مظاهر الإنصاف عند المحدثين في جرح الرواة
( د. عبد الرحمن إبراهيم الخميسي (1)
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأصلي وأسلم على أفضل رسله وأشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن من نعم الله تعالى العظيمة على هذه الأمة أن حفظ لها دينها الذي هو عصمة أمرها ، ومصدر عزها وقوتها ، والمتمثل في الكتاب العزيز والسنة المطهرة . فأمّا الكتاب فلم يكل – سبحانه – حفظه إلى أحد من خلقه لا إلى نبي مرسل ولا إلى مَلَك مقرَّب وتولى جل وعلا حفظه بذاته ليبقى مصوناً محفوظاً من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى (2) .
وأمّا السنة المطهرة فقد هيأ الله لها رجالاً ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين فيميزون صحيحها من سقيمها وثقاتها من ضعفائها، وعنوا بكل ما يتصل بها من علوم تعين على فهمها وتسهل الطريق إلى معرفتها، وكان هذا هو حفظها الذي هو من تمام حفظ القرآن الكريم.
__________
(1) (() أستاذ مساعد بقسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية صنعاء ( الجمهورية العربية اليمنية).
(2) سورة الحجر الآية 9(1/1)
ومما عني به هؤلاء الرجال الأئمة من علوم السنة علم الجرح والتعديل من حيث ألفاظه، ومراتبه، وشروطه، وما يقبل منه، وما لا يقبل إلى ما سوى ذلك، وقد كان حليتهم في بحث العلم التقوى والورع والإنصاف مما كان له الأثر الواضح على جميع مباحثه من حيث التأصيل والتقسيم والاعتدال، وقد لفت انتباهي من منهجيتهم في هذا، قضية إنصافهم مع الغير، حيث لم أجد قائلاً من مجموع ما وقفت عليه من العلوم منْ بزّهم في ذلك أو بلغ شأوهم فيه ، وإذا قال قائل إنه حكر عليهم لم يشطط ولم يبالغ، والدليل على هذا أن منهم من جرح أباه ومنهم من جرح ابنه ومنهم من جرح أخاه، ولو حصل منهم محاباة لأحد لكان الآباء والأبناء والأخوة أولى الناس بذلك، غير أن هذا لم يحصل واستمر الحال كذلك يدفعهم فيه العدل والإنصاف لا يغضبهم كلام متكلم، ولا يوقفهم عنه أحد، ولا يخافون من معترض حتى لقوا ربهم وهم على ذلك غير مبدلين ولا متراجعين كما روى الخطيب عن علي بن الحسين بن الجنيد يقول سمعت يحيى بن معين يقول : إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة. قال ابن مهروية: فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب "جرح التعديل" فحدثته بهذه الحكاية فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية ولم يقرأ في ذلك المجلس شيئاً أو كما قال أهـ (1)
__________
(1) انظر : الخطيب البغدادي ( جامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/201 ) تحقيق د/ محمود الطحان، مكتبة المعارف الرياض 1983م ..(1/2)
أي أنه ترك قراءة "الجرح والتعديل" في ذلك المجلس فقط بسبب تأثره وكثرة بكائه وعاد إليه بعد ذلك لا أنه ترك القراءة بالمرة فهذا غير وارد أصلاً وقد وقفت أثناء قراءتي لبعض كتب الجرح والتعديل وغيرها من مصنفات علوم الحديث على مواضع كثيرة من إنصافهم فعظمت الرغبة في نفسي في جمع شتاتها ولمّ شعثها في بحث علمي فكانت هذه الصفحات بعنوان: "مظاهر الإنصاف عند المحدثين في جرح الرواة"، والتي اشتملت على تسعة مباحث مدعومة بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم وأخبارهم، ثم ختمت هذه المباحث بخاتمة ذكرت فيها، خلاصة موجزة للبحث، وفي آخر ذلك ذكرت المصادر التي رجعت إليها وأفدت منها فيما كتبته فيه، فإن كان فيما كتبت خير فمن الله تعالى وحده، وإن كانت الأخرى فمني ومن الشيطان وأستغفر الله أولاً وآخراً، والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المبحث الأول
ذكر الجرح والتعديل في الراوي المختلف فيه وعدم الاقتصار على ذكر الجرح فقط(1/3)
إن هذا الأمر المشار إليه هو من تمام الإنصاف من هؤلاء الأئمة الأعلام وغاية عدلهم فإنهم إذا ترجموا لراوٍ قد اختلفت عبارات العلماء في حاله بين موثق ومجرح له، لم يستجيزوا لأنفسهم الاقتصار على ذكر الجرح فقط بل لابد أن يذكروا معه ما بلغه في حاله من تعديل، وذلك مثلما يوجد في بعض المصنفات التي عنى بها أصحابها بمثل هذا النوع من التراجم، ككتاب "الجرح والتعديل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي الحنظلي(ت 327هـ)، و"الكامل في ضعفاء الرجال" لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني(ت364هـ)، و"تهذيب الكمال في أسماء الرجال" لأبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي(ت742هـ) و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال" لأبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي(ت 748هـ) وغير ذلك من المصنفات الكثيرة في هذا الباب، ويستثنى من ذلك ما كان موضوعاً من هذه المصنفات لبيان رأي مؤلفيها فقط ككتاب "الثقات" لمحمد بن حبان البستي (ت 354هـ )، و"تاريخ الثقات" لأحمد بن عبد الله بن صالح العجلي (ت 261هـ ) و"تاريخ أسماء الثقات" لأبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين (ت 385هـ)، ونحوها فإن مؤلفيها لم يذكروا فيها سوى آرائهم فقط إلا نادراً، وكبعض المؤلفات الأخرى في الطبقات والتاريخ، حيث اقتصرت على آراء مؤلفيها دون التعريج على آراء غيرهم سواءً أكان الراوي المترجم له متفقاً على ثقته أو مختلفاً فيه وذلك مثل: "الطبقات الكبرى" لمحمد ابن سعد ( ت 230هـ ) و"التاريخ" ليحيى بن معين (ت233هـ) ، و"التاريخ الكبير" لمحمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ ) وغيرها ، وهذا الصنيع من هؤلاء الأئمة في عدم إغفالهم للتعديل مع وجود الجرح دليل من أدلة كثيرة على منتهى أمانتهم وعظيم إنصافهم وقوة امتثالهم للحق ، حيث امتثلوا قوله تعالى (1) . وقوله تعالى (2) .
__________
(1) سورة النحل الآية (90).
(2) سورة النساء الآية (135).(1/4)
ومن هنا جاءت تحذيرات هؤلاء الأئمة من الاقتصار على الجرح مع وجود التعديل واعتبار ذلك من الظلم قال الإمام محمد بن سيرين (ت 110هـ):
(ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه) (1) .
وشدّد الحافظ الخطيب أحمد بن علي البغدادي (ت 463هـ) على وجوب ذكر الجرح والتعديل إذا اجتمعا في الراوي وعدم جواز الاقتصار على أحدهما فقال: ( إذا اجتمع في أخبار رجل واحد معانٍ مختلفة من المحاسن والمناقب والمطاعن والمثالب وجب كَتْبُ الجميع ونقله وذكر الكل ونشره ) (2) .
وقد انتقد الذهبي مسلك ابن الجوزي عبد الرحمن بن علي(ت 597هـ ) في كتابه "الضعفاء والمتروكين" حيث يورد الجرح في الراوي ولا يورد التعديل، جاء ذلك في معرض ترجمته لأبان بن يزيد العطار (ت 160هـ تقريباً) وهو حافظ صدوق إمام ، إذ قال: ( وقد أورده العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في الضعفاء ولم يذكر فيه أقوال من وثّقه، وهذا من عيوب كتابه، يسرد الجرح ويسكت عن التوثيق) (3) .
__________
(1) انظر : ( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 202 ).
(2) انظر: الموضع والمصدر السابق نفسه .
(3) انظر : الذهبي محمد بن أحمد ( ميزان الإعتدال في نقد الرجال 1/16) تحقيق على محمد البجاوي – دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت – الطبعة الأولى ) .(1/5)
وقد أكد على ما سبق وزاد كلاماً نفيساً في جنباته العلامة ظفر بن أحمد العثماني التهانوي (ت 1394هـ ) حيث قال ( إذا كان الراوي مختلفاً فيه ، وثقه بعضهم، وضعّفه بعضهم فالاقتصار على ذكر التضعيف والسكوت عن التوثيق عيب شديد، وكذا بالعكس، إلا أن يكون ممن ثبتت عدالته وأذعنت الأمة لإمامته فلا بأس بالاقتصار على التوثيق إذاً، بل قد يجب ذلك إذا تبين صدور الجرح فيه من متعصب أو متعنت أو مجروح ينفسه أو متحامل عليه للمعاصرة أو المنافرة الدنيوية، أو ممن لا يلتفت إلى كلامه لكونه جاهلاً بحال الراوي، وهذا كله ظاهر بعد التأمل فيما ذكرنا من أصول الجرح والتعديل (1) .
المبحث الثاني
عدم محاباة أحد من المجروحين قريباً كان أو بعيداً وذكره بما فيه من الجرح
وهذا الأمر من أوضح الأدلة على إنصافهم وعدم مداهنتهم أو مجاملتهم لأحد لأنه لو لم يكن عندهم إنصاف لما تعرضوا بالجرح لأقرب الناس إليهم، وهذا ما حدث بالفعل فقد تكلم بعضهم في آبائهم وبعضهم في أبنائهم وبعضهم في أخوانهم وبعضهم في أختانهم وأصدقائهم قال البهيقي أحمد بن الحسين ( ت 458هـ): ( ومن أنعم النظر في اجتهاد أهل الحفظ في معرفة أحوال الرواة، وما يقبل من الأخبار وما يرد، علم أنهم لم يألوا جهداً في ذلك حتى إذا كان الابن يقدح في أبيه إذا عثر منه على ما يوجب رد خبره، والأب في ولده، والأخ في أخيه لا تأخذه في الله لومة لائم ولا تمنعه في ذلك شجنة رحم ولا صلة مال، والحكايات عنهم في ذلك كثير ) (2) .
__________
(1) انظر : ظفر بن أحمد التهانوي ( قواعد في علوم الحديث ص 281) تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – مكتب المطبوعات الإسلامية حلب –ط الخامسة الرياض 1984م.
(2) انظر: البهيقي أحمد بن الحسين ( دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة 1/ 47) تحقيق د. عبد المعطي قلعجي – دار الكتب العلمية – بيروت، ط الأولى 1985م.(1/6)
ومن أشهر الأبناء الذين جرحوا آباءهم علي بن عبد الله بن المديني شيخ البخاري (ت 234هـ ) فقد سئل عن أبيه فقال : (اسألوا غيري، فقالوا : سألناك، فأطرق ثم رفع رأسه وقال : هذا هو الدين، أبي ضعيف ) (1) .
وأحمد بن محمد بن سليمان أبو ذر الأزدي المعروف بابن الباغندي
(ت 326هـ ) قال حمزة بن يوسف السهمي ( ت427هـ ): سمعت أبا مسعود الدمشقي يقول : سمعت الزينبي ببغداد يقول : دخلت على محمد بن محمد الباغندي فسمعته يقول : لا تكتبوا عن ابني فإنه يكذب، فدخلت على ابنه فسمعته يقول: لا تكتبوا عن أبي فإنه يكذب ) (2) .
وممن جرح أبناءه محمد بن محمد الباغندي أبوبكر ( ت312هـ ) كما تقدم وأبوداود سليمان بن الأشعث السجستاني ( ت275هـ ) وكلامه في ابنه رواه عنه ابن عدي من طريق علي بن الحسين بن الجنيد قال : سمعت أبا داود السجستاني يقول : ابني عبد الله هذا كذاب (3) .
غير أن أحداً لم يرتض هذا الجرح من أبي داود، وأول من ردّه عليه ابن عدي نفسه وبيّن أنه لولا شرطه في كتابه لم يذكره وختم ذلك بقوله : (وهو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه فلا أدري أيش تبين له منه) (4) .
وأحد من جرّح ابنه كذلك : شعبة بن الحجاج أبو بسطام الواسطي
__________
(1) انظر : محمد بن حبان البستني ( المجروحين 2/15) تحقيق محمد ابراهيم زايد – دار الوعي حلب – ط الثانية 1402هـ
(2) انظر : حمزة السهمي ( سؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدار قطني وغيره من المشايخ في الجرح والتعديل ص 132) بتحقيق مرافق عبد الله بن عبد القادر – مكتبة المعارف – الرياض – ط أولى 1984م.
(3) انظر عبد الله بن عدي ( الكامل في ضعفاء الرجال 4/ 118) تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي – دار الكتب العلمية بيروت ط الأولى .
(4) انظر: المصدر السابق 4/ 1578.(1/7)
(ت 160هـ ) روى العقيلي عنه أنه قال : سميت ابني سعداً فما سعد ولا فلح كنت أقول له : اذهب إلى هشام الدستوائي فيقول : اليوم أريد أن أرسل الحمام (1) .
الذهبي له ميزانه فمن باب الدفاع عنه لذلك أورد قول أبي حاتم فيه : هو صدوق ليس عنده عن أبيه الكثير شيء (2) .
وإذا كان هذا الإمام الذي يُدعى بين المحدثين بأمير المؤمنين في الحديث لم يحاب ابنه فغيره من باب أولى، ومن هؤلاء الذي لم يحاب فيهم أحداً : هشام بن حسان القردوسي، ثقة ( ت148هـ ) روى ابن عدي عنه قال : لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان كان ختني (3) ، ولكن لم يكن يحفظ (4) .
وكذلك : أبان بن أبي عياش البصري (ت140هـ) والحسن بن عمارة الكوفي قاضي بغداد (153هـ ) وهما متروكان عند المحدثين، كان يتكلم فيهما وشُفِع إليه أن يسكت فأبى، روى ابن عدي عن عباد بن عباد المهلبي قال : أتيتُ شعبة أنا وحماد بن زيد فكلمناه في أبان بن أبي عياش فقلنا له: يا أبا بسطام تمسك عنه ، فلقيهم بعد فقال : ما أراني يسعني السكوت عنه (5) .
وروى العقيلي عن حماد بن يزيد قال : كلمنا شعبة في أن يكف عن أبان ابن أبي عياش لسِنِّهِ وأهل بيته فضمن أن يفعل، ثم اجتمعنا في جنازة فنادى من بعيد: يا أبا اسماعيل إني قد رجعت عن ذلك، لا يحل الكف عنه لأنه أمر دين (6) .
__________
(1) انظر : محمد بن عمرو العقيلي ( الضعفاء الكبير2/ 118) تحقيق د. عبد المعطي أمين القلعجي – دار الكتب العلمية بيروت ط الأولى .
(2) انظر : ميزان الإعتدال 2/ 122.
(3) الختن بفتح الخاء والتاء هو أبو امرأة الرجل وأخو امرأته وكل من كان من قبل امرأته ، انظر: ابن منظور (لسان العرب 13/ 138) مادة ( ختن ) دار صادر بيروت.
(4) انظر: الكامل في ضعفاء الرجال 7/2570.
(5) المصدر السابق نفسه 1/377.
(6) انظر : الضعفاء الكبير 1/39.(1/8)
ولم تكن هذه الشفاعة من حماد بن زيد لدى شعبة ابتداءً منه، بل كانت بطلب من أبان نفسه. فقد روى بن حبان، عن حماد بن زيد قال : جاءني أبان بن أبي عياش فقال : أحب أن تكلم شعبة في أن يكف عني قال : فكلمته فكف عنه أياماً فأتاني في بعض الليل فقال : إنك سألتني أن أكف عن أبان ، وإنه لا يحل الكف عنه ، فإنه يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
وروى العقيلي عن أبي داود الطيالسي قال : قال : شعبة : ألا تعجبون من جرير بن حازم هذا المجنون، ومن حماد بن زيد أتياني يسألاني أن أكف عن ذكر الحسن بن عمارة، لا والله لا أكف عن ذكره (2) .
وروى أيضاً عن وهب بن جرير قال: كلم أبي شعبة الحجاج قال: فقال له: يا أبا بسطام قد أكثرت في الحسن بن عمارة فإن تكن أردت الله فقد أتيت ما أردت، وإن يكن غير ذلك فتركه أفضل، قال فوعده الإمساك، قال ثم رحنا إليه بعشي فلما رأى شعبة قال: يا وهب أَعْلِمْ أباك أن الأمر الذي سألني ليس إلى تركه سبيل (3) .
ومن المحدثين الذين جرّحوا إخوانهم أو أحداً من أقاربهم : جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبّيّ الكوفي ( ت 188هـ) جرّح أخاه كما روى ابن حاتم عن يحيى بن المغيرة قال وزيد بن أبي أنيسة الجزري (ت119هـ أو 124هـ ) جرّح أخاه ، كما رواه كذلك بن أبي حاتم عن عبيد الله بن عمرو قال: قال: قال لي بن أبي أنيسة : لا تحدث عن أخي يحيى بن أبي أنيسة فإنه كذاب (4) .
وأبو عروبة الحسين بن محمد الحرّاني (318هـ ) جرّح خال أمه: الحسين بن أبي السري العسقلاني (240هـ) حيث قال : كذاب هو خال أمي (5) .
__________
(1) انظر : المجروحين 1/96.
(2) انظر : الضعفاء الكبير 1/ 237.
(3) انظر : المصدر السابق 1/238
(4) انظر : عبد الرحمن بن أبي حاتم ( الجرح والتعديل 2/289) دار الكتب العلمية ط الأولى 1952م.
(5) انظر : المصدر السابق 9/ 130.(1/9)
فهذه الأمثلة وغيرها كثير تدل دلالة كبيرة على إنصاف هؤلاء الأئمة وتجردهم عن الهوى والمحاباة لأي أحد من الخلق لأن الأمر كما قال شعبة وغيره دين ، وبالتالي فإنه لا يحل لمن عنده زيادة علم عن المجروح أن يسكت عما فيه من الجرح، بل لابد أن يبينه للناس ليجتنبوا حديثه وليعذر أمام الله، ولأجل هذا لم يكن شعبة رحمه الله يبالي بتذمر المجروحين منه ودعواتهم عليه ولا بشفاعة الشافعين فيهم كما سبق بيانه، كما قال الحسن بن عمارة : ( الناس كلهم مني في حل ، خلا شعبة فإني لا أجعله في حل حتى أقف أنا وهو بين يدي الله عز وجل فيحكم بيني وبينه ) (1) . لم يُعِرْهُ شعبة أي اهتمام، وبقي يحذر منه حتى مات، قد انبرى للدفاع عن شعبة فيما بعد أبو حاتم محمد بن حبان البستي، حيث قال عقب كلام الحسن بن عمارة السابق : ( كان بلية الحسن بن عمارة أنه كان يدلس عن الثقات ما وضع الضعفاء، كان يسمع من موسى بن مطير وأبي العطوف وأبان بن أبي عياش وأضرابهم ، ثم يسقط أسماءهم ويرويها عن مشايخهم الثقات، فلما رأى شعبة تلك الأحاديث الموضوعة التي يرويها عن أقوام ثقات أنكرها عليه ، وأطلق الجرح ، ولم يعلم أن بينه وبينهم هؤلاء الكذابين، فكان الحسن بن عمارة هو الجاني على نفسه بتدليسهم عن هؤلاء وإسقاطهم من الأخبار، حتى التزقت الموضوعات به ، وأرجو أن الله عز وجل يرفع لشعبة في الجنان درجات لا يبلغها غيره إلا من عمل عمله بذبّه الكذب عمن أخبر الله عز وجل أنه (2) .
المبحث الثالث
عدم الاعتداد بجرح الأقران
__________
(1) انظر : المصدر السابق 9/ 130.
(2) انظر: المصدر السابق 1/299. وانظر: سورة النجم، الآية 3(1/10)
الأقران هم الرواة الذين اشتركوا في السن واللقي (1) . وقد رد العلماء كلام بعضهم في بعض ولم يقبلوه، لأنه ناشئ عن حسد وعداوة ، وما كان كذلك فحقه الرفض وعدم القبول ، وقد نص غير واحد من الأئمة المتقدمين والمتأخرين علي ذلك ولم يؤثر عن أحد منهم أنه خالف فيه مما يعتبر اجماعاً، ومن هؤلاء الأئمة الذين نصوا على هذا : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الصحابي الجليل ( ت 68 هـ ) حيث قال : ( استمعوا علم العلماء ولاتصدقوا بعضهم على بعض فو الذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زربها)، ومالك بن دينار البصري الزاهد (130هـ ) إذ قال: (يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس تنصب لهم الشاة الضارب فينب هذا من هاهنا وهذا من هاهنا ) (2) .
__________
(1) انظر : ابن حجر العسقلاني ( نزهة النظر بشرح نخية الفكر ص 72) تعليم محمد كمال الدين الأدهمي، مكتبة التراث الإسلامي .
(2) انظر : المصدر السابق ص 441.(1/11)
وأبو عمر يوسف بن البر النمري القطبي (ت463هـ ) قال: ( هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لاتدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته ، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم ، لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته علي طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأمّا من لم تثبت إمامته ولا عرف عدالته ، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته ، فإنه ينظر فيما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه والدليل ، على أنه لايقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماماً في الدين قول أحد من الطاغين ، أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض السيف تأويلاً واجتهاداً لا يلزم تقليدهم في شيء من دون برهان ولا حجة توجبه (1) . وعبد الله بن وهب بن مسلم المصري ( ت197هـ ) قال : ( لا يجوز شهادة القارئ على القارئ – يعني العلماء – لأنهم أشد الناس تحاسداً وتباغضاً ، وقاله سفيان الثوري ومالك بن دينار (2) .
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص 442.
(2) انظر : تاج الدين السبكي ( قاعدة في الجرح والتعديل – ضمن أربعة رسائل في علوم الحديث، ص
(15- 16) تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – مكتبة الرشد الخامسة 1984م .(1/12)
وقال أحمد بن صالح المصري (ت284هـ): قلت لابن وهب : ما كان مالك يقول في ابن سمعان – يعني عبد الله بن زياد بن سمعان – قال: ( لا يقبل قول بعضهم في بعض (1) .قلت : وإن كان ابن سمعان من معاصري الإمام مالك إلا أن كلام الإمام مالك فيه كان بحجة، بدليل أن العلماء مجمعون على ترك حديثه وكذّبه غير واحد منهم (2) .
وأبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ) وله كلام كثير في هذا المعنى منثور في ثنايا التراجم، من ذلك ما ذكره في ترجمة أحمد بن عبد الله أبي نعيم الأصبهاني الحافظ (ت430هـ ) قال : ( وكلام ابن مندة في أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته ولا أقبل قول كل منهما في الآخر بل هما عندي مقبولان، لا أعلم لهما ذنباً أكثر من روايتهما الموضوعات ساكتين عنها، قرأت بخط يوسف ابن أحمد الشيرازي الحافظ، رأيت بخط ابن طاهر المقدسي يقول أسخن الله عين أبي نعيم، يتكلم في أبي عبد الله بن مندة وقد أجمع الناس على إمامته، وسكت عن لاحق وقد أجمع الناس على أنه كذّاب، قلت : كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، ما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (3) .
وقال في ترجمة أبي عبدالله محمد بن حاتم بن ميمون السمين (ت 316هـ): ( وذكره أبو حفص الفلاس فقال : ليس بشيء، قلت: هذا من كلام الأقران الذي لا يسمع له فإن الرجل ثبت حجة ) (4) .
وقال في ترجمة أبي بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني الحافظ
__________
(1) انظر : تهذيب التهذيب 5/220.
(2) انظر : الامصدر السابق 5/219/-221.
(3) انظر : ميزان الإعتدال 1/ 111.
(4) انظر : محمد بن أحمد الذهبي ( سير أعلام النبلاء 11/451) مؤسسة الرسالة – بيروت ط الرابعة،
1986م.(1/13)
(ت 316هـ): (قلت: لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه كما لم نعتد بتكذيبه لابن صاعد ، وكذا لا يسمع قول ابن جرير فيه فإن هؤلاء بينهم عداوة بينة فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض (1) .
ومن العلماء الذين نصوا على عدم قبول جرح الأقران: تاج الدين
عبد الوهاب بن علي السبكي (ت711هـ ) حيث قال: ( قاعدة في الجرح والتعديل ضرورية نافعة لا تراها في شيء من كتب الأصول فإنك إذا سمعت الجرح مقدماً على التعديل، ورأيت الجرح والتعديل وكنت غُرّاً بالأمور أو قدماً مقتصراً على منقول الأصول، حيث أن العمل على جرحه فإياك ثم إياك والحذر كل الحذر من هذا الحسبان، بل الصواب عندنا من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومذكوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإننا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل بالعدالة، وإلا لفتحنا هذا الباب وأخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة إذْ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون (2) .
وقال في ترجمة الحارث بن أسد المحاسبي ( ت 243هـ): أول ما نقدمه أنه ينبغي لك أيها المسترشد أن تمسك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم أن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك،وإلا فأضرب صفحاً عما جرى بينهم فإنك لم تخلق لهذا فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك (3) .
__________
(1) انظر : محمد بن أحمد الذهبي ( تذكرة الحفاظ 2/772 ) دار أحياء التراث العربي – بيروت .
(2) انظر : قاعدة في الجرح والتعديل – ضمن أربع رسائل –ص 13.
(3) انظر : تاج الدين السبكي ( طبقات الشافعية الكبرى 2/39) دار المعرفة – بيروت ط الثانية .(1/14)
ومنهم أحمد بن علي بن حجر العسقلاني( ت 825هـ ) إذ قال : واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن بسبب اختلافهم في العقائد فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط ، وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف بعض الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضعّف من هو أوثق منه أو أعلى قدراً أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر به (1) .
وشمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ ) حيث قال: (ثم أكثر ما يكون هذا الداء – أي القدح – في المعاصرين وسببه غالباً مما هو في المتأخرين أكثر : المنافسة في المراتب، ولكن قد عقد ابن عبد البر في جامعه بابا لكلام الأقران المتعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أن بعض أهل العلم لا يقبل الجرح فيهم إلا ببيان واضح فإن انضم لذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول) (2) .
__________
(1) انظر: ابن حجر العسقلاني (هدى الساري مقدمة فتح البارئ ص 385) تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، دار الفكر .
(2) انظر : شمس الدين السخاوي ( فتح المغيث شرح ألفية الحديث 3/328) تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية –المدينة .(1/15)
ومحمد عبد الحي اللكنوي الهندي (ت1304هـ ) إذ قال: ( الجرح إذا صدر من تعصب أو عداوة أو منافرة أو نحو ذلك فهو جرح مردود، ولا يؤمن به إلا المطرود ... ومن ثم قالوا : لا يقبل جرح المعاصر على المعاصر ، أي إذا كان بلا حجة ، لأن المعاصرة تفضي غالباً إلى المنافرة – إلى أن قال : فائدة قد صرحوا بأن كلمات المعاصر في حق المعاصر غير مقبولة وهو كما أشرنا إليه مقيد بما إذا كانت بغير برهان وحجة، وكانت مبنية على التعصب والمنافرة فإن لم يكن هذا ولا هذا فهي مقبولة بلا شبهة فاحفظه فإنه مما ينفعك في الأولى والآخرة) (1) .
__________
(1) انظر : اللكنوي محمد عبد الحي ( الرفع والتكميل في الجرح والتعديل ص 401، 415،431) تحقيق عبد الفتاح أبو غدة مكتب المطبوعات الإسلامية حلب الطبعه الثالثة 1987م وقد عقد في كتابه هذا فصلاً كاملاً عن حكم الجرح غير البرئ من ص 409-432، أورد فيه كثيراً من هذه النصوص وغيرها فليراجع فإنه مهم ، وكذلك ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله عقد فصلاً كاملاً في حكم قول العلماء بعضهم في بعض ص 439- وتاج الدين السبكي أيضاً تعرض لهذا في قاعدة في الجرح التعديل .(1/16)
والنصوص الواردة في هذا الباب كثيرة، ولو أراد المرء أن يستقصيها لجمع من ذلك مؤلفاً كبيراً أو كراريس كثيرة كما قال الذهبي، غير أن فيما ذكر كفاية ودلالة على بلوغ الغاية، وقد تجلت بحمد الله تعالى هذه القضية تجلية واضحة فعرفت قواعدها، واتضحت موانعها وظهرت للقاصي والداني دوافعها ورحم الله تعالى أئمتنا يوم أن أغلقوا باب القبول على جرح القرينين بغير حجة، إذ لو بقي الباب مشرعاً على كل جارح لاستوجب توهين أئمة كبار مدار السنة أو أكثرها عليهم كمالك بن أنس إمام دار الهجرة ومحمد بن أبي اسحاق بن يسار إمام أهل المغازي، وأحمد بن صالح المصري ومحمد بن إدريس الشافعي وأبي الزناد عبد الله بن ذكوان ومحمد بن حاتم بن ميمون السمين ، وأبي بكر بن أبي داود السجستاني وأبي نعيم الأصبهاني، وابن مندة وعكرمة والشعبي
وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وغيرهم (1) .
المبحث الرابع
عدم قبول الجرح إذا كان صادراً عن جهل أو هوى أو ضعف أو تعب أو اختلاف العقيدة
أو كان مبهماً ونحو ذلك
__________
(1) انظر : جامع بيان العلم وفضله ص 439 فما بعدها والرفع والتكميل ص 411فما بعدها .(1/17)
وهذا الأمر عند المحدثين شبه مجمع عليه ويدل دلالة بينة على ورعهم وصيانتهم وإنصافهم، وهذا مقتضى العقل والعدل الذي قامت عليه السموات والأرض لأن بواعثه المذكورة ليست علمية ولا شرعية فلأجل ذلك اقتضى العقل والشرع رده وعدم قبوله ، وممن نص على ذلك من الأئمة الخطيب البغدادي، وابن الصلاح، وابن دقيق العيد، والذهبي، والعراقي، وابن حجر، وغيرهم ، قال الخطيب في باب القول في الجرح هل يحتاج إلى كشف أم لا؟ نقلاً عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب ابن الباقلاني (ت403هـ ) قال: قال الجمهور من أهل العلم: إذا جرّح من لا يعرف يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن قال الخطيب : والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالماً ، والدليل عليه نفس ما دللنا به على أنه لا يجب استفسار العدل عما به صار عنده المزكى عدلاً لأننا متى استفسرنا الجارح لغيره فإنما يجب علينا بسوء الظن ، والاتهام له بالجهل بما يصير به المجروح مجروحاً وذلك ينقض جملة ما بينا عليه أمره من الرضا به والرجوع إليه ، ولا يجب كشف ما به صار مجروحاً وذلك ينقض جملة ما بينا عليه أمره من الرضا به والرجوع إليه ، ولا يجب كشف ما به صار مجروحاً وإن اختلفت آراء الناس فيما به يصير المجروح مجروحاً كما لا يجب كشف ذلك في العقود والحقوق وإن اختلف في كثير منها فالطريق في ذلك واحد ، فأما إذا كان الجارح عامِيّاً وجب لا محالة استفساره (1) .
فكما ترى بين الخطيب ومن قبله القاضي ابن الباقلاني أن الجرح إذا صدر من جاهل وهو العامي ومن لا يعرف الجرح لا يقبل بمجرد صدوره منه حتى يكشف عنه ويعرف حقيقته هل هو جرح بحق أم لا ، ويعرف كذلك موافقته لضوابط الجرح من عدمها، أما إذا صدر من عالم فلا يجب شيء من هذا ووجب قبول جرحه وقال أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح
__________
(1) انظر : الخطيب البغدادي ( الكفاية في علم الرواية ص 107) المكتبة العلمية .(1/18)
(ت643هـ ): الجرح لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر فلا بد من بيان سببه لينظر فيه أهو جرح أم لا وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله (1) .
وقال تقي الدين بن دقيق العيد ( ت 702هـ ) قد اختلف الناس في أسباب الجرح ولأجل ذلك قال من قال : أنه لا يقبل إلا مفسراً . وهذا الباب تدخل فيه الآفة من وجوه :
أحدهما : وهو شرها الكلام بسبب الهوى والغرض والتحامل وهذا مجانب لأهل الدين وطرائقهم .
وثانيهما : المخالفة في العقائد فإنها أوجبت تكفير الناس بعضهم لبعض أو تبديعهم وأوجبت عصبية اعتقدوها ديناً يتدينون به يتقربون به إلى الله تعالى ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع، وهذا موجود كثيراً في الطبقة المتوسطة من المتقدمين ، والذي تقرر عندنا : إنه لا تعبر المذاهب في الرواية إذ لا نكفر أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة فإذا اعتقدنا ذلك وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى فقد حصل معتمد الرواية ، وهذا مذهب الشافعي فيما حكي عنه ، ومن هذا الوجه – أعني وجه الكلام ـ بسبب المذاهب يجب أن تتفقد مذاهب الجارحين والمزكين من مذاهب من تكلموا فيه فإن رأيتها مختلفة فتوقف عن قبول الجرح غاية التوقف حتي يتبين وجهه بياناً لا شبهة فيه ، ماكان مطلقاً أو غير مسفر فلا يجرح به فإن كان المجروح موثقاً من جهة أخرى فلا تحفلن بالجرح المبهم ممن خالفه وإن كان غير موثق فلا تحكم بجرحه ولابتعديله .
وثالثها : الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض ، وهذه غمرة لايخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة .
__________
(1) انظر : ابن الصلاح ( علوم الحديث ص 69) تحقيق د. نور الدين عتر – المكتبة العلمية 1981م(1/19)
ورابعها : الكلام بسبب الجهل بالعلوم ومراتبها والحق والباطل منها، ويحتاج القادح بسبب ذلك إلى أن يكون مميزاً بين الحق والباطل لئلا يكفر من ليس بكافر أو يقبل رواية الكافر .
وخامسها : الخلل الواقع بسبب عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تختلف فمن فعل ذلك فقد دخل تحت قوله عليه السلام: ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) (1) .
إن هذا التأصيل من ابن دقيق العيد بهذا التفصيل يدل على فهم ودراية تامة بقواعد هذا العلم ويستحق أن يكتب كلامه هذا بماء الذهب وأن يحفظ عن ظهر قلب ، ذلك لإني لم أجد من سَبَقَه إليه بتفصيلاته هذه ووجدت من جاء بعده مقبلاً عليه مابين مختصر له ومطول ، ومجزئ منه وناقل، وقد انطلق رحمه الله في بيان هذه الأوجه الخمسة من ورع تام تترجمه عباراته المشهورة بين العلماء: ( أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفريها طائفتان من الناس : المتحدثون ، والحكام ) .
وقال الذهبي: ( والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام ، وبراءة من الهوى والميل ، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله ) (2) .
__________
(1) انظر: ابن دقيق العيد ( الاقتراح في بيان الاصطلاح ص330-343) بتصرف تحقيق قحطان عبد الرحمن الدوري مطبعة الارشاد ، بغداد 1982م .والحديث ( إياكم والظن ..) رواه البخاري في النكاح باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع 9/198 ، رقم 5143،فتح ، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز ، دار الفكر ، المكتبة السلفية . ومسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش 16/335، رقم 6482، تحقيق الشيخ مامون شيحا ، دار المعرفة – بيروت ط الثالثة 1996م .
(2) انظر : محمد بن أحمد الذهبي ( الموقظة في علم ممصطلح الحديث 82) تحقيق عبد الفتاح أبو غدة – مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب ط الأولي 1405هـ.(1/20)
وقال العراقي عبد الرحيم بن حسين (ت806هـ): ( اختلف في التعديل والجرح هل يقبلان أو أحدهما من غير ذكر أسبابهما أم لا يقبلان إلا مفسرين على أربعة أقوال الأول وهو الصحيح المشهور التفرقة بين التعديل والجرح فيقبل التعديل من غير ذكر سببه لأن أسبابه كثيرة فتثقل ويشق ذكرها لأن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول ليس يفعل كذا ولا كذا، يعدّ ما يجب عليه تركه، يفعل كذا وكذا فيعد ما يجب عليه فعله فيشق ذلك ويطول تفصيله، أما الجرح فأنه لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب لأن الجرح يحصل بأمر واحد فلا يشق ذكره لأن الناس مختلفون في أسباب الجرح فيطلق أحدهم الجرح بناء على ما اعتقده جرحاً وليس بجرح في الأمر نفسه فلابد من بيان سببه ليظهر أهو قادح أم لا ؟ ويدل على أن الجرح لا يقبل غير مفسر أنه ربما استفسر الجارح فذكر ما ليس بجرح) (1) . ثم ذكر رحمه الله بقية الأقوال .
وقال أحمد بن حجر العسقلاني: ( الجرح مقدم على التعديل وأطلق ذلك جماعة ولكن محلة إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه لأنه إن كان غير مفسر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته وإن صدر من غير عارف على المختار لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجرّح أولى من إهماله) (2) .
وهذا الذي قاله ابن حجر في الجرح هو المعتمد وقد اشترط لقبوله في الراوي المعدل شرطين:
الأول: أن يكون مبيناً أي مفسراً.
والثاني: أن يكون صادراً من شخص عارف بأسبابه فإنه يقبل فيه هذا الجرح المجمل على القول المختار كذلك ، لكون الشخص المجروح شبه مجهول وهذا أولى من إهمال الجرح أو التوقف فيه كما مال إليه ابن الصلاح
رحمه الله (3) .
__________
(1) انظر : العراقي ( شرح ألفية العراقي 1/300) تصحيح محمد بن الحسين العراقي الحسيني – دار الكتب العلمية – بيروت .
(2) انظر : نزهة النظر ص 89-90.
(3) انظر : علوم الحديث ص 98.(1/21)
وهذه أمثلة من كتب التراجم وغيرها لرد العلماء المعتبرين للجرح الصادر كذلك فمن أمثلة الجرح الصادر عن جهل ما رواه الخطيب عن الشافعي أنه بلغه أن إنساناً جرّح رجلاً فسئل عما جرحه به فقال: رأيته يبول قائماً فقيل له: وما في ذلك ما يوجب جرحه ؟ فقال: لأنه يقع الرشش عليه وعلى ثوبه ثم يصلي، فقيل رأيته يصلي كذلك ؟ فقال : لا قال الخطيب معلقاً على هذه القصة : فهذا ونحوه جرح بالتأويل والجهل ، والعالم لا يجرح بهذا وأمثاله (1) .
وقال ابن دقيق العيد : ولقد رأيت رجلاً لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جرح ، ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ فقال له أين سمعت منه فقال له بمكة أو قريباً من هذا – وقد كان جاء إلى مصر يعني في طريقه إلى الحج – فأنكر ذلك ، وقال : ذاك صاحبي لو جاء إلى مصر لاجتمع بي أو كما قال ) – قال الشيخ معلقاً : فانظر إلى هذا التعلق بهذا الوهم البعيد والخيال الضعيف فيما أنكره ) (2) .
وقال ابن حجر في ترجمة أحمد بن بشير الكوفي مولى عمرو بن حريث
(ت197هـ) أحد رجال البخاري ، رداً على قول النسائي فيه : ليس بذلك القوي، قول عثمان الدرامي، متروك قال : أما تضعيف النسائي له فمشعر بأنه غير حافظ وأما كلام عثمان الدرامي فقد رده الخطيب بأنه اشتبه عليه براوٍ آخر اتّفق اسمه واسم أبيه وهو كما قال الخطيب رحمه الله تعالى (3) .
قلت وجرح الدارمي يدل على أنه عن غير علم والله أعلم .
__________
(1) انظر : الكفاية ص 108.
(2) انظر: الاقتراح في بيان الاصطلاح ص 343- 344.
(3) انظر: هدى الساري ص 385- 386.(1/22)
ومن أمثلة الجرح المردود بسبب الهوى والتحامل والعصبية جرح الأقران كما تقدم ، وجرح أحمد بن شعيب النسائي الحافظ صاحب السنن لأحمد بن صالح المصري بن الطبري ( ت 248هـ) قال الخليلي : اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل ، ولا يقدح كلام أمثاله فيه (1) قال ابن حجر : وهو كما قاله (2) .
وجرح يحيى بن سعيد القطان ( ت 198هـ) وغيره لإبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري (ت 185هـ) وعُقيل بن خالد الأيلي (ت 144 هـ) روى ابن عدي عن عبد الله بن أحمد قال : سمعت أبي يقول : ذكر عند يحيى بن سعيد: عقيل وإبراهيم بن سعد ، فجعل كأنه يضعفهما يقول : عقيل وإبراهيم بن سعد ، عقيل وإبراهيم بن سعد قال أبي : وأيش ينفع هذا ؟ هؤلاء ثقات لم يخبرهما يحيى ، قال ابن عدي في ترجمة إبراهيم وقول من تكلم في إبراهيم بن سعد ممن ذكرناه بمقدار ما تكلم فيه تحامل عليه فيما قاله فيه ، ولم يتخلف أحد عن الكتابة عنه بالكوفه والبصرة وبغداد وهو من ثقات المسلمين (3) .
وجرح الخوارج وغيرهم لأبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي (ت 110هـ) اختلف في صحبته ، والصحيح أن له صحبة كما قال مسلم وغيره ، وهو آخر من مات من الصحابة قال ابن عدي : كان الخوارج يذمونه باتصاله بعلي بن أبي طالب ، وقوله بفضله وفضل أهله وليس بمروياته (4) .
وقال ابن حجر : أساء أبو محمد بن حزم فضعف أحاديث أبي الطفيل وقال : كان صاحب راية المختار الكذاب .
__________
(1) انظر : أبو يعلى الخليلي ( الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/ 424 ) تحقيق د/ محمد سعيد بن عمر إدريس مكتبة الرشد ـ الرياض ط الأولى 1989م .
(2) انظر : هدي الساري ص 386 .
(3) انظر : الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 246، 248 ، 249 .
(4) انظر : الكامل في ضعفاء الرجال 5/1741، وابن حجر ( تقريب التهذيب ص 231 ) عناية عادل مرشد مؤسسة الرسالة ط الأولى 1996م .(1/23)
قال ابن حجر : وأبو الطفيل صحابي لا شك فيه ، ولا يؤثر فيه قول أحد ولا سيما بالعصبية والهوى (1) ومن أمثلة الجرح المردود بسبب الضعف جرح أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي ( ت 374هـ) فقد ضعفه الأئمة كالبرقاني والخطيب وغيرهما (2) وردوا كل جرح انفرد به أو شذ فيه ، ومن ذلك جرحه لإسرائيل بن موسى البصري (ت بعد 120هـ) قال ابن حجر : الأزدي لا يعتمد إذا انفرد فكيف إذا خالف (3) .
وجرحه لأيوب بن سليمان بن بلال المدني ( ت 224هـ ) بقوله : له أحاديث لا يتابع عليها : قال ابن حجر : والأزدي لا يعرج على قوله (4) .
وجرحه لخثيم بن عراك بن مالك الغفاري (ت بعد 120 هـ) بقوله : منكر الحديث قال ابن حجر : وغفل أبو محمد ابن حزم فاتبع الأزدي وأفرط فقال : لا تجوز الرواية عنه وما درى أن الأزدي ، ضعيف فكيف يقبل منه تضعيف الثقات (5) .
ومثل الأزدي في الضعف وعدم قبول جرحه : محمد بن يونس الكديمي (ت 286 هـ) (6) وعبد الباقي بن قانع البغدادي (ت 351هـ) (7) وغيرهما .
__________
(1) انظر : هدي الساري ص 412 .
(2) انظر : سير أعلام النبلاء 16/348 .
(3) انظر : هدي الساري ص 390 .
(4) انظر : المصدر السابق ص 392 .
(5) انظر : المصدر السابق ص 400 .
(6) انظر : ميزان الاعتدال 1/16 .
(7) انظر : هدي الساري ص 443 .(1/24)
ومن أمثلة الجرح المردود بسبب اختلاف العقيدة الجرح بسبب انتحال بعض البدع كالقول بالقدر ورأي الخوارج ، والإرجاء والتشيع ، ونحوها ، وفي الصحيحين خلق ممن وصف بذلك لم يمنع صاحبي الصحيحين ولا غيرهما من الأئمة من الاحتجاج بهم ، ولم يلتفتوا على جرح من جرحهم بها لكونها ليست مكفرة ولأنهم لم يرووا ما يقويها ويؤيدها، ومن هؤلاء الذين رد جرحهم بسبب ذلك أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ( ت 259هـ ) قال ابن حجر في ترجمة : إسماعيل بن أبان الوراق الكوفي (ت 216هـ) بعد أن أورد توثيقه عن الأئمة: وقال الجوزجاني : كان مائلاً عن الحق ولم يكن يكذب في الحديث : قلت: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعاً ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدعٍ في مبتدع (1) .
وقال في ترجمة سعيد بن عمرو بن أشوع الكوفي (ت 120هـ): وثقَّه ابن معين والنسائي والعجلي وإسحاق ابن راهويه ، وأما أبو إسحاق الجوزجاني فقال : كان زائغاً غالياً يعني في التشيع قلت : والجوزجاني غال في النصب فتعارضا (2) .
ومنهم عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المروزي (ت 283هـ) وكان رافضياً ، قال ابن حجر في ترجمة عمرو بن سليم الزرقي الانصاري (ت 104هـ) من ثقات التابعين وأئمتهم وثقه النسائي والعجلي وابن سعد وابن حبان وآخرون وقال ابن خراش : ثقة في حديثه اختلاط قلت : ابن خراش مذكور بالرفض والبدعة فلا يلتفت إليه (3) .
ومن أمثلة الجرح المردود بسبب كونه مبهماً وغير مفسر ما أورده ابن حجر في ترجمة : سعيد بن سليمان الواسطي المعروف بسعدويه ( ت 225هـ ) عن الدارقطني أنه قال : يتكلمون فيه ثم تعقبه بقوله : هذا تليين مبهم لا يقبل (4) .
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص 390 .
(2) انظر : المصدر السابق ص 406 .
(3) انظر المصدر السابق ص 431 .
(4) انظر : المصدر السابق ص 405 .(1/25)
وقال في ترجمة عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي ( ت 189هـ ) قال محمد بن سعد : لم يكن بالقوي وتعقبه بقوله : هذا جرح مردود غير مبين ولعله بسبب القدر (1) .
ونقل في ترجمة عبد الملك بن الصباح المسمعي البصري (ت 200هـ) عن الخليلي أنه قال: كان متهماً بسرقة الحديث ، ورد عليه بقوله : هذا جرح مبهم (2) .
المبحث الخامس
قبول رواية المبتدع العدل إذا لم يرو ما يؤيد بدعته
تقدم قريباً أن العلماء لم يقبلوا الجرح في أهل البدع بسبب بدعهم غير المكفرة وذلك لأنه ناشئ عن اختلاف في العقيدة وليس ناشئاً عن فسق الراوي أو خلل في ضبطه ، وقد ترتب على عدم قبولهم للجرح فيه قبول روايته، غير أنهم اختلفوا في ذلك اختلافاً كبيراً فمنهم من قبلها مطلقاً ومنهم من ردها مطلقاً ، ومنهم من فصّل فردّ الداعية إلى بدعته والمستحل للكذب في نصرة مذهبه ، وقبل من لم يكن كذلك (3) وقد تلخص لي من مجموع كلامهم في ذلك ثلاثة شروط لقبول روايته :
الأول: ألا تكون بدعته مكفرة ، وقد ادعى النووي الاتفاق على عدم الاحتجاج بمن كُفِّر ببدعته ونازعه السيوطي في ذلك فقال: دعوى الاتفاق ممنوعة فقد قيل أنه يقبل مطلقاً وقيل يقبل إن اعتقد حرمة الكذب وصححه صاحب المحصول (4) .
__________
(1) انظر : المصدر السابق ص 416 .
(2) انظر : المصدر السابق ص 421 .
(3) انظر : جلال الدين السيوطي ( تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1/324 – 325 )تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ـ دار إحياء السنة النبوية ط الثانية 1979م .
(4) انظر : المصدر السابق 1/324 .(1/26)
وقد حرر ابن حجر القول في هذه المسألة فبين وجه الحق فيها وضابط البدعة المكفرة فقال : والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفيها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه فأمّا من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله (1) .
الثاني : ألا يكون داعية إلى بدعته ، وبه قال أكثر العلماء ، وادعى ابن حبان الاتفاق عليه (2) ورد بأن في الصحيحين رواةً من الدعاة قد احتج بهم الشيخان كعمران بن حطان الخارجي احتج به البخاري، وعبد الحميد بن
عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء احتج به البخاري ومسلم (3) .
وأجيب بأن البخاري لم يخرج لعمران بن حطان إلا حديثاً واحداً في المتابعات وقد أخرجه من طرق أخرى عن عمر وغيره ، وكذا لم يخرج
لعبد الحميد الحماني إلا حديثاً واحداً قد شاركه غيره في روايته فلم يخرج له إلا ماله أصل (4) وأما مسلم فلم يرو إلا عن عبد الحميد الحماني ، وقد أخرج له في المقدمة دون الأصول ، والمقدمة ليست على شرطه (5) .
__________
(1) انظر : نزهة النظر ص 53- 54 .
(2) انظر : المصدر السابق ص 54 .
(3) انظر : تدريب الراوي 1/ 326 .
(4) انظر : هدي الساري ص 416 ، 432 .
(5) انظر : معنى هذا في تدريب الراوي 1/326 .(1/27)
ورجح ابن حجر هذا الشرط وزاده إيضاحاً فقال : الثالث : التفصيل بين أن يكون داعية أو غير داعية فيقبل غير الداعية ، ويرد حديث الداعية وهذا المذهب هو الأعدل وصارت إليه طوائف من الأئمة وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه لكن في دعوى ذلك نظر ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل فبعضهم أطلق ذلك وبعضهم زاده تفصيلاً فقال : إنْ اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته ويزينه ويحسنه ظاهراً فلا تقبل وإن لم تشتمل فتقبل ، وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال : إنْ اشتملت روايته على ما يرد بدعته قبل وإلا فلا ، وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع سواء كان داعية أم لم يكن على مالا تعلق له ببدعته أصلاً هل ترد مطلقاً أو تقبل مطلقاً ؟ مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال : إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخماد لبدعته وإطفاء لناره وإن لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته، والله أعلم (1) .
وقال ابن حجر كذلك : وقيل : يقبل ما لم يكن داعية إلى بدعته لأن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه ، وهذا في الأصح (2) .
__________
(1) انظر : هدي الساري ص 385 ، والاقتراح لأبي الفتح ابن دقيق العيد القشيري ص 336 – 337 ، ولم أجد فيه هذا التفصيل الذي نسبه إليه .
(2) انظر : نزهة النظر ص 54 .(1/28)
الثالث : ألا يروي ما يؤيد بدعته :وهذا الشرط قد سبق إليه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ووافقه عليه الأئمة من بعده حيث قال عن أهل البدع : ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس حديثه إذ كان مخذولاً في بدعته مأموناً في روايته ، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إذا لم يقوّ به بدعته فيتهم عند ذلك (1) .
فقوله: (إذا لم يقوّ به بدعته) هو موضع الشاهد من كلامه ومعناه هو ما صدرت به هذه الفقرة أي أنه لم يرو ما يؤيد بدعته .
وقال ابن حجر: والاكثر على قبول غير الداعية إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المذهب المختار وبه صرح الحافظ الجوزجاني في كتابه: "معرفة الرجال" ثم ذكر كلامه السابق ثم قال : وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية وأرده فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية (2) .
وقال ابن دقيق العيد : هاهنا نظر في أمر وهو : هل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد به مذهبه أم لا؟ هذا محل نظر فمن يرى رد الشهادة بالتهمة فيجئ على مذهبه ألا يقبل ذلك (3) .
__________
(1) انظر : أبو إسحاق الجوزجاني ( الشجرة في أحوال الرجال ص 11) تحقيق د/ عبد العليم عبد العظيم البستوي دار الطحاوي – الرياض ط الأولى 1990م .
(2) انظر : نزهة النظر ص54.
(3) انظر : الاقتراح ص 335 – 336 .(1/29)
وبهذا التفصيل يتضح لنا ما أجمل من كلام ابن حجر في الشرط الأول من أنه لا مانع من قبول رواية المبتدع غير المتفق على كفره سواء كان داعية أو غير داعية إذا كان متصفاً بالورع والضبط والتقوى من أن المراد بذلك غير الداعية الذي لم يرو ما يؤيد بدعته حيث رجح هذين الشرطين في مصنفاته كما تقدم وصححهما واختارهما ، ولا أجد بعد هذا أي إشكال في التوفيق بين كلامه السابق واللاحق إلا أن الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله اقتصر في هذه المسألة على كلام ابن حجر السابق ولم يضم إليه كلامه اللاحق وظفر في المسألة نفسها بكلام عام للذهبي التقطه من كتابه: "الميزان" ولم يعرج على ما ذكره من تفصيل في الموقظة وأصدر حكمه على ضوء ذلك بعدم اعتبار الشرطين السابقين وأنهما مع غيرهما من الأقوال كلها نظرية ثم قال : والعبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه ـ ثم نقل تقسيم الذهبي للبدعة وأنها على ضربين بدعة صغرى كغلو التشيع أو التشيع بلا غلو ولا تحرق، وبدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه ، وقبوله لحديث أصحاب البدعة الصغرى من غير تفصيل إذا اتصفوا بالدين والورع والصدق وأنه لو رُدَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية ، وردِّه لحديث أصحاب البدعة الكبرى لعدم وجود رجل صادق أو مأمون بينهم ، وختم هذا النقل بقوله : والذي قاله الذهبي مع ضميمة ما قاله ابن حجر فيما مضى هو التحقيق المنطبق على أصول الرواية (1) .
قلت : أما ابن حجر فقد تقدم النقل عنه باعتباره للشرطين وترجيحه واختياره لهما وهذا يفسر كلامه المجمل أولاً .
__________
(1) انظر : أحمد شاكر ( الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ص 84) مكتبة دار التراث ط الثالثة 1979م .(1/30)
وأما الذهبي فقد بين في رسالته الموقظة وهي متأخرة ما أجمله في كتابه: "الميزان" وهو سابق عليها كما صرح به فيها (1) حيث قال : فمنهم من بدعته غليظة ، ومنهم من بدعته دون ذلك ومنهم الداعي إلى بدعته ، ومنهم الكاف ، وما بين ذلك ، فمتى جمع الغلظ والدعوة تجنب الأخذ عنه ، ومن جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه ، فالغلظ كغلاة الخوارج والجهمية والرافضة ، والخفة كالتشيع والإرجاء (2) .
ومن هنا يتضح أن مراد الذهبي بقبول حديث أصحاب البدعة الصغرى هم غير الدعاة كما توضحه عبارته السابقة: (ومن جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه) أي من كان خفيف البدعة كأن يكون متشيعاً أو مرجئاً ونحو ذلك وكفّ عن الدعوة إلى بدعته وكان مع ذلك ديّناً ورعاً صادقاً أخذ عنه ولم يرد حديثه لأن رد حديث مثل هؤلاء مفسدة بينة تتمثل في ضياع جملة الآثار النبوية ومن لم يكن كذلك رد حديثه ولم يقبل . والله أعلم .
المبحث السادس
عدم الزيادة في الجرح على القدر المطلوب
وهذا أيضاً من تمام إنصافهم فإنهم إذا جرحوا شخصاً ما لا يذكرونه بما ليس فيه ولا يعدّدون عليه هفواته وزلاته التي لا صلة لها برد حديثه ، بل يقتصرون على الجرح الثابت فيه ولا يزيدون ، ويعتبرون الزيادة على ذلك من الغيبة المحرمة شرعاً ، وعلى هذا جميع العلماء متقدمهم ومتأخرهم ، بل نحا بعضهم إلى ما هو أخص من ذلك ، وهو أنه إذا وُجِدَ في المجروح ذنبان وجب الاقتصار على التجريح بأصغرهما ويتخير أحدهما إذا استويا، قال العز بن
__________
(1) انظر : الموقظة ص 81 .
(2) انظر : المصدر السابق ص 85 .(1/31)
عبد السلام السلمي (ت 660هـ): الحالة الثالثة جرح الشهود عند الحكام فيه مفسدة هتك أستارهم لكنه واجب ، لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع والأنساب وسائر الحقوق أعم وأعظم فإن علم منه ذنبين أحدهما أكبر من الآخر لم يجز أن يجرحه بالأكبر لأنه مستغنٍ عنه وإن استويا تخير ولا يجمع بينهما (1) .
وقال أحمد بن إدريس (ت684هـ) في الفرق الثالث والخمسين والمائتين بين قاعدة الغيبة المحرمة وقاعدة الغيبة التي لا تحرم : قال بعض العلماء : استثنى من الغيبة ست صور:
الأولى: النصيحة قال : ويشترط في هذا القسم أن تكون الحاجة ماسة لذلك وأن يقتصر الناصح من العيوب على ما يخل بتلك المصلحة خاصة التي حصلت المشاورة فيها أو التي يعتقد الناصح أن المنصوح شرع فيها أو هو على عزم ذلك فينصحه وإن لم يستشره، فإن حفظ مال الإنسان وعرضه ودمه عليك واجب وإن لم يعرض لك بذلك، فالشرط الأول احتراز من ذكر عيوب الناس مطلقاً لجواز أن يقع بينهما من المخالطة ما يقتضي ذلك فهذا حرام بل لا يجوز إلا عند مسيس الحاجة ولولا ذلك لأبيحت الغيبة مطلقاً لأن الجواز قائم في الكل . والشرط الثاني احتراز من أن يستشار في أمر الزواج فيذكر العيوب المخلة بمصلحة الزواج والعيوب المخلة بالشركة أو المساقاة أو يستشار في السفر معه فتذكر العيوب المخلة بمصلحة السفر والعيوب المخلة بالزواج فالزيادة على العيوب المخلة بما استشرت فيه حرام بل تقتصر على عين ما سئلت أو تعين الإقدام عليه .
__________
(1) انظر : العز بن عبد السلام (قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/79) تصحيح عبد اللطيف حسن عبد الرحمن ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ط الأولى 1999م .(1/32)
الثانية: التجريح والتعديل في الشهود عند الحاكم عند توقع الحكم بقول المجرح ولو في مستقبل الزمان أمّا عند غير الحاكم فيحرم لعدم الحاجة لذلك، والتفّكه بأعراض المسلمين حرام والأصل فيها العصمة ، وكذلك رُواة الحديث يجوز وضع الكتب في جرح المجروح منهم، والإخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به قال : ويشترط في هذين القسمين أن تكون النية خالصة لله تعالى في نصيحة المسلمين عند حكامهم وفي ضبط شرائعهم أما متى كان لأجل عداوة أو تفكه بالأعراض وجرياً مع الهوى فذلك حرام وإن حصلت به المصالح عند الحكام والرواة فإن المعصية قد تجر للمصلحة ، واشترط أيضاً في هذا القسم الاقتصار على القوادح المخلة بالشهادة أو الرواية فلا يقول : هو ابن زنا، ولا أبوه لاعن أمه، إلى غير ذلك من المؤلمات التي لا تعلق لها بالشهادة والرواية (1) .
وقال أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 474هـ)وإنما يجوز للمجرح أن يذكر المُجرح بما فيه مما يرد حديثه لما في ذلك من الذب عن الحديث ، وكذلك ذو البدعة يذكر ببدعته لئلاّ تغتَّر به الناس حفظاً للشريعة وذبّا عنها ولا يذكر غير ذلك من عيوبه لأنه من باب الغيبة قال سفيان الثوري في صاحب البدعة: يذكر ببدعته ولا يغتاب بغير ذلك، يعني ـ والله أعلم ـ أن يورد ما فيه لا على وجه السبّ له ، أو يقال فيه ما ليس فيه فأما أن يذكر ما فيه مما يسلم دينه على وجه التحذير منه فليس من باب الغيبة (2) . وقال محمد بن عبد الرحمن السخاوي: لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد (3) .
__________
(1) انظر : أحمد بن إدريس القرافي ( الفروق 4/ 205 – 207) عالم الكتب – بيروت .
(2) انظر : أبو الوليد الباجي ( التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح 1/283) تحقيق
د/ أبو لبابة حسين ، دار اللواء للنشر والتوزيع ط الأولى 1986م.
(3) انظر: فتح المغيث 3/325.(1/33)
وقال أيضاً: (وكذا من أسباب التحريم الزيادة في الجرح على ما يحصل الغرض والنقص من المدح قال : وإذا أمكنه الجرح بالإشارة المفهمة أو بأدنى تصريح لا تجوز له الزيادة على ذلك فالأمور المرخص فيها للحاجة لا يرتقي فيها إلى زائد على ما يحصل الغرض (1) .
وقال اللكنوي : لما كان الجرح أمراً صعباً فإن فيه حق الله مع حق الآدمي وربما يورث مع قطع النظر عن الضرر في الآخرة ضرراً في الدنيا من المنافرة والمقت بين الناس ، وإنما جوّز للضرورة الشرعية حكموا بأنه لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة ، ولا الاكتفاء على نقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما من النقاد ، ولا جرح من لا يحتاج إلى جرحه ، ومنعوا من جرح العلماء الذين لا يحتاج إليهم في رواية الأحاديث بلا ضرورة شرعية (2) .
المبحث السابع
عدم التعرض بالجرح لمن ليس بمجروح أو ليس من أهل الرواية
يجمع المحدثون على أنه لا يجوز جرح راو سليم من الجرح لم يثبت فيه شيء يخل بضبطه ولا عدالته لأن في ذلك غيبةً له وعاراً عليه ورداً لحديثه وإبطالاً لسنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك من ليس من أهل الرواية لا يجوز جرحه لكونه لا صلة له برواية الحديث ، وإنما جوز العلماء الجرح بما فيه من الذب عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا ليس من رواتها ولا المشتغلين بها ، غير أن العلماء استثنوا من ذلك أهل البدع والضلال وإن لم يكن لهم رواية فيجوز جرحهم وتبيين بدعهم وضلالهم للناس من غير تعدّ عليهم ولا زيادة أو نقصان قال أبو عمرو بن الصلاح : ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويتثبت ويتوقى التساهل كيلا يجرح سليماً ويسم بريّاً بسمة يبقى عليه الدهر عارها (3) .
__________
(1) انظر: السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 49، 68 – 69، دار الكتاب العربي، بيروت،
1983م.
(2) انظر : الرفع والتكميل ص 56-57 .
(3) انظر : علوم الحديث ص 350.(1/34)
وقال محي الدين النووي (ت 676هـ) والحذر من التساهل بجرح سليم من الجرح أو بنقص من لم يظهر نقصه فإن مفسدة الجرح عظيمة ، فإنها غيبة مؤبدة، مبطلة لأحاديثه ، مسقطة لسنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورادة لحكم من أحكام الدين (1) .
وقال ابن حجر : (وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل فإنه إن عدّل بغير تثبّت كان كالمثبت حكماً ليس بثابت فيخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب ، وإن جرّح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم برئ من ذلك ، ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً) (2) .
ونقل اللكنوي عن السيوطي أنه قال في الرد على السخاوي : الثالث أنه ألَّف تاريخاً ملأه بغيبة المسلمين ورمى فيه علماء الدين بأشياء أكثرها مما يكذب فيه ويمين فألفت المقامة التي سميتها الكاوي في تاريخ السخاوي نزهت فيها أعراض الناس وهدمت ما بناه في تاريخه إلى الأساس قال : والغرض إلى بيان خطئه فيما ثلب به الناس وكشط ما ضمّنه في تاريخه بالقياس ، فقد قامت الأدلة في الكتاب والسنة على تحريم احتقار المسلمين والتشديد في غيبتهم بما هو صدق وحق فضلاً عما يكذب فيه الجارح ويمين ، فإن قال : لابد من جرح الرواة والنقلة وذكر الفاسق والمجروح من الحملة فالجواب :
أولاً: إن كثيراً ممن جرحهم لا رواية لهم فالواجب فيهم شرعاً أن يسكت عن جرحهم ويهمله .
__________
(1) انظر : النووي (شرح صحيح مسلم 1/83 – 84) تحقيق خليل مأمون شيحا ، دار المعرفة بيروت ط الثالثة 1996م.
(2) انظر : نزهة النظر ص 89، ونقل السخاوي في فتح المغيث 3/316 كلام ابن حجر هذا ولم يعزه إليه .(1/35)
ثانياً: أن الجرح إنما جوز في الصدر الأول حيث كان الحديث يؤخذ من صدور الأحبار لا من بطون الأسفار فاحتيج إليه ضرورة للذب عن الآثار ومعرفة المقبول والمردود من الأحاديث والأخبار ، وأما الآن فالعمدة على الكتب المدونة ، غاية ما في الباب أنهم شرطوا لمن يذكر الآن في سلسلة الإسناد تصونه وثبوت سماعه بخط من يصلح عليه الاعتماد فإذا احتيج الآن إلى الكلام في ذلك، اكتفى بأن يقال : غير مصون أو مستور ، وبيان أن في سماعه نوعاً من التهوّر والزور ، وأما مثل الأئمة الأعلام ومشايخ الإسلام كالبلقيني والقاياتي والقلقشندي والمناوي ، ومن سلك مسلكهم، فأي وجه للكلام فيهم، وذكر ما رماهم الشعراء في أهاجيهم (1) .
وقد تعقب ابن دقيق العيد ابن السمعاني في ذكره بعض الشعراء وقدح فيه بقوله : إذا لم يضطر إلى القدح فيه للرواية لم يجز ، ونحوه قول ابن المرابط ، قد دونت الأخبار وما بقي للتجريح فائدة بل انقطعت من رأس الأربعمائة (2) .
__________
(1) انظر : الرفع والتكميل ص 64- 65.
(2) انظر : فتح المغيث 3/324.(1/36)
غير أن السخاوي رحمه الله قد تعقب هؤلاء الذين لا يرون الجرح إلا للرواية ، وبيّن جوازه ، مطلقاً للرواية ولغيرها ، كون ذلك من النصيحة الواجبة وليس من الغيبة المحرمة ، ولكن يجب أن يقتصر فيه على الغرض المطلوب ولا يزاد فيه ، وهذا نص كلامه: (فإن قيل قد شغف جماعة من المتأخرين القائلين بالتاريخ وما أشبهه كالذهبي ثم شيخنا بذكر المعايب ولو لم يكن المعاب من أهل الرواية ، وذلك غيبة محضة ـ الملحوظ في تسويغ ذلك كونه نصيحة ولا انحصار لها في الرواية فقد ذكروا من الأماكن التي يجوز فيها ذكر المرء بما يكره ولا يعد ذلك غيبة بل هو نصيحة واجبة أن تكون للمذكور ولاية لا يقوم بها على وجهها إمّا بان لا يكون صالحاً لها ، وإمّا بأن يكون فاسقاً ويرى من يتردد إليه للعلم ويخاف عليه عود الضرر من قبله فيعلمه ببيان حاله ويلتحق بذلك المتساهل في الفتوى أو التصنيف أو الأحكام أو الشهادات أو النقل أو المتساهل في ذكر العلماء أو في الرشاء والارتشاء إمّا بتعاطيه له أو بإقراره عليه مع قدرته على منعه أو أكل أموال الناس بالحيل والافتراء أو الغاصب لكتب العلم من أربابها أو المساجد بحيث تصير ملكاً أو غير ذلك من المحرمات ، فكل ذلك جائز أو واجب ذكره ليحذر ضرره ، وكذا يجب ذكر المتجاهر بشيء مما ذكر ونحوه من باب أولى قال شيخنا : ويتأكد الذكر لكل هذا في حق المحدث لأن أصل وضع فنّه بيان الجرح والتعديل فمن عابه بذكره لعيب المجاهر بالفسق أو المتصف بشيء مما ذكر فهو جاهل أو ملبّس أو مشارك له في صفته فيخشى أن يسري إليه الوصف ، نعم لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد (1) .
قلت: وما قاله السخاوي هو التحقيق والصواب لكن يجب أن يضبط ذلك بضوابط تحد من جماح من يلقي الكلام على عواهنه ويرمى بالجرح دون النظر إلى عواقبه ، ومن أهم هذه الضوابط:
__________
(1) انظر : المصدر السابق 3/324- 325.(1/37)
أولاً: أن توجد ضرورة إلى ذلك ، كأن يكون المجروح مجاهراً ببدعته أو فسقه ونصح فلم ينتصح ورؤى من طلاب العلم وأهل الصلاح ونحوهم من يتردد عليه منهم فلا مانع حينئذ من التحذير منه في مثل هذه الحالة ، أما إذا لم يكن مجاهراً ولا داعياً إلى بدعته ولا داعياً إلى ضلالة فلا يجوز جرحه لعدم وجود أي ضرورة ، إلى ذلك ، وجرحه في مثل هذه الحال هو من الغيبة ومن تتبع العورات وليس من النصيحة في شيء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتّبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) (1) .
ثانياً: أن يكون الذنب المجروح به أو البدعة المجروح بها من الأمور المتفق على تحريمها بين العلماء ، وليست من الأمور المختلف فيها بينهم لأنه لا إنكار عندهم على الأصح فيما اختلف فيه ، ولأن المجروح بها يعتقد في فعله لها أنه على حق ، وبالتالي فهو مأجور على اعتقاده سواء أصاب اعتقاده الحق أو أخطأ فيه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) (2) ومن كان كذلك لا يجوز جرحه بذنب كهذا . والله أعلم .
__________
(1) رواه أبو داود سليمان ابن الأشعث ( كتاب الأدب باب في الغيبة 4/270) رقم 4880 ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ـ دار الفكر .
(2) رواه البخاري ( كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 13/318 ) رقم 7352 ، ومسلم (كتاب الأقضية باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 12/239-240) رقم 4462.(1/38)
ثالثاً: أن يقتصر الجارح على الذنب أو البدعة التي اشتهر بها المجروح ولا يزيد على ذلك لأن في الزيادة تعدياً على حرمته وانتهاكاً لعرضه الذي صانه الإسلام وحرم النيل منه ، وقد تقدم في القسم السادس نقل أقوال العلماء على عدم جواز الزيادة في الجرح على القدر المطلوب وأنهم مجمعون على ذلك حتى قال ابن دقيق العيد أنه إذا علم منه ذنبين أحدهما أكبر من الآخر لم يجز أن يجرحه بالأكبر لأنه مستغنٍ عنه وإن استويا تخير ولا يجمع بينهما، وقال السخاوي : لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد ، وقد سبقا مع غيرهما من الأقوال فانظرها هناك .
رابعاً: ألا يكون الحامل له على الجرح هو الهوى أو العصبية أو التحامل أو نحو ذلك من الأسباب ، وقد أجمع العلماء على رد الجرح الصادر عن أحد هذه الأسباب أو ما يشبهها لأنه جرح ناشئ عن حسد وضغينةٍ وكراهية وليس ناشئاً عن علم وتثبت وروّية .
المبحث الثامن
وضع شروط وقواعد للجرح لا يقبل بغيرها
أجمع العلماء على أن الجرح لا يقبل من كل أحد ولا في كل أحد ، ومن هنا فقد اجتهدوا في وضع شروط معينة للجرح حتى يكون مقبولاً ومعمولاً به، وقد انطلقوا في اجتهادهم هذا من أمرين أساسيين:
الأول: حفظ الدين .
والثاني: حرمة عرض المسلم .(1/39)
وعلى ضوء هذين الأمرين تم وضع هذه الشروط ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على كمال إنصافهم وغاية ورعهم وتقواهم ، حيث إن حفظ الدين من أوجب الواجبات كما أن حفظ عرض المسلم وعدم انتهاكه من الواجبات كذلك فاستطاعوا بما آتاهم الله تعالى من العلم والحكمة أن يوفقوا بين واجب حفظ الدين وواجب حفظ عرض المسلم بوضع هذه الشروط الجامعة المانعة التي تحفظ الحق وتمنع الظلم قال النووي : ثم على الجارح تقوى الله تعالى في ذلك ، والتثبت فيه والحذر من التساهل بجرح سليم من الجرح أو بنقص من لم يظهر نقصه فإن مفسدة الجرح عظيمة فإنها غيبة مؤبدة مبطلة لأحاديثه مسقطة لسنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورادة لحكم من أحكام الدين ثم إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه، أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد فإن تكلم كان كلامه غيبة محرمة ، كذا ذكره القاضي عياض رحمه الله (1) .
وقال الذهبي : ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذاً إلا بادمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان ـ إلى أن قال ـ فإن آنست يا هذا من نفسك فهماً وصدقاً وديناً وورعاً ، وإلا فلا تتعنّ وإنْ غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب ، وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك (2) .
وقال كذلك: والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والميل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله (3) .
وقال أيضاً: والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع (4) .
__________
(1) انظر : شرح مسلم 1/83- 84.
(2) انظر : تذكرة الحفاظ 1/4.
(3) انظر : الموقظة ص 82.
(4) انظر : ميزان الاعتدال 3/46.(1/40)
وقال محمد بن أبي بكر بن ناصر الدين الدمشقي ( ت 812هـ ) والكلام في الرجال ونقدهم يستدعي أموراً في تعديلهم وردهم منها : أن يكون المتكلم عارفاً بمراتب الرجال وأحوالهم في الانحراف والاعتدال ومراتبهم من الأقوال والأفعال ، وأن يكون من أهل الورع والتقوى مجانباً للعصبية والهوى خالياً من التساهل عارياً عن غرض النفس بالتحامل مع العدالة في نفسه والإتقان والمعرفة بالأسباب التي يجرح بمثلها الإنسان وإلا لم يقبل قوله فيمن تكلم وكان ممن اغتاب وفاه بمحرم (1) .
وقال محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي : يشرط في الجارح والمعدل : العلم والتقوي والورع ، والصدق ، والتجنب عن التعصب ، ومعرفة أسباب الجرح والتزكية ، ومن ليس كذلك لا يقبل منه الجرح ولا التزكية .
المبحث التاسع
اختيارألفاظ الجرح المناسبة لكل راو ضعيف
الضعفاء عند المحدثين ليسوا في مرتبة واحدة في الضعف بل هم متفاوتون فيه فمنهم الضعيف المحتمل ضعفه المحتمل بحديثه، ومنهم الضعيف الشديد الضعف ، ومنهم من بلغ الغاية في الضعف ، وقد جعلوا لكل مرتبة من هذه المراتب ألفاظاً خاصة بها يعرف بها مقدار ضعف صاحبها ، ولم يستجيزوا أن يوصم من يحتمل ضعفه بعبارات من لا يحتمل ضعفه عن قصد ، لأنه يخرج بهذا من دائرة الاعتبار إلى دائرة ردّ حديثه وعدم الاعتبار به ، ولا شك أن هذا منهم غاية في الإنصاف والعدل بتميزهم ألفاظ كل مرتبة عن الاخرى .
مما ذكروه من ألفاظ فيمن يحتمل ضعفه قولهم : ضعيف ، منكر الحديث، مضطرب الحديث ، واه ، ضعفوه لا يحتج به ، فيه مقال ، ليس بذاك ، ليس بالمتين ، ليس بالقوي ، لين ، تكلموا فيه ليس بالمرضي ، اختلط سيئ الحفظ طعنوا فيه ، للضعف ماهو ، ليس بحجة ، ونحو ذلك .
__________
(1) انظر : فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2/196، إعداد مكتب التحقيق ، بدار إحياء التراث العربي دار النفائس الرياض ط الأولي 1998م.(1/41)
وقالوا في الضعيف الشديد الضعف : متروك الحديث ، متهم بالكذب أو الضعف ، ساقط هالك ، ذاهب الحديث ، ضعيف جداً ، ليس بالثقة ، واه بمرة، طرحوا حديثه ، ليس بشيء فيه نظر ، سكتوا عنه ، لايساوي شيئاً ، ونحو ذلك .
وقالوا فيمن بلغ الغاية في الضعف : كذاب ، يكذب ، يضع الحديث وضاع ، دجال ، أكذب ، الناس (1) .
فألفاظ هاتين المرتبتين الأخيرتين لا يصح إطلاقهما على من يحتمل ضعفه لعدم استحقاقهم لها ولما في ذلك من المفسدة الكبرى بترك كتابة حديثهم وعدم الاعتبار به . والله اعلم .
الخاتمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
__________
(1) انظر : شرح الفيه العراقي 2/11-12.(1/42)
فلو أن كل أمة أرادت أن تفاخر بعظمائها وخيرة رجالها ، لكان على هذه الأمة أن تفاخر برجال الحديث فيها ، الذين حفظ الله بهم سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ هم أولى الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة لكثرة صلاتهم عليه، ولذبهم الكذب عنه ولمعرفتهم بسنته صحيحها وضعيفها ولما تميزوا به من الإنصاف في القول والعمل ، ولقد رأينا في هذا البحث بعضاً من مظاهر هذا الإنصاف نحو الرواه المجروحين فقد رأيناهم يذكرون الجرح والتعديل معاً في الراوي المختلف فيه ولا يقتصرون على ذكر الجرح دون التعديل ، ويعتبرون من يفعل ذلك غير عادل ولامنصف ، ورأيناهم لايحابون احداً من الضعفاء قريباً كان أو بعيداً ويطلقون عليه ما يستحق من عبارات التجريح ولايخافون في ذلك لومة لائم، ورأيناهم لايعتدون بجرح الأقران لكونه ناشئاً عن حسد وعداوة ، ولايقبلون الجرح إذا صدر عن جهل أو هوي أو ضعف أو تعصب أو اختلاف في العقيدة أو كان مبهماً ورأيناهم يقبلون رواية المبتدع العدل إذا لم يرو ما يؤكد بدعته ولايزيدون في الجرح على القدر المطلوب ، ولايتعرضون بالجرح لمن ليس بمجروح أو ليس من أهل الرواية ، ولايقبلون الجرح إذا خالف الشروط المعتبرة لقبوله ورأيناهم يختارون لكل راوٍ ضعيف من ألفاظ الجرح ما يناسب ضعفه حفاظاً على عرضه وصوناً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه الظاهرة الدالة على إنصاف المحدثين هي غيض من فيض مما يتحلون به من أخلاق ويتصفون به من صفات، وما على طالب العلم الذي يريد أن يلحق بركبهم إلا أن يتشبه بهم وينتهج نهجهم ويسير في طريقهم ومن سار على الدرب وصل والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...(1/43)