بسم الله الرحمن الرحيم
الأسانيد التي تدور عليها الأحاديث
- هذه القضية مهمة جداً في علم الحديث ، وذلك أن الأحاديث لها طرق مسلوكة ، ويروى من كل طريق عشرات بل مئات الحديث ، وطالب العلم إذا أحاط بهذه الطرق المسلوكة ، وعرف هذه الأسانيد المشهورة يكون قد أحاط بكثير من السنة ، وكذلك علم العلل ، فيما يتعلق بالشذوذ والغرابة والتفرد ينبني على معرفة الطرق المسلوكة ، كما أنه - بعكس ذلك - معرفة الأحاديث الصحيحة تكون من خلال معرفة هذه الطرق المعروفة .
- والصحابة نقلوا السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونُقل عن الصحابة أيضاً ما يتعلق بتفسير كلام الله ، وبشرح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه فتاوى الصحابة - رضي الله عنهم - ، وهي - لا شك - مبنية على الكتاب والسنة ، والصحابة - رضي الله عنهم - ينقسمون قسمين :
1/ قسم ليس لهم رواية ، وهذا ذكرته من الناحية العقلية النظرية ، فإما أن يكونوا ماتوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحدثوا ، وإما أن يكونوا لم يلتقوا به صلى الله عليه وسلم إلا فترة قصير ، وإما أن يكون منعهم الورع أو أن هناك أعلم منهم ...
2/ قسم رووا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونقلوا تفسير كلام الله ، وشرح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعرفة الأحكام الشرعية ، وهؤلاء ينقسمون ثلاثة أقسام :
أ- منهم من هو مكثر جداً ، والمكثرون ليسوا بالكثير ، وعلى رأسهم أبو هريرة - رضي الله عنه - .(1/1)
ب- ومنهم من هو متوسط ، ومنهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - ، ولم يُروَ عن الواحد منهم أكثر من ألف حديث ، وإنما المنقول عنهم أقل من ألف حديث . وعبد الله بن عمرو كان مكثراً جداً من السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، والكتابة عنه ، وملازمته ، وبسبب اشتغاله بالعبادة - فقد كان يقوم كثيراً من الليل ... - ، وابتعاده عن الناس - فقد كان في الطائف بعيداً عن الناس وعن طلبة العلم - ، لم تنتشر عنه الرواية جداً ، وإن كان روي عنه مئات الأحاديث .
ج- ومنهم من هو مقل ، ومنهم : الصنابح الأحمسي ، قال البخاري : ليس له إلا حديثين ، وعثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وجاء في صحيح البخاري الأمر الذي منعه من التحديث ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» ، فخشي الخطأ والغلط ، ومنهم : سعيد بن زيد ، ابن عم عمر ابن الخطاب ، وهو صاحب حديث : «عشرة في الجنة ...» ، حتى إن بعضهم من الصحابة من لم يرو عنه إلا حديث واحد - رضي الله عنهم جميعاً - .
…ولابن حزم رسالة في عدد مرويات كل صحابي ، أخذها من مسند بقي بن مخلد .
ولهذا أهمية ، فمثلاً : أبو هريرة ذكر عنه أن أحاديثه 5374 حديثاً ، وهذا عدد كبير ، وبعده ثلاثة : ابن عمر وأنس وعائشة - رضي الله عنهم - ، كل من هؤلاء روى أكثر من ألفي حديث ، وبعدهم : ابن العباس وجابر وأبو سعيد الخدري ، كل من هؤلاء روى أكثر من ألف حديث . ولو جُمعت هذه الأعداد لبلغت قرابة خمسة عشر ألف حديث - بالمكرر - ، وهذا يقارب نصف السنة أو ثلثها ، وإذا أضفنا مثلاً ابن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، اجتمع عدد كبير من أحاديث السنة . فمعرفتهم مهمة .(1/2)
- ومن المهم : معرفة من أكثر عن هؤلاء الصحابة : قال البخاري : روى عن أبي هريرة أكثر من ثمانمئة راوٍ ، ومنهم من هو مكثر عن أبي هريرة ، منهم أبو صالح السمان ، له بالمكرر عن أصحاب الكتب الستة نحو سبعمئة حديث ، ومنهم من هو مقل جداً ، فروى حديثاً اثنين ثلاثة ... ، ومنهم من روى عن أبي هريرة ولم يسمع منه ، فالطريق إليه ضعيفة ، كالحسن بن أبي الحسن البصري ، وخلاس بن عمرو الهَجري ، وللحسن نحو عشرين عن أبي هريرة ، وخلاس نحو عشر ، وروايتهما منقطعة ضعيفة . فمن المهم معرفة المكثرين عن أبي هريرة .
* ذكر المكثرين عن أبي هريرة إجمالاً :
أبو صالح السمان .
سعيد بن المسيب .
محمد بن سيرين
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج .
همام بن منبه .
عبد الرحمن بن يعقوب الجهني .
عطاء بن أبي رباح .
سعيد بن أبي سعيد الخدري ، له في الكتب الستة نحو مئة وأربعين حديث .
فلو اعتنى الإنسان بهؤلاء ، وجمع مروياتهم ، لعرف أكثر مرويات أبي هريرة - رضي الله عنه - .
…ثم ينبغي معرفة أصحاب هؤلاء ومن أكثر عنهم ، فمثلاً أبو صالح ، من أصحابه : الأعمش ، له قرابة مئتي حديث في الكتب الستة . فلو عرفت هذه السلسلة : الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، لعرفت مئات الأحاديث ، وهي سلسلة صحيحة جداً . وينبغي عليك أن تعرف المكثرين عن الأعمش ، فمنهم : جرير بن عبد الحميد الضبي ، روى عنه عشرات الأحاديث ، وكثير من حديثه في الصحيحين وفي غيرهما ، ومثلاً : شعبة بن الحجاج ، أكثر عن الأعمش ، ومنهم : وكيع بن الجراح ... فإذا عرفت هؤلاء عرفت مئات الأحاديث ، فمثلاً جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وهذه سلسلة صحيحة جداً .
…ثم إذا جئت إلى من أكثر عن هؤلاء ، وصلت الآن إلى طبقة أحمد وابن معين وابن المديني ، فهؤلاء رووا عن جرير بن عبد الحميد ، ثم : من أكثرَ عن هؤلاء : البخاري ومسلم وأبو داود ...(1/3)
… فبهذا عرفت الطرق الصحيحة المشهور ، التي تسهل لك علم الحديث ، وينبني على ذلك معرفة المشهور والغريب ، والصحيح والضعيف ، والمحفوظ والشاذ ، وبالتالي معرفة العلة ... فيسهل الأمر . لكن لو جاء إنسان فبدأ من شيوخ أصحاب الكتب الستة ، فالبخاري له مئتا شيخ ، ثم مسلم ، ثم .... لصعب عليه الأمر .
…لكن يبدأ من المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم المكثرين عنهم ...
- ومثل ذلك يقال في عائشة .
* بيان العلل في رواية خالد بن دريك عن عائشة ، لأن لها علاقة بمعرفة الطرق المشهورة المسلوكة :
- فالحديث الذي رواه هو : ( إنَّ المرأةَ إذَا بَلَغَتِ المحيضَ لَمْ يَصْلُحْ أنْ يُرَى مِنْهَا إلاَّ هَذَا وَهَذَا) ، وأشارَ إلى وجهِهِ وكفَّيْهِ .
…وهذا الحديث مهم ، يتعلق بلباس المرأة ، فينبني عليه أحكام ،
فأولاً : لم يرو هذا الحديث المهم إلا رجل لا يعرف بالرواية عن عائشة .
ثانياً : أين أصحاب عائشة المكثرين عنها ؟ والملازمين لها ؟ كابن أخته عروة بن الزبير ؟ ومَن تربت في حجرها عمرة بنت عبد الرحمن ؟
ثالثاً : أن خالد بن دريك مقل جداً ، روى حديثين عن ابن عمر وهو لم يدركه ...
……فهذا حديث منكر ، باطل .
…ولا يعتضد بغيره ، فهذه الطريق باطلة ، فخالد بن دريك لم يسمع من عائشة ، وأشد من هذا : أن خالداً لم يشتهر عن عائشة ، بل هو بعيد عنها في الشام ، وأين الذين في بلادها ، ويدخلون عليها ؟
…فهذا مما يستفاد من معرفة الأسانيد والسلاسل المشهورة .
مثال آخر : حديث : «الأذنان من الرأس» ، رواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أحمد عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن قارض مولى شيبة عن أبي غطفان عن ابن عباس . قيل عن هذا الإسناد أنه أصح أسانيد هذا الحديث ، ولكن هذا الحديث منكر ، وهمٌ .
- فعبد الله بن أحمد من أصحابه الطبراني ، والقطيعي من أكثر أصحاب عبد الله ولم يروه .(1/4)
- وأحمد ، روى عنه عبد الله ، وغيره كصالح وحنبل وأبي داود ومسلم والأثرم وابن هانئ وغيرهم ، لم يرووه عن أحمد .
- وكيع ، روى عنه أحمد ، لا ابن معين ولا ابن المديني ولا إسحاق بن راهويه .
- ابن أبي ذئب ، روى عنه وكيع ، ولم يروه مثلاً يحيى بن سعيد القطان .
- قارض ليس بالمكثر ، ولكن أين أصحاب ابن عباس ؟!
…فليس هذا الإسناد من أصح أسانيد الحديث ، بل هو خطأ ووهم .
ومن هذا الباب تعليل أبي حاتم - مثلاً - لأحاديث ظاهر أسانيدها الصحة ، أن هذه الطريق غريبة ، ففلان ليس من أصحاب فلان ، ولا يعرف بالرواية عنه ، وبالتالي أصبحت هذه الطريق غريبة .
- وهناك مكثرون في طبقاتٍ عدة . ولو أحيط بالسلاسل المشهورة ، لأحيط بجزء كبير من السنة .(1/5)