بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الاتصال والانقطاع
( عرض تلخيصي )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
يعتبر كتاب الاتصال والانقطاع للشيخ الدكتور إبراهيم اللاحم حفظه الله ورعاه، القسم الثاني من سلسلة نقد المرويات والذي يتعلق بمباحث اتصال الإسناد وانقطاعه، وقد يسر الله تبارك وتعالى لي قراءة الكتاب مرتين أو أكثر، والحقيقة إن تلخيص مثل هذا الكتاب واختصاره عمل شاق وذلك لكثرة المعلومات والمناقشات والأمثلة التي تجعل الطالب يحتار؛ ماذا يثبت من الكتاب وماذا يحذف ويختصر، فالاختصار أشبه ما يكون ..
والناظر في هذا الكتاب القيم يظهر له وبجلاء رسوخ قدم الشيخ حفظه الله في هذه العلم النفيس والعزيز.
وهاأنذا أضع بين يدي الإخوة الكرام هذه الأسطر القليلة ملخصاً فيها أهم نقاط الكتاب، وقد جعلتها على صورة مسائل حتى يسهل بها الفهم والاستيعاب، كما أنني قد جعلت بين قوسين مرتفعين أرقام صفحات الكتاب ليسهل الأمر على قارئ هذه الأسطر في الرجوع إلى الكتاب.
كما أنني أستميح الشيخ الفاضل إبراهيم اللاحم حفظه الله ورعاه العذر إن كان في هذا التلخيص خلل أو قصور أو تجني على مقاصده وآراءه في هذا الكتاب القيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أخوكم خالد الجاسم
أولاً التمهيد
وفيه ثلاثة مسائل
المسألة الأولى (9):
اتصال الإسناد أحد الشروط الخمسة المعروفة لصحة الحديث، وحقيقة شرط الاتصال تعود إلى شرطين آخرين من شروط الحديث الصحيح وهما عدالة الرواة، وضبطهم، فالإسناد المنقطع لم يتحقق فيه هذين الشرطين، فقد يكون الساقط غير عدل وغير ضابط. قال يحيى بن سعيد القطان: ينبغي لكتبة الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال، ويبصر الرجل ــ يعني المحدث ــ ، ثم يتعاهد ذلك منه ــ يعني نطقه ــ يقول: حدثنا أو سمعت أو يرسله.
المسألة الثانية (12):(1/1)
إن المتأمل في عمل المشتغلين في الوقت الحاضر بنقد السنة يرى فيه خللاً في التحقق من شرط الاتصال والانقطاع في دراستهم للأسانيد، وذلك إما لأن القاعدة لم تتحرر عند الباحث كما ينبغي، أو لأنه ذهب إلى خلافها، أو أتي من قبل طرده لبعض القواعد في وقت معارضة قواعد أخرى لها، والأهم من ذلك كله التقصير وعدم الاستقصاء في البحث.
المسألة الثالثة: ينبغي على الباحث وهو يسير في عمله للتحقق من شرط الاتصال أن ينظر في ثلاثة أمور:
الأول: نظره في صفة الرواية للراوي عمن فوقه في الإسناد، وهل قصد الرواية عنه أم لا؟.
الثاني: إذا كان قصد الرواية عنه فهل لقيه وسمع منه؟.
الثالث: إن كان قد لقيه وسمع منه فهل سمع منه هذا الحديث الذي هو موضع دراسته أم لا؟.
الفصل الأول ــ صفة رواية الراوي عمن روى عنه
وفيه مبحثان
المبحث الأول ــ صيغ الأداء ودلالاتها
وفيه ثلاثة مسائل
المسألة الأولى (15):
تنقسم صيغ أداء الراوي للحديث إلى قسمين:-
القسم الأول:
صيغ صريحة في الاتصال، مثل: سمعت فلاناً يقول، أو حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو حدثني فلان أو رأيت فلاناً فقال كذا، ونحو ذلك من العبارات الصريحة، عندها يقيناً نجد الباحث سوف يحكم على الرواية بالاتصال فالرواية بهذه الصيغة الصريحة تفيد ذلك. ومع هذا فإن مجرد وجود مثل هذه الصيغ لا تكفي، فقد تكون الصيغة صريحة ومع هذا فالإسناد منقطع، ومثال ذلك: قد يكون الراوي كذاباً، فإن الكثير منهم يدعي السماع ممن روى عنه ويصرح بالتحديث، وهو لم يسمع منه.
وقد يستخدم بعض الرواة بعض الصيغ الموهمة للسماع وهو لا يقصد ذلك، كقوله: خطبنا فلان، أو جاءنا فلان أو حدثنا فلان وهو يقصد قومه وأهل بلده. ومنها أخطاء الرواة فيبدل الصيغ التي ليس فيها تصريح بأخرى صريحة في اللقي والسماع، ومثله أخطاء النساخ والمطابع.
القسم الثاني (16):(1/2)
أن تأتي الرواية بصيغة محتملة للاتصال وعدمه، وهي كثيرة منها (عن فلان،قال، ذكر، حكى، حدث، الخ) وهذه الصيغ عدا(عن) تستخدم في السماع وعدمه كثيراً، وأم صيغة (عن) فإنما كانت محتملة للأمرين لأنها في الأصل ليست صيغة أداء وإنما هي بدل عن صيغ الأداء، والتعبير بها قد يكون من الراوي نفسه إلا أنه في الأعم الأغلب هو من التلميذ أو من دونه وذلك إما لأن الراوي لم يذكر صيغة أصلاً، أو يكون الشيخ بين تلاميذه فيذكر المتن وهم يذكرون الإسناد أو العكس.
المسألة الثانية (19):
قد يكون الراوي قد ذكر صيغة حين التحديث مبدلة إما صريحة في السماع، أو في الانقطاع أو محتملة للأمرين، والغرض حينئذ من التعبير ب(عن) التخفيف على رواة الحديث وكَتَبته خاصة المقلين منهم والحاملين لحديثهم في الأسفار. والذي يراه الشيخ بعد أن نقل كلاماً للمعلمي: أنها تستخدم بدلاً عن الصيغ الصريحة في الانقطاع مع المدلس وغيره، وأنها تستخدم مع إسقاط راو في وسط الإسناد سواء بقصد التدليس وغيره، وأن من قال: إن الرواة لا يبدلون (عن) إلا من صيغ صريحة في الاتصال أو محتملة لم يحرر قوله هذا جيداً.
المسألة الثالثة (24):
لما كانت هذه الصيغ محتملة للسماع وعدمه، فقد شدد بعض الأئمة فرأوا أن لا يقبل إلا ما فيه تصريح بالتحديث للحكم على الحديث بالاتصال: ومن هؤلاء( الحارث المحاسبي، وعن بعض الظاهرية، وبعض متأخري الفقهاء، وشعبة وغيرهم. قال الشيخ: لا شك أن ما ذهب إليه هؤلاء أكثر احتياطاً للسنة النبوية وأقرب للتثبت فيها، ولكن اشتراط ذلك يؤدي إلى مفسدة أعظم، وهي طرح كثير من السنن، إذْ قد كثر من الرواة عدم التصريح تخففاً خشية طول الإسناد.
المبحث الثاني: الرواية عن الشخص والرواية لقصته
وفيه أربعة مسائل
المسألة الأولى (31):(1/3)
إن أول ما يهتم به الباحث ودارس الاتصال والانقطاع التأمل في صيغة الأداء، هل قصد بها الرواية عن الشخص، أو قصد بها حكاية قصة له، فيكون ذكره في المتن لا في الإسناد.
وحكاية قصة لشخص ما تارة تكون بصيغة ظاهرة في ذلك: كأن يقول الراوي كسعيد بن المسيب جاء أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فمعنى صيغة ظاهرة هنا: أن مثل هذه الصيغ لا تستخدم في الرواية عن الشخص، فلم بقصد سعيد هنا أن يحكي القصة عن أبي بكر وإنما هو يحكي قصة أبي بكر ( عن أي شخص كان).
وتارة تكون الصيغة فيها شيء من الخفاء لكونها تستخدم في الرواية عن الشخص مع تغيير يسير وذلك في صيغة (أن فلاناً) فهذه تستخدم بغرض الرواية عن الشخص إذا قرنت بلفظ(قال، أو ذكر) فيقول الراوي كالأعرج مثلاً: أن أبا هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وتستخدم هذه الصيغة أيضاً في حكاية قصة للشخص، كما إذا قال الأعرج: أن أبا هريرة سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا قصد بها الرواية فهي صيغة من الصيغ المحتملة للسماع وعدمه مثل ( عن وقال وذكر ونحوه) وإذا قصد حكاية القصة فليست صيغة رواية عن الشخص، وإنما هي صيغة لحكاية قصته.
المسألة الثانية (32):
على المعنى الثاني المتقدم، خرج الأئمة المتأخرون كابن المواق وابن رجب والعراقي وابن حجر والسخاوي، تفريق أحمد وابن أبي شيبة والبرديجي بين (عن) و(أن)، فالتفريق بينهما يكون إذا قصد بصيغة (أن) حكاية القصة لا الرواية عن الشخص، ورد هؤلاء الأئمة على من فهم من كلام هؤلاء التفريق مطلقاً، وأن صيغة (أن) محمولة على الانقطاع أبداً.
المسألة الثالثة (36):(1/4)
إن استخدام (عن) في حكاية قصة الشخص لا الرواية عنه أشد خفاء من حكاية قصة للشخص بصيغة(أن)، إذْ ظاهر هذا أنه يروي عنه ويسند سرد الحكاية عنه، فهذا غالب استعمال (عن). والذي يصنع هذا فيما يظهر هو أحد رواة الإسناد بعد راوي القصة، ولاشك أن استبدال صيغة رواية بصيغة أخرى أمر مقبول، ولكن أن تستبدل صيغة حكاية قصة للشخص بصيغة رواية عنه ويسند ذلك إليه ففي هذا الأمر ما فيه!!.
المسألة الرابعة (37):
هناك سبيلان لحمل (عن) على حكاية القصة لا على الرواية:
الأول: أن يعرف ذلك من متن الرواية.
الثاني: يعرف ذلك من جمع الطرق الأخرى للحديث.
قاعدة (41):
أن كل صيغة تبين أن الراوي قصد بها الرواية عن الشخص، أو من حضر قصته، سواء كان بصيغة ظاهرة أو عرف بقرينة في المتن، فإنه يبحث في اتصال الإسناد وانقطاعه بين الراويين، وكل صيغة تبين أن الراوي قصد بها حكاية قصة الشخص فإنه لا يبحث في الاتصال والانقطاع بينهما، وإنما يكون النظر في حاكي القصة هل أدرك زمانها أو لا؟.
الفصل الثاني: سماع الراوي ممن روى عنه
وفيه مبحثان
المبحث الأول: الطريق إلى معرفة سماع الراوي ممن روى عنه
وفيه مسألتان وتنبيهات
المسألة الأولى (51):
للتحقق من سماع الراوي ممن روى عنه ينبغي سلوك إحدى هذه الطرق الثلاث التالية:
الطريقة الأولى: النظر في ترجمة الراويين في كتب الجرح والتعديل للوقوف على أنه يروي عنه، فإن وجد في الترجمتين أو إحداهما أنه يروي عنه حكم بالاتصال بينهما، وإلا توقف.
تنبيهات:(1/5)
1ــ صار كتاب تهذيب الكمال للمزي محط اعتماد الباحثين، فترى الكثير منهم يستدل على الاتصال بين راوٍ وآخر بعمل المزي في تهذيبه على إثبات السماع حيث ذكر في ترجمته أنه يروي عنه أو العكس، كما يستدل بعضهم على الحكم بالانقطاع بينهما أو بأن فلاناً ليست له رواية عن فلان بعدم ذكر المزي لذلك، والحق أن المزي وغيره لم يستوعبوا جميع من روى عن المترجم له، أو روى عنه المترجم له، عندها لا يصح الحكم بالانقطاع بمجرد أن المزي وبعده مغلطاي لم يذكرا أحد الراويين في ترجمة الآخر.
2ــ (54): جرت عادت الأئمة التعبير بالرواية عن الشخص ولا يريدون إثبات السماع وكذا قولهم حدث عن فلان و حدث عنه فلان، فهم يطلقونها ويريدون بهما التحديث عنه بواسطة، وعندها جعل صنيع المزي موافقاً لما عليه الأئمة، وأنه يريد مجرد الرواية سواء كانت متصلة أو منقطعة أولى وأحسن، وذكر أمر الرواية ليس دليلاً على الاتصال وإنما ينبغي جعله قرينة عليه..
الطريقة الثانية (59): ينبغي الاستفادة من كلام أئمة النقد في سماع بعض الرواة ممن رووا عنه نفياً وإثباتاً، فقد تكلموا في هذا كثيراً وتصدى بعضهم للتأليف في هذا، كما أن كلامهم منثور في كتب الرجال والتراجم والتواريخ والعلل والسؤالات.
وهنا تنبيهان أيضاً:-
التنبيه الأول (61):
ينبغي أن يستفيد الباحث من الكلمات المجملة التي تأتي عن الأئمة ــ حين يفقد النص عنهم ــ في سماع راو من آخر أو نفيه، ومثاله قول ابن معين عندما سئل عن محمد بن إبراهيم بن الحارث هل لقي أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: لا، لم أسمعه، فعلى هذا فكل ما يأتي عن محمد من روايته عن أحد الصحابة فهو منقطع.
التنبيه الثاني (63):
على الباحث إذا لم يجد نصاً لإمام يستفيد منه في إثبات أو نفي السماع لراو ممن روى عنه، فبإمكانه سلوك طريق التخريج على أقوال النقاد، ولهذه الطريقة صورتان:(1/6)
الصورة الأولى: أن يعرف أن راوياً لم يدرك آخر ولم يسمع منه فمن باب أولى أن لا يدرك من مات قبله. فقد سأل أبو طالب أحمد عن سماع محمد بن علي من أم سلمة؟ فقال: لا يصح أنه سمع ثم سأله عن سماعه من عائشة فقال: لا ماتت عائشة قبل أم سلمة.
الصورة الثانية (66): (عكس الأولى) وهي أن يعلم أن شخصاً لم يدرك آخر فيستدل بذلك على أن من هو أصغر منه لم يدركه من باب أولى.كما في قول شعبة: كان أبو إسحاق أكبر من أبي البختري، ولم يدرك أبو البختري علياً ولم يره، ومراده أن أبا البختري لم يدرك علياً، بدلالة أن أبا إسحاق ــ وهو أكبر منه ــ لم يدركه.
تنبيه (66):
على الباحث في حالة إجماع النقاد أو اختلافهم في سماع راو من آخر أو نفيه، ضرورة التسليم لهم في أحكامهم، كما هو الحال في باقي قضايا هذا الفن، كما ينبغي عليه تجنب الاعتراض عليهم.
الطريقة الثالثة (74): النظر في دلائل ثبوت السماع أو نفيه، فقد بذل الأئمة جهوداً كبيرة جداً في سبيل معرفة سماع الراوي ممن روى عنه وسخروا من أجل ذلك جميع ما يلزم من سائل تعينه من نظر في الطرق وتتبع لسير الرواة ورحلاتهم وولادتهم ووفاتهم وكيفية رواية الراوي عن شخص بعينه وغير ذلك، فالغرض الأول من هذه الجهود معرفة من أدرك ممن لم يدرك من التلاميذ لشيوخهم.
تنبيه (74): هناك صعوبات قد تواجه الباحث في معرفة إدراك الراوي لمن روى عنه، ومكمنها: أن ولادة وفاة من روى عنه لم يتفق عليها، فهنا ينبغي معرفة الراجح من الأقوال المختلفة، أو أن الأئمة لم يذكروا على وجه التحديد ولادة الراوي أو وفاته، فالاستعانة بكتب الطبقات مفيد في معرفة ذلك، لكن يبقى هناك إشكال من حيث أن هذا الراوي ذكر في هذه الطبقة المعينة بناءً على رواية جاءت عنه وقد تكون هي التي بين يدي الباحث.
المسألة الثانية (77):
هناك قرائن ودلائل تستخدم في ترجيح أو نفي السماع بعد ترجيح الإدراك والمعاصرة وهذه بعض أهمها:(1/7)
1ــ اختلاف مكان الراويين ولا رحلة لأحدهما إلى مكان الآخر حال وجوده وحياته، وتتأكد هذه القرينة مع صغر سن الراوي حين وفاة من روى عنه.
2 ـــ إدخال الواسطة، بمعنى أن يروي الراوي عن شخص ثم يروي عنه بواسطة، فإن الأئمة استدلوا بها كثيراً على عدم السماع.
3 ـــ أن يكون الراوي كثير الإرسال، وقد عرف بذلك جماعة من الرواة، فلابد من اعتبار حاله عند الترجيح، ويلتحق به من كان من بلد عرف أهله بكثرة الإرسال، كما توارد عن أهل الشام وصف الأئمة لهم بذلك.
4 ـــ أن يروي الراوي عن الشخص أحاديث كثيرة، ولا يذكر في واحد منها سماعاً أو ما يدل عليه، فالأئمة يستدلون بذلك على أنه لم يسمع منه.
تنبيه (86): إن الغرض من جمع دلائل إثبات السماع أو نفيه وإبرازها للباحث هو الموازنة بين أقوال العلماء عند الاختلاف أو في حال عدم الوقوف على قول لهم، لا إعادة النظر في أحكام الأئمة.
المبحث الثاني: اشتراط العلم بالسماع في الإسناد المعنعن
وفيه ثلاثة مسائل وتنبيهات
المسألة الأولى (95):
تعتبر مقدمة مسلم لصحيحه من أوائل ما دون في علوم الحديث وقواعده، لكن لمسلم كلام أثار إشكالاً وجدلاً عريضاً، منها تصويره للإسناد المعنعن بقوله: كل إسناد لحديث فيه: فلان عن فلان وقد أحاط العلم بأنهما كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به، غير أنه لا نعلم منه سماعاً ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث.
المسألة الثانية (98):
إن المتأمل فيما كتب بعد مسلم حول هذه المسألة يرى أن الأئمة والباحثين على أربعة أقسام:
الأول: جماعة من الأئمة خالفوا مسلماً في القول الذي اختاره، ورجحوا أن الإسناد في هذه الحالة غير متصل، وخالفوه في دعوى الإجماع، وبينوا أن منهج أئمة النقد قبل مسلم على عدم الاكتفاء بإمكان اللقي.(1/8)
الثاني: هناك من سلم لمسلم أن الحكم بالاتصال في هذه الحالة، هو قول الجمهور، لكنه اختار القول المخالف الذي شنع مسلم على قائله، وهو عدم ثبوت الاتصال.
الثالث: من وافق مسلماً على ما ذهب إليه من الحكم بالاتصال، ونصر قوله، فالبعض جعل الاختلاف بيم مسلم وجمهور الأئمة، والبعض الآخر جعل قول مسلم هو قول الجمهور، والمخالف هو البخاري.
الرابع: جمع من الباحثين ذهب إلى أن ما ذكره مسلم من الإجماع على الاكتفاء بإمكان اللقي صحيح، والمخالف الذي يعنيه مسلم ليس من أهل الحديث.
وقد رجح الشيخ القول الأول من حيث أنه أقرب الأقوال إلى الصواب، وأبعدها هو الأخير منها.
المسألة الثالثة (102):
إن نصوص الأئمة الدالة على اشتراط العلم بالسماع تنقسم في الجملة إلى أربعة أقسام:-
الأول: ما يفيد تفتيشهم عن السماع مع غير المدلس حتى مع ثبوت سماعه ممن روى عنه، وهذا ينقض قول من يقول إنهم لا يفتشون عن السماع إلا مع المدلس، فمن هذه النصوص توقيفهم لشيوخهم على السماع، وربما وصل بهم الأمر إلى تحليف شيوخهم.
الثاني: ما فيه إثبات السماع أو اللقي لوجود التصريح به أو نفي ذلك لعدم وجوده، كقول يحيى القطان عندما سئل: هل سمع زرارة بن أوفى من ابن عباس؟ فقال: ليس فيها شيء: سمعت.
الثالث (112): ما فيه إثبات إدراك الراوي من روى عنه مع نفي سماعه منه، وفوق ذلك أن يثبتوا رؤيته له أو دخوله عليه، وينفوا سماعه منه، كقول شعبة: قد أدرك رفيع أبو العالية علي بن أبي طالب، ولم يسمع منه شيئاً.
الرابع: ما جاء عنهم في نفي السماع دون النص على الإدراك لكن يعرف ذلك وأن اللقاء بينهما ممكن من ترجمتي الراويين، كقول مالك: لم يسمع سعيد بن المسيب من زيد بن ثابت.
ونصوص الأئمة هذه يمكن الاعتراض عليها ــ كما قال الشيخ ــ، فقد ذكر الاعتراضات وأجاب عليها.
تنبيهات للشيخ مهمة(141):(1/9)
الأول: مناقشة ابن القطان ومن تابعه في أن ابن المديني والبخاري إذا لم يعلما لقاء الراوي للآخر لا يقولان إنه منقطع، إنما يقولان: لم يثبت سماع فلان من فلان
الثاني (144): هناك الكثير من الباحثين في كلامهم النظري وفي أحكامهم التطبيقية حين النظر في إسناد ما، يأسرهم في تعاملهم مع قضية الإسناد المعنعن بين متعاصرين لم يعلم اللقاء بينهما استبعاد أن يكون الراوي قد أدرك من حياة من روى عنه قدراً كافياً للسماع منه، خاصة أنهما من بلد واحد .. والخطأ الذي يقع فيه هؤلاء هو توحيد نمط الرواية والبحث عنها في جميع العصور ففي أذهان كثير من الباحثين أن الرواة في العصور الأولى للراوية كان شأنهم كشأن الرواة في العصور المتلاحقة بعد اتساع الرواية وانتشارها وتميزها واعتنائهم بالرحلة وبالعلو والتبكير بالسماع وغير ذلك ولأمر ليس كذلك قطعاً فقد كان الرواة ينقلون المرويات في العصور الأولى بعفوية في الغالب، فينبغي معرفة الرواية في العصور الأولى المتقدمة، وما يستفاد من هذه المعرفة فيما يتعلق بقضية السماع.
الثالث (150): إغفال من يذهب مذهب مسلم من الأئمة والباحثين عن تطبيق شروط مسلم في الإسناد المعنعن، فمسلم كان دقيقاً جداً حين حرر محل النزاع، وأنه في راوية راو توافر فيها عدة شروط، ككونه ثقة، وغير مدلس وقد عاصر من روى عنه، وأمكن له لقاؤه والسماع منه ولم يثبت ذلك صريحاً ولم يكن هناك دلالة بينة على أنه لم يلقه أو يسمع منه. وهذه شروط محكمة جداً تضيق دائرة الخلاف بين مسلم ومخالف، فإذا لم تتوافر الشروط أو بعضها فإن مسلماً لا يثبت السماع ولا يحكم بالاتصال.(1/10)
الرابع (158): ضرورة التزام الباحث المذهب الذي أختاره في مسألة الإسناد المعنعن تحاشياً للاضطراب من جهة التنظير أو التطبيق، وتحاشياً للتلفيق بين قولين مختلفين عند التطبيق، وذلك بأن يبحث عن كلام الأئمة في سماع راو من آخر فإذا وجد قولاً لإمام بنفي السماع أعمله، وإن لم يجد لجأ إلى قول مسلم فطبقه، مع أن نفي الإمام للسماع بناه عل عدم وجود السماع، فهو متصل على رأي مسلم، وتطبيقه لرأي مسلم فيما إذا لم يجد نفياً للسماع يناقض أخذه بقول الإمام الذي نفى السماع لكونه لم يرد، مع أنه ممكن. وع أن الصنيع أسلم في النهاية إذْ هو تطبيق للرأي الراجح ــ رأي الجمهورـ على عدد غير قليل من المرويات ، وفيه احترام لأقوال أئمة النقد وتسليم لهم وبعد عن معارضتهم ــ إلا أنه من الناحية العلمية البحتة تناقض، لا ينفك الباحث عنه إلا بطرد الرأي الذي أختاره.
الفصل الثالث: التدليس
وفيه تمهيد وستة مباحث
تنبيه (171):
على الباحث بعد فراغه من دراسة سماع الراوي ممن فوقه فإنه سيحكم عليه بالانقطاع إذا لم يثبت السماع، فإن ثبت السماع فيبقى عليه البحث في أمر آخر قبل أن يحكم بالاتصال هو سماعه لذلك الحديث بعينه، فإن بعض الرواة وإن كان قد سمع من شيخه إلا أنه يروي عنه شيئاً لم يسمعه منه ويسقط الواسطة بينه وبين شيخه بفعل ذلك على سبيل التدليس. وقد بذل أئمة الحديث جهوداً مضنية في مكافحة التدليس بأنواعه والكشف عنه والتشنيع عليه، فجهودهم هذه تأتي على رأس ما بذلوه من جهد في عموم نقد السنة وتمييز صحيحها من ضعيفها، فالكشف عن التدليس كان يحتاج إلى دقة وشدة تتبع، وهذه الحملة العنيفة عليه قد آتت ثمارها في الحد من وقوعه ، لكنها لم تقضي عليه، فقد ارتكبه جماعة من الرواة وفيهم أئمة فضلاء.
المبحث الأول: التدليس والإرسال
وفيه تنبيهان وأربعة مسائل(1/11)
تنبيه (177): تدليس الإسقاط نوع من الإرسال، إذْ الإرسال في اصطلاح المتقدمين يشمل كل انقطاع في الإسناد أياً كان موضعه، فكل تدليس إرسال، لكن هل كل إرسال يعد تدليس؟
المسألة الأولى:
إذا أرسل الراوي عن الشخص وروى عنه ما لم يسمع منه فلا يخلو الأمر من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون لم يدرك زمانه.
الحالة الثانية: أن يكون قد أدرك زمانه وعاصره لكنه لم يسمع منه.
الحالة الثالثة: أن يكون لقيه وسمع منه لكن هذا الحديث بعينه لم يسمعه منه، أو تلك الأحاديث بعينها لم يسمعها منه.
فأما النوع الأول فقد ذهب ابن عبدالبر إلى أن قوماً ذهبوا إلى أنه تدليس، وكذا وجد في كلام ابن حبان، وعلى هذا مشى الذهبي في تعريف التدليس فقال: ما رواه الرجل عن آخر ولم يسمعه منه أو لم يدركه، وقال في ترجمة أبي قلابة: ثقة في نفسه إلا أنه يدلس عمن لحقهم ومن لم يلحقهم وكان له صحف يحدث منها وكان يدلس، لكن الجمهور ذهبوا على انه إرسال فقط، قال ابن عبدالبر: وعلى القول الأول فما سلم من التدليس أحد لا مالك ولا غيره، سوى شعبة ويحيى القطان.ونصوص الجمهور في هذا وأن رواية الراوي عمن لم يدركه لا تعد تدليساً قول أبي حاتم في أبي قلابة عبدالله بن زيد: لا يعرف له تدليس، مع أن أبا قلابة قد روى عن أناس لم يدركهم، فتفسير ذلك أن يكون حيث عرف واشتهر أنه لم يلقهم، فحينئذ لا إيهام في روايته وعليه فلا تدليس، ويحتمل أن أبا حاتم أراد أنه لا يتعمد الإسقاط لكنه يحفظ شيئاً عن الصحابة فيرويه عنهم غير مستحضر لمن حدثه. فهذا النوع لا إشكال فيه إذْاً في عدم دخوله في التدليس إلا على سبيل التوسع كما نقله ابن عبدالبر وغيره.(1/12)
أما النوع الثالث ــ وهو الإرسال عمن سمع منه...ـــ فلا إشكال في دخوله في التدليس، فكل من عرَّف التدليس أدخله فيه، وهو موجود بكثرة في استعمال أئمة النقد، قال أحمد: كان أبو حُرَّة صاحب تدليس عن الحسن إلا أن يحيى القطان روى عنه ثلاثة أحاديث يقول في بعضها: حدثنا الحسن.
المسألة الثانية (180):
هل تدخل رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه في التدليس أم لا؟ وهذه المسألة فيها عدة أمور:
الأمر الأول:
عرف ابن الصلاح التدليس بقوله: هو أن يروي عمن لقيه مالم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه، أو من عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه. فأدخل ابن الصلاح هذا النوع في التدليس وهو يحكي بذلك اصطلاح أهل الحديث.
الأمر الثاني:
ذكر العراقي أن غير واحد من الحفاظ أخرجوا هذا النوع من التدليس، وخصوه وحصروه ــ أي التدليس ــ بالنوع الثالث فقط، وهو رواية الراوي عمن لقيه وسمع منه مالم يسمعه منه، وتعقب ابن حجر شيخه العراقي وذكر أن الصواب رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه ليس بتدليس وإنما هو إرسال خفي.
الأمر الثالث:
قال ابن حجر: ويدل على أن اعتبار اللقي في التدليس دون المعاصرة وحدها لابد منه إطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبيل الإرسال لا من التدليس، ولو كان مجرد المعاصرة يكتفى به في التدليس لكان هؤلاء مدلسين، لأنهم عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - قطعاً، لكن لم يعرف هل لقوه أم لا؟
الأمر الرابع:(1/13)
قال الشيخ: وقد سبق ابن حجر إلى تخصيص التدليس برواية الراوي عن شيخه لم يسمعه منه ابن رشيد والعلائي، وقال أيضاً: والدليل الذي ذكره ابن حجر لتخصيص التدليس بهذه الصورة غير ناهض، فإنها موجودة أيضاً في بعض روايات الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كابن عباس وأبي هريرة وغيرهما، فإنهم يروون عنه مالم يسمعوه منه ولم يسم العلماء ذلك تدليساً، وإن سماه بعضهم بذلك، كما أن ابن حجر فسر مسلك العلماء هذا أنه تأدب مع الصحابة.فإن كان ذلك كذلك فلم لا يفسر بهذا عدم إطلاقهم التدليس على رواية المخضرمين وأنه تأدب معهم.
الأمر الخامس:
وقال أيضاً: إن عدم إطلاق التدليس على صنيع الصحابة وعلى صنيع المخضرمين، أن من شرط التدليس أن يكون بغرض إخفاء عيب في الإسناد، ولم يكن غرض أولئك هذا، وإنما كان غرضهم التخفيف، فلما انتشر قصد إخفاء عيب في الإسناد عند من بعدهم سمي عملهم كله تدليساً، وإن لم يتحقق وجود ها الغرض أحياناً.
الأمر السادس:
إن جزم ابن حجر بأن الصواب أن رواية الراوي عم عاصره ولم يسمع منه ليس بتدليس ــ إن كان يعني تصويب ذلك من جهة النظر والاجتهاد فهذا شأن، لكن القضية في اصطلاح الأئمة، فإن كانوا يطلقون على هذا تدليساً لم يكن للتصويب هنا كبير فائدة، إذْ هو لا يغير من الواقع شيئاً فهو اصطلاح قد مضى وانتهى فلا يمكن تغييره، فالقاعدة التي ينبغي أن تستقر في أذهان الدارسين هي [ أن اختيار المتأخر لرأي ما في قضية ما لا يلغي ما تقدم مادام موجوداً في اصطلاحهم].
الأمر السابع:(1/14)
عدَّ يعقوب بن شيبة رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه أشد تدليساً من روايته عمن سمع منه مالم يسمع منه: فقال: التدليس: جماعة من المحدثين لا يرون به بأساً، وكرهه جماعة منهم ونحن نكره، ومن رأى التدليس منهم فإنما يجوزه عن الرجل الذي قد سمع منه ويسمع من غيره عنه مالم يسمعه منه، فيدلسه، يري أنه قد سمعه منه، ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة، فأما من دلس عن غير ثقة وعمن لم يسمع هو منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص العلماء.
المسألة الثالثة (189):
هناك آثار ترتبت على ما ترسخ في أذهان الباحثين من تفريق ابن حجر بين التدليس والإرسال الخفي منها: رأي ابن حجر ــ باعتبار تأخر عصره وتحريره لمصطلحات أهل الحديث على طريقة التعاريف ــ هو المشهور في كتب المصطلح المتأخرة بعده أنه الراجح، فإذا رجحه الباحث فلابد أن يستحضر القاعدة المتضمنة أن هذا الترجيح لا يلغي استخدام الأئمة بحال، فإذا وقف الباحث على كلمة لأحد الأئمة يصف فيها شخصاً بالتدليس عن شخص لم يسمع منه فلا يعد هذا تناقضاً، لأنه اختار أن التدليس من شرطه أن يكون عمن سمع منه، فهم سائرون على اصطلاحهم، فلا تناقض.
يجوز أن نجعل وصف إمام لراوٍ بالتدليس عن شخص إثباتاً لسماعه منه، بناءً على ترجيح ابن حجر لمعنى التدليس، وهو رواية الراوي عمن سمع منه مالم يسمع منه، فقد اتضح بجلاء أن الأئمة يطلقون التدليس أيضاً على رواية المعاصر الذي لم يسمع ممن روى عنه.
تنبيه (192): من وصفه الأئمة بالتدليس عمن لم يسمع منه فلا يبحث عن تدليسه في ذلك الحديث بعينه، فهو لم يسمع منه أصلاً، وإنما يطبق عليه قواعد الانقطاع.
المسألة الرابعة (195):
من ثبت ارتكابه لإحدى صورتي التدليس، هل يعطى حكم المدلس في الصورة الأخرى؟ بمعنى إذا وصف شخص بالتدليس عمن عاصره ولم يسمع منه، هل تقبل روايته عمن سمع منه مطلقاً وإن لم يصرح بالتحديث؟.(1/15)
إن أول من أشار إلى ذلك ابن حجر في النكت حين ذكر المرتبة الأولى من مراتب المدلسين وهم الذين وصفوا بالتدليس على الندرة قال: "والغالب أن إطلاق من أطلق ذلك عليهم تجوز من الإرسال إلى التدليس". وأطلق عليه تجوزاً لأنه رجح أن التدليس خاص بمن روى عمن سمع منه شيئاً لم يسمعه منه.
والذي يراه الشيخ أن من عرف بالتدليس واشتهر به في الصورتين أو إحداهما أخذ حكم المدلس بصفة عامة وذلك لسببين:
1ــ من العسير جداً بالنسبة للمعروفين بالتدليس إثبات أن ذلك المدلس لا يرتكب سوى التدليس الذي هو الرواية عن معاصر لم يسمع منه.
2ــ كلام الأئمة في حكم رواية المدلس ليس فيه التفصيل المذكور، فمن ذكر منهم حكم رواية المدلس ذكره بإطلاق، ولم يفرق بين تدليس وتدليس، ويتأكد ذلك إذا عرفنا أن إطلاق التدليس على من روى عمن عاصره ولم يسمع، منه مشتهر عندهم جداً، وإذا كان المر كذلك فالأصل أن نَبقى على هذا حتى يقوم دليل قوي خلافه.
المبحث الثاني: التدليس وصورة التدليس
وفيه أربعة مسائل وتوصية
المسألة الأولى(203):
هل يصح للمتأخر إذا وقف على راوٍ ورد عنه ارتكاب صورة التدليس وصفة بذلك وإن لم يفعله المتقدمون؟ ويجاب عن هذه المسألة بالآتي:-
أولاً: إذا كان الجواب بالإيجاب فلا شك أن الغرض منه هو أن يأخذ الراوي حكم المدلسين، وإن كان الجواب بالنفي فهل المقصود منع إطلاق التسمية فقط، مع أخذ الراوي حكم المدلسين أو المنع منهما جميعاً؟.
ثانياً: ظاهر صنيع الأئمة المتأخرين يدل على أنهم يذهبون إلى أن العبرة بورود صورة التدليس عن الراوي وإن لم يوصف بذلك من أحد ممن تقدم، فقد أطلقوا هذا الوصف على جماعة من الرواة غير مسبوقين بذلك، كما صنع ابن الجوزي والذهبي والهيثمي.(1/16)
ثالثاً: على هذا المنوال سار ابن حجر حين جمع أسماء المدلسين في كتاب مستقل " تعريف أهل .." إلا أنه توسع في ذلك فنحا منحى الجمع والاستقصاء ولتعلق بأدنى سبب، فبلغ عدد الذين ذكرهم في كتابه مائة واثنين وخمسين راوياً.
رابعاً: أثبت ابن حجر في كتابه من رمي بالتدليس من قبل إمام أو أكثر من أئمة هذا الشأن المتقدمين، كما أثبت فيه من وصفه أحد الأئمة المتأخرين ، وذكر فيه أيضاً جماعة اعتمد في ذكرهم على مجيء صورة التدليس في رواياتهم دون أن ينقل عن أحد وصفهم بذلك. كما ذكر فيه من وجدت منه صورة التدليس ولو في حديث واحد، وذكر فيه من لم يثبت عنه التدليس كأبي داود الطيالسي، كما أنه أثبت فيه من جَرَّب التدليس ثم رجع عنه كيزيد بن هارون، وأثبت فيه أيضاً من يدلس تدليس الشيوخ فلا يسقط أحداً.
خامساً: ما سار عليه ابن حجر في كتابه من الاكتفاء بوجود صورة التدليس في روايات الراوي كافٍ للحكم عليه بذلك، وهذا يوافق تعليله عدم وصف الجمهور للصحابة الذين وقع منهم ذلك بالتدليس، فإنه علل ذلك بأنه تأدب معهم، فكأنه يقرر أن هذا العمل تدليس فما يوجد من الرواة بعدهم من باب أولى أنه تدليس، فما المانع من إطلاق الوصف حينئذ؟.
سادساً: بعد ابن حجر تبارى عدد من الباحثين في الاستدراك عليه سائرين على منهجه، فاستدرك أحدهم ثمانين راوياً حتى أن بعضهم استدرك ابن حجر ضمن الرواة المدلسين. وحجة هؤلاء الأئمة ومن تابعهم ظاهرة، خلاصتها أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فمتى وجدت صورة التدليس فهو تدليس، وكونه لم يرد عن المتقدمين لا تأثير له، مع احتمال أن يكونوا قد وصفوا بذلك ولم يبلغنا كلامهم.(1/17)
سابعاً: هذا التوسع في الوصف بالتدليس من هؤلاء الأئمة لا سيما ابن حجر قد ولَّد ردة فعل قوية لدى باحثين آخرين، فصاروا يعيدون النظر في عمل من قبلهم، فبرز رأيهم في هذه المسألة وتوارد عدد منهم على القول بأن من لم يوصف بالتدليس من أحد من الأئمة ــ وإن وجد في رواياته ــ لا ينبغي أن يوصف بالتدليس،وعليه فلا يأخذ حكم المدلسين، قال أحد الباحثين: من لم يصفه أحد أئمة الجرح والتعديل بالتدليس فلا ينبغي أن يوصف بذلك، فإن بعض الرواة يقع فيما يروونه ما يتطابق مع تعريف التدليس ، ولم نجد من الأئمة من وصفهم ..، فلا يجوز لأحد أن يصف راوياً بالتدليس إلا من وصفه الأئمة من أهل الحديث بالتدليس.
ثامناً: إن الحجة لهذا القول ــ الوقوف عند من رماهم الأئمة بالتدليس ــ ترجع في جملتها إلى أننا متبعون لأئمة هذا الفن في كل شيء فكما نتبعهم في جرح الراوي وتعديله فكذلك نتبعهم في أحكامهم الأخرى على الراوي، بل إن الوصف بالتدليس نوع جرح في الراوي.
تاسعاً: إن أئمة هذا الفن مع ذمهم للتدليس والمدلسين لم يستحبوا في بادئ الأمر التنويه بمن وصف بالتدليس صراحة لوقوعه من أئمة كبار وممن دارت عليهم الراوية، فكره الإمام أحمد وجماعة صنيع الكرابيسي حين وضع كتاباً ذكر في أسامي المدلسين، وذموه لما فيه من الطعن عليهم وغمزهم، على أن بعض أئمة الحديث قد صنف في المدلسين مع الذب عنهم وكان غرضهم من ذلك صحيحاً، إذْ قصدوا حفظ السنة وصيانتها.
وفي أحايين كثيرة يكون الرمي بالتدليس من قبل الأئمة قصد به المنافحة عن الراوي وذلك بتبرئته من أحاديث منكرة يرويها فيدفعون عنه تعمد الكذب أو الغلط.
وأخيراً: إن وصف الراوي بالتدليس ليس بالمر الهيِّن، سواء بالنسبة لشخصه أو لما يترتب على ذلك من إعطائه حكم المدلسين.
المسألة الثانية (214):
أسباب الإرسال عند الصحابة - رضي الله عنهم - :-(1/18)
1ــ أن يكونوا فعلوا ذلك اعتماداً على عدالة جميعهم فالمخوف في الإرسال قد أمن.
2ــ أنهم قد يكونوا قد أتوا بلفظ: قال، أو عن، ولفظ: قال أظهر إذْ هو مهيع الكلام قبل أن يغلب العرف في استعمالهما للاتصال.
3ــ أن يكونوا فعلوا ذلك عند حصول قرينة مفعمة للإرسال، مع تحقق سلامة أغراضهم وارتفاعهم من مقاصد المدلسين وأغراضهم.
4ـــ أن يكونوا قد أتوا بلفظ مفهم لذلك، فاختصره من بعدهم لثقة جميعهم.
المسألة الثالثة (215):
( قصد الإيهام ) في صنيع الراوي حتى يعد مدلساً قد ورد في كلام أئمة متقدمين، لكن هل قصد الإيهام يفهم من مجرد صيغة الرواية، وذلك بأن تكون محتملة للسماع وعدمه أو هو أمر زائد؟ ظاهر صنيع كثير من الأئمة المتأخرين وغيرهم من الباحثين ممن جمع أسماء المدلسين أن الإيهام يقع بمجرد صيغة الرواية، ولهذا ذكروا في المداسين من وجدت منه صورة التدليس، وإن لم ينص إمام من أهل هذا الشأن على وصفه بذلك، ثم إن كلام ابن رشيد ظاهر في أن الإيهام أمر زائد على مجرد الصيغة.
المسألة الرابعة (221):
لا ينبغي حين البحث عن وصف الأئمة لراوٍ بالتدليس الجمود على هذه الكلمة وما اشتق منها، فهناك ألفاظ استعملها النقاد في الراوي بالتدليس ليست بلفظ التدليس، كقول أحمد في مغيرة بن مقسم: عامة حديثه عب إبراهيم مدخول ، عامة ما روى عن إبراهيم إنما سمعه من حماد، ومن يزيد بن الوليد..وقال العجلي كان يرسل الحديث عن إبراهيم، فإذا وقف أخبرهم ممن سمعه. فهذا هو التدليس وإن لم يصرحا به، فهو وقول من وصفه بالتدليس شيء واحد، قال فضيل بن غزوان فيه: كان يدلس وكنا لا نكتب عنه إلا ما قال حدثنا إبراهيم.
توصية (225):(1/19)
على الباحثين أن يكونوا شديدي التنقيب والبحث وأن لا يكتفي بما جمعه غيره، فلهم كلام كثير لا يزال مفرقاً، كما يوصى بالعناية بكلام الأئمة في الرواة، والتثبت فيما ينقل عنهم من وصف راوٍ بالتدليس، وعدم فهم كلام الناقد على غير وجهه وتحميله ما لا يحتمل لوصف الراوي بالتدليس.كذلك التحقق من ثبوت التدليس.
المبحث الثالث: التدليس والنص على السماع أو نفيه
وفيه أربعة مسائل
المسألة الأولى (235):
إن البحث في السماع بابه واحد، فمتى وقفنا على النص من المدلس أنه سمع الحديث المعين من شيخه أو تلك الأحاديث، أو نص على عدم السماع خرج الأمر عن موضوع التدليس، فيجزم هنا بأن الراوي قد سمع، إن كان النص على السماع، ومثاله ما رواه ابن المبارك قال: قلت لإسماعيل بن أبي خالد: سمعت من زر بن حبيش غير هذا الحديث ــ حديث ليلة القدر ــ؟ قال: لا.أو أنه لم يسمع.
وإن كان النص على عدم السماع، ومثاله ما رواه شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر قال: كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ــ يعني العزل ــ، قال شعبة: فقلت: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا. وربما أتى عن المدلس بيان أنه لم يسمع جملة من الحديث ممن رواه عنه وأنه سمع تلك الجملة بواسطة.
المسألة الثانية (243):
ومثل ما تقدم يقال فيما لو جاء النص على السماع، ومثاله: قول أحمد: سمع عمرو بن دينار من ابن عباس ستة أشياء.. وذكرها. أو عدمه من النقاد ــ كقول يحيى القطان: لم يسمع ابن جريج من مجاهد إلا حديثاًـ، فالواجب الوقوف مع كلامهم، وكذلك إذا جاء من واحد منهم ولم نقف على معارض له.
والأئمة النقاد كما اشتغلوا بالبحث في أصل سماع الراوي ممن يروي عنه اشتغلوا كذلك في الأحاديث نفسها، وتمييز ما سمعه الراوي مما لم يسمعه وبذلوا في سبيل ذلك جهداً كبيراً، لا يقل عنا بذلوه في البحث عن أصل سماع الراوي ممن روى عنه.
المسألة الثالثة (248):(1/20)
قد يقع اختلاف بين الأئمة في عد ما سمعه الراوي المدلس من شيخه الذي لقيه وفي تعيينها، سبب ذلك:
1ــ وقوف إمام على مالم يقف عليه غيره.
2ــ أو تصحيح إمام لتصريح بالتحديث وتوقف غيره فيه.
3ــ أو عدّ بعض الأئمة الحديث الواحد حديثين لاشتماله عليهما.
4ــ أو يكون بعضهم قصد بالحديث أي من المرفوع وغيره عدّ ما هو موقوف أيضاً. وقد يأتي الاختلاف عن الإمام الواحد أيضاً.
المسألة الرابعة (258):
استفادة الباحث من كلام الأئمة إنما يكون في حالة النص على الأحاديث سمعها المدلس من شيخه، لا ذكر عددها فقط من غير نص، ذلك أن كثيراً مما ورد عنهم فيه عددها دون النص عليها، فالفائدة حينئذ محدودة، إذْ كل حديث ورد بصيغة محتملة يحتمل أن يكون من العدد الذي سمعه ويحتمل ضد ذلك، اللهم إلا في حالات معينة يمكن الاستفادة من كلامهم فيها وإن لم ينصوا على الأحاديث المسموعة أو غير المسموعة، كأن يذكروا صفة للأحاديث التي سمعها فيكون ما عداها غير مسموع، أو كأن يذكر الإمام أن المدلس سمع من شيخه حديثاً، ثم يوقف له على تصريح بالسماع في حديث مما روي عنه فيغلب على الظن أن ذلك الحديث هو الذي عناه الإمام وأن ما عداه ليس من مسموعه عنه.
المبحث الرابع: التدليس والتصريح بالتحديث
وفيه أربعة مسائل (263)
المسألة الأولى:(1/21)
1ــ اتفاق الأئمة على قبول رواية المدلس إذا صرح بالتحديث؛ فالمدلس إذا روى حديثاً بصيغة صريحة في السماع والاتصال، مثل: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، ونحو ذلك، فالقاعدة العامة فيها أن المدلس يلتحق بغيره ممن لم يوصف بالتدليس، إذْ خرج بها عن كونه مدلساً، ولا يعرف عن أحد من المحدثين بعينه أنه ذهب إلى رد رواية المدلس بسبب تدليسه وإن صح بالسماع، وإنما يذكر ذلك عن بعض الأصوليين، وخص بعضهم الرد بمن يسقط الضعفاء والمجهولين فإن روايته مردودة وإن صرح بالتحديث.2ــ رد رواية المدلس لا يدخل في باب الاتصال والانقطاع وإنما هو من باب جرح الراوي والقدح في عدالته لارتكابه هذا الفعل، ولما فيه من الغش والخداع. 3ــ الذي عليه أئمة الحديث أن التدليس ضرب من الإيهام وليس بكذب يجرح به الراوي في عدالته، وقد فعله أئمة كبار، فإذا صرح بالتحديث قبلت روايته.
المسألة الثانية (264):
أثر التدليس على حديث الراوي وإن صرح بالتحديث.
إن كون التدليس غير مؤثر في عدالة الراوي وفي قبول روايته إذا صرح بالتحديث ليس معناه أنه لا تأثير للتدليس مطلقاً على روايات الراوي بصفة عامة، فالتدليس له تأثير وأيما تأثير، وتختلف درجته بحسب إكثار الراوي من التدليس وإقلاله منه وبحسب نوع التدليس الذي يرتكبه والرواة الذين يسقطهم، والهم من ذلك حفظ الراوي وضبطه. فلا تأثير للتدليس يذكر على من فعله من الأئمة الحفاظ الأثبات كالأعمش وهشيم وابن جريج إذا صرحوا بالتحديث. وفي مقابلهم جماعة من الرواة في حفظهم شيء في الأصل ثم ارتكبوا التدليس بكثرة وقد يصاحب ذلك الإكثار من التدليس عن الضعفاء والمجاهيل فعاد هذا على جملة رواياتهم بالضعف وإن صرحوا بالتحديث، إذْ يخشى أن يكون ما يصرح به بالتحديث ــ بسبب ضعف حفظه ــ ممالم ليسمعه أصلاً، فاشتبه عليه أو لُقِّن إياه.
المسألة الثالثة (267):(1/22)
قد يرد في الرواية تصريح المدلس بالتحديث ومع ذلك لا يقبل لأسباب ترجع في جملتها إلى أربعة أمور:
1ــ تعمد بعض المدلسين إخفاء تدليسهم، فيسلكون طرقاً من أجل ذلك، وقد يصرحون بالتحديث مع أنهم قد دلسوا، إذْ لم يسمعوا ذلك ممن رووا عنه، وهم يفعلون ذلك في مواجهة حرص الرواة على أن يكتشفوا تدليس المدلسين فيميزوا بين ما سمعه المدلس من شيخه ومما لم يسمعه. ومن هذا الباب تدليس القطع ــ كما سماه ابن حجر ــ وهو قول المدلس: حدثنا ثم يسكت قليلاً ينوي القطع، ثم يقول فلان عن فلان وهو لم يسمعه منه. وربما في بعض الأحيان يسمي المدلس من حدثه بينه وبين نفسه. ومنه تدليس العطف، كأن يصح المدلس بالتحديث عن شيخ له قد سمع منه الحديث ثم يعطف عليه شيخاً آخر له لم يسمعه منه.
ومن أدق التدليس وأخفاه تدليس جملة أو كلمة في أثناء الإسناد أو المتن، فربما يقف الباحث على تصريح للمدلس بالتحديث في أصل الحديث ولم يتنبه لموضع التدليس. قال أحمد في هشيم: كان يدلس تدليساً وحشاً وربما جاء بالحرف الذي لم يسمعه فيذكره في حديث آخر، إذا انقطع الكلام يوصله.
2ــ أخطاء المدلسين أنفسهم، فيخطئ المدلس ويصرح بالتحديث ظناً منه أنه مما سمعه ولا يكون الواقع كذلك.قال ابن معين: سمعت هشيماً يحدث يوماً فقال: حدثنا علي بن زيد، ثم ذكر أنه لم يسمعه من علي بن زيد، فتنحنح ثم قال: سووا الطريق، ثم قال: علي بن زيد. فانصراف هشيم إلى تسوية الطريق من أجل تصحيح ما وقع فيه من خطأ دون أن ينتبه الحاضرون لخطئه.(1/23)
3ــ تدليس التسوية، يرتكب بعض المدلسين نوعاً من التدليس لا يسقط فيه شيخه الذي حدثه ويرويه عنه بصيغة صريحة في السماع، لكنه يسقط راوياً من وسط الإسناد، ويجعل الرواية بين من دون المسقط ومن فوقه بصيغة (عن)، وقد يكون المسقَط ثقة، فغرضه من ذلك طلب العلو، وقد يكون ضعيفاً ــ وهذا هو الغالب ــ فالغرض منه تقوية الإسناد. وكان الأئمة يسمونه تسوية، فيقولون فلان يسوي الأسانيد.
4ــ أخطاء الرواة، فكما يخطئ الراوي على شيخه أو شيخ شيخه في رفع حديث أو في وصله، أو في تغيير متنه، يخطئ عليه في التصريح بالتحديث من شيخه ويلتحق به أخطاء النساخ بالنسبة للمخطوطات وأخطاء الطباعة بالنسبة للمطبوعات، وهذا كثير جداً، وقد شكا الذهبي في عصره وما قبله، فما الظن بالعصور اللاحقة؟.
المسألة الرابعة (301):
يقوم مقام التصريح بالتحديث رواية من عرف أنه لا يأخذ من شيوخه إلا ما كان مسموعاً لهم عمن رووا عنه، وقد عرف الالتزام بهذا جماعة من تلاميذ المدلسين، فمن أشهرهم شعبة ويحيى القطان ومحمد بن فضيل وابن مهدي ويزيد بن زريع وأبي نعيم الفضل بن دكين وعفان بن مسلم.قال شعبة: كنت أتفقد فم قتادة فإذا قال سمعت أو حدثنا حفظت، وإذا قال: حدث فلان، تركته. وقال أيضاً: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش وأبو إسحاق وقتادة.
المبحث الخامس: رواية المدلس بصيغة للسماع
وفيه ستة مسائل
المسألة الأولى (309):(1/24)
إذا روى المدلس بصيغة محتملة للسماع وعدمه مثل: قال فلان، وذكر فلان، وحدث فلان وعن فلان، ونحو ذلك، ولم نقف على نص في إثبات السماع أو عدمه، فروايته والحال هذه إحدى المسائل العويصة في نقد المرويات، حتى أن الإمام أحمد لما سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل حدثني أو سمعت؟ قال: لا أدري. وبصرف النظر عن البحث في رواية المدلس إذا صرح بالتحديث فإن القول بالرد راجع إلى العدالة، وليس إلى اتصال الإسناد وانقطاعه، كذلك فإن الناظر في كلام الأئمة وفي أحكامهم يمكنه أن يصل إلى رأي في هذه القضية الشائكة، وجملة ما يحكى عنهم من أقوال في حكم رواية المدلس إذا لم يصرح، ترجع إلى ثلاثة أقوال:-
القول الأول (310):
أن رواية المدلس بهذه الصفة إذا كان ثقة محمولة على الاتصال، ولا يحكم على رواية المدلس بالانقطاع إلا إذا يتبين أنه دلس في حديث بعينه أو في تلك الرواية بعينها. وهذا القول حكاه ابن القطان من دون أن يسمي قائله، كما أن بعض الباحثين نسبه ليحيى بن معين، قال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى بن معين عن التدليس، فكرهه وعابه، قلت له: فيكون المدلس حجة فيما روى أو حتى يقول: حدثنا أو أخبرنا؟ فقال: لا يكون حجة فيما دلس فيه. فكلام ابن معين يحتمل أن يكون المراد به ما تبين أنه دلس فيه، فيوافق هذا القول، ويحتمل ــ وهذا الأقرب في نظر الشيخ ــ أن يكون مراده مالم يصرح في بالتحديث، وهذا الأخير هو الذي فهمه ابن رجب والسخاوي من كلام ابن معين. قال أحمد حين سئل عن هشيم: ثقة إذا لم يدلس. ومراده إذا لم يصرح بالتحديث فقوله في حديث هشيم: "لم يقل فيه: أخبرنا فلا أدري سمعه أم لا". يدل على ذلك.(1/25)
والعلم بكونه قد دلس قد يعرف بأمر خارجي، ويحتمل أن يعرف من صيغة الرواية، وهذا التفسير الذي ذهب إليه الشيخ موافقاً لأقوال أئمة النقد وتصرفاتهم مع المدلسين، كذلك فإن العلم بكون هذا الحديث المعين وقع فيه تدليس يستوي في التعليل به المدلس وغير المدلس، فلا يكون هناك فرق ظاهر بين المدلس وغيره.ثم إن الناظر المتأمل في أقوال أئمة النقد وصنيعهم لا يتخالجه شك في أن هذا القول عللا إطلاقه بعيد جداً عن منهجهم وفي تساهل كبير، وإهدار لجهود الأئمة في التفتيش عن التدليس، وإعمال القرائن لكشفه.
القول الثاني (314):
أن رواية المدلس بصيغة محتملة محمولة على الانقطاع أبداً، ولا يحكم لروايته بالاتصال إلا إذا روى بصيغة صريحة فيه، كحدثنا وسمعت وأخبرنا، ويستوي في ذلك المكثر من التدليس و منه المقل، حتى لو دلس مرة واحدة أخذ هذا الحكم.
وهذا القول محكي عن الشافعي وتبعه جماعة من الأئمة منهم ابن حبان والخطيب، وقد نبه الشيخ على هذا القول بعدة أمور:
1 ــ ذكر ابن رجب والسخاوي أن ابن معين موافق للشافعي فيما ذهب إليه، بناءً على جواب ابن معين حين سئل عن المدلس يكون حجة فيما روى أو حتى يقول: حدثنا أو أخبرنا؟ فقال: لا يكون حجة فيما دلس فيه.
وكلام ابن معين غير صريح في هذا، إذْ هناك احتمال آخر يمكن أن يفهم من جوابه، وهو أنه لا يكون حجة فيما تبين أنه دلس فيه، فيكون عكس كلام الشافعي، وإذا تطرق غليه هذا الاحتمال ضعف إلحاقه به. يضاف إلى ذلك أننا نحتاج إلى معرفة إطلاق ابن معين هذا الوصف على من دلس مرة واحدة، إذْ يمكن أن يكون رأيه أن يكون وصف المدلس إنما يستحقه من عرف بالتدليس وأكثر منه.(1/26)
2 ــ كلام الشافعي صريح في أن هذا الحكم الذي ذهب إليه إنما هو نوع التدليس الذي شرحه، وهو رواية الراوي عمن سمع منه مالم يسمع منه بصيغة محتملة، وسواء قلنا: إن الشافعي يخص التدليس بهذه الصورة كما نسبه إليه ابن حجر أو قلنا: إنه ذكر هذه الصورة وسكت عن الأخرى وهي رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، ولا يدل سكوته عنها أنه لا يراها تدليساً، كذلك فإن الحكم الذي أطلقه الشافعي ينبغي أن يقصر على الصورة التي ذكرها فقط، ويبقى رأيه في الصورة الثانية على فرض أنه يراها تدليساً لم يذكره، فهل يلحقها بالأولى في هذا الحكم أو يلحق بالأولى من أمثر منها، أو يرى أن من أرتكبها فقط فعنعنته عمن سمع منه مقبولة مطلقاً؟.
3 ــ صحح القول بأن رواية المدلس بصيغة محتملة محمولة على الانقطاع كثيرٌ ممن ألف في علوم الحديث كابن الصلاح والنووي والعلائي وابن حجر وغيرهم، ونسبه العلائي إلى جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول، بل إن النووي نقل الاتفاق على أن المدلس لا يحتج بخبره إذا عنعن إلا أن العلائي وابن حجر عادا فأخرجا من هذا الحكم من هو قليل التدليس، كما أن المكثرين ليسوا على درجة واحدة وذلك بتقسيمهما المدلسين إلى طبقات.
4 ــ ونظراً لما تقدم في القول الثالث، ونسبتِهِ إلى جمهور الأئمة وسهولة تطبيقه لا طراده فقد سار عليه جماعة كثيرون جداً من الأئمة المتأخرين والباحثين المعاصرين فكثر نقد الأحاديث وتضعيفها بعنعنة المدلسين، كما صاحب ذلك التوسع في جمع من وصف بالتدليس، أو جاءت عنه رواية فيها صورة التدليس وإن لم يوصف بذلك، الأمر الذي ترتب عليه أن بعض الباحثين تحرج من كثرة تضعيف الأحاديث بعنعنة المدلسين، فصاروا يتمسكون بأدنى رواية فيها تصريح بالتحديث، دون دراسة لها والتحقق من ثبوتها، وفريق آخر ذهب إلى ضرورة مراجعة ما يسير عليه المتأخرون من قواعد في نقد السنة، ومن ذلك قواعد التدليس.
القول الثالث (320):(1/27)
التفريق بين المقل من التدليس والمكثر منه فالمقل روايته بصيغة محتملة للسماع وعدمه محمولة على الاتصال، والمكثر روايته محمولة على الانقطاع وهو القول الراجح، وهذا قول منقول صراحة عن ابن المديني، فقد سأله يعقوب بن شيبة عن الرجل يدلس أيكون حجة فيما لم يقل: حدثنا؟ فقال: إذا كان الغالب عليه التدليس فلا، حتى يقول حدثنا. ومراده بالغالب أي كثر ذلك منه وعرف به، إذْ يبعد أن يكون مراده ظاهر اللفظ لأن معرفة ذلك تقتضي تمييز ما دلس فيه مما سمعه، ثم الموازنة، وإذا عرف ما دلس فيه انتهى الأمر، اللهم إلا أن يقال: إنه أمكن تمييز ما دلس فيه فكان هو الغالب على رواياته وعنده فوق ذلك أشياء رواها بصيغة محتملة لم تتميز، وهذا بعيد جداً.
وما أجاب به ابن المديني هو المفهوم من كلام للحميدي، الذي ذكر في أن من أكثر الرواية عن شخص وعرف به فإنما يترك من حديثه ما عرفنا أنه أسقط الواسطة بينه وبينه، وما عدا ذلك فمحمول على السماع.
كما يمكن أن ينسب هذا القول إلى يحيى بن معين بناءً على تفسيراته: ولا يكون حجة فيما دلس فيه، أي لا يكون حجة فيما رواه بصيغة محتملة، وليس مراده ما تبين فيه تدليسه. ومثل ذلك كلمة أحمد في حق هشيم، قال مهنا سألت أحمد عن هشيم، فقال: ثقة إذا لم يدلس، فقلت له: والتدليس عيب هو؟ قال: نعم.(1/28)
إن المتتبع لموقف الأئمة يرى بوضوح أن مذهبهم هو ما أجاب به علي بن المديني ونقل ابن عبدالبر الإجماع عليه وهو الأقرب لتفسير عبارة أحمد وابن معين، فهم يشترطون تصريح المدلس بالتحديث أو ما يقوم مقامه، ولكن من كثر منه التدليس حتى عرف به واشتهر عنه؟ ظاهر نصوص العلماء الكثيرة في أن المعروف بالتدليس إذا قال: قال فلان أو ذكر فلان، يعني لم يأت بصيغة صريح في السماع علم أن ذلك الحديث لم يسمعه، فلم يبق مجال للقول بأن الأئمة لا يفتشون عن التدليس وأن الصيغة المحتملة محمولة على السماع حتى نتيقن الانقطاع أو يتبين لنا. قال شعبة: كنت أتفقد فم قتادة فإذا قال: سمعت أو حدثنا، حفظت وإذا قال حدث فلان تركت.
وخلاصة هذه المسألة:
من كل ما تقدم أن أئمة النقد على اختلاف طبقاتهم يطالبون المعروف بالتدليس بالتصريح بالتحديث، وأنه أتى بصيغة محتملة للسماع وعدمه فقد ارتكب التدليس، فهي دلالة على أنه قد دلس، ولا يحتاج الأمر إلى قرينة خارجية، وما يحكى عن أئمة النقد خلاف ذلك فهو ضعيف جداً.
المسألة الثانية (327):
لو قال قائل: إن تفقد النقاد للتصريح بالسماع من شيوخهم المدلسين وما في معناه لا حجة فيه بالنسبة لنا ذلك أن الناقد في ذلك الوقت يمكنه أن يتحقق من صيغة الرواية التي حدث بها المدلس، إما تصريح بالسماع، كأن يقول سمعت أو حدثنا أو عدم تصريح كأن يقول: قال أو ذكر، فإذا لم يصرح المدلس بالتحديث حكم الناقد بأنه دلس، ولكن الإشكال يقع فيما إذا وردتنا رواية عن المدلس فيها عنعنة بين المدلس وشيخه، فهي موضع الإشكال لكثرة ورودها في الأسانيد، فالاحتمال قائم أن يكون المدلس قد صرح بالتحديث، والتغيير جاء ممن بعده، ذلك أن التعبير عن أكثره ليس من الراوي المعنعن وإنما هو ممن بعده، ولهذا فإننا لو عرفنا بطريقة ما أن المعنعن هو المدلس لحكمنا أيضاً بوقوع التدليس، كما لو روى بصيغة قال و ذكر.(1/29)
إن الاستدلال بالنصوص التي نقلها الشيخ عن العلماء في هذا المبحث تؤكد اهتمام النقاد بالتدليس وبذلهم الجهود المضنية للكشف عنه، لكنه قد شاع بين الباحثين المتأخرين أن المتقدمين لم يكونوا يشددون في التدليس، وليس الأمر كذلك، بل شددوا أبلغ التشديد، ولا قوا في سبيل ذلك عناء ومشقة فمطالبة المدلس بالتصريح والإلحاح عليه بل وعلى غير المدلس ــ ليس بالأمر الهين، فالناقد يلاقي من ذلك عنتاً كبيراً.
ومما يشير إلى اهتمام النقاد بتدليس المدلسين أنهم كانوا يتذاكرون أحاديث المدلسين للكشف عنها، روى محمد بن عيسى بن الطباع، قال: اختلف عبدالرحمن بن مهدي وأبو داود في حديث هشيم فقال أحدهم كان يدلسه، وقال الآخر: بل هو سماع، فتراضيا، فأخبرتهما بما عندي فاقتصرا عليه.
ويستفاد من ذلك اهتمام النقاد بالتدليس وحذرهم الشديد منه، ونستدل بفعلهم هذا على رواية المدلس إذا وصلتنا بالعنعنة من جهة أن الواجب على الناقد المتأخر عنهم إذا جاءت رواية للمدلس بالعنعنة واحتمل أن يكون المدلس صرح بالتحديث واحتمل أنه لم يصرح، فالواجب حينئذ الاحتياط والبقاء على الأصل وهو أنه لم يسمع هذا الحديث من شيخه الذي رواه عنه، كذلك فإن النقاد المتقدمين أنفسهم وصلتهم أو اطلعوا على أسانيد متقدمة عنهم بلغتهم بالعنعنة، فهم ومن تأخر عنهم في الأمر سواء.
المسألة الثالثة (333):
إن منهج هؤلاء الأئمة هو منهج الوسط، فهو يراعي الاحتياط للسنة بالنسبة للمكثرين والمقلين، فأما المكثرون فمن جهة أن لا يدخل فيها ما ليس منها، ولا سيما أن أصل الرواية بصيغة محتملة ــ وأن يكون الراوي مدلساً ــ فيه كلام قديم لبعض الأئمة، فمنهم من كان يشترط في بادئ المر تصريح الجميع بالتحديث، وأما المقلون فمن الجهة الأخرى درء مفسدة رد أحاديثهم الصحيحة التي سمعوها بسبب تدليس نادر منهم فهذه بلا شك مفسدة كبرى لاحظها الأئمة حينما فرقوا هذا التفريق.
المسألة الرابعة (333):(1/30)
بعد ترجح القول المتقدم وهو التفريق بين المكثر والمقل، ذكر الشيخ تنبيهات وضوابط خمسة للنظر في كيفية التعامل مع المدلسين ورواياتهم إذا لم يصرحوا:
الأمر الأول:
قد يشكل على هذا القول في قضية التمييز بين المقل والمكثر من التدليس، وصعوبة وضع حد إذا بلغه المدلس ألحق بالمكثرين، إذْ ليست المسألة مسألة عدد، وإنما يلاحظ فيها ما عند المدلس أصلاً من الحديث، وما ثبت عليه التدليس فيه، ولا شك أن هذا بالنسبة للباحث المتأخر عسر جداً، فالسبيل إذاً هو الرجوع إلى كلام أئمة الجرح والتعديل، فمتى توارد عدد منهم على وصف راوٍ بالتدليس عرفنا أنهم قصدوا شهرته بذلك لتطبق عليه أحكام المدلسين.
وللعلائي تصنيف للمدلسين باعتبار القلة والكثرة وباعتبارات أخرى يحسن النظر فيه، وابن حجر وافق العلائي على هذا التصنيف ورام استقصاء أسماء المدلسين وإلحاق كل واحد منهم بالمرتبة اللائقة به، وقد اعتمده الباحثين فصاروا يردون أو يقبلون مالم يصرح فيه المدلس بالتحديث على ضوء المراتب المذكورة.
وقد تعرض هذا التصنيف في الآونة الأخيرة لانتقادات كثيرة، مثل إلحاق بعض المدلسين بمرتبته اللائقة به، فقد يذكرون شخصاً في مرتبة وحقه أن يكون في غيرها، كما في ذكر العلائي للزهري في الثانية وابن حجر في الثالثة وحقه أن يكون في الأولى فهو نادر التدليس كما قال الذهبي.
ثم إن المتأمل في المراتب الخمس يجد ثلاثاً لا اعتراض عليها وهي الأولى والرابعة والخامسة، وأما الثانية والثالثة فالتفريق بينهما غير واضح فهما تضمان من اشتهر بالتدليس وعرف به، وهو يدلس عن الثقات أو عنهم وعن غيرهم وهؤلاء هم موضع الإشكال الحقيقي باب التدليس كله، والذي يظهر أن حال أصحابهما واحد في الجملة، وهو البحث والتفتيش عن سماعهم من قبل الأئمة وضرورة تصريحهم بالتحديث.
الأمر الثاني:
تنزيل ما يعرف في الجرح والتعديل بالتوثيق والتضعيف المقيدين بالتدليس ففيه ما يشبه ذلك.
الصورة الأولى:(1/31)
من دلس عمن أكثر من الرواية من شيوخه، وهي أن يكون المدلس مكثراً من الرواية عن شيخ له كثرة ظاهرة، ثم يأتي عنه أنه دلس عنه، فقاعدة القلة والكثرة يمكن تطبيقها عليه حينئذ وتكون روايته عنه محمولة على الاتصال أبداً حتى يتبين في حديث معين أنه دلسه عنه، وليس هذا بترك للقول المرجح، بل هو موافق له، فالمدلس في شيخه هذا قليل التدليس، لكثرة ما روى عنه في الأصل. وقد نص الأئمة على هذا كثيراً فمن ذلك: قول الذهبي في سليمان العمش: وهو يدلس، وربما دلس عن الضعيف ولا يدرى به، فمتى قال: حدثنا فلا كلام ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم النخعي وأبي وائل وأبي صالح السمان فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
الصورة الثانية:
من عرف واشتهر بالتدليس عن راو دون غيره؛ إذا نسب الأئمة راوياً من الرواة إلى التدليس عن بعض شيوخه وسكتوا عن الباقين، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن يقتصر على من رومه بالتدليس عنه، وأما من عداه فحكمه فيه حكم غير المدلس. ومثلوا لذلك بزكرياء بن أبي زائدة، فإن الأئمة قد وصفوه بكثرة التدليس عن الشعبي، ولم يذكروا تدليس عن غيره. قال الشيخ: وهذه المسألة ينبغي أن يتأنى فيها، إذْ لا ريب أننا لو أدركنا من كلام الأئمة أنه لا يدلس إلا عمن ذكر لانتهى المر، ولكن قد يكون سبب تنصيصهم على بعض شيوخ المدلس لقوته فيه، وشهرته بالرواية عنه، وليس لما ذكر، فإسماعيل بن أبي خالد وزكرياء بن أبي زائدة من كبار أصحاب الشعبي، فقد يكون هذا سبب تنصيص النقاد على تدليسهما عنه، لكن الإمام أحمد يقول في إسماعي: يحيى أحسن الناس حديثاً عن إسماعيل يقول: لأن فيها أخباراً، حدثنا قيس حدثنا حكيم بن جابر، فهذا يدل على لأنه كان يدلس عن غير الشعبي.
الأمر الثالث (343):(1/32)
ينبغي على الباحث ــــ حين الاختلاف في مسألة ـــ هو الاعتناء بمعرفة منهج الأئمة فيها لا البحث عن ترجيح أحد الأقوال في نفسه، فعليه وهو ينظر في الأقوال الثلاثة السابقة والموازنة بينها، أن يستحضر أننا نبحث في وضع قواعد دراسة الأسانيد عن منهج الأئمة في كل قضية معينة يجري بحثها، وربما لا يتضح النهج تماماً إما لاختلاف المنقول عنهم، أو لاختلاف اجتهاد الباحثين في تفسير عملهم، وحينئذ فالموازنة والترجيح بين الأقوال في مسألة ما، ليس معناه البحث في أي الأقوال هو الأرجح في نفسه، والاستدلال لإثبات ذلك، وإنما يكون البحث في ترجيح أي الأقوال هو الذي عليه أئمة النقد، وإذا ترجح ذلك صار هو الراجح في نفسه وغن لم يستدل عليه، والاستدلال حينئذ من نافلة القول.
والغرض من الاستحضار مهم جداً إذا افترضنا سلامة ترجيحنا للقول الثالث، وأنه عليه الأئمة فمن الضروري أن نضم إلى ذلك أنهم قد قاموا بتفقد السماع من المدلسين المعروفين بالتدليس، فإذا صحح الأئمة أو أحدهم حديثاً واعتمد في تصحيحه على طريق فيه مدلس معروف بالتدليس فمعناه أنه وقف على تصريح المدلس بالتحديث أو ما يقوم مقامه.
مسألة (345):
إذا أعل الأئمة إسناداً بعلة وأغفلوا نقده بالتدليس فهل يعني هذا انتفاءه عندهم؟.
كان الشيخ يميل لهذا في أول الأمر، ويرى أنه لو كان منتقداً بالتدليس لنص عليه الناقد، ثم تأمل نقدهم للأحاديث بصفة عامة فتبين له فرأى الواحد منهم ينص على علة يسقط بها الحديث يكتفي بها، مع وجود علل أخرى في الإسناد. ومثاله: أن مسعراً يروي عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: إذا أصبح صائماً تطوعاً ثم افطر قضى يوماً مكانه، قال أحمد: أبى ابن مهدي أن يحدث بهذا عن سفيان لأنه يروى عن ابن عباس خلافه، لا بأس به، ابن عباس يقول خالفوا حبيباً في هذا.(1/33)
فلم يتعرض ابن مهدي و أحمد لتدليس حبيب بن أبي ثابت وهو مشهور بهذا فهل يقال: إن روايته بلغتهم بصيغة التحديث فلم يتعرضوا لتدليسه؟ فيرى الشيخ: أنه لا يسعنا الاعتماد على هذا، ونص الناقد على علة لا يمنع التعليل بغيرها متى ظهر هذا.
على أن القول بالمنع من النقد بالتدليس في هذه الحالة له حظ من النظر فيما انضم إليه مانع آخر، كأن ينضم إلى عدم النقد بالتدليس أن يكون الراوي موصوفاً بالتدليس عن شيخ له فقط، ثم يكون الحديث الذي معنا عن شيخ آخر وقد تقدم أن جمعاً من الباحثين يمنع من الحكم بتدليس راو مطلقاً إذا كان الأئمة قد نصوا على تدليسه عن شيخ معين.
الأمر الرابع (346):
الطريقة التي تعامل بها رواية من عرف بالتدليس، إن المرتكب لتدليس التسوية يعامل في بقية الإسناد بالتصريح بالتحديث بمبدأ القلة والكثرة، فمن فعله على سبيل الندرة فروايته محكوم لها بالاتصال والمكثر منه مطالب بالتصريح بالتحديث في جميع الإسناد.
الأمر الخامس (348):
ينبغي أن يرتفع الخلاف في حكم رواية المدلس على جميع الأقوال التي جاءت روايته عنه ب(عن)، واحتف بذلك قرينة ترجح أن ذلك الحديث المعين مما دلسه وليس مما سمعه، فيحكم حينئذ للرواية بالانقطاع على جميع الأقوال، سواء كان المدلس مكثراً من التدليس أو مقلاً منه، وسواء كان مكثراً عن ذلك الشيخ الذي روى عنه أو مقلاً، وسواء كان وصفه بالتدليس قد جاء عن الأئمة في عموم رواياته أو في شيخ معين، يستوي في ذلك التدليس في مبدأ الإسناد، والتدليس في وسطه، وهو المعروف بتدليس التسوية.
وهكذا في جميع ما قيل: إن رواية المدلس محمولة على السماع حتى يتبين الانقطاع، فهذا التبين يعني ظهور قرينة تدل على الانقطاع، وعى الباحث الاجتهاد في التحقق من وجود هذه القرينة أو عدم وجودها.(1/34)
وعلى القول بأن رواية المدلس بصيغة عن محمولة على الانقطاع فالباحث بحاجة أيضاً إلى البحث في هذه القرائن، حتى وإن كان سيحكم بالانقطاع ولو لم توجد، ذلك أن حكمه بالانقطاع إذا وجدت أقوى وآكد، ويرفع الخلاف بينه وبين غيره.
المسألة الرابعة (349):
هناك بعض القرائن التي يترجح بها وقوع التدليس في رواية المدلس، وقد يصادف الباحث أحاديث ليس لهم فيها كلام، فبإمكانه استخدامها إذا وجدت.
القرينة الأولى:
التصريح بالواسطة في رواية أخرى صحيحة عن المدلس، وهي أن تأتي رواية صحيحة يروي فيا المدلس ذلك الحديث عن شيخه بواسطة، سواء سماه أو أبهمه بأن قال عن رجل أو قال بلغني عنه أو نبئت عنه ونحو ذلك.
ومثله في تدليس التسوية: إذا جاءت رواية أخرى عن المدلس فيها الزيادة في وسط الإسناد. وهذه أهم القرائن وأقواها وأكثرها استخداماً. ويمكن للباحث أن يستخدمها في الاستدلال لكلام الأئمة إذا حكموا بوقوع التدليس ولم يذكروا عليه دليلاً (356)، كما يمكنه أن يستند على هذه القرينة في الحكم بوقوع تدليس وإن لم ينص أحد على ذلك (357). ومما يؤكد أهمية هذه القرينة في الدلالة على وقوع تدليس، أن إدخال واسطة في إسناد معنعن بين راو وشيخه دليل على وقوع انقطاع في الإسناد الذي حذفت منه الواسطة، وإن لم يوصف الراوي بالتدليس.
كما ينبغي الإشارة إلى أنه ليس كل زيادة بين المدلس وشيخه يحكم من أجلها على الراوي بأنه دلس في هذا الحديث، فبعض الزيادات لا تصح، فهذا الأمر يخضع للقرائن وهو محل اجتهاد(358).(1/35)
ويلتحق بذكر الواسطة أن يأتي عن المدلس في بعض الروايات عنه ما يعرف منه صيغة الرواية التي يحدث بها بينه وبين شيخه في الحديث المعين، وأنه لم يصرح بالتحديث، بل روى بصيغة قال أو ذكر، أو حدث، فمتى عرفنا أن المدلس لم يصرح بالتحديث وأن صيغة روايته على وجه التحديد، فنرجح حينئذ أنه لم يسمعه، ويكون حكمنا في ذلك حكم النقاد في عصر الرواية الذين وقفوا على صيغ رواية المدلس،وقد تقدم عنهم شبه الإجماع على أن المدلس إذا روى بهذه الصيغ فقد دلَّس (359). ومثاله حديث: لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين.(360).
القرينة الثانية (362):
أن يكون في متن الحديث أو إسناده نكارة وشذوذ، فالأئمة يلجئون كثيراً إلى التعليل بالتدليس، وغرضهم من ذلك تبرئة المدلس الثقة، وجعل العهدة على من أسقطه. ومثال ذلك: حديث أبي معاوية عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن ابن عمر: كنا نعد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي وأصحابه متوافرون: أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت. وهذا الحديث سئل عنه ابن المديني فقال: أنا أفرقه، كان أبو معاوية لا يقول فيه حدثنا.
وهذا الحديث عن سهيل لا يرويه ثقة غير أبي معاوية، رغم كثرة أصحاب سهيل وفيهم حفاظ ثقات مكثرون عنه، وليس لأبي معاوية عن سهيل في الكتب الستة سوى حديث واحد عند مسلم في المتابعات، وهذا المتن فيه كلام لبعض الأئمة، وخاصة الجملة الأخيرة منه، فمثل هذا لا تردد في ضرورة مطالبة المدلس بالتصريح بالتحديث فيه، لينظر بعد ذلك في الأمور الأخرى في الإسناد مثل كون أبي معاوية يهم في غير حديث الأعمش، وما في حفظ سهيل من كلام.
القرينة الثالثة (365):(1/36)
أن يخالف المُدلس غيره في الإسناد أو المتن، فيستدل بهذا على أنه قد دلسه، ويبرأ هو من نسبة الخطأ إليه. ومثاله قول أبي حاتم في حديث رواه عمر بن علي المقدمي وزاد فيه رجلاً في الإسناد: أما عمر فمحله الصدق، ولولا تدليسه لحكمنا إذْ جاء بالزيادة غير أنأ نخاف أن يكون أخذه عن غير ثقة.
المسألة الخامسة (367):
قد يقول قائل: لقد ذكر الشيخ في المبحث الثالث، أن نص إمام من الأئمة على أن فلاناً لم يسمع الحديث ممن روى عنه، ينهي موضوع التدليس، ونحكم على الحديث بالانقطاع، مع أننا نرى الأئمة يصدرون أحكامهم بناءً على هذه القرائن المذكورة هنا، فإما أن نجعل نص الإمام مجرد قرينة، وإما أن نجعل هذه القرائن وإن لم يوجد نص للإمام كما إذا وجدنا نصاً عنه.
والجواب:
لقد ذكر الشيخ أحكام الأئمة هنا مع هذه القرائن، ليبين اعتماد الأئمة عليها في الحكم بالانقطاع، فنحن نقتفي أثرهم في استخدامها ونرجح وجود تدليس إذا وجدت وإن لم نقف لهم على كلام في الحديث المعين، ويبقى ذلك مجرد قرينة مرجحة، وأما إذا كان هناك كلام لإمام من الأئمة فالواجب إتباعه في ذلك، ولا يكون هذا مجرد قرينة، بل يجب متابعته وإن لم يتحرر لنا سبب حكمه هذا، إذْ كثير من أحكامهم يظهر أنهم عرفوها من المدلسين أنفسهم.
المبحث السادس: تعليل الإسناد بتدليس غير مدلس
وفيه مسألة وتنبيه
مسألة (369):(1/37)
ربما تشتد نكارة الحديث فيحتاج الباحث إلى الطعن في الإسناد بأمور خفية، وفيما يتعلق بالتدليس عليه أن يستحضر فعل بعض الأئمة كشعبة بن الحجاج وتوقفه في الإسناد غير المصرح فيه بالتحديث، وإن لم يكن الراوي مدلساً، كما أن عليه أن يستحضر ما نقل عن الأئمة من ارتكاب جمع كثير من الرواة للتدليس دون تحديد، كقول شعبة: ما رأيت أحداً إلا وهو يدلس إلا عمرو بن مرة وابن عون. كما أنه قد تقدم أن التدليس والإرسال ربما لجأ إليهما الراوي لعارض كالمذاكرة، كما أن النقاد يرمون الراوي بالتدليس دفاعاً عنه، لئلا يتحمل عهدة ما رواه من أحاديث منكرة، وإن معرفتنا بكون الراوي مدلساً إنما هو بحسب وقوفنا على كلام النقاد، وقد فات الذين جمعوا من رمي بالتدليس جماعة من الرواة، وأن صورة التدليس قد تقع من الراوي دون أن يقصده.
وبناءً على ما تقدم فقد يلجأ الباحث إلى تضعيف الإسناد باحتمال وقوع التدليس فيه وإن لم يكن في رواته من وقف عليه انه رمي بالتدليس، ولا غرابة في ذلك فكما منع الباحث من الطعن في الإسناد بالتدليس ــ مع وجود مدلس فيه كأن يكون نادر التدليس والمتن والإسناد لا نكارة فيهما ونحو ذلك ــ يطالب الباحث بالتضعيف بالتدليس وإن لم يكن في مدلساً، متى ألجأت الضرورة لذلك. كما أن الباحث متى ما صنع ذلك فإنما هو يقتدي بأئمة النقد الذين فعلوا ذلك كثيراً.
ومن الأمثلة على تعليل النقاد بالتدليس والراوي لم يوصف بذلك: تضعيف النقاد لرواية معمر بن راشد عن ثابت البناني، وأشاروا إلى أن فيها غرائب مناكير، وقد سئل أحمد عن حديث منها، وهو ما رواه معمر عن أبان وثابت وغير واحد، عن أنس مرفوعاً: لا شغار في الإسلام، فقال: هذا عمل أبان ــ يعني من حديثه ــ وإنما معمر ــ يعني لعله دلسه ــ، ومراد أحمد أن الحديث يرويه معمر عن أبان وهو حديثه، وهو متروك الحديث، وأما روايته للحديث عن ثابت فالظاهر أنه لم يسمعه منه، وإنما دلسه عنه.
تنبيه (374):(1/38)
ليس كل راو أعل حديثه بالتدليس يصح عده من المدلسين؛ قد يقول قائل: إن هذا الموضوع لا جديد فيه لأن الناقد المتقدم إذا ضعف حديثاً بتدليس معنعن فهذا هو وصفه بالتدلي، ويكون الراوي مدلساً فيعود الأمر إلى التعليل بتدليس مدلس، وليس بوقوع التدليس من غير المدلس. والجواب: أن من لم يعرف بالتدليس إذا عنعن، وظهر للناقد أن الحديث خطأ ولجأ إلى تعليله بتدليس الراوي، فإنه يفعل ذلك التماساً لعلة يسقط بها الحديث، وهو يفعل ذلك مع تردده في وقوع التدليس، لاحتمال أن يكون وقع منه خطأ ولم يقصده، أو وقع الإسقاط ممن بعده ونحو ذلك، ولهذا يقول الناقد: لعله دلسه أو لعله أخذه من فلان أو أظنه، فلا يكون هذا وصفاً للراوي بالتدليس، وإن أعل به بعض حديثه.
الفصل الرابع موضوعات متفرقة في الاتصال والانقطاع
وفيه أربعة مباحث
المبحث الأول: شرط الاتصال والحديث الصحيح
وفيه ثلاثة مسائل
المسألة الأولى (379):
ذكر عدد من الباحثين أسانيد في صحيح البخاري أخرجها مع أن السماع بين بعض رواتها لم يعلم، أي لم يرد السماع، أو ورد لكنه لا يثبت، فاستدل بعضهم على أن البخاري لا يشترط العلم بالسماع، وإنما يكتفي بالقرائن، ويستدل بها بعضهم على أن البخاري وإن كان يشترط العلم بالسماع إلا أنه ربما اكتفى بالقرائن في بعض الأحوال، وذلك حين تقوى القرائن جداً على إثبات السماع.(1/39)
قال الشيخ مجيباً: وهذا الاستدلال غير صحيح وأن هؤلاء الباحثين لم يتضح في أذهانهم أن شروط الصحيح بابها واحد، فالناقد ربما نزل عن شرط من شروط الصحيح لسبب يراه مع علمه بتخلف هذا الشرط. وهذا الأمر مشهور متداول عند الأئمة والباحثين في الشرطين المتعلقين بالرواة، وهما العدالة والضبط، فصاحب الصحيح قد يخرج لأناس ليسوا على شرط الصحيح، يخرج لهم مقرونين بغيرهم، وفي المتابعات والشواهد وفي المعلقات، بل قد يسوق أسانيد فيها من ليس على شرط الصحيح دون قصد التخريج له، وأما الثلاثة الباقية وهي الاتصال وعدم الشذوذ وعدم العلة فالكلام في إيضاح موقف النقاد منها في الأحوال الخاصة قليل جداً، ولهذا يظن بعض الباحثين أن كل ما في الصحيحين في شرط الاتصال ــ مثلاً ــ هو على شرط الصحيح، وبنوا عليه ما تقدم من الاستدلال بالأسانيد التي أخرجها البخاري والسماع لم يعلم فيها على أنه لا يشترطه، وربما يخرج علينا بعض الباحثين فيلتقط أسانيد في الصحيحين وقع فيها شذوذ أو علل فيستدل بها على أن الأئمة لا يشترطون في الحديث الصحيح خلو الإسناد منها.
وقد ذكر الشيخ أربعة أسانيد من البخاري للتمثيل عليها وشرح هذه المسألة، وأنا أكتفي بواحد لأجل الاختصار: حديث عروة بن الزبير عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون. وأن هذا الحديث قال عنه الدارقطني هذا مرسل، وبين الدارقطني انه جاء من طريق عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة، وقال الطحاوي في كلامه على هذا الحديث: عروة لم نعلم له سماعاً من أم سلمة. قال الشيخ: فهذا إسناد اكتفى في البخاري بالمعاصرة وإمكان اللقي لأن عروة أدرك من حياة أم سلمة نيفاً وثلاثين سنة وهو معها في بلد واحد، ويجاب عليه في أمرين:(1/40)
1 ــ لو بحث من يذهب إلى أن الأئمة يشترطون العلم بالسماع عن نصوص تؤيد قوله لم يجد أفضل من هذا المثال، ذلك أن حال عروة مع أم سلمة ما ذكر، ومع هذا قال الطحاوي كلمته السابقة، وكذلك حكم الدارقطني بأنه مرسل، فأين المرسل؟
2 ــ من المعلوم أن إدخال راو بين راويين لم يعلم السماع بينهما من أقوى القرائن على الانقطاع بينهما، ويتأكد هذا جداً إذا كان إدخال الراوي بينهما في الحديث نفسه الذي جاء من طريق آخر بالراوية بينهما مباشرة ، كما في هذا الحديث، ذلك أن إدخال راو بين راويين هو دليل الانقطاع، ولو كان السماع بينهما ثابتاً معلوماً في أحاديث أخرى. وإذا تقرر هذا فرواية عروة بن الزبير عن أم سلمة منقطعة جزماً، عند البخاري وغيره، والبحث ينبغي أن يكون حول إخراج البخاري لإسناد منقطع في صحيحه.
والجواب عن هذا المثال وغيره من الأمثلة التي ذكرها الشيخ لم أخرجها البخاري وهي أسانيد منقطعة؟! يكون كالتالي: إن الجواب عن هذا السؤال يتعلق بالقضية التي أشار الشيخ إليها، وهي قضية الشرط، والنزول عن الشرط، فإذا عرفنا أن شروط الحديث الصحيح هي ثقة الرواة واتصال الإسناد، وخلوه عن الشذوذ والعلل، لابد أن نضم إلى هذا إدراك أن الالتزام الدقيق بهذه الشروط بالقدر الذي يصلح لشرط الصحيح أمر غير موجود، فما من شرط من هذه الشروط إلا وقد نزل فيه صاحبا الصحيح عن الشرط.(1/41)
والذي يهمنا هنا من خلال النظر في هذه الأمثلة هو شرط الاتصال والإرسال منه على وجه الخصوص، وخلاصة الكلام أن إخراج البخاري لأسانيد قليلة لم يعلم فيها سماع الراوي ممن روى عنه إنما هو نزول عن شرطه وهو العلم بالسماع، ولا دلالة فيه مطلقاً على أنه لا يشترطه، فمن الجناية على هذا الإمام أن تذهب جهوده العظيمة التي تمثلت في الحرص على تتبع السماع، وفي التزامه بذلك في صحيحه حتى أنه ربما ذكر أسانيد الغرض منهما إثبات السماع، وفي إعراضه عن العشرات الأسانيد التي هي على شرط الصحيح لولا عدم العلم بالسماع، ومن الجناية أن تذهب هذه الجهود بمجرد وقوفنا في أثناء مئات الأسانيد على بضعة أسانيد لم يعلم فيها السماع، مع وجود مخارج صحيحة لها غير كونه لا يشترط العلم به، وعند القول بأنه أخرج هذه الأسانيد نازلاً بها عن شرطه فالقول حينئذ لا يكون جزافاً بغرض التخلص منها، وإنما هو اعتماد على دليل ظاهر جداً، وخلاصته أننا نجد أسانيد في صحيح البخاري ظاهرة الانقطاع بالاتفاق.
إن إخراج البخاري عدداً من الأسانيد يروي فيها التابعي حكاية وقعت للصحابي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، دون أن يسندها إلى الصحابي قد قام إجماع الأئمة على ذلك بأنه مرسل غير متصل، والبخاري يتسامح في هذا إذا كان التابعي معروفاً بالرواية عن الصحابي صاحب القصة، فالاحتمال الكبير أن يكون أخذها عنه، مع ضميمة أمر آخر، كأن يكون هناك طرق أخرى للقصة أو لأصلها في صحيح البخاري، أو في خارج الصحيح أو يكون الحديث المرسل ليس فيه حكم شرعي.
ثم إن ابن حجر قد أجاب عن الإرسال بأن الظاهر أن عروة حمله عن خالته عائشة أو عن أمه أسماء، كما أنه أجاب عن الإلزام بقوله: القصة المذكورة لا تشتمل على حكم متأصل، فوقع فيها التساهل في صريح الاتصال فلا يلزم من ذلك إيراد جميع المراسيل في الكتاب الصحيح.(1/42)
والجواب عن الإلزام ظاهر، وأما الجواب عن الإرسال ففيه ما فيه، إذْ أن هناك احتمال أن يكون حمله عن تابعي آخر، والبخاري لم يخرجه متابعاً أو شاهداً فلا مناص من القول بالتسامح في النزول عن الشرط.
المسألة الثانية (399): ( الفرق بين قضية النزول عن الشرط وعدم اشتراط الشرط)
إنّ إخراج مسلم أسانيد نزل فيها عن شرطه في العلم بالسماع، فهناك أسانيد كثيرة ليست على شرط مسلم في الاتصال، ويكون إخراجها إما في المتابعات والشواهد أو لم يقصد تخريجها، وإنما جاءت هكذا في الإسناد وهو يريد آخر معه، وربما اعتذروا عن بعضها بأنها وجدت موصولة خارج صحيحه، بل أكثر من ذلك ، فقد وجد أن مسلماً ربما نزل عن شرطه في حديث أصل فقد أخرج من طريق حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه .. قال ابن المديني رواه سليمان بن المغيرة عن أبي هلال عن أبي رفاعة، ولم يلق عندي أبا رفاعة.
المسألة الثالثة (403):
ما يقال في نزول الشيخين عن شرطهما في العلم يقال مثله في تدليس الراوي عمن سمع منه، سواء بسواء، ففي الصحيحين أحاديث للمدلسين ليس فيها تصريح بالسماع، وإنما أخرجها الشيخان لأسباب خاصة، كأن تكون في المتابعات أو الشواهد أو في غير المرفوع، ولا يبعد أيضاً أن يكون فاتهما فأخرجا شيئاً وقع فيه تدليس، وعلى هذا فلا يصح أبداً أن يَلتقط باحثٌ بضعة أسانيد في الصحيحين فيها عنعنة مدلس، ثم يبني عليه أن منهج النقاد في تعاملهم مع أحاديث المدلسين أنهم لا يلتفتون للتدليس، إلا إذا ظهر ذلك في حديث معين.
المبحث الثاني: درجات الاتصال والانقطاع
وفيه ثلاثة مسائل وتنبيهان
المسألة الأولى (407):(1/43)
بيان ضعف قول من يستدل لترجيح رأي مسلم بأنه يلزم على القول المخالف طرح أحاديث كثيرة؛ من الأدلة التي يستند إليها من يرجح رأي مسلم في مسألة رواية الثقة عن شخص أمكن لقاؤه له ولم يثبت دليل خطابي خارج عن أصل القضية، فهو يقول: إن الأخذ بقول الجمهور يؤدي إلى رد أحاديث كثيرة، وهذا معناه تعطيل جملة من السنة النبوي.
ويجاب عليه:
1 ــ هذا دليل خطابي لا بقدم ولا يؤخر في المسألة، فلو افترضنا أن ما ذكره صحيح فما المانع من التزامه؟ فقد ردت أحاديث كثيرة جداً بأسباب أخرى، ولو فتح هذا الباب لأدى ذلك إلى إلغائها أيضاً، ولذهبت جهود أئمة الحديث سدى.
2ــ إن القول بأن الأخذ برأي الجمهور معناه تعطيل جملة من السنة النبوية غير صحيح، كما قال ابن رجب: فإن قال قائل: هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث، وترك الاحتجاج بها، قيل: من ههنا عظم على مسلم ، والصواب أن مالم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به مع إمكان اللقي، كما يحتج بمرسل أكابر التابعين، كما نص عليه الإمام أحمد. وهذا الذي قاله من الأهمية بمكان، وليس خاصاً بمسألة الانقطاع، فهو جارٍ أيضاً في جرح الرواة وتعديلهم، فما ضعف بسبب اختلال شرط من شروط الصحة ليس معناه طرحه بالكلية، وعليه فليس الحكم على تلك الأحاديث بأنها غير متصلة بموجب لطرحها، فقد تعضد غيرها، ويعضدها غيرها، ويحتج بها مع أدلة أخرى، وقد يحتج بها استقلالاً من يرى العمل بما فيه ضعف غير شديد إذا لم يكن في الباب ما يدفعه، أو لسبب آخر.
المسألة الثانية (408):
إن مراتب الجرح والتعديل من خلال عرضها يتبين أن درجات الأحاديث تختلف بحسب درجات رواتها، ومثل هذا يقال في شرط الاتصال، فما حكم له بالاتصال هو على درجات، وما حكم عليه بالانقطاع فهو على درجات أيضاً، وإن كان الأئمة لم ينصوا على درجات للاتصال والانقطاع، لكن يمكن للباحث أن يتلمس هذا من صنيعهم وتطبيقهم، ولنا في ذلك وقفات:-(1/44)
أولاً: درجات الاتصال، إن إثبات سماع راو من آخر ظاهر جداً أنه يختلف باختلاف قوة دليل ذلك الثبوت، فحال من اتفق الأئمة على ثبوت سماعه ممن روى عنه، واشتهاره بالأخذ عنه واستفاضة ذلك، ليس كحال من ثبت سماعه عندهم بحديث واحد صرح فيه بالتحديث، وإن لم يجر خلاف في نفي السماع. ودون ذلك من جرى بين الأئمة خلاف في سماعه ممن روى عنه، وإن ترجح ثبوت السماع، وعلى هذا فاتصال حديث من رواية عروة بن الزبيرـ مثلاً ــ أو القاسم بن محمد، أو عمرة بنت عبدالرحمن، ونحوهم ممن استفاض لقاؤه بعائشة وسماعه منها، ليس كاتصال حديث من رواية مجاهد أو عكرمة عن عائشة، وقد جرى بين الأئمة خلاف في سماعهما منها.
ومثل ذلك يقال في حديث معين بعد ثبوت أصل السماع، فحديث يرويه مدلس قد صرح فيه بالتحديث وثبت عنه، ليس في الاتصال كحديث لم يصرح فيه المدلس بالتحديث، وإن كانت عنعنته مقبولة، إما لكونه قليل التدليس، أو لكونه يروي ذلك الحديث عن شيخ أكثر عنه جداً، أو لسبب آخر أوجب قبول عنعنته في ذلك الحديث، أو لكون دارس الإسناد يذهب إلى أن الأصل في رواية المدلس بصيغة محتملة هو الاتصال مالم يتبين في الحديث المعين أنه دلسه.
وكذا ورود تصريح المدلس بالتحديث من طرق متعددة أقوى من وروده من طريق واحد يتطرق إليه الاحتمال، ثم إن هذا الطريق الواحد قد يكون قوياً جداً وقد يكون دون ذلك.
تنبيه (410):
تبرز فائدة معرفة درجات الاتصال عند التعارض، أو الحاجة إلى الموازنة والترجيح، وقد يحتاج إليها وإن لم يكن هناك تعارض، مثل كون الحديث فرداً في حكم مهم تعم به البلوى، ونقل المكلف عن البراءة الأصلية فيه يحتاج إلى دليل قوي.(1/45)
ثانياً: درجات الانقطاع، يمكن وضع درجات له كما في الاتصال، أي باعتبار قوة القول بالانقطاع وضعفه، فرواية راوٍ عن شخص لم يدركه، ليست في الانقطاع كرواية راوٍ عن شخص قد أدركه، ورواية راوٍ عن شخص أدركه ولكن لا يمكن سماعه منه، ليست كرواية راوٍ عن شخص أدركه وأمكن سماعه منه، لكن لم يثبت سماعه، فإن بعض الأئمة يحكم لمثل هذه الحالة بشروط معينة بالاتصال. ويدخل في ذلك وجود الاختلاف بين الأئمة في الحالة المعينة وعدمه، فرواية راوٍ عن شخص قد اتفق على أنه لم يدركه ليست كرواية راوٍ عن شخص قيل إنه أدركه، ورواية راوٍ عن شخص قد اتفق على أنه أدركه ولم يسمع منه ليست كرواية راوٍ عن شخص أثبت الأئمة له سماعاً منه، وإن ترجح عدمه.
المسألة الثالثة (410):
درجات تعين الساقط؛ يمكن وضع درجات للانقطاع باعتبار مرتبة الساقط من الإسناد، وقد تقرر أن شرط اتصال الإسناد يرجع في نهاية الأمر إلى عدالة الرواة وضبطهم، فإذا أمكن معرفة درجة الساقط تحديداً أو تقريباً فالحكم على الإسناد حينئذ يكون بحسب درجة هذا الساقط. وهي على ثلاثة درجات:-
الأولى: تسمية الواسطة في الحديث المعين: يتهيأ في أحيان كثيرة معرفة الساقط من الإسناد في الحديث المعين على وجه التحديد، إما بوروده في رواية أخرى، أو بنص إمام من أئمة هذا الشأن، ثم إن هذا الساقط قد يكون ثقة وقد يكون ضعيفاً أو كذاباً، وقد يكون مجهولاً، أو مبهماً غير مسمى، بل في أحيان كثيرة يكون الدليل على وجود انقطاع في الإسناد هو نفسه الدليل المعرف بالساقط من هو.(1/46)
الثانية: تسمية الواسطة في جملة ما يرويه الراوي عمن أرسل أو دلس عنه(413): إذا لم تتهيأ تسمية الساقط من الإسناد في الحديث المعين فقد يتهيأ تسميته في جملة ما يرويه الراوي عن ذلك الشيخ الذي أسقط من دونه، إما بتسميته على وجه التعيين، أو بتسمية عدد من الرواة. إذا كان تسمية عدد الوسائط بين الراوي ومن روى عنه، إن كانوا كلهم ثقات أو كلهم ضعفاء فكما لو كان المسمى واحداً، وإن كان فيهم ثقات وضعفاء فيتوقف فيه، وما يتوقف فيه فمآله دائماً إلى الرد حتى يثبت نقيضه(422).
الثالثة أن يعرف بالقرائن حال من يسقطهم المرسل أو المدلس(428): فعن هذا الطريق وضع الأئمة مراتب للمراسيل، نصوا فيها على مبررات تفريقهم بينها، فعلى الباحث أن ينظر فيها إذا أراد الحكم على مرسل أمامه ما درجته؟ وهل يصلح للاعتضاد أو لا؟ ومثل ذلك يقال في التدليس.
تنبيه (433):
ينبغي أن ينتبه الباحث إلى إن الانقطاع ليس على درجة واحدة بل هو متفاوت جداً، فإذا عرف هذا لم يكن مستغرباً أن نجد في الصحيح ما صورته الانقطاع واحتف به ما يجعله في حكم المتصل، وكذلك فإننا نجد من أحاديث المدلسين ما يحتمل أو يترجح أنه وقع فيه تدليس، لكن يتسامح فيه لأنه ليس عليه الاعتماد، وإنما يستغرب جداً إلى من يأتي إلى إسناد فيه إرسال أو تدليس مَن يكثر منه إسقاط الضعفاء والمتروكين ثم يعضده بغيره، أو يعضد غيره به.
المبحث الثالث: مصطلحات في الاتصال والانقطاع
هناك مصطلحات شائعة يستخدمها الأئمة في حديثهم عن اتصال الإسناد وانقطاعه، لكن هناك بعض المصطلحات غير شائعة عند الباحثين، إما لقلة استخدامها أو لاستخدام الباحثين مصطلحات أخرى بديلة لها مما هو شائع ومعروف وهذه بعض المصطلحات الغير شائعة وهي مستعملة من قبل الأئمة، فنرى والله أعلم أنه ينبغي على الباحث أن يلم بها(435):-
1ــ التوقيف (435):(1/47)
ومعناه: سؤال الراوي لشيخه عن أمر ما في روايته، وأكثر ما يستخدم في مطالبة الراوي لشيخه أن يصرح له بالتحديث، فإذا فعل فقد وقف، وإلا قالوا: لم يقف، فقول الراوي: وقفته فوقف لي، أي طالبته بالتصريح بالتحديث فصرح لي به.
2ــ التصحيح (437):
ومعناه: اتصال الإسناد بالسماع، فيقولون: سألت فلاناً أن يصحح لي هذه الأحاديث فصححها، يعني صرح بالتحديث فيها، أو لم يصححها، يعني أبى ذلك، أو صحح لي منها كذا، يعني صرح بالتحديث في بعضها دون البعض الآخر فهو لم يسمعه.
تنبيه (438):
قد يقولون أحياناً: أحاديث فلان عن فلان صحاح، يعني سمعها أو ليست بصحاح يعني لم يسمعها، ولا يقصدون بذلك الصحة الاصطلاحية، فالناظر في عبارات الأئمة يجد فيها ما يشبه بالتصحيح المطلق، وهو الحكم على الحديث، لكن يفهم من السياق أو من عبارات أخرى أن ذلك خاصٌ بالسماع، وبلا شك فإنه بالنسبة للنفي فإنه يوافق عدم صحة التصحيح مطلقاً، خلافاً للإثبات فلا يلزم منه الصحة المطلقة.
3ــ الخبر (442):
ويعنى به كثيراً: ما يطلق الخبر ويراد به المتن، لكنه قد يطلق ويراد به التصريح بالسماع، فإذا قالوا قد ذكر الخبر فيه، فمعناه أنه صرح بالتحديث، أو لم يذكر الخبر، يعني لم يصرح بالتحديث، وإذا قالوا في حديثه أخبار، فمعناه أنه يعتني بالتصريح بالتحديث منه وممن فوقه، أو العكس.
4ــ الألفاظ (444):
فتطلق ويراد بها ألفاظ متن الحديث، وتطلق ويراد بها الصيغ الصريحة في السماع.
5ــ حديثه يهوي (446):
يعني أن أحاديثه مراسيل.
6ــ أحاديث بتر:
البتر هو القطع، ويعنون بذلك أنها مراسيل.
7ــ الإلزاق (447):
ومعناه أن الراوي لم يسمع الحديث ممن رواه عنه.
المبحث الرابع: الحكم على الإسناد بعد دراسة الاتصال والانقطاع
وفيه أربعة مسائل
المسألة الأولى (449):(1/48)
عندما يفرغ الباحث من دراسة أي إسناد، يكون قد فرغ من النظر في ثلاثة شروط من شروط الحديث الصحيح وهي: عدالة الرواة، ضبطهم، اتصال الإسناد، عندها يكون بصدد تلخيص نتيجة هذه الدراسة، فالألفاظ التي يمكن للباحث أن يلخص بها نتيجته تنقسم في الجملة إلى ثلاثة أقسام:-
القسم الأول: عبارة عن وصف للإسناد أكثر منه حكماً عليه، مثل أن يقول الباحث: رجاله ثقات، إسناده متصل، فهو لم يحكم على الإسناد بشيء، لا بصحة ولا بضعف، وإنما وصف الإسناد بأن رجاله ثقات، وأن إسناده متصل، والألفاظ التي يصف بها الإسناد لا نهاية لها، لذا لا يمكن حصر الباحث في ألفاظ معينة فيقال له: خذ هذه الألفاظ وصف بها الأسانيد، لأن كل باحث سيصف الإسناد بما توصل إليه بالعبارة التي يراها مناسبة.
القسم الثاني: ألفاظ تطلق والمقصود بها بيان درجة الإسناد، كأن يقول الباحث: هذا الإسناد صحيح أو حسن أو ضعيف أو إسناده صحيح لولا كذا وكذا، ويقال عن التعبير في هذا القسم كما قيل في الأول.
القسم الثالث (450): ما درج عليه كثير من العلماء الباحثين من مقارنة الأسانيد التي يدرسونها بأسانيد الصحيحين، فيكثر من صنيعهم أن يقول أحدهم: هذا الإسناد على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم، أو يقول: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وغير ذلك من الإطلاقات.
تنبيه (450):(1/49)
1ــ أخف الأقسام الثلاثة السابقة هو القسم الأول، إذْ هو عبارة عن وصف للإسناد، وأما القسم الثاني فهو عبارة عن إصدار حكم على الإسناد بعد الفراغ من دراسة الشروط الثلاثة، وهذا يوجد بكثرة في كلام الأئمة المتأخرين بعد عصر الرواية والنقد، مثل ابن الصلاح والنووي والمنذري والذهبي وابن كثير والعراقي والهيثمي والبوصيري وابن حجر، وقد أكثر هؤلاء الأربعة الأخيرين من الكلام على الأحاديث والحكم على الأسانيد لاشتغالهم بالتخريج، ولما كانت الأحاديث التي حكموا عليها كثيرة جداً، فإن من العسير جمع طرقها والنظر فيها، واستكمال مراحل الحكم على الحديث، وإلا لما تمكنوا من إنجاز هذه المؤلفات، فلجئوا إلى الأحكام الجزئية التي تفيد الفراغ من بعض مراحل الدراسة، فربما اكتفوا بالحكم على رواة الإسناد، وربما تجاوزوه إلى دراسة الاتصال والانقطاع، فيعطون الإسناد وصفاً كما في القسم الأول، أو يصدرون حكماً كما في القسم الثاني، وربما جمعوا بين القسمين هذا وذاك.
2ــ العلماء ــ في كتب علوم الحديث ــ نبهوا إلى أن هذا الحكم ليسبحكم نهائي، وأنه ينبغي التفريق بين: إسناده صحيح، وبين: حديث صحيح، فهذا حكم بعد استكمال خطوات تصحيحه، مثله الحسن، وذاك حكم بتوفر ثلاثة شروط فقط.
المسألة الثانية (452):
خطورة الحكم الجازم على الأسانيد المفردة؛ إن التوسع في الحكم على الأسانيد المفردة من حيث الصحة أو الضعف، يرى الشيخ أنه تصرف خطير من عدة أوجه:-(1/50)
1ــ أن فيه إيهاماً، لأنه ليس كل القراء يعرفون أن الباحث إذا قال: إسناده صحيح فهو حكم منه على الإسناد، وأنه توافر فيه عدالة الرواة وضبطهم واتصال الإسناد، فالعامي والقارئ غير المتخصص لا يخالطه شك أنه إذا قيل: إسناده صحيح ــ فهذا يعني صحة الحديث، وهذا فيه إيهام، ويخشى على صاحبه من الإثم، إذا كان يعرف أن لهذا الإسناد علة وسكت عنها، وهو يظن أنه قد ألقى عن نفسه العهدة بناءً على أن الأئمة يصنعون مثل هذا، والخوف من الإثم يزداد إذا كان الحديث يوافق هوى في نفس الباحث، فقد يكون الحديث يستدل به لمذهبه، أو لرأي يقول به أو يزين بحثه ومقاله بهذا الحديث، فلا يريد أن يضعفه فيلجأ إلى الحكم الإسناد المفرد، وأما إذا لم يستكمل البحث لعدم قدرته أو لاستعجاله فهذا أخف الأمرين، وإن كان ينبغي سد الباب، فأما إذا عرف الباحث أن الإسناد فيه علة وسكت عنها، أو عرف الحديث صحيح وقال: إن الإسناد ضعيف، وهو يعرف أن له متابعات وليس الاعتماد على هذا الإسناد، فهذا هو الذي يخشى عليه من الإثم.
2ــ الاعتناء بالحكم على الأسانيد مفردة جرأ كثيراً من الباحثين على أحاديث حكم عليها الأئمة بالصحة، ومنها أحاديث في الصحيحين، يأتون إليها ويأخذون أسانيدها واحداً واحداً ويحكمون عليها، وقد يكون في بعضها ــ لو نظر إليه وحده ــ ضعف.
3ــ بعض المشرفين على أقسام السنة في الجامعات يلزم الطلاب بإصدار الأحكام على الأسانيد مفردة، وهذا الكلام لا يصح من جهتين: الأولى: قال السخاوي: الأذن بالحكم على الإسناد قبل استكمال البحث في علله وفي شذوذه سيؤدي إلى أن يدخل إلى التصحيح والتضعيف من لا يحسنه. وهذا هو الواقع.
المسألة الثالثة (456):(1/51)
تحرير المقصود بشرط الشيخين؛ أحسن ما قيل في المقصود بشرط الشيخين أن يكون الإسناد موجوداً بتمامه وعلى صفته في الكتابين، أو في أحدهما إن كان الكلام في شرطه، يضاف على ذلك خلوا الحديث من الشذوذ والعلة، ثم إن هناك بعض الأوجه التي يمكن من خلالها أن يتطرق الخلل إلى دعوى أن الحديث على شرط الشيخين أو أحدهما:-
أولاً: أن يوجد راوٍ في الإسناد أو أكثر لم يخرج له الشيخان، وحينئذ فلا يكون الإسناد على شرطهما ولا على شرط واحد منهما، وهذا الخلل كثيراً ما يقع للحاكم في مستدركه، إذْ يعقب على أحاديث بأنها على شرط الشيخين أو أحدهما، وفي رواتها من لم يخرجا له، ويقع هذا لغير الحاكم أيضاً.
ثانياً: أن يكون في الإسناد راوٍ قد أخرج له مسلم عن راوٍ قد أخرج له البخاري أو العكس، فلا يصح أن يقال عن هذا الإسناد غنه على شرط الشيخين.
ثالثاً: أن يوجد في الإسناد راوٍ قد أخرج له البخاري ومسلم، وشيخه في هذا الإسناد قد اخرجا له أيضاً، لكن لم يخرجا لهما على الاجتماع، بل أخرجا لكل واحد من هذين الراويين منفرداً عن الآخر.
رابعاً: أن يوجد راوٍ في الإسناد قد أخرج له الشيخان أو أحدهما مقروناً بغيره، أو في المتابعات والشواهد لا في الأصول، بمعنى أنهما لم يعتمدا عليه، وحينئذ فلا يكون الإسناد الذي فيه هذا الراوي على شرطهما ولا على شرط واحد منهما، إذا كان الحديث أصلاً في بابه، والذين لهما الشيخان أو أحدهما بهذه الصفة كثيرون جداً، بل إن هناك رواة جاء ذكرهم في الإسناد، فأبقاهم الشيخان دون قصد التخريج فيما يظهر.
خامساً: أن يوجد راوٍ في الإسناد متكلم فيه، وقد اخرج له البخاري مسلم أو أحدهما في الأصول محتجاً به، ويكون الشيخان قد أخذا صحيح حديثه وتركا ما أخطأ فيه، فلا يكون الإسناد الموجود فيه هذا الراوي وهو خارج الصحيحين على شرط الشيخين.(1/52)
سادساً: أن يكون الإسناد ظاهراً على شرط الشيخين، بمعنى أنه لم يتطرق الخلل إليه من جهة الأمور الخمسة السابقة، فلأول وهلة يظن أنه على شرطهما، لكن بعد التفتيش وجمع طرق الحديث يتبين أن له علة من أجلها ترك الشيخان أو احدهما تخريج الحديث، فلا يصح حينئذ أن يدعى أنه على شرطهما أو على شرط واحد منهما.
المسألة الرابعة (459):
لو قال قائل ما حظ مراعاة هذه الشروط في وصف إسناد بأنه على شرط الشيخين أو أحدهما من التطبيق؟ ويجاب، بكل أسف إن مراعاة هذه الشروط معدومة تماماً أو شبه معدومة، وهذه حقيقة الحال لاسيما في وقتنا الحاضر، فكل أو جل دعاوى أن الإسناد الفلاني على شرط الشيخين أو الإسناد الفلاني على شرط البخاري أو مسلم هي خلل في خلل، وذلك إذا لم يكن الحديث في الصحيحين أو أحدهما، فإن بعض الباحثين يطلق هذه العبارة على أحاديث موجودة فيهما أو في أحدهما، وغرضه من ذلك الإسناد.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أعد هذا التلخيص محب العلم الشرعي وأهله
خالد جاسم الجاسم
جامعة الملك سعود
كلية التربية ـــ قسم الثقافة الإسلامية
الدراسات العليا ـــ مرحلة الدكتوراه(1/53)