الباحث
عن علل الطعن في الحارث
تأليف
عبدالعزيز بن الصدّيق الحسني
الغُماري المغربي
[تمهيد]
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام الأتمان الأكملان على رسوله الأمين ، وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين الميامين ، وعلى خيرة صحبه الأكرمين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
وبعد : فإنّ أهمّيّة معرفة الرجال ، وأحوال الرواة ، ممّا لا تكاد تخفى على من له عنايةً بالحديث الشريف والسُنّة المطهَّرة ، إذ بها يُعرف صحيح الحديث من موضوعه ، ومقبوله من مردوده ، وهو مع ذلك مسلكٌ خطير ومزلقٌ سحيق ينبغي لمن لم يكن من أهل النقد الصحيح اجتنابه والتنكّب عنه ، وأمّا من كان من أهله فيتعيّن عليه الاحتياط التامّ بالنسبة لنقد الرجال وجرحهم ، حتّى قيل : إنّ أعراض الناس حفرةٌ من حفر النار ، وقد نصّ علماء هذا الشأن على أنّ الكلام في الرجال لا يجوز إلّا لتامّ المعرفة ، تامّ الورع ، هذا هو الأصل الأصيل في هذا الباب .
لكن قاتل الله الهوى ، فإنّه لم يدخل في شي ءٍ إلّا أفسده ، فلقد مُني علم الجرح والتعديل بأُناسٍ عُرفوا برقّة الدين ، واتّباع الهوى ، وقلّة الحياء ، فأخذوا يتكلّمون على الرجال بما تميل إليه أهواؤهم ، وتطيب به نفوسهم ، من دون أن يكون الحقّ رائدهم ، حتّى أخذوا يوثّقون من اتّصف بسمة النفاق ، ويصفونه بالصدق والأمانة ، واتّباع السُنّة والتصلّب فيها .
وأمّا من كان على هدىً من ربّه ، واستُشعر منه الميل إلى محبّة أهل بيت نبيّه صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ لاسيّما إذا روى ما يؤيّد ذلك ـ فإنّهم لم يتقاعدوا عن وصمه ونبزه وغمزه ، والتكلّم فيه بما يوجب ردّ حديثه من غير مستندٍ ولا حجّةٍ .
ومن شاء فليراجع (ميزان الاعتدال) و(تذكرة الحفّاظ) و(تهذيب التهذيب) وغيرها من الكتب التي عُنيت بهذا الأمر ليتبيّن له صدق ما قلنا ، بل يرى بأمّ عينيه أنّ الخطب أفظع ممّا ذكرنا .(1/1)
وقد سرى هذا الداء الوبيل إلى بعض المتأخّرين عن أولئك القوم و(كم ترك الأوّل للآخر) فأخذوا يوثّقون الخوارج المارقين من الدين ـ بنصّ الحديث الصحيح ـ مروق السهم من الرميّة ، ويحتجّون بأحاديثهم على أنّهم أمناء دين الله تعالى وسُنّة رسوله صلّى الله عليه و آله و سلّم .
فهذا الحافظ ابن حجرٍ العسقلانيّ قد ذبّ في (تهذيب التهذيب) عن أذناب الخوارج كعمران بن حطّان وحريز بن عثمان وأضرابهما ، ونافح عنهم مُتغافلاً عمّا ورد بشأنهم في الحديث الشريف .
وقد انبرى للجواب عن ذلك العلّامة الشريف السيّد محمد بن عقيل العلويّ الحضرمي رحمه الله تعالى في كتابه القيّم (العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل) والعلّامة القاضي أحمد بن سعد الدين المِسْوَري في رسالته الرائعة (الرسالة المنقذة من الغواية في طرق الرواية) .
وهذا الشيخ محمّد جمال الدين القاسمي الدمشقي ـ عالم الشام ـ قد سلك في مقالته (ميزان الجرح والتعديل) ذلك الطريق ، وعاد يكرّر شبه أسلافه الماضين .
فتصدّى للجواب عنها الشيخ الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء رحمه الله تعالى في رسالته (عين الميزان) .
ثمّ ردّ عليه الشيخ محمد بهجة البيطار الدمشقي ـ تلميذ القاسمي ـ برسالةٍ سمّاها (نقد عين الميزان) .
فنقدها الشيخ منير عسيران العاملي في (نقد نقد عين الميزان) .
وبالجملة : فقد أصبحت الكتب المعنيّة بالجرح والتعديل ذات عللٍ خفيّة ، وأغراضٍ دنيّة ، وسمومٍ قتّالة لا يسلم منها إلّا من نظر فيها بعين البحث والنقد ، وتتبّع الأقوال والكلمات حتّى يعرف مخارجها وأسباب وضعها ـ كما قال شيخنا أبو اليسر جمال الدين بن الصدّيق رحمه الله ـ .(1/2)
ومن أولئك الرواة الذين ظُلموا بالجرح الباطل ، وتكلّم فيهم من دون خشية الله تعالى ولا حجّةٍ بيّنةٍ ولا مستندٍ يعتمد عليه : الحارث بن عبدالله الأعور الهَمْداني رضوان الله تعالى عليه ، صاحب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ عليه الصلاة والسلام .
ويعلم الله ، كم من حديثٍ قد ضعّف من أجله؟! مع أنّه لم تثبت عنه كذبةٌ واحدة ، ولا اختلق حديثاً قطّ ـ والعياذ بالله ـ ولكنّ الهوى والعصبيّة المقيتة ، وداء النصب ، يُعمي صاحبه عن نهج الحقّ وقول الصدق ، نسأل الله السلامة .
وقد قيّض الله سبحانه وتعالى شيخنا العلّامة المفيد الناقد البصير محدّث المغرب السيّد الشريف أبا اليسر جمال الدين عبدالعزيز بن محمد بن الصدّيق الحسني الغُماري المغربي رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ للدفاع عن الحارث الهمداني وتبرأته ممّا وُصم به ، ببيانٍ باهر وبرهانٍ قاهر ، حتّى ردّ الحقّ إلى نصابه ، وأقرّه في إهابه ـ فجزاه الله خيراً ـ وذلك في كتابيه : (الباحث عن علل الطعن في الحارث) و(بيان نكث الناكث المتعدّي بتضعيف الحارث) اللذين نقدّم لهما بهذه الكلمات[1].
أمّا المؤلّف :
فهو عَلَمٌ شهيرٌ من أعلام آل الصدّيق الكرام القاطنين بالمغرب الأقصى ، ينتهي نسبه إلى إدريس بن عبدالله الكامل بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط عليه السّلام .
ولد رحمه الله تعالى في شهر جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائةٍ وألف من الهجرة المباركة بثغر «طنجة» بالمغرب ، وقرأ فيها على بعض مشايخها ، ثم سافر إلى القاهرة سنة خمسٍ وخمسين وثلاثمائةٍ وألف ، فأخذ عن أكابر شيوخها في علومٍ شتّى .(1/3)
وأمّا الحديث وفنونه ، فقد استفاد كثيراً من شقيقه الأكبر الحافظ أبي الفيض شهاب الدين أحمد بن الصدّيق صاحب كتاب (المداوي لعلل المناوي) وغيره من المؤلّفات الممتعة الكثيرة ، هذا إلى جنب ما آتاه الله من النبوغ والتضلّع في علم الحديث بحيث بلغ رتبة المجتهدين فيه ، ومؤلّفاته القيّمة تشهد بذلك ، مضافاً إلى سعة اطّلاعه على العلوم والفنون الأخرى التي كتب فيها بعض الأبحاث والرسائل ، وقد طبع بعضها مرّات .
وكان شقيقه الحافظ أبو الفيض يثني عليه وعلى مؤلّفاته كثيراً ، وحسبك تقريظه الذي كتبه على (الباحث) فإنّه يكشف لك عن مقام شيخنا المؤلِّف ، وعلوّ كعبه في علم الحديث ونقد الرجال .
وقد ذكر بعض تلامذة المصنّف ـ فيما كتبه في ترجمته ـ ما يربو على مائة عنوانٍ من مؤلّفاته ، سوى بعض الرسائل والبحوث التي تركها المترجم له في مصر .
وما زال رحمه الله تعالى ورضي عنه مُجدّاً في الكتابة والتأليف ، وخدمة العلم وطلّابه ، وإعلاء كلمة الله ، والدفاع عن الحقّ ، إلى أن أجاب داعي ربّه يوم الجمعة سادس شهر رجب سنة ثماني عشرة وأربعمائةٍ وألف بعد صلاة العصر ، فشيّع جثمانه تشييعاً عظيماً يوم السبت ، بعد أن غسل بماء زمزم وصلّي عليه في المسجد الأعظم بطنجة ، ثم حمل إلى الزاوية الصدّيقيّة حيث دفن هناك بجنب والده وإخوانه .
هذه نبذةٌ يسيرةٌ من ترجمة شيخنا العلّامة المحدّث سيّدي عبدالعزيز بن الصدّيق الغُماري رحمه الله تعالى ، وكنّا قد ترجمنا له سابقاً في العدد الثالث من مجلّة (علوم الحديث) ترجمةً أبسط ممّا هنا .
وله رحمه الله تعالى ترجمة ذاتيّة سمّاها (تعريف المؤتسي بأحوال نفسي) كما ترجم له بعض تلامذته في كتابٍ مستقلّ ، وحقيقٌ أن ينشد فيه قول القائل :
سَلْ عنه واخبر به وانظر إليه تجدْ مِلْ ء المسامع والأفواه والمُقَلِ
وإنّ قولي : هذا عيلم علم ضربُ الزجاج لنور الله في المثلِ
وأمّا كتاب : الباحث عن علل الطعن في الحارث :(1/4)
فهو كتاب فريد في بابه ، سلك فيه مؤلّفه مسلك المجتهدين النقّاد ، وقد اشتهر بين رجال العلم ـ على صغر حجمه ـ أيّما اشتهار ، حيث ردّ فيه طعن أهل الجرح في الحارث بن عبدالله الهمداني رضي الله عنه ، وبيّن غلطهم في ذلك من غير تعنّتٍ ولا سلوك طريق الشذوذ عن القواعد المعروفة ، بل بتطبيقها بحيث لا يمكن ردّها ولا نُكرانها ، وأثبت فيه أنّ الحارث في الدرجة العليا من العدالة ، بل إنّه أعلى درجةً من كثيرٍ من رجال الصحيح ، وقد أيّد ذلك بالأدلّة والقواعد .
وقد قرّظه العلماء وبالغوا في الثناء عليه ، منهم شقيقه الحافظ أبو الفيض أحمد ابن الصدّيق ، وتقريظه طبع مع الكتاب في طبعته الاُولى ، وأوردناه هنا أيضاً لأهمّيته ، كما أنّه علّق عليه بتعليقاتٍ علميّةٍ نافعةٍ تجدها في أسفل الصحائف .
وأيضاً فإنّ شقيق المؤلّف العلّامة المحدّث السيّد أبا الفضل عبدالله بن الصدّيق لمّا اطّلع على هذا الكتاب كتب إلى مؤلّفه من مصر يقول : إنّه كتابٌ عجيبٌ ، سلكتَ فيه مسلك الاجتهاد والنقد في التجريح ، وهو حقيق بالطبع .
قلت : وقد طبع هذا الكتاب بمطبعة الشرق بمصر في (44) صفحة .
وكذلك وقف الشيخ عبدالوهّاب عبد اللطيف أستاذ الحديث في كلّية الشريعة بالأزهر فأُعجب به جدّاً وقال : ممّا يثير العجب فيه أنّ مؤلّفه لم يخرج فيه عن القواعد الحديثيّة ، ممّا يدلّ على تمكّن المؤلّف في الفنّ .
ويقول المؤلّف رحمه الله : إنّه لمّا سافر لفريضة الحجّ في رحلته الأولى عام (1401هـ) وجد لهذا الكتاب أثراً كبيراً بين أهل العلم في مكّة والمدينة ، وكلّ من جالسه يكثر الثناء عليه ، ويعترف بأنّه لا يُكتب مثله في هذا الوقت .
وبالجملة : فإنّ صفحات هذا السفر القيّم تنبئك عن تبحّر مؤلّفه رحمه الله ورسوخ قدمه في علم الحديث ونقد الرجال {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}[2] .
وأمّا كتاب : بيان نكث الناكث المتعدّي بتضعيف الحارث :(1/5)
فقد ألّفه للردّ على محمد ناصر الدين بن نوح الألبانيّ ، حيث قال في مقدّمة كتابٍ علّق عليه ـ مستنكراً على صاحب «الباحث» توثيقه الحارث الهمدانيّ ـ : حتّى إنّ أحدهم ألّف رسالةً خاصّةً في توثيق الحارث الأعور الشيعيّ .
وقد أبان الألبانيّ بكلامه هذا عن جهلٍ وقصورٍ بسط مؤلّفنا رحمه الله تعالى الكلام عليهما في الفصلين اللذَيْن عقدهما في كتابه هذا .
ولهذا الألبانيّ أخطاءٌ وأغلاطٌ في الكلام على الرواة ، والحكم على الأحاديث ، وقع التنبيه على طرفٍ منها في هذا الكتاب ، ولو جُمعت لجاء ت مجلّدات ، وقد قام العلّامة السيّد حسن بن علي السقّاف الأردنيّ في كتابه (تناقضات الألبانيّ الواضحات) بالتعقّب عليه في كثيرٍ من أقواله وأحكامه التي قلّد فيها بعض المتقدّمين ، أو رام الاجتهاد ـ بزعمه ـ فأخطأ فيه ، كما أنّ لغيره من العلماء جهوداً مشكورةً في هذا الباب .
ولو أنّك قارنت بين مؤلّفنا وبين الألبانيّ الذي يعدّه جمهور المتسلّفين في هذا العصر من حذّاق الفنّ ، لعلمتَ أنّه لا نسبة بينهما ، وأنّ الغُماري رحمه الله مجتهدٌ حاذقٌ في هذا الشأن ، وذاك مقلّدٌ ، وما ستتلوه أوضح دليلٍ وشاهدٍ .
فرحم الله شيخنا الإمام المحدّث الشريف أبا اليسر جمال الدين عبدالعزيز بن محمد بن الصدّيق وأسكنه بحبوحة جنانه ، وجزاه عن أمير المؤمنين عليه السّلام وصاحبه خيراً ، وحشره معهما في دار رحمته ومستقرّ كرامته ، آمين اللهمّ آمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله وسلّم على محمّدٍ نبيّه وآله أجمعين .
وكتب
الحسن بن صادق الحسينيّ آل المجدّد الشيرازيّ
عفا الله عنه وغفر له
ليلة الأحد 19 / 11 / 1419هـ
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيّدنا محمّدٍ نبيّه الأمين ، وعلى آله وصحبه المهتدين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .(1/6)
وبعد : فإنّ علم الجرح والتعديل الذي به يُعرف صحيح الحديث من موضوعه ، ومقبوله من مردوده ، واجبٌ معرفته على كلّ من يريد السلامة في دينه ، ويحبّ أن يأخذ احتياطه في عمله الذي يتعبّد به ، ويتقرّب به إلى مولاه .
لأنّنا رأينا أقواماً ، بل أئمّةً أجلّةً كانوا عن هذا العلم بمعزلٍ ، فوقعوا في مهاوي ، واتّبعوا من الأقوال الباطلة ، والأحاديث الموضوعة ـ التي وضعها أحد رجلين : إمّا جاهلٌ بدينه ، أو فاجرٌ غويٌّ ـ ما صارت به كتبهم ـ من بعدهم ـ عبرةً للناظرين ، وأضحوكةً للمجتهدين الناقدين .
والسبب في هذا كلّه جهلهم بعلم الحديث الذي ينقسم إلى قسمين : بحثٌ في المتن ، وبحثٌ في الإسناد .
والثاني أهمّ القسمين ، وأعظم الركنين ، إذ به يُتوصّل إلى الغرض من علم الحديث ، ويُرتقى إلى معرفة ما يصلح للاستدلال ، وما هو ساقطٌ من متون الأحاديث .
ولهذا أجاز العلماء المجتهدون ـ أهل النظر والدليل ـ بيان حال الرواة من جرحٍ وتعديلٍ ، مع ما في ذلك من الخطر العظيم الذي يشرف بصاحبه على النار ، لأنّ حفظ الشريعة من تلاعب المارقين ، وتزوير الملحدين لا يتمّ إلّا بذلك ، ولا يدفع شرّهم عنها إلّا بمعرفة ما هنالك .
ومع ذلك فلم يتركوا الحبل على الغارب ، ولا أطلقوا للقائل العنان ، بل أباحوا من ذلك، ما تدعو إليه الضرورة ، لأنّ أعراض العباد محظورةٌ ، والوقوع فيهم بالطعن والتجريح كبيرةٌ غير مغفورةٍ ، لما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث ، وهي كثيرةٌ غير محصورةٍ .
فالمؤمنون المهتدون تحقّقوا خطورة الأمر وصعوبته ، فكانوا من ذلك على أشدّ الحذر والاحتياط ، حتّى إنّ منهم من كان يطعن في الراوي الكذّاب الذي لاح كذبه وظهر وضعه ؛ بالعبارات التي لا تدلّ على المراد ، ولولا تصريحه بأنّ قوله في فلانٍ كذا ، يدلّ على كذا ، لما فُهم ـ على مقتضى قواعد المصطلح ـ أنّه يريد الطعن بالكذب ، وكلّ ذلك مخافة الوقوع في المحذور .(1/7)
وقومٌ آخرون من ذوي الأغراض الفاسدة ، والمقاصد الخبيثة ، الذين لم يجعل الله في قلوبهم خوفاً منه ، ولا رهبةً من عقابه ، وجدوا في هذا العلم فرصةً طيّبةً لبثّ نفثات سمومهم ، وإفراغ جام غضبهم على أهل الدين والإيمان وأشياعهم ، فاتخذوا أعراض المسلمين هدفاً لأغراضهم الفاسدة ، متقمّصين بستار الدفاع عن السُنّة عن طريق جرح الرواة ، فأكثروا بذلك الفساد ، ونالوا بلسانهم الخبيث البذي ء كثيراً من صالحي العباد ، حتّى أوقعوا في كثير من الناس الشكَّ فيهم ، فاحترسوا منهم كاحتراسهم من كذّابٍ أفّاكٍ .
وصار كلّ من يأتي بعدَهم يأخذ قولهم مسلِّماً ، لأنّه صدر من أهل الفن الذابّين عن الدين ، وما درى المسكين أنّ تلك نفثةٌ سامّةٌ من حيّةٍ رَقطاء في قطعةٍ من الحلواء ، إذا لم يختبرها أو يُخبره أحدُ العارفين بها ، المطّلعين عليها؛ لوقع بسبب استعمالها صريعاً في الحين ، من غير أن يجد من يعالجه ويخرج منه السمّ الدفين .
ولم أرَ أحداً دخل إلى هذا الميدان ، مجرّداً عن الإِيمان ، وأجلب على عدول الرواة بخيلهِ ورَجِلِه ، فأكثر فيهم الطعن والجرح ، والقذف والسبّ من غير ذنبٍ اقترفوه ، ولا جريرةٍ ارتكبوها ، إلّا حبّهم لمولى المؤمنين ، وزوج سيّدة نساء العالمين ، ووالد سيّدَي شباب أهل الجنّة ، الإمام عليّ بن أبي طالبٍ عليه الصلاة والسلام ، وأولاده وعترته رضوان الله عليهم ، مثل النواصب ـ كلاب النار ، وأشياع الطاغية ابن الوزغ ، وابن آكلة الأكباد ـ .
فإنّ هذه الطائفة الباغية ـ بعالمها وجاهلها ـ لم تَأْل جُهداً في الطعن في أئمّة المسلمين العدول الثقات ، الذين لا يساوي طاغيتهم شعرةً من أحدهم ، والنيل منهم ، والتحذير من أحاديثهم باسم الدفاع عن السُنّة ، وهم كاذبون ، أفّاكون ، مجرمون ، ما حملهم على الطعن فيهم إلّا بغض الإمام وعترته ـ كما قلنا ـ .(1/8)
وقد استفحل شرّهم ، وراجت على العقول والأفكار بهرجتهم حتّى صار العالم النحرير ينقل كلام أحدهم في إمام من أئمّة المسلمين معتقداً صحّته ، مستدلّاً به ومحتجّاً على خصمه بطعنه ، بل وصل الأمر في الخطورة إلى أن صار الشيعيّ ضعيفاً مطلقاً ، والناصبيّ ثقةً غالباً .
فانظر ـ رعاك الله ـ كيف أحكم القوم عملهم ، وأتقنوا دسّ سمّهم بين الناس ، وأعانهم على ذلك صولة الحكم .
وإذا تعجّبت مرّةً من ناصبيٍّ يتكلّم في إمام من أئمّة المسلمين ، فاعجب ألف مرّةٍ من مسلمٍ ترى فيه الخير ، وتعتقد فيه الصلاح والديانة ، يتبع هؤلاء الكلاب ، ويجري مع أهوائهم حيثما جرت ، فيحمل على الشيعيّ المسكين حملةً شعواء ، ويعضه في صفوف المبتدعة الكفّار ، ثمّ إذا جاء الناصبيّ الخبيث الذي جاء النصّ بنفاقه {والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون}[3] تجده يدافع عنه وينافح ، ويلتمس الأعذار ، ويشرح البدعة المكفّرة وغير المكفّرة .
أليس من العجب ، بل من الكفر ، والضلال ، والعقوق ، أن يكون عكرمة البربريّ ، وحريز بن عثمان ، وعمران بن حطّان الملعون من رجال الصحيح؟!!!
ويكون أئمّة البيت النبويّ ، مثل جعفرٍ الصادق ، والحسن بن زيدٍعليهما السّلام من الضعفاء المتروكين؟!!! اللهمّ غفراً .
والله إنّ القلب ليتفطّر من هذا الصنيع ، والقلم يريد أن يقول ويكتب ما يرى فيه بعض ما يبرد الغليل ، ولكن يضيق صدري ولا ينطلق لساني ، وإلى الله ترجع الأمور .
وأفكّر وأُفكّر ، ثمّ أقول : إنّ التابع له حكم المتبوع ، وقد قال صلّى الله عليه و آله و سلّم : «إنّ أهل بيتي اختارهم الله للآخرة ، ولم يخترهم للدنيا ، وإنّهم سيلقون تشريداً ، وتطريداً ، وبلاءً شديداً»[4] أو كما قال صلّى الله عليه و آله و سلّم .
وصدق الرسول ، فإنّ أهل بيته ـ ومعهم أتباعهم ـ لقوا تشريداً وتطريداً حتّى من الكتب التي يزعم أصحابها أنّهم اقتصروا فيها على الصحيح!! .(1/9)
ومعاذ الله أن يكون الكتاب الذي فيه حديث حريز بن عثمان ، وعمران بن حطّان من الكتب المقتصرة على الصحيح ، ولو أجمع على ذلك الجنّ ، كما أجمع عليه البشر .
ومن رجع إلى ترجمة حريز بن عثمان يعرف ما نقول ، ويتحقّق أنّ حديث الملعون ينبغي أن يُذكر في (الموضوعات) لابن الجوزيّ ، ولكن هذا ما شاء الله .
فبسبب هذا صارت كتب الجرح ذات عللٍ خفيّة ، وأغراضٍ دنيّةٍ ، وسمومٍ قتّالةٍ؛ لا يسلم منها إلّا مَن نظر فيها بعين البحث والنقد والاعتراض ، وتتبّع الأقوال والكلمات حتّى يعرف مخارجها ، وأسباب وضعها ، ولا يركن إلى الأخذ مجرّداً عن كلّ ما ذكرنا ، فإنّه لا يأمن ـ مع ذلك ـ من الوقوع في المهالك التي تقصم الظهر ـ والعياذ بالله ـ .
وإذا وفّقنا الله وهيّأ لنا الأسباب لكتابة المؤلَّف الذي نريد وضعه في هذا الباب ، لرأيت العجب العُجاب ، ولما استجزت بعده أن تأخذ كلمةً واحدةً من تلك الكتب من غير بحثٍ ونظرٍ ، صغيرةً كانت أو كبيرةً ، لأنّ هذا العلم بعد أن كان يُقصد لغايةٍ شريفةٍ لا تحوم حوله الدسائس ، ولا يقرب إليه الدسّاسون المدسوسون ، صار بعد ذلك سُلَّماً لأهل الأهواء ، وطريقاً يتوصّلون بها إلى الطعن في الأئمّة وجرحهم وسبّهم بما شاء لهم ذوقهم الفاسد ، فاختلط الضارّ بالنافع ، والسقيم بالسالم ، وامتزجا امتزاجاً لا يميّزه إلّا أهل النقد المنيرة بصائرهم .
وهذا كتابٌ جمعته في مجلسين ، سمّيته :
(المحْور في عين من ردّ حديث الحارث الأعور)(1/10)
سيكون خير معينٍ لك على فهم ما سطّرته في هذه الأسطر ، لأنّ الحارث هذا ممّن نالته سهام النواصب بالطعن والجرح ، لكونه من أتباع مولى المؤمنين عليه السّلام ، فحملوا ونقموا عليه ، وشتموه وسبّوه واستعان على ذلك شياطين علمائهم بجرح الشعبيّ له أوّلاً ، فطاروا بذلك كلّ مطارٍ ، ونادوا عليه بالكذب والبهتان ، وسوء الاعتقاد ، وهو ـ والله ـ بري ءٌ من ذلك براء ة الذئب من دم يوسف ، ولكن داؤه وذنبه الموجبان له ذلك هو ما ذكرنا .
وكان من حق هذا الكتيّب أن يُسمّى : (الفتح الربّاني في الدفاع عن الحارث الهمْدانيّ) لأنّه ممّا فتح الله به على عبده في فترةٍ وجيزةٍ من غير أن أقف على كلام أحدٍ في الدفاع عنه ، إلّا ما كان من السيّد محمد بن عقيل في (العتْب الجميل على أهل الجرح والتعديل)[5] .
وهو ـ مع ذلك ـ لم يذكر في حقّه كلمةً واحدةً ممّا ذكرته أنا ، ولا عرّج على ما عرّجت عليه مطلقاً ـ ولله الحمد والمنّة ـ ومن نظر كتابه علم ذلك ، وله ـ مع ذلك ـ الفضل الجزيل في الدفاع عن آل البيت وأشياعهم ، جزاه الله خيراً وشكر سعيه .
وكان السبب في جمع هذه الورقات اليسيرة في الدفاع عن الحارث هو ما وقفت عليه في (الموضوعات) لابن الجوزيّ أثناء جمعي لكتاب (التبصرة في نقد التذكرة) في حديث : «اتّخذوا الحمام المقاصيص ، فإنّها تُلْهي الجنّ عن صبيانكم» .
فإنّ ابن الجوزيّ أورده من طريق يحيى بن ميمون ، عن ميمون بن عطاء ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث ، عن عليّ عليه السّلام به مرفوعاً[6] ، وأعلّه بيحيى بن ميمون والحارث[7] ، فتعجّبت من صنيع ابن الجوزيّ هذا أوّل الأمر جدّاً ، واستغربته لأمرين :
أوّلهما : أنّ الحديث ألصقوه بيحيى بن ميمون ، لأنّه كان كذّاباً متروكاً ، فإدخال الحارث معه من زيادات ابن الجوزيّ التي فيها ما فيها .(1/11)
ثانيها : أنّه كان ينبغي ـ حيث لم يكف وجود يحيى بن ميمون الكذّاب ـ أن يشرك معه ميمون بن عطاء المجهول الذي لا يُعرف ، لا الحارث الثقة الذي روى عنه الأئمّة ، والذي لا يحتمل مثل هذا .
ثم بحثتُ وتدبّرتُ فوجدتُ ذنب الحارث هو ما ذكرنا ، لا روايته لحديث الحمام ، وإلّا فمَن هذا العلم صناعته لا يشكّ في سندٍ اجتمع فيه كذّابٌ ومجهولٌ ورجلٌ مثل الحارث أنّ التهمة ملصقة بالكذاب والمجهول ، لا بمثل الحارث .
فهذا ما دعاني إلى تحرير هذه الوريقات القليلة الحجم ، الكثيرة العلم .
والله أسأل المعونة ، والثواب ، والقبول ، وهو حسبي ونعم الوكيل .
فصل
أثنى على الحارث جماعةٌ من أئمّة الجرح .
قال الدوريّ عن ابن معين : الحارث قد سمع من ابن مسعود ، وليس به بأس .
وقال عثمان الدارميّ عن ابن معينٍ : ثقة .
وقال النسائيّ : ليس به بأسٌ .
وقال أشعث بن سوار عن ابن سيرين : أدركت الكوفة وهم يقدّمون خمسةً ، من بدأ بالحارث ثنّى بعُبيدة ، ومن بدأ بعبيدة ثنّى بالحارث .
وقال عليّ بن مجاهد عن أبي جنابٍ الكلبيّ عن الشعبيّ : شهد عندي ثمانيةٌ من التابعين الخيّر فالخير ، منهم سويد بن غَفْلة ، والحارث الهمدانيّ ـ حتّى عدّ ثمانيةً ـ أنّهم سمعوا عليّاً يقول : فذكر خبراً .
وقال ابن أبي داود : كان الحارث أفقه الناس ، وأحسب الناس ، وأفرض الناس ، تعلّم الفرائض من عليّ[8] .
وفي مسند أحمد[9] عن وكيعٍ ، عن أبيه ، قال حبيب بن أبي ثابت لأبي إسحاق ـ حين حدّث عن الحارث عن عليٍّ في الوتر ـ : يا أبا إسحاق يساوي حديثك هذا مل ء مسجدك ذهباً .
وقال ابن أبي خيثمة : قيل ليحيى : يحتجّ بالحارث؟ فقال : ما زال المحدّثون يقبلون حديثه .
وقال ابن شاهين في (الثقات)[10] : قال أحمد بن صالحٍ المصريّ : الحارث الأعور ثقة ، ما أحفظه ، وما أحسن ما روى عن عليٍّ ، وأثنى عليه .(1/12)
وقال الذهبيّ في (الميزان)[11] : والنسائيّ ـ مع تعنّته في الرجال ـ قد احتجّ به وقوّى أمره ، وكان من أوعية العلم ، قال مُرّة بن خالد : أنبأنا محمد بن سيرين ، قال : كان من أصحاب ابن مسعودٍ خمسةٌ يُؤْخذ عنهم ، أدركت منهم أربعةً وفاتني الحارث فلم أره ، وكان يفضل عنهم ، وكان أحسنهم ، ويُختلف في هؤلاء الثلاثة أيّهم أفضل : علقمة ومسروق وعبيدة .
وقال الحافظ المنذري رحمه الله في (الترغيب)[12] : الحارث الهمدانيّ من كبار علماء التابعين ، ثمّ قال : واختلف فيه رأي ابن حبّان فقال : كان الحارث غالياً في التشيّع ، واهياً في الحديث ، وأخرج له في صحيحه حديثه عن ابن مسعودٍ في الربا .
قال الحافظ في (التهذيب)[13] : ولم أرَ ذلك لابن حبّان ، وإنّما أخرج من طريق عمرو بن مرّة عن الحارث بن عبدالله الكوفيّ عن ابن مسعودٍ حديثاً ، والحارث بن عبدالله الكوفيّ هذا هو عند ابن حبان رجل ثقةٌ ، غير الحارث الأعور ، كذا ذكر في (الثقات)[14] وإن كان قوله هذا ليس بصوابٍ .
قلت: إن كان ابن حبّان نصّ على أنّه غيره، فمسلّمٌ، وإلّا فكونه مذكوراً في الثقات لاينافي أن يكون كما قال المنذريّ، فابن حبان يذكركثيراًرجالاً في الثقات ويضعّفهم.
فصل
وأمّا الذين تكلّموا فيه من غير دليلٍ ولا برهانٍ فأوّلهم الشعبيّ ، قال مسلم في مقدّمة صحيحه[15] : حدّثنا قتيبة ، حدّثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، حدّثني الحارث الأعور ، وكان كذّاباً .
وقال منصور ومغيرة عن إبراهيم : إنّ الحارث اتُّهم .
وقال أبو معاوية عن محمد بن شيبة الضبّيّ عن أبي إسحاق : زعم الحارث الأعور ، وكان كذّاباً .
وقال يوسف بن موسى عن جريرٍ : كان الحارث زيفاً .
وقال أبو بكر بن عيّاشٍ : لم يكن الحارث بأرضاهم .
وقال الثوريّ : كنّا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث .(1/13)
وقال عمرو بن عليّ : كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدّثنا عنه ، غير أنّ يحيى حدّثنا يوماً عن شعبة عن أبي إسحاق عن الحارث ـ يعني عليٍّ ـ : «لايجد عبدٌ طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر» فقال : هذا خطأ من شعبة ، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عبدالله ، وهو الصواب .
وقال أبو خيثمة : كان يحيى ابن سعيدٍ يحدّث من حديث الحارث ما قاله فيه أبو إسحاق : «سمعت الحارث»!
وقال الجوزجانيّ[16] : سألت عليّ بن المديني عن عاصمٍ والحارث فقال : مثلك يسأل عن ذا؟! الحارث كذّاب .
وقال عثمان الدارميّ ـ بعد حكاية قول ابن معينٍ ـ : «إنّه ثقةٌ» ليس يُتابع ابن معينٍ على هذا .
وقال أبو زرعة : لا يحتجّ بحديثه .
وقال أبو حاتم : ليس بقويّ .
وقال الدارقطنيّ : ضعيف .
وقال ابن عديّ : عامة ما يرويه غير محفوظ[17] .
وقال ابن حبّان[18] : كان غالياً في التشيّع ، واهياً في الحديث ، وهو الذي روى عن عليٍّ رضي الله عنه ، قال : قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم : «لا يفتحنّ على الإمام في الصلاة» .
أخبرناه عليّ بن أحمد بن الحسين بن سليمان بالفسطاط ، حدّثنا وهب بن حفصٍ الحرّانيّ ، حدّثنا الفريابيّ ، حدّثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليٍّ رضي الله عنه .
قال الذهبيّ[19] : وإنّما هو قول عليٍّ .
وأورد الذهبيّ في ترجمته[20] : محمد بن يعقوب بن عبّاد ، عن محمد بن داود ، عن إسماعيل عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن عليٍّ : سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول : «أنين المريض تسبيحٌ ، وصياحه تهليلٌ ، ونومه على الفراش عبادةٌ ، ونَفَسه صدقةٌ ، وتقلّبه جَنْباً لجنبٍ قتالٌ لعدوّه ، ويكتب له من الحسنات مثل ما كان يعمل في صحّته ، فيقوم وما عليه خطيئة» أخرجه البخاريّ في كتاب (الضعفاء) له .
فصل(1/14)
لا يهولنّك ما سقناه هنا من كلمات الجرح والطعن في الحارث ، ولا يحملنّك كثرتها على الاستهانة بالحارث واحتقاره ، وإنزاله في غير منزلة الثقات العدول الذين ينبغي أن يدخل حديثهم في الصحيح ، لاسيّما وفي رجال الصحيح مَن قيل فيهم أكثر من هذا بحقٍّ ، من غير مبالغةٍ في شي ء منه ، ومع ذلك ـ لوقوف النفوس مع العوائد والأحوال المحيطة بها والناشئة فيها ـ لم تجد بُدّاً من قبولهم ، والإذعان لروايتهم ، والاعتراف بالصحّة لحديثهم ، مع أنهم ـ وأيمُ الحقّ ـ فُسّاقٌ زنادقةٌ ، لا إسلامَ ولا إيمان ، فضلاً عن العدالة في الرواية ، وسنوقفك في الخاتمة على أمثلةٍ من ذلك إن شاء الله .
فصل
أوّل من فتح باب الكلام في الحارث وطعن فيه بالكذب هو الشعبيّ ـ كما قلنا ـ وقد عاقبه الله بمثل ذنبه ، فطعن فيه إبراهيم النخعيّ بالكذب ـ كما قال ابن عبدالبرّ في (جامع بيان العلم) : ـ وأظنّ الشعبيّ عوقب لقوله في الحارث الهمدانيّ : حدّثني الحارث ، وكان أحد الكذّابين .
قال ابن عبدالبرّ في (جامع بيان العلم)[21] : حدّثنا أحمد بن محمد ، حدّثنا أحمد ابن الفضل ، حدّثنا محمد بن جرير ، حدّثني زكريّا بن يحيى ، حدّثنا قاسم بن محمد ابن أبي شيبة ، حدّثنا أبو معاوية ، عن الأعمش قال : ذُكر إبراهيم النخعيّ عند الشعبيّ فقال : ذاك الأعور الذي يستفتي بالليل ، ويجلس يفتي الناس بالنهار ، قال : فذكرتُ ذلك لإبراهيم ، فقال : ذاك الكذّاب لم يسمع من مسروقٍ شيئاً .
قال ابن عبد البرّ[22] : وذكر ابن أبي خيثمة هذا الخبر عن أبيه ، قال : كان هذا الحديث في كتاب أبي معاوية فسألنا عنه فأبى أن يحدّثنا به .(1/15)
وقال ابن عبد البرّ[23] : وذكر الحسن بن عليّ الحلواني قال : حدّثنا نعيم بن حمّاد ، حدّثنا معاوية عن الأعمش قال : كنت عند الشعبيّ فذكروا إبراهيم ، فقال : ذاك رجلٌ يختلف إلينا ليلاً ويحدّث نهاراً ، فأتيت إبراهيم فأخبرته ، فقال : ذاك يحدّث عن مسروقٍ ، والله ما سمع منه شيئاً قطّ ، انتهى .
وجرح إبراهيم للشعبيّ أعظم من جرح الشعبيّ له وللحارث الأعور ، لأنّه في جرحه لإبراهيم لم يذكر شيئاً يستحقّ الطعن بسببه في رواية إبراهيم ، وكذلك طعنه في الحارث ، فإنّه لم يبيّن سبب جرحه ، ولم يفسّره ، بل أطلقه وأجمله إجمالاً ، وما كان هكذا فهو غير مقبولٍ عند أئمّة الحديث والأصول اتّفاقاً .
قلت : وما عوقب الشعبيّ إلّا لتعدّيه وظلمه في تكذيبه للحارث من غير دليلٍ ولا سببٍ يوجب ذلك ، وإن كان ابن عبد البرّ صرّح بسبب التكذيب في (جامعه)[24] فقال : ولم يَبِنْ من الحارث كذبٌ ، وإنّما نقم عليه إفراطه في حبّ عليٍّ وتفضيله له على غيره ، ومن هاهنا ـ والله أعلم ـ كذّبه الشعبيّ[25] لأنّ الشعبيّ يذهب إلى تفضيل أبي بكر ، وإلى أنّه أوّل من أسلم ، انتهى .
قلت : وهذا سببٌ باطلٌ ، لا يوجب جرحاً بالكذب فيه مطلقاً ، وفيه غلوٌّ وإسرافٌ في الحكم ، لا يرضاه ذو دينٍ لأمرين :
الأوّل : أنّ حبّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام من علامة الإيمان والدين ، فكيف يُجعل علامةً على الكذب؟!(1/16)
الثاني : أنّه إن كذّب الحارث بسبب تفضيله عليّاً على أبي بكرٍ رضي الله عنهما ، فيجب أن يكذّب أيضاً من هو أفضل من الشعبيّ وأعلم ، ومن شهد الله بعدالتهم وفضلهم ، وهم العدد الجمّ من الصحابة رضي الله عنهم الذين ذهبوا إلى تفضيل عليٍّ عليه السّلام على جميع الصحابة ـ أبي بكرٍ فمَن بعده ـ منهم : سلمان الفارسيّ ، وأبو ذرٍّ ، والمقداد ، وخبّاب ، وجابر ، وزيد بن الأرقم ، وأبو الطفيل عامر بن واثلة ، وعمّار بن ياسر ، وأُبيّ بن كعب ، وحذيفة ، وبُريدة ، وأبو أيّوب الأنصاري ، وسهل بن حُنيف ، وعثمان بن حُنيف ، وأبو الهيثم بن التيهان ، وخزيمة بن ثابت ، وقيس بن سعد ، والعبّاس بن عبد المطلب ، وبنو هاشمٍ كافّةً ، وبنو المطَّلب كافّةً ، وآخرون لا يحصون كثرةً ، بل كلّ من قاتل مع عليٍّ ، وانطوى تحت لوائه كان على هذه العقيدة ـ كما هو معلوم ـ .
فهؤلاء كلّهم قالوا بتقديم عليّ عليه السّلام على أبي بكرٍ وعمر وعثمان ، ومن قال بما يقول به مثل هؤلاء الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم كيف يقال عنه : إنّه كذّابٌ فيه ، ومختلق له؟!
فالشعبيّ مخطى ءٌ جدّاً في تجريحه للحارث من هذه الناحية ، ولعلّ ذلك لعدم اطّلاعه[26] على من سبق ا لحارث بذلك من الصحابة الكبار الذين لو عرفهم لما قال الشعبيّ ذلك مطلقاً .
والحارث أخذ ذلك من هؤلاء الصحابة الذين كانوا ملازمين للإمام عليه السّلام ، وكان هو ملازماً له معهم ، فتعلّم منهم ، وأخذ عنهم ما كانوا يعتقدونه في الإمام عليه السّلام ، اتّباعاً للنصوص الواردة عن الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم في حقّه .
فصل
وإذ قد تبيّن خطأ قول الشعبيّ في الحارث ، وظهر عواره ، وتبيّن فساده ، فجرح غيره له على نوعين :(1/17)
نوعٌ يقتضي وضع حديثه ، لجرحه له بالكذب ـ كما قال الشعبيّ ـ وهذا مردودٌ كالذي قبله ، لأنّ من كذّبه لم يُقم على ذلك دليلاً ، ولم يبيّن ما كذب فيه الحارث من الأحاديث ، بل أطلق القول كما أطلقه الشعبي .
وهذا القسم لا يخرج عن كونه قال ذلك تقليداً للشعبيّ ، واتّباعاً له ، وقد علمت أنّ الشعبيّ كذّبه من ناحية تفضيله عليّاً على الصحابة ، لا في روايته ، فتقليده في ذلك ، واتّباعه في تكذيبه ، وتعميم ذلك في روايته باطلٌ ـ كما هو ظاهر ـ .
وبعدأن قرّرتُ هذافي تكذيب الشعبيّ للحارث، وكونه طعن فيه من جهة الرأي والعقيدة، لامن جهة الرواية، وجدتُ مثل ذلك عن أحمد بن صالح المصريّ صريحاً.
قال ابن شاهين في (الثقات)[27] : قال أحمد بن صالحٍ المصريّ : الحارث الأعور ثقةٌ ، ما أحفظَه وما أحسن ما روى عن عليٍّ ، وأثنى عليه .
قيل له : فقد قال الشعبيّ : كان يكذب[28] ، قال : لم يكن يكذب في الحديث ، إنّما كان كذبه في رأيه .
فقد وافقتُ هذا الإمام في قوله قبل أن أقف عليه ـ والحمد لله ـ .
وقال الذهبيّ في (الميزان)[29] : والظاهر أنّه كان يكذب في لهجته وحكاياته ، وأمّا في الحديث النبويّ فلا ، وكان من أوعية العلم .
قلت : وهذا أيضاً تأويلٌ فاسدٌ لكلام الشعبيّ ، أوجبه عدم إمعان النظر في قوله ، مع الجُبن عن الإقدام على ردّ قوله في الحارث ، وإلّا فمثل الحارث ـ وهو مَن هو في العلم والدين ـ لا يقدم على الكذب في الحكايات وكلام الناس وهو يعلم عقوبة الكذب عند الله ، وأنّ لعنة الله تنزل على الكاذب .
فهذا عذرٌ أقبح من الذنب ، وكلام الشعبيّ أخفّ من هذا ، فالذهبيّ جرح الحارث في دينه مع شهادته له بأنّه من كبار علماء التابعين ، وأنّه من أوعية العلم ، لئلّا يردّ كلام الشعبيّ فيه من أصله ، مع أنّ الشعبيّ طعن فيه من جهة رأيه وعقيدته ومذهبه الذي ظنّ الشعبيّ ـ خطأً ـ أنّ الحارث أتى به من عنده .(1/18)
فلو تأمّل الذهبيّ قليلاً لعلم المراد ، ولما أقحم نفسه في تجريح الحارث في دينه ومروءَ ته ، ليبقى كلام الشعبيّ محفوظاً غير مردودٍ .
على أنّه لو لم تقم الدلائل على هذا ، وكان الشعبيّ كذّبه من جهة الرواية لما تأخّرنا ـ وأيْمُ الله ـ عن ردّ جرحه الذي لم يفسّره؛ ولم يقم عليه الدليل .
فالأقوال من غير دليلٍ دعاوى مجرّدة ، وأصحابها أدعياء ، ولو بلغوا في الجلالة[30] ما بلغوا .
ويدلّ على قولنا في كون الشعبيّ لم يكذّبه في روايته أنّه روى عنه ، فلو كان عنده كذّاباً في الرواية لما روى عنه ، إذ لا فائدة في الرواية عن كذّابٍ ، فتكذيبه له من جهة الرأي لا غير .
ويزيد دلالةً على ذلك ثناءُ الشعبيّ ـ نفسه ـ عليه ، فقد قال علي بن مجاهد ، عن أبي جنابٍ الكلبيّ عن الشعبي : شهد عندي ثمانيةٌ من التابعين الخيّر فالخيّر ، منهم سويد بن غفلة ، والحارث الهمدانيّ ـ حتّى عدّ ثمانيةً ـ أنّهم سمعوا عليّاً يقول : فذكر خبراً .
فلم يبق ـ بعد هذا ـ قولٌ لمتقوّلٍ في الحارث ، فإنّ الشعبيّ ـ الذي فتح باب الطعن فيه ـ أثنى عليه من جهة الرواية ، فقال : شهد عندي ، وذَكَر الحارث .
ويدلّ على كون الطعن عليه من جهة الرأي ، قول ابن سعدٍ فيه : كان له قول سوء ، وهو ضعيفٌ في رأيه[31] .
وأمّا النوع الثاني من الجرح في الحارث : فهو لا يقتضي الوضع ، ولا الكذب في الحديث ، وإنّما يقتضي ضعف حديثه لا غير ، وسنبيّن ما في كلّ ذلك من الفساد في الفصول الآتية إن شاء الله .
فصل
ولم يستقرّ عملهم على هذا الجرح في الحارث ، الأمر الذي يدلّ على أنّه لم يثبت لديهم دليلٌ على دعواهم في جرحه بالكذب ، أو أنّهم تبعوا في ذلك من سبقهم من غير دليلٍ ولا نظرٍ ، ثمّ تبيّن لهم فساد القول فرووا عنه وأخرجوا حديثه في كتبهم ، حتّى إنّ ابن حبّان روى له في صحيحه ـ كما قال المنذري ـ .(1/19)
ولهذه الحقيقة المسكتة التي لا يمكن معها إلّا التسليم بعدالة الحارث ، والوقوف في صفّ من وثّقه ـ لعدم ثبوت دليلٍ على الكذب ـ قال الذهبيّ في (الميزان)[32] : والجمهور على توهين أمره ـ مع روايتهم لحديثه في الأبواب ـ وهذا الشعبيّ يكذّبه ثم يروي عنه ، والظاهر أنّه كان يكذب في لهجته وحكاياته . . . إلى آخره ، وهذا اعتذارٌ من الذهبيّ فاسدٌ ـ كما قلنا سابقاً ـ ولا وجه لكلام الشعبيّ إلّا ما ذكرناه ، فلا تغفل عنه .
وتأمّل قول الذهبيّ : «مع روايتهم لحديثه في الأبواب» تجد أمراً آخر ، وهو أنّ حديث الحارث عندهم ممّا لا ينزل عن درجة الحسن الذي تثبت به الأحكام المستقلّة ، ولو كان ضعيفاً لما رووا حديثه في الأبواب التي تكون لإثبات المسائل والأحكام بأدلّتها ، فتنبّه لهذا فإنّه ينفعك في محلٍّ آخر .
ومن هنا يتفرّع أمرٌ لطيف ، وعلمٌ شريف ، ومسألةٌ منيفة يعرفها أهل الصناعة ـ وإن كانت غير مقرّرة في كتب المصطلح ـ وهي : عدم مؤاخذة أصحاب المعاجم والمسانيد والمشيخات بإيراد الموضوعات والواهيات ، بخلاف من يجمع الكتاب على الأبواب ، فإنّه غير معذورٍ ، بل يُلام أشدّ اللوم على عدم التحرير والانتخاب .
ومن هنا أيضاً اشتدّ الإنكار على ابن الجوزيّ في (الموضوعات) فتنبّه لهذا أيضاً واحفظه ليزول عنك إشكالٌ كبيرٌ .
والحاصل أنّ روايتهم لحديث الحارث في الأبواب دليلٌ على حجّيته عندهم ـ كما هو ظاهر ـ .
وكما يدلّ عليه ـ بعد تجريحهم له ـ اختلافهم في حديثه ، هل هو ضعيفٌ أو حسن؟ فقد نقل الحافظ السيوطي في (التدريب)[33] عن الذهبيّ في الموقظة أنه قال : أعلى مراتب الحسن : بهز بن حكيمٍ ، عن أبيه ، عن جدّه وعمرو بن شعيبٍ ، عن أبيه ، عن جدّه ، وعمرو بن شعيبٍ ، عن أبيه ، عن جدّه ، وابن إسحاق عن التيميّ، وأمثال ذلك ممّا قيل إنّه صحيح ، وهو من أدنى مراتب الصحيح .(1/20)
ثمّ بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه ، كحديث الحارث بن عبدالله ، وعاصم بن ضمرة ، وحجّاج بن أرطاة ، ونحوهم إنتهى .
وهذا الاختلاف في حديث الحارث مدفوع بروايتهم لحديثه في الأبواب ، فصنيعهم يدلّ على أنّ العمل استقرّ على تحسين حديثه ، كما هو الحال في حديث عمرو بن شعيبٍ ، وبهز بن حكيم ، فإنّ حديث عمرو بن شعيبٍ اختلفوا فيه بين القبول والردّ ، ومع ذلك استقرّ عمل الكثير على قبوله والاحتجاج به .
وكان ينبغي للذهبيّ أن يشير لهذا لئلّا يوهم أنّ حديث عمرو بن شعيبٍ من المتفق على حُسنه ، مع أنّ الخلاف فيه أشهر من الخلاف في حديث الحارث .
ثمّ إنّنا إذا تركنا هذا جانباً ، ورجعنا إلى القواعد المقرّرة نجد أنّ حديث الحارث أصحّ وأقوى من حديث عمرو بن شعيبٍ وبهزٍ وغيرهما ، بل نجد الحارث لا يقلّ درجةً عن كثيرٍ من رجال الصحيح ، لأنّنا مادمنا لا نعتبر الجرح المبهم ـ ولو بلغ ما بلغ ـ ولا نأخذ من الجارحين إلّا ما بيّنوه وأقاموا الدليل عليه ، فلا يضرّنا ـ بعد ذلك ـ أن يقال في الراوي : كذّابٌ أو وضّاعٌ ـ إذا كان صحيح الحديث ، ثقةً ـ لاسيّما وفي رجال الصحيح من رُمي بالكذب والوضع ، بل بالفسق وتحريف حديث الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم ، ومع ذلك روي حديثهم في الصحيح ، ولم يجد المدافعون الذابّون عن الصحيح عذراً عن ذلك إلّا بكون الجرح غير مفسَّرٍ ، مع أنّه مفسَّرٌ في بعضهم تمام التفسير ، ومبيَّنٌ غاية البيان ، لا يبقى معه شكّ في ضعفه ، بل وفسقه ـ كما ستقف على ذلك في الخاتمة إن شاء الله تعالى ـ .(1/21)
وإذا اعتذروا عن أولئك بكون الجرح غير مفسَّرٍ ـ مع تجريحهم بالكذب والفسق ـ فالاعتذار به عن الحارث أولى ، وأوفق ، وأليق ، وأحقّ ، لاسيّما مع توثيق الأئمّة له مثل يحيى بن معين ، وأحمد بن صالحٍ المصريّ ، وقَبْلهما الشعبيّ ، وبعدهم غيرهم ، بل قال ابن أبي خيثمة : قيل ليحيى يحتجّ بالحارث؟ فقال : ما زال المحدّثون يقبلون خبره ، فهذا صريح في الاحتجاج بخبر الحارث ، وكون عمل أهل الحديث على قبوله ، ولا معنى لقبوله إلّا العمل به ، والاحتجاج بمدلوله .
فصل
بهذا ظهر لك أنّ حديث الحارث صحيحٌ مقبولٌ على رأي جماعةٍ من أئمّة الجرح ، وهو الذي يدلّ عليه عمل الجمهور حيث روى أحاديثه ، وأدخلها في الأبواب .
ولكن ربّما تقول : كيف يكون هذا مع تلك الأقوال التي ذكرتها في جرح الحارث من كذبٍ وغيره ، والتي تقتضي أن يكون حديثه ضعيفاً واهياً ، لا حسناً مقبولاً ، فضلاً عن أن يكون صحيحاً؟
والجواب عن هذا واضحٌ سهلٌ ، وسنبيّنه في الفصل الذي بعده .
فصل
قلنا سابقاً : إنّ الطعن في الحارث وجرحه على نوعين :
نوعٌ يقتضي الوضع لتكذيبه ، ونوعٌ يقتضي ضعف الحديث لا غير .
أمّا من جرحه بالكذب فقد بيّنّا في ردّ مقالة الشعبيّ فساده ، والردّ عليه هو الردّ على من جاء بعده ، فإنّ الذي جرحه بالكذب بعد الشعبيّ لا يخرج عن حالتين لا ثالث لهما :
الأولى : أن يكون قلّد الشعبيّ في جرحه له بالكذب واتّبعه من غير أن يعلم مراد الشعبيّ في تكذيبه ، ومن غير أن يعلم أنّ الشعبيّ ـ نفسه ـ أثنى عليه وروى عنه ، ومثل هذا لا يحتاج إلى أن يُلتفت إلى كلامه ، أو يُنظر إليه بعين الاعتبار ، لأنّه ما زاد على أن ردّد كلام الشعبيّ وأعاد ذكره ، فالردّ على الشعبي كافٍ في الردّ عليه .(1/22)
الثانية : أن يجرحه بالكذب استقلالاً ، لا اتّباعاً ولا تقليداً ، ولكن من غير أن يبيّن فيما كذب فيه ولا ما اختلقه من الأحاديث ، وهذا أيضاً باطلٌ لا يُلتفت إليه ، لاتّفاقهم على عدم قبول الجرح المبهم الذي لا يُفسَّر سببه ، ولا يُبيَّن دليله .
فجميع ما قيل في الحارث لا يخلو عن هاتين الحالتين ، فما وجدنا فيه ـ ولله الحمد ـ جرحاً يؤثّر في عدالته ، ويوجب ردّ حديثه .
وأشدُّ ما قيل فيه قول الشعبيّ : «إنّه كذّاب» وقد علمت بطلانه .
وكذلك قول جرير : «كان الحارث زيفاً» لا يفيد شيئاً ، لإبهامه ، فإنّه يحتمل أن يريد به ما أراد الشعبيّ من تكذيبه في مسألة التفضيل ، ويحتمل زيفه في الرواية ، وكلا الأمرين باطل .
أمّا أوّلاً فلما علمتَ من فساد كلام الشعبيّ .
وأمّا ثانياً فلعدم تفسير الجرح حتّى نعرف الزيْف عن دليلٍ وبصيرةٍ ، فربّما أفصح بالبيان فيكون غير مقبول .
وأمّا قول أبي بكر بن عيّاشٍ : «لم يكن الحارث بأرضاهم» فإنْ سُلّم فهو ظاهرٌ فيما كان يذهب إليه من تفضيل عليّ عليه السّلام ، وهو مع ذلك جرحٌ مبهمٌ مردودٌ كسابقه .
وقول الثوريّ : «كنّا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث» لا يضرّ مطلقاً ، ولا هو من الجرح في قَبيل ولا في دَبير ، فعاصم بن ضمرة ثقةٌ ، وكونه أحسن حديثاً من الحارث لا يدلّ على أنّ الحارث غير ثقة ، بل مقارنته بعاصمٍ تدلّ على كونه ثقة ، وهذا كما تقول مثلاً مالك[34] أحبّ إليَّ من عبدالله بن وهب ، أو أحمد بن حنبل أفضل من ابنه عبدالله ، فإنّ مثل هذا لا يضرّ مطلقاً ، لأنّه من المعلوم أنّ الثقات متفاوتون في الضبط والإتقان ، رغم عدالتهم وعلمهم ومعرفتهم ، وأغلب رواة الصحيح على هذا النمط ، فليسوا كلّهم في روايتهم عن الأصل في طبقةٍ واحدةٍ من الإتقان والضبط .(1/23)
والمراد بقولي : عن الأصل أنّ أصحاب الزُّهريّ ـ مثلاً ـ خمس طبقات : فالطبقة الأولى مثل مالكٍ ـ وهي الملازمة له في السفر والحضر ـ أعلى وأرقى وأحفظ لحديثه من الطبقة الثانية التي لم تلازمه إلّا قليلاً مثل الأوزاعيّ مثلاً ، وحديث الطبقتين مخرَّجٌ في الصحيح ، وكلٌّ من مالكٍ والأوزاعيّ ثقةٌ ، مع أنّك تقول : حديث مالكٍ أفضل وأصحّ من حديث الأوزاعيّ ، نظراً لما عُلم من ملازمة مالكٍ للزهريّ ، ومعرفته بحديثه ، وعدم وجود ذلك في الأوزاعيّ .
وهكذا الأمر في الحارث مع عاصم بن ضمرة ، فإنَّ من قال : «كنّا نعرف فضل حديث عاصم على الحارث» يريد به هذا لا غير ، لأنّ كلّاً منهما روى عن الإمام عليه السّلام ، فلعلّ عاصماً كان أتقن وأحفظ لحديثه عنه من الحارث ، فالعبارة ليس فيها تضعيفٌ مطلقاً ، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ .
وأمّا عدم رواية يحيى القطّان ، وعبدالرحمن بن مهديّ لحديثه فلا يدلّ ـ أيضاً ـ على الجرح ، وربّما كان ذلك لأجل مذهبه في التفضيل ، والجرح المبهم لا يُقبل لأجل هذا ، لعدم بيان سببه .
وإن تركَ حديثَه يحيى وعبد الرحمن فقد أخذَه غيرُهما ، وهم الجمهور ـ كما تقدّم ـ .
على أنّ يحيى رجع عن ذلك فيما يظهر من قول عمرو بن عليّ : «غير أنّ يحيى حدّثنا يوماً عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث» ـ يعني عن عليٍّ ـ : «لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتّى يؤمن بالقدر» فقال : هذا خطأ من شعبة ، حدّثنا سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث ، عن عبدالله ، وهو الصواب .
وهذا يدلّ على أنّه صالح الحديث عنده ، لأنّه لو كان ترك حديثه لأجل الكذب لأضرب عن روايته بالمرّة ، ولما استصوب شيئاً منها كما هو معلوم .(1/24)
وأمّا قول أبي خيثمة : «كان يحيى بن سعيدٍ يحدّث من حديث الحارث ما قال فيه أبو إسحاق : «سمعت الحارث» ، فهذا لا علاقة له بالحارث مطلقاً ، وذِكْره في ترجمة الحارث لا يفيد شيئاً ، وإنّما هو في شأن أبي إسحاق السبيعيّ الراوي عنه ، لأنّه كان متّهماً بالتدليس ، فكان يحيى بن سعيدٍ لا يأخذ منه ما لم يصرّح بسماعه .
هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ أخرى فإنّ أبا إسحاق لم يسمع من الحارث إلّا أربعة أحاديث ، والباقي كتاب ، فلعلّ أبا إسحاق كان يأتي عند الأداء بعبارةٍ توهم أنّ التحمّل للجميع كان سماعاً ، فاحتاط يحيى ابن سعيدٍ لأجل ذلك .
وأمّا قول الجوزجانيّ : «سألت عليّ بن المدينيّ عن عاصمٍ والحارث فقال : مثلك يسأل عن ذا؟ الحارث كذّابٌ» فهو أبطل من أن يُشتغل بردّه لأمرين :
الأوّل : أنّ حال الجوزجانيّ معروفٌ مع أشياع الإمام ، فلا يَأْلو جهداً في جرحهم ، وذكر مثالبهم ، بل كان يتقوّل فيهم بالهوى والعصبيّة من غير دليلٍ ولا برهانٍ ، ولا يبعد أن يكون كاذباً[35] فيما نقله عن ابن المدينيّ .
ويدلّ على تعصّبه وخُبثه أنّ عليّ بن المدينيّ ـ على قوله ـ لم يطعن إلّا في الحارث، ولم يقلّده في سكوته عن عاصمٍ! بل قال فيه: هوعندي قريبٌ من الحارث ، وروى عنه أبو إسحاق حديثاً في تطوّع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ستّ عشرة ركعة ، فيالعباد الله!! أما كان ينبغي لأحدٍ من الصحابة وأزواج النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يحكي هذه الركعات؟!
إلى أن قال : وخالف عاصمٌ الأُمّة واتّفاقها ، فروى أنّ في خمسٍ وعشرين من الإبل خمساً من الغنم[36] .
قال الحافظ في (التهذيب)[37] عقب هذا : تعصُّبُ الجوزجانيّ على أصحاب عليٍّ معروفٌ ، ولا إنكار على عاصمٍ فيما روى ، هذه عائشة أخصّ أزواج النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم تقول لسائلها عن شي ءٍ من أحوال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم : سَلْ عليّاً .(1/25)
فليس بعجيبٍ أن يروي الصحابيّ شيئاً يرويه غيره من الصحابة بخلافه ، ولاسيّما في التطوّع .
وأمّا حديث الغنم ، فلعلّ الآفة فيه ممّن بعد عاصم ، انتهى .
وإذا كان هذا شأن جرح النواصب ـ مع بيان دليله ـ فكيف بجرحهم المبهم الغامض الذي يرمونه رمياً من غير مراعاةٍ ولا حياءٍ ، فكن من هذا على بالٍ ، واحذر من الوقوع في شَرَكِهم .
الثاني : أنّ طعن ابن المدينيّ كطعن غيره سواءٌ ، غير مبيَّنٍ ولا مفسَّرٍ ، فلا يؤثّر مطلقاً ، وقد يكون يريد به ما أراد الشعبيّ من تكذيبه في الرأي والمذهب ، وحيث احتمل كلامه هذا وذاك سقط عن مرتبة الاعتبار .
وأمّا قول عثمان الدارميّ ـ عقب حكايته لتوثيق ابن معينٍ للحارث ـ: «ليس يُتابع ابن معينٍ على هذا» فبطلانه يظهر لك ممّا سبق من توثيق غير ابن معينٍ له ، فالدارميّ قال هذا عن غير تدبّرٍ .
وكذلك قول الحافظ في (التهذيب)[38] ـ عقب حكايته لقول الذهبيّ : «والنسائيّ مع تعنّته في الرجال فقد احتجّ به وقوّى أمره» ـ: لم يحتجّ به النسائيّ ، وإنّما أخرج له في السنن حديثاً واحداً مقروناً بابن ميسرة ، وآخر في اليوم والليلة متابعةً .
فإنّ هذا تعقّبٌ غير جيّدٍ ، لأنّ الغرض بذلك حاصلٌ ، وتخريج حديثه على ذلك الوجه كافٍ في ردّ جرحهم له بالكذب ، لأنّ الكذّاب لا يصلح لمتابعةٍ ولا اعتبارٍ ، وتخريج أحاديث الراوي في المتابعة والشواهد يدلّ على صلاحه وحسن حاله .
وأمّا قول أبي زرعة : «لا يحتجّ بحديثه» فهو كالأقوال السابقة في غموضها وإبهامها ، فنصيبه كنصيبها في الردّ ، وعدم الالتفات ، والعمل على خلافه .
وقول أبي حاتم : «ليس بالقويّ» والدارقطنيّ : «ضعيف» تجريحٌ هيّنٌ لا يضرّ ، وبما قررناه سابقاً وذكرناه من ثناء الناس عليه يظهر ضعف القولين .(1/26)
وأمّا قول ابن عديّ : «عامّة ما يرويه غير محفوظٍ» فلم يظهر لنا ما رواه الحارث منكراً مخالفاً للثقات ، ولعلّه تبع في هذا الجوزجانيّ الناصبيّ وأمثاله ـ كما تبعه في طعنه في عاصم بن ضمرة من غير دليلٍ ولا برهانٍ ـ والدعاوى إذا لم يقم عليها دليلٌ أبناؤها أدعياء[39] .
وكذلك قول ابن حبّان : «كان غالياً في التشيّع ، واهياً في الحديث» فإنّه كقول ابن عديّ .
وابن حبّان له مبالغاتٌ كثيراً ما يقعقع بها ـ كما قال الذهبيّ ـ وهي لا تحتوي على طائلٍ ، وهذا منها ، فإنّ الغلوّ في التشيّع غير مضرٍّ إذا ثبتت العدالة ، وظهر الصدق ، وقد وثّق أحمد بن حنبل وابن معينٍ وأبو حاتم أبان بن تغلبٍ ـ مع كونه كان غالياً في التشيّع ـ .
قال الذهبيّ في ترجمته[40] : فلقائلٍ أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدعٍ ، وحدّ الثقة العدالة والإتقان ، فكيف يكون عدلاً مَن هو صاحب بدعة؟
وجوابه : أنّ البدعة على ضربين :
فبدعةٌ صغرى ، كغلوّ التشيّع ، أو كالتشيّع بلا غلوٍّ ولا تحرّق ، فهذا كثيرٌ في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة الآثار النبويّة ، وهذه مفسدةٌ بيّنة . . . إلى آخر ما قال .
ولهذا قال الذهبيّ في صدر ترجمته : شيعيٌّ جلد ، لكنّه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته ، انتهى[41] .
لأنّه لا تلازم بين العدالة والملكة المانعة من الكذب والاختلاق ، وبين العقيدة والرأي الذي يختاره الإنسان ويرضاه لنفسه .
نعم إذا كان صاحب هذا ممّن يجوّز الكذب ، ويراه حلالاً في عقيدته فهذا لا يلتفت إليه مطلقاً ، ومثل هذا ساقطٌ عن درجة الاعتبار بالمرّة ، لأنّه فاسقٌ كافرٌ يُحلّ ما حرّم الله ورسوله ، وعُلم لكلّ مسلمٍ بالضرورة ، وهذا معلومٌ كامنٌ في نفس كلّ ذي فقاهةٍ .(1/27)
وقولهم : إنّ التشيّع والغلوّ فيه بدعةٌ ، غير مسلّمٍ إذا لم يكن ذلك مصحوباً بالنيل من الشيخين ، وشتم مَن ثبتت عدالته من الصحابة ، وظهر كمال إيمانه بسلامة أعمال جوارحه الظاهرة من قتلٍ ، وظلمٍ ، وشربٍ للخمر ، وبَغْيٍ على الإمام ، لأنّ الشيعيّ الذي يفضّل عليّاً عليه السّلام على أبي بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما لم يأتِ بما لم يُسبق إليه ، ولا أحدث ما كان منكراً في خير القرون حتّى يقال : إنّه مبتدع ، بل له في قوله سلفٌ صالحٌ من خير القرون ، وهم العدد الجمُّ من أفاضل الصحابة الذين كانوا يفضّلون عليّاًعليه السّلام على الجميع ، فإطلاق البدعة على الشيعيّ من هذه الناحية غير جيّدٍ ، بل فاسدٌ غير صحيح .
وأمّا قوله : «واهياً في الحديث» فهو أبطل من الأوّل ، ولم يجد ابن حبّان دليلاً على قوله هذا إلّا كون الحارث روى عن عليٍّ : «لا يُفتحنّ على الإمام في الصلاة» مرفوعاً .
وهذا إن سُلّم فلا يدلّ ـ مطلقاً ـ على الضعف في الرواية ، لأنّه ليس معنى كون الراوي ثقةً ضابطاً أن تكون مرويّاته كلّها صواباً ، هذا لا يقوله أحدٌ ، وإنّما معنى ذلك أن يكون صوابه أكثر من خطئه ، وضبطه أكثر من وهمه ، لأن الإنسان لا يمكن أن يخرج عن طبيعته ، وأصل خلقته .(1/28)
ولذا لا تجد إماماً من أئمّة الحديث ـ مهما علا قدره ـ لم يهم في رواياته ، ولم يُخطئ في ضبطه ، ولكن لمّا كان الضبط هو الأكثر والأغلب عليهم لم يلتفت إلى خطئهم ، ولم يؤثّر في رواياتهم ، وهذا أمرٌ معروف مقرّر في كتب الحديث ، ولا أجدُ الآن نشاطاً لنقل نصوصها ، فارجع إليها لترى صدق ما أقول ، ولتعلم أنّ علم الحديث إلهامٌ ، واتقانه غير مُكتسَبٌ ، فإذا خضتَ غِمارَه ، ونزلتَ إلى ميدانه ، ودخلت في حلبة فرسانه صرت تحكم وأنت في القرن الرابع عشر بما حكم به أهل القرن الثاني والثالث من غير أن ترجع إلى نصوص كلامهم ، ولا أن تطّلع على فحوى قولهم ، ولهذا قالوا قديماً : «معرفة الحديث إلهامٌ ، لو قلت له من أين هذا؟ لم يجد جواباً ، مع أنّه قال صدقاً ، وحكم حكماً صائباً ، قذفه من قلبه المنوّر بنور الحكمة النبوية» .
والمقصود أن إتيان الراوي ببِضْعة أحاديث على غير وجهها لا يقدح فيه إذا كان الغالب عليه الضبط ، وعكسه في غير الضابط لأغلب أحواله ، فإنّه قد يأتي بأحاديث مستقيمة في بعض الأحيان ، ولكن لكثرة وهمه ، وقلّة ضبطه ، لم تبق الثقة في مرويّاته ، وصار أمر حديثه يحتاج إلى التقوية من متابعٍ أو شاهدٍ ، وكلّ هذا معروفٌ لا نطيل بتقريره .
والعجب من ابن حبّان كيف يلصق التهمة بالحارث!!؟ ويَدَع كذّاباً في السند ضعّفه هو ـ نفسه ـ في الضعفاء ، وهو وهب بن حفص الحرّانيّ .
قال ابن حبّان[42] : روى عن الفريابيّ وأبي قتادة ، وكان شيخاً مغفّلاً ، يقلب الأخبار ولا يعلم ، ويخطى ء فيها ولا يفهم ، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ، وهو الذي روى عن عبدالملك بن إبراهيم الجديّ ، حدّثنا حمّاد بن سلمة ، عن عمرو بن دينارٍ ، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ، أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قال : «ليس أحدٌ يدخل الجنّة إلّا جُرْدٌ مُرْدٌ» ـ الحديث .(1/29)
قال ابن حبّان : وهذا شي ءٌ حدّث به ابن أبي السَّري ، عن شيخ بن أبي خالدٍ ، عن حمّاد ، فبلغه فسرقه وحدّث به عن عبدالملك الجديّ متوهّماً أنّه قد سمع منه .
قلت : ومع هذا كيف يحتجّ بروايته في تضعيف الحارث؟ ومَن الذي يُقدم على إثبات حديثه من أصله حتّى يحتجّ به في التضعيف؟! هذه والله غفلةٌ من ابن حبّان تضاف إلى ما صدرَ منه من أمثالها ، فحديث وهب بن حفصٍ والعدم سواء ، من غير فارقٍ بالمرّة ، وابن حبّان لم يصرّح بكذبه الذي يقضي عليه بالترك والرمي في زوايا الإهمال ، وقد كذّبه الحافظ أبو عروبة ، وقال الدارقطنيّ : كان يضع الحديث[43] .
ولو سلكنا مسلك ابن حبّان لضعّفنا الحديث الذي ألصقه بالحارث من طرقٍ أخرى غير التي ذكرنا ، ولكن معاذ الله أن نصنع مثل صنيعه ، فندع الكذّابين الوضّاعين الذين يسرقون الأحاديث في حلٍّ ، ونتّهم الثقات العدول الذين قبل الناس حديثهم .
على أنّنا إن فعلنا ذلك فعلناه ومعنا الدليل والحجّة ، فلا يلحقنا ما يلحق ابن حبّان ، ولكن مع ذلك لا نقدم على مثل عمله ، لأنّ كلَّ الصيد في جوف الفرا ، فلم يدع لنا وهب بن حفصٍ ـ بوضعه وسرقته للحديث ـ قولاً في أحدٍ سواه ، ودون الوصول إلى اتّهام الحارث بهذا الحديث مفاوز تنقطع فيها الأعناق ، فوهبٌ الوضّاع وحده مفازةٌ لا يحيط بأطرافها أحدٌ .
والثانية : يونس بن أبي إسحاق ، فإنّه ـ رغم مقامه المعروف في الرواية من الثقة والعدالة ـ فقد قال الأثرم[44] : سمعت أحمد يضعّف حديث يونس عن أبيه .
وقال أيضاً[45] : في حديثه زيادةٌ على حديث الناس ، وقال يحيى[46] : كانت فيه غفلةٌ شديدةٌ .
والثالثة : أبو إسحاق ، فإنّه لم يسمع من الحارث إلّا أربعة أحاديث ، وقد تقدّم أنّهم كانوا لا يقبلون منه عن الحارث إلّا ما قال فيه : «سمعتٌ» .(1/30)
فهذه عللٌ قادحةٌ في السند إلى الحارث قبل الوصول إليه ، فلا يحكم به عليه إلّا مع تعنّتٍ وتنطُّعٍ ظاهِرَيْن ، مع أنّنا ـ مع وجود وهبٍ الوضّاع ـ لا ننظر إلى العلّتين الأخريين .
وقول الذهبيّ : «إنّما هو من قول عليٍّ» ـ يعني أنّ الحديث موقوفٌ غير مرفوعٍ ـ إن كان ذلك ورد من طرقٍ أخرى فمسلّمٌ ، وإلّا فهو موضوعٌ موقوفاً ومرفوعاً ، يدلّ عليه ورود خلافه عن عليّ عليه السّلام ، فقد قال الحافظ في (التلخيص)[47] : وقد صحّ عن أبي عبدالرحمن السَّلَميّ ، قال : قال عليٌّ عليه السّلام : «إذا استطعمك الإمام فأطعمه» والله أعلم .
وأمّا إنكارهم على الحارث حديث : «أَنين المريض تسبيحٌ» .
فالجواب عنه ـ كما قلنا سابقاً ـ : إن سُلّم أنّه رواه فلا يلزم من ذلك ضعفه ، ثمّ إنّ في الإسناد إليه مَن لا يُعرف ـ زيادةً عن عنعنة أبي إسحاق ـ والحديث ورد من طريقٍ أخرى ، فما يلحق الحارث بعدها شي ءٌ من النقد .
قال الخطب في (التأريخ)[48] : أخبرني أبو بكرٍ محمد بن المظفر بن عليّ بن حربٍ المقرى ء الدينوريّ ، نبّأنا أبو أحمد عبيدالله بن محمد بن شنبة القاضي ، نبّأنا أبو جعفرٍ محمد بن الحسن بن الحسين بن عثمان بن حبيب بن زياد بن ضبّة البغداديّ ، نبّأنا صالح بن زيادٍ السوسيّ ـ أبو شعيبٍ ـ نبّأنا حسين بن أحمد البلخيّ ، عن الفضل بن موسى السينانيّ ، عن محمّد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم : «أنين المريض تسبيحٌ ، وصياحه تهليلٌ ، ونَفَسه صدقةٌ ، ونومه على الفراش عبادةٌ ، وتقلّبه من جنبٍ إلى جنبٍ كأنّما يقاتل العدوّ في سبيل الله ، يقول الله لملائكته : اكتبوا لعبدي أحسن ما كان يعمل في صحّته ، فإذا قام ثمّ مشى كان كمن لا ذنب له» .
قال الخطيب : أبو شعيبٍ ومَن فوقه كلّهم معروفون بالثقة ، إلّا البلخيّ فإنّه مجهولٌ ، فبرى ء الحارث من التهمة ، والحمد لله .
فصل(1/31)
وإذ قد تبيّن فساد طعنهم في الحارث ، وظهر بطلان جرحهم له إجمالاً وتفصيلاً ، فلا شي ء بعده إلّا العمل على توثيقه ، والاعتراف بعدالته وصدقه ، كما أثنى عليه الأوّلون وأخذوا بحديثه ، لاسيّما مَن عاصروه ورووا عنه كالشعبيّ ، فإنّه إذا أثنى معاصرٌ على الراوي فلا يبقى لمن يأتي بعده قولٌ في جرحه ولا ردٌّ لحديثه ، لأنّه مهما يبلغ في نقده ما يبلغ فلن يصل إلى درجة المشاهد المعاين «وليس الخبر كالمعاينة» .
وبعد هذا البيان الذي أمليناه في هذه الأوراق اليسيرة ، لا يبقى لناقدٍ ينظر بعين الإنصاف في خلال سطورها شكٌّ في صحّة حديث الحارث ، وأنّه حُجّةٌ في الأحكام ، لا يُعذر من ردّه وأعلّه به ، لا سيّما وقد احتجّوا بأحاديث من لم يبلغ من درجة الحارث العُشْر ، بل صحّح الشيخان وغيرهما لقوم رُموا بالكذب ، واعترفوا بالوضع ، ولا جرح أعظم من هذا عند أهل الحديث .
ولكن ربّما تستغرب من هذا القول ، وترى فيه بعض المبالغة ، بل أعظم المبالغة ، لأنّه لم يطرق سمعَك شي ءٌ يدلّك على صحّته وصدقه ، كما أنّك ستقول لا محالة ـ وأنت ممّن لم يخبر هذا العلم ، ولا اطّلع على خباياه ـ : كيف يكون حديث الحارث صحيحاً مقبولاً مع ما قيل فيه وذكرته عنه من تكذيب الناس له؟ .
ولبيان هذا كلّه عقدنا خاتمة الكتاب ، لنذكر فيها بعض الأمثلة التي يظهر بها أنّ الحارث أعظم مقاماً ، وأحسن حالاً من بعض رجال الصحيح ، وليعلم أنّ تصحيح حديث الحارث ليس بأغرب ولا أعجب من تصحيح حديث أولئك ، مع ما قيل في حقّهم من الطعن الجارح والسب القادح ، وإليك الخاتمة .
الخاتمة
ونبدأ فيها بذكر من رُمي بالكذب والاختلاق ، وتحريف الأحاديث على حسب هواه ، واعترافه بوضع ما كان يهواه ؛ من رجال الصحيح ، وكلُّ ذلك لم يُتّهم به الحارث ، ولا طَعن فيه بسببه جارحٌ ، فنقول :(1/32)
منهم : إسماعيل بن عبدالله بن أويس أبو عبدالله بن أبي أويس ، روى له البخاريّ ومسلمٌ وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة ، واحتجّ به الشيخان . قال يحيى ابن معينٍ في روايةٍ : ابن أبي أويسٍ وأبوه يسرقان الحديث ، وقال في أخرى : مخلّطٌ يكذب ، ليس بشي ءٍ . وقال النصر بن سلمة المروزيّ : ابن أبي أويسٍ كذّابٌ ، كان يحدّث عن مالكٍ بمسائل ابن وهب .
وقال ابن معينٍ أيضاً : ابن أبي أويس يسوى فلسين .
وقال الإسماعيليّ في (المدخل) : كان يُنسب في الخفّة والطَيْش إلى ما أكره ذكره .
وقال بعضهم : جانبناه للسُّنَّة .
وقال سيف بن محمّدٍ : إنّ ابن أويس كان يضع الحديث[49] .
وقال الحافظ في (التهذيب)[50] : وقرأت على عبدالله بن عمر ، عن أبي بكر ابن محمّدٍ ، أنّ عبدالرحمن بن مكّي أخبرهم ـ كتابةً ـ : أخبرنا الحافظ أبو طاهرٍ السلفيّ ، أخبرنا أبو غالبٍ محمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني ، أخبرنا الحافظ أبوبكر أحمد بن محمد بن غالبٍ البرقاني ، حدّثنا أبو الحسن الدارقطنيّ ، قال : ذكر محمد بن موسى الهاشميّ ـ وهو أحد الأئمّة ، وكان النسائيّ يخصّه بما لم يخصّ به ولده ـ فذكر عن أبي عبدالرحمن قال : حكى لي سلمة بن شبيبٍ قال : ثمّ توقّف أبو عبدالرحمن ، قال : فما زلت بعد ذلك أُداريه أن يحكي لي الحكاية حتّى قال : قال لي سلمة بن شبيبٍ : سمعت إسماعيل ابن أبي أويسٍ يقول : ربّما كنتُ أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شي ءٍ فيما بينهم ، قال البرقاني : قلت للدارقطنيّ : مَن حكى لك هذا عن محمد بن موسى؟ قال : الوزير ، كتبتها من كتابه ، وقرأتها عليه ـ يعني بالوزير الحافظ الجليل جعفر بن خزابة ـ .
قال الحافظ[51] : وهذا هو الذي بان للنسائيّ منه حتّى تجنّب حديثه ، وأطلق القول فيه بأنّه ليس بثقةٍ .
قلت : والحقّ مع النسائيّ ، فإنّ أبلغ ما يدلّ على الكذب اعتراف صاحبه به .(1/33)
وقول الحافظ في الدفاع عنه : «لعلّ ذلك كان في شبيبته ثم انصلح»[52] لا يصلح للدفاع عنه مع الاعتراف بالوضع .
وحتّى لو صلح ، فلا يكون ذلك مبرّراً لأن يكون من رجال الصحيح المحتجّ بهم ، وقد صدق عليه المثل العامّي القائل : (من الصومعة إلى قاع البئر) لكنّه بالعكس ، فمن الدَّرْك الأسفل في الجرح إلى الذروة العليا في التوثيق ، وكلُّ هذا تصرّفٌ يُنافي الاحتياط .
وقول الحافظ أيضاً[53] : «وأمّا الشيخان فلا يُظنّ بهما أنّهما أخرجا عنه إلّا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات» فمردودٌ أيضاً بما ذكره الحافظ ـ نفسه ـ في مقدّمة الفتح[54] : من كون البخاريّ أخرج له حديثين ممّا تفرّد به .
ومَن يُدرينا لعلّ ذينك الحديثين ممّا كان يضعه لأهل المدينة؟ فحالُ الكذّاب الوضّاع لا يطمئنّ إليه القلب .
واعتذر الحافظ أيضاً[55] عن الصحيح بأنّ إسماعيل بن أبي أويسٍ أخرج للبخاريّ أصوله ، وأذن له أن ينتقي منها ، وأن يُعلم له على ما يحدّث به ، ليحدّث به ويُعرض عمّا سواه .
قال : وهو مشعرٌ بأنّ ما أخرجه البخاريّ عنه هو من صحيح حديثه ، لأنّه كتب من أصوله .
والجواب عن هذا : هو أنّ هذا ينفع لو لم يكن إسماعيل كذّاباً وضّاعاً ، وأمّا مع الوضع والاعتراف به فلا ينفع .
ومَن لنا بأنّ تلك الأصول التي أخرجها من سماعاته ورواياته؟ وكلا الأمرين محتملٌ في شأن المتّهم ، ولكن مع الاعتراف يترجّح جانب الوضع والكذب ـ كما هو حال إسماعيل ـ .
على أنّا نقول : إنّ صنيعه مع البخاريّ مشعرٌ بأنّ تلك الأصول كذب ، لأنّه لا معنى لكون الراوي لا يُروى من حديثه إلّا ما رواه عنه الآخر إلّا كونه جاهلاً ، سارقاً ، يخاف إن رواه من غير تمييزٍ من أهل الفنّ أن يفتضح بين الناس .(1/34)
ومن أعجب ما ترى قول الحافظ[56] ـ عقب هذا القول ـ : «وعلى هذا لا يحتجّ بشي ءٍ من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائيّ وغيره ، إلّا إن شاركه فيه غيره فيُعتبر به» فإنّ هذا حال الضعفاء المتروكين ، وأما رجال الصحيح بحقٍّ فيجلّون عن أن يكون حديثهم صحيحاً في موضعٍ ، ضعيفاً غير حُجّةٍ في موضعٍ آخر .
والحقّ يأبى إلّا أن يُظهر نفسه ، فرغم كون الحافظ أغمض عينيه عن الحقّ الواضح في شأن إسماعيل ، لأجل هيبة الصحيح ، لم يجد بُدّاً من الإفصاح بما يدلّ على الحقّ ـ الذي ينبغي اتّباعه ـ من غير أن يشعر .
والحقّ أنّ ابن أبي أويسٍ ضعيفٌ متروك ، ولو كان نصف الصحيح مرويّاً من طريقه .
وبعد هذا ، فمَن أحسن حالاً وأتقى ، وأنظف روايةً وديناً؟ إسماعيل الكذّاب المعترف بالوضع؟ أم الحارث الثقة الذي لم يظهر منه حرفٌ واحدٌ يدلّ على الكذب ، بل لم يطعن فيه أحدٌ بما طعن به في إسماعيل ، والحمد لله ربّ العالمين .
ومنهم : حَريز بن عثمان ، المبتدع الضالّ ، روى له البخاريّ والأربعة ، وهذا الرجل فاسقٌ لا دين له ، لأنّه كان يلعن عليّاًعليه السّلام في كلّ يومٍ سبعين مرّةً ، وأين العدالة مع التهجّم على مَن أثنى عليه الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وشهد لمن أبغضه بالنفاق ، ولمن أحبّه بالإيمان؟ بل قال الرسول عليه الصلاة والسلام : «سباب المسلم فسوق»[57] وهذا في مطلق مسلم ، فكيف بمن قال له : «لا يحبّك إلّا مؤمنٌ ، ولا يبغضك إلّا منافقٌ»[58] وقال : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه»[59]؟
وهل العدالة إلّا الملكة المانعة عن الوقوع في المحرّمات والمآثم؟ وأيّ محرّمٍ أعظم ، وإثمٍ أفحش من لعن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الذي شهد له الرسول بالجنّة ، ومحبة الله له؟(1/35)
بل لعن مطلق مؤمنٍ حرامٌ بإجماع الاُمّة ، وعَدُّوه من الكبائر ، مع أنّهم اشترطوا في العدل ألّا يرتكب ما فيه خوارم المرؤوة من المباحات فضلاً عن الصغائر ، فكيف بمن يرتكب الكبائر المحرّمة إجماعاً ، ويتهجّم على من عظّم الله حرمته على لسان رسوله صلّى الله عليه و آله و سلّم ، وجعل حبّه إيماناً ، وبغضه نفاقاً؟
فحريزٌ غير ثقةٍ ، ولا عدلٍ ، ولا كرامة ، وهو فاسقٌ على حسب القواعد التي يدين بها المسلمون كافّةً في مشارق الأرض ومغاربها ، ولا يقول بعدالته في الدين إلّا من لم ينوّر الله قلبه بنور الإيمان .
وربّما تقول : إنّما أخرجوا حديثه في الصحيح لأنّ أبا اليمان قال : كان حريز يتناول رجلاً ـ يعني عليّاًعليه السّلام ـ ثمّ ترك ، وكذلك حكى عليّ بن عبّاسٍ رجوعه عن النصب[60] .
والجواب عن هذا ما قاله ابن حبّان في ترجمة حريز من (الضعفاء)[61] : «إنّ ذلك غير محفوظٍ عنه» يعني الرجوع عن النصب ، ولعن عليٍّ عليه السّلام ، وإنّما المعروف من حاله هو الفسق والفجور ، والتهجّم على مقام سيّد الصحابة رضي الله عنه ، وهذا وحده كافٍ في ردّ حديث هذا الفاجر ـ أخزاه الله ـ فكيف وقد ثبت كذبه في الرواية وتحريفه للأحاديث الصحيحة على حسب هواه ومذهبه الخبيث ، الأمر الذي يدلّ على أنّه لم يكن عنده خوفٌ من الله ولا حياءٌ ، بل كان فاسقاً ، فاجراً ، منافقاً ، كما شهد له الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم ، والمنافقون كذّابون ، كما قال تعالى في كتابه {والله يعلم إنّ المنافقين لكاذبون}[62] .
ولذلك ردّ حديثه من تنبّه لأمره وتركه ، زيادةً عن كونه مبتدعاً داعياً لبدعته .(1/36)
قال إسماعيل بن عيّاشٍ[63] : سمعت حريز بن عثمان يقول : هذا الذي يرويه الناس عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال لعليٍّ : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» حقٌّ ، ولكن أخطأ السامع ، قلت : فما هو؟ فقال : إنّما هو : أنت منّي بمنزلة قارون من موسى ، قلت : عمّن ترويه؟ قال : سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله ـ وهو على المنبر ـ .
قلت : كذب عدوّ الله ، فإنّه لم يسمعه إلّا من شيطانه الذي أوحاه إليه {وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم}[64] كما قال الله تعالى .
وقال الأزديّ في (الضعفاء)[65] : إنّ حريز بن عثمان روى أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أراد أن يركب بغلته جاءَ عليُّ بن أبي طالبٍ فحلّ حِزام البغلة ليقع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم !!!
قال الأزديّ : من كانت هذه حاله لا يُروى عنه .
قال الحافظ في (التهذيب)[66] : لعلّه سمع هذه القصة أيضاً من الوليد .
قلت : ويظهر من الحافظ أنّه صدّقه في دعواه أنّه سمع ذلك من الوليد ، مع أنّه كذّابٌ ـ والله ـ .
وهب أنّه سمع ذلك من الوليد ، فحكايته له على ذلك الوجه يدلّ على فسقه ، سلّمنا أنّ ذلك سمعه من الوليد ، وهذا ممّن سمعه؟!
بل قال ابن عدي[67] : قال يحيى بن صالحٍ الوحاظيّ : أملى عليَّ حريز بن عثمان ، عن عبدالرحمن بن ميسرة عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم حديثاً في تنقيص عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه لا يصلح ذكره ، حديثٌ معتلٌّ ، منكرٌ جدّاً ، لا يروي مثله مَن يتّقي الله .
قال الوحاظي : فلما حدّثني بذلك قمت عنه وتركته .
وقال غنجار[68] : قيل ليحيى بن صالحٍ لِمَ لَمْ تكتب عن حريزٍ؟ فقال : كيف أكتب عن رجل صلّيتُ معه الفجر سبع سنين ، فكان لا يخرج من المسجد حتّى يلعن عليّاً سبعين مرّة؟!!(1/37)
وقال ابن حبان[69] : كان يلعن عليّاً بالغداة سبعين مرّة ، وبالعشيّ سبعين مرّةً ، فقيل له في ذلك ، فقال : هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي ، وكان داعيةً إلى مذهبه ، يتنكّب حديثه ، انتهى .
وبعد هذا ، فمَن أتقى ديناً ، وأنقى روايةً؟ الحارث الهمدانيّ الذي لم يُتّهم بما يخلّ في دينه ومروء ته؟ أم حَريز الفاسق ، المبتدع ، الضالّ ، المجروح في دينه وروايته بالجرح القادح الواضح البيّن؟ فما أجدر حديثه أن يكون مع أحاديث الكذّابين الوضّاعين في كتب الموضوعات والواهيات .
ولكن هذا أمرٌ يُقضى منه بالعجب جدّاً ، ولا يجد الحائر فيه مخرجاً منه ، فالناصبيّ الفاسق الذي يظهر فسقه وكذبه بالدلائل والبراهين يُسمح له في كلّ ذلك ، ويُقبل حديثه إلى أن يُجْعل في أعلى درجات الصحيح ، والشيعيّ بمجرّد اتّهامه بحبّ عليٍّ عليه السّلام يُترك حديثه ويُطرح ، ويحذّر منه ، فهذا ـ والله ـ ما لا يفهمه أحدٌ .
ومنهم : عكرمة البربريّ ، فقد اتّهمه بالكذب غير واحدٍ ، وقال ابن عمر لنافع : لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاسٍ[70] ، وقال مثله سعيد بن المسيّب لبردٍ مولاه ، وقيّده عليّ بن عبدالله بن عبّاسٍ لكذبه على أبيه .
وكان ـ مع هذا ـ خارجيّاً ، وعنه أخذ خوارج الإباضيّة من المغرب ، ومع هذا كلّه احتجّ به البخاريّ وأصحاب السنن .
والحارث لم يبلغ للطعن فيه إلى ما قيل في عكرمة ، فحديثه أولى بالاحتجاج ، وقد أحسن مسلمٌ في عدم الاحتجاج بحديث عكرمة جدّاً ، فإنّ من يتّهمه العدد الجمّ بالكذب لا ينبغي أن يرتقى بحديثه لدرجة الاحتجاج ، لحصول الشبهة بذلك العدد الجارح ، وإن ظهر توثيقه من جهةٍ أخرى ـ كما هو معلومٌ ـ .
ومنهم : الحسن بن مدركٍ السدوسيّ ، روى له البخاريّ والنسائي وابن ماجة .
وقال أبو داود[71] : كان كذّاباً ، يأخذ أحاديث فهد بن عوفٍ فيقلبها على يحيى ابن حمّادٍ .(1/38)
ومنهم : أُسَيْد بن زيدٍ الجمّال ، روى له البخاريّ ، قال النسائيّ[72] : متروك ، وقال ابن معينٍ : حدّث بأحاديث كذب ، وقال ابن عديٍّ : لا يُتابع على روايته ، وقال ابن حبّان : يروي عن الثقات المناكير ، ويسرق الحديث .
ومنهم : أحمد بن بشيرٍ الكوفيّ أبو بكرٍ ، روى له البخاريّ والترمذيّ وابن ماجة قال الدارميّ : متروك .
وغير هؤلاء كثيرٌ ، لو تتبّعناهم لطال المقام .
وأمّا مَن طُعن فيه بالنكارة ورواية المناكير ، والوهم والغلط في الرواية والغلوّ في النصب فذلك أيضاً كثيرٌ جدّاً في الصحيحين وغيرهما من كتب الاحتجاج .
ومن نظر في كتب الرجال يقف على ذلك ، بل من تتبّع حال الرجال وجد أنّ ما قيل في الحارث من الطعن الذي ليس بمفسَّرٍ ، ومن رواية حديثٍ أو حديثين منكرين ، قد قيل مثله أو أكثر منه في كبار الأئمّة الذين اشتهر حالهم ، بحيث لا يحتاج بعده إلى البحث عنهم ، مثل عبدالرزّاق والشافعيّ وأحمد بن صالحٍ المصريّ ، وغيرهم ممّن استقرّ الأمر على توثيقهم ، وقبول خبرهم ، وعدم النظر فيما رُموا به من الطعن والجرح .
وما ذكرته في هذه الخاتمة ـ على سبيل المثال فيمن رُموا بالكذب ، والطعن الجارح ، وروايتهم مع ذلك صحيحة عندهم ـ كافٍ في إزالة الخوف عن نفوس من يُحْجِم عن الإقدام على تصحيح حديث الحارث والاحتجاج به ، بسبب ما قيل فيه من الجرح ، لأنّه لا معنى للتوقّف عن تصحيح حديثه بعد أن يرى أنّهم صحّحوا حديث مَن هو أسوأُ حالاً من الحارث ، واحتجّوا به وأدخلوه في الكتب المجرّدة للأحاديث الصحيحة .(1/39)
على أنّ الإنسان لو عكس الآية ، وقلب القضيّة ، وجزم بصحّة حديث الحارث ، وضعف حديث من ذكرناهم في الخاتمة لكان أقرب إلى الصواب ، بل لكان أتى عين الصواب المؤيّد بالدليل والبرهان الذي لا يمكن نقضه بقاعدةٍ من قواعد الحديث ، ولا الرجوع عليه بالضعف والتوهين ، كما هو حال حديث ابن أبي أويسٍ ، وحريز بن عثمان ، وعمران بن حطّان ـ الملعون ـ الذي لا يشكُّ مسلمٌ في كفره ، فضلاً عن عدالته وصدقه ، وهو الذي مدح عبدالرحمن بن ملجَم ـ الملعون ـ بتلك الأبيات التي يؤلم سماعها كلّ مسلمٍ ، مع أنّ الرسول أخبر عليّاً بأنّ أشقى الناس الذي يضربه على هذه[73] حتّى يخضب منها هذه ، ومن مدح أشقى الناس بشهادة الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم هل يبقى لأحدٍ شكٌّ في كفره وارتداده .
فإدخال حديث مثل هذا الكلب المجرم في كتابٍ من الكتب سُبَّةٌ وعارٌ ، بل ومحاربة لله والرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم من حيث لا يشعر الإنسان .
ومعاذ الله أن يدخل في زمرة المسلمين ، فضلاً عن عدولهم وصالحيهم ، من يعارض الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم جهاراً من غير خشيةٍ ولا حياءٍ ، فيسمّي من سمّاه الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم شقيّاً ، بل أشقى الناس، تقيّاً مقرّباً من الرحمن ، هذا ما لا يقوله مسلمٌ ، بل ولا يخطر بباله .(1/40)
والحمد لله على السلامة من الوقوع في مثل هذه التخبّطات المُزْرية ، ونحمده سبحانه كثيراً أن وهب لنا فُرقاناً ونوراً يهدينا إلى سواء السبيل ، ويخرجنا من الظلمات ودياجيرها إلى أنوار الحقّ البيّن الظاهر ، وإن كان ذلك في نظر الهالكين الواقعين في الظلمات ليس بنورٍ ولا فرقانٍ ، لأن العبرة عندنا ـ والحمد لله ـ بمن نوّر الله بصيرته ، وأخرجه إلى ما أخرجنا إليه من الحبّ الصادق للرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم وحزبه الصادق في اتّباعه الذي يورث البصيرة المنوّرة التي تهدي إلى الحقّ ، ولو كانت الجماهير على خلافه من أوّل الدنيا ، وذلك أعزّ ما يطلبه المهتدون ، وأنفس ما يتنافس فيه المتنافسون .
ودعك من قومٍ يعرفون الحقّ بالرجال ، ويدورون مع الناس في الأقوال والأفعال ، إن قالوا : أخطأ فلانٌ ، قال هو معهم أيضاً : أخطأ فلانٌ ، وإن قالوا : أصاب ، قال هو أيضاً : أصاب ، يتّبع كلّ ناعقٍ ، ويُجيب كلّ داعٍ ، وقد قال الله تعالى : {وإن تُطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله} .
وقد صدق الله ، فانّنا ما رأينا أحداً ضلّ عن الحقّ ، وعميت بصيرته عن النور الواضح الجليّ إلّا باتّباع الناس في كلّ أمورهم ، في خطئهم وصوابهم ، يهاب أن يخرج من حظيرتهم بخلاف ما هم عليه ، أو أن يدخل فيهم بما ليسوا عليه ، نعوذ بالله من حال الأشرار الأغمار .
وهذا آخر الجزء الذي أمليناه إملاءً من غير مراجعةٍ ولا مطالعةٍ ، إلّا ما كان من بعض النقول اضطررت في تحقيق لفظها إلى مراجعة نصوصها ، وكان ذلك في يوم الاثنين الرابع من جمادى الآخرة سنة سبعين وثلاثمائةٍ وألف بثغر «طنجة» والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وآله وصحبه إلى يوم الدين .
صورة تقريظ الحافظ شهاب الدين أبي الفيض أحمد بن محمّد بن الصدّيق الحسني الغُماري المغربي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/41)
الحمد لله على ما ألهم وأنعم ، وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم .
أمّا بعد : فإنّ من قرأ هذا الجزء المسمّى بـ «المحور في عين من أنكر ثقة الحارث الأعور» لشقيقنا العلّامة المحدّث الواعية الناقد البصير بالعلوم الأثريّة والروائيّة ، جمال الدين أبي اليسر عبدالعزيز بن محمّد بن الصدّيق ـ أبقاه الله وأدام توفيقه ـ وكان من أهل الفضل والإنصاف ، والتذوّق لطعم التحقيق في العلوم بلا تعصّبٍ ولا اعتساف علم أنّه من العدول الذين قال فيهم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم : «يحمل هذا العلم من كلّ خلفٍ عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين»[74] ومن الطائفة المنصورة الوارد فيهم بالطريق المتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : «لا تزال طائفةٌ من اُمّتي ظاهرين على الحقّ ، لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذلهم ، حتّى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك»[75] بل يعلم أنّه من آيات الله تعالى التي قال عنها في كتابه العزيز : {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها}[76] .
فلإن كان الله تعالى قد نسخ آياته الباهرة في هذه الاُمّة من حفّاظ الحديث ، ونقّاد رجاله الذابّين عنه في صدر هذه الأمّة ، فهو سبحانه ـ بفضله وجوده ـ لم يقطع عن هذه الأمّة آياته في هذا الباب ، بل أظهر منها في آخرها مثل ما أظهر في أوّلها ، وفي كل قرنٍ من أمّته صلّى الله عليه وآله وسلّم سابقون إلى الخيرات .
ولولا وجود تعبٍ مُلمٍّ بنا في هذه اللحظة لأملينا في مدح هذا الجزء وتأييده ما يفوق حجمه أو يماثله .
على أنّ في كتابنا : «فتح الملك العليّ» وكتابنا : «البرهان الجليّ» ما فيه كفاية لتأييد هذا الجزء الشريف ، والبحث المنيف .
والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّدٍ وآله وصحبه ، وسلّم تسليماً كثيراً ، آمين .
آزمور ـ يوم الأربعاء
عشري جمادى الثانية
سنة 1370 .(1/42)
الفقير خادم الحديث والسُنّة النبويّة
أحمد بن الصدّيق
غفر الله له .
المصادر
1 ـ تأريخ أسماء الثقات ممّن نُقل عنهم العلم، لأبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان المعروف بابن شاهين ـ تحقيق عبد المعطي أمين قلعچي ـ ط دار الكتب العلميّة، بيروت ـ الطبعة الاُولى سنة 1406 هـ .
2 ـ تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي ـ ط مطبعة السعادة بمصر .
3 ـ تاريخ جرجان، للسهمي ـ ط عالم الكتب، بيروت ـ الطبعة الرابعة سنة 1407 هـ .
4 ـ تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين السيوطي ـ تحقيق أحمد هاشم ـ ط دار الكتاب العربي، سنة 1414 هـ .
5 ـ تذكرة الحفّاظ، لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ـ ط حيدر آباد، سنة 1377 هـ .
6 ـ الترغيب والترهيب في الحديث الشريف، للحافظ زكّي الدين المنذري ـ تحقيق مصطفى محمد عمارة ـ ط مصطفى البابي الحلبي، مصر .
7 ـ تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، للحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني ـ تحقيق أحمد بن علي المباركي ـ الطبعة الاُولى سنة 1413 هـ .
8 ـ التعليق المغني على سنن الدارقطني ـ لأبي الطيّب محمد شمس الحقّ العظيم آبادي.
9 ـ تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعيّ الكبير، لابن حجر العسقلاني ـ تحقيق عبدالله هاشم اليماني المدني ـ اُفسيت دار المعرفة، بيروت .
10 ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي يوسف بن عبد البرّ القرطبي ـ ط سنة 1394 هـ اُفسيت مكتبة السوادي ـ جدّة ـ .
11 ـ تهذيب التهذيب، لابن حجرالعسقلاني ـ ط دارإحياء التراث العربي،بيروت ـ سنة 1412هـ .
12 ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لجمال الدين أبي الحجّاج المزّي ـ تحقيق بشّار عوّاد معروف ـ ط مؤسسة الرسالة، بيروت ـ الطبعة الثالثة سنة 1409 هـ .
13 ـ جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ القرطبي ـ تحقيق أبي الأشبال الزهيري ـ ط دار ابن الجوزيّ، الطبعة الثانية سنة 1416 هـ .(1/43)
14 ـ الجامع الصحيح ( سنن الترمذي ) لمحمد بن عيسى الترمذي ـ تحقيق إبراهيم عوض ـ ط دار إحياء التراث العربي .
15 ـ الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، للسيوطي ـ ط دار الكتب العلميّة، بيروت ـ الطبعة الاُولى سنة 1410 هـ .
16 ـ الجرح والتعديل، لعبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي ـ الطبعة الاُولى، حيدرآبادسنة 1370 هـ .
17 ـ ديوان الضعفاء والمتروكين،للذهبي ـ ط دارالقلم، بيروت ـ الطبعة الاُولى سنة 1408هـ .
18 ـ الرواة الثقات المتكلّم فيهم بما لا يوجب ردّهم، للذهبي ـ تحقيق محمد إبراهيم الموصلي ـ ط دار البشائر الإسلامية ـ الطبعة الاُولى سنة 1412 هـ .
19 ـ الروض الباسم في الذبّ عن سُنّة أبي القاسم صلّى الله عليه و آله ، لمحمّد بن إبراهيم الوزير ـ اُفسيت دار المعرفة، بيروت سنة 1399 هـ .
20 ـ سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لمحمّد ناصر الدين الألباني ـ ط مكتبة المعارف، الرياض ـ الطبعة الاُولى سنة 1412 هـ .
21 ـ سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد بن ماجة القزويني ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ ط دار إحياء التراث، بيروت .
22 ـ سنن الدارقطني، لعلّي بن عمر الدارقطني ـ ط دار الفكر، بيروت ـ سنة 1414 هـ .
23 ـ شرح صحيح مسلم، لمحيي الدين النووي ـ المطبوع بهامش إرشاد الساري ـ ط المطبعة الأميريّة بمصر .
24 ـ صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري ـ اُفسيت دار الجيل، بيروت .
25 ـ صحيح مسلم بن الحجّاج النيسابوريّ ـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ اُفسيت دار إحياء التراث العربي، بيروت .
26 ـ طبقات الفقهاء، لأبي إسحاق الشيرازي ـ تحقيق إحسان عبّاس ـ ط دار الرائد العربي ـ الطبعة الثانية سنة 1401 هـ .
27 ـ الطبقات الكبرى، لمحمد بن سعد ـ ط دار صادر، بيروت .
28 ـ العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل، لمحمد بن عقيل العلوي الحضرمي ـ منشورات هيئة البحوث الإسلامية في اندونيسيا ـ سنة 1391 هـ .(1/44)
29 ـ فضائل الخمسة من الصحاح الستّة، للعلّامة السيِّد الفيروزآبادي ـ ط مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ الطبعة الرابعة سنة 1402 هـ .
30 ـ الفقيه والمتفقّه، للخطيب البغدادي ـ تحقيق عادل يوسف العزازي ـ ط دار الكتب العلميّة، بيروت ـ الطبعة الاُولى سنة 1418 هـ .
31 ـ كتاب المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين، لابن حبّان ـ تحقيق محمود إبراهيم زايد ـ توزيع دار الباز بمكّة المكرّمة .
32 ـ كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين المتقي بن حسام الدين الهندي ـ ط اُفسيت مؤسسة الرسالة، بيروت ـ سنة 1409 هـ .
33 ـ لسان الميزان، للحافظ ابن حجر العسقلاني ـ ط حيدر آباد، سنة 1331هـ .
34 ـ مجمع الزوائد و منبع الفوائد، للحافظ نورالدين الهيثمي ـ ط مكتبة القدسي سنة 1352هـ .
35 ـ المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم النيسابوري ـ ط حيدر آباد، سنة 1344 هـ .
36 ـ مسند أحمد، لأحمد بن حنبل الشيباني ـ ط الميمنيّة بمصر، سنة 1313 هـ.
37 ـ المعجم الوسيط، لسليمان بن أحمد الطبراني ـ تحقيق محمد الطحّان ـ ط مكتبة المعارف بالرياض ـ الطبعة الاُولى سنة 1415 هـ .
38 ـ المعجم الكبير، للطبراني ـ تحقيق عبد المجيد السلفي ـ ط دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ الطبعة الثانية .
39 ـ المعرفة والتأريخ، لأبي يوسف يعقوب بن سفيان البسوي ـ تحقيق أكرم ضياء العمري ـ ط مطبعة الإرشاد، بغداد ـ سنة 1975م .
40 ـ المغني في الضعفاء، للذهبي ـ تحقيق حازم القاضي ـ ط دار الكتب العلميّة، بيروت ـ الطبعة الاُولى سنة 1418 هـ .
41 ـ الموضوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزيّ ـ تحقيق نور الدين بن شكري بن علي بوياجيلار ـ ط مكتبة أضواء السلف ـ الطبعة الاُولى 1418 هـ .
42 ـ ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبيّ ـ ط دار الكتب العلميّة، بيروت ـ الطبعة الاُولى سنة 1416 هـ .(1/45)
43 ـ هدية الساري ـ مقدّمة فتح الباري، لابن حجر العسقلاني ـ ط دار الرّيان للتراث، مصر ـ سنة 1407 هـ .
------------
(1) كان العزْم على تقديم الكتابين معاً، لكن ظروف الطباعة وضيق المجال المحدّد لصفحات العدد، ألجأتنا إلى تأجيل إصدار الكتاب الثاني إلى عدد قادم، مع الاعتذار من فضيلة السيّد المعدّ، ومن القرّاء الكرام. التحرير
(2) سورة الجمعة : الآية 4 .
(3) سورة المنافقون : الآية 1 .
(4) المعجم الكبير : 1 / 85 ـ 89، المستدرك على الصحيحين : 4 : 487 .
(5) العتب الجميل : 68 ـ 71 .
(6) ليعلم أنّ الذي أورده ابن الجوزي في الموضوعات ( 3 / 146 ) من هذا الطريق إنمّا هو حديث عليّ عليه السّلام :« أنّه شكا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله الوحدة، فقال له : لو اتّخذت زوجاً من حمام فآنسك، وأصبتَ من فراخه واتّخذت ديكاً فآنسك وأيقظك للصلاة » .
(7) الموضوعات : 3 / 148 .
(8) تهذيب التهذيب 1 : 411 .
(9) مسند أحمد : 1 / 85، تهذيب التهذيب : 1 / 411 . واعلم أنّ هذا القول من حبيب بن أبي ثابت، إنمّا بالنسبة لحديث تطوّع النبيّ صلّى الله عليه و آله بالنهار لا حديث الوتر، وهو من حديث عاصم بن ضمرة لا الحارث الهمدانيّ، فتنبّه .
(10) الثقات : 108 ، تهذيب التهذيب : 1 / 411 .
(11) ميزان الاعتدال : 2 / 173 ، تهذيب التهذيب : 1 / 411 .
(12) الترغيب والترهيب : 4 / 568 ـ 569 .
(13) تهذيب التهذيب : 1 / 412 .
(14) الثقات : 4 / 130 .
(15) صحيح مسلم : 1 /
(16) ناصبيٌّ ، خبيث ، عدوّ ، ولا تقبل روايته في كلّ شيعيٍّ فضلاً عن أصحاب عليّ ، وهو ـ عندنا ـ كذّاب ، وإن وثّقوه على عادتهم .
(17) تهذيب التهذيب : 1 / 411 .
(18) كتاب المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين : 1 / 222 .
(19) ميزان الاعتدال : 2/172.
(20) ميزان الإعتدال : 2 / 172 .
(21) جامع بيان العلم : 2 / 1100 .
(22) جامع بيان العلم : 2 / 1100 .(1/46)
(23) جامع بيان العلم : 2 / 1100 .
(24) جامع بيان العلم وفضله : 2 / 1100 .
(25) ومن هنا تعلم أنّ الشعبيّ دلّس في تكذيبه ، لأنّه أراد أنّه كذّابٌ في زعمه أنّ عليّاً أفضل من أبي بكرٍ ، ولكنّه أطلق ذلك فأوهم أنّه كذّابٌ على الإطلاق ، وليس الباعث للشعبيّ على تكذيبه ذلك فقط ، فإنّ الشعبيّ كان أوّلاً ينتمي إلى أهل البيت وينصرهم ، وخرج مع جماعةٍ منهم على بني أميّة في موقعة عبدالرحمن بن الأشعث ، فلمّا هُزموا وجاء إلى الحجّاج تائباً ـ فعفا عنه الحجّاج ـ أظهر ولاءَ ه لبني أُميّة .
وكان كلّ من أراد إظهار الولاء لهم لابدّ أن يظهر عداء ه لأهل البيت ، ولا سيّما لمن حاربوا معاوية مع عليّ ـ وكان منهم الحارث ـ فأراد الشعبيّ التقرّب لهم بذلك ، وهو السبب في الثناء عليه أوّلاً ، ثمّ تكذيبه ثانياً . (أحمد الصدّيق) .
(26) لا ، بل هو كان يعلم ذلك ، وكان أمر ذلك مشهوراً بين الصحابة والتابعين ، ولكنّ الخوف من بني أميّة ، وحبّ المصلحة .
(27) الثقات : 108 ، تهذيب التهذيب : 1 / 411 .
(28) وهذا يوجب طعناً في الشعبيّ وفي دينه ، ويثبت وقوعه في أعراض الأبرياء بضربٍ من التدليس ، فإنّه لو قال : ذاك ضالّ ، أو مخطى ءٌ في رأيه لأدّى رأيه واجتهاده فيه ، وترك للناس رأيهم .
أمّا قوله : كذّابٌ ، فانّه ترك مَن بعده يقلّده ويردّ كثيراً من الأحاديث الصحيحة بدون حجّة .
والاعتماد على مثل : «كَذبَ أبو السنابل» لا يفيده في البراء ة من تبعة هذا الإجرام العظيم ، فقد نصّوا على أنّ الحجازيّين يقولون للخطأ : كذبٌ ، وللمخطى ء كذّاب ، فهو اصطلاحٌ خاصٌّ ، وعليه نطق النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ، مع فوارق أخرى يضيق المحلّ عن ذكرها .
فالشعبيّ مجروحٌ بهذا ، لأنّه اغتيابٌ من جهةٍ لا يقصد منها الدفاع عن السُنّة ، وإفساد لحديث الحارث الذي قد انفرد بسننٍ وآثارٍ تضيع بإثبات كذبه .(1/47)
ومن أجل هذا عوقب ورُمي في الدنيا بالكذب ، مع أنّ ابن معينٍ وأمثاله رموا بالكذب المئات من الناس ، فما تجرّأ أحدٌ أن يرميهم بالكذب ، وإن كانوا مخطئين في بعضهم ، لكنّه خطأ في اجتهادٍ ليس فيه تدليسٌ ـ كما فعل الشعبيّ ـ فليوسّع هذا البحث في محلٍّ يسع ذلك . (أحمد الصدّيق) .
(29) ميزان الاعتدال : 2 / 172
(30) إقرأ الوقائع التأريخيّة في زمن معاوية وبني أُميّة ، ينزل الشعبيّ في ذهنك من الدرجة التي أثبتتها تراجم المقلّدة ـ ولابُدّ ـ إلى درجةٍ لا تقول معها إنّه ذو جلالةٍ ، فكذلك كُنّا ثم انزاح عنّا الإشكال والحمد لله .
(31) تهذيب التهذيب 1 / 411 .
(32) ميزان الاعتدال : 2 / 172، تهذيب التهذيب : 1 / 411 ـ 412 .
(33) تدريب الراوي : 1/128.
(34) لا ، قل كما قالوا ، فإنّ التراجم كلّها مشحونةٌ بمثل هذه المفاضلة ، حتّى بين مالكٍ والثوريّ والكبار المجمع على ثقتهم .
(35) بل هو الواقع ـ كما قلنا سابقاً ـ .
(36) تهذيب التهذيب : 3 / 34 .
(37) تهذيب التهذيب : 3 / 34 .
(38) تهذيب التهذيب 1 / 412 .
(39) كما قال الشاعر:
والدعاوي إن لم يُقيموا عليها
بيّناتٍ أبناؤها أدْعياءُ
(40) ميزان الاعتدال : 1 / 118 .
(41) ميزان الاعتدال : 1 / 118 .
(42) كتاب المجروحين : 3 / 76 ، لسان الميزان : 6 / 230 .
(43) ميزان الاعتدال : 7 / 146 .
(44) تهذيب التهذيب : 6 / 274 .
(45) تهذيب التهذيب : 6 / 274 .
(46) تهذيب التهذيب : 6 / 273 ـ 274 .
(47) تلخيص الحبير : 1/284.
(48) تاريخ بغداد : 2/191.
(49) تهذيب التهذيب : 1 / 197 ـ 198 .
(50) تهذيب التهذيب : 1 / 198 ، الظاهر أنّ هذا ليس من قول الحافظ فراجع .
(51) تهذيب التهذيب : 1 / 198 .
(52) تهذيب التهذيب 1 : 198 .
(53) تهذيب التهذيب 1 / 198 .
(54) هدي الساري ، مقدّمة فتح الباري : 410 .
(55) هدي الساري : 410 .
(56) هدي الساري : 410 .
(57) الجامع الصغير : 284 .(1/48)
(58) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة : 2 / 230 ـ 234 .
(59) الجامع الصغير : 542 .
(60) تهذيب التهذيب : 1 / 466 .
(61) كتاب المجروحين : 1 / 268 .
(62) سورة المنافقون : الآية 1 .
(63) تهذيب التهذيب 1 / 466 .
(64) سورة الأنعام : الآية 121 .
(65) تهذيب التهذيب : 1 / 467 .
(66) تهذيب التهذيب 1 / 467 .
(67) الكامل : 3 / 394 ـ 395 ، تهذيب التهذيب : 1 / 467 .
(68) تهذيب التهذيب 1 / 467 .
(69) تهذيب التهذيب : 1 / 467 .
(70) ويريد البُلَداء أن يخرّجوا هذا على لغة أهل المدينة في إطلاق الكذب على الخطأ ، أي : أخطأ على ابن عبّاسٍ .
ومن تتبّع تفسير عكرمة عن ابن عبّاسٍ تحقّق كذبه ، ومن ذلك كذبه الظاهر في تفسير قوله تعالى : {قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودّة في القربى} أنّ المعنى : إلّا أن تودّوني في قرابتي فيكم ، لأنّه ليس من قبيلةٍ إلّا وللنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فيهم قرابةٌ من جهة الأمّهات والأصهار .
وكذلك كذبه في تفسير قوله تعالى : {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} أنّها في نساء النبيّ خاصّة ، مع أنّ الله تعالى قال : {ويطهّركم} ولم يقل : ويطهّركنّ ـ بنون النسوة ـ ومن تتبّع ذلك عن عكرمة عرف كذبه وقطع به .
(71) هدي الساري : 417 ، تهذيب التهذيب : 1 / 513 .
(72) هدي الساري : 410 ، تهذيب التهذيب : 1 / 218 .
(73) المستدرك على الصحيحين : 3 / 73 ـ 113 ـ 140، 4 / 350 ـ 464 ـ 487، فضائل الخمسة : 3 / 82 ـ 86 .
(74) كنز العمّال : 10 / 176 .
(75) الجامع الصغير : 579 .
(76) سورة البقرة : الآية 106 .(1/49)