف فيما ذكر الشيخ هنا ثلاثة كلهم ثقات، بل إن من نظر في ترجمة زائدة بن قدامة وحده يرى أنه أرحج من شيبان.
قال الحافظ في شيبان: ثقة.(1/119)
وقال في زائدة: ثقة ثبت. فكيف إذا تابعه ثقتان فأين تطبيقك لما ذكرته تحت قولك ص (4) من مقدمتك الهزيلة: تعريفات هامة؟ وقلت في الشاذ: ما تفرد به الثقة مخالفا به من هو أوثق منه. ألا تخجل من هذا التخبط، والاضطراب المخزي.
أما زيادة الثقة: فعلم أن ما رآه الدكتور في هذا القول، قول هزيل خالفه كبار أئمة الحديث كما بينته فيما مضى عند قول أحمد في مقدمته مع ذكر الشاذ ونماذج من الأمثلة عليه هناك.
قال الدكتور: وقد تعلق الشيخ مقبل بغير متعلق....
قلت: بل الشيخ مقبل -رحمه الله- سار على قواعد علوم الحديث في تعريف الشاذ عند أهل الصنعة.
وقد نقلت أنت في مقدمتك تعريفهم بالبنان، وخالفته هنا بالهوى وركوب الطغيان، فأطلقت لنفسك الحبل على الغارب، فلا بضوابط الحديث التزمت، ولا من الاضطراب والتناقض سلمت، ولا مع الإمام الوادعي -رحمه الله- تأدبت.
قال الدكتور ص (98): وقد وقع الشيخ مقبل -رحمه الله- فيما وقع فيه الحاكم وحدث ما كان يتخوف منه......إلخ ما تقدم نقله ثم قال:
قلت: وهذا عين ما نفعله بصدد أوهام «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» محتسبين الأجر عند الله عز وجل، إبراء للذمة، ونصيحة للأمة. اهـ
قلت: والناظر إلى هذا الكلام بادي الرأي يقول: إذا كان الأمر كذلك فهذا جهد مشكور، وعمل مبرور، واستدراك وضع النقاط على الحروف، وإذا نظرت إلى صنيع صاحبه في استدراكه، ترى أن هذا الكلام كله كذب، وبهرج وزيوف.
وقبل الدخول في بيان الكلمات المذكورة نذكر للقراء ثلاثة أمثلة بثلاثة أحاديث، مما ذكرها شيخنا العلامة الوادعي -رحمه الله- في مقدمة صحيحه المسند على ما وهم فيه الحاكم في مستدركه، فساقه بنفس الصحابي والمتن الذي في الصحيحين، أو أحدهما وهي كما يلي:(1/120)
الحديث الأول: أخرج البخاري رقم (6205 6206)، ومسلم رقم (2143) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك)).
زاد مسلم من رواية ابن أبي شيبة ((لا ملك إلا الله)).
ووهم الحاكم فأخرجه في «المستدرك» (4/274) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل تسمى ملك الأملاك)).
فتعقب الحاكم الذهبي فقال: قلت: قد أخرجاه.
الحديث الثاني: أخرج البخاري رقم (94 95) من طريق عبدالله بن المثنى، عن ثمامة بن عبدالله، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه كان تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه.
ووهم الحاكم فأخرجه في المستدرك (4/273)، من طريق ثمامة، عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فذكر الحديث.
ونبه عليه الذهبي في تلخيصه فقال: قلت: أخرجه البخاري سوى قوله: [لتعقل] بدل [تفهم].
الحديث الثالث: أخرج مسلم في «صحيحه» رقم (2132) من طريق نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن أحب أسمائكم إلي عبدالله وعبدالرحمن)).
ووهم الحاكم فأخرجه في «المستدرك» (4/274) من طريق نافع، عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن أحب أسمائكم إلى الله تعالى عبدالله وعبدالرحمن)).
وكل تلك الانتقادات يعرضها الشيخ -رحمه الله- على «تحفة الأشراف» فيدعم قوله بقول الأئمة قبله، كما يلاحظ ذلك من قرأ المصدر المذكور.(1/121)
ومن ذلك ما أخرجه البخاري رقم (5458) من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: كان إذا رفع مائدته قال: ((الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا)).
وهم الحاكم فأخرجه في «المستدرك» (1/528) من طريق ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان به بنفس اللفظ، وتعقبه الذهبي أيضا فقال: قد أخرجه البخاري مرتين.
فهذا هو الاستدراك حقا.
أما طريقة الدكتور أحمد فهي عند المحدثين ضرب من التلفيق والتركيب وإلزاق المتون بالأسانيد، ويسميها المحدثون أيضا بالسرقة، وهي حرفة بعض الوضاعين.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في «الموقظة»:
المقلوب: هو ما رواه الشيخ بإسناد لم يكن كذلك، فينقلب عليه، وينط من إسناد حديث إلى متن آخر بعده، أو أن ينقلب عليه اسم راو مثل: (مرة بن كعب) بـ (كعب بن مرة)، و(سعد بن سنان) بـ (سنان بن سعد) فمن فعل ذلك خطأ فقريب، ومن تعمد ذلك، وركب متنا على إسناد ليس له فهو سارق الحديث، وهو الذي يقال في حقه: فلان يسرق الحديث. اهـ
قال الإمام ابن حبان -رحمه الله- في ترجمة عبدالله بن مروان الخرساني من المجروحين رقم (563):
يروي عن ابن أبي ذئب روى عنه سليمان بن عبدالرحمن يلزق المتون الصحاح، التي لا يعرف لها إلا طريق واحد، بطريق آخر ليشتبه على من الحديث صناعته، لا يحل الاحتجاج به. اهـ
وقال الإمام ابن عدي في «الكامل» (2/367) في ترجمة حسين بن علي بن الأسود العجلي: يسرق الحديث، وذكر له جملة من الأحاديث التي سرقها.
ثم قال: وللحسين بن علي بن الأسود أحاديث غير هذا مما سرقه من الثقات، وأحاديثه لا يتابع عليها.
وقال في ترجمة إبراهيم بن بكر أبي إسحاق الأعور من «الكامل» (1/257): كان ببغداد يسرق الحديث، وذكر جملة من الأحاديث ثم قال: ولا أعلم له كبير رواية، وأحاديثه إذا روى إما أن تكون منكرة بإسناده، أو مسروقة ممن تقدمه. اهـ(1/122)
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن عقيل القرشي النحوي من لسان الميزان (1/120):
فقال: حدث عنه أبو بكر الخطيب.
وقال هبة الله بن الأكفاني: كان يركب الإسناد. اهـ
وذكر بعض ما ركبه من الأسانيد على متون أخرى.
وقال أيضا في ترجمة محمد بن الحسن بن أحمد الجوهري الواعظ: متهم. قال يحيى بن مندة: ركب إسناده في الصلاة خلف الحاكة والأساكفة.
وقال ابن الجوزي: كان يضع الحديث. اهـ
وقال في ترجمة صالح بن الفتح بن الحارث الشاشي: روى عنه الفضل بن أحمد بن عامر وعنه مكي بن محمد بن العمر بحديث موضوع.
وساق بالسند إلى أنس بن مالك -رضي الله عنه- مرفوعا: ((ينادي مناد كل يوم: شارب الخمر ملعون، وجاره ملعون وجليسه ملعون)) ثم قال: قال ابن عساكر: هذا حديث باطل ركب على إسناد صحيح، والحمل فيه على صالح، أو الفضل وكلاهما مجهول. اهـ
وبعد هذا النقل، فأنا أطالب الدكتور أحمد والمقدم له السندي ومن تعاون معهم أن يبرؤا ذممهم حقا بإثبات هذه الدعوى أنه عين ما فعل مع «الصحيح المسند»، ودون ذلك خرط القتاد، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فالواجب عليكم إصلاح ما أفسدتموه بإيهام طلبة العلم، والغش لهم وتزيينكم لبعضهم تلك التركيبات التي عابها الأئمة، واعتبروا صاحبها غير صالح في الشواهد والمتابعات على أقل أحواله.
فالواجب على الدكتور ومن ضارعه في هذا الفكر الخادع المخدوع، ثلاثة أمور لا أرى تبرأ ذمتهم إلا بذلك، مذكورة في قول المولى عز وجل: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} [البقرة: 159 160].
الجواب على دعواه: الخطأ الثلاثون
قال الدكتور أحمد ص (101):
قال (1/541) رقم (803): قال أبو داود -رحمه الله- (10/79):(1/123)
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ، حدثني أبي عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبدالله بن عمرو، قال: كان نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يحدثنا عن بني إسرائيل حتى يصبح، ما يقوم إلا إلى عظم صلاة)).
هذا حديث صحيح على شرط مسلم...
قال الدكتور: ثم قال تعليقا –أي الشيخ مقبل-: ليس في هذا دليل على أنه يجوز رواية القصص الإسرائيلية التي لم ترد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا ينطق عن الهوى. اهـ
قال الدكتور: قلت: هذا خطأ ومخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ثبت في الحديث الوارد أعلاه، والذي يفيد المشروعية بذاته، غير النصوص الأخرى التي أفادت الجواز كما سنذكر، وإن أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة لعموم الأمة، ولا ينبغي لأحد أن يخص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بنص قطعي يفيد الخصوصية، أو بقرائن محفوفة تدل على ذلك.
واعلم أن رواية الكتب السماوية السابقة، وأخبار الأمم السالفة، مرت بمرحلة تشديد وتضييق، تماما كما حدث لكتابة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتدوينه في الصحف، فقد ورد النهي عن ذلك في أول الأمر حيث قرب العهد من الجاهلية، وعدم استقرار أصول الإيمان، وقواعده وأحكامه، وعدم استيعاب كتاب الله في الصدور، فلما أكمل الله دينه وأتم نعمته، وأمن الخلط بين القصص والأحكام بعد أن استقرت معالم الإسلام، وترسخت قولا وعملا، صدر الأمر بالرخصة، وعدم الحرج في النقل عن الأمم السابقة.
وعليه.. فإنه يجوز، أو يستحب أحيانا رواية قصص الأولين، ومنهم بنو إسرائيل، وحكاية أحوالهم ومواقفهم.. ولكن ينبغي مراعاة ما يلي:
أ ما كان فيه مواعظ وعبر وترغيب وترهيب، يشهد له عموم الشرع؛ فإنه يستفاد منه ويعتبر به.(1/124)
ب- ما اشتمل على خبر، أو تاريخ مجرد، وليس له مستند من شرعنا، فإنه يكتب ويروى بدون الاحتجاج، عملا بالحديث الوارد ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم)) ولم ينه عن الاستماع إليهم.
ج إذا انطوى الخبر أو الرواية على مسألة فقهية، فإنه لا يلزم التقيد به لأن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وقد فصل لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- كل شيء، وقال الله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة: 48].
د أي خبر أو حكم عنهم يخالف القطعي الثابت عندنا، فهو مردود على قائله ولا كرامة.
وعليه... فإنه تجوز الرواية عن بني إسرائيل في الأخبار، والمواعظ، والقصص، حتى لو لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع مراعاة الاعتبارات السابقة، وقد ثبت الأمر في ذلك، ولكن هذا الأمر يفيد الإباحة، ولا يفيد الوجوب؛ لأنه جاء بعد الحظر تبعا للقاعدة الأصولية التي تنص على أن الأمر بعد النهي يفيد الجواز.
قال الإمام البخاري -رحمه الله-:
حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد أخبرنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن أبي كشبة، عن عبدالله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)). «الفتح» (6/496) كتاب أحاديث الأنبياء (50)، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل الحديث رقم (3461).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث السابق: أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم، لأنه كان تقدم منه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار..(1/125)
وقال الإمام مالك: المراد جواز التحدث عنهم بما كان من أمر حسن، أما ما علم كذبه فلا.. وقيل: المراد جواز التحدث عنهم بأي صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ، لتعذر الاتصال في التحديث عنهم بخلاف الأحكام الإسلامية، فإن الأصل في التحدث بها الاتصال.
وقال الشافعي: من المعلوم أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يجيز التحدث بالكذب، فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم، وهو نظير قوله: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)). اهـ بتصرف يسير.
قلت: التقييد الذي أشار إليه الإمام مالك، والإمام الشافعي رحمهما الله ، أمر مفيد، ويضم إلى الاعتبارات التي أشرنا إليها في جواز التحدث عنهم بمعنى لا يجوز رواية القصص الإسرائيلية التي يعلم قطعا كذبها وفيما عدا ذلك فإن الحكم الشرعي هو الجواز، وقد أخطأ من حرم ذلك بغير دليل، بل الدليل على خلاف رأيه... والله تعالى أعلم.
قلت: وقد اشتمل هذا الكلام على عدة بوائق:
البائقة الأولى: انتقاده على الشيخ أنه قال: ليس في هذا دليل على أنه يجوز رواية القصص الإسرائيلية التي لم ترد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا ينطق عن الهوى.
فقال الدكتور: هذا الحديث يفيد المشروعية بذاته أي: مشروعية الحديث بالإسرائيليات مطلقا.
البائقة الثانية: قوله: غير النصوص الأخرى التي أفادت الجواز.
قلت: هذه المسألة ليس فيها نص إثباتا ولا نفيا، فبلغ بك الأمر أنك لا تعرف النص! فهاك ما قال العمريطي في تعريف النص:
قال العمريطي:
والنص عرفا كل لفظ وارد ... لم يحتمل إلا لمعنى واحد
قوله: ((النص عرفا)): أي: اصطلاحا.
واعلم أن النص والصريح معناهما واحد، وهو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، فكل لفظ لا يحتمل إلا معنى واحدا فهو نص، ويسمى أيضا الصريح؛ لأنه خال من المعاني الأخرى.
مثاله: قال -رحمه الله-:(1/126)
كقد رأيت جعفرا ...........
فهذا نص؛ لأنه رأى رجلا يسمى جعفرا، ما يحتمل غير هذا، يأتي إنسان يقول: لعله يحتمل رأى بابا. فنقول: لا، هذا جنون. يقول: رأيت جعفرا، بشرا يسمى جعفر، فهذا نص.
مثال آخر: قال قائل: أكلت تمرا نقول: هذا نص؛ لأنه لا يحتمل إلا أنه أكل تمرا، لو قال: أكلت تمرا.. يعني: باع تمرا فإنه لا يستقيم. إذ هو نص في معناه.
..................وقيل ما ... تأويله تنزيله فليعلما
معناه أن النص ما تأويله تنزيله أي هو: ما يعلم معناه بغير بحث عنه، فلا يحتاج إلى بحث في الوصول إلى معناه.
هذا هو النص، لكن الأول هو المشهور، أن النص ما لا يحتمل إلا معنى واحدا.
البائقة الثالثة: أن التحديث بالإسرائيليات هدي رسول الله ولنا به أسوة حسنة في ذلك.
ومعناه: أن من لم يحدث بالإسرائيليات لم يتأس برسول الله، وهذه مجازفة وغلو وذلك أن ما ثبت بالوحي من القرآن والسنة، وجب قبوله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، وما لم يثبت، لا يقال: إنه هديه أصلا حتى يلزم بالتأسي به فيه.
البائقة الرابعة: قوله: فإنه يجوز أو يستحب أحيانا رواية قصص الأولين، ومنهم: بنو إسرائيل. وهذا كلام مجمل، فإن كان مما ثبت في شرعنا فلا يخصص بأحيانا مثل: قصة يوسف، وقصة جريج، وقصة الساحر والراهب، والذي قتل تسعة وتسعين ثم كمل تمام المائة، ونحو ذلك مما ثبت في شرعنا، وإن كان مما لم يثبت فبأي دليل يكون استحبابها؟! الدليل على وجوب البعد عن ذلك: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51].
وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57].
وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3].
قلت: وهذه منه شبه تخمين.(1/127)
البائقة الخامسة: قوله: برواية ما كان فيه مواعظ وعبر وترغيب وترهيب، يشهد له عموم الشرع.
قلنا: يقول الله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57]، وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} [الإسراء: 9]، وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3].
البائقة السادسة: قوله: ما اشتمل على خبر، أو تاريخ مجرد، وليس له مستند من شرعنا، فإنه يكتب ويروى بدون احتجاج عملا بالحديث الوارد ((إذا حدثكم أهل الكتاب...)).
قلت: ما فائدة تثقيل كتب التفسير وغيرها بكتابته إذا كان لا يستفاد منه أي احتجاج، ولا يقصد بذلك بيان بطلانه من باب تحذير الناس منه، وانظر ما سيأتي؟.
البائقة السابعة: قوله: ولم ينه عن الاستماع إليهم.
قلنا: قد قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين رأى معه كتابا من أهل الكتاب: ((آمتهوكون فيها يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية))، وهو حديث حسن.
وانظر ما ذكره الذهبي عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وعن كعب بن ماتع الأحبار من «سير أعلام النبلاء».
البائقة الثامنة: تناقضه بقوله: إذا انطوى الخبر على مسألة فقهية؛ فإنه لا يلزم التقيد به، وقد أثبت في أول الكلام أنه هدي رسول الله فكيف لا يلزم، وهو هديه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وسينقض هذا القول بعده بسطرين بقوله: وعليه؛ فإنها تجوز الرواية عن بني إسرائيل...(1/128)
وأيضا: تناقضه بقوله: لا يلزم. وهذه كلمة تفيد أنه دون اللازم وهو المباح، وقد ذكر شروطه لرواية الإسرائيليات والشرط إذا اختل اختل المشروط ومنها: أن لا يكون من الأحكام والفقه هنا بمعنى الأحكام.
البائقة التاسعة: تناقضه مع أول كلامه بقوله: أي: خبر أو حكم عنهم يخالف القطعي الثابت عندنا فهو مردود على قائله، ولا كرامة.
قلنا: هذا الاضطراب من الدكتور شبه سفسطة، فانظر الحكم الذي قرره العلامة الوادعي في سطر فما أبرك كلام العلماء مع قلته، وما أكثر كلام المتشبهين بذوي السفسطة مع عدم بركته، كما قيل:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد
يحللون بزعم منهم عقدا ... وفي الذي وضعوه زادت العقد
البائقة العاشرة: قوله: ص (103): وقد أخطأ من حرم ذلك بغير دليل، بل الدليل على خلاف رأيه.
وفي هذا جهل بالأدلة التي في النهي عن ذلك.
ولنأتي إلى الصواب في هذه المسألة بعد ذكر الأقوال فيها:
قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مقدمة «أصول التفسير» ص (42): ولهذا كان عبدالله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث(1) من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الإسرائيليات تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم أي: في حديث: ((بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) رواه البخاري.
__________
(1) ... يعني حديث: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)).(1/129)
قال: وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا: أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به المقتول من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}(1). فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قل ربي أعلم بعدتهم} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا} أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. اهـ
وذكر الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (6/609) شرح حديث (3461) عبدالله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)).
عدة أقوال في معنى ولا حرج:
__________
(1) ... سورة الكهف، الآية: 22.(1/130)
1 أي: لا ضيق عليكم في الحديث عنهم، لأنه كان تقدم منه -صلى الله عليه وسلم- الزجر عن الأخذ عنهم، والنظر في كتبهم، ثم حصل التوسع في ذلك، وكأن النهي وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدينية خشية الفتنة، ثم لما زال المحذور، وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.
2 وقيل: معنى قوله: ((ولا حرج)) لا تضيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب، فإن ذلك وقع لهم كثيرا، (وهذا فيه نظر سياق الكلام لا يساعده).
3- وقيل: لا حرج في أن لا تحدثوا عنهم، لأن قوله أولا: ((حدثوا)) صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأن الأمر فيه للإباحة بقوله: ((ولا حرج)) في ترك التحديث عنهم، (وهذا أيضا فيه نظر، لأن سياق الكلام لا يقتضيه).
4 وقيل: المراد رفع الحرج عن حاكي ذلك، لما في أخبارهم من الألفاظ الشنيعة نحو قولهم: {اذهب أنت وربك فقاتلا}(1)،وقولهم: {اجعل لنا إلها}، (وهذا فيه نظر لأن هذا نزل بالوحي، لو كان فيه حرج ما أنزل الخبر عنهم به، حتى يحرج الأمة).
5 وقيل: المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيل نفسه، وهم أولاد يعقوب، والمراد حدثوا عنهم بقصتهم مع أخيهم يوسف، (وهذا نظير الذي قبله في البطلان، بل قال الحافظ: وهذا أبعد الأوجه).
6- وقيل: المعنى: حدثوا عنهم بمثل ما ورد في القرآن والحديث الصحيح.
7- وقيل: حدثوا عنهم بأي صورة وقعت من الاتصال والانقطاع؛ لتعذر الاتصال في التحديث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية، فإن الأصل في التحديث بها الاتصال. اهـ بتصرف يسير.
قلت: وهذا محتمل للدس فيه، والكذب عن طريق الواسطة التي لا يعلم حالها، فيترسب في أذهان الناس القول الباطل، ويتعبدون الله باعتقاده، وهذا من الغش لهم والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من غش فليس منا)).
__________
(1) ... سورة المائدة، الآية: 24.(1/131)
فهذا الذي تأثر به الدكتور أحمد ونقله، ولم يعزه إلى قائله مع أنه محتمل أن يتضمن حكما فقهيا لا يعلمه الذي حدث به، ويعلمه غيره الحديث ((رب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))، فيدخل تحت قول الله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل: 116].
وأيضا: ما العذر عند الله في إضافة قصة إلى أن فلانا من عباد الله فعلها، والواقع أن ليس عندنا من الدليل ما يثبتها فيصير رجما بالغيب وهو حرام.
وأيضا: فإن القصة الإسرائيلية إذا لم تكن معضودة بثوابت شرعنا صارت مبنية على الظن، والله يقول: {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} [النجم: 28]، فهذا يدخل تحت النهي في قوله: ((ولا تكذبوا علي))، لأنه محتمل للكذب.
وأيضا: فإن الله حرم القول بغير علم فقال: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].(1/132)
قال الإمام البخاري -رحمه الله-: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: دخلنا على عبدالله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}، وسأحدثكم عن الدخان إن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دعا قريشا إلى الإسلام فأبطئوا عليه فقال اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود حتى جعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخانا من الجوع قال الله عز وجل: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم}، قال: فدعوا: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون}، أفيكشف العذاب يوم القيامة، قال: فكشف ثم عادوا في كفرهم فأخذهم الله يوم بدر قال الله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}.
وأيضا: التحديث عنهم بما هو عبارة عن قصص لا أصل لها من شرعنا ذريعة إلى الكذب والكذب حرام؛ لأن إثباتها أنها حق متعذر.
والواجب على المسلم أن يتحرى الحق، والعدل لقول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل}، وقوله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} [الأنعام: 152].
ولقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} [النساء: 135].
فمن الذي يضمن لنا أداء هذا الواجب إن لم نلتزم بأن لا نحدث عنهم إلا بما هو سبب العصمة من الوقوع في غير الحق، وهو القرآن، وصحيح السنة.(1/133)
وأيضا: فإن من أجاز ذلك، قال: إن التحديث بها كثير منه (أي: بما لا مدلول له من شرعنا لا فائدة فيه).
وهل يجدر بالمسلم الحريص على ما ينفعه، كما أمر في حديث أبي هريرة عند مسلم رقم (2664): ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله))، أن يضيع وقته وأوقات الناس بحشد ما لا فائدة فيه.
وأيضا: فإن التحديث بها سبب الخلاف بين المفسرين وغيرهم. راجع: «تفسير ابن كثير» وكتاب «الخطأ في التفسير» للدكتور طاهر بن محمود، وكتاب «الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير» للدكتور رمزي نعناعه، وكتاب «الإسرائيليات والموضوعات في التفسير» للدكتور محمد أبو شهبة.
وما كان سببا للخلاف والجدل والاشتباك بين المسلمين، وجب البعد عنه سدا لذريعة الخلاف والفتنة.
ثم إن أهل الكتاب قد اختلفوا، وغيروا وبدلوا فكيف ينقل عنهم ما كان على هذا الحال، ولو كان في غير الأحكام كما يتحفظ به من قال ذلك، والدليل على أنهم غيروا وبدلوا أدلة كثيرة منها: قول الله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75].
وقوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة: 79].
وأخرج أبو داود -رحمه الله- في كتاب العلم باب الحديث عن بني إسرائيل رقم (3662) «عون المعبود» فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). وهذا إسناد حسن.
قال الخطابي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث من «معالم السنن» (4/173): وفيه دليل على أن الحديث لا يجوز عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلا بنقل الإسناد والتثبت فيه.(1/134)
وقد روى الدراوردي هذا الحديث، عن محمد بن عمرو بزيادة لفظة استدل بها على صحة هذا المعنى، بلفظ: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي)).
قال: ومعلوم أن الكذب على بني إسرائيل لا يجوز بحال، فإنما أراد بقوله: ((وحدثوا عني ولا تكذبوا علي)). أي: تحرزوا من الكذب علي بأن لا تحدثوا عني إلا بما صح عندكم من جهة الإسناد الذي يقع به التحرز عن الكذب علي انتهى وهو كلام مفيد.
قلت: والدراوردي الذي زاد هذه اللفظة ثقة قد وثقه عدد من الأئمة، ولم يتفرد بها، بل تابعه عليها سفيان بن عيينة عند ابن حبان في «صحيحه» (14/147) –الإحسان- فهي زيادة ثابتة السند، جميلة المعنى، فيها توضيح الإذن بالتحديث عن بني إسرائيل بما جاء، لأنه جاء مرتبا بعد قوله: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج))، فصار بيانا متصلا.
وقال الإمام ابن كثير في مقدمته «للبداية والنهاية» (1/7):
ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب وساق بعده كلاما نحوه.
وقال الإمام ابن حبان -رحمه الله- في «صحيحه» الإحسان (14/149):
باب ذكر الإباحة للمرء أن يحدث عن بني إسرائيل وأخبارهم، وأخرج حديث أبي هريرة، وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص في ذلك ثم قال: وقوله: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). أمر إباحة لهذا الفعل من غير ارتكاب إثم يستعمله، يريد به حدثوا عن بني إسرائيل ما في الكتاب والسنة من غير حرج يلزمكم فيه. اهـ
وهنا جمع مفيد في المادة في كتاب «أسباب الخطأ في التفسير» للدكتور طاهر محمد بن محمود وفقه الله رأينا ذكره إفادة لذلك الدكتور المخلط أحمد بن نصر الله وأمثاله من المخلطين الذين تشهد عليهم أعمالهم التلفيقية بضعف الفهم، وعدم العناية والتوفيق في العلم.
قال جامعه: أقسام الإسرائيليات مع ذكر حكمها:(1/135)
الإسرائيليات التي وصلت إلينا عن طريق مسلمة أهل الكتاب وعلمائهم، الذين دخلوا في الإسلام كثيرة وذات أنواع متعددة، وقد دخل معظمها مع الأسف الشديد في مجال تفسير النصوص القرآنية، فعمد عدد من المفسرين إلى إيرادها في كتبهم.
ويجب على من يتصدى للتفسير، أو من يقرأ في كتب التفسير أن يكون عارفا بهذه الإسرائيليات بأنواعها وحكمها، وأن يكون واعيا للموقف السليم الذي يجب أن يقفه المسلم من تلك الإسرائيليات، ويمكن تلخيص هذا الموقف فيما يلي:
تنقسم الإسرائيليات باعتبار الموافقة في شريعتنا، والمخالفة لها، إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: موافق لما في شريعتنا من الكتاب، أو السنة فهو صحيح؛ لأن هذه الموافقة دليل على أن الموافق لم تصل إليه يد التحريف والتبديل.
فإذا ذكر هذا القسم إنما يذكر استشهادا لا اعتقادا، ولا حاجة لنا فيه استغناء بما ثبت في شرعنا. وإذا ذكر في التفسير لا يكون هو المفسر للآية، بل المفسر للآية هو ما ثبت في شرعنا، فانتفى كون الآية مفسرة بها ومحمولة عليها.
قال ابن كثير: فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا.
القسم الثاني: مخالف لما في شريعتنا، فهو مردود غير مقبول، لأن المخالفة دليل على أن أيدي من روى هذا الخبر قد امتدت إليه بالعبث والتغيير؛ فيجب رفضه واطراحه، فلا يجوز التفسير به، ولا تجوز حكايته إلا على سبيل التنبيه على بطلانه.
قال الإمام ابن كثير: وما شهد له شرعنا منها يعني من الإسرائيليات بالبطلان، فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الإنكار والإبطال.
فإذا كان الله سبحانه وله الحمد قد أغنانا برسولنا محمد عن سائر الشرائع، وبكتابه عن سائر الكتب، فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط وخلط، وكذب ووضع، وتحريف وتبديل، وبعد ذلك كله نسخ وتغيير.
فترد كل رواية إسرائيلية التي تعارض نص القرآن، أو تخالف صحيح السنة، أو تنافي أصلا إسلاميا مقررا.(1/136)
فمن هذه الأصول الإسلامية عصمة الأنبياء، وترفعهم عن عمل السفهاء، وبعدهم عن الوقوع في الفواحش، والمحرمات، والأذى، والعدوان، واجتنابهم المكر والخدعة. قد أساء بنو إسرائيل إلى عدد من أنبياء الله إساءات متنوعة بالغة، فكذبوهم، وقتلوهم بغير حق، فألصقوا بهم الخنا، والنقص، والغدر، والمكر، كما تتضح بذلك توراتهم المحرفة، وأناجيلهم المكذوبة.
قال ابن الجوزي: إن القصص لأخبار المتقدمين تندر صحته خصوصا ما ينقل عن بني إسرائيل، وفي شرعنا غنية.
القسم الثالث: وينقسم إلى نوعين:
أحدهما: مسكوت عنه وليس في شريعتنا ما يؤيده ولا ينقضه؛ لكنه أقرب إلى الخرافة والكذب، وتحيله العقول السليمة، وتنكره الأفهام الصحيحة، كجبل قاف المزعوم والحوت النون الذي تحمل عليه الأرض.
قال الحافظ ابن كثير: وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). فيما قد يجوزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل.
ثانيهما: وهو ما كان من المسكوت عنه؛ لكن العقول السليمة لا تحيله، ولا تستبعده، ولا يغلب على الظنون كذبه، فيجب في مثل هذا التوقف، فلا يحكم عليه بصدق ولا كذب، وعلى هذا القسم ينزل قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)). الآية.
قال الحافظ في شرح الحديث: أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملا لئلا يكون في نفس الأمر مصدقا فتكذبوهم، أو كذبا فتصدقوهم، فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه، ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه، نبه على ذلك الشافعي -رحمه الله-.(1/137)
قال العلامة عبدالرحمن السعدي -رحمه الله-: واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، نزلوا عليه الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله... فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذ لم تصح عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وذلك أن مرتبتها كما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)).
فإذا كان مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها، وكان معلوما بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به، والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة، التي يغلب على الظن كذبها، أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله مقطوعا بها، ولا يستريب بهذا أحد. ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل والله الموفق.
ومما سبق يظهر أن الإسرائيليات بجميع أقسامها لا تثبت حكما، ولا تكون مكانا للاستنباط، بل غايتها الاستئناف، والاستشهاد، لا الاعتقاد والاعتضاد، وأنه لا يجوز الأخذ بها في إثبات حكم شرعي من أحكام الشريعة، ولا يصح تفسير القرآن الكريم بجميع أنواعها إذا لم يثبت عن الصادق الأمين -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الذي قال الله عز وجل فيه: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}.
قال شيخ الإسلام: فأما أن يثبت شرعا لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثب فهذا لا يقوله عالم.
وفي المبحث التالي نذكر نبذة من أقوال الأئمة الأعلام، والمحققين النقاد العظام، في التحذير عن الإسرائيليات أخذا، ورواية، وتفسيرا بها.
وذلك تحريرا في الموضوع، وتدليلا على المطلوب، وترسيخا في الأذهان والعقول، وتثبيتا في الخواطر والقلوب.
أقوال العلماء في التحذير من الإسرائيليات(1/138)
1 قال ترجمان القرآن وحبر الأمة عبدالله بن عباس -رضي الله عنه-: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أحدث، تقرأونه محضا لم يشب؟ وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم على الذي أنزل عليكم.
2 نقل القرطبي قول أبي بكر بن العربي في معرض رده على الإسرائيليات: والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات، فأعرض عن سطورها بصرك، وأصم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا.
3 قال الحافظ ابن كثير وهو فارس هذا الميدان-: والذي نسلكه في هذا التفسير، الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية، لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتملت عليه من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها، وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة...
وبعد أن فرغ من إيراده الأخبار الطويلة الغريبة في قصة ذبح البقرة عند تفسير قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67].
قال: وهذه السياقات فيها اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها، ولكن لا تصدق، ولا تكذب؛ فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا والله أعلم.(1/139)
وعندما تعرض لتفسير أول سورة (ق) عقب تفسيره بالإسرائيليات بقوله: وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: (ق) جبل محيط بجميع الأرض يقال له: جبل قاف. وكأن هذا والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها، وحفاظها، وأئمتنا، أحاديث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى، وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟ (إلى أن قال): وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ولله الحمد والمنة.
4 عاب الإمام الألوسي على المفسرين الذين أدرجوا قصصا باطلة، وروايات إسرائيلية، وأخبارا مكذوبة، في كتبهم حيث انتقد رواية إسرائيلية في قصة عجيبة وغريبة عن عوج بن عنق، رواها بعض المفسرين، وذلك عند تفسير قوله تعالى: {لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا}، فقال مستدلا بأقوال الأئمة في إبطال القصة، ومشيرا إلى مصدرها: وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة، ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي فتاوى العلامة ابن حجر قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح u، ولم يسلم من الكفار أحد.
وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا، أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق.(1/140)
والعجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره، ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب أن هذا وأمثاله من صنع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم.. ثم هذه القصة بما حكاه عن من تقدم من الأئمة الذين استنكروا هذه القصة الخرافية.
5 قال العلامة صديق حسن خان بعد أن نقل حديثا مما يرويه القصاص المولعون بالخرافات ما نصه:
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة من أهل الكتاب مما يوجد في صحفهم.. من الأوابد والغرائب، والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ.
6 وقد حمل الشيخ أحمد شاكر على الأخذ بالإسرائيليات وروايتها في التفسير حملة مسعورة، ويرى أن ذكرها بجانب كلام الله عز وجل يخالف ذكرها بجانب غيره من الكلام؛ فعلق على ما ذهب إليه ابن كثير في تفسيره من جواز حكاية ما سكت عنه شرعنا، وكان محتملا للصدق والكذب مستندا لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). بقوله:
إن إباحة التحديث عنهم فيما ليس عندنا دليل على صدقه ولا كذبه، وذكر ذلك في تفسير القرآن، وجعله قولا أو رواية في معنى الآيات، أو في تعيين ما لم يعين فيها، أو في تفصيل ما أجمل فيها، شيء آخر؛ لأن في إثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم أن هذا الذي لا نعرف صدقه، ولا كذبه، مبين لمعنى قول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه ذلك، وإن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ أذن بالتحديث عنهم، أمرنا أن لا نصدقهم ولا نكذبهم.
فأي تصديق لرواتهم، وأقاويلهم أقوى من أن نقرنها بكتاب الله ونضعها منه موضع التفسير، أو البيان؟ اللهم غفرا.
7 قال العلامة الشنقيطي معرضا عن الإسرائيليات في تفسيره لسورة الكهف:(1/141)
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم، وفي أي محل من الأرض كانوا، كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- شيء زائد على ما في القرآن، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها.
8 اعتبر الشيخ الزرقاني دخول الإسرائيليات في التفسير سببا من أسباب ضعف التفسير المأثور حيث قال: إن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات، ومنها كثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها، ومنها ما يتعلق بأمور العقائد التي لا يجوز الأخذ فيها بالظن.
9 وتكلم الأستاذ محمد حسين الذهبي عن حقيقة الإسرائيليات، وموقف المفسر إزاءها كلاما جيدا فلنقرأ ما كتبه بعد ذكره أقسام الإسرائيليات: علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت في ديننا واستفحل خطرها، كما علمنا أن قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم))، قاعدة مقررة لا يصح العدول عنها بأي حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسر أن يكون يقظا إلى أبعد حدود اليقظة، ناقدا إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من دقة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان في سننه نبينا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بيان لمجمل القرآن.. على أن من الخير للمفسر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات، وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يعد صارفا عن القرآن، وشاغلا عن التدبير في حكمه وأحكامه، وبدهي أن هذا أحكم وأسلم.(1/142)
10 وانتقد الشيخ أبو شهبة الإسرائيليات والموضوعات نقدا شديدا حيث قال: وأما تفاسير الصحابة والتابعين، وهي أكثر من أن تحصى، ففيها الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، والإسرائيليات التي تشتمل على خرافات بني إسرائيل وأكاذيبهم، وقد تدسست إلى الكتب الإسلامية، ولا سيما كتب التفسير، وأصبحت تكون ركاما غثا مجموعا من هنا وهناك سواء في ذلك ما كان خاصا بالتفسير المأثور، وما جمع بين المأثور وغيره، فما كان من هذه الروايات صحيحا، أو حسنا أخذنا به، وما كان ضعيفا، أو واهيا، أو موضوعا، أو من الإسرائيليات نبذناه ولا كرامة. اهـ
وبهذا تعلم أن صحة تعليقة العلامة الوادعي رحمة الله تعالى عليه في سطرين، وضعف وارتباك ثرثرة الدكتور أحمد بن نصر الله في صفحتين:
وللعلوم أقوام بها عرفوا ... وللدفاتر حساب وكتاب
أما فعل عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- من روايته الإسرائيليات فقد انتقد عليه ذلك كما في ترجمته من «سير أعلام النبلاء» وغيرها، وذكر الحافظ في شرح باب كتابة العلم من «صحيح البخاري» تحت حديث رقم (113) أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: ما من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد؛ أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبدالله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب.
قال الحافظ: والذي انتشر عن أبي هريرة أضعاف ما انتشر عن عبدالله بن عمرو بن العاص، وذكر من أسباب قلة ما روي عنه بالنسبة لأبي هريرة مع أنا أبا هريرة يثبت أن عبدالله بن عمرو أكثر منه؛ أن عبدالله كان قد ظفر بحمل جمل من كتب أهل الكتاب من الشام، فكان يحدث منها فتجنب الأخذ عنه لذلك كثير من الأئمة. اهـ
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والثلاثون
قال الدكتور أحمد ص (104) من «أضوائه»:
قال (2/194) رقم (1113): قال الإمام النسائي -رحمه الله- في «عمل اليوم والليلة» ص (559):(1/143)
أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال: حدثنا خالد عن شعبة، عن سماك عن محمد بن حاطب قال: تناولت قدرا فأصاب كفي من مائها، فاحترق ظهر كفي، فانطلقت بي أمي إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((أذهب البأس رب الناس)).
وأحسبه قال: ((واشف أنت الشافي)) ويتفل.
(وبعد أن ساق الطرق العديدة التي ساقها الشيخ -رحمه الله- قال):
قلت: هكذا سرد الروايات، ولم يزد في كل رواية عن حكمه هذا حديث حسن.. وهذا خطأ وقصور متناه وفقا لقواعد التخريج والتحقيق لأسباب عديدة منها:
الواجب الذي عليه أئمة التخريج أن يعضد الطرق بعضها بعضا وترتقي بمجموعها إذا كانت ضعيفة إلى مرتبة الحسن، وإذا كانت في ذاتها حسنة ترتقي إلى الصحة.
2 بعض طرق الحديث التي أوردها صحيحة لذاتها مثال:
قال الإمام أحمد -رحمه الله- في «المسند» (4/259):
ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن سماك بن حرب، عن محمد بن حاطب، فذكر الحديث.
قلت: الحديث على هذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات.
(ثم ترجم لهم وقال):
أما سماك بن حرب، فقد أرجأنا الحديث عنه، ويبدو أن الشيخ مقبل لم يصحح الحديث لأجله، وحكم على الحديث أنه حسن لسببه، ولكن الحقيقة أنه لم يسبر غوره، ولم يدقق في ترجمته، فجاء الحكم متعجلا قاصرا، وهذا يقع كثيرا للشيخ غفر الله له :(1/144)
سماك بن حرب: هو ابن أوس بن خالد، أبو المغيرة الكوفي، من كبار التابعين، قد أدرك ثمانين من الصحابة، وثقه الجم الغفير من أئمة الجرح والتعديل، لا سيما رواية شعبة عنه، وحديثنا كذلك من رواية شعبة عنه، وقد ضعف في روايته عن عكرمة، وحديثنا ليس فيه روايته عن عكرمة، إنما عن محمد بن حاطب.. قال يعقوب -رحمه الله-: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين، ومن سمع منه قديما مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه صحيح مستقيم. فسلم والحمد لله حديثنا من أن يكون حديث حسن لسبب سماك بن حرب، إذ أنه ثقة لا سيما في إسناد الحديث السابق، وهذا أمر معلوم في علم الرجال، قد يكون الراوي الثقة العدل له أحوال فتقبل رواياته في بعضها، ولا يحتج برواياته في البعض الآخر، لأسباب يعرفها من مارس علم التحقيق دهرا من الزمان، للمزيد راجع ترجمته في «التهذيب» (4/232)، «والميزان» (2/232).
وعليه.. فمن الضروري تنقيح الأسانيد، وعدم قبول الكلام على عواهنه دون تميز وتمحيص.
أقول: هذا يعتبر عارا على الدكتور أحمد أن يقحم نفسه في علم الحديث ويتبنى مناطحة أهله، وهو على هذا الضعف المتناهي فيه، بحيث لا يعرف أن مخرج الحديث المذكور هنا هو سماك، وهو حسن الحديث مهما كثرت الطرق إليه.
فأعرب الدكتور أحمد على جهله ص (105) قائلا عن الشيخ على سياق النقد من باب قول القائل:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
قال: هكذا سرد الروايات، ولم يزد في كل رواية عن حكمه هذا حديث حسن، وهذا خطأ وتصور متناه وفقا لقواعد التخريج والتحقيق لأسباب عديدة منها:(1/145)
1 الواجب الذي عليه أئمة التخريج أن يعضد الطرق بعضها بعضا، ويرتقي بمجموعها إذا كانت ضعيفة إلى مرتبة الحسن، وإذا كانت في ذاتها حسنة ترتقي إلى الصحة. اهـ ويحسن هنا أن أدل الدكتور أحمد إلى رسالة «التعالم» للشيخ بكر أبو زيد ففيها ما ينطبق عليه حذو القذة بالقذة، ويدل على ذلك ما قام به الدكتور في هذا التأصيل العجيب، الذي يجعل العالم بهذا الفن يضحك من ركبته.
فالحديث ساقه العلامة الوادعي -رحمه الله- من طرق عديدة كلها تدور على سماك بن حرب، وسماك حسن الحديث، فلهذا حكم العلامة الوادعي على الحديث بأنه حسن.
فجاء الدكتور أحمد عافاه الله واعتبر هذا قصورا متناهيا من الشيخ إذ لم يعضد بعض الطرق ببعض، ثم جاء الدكتور بالغباء الوافي علاوة على ما أبرزه من الغباء في هذه الصفحة، بما نعتبره كفانا به مؤنة الرد على الفقرة الأولى.
فقال بعد ذلك ص (106): أما سماك بن حرب فقد أرجأنا الحديث عنه، ويبدو أن الشيخ مقبل لم يصحح الحديث لأجله، وحكم أن الحديث حسن لسببه، ولكن الحقيقة أنه لم يسبر غوره، ولم يدقق في ترجمته، فجاء الحكم متعجلا قاصرا، وهذا يقع كثيرا للشيخ غفر الله له.
قلت: لقد تمادى أحمد هداه الله في محاولة تهميش براعة العلامة الوادعي في علم الحديث زهوا من أحمد بنفسه، ودعواه العريضة لمعرفة هذا العلم على ضعفه فيه، بما لا يؤهله لمعرفة مخرج الحديث المذكور هنا، فذهب يتضلع بما ينبغي له أن يخجل منه ويتبرأ، كما تقدم آنفا!!
وثالثة الأثافي هنا: دعواه أن الشيخ لم يسبر غور سماك، ولم يدقق في ترجمته، وتعجل في تحسين حديثه بحكم قاصر، ولم ينته أحمد إلى هذا الحد من الدعاوى والشغب، فطعن في كثير من أحكام الشيخ على الأحاديث، ومرمى طعون أحمد أن من كثر خطؤه سقط عند المحدثين الاحتجاج به.(1/146)
وها أنا أبين للقراء أهل علم الحديث من طلاب العلامة الوادعي وغيرهم هذه الطعون الدامية، والكلمات المترامية، ولسان حالي يناديهم إلى رفع منار العلم والدين، وهدم أفكار الحاقدين المفسدين من أمثال الدكتور أحمد بن نصر الله، وبين يديكم هذه الرسالة المتواضعة كحجر أساس للارتقاء إلى شدخ أفكار أحيمد في الرأس. وقد كفيتكم بعض تلبيسه وتدليسه، وما ضاق بي الوقت عن بيانه فللشيخ -رحمه الله- ومنهجه الحق على تلاميذه البررة واجب التتمة والتذييل.
قال الدكتور بعد ذكر كلام في منتهى التكلف والتعسف، محاولا به تخطئة العلامة الإمام الوادعي -رحمه الله- في حكمه على حديث سماك بن حرب بالحسن، ومدعيا أن سماكا لا ينزل حديثه بذاته عن درجة الصحة.
وهاك ترجمة سماك من كتب الجرح والتعديل التي يزعم الدكتور أنه سبر حال سماك منها، وأن الشيخ لم يسبر غور سماك:
قال الإمام الذهبي في «ميزان الاعتدال»: سماك بن حرب أبو المغيرة صدوق صالح من أوعية العلم مشهور.
روى ابن المبارك عن سفيان أنه ضعيف، وضعفه شعبة.
وذكر ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» عن أبيه أنه قال: صدوق ثقة.
ونقل عن ابن معين من طريق ابن أبي خيثمة فيما كتب إليه قال: سمعت ابن معين، وسئل عن سماك بن حرب؟ فقال: ثقة، وكان يقول: هو أحب إلينا من إبراهيم بن المهاجر.
قلت: وإبراهيم فيه ضعف، فاقتران سماك به غمز في سماك.
وفي شرح «علل الترمذي» لابن رجب (1/81): فإذا روى عن الرجل مثل: سماك بن حرب، وأبي إسحاق؟ قال: هؤلاء يروون عن مجهولين. اهـ
وفيه (1/141) قال ابن رجب: وممن يضطرب في حديثه سماك وعاصم بن بهدلة، وقد ذكر الترمذي أن هؤلاء وأمثالهم، ممن تكلم فيه من قبل حفظه، وكثرة خطئه لا يحتج بحديث أحد منهم إذا انفرد يعني في الأحكام الشرعية والأمور العلمية. اهـ(1/147)
قلت: وقد ذكر أنه تغير في آخره، حتى كان يلقن فيتلقن، لكن رواية المتقدمين عنه كشعبة وسفيان قبل تغيره فهي مستقيمة كما في «التهذيب» وبنحوه في «الميزان».
وقال أحمد: مضطرب الحديث.
وضعفه صالح جزرة وابن المبارك.
وقال يعقوب: روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين.
وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء، كان ربما لقن فإذا انفرد بأصل لم يكن حجة، لأنه كان يلقن فيتلقن، وأحسن المقال فيه ما قاله ابن عدي إذ أنه يجمع سائر الأقوال في سماك، قال: ولسماك حديث كثر مستقيم إن شاء الله وهو من كبار تابعي أهل الكوفة، وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به. اهـ
واعتمد المحققون قول ابن عدي.
فقال الذهبي: صدوق.
وقال ابن حجر في «التقريب»: صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة.
قلت: معناه في عكرمة يضعف حديثه لاضطرابه فيه عن غير عكرمة صدوق حسن الحديث.
وحديث محمد بن حاطب هذا أخرجه عدد من الأئمة منهم: أحمد بن حنبل في «مسنده» (15452)، وقال المحقق: وهذا إسناد حسن من أجل سماك وهو ابن حرب وبقية رجاله ثقات.
وبعد هذا نعلم أن قول الدكتور أنه سبر غور سماك، ودقق وتأنى واستوفى، ولم يقصر في ذلك، وأن الشيخ -رحمه الله- على خلاف ذلك خالف قواعد التخريج والتحقيق، ولم ينقح، وقبل الكلام على عواهنه دون تميز وتمحيص، كل هذا الهجيج والأجيج كذب بائر لا أصل له من الصحة والله المستعان !
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والثلاثون
قال الدكتور أحمد ص (108) من «أضوائه»:
قال: (2/271) الحديث رقم (1215): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (2/996):
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن بيان وجابر عن الشعبي، عن وهب بن خنبش، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((عمرة في رمضان تعدل حجة)).(1/148)
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلما أن يخرجاها. اهـ
قال الدكتور: قلت: الظاهر أن الشيخ مقبل قد تابع الدارقطني على وهمه، وسار خلفه في هذه الغفلة وغفر الله للجميع، فإن الحديث قد اتفق على إخراجه كل من البخاري ومسلم، وهذا من الأمثلة التي جعلتني أعتقد أن الشيخ في مثل هذا النوع من التخريج بين أمرين أحلاهما مر:
فإما أن يكون قد تفلتت منه كثيرا من المتون فلم يدر مخرجها وأصلها، أفي الصحيح أم لا؟ هذه واحدة.
الثانية: إما أن يكون قد عهد لبعض طلابه بشيء من العمل، واعتمد عليهم وهو ما حدثني به بعض الثقات، أن الشيخ أحيانا يفعل ذلك، والنتيجة في كلا الأمرين واحدة لا تخفى، والله المستعان.
قلت: وفي هذا الكلام جراءة شديدة من هذا المتعالم، ولقد رأيت الهول من تطاوله على الأئمة، فكان لا بد من زجره عن أئمتنا، صفعا بجزيل القول، من باب قول الله تعالى: {أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين} [الزخرف: 5].
وقبل بيان هذا البغي الفادح، أفيد الدكتور ومن يرى، أن في هذا الكلام عدة جهالات وتطاولات من الدكتور؛ وإن حاله هنا: (كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد).
وأول تلك الجهالات: التحقير من شأن العلامة الإمام الوادعي -رحمه الله-.
ثانيها: التهوين من علمه وتخصصه الذي أفنى فيه عمره، وهو علم الحديث.
ثالثها: رمي الشيخ -رحمه الله- بالتقليد الأعمى، وعدم التمحيص وقد كرر ذلك مع ما هو معلوم من بغض الشيخ -رحمه الله- للتقليد الأمر الذي لا يخفى على من سمع عن الشيخ، فضلا عن أن يعرفه، أو يقرأ بعض كتبه المصرحة بذلك.
رابعها: توهيمه للشيخ وللإمام النحرير أبي الحسن الدارقطني بغير روية، ولا خلفية.
خامسها: اتهامه للإمام الدارقطني، ثم للشيخ رحمهما الله بالغفلة.
سادسها: ادعاؤه أن الحديث متفق عليه.(1/149)
سابعها: تقوله، بل تخرصه على الشيخ -رحمه الله- أنه عهد ولو أحيانا إلى طلابه ببحث هذه الأحاديث كلها التي يزعم الدكتور أنها في «الصحيحين» أو أحدهما، ومن ثم تشبع بها الشيخ، فأدخلها في «صحيحه»، وأخرج الكل باسمه دون عزو إلى من بحث تلك الأحاديث.
هذا مؤدى كلام الدكتور والله الموعد.
وإليك نماذج مختصرة من تواضع الشيخ -رحمه الله- بحيث إذا أفاده شخص بفائدة، ودونها كتب اسمه عليها من «أحاديث معلة» الطبعة الجديدة:
حديث رقم (3): أخرجه أبو يعلى الموصلي عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لأصحابه: ((أتدرون أزنى الزنا عند الله)) الحديث.
قال الشيخ بعد أن ذكر أنه ذكره في «الصحيح المسند»: حتى أفادنا الشيخ الفاضل عبدالرقيب الإبي؛ بأن الصحيح أنه عمران بن أنس المكي، وهو ضعيف، وأحالنا إلى «شعب الإيمان» للبيهقي.
حديث رقم (47): أخرجه أبو يعلى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن جبريل أتاني بمثل المرآة البيضاء)) الحديث.
قال الشيخ -رحمه الله-: أفادنا بهذا الأخ أحمد بن سعيد. اهـ
وانظر حديث رقم (52) فقد ذكر فائدة عن أحمد بن سعيد تحت حديث الأقرع بن حابس -رضي الله عنه-.
حديث رقم (406): أخرجه أبو داود عن هشام بن عامر، وحديث (407) أخرجه الإمام أحمد عن هشام بن عامر، وحديث رقم (408) أخرجه الطبراني،قال الشيخ عقب كل حديث من هذه الأحاديث: أفادنا بهذا الأخ أبو الحسن الرازحي.
حديث رقم (239): عن عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الحجر: ((والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان ينظر بهما)) الحديث.
قال الشيخ -رحمه الله-: أفادنا بهذا أحمد بن سعيد.
حديث رقم (240): أخرجه الحاكم عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه)).(1/150)
قال الشيخ -رحمه الله-: أفادنا بهذا خالد بن علي.
حديث رقم (241): أخرجه البزار كما في «كشف الأستار» عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يحب امرأة فاستأذن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حاجة فأذن الله...)) الحديث.
قال الشيخ -رحمه الله-: أفادنا بهذا الأخ أبو أحمد الحربي.
وأما الدارقطني: فإليك إجلال الأئمة للإمام الدارقطني الذي رماه الدكتور بالغفلة عياذا بالله.
قال الذهبي في ترجمة أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني من «سير أعلام النبلاء» (12/483) رقم (3530): الإمام الحافظ المجود شيخ الإسلام علم الجهابذة أبو الحسن علي بن عمر البغدادي المقرئ المحدث، ثم ذكر من ثناء الأئمة عليه قول أبي ذر للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني؟ قال: هو ما رأى مثل نفسه فكيف أنا.
وقال أبو الطيب الطبري: كان الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث.
قال البرقاني: كان الدارقطني يملي علي العلل من حفظه.
قال الذهبي: إن كان كتاب «العلل» الموجود قد أملى الدارقطني من حفظه، كما دلت عليه هذه الحكاية فهذا أمر عظيم يقضى به للدارقطني أنه أحفظ أهل الدنيا.
وقال الإمام ابن عبدالهادي في ترجمته من «طبقات أهل الحديث» رقم (901): الإمام الحافظ الكبير شيخ الإسلام..
وقال الإمام ابن كثير في وفيات سنة (385) من «البداية والنهاية» (15/459): الحافظ الكبير أستاذ هذه الصناعة في زمانه، وقبلها بمدة وبعدها إلى زماننا هذا، له كتاب «السنن الكبير» المشهور من أحسن المصنفات في بابه لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله، إلا من استمد من بحره، وعمل كعمله، وله كتاب «العلل» بين فيه الصواب من الزلل، والمتصل من المرسل، والمنقطع، والمعضل، وكتاب «الأفراد» الذي لا يفهمه فضلا عن أن ينظمه إلا من هو من الحفاظ الأفراد، والأئمة النقاد، والجهابذة الجياد، وقد كان الدارقطني من صغره موصوفا بالحفظ الباهر. اهـ(1/151)
فيا أيها الدكتور المغفل هون عليك! هذه أقوال الأئمة في الدارقطني، وهات واحدا منهم وصفه بالغفلة!، فإن لم تفعل ولن تفعل، فاعلم أنك باهت أو أهبل، وهل سيقف بغيك على هذين الإمامين؟ أم على كل من عزا الحديث إلى غير البخاري ومسلم.
فهذا الإمام المزي في «تحفة الأشراف» (9/96) عزا هذا الحديث إلى النسائي وابن ماجه فقط وانظر: «جامع الأصول» لابن الأثير.
والحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (963) عزاه إلى النسائي، وابن ماجه فقط.
وكذا في «صحيح الجامع الصغير» معزو عن وهب إلى ابن ماجه فقط.
وغير هؤلاء كثير ليس منهم أحد عزى الحديث إلى البخاري ومسلم، أفلا تستحيي على نفسك أن يكون هؤلاء الأئمة في حيز، وأنت في حيز.
أخشى أن يصدق عليك قول الله تعالى: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} [غافر: 56].
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والثلاثون
قال الدكتور ص (111):
قال (2/280) رقم (1226) من «مسند أحمد» (6/397): قال الإمام أحمد -رحمه الله-:
حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد بن عبدالله اليزني عن أبي بصرة الغفاري قال: لقيت أبا هريرة وهو يسير إلى مسجد الطور ليصلي فيه قال: فقلت له: لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت، قال: فقال: ولم؟ قال: قال: فقلت: إني سمعت رسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي)). هذا حديث حسن.(1/152)
الحديث أخرجه أبو يعلى (11/435) فقال -رحمه الله-: حدثنا (بن بصرة)(1) لقي أبا هريرة، وهو مقبل من الطور فقال: لو لقيتك قبل أن تأتيه لم تأته، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)). اهـ
قال الدكتور: قلت: إن المدقق في الأسانيد وأحوال الرجال، يعجب عجبا منقطع النظير من منهج هذا التخريج وطبيعته. ولا يدري المرء على أي قواعد بالأحكام تقذف بالأحكام على الأسانيد والأحاديث.
والذي ظهر لي جليا من خلال عشرات الأمثلة التي سيأتي الكثير منها إن شاء الله أن قوله: هذا حديث حسن. مصطلح خاص به ينفرد به عن أئمة الجرح والتعديل، ويتم إلقاؤه بدون ضوابط حديثية، ويبدو أنه بنظرة خاطفة إلى السند دون اعتبار لدقائق الأمور العلمية لأحوال الرجال، أو دون أدنى اعتبار للمتابعات والشواهد.
ثم لا يدري طالب العلم ما قيمة إيراد طريق أبي يعلى الموصلي، وما الذي يستفيد منه بعد إيراده؟ أيقوي به إسناد الإمام أحمد ليرتقي إلى درجة الصحيح لغيره (!!) هذا إذا كان السند ليس صحيحا لذاته، فكيف إذا كان جيدا ورجاله كلهم ثقات؟ فكيف إذا كان أصل الحديث في البخاري ومسلم؟.. لذا وجب بيان حال السند الذي أخطأ في اعتباره (حديث حسن) ثم بيان طرقه في البخاري ومسلم.
(ثم ترجم لرواة السند، وخلص بأنهم ثقات حتى محمد بن إسحاق صاحب السيرة ثم قال):
وعليه؛ فالسند صحيح رجاله كلهم ثقات أثبات ولا مأخذ عليه، وقد صرح محمد بن إسحاق بالتحديث فلم يبق أدنى سبب لاعتبار الحديث حسن. هذا وإن أصل الحديث كذلك في الصحيحين.
قلت: لا يهمنا هنا الكلام عن ابن إسحاق فقد بينت خطأ الدكتور في حال محمد بن إسحاق تحت ما يزعمه الخطأ السابع فليراجعه من شاء.
__________
(1) ... كذا في «الأضواء»!! وصوابه (حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح عن زيد بن أسلم عن سعيد بن أبي سعيد المقبري أن أبا بصرة بن بصرة ... .).(1/153)
والذي يهمنا هنا هو مواصلة تأديب الدكتور أحمد هداه الله في أمور أسأل الله أن يفرغ علينا صبرا في تأديبه، ويرزقه شكر الجميل إن كان من ذويه:
1 تعريضه بنفسه أنه محقق في الأسانيد، وأحوال الرجال، وتعريضه بالعلامة المحدث الوادعي -رحمه الله- أنه لم يتصف بذلك، وهذه الدعاوى ليست بجديدة، فقد قال فرعون لقومه: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29].
والله يقول: {إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد} [هود: 97].
وقال إبليس عن آدم: {قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص: 76].
والدكتور أحمد نفخه الشيطان من هذا الباب، وإلا فأين التدقيق الذي ادعاه وحرره هذا الدكتور العجيب؛ سوى الشقشقة! فقد دقق وأمعن فيها فعلا.
2 تعجبه عجبا منقطع النظير على منهج تخريج العلامة الوادعي -رحمه الله-، وطبيعته، وتعجبه من هذا التخريج هذا التعجب بهذا الترويع دليل على سخافة عقله، فمهما حصل عند العاقل اللبيب من العثور على ما زعمه لا ينبغي أن يبلغ إلى هذا المستوى أنه منقطع النظير، وإن كان أراد به أنه يحصل قبل فهو كما قلنا سخيف العقل، وفيه مبالغة، وإن عنى أنه منقطع عما سيحصل له، أو لغيره فيما يستقل فهذا تخرص وادعاء الغيب قال الله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} [لقمان: 34].
3 قوله: إنه لا يدري على أي قاعدة سار الشيخ عليها.
أقول: ليس مستغربا منك أن لا تدري بالقواعد الحديثية التي سار عليها أهل الحديث؛ لأنك لست من أهل هذا الشأن، ولا من رجاله، وخوضك فيه من باب التعالم، وقد فضحت نفسك فضيحة تبقى عليك عارها إلى ما شاء الله، فنعوذ بالله من الخزي.
4 قوله: إن هذه الأحكام للشيخ -رحمه الله- على الأحاديث يقذف بها مجرد قذف. {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} [الأنعام: 148].(1/154)
فقد حكم الشيخ على الحديث المذكور بالحسن من أجل ابن إسحاق في سنده، وابن إسحاق حسن الحديث، كما قدمنا بيانه عند شغبك السابع.
أما أنت فكلامك لا يحتاج إلى كبير نقاش لما فيه من الاستجاشة الدالة على اندفاع وعمالة لإبليس، أو لبعض جنوده.
5 قوله: إن الذي ظهر له جليا من خلال عشرات الأمثلة أن قول الشيخ -رحمه الله- (هذا حديث حسن) مصطلح خاص به ينفرد به عن أئمة الجرح والتعديل.
أقول: كلامك هذا جهل فادح، وكذب فاضح، فمن فتح «الصحيح المسند» وغيره من كتب الإمام الوادعي -رحمه الله- يرى أحكامه على الأحاديث بموجب قواعده من الصحة والحسن، أو غير ذلك، وأنه ليس أول من عبر بالحسن، فقد عبر به أئمة قدماء اشتهر ذلك عند الترمذي في «جامعه»، والبغوي في «المصابيح» و«شرح السنة» ومؤدى اصطلاح الإمام أبي داود وسائر الأئمة ومن بعدهم، ولو كلفت نفسك فتح «اختصار علوم الحديث» للحافظ ابن كثير -الذي هو من أيسر كتب المصطلح-، لعرفت أنه اصطلاح قديم، ولكنك أصبت بداء الفتور والكسل، وجعلت كسلك نقدا.
6 قوله: إن حكم الشيخ على حديث بأنه حسن يتم إلقاؤه بدون ضوابط حديثية.
أقول: هذا كلام فيه سفه وطيش، فكيف يحكم على حديث بأنه حسن، وآخر صحيح، وآخر في بعض الكتب أنه ضعيف، وله كتاب «أحاديث معلة ظاهرها الصحة»، وغير ذلك من التخصص في هذا الفن ببسالة، حتى شهد له به من يعرف الشأن، ثم يأتي الجويهل أحمد الذي لا يفهم مبادئ هذا العلم، فيعتبر أحكام الشيخ -رحمه الله- أحكاما عشوائية، فلم يعد الأمر نقدا، وإنما صار منه خبثا وحقدا، ومثل هذا لا يستحق الإكرام.
7 قوله: يبدو أنه بنظرة خاطفة إلى السند دون اعتبار لدقائق الأمور العلمية لأحوال الرجال.(1/155)
أقول: بل يبدو أنك لم تشم رائحة علم الحديث، وإنما اندفعت لإثارة زوبعة على العلامة الوادعي -رحمه الله- وصحيحه من باب: لماذا تشقني؟ قال: سل من يدقني!! وقد أسأت إلى نفسك، وإلى من يدفعك إساءة محرقة، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
8 قول الدكتور: دون أي اعتبار للمتابعات والشواهد.
أقول: أما التعليم؛ فقد علمناك فيما مضى كثيرا أن الشيخ يحكم على الحديث بما يستحقه حسب ضوابط الحديث، وقد يحكم على عدة أحاديث في الباب كما هو مبين في «الجامع الصحيح» فيحكم على ذلك بالصحة، وعلى الآخر بالحسن، وهكذا كما هو شأن كتب متعددة كثيرة ذكرنا بما يغني عن الإعادة هنا، وبعد التعليم أرى أنك بحاجة إلى تأديب وها نحن نمضي في ذلك وبالله التوفيق.
9 قوله: لا يدري طالب العلم ما قيمة إيراد طريق أبي يعلى الموصلي، وما الذي يستفيد منه بعد إيراده أيقوي به إسناد الإمام أحمد ليرتقي إلى درجة الصحة لغيره.
أقول: الشيخ -رحمه الله- ساق في «الصحيح المسند» جملة أحاديث في هذا الباب كما هي مجموعة في «الجامع الصحيح» على الأبواب (4/190 191) حكم على بعضها بالحسن، وعلى بعضها بالصحة كل حسب سنده، ومسند أبي يعلى هذا وإن سقط الحكم عليه بالصحة، فلو كنت فاهما ومنصفا لم يلتبس عليك صحة سنده.
وشرط الشيخ مبين لما علم صحة سنده، أنه لم يذكر في هذا الكتاب إلا ما صح، ولو لم يذكر عند كل حديث حكم عليه، كما هو صنيع من اشترطوا في كتبهم الصحة من المتقدمين.
والحاصل أنه قد أتى الدكتور أحمد في تدقيقه هذا بما قد يحتاج لذكره عند الفكاهات، وانفصل الدكتور بعد هذا التدقيق المذكور في الحكم على الحديث بثلاثة مذاهب:(1/156)
المذهب الأول: في أن الجيد أرفع من الصحيح كما يدل عليه قوله: هذا إذا كان السند ليس صحيحا لذاته، فكيف إذا كان جيدا رجاله كلهم ثقات، وهذا فيه أن الجيد أرفع رتبة من الصحيح، ولا أعلم من قال به غير أحمد، وإنما منهم من جعل الجيد كالصحيح، ومنهم من جعله أدنى منه قليلا، وهو الأصح.
قال السيوطي -رحمه الله- في «تدريب الراوي شرح تقريب النووي» (1/194):
فأما الجيد: فقال شيخ الإسلام يعني ابن حجر في الكلام على أصح الأسانيد لما حكي عن ابن الصلاح عن أحمد بن حنبل: أصحهما الزهري، عن سالم عن أبيه، عبارة أحمد أجود الأسانيد.
قال: وهذا يدل على أن ابن الصلاح يرى التسوية بين الجيد والصحيح، ولذا قال البلقيني بعد أن نقل ذلك: من ذلك يعلم أن الجودة يعبر بها عن الصحة، وفي «جامع الترمذي» (1) قال: هذا حديث حسن.
وكذا قال غيره: ولا مغايرة بين جيد وصحيح عندهم، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيح، وكذا القوي. اهـ
والمذهب الثاني من مذاهب الدكتور المتخبطة: أنه صحيح، كما صرح به ص (111) و (112).
والمذهب الثالث: التوقف، وعدم معرفة ما وصل إليه الحال من خلال حكم العلامة الوادعي -رحمه الله- عليه، فقال في ص (111): ثم لا يدري طالب العلم ما قيمة إيراد طريق أبي يعلى الموصلي، وما الذي يستفيد منه بعد إيراده أيقوي به إسناد الإمام أحمد ليرتقي إلى درجة الصحة....
وهذه المذاهب الثلاثة: المذهب القديم، والأوسط، والأخير، جمعها الدكتور في خلال أسطر ليس في سنين ولا أشهر، فهنيئا للدكتور وتلاميذه هذا التدقيق الملقي بذويه إلى مكان سحيق.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والثلاثون
قال الدكتور ص (114):
قال (2/310) رقم (1257): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/417):
__________
(1) بعد (2037).(1/157)
حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبدالله يعني: ابن مبارك، قال: أخبرنا الأوزاعي، قال: حدثني المطلب بن حنطب المخزومي، قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، حدثني أبي، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في غزاة فأصاب الناس مخمصة فاستأذن الناس رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلغنا الله به، فلما رأى عمر بن الخطاب أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد هم أن يأذن لهم في نحر بعض ظهرهم، قال: يا رسول الله، كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدا جياعا أرجالا، ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فتجمعها، ثم تدعو الله فيها بالبركة، فإن الله تبارك وتعالى سيبلغنا بدعوتك، أو قال: سيبارك لنا في دعوتك فدعا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحثية من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، فأمرهم أن يحتثوا فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه، وبقي مثله فضحك رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حتى بدت نواجذه فقال:((أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النار يوم القيامة)).
ثم قال: قلت: الحديث مروي في الصحيحين.
قلنا: هذا غير صحيح، فقد قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/19 20): رواه أحمد والطبراني في «الكبير» و«الأوسط» ورجاله ثقات. اهـ
وعزاه الإمام المزي في «تحفة الأشراف» رقم (1273)، إلى «عمل اليوم والليلة» للنسائي، ومن هنا قال محقق مسند أحمد: وهذا ليس على شرطه؛ لأن النسائي أخرجه.
قلنا: وفي هذا نظر، فقد اشترط الهيثمي أن يخرج في «معجمه» زوائد الكتب الستة، ومنها «المجتبى» للنسائي، وليس منها «عمل اليوم والليلة».(1/158)
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والثلاثون
قال الدكتور ص (116):
قال (2/330) رقم (1287): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (1/425):
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- المسجد فسمع قراءة رجل، فقال: ((من هذا؟)) فقيل: عبدالله بن قيس: فقال: ((لقد أوتي هذا من مزامير آل داود)). هذا حديث حسن بهذا السند. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل صحيح متواتر.
قلنا: إن هذا الحديث فيه محمد بن عمرو بن علقمة، وقد تقدم ذكر ترجمته، وأنه حسن الحديث، فلا يبلغ أن يصحح حديثه.
وقد ذكر الشيخ -رحمه الله- هذا الحديث في هذا الموضع من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وحكم على هذه الطريق بالصحة.
ومن طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وحكم عليه بالحسن.
فترك الدكتور الطريق الصحيحة، وأخذ الطريق الحسنة، ولم يشر إلى أن الشيخ صحح الحديث من طريق أخرى في نفس الصفحة.
ولا يعدو أن يكون صنيع الدكتور هذا أحد أمرين: إما جهل وغباء، وإما بتر وخيانة.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والثلاثون
قال الدكتور ص (118):
قال (2/327) رقم (1279): قال الإمام أحمد -رحمه الله- رقم (8359):
حدثنا أبو النضر. قال: حدثنا أبو عقيل. قال: حدثنا أبو حيان، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يحب الذراع)).
هذا حديث حسن رجاله رجال الصحيح إلا أبا عقيل، واسمه عبدالله بن عقيل، وقد وثقه ابن معين، وأحمد، والنسائي، وقال الغلابي: عن ابن معين منكر الحديث، وقال أبو حاتم: شيخ. اهـ مختصرا من «تهذيب التهذيب».
(فلم يكتف الدكتور بقوله في أبي عقيل بما يراه، حتى صب على الشيخ ومنهجه عدة طعونات، فقال):
هذا منهج خاطئ في تحقيق الأسانيد، والنظر إلى أحوال الرجال، والحكم على الحديث من خلاله.(1/159)
قلنا: يا دكتور! لقد اختلف قول ابن معين نفسه في أبي عقيل.
ومن أقواله فيه: أنه منكر الحديث، وهذا جرح شديد، واعتمد هذا الجرح منه الذهبي في «الميزان»، ولم يذكر عن ابن معين غير هذا.
وقال أبو حاتم عنه: شيخ، وهذه عند المحدثين من أدنى مراتب التعديل كما في مقدمة «الميزان» للذهبي.
ولخص أقوال الأئمة في حاله الإمام ابن حجر في «تقريبه» فقال: صدوق.
قلنا: وهذا هو اللائق به عند الجمع بين أقوال الأئمة فيه، وعدم إلغاء بعضها بغير حق، فعلم بذلك أن حكم العلامة الوادعي على هذا السند عند أحمد بالحسن هو المحقق المؤيد بالنظر إلى حال هذا الرجل، وأنه منهج ابن حجر، وغيره من متأخري المحققين، وقد شن أحمد التثريب على العلامة الوادعي -رحمه الله- مما اختلفت فيه نظرات أهل العلم: كابن حجر، وشيخنا، وغيرهما هذا مما يشعر أن أحمد لم يحمله على إخراج هذا الكلام النقد الذي لا ينكر، ولكن حمله على هذا الثوران انحراف في المنهج.
فلم نر هذا التوثب على علماء السنة إلا منهم، ولكن مهما كذبوا وحقروا أو طاشوا وزمجروا، فإن ذل المعصية؛ لا يفارق أعناقهم.
قال تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [يونس: 27].
هذا وإني لا أستبعد كون هذا الحديث في الصحيحين، ولا غرابة أن يوجد الخطأ في الصحيحين، أو في غيرهما، أو يحصل من شعبة، والأعمش وأمثالهما.
بينما؛ يعد أهل العلم قلة خطأ الإمام مع كثرة ما يروي من شذرات مناقبه.
قال العلامة ابن رجب -رحمه الله- في «شرح علل الترمذي» (1/110): وقال الوليد بن شجاع: سمعت الأشجعي يذكر عن الثوري قال: لا يكاد يفلت من الغلط الواحد إذا كان الغالب على الرجل الحفظ، فهو حافظ، وإن غلط.
قلت: جاء هذا الأثر ومثله على غير موازين رمز المخلطين من الدكاترة العاثرين كأحمد بن نصر الله.(1/160)
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والثلاثون
قال الدكتور ص (120):
قال (2/317) الحديث رقم (1263): قال الإمام أبو محمد الدارمي -رحمه الله- (1/437):
أخبرنا الأسود بن عامر، حدثنا زهير، عن عبدالله بن عيسى عن عيسى عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ليلى قال: كنت عند النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعنده الحسن بن علي فأخذ تمرة من تمر الصدقة فانتزعها منه، وقال: ((أما علمت أنه لا تحل لنا الصدقة)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلا عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وقد وثقه ابن معين كما في «تهذيب الكمال» و«والخلاصة» وزهير بن معاوية. اهـ
قلت: الحديث أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» من طريق أبي هريرة -رضي الله عنه-.
قلت: تقدم الجواب عنه مرارا: أن الحديث على هذا الحال يعتبر زائدا على الصحيحين، وأن القول أنه فيهما من حديث أبي ليلى خطأ واضح، فلم يذكر الحافظ المزي في «تهذيب الكمال»، ولا في «تحفة الأشراف» لأبي ليلى هذا والد عبدالرحمن رواية في الصحيحين، والحديث في «مسند أحمد» (4/348)، وعزاه البوصيري في «إتحاف الخيرة» (3/384) إلى أحمد.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والثلاثون
قال الدكتور ص(122):
قال (1/37) الحديث (17): قال أبو داود -رحمه الله- (1/87):
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن قتادة عن أبي المليح، عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا يقبل الله عز وجل صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور)).
هذا حديث صحيح، وقد ألزم الدارقطني البخاري ومسلما أن يخرجاه.
الحديث أخرجه النسائي (1/87) (5/56)، وابن ماجه (1/100). اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ وغفلة كبيرة، وقد انساق الشيخ مقبل وراء الدارقطني في هذا الوهم، فقد أخرج مسلم في «صحيحه» هذا الحديث بالنص، ثم إنه حديث متواتر على ما سيتبين بإذن الله تعالى.(1/161)
قلت: فعلا أنها غفلة بل تيه منك إذ أن الحديث في مسلم عن عبدالله بن عمر، وهنا عن أسامة بن عمير، ثم أنت تعارض الأئمة كالدارقطني وغيره، وتحكم عليهم بالغفلة والوهم بلا وازع من الورع.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والثلاثون
قال الدكتور ص (124):
قال (1/56) رقم (54): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/141):
حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني ثابت البناني، حدثني أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلا فقال: ((احتفظي به))، قال: فغفلت حفصة ومضى الرجل، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال: ((يا حفصة، ما فعل الرجل؟))، قالت: غفلت عنه يا رسول الله، فخرج فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((قطع الله يدك))، فرفعت يديها هكذا فدخل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((ما شأنك يا حفصة؟))، فقالت: يا رسول الله قلت قبل لي: كذا وكذا، فقال: ((لها صفي يديك فإني سألت الله عز وجل أيما إنسان من أمتي دعوت الله عز وجل عليه، أن يجعلها له مغفرة)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ، فالحديث بكل مقاييس التحقيق صحيح.
قلت: القول بأن زيد بن الحباب صدوق هو الصواب عندي وذلك؛ لأنه وثقه جماعة.
وقال أبو حاتم: صدوق صالح.
وقال أحمد: كان صدوقا كثيرا الخطأ.
وقال ابن معين: كان يقلب حديث الثوري، وكان لا بأس به، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: يخطئ يعتبر حديثه إذا روى عن المشاهير، وأما روايته عن المجاهيل، ففيها المناكير.
وقال ابن قانع: كوفي صالح ذكر هذا الحافظ في «التهذيب»، ونقل ابن رجب في «ملحق شرح العلل» (2/671) عن أحمد أنه قال: هو كثير الخطأ.(1/162)
ومثله حسين بن واقد، فقد ذكر ابن رجب في «ملحق العلل» (2/723)، قال: فأما إن كان المنفرد عن الحفاظ سيء الحفظ؛ فإنه لا يعبأ بانفراده، ويحكم عليه بالوهم، وذكر من أمثلة ذلك مخالفته لحماد بن سلمة في ثابت في حديث أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحب فلانا قال: ((أعلمته؟))، قال: لا...إلخ.
قال: هكذا رواه حماد بن سلمة أي: عن ثابت، عن حبيب بن أبي سبيعة، عن الحارث، أن رجلا قال: فذكره، وهو أحفظ أصحاب ثابت أي: لحديثه وأثبتهم في حديثه، وخالفه من لم يكن في حفظه بذالك من الشيوخ الرواة عن ثابت كمبارك بن فضالة، وحسين بن واقد ونحوهما، فرووه عن ثابت، عن أنس عن النبي، وحكم الحفاظ هنا بصحة قول حماد، وخطأ من خالفه.
قلت: ولم يذكر في «تهذيب التهذيب» عن أحد وثقه غير ابن معين، واختلف النقل عن أحمد فيه، فنقل الأثرم أنه قال: لا بأس به.
وقال عبدالرحمن بن أحمد، عن أبيه: ما أنكر حديث حسين بن واقد.
وقال الأثرم أيضا : قال أحمد في أحاديثه زيادة ما أدري ليش هي ونقض يده.
وقال ابن سعد: حسن الحديث.
وقال أبو داود: ليس به بأس.
وقال الساجي: فيه نظر، وهو صدوق يهم.
قلنا: ترجح بهذا أنه حسن الحديث جمعا بين الجرح والتعديل، وانظر نقولات جميلة عن المسلك الحسن عن تعارض الجرح والتعديل في مقدمة «لسان الميزان» لابن حجر (1/22)، فهذه مقاييس التحقيق الصحيح التي يصدق عليها قول الشاعر:
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فصار بعد أبوالا
أما مقاييس الدكتور فمرجوحة، أثقلت كفة الخطأ فيها: الجهل والهوى.
الجواب على دعواه: الخطأ الأربعون
قال الدكتور ص (126):
قال (1/47) رقم (36): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (4/567):
حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله بن بزيع، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لو أهدي إلي كراع لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت)). اهـ(1/163)
قال الدكتور: هكذا أورد الحديث ولم يعلق عليه بشيء؛ لبيان درجته، أما قول: (حديث أنس حديث حسن صحيح)، فهذا قول الإمام الترمذي في «سننه»، والشيخ مقبل غفر الله لنا وله يفعل هذا كثيرا في كتابه، لا يعلق على الحديث ليبين درجته، ويترك تعليق الترمذي، أو الحاكم مثلا حتى يظن الغافل الذي ليس له دراية بعبارات المحدثين، أن هذا الحكم أو التعليق لصاحب «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين»، وإنما في الحقيقة يكون للإمام الترمذي، أو الحاكم، وسيأتي من ذلك أمثلة كثيرة، وفي الحقيقة هذا نوع من الغرر.
قلت: وفي الكلام المذكور أن الشيخ -رحمه الله-: ...
1 لم يحكم على الحديث، ولم يبين درجته، وهذا عمى أو تعامي عن الحكم الذي ارتضاه الشيخ على الحديث، وهل هناك مانع علمي في اتفاق الأحكام، أو إقرار المتأخر لحكم إمام متقدم؟.
2 قوله: والشيخ يفعل هذا كثيرا في كتابه.....إلخ
قلت: انظر إلى الحقد الدفين، والمكر المشين، من الدكتور أحمد بن نصر الله! كيف يدس الطعون الكاذبة الخاطئة على «الصحيح المسند»، ومؤلفه العلامة المحدث الوادعي -رحمه الله-، فقد خرج الشيخ -رحمه الله- في «صحيحه» -هذا- من سائر السنن الأربع، وعدد كبير من المسانيد،ولم يذكر الدكتور إلا من علم بالتساهل في الأحكام على الأحاديث: كالحاكم، مع أنه لا ذكر له هنا، وهو يلمح بهذا إلى أن أحاديث «الصحيح المسند» من ذلك النحو في الأحكام ليس منصب الشيخ -رحمه الله- من كثير منها إلا مجرد النقل بدون نظر إلى حال الحديث، فما أشد بعد الدكتور عن العدل والإنصاف، وما أولعه بالغلو والإجحاف.
ولم يقف الدكتور عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى رمي الشيخ -رحمه الله- بأن صنيعه هذا من إقرار حكم الترمذي على ما هو عليه، حسب ضوابط علم الحديث أن هذا تغرير بالمسلمين.(1/164)
قلنا: وأين التغرير في هذا الحكم الواضح على الحديث؟، لكن الرجل لا يفتأ جادا في رمي الشيخ بكل ما يجده من حجر ومدر، ويسلقه بلسان تلهب منها نار الحقد والشر.
ولو وفق الدكتور لدراسة مثل «أخلاق العلماء» للآجري، و«مقدمة سنن الدارمي»، و«جامع بيان العلم» لابن عبدالبر ونحوهما من الكتب المفيدة، وتحلى بما علمه منها من توقير أهل العلم وملازمة الأدب معهم، والتزام أدب الاستدراك، لكان ذلك أدعى إلى تحمل جهالاته، والصبر على غروره ومتاهاته، لكن الدكتور لم يوفق لذلك، فأتى من الأقاويل على شيخنا و«صحيحه» بما لا يطاق، فكان لا بد من الانتصار لإمام محدث مظلوم، والأخذ على يد المتطاول أحمد بن نصر الله الظالم الغشوم.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والأربعون
قال الدكتور ص (127):
قال (1/48) رقم (39): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (1/115):
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عبدة، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما سبق كان الشبه له))، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث أخرجه مسلم في «صحيحه» من طرق بألفاظ أتم من سياق النسائي ( ثم ساقه من حديث أنس وقال بالتخمين): الظاهر أن حديث أنس الذي رواه النسائي هو اختصار حديث مسلم كما يبدو من السياق.
قلت: الحديث هذا عن أنس. قال ابن الأثير في «جامع الأصول» (7/279): أخرجه النسائي، وكذا أخرجه ابن حبان (14/63) –الإحسان- من طريق إسحاق به بهذا اللفظ، ولكن أخرج قبله الحديث عن أنس أن أم سليم، وقال الحميدي في «الجمع بين الصحيحين» (2/637): وأخرجه مسلم أيضا من حديث ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس أن أم سليم حدثت أنها سألت نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن امرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. الحديث.(1/165)
هكذا فيما عندنا من كتب مسلم، وهو على هذا يقع في مسند أم سليم، ولكن قد أخرجه أبو مسعود في ترجمة سعيد، عن قتادة، عن أنس في مسند أنس. اهـ
قلت: هو عند مسلم رقم (311)، وأن الحديث الذي في «الصحيح المسند» عن أنس أصله في مسلم بالرقم المذكور وفيه: ((ماء الرجل..)).. إلخ.
ومما يؤخذ على أحمد كسله عن البحث في بطون الكتب للتوصل إلى ما يقرره الأئمة، وإنما أحكامه مبنية على التخمينات، والظنون، فصار شأنه كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- في البخاري رقم (5762)، ومسلم رقم (2228)، واللفظ له: ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبه))، ولهذا تلاحظ أنه إذا وافق ما قاله إمام في بعض المواضع وافقه صدفة لا عن بحث وتتبع(1)، ولكن لعل هذا يكون حافزا له لمراحل أخرى أنه إذا أراد أن يستدرك أن يترك مجرد التخمينات والتخيلات، ويعتمد على الأدلة وأقوال أهل الشأن، حتى يصح عليه إطلاق اسم مستدرك، أما على هذا الحال، فيصح عليه إطلاق مخمن ومتخيل.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والأربعون
قال الدكتور ص (129):
قال (1/50) رقم (42): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (5/388):
__________
(1) انتقد بعضهم لفظة: صدفة انتقادا في غير موضعه انظر مادة صدفة من معجم ألفاظ الحديث ترتيب محمد فؤاد عبدالباقي.(1/166)
حدثنا أبو عمار، حدثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو، حدثنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: قدم أنس بن مالك فأتيته فقال: من أنت؟ فقلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ قال: فبكى وقال: إنك لشبيه بسعد، وإن سعدا كان من أعظم الناس وأطولهم، وإنه بعث إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جبة من ديباج منسوج فيها الذهب فلبسها رسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فصعد المنبر فقام أو قعد، فجعل الناس يلمسونها فقالوا: ما رأينا كاليوم ثوبا قط فقال: ((أتعجبون من هذه؟ لمناديل سعد في الجنة خير مما ترون)). هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبدالرحمن وهو الشيخ مقبل : هو حديث حسن، ومحمد بن عمرو هو محمد بن عمرو بن علقمة. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث صحيح ثابت، ورجاله ثقات رجال مسلم.
قلت: تقدم النقل عن الأئمة في محمد بن عمرو بن علقمة الذي من أجله حسن الحديث رقم (4) من هذا الكتاب.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والأربعون
قال الدكتور ص (131):
قال (1/50) رقم (43): قال الإمام النسائي -رحمه الله- في «عمل اليوم والليلة» ص(439):
أخبرنا عبيد الله بن عبدالكريم قال: ثنا علي بن عبدالحميد، قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت عن أنس قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في مسير له، فنزل ونزل رجل إلى جانبه فالتفت إليه، فقال: ((ألا أخبرك بأفضل القرآن؟)) قال: فتلا عليه {الحمد لله رب العالمين}(1).
هذا حديث صحيح، فعبيدالله بن عبدالكريم هو الحافظ الكبير أبوزرعة، وعلي بن عبدالحميد هو المعني وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة كما في «تهذيب التهذيب». اهـ
قال الدكتور: قلت: هكذا كالعادة قد أغفل الشاهد القوي للحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
__________
(1) ... سورة الفاتحة، الآية: 2.(1/167)
قلت: يا دكتور، هل تعرف أن المؤمنين عند شروطهم، إذا عرفت ذلك فإن الشيخ -رحمه الله- أخرج الحديث بما هو على شرطه، وترك ما ليس على شرطه، ولم يغفل ما في الصحيح عن أبي سعيد بن المعلى، لا هو ولا سائر من ألف في هذا الصدد، يخرجون ما على شروطهم، ولم يقل أحد له فهم صحيح: إنه قد أغفل ما في الصحيح، وأفيدك بأنه قد عزا هذا الحديث الحافظ المنذري في «الترغيب» رقم (2151) إلى ابن حبان، والحاكم، ولم يعزه إلى البخاري، وإنما عزا حديث ابن المعلى إلى البخاري، ولم يتعقبه الذهبي في تلخيصه على «المستدرك» (1/560)، وكذا عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (1/5) عزاه إلى خارج الصحيح، كما صنع ذلك العلامة الألباني في «الصحيحة» (1499)، فهل كل هؤلاء أغفلوا وأنت انتبهت؟.
أنا لك ناصح يا دكتور، أن تهون من هذا التيه والغرور، وانظر مقدار الدكاترة المجعجعين من أمثالك عند أهل العلم الراسخين.
قال العلامة الألباني -رحمه الله- في «سلسلته الصحيحة» نفع الله بها تحت حديث الذباب رقم (39) ((أحد جناحيه داء)):
وبهذه المناسبة فإني أنصح القراء الكرام بأن لا يثقوا بكل ما يكتب اليوم في بعض المجلات السائرة، أو الكتب الذائعة من البحوث الإسلامية، -وخصوصا ما كان منها في علم الحديث-، إلا إذا كانت بقلم من يوثق بدينه أولا، ثم بعلمه واختصاصه فيه ثانيا، فقد غلب الغرور على كثير من كتاب العصر الحاضر، وخصوصا من يحمل منهم لقب (الدكتور)!، فإنهم يكتبون فيما ليس من اختصاصهم، وما لا علم لهم به. اهـ
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والأربعون
قال ص (132):(1/168)
قال (1/51) الحديث رقم (46): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/124): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبدالعزيز بن صهيب، وقال مرة أخبرنا عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك قال: كان معاذ بن جبل يؤم قومه فدخل حرام، وهو يريد أن يسقي نخله، فدخل المسجد ليصلي مع القوم، فلما رأى معاذا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه، فلما قضى معاذ الصلاة قيل له: إن حراما دخل المسجد، فلما رآك طولت تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه: قال: إنه لمنافق أيعجل عن الصلاة من أجل سقي نخله؟! قال: فجاء حرام إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومعاذ عنده فقال: يا نبي الله، إني أردت أن أسقي نخلا لي فدخلت المسجد لأصلي مع القوم، فلما طول تجوزت في صلاتي ولحقت بنخلي أسقيه فزعم أني منافق، فأقبل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على معاذ فقال: ((أفتان أنت؟ أفتان أنت؟ لا تطول بهم؛ اقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، ونحوهما)).
هذا حديث حسن على شرط الشيخين.
الحديث أخرجه النسائي في «التفسير» (2/269) فقال: أنبأنا عمرو بن زرارة أنبأنا إسماعيل به. اهـ
قال الدكتور: قلت: عزا الحديث للنسائي في التفسير، ونسي أن يعزوه للبخاري ومسلم، حيث قد أخرجاه في صحيحيهما.
قلت: قول الدكتور: ونسي أن يعزوه للبخاري ومسلم.
النسيان له معنيان: الأول: الذهول. الثاني: الترك.
فإن أراد الدكتور أن الشيخ ذهل عن عزو هذا الحديث إلى البخاري ومسلم، فهذا ادعاء لأمر غيبي، وما يدريه أنه ذهل عنه.
وإن أراد أن الشيخ تعمد تركه فما وجه الانتقاد عليه إذا تحرى الوفاء بشرطه أنه لا يذكر حديثا وهو في الصحيحين أو أحدهما؟
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والأربعون
قال ص (134):
قال (1/53) الحديث رقم (49): قال الحاكم -رحمه الله- (1/91):(1/169)
حدثنا علي بن حمشاد العدل في مسند أنس، ثنا يحيى بن منصور الهروي، ثنا أحمد بن نصر المقري النيسابوري، وأخبرني أبو الحسن محمد بن عبدالله الجوهري، ثنا محمد بن إسحاق الإمام، حدثني أحمد بن نصر، ثنا شريح بن النعمان، ثنا أبو عوانة، عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((منهومان لا يشبعان: منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع)) هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ولم أجد له علة. اهـ
الحديث أخرجه البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» ص (300) من طريق الحاكم به. اهـ
قال الدكتور: قلت: هكذا ترك الحديث بدون تعليق يبين مدى صحة الحديث، أو عدم صحته، لا سيما وقد علم أن تصحيح الحاكم متعقب، من قبل أهل الحديث إذ أثبتوا له أوهاما كثيرة، هذه واحدة.
الثانية: أن الحديث رغم تأكيد الحاكم بأنه لم يجد له علة؛ فيه علة لم يتم التنبيه عليها والإشارة إليها، ألا وهي: أن قتادة على جلالة قدره ومكانته مدلس، وقد عنعن في السند فهي علة ظاهرة، والبخاري -رحمه الله- كان ينتقي من أحاديث الرواة الذين وجهت إليهم شيئا من الاتهامات كتدليس، أو عدم ضبط أو غير ذلك.
والحديث رواه البيهقي في «شعب الإيمان» وقد أثبت الشيخ الألباني العلة في سند الحاكم، ولكنه صحح الحديث من طريق آخر، وأورد له شاهدا، وقال: وأما حديث أنس الثاني وهو: ((منهومان....)) فقد رواه من هو أعلى طبقة من البيهقي وهو شيخه الحاكم، أخرجه في «المستدرك» (1/92) من طريق قتادة، عن أنس مرفوعا، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم أجد له علة، ووافقه الذهبي، قلت أي: الشيخ الألباني علته أن قتادة مدلس، وقد عنعنه، لكن الحديث عندي صحيح، فإن له طريقا أخرى عن حميد عن أنس عند ابن عدي، وابن عساكر، وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي خيثمة في «العلم» (ق193/1) وسنده لا بأس به في الشواهد. اهـ «مشكاة المصابيح» (1/86).(1/170)
وعليه؛ فإن سند الحاكم كان يجب التنبيه عليه وعدم السكوت، والسعي لتصحيح الحديث بطريق، أو شاهد يجبره كما فعل الشيخ الألباني.
قلت: قوله: هكذا ترك الحديث بدون تعليق يبين صحة الحديث، أو عدم صحته.
بيان هذا التلبيس تقدم عند قوله: الخطأ الأربعون.
وأما إعلال الحديث بعنعنة قتادة عن أنس فإليك بيان ذلك من وجوه:
أولها: أن البخاري ومسلما قد أكثرا إخراج حديث قتادة عن أنس ذكر الحافظ المزي -رحمه الله- في «تحفة الأشراف» روايته عن أنس في الصحيحين، أو أحدهما في أكثر من مائتي طريق عنعن في كثير منها، وهذا يدل على عدم تحرج هذين الإمامين من إخراج ما فيه عنعنة قتادة عن أنس مع ما هو معلوم من شرطهما في السماع وبالأخص ما علم من دقة شرط البخاري في ذلك.
ثانيها: قد ذكر السيوطي في «تدريب الراوي» (1/96) تحت قول النووي: أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، وهما أصح الكتب بعد القرآن، والبخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد، وقيل: مسلم أصح، والصواب الأول. اهـ
ذكر السيوطي ستة وجوه؛ لترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم:
ومنها: أن الأحاديث التي انتقدت عليهما نحو مائتي حديث. اهـ
قلت: ولا نعلم في واحد منهما أعله الحفاظ الذين تتبعوا الصحيحين كالدارقطني وغيره لمجرد عنعنة قتادة فيه.
ثالثها: أن قتادة موصوف بأنه من أثبت الناس في أنس، نص على ذلك غير واحد من الأئمة كما في «الجرح والتعديل» (2/449)، «وسؤالات الآجري لأبي داود» (1/445) وفي ترجمة ثابت من «تهذيب التهذيب» قال: وقال أبو حاتم أثبت أصحاب أنس الزهري، ثم ثابت، ثم قتادة. اهـ وكون الراوي قيل فيه أنه أثبت، أو من أثبت الناس في ذلك الشيخ، فهذا له مزيد اعتبار، حتى ولو كان الراوي فيه ضعيفا في الجملة، ونصوا بهذا على شيخ له بعينه، فإنه يقبل حديثه عن ذلك الشيخ. انظر تنصيصهم على قبول رواية عبدالرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة كما في ترجمة عبدالرحمن من «التهذيب».(1/171)
ثم إن قتادة مذكور ممن لا يدلس إلا عن ثقة.
قال الحافظ العلائي في «جامع التحصيل» ص(99) بتحقيق حمدي السلفي قال: وقد قسم الحاكم أبو عبدالله في كتابه «علوم الحديث» أجناس المدلسين إلى ستة أقسام، وبعضها متداخل:
فأولها: التابعون الذين لا يدلسون إلا عن ثقة مثلهم، أو أكبر: كأبي سفيان طلحة بن نافع وقتادة.
وقال ص (101): وأما على القول الراجح من الفرق بين من عرف منه أنه لا يرسل إلا عن ثقة وغيره، فكذلك المدلس، فكل من عرف منه أنه لا يدلس إلا عن ثقة يقبل منه ما قال فيه (عن) ونحوه دون غيره.
وقال ص (102): وقد روى عبدالرحمن بن مهدي عن شعبة أنه قال: كنت أنظر إلى فم قتادة فإذا قال: حدثنا كتبت، وإذا قال: حدث لم أكتب، لكن هذا قد لا يرد على الحاكم، لأن شعبة كان لا يقبل التدليس مطلقا سواء كان عن ثقة، أو لم يكن. اهـ
وقال الإمام ابن حبان في مقدمة «صحيحه» -الإحسان- (1/151): وأما شرطنا في نقله ما أودعناه كتابنا هذا من السنن، فإنا لم نحتج فيه إلا بحديث اجتمع كل شيخ من رواته خمسة أشياء:
1 العدالة في الدين بالستر الجميل.
2 الصدق في الحديث بالشهرة فيه.
3 العقل بما يحدث من الحديث.
4 العلم بما يحيل من معاني ما يروي.
5 المتعري خبره عن التدليس.
وفي ص (154) في سياق انتقاده على البخاري في تركه لحديث سماء بن سلمة قال: فإن قال: كان حماد يدلس، يقال له: فإن قتادة، وأبا إسحاق السبيعي، وعبدالملك بن عمير، وابن جريج، والأعمش، والثوري، وهشيما كانوا يدلسون، واحتججت بروايتهم، فإن أوجب تدليس حماد في روايته ترك حديثه، أوجب تدليس هؤلاء الأئمة ترك حديثهم. اهـ
قلت: قال الحافظ في مقدمة «الفتح» (549): فحكم من ذكر من رجاله بتدليس، أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة، فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض، وإلا فلا. اهـ(1/172)
قلت: والقصد من ذلك أن ابن حبان على شرطه هذا قد أخرج في «صحيحه» عددا كبيرا عن أنس بالعنعنة، مما يدل على أنه يرى أن هذا ليس ناقضا لشرطه، إذ عنعنة قتادة عن أنس محمولة على السماع منه، إلا إذا نص إمام أنه دلس في حديث بعينه، هذا إن وفى بشرطه، وهذه جملة من الأحاديث التي عنعن فيها قتادة عن أنس في «صحيح البخاري» من طريق شعبة وغيره، ولم نر للحافظ ولا لغيره من شراح الصحيح تحريا لنقدها؛ بأنها معلة بعنعنته، مما يفيد أنهم يغضون الطرف عنها. انظر عدد ذلك بأسانيدها في «جامع المسانيد» لمحمد فؤاد عبدالباقي مسند أنس.
وأما الحافظ فمما يدل على ذلك عدم تضعيفه لحديث عبدالله بن سرجس من طريق قتادة في البول في الجحر رقم (134) من «التلخيص الحبير» ونقل تصحيحه عن ابن خزيمة، وابن السكن، وإنما تراهم يتكلمون عن سماعه من شيخه ذلك، فإن علم سماعه منه جملة أعرضوا عن عنعنته، وهذا حال كثير من الأئمة كما في «جامع التحصيل» للعلائي.
وقد نص الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/637) في من هم في طبقة قتادة في التدليس فقال: وحديث سفيان، وأبي إسحاق، والأعمش ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة.
قلت: وأبو إسحاق وقتادة ذكرهما الحافظ في مراتب المدلسين من الثالثة.
وقال السندي في حاشيته على الحديث: قد صحح أبو زرعة سماعه من عبدالله بن سرجس.
قلت: هذا مما يدل أن أبا زرعة لم ير عنعنة قتادة عن عبدالله بن سرجس مضرة، وأثبت سماعه منه، وقد ذكر ابن أبي حاتم في «المراسيل» رقم (619) أن هذا الحديث ما يرويه غير قتادة عن عبدالله بن سرجس.
قلت: وهذا مصير عدد من فحول المحدثين.
قال العلامة الألباني في «الصحيحة» ص (109):
فإن عنعنة قتادة مغتفرة لقلتها بالنسبة لحفظه، وكثرة حديثه، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في ترجمته من «مقدمة الفتح»، بقوله: ربما دلس، وكأنه لذلك لم يذكره هو في «التقريب» بتدليس، وكذلك الذهبي في «الكاشف».(1/173)
قلت: ولعل الشيخ الإثيوبي وفقه الله لم يقف على هذا الكلام عن العلامة الألباني لذا نقل إعلاله لحديث عبدالله بن سرجس كما في «تمام المنة» بعنعنة قتادة، في شرحه على «سنن النسائي» (1/383)، ولم يتعقبه.
وقال العلامة ابن باز كما في كتاب «أقوال سماحة الشيخ في الرجال» للسنيد ص (20): قتادة مدلس، ولكن الأصل عدم التدليس إلا إذا دل الدليل أنه دلس أي: نص إمام أنه دلس.
قلت: وهذا قول شيخنا -رحمه الله- وهو قول قوي، ذكر السخاوي في «فتح المغيث» (1/218) بتحقيق علي بن حسن بن علي:
أن أكثر العلماء أن المعنعنات التي في «الصحيحين» منزلة منزلة السماع يعني إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة،(1) أو عن بعض شيوخه، أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها. اهـ
وقال السخاوي (1/219): وإما ما أشار إليه شيخنا من إطلاق تخريج أصحاب الصحيح لطائفة منهم، حيث جعل منهم قسما احتمل الأئمة تدليسه، وخرجوا له في الصحيح لإمامته وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري....، وابن عيينة... اهـ
قلت: والكاف للتشبيه فيلحق بهم من قد ذكروا أنه كذلك، وممن ذكروه قتادة كما مضى.
قال السخاوي: وكلام الحاكم يساعده، فإنه قال: ومنهم جماعة من المحدثين المتقدمين والمتأخرين، مخرج حديثهم في الصحيح، إلا أن المتبحر في هذا العلم يميز بين ما سمعوه، وبين ما دلسوه.
قلت: وهذا عائد إلى نصوص الحفاظ فما نصوا أن فلانا دلسه، فهو كذلك وإلا حمل على الاتصال، كما قال هؤلاء العلماء رحمهم الله .
وبهذه المناسبة يحسن أن أنقل هنا كلاما نفيسا للإمام ابن القيم في «زاد المعاد» (5/220) من باب المثل المذكور إياك أعني واسمعي يا جارة،(2) قال -رحمه الله- بعد سوق الأقوال في حكم طلاق الحائض:
__________
(1) راجع ما نقل عن قتادة في هذا الفصل.
(2) أول من قال هذا سهل بن مالك الفزاري، وله قصة مذكورة في «مجمع الأمثال» للميداني (1/80).(1/174)
فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة الضيقة المعترك، الوعرة المسلك، التي يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان، وتتضاءل لدى صولتها شجاعة الشجعان، وإنما نبهنا على مأخذها وأدلتها، ليعلم الغر الذي بضاعته من العلم مزجاة، أن هناك شيئا آخر وراء ما عنده، وأنه إذا كان ممن قصر في العلم باعه، فضعف خلف الدليل، وتقاصر عن حنى ثماره ذراعه، فليعذر من شمر عن ساق عزمه، وحام حول آثار رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وتحكيمها، والتحاكم إليها بكل همة، وإن كان غير عاذر لمنازعه في قصوره، ورغبته عن هذا الشأن البعيد، فليعذر منازعه في رغبته عما ارتضاه لنفسه من محض التقليد، ولينظر مع نفسه أيهما هو المعذور، وأي السعيين أحق بأن يكون هو السعي المشكور والله المستعان، وعليه التكلان، وهو الموفق للصواب، الفاتح لمن أم بابه طالبا لمرضاته من الخير كل باب. اهـ
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والأربعون
قال الدكتور ص (135):
قال (1/61) رقم (68): قال الإمام البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (1/281):
حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، ثنا يحيى بن كثير، ثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة)) هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه مسلم في «صحيحه» ضمن حديث.
قلت: ثم ذكر الحديث الذي أشار إليه أنه في مسلم من حديث أبي ذر، وليس عن أنس، وحديث أنس ذكره الهيثمي في كتابه «كشف الأستار»، الذي اشترط فيه أن لا يكون الحديث الذي يذكره فيه إلا زائدا على الكتب الستة، ومنها «الصحيحان»، وعزاه أيضا الشوكاني في «نيل الأوطار» (2/209) إلى البزار فقط.
وقال: قال العراقي: رجاله ثقات.
وقال محقق مسند أحمد: بعد حديث أبي هريرة (2/299)، ويشهد له حديث أنس عند البزار، وإسناده قوي.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والأربعون(1/175)
قال الدكتور ص (137):
قال (1/61) الحديث رقم (69): قال الإمام البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (1/249):
حدثنا يعقوب بن إسحاق، ثنا الضحاك بن مخلد، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)).
قال الإمام البزار: لا نعلمه عن أنس إلا من هذا الوجه، تفرد به أبو عاصم عن سعيد. اهـ
قال أبو عبدالرحمن يعني الشيخ مقبل : الحديث صحيح رجاله رجال الصحيح إلا يعقوب بن إسحاق، وهو القلوس ترجمته في «الأنساب» للسمعاني وقال: وكان حافظا ثقة ضابطا. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ إذ أن في هذا السند علة ظاهرة أغفلها، وهي عنعنة قتادة، وهو ابن قدامة السدوسي، فمع ثقته وفضله إلا أن أهل الحديث ذكروا له تدليسا فلا يطمأن للحديث إلا بتصريحه بالسماع، وهو في السند قد عنعن، وهي عبارة محتملة للسماع وعدمه.
ولم يكن ثمة داع لإيراد الحديث أصلا، وكان يجب العلم بأنه بنفس النص في الصحيح، وبسند عال قد عبر القنطرة كما يقولون، فالاشتغال برواية البزار مما لا طائل وراءه.
وقد أخرج الحديث الإمام مسلم في «صحيحه» بنفس النص، (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
قلت: أما الكلام على عنعنة قتادة، فتقدم قريبا عند قول الدكتور: الخطأ الخامس والأربعون.
والمراد بيانه هنا قوله: ولم يكن ثمة داع لإيراد الحديث أصلا...
أقول: هذه السنن الصحيحة مما بعث الله بها رسوله، وكان الرجل من أهل الحديث يرحل من أجل حديث واحد من قطر إلى قطر.
قال الإمام البخاري -رحمه الله- في «صحيحه» كتاب العلم باب: الخروج في طلب العلم، ورحل جابر بن عبدالله مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في حديث واحد.
وحديث رحلة جابر حسن كما بينته في كتابي «الرياض المستطابة في صحيح مفاريد الصحابة» رقم (94).(1/176)
وأخرج البخاري في مواضع من صحيحه منها رقم (3011)، ومسلم رقم (154) من حديث الشعبي قال: حدثني أبو بردة بن أبي موسى الأشعري أنه سمع أبا موسى عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل تكون له أمة فيعلمها، فيحسن تعليمها، ويؤدبها فيحسن أدبها، ثم يعتقها، فيتزوجها فله أجران، ومؤمن من أهل الكتاب آمن بنبيه، فله أجران، والعبد يؤدي حق الله وحق سيده)).
ثم قال الشعبي: أعطيناكها بغير شيء، وقد كان الرجل يرحل في أهون منها إلى المدينة.
وفي الصحيحين: عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم: كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا، ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
وهذه السنة كلها، سواء في ذلك أحاديث الصحيحين، أو ما صح في خارجهما كلها من هدي الله، قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3 4].
فالمؤمن الذي أراد نفعه بما بعث به رسوله الكريم، يرفع رأسه بهذه الأحاديث الثوابت سواء في «الصحيحين»، أو خارجهما فيعلم، ويعلم.
أما الدكتور وأمثاله فحرب على هذا الهدى الثابت في خارج الصحيح، وهذه تعتبر جناية وعدوا على ثروة المسلمين العلمية الهائلة.
وقد أخرج مسلم في «صحيحه» رقم (140):(1/177)
حدثني أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا خالد يعني ابن مخلد ، حدثنا محمد بن جعفر عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((فلا تعطه مالك))، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله))، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد))، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)).
قلت: وتالله للعدو على ثروة المال أهون علينا من العدو على سنن يقوم عليها ديننا، استتارا بالصحيحين كما استتر الروافض بحب علي -رضي الله عنه- وعدد يسير من آل البيت الذين لا يكفي ما رووه من السنة عشر معشار الشريعة، وطعنوا في سائر الصحابة، وردوا عموم أحاديثهم فما أشبه الليلة بالبارحة!.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والأربعون
قال الدكتور ص (138):
قال (1/62) الحديث رقم (71): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (1/414):
حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا عبدالله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك: ((أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى العيد بالمصلى مستترا بحربة)). هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد ورد الحديث في الصحيحين.
قلت: يكفي هنا أن نثبت للقراء أن هذا الحديث عن أنس لم يخرجه أحد الشيخين كما في «تحفة الأشراف» رقم (1658).
وقال البوصيري في «زوائد ابن ماجه»: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والأربعون
قال الدكتور ص (140):
قال (1/71) الحديث رقم (88): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (6/58):(1/178)
حدثنا عبدالواحد، حدثنا غسان بن برزين يعني الطهوي، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: غدا أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذات يوم فقالوا: يا رسول الله، هلكنا ورب الكعبة. فقال: ((وما ذاك؟)) قالوا: النفاق، النفاق. قال: ((ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله؟)) قالوا: بلى. قال: ((ليس ذاك النفاق)) (ثم ساقه بطوله إلى قول الشيخ): هذا حديث حسن، وعبدالواحد هو ابن غياث. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ في الحكم على الحديث بالحسن، إنما هو صحيح بهذا السند فرجاله ثقات لا مطعن فيهم. (ثم ذكر ترجمة عبدالواحد وغسان وأنهما ثقتان).
قلت: غسان بن برزين، قال عنه ابن حبان: كان يخطئ.
وقال عنه الذهبي في «الميزان»: رأيت له حديثا منكرا، وذكر هذا الحديث عن أنس.
وقال الحافظ في «التقريب»: صدوق ربما أخطأ.
وكون ابن حبان نص أنه يخطئ، فإنه لم يقل ذلك بهوى، وما ترى من استنكار الذهبي لحديثه يؤيد قول ابن حبان، لا سيما وهو مقل في الرواية، فليس له ما يغتفر خطؤه فيه، كما يقال في خطأ الأئمة المكثرين مثل: معمر بن راشد، فإن له أخطاء عديدة، إلا أنها اغتفرت في جانب ما روى، فلم ينزل عن رتبة من يصحح حديثه.
والحديث عن أنس صحيح له طرق إلى ثابت في حاشية مسند أبي يعلى، وإنما الشأن في تصحيح طريق غسان هذا، لما تقدم من حال غسان، وإنكار الذهبي الحديث عليه.
فكان حكم الشيخ -رحمه الله- الذي ارتضاه من أن غسان صدوق أقرب إلى الصواب، ولكن حديثه هذا استنكره الذهبي، والحديث عن أنس قد جاء من غير طريقه.
الجواب على دعواه: الخطأ الخمسون
قال الدكتور ص (140):
قال: الحديث رقم (81): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (7/185):(1/179)
حدثنا عمر بن شبة، حدثنا أبو بكر بن مروان بن الحكم بن يزيد بن عمير الأسيدي، حدثنا عبدالوارث بن سعيد، عن شعيب بن الحبحاب، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من صلى على جنازة كتب له قيراط، فإن انتظر حتى يقضى قضاها كتب له قيراطان)). هذا حديث حسن. اهـ
قلت: بل هو حديث صحيح، وكما ذكرنا من قبل أنه منهج خاطئ في التخريج والحكم على الأحاديث، والصواب من الناحية العلمية الحديثية أن يقال: هذا إسناد حسن. هذه واحدة.
الثانية: أن الحديث أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» أصح إسنادا، وأضبط لفظا. (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
أقول: مناورة الدكتور هنا إنما هي من باب المثل المذكور: (رمتني بدائها وانسلت) والواقع من حال كتابه شاهد بذلك بلا كلفة أنه ملأ كتابه من أحاديث «الصحيح المسند»، وأحاديث الصحيحين في غير موضعها، ثم ذهب يتبجح بها تحت عنوان: (150) استداركا، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي، وكما قيل:
يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما ... قد حدثوك فما راء كمن سمع
وأما قول الدكتور ص(143): هو جهاد في غير ميدان..
فالجواب: الدكتور ممن لا يعرف المعروف، ولا ينكر المنكر إلا ما أشرب من هواه، فضلا من أنه يحدد أن هذا جهاد أو غير جهاد، فكلامه هذا من اللغو الذي ينطبق عليه قول الله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
وأما دعوى الدكتور الداخلة تحت المثل المتقدم ذكره هنا، بأن كون العناية بهذا العمل الجليل من تمييز زوائد الصحيحين، وهذا وحده عمل جليل، ومثله بل أجل منه العناية بالحكم على كل حديث منها بما يستحقه، فهذا عمل مبرور، وسعي مشكور، لا يحتقره إلا من سفه نفسه.(1/180)
وقد اعتنى بإخراج الزوائد أئمة كثيرون، وحمدهم السلف على ذلك، ولم تكن عناية أكثرهم من حيث الصحة كعناية الشيخ -رحمه الله- ولكن أحمد أعمى بصره عن هذا الخير الكثير الهوى، فالهوى يعمي ويصم. قال الله تعالى واصفا من تمحض الهوى في قلوبهم: {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} [محمد 16].
وبعد هذا البيان أن السلف اعتنوا بالزوائد، وكما قدمنا ذكر أسماء عدد ممن صنف على هذا المنوال، ودون عناية الشيخ -رحمه الله- بخصوص الأحكام، فنقول لأحمد: فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.
من أسعد الناس باتباع السلف، أنت أم هو؟
لقد تذكرت عند كتابه هذا السطر قول حسان بن ثابت -رضي الله عنه- رادا على أبي سفيان بن الحارث، ومنافحا عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في قصيدة جميلة ذكرها الإمام مسلم مع الحديث برقم (2490) من «صحيحه»، والذهبي في «السير» وغيرهما.
قال فيها:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
هجوت محمدا برا تقيا ... رسول الله شيمته الوفاء
إلى أن قال -وهو الشاهد-:
أتهجوه ولست له بكفئ ... فشركما لخيركما الفداء
وهذه طريفة من علوم الدكتور أحمد بن نصر الله المحققة المدققة، على ذلك النمط الدكتوري الشيق عند التفكه بما ينبغي للدكتور أحمد أن يحرص على تدوينها، وأمثالها المذكورة في طيات مؤلفه هذا، فيجعلها ذيلا متمما لكتاب «الحمقى والمغفلين» إذ أنها من بابه، وعلى شرط مؤلفه ابن الجوزي -رحمه الله- والله الموفق.
قال الدكتور ص(143):
أقول: هو جهاد في غير ميدان، واشتغال بما لا يفيد إلا امتلاء الكتاب بالأحاديث كيفما اتفق إيرادها، فضلا عن كونه مخالف(1) لمنهج السلف من أهل الحديث، كما قرر النووي في «تدريب الراوي».
__________
(1) كذا! وصوابه (مخالفا) بالنصب لأنه خبر كان.(1/181)
قلت: وإنما كتاب النووي اسمه «التقريب والتيسير لمعرفة سنن النذير البشير» وشرحه السيوطي، وسمى شرحه عليه «تدريب الراوي في شرح تقريب النوواي» كما هو معلوم عند طلبة العلم الذين لم يتربوا على تلك التدقيقات المذكورة.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والخمسون
قال الدكتور ص (144):
قال (1/72) رقم (89): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (6/55):
حدثنا عبدالواحد بن غياث أبو بحر، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس أن أزواج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كن يدلجن بالقرب، يسقين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-...)).
هذا حديث حسن، والظاهر أن هذا بالمدينة، وأنه غير خروج بعض النسوة في الغزو يداوين الجرحى، ويسقين المرضى والله أعلم. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا كله خطأ من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله حديث حسن غير صحيح، ولا مسلم به فالإسناد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم ما خلا عبدالواحد بن غياث، وهو ثقة روى عنه الأئمة ووثقه الخطيب وابن حبان وغيرهما (ثم ذكر أن حماد بن سلمة وثابتا ثقتان، ثم قال): فعلى أي قاعدة ينزل بمرتبة الحديث من الصحة إلى الحسن، دون اعتبار علمي، ودون أي توضيح. هذا وجه.
الثاني: قوله: والظاهر أن هذا بالمدينة، وأنه غير خروج بعض النسوة في الغزو يداوين الجرحى ويسقين المرضى.
هذا خطأ فادح، ووهم كبير، لا ينبغي في حق زوجات النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فما عرف عنهن ذلك لا في حياة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا بعد مماته، ولو وقع ذلك فرضا لانتشر وما خفي، كيف وقد فرض عليهن الحجاب فلا يحل لأحد أن يسألهن متاعا إلا من وراء حجاب..(1/182)
وأعتقد أن هذه ظاهرية متعسفة تماما، كما أورد من قبل حديثا فيه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس، وتركه على ظاهره مما يوهم بأن ذلك وقع منه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالمدينة، مع أنه كان اختصار القصة المشهورة المتواترة في نومه مع عسكره عند قفولهم من غزوة تبوك كما نص على ذلك الأئمة، فكان الصواب أن يوجه النصوص وجهتها الصحيحة بالجمع والربط بينها، والتعرف على أسباب ورودها.
فالظاهر في هذا النص الذي يفيد سقاية أزواج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للصحابة، أنه هو الوارد في الصحيح حال الغزو، وضرورة الإسعافات لا في حال الحضر حيث لا ضرورة مجلئة لذلك، خاصة وقد ثبت وقوع ذلك في الغزو عند البخاري ومسلم.
قلت: الرد على أحمد من وجوه:
الأول: قوله: عن عبدالواحد بن غياث: ثقة. غير صحيح، وبرهان ذلك: أن أبا زرعة قال فيه: صدوق.
وقال صالح جزرة: لا بأس به، وهذه رتبة دون الصدوق.
وارتضى هذا الحكم أربعة أئمة فيما وقفت عليه دون استيعاب: وهم الذهبي في «الكاشف»، والخزرجي في «الخلاصة»، والحافظ ابن حجر في «تقريب التهذيب» وشيخنا رحمهم الله جميعا، ولم يذكر في «التهذيب» لابن حجر توثيقا صريحا لغير الخطيب تفرد بذلك حسب ما ذكر في «التهذيب».
وكلام الأئمة المتقدمين فيمن عاصروه مقدم على كلام من بعدهم، ولذلك تتابع الأئمة على أخذ قول أبي زرعة في هذا الرجل أنه صدوق.
أما ابن حبان؛ فإنما ذكره في ثقاته ذكرا، ومن المعلوم أنه يذكر في «ثقاته» لمن قيل فيه: ثقة، ومن قيل فيه: صدوق، ودون ذلك من المجاهيل والضعفاء، فرب رجل يذكره في الثقات، ويذكره أيضا في المجروحين، فليس في ذكر عبدالواحد بن غياث في ثقات ابن حبان دلالة على أنه ثقة.(1/183)
وبهذا تعلم أن حكم العلامة الوادعي -رحمه الله- على هذا الحديث بهذا السند من طريق عبدالواحد أنه حسن أنه صواب، وأن الدكتور أحمد الذي يدعي التدقيق كان بعيدا في هذا عن التدقيق، بل وعن التوفيق، ومثله في ذلك الذين قلدهما وهما صاحب التحرير.
والرد الثاني على قوله: هذا خطأ فادح، ووهم كبير.
وليس لأحمد متعلق في لفظ الحديث المذكور كما بيناه عند ما سماه بالخطأ السادس عشر.
وقد هول الدكتور أحمد على قول الشيخ -رحمه الله- الظاهر أن هذا بالمدينة فقال: هذا خطأ فادح، ووهم كبير،وظاهرية متعسفة.
والأمر أهون من ذلك، فغاية ما في الأمر أنها كلمة مقحمة، أو زلة قلم، ونحو ذلك لا تحتاج إلى هذه الهيشات كلها.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والخمسون
قال الدكتور ص (146):
قال (1/67) رقم (82): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (7/17):
حدثنا عبدالأعلى، قال: حدثنا زكريا بن يحيى، قال: حدثنا هشيم، قال: سمعت عبدالعزيز بن صهيب يحدث عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ثلاث لا يزلن في أمتي حتى تقوم الساعة، النياحة، والمفاخرة في الأنساب، والأنواء)).
حدثنا نصر بن علي، حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا هشيم عن عبدالعزيز عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ثلاث لا يزلن في أمتي)) وذكر بنحوه. هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث صحيح ليس بصحيح، فالسند فيه: زكريا بن يحيى، وهو ابن عمارة الأنصاري، أبو يحيى البصري، قال عنه الذهبي: جائز الحديث اختلفوا في الاحتجاج به، كذا قال ابن الجوزي، والرجل فصدوق. اهـ «الميزان» (2/75) الترجمة رقم (2888)، وقال أبو حاتم عنه: شيخ، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق يخطئ، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال: يخطئ. انظر «تهذيب التهذيب» (3/337).(1/184)
قلت: فمن كان هذا حاله فحديثه حديث حسن ليس بصحيح لذا قال الشيخ الألباني في «الصحيحة» (1799): ((ثلاث لن تزال في أمتي: التفاخر في الأحساب، والنياحة، والأنواء)) أخرجه أبو يعلى (2/975)، و«الضياء» (156/2) عن زكريا بن يحيى بن عمارة عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال: قال رسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-...
قلت -الكلام للشيخ الألباني : وهذا إسناد حسن ورجاله ثقات رجال البخاري، وفي زكريا كلام لا ينزل حديثه عن مرتبة الحسن إن شاء الله، وقال الحافظ: صدوق يخطئ. اهـ من «سلسله الأحاديث الصحيحة» له برقم (1799).
ثم إن الحديث قد أخرجه مسلم في «صحيحه» بزيادة. (ثم ساقه من حديث أبي مالك الأشعري وقال عقبه): فها قد رأيت أن رواية مسلم بتمامها، وقوة سندها تغني عن رواية أبي يعلى الحسنة.
قلت: تحسين الإمام الألباني -رحمه الله- لهذا الحديث من أجل زكريا بن يحيى الذراع كان معتمدا على هذه الأقوال المنقولة في شأن زكريا من «التهذيب»، وليس فيها أي تضعيف لزكريا؛ بحيث أنه لو وجد معتبرا وثقه يكون الحكم لقوله، لأن عنده مزيد علم بذلك الرجل، كما يجري على ذلك صنيع المحدثين، وفاته -رحمه الله- ما لو عثر عليه تقضي بصحة الحديث بلا تردد، وهو أن الإمام علي بن المديني، قال: زكريا بن يحيى الذراع ثقة كما في «سؤالات ابن أبي شيبة» طبع دار المعارف ص (79) رقم (69).
فعلم بهذا أن الحديث صحيح كما قال شيخنا -رحمه الله-.
وأما قول الدكتور: إن الحديث في مسلم، فهذر كررنا الرد عليه مرارا، وكان يكفيه أن الألباني -الذي قد نصح الدكتور بالاستفادة منه- في شق، وهو في شق، فالألباني يعزو الحديث في «الصحيحة» بنفس الرقم الذي ذكره الدكتور إلى خارج الصحيح، فمال الدكتور وأمثاله لا يكادون يفقهون حديثا.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والخمسون
قال الدكتور ص (148):
قال (1/84) الحديث رقم (115): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (2/1331):(1/185)
حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا أبو معيد حفص بن غيلان الرعيني، عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: ((إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم)) قلنا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: ((الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم)).
قال زيد: تفسير معنى قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((والعلم في رذالتكم)) إذا كان العلم في الفساق. هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث ضعيف في إسناده غير علة.
أما أولها؛ ففيه من اختلفوا في توثيقه وتضعيفه، كالهيثم بن حميد، ففي حين وثقه ابن معين، وأبو داود، وقال النسائي: لا بأس به، فقد قال أبو مسهر وهو من تلاميذه كان ضعيفا قدريا، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: أخبرني أبو محمد التيمي، ثنا أبو مسهر، ثنا الهيثم بن حميد، وكان صاحب كتب، ولم يكن من الأثبات ولا من أهل الحفظ، وقد كنت أسكت عن الحديث عنه. اهـ «تهذيب التهذيب» (11/92).
فالله تعالى أعلم بحاله، ولم يترجح عندي شيء، وإن كنت أميل إلى تضعيفه، إذ أن التلميذ وهو أبو مسهر أدرى الناس بحال شيخه، وهو كما ترى قد ضعفه.
وكذلك أبو معبد(1) حفص بن غيلان، فقد وثقه جماعة كابن معين، وتوسط فيه النسائي فقال: لا بأس به، ولينه أبو داود فقال: كان يرى القدر ليس بذلك دمشقي، وضعفه إسحاق بن سيار بن الأشعث النصيبي، فقال ابن عساكر عنه: ضعيف الحديث، وقال ابن عدي: سمعت عبدالله بن سليمان بن الأشعث يقول: حفص بن غيلان ضعيف.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن حبان: من ثقات أهل الشام وفقهائهم. اهـ «تهذيب التهذيب» (2/418).
__________
(1) كذا قال! وصوابه كما في السند (أبو معيد) بالمثناة التحتانية.(1/186)
قلت: الحق أن الرجل أقل درجاته أنه مقبول الحديث، فقد وثقه جمع من الأئمة المعتبرين، ولم يأت من ضعفه بحجة، نعم إن الجرح مقدم على التعديل؛ لأن فيه زيادة علم، ولكن لا يقبل إلا إذا كان مفسرا كما هو مقرر عند أهل الشأن، ولم يفسر الجرح في شأن حفص، فيظل على أصل عدالته، وإن علة الحديث عندي ليس فيما سبق، وإنما في مكحول، ففي السند مكحول عن أنس، وهو مدلس مشهور بذلك، ولم يصرح بالتحديث، فهو وإن كان عالم أهل الشام في زمانه ومن ثقات الفقهاء، إلا أنه اشتهر بالتدليس فلا يقبل حديثه إلا إذا صرح بالسماع، وهنا قد عنعن، وقد اختلفوا في سماعه من أنس رضي الله تعالى عنه ففي حين أثبت البعض سماعه منه، قال البخاري في «تاريخه الأوسط»، و«الصغير»: لم يسمع من وائلة، وأنس وأبي هند.
وقال الحاكم في «علومه»: أكثر روايته عن الصحابة حوالة. «التهذيب» (10/292).
وقال الذهبي عنه: مفتي أهل الشام وعالمهم، وثقه غير واحد، وقال ابن سعد: ضعفه جماعة قلت -أي الذهبي : هو صاحب تدليس يروي بالإرسال عن أبي وعبادة بن الصامت وعائشة وأبي هريرة.. اهـ «الميزان» (4/177).
وعليه.. فالحديث ضعيف لا يصح ولا يكون حسنا، ولذلك أورده الشيخ الألباني في ضعيف ابن ماجه. وقال: ضعيف الإسناد لعنعنة مكحول «ضعيف ابن ماجه» رقم (870).
قلت: على هذا الكلام تعقبات:
أولها: قوله: بل هو حديث ضعيف في إسناده غير علة غير صحيح، كما سيأتي بيانه.
ثانيها: قوله: ففيه من اختلفوا في توثيقه، وتضعيفه كالهيثم بن حميد، ثم قال: بأنه يميل إلى تضعيفه.
قلنا: وهذا يؤكد ما قلناه أن أحمد تتجارى به الأهواء، فلا تستغرب من اضطرابه في معرفة حال الهيثم بن حميد، وميوله هذا، فدون تضعيفه طرح القتاد، رجل قد وثقه ابن معين، وأبو داود، والدارقطني، وأحمد بن حنبل، وابن شاهين، وغيرهم كما في «تهذيب التهذيب»، «وإكمال تهذيب الكمال»، «وموسوعة أقوال الدارقطني».(1/187)
ولا نعلم من قال فيه: ضعيف غير أبي مسهر، ولم أتمكن من بحث سند هذا القول هل صحيح إليه، أم لا؟ وهب أنه صحيح، فما عساه يكون بجانب توثيق من سبق ذكرهم من الأئمة، هذا هو التدقيق الذي يفخر به الدكتور بين الفينة والأخرى، ثم سقط الدكتور على أبي معيد حفص بن غيلان، وحال حوله، ثم خلص بعد الفحص والتدقيق -من طراز الدكتور أحمد- بمجمجة، وهي أن الرجل أقل درجاته أنه مقبول الحديث، وهذا التعبير إلى هنا مجمل أهو مقبول على اصطلاح الحافظ في «التقريب» على أنه مجهول حال يصلح في الشواهد والمتابعات، أم على اصطلاحه في النزهة، واصطلاح كثير من المحدثين أنه يحتج بحديثه لذاته، وبعد أن خلص إلى مرحلة ثانية أنه ليس بضعيف هل هو صدوق، أم ثقة، فلو يدقق أخرى يفيد القراء بطرائف من هذا التدقيق مشكورا.
ثم رجع الدكتور ينقض غزله أنكاثا قال ص(148): قلت: بل هذا حديث ضعيف في إسناده غير علة.
وبعد أسطر قليلة قال: وإن علة الحديث عندي ليست فيما سبق، وإنما مكحول؛ ففي السند مكحول عن أنس، وهو مدلس مشهور بذلك، ولم يصرح بالتحديث.
قلت: وبعد ذوبان عدة علل إلى واحدة فيقال أيضا حتى الواحدة هذه ما هي من عنده، بل الذي أعل الحديث بها هو العلامة الألباني -رحمه الله- كما ذكر هو عن الألباني.
قلت: وأعل الحديث بها أيضا في «الضعيفة» رقم (5703).
فقال: قلت: وهو ضعيف رجاله موثقون إلا أن مكحولا كان يدلس، كما قال العلائي في «جامع التحصيل»: وسبقه إلى ذلك ابن حبان في «الثقات» (5/447)، والبزار. انظر «التهذيب»، فعنعنته هي علة الحديث، فمن قواه؛ فكأنه لم ينتبه لها، أو أنه تغاضى عنها، كالحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (1/43)، وأقره الزبيدي في «شرح الإحياء» فإنه قال: إسناده حسن، وأغرب منه قول البوصيري في «الزوائد»: إسناده صحيح رجاله ثقات. اهـ
ونقل عن دكتور -اسمه فؤاد- صحح هذا الحديث ونبه على خطأ حصل للدكتور فؤاد، وأصلح حال بعض الدكاترة.(1/188)
والحديث قال عنه محقق «مسند أحمد»: إسناده قوي، والحديث في «المختارة» للمقدسي (7/127 128)، وصححه المحقق، واحتج به ابن عبدالبر في «جامع بيان العلم وفضله» (1/610) باب حال تعلم إذا كان عند النسائي.
فهذا العراقي، والزبيدي، والبوصيري، وآخرون قد احتجوا بالحديث وكلامهم دائر بين التحسين، والتصحيح.
ونقل الألباني كلام من تقدم ذكره من الأئمة حسب الأمانة العلمية، مع برز حجة من حسنه حسب اجتهاده في ذلك، وأنه تغاضى عن عنعنة مكحول، والحديث سكت عنه الحافظ في «الفتح» (13/301)، واحتج به ابن كثير في تفسير آية (79) من سورة المائدة.
وذهب الدكتور يبتر كلام من احتج بالحديث ممن ذكرهم العلامة الألباني للتوصل إلى الاستدراك على العلامة الوادعي بأي حال. فيا قاتل الله الهوى!.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والخمسون
قال ص (150):
قال (1/ 72) الحديث رقم (90): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/210):
حدثنا سليمان، حدثنا شعبة، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني)). هذا حديث صحيح. اهـ
قلت: وقد أخرجه مسلم في صحيحه بنفس النص، ورواه البخاري في «صحيحه» بنحوه في أكثر من موضع.
قلت: تقدم الجواب عن مثله.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والخمسون
قال الدكتور ص (151):
قال (1/73) الحديث رقم (92): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (8/263):
أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا خلف، عن حفص عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يدعو بهذه الدعوات: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع، ونفس لا تشبع)) ثم يقول: ((اللهم إني أعوذ من هؤلاء الأربع)).حفص هو ابن أخي أنس، وخلف بن خليفة.
(ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-، إلى قول الشيخ):
هذا حديث صحيح، وعبدالله بن محمد بن موسى هو الملقب بعبدان الأهوازي.(1/189)
ترجمته في «تاريخ بغداد» (9/378) قال الخطيب: كان أحد الحفاظ الأثبات. اهـ
قال الدكتور: قلت: أورد له طرقا عدة، وأغفل الطريق الذي أخرجه مسلم في «صحيحه». (ثم ساقه من حديث زيد بن أرقم وقال):
وإن المرء ليعجب من هذه الظاهرة المكررة، من عدم الإشارة، فضلا عن عدم الاكتفاء بما في الصحيحين -البخاري ومسلم-.
تقدم الجواب على مثله.
ومثله الانتقاد السادس والخمسون
لم يذكر شيئا يحتاج أكثر مما بيناه قبل من أن الحديث الذي في الصحيح عن صحابي آخر.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والخمسون
قال الدكتور ص (156):
قال (1/73) رقم (91): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/270):
حدثنا عفان، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يجتمع له غداء، ولا عشاء من خبز ولحم، إلا على ضفف)). هذا حديث صحيح. اهـ ( ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-، وقال):
قلت: قوله: هذا حديث صحيح. ليس بصحيح، إذ أن الحديث مداره على قتادة، وهو مع جلالة قدره متهم بالتدليس، ولم يصرح بالتحديث..
قال أبو داود: حديث قتادة عن ثلاثين رجلا لم يسمع منهم.
وقال الذهبي في «ميزانه»: حافظ ثقة ثبت لكنه مدلس، ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحيح لا سيما إذا قال: حدثنا (3/6864).
قلت: قد انتقى البخاري ومسلم رحمهما الله من رواياته المعنعنة، واختارا أحاديث أهل التحري والتشدد: كشعبة عن قتادة.. أما في غير الصحيحين فيظل عدم التصريح بالسماع ممن اتصف بنوع من التدليس علة تمنع عند أهل الحديث من الحكم بالصحة والله تعالى أعلم.
تقدم الجواب عنه فيما يتعلق بعنعنة قتادة عند قوله: الخطأ الخامس والأربعون.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والخمسون
قال الدكتور ص (157):
قال (1/100) الحديث رقم (137): قال أبو داود -رحمه الله- (9/371):(1/190)
حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي، حدثنا داود بن عبدالرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال، عن إياس بن عبد أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نهى عن بيع فضل الماء)). هذا حديث على شرط الشيخين، وأبو المنهال هو عبدالرحمن بن مطعم، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلما أن يخرجاها. اهـ (ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-، وقال):
قلت: وهذا وهم وقع فيه الإمام الدارقطني -رحمه الله-، وتابعه عليه الشيخ مقبل -رحمه الله- به.
قلت: أنت ذو الأوهام والجهالات أحق بها وأهلها من الدارقطني وغيره من الأئمة، فالحديث في «الصحيح المسند» عن إياس بن عبد، والذي في مسلم هو عن جابر، وهكذا قول أهل العلم؛ كالحافظ المزي في «تحفة الأشراف» رقم (1747) لم يذكر له إلا هذا الحديث، وعزاه إلى خارج الصحيح كما بينته في«صحيح المفاريد» رقم (8).
وكذا عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (1/483) رقم (308) فما أجرأ الدكتور أحمد على توهيم الأئمة وتخطئتهم بمحض الجهل، وقد تقدم له تحت قوله: الخطأ الثاني والثلاثون، والثامن والثلاثون، أنه رمى الدارقطني، والشيخ -رحمه الله- بالوهم والغفلة على مثل هذه الوساوس التي استرسل فيها، وكان ينبغي أن يكثر من ذكر الله، واللجوء إليه، وقراءة المعوذتين، حتى يدفعها الله عنه.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والخمسون
قال الدكتور ص (158):
قال (1/107) الحديث رقم (150): قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة -رحمه الله- (3/380):(1/191)
حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا الأعمش، عن منهال بن عمرو، عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد فجلس رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجلسنا حوله، وكأن على رءوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض فرفع رأسه: ((فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر -مرتين أو ثلاثا-)) ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة.....))، (ثم ساق الحديث بطوله، وذكر حكم الشيخ عليه): هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث صحيح جدا، وقد أجمع كل من خرجه على صحته، ولم ينزل به أحد إلى درجة (حسن) إذ لا بد من علة فيه، ولا مبرر لهذا النزول في الحكم، فالحديث رجاله ثقات أثبات رجال الصحيح على ما يأتي تفصيله. (ثم ترجم للرواة وخلص بأنهم ثقات كلهم).
قلت: على هذا القول عدة تعقبات:
أولها: قوله: بل هو حديث صحيح جدا، وقد أجمع من خرجه على صحته. هذا غير صحيح، بل قد حسنه المنذري في «الترغيب والترهيب» فصل في عذاب القبر (4/269) رقم (5221) فقال هذا الحديث حسن، وألمح إلى ذلك ابن أبي العز في «شرح الطحاوية» (2/607): فقال: وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث له شواهد في «الصحيح» وهذا الحكم على الحديث، بأنه حسن لهذا السند هو اللائق بحال المنهال بن عمرو، وحال زاذان حسب ما ذكر في «التقريب» أن المنهال صدوق يهم، وكان ابن معين يضع من شأنه، وقال الدارقطني: صدوق.
وزاذان بن عبدالله مترجم في «التقريب»، و«الخلاصة»، و«الكاشف»، قال الحافظ: صدوق...، ومن عدم تورع الدكتور، وعدم ضبطه للألفاظ، قوله: وقد أجمع كل من خرجه على صحته، ولم ينزل به أحد إلى درجة الحسن.
وقد أريناك إماما حسنه، ولم نرد الاستقصاء إذ يكفي دليلا على عدم الثقة بما يكتبه هذا الدكتور، لأنه دخيل على هذا العلم.(1/192)
ثانيها: قوله: ولم ينزل به أحد إلى درجة الحسن إذ لا بد من علة فيه، ولا مبرر لهذا النزول في الحكم فالحديث رجاله ثقات أثبات.
قلت: وهذا فيه أن الحديث الحسن من ضمن المعلول، لا من ضمن الصحيح، وهذا خلاف ما عليه عامة أهل العلم من أن الحديث الحسن يلحق بالصحيح.
قال الإمام النووي -رحمه الله- في «التقريب والتيسير»: ثم الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة، ولهذا أدرجته في نوع الصحيح.
وقال الإمام ابن حجر في «النخبة»: الصحيح لذاته بما نقله عدل تام الضبط متصل السند غير معل، ولا شاذ، ثم قال: فإن خف الضبط؛ فهو الحسن لذاته.
ونقل السيوطي هذا الكلام في «التدريب» (1/173) وقال: فشرك بينه وبين الصحيح في الشروط إلا إتمام الضبط، وقال بعده: ثم الحسن كالصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في القوة.
وقال الإمام الذهبي في «الموقظة»: وإن شئت قلت الحسن ما سلم من ضعف الرواة، فهو حينئذ داخل في قسم الصحيح، وحينئذ يكون الصحيح مراتب كما قدمناه، والحسن ذا رتبة دون تلك المراتب، فجاء الحسن مثلا في آخر مراتب الصحيح. اهـ
وقال أبو عبدالله الزرقاني المالكي في «شرح المنظومة البيقونية» ص (28): وحاصله أن المرتضى في حد الحسن أنه ما اتصل بنقل عدل قل ضبطه، غير شاذ، ولا معل.
والحسن يشارك الصحيح في العمل به والاحتجاج عند جميع الفقهاء، كما فهمه العراقي من كلام الخطابي، وعند أكثر العلماء من المحدثين، وغيرهم وهو بقسميه ملحق في الاحتجاج بأقسام الصحيح وإن لم يلحق رتبه.
بل قال ابن الصلاح: من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن، ويجعله مندرجا في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يحتج به.
ثالثها: قول الدكتور: والراجح أن هذا خطأ واختلاط، وأنه يقصد زاذان الآخر، وهو: أبو يحيى القتات، ثم قال: ومما يؤكد صحة هذا الترجيح؛ أن ابن حبان قال عن زاذان القتات: فحش خطؤه، وكثر وهمه، حتى سلك غير مسلك العدول في الروايات. اهـ من «التهذيب».(1/193)
قلت: هذا واحد من تدقيق وتحقيق الدكتور أحمد الذي لو سلطه الله على الشريعة لوضع فيها نحوا من صنيع الكوثري، كما بينه المعلمي -رحمه الله- في «التنكيل» لأن المترجمين للزاذانين يفرقون بينهما، ويذكرون لكل واحد من الترجمة اللائقة به، كما صنع الحافظ ابن حجر في «التهذيب»، وأما الدكتور: فيعتبر ذلك خطأ ووهما، مع عدم الرجوع إلى أصول المسألة.
الجواب على دعواه: الخطأ الستون
قال ص (162):
قال (1/116) الحديث رقم (163): قال الإمام أبو بكر بن أبي شيبة -رحمه الله- (5/410):
حدثنا زيد بن الحباب، عن حسين بن واقد، وعن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلبا..)) هذا حديث حسن. (ثم ساق الطريق الثانية التي ذكرها الشيخ -رحمه الله-).
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ من وجوه:
الأول: أن الحديث بهذا السند صحيح رجاله ثقات رجال مسلم.
الثاني: أن الحديث في الصحيحين عند البخاري ومسلم رحمهما الله.
(ثم ساقه من حديث ابن عمر وميمونة بعد أن ترجم لزيد بن الحباب وحسين بن واقد، وخلص بأنهما ثقتان، وقال في شأن حسين بن واقد):
ولم يأت من تكلم عليه بحجة، وإنما أنكر عليه أحمد حديث عن أبي المنيب، وهو في حديثنا قد روى عن عبدالله بن بريدة لا عن أبي المنيب، فسلم بحمد الله من طعن يقدح فيه، لا سيما في حديثنا المحفوظ.
قلت: الدكتور يسير على مبدأ (خالف تعرف).
هذا الحديث، وحديث أنس تحت قوله: الخطأ التاسع والثلاثون حسنها الشيخ -رحمه الله- وهو سائر على ذلك في تحسين طريق زيد بن الحباب، عن حسين بن واقد، كما قدمنا بيانه هناك.
فتعقب الدكتور بأن زيدا وحسينا حديثهما بكل مقاييس التحقيق صحيح، وأن تحسين حديثيهما خطأ، وسيأتي تحت قوله: الخطأ الثاني والستون، والتاسع والستون، أنه حاول الاعتراض دون مبالاة منه بتناقضه المخزي، فذهب يحشد الكلام في إنزال حسين بن واقد عن مرتبة من يصحح حديثه.(1/194)
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والستون
قال ص (164):
قال (1/91) الحديث رقم (130): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (3/381):
حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت عن أنس بن مالك قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء)). قال أبو عباس: (!!) هذا حديث حسن.
قال أبو عبدالرحمن وهو الشيخ مقبل هو حديث حسن على شرط الشيخين. اهـ
قلت: قوله: قال أبو عباس: هذا حديث حسن.
الظاهر أنه خطأ مطبعي، وإنما المقصود أبو عيسى فهي كنية الإمام الترمذي -رحمه الله-.
وقوله: هو حديث حسن على شرط الشيخين فيه تضارب وتناقض، ويبدو أنه اصطلاح خاص بالشيخ مقبل إذ أن ما كان على شرط الشيخين فيكون صحيحا إن شاء الله ليس على درجة الحسن، ثم إنه في الحقيقة ليس على شرط الشيخين، فإن جعفر بن سليمان، وهو أبو سليمان البصري، ليس من رجال البخاري، وليس له أي رواية في الصحيح لا تعليقا ولا مقرونا مع غيره..وهو بعد ذلك مختلف في توثيقه اختلافا كبيرا ففي حين يوثقه ابن معين، ويتوسط فيه الأزدي فإن بعض الأئمة كيحيى بن سعيد، وابن المديني يضعفونه، وقد رمي بالتشيع وهو ممن يكتب حديثه، ولا يحتج به.. والله تعالى أعلم.
راجع ترجمته في «تهذيب التهذيب» (2/95)، «وميزان الاعتدال» (1/408)..(1/195)
قلت: لفظة (على شرط الشيخين) خطأ مطبعي، أو من بعض النساخ، وقع في أول طبعة للكتاب، وأصلحت على الصواب في الطبعات التي بعدها الثانية الصادرة عام 1416/هـ، وفي الثالثة: الصادرة عام 1426/هـ، قال الشيخ -رحمه الله-: قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث حسن على شرط مسلم، وكذا أصلح في الجامع المرتب على الأبواب رقم (1460)، وإنما هذا من البراهين على كذب الدكتور في قوله ص (14) من كتابه قال: وللعلم؛ فإننا اطلعنا على الكتاب في آخر طبعاته، والمرتبة على النحو الموضوعي، وبهذا يعلم أن الدكتور لم يستطع أن يوجد في استدراكه هذا المزعوم أي تناقض لشيخنا -رحمه الله-، وإنما التناقض المفضوح ما قدمناه عن الدكتور أحمد، ولعلنا نجعل إن شاء الله في آخر الكتاب إشارات إلى تناقضاته.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والستون
قال الدكتور ص (165):
قال (1/105) الحديث رقم (145): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (9/152):
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد عن أبي إسحق، عن البراء بن عازب في قوله: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}، قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ذاك الله)). هذا حديث حسن غريب. اهـ(1/196)
قال الدكتور: قلت: ترك الحديث بدون تعليق منه وبيان لدرجته، وإن كان يوهم القارئ أن عبارة هذا حديث حسن غريب. يظنها هي حكم الحديث عند صاحب الكتاب، بينما هي كلام الإمام الترمذي -رحمه الله-، وقد علم لدى أهل الحديث أن تحسين الترمذي متعقب، ولا بد البحث وراءه للتحري. وفي الإسناد من اختلف في توثيقه كالحسين بن واقد، فمع ثناء ابن المبارك عليه وتوثيق ابن معين له، فقد توسط أبو زرعة والنسائي فيه فقالا عنه: ليس به بأس، وقال ابن حبان: كان على قضاء مرو، وكان من خيار الناس وربما أخطأ في الروايات، وأنكر الإمام أحمد بعض حديثه قائلا: أحاديثه ما أدري إيش هي؟!، وقال الساجي: فيه نظر وهو صدوق يهم.
قلت: على كل فالرجل احتج به مسلم في «صحيحه»، وروايته في السنن الأربعة، وليس ما ذكرته قاصدا تضعيفه، وإنما أثبت أن الرجل متكلم فيه، فكان ينبغي من الشيخ مقبل تحقيق القول فيه، ليعلم الطالب هل حديثه مقبول، أو مردود، أو متوقف فيه.
قلت: تقدم بيان أنه لا مانع من اتفاق الأحكام، ولا مانع أن يرضى متأخر بحكم إمام قبله.
وقارن تناقض الدكتور أحمد مع ما تقدم عند قوله: الخطأ الستون.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والستون
قال ص (166):
قال (1/111) الحديث رقم (152): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/346):
حدثنا علي بن الحسن أخبرنا الحسين حدثنا عبدالله بن بريدة عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان جالسا على حراء ومعه أبو بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم-، فتحرك الجبل فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اثبت حراء؛ فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد)). هذا حديث صحيح، وعلي بن الحسين هو علي بن الحسين بن شقيق والحسين هو ابن واقد. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه مسلم في «الصحيح». (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).(1/197)
تقدم الكلام على نحو قوله: قد أخرجه مسلم. وبأنه عنى به عن صحابي آخر، وهذا ليس بانتقاد مقبول على «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين».
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والستون
قال الدكتور ص (167):
قال (1/118) الحديث رقم (167): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/316):
حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث، حدثنا زائدة، حدثنا عبدالملك بن عمير، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: مرض رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((مروا أبا بكر يصلي بالناس))، فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبي رجل رقيق، فقال: ((مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، فإنكن صواحبات يوسف)) فأم أبو بكر الناس ورسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حي. هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد ورد الحديث في الصحيحين. (ثم ساقه من حديث أبي موسى وعائشة).
الجواب: حديث بريدة هذا عزاه الحافظ في إتحاف المهرة (2/593)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5/182) إلى أحمد، وأما الحديث الذي في الصحيحين فعن غير بريدة.
ولكن الحديث الذي يظهر أنه هو الذي عند البخاري رقم (678)، ومسلم رقم (420) من طريق عبدالملك بن عمير قال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى الأشعري فذكر الحديث، وبرهان ذلك أن عبدالملك بن عمير لم أر له رواية عن ابن بريدة في «تهذيب الكمال»، وقد روى عن أبي بردة عند البخاري ومسلم.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والستون
قال الدكتور ص (168):
قال (1/228) الحديث رقم (325): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/67):(1/198)
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا ذيال بن عبيد بن حنظلة، قال: سمعت حنظلة بن حذيم جدي أن جده حنيفة قال لحذيم: اجمع لي بني فإني أريد أن أوصي فجمعهم، فقال: إن أول ما أوصي أن ليتيمي هذا الذي في حجري مائة من الإبل التي كنا نسميها في الجاهلية المطيبة، فقال: حذيم يا أبت، إني سمعت بنيك يقولون: إنما نقر بهذا عند أبينا، فإذا مات رجعنا فيه قال: فبيني وبينكم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .....)) (ثم ساقه بطوله إلى قول الشيخ):
هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا غير صحيح، فإن في السند روايين مختلف في توثيقهما: أما أحدهما: فهو أبو سعيد مولى بني هاشم، وهو عبدالرحمن بن عبدالله بن عبيد البصري، فمع كونه من رجال البخاري ووثقه الإمام أحمد وغيره، إلا أن الإمام أحمد ثبت عنه كذلك أنه قال: كان كثير الخطأ، ونقل القباني أنه جاء عن أحمد أنه كان لا يرضاه، وقال الساجي: يهم في الحديث، والظاهر أن البخاري -رحمه الله- كان يختار من أحاديثه وينتقي من مروياته التي لم يهم أو يخطئ فيها.
أما الآخر فهو ذيال بن عبيد بن حنظلة الحنفي، وثقه ابن معين، ولينه أبو حاتم حينما سئل عنه هل يحتج بحديثه قال: شيخ أعرابي.
وقال الأزدي: فيه نظر.
قلت: فهذا مستور الحال، وعلى أحسن تقدير فإن حديثه لا يرقى على مرتبة الحديث الحسن، وليس بالضابط الذي يحتج بحديثه لا سيما إذا انفرد بالرواية ولم يتابعه عليها أحد، لا سيما إن كانت متعلقة بالأحكام الشرعية، فإن التشديد فيها واجب بخلاف أسانيد الرقاق وفضائل الأعمال.. والله تعالى أعلم.
قلت: عبدالرحمن بن عبيد الله البصري أبو سعيد مولى بني هاشم احتج به البخاري في «صحيحه» كما رمز الحافظ، ووثقه ابن معين، وأحمد بن حنبل، والطبراني، والبغوي، والدارقطني، وذكره ابن شاهين في ثقاته.
هذا هو المعلوم من قول الإمام أحمد في أبي سعيد مولى بني هاشم، ويؤيد ذلك أن الإمام أحمد أكثر من الرواية عنه.(1/199)
أما الرواية الأخرى التي نقلها ابن شاهين عن العقيلي فمخالفة للتوثيق المؤيد بما تقدم، وسند هذا القول عند العقيلي في «الضعفاء» (2/341) رقم (939) ترجمة أبي سعيد مولى بني هاشم، فيه: الحضرمي بن داود لم أر له ترجمة فيما عندي من كتب التراجم، فقول الدكتور: ثبت عن أحمد! هذا يحتاج إلى إثبات متيقن، وعلى هذا فأبو سعيد ثقة.
وقول الدكتور: ذيال مستور حال، هذا من الغرائب كيف ينقل عن ابن معين أنه وثقه، ثم يقول: مستور حال لو أن الدكتور عرف مقدمة تقريب التهذيب فقط لما وقع في هذه الأعجوبات.
قال الحافظ في «مقدمة تقريبه» في ذكر طبقات أحوال الرواة المذكورين في «التقريب»: السابعة: من روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق وإليه الإشارة بلفظ: مستور، أو مجهول الحال. اهـ
وقال في «نخبة الفكر»: ولا يقبل المبهم، ولو أبهم بلفظ التعديل على الأصح، أو اثنان فصاعدا، ولم يوثق فمجهول الحال، وهو المستور.
ثم إن الدكتور أحمد هاش وطاش بكلام ركيك في حال ذيال، وسأذكر ذبذبته فيه قال:
1 وثقه ابن معين..
2 مستور حال.
3 على أحسن تقدير فإن حديثه لا يرقى على مرتبة الحديث الحسن.
4 ليس بالضابط الذي يحتج بحديثه لا سيما في الأحكام الشرعية فإن التشديد فيها واجب.
وأقول: والله لو أراد أحد أن يبين هذه الذبذبة، والاضطراب في رسالة لاحتمل بيان ذلك رسالة، ولكن أرى أنه لا يعبأ بمثل هذا؛ لأن الدكتور جاهل، فكلامه هذا عند المحدثين رد عليه.
والحاصل: أن ذيال وثقه ابن معين، فهو ثقة، وحديثه صحيح.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والستون
قال الدكتور في «ظلماته» (170):
قال (1/119) الحديث رقم (168): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/354):(1/200)
حدثنا زيد حدثني حسين، حدثني عبدالله بن بريدة قال: سمعت أبي بريدة يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((في الإنسان ستون وثلاث مائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة)). قالوا: فمن الذي يطيق ذلك يا رسول الله، قال: ((النخاعة في المسجد تدفنها، أو الشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تقدر فركعتا الضحى تجزئ عنك)).
الحديث أخرجه أيضا أحمد (5/359) فقال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق أنا الحسين بن واقد فذكره. هذا حديث صحيح. (ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله- وقال):
قلت: وقد أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله- في «صحيحه» بأتم من هذا السياق، وأطيب. (فساقه من حديث أبي ذر).
تقدم الكلام على مثله كثير، فكون الحديث في صحيح مسلم عن أبي ذر لا يمنع أن يكون خارج مسلم عن غيره.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والستون
قال الدكتور في «ظلماته» ص (171):
قال (1/119) الحديث رقم (169): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/354):
حدثنا زيد، حدثني حسين، حدثني عبدالله، قال: سمعت أبي بريدة يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((عليكم بالحبة السوداء وهي الشونيز، فإن فيها شفاء)). هذا حديث حسن، وزيد هو ابن الحباب وحسين هو ابن واقد. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث صحيح، وقد أخرجه كل من البخاري، ومسلم رحمهما الله في «صحيحيهما». (فساقه من حديث عائشة وأبي هريرة).
قلت: قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، فقد عزا حديث بريدة هذا الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/143) والحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (2/61) إلى أحمد في مسنده.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والستون
قال الدكتور في «ظلماته» (173):
قال (1/122) رقم الحديث (175): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/353):(1/201)
حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين بن واقد، حدثني عبدالله. قال: سمعت أبي بريدة يقول: سمت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى، إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير)). هذا حديث حسن، وأخرجه البزار كما في «كشف الأستار» (3/65). اهـ
قال الدكتور: قلت: فواعجبا يعزي الحديث للبزار، ولا يشير مجرد الإشارة إلى وجود أصله في الصحيحين بأتم من السياق الذي أورده.
فقد أخرجه البخاري في «صحيحه» ضمن قصة جبريل وتعليمه للأمة شأن دينها.
قلت: أصحاب الزوائد لم يلتزموا هذا فلا فائدة في هذا الاعتراض البتة.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والستون
قال الدكتور ص (174):
قال (1/124) رقم (180): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (6/64):
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبوتميلة عن حسين بن واقد، عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا ليس بصحيح لأن حسين بن واقد لم يحتج به البخاري، وإنما روى له تعليقا، فلا يقال: إنه من رجاله، والظاهر أن الشيخ مقبل -رحمه الله- تابع الحاكم على وهمه كما سيأتي بيانه... ثم إنه أي: حسين بن واقد مختلف فيه بين أئمة الجرح والتعديل، على ما بينا سابقا في ثنايا الأسانيد، ولذلك لم يصحح الشيخ الألباني الحديث بل حسنه لهذا السبب، وتعقب الحاكم والذهبي في وهمهما فقال -رحمه الله- «الإرواء» (6/271) الحديث رقم (1870) قال: أخرجه النسائي (2/71) واللفظ له، وابن حبان (1233، 1234)، والحاكم (2/163)، والبيهقي (7/135)، وأحمد (5/353، 361). وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.(1/202)
قلت -الكلام للشيخ الألباني-: الحسين هذا، إنما أخرج له البخاري تعليقا، ثم إن فيه ضعفا يسيرا، وقد قال الذهبي نفسه في «الضعفاء»: استنكر له أحمد أحاديث.
وقال الحافظ في «التقريب»: ثقة له أوهام.
قلت: فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى. اهـ من «الإرواء».
قلت: عزاه الحافظ ابن حجر في إتحاف المهرة (2/591) إلى أحمد، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني.
الجواب على دعواه: الخطأ السبعون
قال الدكتور ص (175):
قال (1/142) الحديث رقم (201): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/34):
حدثنا ابن نمير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن الأحنف بن قيس، عن عم يقال له: جارية بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا رسول الله، قل لي قولا ينفعني، وأقلل علي لعلي أعيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تغضب))، فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول: ((لا تغضب)).
هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: والحديث قد أخرجه البخاري في «صحيحه» بنحوه. (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
قلت: رد الدكتور على نفسه بأن حديث جارية ليس في الصحيح، وإنما الذي في الصحيح حديث أبي هريرة.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والسبعون
قال الدكتور ص (176):
قال (1/156) الحديث رقم (219): قال أبو داود -رحمه الله- (8/444):
حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، حدثنا أبو نعيم، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، أخبرني جابر بن عبدالله، أو سمعت جابر بن عبدالله قال: رأى ناس نارا في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في القبر وإذا هو يقول: ((ناولوني صاحبكم))، فإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر. هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث ضعيف، إسناده ليس بالقائم، ففيه: محمد بن مسلم، وهو ابن سوسن الطائفي يضعف من قبل حفظه، وإن كان صدوقا إلا أن له أوهاما، وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال: يخطئ.(1/203)
وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث، فمثله لا يحتج به، وإنما يكتب حديثه للاعتبار، ولذلك تجنب الشيخان الرواية عنه، أما البخاري فلم يرو له إلا تعليقا، وأما مسلم فمتابعة.. قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: ما أضعف حديثه، وقال عباس الدوري عن ابن معين: ثقة لا بأس به، وابن عيينة أثبت منه، وكان إذا حدث من حفظه يخطئ، وإذا حدث من كتابه فليس به بأس، وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ولما قال ابن عدي: ليس له عند مسلم سوى حديث سعيد بن الحويرث، عن ابن عباس في ترك الوضوء مما مست النار.
قلت: محمد بن مسلم بن سوسن يحسن حديثه بانشراح صدر.
فقد وثقه ابن معين، وقولهم: ابن عيينة أوثق منه، هذا يتضمن تعديلا له، حيث وأن ابن عيينة إمام فوق الثقة، فهذا القول أقل ما فيه أنه حسن الحديث في عمرو بن دينار.
وقال أبو داود: ثقة لا بأس به.
ومن كلام ابن عدي فيه صالح الحديث لا بأس به، ووثقه يعقوب بن سفيان.
وقال النسائي: ليس به بأس.
قلت: هذا التعديل مع ما قيل فيه من تضعيف أحمد يدل أنه ينزل من رتبة من يصحح حديثه إلى من يحسن حديثه، وفي «إكمال تهذيب الكمال» قال أحمد: إذا أحدث من غير كتاب أخطأ، وبهذا يعلم أن تضعيف أحمد له شيئا يسيرا، وهو تضعيف مخصوص بما إذا حدث من غير كتاب.
فالقول بأن مثل هذا يضعف حديثه مع ما ترى من التوثيق له قول باطل، واحتج بالحديث البغوي في «شرح السنة» (5/363).
وقال المحقق: إسناده صحيح.
وأقر تصحيح الحاكم له الزيلعي في «نصب الراية» (2/306).
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والسبعون
قال الدكتور ص (178):
قال (1/160) الحديث رقم (225): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (2/444):(1/204)
حدثنا أبو خيثمة، حدثنا محمد بن خازم، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبدالله قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه ذات ليلة وهم ينتظرون العشاء، فقال: ((صلى الناس ورقدوا، وأنتم تنتظرونها! أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها))، ثم قال: ((لولا ضعف الضعيف، وكبر الكبير، لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» بنحوه.
قلت: تقدم الجواب عن مثله.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والسبعون
قال الدكتور ص (179):
قال (1/164) الحديث رقم (230): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/329):
حدثنا روح، حدثنا زكريا، حدثنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما)). هذا حديث حسن. اهـ
قلت: وهذا خطأ كبير ومن وجوه:
الأول: أن الحديث ليس من نوع الحسن؛ إنما هو صحيح رجاله ثقات أثبات، ومسلسل بالتحديث، ورواته رواة الصحيح على تفصيل يأتي بيانه.
(ثم ترجم لرواة الحديث وخلص بأنهم ثقات حتى أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، ثم قال):
وعليه.. فالحديث إسناده صحيح رجاله أثبات رجال البخاري ومسلم ما خلا أبي الزبير، فقد أخرج له البخاري مقرونا بغيره. وليس ثمة علة يوصف الحديث بسببها أنه حسن. هذا وجه.
الوجه الثاني: أن الحديث أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما». (فساقه من حديث ابن عمر وأبي هريرة).
قلت: أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس حسن الحديث إلا إذا عنعن خارج صحيح مسلم، ولم يكن الراوي عنه الليث، فإن كثيرا يضعفون ما عنعن فيه على الحال المذكور، والمحدثون يحسنون حديثه، كالشيح الألباني وغيره، وهذا اللائق به كما في ترجمته من «ميزان الاعتدال» و«تهذيب الكمال».
قال الحافظ في «التقريب»: صدوق إلا أنه كان يدلس.(1/205)
وانظر «الخلاصة» للخزرجي أيضا ، لكن الدكتور أحمد من منهجه خالف تعرف فلا يعبأ بشغبه.
وهذه المخالفة والانتقادات الفارغة بما يشغل بعض القراء بالباطل، وتجاهل تحقيقات نحارير العلماء، هذا هو الخطأ الكبير عند المحاققة.
وانظر كلام الدكتور تحت ما سماه: الخطأ الرابع والسبعون.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والسبعون
قال الدكتور ص (182):
قال (1/165) رقم (231): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/350):
حدثنا حجين ويونس، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أراد غزوهم، فدل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على المرأة التي معها الكتاب فأرسل إليها، فأخذ كتابها من رأسها وقال: ((يا حاطب، أفعلت؟))، قال: نعم، أما إني لم أفعله غشا لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- -وقال يونس: غشا يا رسول الله-، ولا نفاقا، قد علمت أن الله مظهر رسوله، ومتم له أمره، غير أني كنت عزيزا بين ظهريهم، وكانت والدتي منهم، فأردت أن أتخذ هذا عندهم، فقال له عمر: ألا أضرب رأس هذا؟ قال: ((أتقتل رجلا من أهل بدر؟ ما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم)).
هذا حديث حسن، وأبو الزبير وإن كان مدلسا، ولم يصرح بالتحديث، فإن الراوي له عنه الليث بن سعد، وما روى عنه إلا ما كان مسموعا له من جابر، والحديث أخرجه أبو يعلى (4/82) فقال -رحمه الله-:
حدثنا كامل، وهو ابن طلحة حدثنا ليث بن سعد به. اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث حسن، ليس بحسن، وهو خطأ كبير، وإن المرء ليعجب حتى يظن أنه مصطلح خاص به، فقد يدخل الأحاديث -وإن كانت على أعلى درجة في الصحة سندا ومتنا- يدخلها تحت هذا المسمى حديث حسن، فيكون بذلك قد انفرد بما لم يأت به أحد من أهل الحديث.(1/206)
سند حديث الإمام أحمد كالشمس رجاله ثقات أثبات رجال الشيخين، عدا أبي الزبير فهو ثقة حجة روى عنه الأئمة؛ ومسلم في صحيحه بكثرة، وأخرج له البخاري مقرونا، والراوي عنه الليث بن سعد كان يتحرى من حديثه، فلا يأخذ إلا ما كان متصلا بالسماع فزالت شبهة التدليس، وقد عرفت حاله ومقامه في الثقة والعدالة كما مر معنا تحت: الخطأ الرابع والسبعين.(1)
قلت: تقدم قبله أن أبا الزبير حسن الحديث بالقيود التي أكدها شيخنا في هذا الموضع، وأبان أنه إنما حسن الحديث من أجله فلا داعي لسوق الكلام في أن فلانا ثقة، وفلانا ثقة بما هو مشهور.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والسبعون
قال الدكتور ص (184):
قال (1/170) الحديث رقم (242): قال الإمام البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (2/52):
حدثنا محمد بن المثنى، وعمرو بن علي، قالا: ثنا عبدالوهاب، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا يخرج رجل من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله به خيرا منه، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون..)).
هذا حديث صحيح، والجريري هو سعيد بن إياس اختلط بآخره، ولكن عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي روى عنه قبل الاختلاط كما في«الكواكب النيرات». اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه الإمام مسلم في «صحيحه» بأتم من هذا السياق. (فساقه من حديث سعد بن أبي وقاص).
قلت: الحديث إذا كان في مسلم كما تزعم فابدأ بالهيثمي غلطه على إخراجه له في زوائد الكتب الستة، ثم بسائر من اعتبره من الزوائد، ولا تجعل الاستدراك مخصوصا بالشيخ -رحمه الله-، وإلا فلا مفر لك من أن توصف بصاحب حقد على العلامة الوادعي وصحيحه، فحسبه بما لا يزيد كتابه إلا حبا ونفاسة، ولا يزيدك إلا ذلا وحقارة كما قيل:
ومما زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل
__________
(1) ... وفي أي خطأ أنت الآن حتى تقول: كما مر معنا تحت الخطأ الرابع والسبعين!.(1/207)
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والسبعون
قال الدكتور ص (185):
قال (1/174) الحديث رقم (252): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1758):
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: فحدثني هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو صحيح جدا رجال إسناده ثقات أثبات رجال البخاري ومسلم، عدا محمد بن إسحاق؛ وهو الإمام صاحب المغازي روى له مسلم في المتابعات، وروى له البخاري استشهادا.
قلت: أصحاب الأهواء لا حيلة معهم إلا الإعراض عنهم، وإنما يبين ضلال أفكارهم للناس نصحا: قال الله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف: 28].
تقدم بيان حال ابن إسحاق عند قوله: الخطأ الثالث والثلاثون، وأنه حسن الحديث مع النقول عن المحدثين في تحسين حديثه، وأن القول بتصحيح حديثه إن صرح هذا خطأ واضح، ونقول هنا: إذا علم أن تحسين الحديث سببه محمد بن إسحاق في سنده، فما فائدة شحن الصفحات بالترجمة لأئمة مشاهير عند البادئين في طلب علم الحديث؟
الجواب: على لسان حال الدكتور أن الفائدة إيجاد كتاب ولو على شبه أهازيج، ومثل هذه الكتب التي هي مركومة، وليست مفيدة ولا محكومة، لا يجعل الله لها القبول في الأرض، أما قول الدكتور: إن محمد بن إسحاق حديثه أحق أن يصحح من حديث نبيح العنزي، فيقال له: تلك إذا قسمة ضيزى؛ فإن نبيحا وثقه فيما رأيت: أبو زرعة كما في «تهذيب الكمال»، و«تهذيب التهذيب»، و«إكماله» لمغلطاي، و«الميزان» للذهبي.(1/208)
ثانيا: أن نبيحا مع توثيق أبي زرعة وغيره، وتصحيح جماعة من الأئمة لحديثه كما في «التهذيب» ذلك لأنه لم يطعن أحد فيه بجرح، وغاية ما في الأمر أن ابن المديني جهله لاحتمال أن لا يكون علم من حاله ما علم من وثقه كأبي زرعة، ومن علم حجة على من لم يعلم، أما قول الدكتور: إنه مستور حال؛ فقد تقدم تحت قول الدكتور: الخطأ (65) أنه يطلق هذا اللفظ على ثقات، ولا دهشة في ذلك إذ أن الدكتور على حقيقة لا تعلمونها، وهي التدقيق الجديد الذي يرعد به ويزبد، وفي «الموقظة» للذهبي ذكره فيمن يحسن حديثه، وحسن له أعداد من الأئمة كما قدمنا.. فما مثلك أهل أن يقارن بهم يا دكتور، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، ومن هنا نعلم بوضوح أن محاولة الدكتور إلصاق تهمة التناقض على العلامة الوادعي -رحمه الله- انطلقت مهرولة خلف الدكتور شبرا بشر، وذراعا بذراع، حتى صار التناقض له شعارا، والكذب له دثارا في نحو قوله تحت رقم (74) أن الشيخ اتخذ إطلاق [حسن] على الأحاديث مصطلحا خاصا به، وهو يرى مئات الأحاديث في هذا الكتاب يحكم عليها بالصحة، وقد انتقد الدكتور بعضها إذا حكم عليها الشيخ بالصحة فأف وتف لمن لأئمة الحديث يظهر أنه ينقد، وهو للعلم والفهم والإنصاف يفتقد.
(: نقل الدكتور ص(186) عن شيخنا مقبل -رحمه الله- أنه قال في نبيح العنزي: وثقه ابن معين. وهذا خطأ مطبعي وقع في الطبعة الأولى، وقد عدل في الطبعة الثانية والثالثة، وهذا الصنيع من هذا الدكتور يضاف إلى ما قدمناه في عدم صدقه في قوله ص(14):
وللعلم فإننا قد اطلعنا على الكتاب في آخر طبعاته، والمرتبة على النحو الموضوعي، فساءنا مرور بضع سنين على الكتاب بينما الأحاديث كما وردت في الطبعات الأولى دون استدراك.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والسبعون
قال الدكتور ص (188):
قال (1/176) الحديث رقم (257): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/330):(1/209)
حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أفضل الصدقة عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى)).هذا حديث حسن على شرط مسلم. اهـ
قال الدكتور: قلت: نعم على شرط مسلم كما قال: ولكنه صحيح، وليس بحسن، إذ لا علة فيه، فرجاله ثقات أثبات وابن جريج وأبو الزبير من الأئمة الثقات، إلا أنهما اتهما بالتدليس، فحديثهم إذا صرحوا فيه بالتحديث حديث صحيح لا شبهة فيه، كما قرر ذلك أئمة المصطلح، وهما قد صرحا بالسماع في السند، فلا وجه البتة من الناحية العلمية لتوهين الحديث، أو النزول به من درجة الصحة إلى غيرها.. على أن الحديث قد أخرجه مسلم في «صحيحه». (ثم ساقه من حديث حكيم بن حزام).
قلت: ما أكثر تقول هذا الدكتور على الأئمة، وإليك البرهان على كذب الدكتور أحمد على أئمة المصطلح، حيث أنه يضيف إليهم تصحيح حديث أبي الزبير إذا صرح بالتحديث، وقد قال الحافظ ابن حجر في «تقريبه»: صدوق.
هل حديث الصدوق يحسن أم لا؟
وقال في «مقدمة الفتح» (623): وثقه الجمهور، وضعفه بعضهم؛ لكثرة التدليس وغيره، ولم يرو له البخاري سوى حديث واحد في البيوع قرنه بعطاء عن جابر، وعلق له عدة أحاديث، واحتج به مسلم والباقون.
قلت: قول الدكتور: إن حديث أبي الزبير إذا صرح بالتحديث صحيح عند أئمة المصطلح قول منكر، فالذين ضعفوه بالإضافة إلى الذين قالوا صدوق يحسن حديثه كما في كتب الحديث هل هم من أئمة المصطلح أم ماذا؟ أيها الدكتوران: نبؤني بعلم إن كنتم صادقين.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والسبعون
قال الدكتور ص (189):
قال (1/176) رقم (259): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/327):(1/210)
حدثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني أبو الزبير حدثنا جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((إنه مكتوب بين عيني الدجال كافر يقرؤه كل مؤمن)). هذا حديث حسن على شرط مسلم. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه البخاري في «صحيحه» بنحوه وكذلك أخرجه مسلم في الصحيح. (ثم ساقه من حديث أنس وحذيفة).
قلت: ما أحسن ما قيل:
ما يصنع الأعداء في جاهل ... ما يصنع الجاهل في نفسه
لو تأمل الدكتور صنيعه في كل استدراكاته المزعومة، وإن شئت سميتها المذؤمة لرأى أنه يرد على نفسه بنفسه، فيذكر الحديث من «الصحيح المسند» عن صحابي، ويبرهن أنه من الزوائد على الصحيح بذكره من الصحيحين، أو أحدهما عن صحابي آخر فيا لها من غفلة سحيقة، خيمت على دماغ الدكتورين المؤلف والمقدم!
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والسبعون
قال الدكتور ص (190):
قال (1/177) الحديث رقم (261): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/306): حدثنا محمد بن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم، عن محمود بن لبيد، عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة))، قال: قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال: ((واثنان))، قال محمود: فقلت لجابر: أراكم لو قلتم: وواحد لقال: وواحد، قال: وأنا والله أظن ذاك.. هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: كيف وقد أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» في مواضع. (ثم ساقه من حديث أبي سعيد في الصحيحين، وحديث أبي هريرة في مسلم، ثم قال):
والعجيب أن الشيخ حفظه الله يعتبر بقضية الشواهد والمتابعات، وكثيرا ما يرقى الحديث عنده من الحسن إلى الصحة لمخرج آخر له أو شاهد، أو متابع.. إلخ ما قال.
الجواب على هذا من وجوه:(1/211)
أولها: أني عثرت هنا على سر عجيب لماذا الدكتوران لم يخرجا هذه الاستدراكات الموهومة على «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» في حياة الشيخ -رحمه الله- إذ أنها معدة من قبل موته كما يفيد ذلك أمور منها:
قوله هنا: والعجيب أن الشيخ حفظه الله . مما يدل على أن هذه الملزمة على هذا الحديث على الأقل كانت معدة قبل موته -رحمه الله-.
والدليل الثاني: قوله ص (14): وقد أرجأت تسجيل ملاحظاتي العامة على منهج الكتاب وطبيعة الأخطاء الواقعة فيه.... إلخ.
والدليل الثالث: اعتماده على أول طبعة «للصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» بحيث لم نر له عزوا في موضع واحد إلى الطبعة الثانية التي صدرت في حياة الشيخ -رحمه الله- فضلا عن الثالثة التي صدرت بعد موته بخمس سنين.
وأقول والله أعلم: إن الدكتورين فرقا أن يظهر ردهما المهزول في حياة الشيخ -رحمه الله- حتى لا يغمزهما غمز الليث للثعلب، ويبطشهما بطش الصقر للأرنب! وإنما تربصا بالكتاب بعد موته بحين عسى أن يجدا فرصة ما قد صار مثلا:
خلا لك الجو فبيضي واصفري ... ونقري ما شئت أن تنقري
وهيهات فإن لشيخي الجليل علي ما دمت حيا موثقا، أن لا يبغي على جهوده العلمية النافعة أحد إلا ضربت من رأس بغيه المفرقا.
الجواب على دعواه: الخطأ الثمانون
قال الدكتور ص (193):
قال (1/186) الحديث رقم (275): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/156):
حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبدالله بن الصامت أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سبع، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسا، قال: قلت له: لو ادخرته لحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل)).هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/165): ثنا يزيد، أنا همام بن يحيى، به. اهـ(1/212)
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث صحيح ليس بصحيح؛ فالحديث بهذا الإسناد معلول بعنعنة قتادة، وقد نسبه أهل الحديث إلى التدليس، فأيما إسناد لا يصرح فيه بالتحديث والسماع فلا يحتج به.
قلت: تقدم الكلام على عنعنة قتادة فلا حاجة للتكرار هنا.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والثمانون
قال الدكتور ص (195):
قال (1/182) الحديث رقم (269): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/81):
حدثنا عبدالصمد وعفان، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر قال: من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الفجر؟ فقال بلال: أنا، فاستقبل مطلع الشمس فضرب على آذانهم، فما أيقظهم إلا حر الشمس، فقاموا فأدوها، ثم توضئوا، فأذن بلال، فصلوا الركعتين، ثم صلوا الفجر)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح. اهـ
قلت: وقد خرجه الشيخان في «صحيحيهما» بأتم من هذا السياق وأطيب، بل إن هذا السياق فيه نكارة واضطراب؛ إذ أن قوله: ((فأدوها))، الظاهر أنها خطأ، والصحيح ما جاء في سياق رواية النسائي (1/298): ((فقاموا، فقال: توضأوا)). وهذا ما أشار إليه الشيخ في الهامش، على أن الحديث فضلا عن كونه مخرج من الصحيحين فهو متواتر، وقد وقعت هذه الحادثة لدى مرجعه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من خيبر كما ذكر ذلك غير واحد من المحققين.
قلت: لقد أخطأ الدكتور من وجهين:
أولهما: قوله: أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» هذا غلط واضح، فإن حديث جبير بن مطعم لم يخرجه أحد منهما.
فقد عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» رقم (3201) إلى النسائي فقط وهو فيها برقم (624) وعليه تصحيح الشيخ الألباني -رحمه الله-.(1/213)
وعزاه الزيلعي في «نصب الراية» (2/159) إلى أحمد، والطبراني، ولم يذكر فيه نكارة، ولا اضطرابا، وعزاه ابن الجوزي كما في «التنقيح» (3/133) لأحمد، ولم يذكر علة فيه، وأخرجه أحمد في «المسند» (4/81) من طريقين: إلى حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه به.
وقال المحقق: صحيح على شرط مسلم، ووهم في قوله على شرط مسلم، فمسلم لم يعتمد حمادا في غير ثابت.
قال الحافظ المزي في ترجمة حماد بن سلمة من «تهذيب التهذيب»: وقال الحاكم: لم يخرج مسلم لحماد بن سلمة في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وقد أخرج له في الشواهد عن طائفة.
وقال البيهقي: هو أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه فلذلك تركه البخاري.
أي: لم يخرج حديثه، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع من قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثا، أخرجها في «الشواهد». اهـ
قلت: وروايته عن عمرو بن دينار عزاه المزي في «تهذيب الكمال» إلى النسائي، وعلى هذا فالحديث صحيح، وليس على شرط أحد الشيخين.
وأخرجه أبو يعلى رقم (7410)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (474)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»، والطبراني في «الكبير» (1565)، وابن عبدالبر في «التمهيد» (1/171) كلهم من طريق: حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير عن أبيه به.
وهذا إسناد صحيح.
إلا أن الإمام الشافعي أخرجه في «الأم» (1/382) في الصلاة باب الساعات التي يكره فيها الصلاة رقم (258)، وعنه البيهقي في «المعرفة» (3/420) فقال: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فذكر الحديث.
وقال الدارقطني فيما نقله عنه ابن عبدالهادي في «التنقيح» (2/1027): وقول ابن عيينة أشبه بالصواب.(1/214)
ويحسن أن ننقل إجابة ابن خزيمة عن نحوه في «كتاب التوحيد» رقم (185) في باب: نزول الرب جل وعلا من طريق حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن أبيه. وساق الحديث بعده من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن رجل من أصحاب النبي فذكره، ثم قال: ليس رواية سفيان بن عيينة مما توهن رواية حماد بن سلمة؛ لأن جبير بن مطعم رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقد يشك المحدث في بعض الأوقات في بعض رواة الخبر ويستيقن في بعض الأوقات، وربما يشك سامع الخبر من المحدث في اسم بعض الرواة، فلا يكون شك من شك في اسم بعض الرواة مما يوهن من حفظ اسم الراوي.
حماد بن سلمة -رحمه الله- قد حفظ اسم جبير بن مطعم في هذا الإسناد، وإن كان ابن عيينة شك في اسمه فقال: عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. اهـ
قلت: وهب أن قول ابن عيينة: أشبه بالصواب، كما قال الدارقطني؛ فهذا الاختلاف دائر بين رجلين من الصحابة، وكل الصحابة عدول سواء كان جبير بن مطعم، أو رجل من الصحابة آخر فهذه ليست بعلة في الحديث.
والذي كلفنا لهذا البحث هي كلمة رمى بها الدكتور دون أي بحث يثبته على اضطراب الحديث أو نكارته سوى ما قررناه عنه من التخمينات، التي هي شبيهة بتذوق الصوفية أصحاب منهج (حدثني قلبي عن ربي)، فعلم بذلك صحة الحديث، وتجني الدكتور على السنة الصحيحة بغير روية ولا خلفية وبالله التوفيق.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والثمانون
قال الدكتور ص (201):
قال (1/182) الحديث رقم (270): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/84):(1/215)
حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن، أبيه قال: بينا نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- طريق مكة إذ قال: ((يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خيار من في الأرض))، فقال رجل من الأنصار: ولا نحن يا رسول الله؟، فسكت، قال: ولا نحن يا رسول الله؟، فسكت قال: ولا نحن يا رسول الله؟، فقال في الثالثة: كلمة ضعيفة ((إلا أنتم)).
هذا حديث حسن، والحارث بن عبدالرحمن هو خال ابن أبي ذئب.
وأخرجه البزار كما في «كشف الأستار» (3/317). اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث حسن، خطأ، ولا يصح الإسناد تبعا للقواعد العلمية إذ أن فيه مجهولا؛ وهو الحارث بن عبدالرحمن لم يرو عنه إلا ابن أخته ابن أبي ذئب.
قال الحافظ في «التهذيب» (2/148): الحارث بن عبدالرحمن القرشي العامري قال(1) ابن أبي ذئب: روى عن أبي سلمة، وحمزة و..، وعنه ابن أبي ذئب، قال الحاكم أبو أحمد: لا يعلم له راو غيره، وكذا قال غيره.
أما حديث محمد بن إسحاق، عن الحارث بن عبدالرحمن، عن أبي سلمة، عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أكملكم إيمانا أحسنكم خلقا)). فليس هذا الحارث خال ابن أبي ذئب، وإنما هو آخر اسمه الحارث بن عبدالرحمن بن عبدالله بن سعيد بن أبي ذباب ثقة مشهور، روى عنه جمع من الأئمة، واحتج به مسلم في «صحيحه»، ولذا قال الحافظ: وأما الحديث الذي رواه ابن إسحاق عن الحارث فإنه ابن أبي ذباب، أما الحارث بن عبدالرحمن خال ابن أبي ذئب فمجهول، كما نص على ذلك الإمام علي بن المديني فقال: الحارث بن عبدالرحمن الذي روى عنه ابن أبي ذئب مجهول، لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.
__________
(1) كذا! وصوابه: (خال).(1/216)
أما ذكر ابن حبان له في «الثقات» فهذا جريا على قاعدته في توثيق المجاهيل، وقد استنكرها عليه جمهور أهل النقد.. ويكفي في مناقب اليمن وأهله ما ورد في الصحيحين في قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان والفقه يمان، والحكمة يمانية)).
قلت: وقد هوش الدكتور على هذا الحديث بما لم يحط بعلمه، ولما يأته تأويله وذلك بأمرين:
أولهما: أنه ضعف إسناده.
ثانيهما: أن الحارث بن عبدالرحمن الذي في سنده مجهول.
وهاك البرهان على افتراءات الدكتور:
فالحديث أخرجه أحمد في «المسند» (4/84) رقم (16779)، وحسنه المحقق.
وأبو يعلى في «المسند» (13/398)، وحسنه المحقق كذلك، وابن أبي شيبة في «المصنف» (32976)، والطيالسي (2/254) رقم (987) فقال:
حدثنا ابن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبدالرحمن، عن محمد بن جبير عن أبيه، فذكر الحديث، وهذا نص من الطيالسي أنه خال ابن أبي ذئب، وحسنه المحقق.
والطبراني (1549)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2258) كلهم من طريق: محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب، عن خاله الحارث بن عبدالرحمن العامري به.
والبزار في «كشف الأستار» رقم (3/2838)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/29) رقم (16618): وأحد إسنادي أحمد، وإسناد أبي يعلى، والبزار رجاله رجال الصحيح، وذكر الحديث العلامة الألباني في «الصحيحة» رقم (3437).
وأما حكمه على الحارث بن عبدالرحمن خال ابن أبي ذئب بأنه مجهول اعتمادا على قول علي بن المديني: الحارث بن عبدالرحمن الذي روى عنه ابن أبي ذئب مجهول، لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب. فقصور سببه الكسل عن البحث والتنقيب، وهذا هو الظن بالدكتور أحمد!! فإن الحارث -هذا- قد قال فيه النسائي: ليس به بأس. وقال الحافظ في «التقريب»: صدوق.
وقال الذهبي في «الميزان»: مات قبل ابن أبي ذباب بأكثر من عشر سنين، وكلاهما صدوق.(1/217)
زد على ذلك ما نقله مغلطاي في ترجمة الحارث القرشي في «إكمال تهذيب الكمال» عن محمد بن مسعود قال: الحارث بن عبدالرحمن القرشي ثقة.
وقال: وذكره ابن خلفون في كتاب «الثقات».
وسئل عنه ابن معين؟ فقال: يروي عنه وهو مشهور. اهـ من «الإكمال».
قلت: وبعد هذا فالحديث صحيح، وليس حسنا فقط فإن الحارث -ولو لم يرو عنه إلا ابن أخته ابن أبي ذئب الإمام الثقة- صدوق كما في «التهذيب» و«الميزان» إلا أنه قد وثق، وإذا علم توثيقه فهو صحيح الحديث، فأي قواعد علمية يسير عليها الدكتور، حتى وصل إلى تجهيل الحارث القرشي، وأن حديثه هذا لا يصح لعدم صحة إسناده؟! {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} [النور 21].
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والثمانون
قال الدكتور ص (203):
قال (1/188) رقم (278): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/152):
حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن طلق بن حبيب عن بشير بن كعب العدوي، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((هل لك في كنز من كنز الجنة؟))، قلت: نعم، قال: ((لا حول ولا قوة إلا بالله)). هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/172): ثنا عفان ثنا أبو عوانة به. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهو مخرج في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
قلت: نعم وليس من حديث أبي ذر، وقد تقدم الرد عليه في المباحث الماضية.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والثمانون
قال الدكتور ص (204):
قال (1/190) الحديث رقم (282): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (1/572):(1/218)
حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوساق صدقة)). هذا حديث حسن، ومحمد بن مسلم هو الطائفي. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث مخرج في الصحيحين. (ثم ساقه من حديث أبي سعيد).
قلت: تقدم الرد على ذلك في المباحث الماضية من جنس أوهام الدكتور.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والثمانون
قال الدكتور ص (205):
قال (1/190) الحديث رقم (283): قال الإمام البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (3/131):
حدثنا عبدالله بن جعفر البرمكي، ثنا عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل، عن سماك، عن جابر بن سمرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن الشيطان عرض لي فجعل يلقي علي شرر النار، فلولا دعوة أخي سليمان لأخذته)).
وقال البزار: لا نعلم أحدا رواه عن سماك إلا إسرائيل..
قال أبو عبدالرحمن: هذا حديث حسن رجاله رجال الصحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ، إذ أن سماك وهو ابن حرب بن أوس بن خالد أبو المغيرة الكوفي، لم يحتج به البخاري في صحيحه وإنما روى له معلقا، ثم إن الرجل مختلف في توثيقه اختلافا كبيرا بين أهل النقد، فكان الأولى بيان ذلك ولو بنبذة يسيرة. راجع ترجمته في «التهذيب» (4/232).
قلت: سماك بن حرب تقدم عند قوله: الخطأ الحادي والثلاثون أن الدكتور نقل تحسين الشيخ لحديثه، ثم قال: ولكن الحقيقة أنه لم يسبر غوره، ولم يدقق في ترجمته، فجاء الحكم متعجلا قاصرا وهذا يقع كثيرا للشيخ غفر الله له.
وقال: فسلم والحمد لله حديثنا من أن يكون حديث حسن(1) لسبب سماك بن حرب، إذ أنه ثقة لا سيما في إسناد الحديث السابق يعني الذي من طريق شعبة.
__________
(1) ... كذا قال! وصوابه (حديثا حسنا) بالنصب لأنه خبر كان.(1/219)
وانظر كلام الدكتور هنا على سماك، فالشيخ حسن حديثه على ضوابط هذا العلم، فاعترض الدكتور بنقل الكلام في سماك، وبما مؤداه أنه لا يصل حديثه رتبة ما حكم به الشيخ -رحمه الله- أنه حسن.
هذا مما يزيد اليقين عند القارئ بتخبط الدكتور، فسماك صدوق حسن الحديث عند أهل الصنعة، كما تقدم ذكر بعضهم، وسواء فيما تقدم عن شعبة عنه، أو هنا عن إسرائيل عنه.
أما عند الدكتور أحمد فعلى المزاج يحسن، ويصحح، ويوثق، ويضعف!
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والثمانون
قال الدكتور ص (207):
قال (1/200) رقم الحديث (219): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/299):
حدثنا عبدالرحمن، عن سفيان، عن عبدالعزيز يعني ابن رفيع، عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه مسلم في «الصحيح» بنفس النص. (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
تقدم بيان تخليط الدكتور فيه في البحوث الماضية.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والثمانون
قال الدكتور ص (208):
قال (1/207) رقم الحديث (298): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/165):
حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر)).
حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((من سأل من غير فقر)) فذكر مثله. حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: هذا خطأ صريح، فالإسناد فيه أبو إسحاق؛ وهو عمرو بن عبدالله بن عبيد أبو إسحاق السبيعي الكوفي، معروف بالتدليس على جلالة قدره، ورسوخ قدمه في العبادة والعلم، غير أنه اختلط فنسي، وقد عنعن الحديث، ولم يصرح بالسماع، ولم يورد له الشيخ متابعة تجبره وترقى به..(1/220)
قال ابن حبان في «الثقات»: كان مدلسا.. وقال الحافظ في «التهذيب»: ذكره في المدلسين حسين الكرابيسي.
قلت: أعل الحديث بتدليس أبي إسحاق، وقد تقدم عند الكلام على عنعنة قتادة النقل في قبول ما لم يعلم تدليس هؤلاء الأئمة فيه، وليست مجرد عنعنتهم في حديث يرد توجب رده.
وروايته عن حبشي بن جنادة مذكور في «تهذيب الكمال».
وذكر المزي أن أبا إسحاق السبيعي الكوفي ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وحبشي بن جنادة شهد حجة الوداع، وروى حديث: ((اللهم اغفر للمحلقين))، ثم نزل الكوفة، وكان أبو إسحاق السبيعي بها.
فهذه عدة إثباتات لسماع أبي إسحاق من حبشي:
1 روايته عنه.
2 أنه معاصر له.
3 أنه بلديه.
4 أنه لم ينقل أحد حسب علمنا أنه لم يسمع منه، حتى ينقلنا عن هذا الأصل الذي بنى الإمام مسلم صحيحه عليه، كما هو معروف من شرطه.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والثمانون
قال الدكتور ص (210):
قال (1/208) الحديث رقم (299): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/165):
حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، -قال يحيى: وكان ممن شهد حجة الوداع- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: ((اللهم اغفر للمحلقين))، قالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال في الثالثة: ((والمقصرين)). هذا حديث صحيح.
الحديث أخرجه ابن أبي شيبة (4/1) ص (228) فقال -رحمه الله-: حدثنا عبدالله، قال: أخبرنا إسرائيل به. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ من وجهين:
الأول: أن الإسناد فيه عنعنة أبي إسحاق، وقد عرفت ما فيها تحت التعليق على الخطأ السابق وبيان أنه مدلس.
الثاني: أن الحديث أخرجه بنفس النص كل من البخاري ومسلم في «صحيحيهما». (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
القول فيه كسابقه.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والثمانون
قال الدكتور ص (212):(1/221)
قال (1/214) الحديث رقم (206): قال الإمام أحمد -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (1/207):
حدثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير بن عبدالحميد، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن زر، عن حذيفة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا بصق أحدكم في المسجد؛ فلا يبصق عن يمينه، ولكنه عن يساره، أو تحت قدمه)). هذا حديث حسن. اهـ (ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-، وقوله عقبها): فيرتقي الحديث بالسندين إلى الصحة. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث مخرج في الصحيحين. (ثم ساقه من حديث أبي هريرة وأنس).
تقدم بيان خطأ الدكتور في هذا التلفيق.
الجواب على دعواه: الخطأ التسعون
قال الدكتور ص (214):
قال (1/218) رقم (314): قال أبو داود -رحمه الله- (307):
حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى، قالا: حدثنا يعلى حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. هذا الأثر صحيح، وليس بحجة؛ لأنه لم يسند إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ويعلى هو ابن عبيد الطنافسي. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ من وجوه:(1/222)
الأول: أن مذهب الصحابي وفتواه فما لا يعلم له مخالف حجة في الأحكام، لا سيما فيما لا مجال فيه للرأي والنظر، كالأخبار والعقائد التي لا مسرح فيها للاجتهاد، وكذلك الأوامر والنواهي التي ليست عرضة لتعدد الأقوال.. ولذلك قال الآمدي: إن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجة، وقال: إن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل، أو اجتهاد، فإن كان الأول؛ كان حجة. وإن كان الثاني، فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده لترجحه بمشاهدة التنزيل، ومعرفة التأويل، ووقوفه من أحوال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره. «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (4/206).
وذكر ابن القيم في أصول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في الاستدلال فقال: الأصل الثاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يتعدها إلى غيره... إلى أن قال: وإذا وجد الإمام أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملا، ولا رأيا، ولا قياسا. «إعلام الموقعين» (1/37).
وقال الشيخ عبدالوهاب خلاف:
لا خلاف في أن قول الصحابي الذي لم يعرف له مخالف من الصحابة يكون حجة على المسلمين؛ لأن اتفاقهم على حكم في واقعة مع قرب عهدهم بالرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وعلمهم بأسرار التشريع، واختلافهم في وقائع كثيرة غيرها، دليل على استنادهم إلى دليل قاطع..
وقال: لا خلاف في أن قول الصحابي فيما لا يدرك بالرأي والعقل، يكون حجة على المسلمين.. إنه لا بد أن يكون قاله عن سماع من الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- «أصول الفقه» له ص (95).(1/223)
الوجه الثاني: أن هذا الحكم صدر من ابن مسعود وهو من الفقه والدراية والإلمام (1) ثم قرره عليه حذيفة وكأنه كان أمرا مشهودا ومعروفا لديه فنسيه، ثم تذكره حين ذكره به ابن مسعود،(2) ثم هذا الذي وقع منهما كان على مشهد وملأ من المسلمين في خير القرون، ولم ينكر عليهما أحد، فهو أشبه بالإجماع، ومعلوم مدى حجية الإجماع القطعية في القرون الثلاثة الأولى المفضلة.
الوجه الثالث: أن عبدالله بن مسعود(3) أسنده بالفعل إلى صاحب الشرع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن قوله: كانوا ينهون عن ذلك، هكذا بصيغة الجمع التي تشمل كافة الأمة، وهل كان في الأمة المقصودة غير نبيها يأمرها وينهاها.
إن أئمة الأصول حملوا قول الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، أو أبيح لنا كذا، حملوه على أنه مضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال الآمدي في كتابه: إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، وأوجب علينا كذا، وحرم علينا كذا، أو أبيح لنا كذا.. فمذهب الشافعي وأكثر الأئمة أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.. «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (2/137).
قلت: قد انتقد الدكتور الشيخ -رحمه الله- بثلاثة أمور، عليها بنى تخطئته.
الأول: أن قول الصحابي -الذي سماه مذهب الصحابي وفتواه- فيما لا يعلم له فيه مخالف: حجة.
وهذا الكلام الذي نقله هنا هو في الحقيقة رد عليه إذ أن قول الصحابي يقبل عند جمهور العلماء بشروط:
1 أن لا يخالف دليلا لقول الله تعالى: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} [الأعراف: 3].
__________
(1) ... ليس ابن مسعود وإنما أبو مسعود، وعليه تعرف أن وجه الترجيح الذي ذكره لا يصح، وتعرف درجة التحقيق والضبط عند فضيلة الدكتور.
(2) ... تقدم التنبيه على أنه أبو مسعود لا ابن مسعود.
(3) ... لا يزال فضيلة الدكتور مصرا على أنه ابن مسعود، هذا لتعرف أنه ليس خطأ مطبعيا!!(1/224)
2 أن لا يخالفه أحد من الصحابة فإذا خالفه أحد التمس الراجح بالدليل: قال صاحب «مراقي السعود»:
رأي الصحابي على الأصحاب لا ... يكون حجة في قول من خلا
3 أن ينتشر ولا ينكره أحد.
4 زاد بعضهم، بأن لا يعرف عن ذلك الصحابي الأخذ من الإسرائيليات، كما في المصادر التالية «المسودة» لآل تيمية (338)، و«أعلام الموقعين» (4/153)، و«مذكرة أصول الفقه» للشنقيطي (165)، و«مجموع الفتاوى» (20/14).
وفي هذا الحال المانع قد خالف دليلا مجيزا لذلك وخالفه صحابة آخرون.
قال الإمام البخاري -رحمه الله- في «صحيحه» كتاب الصلاة باب: (18) الصلاة في السطوح والمنبر والخشب قال: وصلى أبو هريرة على سقف المسجد بصلاة الإمام.
حدثنا علي بن عبدالله قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو حازم قال: سألوا سهل بن سعد من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقام عليه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة كبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض، فهذا شأنه.
قال أبو عبد الله: قال علي بن المديني: سألني أحمد بن حنبل -رحمه الله- عن هذا الحديث قال: فإنما أردت أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث: قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرا فلم تسمعه منه؟ قال: لا.
البخاري برقم (377)، وهو في مسلم برقم (544).
قال النووي -رحمه الله-: وفيه جواز صلاة الإمام على موضع أعلى من المأمومين.(1/225)
وقال الحافظ في «الفتح»: فيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقيد ذلك بالحاجة، وذكر ابن رجب الخلاف في ذلك بين المتقدمين والمتأخرين في «فتح الباري» عند شرح هذا الحديث (2/225).
ومما ذكره قال: وروى حرب بإسناده عن الأوزاعي أنه لم ير بأسا بالصلاة على الأسرة وأشباهها، وليس في ذلك اختلاف بين العلماء إلا خلاف شاذ قديم، وهذا وإن كان في حق المنفرد، إلا أن صلاة الإمام على مكان مرتفع على المأمومين جائز، ولغير الحاجة فيه كراهة منقولة في كتب الفقه.
والذي نريده هنا أن الدكتور ينتقد في غير محل النقد، فعلى القول بحجية قول الصحابي عند الجمهور بالقيود السابقة أيضا نقول: الحديث يدل على جواز ذلك وهو مقدم على قول الصحابي.
والأمر الثاني: أن الخلاف منقول في صلاة الإمام على مكان مرتفع على المأمومين.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والتسعون
قال الدكتور ص (216):
قال (1/219) الحديث رقم (316): قال الإمام البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (4/132):
حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله يعني ابن موسى ثنا إسرائيل عن عاصم، عن شقيق، عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن بين يدي الساعة كذابين)).
قال البزار: لا نعلمه يروى عن حذيفة بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد.
هذا حديث حسن، وعاصم هو ابن أبي النجود . اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه الإمام مسلم. (ثم ساقه من حديث جابر بن سمرة وأبي هريرة).
تقدم الإنكار على أحمد في خلطه هذا.
والحديث وجوده في «كشف الأستار» من البراهين أنه ليس في «صحيح مسلم» بهذا النص عن حذيفة.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والتسعون
قال الدكتور ص (217):
قال (1/239) الحديث رقم (336): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/67):(1/226)
حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا أبو عبيدة يعني الحداد قال: حدثنا عبدالعزيز بن مسلم، عن يزيد بن أبي منصور، عن ذي اللحية الكلابي أنه قال: يا رسول الله أنعمل في أمر مستأنف أو أمر قد فرغ منه؟ قال: ((لا؛ بل في أمر قد فرغ منه)). قال: ففيم نعمل إذا؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)). هذا حديث حسن، وأبو عبيدة هو عبدالواحد بن واصل. اهـ
قال الدكتور: قلت: في هذا القول علتان:
الأولى: أن الحديث من زوائد عبدالله بن أحمد، كما قرر ذلك الشيخ شعيب الأرنؤوط في حاشيته على «المسند» (27/188) حديث (16630) قال: هذا الحديث من زيادات عبدالله بن أحمد، ووقع في ((م))، و((ق)) من حديث الإمام أحمد، وهو خطأ. اهـ
الثانية: لا أدري علام حسن الحديث ونزل به عن رتبة الصحة، حيث إنه لا يقال عن الحديث، أو الإسناد إنه حسن إلا إذا كان ثمة سبب يهبط به عن درجة الصحيح، ولكنه حديث صحيح، إسناده قوي لا علة فيه رجاله ثقات رجال البخاري عدا يزيد بن أبي منصور الأزدي؛ فقد روى له مسلم وحده، وهو ثقة كما سيأتي بيانه. (ثم ترجم لهم، وخلص بأن رجال السند كلهم ثقات، ثم قال في يزيد بن أبي منصور):
واحتج به مسلم في صحيحه، وعليه فالسند صحيح لا مطعن فيه.
والحديث رواه البخاري بنحوه في الصحيح، وكذلك مسلم رحمهما الله . (ثم ساقه من حديث علي وجابر وعمران).
قلت: ذكر الدكتور هنا عدة انتقادات، ولنا عليه عدة تعقبات:
أولها: على قوله: أن الحديث من زوائد عبدالله وأنه عن أحمد خطأ.
ولا مأخذ على الشيخ -رحمه الله- في ذلك؛ إذ أن الحديث هكذا من مسند أحمد لا من زوائد ابنه في بعض النسخ نقل منها فإن يكن هناك خطأ فهو من بعض النسخ.(1/227)
وقد رأينا في «تهذيب الكمال» أن أحمد وابنه، روي عن ابن معين، فلا مانع أن يكون الحديث عن أحمد في «المسند» وعند ولده في «الزوائد» وهذا كثير، وأحمد لما أصيب به من الكسل لم يعد إلى هذه المصادر المثبتة بأن الحديث من زوائد أحمد، ولم ينقل منها شيئا في«ظلماته»، وأيضا: لو نظر ترجمة أحمد وابن معين لربما علم أن أحمد روى عنه ابن معين فلا مانع أن يروي الحديث عبدالله وأبوه.
المأخذ الثاني: إن الدكتور يتعجب من تحسين الحديث بهذا السند، ولماذا نزل عن الصحة وأنه لا سبب لإنزاله عن الصحة إلى الحسن، وهذا جهل من أحمد كما سيأتي في الفقرة بعدها.
المأخذ الثالث: أن سبب تحسين الحديث هو أن يزيد بن أبي منصور، قال فيه أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وليس في «تهذيب الكمال»، و «تهذيب التهذيب» عن حاله غير هذا.
ولذلك قال الحافظ في «التقريب»: لا بأس به انتهى.
وعلى هذا فجعل من هذا حاله صحيح الحديث جهل فاضح.
والمهم أن الدكتور تارة يصحح لمن لا يستحق التصحيح له، وأخرى يجهل الثقات كما تقدم تحت قوله: الخطأ الثاني والسبعون أنه قال: عن الحارث القرشي مجهول، وتقدم أنه قال عن أحد الثقات مستور أي مجهول حال.
فالرجل لا شأن له بهذا العلم من قبيل ولا دبير، ولا ناقة له فيه ولا جمل، وهذا هو الواقع، وجمع مع ذلك عقلانية بغيضة نسأل الله أن يدفع عن كتب السنة يده السوداء، وعقلانيته الظلماء.
المأخذ الرابع: قوله: واحتج به مسلم في «صحيحه» رجما بالغيب، وهذا برهان واضح على ما قررناه عنه أنه كسول لم يعد إلى الأصول، فهذا الإمام المزي يرمز أمام ترجمة يزيد بهذا الرمز: (قد ت) وكذا في «التهذيب» فلا أدري أعرف أحمد معنى هذا الرمز أم أنه يظن أن [قد] أو [ت] رمز مسلم أم أنه لم يرجع إلى الأصل.(1/228)
وفي حاشية «تحرير التقريب» تنبيه على ذلك، فأحمد لا يعبأ، ولا يكترث بما خالف أصلا، أو وافق صدفة، القصد أن يحشر نفسه تطفلا ضمن طلاب هذا العلم الشريف، دون جهد ملموس في تحصيله.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والتسعون
قال الدكتور ص (220):
قال (1/259) الحديث رقم (354): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (4/368):
حدثنا محمد بن عبيد وأبو المنذر، قالا: ثنا يوسف بن صهيب، قال أبو المنذر في حديثه: قال: حدثني حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم، قال: ((لقد كنا نقرأ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهو مخرج في «الصحيحين». (ثم ساقه من حديث ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك).
تقدم بيان تخليط الدكتور فيه مما مضى.
وهذا الحديث عزاه الحافظ في إتحاف المهرة (4/573) إلى: أبي عوانة، وأحمد، وعزاه الهيثمي (10/425) إلى: أحمد، والطبراني، والبزار.
فهل هؤلاء الأئمة أصابوا في عزوهم أم أخطأوا؟!
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والتسعون
قال الدكتور ص (224):
قال (1/130) كتاب العلم الحديث رقم (102) باب طالب العلم لا يترك الكسب: قال الإمام أحمد -رحمه الله- (205) بتحقيق أحمد شاكر:
حدثنا أبو عبدالرحمن، حدثنا حيوة أخبرني بكر بن عمرو أنه سمع عبدالله بن هبيرة يقول: إنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنه سمع نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا)). هذا الحديث بهذا السند فيه ضعف؛ لأن بكر بن عمرو المعافري المصري، كلام أهل العلم يدل على ضعفه، وإن روى له البخاري ومسلم.
قال الإمام أحمد: يروى عنه.
وقال أبو حاتم: شيخ.(1/229)
وقال ابن يونس: توفي في خلافة أبي جعفر، وكانت له عبادة وفضل.
وقال ابن القطان: لا نعلم عدالته.
وقال الحاكم: سألت الدارقطني عنه؟ فقال: ينظر في أمره... اهـ مختصرا من «تهذيب التهذيب» ولكن قد أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله- (1/52) طبعة الحلبي.
فقال: ثنا حجاج، أنبأنا ابن لهيعة، عن عبدالله بن هبيرة، به.
قال الإمام أبو عبدالله ابن ماجه (2/1294): حدثنا حرملة بن يحيى، ثنا عبدالله بن وهب، أخبرني بن لهيعة، عن ابن هبيرة.
فالحديث حسن لغيره، وابن لهيعة، وإن روى عنه ابن وهب، وهو أحد العبادلة فإني لا أرى تصحيح حديثه والله أعلم. اهـ
قلت: وفي هذا التخريج مجموعة أغلاط تفرد بها الشيخ مقبل غفر الله له عن سائر أهل العلم.
فإسناد الحديث صحيح لذاته، رجاله ثقات رجال مسلم. (ثم ترجم لهم على عادته في تضخيم الكتاب، وخلص بأنهم ثقات، حتى بلغ ترجمة بكر بن عمرو فقال):
أما بكر بن عمرو: فقد أرجأنا الحديث عنه للتفصيل؛ إذ أن الشيخ قد أعل الإسناد وضعفه من أجله، وما كان ينبغي التسرع، بل يحسن للمرء أن يسبر غور الراوي، فلعله بعد التنقيب والإحاطة بأقوال أهل العلم فيه، يتغير الحكم تماما، كما حدث في هذه الترجمة.
بكر بن عمرو: هو المعافري المصري إمام جامعها ثقة حجة لاحتجاج الشيخين به، وإخراجهما لحديثه في «صحيحيهما» أما من همزه بغير حجة، أو توقف ولم يعلم خبره؛ فهذا شأنه، ولا يرد حكم من عدل، أو وثق الراوي.
والآن: نستعرض المقتطفات التي أوردها الشيخ من كلام أهل العلم عن بكر ونرد عليها، ثم نذيل بكلام من علم حال هذا الراوي، ولم يورده الشيخ عند الحديث عنه، أما قول الإمام أحمد -رحمه الله- عن بكر: يروى عنه، ففيها تليين وسكوت عن حاله لا أكثر.(1/230)
وقول أبي حاتم: ((شيخ)) كذلك فيها تليين، ولا ترد قول من قال بعدالته، وأثبت صدقه ووثقه.. ومعروف عن أبي حاتم -رحمه الله- أنه إذا لم يعرف الراوي يجهله ويعتبره في عداد المجهولين، ولو قال: لا أعلمه، لكان أقرب إلى الصواب، وقد تعجب الحافظ ابن حجر من صنيعه هذا في مواضع عديدة من «التهذيب».
أما قول ابن يونس عنه: توفي في خلافة أبي جعفر، وكانت له عبادة وفضل، فما أحسب أن أحدا من العقلاء يختلف أنها صيغة تعديل وبيان فضل، لا كما يظن الشيخ مقبل أنها تضعيف للرجل.
أما قول ابن القطان: لا نعلم عدالته، فقد علمها غيره والحمد لله.
وقول الحاكم حينما سأل الدارقطني عنه؛ فأجاب: ينظر في أمره، فيبدو أنه سعى مجتهدا للنظر في أمره ثم وثقه وهذا من الإنصاف، فقد ثبت عن الدارقطني أنه قال عن بكر: يعتد به.(1) كما جاء في «تهذيب الكمال» (4/223)، وكذلك «الميزان» (1/347)(2).
وإليك قول من نظروا في بكر وحاله:
قال الذهبي: كان ذا فضل وتعبد، محله الصدق، واحتج به الشيخان، «الميزان» (1/347).
وقال الذهبي أيضا في «الكاشف»: عابد قدوة. وقال في «تاريخ الإسلام»: وكان أحد الأثبات.
وقال الحافظ ابن حجر: صدوق عابد، ووثقه ابن حبان.
__________
(1) ... لفظ الدارقطني كما في «موسوعة أقواله»: يعتبر به. ولم يقل: يعتد به، والفرق بين اللفظين واضح، وكذا هو في «تهذيب التهذيب» و«مقدمة الفتح» للحافظ ابن حجر.
(2) ... أما أنه في «تهذيب الكمال» فليس بصحيح، وأما في «الميزان» فنعم ولعله تصحيف.(1/231)
وهو بعد احتجاج البخاري ومسلم به لا يحتاج لمزيد تعديل، فقد عبر القنطرة، ولم يأت من تكلم فيه بحجة، بل جل كلامهم يدور على عدم معرفتهم بالرجل، ومن علم حجة على من لم يعلم، ولذلك قال العلامة أحمد شاكر على إسناد الحديث المذكور: إسناد صحيح، «المسند» بتحقيق أحمد شاكر (1/243)، وكذلك قال الشيخ الألباني على هذا الإسناد المذكور فيه بكر قال: صحيح على شرط مسلم رجاله رجال الشيخين غير ابن هبيرة، وأبي تميم فمن رجال مسلم وحده. انظر «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني رقم (210).
وعليه.. فالسند صحيح ولا نعلم أحدا ضعفه كما فعل الشيخ مقبل.
ومن هنا تعلم أن قوله على الحديث: حسن لغيره، بعيدا(1) عن الصواب، بل هو صحيح لذاته.
أما قوله عن ابن لهيعة: وابن لهيعة، وإن روى عنه ابن وهب وهو أحد العبادلة، فإني لا أرى تصحيح حديثه والله أعلم. اهـ
أقول: هذا خطأ وهو مجاف للإنصاف، وإنما الحق التوسط في حال ابن لهيعة، ودراسة سيرته بدقة، للوقوف على ما يؤخذ منه، أو يتوقف فيه، فهو إمام من أئمة الدين، وعدل فاضل صدوق، فمن ضعفه بمرة أسرع ولم يحقق، ومن وثقه بإطلاق عجل ولم يدقق، ولذا ينبغي أن يقف طالب العلم على أحوال الرجال، وأقوال أهل العلم فيه.
فهو: عبدالله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي أبو عبدالرحمن المصري الفقيه قاضي مصر روي عنه جمع غفير من الأئمة على رأسهم العبادلة الثلاثة: ابن المبارك، وابن وهب، وابن يزيد المقرئ، وشعبة، والأوزاعي، وقد أكثر الإمام أحمد في الرواية عنه، وسفيان، وقتيبة وخلق كثير.
ضعفه يحيى بن معين، وعبدالرحمن بن مهدي بدون حجة ظاهرة، بل وثقه وأثنى عليه كثيرا(2) من الأئمة، لا سيما الذين خبروا أمره، ودرسوا أحواله.
قال الذهبي: عبدالله بن لهيعة قاضي مصر وعالمها.
__________
(1) ... كذا قال! وصوابه: (بعيد) بالرفع لأنه خبر إن.
(2) ... كذا قال! وصوابه: (كثير) بالرفع لأنه فاعل.(1/232)
قال الإمام أحمد: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه، وضبطه وإتقانه؟!! «الميزان» (2/477).
وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلابا للعلم، وأثنى عليه سفيان الثوري، فقال: كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة، وقال قتيبة: حضرت موت ابن لهيعة فسمعت الليث يقول عنه: ما خلف مثله.
قال المزي في «تهذيب الكمال»: حدث عنه أحمد حديثا كثيرا (15/187).
قال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح وكان من خيار المتقنين يثني عليه. أي يثني على عبدالله بن لهيعة. «تهذيب التهذيب» (5/376).
ويلاحظ أن قول الإمام أحمد بن حنبل في توثيق ابن لهيعة: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه، وإتقانه، وقد كان في هذه الآونة بمصر الإمام الكبير القدر (الليث بن سعد) فإذا قال الإمام أحمد بشأن ابن لهيعة ما قال في وجود الليث، فهذا لعمري أعظم توثيق وآكده، فلا يلتفت لمن ضعف هذا الإمام المحدث.
ولعل أعدل الأحكام وأوسطها قول ما قاله ابن شاهين عن أحمد بن صالح قال: عبدالله بن لهيعة ثقة، وفيما روى عنه من الأحاديث، ووقع فيها تخليط يطرح هذا التخليط انظر: «الثقات» لابن شاهين الترجمة رقم (625).(1/233)
قلت: من يدقق الأمر يجد أن هذا التخليط ليس من ابن لهيعة، وإنما من بعض تلاميذه الذين سمعوا منه، فقد قال يعقوب بن سفيان: سمعت أبا جعفر أحمد بن صالح، وكان من خيار المتقنين يثني على ابن لهيعة، وقال لي: كنت أكتب حديث أبي الأسود في الرق فاستفهمته فقال لي: كنت أكتبه عن المصريين وغيرهم ممن يخالجني أمرهم، فإذا ثبت لي حولته في الرق وكتبت حديث أبي الأسود، وما أحسن حديثه عن ابن لهيعة، قال: فقلت له: يقولون: سماع قديم، سماع حديث؟ فقال لي: ليس حديثه إملاء، فمن ضبط كان حديثه حسنا صحيحا، إلا أنه كان يحضر من يضبط ويحسن، ويحضر قوم يكتبون ولا يضبطون، ولا يصححون... إلى أن قال: فمن وقع على نسخة صحيحة فحديثه صحيح، ومن كتب من نسخة لم تضبط جاء فيه خلل كثير... اهـ
ولعل هذا النص يكشف أن الخلط والخلل في بعض أحاديث الإمام ابن لهيعة ليس منه على الإطلاق، وإنما كما ورد في قول أحمد بن صالح: ممن سمعوا عن الإمام.
والظاهر أن عبدالرحمن بن مهدي الذي توقف في الرواية عن ابن لهيعة لاعتقاد ضعفه عنده، الظاهر أنه ندم على ذلك ورجع عنه... حيث ينقل المزي في «تهذيب الكمال»: قال علي بن عبدالرحمن بن المغيرة عن محمد بن معاوية: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: وددت أني سمعت من ابن لهيعة خمس مئة حديث، وأني غرمت مؤدى كأنه يعني: دية. (15/495).
وكذلك المقولة أو الإشاعة بأن كتبه قد احترقت وقت ما شب الحريق في بيته، ومن ثم فمن كتب عنه قبل هذا الحادث فحديثه صحيح، وإلا فلا.. هذا المقولة فيها نظر كذلك، إذ أثبت المقربون من الإمام الذين عاصروه إبان هذا الحادث أن كتبه لم تحترق. {ولا ينبئك مثل خبير} [فاطر: 14].(1/234)
قال يحيى بن عثمان بن صالح السهمي: سألت أبي متى احترقت دار ابن لهيعة؟ فقال: في سنة سبعين ومائة. قلت: واحترقت كتبه كما تزعم العامة؟ فقال: معاذ الله ما كتبت كتاب عمارة بن غزيه إلا من أصل كتاب ابن لهيعة بعد احتراق داره، غير أن بعض ما كان يقرأ منه احترق، وبقيت أصوله بحالها. «تهذيب الكمال» (5/496).
وقال يحيى بن معين: قال أهل مصر: ما احترق لابن لهيعة كتاب قط، ما زال ابن وهب يكتب عنه حتى مات.
وكذلك اتفق أكثر المحدثين على أن رواية العبادلة الثلاثة، عبدالله بن المبارك، وعبدالله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ، إذا روى أحدهم عن ابن لهيعة فإن حديثه صحيح، حيث أن هؤلاء الأئمة دأبهم التحري والدقة. قال الفلاس: من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك، والمقرئ فسماع أصح. «الميزان» (2/477).
قال ابن حبان: كان ابن لهيعة صالحا، لكنه يدلس عن الضعفاء، ثم احترقت كتبه وكان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة، عبدالله بن وهب، وابن المبارك، وعبدالله بن يزيد المقرئ، وعبدالله بن مسلمة القعنبي فسماعهم صحيح، وكان ابن لهيعة من الكاتبين للحديث، والجماعين للعلم والرحالين فيه.. «الميزان» (2/428).
وقال الحافظ في «التقريب»: صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في «صحيح مسلم» بعض شيء مقرون (1/526) الترجمة رقم (3574)، وقد علمت أن قصته احتراق كتبه غير صحيحة، وأن المقربين أثبتوا بقاء كتبه، وأن عبدالله بن وهب لا يزال يكتب من كتبه حتى مات.
وقال الأزدي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح: ابن المبارك وابن وهب والمقرئ، وكذلك ذكر الساجي وغيره.(1/235)
وعليه... تعلم أن قول الشيخ مقبل في عدم تصحيح حديث عبدالله بن لهيعة، حتى من رواية العبادلة عنه، قول ضعيف شاذ عن منهج أكثر المحققين.. لمزيد من التعرف على حال الإمام راجع: «طبقات ابن سعد» (7/516)، و«التاريخ الكبير» للبخاري (5/الترجمة رقم (574)، و«أحوال الرجال» للجوزجاني الترجمة (274)، و«تاريخ أبي زرعة الدمشقي» (176)، و«الجرح والتعديل» (5/الترجمة:682)، و«المجروحين» لابن حبان (2/11)، «معجم البلدان» (1/165)، و«سير أعلام النبلاء» (8/10) تذكرة الحفاظ (1/237).
قلت: وعلى كلام الدكتور هنا عدة تعقبات:
أولها: أن الملاحظ عنه إكثاره من كلمة تخريج، فلا بأس بنقل بعض ما يوضح المسار فيها، حتى لا يخلط في ذلك.
قال السيوطي في «تدريب الراوي» (1/152) تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف: وغاية المخرج أن ينقل الحديث من أصل موثوق بصحته وينسبه إلى من رواه، ويتكلم على علته، وغريبه وفقهه. اهـ
وقال السخاوي: والتخريج إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء، والمشيخات، والكتب، ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه، أو بعض شيوخه، أو أقرانه، أو نحو ذلك، والكلام عليها، وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين.
التعقب الثاني: قوله: مجموعة أغلاط تفرد بها الشيخ مقبل عن سائر أهل العلم.
وذكر من تلك الأغلاط التي يزعم فقال: إسناد الحديث صحيح لذاته رجاله ثقات رجال مسلم.
قلت: وإليك بيان تخليط الدكتور وتقحمه هذا العلم، وهو لا يحسن مبادئه: فالحديث قد أبان العلامة الوادعي -رحمه الله- سبب تحسينه له، وهو بكر بن عمرو في إسناده بما لا داعي لكثرة التراجم لمن عداه في السند، وقد اعترف أحمد في سياق كلامه بأن الشيخ ضعف الحديث من أجله، فما الموجب لمحاولة تفخيم الكتاب بتراجم الآخرين في الإسناد؟.
أما بكر بن عمرو المعافري: فقد قال فيه الحافظ في «تهذيب التهذيب» ما نقله عنه الشيخ -رحمه الله- في هذا الموضع.(1/236)
وليس فيما ذكر في «التهذيب» له أي توثيق من معتبر.
وقول الدارقطني: يعتبر به أي: في الشواهد، كما علم من مدلول هذه الكلمة عند أهل الشأن، أن الذي يصلح في الشواهد والمتابعات يقال: يعتبر به هذا هو المتداول والمشهور.
ومما يدل لما قاله العلامة الوادعي -رحمه الله- ما نقله مغلطاي عن ابن القطان أنه قال في ترجمة ((بكر)) هو من الشيوخ الذين لا يعرفون بالعلم كلما وقعت لهم روايات أخذت عنهم، قال: وبنحو ذلك وصفه أحمد بن حنبل.
قلت: فأين في هذا الكلام ما يدل على تحسين حديثه فضلا عن تصحيحه؟.
أما قول الدكتور عن بكر: ثقة حجة لاحتجاج الشيخين به.
فهذا كلام من يهري بما لا يدري، ويهرف بما لا يعرف، فإن الشيخين لم يحتجا به في «صحيحيهما» وهذا كلام الحافظ من مقدمة الفتح ص(560): له في البخاري حديث واحد في التفسير، وهو حديثه عن بكير بن الأشج، عن نافع عن ابن عمر في ذكر علي وعثمان، وهو متابعة.
وقد أخرجه البخاري من طريق أخرى.
قلت: الحديث المذكور في البخاري رقم (4650) تفسير سورة الأنفال باب: 5 ونقل صاحب خلاصة «تهذيب الكمال» أن له في البخاري فرد حديث أي: هو المذكور هنا.(1/237)
وذكر له صاحب رجال مسلم حديثا عن أبي ذر، أخرجه مسلم في «صحيحه» رقم (1825) باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة: من طريق الليث بن سعد قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكر بن عمرو عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن حجيرة الأكبر، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)). ونبه الإمام النووي -رحمه الله- على أنه في «صحيح مسلم» مقرون فقال: قوله: حدثني الليث بن سعد قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن بكر بن عمرو، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن ابن حجيرة الأكبر، عن أبي ذر، هكذا وقع هذا الإسناد في جميع نسخ بلادنا، يزيد بن أبي حبيب عن بكر.
قال: ووقع عند ابن ماهان: حدثني يزيد بن أبي حبيب، وبكر بواو العطف.
والأول: هو الصواب.
قلت: وقد ساقه مسلم بعده رقم (1826) بسند آخر إلى أبي ذر فعلم أنه ذكر بكرا في المتابعات.
وما ذكره الإمام مسلم في مقدمة «صحيحه» يدل على ما وقع عند ابن ماهان، وأن مسلما -رحمه الله- ذكر بكر بن عمرو مقرونا.
قال الإمام مسلم -رحمه الله-: ثم إنا إن شاء الله مبتدئون في تخريج ما سألت، وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى عنه فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام.
فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن تفصيله ربما عرف من جملته فإعادته بهيئته إذا أضاق ذلك أسلم.(1/238)
فأما ما وجدنا بدا من إعادته بجملته من غير حاجة منا إليه، فلا نتولى فعله إن شاء الله تعالى.
فأما القسم الأول: فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها، وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم، فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس، أتبعناها أخبارا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان، كالصنف المقدم قبلهم على أنهم؛ وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار، ونقال الأخبار فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة، لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة، وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء، ويزيد، وليثا، بمنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد في إتقان الحديث، والاستقامة فيه وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لا شك عند أهل العلم بالحديث في ذلك للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسمعيل وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء، ويزيد، وليث، وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون، وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة، وأشعث الحمراني، وهما صاحبا الحسن، وابن سيرين كما أن ابن عون، وأيوب صاحباهما إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم، ولكن الحال ما وصفنا من المنزلة عند أهل العلم، وإنما مثلنا هؤلاء في التسمية ليكون تمثيلهم سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل(1/239)
العلم في ترتيب أهله فيه، فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته، ولا يرفع متضع القدر في العلم فوق منزلته، ويعطى كل ذي حق فيه حقه، وينزل منزلته. اهـ
وأما ابن لهيعة الحضرمي: فقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن ابن لهيعة، والإفريقي، أيهما أحب إليكما فقالا: جميعا ضعيفان، بين الإفريقي وابن لهيعة كثير. أما ابن لهيعة: فأمره مضطرب يكتب حديثه على الاعتبار.
قلت لأبي: إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل ابن المبارك، وابن وهب يحتج به قال: لا.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن معين: كان ضعيفا لا يحتج بحديثه، كان من شاء يقول له حدثنا.
وقال أبو زرعة: كان لا يضبط.
وقال مسلم في «الكنى»: تركه ابن مهدي، ويحيى بن سعيد ووكيع.
وقال الحاكم: أبو أحمد ذاهب الحديث.
وقال ابن حبان: سبرت أخباره، فرأيته يدلس عن قوم ضعفاء على أقوام ثقات قد رآهم، كان لا يبالي ما دفع إليه قرأه سواء كان من حديثه، أو لم يكن، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من الأخبار المدلسة عن المتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين بعد احتراق كتبه، لما فيها مما ليس من حديثه.
وقال ابن معين: ضعيف قبل أن تحترق كتبه، وبعد احتراقها.
وقال يحبى بن سعيد: قال لي بشر بن السري لو رأيت ابن لهيعة، لم تحمل عنه حرفا.
وقال الجوزجاني: لا نور على حديثه، ولا ينبغي أن يحتج به، وأيضا ابن لهيعة شديد التدليس ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه «مراتب المدلسين» من الطبقة الخامسة التي هي آخر طبقة في كتابه هذا، أو التي قال عنها في مقدمته: الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس؛ فحديثهم مردود، ولو صرحوا بالسماع إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيرا كابن لهيعة.
قال: وهذا التقسيم حرره الحافظ صلاح الدين العلائي في «جامع التحصيل».(1/240)
قال ابن خزيمة: وابن لهيعة ليس هو ممن أخرج حديثه في هذا الكتاب إذا انفرد بالرواية، وإنما أخرجت هذا الحديث، لأن جابر بن إسماعيل معه في الإسناد، وخرج له حديثا آخر مقرونا بيحيى بن أيوب عن عمرو بن سواد.
وفي «تاريخ بخارى» لعيسى بن موسى غنجار سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة؟ فقال: تركه البخاري.
وفي كتاب «الخلافيات» لأبي بكر قال: ضعيف عندهم.
وفي «الذخيرة» لابن طاهر قال: وابن لهيعة لا يلتفت إليه، وقال ابن الجارود: لا يحتج بحديثه.
وضعف الدارقطني حديثه. اهـ من «تهذيب التهذيب» لابن حجر، و«إكمال تهذيب الكمال» لمغلطاي، و«ميزان الاعتدال» للذهبي، إضافة لما ذكره الدكتور الذي أهمل جانب الجرح المهم في ابن لهيعة، وذهب يلخص بعض الرسائل المؤلفة في ابن لهيعة، وروايته عن العبادلة.
وبهذا؛ تعلم أن الدكتور لا اتصف بالإنصاف مع من تقدم ذكرهم من المحدثين، ولا اتصف بالأدب معهم إذا عثرهم شذاذا، وأن من ضعفه أسرع ولم يحقق، وغير ذلك من التبجحات المزخرفة المكذوبة.
ثم ذهب يرقم المراجع لترجمة ابن لهيعة، وبما علمته من كسل الدكتور وفتوره عن البحث، صار عندي أن هذه المراجع لم يعد إليها، وإنما جمعها من بعض المؤلفة في شأن ابن لهيعة، وفريته الحال معتبرة في مثل هذا.
قلت: وما مضى من القدح في رواية ابن لهيعة من وجوه:
أولها: ترك من تركه، وهذا ضعف غير يسير.
ثانيها: ضعيف من قبل، ومن بعد، ولم يطرأ عليه الضعف إلا بعد احتراق كتبه.
ثالثها: أنه مدلس شديد التدليس عن الضعفاء مذكور من الخامسة، فهو وإن روى عنه أحد العبادلة إلا أن تدليسه يضر، وليس كتدليس بعض الأئمة الذين يغتفر بتدليسهم في جانب ما رووا.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والتسعون
قال الدكتور ص (230):
قال (1/194) كتاب العلم (126) باب: الجرح الطبعة الحديثة: قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم في «السنة» (2/455) -رحمه الله-:(1/241)
حدثنا أبو موسى، حدثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي، عن قتادة، عن عقبة بن وساج، قال: كان صاحب لي يحدثني عن شأن الخوارج، وطعنهم على أمرائهم، فحججت فلقيت عبدالله بن عمرو، فقلت له: أنت من بقية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقد جعل الله عندك علما، وأناس بهذا العراق يطعنون على أمرائهم، ويشهدون عليهم بالضلالة. فقال لي: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، أتي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقليد من ذهب وفضة، فجعل يقسمها بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك أن تعدل، فقال: ((ويحك من يعدل عليه بعدي؟)) فلما ولى قال: ((ردوه رويدا)). فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن في أمتي أخا لهذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرجوا فاقتلوهم))، ثلاثا... وهذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا غير صحيح، فالإسناد فيه علتان:
الأولى: عنعنة قتادة، فهو وإن كان ثقة لكنه صاحب تدليس.
الثانية: ظاهر السياق أن في الإسناد رجلا مبهما، حيث لم يذكر عقبة بن وساج صاحبه الذي حدثه عن عبدالله بن عمرو، ولكن وقع لدينا نسخة من كتاب «السنة» لابن أبي عاصم بتحقيق الشيخ الألباني [طبعة المكتب الإسلامي] (1400/هـ 1980/م) (2/455) الحديث بنص.. عن عقبة بن وساج قال: كان صاحب لي يحدثني عن أمر الخوارج وطعنهم على أمرائهم فحججت فلقيت عبدالله بن عمرو.. فذكر الحديث.
قلت: وبزيادة كلمة ((كان)) التي سقطت من نسخة الشيخ مقبل -رحمه الله- يرتفع الشك في الإبهام، فيعلم بذلك أن صاحبه كان يحدثه عن شأن الخوارج وطعنهم على أمرائهم فقط ، ولكن الذي حدث عن عبدالله بن عمرو هو عقبة بن وساج.
والحديث يغني عنه ما ثبت في «الصحيحين» من أخبار الخوارج والله تعالى أعلم..
قلت: أما تشبثه بعنعنة قتادة، فتقدم بيانه بما لا يحتاج إلى تكرار.(1/242)
وأما قوله: ظاهر السياق أن في الإسناد رجلا مبهما، ودعواه وقعت لديه نسخة من كتاب «السنة» لابن أبي عاصم (2/455)، هذا غير صحيح. فأنت ترى أن الشيخ عزى إلى نفس رقم الجزء والصفحة التي عزا إليها الدكتور.
وزيادة (كان) في جميع نسخ السنة الموجودة بتحقيق الألباني، بل حتى بتحقيق الجوابرة (2/647) رقم (967).
و لعلها سقطت من الطبعة الأولى لكتاب «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين»، وهذا من الأدلة على كذب أحمد هداه الله في مقدمة كتابه ص (14) أنه اطلع على الكتاب في آخر طبعاته، وأنه ساءه مرور بضع سنين على الكتاب دون أي استدراك أو تصحيح..
مع أن (كان) مثبتة في الطبعة الأخيرة الصادرة عام/1426هـ (1/616) بلفظ: قال: كان صاحب لي.
وإنما مثل الدكتور؛ كمثل شمس بن عطاء الرازي المتوفي سنة/ 887هـ ذكر القصة الشيخ بكر في «التعالم» ص (18) ضمن المجموعة العلمية: أنه كان عريض الدعوى في الحفظ، فاستعظم الناس ذلك فجعلوا له مجلسا لامتحانه، وكان من جملة ما سئل عنه حينئذ: هل ورد النص على أن صلاة المغرب تقصر؟ فقال: نعم. جاء ذلك في كتاب «الفردوس» لأبي الليث السمرقندي، فلما رجعوا إلى كتاب أبي الليث السمرقندي لم يجدوا فيه ذلك، فقيل له في ذلك. فقال: لكتاب السمرقندي هذا ثلاث نسخ: كبرى، ووسطى، وصغرى، وهذا الحديث في الكبرى، ولم تدخل الكبرى هذه البلاد، فاستشعروا كذبه من ذلك اليوم.
قال معلقا على هذه القصة: هكذا فليكن كذب المتعالمين.
قلت: ومهما يكن إثبات (كان)، أو حذفها، فإن ذلك لا يفيد أن عقبة بن وساج أخذ الحديث النبوي عن صاحبه ذلك، وإنما يحدث فيه عن شأن الخوارج، كما يتحدث الناس بعضهم مع بعض في أمور الفتن.
ثم كيف لم يفهم أحمد قول عقبة فحججت، فلقيت عبدالله بن عمرو، وساق الحديث عن عبدالله.(1/243)
مع أن عقبة بن وساج له رواية من عبدالله بن عمرو مذكورة في ترجمته من «تهذيب الكمال»، ولم يذكر العلامة الألباني هذا الانقطاع الذي استظهره الملقب بالدكتور أحمد عافاك الله أيها القارئ من غباء هو فيه.
ولا استظهره العلامة الوادعي، ولا الجوابرة محقق كتاب «السنة» لابن أبي عاصم، وقد أخرج الحديث البزار كما في «كشف الأستار» (2/359)، ولم يذكر فيه هذه العلة الرائعة، ولا ذكرها الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/228). فاللهم اكف كتب الحديث عبث الدكتور وأمثاله بما شئت وكيف شئت.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والتسعون
قال الدكتور ص (231):
قال (1/203) كتاب العلم (127) باب جرح أصحاب البدع طبعة دار الحرمين (1995/م): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3844):
حدثنا معاوية، حدثنا زائدة عن عاصم بن أبي النجود، عن شقيق، عن عبدالله قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد)). هذا حديث حسن. ومعاوية هو ابن عمرو.
وقال الإمام أحمد -رحمه الله- (4143): حدثنا عبدالرحمن بن مهدي، حدثنا زائدة به.
وأخرجه أبو يعلى (9/216)، والبزار كما في «كشف الأستار» (4/151) الحديث من أوله إلى قوله ((وهم أحياء)) في «الصحيحين». اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث صحيح إن شاء الله وليس (حديث حسن)، فرجاله ثقات أثبات رجال البخاري، عدا عاصم بن أبي النجود، فقد أخرج له البخاري ومسلم مقرونا بغيره. (ثم ذكر ترجم الرواة كعادته، وانتهى بأن عاصما ثقة).
قلت: تقدم بيان تخليط الدكتور في حال عاصم بما يكفي عن إعادته هنا تحت قوله: الخطأ الخامس عشر.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والتسعون
قال الدكتور ص (232):
قال (1/203) كتاب العلم (127) باب: جرح أصحاب البدع: قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (6/424):(1/244)
حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)). هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبدالرحمن: هو حديث حسن... وقد رواه ابن ماجه (1/59)، والإمام أحمد (5/319) وزادا: ((فمن أدركهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا عظيما عند الله لمن قتلهم))، ولفظ الزيادة لأحمد. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث وزيادته مخرجة في «الصحيحين» بنصها. (ثم ساقه من حديث علي وأبي سعيد).
قلت: تقدم التنبيه على تخليط الدكتور فيما مضى من البحث.
وحديث ابن مسعود هذا عزاه الإمام أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير في «جامع الأصول» (10/90) إلى الترمذي فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والتسعون
قال الدكتور ص (134):
قال (1/458) كتاب الإيمان (56) باب أسباب دخول النار (الطبعة الحديثة) (1995/م): قال الحاكم -رحمه الله- (2/209):
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا بشر بن بكر التنيسي، ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن سليم بن عامر الكلاعي، حدثني أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((بينا أنا نائم، إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا، فقالا لي: اصعد. فقلت: إني لا أطيق. فقالا: إنا سنسهله لك، فصعدت حتى كنت في سواء الجبل، إذا أنا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا هو عواء أهل النار .....)) (ثم ساق الحديث بطوله إلى قول الشيخ -رحمه الله-):
هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري بجميع رواته غير سليم بن عامر، وقد احتج به مسلم. اهـ(1/245)
قال الدكتور: قلت: ترك الشيخ مقبل الحديث بدون تعليق، أو تعقيب يفيد درجة الحديث من الصحة، أما التعليق الوارد فهو من كلام الحاكم -رحمه الله-.
ثم إن قول الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد احتج البخاري بجميع رواته غير سليم بن عامر، وقد احتج به مسلم.
أقول: هذا وهم كبير واضح، وسكوت الشيخ مقبل يدل على إقراره وإلا كان الواجب العلمي أن يرد ذلك وينكره، ولكن الظاهر أنه تابعه على هذا الوهم، وهذا يتكرر كثيرا غير مرة كما سيأتي في بعض الأمثلة القريبة إن شاء الله.
الربيع بن سليمان: هو ابن عبدالجبار المرادي أبو محمد المصري المؤذن صاحب الشافعي ثقة من الطبقة الحادية عشرة روايته في السنن الأربعة غير أنه لم يرو له البخاري في صحيحه ولا مقرونا بغيره ولا معلقا في أبوابه، فلا أدري كيف وقع هذا الوهم من الحاكم -رحمه الله- ثم أقره على ذلك صاحب الجامع الصحيح !!
راجع للتثبيت من ترجمة الربيع بن سليمان: «التقريب» (1/249) الترجمة رقم (1899)، و«تهذيب الكمال» للمزي (9/87)، و«الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/الترجمة رقم (2083)، و«طبقات السبكي» (2123)، و«الثقات» لابن حبان (1/الورقة129)، و«فيات الأعيان» (2/219)، و«تذكرة الحفاظ» للذهبي (2/486)، و«سير أعلام النبلاء» (12/587).
قلت: تقدم بيان جهل، وتلبيس الدكتور في قوله: ترك الشيخ مقبل الحديث بدون تعليق أو تعقيب بقيد درجة الحديث من الصحة... عند قوله: الخطأ الأربعون.
والحديث ذكر المنذري في «الترغيب والترهيب» رقم (3527)، وعزاه لابن خزيمة، وابن حبان وقال: لا علة له.أما قوله: هذا وهم كبير واضح، وكان الواجب العلمي أن يرد ذلك وينكره.(1/246)
قلت: فعلا أن هذا ليس وهما فحسب، بل جهل من أحمد الملقب بالدكتور وقد أعاذ الله المحدث الوادعي من أن يصير إلى ما صرت إليه من الجهل، حتى يرد الحق الذي وضح للإمام الذهبي فتبع الحاكم على أنه على شرط مسلم، وهكذا صنيع الأئمة في أحاديث المستدرك أنهم إنما يكون الحكم على أنه على شرطهما، أو شرط أحدهما على حسب مخرج الحديث عند الحاكم، والشيخين أو أحدهما ولهذا أخرج الحديث ابن خزيمة في «صحيحه» (3/37) ونقل المحقق قول الحاكم وموافقة الذهبي له وأقره على ذلك الحافظ في «إتحاف المهرة» (6/226).
والحاصل أن قول الحاكم على شرطهما، أو على شرط البخاري، أو شرط مسلم، قال الحافظ في «النكت» على كتاب ابن الصلاح (1/320): فإنه أي: الحاكم إذا كان عنده الحديث قد أخرجاه، أو أحدهما لرواته قال: صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما، وإذا كان بعض رواته لم يخرجاه له قال: صحيح الإسناد حسب. اهـ وهكذا قال العراقي في «التقييد والإيضاح» (1/247).
وفي هذا بيان شافي أن مقصود الحاكم وشرطه على هذا هو ما ذكرنا قبل، وعليه عمل الذهبي وغيره من أن المقصود ما وصل إليه الحاكم من المخرج الذي عند الشيخين، أو أحدهما فافهم هذا يا دكتور، الملقب بالدكتور: سلمك الله أيها القارئ من فتنته على كتب السنة.
واعلم أن حكم الحاكم، ومتابعة الذهبي له، وكذا من بعدهم بالحكم على هذا الحديث بأنه صحيح، قول صحيح لا غبار عليه، فإن بشر بن بكر أخرج له البخاري، وعبدالرحمن بن يزيد بن جابر أخرج له الجماعة، وسليم بن عامر ثقة. أخرج له مسلم، والأربعة كما رمز لهم في «تقريب التهذيب» وغيره، وبعد هذا لنا أن نتمثل بقول الشاعر:
لا تخش من بدع لهم وحوادث ... ما دمت في كنف الحديث وحرزه
من كان حارسه الحديث ودرعه ... لم يخش من طعن العدو ووخزه
لا تخش من شبهاتهم واحمل إذا ... ما قابلتك بنصره وبعزه
والله ما هاب امرؤ شبهاتهم ... إلا لضعف القلب منه وعجزه
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والتسعون(1/247)
قال الدكتور ص (236):
قال (1/402) كتاب الإيمان 41 الإيمان بالبعث: قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (7/115):
حدثنا عبدالله بن محمد الزهري البصري، حدثنا مالك بن سعير أبو محمد التميمي الكوفي، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة وعن أبي سعيد قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله له: ألم أجعل لك سمعا، وبصرا، ومالا، وولدا، وسخرت لك الأنعام، والحرث، وتركتك ترأس، وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ قال: فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني))،هذا حديث صحيح غريب.
قال أبو عبدالرحمن: هو حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث صحيح لا علة فيه. (ثم بين أن رجاله ثقات).
قلت: أحمد الملقب بالدكتور (أحسن الله عزاءنا فيه).
فإن مالك بن سعير الذي تصحف في «أضوائه» إلى [سعيد] قال فيه: أبو زرعة، وأبو حاتم، والدارقطني: صدوق.
وقال أبو داود: ضعيف، وحديثه عند البخاري في التفسير متابعة، وقال الأزدي: عنده مناكير فترك الدكتور هذا الكلام كله من «التهذيب» وقال: وثقه ابن حبان مع أن ابن حبان إنما ذكره في «الثقات» وهو يذكر فيها من يقول فيه: لا أدري من هو ولا ابن من هو؟ كما في ترجمة عدد ممن ذكرهم في ثقاته تقدم ذكر بعضهم عند قوله: الخطأ السابع، وممن قال فيه ذلك رجل يقال له: حضرمي، ولو لم يكن الدكتور أحمد جمع مع الجهل الهوى، لذكر ما له وما عليه، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مقدمة «اقتضاء الصراط المستقيم» أن أهل السنة يذكرون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة يذكرون ما لهم، ويتركون ما عليهم، فالدكتور أحمد ترك أقوال من قال في مالك بن سعير: صدوق، وأخذ ما رآه يناسبه من قول من ضعفه، ثم تشبث بذكر ابن حبان له في الثقات، فصار كما قيل:
فصرت من ليلى الغداة كقابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
الجواب على دعواه: الخطأ تمام المائة
قال الدكتور ص (237):(1/248)
قال (1/420) 41 باب: الإيمان بالبعث: قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (4/534):
حدثنا أبو كريب، حدثنا إسحق بن سليمان الرازي عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من أنظر معسرا، أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله)). حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
قال أبو عبدالرحمن: هو صحيح على شرط مسلم. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه مسلم في «صحيحه». (ثم ساقه من حديث أبي اليسر).
قلت: تقدم بيان تخليط الدكتور أحمد فيه.
وهذا الحديث عزاه النووي في «رياض الصالحين» رقم (1373)، وابن الأثير في «جامع الأصول» (4/457) رقم (2541)، والمنذري في «الترغيب والترهيب» رقم (1332)، وآخرون غيرهم عزوه إلى الترمذي فصار انتقاد الدكتور أحمد على هؤلاء الأئمة وأمثالهم: (خل وبقل).
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي بعد المائة
قال الدكتور ص (238):
قال (1/482) كتاب الإيمان، 59 باب: أسباب دخول الجنة: قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/141):
حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ما يسأل رجل مسلم الله الجنة ثلاثا إلا قالت الجنة: اللهم أدخله. ولا استجار رجل مسلم الله من النار ثلاثا إلا قالت النار: اللهم أجره)) هذا حديث صحيح. (ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-).
ويونس بن عمرو هو: يونس بن إسحاق السبيعي، إذ هو اسم أبي إسحاق. اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: ويونس بن عمرو هو: يونس بن إسحاق السبيعي. خطأ، والصواب هو: يونس بن أبي إسحاق السبيعي.
وكذلك قوله: هذا حديث صحيح. ليس بصحيح، إذ أن يونس بن أبي إسحاق ضعفه كثير من الأئمة ومدار الحديث عليه.(1/249)
قال صالح بن أحمد عن علي بن المديني سمعت يحيى وذكر يونس بن أبي إسحاق فقال: كانت فيه غفلة شديدة وكانت فيه سخنة، وقال بندار عن سلم بن قتيبة: قدمت من الكوفة فقال لي شعبة: من لقيت؟ قلت: فلان وفلان ويونس بن أبي إسحاق، قال: ما حدثك؟ فأخبرته، وقلت: ثنا بكر بن ماعز فسكت أي شعبة ساعة، ثم قال: فلم يقل لك: ثنا عبدالله بن مسعود «تهذيب التهذيب» (11/433) قلت: عبارة شعبة -رحمه الله-؛ فيها تعريض بإرسال يونس إذ أنه لم يدرك عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- فكأنه يستهزئ بروايته والله أعلم.
قال الأثرم: سمعت أحمد يضعف حديث يونس عن أبيه: وقال أبو طالب عن أحمد: في حديثه زيادة على حديث الناس.
وقال الحافظ في «التقريب» (2/348) الترجمة رقم (7928): صدوق يهم قليلا، وقال عبدالله بن أحمد عن أبيه: حديث مضطرب.
وقال الحافظ في «التهذيب» عن عبدالله بن أحمد قال: سألت أبي عن عيسى بن يونس، فقال: عن مثل عيسى تسأل قلت: فأبوه يونس، قال: كذا وكذا..
وقال الذهبي مفسرا هذه العبارة: قلت: هذه العبارة يستعملها عبدالله بن أحمد كثيرا فيما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين «الميزان» (4/183).
وقال أبو حاتم، عن يونس: كان صدوقا إلا أنه لا يحتج بحديثه.
وقال أبو أحمد الحاكم: ربما وهم في روايته.
وقال ابن خراش: في حديثه لين.
وقال ابن حزم في «المحلى»: ضعفه يحيى القطان، وأحمد بن حنبل جدا.
قلت: الظاهر أن الإمام مسلم -رحمه الله- لما أخرج له في «صحيحه»، قد انتقى من أحاديثه واختار، وإلا فمن كان هذا حاله، وأقوال أهل النقد فيه هكذا، فلا يكون حديثه من نوع الصحيح إلا إذا تابعه غيره، أو شهد له طريقا(1) آخر، بينما كل الطرق التي أوردها صاحب «الجامع الصحيح» مدارها على يونس بن أبي إسحاق فأنى للحديث بالصحة.؟
__________
(1) ... كذا قال! وصوابه: (طريق).(1/250)
قلت: أما قوله: يونس بن إسحاق، فهذا سقطت منه لفظة [أبي]، وقد أصلح ذلك في الطبعة الثانية، الصادرة عام 1416/هـ، وفي الثالثة: الصادرة عام 1426/هـ.
إنما هذا من تلك البراهين على عدم صدق الدكتور أحمد ص (14) من مقدمته كما نبهنا على ذلك مرارا.
أما يونس بن أبي إسحاق: فهو حسن الحديث، فقد أخرج له مسلم، ووثقه جماعة، وتكلم فيه آخرون، وتوسط الحافظ ابن حجر، في أمره في «التقريب» فقال: صدوق يهم قليلا.
قلت: وهذه الرتبة صاحبها حسن الحديث، إلا إن نص إمام أن حديثا بعينه من أوهامه.
والشيخ -رحمه الله- يحسن حديثه في أكثر من موضع من كتابه هذا وغيره منها: حديث البراء بن عازب في «الصحيح المسند» رقم (139)، وإنما صحح له هنا؛ لأنه ساق الحديث قبل هذا الذي اختزله الدكتور عند الترمذي والنسائي وابن ماجه من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، فصار الحديث صحيحا –كما في الطبعة التي عليها استدركاته (1/95)-، فيونس هنا متابع بأبي الأحوص في السند الذي قبله، ومخرج الحديث هنا هو أبو إسحاق، عن يزيد به. فكل رجال السند ثقات.
وقول الدكتور: إن مدار الحديث على يونس. هذا غير صحيح، كما قدمنا.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني بعد المائة
قال الدكتور ص (240):
قال (1/458) كتاب الإيمان، 56 باب أسباب دخول النار الطبعة الحديثة (1995/م): قال الحاكم -رحمه الله- (1/430):(1/251)
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، ثنا بشر بن بكر، ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن سليم بن عامر أبي يحيى الكلاعي، قال: حدثني أبو أمامة الباهلي، -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، يقول: بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا فقالا لي: اصعد فقلت: ((إني لا أطيقه))، فقالا: إنا سنسهله لك فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة فقلت: ((ما هذه الأصوات؟)) قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما، قال: قلت: ((من هؤلاء؟)) قال: ((هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم)) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. اهـ
قال الدكتور: قلت: ترك الشيخ مقبل الحديث بدون تعليق منه، أو تعقيب على كلام الحاكم -رحمه الله-.
قلت: ما ذكر من الحكم على الحديث بأنه حديث صحيح هو حكم الشيخ الذي ارتضاه، فلا يصلح، ولا يستقيم مع ذلك أن يقال: بأن الشيخ ترك الحديث بغير حكم عليه.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث بعد المائة
قال الدكتور ص (241):
قال (1/478)، كتاب الإيمان 59 أسباب دخول الجنة: قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (5/297):
حدثنا أحمد بن منيع حدثنا روح بن عبادة، حدثنا ابن جريج، عن سليمان بن موسى عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن جرح جرحا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها كالمسك)).هذا حديث صحيح.
الحديث أخرجه ابن ماجه (2/933) منه: ((من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة)). اهـ(1/252)
قال الدكتور: قلت: هكذا -كما تكرر من قبل يترك الشيخ مقبل الحديث بدون بيان لدرجة صحته، ويوهم القارئ أن عبارة هذا حديث صحيح منه، وليس كذلك، فهي عبارة الترمذي، والحقيقة هذا اضطراب وتهاون في التخريج، وكان الصواب أن يميز عبارة الإمام الترمذي بفاصل موضحا أنها منه حتى لا يقع طالب العلم في اللبس، ومعلوم أن الأئمة تعقبوا الإمام الترمذي في تصحيحه، واستدركوا عليه أشياء، فكان الواجب كذلك من المصنف، والظاهر أن سكوته على تصحيح الترمذي للحديث، هو إقرار له بهذا الحكم.
وقوله: هذا حديث صحيح ليس بصحيح، إذ أن هذا الإسناد غير قائم ففيه ابن جريج. (ثم سطر عدة أسطر في كلام أئمة الجرح والتعديل في ابن جريج ثقة لكنه مدلس، ثم قال):
قلت: فابن جريج لم يصرح بالسماع في هذا الإسناد بل رواه بالعنعنة.. فالإسناد بذلك ليس بذاك، نعم صرح ابن جريج بالتحديث في رواية النسائي (6/25) حديث (314)، وابن ماجه (2792)، وعبد بن حميد (119).. ولم يشر الشيخ -رحمه الله- إلى هذه الروايات التي صرح فيها ابن جريج بالتحديث.
وسكوت الشيخ على ذلك لا يصح، إذ يوهم سكوته وإقراره بصحة الإسناد الذي أورده والحال غير ذلك، وما أخال الشيخ يخفى عليه كلام الائمة في ابن جريج، إلا أن يكون هذا الحديث من وضع بعض الطلاب المجتهدين حول الشيخ، وتعد غفلة من غفلاتهم. والله تعالى أعلم.
قلت: تقدم بيان خطأ الدكتور في قوله: إن الشيخ ترك الحديث بدون بيان درجته.
وأما قول الدكتور هداه الله :
وقوله: هذا حديث صحيح ليس بصحيح إذ أن هذا الإسناد غير قائم ففيه ابن جريج.. إلخ.
فهذا الكلام كسابقه قبل صفحة فيه خيانة، وبتر من وجه، وسوء أدب من وجه آخر.
أما الخيانة؛ فإن الشيخ -رحمه الله- خرج الحديث قبله بغير فاصل، فقال: قال الإمام النسائي -رحمه الله- (6/25):
أخبرنا يوسف بن سعيد، قال: سمعت حجاجا قال: أنبأنا ابن جريج، قال: حدثنا سليمان بن موسى، فذكر الحديث.(1/253)
وساق بعده طريق الترمذي -المذكورة سابقا- بعنعنة ابن جريج عن سليمان، فحذف الدكتور الرواية المصرح فيها بالتحديث، والتي إنما أتى بها الشيخ لذكر المتابعة إلى ابن جريج، ثم أتى بالمعنعنة مبتورة؛ لغرض التوصل إلى الانتقاد، ولو بالبتر، نسأل الله العافية، ومن الكذب بعد ما ذكرته لك أن يقول الدكتور: هداه الله نعم صرح ابن جريج بالتحديث عند النسائي، وابن ماجه، وعبد بن حميد، ولم يشر الشيخ إلى هذه الرواية، وكأن الدكتور عثر على ما فات الشيخ -رحمه الله- وأنت ترى أن الشيخ ساقها بتمامها، ولم يكتف بالإشارة إليها فقط.
وأما إساءة أدبه فقوله ص(241) عن ابن جريج: وهو وإن كان ثقة فاضلا، وإماما جليلا، إلا أن أئمة الجرح والتعديل، أجمعوا على أنه مدلس، فما لم يصرح في الحديث بالسماع لا يقبل، ولا كرامة.
قلت: لا ندري أراد بقوله: ولا كرامة لابن جريج أم لما عنعن فيه ابن جريج من السنة، والكل خطير إلا أن الثاني أخطر.
فإن الأول: فيه احتقار لإمام جليل، وهو ابن جريج، وإهدار كرامته، وهذا هضم وظلم وبغي، وللدكتور مثلها عن الإمام البخاري عند آخر خطأ فيما يزعم والله الموعد.
وأما على المعنى الثاني؛ ففيه احتقار لرواية ابن جريج، وهي وإن كانت معنعنة؛ فإن هذا التعبير داخل في تحقير السنة التي قد تكون ثابتة من وجه أو آخر، والسنة دين الله، وتحقير دين الله ولو كان حديثا واحدا خطير جدا، وحكمه معروف عند أهل العلم، ولكن الدكتور في بعض تصرفاته تشعر أنه شبه عامي، أو أنه خطأ منه فعسى الله أن يعفو عنه ويعذره بذلك.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع بعد المائة
قال الدكتور ص (243):
قال (1/299) كتاب الإيمان 32 الإيمان بالقدر: قال الإمام أحمد -رحمه الله- (8071):(1/254)
حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن كميل بن زياد، عن أبي هريرة قال: كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في نخل لبعض أهل المدينة، فقال: ((يا أبا هريرة، هلك المكثرون، إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا -ثلاث مرات حثا بكفه عن يمينه وعن يساره وبين يديه- وقليل ما هم))، ثم مشى ساعة، فقال: ((يا أبا هريرة، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟))، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه))، ثم مشى ساعة فقال: ((يا أبا هريرة، هل تدري ما حق الناس على الله؟ وما حق الله على الناس؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على الناس أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فإذا فعلوا ذلك فحق عليه أن لا يعذبهم)).
وقال الإمام أحمد -رحمه الله- (2/525): ثنا يحيى بن آدم، ثنا عمار بن زريق، عن أبي إسحاق، عن كميل بن زياد به مثله.
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح إلا كميل بن زياد، وقد وثقه ابن معين وابن سعد، وقال ابن عمار: رافضي، وهو ثقة من أصحاب علي، وذكره ابن حبان في «الضعفاء» وقال: لا يحتج به. اهـ مختصرا من «تهذيب التهذيب».
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث صحيح. فيه نظر؛ إذ أن كميل بن زياد، وإن وثقه ابن معين، وابن سعد إلا أن ابن حبان قد سبر غور رواياته وقال: كان من المفرطين في علي ممن يروي المعضلات، منكر الحديث جدا، تتقى روايته ولا يحتج به. اهـ من «الميزان» (3/415).(1/255)
قلت: وفي النفس شيء من هذا المتن بهذا السياق، إذ يشبه التأليف والتركيب فالقطعة الأولى: ((هلك المكثرون....)) حديث مستقل مشهور في «الصحيحين» من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-، والقطعة الثانية: ((ألا أدلك على كنز من كنز الجنة؟)) مشهور كذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري، أما القطعة الثالثة: ((هل تدري ما حق الناس على الله؟)). لا يخفى على الطالب المبتدئ في طلب الحديث أنها في «الصحيحين» من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- فسبحان ربي هل اجتمعت الثلاث لأبي هريرة في حديث واحد. أخشى أن يكون هذا المتن بهذا السياق ممن قال عنه ابن حبان -رحمه الله-: منكر الحديث جدا تتقى روايته. والله تعالى أعلم.
قلت: وعند الدكتور في هذا الكلام عدة أخطاء:
أولها: قوله: إن قول الشيخ حديث صحيح، فيه نظر.
وقد أبرز الشيخ -رحمه الله- برهانه بذكر من وثق كميل بن زياد، فالاعتراض عليه يحتاج إلى برهان.
أما قول ابن حبان، فقد علم أن ابن حبان متساهل في توثيق المجاهيل، ومتشدد في التجريج، وهذا من تشدده.
وأعظم من هذا إنكار الدكتور الأحاديث بغير ذكر برهان، ولا سلف من أهل الحديث، ومن المناسب أن نذكر للدكتور أحمد ما ذكره السخاوي -رحمه الله- في «المقاصد الحسنة» (556) قال: حديث ((يس لما قرأت له)) لا أصل له بهذا اللفظ، وهو بين جماعة الشيخ إسماعيل الجبرتي باليمن قطعي. اهـ وذكر هذا القاسمي -رحمه الله- في «قواعد التحديث» ص (183) فقال:
الرد على من يزعم تصحيح بعض الأحاديث بالكشف بأن مدار الصحة على السند. اهـ
وبعد ذكر كلام لبعض المتصوفة في تصحيح الحديث نقل ردا عليهم لرجل اسمه الشيخ عليش، فقال: الحمد لله من المعلوم لكل أحد أن الأحاديث لا تثبت إلا بالأسانيد لا بنحو الكشف، وأنوار القلوب.. والولاية والكرامات لا دخل لها هنا إنما المرجع للحفاظ العارفين بهذا الشأن، والحديث عندهم متفق على أنه لا أصل له...(1/256)
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس بعد المائة
قال الدكتور ص (245):
قال (1/381) كتاب الإيمان 39 الإيمان بعلامات الساعة: قال الإمام أحمد -رحمه الله- (6/81):
حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو يقول: ((يا عائشة، قومك أسرع أمتي بي لحاقا)) قالت: فلما جلس قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداءك لقد دخلت وأنت تقول: كلاما ذعرني، قال: ((وما هو؟))، قالت: تزعم أن قومي أسرع أمتك بك لحاقا، قال: ((نعم))، قالت: ومم ذاك؟ قال: ((تستحليهم المنايا وتنفس عليهم أمتهم))، قالت: فقلت: فكيف الناس بعد ذلك؟ أو عند ذلك قال: ((دبى يأكل شداده ضعافه، حتى تقوم عليهم الساعة)).
قال أبو عبد الرحمن: فسره رجل هو الجنادب التي لم تنبت أجنحتها.
هذا حديث حسن.
وقال الإمام أحمد -رحمه الله- (6/90) ثنا هاشم قال: ثنا إسحاق بن سعيد يعني: ابن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فذكرت الحديث.
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث حسن ليس بحسن، بل خطأ كبير يدعو للعجب، إذ أن الإسناد كالشمس مسلسل بالثقات الأثبات، رجاله رجال الشيخين ولا علة فيه البتة، وإن المرء ليتساءل على أي قاعدة علمية يطلق على الحديث أنه حسن.
قلت: نعم إسناده صحيح. ويبدو أن الشيخ -رحمه الله- أخذ بقول الإمام أحمد في أسحاق بن سعيد: ليس به بأس. وقول ابن أبي حاتم: شيخ، وقول الدارقطني: ليس به بأس والله أعلم.
والرجل قد وثقه النسائي، وتوثيقه هنا لا معارض له فيعتمد، ولهذا فقد اعتمده الحافظ في «التقريب» وبقية رجال السند كذلك ثقات.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس بعد المائة
قال الدكتور ص (247):
قال (1/277) الحديث رقم (373): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1/183):(1/257)
حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن محمد بن سعد بن مالك عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)). هذا حديث صحيح وأخرجه أبو يعلى (2/75). اهـ
قال الدكتور: قلت: هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» بنفس النص. (ثم ساقه من حديث أبي أيوب وأنس).
قلت: تقدم بيان تخليط الدكتور في مثل هذا.
وهذا الحديث عزاه البوصيري في «إتحاف الخيرة» بهذا السند (7/411) إلى أبي يعلي رقم (4568)
الجواب على دعواه: الخطأ السابع بعد المائة
قال الدكتور ص (249):
قال (1/الحديث رقم 379): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1476):
حدثنا وكيع، حدثنا سعيد بن حسان المخزومي، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن أبي نهيك، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)). هذا حديث صحيح.
قال الدكتور: قلت: وهو في «صحيح البخاري» بنفس اللفظ، فلا داعي لإيراده هنا في «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» فقد أخرجه البخاري في «صحيحه». (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
تقدم بيان خطأ الدكتور في صنيعه هذا.
وهذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص، عزاه الحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (5/95) رقم (5002) إلى أحمد، وأبي عوانة، وابن حبان، والدارمي، والحاكم.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن بعد المائة
قال الدكتور ص (250):
قال (1/286) الحديث رقم (388): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (7/311):
أخبرني محمد بن علي بن ميمون، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا سفيان، عن هشام عن ابن أبي نعم، عن أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن عسب الفحل)).. هذا حديث صحيح، وهشام هو: ابن عائذ، وسفيان هو: الثوري، ومحمد هو: ابن يوسف الغربائي(1). اهـ
__________
(1) صوابه: (الفريابي).(1/258)
قال الدكتور: قلت: الحديث أخرجه البخاري في «صحيحه» بالنص وأخرجه مسلم في «صحيحه» بنحوه. (ثم ساقه من حديث ابن عمر وجابر).
قلت: تقدم الرد عليه فيما مضى.
وحديث أبي سعيد الخدري هذا عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (10/593) رقم (8175) إلى النسائي فقط، وعزاه الحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (5/294) إلى الدارقطني بزيادة: ((وقفيز الطحان)).
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع بعد المائة
قال الدكتور ص (251):
قال (1/287) الحديث رقم (391): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/24):
حدثنا يحيى حدثنا عوف، قال: حدثني أبو نضرة، قال: سمعت أبا سعيد عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذ)). هذا حديث صحيح. اهـ
(ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله- وقال):
قلت: قد أخرجاه في «الصحيحين». (ثم ساقه من حديث جابر).
قلت: تقدم ما يغني عن إعادة الكلام عليه هنا.
ومن الرد على الدكتور أن الهيثمي ذكر الحديث في «كشف الأستار عن زوائد البزار» على الكتب الستة كما ترى.
الجواب على دعواه: الخطأ العاشر بعد المائة
قال الدكتور ص (253):
قال (1/293): الحديث رقم (402): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/76):(1/259)
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء، قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد))، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة....)). (ثم ساق الحديث بطوله إلى قول الشيخ -رحمه الله-):
هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث حسن. خطأ كبير، فالحديث صحيح رجاله ثقات مشهورون رجال الشيخين عدا الإمام محمد بن إسحاق، فقد أخرج له البخاري تعليقا كما سيأتي.
قلت: تقدم بيان حال ابن إسحاق عند قوله: الخطأ السابع، وأنه صدوق إذا صرح بالتحديث، فلا حاجة بنا إلى تكراره هنا.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (255):
قال (1/294) الحديث رقم (404): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/64):
حدثنا عفان حدثنا حماد، عن قتادة وسعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((الضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة)). هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
الحديث أخرجه عبد بن حميد (2/61) فقال -رحمه الله-: أخبرنا عبدالرزاق، أنا معمر، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة به. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث أخرجه كل من البخاري ومسلم في «صحيحيهما». (ثم ساقه من حديث أبي شريح).(1/260)
قلت: تقدم بيان غلط الدكتور في مثل هذا.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/322) رقم (13614): رواه أحمد مطولا ومحتصرا بأسانيد، وأبو يعلى، والبزار، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (257):
قال (1/300) الحديث رقم (413): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3/77):
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ثم الظفري عن محمود بن لبيد الظفري أحد بني عبدالأشهل عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((يفتح يأجوج ومأجوج يخرجون على الناس كما قال الله عز وجل: {من كل حدب ينسلون}، فيغشون الأرض، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم)). (ثم ساقه بطوله إلى قول الشيخ -رحمه الله-): هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو صحيح جدا بهذا الإسناد ذاته، إذ أن رجاله ثقات مشهورون، ولا علة فيهم، ولا وجه لتحسين الحديث والنزول به عن درجة الصحة، وما يقال في إثبات ذلك إلا كما قيل تحت الخطأ الحادي عشر بعد المائة، فقد كرر نفس الخطأ فراجعه إن شئت، ويضاف إلى ذلك أن هذا الحديث مشهور في كتب الصحاح، فكان ينبغي الإشارة إلى ورود شواهده وطرقه في صحيح مسلم.
قلت: تقدم الرد على هذه الأغلاط مع بيان حال ابن إسحاق، وأنه حسن الحديث، وهذا الحديث عن أبي سعيد الخدري عزاه الحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (5/405) رقم (5663) إلى أحمد، وابن حبان، والحاكم.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (258):
قال (1/312) الحديث رقم (435): قال الإمام البزار -رحمه الله- كما في «كشف الأستار» (4/192):(1/261)
حدثنا علي بن نصر بن علي، ثنا معلى بن أسد، ثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة، عن عقبة بن عبدالغفار، عن أبي سعيد عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)).
قال البزار: لا نعلمه رواه بهذا الإسناد إلا سلام، وكان بصريا من خيار الناس وعقلائهم. هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد أخرجه ابن جرير في«التفسير» (21/106)، فقال -رحمه الله-:
حدثنا العباس بن أبي طالب، ثنا معلى قال: ثنا سلام بن أبي مطيع، عن قتادة، عن عقبة بن عبدالغفار، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن ربه قال: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)). اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث مخرج في الصحيحين. (ثم ساقه عن أبي هريرة).
قلت: تقدم بيانه، وإنما أوردنا الحديث هنا، حتى لا يقال: إن أخطاء تركنا نقاشها، فكان لابد من تتبع جميع ما أورده، وبيان تلك الدعاوى المزيفة، ويكفي ردا على الدكتور في قوله: الحديث في الصحيحين؛ أن الهيثمي خرجه في «كشف الأستار زوائد الكتب الستة».
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (260):
قال (1/341) الحديث رقم (466) قال الإمام أحمد -رحمه الله- (5/331):
حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، ارتج أحد وعليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((اثبت أحد ما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث أخرجه بنصه الإمام البخاري في «صحيحه». (ثم ساقه من حديث أنس).
قلت: الدكتور رد على نفسه بنفسه، فحديث سهل خارج الصحيح، وحديث أنس هو الذي في الصحيح كما ترى، وليس هناك أدنى ما يستحق عليه الانتقاد من هذا الوجه.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس عشر بعد المائة(1/262)
قال الدكتور ص (261):
قال (1/386) رقم (521): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (3/48):
أخبرنا إسحق بن إبراهيم، قال: أنبأنا محمد بن بشر قال: حدثنا مجمع بن يحيى، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد)). (ثم ساق الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-، وقول الشيخ):
هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه قبل هؤلاء جميعا الشيخان البخاري ومسلم في «صحيحيهما»، ثم هو حديث متواتر كما قرر أهل العلم.
قلت: تقدم الرد على مثله فيما مضى، وقد رد على نفسه في هذا التخريج، وحديث طلحة بن عبيد الله هذا لم يخرجه البخاري ولا مسلم البتة، فقد عزاه عدد من الأئمة منهم المزي في «تحفة الأشراف» رقم (5014)، وابن الأثير في «جامع الأصول» (4/404) رقم (2470) إلى النسائي.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (265):
قال (1/399) الحديث رقم (535): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (6/35):
أخبرنا هارون بن محمد بن بكار، قال: حدثنا محمد بن عيسى وهو ابن القاسم بن سميع قال: حدثنا زيد بن واقد، عن كثير بن مرة، أن عبادة بن الصامت حدثهم أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ما على الأرض من نفس تموت ولها عند الله خير تحب أن ترجع إليكم ولها الدنيا، إلا القتيل فإنه يحب أن يرجع فيقتل مرة أخرى)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: كيف وقد أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما».
(ثم ساقه من حديث أنس).
قلت: قوله عن هذا الحديث: أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما هذا كذب، فقد عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (9/رقم 7216)، والحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (4/257) إلى النسائي فقط.(1/263)
الجواب على دعواه: الخطأ السابع عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (266):
قال (1/452) الحديث رقم (614): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (2130):
حدثنا يزيد، حدثنا صالح بن رستم أبو عامر، عن عبدالله بن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: أقيمت صلاة الصبح فقام رجل يصلي الركعتين فجذب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بثوبه فقال: «أتصلي الصبح أربعا».
هذا حديث حسن على شرط مسلم. الحديث أخرجه أبو يعلى (4/4469)، فقال -رحمه الله-: حدثنا زهير، حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا صالح بن رستم به. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» نحو رواية الإمام أحمد. (ثم ساقه من حديث عبدالله بن مالك بن بحينة).
قلت: تقدم أن قلنا للقارئ الكريم: هذا كذب، فحديث ابن عباس هذا لم يخرجه أحد من الشيخين في صحيحيهما لا بنصه ولا بنحوه.
فقد عزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/رقم1925) إلى أحمد، وقال: رجاله رجال الصحيح.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (267):
قال (1/435) الحديث رقم (618): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (7/404):
حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثني عبدالله بن سعيد بن أبي هند، عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)). هذا حديث حسن صحيح.
قال أبو عبدالرحمن: هو صحيح على شرط الشيخين. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» مما يغني عن إيراده. (ثم ساقه من حديث معاوية بن أبي سفيان).
قلت: هذا الحديث عن ابن عباس عزاه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (4/465) رقم (5667)، وابن الأثير في «جامع الأصول» (8/4) رقم (5824) إلى الترمذي فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع عشر بعد المائة
قال الدكتور ص (268):
قال (1/454) الحديث رقم (620): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (8/408):(1/264)
حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار قال: قرأ ابن عباس: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} وعنده يهودي، فقال: لو أنزلت هذه علينا لاتخذنا يومها عيدا، قال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيد، في يوم جمعة، ويوم عرفة)). هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس. اهـ
قال الدكتور: قلت: المعلق على الحديث بالحسن هو الإمام الترمذي -رحمه الله- لا كما يوهم ظاهر القول، حيث ترك الشيخ مقبل الحديث بدون تعليق، فيما يظن القارئ أن هذا القول منه، وليس الأمر كذلك.. وهذا أمر غير لائق كما نبهنا على ذلك من قبل، وأكدنا أن أحكام الترمذي؛ وكذلك أحكام الحاكم رحمهما الله على الأحاديث فيها نظر، ولا بد للمحقق أن يعقب عليها بالإقرار، أو الاستدراك.
والإسناد على شرط مسلم، وإن كان في عمار بن أبي عمار كلام يسير لا ينزل به الحديث عن رتبة الحسن بهذا الإسناد.
قلت: بعد هذا الاعتراض البارد رجع إلى قول الشيخ -رحمه الله- الذي ارتضاه من تحسين الترمذي، فقال: لا ينزل الحديث عن رتبة الحسن بهذا الإسناد.
فأقول: ما فائدة انتقادك إذا إلا مجرد التناوش.
الجواب على دعواه: الخطأ العشرون بعدالمائة
قال الدكتور ص (270):
قال (1/455) الحديث رقم (622): قال الحاكم -رحمه الله- (1/254):
حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنبأنا علي بن عبدالعزيز، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، والزبير بن الخريت، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصلي فمرت شاة بين يديه فساعاها إلى القبلة حتى ألزق بطنه بالقبلة.
هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. اهـ(1/265)
قال الدكتور: قلت: وفي هذا مجموعة من الأغلاط، حيث إن قوله: هذا حديث صحيح، من تعليق الحاكم لا من كلام المصنف، ثم إن فيه أوهاما عجيبة، إذ أن الحديث بهذا الإسناد ليس على شرط البخاري، ولا مسلم بل فيه من ضعف كما يأتي بيانه.
أبو بكر بن إسحاق هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني ثقة ثبت ولكن لم يرو له البخاري شيئا لا متابعة، ولا تعليقا، فلا أدري كيف وهم الحاكم في ذلك وتبعه الشيخ مقبل على وهمه دون أن يتعقبه كما يفعل الإمام الذهبي؟ راجع للتثبت «تهذيب التهذيب» (9/36)، و«التقريب» (2/54) الترجمة رقم (5739).
أما علي بن عبدالعزيز: فالأمر فيه أعجب إذ ليس له رواية في الكتب الستة إلا النسائي، وابن ماجه، ثم إنه مضعف حيث قال الحافظ في «التقريب»: علي بن عبدالعزيز هو ابن غراب الفزاري الكوفي، صدوق وكان يدلس ويتشيع؛ وأفرط ابن حبان في تضعيفه، راجع «التقريب» (1/699)، وكذلك ترجمته في«تهذيب الكمال» للمزي.
قلت: فأنى للحديث بهذا الإسناد بالصحة، فضلا عن أن يكون على شرط البخاري، والبخاري أنبل من أن يخرج لهؤلاء.
تنبيه: كررت قولي: بهذا الإسناد تأكيدا على أن استدراكي مقصود به هذا الإسناد، وإلا فالحديث ثابت من طرق أخرى ليس هذا مقام تفصيلها.
قلت: قوله: قلت: وفي هذا مجموعة من الأغلاط –وذكر منها على حد زعمه-: أن أبا بكر بن إسحاق وعلي بن عبدالعزيز لم يخرج لهما البخاري، وقد تقدم الرد على هذه المشاغبة تحت قوله: الخطأ الثامن والتسعون.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (271):
قال (1/457) الحديث رقم (625): قال أبو داود -رحمه الله- (2/17):(1/266)
حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا عبدالعزيز يعني: ابن محمد- عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، أن أناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجبا؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب وسأخبركم كيف بدء الغسل، كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضا، فلما وجد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تلك الريح، قال: ((أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه))، قال ابن عباس: ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق. هذا حديث حسن.
وهذا فهم ابن عباس لا يدفع به الأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الجمعة. اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله حديث حسن، غير صحيح، فإن إسناده على شرط الشيخين، ورجاله ثقات أثبات.
قلت: عبدالعزيز الدراوردي مختلف فيه، والقول بتحسين حديثه هو الصواب، ولذلك قال الحافظ في «التقريب»: صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ.
وقال الذهبي في «الميزان»: صدوق من علماء المدينة غيره أقوى منه.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (273):
قال (1/457) الحديث رقم (626): قال الإمام النسائي -رحمه الله- (4/138):
أخبرنا عمرو بن يزيد هو أبو بريد الجرمي بصري ، عن بهز قال: حدثنا شعبة عن سلمة عن أبي الحكم عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((أتاني جبريل عليه السلام فقال الشهر تسع وعشرون يوما)).(1/267)
أخبرنا محمد بن بشار، عن محمد، وذكر كلمة معناها حدثنا شعبة عن سلمة قال: سلمة سمعت أبا الحكم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الشهر تسع وعشرون يوما)). اهـ
قال الدكتور: قلت: هذا الحديث أخرجه بنصه كل من البخاري ومسلم في «صحيحيهما». (ثم ساقه من حديث ابن عمر وأم سلمة).
قلت: هذا غير صحيح، فقد عزا حديث ابن عباس هذا ابن الأثير في «جامع الأصول» (6/282) رقم (4395)، والحافظ المزي في «تحفة الأشراف» (5/193) رقم (6322) إلى النسائي فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (274):
قال (1/517) الحديث رقم (754): قال الإمام أبو عبدالله بن ماجه -رحمه الله- (1/383):
حدثنا علي بن محمد وأبو كريب وأحمد بن سنان، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سها فسلم في الركعتين فقال له رجل: يقال له ذو اليدين يا رسول الله، أقصرت أم نسيت؟ قال: ((ما قصرت وما نسيت))، قال: إذا فصليت ركعتين، قال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) قالوا: نعم، فتقدم فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو. صحيح على شرط الشيخين. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه الشيخان في «صحيحيهما» بأتم من هذا السياق وأحسن. (ثم ساقه من حديث أبي هريرة).
قلت: هذا غير صحيح، فقد عزا المزي حديث ابن عمر هذا، في «تحفة الأشراف» (6/129) رقم (7838) إلى أبي داود وابن ماجه.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (276):
قال (1/521) الحديث رقم (724): قال الحاكم -رحمه الله- (1/22):(1/268)
حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنا محمد بن غالب، أنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)). هذا حديث صحيح على شرطهما، فقد احتجا برواته ولم يخرجاه بهذا اللفظ. اهـ
قال الدكتور: قلت: وفي هذا التخريج أوهام فاحشة، وقع فيها الإمام الحاكم -رحمه الله-، وتابعه عليها الشيخ مقبل -رحمه الله-، وقد سكت على الحديث بدون بيان لحكمه مع إيهام القارئ أن عبارة: هذا حديث صحيح من قوله، بينما هي من نص كلام الحاكم على الحديث، وإن كان مجرد إيراد الشيخ مقبل للحديث يشير إلى إقراره لكلام الحاكم على ما فيه من أخطاء كما سيأتي بيانه. (ثم ذكر ترجمة أبي بكر بن إسحاق ومحمد بن غالب وخلص بعد بحث –كما قال!- أنهما ليسا من رجال الشيخين).
قلت: تقدم بيان جهالات الدكتور في هذا تحت قوله: الخطأ الثامن والتسعون.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (278):
قال (1/526) الحديث رقم (777): قال الإمام أبو يعلى -رحمه الله- (10/125):
حدثنا أمية بن بسطام، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا إسرائيل، حدثنا عبدالله بن عصمة، قال: سمعت ابن عمر، يقول: أنبأنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ((أن في ثقيف مبيرا وكذابا)). هذا حديث حسن وهو بسند الإمام أحمد والترمذي يرتقي إلى الصحة. قال الإمام أحمد -رحمه الله- (2/87):
ثنا أبو كامل، ثنا شريك، عن عبدالله بن عاصم، عن ابن عمر، به. اهـ
(ثم ساق بقية الطرق التي ساقها الشيخ -رحمه الله-، ثم قال):(1/269)
قلت: قوله: هذا حديث حسن، وهو بسند الإمام أحمد والترمذي يرتقي إلى الصحة. غير صحيح، فإن كثرة الطرق الضعيفة ترتقي بالحديث إلى درجة الحسن، أو الصحة، إذا كان مواضع الضعف فيها مختلفة، أما إذا كان مدار الطرق كلها على رجل مختلف فيه، فإن تعدد الطرق حينئذ لا اعتبار له.. وهذا هو الواقع في الإسناد الذي أورده عن أبي يعلى، وكذلك الإمام أحمد والترمذي، فإن أسانيدهم جميعا مدارها على رجل متكلم فيه وهو عبدالله بن عصمة، وهو: ابن علوان الحنفي العجلي قليل الرواية وقد وثقه ابن معين، ولينه أبو حاتم فقال: شيخ أما ابن حبان فقد ضعفه فقال: يخطئ كثيرا، وقال في موضع آخر: منكر الحديث جدا على قلة روايته يحدث عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم، حتى يسبق إلى القلب أنها موهومة أو موضوعة. اهـ «تهذيب التهذيب» (5/321).
فكيف يرتقي الحديث بهذا الإسناد إلى الصحة؛ ومدار الطرق على عبدالله بن عصمة؟
قلت: عبدالله بن عصم، ويقال: ابن عصمة الحديث هنا يدور عليه، وقد وثقه ابن معين.
وقال أبو زرعة: لا بأس به، ووثقه العجلي، وابن شاهين، وابن خلفون، وأحمد بن صالح.
وتحامل ابن حبان فيه كعادته في الإفراط في الجرح، وتعقبه الحافظ في التقريب، فقال: أفرط ابن حبان فيه وتناقض.
وعلى هذا فعبدالله بن عصم، وقيل: ابن عصمة، صحيح الحديث لا يضره تحامل ابن حبان إذ ليس هناك قدح مذكور في «التهذيب» و«إكمال التهذيب» لغيره، وهو كما علمت.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (280):
قال (1/527) الحديث رقم (797): قال أبو داود -رحمه الله- (14/61):(1/270)
حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا سفيان عن بشير أبي إسمعيل، عن مجاهد عن عبدالله بن عمرو أنه ذبح شاة فقال: أهديتم لجاري اليهودي فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)). هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح إلا شيخ أبي داود، وقد وثقه النسائي على أنه قد تابعه محمد بن عبدالأعلى عند الترمذي، وهو من رجال مسلم، فالحديث رجاله رجال الصحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرج الحديث المرفوع في الصحيحين.
قلت: كلامه في مثل هذا مكرر، وقد كررنا الرد عليه فيما مضى، وهذا الحديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (6/637) رقم (4915)، والمزي في «تحفة الأشراف» (6/377) رقم (8919) إلى أبي داود رقم (5152)، والترمذي رقم (1944)، وإنما الذي في البخاري رقم (6015،6014)، ومسلم رقم (2624،2625) هو حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب، ولكن عدد من أخطاء الدكتور وتلفيقاته ولا حرج!!
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (281):
قال (2/6) الحديث رقم (824): قال الحاكم -رحمه الله- (1/61):
حدثنا أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الفقيه بالري، ثنا أبو بكر بن محمد بن الفرج الأزرق ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف.
حدثنا أبو الطيب محمد بن أحمد الحيري، ثنا أبو بكر بن محمد بن نعيم المدني، ثنا بشر بن خالد العسكري، ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا شيبان أبو معاوية عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف)).(1/271)
هذا حديث حسن صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وإنما ذكرته في هذه المواضع لأن هذه الخلال من الإيمان. اهـ
قال الدكتور: قلت: عبارة: هذا حديث صحيح.. إلخ، من كلام الإمام الحاكم -رحمه الله- وليست من كلام الشيخ مقبل، وقد وجب التنبيه لعدم الالتباس الذي يتكرر كثيرا لا سيما على تعليق الإمام الترمذي، وكذا الحاكم على أحاديثهما، فيتركها الشيخ مقبل دون تعليق منه، ويوهم القارئ أن الحكم على الحديث من قبله، والأمر ليس كذلك هذه واحدة.
والأخرى أن كلام الحاكم غفر الله له غير صحيح ولا يجب إقراره عليه، بل يجب استدراكه، فالحديث بهذا الإسناد المذكور ليس على شرط الشيخين، ولا أحدهما، بل أنبل البخاري، ومسلم أن يرويا عن أمثال هؤلاء الذين سنذكر طرفا عنهم.
أما إسماعيل بن محمد بن إسماعيل شيخ الحاكم قال عنه أبو حاتم في «الجرح والتعديل»: ضعيف.
وقال الذهبي في «الكاشف»: مختلف فيه، ولم يرو له غير ابن ماجه راجع ترجمته في «التهذيب» (1/328)، و«تهذيب الكمال» للمزي (3/187) الترجمة رقم (467)، و«الكاشف» (1/128)، و«ميزان الاعتدال» (1/246) الترجمة رقم (932).
ومحمد بن الفرج الأزرق: أبو بكر ليس له ترجمة في الكتب الستة، وبحثت عنه فلم أجده راجع «التهذيب» (9/343)، و«الميزان» (3/647).
أما الطامة الكبرى: ففي شيخ الحاكم الثاني، محمد بن أحمد الحيري أبو الطيب، فهو ليس بالطيب، وإنما هو كما ذكروا كذاب أشر.. قال الإمام الذهبي (3/458) «الميزان»: روى عن إسحاق بن شاهين: كذاب.. وعنه أبو أحمد بن عدي والحاكم، وقال: رأيتهم يكذبونه، وقال ابن عدي: كان يضع الحديث، وسمعت أبا عروبة يقول: لم أر في الكذابين أصفق وجها منه. وانظر «التقريب» (2/53)، وكذلك «التهذيب» (9/24).
وأبو بكر بن محمد بن نعيم المدني لم يرو له البخاري ولا مسلم بل ليس له رواية البتة في الكتب الستة راجع «التهذيب» (12/38).(1/272)
أقول: فأنى لإسناد فيه أمثال هؤلاء أن يقال عنه: صحيح على شرط الشيخين.
وكيف يجوز للشيخ مقبل عفا الله عنه أن يورد مثل هذا الإسناد في «الجامع الصحيح»، ويسكت سكوت إقرار على كلام الحاكم الخاطئ هذا؟ لأنه إذا لم يكن مقرا لكلامه لما أورده في كتابه الذي اشترط له الصحة... ولكن التوفيق عزيز.
قلت: راجع بيان غلط أحمد الملقب بالدكتور على مثل هذا عند قوله: الخطأ الثاني بعد المائة.
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (283):
قال (2/17) الحديث رقم (838): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (3995):
حدثنا عبدالصمد، حدثنا حماد، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خطب النساء فقال لهن: ((ما منكن امرأة يموت لها ثلاثة، إلا أدخلها الله عز وجل الجنة))، فقالت أجلهن امرأة: يا رسول الله، وصاحبة الاثنين في الجنة؟ قال: ((وصاحبة الاثنين في الجنة)).
هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: كيف وقد أخرجه البخاري ومسلم بنحوه.
قلت: أما عن ابن مسعود، فلم يخرجه أحدهما، وقد أخرجه أيضا أبو يعلى رقم (5085)، والطبراني (10414) كلهم من طريق عاصم به، وعاصم حسن الحديث كما تقدم حاله.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والعشرون بعد المائة
قال الدكتور ص (284):
قال (2/31) الحديث رقم (871): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (7/380):
حدثنا أبو كريب، حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحق، عن أبي الأحوص، عن عبدالله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)).
هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث ابن مسعود، وإنما نعرفه من حديث حفص بن غياث، عن الأعمش، وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك بن فضلة(1) الجشمي، تفرد به حفص.
__________
(1) ... كذا نقله! والصواب: (نضلة).(1/273)
قال أبو عبدالرحمن وهو الشيخ مقبل : هو حديث صحيح رجاله رجال الشيخين. اهـ
قال الدكتور: قلت: سكت الشيخ عن عنعنة الأعمش، وأبي إسحاق مع أنهما مدلسان ولم يصرحا بالتحديث، فالله تعالى أعلم. (ثم ساقه من حديث أبي هريرة في مسلم).
قلت: تقدم إيضاحه من أمثاله الماضية، وأن عنعنة مثل هؤلاء قبلها كثير من الأئمة إلا ما علم أن أحدهما دلس فيه.
وحديث ابن مسعود عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» برقم (63) إلى الترمذي فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ الثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (285):
قال (2/72) الحديث رقم (934): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (469) بتحقيق أحمد شاكر:
حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد، ح وسريج وحسين قالا: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عامر بن سعد، قال حسين بن أبي وقاص: قال: سمعت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يقول: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن لا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكني أشهد لسمعته يقول: ((من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار))، وقال حسين: أوعى صحابته عنه.
قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1/70): حدثنا عبدالكبير بن عبدالمجيد أبو بكر الحنفي، حدثنا عبدالحميد بن جعفر، عن أبيه، عن محمود بن لبيد عن عثمان بن عفان ر ضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من تعمد علي كذبا فليتبوأ بيتا في النار)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه البخاري في «صحيحه» باللفظين. (ثم ساقه من حديث سلمة وأنس).
قلت: قوله عن حديث عثمان هذا: أخرجه البخاري ومسلم في «صحيحه». ليس بصحيح، فقد عزاه الحافظ ابن حجر في «إتحاف المهرة» (11/52) إلى أحمد فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص(286):
قال (2/275): قال الترمذي -رحمه الله- (3/596):(1/274)
حدثنا محمود بن غيلان حدثنا قبيصة عن سفيان، عن ابن جريج، عن عبدالحميد عن ابن يعلى، عن أبيه، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- طاف بالبيت مضطبعا وعليه برد.
قال أبو عيسى –يعني الترمذي-: حديث الثوري عن ابن جريج، ولا نعرفه إلا من حديثه وهو حديث حسن صحيح، وعبدالحميد هو ابن جبيرة بن شيبة، عن ابن يعلى عن أبيه وهو يعلى بن أمية.
قال أبو عبدالرحمن يعني الشيخ مقبل : هو حديث صحيح على شرط الشيخين، وابن يعلى هو صفوان، كما في «تحفة الأحوذي» عن ابن عساكر، الحديث أخرجه أبو داود (5/336)، وعنده ((ببرد أخضر))، وابن ماجه (2/984)، والدارمي (2/65). اهـ
قال الدكتور: قلت: قوله: هذا حديث صحيح ليس بصحيح، إذ أن في الإسناد عنعنة ابن جريج وهو ابن عبدالعزيز الأموي أصله رومي، وهو ثقة فاضل، لكنه مشهور بالتدليس ولم يصرح بالتحديث، قال الذهبي -رحمه الله- عنه: أحد الأعلام الثقات يدلس. (2/659)، الترجمة رقم (5227) «ميزان الاعتدال»، وقال الحافظ في «التقريب»: ثقة فقيه فاضل وكان يدلس ويرسل. (1/617).
وقال الإمام أحمد: إذا قال ابن جريج: قال فلان وقال فلان، وأخبرت جاء بمناكير، وإذا قال: أخبرني وسمعت فحسبك به. «التهذيب» (6/404).
وقال يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقا فإذا قال: حدثني فهو سماع، وإذا قال: أخبرني فهو قراءة، وإذا قال: قال، فهو شبه الريح.
وقال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح مثل: إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة وغيرهما، وأما ابن عيينة فكان يدلس عن الثقات، «التهذيب» (6/405).
فمن كان هذا حاله فلا يصح أن يقال عن إسناد لم يصرح فيه بالسماع أنه صحيح والله تعالى أعلم.
قلت: ابن جريج مدلس قد عنعن في المصادر المذكورة هنا، وعند أحمد في «المسند» (4/222)، والبيهقي (5/79).(1/275)
وقال الترمذي في «جامعه» رقم (859): وهذا حديث الثوري عن ابن جريج، ولا نعرفه إلا من حديثه، هو حديث حسن صحيح.
وعبدالحميد هو ابن جبير بن شعبة عن ابن يعلى عن أبيه يعلى بن أمية.
وهذا الجزم من الإمام الترمذي يفيد أن ما ظاهره المتابعة لابن جريج عند بعضهم، كما ذكر العلامة الألباني -رحمه الله- في «صحيح أبي داود» عند الحديث رقم (1645) وفيه نظر كما أشار هو أيضا ، وقال «محقق مسند أحمد»: إسناده قوي.
قلت: أما هذه الطريق؛ فيظهر ضعفها لعنعنة ابن جريج فيها، فليس شأنه في ذلك شأن قتادة، وأبي إسحاق، والأعمش، ونحوهم، بل كان أشد تدليسا منهم، وأن ما ذكره الحافظ أنه هو، وقتادة، وعمرو بن عبدالله السبيعي في طبقة واحدة إلا أنهم ذكروا أنه كان يدلس عن ضعفاء، وأنزل منهم، وأنه لا يحتج بما عنعن فيه.
قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس لا يدلس فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة وغيرهما.
وقال الذهلي: ابن جريج إذا قال حدثني، وسمعت فهو محتج بحديثه، كما في «تهذيب التهذيب».
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص(287):
قال (2/347) الحديث رقم (1324): قال أبو داود -رحمه الله- (12/405):
حدثنا موسى بن إسمعيل، حدثنا حماد بن سلمة ح، وحدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: قال موسى: ((فلعل الله))، وقال ابن سنان: ((اطلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)). هذا حديث حسن. اهـ
قلت: قوله: هذا حديث حسن ليس بحسن إذ أنه قطعة من قصة حاطب بن أبي بلتعة، وهي مروية في الصحيحين. (ثم ساقه من حديث علي).
قلت: حديث أبي هريرة هذا عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (9/176) رقم (6737)، والمزي في «تحفة الأشراف» (9/427) رقم (12809) إلى أبي داود فقط.(1/276)
وأما قصة حاطب فهي من حديث علي بن أبي طالب عند البخاري رقم (3007)، ومسلم برقم (2494) وليس عن أبي هريرة.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (288):
قال (2/352) الحديث رقم (1332): قال الإمام أبو عبدالله ابن ماجه -رحمه الله-:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنما أنا بشر؛ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قطعت له من حق أخيه قطعة، فإنما أقطع له قطعة من النار)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو مخرج في البخاري ومسلم. (ثم ساقه من حديث أم سلمة).
قلت: حديث أبي هريرة انفرد به ابن ماجه فقط كما في «تحفة الأشراف» للحافظ المزي رقم (15095).
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (289):
قال (2/342) الحديث رقم (1312): قال الإمام الترمذي -رحمه الله- (10/313):
حدثنا الجراح بن مخلد البصري، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة عن خيثمة بن أبي سبرة، قال: أتيت المدينة، فسألت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فيسر لي أبا هريرة فجلست إليه فقلت له: إني سألت الله أن ييسر لي جليسا صالحا فوفقت لي فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة جئت ألتمس الخير وأطلبه، قال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة؟ وابن مسعود صاحب طهور رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ونعليه؟ وحذيفة صاحب سر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين، قال قتادة: والكتابان الإنجيل والفرقان.
قال: هذا حديث حسن صحيح غريب وخيثمة هو ابن عبدالرحمن بن أبي سبرة إنما نسب إلى جده.
يؤجل الحكم على سند حتى يتابع الجراح بن مخلد، فإنه لم يوثقه معتبر. اهـ(1/277)
قال الدكتور: قلت: قوله: فإنه لم يوثقه معتبر، خطأ كبير لا أدري كيف وقع فيه، إذ أن الرجل ثقة من خيار الناس، وثقه المعتبرون من أئمة الجرح والتعديل، فلا أدري من أين جاء بهذا الحكم، ولو قال: فيما أعلم لكان أقرب إلى الصواب.
أما الجرح(1) فهو: الجراح بن مخلد العجلي البصري، القزاز، روى عنه جمع غفير من الأئمة كما سردهم الحافظ المزي في «تهذيب الكمال»، روى عنه أبو داود في «القدر»، والترمذي وصحح حديثه، والإمام البخاري في «التاريخ»، وأبو يعلى الموصلي، وأحمد بن الحسين الصوفي، وأبو غسان أحمد بن سهل الأهوزاي، وأبو بكر أحمد بن عمرو، وجعفر بن أحمد الأصبهاني، وأبو عروبة الحسين بن محمد الحراني، وزكريا بن يحيى، وسهل بن أبي سهل الواسطي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وعلي بن عبدالصمد الطيالسي.. وخلق كثير غيرهم. انظر: «تهذيب الكمال» للمزي (4/516).
ووثقه ابن حبان والذهبي، وابن حجر، والبزار وقال: كان من خيار الناس. وقال ابن حجر في «التقريب»: ثقة من العاشرة (1/157) الترجمة رقم (909).
راجع ترجمته في: «الثقات» لابن حبان (1/66)، «والجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (1/524)، و«تذهيب الذهبي» (1/103)، و«الكاشف» (1/181) و«تاريخ الإسلام» ص (139)، و«تهذيب التهذيب» لابن حجر (2/66).
فإذا وثقه أمثال هؤلاء الجهابذة، فهل يصح أن يقال: بعد ذلك لم يوثقه معتبر.
قلت: الجراح بن مخلد لم يذكر في «تهذيب التهذيب»، ولا «إكمال تهذيب الكمال» أن معتبرا وثقه لا البزار، ولا غيره، وإنما قال البزار: الجراح كان من خيار الناس، وهذا ليس بتوثيق في روايته، إنما هو ثناء عليه في دينه، وقد أثنوا على نعيم بن حماد في دينه، ووصفوه بالثبات على السنة، وكذا ابن لهيعة وغيرهما من أئمة السنة لهم صلاح وخير معروف، وحديثهم ضعيف، وابن حبان معروف التساهل حسب ما تقدم ذكره.
__________
(1) ... كذا! وصوابه: (الجراح).(1/278)
وأما الذهبي حسبما تقول، وابن حجر كما في «التقريب» فإن توثيقهما لمن عاصرهما من أهل الحديث معتبر، وأما من هو في طبقة المتقدمين، فإنما هما ناقلان، وقد يوثق أحدهما باجتهاده من لم يوثقه إلا العجلي، وابن حبان، وترى الذهبي يقول في «كاشفه» وثق، وإن بحثت في مثل يوسف بن أبي بردة، ونحوه رأيت ذلك، وعلى هذا فما قاله العلامة الوادعي -رحمه الله- عن الجراح بن مخلد صواب، وما جعجع به الدكتور خطأ.
وترى الدكتور يخالف، ويناقض أقواله من موضع إلى آخر، كما ذكرنا من تناقضاته الشيء الكثير، بل قد حكم بالجهالة حسب هواه على من ذكر توثيق بعض المعتبرين في ذلك من الأئمة.
وافحص انتقادات الدكتور هداه الله ترى فيها عنادا واضحا وهوى، والله المستعان.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (291):
قال (2/373) الحديث رقم (1378): قال أبو داود -رحمه الله- (1/96):
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو في صحيح البخاري. (ثم ساقه من حديث عبدالله بن عمرو).
قلت: هذا تلفيق أوضحناه فيما مضى من نظائره، وحديث أبي هريرة هذا عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (8/رقم 5851) إلى أبي داود فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (292):
قال (2/11) كتاب الصلاة 5 فضل إتيان المسجد للصلاة من كتاب «الجامع الصحيح»: وقال الحاكم -رحمه الله- (1/20):(1/279)
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي، حدثني أبي، قال: سمعت الأوزاعي، وحدثنا أبو عبدالله محمد بن علي بن مخلد الجوهري ببغداد، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، ثنا محمد بن كثير المصيصي، ثنا الأوزاعي، وحدثنا أبو بكر بن إسحاق، أنبأ بشر بن موسى، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاري، ثنا الأوزاعي، وهذا لفظ حديث أبي العباس، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، ويحيى بن أبي عمرو السيباني، قالا: ثنا عبدالله بن فيروز الديلمي، قال: دخلت على عبدالله بن عمرو بن العاص وهو في حائط له بالطائف يقال له: الوهط، وهو محاضر فتى من قريش، وذلك الفتى يزن بشرب الخمر، فقلت لعبدالله بن عمرو: خصال تبلغني عنك تحدث بها عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أنه قال ((من شرب الخمر شربة لم تقبل توبته أربعين صباحا)). (ثم ساقه بطوله إلى قول الحاكم): هذا حديث صحيح قد تداوله الأئمة، وقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة. اهـ
قال الدكتور: قلت: وهذا خطأ فادح من الحاكم، وقد تابعه عليه الشيخ مقبل، وهو أمر يدعو للعجب، إذا كيف يذهل عن مجموعة من الرجال بعضهم فيه ضعف، وبعضهم لم يرو له البخاري ولا مسلم، وبعضهم ليس له رواية في الكتب الستة أصلا، فالحديث مسلسل أسانيده برجال وليس رجلا واحدا ليس له رواية في «الصحيح» لا متابعة ولا تعليقا، فضلا أن يكون البخاري، أو مسلم احتجا بواحد منهم كما زعم الحاكم، وأقره على ذلك الشيخ مقبل الذي يرجح المرء تقديرا منا لعلمه أن ذلك الخطأ ليس منه، وإنما أدخل عليه من قبل بعض الطلاب المبتدئين حوله.. أقول: ذلك لفداحة الخطأ كما سيأتي البيان تفصيلا.
(ثم ذكر تراجم سبعة من الرواة ليبرهن أنه ليس على شرط الشيخين، ثم قال بعد هذا الجهد الكبير):(1/280)
وعليه.. فقد اجتمع ثمانية من الرواة في هذه الأسانيد التي زعم الحاكم أن الشيخين قد احتجا برواتها، وهم كما رأيت على خلاف هذا الزعم الذي تابعه عليه الشيخ مقبل.. غفر الله للجميع..
قلت: أجزم جزما أن الدكتور لم يتعلم علم الحديث كما ينبغي، وإنما وثب عليه وثوبا، ولهذا ضل سعيه فيه، وهو يحسب أنه يحسن صنعا.
وبيان ذلك: أن الحاكم نازل، وشيوخه نازلون، فكيف يريد من البخاري أن يخرج لبعضهم بعد أن صار في قبره، وإنما الشأن في مخرج الحديث الذي يلتقي معه الشيخان، أو أحدهما فيه.
ومخرجه هنا الأوزاعي فما بعد، وكلهم قد أخرج لهم البخاري ومسلم.
الأوزاعي عبدالرحمن بن عمرو روى له الجماعة.
وربيعة بن يزيد الدمشقي روى له الجماعة، وأما يحيى بن أبي عمرو فمقرون بربيعة، غير أن عبدالله بن فيروز الديلمي روى له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وهو ثقة، وذكره ابن قانع في معجم الصحابة.
قلت: والصحيح عدم صحبته.
فإما أن الحاكم اعتبره صحابيا، وأما أنه وهم في جعله من على شرطهما.
وبهذا يكون الحديث صحيحا، وليس على شرط أحدهما، وأما قول الذهبي في «تلخيصه على المستدرك»: نرجو أن يكون الله قد أعطاه إياه على شرطهما، ولا علة له فهو رجاء، وليس عن تتبع، كما يظهر من سياق لفظه.
فإن كان هناك من وهم للحاكم ثم للشيخ -رحمه الله- ففي عبدالله بن فيروز الديلمي، وليس في «التقريب» عبدالله بن فيروز غير الديلمي، وهو هذا، والداناخ وهو ثقة روى له الجماعة إلا الترمذي، كما في «التقريب» فلعل بصر الشيخ -رحمه الله- سبق إلى الداناخ بعده والله أعلم.
ومثل هذا لا يحتاج إلى هذه الضجة الأشرة البطرة من الدكتور، ولكنه أتى من قبل جهله، والجهل صاحبه معذور في كثير من الأمور.
وأما قوله: وإنما أدخل عليه من قبل بعض الطلاب المبتدئين حوله.
فقد تقدم الجواب على مثله في الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والثلاثون، فراجعه.
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والثلاثون بعد المائة(1/281)
قال الدكتور ص (294):
قال (2/375) الحديث رقم (1318): قال أبو داود -رحمه الله- (10/337):
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن كان في شيء مما تداويتم به خير فالحجامة)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو مخرج في الصحيحين. (ثم ساقه عن جابر).
قلت: حديث أبي هريرة هذا ليس في أحد من الصحيحين، وقد عزاه ابن الأثير في «جامع الأصول» (7/540) رقم (5671) إلى أبي داود فقط، وهو عنده برقم (3857).
الجواب على دعواه: الخطأ الثامن والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (295):
قال (2/15) كتاب الصلاة 7 فضل الصلاة في المساجد الثلاثة:
قال الإمام أبو محمد عبد بن حميد -رحمه الله- في «المنتخب» (3/26):
حدثني أحمد بن يونس، قال: حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا، أو البيت العتيق)). هذا حديث حسن.
قلت: قوله: (هذا حديث حسن)، ليس بحسن، فهو صحيح جدا وإسناده عال ورجاله رجال البخاري ومسلم إلا أن أبا الزبير روي له البخاري متابعة، وهو ثقة فاضل، لا سيما إذا روى عنه الإمام الليث بن سعد، فإنه يرفع شبهة التدليس. (ثم ذكر ترجمة أحمد بن يونس وأنه ثقة ثم قال): وعليه... فلم يبق أي مانع للحكم على الحديث، فإسناده كما رأيت كالشمس في الثبوت، ولا علة فيه تنزل به إلى درجة الحسن.
قلت: أبو الزبير حسن الحديث، وإن روى عنه الليث، كما في ترجمته من «التهذيب» وغيره. وبهذا قال الحافظ في «التقريب» قال: صدق إلا أنه يدلس. وانظر ما تقدم عنه.
الجواب على دعواه: الخطأ التاسع والثلاثون بعد المائة
قال الدكتور ص (296):
قال (2/491) الحديث رقم (1607): قال الإمام محمد بن نصر -رحمه الله- في الصلاة ص (499):(1/282)
حدثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو النعمان، وسليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن)).هذا حديث صحيح، وله طريق أخرى، (ساقها إلى قول الشيخ (-رحمه الله-: عبدالعزيز بن عبدالمطلب فيه كلام لا ينزل حديثه عن الشواهد، والمتابعات. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث في الصحيحين. (ثم ساقه عن أبي هريرة).
قلت: كيف يكون في الصحيحين، والحديث من طريق حماد بن سلمة، ومسلم لم يعتمده إلا في روايته عن ثابت كما تقدم بيانه، فلو تأمل الدكتور هذا؛ لأراح نفسه من هذا التكلف العاطل.
الجواب على دعواه: الخطأ الأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (298):
قال (2/413) الحديث رقم (1465): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (8692):
حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: ((سألت ربي عز وجل فوعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفا، فقلت: أي رب إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي؟ قال: إذن أكملهم لك من الأعراب)).
هذا حديث حسن. وزهير بن محمد يضعف إذا روى عنه الشاميون، ويحيى بن أبي بكير كوفي الأصل، سكن بغداد كما في «تهذيب التهذيب». اهـ
قال الدكتور: قلت: هذا الحديث ينبغي التوقف في الحكم عليه، والعلة فيه: زهير بن محمد وقد اتفقوا على تضعيفه، إذا روى عنه الشاميون، واختلفوا في قبول مروياته فيما عدا ذلك، ومع أن روايته في البخاري ومسلم، إلا أن الأئمة تكلموا فيه كثيرا، لا سيما فيما لا يتابع عليه.
والحديث الوارد فيه عبارة لم يتابع عليها زهير بن محمد، وفي القلب منها شيء، وهي: ((إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي، قال: أكملهم لك من الأعراب)).(1/283)
قلت: زهير بن محمد إذا روى عنه غير الشاميين يحتج بحديثه بلا غضاضة، والتوقف في حديثه بعد نصوص أئمة بأنه إنما يضعف حديث الشاميين عنه، عناد سرعان ما تجد الدكتور يخالفه في أمثال ذلك كثير حسب ما يجره هواه، وأما تصحيح، أو تضعيف الأحاديث بالظنون، والتوهمات، فتقدم النقل في التحذير من هذه الطريقة؛ لأنها طريقة الصوفية أصحاب: (حدثني قلبي عن ربي)، وإنما هذا فن المحدثين الأوابين إلى أصول هذا العلم.
الجواب على دعواه: الخطأ الحادي والأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (300):
قال (2/487) الحديث رقم (1598): قال النسائي -رحمه الله- (4/5):
خبرنا إبراهيم بن يعقوب، قال: حدثني أحمد بن إسحق، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثنا منصور ابن صفية، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لقنوا هلكاكم قول لا إله إلا الله)).
هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
قلنا: الذي في «صحيح مسلم» برقم (916) من حديث أبي سعيد الخدري، أما حديث عائشة فلم يعزه ابن الأثير في «جامع الأصول» (11/84)، والحافظ المزي في «تحفة الأشراف» برقم (17861) إلا إلى النسائي فقط.
الجواب على دعواه: الخطأ الثاني والأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (303):
قال (2/422) الحديث رقم (1477): قال الإمام النسائي -رحمه الله- في «عمل اليوم والليلة» ص (485):
أخبرنا علي بن المنذر، قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أحب الكلام إلى الله أربع، لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث صحيح لا علة فيه يمكن أن تنزل إلى درجة الحسن. (ثم ترجم لعلي بن المنذر ومحمد بن فضيل وخلص بأنهما ثقتان، ثم قال):(1/284)
وبقية الإسناد ثقات مشهورون رجال الشيخين.. وعليه فالإسناد صحيح لا علة فيه.
قلت: علي بن المنذر قال فيه الحافظ في «التقريب»: صدوق يتشيع، وقد وثقه ابن أبي حاتم، والنسائي، وابن نمير، وقال الدارقطني ومسلمة بن قاسم: لا بأس به، كما في «التهذيب» لابن حجر، وهذا لا يتنافى مع توثيق من وثقه.
وكذا محمد بن فضيل بن عزوان. قال الحافظ في «التقريب»: صدوق عارف رمي بالتشيع.
وقال أبو حاتم: شيخ. وقال النسائي: ليس به بأس. ووثقه ابن معين، وابن سعد، والعجلي، وذكره ابن شاهين في «الثقات»، وقال ابن المديني والدارقطني: كان ثقة ثبتا، ووثقه يعقوب بن سفيان، وعابوا عليه شدة تشيعه. قال أبو داود: كان شيعيا محترقا.
فمن حسن حديثهما فبقول من لم يوثقهما أخذ، ومن صحح حديثهما فبقول من وثقهم أخذ، ويظهر لي أنهما ثقتان، ومن عداهما في السند، وأن الحديث المذكور هنا صحيح.
الجواب على دعواه: الخطأ الثالث والأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (305):
قال (2/493) الحديث رقم (1614): قال الإمام ابن ماجه -رحمه الله- (1/434):
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحق، عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ينام أول الليل ويحيي آخره. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. اهـ
قال الدكتور: قلت: أبو إسحاق معروف بالتدليس، ولم يصرح بالتحديث، فكان الأصوب أن يقول: حديث حسن، والإمام البخاري -رحمه الله- ينتقي من رواياته الأحاديث التي يطمئن فيها على الاتصال.
قلت: لو أثرت عنعنة أبي إسحاق في حديثه لنزل حديثه بذاته عن رتبة الحسن، ولكن عنعنته ومثله قبلها عدد من الأئمة كما تقدم ذكرهم، وعليه فالحديث صحيح كل رجاله ثقات.
الجواب على دعواه: الخطأ الرابع والأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (306):
قال (2/519) الحديث رقم (1662): قال الإمام ابن ماجه -رحمه الله- (1/451):(1/285)
حدثنا إسمعيل بن عبدالله الرقي، حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ثور بن يزيد، عن زياد بن أبي سودة، عن أخيه عثمان بن أبي سودة، عن ميمونة مولاة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قالت: قلت: يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس؟ قال: ((أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره)). قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: ((فتهدي له زيتا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه)). هذا حديث صحيح. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث مختلف في إسناده، وضعفه بعض أهل الحديث بسبب هذا الاختلاف.
وقد رواه البيهقي كما في «السنن الكبرى» (2/441)، فقال:
أنبأنا الحسين بن محمد، أنبأنا محمد بن بكر، ثنا أبو داود حدثنا النفيلي، ثنا مسكين عن سعيد بن عبدالعزيز، عن ابن أبي سودة، عن ميمونة مولاة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قالت:. فذكر الحديث..
قلت: وهذا إسناد غير قائم، لم يروه ابن أبي سودة عن ميمونة، وإنما رواه عن أخيه عثمان عنها.
وقال ابن التركماني في «شرح السنن الكبرى» (2/441): الحديث ليس بقوي. كذا قال عبدالحق في «أحكامه»، وكان الحاصل له على ذلك الاختلاف في إسناده، فإن أبا داود أخرجه كما ذكر البيهقي، وأخرجه ابن ماجه من حديث ثور بن يزيد، عن زياد بن أبي سودة، عن أخيه عثمان بن أبي سودة، عن ميمونة، ولهذا قال صاحب «تهذيب الكمال» -يعني الحافظ المزي-: روى زياد عن ميمونة، وعن أخيه عنها هو الصحيح.
ولعل من أجل هذا الاختلاف غير غرابة المتن ضعف الشيخ الألباني الحديث واستنكره.. فمرة قال: ضعيف، كما في «ضعيف سنن أبي داود» (1/43)، الحديث رقم (85).. ومرة قال: حديث منكر كما في «ضعيف سنن ابن ماجه» (1/104) الحديث رقم (298)... ومرة قال: بدا لي أن السند غير جيد فيه علة تقدح في صحته كما في «تحذير الساجد» ص(198) طبع المكتب الإسلامي.(1/286)
وهنا يقع السؤال: أليس هذا الحديث والحال كذلك أولى أن ينزل بحكمه من درجة الصحة إلى ما دونها؟، فلا أدري على أي قاعدة علمية بنى الشيخ مقبل تحسين الحديث تحت الخطأ الخامس والأربعون بعد المائة، وتجنب تصحيحه مع قوة السند بينما في حديثنا هذا قال: صحيح مع أن حاله كما رأيت.
فإن قال قائل: حديث النسائي المشار إليه تحت الخطأ الخامس والأربعون بعد المائة فيه علي بن المنذر، وهو شيعي، قلنا: كذلك في حديث ابن ماجه إسماعيل بن عبدالله الرقي قد أجمعوا على أنه قدري جلد كما في «تهذيب التهذيب».
قلت: رجال إسناد الحديث كلهم حسب تراجمهم في «التقريب» لم ينزل الحافظ أحدا منهم عن ثقة، غير إسماعيل بن عبدالله بن خالد الرقي قال فيه: صدوق نسب لرأي جهم. وقال الذهبي في «الميزان»: صدوق يتهم.
قال أبو حاتم: صدوق. ووثقه الدارقطني.
وكون بعضهم وصفه بالصدق لا يتنافى مع من وثقه.
وعلى هذا فالحكم عليه بالصحة حسب ظاهر سنده صواب، وقد صحح إسناده هذا البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (1407)، و«إتحاف الخيرة» (2/155) قال في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح رجاله ثقات.
وقد نبه الشيخ -رحمه الله- في مقدمة «الصحيح المسند» على أنه كان على وجل أن يدخل حديثا في الصحيح المسند وهو ضعيف، ولهذا كان إذا ظهرت له علة حديث نقله إلى «أحاديث معلة ظاهرها الصحة»، وقال: وعلى كل فهذا عنواني من أجل من اطلع على وهم يفيدني، وجزاه الله خيرا.
قلت: وهذا الحديث مع صحة سنده ظاهرا إلا أنه معل.
قال الذهبي في ترجمة زياد بن أبي سودة بعد أن ذكر له هذا الحديث في «الميزان» قال: هذا حديث منكر جدا رواه سعيد بن عبدالعزيز عن زياد عنها، فهذا منقطع، ورواه ثور بن يزيد عن زياد متصلا، وقال عبدالحق: ليس هذا الحديث بقوي.(1/287)
وقال ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/535): فهو أحرى بأن لا يصح، وقال قبلها: وهو كذلك غير صحيح، وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة ميمونة مولاة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا الحديث ضمن أربعة أحاديث، وقال عن هذا الحديث: فيه نظر، وأنكر الذهبي أحاديثها الأربعة كلها.
وهكذا استنكر حديثها هذا الألباني عند الحديث من سنن ابن ماجه رقم (1407)، وذكر البوصيري في «إتحاف الخيرة» (5/155)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/534) أنه وقع اختلاف في إسناده، فلما تقدم قلنا: الحديث ضعيف، وإن كان ظاهر سنده الصحة.
الجواب على دعواه: الخطأ الخامس والأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (308):
قال (2/361) الحديث رقم (1350): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (7411):
حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، قال: سمعت أبي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((تنام عيني ولا ينام قلبي)). هذا حديث حسن. اهـ
قال الدكتور: قلت: بل هو حديث صحيح، أخرجه البخاري بالنص في عدة مواضع من صحيحه. (ثم ساقه من حديث عائشة وابن عباس وأنس).
قلت: هذا الحديث عن أبي هريرة ليس في أحد الصحيحين، فقد عزاه البوصيري في «إتحاف الخيرة» (9/75) إلى ابن حبان، وما ذكره في «إتحاف الخيرة» إلا لأنه زائد على المسانيد العشرة بما فيها الصحيحان.
الجواب على دعواه: الخطأ السادس والأربعو ن بعد المائة
قال الدكتور ص (309):
قال (2/377) الحديث رقم (1387): قال الإمام أحمد -رحمه الله- (2/399):
حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرني أبو بكر يعني ابن عياش قال: حدثنا أبو حصين عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: كان يعرض على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- القرآن في كل سنة مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرتين. هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح. اهـ(1/288)
قال الدكتور: قلت: وقد أخرجه البخاري في «صحيحه» من حديث أبي هريرة كذلك، أما مسلم فقد رواه من حديث فاطمة -رضي الله عنها-.
قلت: هذا برهان أن الدكتور لم يصدق في قوله ص (14) من «أضوائه» أنه نظر في آخر طبعة «للصحيح المسند».. إلخ.
فإن هذا الحديث قد حذف من الطبعة الثانية والثالثة من «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين».
الجواب على دعواه: الخطأ السابع والأربعون بعد المائة
قال الدكتور ص (310):
قال في «الجامع الصحيح» طبعة دار الحرمين (1995/م 3/299)، كتاب الشمائل المحمدية، 2 بعض أحواله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قبل الإسلام، قال الحاكم -رحمه الله- (3/216): حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب من أصل كتابه، ثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا أبو أسامة، ثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد، عن زيد بن حارثة -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب، فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور، حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا، ثم أقبل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يسير وهو مردفي في أيام الحر من أيام مكة، حتى إذا كنا بأعلى الوادي لقي فيه زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا أحدهما الآخر بتحية الجاهلية. (ثم ساقه بطوله، وقال):
قلت: قوله هذا حديث حسن، ليس بحسن، بل هو منكر لا يصح البتة.. وإيراد الشيخ مقبل للحديث غفر الله له وتعليقه عليه ينطوي على مجموعة أغلاط بعضها حديثية، وبعضها عقدية فاحشة. (ثم شحن أربع صفحات ملأها بالتهويل).
قلت: قد بينت خطأ الدكتور في انتقاده على هذا الحديث في الأحاديث الأول مما مضى عند قوله: الخطأ الرابع، مما يغني عن إعادته هنا.
والعجب أن الحديث قد تقدم تحت دعواه: الخطأ الرابع، فما الحامل له على إعادته هنا؟!(1/289)
وانظر بعضا من تناقضات الدكتور أحمد عند كلامه على محمد بن عمرو بن علقمة تحت قوله: الخطأ الثاني والأربعون، حتى تعلم يقينا أن الدكتور يسير طوع هوى نفسه الأمارة بالسوء، فإنه قد قال هناك عن محمد بن عمرو: ثقة، وهنا قال: ما انفرد به لا يحتج به في هذا الحديث.
حاصل ما تضمنه أضواء الدكتور أحمد بن نصر الله
وخلاصة القول بعد تشخيص أحمد الملقب بالدكتور في هذا المبحث ظهرت لنا فيه عدة آفات منها:
1- الهوى -كما ذكرنا-.
2- الجهل بهذا العلم.
3- العقلانية.
4- الحكم على الأحاديث بالتذوق على مبدأ الصوفية.
5- سوء الأدب مع الأئمة إذ يتكلم على بعضهم بقوله: ولا كرامة كابن جريج والبخاري..، ورمي بعضهم بالغفلة: كالدارقطني، والشيخ رحمهما الله.
6- التناقض الشديد في مواضع منها: هذا، والبتر، والتقول، وعدم الصدق: كما في قوله: أنه نظر آخر طبعة «للصحيح المسند».
7- التجني على كتب الزوائد كلها.
8- التشبع بمحاولة تضخيم كتابه بسوق أحاديث في الصحيحين معلومة.
9- كثرة تكرار الكلام في أمر الزوائد فيما لا يحسنه.
سبحانك الله وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
كان الانتهاء من كتابة هذا الجزء المسمى:
[التبيين لجهالات الدكتور أحمد بن نصر الله الصبري في كتابه «أضواء على أخطاء كتاب الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين» ومدى خطورة منهج الدكتور على كتب فحول المحدثين] بعد منتصف ليلة السبت لواحد وعشرين مضت من شهر محرم في أول العام الثامن والعشرين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية على صحابها الصلاة والسلام -ولله الحمد والمنة-.
كتبه أبو عبدالرحمن يحيى بن علي الحجوري
الرد على مقدمة السندي
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:(1/290)
فقد قرأت مقدمة الدكتور/حميد بن طاهر السندي المسئول عن شعبة الحديث بالجامعة السلفية (لاهور) لكتاب الدكتور الذي زعم أنه أضواء على أخطاء كتاب الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين فرأيت ذلك التقديم يحتاج إلى نقد وتقويم، فهو تقديم قليل السطور، إلا أنه كثير الشطط والزور، وقد جعلت مقدمة السندي بنصها مع بيان بعض ما فيها.
ومن ذلك قوله: فقد اطلعت على هذا الاستدراك المفيد.
قلت: وبقراءة ردنا هذا ستعلم أيها القارئ مدى الخسارة التي في صنيع الدكتور تجاه كتب الزوائد على وجه العموم، و«الصحيح المسند» على وجه الخصوص، وبعد ذلك تعلم إن شاء الله أن الدكتور السندي هداه الله إما أنه لم يقرأ الكتاب، وحكم عليه غيابيا بأنه مفيد، وهذه شهادة زور تحمل التغرير، والغش الكثير لمن يقرؤها، وإما أنه اطلع على الكتاب كما يقول، وليست لديه أهلية للتمييز بين المفيد والمخسر، والضار والنافع، ومثل هذا الأجدر به إن كتب أن يلتمس من يصحح له الأخطاء، فضلا عن أن يسند إليه تصحيح الأخطاء، وتقويم الكتب، والاحتمال الأخير وهو أن الدكتور السندي لا أهلية له ليميز بين المفيد وغير المفيد هو الذي يترجح بعدة قرائن:
أولها: قوله: إن هذا الاستدراك يدل على رسوخ قدم صاحبه في علم الحديث.
وأنت إذا قرأت هذا الرد سترى إن شاء الله ما يجعلك بيقين أن تقول: إن الدكتور رسخ قدمه في الجهل ببعض المسائل الحديثية، وبعضها مما علمه صغار طلاب هذا العلم نذكر منها:
1- قوله (ص10): على النحو الذي ذكره النووي في «تدريب الراوي». وتكرر هذا الخطأ أيضا تحت زعمه الخطأ الخمسون.(1/291)
2- استدراكه على الحاكم، والذهبي، والوادعي كيف يقولون في بعض الأحاديث: على شرط الصحيح، وفيها بعض مشايخ الحاكم لم يخرجه له البخاري ومسلم، ولم يعلم أن المقصود هو المخرج الذي يلتقي مع الشيخين فيه، وإلا فإن البخاري لعله مات وبعض مشايخ الحاكم أجنة في بطون أمهاتهم، وهكذا ترى العجب العجاب من اضطراب الدكتور أحمد، وتناقضاته التي صدورها شين في البادئين في علم الحديث.
وكون الدكتور أحمد قضى زمنا(1) وهو يأتي بالحديث من «الصحيح المسند» ثم يأتي بنظيره عن صحابي آخر من الصحيحين، إما من «تحفة الأشراف» إن كان يحسن البحث فيها، وإما بواسطة جهاز الحاسوب على عدد يزيد قليلا على مائة حديث، لو أقبل عليها طالب لحفظها في أيام يسيرة، فضلا من أن يخرجها من الصحيحين تخريجا، ولا يكون بحفظ هذا القدر، وعشرة أمثاله يستحق أن يوصف بأن عنده إلماما واسعا بالمتون لا بالصحيحين ولا بغيرهما.
ومما يدل على أن الدكتور السندي هداه الله في هذه المقدمة شهد زورا، وسلك جورا؛ قوله: وليس بمستغرب، فقد سمعت بعض طلاب العلم الذي لازموه يصفونه بأنه: (ألباني اليمن)...
فالدكتور بنى حكمه على ما نقل إليه من بعض الطلاب -حسب زعمه-، وكان ينبغي للدكتور السندي أن ينقد هذا القول على ذلك الطالب، فضلا من أن يستدل به، وذلك لأن الألباني -رحمه الله- إمام معروف، والدكتور نحن وآلاف الناس في دار الحديث بدماج من أكثر بلدان اليمن، لا نعرفه؛ فهو يعتبر مجهولا عندنا، فضلا من أن يكون ألبانيا!!! فكيف يقارن مثله بالألباني، الذي ملأت كتبه الأقطار، وصار ذكره مدونا في بطون الأسفار، فأين الدكتور السندي من قول الله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}(2)، ومن عدم الورع عند الدكتور السندي -هداه الله- قوله: فيجب دراسة هذا الاستدراك.
__________
(1) انظر تحت قوله: الخطأ التاسع والسبعون.
(2) ... سورة الأنعام، الآية: 152.(1/292)
وسواء عنى به الواجب العيني -الذي يلزم جميع المكلفين من الجن والإنس-، أو عنى به الواجب الكفائي -الذي لو قام به بعض المكلفين سقط الإثم عمن عداهم-، كل ذلك إيجاب بلا علم، ولا حلم، ولا برهان، ولا قرآن، ومن المعلوم أن الواجب عند الأصوليين يثاب فاعله، ويستحق العقاب تاركه، فبأي دليل يوجب على الناس دراسة كتاب «رياض الصالحين» للنووي -رحمه الله- -بما فيه من الخير العظيم-، فضلا عن إيجاب دراسة كتاب «أضواء الدكتور أحمد» المليئة بالأخطاء الفاحشة، والزلقات الفاضحة.
ومن تقليب الحقائق في مقدمة الدكتور حميد بن طاهر السندي قوله: لما فيه من الدفاع عن السنة النبوية.
وأنت ترى في ردنا هذا ما يثبت لك أن صنيع الدكتور في هذا الكتاب يعتبر جناية موبقة على كتب السنة، وبالأخص الزوائد منها، وفتح باب هدم ماليس في الصحيحين، وإلغاء جهود أصحابها، وهضم الصحابة الذين رووا أحاديثها، وغير ذلك من البلاء العظيم، يسميه الدكتور السندي هداه الله: دفاعا عن السنة!!! والله المستعان.
هذه إشارات إلى ما تحتويه مقدمة الدكتور السندي من الأخطاء الشنيعة، وإن كانت تستحق من البيان أكثر من ذلك، لكن كما قيل في المثل: يكفي من الشر ذكره.
ونعتبر الرد على أخطاء الدكتور أحمد بن نصر الله ردا على الدكتور السندي؛ إذ أنه طالعها، وأقرها، وأثنى عليها.
تمت الرسالة ولله الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير.(1/293)