الفصل الأول : سيرته
المبحث الأول : اسمه ونسبه وكنيته
هو تقي الدين أبو عمرو عثمان بن صلاح الدين أبي القاسم عبد الرحمان بن عثمان ابن موسى بن أبي نصر النصري الكردي الشرخاني الشهرزوري الأصل، الموصلي النشأة ، الدمشقي الموطن والوفاة ، الشافعي المذهب (1).
والنَّصْري : بفتح النون وسكون الصاد المهملة وبعدها راء مهملة أيضاً ؛ نسبة إلى جدِّه (( أبي نصر )) (2).
والشَّرَخاني : بفتح الشين المعجمة والراء المهملة والخاء المعجمة ؛ نسبة إلى
(( شرخان )) قرية من قرى شهرزور (3).
والشَّهْرَزُوري : بفتح الشين المعجمة وسكون الهاء وفتح الراء وضم الزاي وسكون الواو وفي آخرها راء مهملة . وهي كورة واسعة بين إربل وهمدان ، تنسب إلى بانيها
( زور بن الضحاك ) (4).
المبحث الثاني : مولده
__________
(1) انظر : وفيات الأعيان 3/243 ، وسير أعلام النبلاء 23/140 ، وتذكرة الحفاظ 4/1430 ، والعبر 5/177 ، ومرآة الجنان 4 / 84 – 85 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 ، وطبقات الشافعية للإسنوي 2 / 133 ، والبداية والنهاية 13 / 142 ، والنجوم الزاهرة 6 / 354 ، وطبقات الحفاظ : 499 ، والدارس 1 / 16 ، وطبقات المفسرين للداوودي 1/377 ، وطبقات الشافعية لابن هداية الله : 220 ، وشذرات الذهب 5/221 ، والأعلام 4 / 407 .
(2) انظر : اللباب 3 / 311 ، ووفيات الأعيان 3 / 245 .
(3) وفيات الأعيان 3 / 245 .
(4) انظر : اللباب 2 / 216 ، ومعجم البلدان 3 / 375 ، ومراصد الاطلاع 2 / 822 .(1/1)
اتفق كل مَنْ ترجم لابن الصلاح على أن مولده كان سنة ( 577 ه) (1) ، لا خلاف بينهم في ذلك ، وإنما الخلاف كان في مكان ولادته ، فالجمهور على أن ولادته كانت في مدينة (( شهرزور )) (2).
وانفرد تلميذه ابن خلّكان (3) بالقول أن مولده كان في (( شرخان )) ، وعلى الرغم من أن هذا الاختلاف ليس بذي بالٍ في إظهار خلافٍ ما ، إلاَّ أن هذا الاختلاف – على تقدير وجوده – لا يلبث أن يزول إذا ما علمنا أن ((شرخان)) قرية تابعة إلى ((شهرزور)) ، فمَنْ نَسَبَ إلى الأول فقد دقق ، ومَنْ نَسَبَ إلى الثاني فقد اكتفى بذكر القطر الأعم ، والله أعلم .
المبحث الثالث : أسرته ونشأته وطلبه للعلم
لَمْ توفّر المصادر التي بين أيادينا مادة علمية عن أفراد أسرة مترجمنا ، بل قصارى ما عرفناه عنهم : ما كان يتبؤه والده من المكانة الاجتماعية والمركز العلمي المرموق . ولا ضير في أن نتعرض لترجمة مقتضبة لوالده فنقول : لَمْ يكن والده صلاح الدين أبو القاسم عبد الرحمان يعرف تاريخ مولده على وجه الدقة ، بل كان يخمن أنه ولد سنة
(
__________
(1) انظر : وفيات الأعيان 3/ 224 ، وسير أعلام النبلاء 23/140 ، وتذكرة الحفاظ 4/1430 ، والعبر 5/177 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 ، والنجوم الزاهرة 6 / 354 ، والدارس 1 / 16 ، وشذرات الذهب 5 / 221 .
(2) انظر : المصادر السابقة .
(3) وفيات الأعيان 3 / 244 ، وتابعه الزركلي في الأعلام 4 / 207 .(1/2)
539 ه) (1) ، وطلب العلم لاسيما الفقه ، وبرع فيه حتَّى (( كان من جلة مشايخ الأكراد المشار إليهم )) (2) ، ومن ثَمَّ تقلبت به صروف الدهر ما بين موطنه والموصل ، حتَّى استقر به الأمر في حلب (3) ، فتولَّى هناك التدريس في المدرسة الأسدية (4) ، حَتَّى تُوفِّي بحلب في ذي القعدة سنة (618ه) (5).
ولقد رعى الوالد ولده وأحسن تربيته ، فلقَّن ابنه – الذي ظهرت عليه مخايل النباهة وعلوُّ الهمة وعظيم النشاط – الفقه ، ومما يدل على ذلك ما روي عنه أنه أعاد قراءة كتاب " المهذب " على والده أكثر من مرة ولم يختط شاربه بعد (6).
والذي يبدو لنا : أن الوالد لما أحسَّ بنهم ولده للعلم ، اكتفى بأن أعطاه مبادئ العلوم الأولية ، ومن ثم ترك لولده مهمة اختيار طبيعة دروسه ، فلم يهمل الولد تنويع مصادر معرفته، فطلب على مشايخ بلده الذين كان غالبهم من الأكراد (7).
__________
(1) انظر : وفيات الأعيان 3 / 244 – 245 .
(2) وفيات الأعيان 3 / 243 .
(3) انظر : تاريخ الإسلام وفيات ( 618 ه) ص : 364 ، الترجمة ( 532 ) .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 22 / 148 . وهذه المدرسة منسوبة إلى بانيها أسد الدين شيركوه بن شاذي. ولم يبقَ منها اليوم سوى قبلتها وقبة ، وقد رمّمت فيها سنة (1316ه) ثماني حجرات . انظر : وفيات الأعيان 3 / 243 ، وخطط الشام 6 / 104 .
(5) انظر : تاريخ الإسلام وفيات ( 618 ه) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 148 .
(6) انظر : وفيات الأعيان 3 / 243 .
(7) انظر : مقدمتنا لشرح التبصرة والتذكرة 1 / 11 .(1/3)
وبعد أن أدرك أبو القاسم أن تطلّعات ولده تسمو به عن أن يفي بها معلمو قريته الصغيرة ، فسافر به إلى مدينة الموصل (1) - إحدى أكبر حواضر الإسلام – ولم يطل المقام به كثيراً فيها (2) ، فما هو إلاَّ أن اشتدَّ عوده وقوي على تحمّل أعباء الحياة ، حَتَّى يمَّم وجهه صوب قبلة العلم وجوهرة الشرق دار السلام "بغداد"(3)، التي كانت آنذاك تعجّ بمظاهر العِلْم ، وصنوف أرباب المعرفة وطلابهم ، فوردها تقي الدين وسمع بها من جملة من المشايخ (4)، ثُمَّ بعد أن أحسَّ أن الرحلة سنة من يطلب هذا الشأن (الحديث)، شدَّ رحاله إلى بلاد العجم ، ولزم فيها الإمام الرافعي (5) وبه تفقه وبرع في مذهب الشافعي (6) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 .
(2) انظر : تذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(3) انظر : الدارس 1 / 16 ، وتاريخ علماء بغداد : 140 .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(5) ستأتي ترجمته في مبحث : شيوخه .
(6) انظر : طبقات الشافعية لابن هداية الله : 221 .(1/4)
ثُمَّ أجاب أبو عمرو داعي العلم في خراسان حيث الأسانيد العالية التي يرغب فيها أهل الحديث ، فدخل نيسابور ، ومرو ، وهمذان ، إلاَّ أن أبرز مَنْ لَقِيَ من المشايخ هناك: الإمام أبا الْمُظَفَّر السمعاني (1)، وبعد أن سمع وحصّل (( الكثير بالموصل وبغداد ودنيسر (2) ونيسابور ومرو وهمذان ودمشق وحران )) (3) ، وتأهّل لأن يكون إماماً يشار إليه بالبنان . عاد أدراجه بعد رحلة طويلة جال فيها أهم مراكز العلم في بلاد المشرق الإسلامي ، فدخل دمشق وقد ناهز السادسة والثلاثين من عمره الذي كانت عدد سنواته ( ستة وستين عاماً ) ، وكان ذلك في حوالي سنة ( 613 ه) (4) .
ثُمَّ قصد القدس فأقام بها (5)، ودرَّس في المدرسة الصلاحية وتسمى الناصرية
أيضاً (6) ، ثُمَّ لما أمر الملك المعظم بهدم سور القدس (7)، نزح إلى دمشق مستقرّاً بها (8)، وذلك في حدود سنة ( 630 ه) (9).
ولا نُغْفِل أن أبا عمرٍو سافر إلى الحرمين حاجّاً ، - قَبْلَ استقراره في دمشق
وبعدها - وهو لَمْ يعدم في سفرته هذه علماً يضيفه إلى مخزون علمه (10).
المبحث الرابع : وفاته
__________
(1) ستأتي ترجمته في مبحث : شيوخه .
(2) بضم أوله : بلدة عظيمة مشهورة من نواحي الجزيرة ، وتدعى : قوج حصار . معجم البلدان 2/478 .
(3) طبقات الشافعية للإسنوي : 2 / 113 .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 142 .
(5) انظر : الأنس الجليل 2 / 104 .
(6) انظر : مرآة الجنان 4 / 85 ، والبداية والنهاية 13 / 142 .
(7) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(8) انظر : شذرات الذهب 5 / 221 .
(9) انظر : طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 133 .
(10) انظر : مقدمتنا لشرح التبصرة والتذكرة 1 / 12 .(1/5)
بعد ستة وستين من الأعوام ، جاءت سكرة الموت بالحق ، فاختار الله تعالى ابن الصلاح إلى جواره الكريم ، ففاضت روحه في صباح (1) يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر (2) .
وقيل : ستة وعشرون (3) ، في حين اكتفى بعض المؤرخين بذكر الشهر من غير تعيين يوم منه (4) .
__________
(1) وقال الذهبي : (( في السحر )) . سير أعلام النبلاء 23 / 143 ، وقال ابن كثير : (( ليلة الأربعاء )) . البداية والنهاية 13 / 142 .
(2) انظر: وفيات الأعيان 3/ 244 ، وتذكرة الحفاظ 4/1431 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8/327 ، وطبقات الشافعية للإسنوي 2/134 ، والبداية والنهاية 13/142 ، وطبقات الحفاظ : 503 ، وطبقات الشافعية لابن هداية الله : 221 ، وشذرات الذهب 5/222.
(3) انظر : الذيل على الروضتين : 175 ، والعبر 5 / 178 ، والدارس 1 / 17 .
(4) انظر : مرآة الجنان 4/85 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/115 ، والنجوم الزاهرة 6/354 .(1/6)
وعلى كل التقديرات فإنهم متّفقون على أن وفاته كانت سنة (643 ه) (1) ، وكثر التأسف عليه وحمل نعشه على رؤوس الناس ، وازدحم على سريره الخلق ، وكان على جنازته هيبة وخشوع ، فَصُلِّي عليه بجامع دمشق بعد الظهر ، وشُيِّع إلى داخل باب الفرج وصُلِّي عليه هناك ثانية ، ولم يقدر الناس على الخروج لدفنه ؛ لأن دمشق كانت محاصرة من الخوارزمية (2) ، وَلَمْ يخرج مَعَهُ إلاَّ نحو عشرة أَنْفُس مخاطرين حَتَّى دفنوه في مقابر الصوفية خارج باب النصر (3) ، فرحمه الله (4) .
الفصل الثاني : ثقافته
المبحث الأول : شيوخه
__________
(1) انظر : المصادر السابقة جميعها .
(2) هم أقوام ينسبون إلى (( خوارزم )) ، وهي سلطنة نشأة في القرون الوسطى ، وكان دخولهم إلى الإسلام بواسطة السلاجقة الأتراك ، وقد استعان بهم الملك الصالح أيوب صاحب مصر لأخذ دمشق من يد عمِّهِ الملك الصالح إسماعيل . انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 143 ، ومرآة الجنان 4 / 83 – 84 .
(3) قال السبكي : (( قبره على الطريق في طرفها الغربي ، ظاهر يزار ويتبرك به )) . طبقات الشافعية الكبرى 8/328 .
قال شعيب الأرناؤوط : (( وقد درست ، وقام مكانها عمائر ومستشفى ومسجد )) . هامش سير أعلام النبلاء 23 / 143 .
(4) انظر: وفيات الأعيان 3/243 ، وسير أعلام النبلاء 23/143، وتذكرة الحفاظ 4/1431 والعبر 5/178 ، ومرآة الجنان 4/85 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8/327 ، وطبقات الشافعية =
=للإسنوي 2/134 ، والبداية والنهاية 13/ 142 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2 / 115 ، والنجوم الزاهرة 6 / 354 ، وطبقات الحفاظ : 503 ، والدارس 1/17، وطبقات المفسرين للداوودي 1/377 ، وطبقات الشافعية لابن هداية الله : 221 ، وشذرات الذهب 5/222 ، والأعلام 4/207 .(1/7)
حرص المترجَم على أن يتلقى العلم من أفواه الرجال على ما جرت به عادة أهل الإسلام ، فرحل في سبيل ذلك – كما قدّمنا – إلى كثير من الأقطار ، فبعد إقامته بالموصل (( دخل بغداد ، وطاف البلاد، وسمع من خلق كثير وجمٍّ غفير ببغداد ، وهمذان، ونيسابور ، ومرو ، وحران ، وغير ذلك ، ودخل الشام مرتين )) (1) .
لذا رأينا أن نذكرهم على حسب بلدانهم التي سمع فيها منهم المترْجَم :
الموصل :
1. عماد الدين أبو حامد مُحَمَّد بن يونس بن منعة الإربلي ثُمَّ الموصلي الفقيه الشافعي ، ت ( 608 ه) (2) .
2. أبو جعفر عبيد الله بن أحمد المشهور بـ: ابن السَّمين (3) ، ت ( 588 ه) (4)، وهو أقدم شيخ له (5) .
3. نصر بن سلامة الهيتي (6) .
4. محمود بن علي الموصلي (7) .
5. عبد المحسن بن الطوسي (8) .
6. أبو الْمُظَفَّر بن البرني (9) .
بغداد :
__________
(1) مرآة الجنان 4 / 85 – 86 ، وانظر : طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/113 ، والدارس 1 / 16 .
(2) انظر : وفيات الأعيان 3/243 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 ، وترجمته في : الكامل لابن الأثير 12/143، والتكملة لوفيات النقلة ترجمة (1198)، ووفيات الأعيان 4/253، وسير أعلام النبلاء 21/498 ، وطبقات الشافعية الكبرى 5/45 ، والبداية والنهاية 13/62.
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 21 / 229 .
(5) انظر : طبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 .
(6) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 .
(7) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 .
(8) انظر : المصدرين السابقين .
(9) انظر : ما سبق .(1/8)
7. أبو أحمد ضياء الدين عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن عبيد الله بن سكينة البغدادي الصوفي الشافعي (1) ، شيخ الشيوخ الإمام العالم الفقيه المحدِّث الثقة المعمر القدوة الكبير شيخ الإسلام مفخرة العراق ، ت ( 607 ه) (2).
8. أبو حفص عمر بن مُحَمَّد بن مُعَمَّر بن أحمد البغدادي الدارقزي المؤدب المشهور بـ: ابن طَبَرْزَذ (3) الشَّيْخ المسند الكبير الرحلة ، ت ( 607 ه) (4).
بلاد العجم :
9. أبو القاسم عبد الكريم بن أبي الفضل محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين الرافعي القزويني(5) شيخ الشافعية عالم العجم والعرب إمام الدين، ت (623 ه) (6).
مرو :
10. أبو الْمُظَفَّر فخر الدين عبد الرحيم بن الحافظ الكبير أبي سعد عبد الكريم بن محمد ابن منصور السمعاني المروزي الشافعي (7) الشَّيْخ الإمام العلاَّمة المفتي المحدِّث ،
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(2) ترجمته في : الكامل 12 / 122 ، والتكملة (1146) ، وسير أعلام النبلاء 21 / 502 ، والبداية والنهاية 13 / 61 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(4) ترجمته في : الكامل 12 / 122 ، والتكملة ( 1158 ) ، ووفيات الأعيان 3 / 452 ، وسير أعلام النبلاء 21/ 507 ، والبداية والنهاية 13 / 61 ، والنجوم الزاهرة 6/201 ، وشذرات الذهب 5/26 .
(5) انظر : طبقات الشافعية الكبرى 8 / 283 .
(6) ترجمته في : تهذيب الأسماء واللغات 2 / 264 ، وسير أعلام النبلاء 22 / 252 ، والعبر 5 / 94 ، وفوات الوفيات 2 / 7 ، ومرآة الجنان 4 / 45 ، والنجوم الزاهرة 6 / 266 .
(7) انظر : سير أعلام النبلاء 23/141 ، وتذكرة الحفاظ 4/1430 . وانظر : معرفة أنواع علم الحديث : 314 من هذه الطبعة .(1/9)
ت (617 ه) أو ( 618 ه) (1) .
11. محمد بن عمر المسعودي (2) .
12. مُحَمَّد بن إسماعيل الموسوي (3) .
13. أبو جعفر مُحَمَّد بن مُحَمَّد السنجي (4) .
نيسابور :
14. أبو بكر ، وأبو الفتح ، وأبو القاسم : منصور بن مسند وقته أبي المعالي عبد المنعم ابن المحدِّث أبي البركات عبد الله بن فقيه الحرم أبي عبد الله مُحَمَّد بن الفضل بن أحمد الصاعدي الفراوي ثُمَّ النيسابوري (5). الشَّيْخ الجليل العدل المسند، ت (608 ه)(6).
15. رضي الدين أبو الحسن المؤيد بن مُحَمَّد بن علي بن حسن الطُّوسي ثُمَّ النيسابوري (7) الشَّيْخ الإمام المقرئ الْمُعَمَّر مسند خراسان ، ت (617 ه) (8) .
16. حُرَّة ناز أم المؤيد زينب بنت أبي القاسم عبد الرحمان بن الحسن بن أَحْمَد الجرجانية الأصل النيسابورية الشعرية (9) الشيخة الجليلة مسندة خراسان ،
__________
(1) انظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء 22 / 107 ، والعبر 5 / 68 ، وميزان الاعتدال 2 / 606 ، ولسان الميزان 4 / 6 ، وشذرات الذهب 5 / 75 .
(2) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 142 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 142 .
(4) انظر : المصدر السابق .
(5) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 - 141 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(6) ترجمته في : التكملة ( 1202 ) ، وتاريخ الإسلام وفيات ( 608 ) ، وسير أعلام النبلاء 21 / 494 ، والنجوم الزاهرة 6 / 204 ، وشذرات الذهب 5 / 34 .
(7) انظر: سير أعلام النبلاء 23/140-141، وتذكرة الحفاظ 4/1430، وتاريخ الإسلام وفيات (617).
(8) ترجمته في : التكملة ( 1765 ) ، ووفيات الأعيان 5 / 345 ، وتاريخ الإسلام وفيات
(617) ، وسير أعلام النبلاء 22/ 104–105 ، والنجوم الزاهرة 6/251 ، وشذرات الذهب 5/78.
(9) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 140 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .(1/10)
ت ( 615 ه) (1) .
17. شهاب الدين أبو بكر القاسم بن الشَّيْخ أبي سعد عبد الله بن الفقيه عمر بن أَحْمَد النيسابوري ابن الصفَّار (2) الإمام الفقيه الشافعي المسند الجليل مفتي خراسان ،
ت ( 618 ه) (3) .
18. مُحَمَّد بن الحسن الصرَّام (4) .
19. أبو المعالي بن ناصر الأنصاري (5) .
20. إسماعيل بن عثمان بن إسماعيل بن أبي القاسم بن أبي بكر (6) ، أبو النجيب القارئ النيسابوري ، ت ( 617 ه) أو ( 618 ه) (7).
همذان :
21. أبو الفضل عبد الرحمان بن عبد الوهاب بن أبي زيد الْمُعَزِّم الهمذاني
الفقيه (8) ، ت ( 609 ه) (9) .
حران :
__________
(1) ترجمتها في: التكملة (1648) ، ووفيات الأعيان 2/344 ، وتاريخ الإسلام وفيات
(615) ، وسير أعلام النبلاء 22/85 ، والنجوم الزاهرة 6/226 ، وشذرات الذهب 5/63 .
(2) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(3) ترجمته في : التكملة ( 1860 ) ، وتاريخ الإسلام وفيات ( 618 ) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 109 ، وطبقات الشافعية الكبرى 5 / 148 ، والنجوم الزاهرة 6 / 253 ، وشذرات الذهب 5 / 81 - 82 .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(5) انظر : المصدرين السابقين .
(6) انظر : المصدرين نفسيهما .
(7) ترجمته في تاريخ الإسلام وفيات ( 617 ه) ، ص : 297 – 298 الترجمة ( 437 ) .
(8) انظر : تذكرة الحفاظ 4 / 1430 ، وطبقات المفسرين للداوودي 1 / 377 .
(9) ترجمته في : التكملة (1236) ، وتاريخ الإسلام وفيات ( 609 ه) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 20 ، وشذرات الذهب 5 / 37 .(1/11)
22. أبو مُحَمَّد عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمان الرُّهاوي الحنبلي السفار(1) الإمام الحافظ المحدِّث الرَّحَّال الجوَّال محدِّث الجزيرة، ت (612ه) (2) .
دمشق :
23. فخر الدين أبو منصور عبد الرحمان بن مُحَمَّد بن الحسين بن هبة الله بن عبد الله الدمشقي الشافعي (3) بن عساكر ، الشَّيْخ الإمام العالم القدوة المفتي شيخ الشافعية ، ت ( 620 ه) (4) .
24. موفق الدين أبو مُحَمَّد عبد الله بن أحمد بن مُحَمَّد بن قدامة المقدسي الجَمَّاعيلي ثُمَّ الدمشقي الصالحي الحنبلي (5)، الشَّيْخ الإمام القدوة العلاَّمة المجتهد شيخ الإسلام ، ت ( 620 ه) (6) .
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(2) ترجمته في : التكملة ( 1399 ) ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1387 ، وتاريخ الإسلام وفيات
( 612 ه) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 71 ، والبداية والنهاية 13 / 69 ، وذيل طبقات الحنابلة 2 / 82 – 86 ، وشذرات الذهب 5 / 50 – 51 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(4) ترجمته في : الكامل 12/172 ، والتكملة لوفيات النقلة (1935) ، ووفيات الأعيان 3/135 ، وتاريخ الإسلام وفيات (620 ه) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 187 ، وطبقات الشافعية الكبرى 5 / 66 ، والبداية والنهاية 13 / 101 .
(5) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(6) ترجمته في : معجم البلدان 2 / 113 ، والتكملة ( 1944 ) ، وتاريخ الإسلام وفيات
(620) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 165 ، والبداية والنهاية 13/ 99 ، وذيل طبقات الحنابلة 2/133 ، وشذرات الذهب 5 / 88 .(1/12)
25. جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن مُحَمَّد بن أبي الفضل بن علي الأنصاري الدمشقي الشافعي ابن الحرستاني (1) ، الشَّيْخ الإمام العالم المفتي المعمَّر الصالح مسند الشام شيخ الإسلام قاضي القضاة ، ت ( 624 ه) (2) .
حلب :
26. زين الدين أبو مُحَمَّد عبد الله بن عبد الرحمان بن عبد الله بن علوان الأسدي الشافعي (3) الشهير بـ: ابن الأستاذ ، قاضي حلب . ت ( 635 ه) (4) . وغيرهم أعرضنا عن ذكرهم اختصاراً للمقام .
المبحث الثاني : تلامذته
ما كاد ابن الصلاح يلقي عصا ترحاله مستقراً بالقدس أوَّلاً ، ثُمَّ دمشق ثانياً ، حَتَّى تقاطر عليه طلبة العلم من كل صوب ، يحدوهم أمل أن يفوزوا بالتَّتلمذ على يديه ، والاغتراف من معين علمه . وما كان ابن الصلاح ليتمتَّع بهذا الفضل الذي يشهد به العدو قبل الصديق ، والفضل ما شهدت به الأعداء – كما يقولون – لولا صفات أهَّلته لأن يكون مَوْئِل الباحثين عن الحقيقة الناشدين عن المعرفة ؛ فبات من العسير علينا أن نحصيَ تلامذة إمام بهذا المستوى ؛ لذا ارتأينا الاقتصار عَلَى أشهرهم ، وهم :
1. شمس الدين أبو العباس أَحْمَد بن مُحَمَّد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان البرمكي الإربلي الشَّافِعِيّ (5) قاضي القضاة ، ت ( 681 ه) صاحب الكِتَاب المَشْهُوْر
__________
(1) انظر : تذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(2) ترجمته في : معجم البلدان 2 / 241 ، والتكملة ( 1568 ) ، وتاريخ الإسلام وفيات
( 624 ) ، وسير أعلام النبلاء 22 / 80 ، والبداية والنهاية 13 / 78 ، والنجوم الزاهرة 6 / 220 ، وشذرات الذهب 5 / 60 .
(3) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(4) ترجمته في : تاريخ الإسلام وفيات ( 635 ه) ، ص: 220 – 221 ، الترجمة (333) .
(5) انظر : وفيات الأعيان 3 / 243 .(1/13)
" وفيات الأعيان " (1) .
2. عبد الرحمان بن نوح بن مُحَمَّد شمس الدين التركماني المقدسي ثُمَّ الدمشقي ، أخذ عن ابن الصلاح (2)، وكان أعرف تلاميذه بمذهب الشافعي ، مولده سنة (597 ه)، سمع الكثير من الحديث ، ودرَّس بالرواحية ، وكان ذا هيبة ووقار وسمت حسن وخشوع، توفي سنة ( 654 ه) ، وكان قد بلغ الخمسة والثمانين عاماً (3) .
3. كمال الدين أبو الفضائل سلار بن الحسن بن عمر الإربلي ، أخذ عن ابن الصلاح (4) ، قال النووي : (( هو شيخنا المجمع على إمامته وجلالته وتقدمه في علم المذهب عَلَى أهل عصره ، والمرجع إليه في حلِّ مشكلاته )) (5) . كان مفتي الشام ، وتوفي سنة ( 670 ه) عن بضع وستين سنة (6) .
4. كمال الدين أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ثُمَّ المقدسي ، أخذ العلم عن الفخر بن عساكر ثُمَّ عن ابن الصلاح (7) ، وأعاد بعد ابن الصلاح بالرواحية عشرين سنة ، توفي سنة ( 650 ه) ، ودفن إلى جانب ابن الصلاح (8) .
__________
(1) ترجمته في : طبقات الشافعية الكبرى 2/166 ، والبداية والنهاية 13/38 ، والنجوم الزاهرة 7/353 .
(2) انظر : تذكرة الحفاظ 4 / 1471 .
(3) ترجمته في : طبقات الشافعية الكبرى 8 / 188 ، والبداية والنهاية 13 / 195 ، والدارس 1 / 49 ، وشذرات الذهب 5 / 265 .
(4) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1431 .
(5) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 18 ، وانظر : طبقات الشافعية الكبرى 8 / 149 .
(6) ترجمته في : العبر 5 / 293 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 149 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/132 ، وتهذيب الأسماء واللغات 1/18 ، وشذرات الذهب 5/331.
(7) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(8) ترجمته في : العبر 5 / 227 ، وطبقات الشافعية الكبرىللإسنوي 1 / 141 – 142 ، والبداية والنهاية 13 / 213 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2 / 102 .(1/14)
5. أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر التفليسي الشافعي القاضي ، أخذ عن ابن الصلاح (1) ، وسمع الحديث وتفقه في مذهب الشافعي وبرع فيه ، ولي قضاء دمشق نيابة، ثُمَّ ترك الشام وتوجه إلى مصر فأدركته المنية هناك سنة ( 672 ه) (2) .
6. شمس الدين أحمد بن علي بن الزبير بن سليمان القاضي الجيلي الدمشقي الشافعي الشاهد الصوفي ، سمع عَلَى ابن الصلاح (3) ، توفي سنة ( 724 ه) (4) .
7. رشيد الدين إسماعيل بن عثمان بن مُحَمَّد بن عبد الكريم الحنفي، المعروف بـ: ابن المعلّم ، كَانَ فاضلاً في مذهب الحنفية، سَمِعَ ابن الصَّلاَح (5) قَالَ الذهبي: كَانَ ديِّناً مقتصداً في لباسه متزهِّداً ، غادر دمشق ودخل القاهرة وظل فِيْهَا حَتَّى توفي سنة
( 714 ه) (6) .
8. زين الدين أبو مُحَمَّد عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيروز الفارقي خطيب دمشق وشيخ دار الحديث ، سمع ابن الصلاح (7) ، قال الذهبي : (( كان فصيحاً متقناً متحرّياً لديه فضيلة جيدة مع دين وصيانة وقوة في الحق )) ، توفي سنة ( 703 ه) (8) .
__________
(1) انظر : شذرات الذهب 5 / 337 .
(2) ترجمته في : طبقات الشافعية الكبرى 8 / 309 ، والبداية والنهاية 13 / 267 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2 / 143 ، وشذرات الذهب 5 / 337 .
(3) انظر : الدرر الكامنة 1 / 209 .
(4) ترجمته في : الدرر الكامنة 1 / 209 ، وشذرات الذهب 3 / 63 .
(5) انظر : الدرر الكامنة 1 / 469 .
(6) ترجمته في : الدرر الكامنة 1 / 469 .
(7) انظر : الدرر الكامنة 2 / 304 – 305 .
(8) ترجمته في : طبقات الشافعية الكبرى 10 / 44 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة
2 / 215 ، والدرر الكامنة 2 / 304 – 305 ، وشذرات الذهب 3 / 8 .(1/15)
9. ناصر الدين مُحَمَّد بن يوسف بن مُحَمَّد بن عبد الله المصري الأصل الدمشقي، المشهور بـ: ابن المهتار ، سَمِعَ ابن الصَّلاَح(1)، توفي سنة (715 ه) (2).
10. عماد الدين يَحْيَى بن أَحْمَد بن يوسف بن كامل الحسيني البصروي ، سَمِعَ ابن الصَّلاَح(3)، وكان خيّراً متواضعاً سنيّاً شافعيّاً ، توفي سنة (705ه)(4). وغيرهم كثير.
المبحث الثالث : نشره للعلم
مرَّ بنا أن ابن الصلاح استوطن أولاً القدس ، ومن ثم نزح إلى دمشق متخذاً مِنْهَا مستقرّاً وموطناً ، وكان المترْجَم منذ نعومة أظفاره قد تعوّد الدرس والتدريس ، فعندما كان في مقتبل عمره ولا يزال غضّ العود طري البنية ، وفي أول سفر له إلى الموصل ، ولاَّه شيخه عماد الدين بن يونس الإعادة في درسه (5) ، ثُمَّ لما اشتدّ عوده وصلب وبعد أن جمع شتات العلوم وأصبح علماً يشار إليه ، أسندت إليه مهمة التدريس في المدارس التي كانت بمثابة جامعات تُخَرِّج علماء في مختلف التخصصات ، ومن تلك المدارس التي درَّس فيها أبو عمرو هي :
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(2) ترجمته في : الدرر الكامنة 4 / 313 .
(3) انظر : الدرر الكامنة 4 / 413 .
(4) ترجمته في : المصدر السابق .
(5) انظر : وفيات الأعيان 3 / 243 ، وتذكرة الحفاظ 4 / 1430 .(1/16)
1. المدرسة الصلاحية (1) : وتسمَّى الناصرية أيضاً (2) ، تقع في القدس وتنسب إلى بانيها السلطان الملك الناصر صلاح الدين أبو الْمُظَفَّر يوسف بن أيوب ابن شاذي الدويني الكردي الأصل التكريتي المولد (3)، وكان إنشاؤها سنة (583 ه) للشافعية، وكانت كنيسة فهدمها وبناها مدرسة (4)، وهي الآن كنيسة للنصارى (5).
2. المدرسة الرواحية (6) : وتنسب إلى بانيها زكي الدين أبي القاسم هبة الله ابن مُحَمَّد بن رواحة الحموي التاجر المعدَّل ، ت ( 622 ه) (7) ، وابن الصلاح أوَّل مَنْ درَّس فيها (8) ، وتقع شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه ، شمالي جيرون ، وغربي الدولعية ، وقبلي السيفية الحنبلية (9) ، وهي الآن دار (10) .
__________
(1) انظر : وفيات الأعيان 3 / 244 ، والدارس 1 / 251 .
(2) انظر : البداية والنهاية 12 / 289 ، وفي المطبوع من شذرات الذهب 5 / 221 : (( النظامية )) ، وهو خطأ طباعي .
(3) انظر : العبر 4 / 270 .
(4) انظر : البداية والنهاية 12 / 289 .
(5) انظر : خطط الشام 6 / 121 .
(6) انظر : طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 133 ، والدارس 1 / 21 .
(7) انظر : الدارس 1/265 ، وترجمته في : العبر 5/92 ، وتاريخ الإسلام وفيات (622 ه) ص : 126 ، الترجمة ( 148 ) .
(8) انظر : طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 133 ، والدارس 1 / 21 .
(9) انظر : الدارس 1 / 265 - 266 .
(10) انظر : خطط الشام 6 / 79 .(1/17)
3. دار الحديث الأشرفية (1) : تقع بجوار باب القلعة الشرقي غربي المدرسة العصرونية وشمالي المدرسة القايمازية (2) ، تنسب إلى بانيها الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك العادل بن أيوب ، ت (635 ه) ، وافتتحت سنة (630ه) ، بعد أن استغرق بناؤها سنتين ، ووقف عليها أوقافاً ، وأول من ولي مشيختها أبو عمرو بن الصلاح ، وبقي فيها ثلاث عشرة سنة (3) ، وهي لا تزال مدرسة حَتَّى اليوم (4) .
4. مدرسة ست الشام زمرد خاتون (5) : وتسمَّى الشامية الجوَّانية (6) والشامية الصغرى (7) ، وتقع قبلي المارستان النوري ، تنسب إلى منشئتها ست الشام زمرد خاتون بنت نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان، ت (616ه)(8)، قال مُحَمَّد كرد علي: ((وقد خربت هذه المدرسة ولم يبقَ فيها سوى بابها وواجهتها الحجرية واتخذت داراً ))(9) .
المبحث الرابع : آثاره العلمية
__________
(1) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(2) انظر : الدارس 1 / 19 .
(3) انظر : العبر 5 / 178 ، طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 133 ، والدارس 1 / 21 .
(4) انظر : خطط الشام 6 / 72 .
(5) انظر : سير أعلام النبلاء 23 / 141 .
(6) انظر : طبقات الشافعية الكبرى 8 / 327 ، والبداية والنهاية 13 / 168 ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1 / 445 .
(7) انظر : تذكرة الحفاظ 4 / 1430 ، وسير أعلام النبلاء 23 / 141 ، وطبقات المفسرين 1 / 377 .
(8) انظر : وفيات الأعيان 3 / 244 ، والدارس 1 / 301 .
(9) خطط الشام 6 / 79 .(1/18)
على الرغم من كل الظروف العصيبة والمهمات العديدة التي كانت تقع على عاتق ابن الصلاح ؛ فإنه قد ترك لنا ثروة علمية لا يستهان بها ، يمكن من خلالها أن نتصور ما كان يتمتع به هذا الإمام من عقلية صلبة وفكر فسيح ، خصب الزرع وارق النتاج . ولم يكن لمشاغله المتعددة بَيْنَ تدريس في المدارس الثلاث والإفتاء ومراعاة أحوال الناس عائق في وجه شلال فكره الهادر ، فكانت ثماره عظيمة أغنت المكتبة الإسلامية ببحوث إن لَمْ تكن مستوفية ، فإنها كانت ذات جدة وأصالة في أكثر موضوعاتها ، ففتحت الباب لمن جاء بعده لتكون تلك الآثار محور تدور في فلكه كثير من المؤلفات .
واستطعنا أن نقف له على ما يربو على العشرين مؤلفاً ، هي :
1. أحاديث في فضل الإسكندرية وعسقلان (1) .
2. الأحاديث الكلية (2) .
3. أدب المفتي والمستفتي (3) .
4. الأمالي (4) .
5. حديث الرحمة (5) .
6. حكم صلاة الرغائب (6) .
7. حلية الإمام الشافعي (7) .
8. شرح معرفة علوم الحديث ، للحاكم النيسابوري (8) .
9. شرح الورقات لإمام الحرمين في أصول الفقه (9) .
__________
(1) توجد منه نسخة خطية في برلين برقم ( ??????spr ) . انظر : الفهرس الشامل للتراث الإسلامي (قسم الحديث) 3 / 1457 .
(2) ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم : 3 .
(3) طبع بتحقيق الدكتور : موفق بن عبد الله بن عبد القادر .
(4) منه نسخة في المكتبة الأزهرية برقم [(3749) 9030]. انظر : الفهرس الشامل 1/241.
(5) انظر : صلة الخلف بموصول السلف : 398 .
(6) انظر : صلة الخلف بموصول السلف : 215 .
(7) منه نسخة خطية في الظاهرية ( مجموع 59 ) . انظر : الفهرس الشامل 1 / 633 .
(8) ملء العيبة 3 / 218 .
(9) توجد منه نسخ خطية . انظر : تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 6 / 211 .(1/19)
10. صلة الناسك في صفة المناسك (1) .
11. صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط (2) .
12. طبقات فقهاء الشافعية (3) .
13. معرفة أنواع علم الحديث (4) .
14. الفتاوى (5) .
15. فوائد الرحلة (6) .
16. مختصر في أحاديث الأحكام (7) .
17. مشكل الوسيط (8) .
18. مشكلات البخاري (9) .
18. المؤتلف والمختلف في أسماء الرجال (10) .
19. النكت على المهذب (11) .
20. وصل بلاغات الموطأ (12) .
21. وقف دار الحديث الأشرفية (13) .
المبحث الخامس : مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
__________
(1) منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم ( 219 م مجاميع ) . انظر : الفهرس الشامل 2/1052 .
(2) طبع بتحقيق الدكتور : موفق بن عبد الله بن عبد القادر .
(3) فُقِدَ ولم يبقَ سوى مختصره للنووي .
(4) وهو كتابنا هذا ، وسنفصل القول فيه فيما يأتي .
(5) طبع بتحقيق الطبيب : عبد المعطي أمين قلعجي ، وكان قد طبع من قبل في إدارة المطبعة المنيرية ضمن مجموعة الرسائل المنيرية .
(6) انظر : طبقات الشافعية الكبرى 8/327 ، والتقييد والإيضاح: 39 ، والنكت على كتاب ابن الصلاح 2/573 .
(7) توجد نسخته الخطية في مكتبة راغب باشا برقم ( 1470 مجاميع ) . انظر : الفهرس الشامل 3/1408.
(8) انظر : وفيات الأعيان 3 / 244 ، وسير أعلام النبلاء 23 / 142 .
(9) منه نسخة خطية فريدة في مكتبة جلبي عبد الله أفندي برقم (76) . انظر : الفهرس الشامل 3/1486 .
(10) توجد منه نسخة في المكتبة الظاهرية برقم (عام 6897).انظر: الفهرس الشامل 3/1540.
(11) انظر : طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 134 ، والأنس الجليل 2 / 101 .
(12) وهو مطبوع بعناية أبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري . وطبع مرة أخرى في آخر توجيه النظر مع تعليقات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة – يرحمه الله – .
(13) انظر : البداية والنهاية 13 / 168 .(1/20)
أطنب العلماء في الثناء عَلَى ابن الصلاح ثناءً منقطع النظير ، يدل على ما تمتع به هذا الرجل من مكانة في قلوب الناس ، وما تبوَّأه من المكانة المرموقة عندهم . ويتضح هذا جليّاً من أقوالهم التي نوردها ، ومنها :
1. قول أبي عمرو بن الحاجب : (( إمام ورع ، وافر العقل ، حسن السمت متبحر في الأصول والفروع ، بالغ في الطلب حَتَّى صار يضرب به المثل ، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة )) (1) .
2. وقول شمس الدين بن خلكان : (( كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال ، وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة ، وكانت له مشاركة في فنون عديدة ، وكانت فتاويه مسددة )) (2) .
3. وثناء صفي الدين المراغي بقوله : (( أحد الأئمة المشهورين ، والعلماء العاملين ، والحفاظ المذكورين ، جمع بَيْنَ علوم متعددة : علم الفقه وعلم أصوله وعلم الحديث وعلم العربية ، مع ما أوتي من التحري والإتقان ، مضافاً إلى سلوك طريقة السلف ، معظماً عند الخاص والعام )) (3) .
4. وأطنب الذهبي في مدحه فقال: (( الإمام الحافظ العلاّمة شيخ الإسلام ... كان ذا جلالة عجيبة ووقار وهيبة ، وفصاحة، وعلم نافع، وكان متين الديانة ، سلفي الجُمْلة، صحيح النحلة ، كافاً عن الخوض في مزلات الأقدام ، مؤمناً بالله وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته ، حسن البزة ، وافر الحرمة ، معظَّماً عند السلطان ... وكان مع تبحّره في الفقه مجوِّداً لما ينقله ، قوي المادة من اللغة والعربية ، متفنّناً في الحديث ، متصوناً مُكِباً على العلم ، عديم النظير في زمانه )) (4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 23 / 142 .
(2) وفيات الأعيان 3 / 243 .
(3) تاريخ علماء بغداد : 132 .
(4) سير أعلام النبلاء 23 / 140 - 142 .(1/21)
5. ونقل اليافعي عن بعضهم أنه قال فيه:((كان إماماً بارعاً حجة متبحراً في العلوم الدينية بصيراً بالمذهب وأصوله وفروعه ، له يد طولى في العربية والحديث والتفسير ، مع عبادة وتهجد وورع ونسك وتعبد ، وملازمة للخير على طريقة السلف في الاعتقاد ))(1).
6. وقال السبكي : (( الشَّيْخ العلاّمة تقي الدين أحد أئمة المسلمين علماً وديناً ... وتفقه عليه خلائق ، وكان إماماً كبيراً فقيهاً محدِّثاً زاهداً ورعا ، مفيداً معلماً استوطن دمشق يعيد زمان السالفين ورعا، ويزيد بهجتها بروضة علم جنى كل طالب جناها ورعا، ويفيد أهلها فما مِنْهُم إلاَّ من اغترف من بحره واعترف بدُرِّهِ وحفظ جانب مثله
ورعا )) (2) .
7. واختصر الإسنوي وصفه فقال : (( كان إماماً في الفقه والحديث ، عارفاً بالتفسير والأصول والنحو ، ورعاً زاهداً ، ملازماً لطريقة السلف الصالح )) (3) .
8. وقال ابن كثير : (( الإمام العلاّمة مفتي الشام ومحدّثها ... وكان ديّناً زاهداً ورعاً ناسكاً ، على طريقة السلف الصالح ، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدِّثين مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة ، ولم يزل على طريقة جيدة حَتَّى كانت وفاته )) (4) .
9. وقال ابن قاضي شهبة : (( الإمام العلاّمة مفتي الإسلام ... الإمام
البارع )) (5) .
10. وقال السيوطي : (( الإمام الحافظ شيخ الإسلام ... يضرب به المثل ، سلفياً زاهداً حسن الاعتقاد وافر الجلالة )) (6) .
الفصل الثالث : دراسة الكتاب
المبحث الأول : أهمية الكتاب
__________
(1) مرآة الجنان 4 / 85 .
(2) طبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 – 327 .
(3) طبقات الشافعية 2 / 133 .
(4) البداية والنهاية 13 / 142 .
(5) طبقات الشافعية 2 / 113 .
(6) طبقات الحفاظ : 503 .(1/22)
لَمْ تعد أهمية كتاب ابن الصلاح أمراً خافياً أو شيئاً غامضاً يحتاج إلى إيضاح وتفصيل ، ولنا أن نجزم بأن كتابه هو المحور الذي دارت في فلكه تصانيف كل مَنْ أتى بعده ، وأنه واسطةُ عقدِها ، ومصدر ما تفرع عنها . ولم يكن لمن بعده سوى إعادة الترتيب في بعض الأحيان ، أو التسهيل عن طريق الاختصار أو النظم ، أو إيضاح بعض مقاصده التي قد تخفى عَلَى بعض المطالعين عن طريق التنكيت .
وقد رزق الله تَعَالَى كتاب ابن الصلاح القبول بَيْنَ الناس ، حَتَّى صار مدرس مَنْ يروم الدخول في هذا الشأن ، ولا يتوصّل إليه إلاَّ عن طريقه ، فهو الفاتح لما أغلق من معانيه والشارح بما أجمل من مبانيه .
ولم تقتصر قيمة الكتاب العلمية عَلَى جانب تفرده في مصطلح الحديث وبيان
مبادئه ، وإنما عُدّت من بدايات الكتابات في علمٍ نعتقد أنه ظهر عند الغرب في وقت متأخر ، ألاَ وهو علم تحقيق النصوص وتوثيق المرويات ، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا : إنه لا يزال متفرداً بخصائصه التي تتصل بهذا الموضوع . وما دام تخصصه قد امتدَّ إلى هذا الباب فليس غريباً أن تكون له مباحثات فيما يتصل بعلم التاريخ .
ولعل المؤلف ابن الصلاح عنى ذلك بقوله : (( فحينَ كادَ الباحثُ عنْ مُشْكلِهِ لا يُلْفِي لهُ كاشفاً ، والسائلُ عنْ علمِهِ لا يَلْقى بهِ عارفاً ، مَنَّ اللهُ الكريمُ - تباركَ وتعالى - عليَّ – ولَهُ الحمدُ – أجمعُ بكتابٍ " معرفةَ أنواعِ علمِ الحديثِ " ، هذا الذي باحَ بأسرارهِ الخفيَّةِ ، وكشفَ عَنْ مشكلاتِهِ الأبيَّةِ ، وأحكمَ معاقدَهُ ، وقعَّدَ قواعدَهُ ، وأنارَ معالِمَهُ ، وبيَّنَ أحكامَهُ ، وفصَّلَ أقسامَهُ ، وأوضحَ أصولَهُ ، وشرحَ فروعَهُ وفصولَهُ ، وجمعَ شتاتَ علومِهِ وفوائدَهُ ، وقنصَ شواردَ نُكتِهِ وفرائدَهُ )) (1).
__________
(1) انظر : 74 من طبعتنا هذه .(1/23)
ومما يجلِّي الأمر أكثر ويجعلنا أمام صورة واضحة عن أهمية هذا التصنيف أن ننقل جملة من أقوال العلماء فيه :
1. فقد قال الإمام النووي (ت676هـ) : (( هو كتاب كثير الفوائد ، عظيم العوائد ، قد نبَّه المصنِّف –رَحِمَهُ اللهُ– في مواضع من الكتاب وغيره ، عَلَى عظم شأنه ، وزيادة حسنه وبيانه ، وكفى بالمشاهدة دليلاً قاطعاً ، وبرهاناً صادعاً )) (1).
2. وقال الخويي (2) ( ت 693 هـ ) في منظومته (3):
وخير ما صنف فيها واشتهر ... كتاب شيخنا الإمام المعتبر
وهو الذي بابن الصلاح يعرف ... فليس من مثله مصنف(4)
3. وقال ابن رشيد ( ت 721 هـ ) :
(( الذي وقفت عليه وتحصل عندي من تصانيف هذا الإمام الأوحد أبي عمرو ابن الصلاح – رحمه الله – كتابه البارع في معرفة أنواع علم الحديث وإنّه كلّما كتبت عليه متمثلاً :
لكل أناس جوهر متنافس ... وأنت طراز الآنسات الملائح )) (5)
4. وقال ابن جماعة ( ت733 هـ ) :
(( واقتفى آثارهم الشَّيْخ الإمام الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح بكتابه
الذي أوعى فيه الفوائد وجمع ، وأتقن في حسن تأليفه ما صنع )) (6).
5. قال ابن كثير ( ت 774 ه) :
(( ولما كان الكتاب الذي اعتنى بتهذيبه الشَّيْخ الإمام العلاَّمة أبو عمرو بن الصلاح – تغمَّده الله برحمته – من مشاهير المصنفات في ذلك بَيْنَ الطلبة لهذا الشأن وربَّما عني بحفظه بعض المهرة من الشبَّان ، سلكت وراءه واحتذيت حذاءه )) (7) .
6. وقال الزركشي ( ت 794 هـ ) :
((
__________
(1) إرشاد طلاب الحقائق 1/ 108 .
(2) نسبة إلى خوي ، بلدة من بلاد أذربيجان . انظر: الأنساب 2/479 ، والمراصد 1/493.
(3) انظر : مقدمتنا لشرح التبصرة والتذكرة 1 / 21 .
(4) نقلا عن مقدمة محاسن الاصطلاح : 33 .
(5) ملء العيبة 3 / 211 .
(6) المنهل الروي : 26 .
(7) اختصار علوم الحديث 1 / 95 – 96 .(1/24)
وجاء بعدهم الإمام أبو عَمْرو بن الصَّلاَح فجمع مفرّقهم ، وحقّق طرقهم ، وأجلب بكتابه بدائع العجب ، وأتى بالنكت والنخب ، حَتَّى استوجب أن يكتب بذوب الذهب ))(1).
7. وقال الأبناسي ( ت 802 هـ ) :
(( وأحسن تصنيف فِيْهِ وأبدع ، وأكثر فائدة وأنفع : " علوم الْحَدِيْث " للشيخ العلاّمة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح فإنّه فتح مغلق كنوزه ، وحلّ مشكل رموزه ))(2).
8. وقال ابن الملقن ( ت 804 هـ ) :
(( ومن أجمعها: كتاب العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح –سقى الله ثراه ، وجعل الجنة مأواه – فإنه جامع لعيونها ومستوعب لفنونها ))(3).
9. وقال العراقي ( ت 806 هـ ) :
(( أحسن ما صنف أهل الْحَدِيْث في مَعْرِفَة الاصطلاح كتاب " علوم الْحَدِيْث " لابن الصَّلاَح ، جمع فِيْهِ غرر الفوائد فأوعى ، ودعا لَهُ زمر الشوارد فأجابت
طوعاً ))(4).
10. وقال ابن حجر ( ت 852 هـ ) :
(( فجمع شتات مقاصدها ، وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائدها ، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره ، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره ، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر ، ومستدرك عليه ومقتصر ، ومعارض له ومنتصر )) (5).
11. وقال السيوطي ( ت 911 هـ ) :
(( عكف الناس عليه ، واتخذوه أصلاً يرجع إليه ))(6).
وبهذا نكاد أن ننقل إجماع الأئمة، منذ أن رأى كتاب "معرفة أنواع علم الحديث" النور إلى يوم الناس هذا ، دليلاً على مكانته ، وغزارة علمه وفوائده شاهداً على علوِّ كعبه ونصرة حزبه ، فرحم الله مؤلفه وجامعه ، وأسبل عليه نعمه وفضائله ، إنّه سميع مجيب .
المبحث الثاني : سمات منهج ابن الصلاح
__________
(1) النكت على مقدمة ابن الصلاح 1 / 9 - 10 .
(2) الشذا الفياح 1 / 63 .
(3) المقنع في علوم الحديث 1 / 39 .
(4) التقييد والإيضاح : 11 .
(5) نزهة النظر : 51 .
(6) البحر الذي زخر 1 / 235 .(1/25)
عَلَى الرغم من أن المؤلفين القدامى لا سيَّما المتأخرون الذين يصنفون لا عَلَى الأسانيد منهم لا يفصحون بمناهجهم التأليفية إلاَّ قليلاً ، لكن المتتبع لتصرفاتهم في تصانيفهم لا يعدم وصفاً تقريبياً لسمات مناهجهم التأليفية ، وابن الصلاح ليس استثناءً من هذه القاعدة التي أوشكت أن تكون عامة .
وقد استطعنا – بحمد الله – أن نحدد بعض الملامح لمنهج ابن الصلاح في تصنيفه هذا وسنعرضها مدعمة بالأمثلة :
1. إتيانه بالتعريفات للأنواع التي هو بصدد توضيحها ، واهتمامه بهذا الجانب جداً ، ولعل ذلك راجع إلى تأثره بالنَّزعة الأصولية التي تهتم بضبط التعاريف ، وأيّاً ما يكون الدافع فقد بدا هذا الأمر واضحاً جلياً في كتابته ، إلاَّ أن منهجه في هذا الجانب قد تنوع عَلَى النحو الآتي :
أ. ابتكاره تعاريف لَمْ يسبق إليها ، كما في تعريف الحسن (1) ، والمعلَّل (2) ، والمضطرب (3) ، والمخضرم (4) ، وغيرها .
ب.كان حريصاً عَلَى بيان ماهية المعرَّف ، وكان يلجأ في بعض الأحيان إلى التمثيل من غير ذكر للحدِّ ، كما في المقلوب إذ عرَّف به بقوله : (( هو نحو حَدِيْث مشهور عن سالم جعل عن نافع ليصير بذلك غريباً مرغوباً به )) (5) .
فتعقّبه الزركشي فقال : (( وهذا التعريف غير وافٍ بحقيقة المقلوب ، وإنما هو تفسير لنوع منه )) (6)، وبنحوه قال ابن حجر (7) . وكما في النوع الخامس عشر : معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد (8) .
__________
(1) انظر : معرفة أنواع علم الحديث : 99 .
(2) المصدر نفسه : 186 .
(3) المصدر نفسه : 192 .
(4) المصدر نفسه : 407 .
(5) المصدر نفسه : 208 .
(6) نكت الزركشي 2 / 299 .
(7) النكت عَلَى كتاب ابن الصلاح 2 / 864 .
(8) انظر : معرفة أنواع علم الحديث : 173 .(1/26)
ج. إذا كان للنوع أقسام فإنه يذكرها معرفاً بها ، كما في النوع الرابع والعشرين : معرفة كيفية سماع الحديث وتحمله وصفة ضبطه (1) .
فإنه مشتمل عَلَى فروع ثمانية هي أنواع التحمل والأداء ، فعرَّف بكل منها (2). وإذا كان الفرع يضم أقساماً فإنه يعرف بها أيضاً كما في الإجازة (3).
د. وربما كان للمعرَّف أكثر من تعريف ، فكان المؤلِّف يوردها جميعاً ولكنه في أكثر أحيانه لا يبقي الأمر هملاً ، ولكنه يرجح شيئاً يستعين به الباحث ، كما في تعريف الحسن (4) ، والمسند (5) ، والمنقطع (6) ، والشاذ (7) ، وغيرها .
ه. في بعض الأحيان – وإمعاناً منه في إيضاح ماهية المعرَّف – يبين محترزات التعريف ، حَتَّى يسلم من الاعتراضات ، كما في تعريف الصحيح (8) ، والمرفوع (9) ، وغيرهما .
2. استحداثه – في بعض الأنواع – لأقسام غير مسبوق بها ، تسهيلاً لتلك المباحث وإعانة للقارئ عَلَى فهمها جيداً ، كما في تقسيمات الصحيح (10) ، وتقسيم
الحسن (11) ، والشاذ (12) ، والمنكر (13) ، والأسماء والكنى (14) ، وغيرها .
__________
(1) انظر : المصدر السابق : 247 وما بعدها .
(2) المصدر نفسه : 247 ، 251 ، 265 ... الخ .
(3) انظر : المصدر نفسه : 265 ، 267 ، 268 ، 271 ... الخ .
(4) انظر : معرفة أنواع علم الحديث : 100 .
(5) المصدر نفسه : 114 .
(6) المصدر نفسه : 132 .
(7) المصدر نفسه : 164 .
(8) المصدر نفسه : 79 .
(9) المصدر نفسه : 116 .
(10) المصدر نفسه : 96 – 97 .
(11) المصدر نفسه : 100 .
(12) المصدر نفسه : 168 .
(13) المصدر نفسه : 170 - 172 .
(14) المصدر نفسه : 435 وما بعدها .(1/27)
3. كان أبو عمرو ذا عقلية متفتحة ونظر سليم ، قادراً عَلَى التمحيص وتمييز ما في أقوال من سبقه من خطأ، والتعرف على مواطن الخلل لذا كان موقفه متبايناً منها ، فتارة يتولاها بالنقد ، وتارة يستدرك أموراً ، وتارة يوضح المقصد من الكلام ، وعلى كلٍّ فقد برزت الصور الآتية في منهجه التأليفي في إطار هذه النقطة :
أ. كان يتعقب عَلَى بعض اختيارت العلماء ، مثل تعقبه عَلَى اختيار بعض المغاربة تفضيل صحيح مُسْلِم عَلَى البُخَارِيّ ، بسبب أنَّهُ ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح سرداً .
فقال : (( وليس يلزم منه أن كتاب مُسْلِم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح عَلَى كتاب البُخَارِيّ ، وإن كان المراد به أن كتاب مُسْلِم أصح صحيحاً ، فهذا مردود عَلَى من يقوله )) (1).
وكتعقبه عَلَى تعاريف الحسن بقوله : (( كل هذا مستبهم لايشفي الغليل )) (2) وتعقب أيضاً من اختار من أهل المغرب والقاضي الرامهرمزي من أهل الشرق في اللحق أن يكتب في نهايته الكلمة المتصلة به في موضع التخريج لتدل عَلَى اتصال الكلام ، فقال : (( وليس ذَلِكَ بمرضي، إذ رب كلمة تجيء في الكلام مكررة حقيقة، ... الخ كلامه )) (3).
__________
(1) معرفة أنواع علم الحديث : 85 .
(2) المصدر السابق : 100 .
(3) المصدر نفسه : 304 .(1/28)
ب. لقد مثّل ابن الصلاح الذروة في فهم مضامين كلام العلماء الذين سبقوه ، ونجد ذَلِكَ واضحاً في توجيهه لقول الحافظ أبي علي النيسابوري : (( ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مُسْلِم بن الحجاج )) . قائلاً : (( فهذا وقول من فضَّلَ من شيوخ المغرب كتاب مُسْلِم عَلَى كتاب البُخَارِيّ إن كان المراد به أن كتاب مُسْلِم يترجح بأنه لَمْ يمازجه غير الصحيح ، فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسروداً غير ممزوج بمثل ما في كتاب البُخَارِيّ في تراجم أبوابه من الأشياء التي لَمْ يسندها على الوصف المشروط في الصحيح ، فهذا لا بأس به )) (1) .
وتوجيهه لقول مُسْلِم : (( ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه .
قائلاً : أراد – والله أعلم – أنه لَمْ يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه ، وإن لَمْ يظهر اجتماعها في بعضها عِنْدَ بعضهم )) (2).
وَوَجَّه قول البخاري : (( أحفظ مئة ألف حديث صحيح ، ومئتي ألف حديث غير صحيح )) .
بأن (( هذه العبارة قد يندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين ، وربما عُدَّ الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين )) (3) .
ج. ومن أجل تكامل البحث العلمي والاستفادة من جهود السابقين ، لَمْ يهمل أبو عمرو أقوال من سبقه إهمالاً كلياً ، وإنما كان يوردها ثُمَّ يزيد عليها ما يراه مكملاً لما يرمي إلى إيضاحه فكراً أو تطبيقاً ، كما توضحه الأمثلة الآتية :
بعد أن بيَّن حكم الأحاديث التي يوردها الحاكم في المستدرك بأنها إن لَمْ تكن صحيحة فهي حسنة ، إلاَّ أن تظهر فيها علة توجب ضعفها !!! قال : (( ويقاربه في حكمه " صحيح أبي حاتم بن حبان البستي " )) (4) .
__________
(1) المصدر نفسه : 85 .
(2) معرفة أنواع علم الحديث : 85 – 86 .
(3) المصدر نفسه : 87 .
(4) المصدر نفسه : 90 .(1/29)
وبعد أن نقل عن الخطيب جواز كتابة طباق التسميع في بداية الكتاب أو في
حاشية الصفحة الأولى قال : (( ولا بأس بكتبته آخر الكتاب وفي ظهره وحيث لا يخفى موضعه )) (1) .
4. هناك صفة تميز كتابات ابن الصلاح، وهي بحد ذاتها دالة عَلَى سعة أفقه ووفور درايته، وهي تعكس من وجه آخر حجم الثروة العلمية التي وفّرها لنفسه كمخزون ثقافي ، ألاَّ وهي إكثاره من نقل مذاهب العلماء في كافة المسائل التي يتعرض لبحثها ، وهذا أمر نراه واضحاً ملموساً مبثوثاً في أثناء هذا الكتاب .
5. لَمْ يكن ابن الصلاح قاصراً عن الإدلاء بدلوه في القضايا التي ينقدها ، سواء أكانت تلك المسائل خلافية أم وفاقية ، فقد كان يطالعنا باختيارات وآراء جديدة بين الفينة والأخرى ، وهي كثيرة جداً نكتفي منها بالأمثلة الآتية :
في معرض تحدّثه عن المعلق ووقوعه في الصحيحين ، قال مبيناً حكمه :
(( وينبغي أن نقول : ما كان من ذلك ونحوه بلفظ فيه جزم وحكم به على من علَّقه عنه ، فقد حكم بصحته عنه )) (2) .
وتقريراً لكلام أبي داود في رسالته بشأن السنن، والأحاديث التي سكت عنها فيها ، قال : (( فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين ، ولا نصَّ عَلَى صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن ، عرفناه بأنه من الحسن عِنْدَ أبي داود )) (3) .
6. جمع ابن الصلاح شتات علوم متفرقة ، وقد وظَّف تقي الدين هذا الجانب من معرفته في أبحاثه هذه ، وذلك من خلال ربطه بَيْنَ القضايا الفقهية ومباحث علوم الحديث ، مثل ربطه بين حجية الحديث المرسل عِنْدَ المحدّثين وحجيته عِنْدَ الفقهاء وبيان الفرق بين رواية المستور ، وبين شهادة المستور (4) .
__________
(1) المصدر نفسه : 313 .
(2) معرفة أنواع علم الحديث : 93 .
(3) المصدر السابق : 106 .
(4) المصدر نفسه : 103 .(1/30)
وفي تعريف الموقوف قال : (( وموجود في اصطلاح الفقهاء الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر ... )) (1) .
7. لما كان ابن الصلاح في إطار تقعيد القواعد في طريقه لتقنينها كقوانين تحكم هذا
العلم ، كان من كمال علمه وتكميله لتلك الأساسيات يورد ما يتوقع أن يعترض به عليه ، ثُمَّ يتولى جوابه بما يسلم معه من النقد .
مثل قوله في بحثه لتقوي الضعيف بكثرة الطرق :
(( لعل الباحث الفهم يقول : إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة ، مثل حديث : (( الأذنان من الرأس )) ، ونحوه ، فهلاَّ جعلتم ذَلِكَ وأمثاله من نوع الحسن ؛ لأن بعض ذَلِكَ عضَّد بعضاً ، كما قلتم في نوع الحسن عَلَى ما سَبَقَ آنفاً ؟؟
وجواب ذَلِكَ أنَّهُ ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه ، ... الخ كلامه )) (2) .
وكما في جوابه عن الإشكال المتوقع من جمع الترمذي بَيْنَ الحسن والصحة في وصف حديث واحد ؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح ، فكيف يستقيم الجمع بَيْنَ نفي القصور وإثباته ؟؟
فقال : (( وجوابه : أن ذَلِكَ راجع إلى الإسناد ... الخ )) (3) .
8. بيانه مراتب بعض الكُتُب المصنفة ، إرشاداً للطالب في كيفية الاعتماد عليها ونمثل لذلك بما يأتي :
فبعد أن بيَّن حكم مستدرك الحاكم والأحاديث الواردة فيه، بيَّن حكم صحيح ابن حبان قائلاً : (( ويقاربه في حكمه صحيح أبي حاتم بن حبان البستي )) (4) .
__________
(1) المصدر نفسه : 118 .
(2) معرفة أنواع علم الحديث : 103 – 104 .
(3) المصدر السابق : 110 .
(4) المصدر نفسه : 90 .(1/31)
ونراه قد سرد عدداً لا بأس به من المسانيد ، مُصدِّراً ذلك بقوله : (( كتب المساند غير ملتحقة بالكتب الخمسة )) (1) ، وعلَّل هذا الحكم بأنهم : (( يخرِّجُوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثاً محتجّاً به ، فلهذا تأخَّرت مرتبتها – وإن جلَّت لجلالة مؤلفيها – عن مرتبة الكتب الخمسة وما التحق بها من الكتب المصنَّفة على الأبواب )) (2) .
9. عدم إهماله لبعض الإشارات التي تتصل بمسائل لغوية وهي ذات دلالة أوَّلاً وآخِراً على عمق ثروته اللغوية، مثل تعقبه عَلَى المحدِّثين في استخدامهم مصطلح (( معضل )) ، فَقَالَ : (( وأصحاب الحديث يقولون : أعضَله فهو معضل – بفتح الضاد – وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة ، وبحثت فوجدت له قولهم: (( أمر عضيل )) ، أي: مستغلق شديد ، ولا التفات في ذلك إلى مُعْضِل – بكسر الضاد – وإن كان مثل عضيل في المعنى )) (3) .
ومثل بيانه لمعنى الإجازة في اللغة نقلاً عن ابن فارس قائلاً : (( معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية والحرث ، يقال منه : استجزت فلاناً فأجازني إذا أسقاك ماءً ... الخ كلامه )) (4) .
وبيانه لمعنى الوجادة في اللغة بقوله : ((هي مصدر لـ: (( وَجَدَ يَجِدُ )) مولد غير مسموع من العرب ... )) (5) .
10. كان دأب ابن الصلاح الإرشاد والتنبيه على أهمية الأنواع التي يبحثها استكمالاً لجوانب البحث العلمي الذي كان حريصاً على إظهاره بالشكل الأتم ، ومما يدلل على هذا أن نسوق أمثلة لها .
فابن الصلاح وهو بصدد بحثه لمعرفة زيادات الثقات يقول عنه منبهاً عَلَى أهميته :
(( وذلك فن لطيف تستحسن العناية به )) (6) .
__________
(1) المصدر نفسه : 108 .
(2) معرفة أنواع علم الحديث : 109 .
(3) المصدر السابق : 136 .
(4) المصدر نفسه : 276 .
(5) المصدر نفسه : 288 .
(6) المصدر نفسه : 176 .(1/32)
وقال في نوع المعلل مرشداً إلى عظيم خطره : (( اعلم أن معرفة علل الحديث من أجلِّ علوم الحديث وأدقِّها وأشرفها ، وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب )) (1) .
وقال في معرفة غريب الحديث : (( هذا فنٌّ مهمٌّ يقبح جهله بأهل الحديث
خاصة )) (2) .
11. تنبيهه على استعمالات المحدِّثين أو الحكمة في صنيعهم أو إيضاح اصطلاحاتهم مثل : توضيحه لما اصطلح عليه البغوي في كتابه " مصابيح السنة " (3) ، وكما في توضيحه لسبب جعل علامة التضبيب كأنها صاد (4) وعلة استعمال المحدِّثين لعلامة التحويل في الإسناد ( ح ) مهملة (5).
12. عَلَى الرغم من أن ابن الصلاح كان من منهجه الاختصار كلما وجد إلى ذلك
سبيلاً ؛ إلاَّ أنَّهُ لَمْ يغفل أن يسوق بَيْنَ تارة وأخرى إسناداً له ، ينقل به حديثاً أو طُرفةً أو قولاً أو شعراً ، يؤنس به المطالعين ، ويذكّر به سنة السالفين (6) .
13. قد كان أبو عمرو طيلة صفحات الكتاب ذا شخصية بارزة واضحة متميزة وذلك من خلال إبداء آرائه الجديدة ، وقدرته على المناقشة والتصويب وترجيح ما يراه راجحاً من الآراء (7) .
14. كان من منهج ابن الصلاح أن يعزز ما يختاره من المذاهب التي يذكرها في المسائل الخلافية بأقوال العلماء ، ونجد ذلك واضحاً في طيات كتابه ، ولا ضير في التمثيل لبعضها .
__________
(1) معرفة أنواع علم الحديث : 187 .
(2) المصدر السابق : 375 .
(3) المصدر نفسه : 107 .
(4) المصدر نفسه : 306 .
(5) المصدر نفسه : 313 .
(6) انظر : المصدر نفسه : 313 و 339 و 347 و 358 ، وغيرها .
(7) انظر : المصدر نفسه : 88 و 96 و 121 و 313 و 318 و 319 و 323 و 326 و 329 مثلاً .(1/33)
ففي معرض تقريره لجواز أن يثبت الراوي سماعه للكتاب بخطه من غير حاجة إلى أن يكتبه الشَّيْخ الْمُسْمِع ، في حالة كون الراوي موثوقاً به ، أورد أن عبد الرحمان بن منده سأل أبا أحمد الفرضي أن يكتب له سماعه في جزء سمعه منه ، فقال أبو أَحْمَد :
(( يا بني ! عليك بالصدق ، فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد ... الخ )) (1).
وقرر أن الإبطاء بإعادة الكتب التي فيها سماعات لأصحابها أمر قبيح ، وأورد قول الزهري : (( إيَّاك وغلول الكتب . قيل : وما غلول الكتب ؟ قَالَ : حبسها عَلَى
أصحابها )) (2) .
15. تنبيهه عَلَى من صنَّف في الأنواع التي يبحثها (3) .
16. بروز الجانب التطبيقي عنده ، وذلك من خلال ما يعرضه من الأمثلة التي ملأت صفحات كتابه .
17. كل مَنْ يقرأ كتاب ابن الصلاح لا يملك إلا أن يعترف بأدبه الجمِّ الذي زخرت به كتاباته ، تعبيراً عمَّا يكنه في نفسه من تقوى وورع ، واعتراف بفضل السابقين ، فلا تجده يذكر سم الله تعالى من غير ثناء ، ولا يكاد يذكر اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مقروناً بالصلاة عليه ، وكذلك الصحابة والتابعون والعلماء ممن بعدهم لا يذكرهم إلا مترضِّياً عليهم أو مترحِّماً .
ومما يعدُّ من خصائصه الأسلوبية، أنه لا يكاد ينهي فقرة إلاَّ ويقول في ختامها :
(( والله أعلم )) ، تواضعاً منه واعترافاً بضمون قوله جلَّ ذكره : { وَمَا أُوتِيْتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيْلاً } . الإسراء : 85 .
المبحث الثالث : مصادره وموارده
تعددت مصادر ابن الصلاح تبعاً لتعدد جوانب ثقافته المتنوعة التي تتطلبها طبيعة الكتابة في ميدان يشابه الميدان الذي خاض غماره وسبر أغواره ابن الصلاح ، فجاءت ثمرته ناضجة آتت أكلها والحمد لله .
__________
(1) معرفة أنواع علم الحديث : 314 .
(2) المصدر السابق : 314 .
(3) انظر : المصدر نفسه : 383 و 415 و 430 و 445 و 463 و 470 مثلاً .(1/34)
ومن خلال نظرة فاحصة نلقيها عَلَى هذا التصنيف ، يمكننا أن نميّز نوعين من تِلْكَ المصادر :
الأول : المصادر الشفوية .
الثاني : المصادر الكتابية .
وسنعرض لكل منهما في مطلب مستقل :
المطلب الأول : المصادر الشفوية
مرَّ بنا فيما مضى أن ابن الصلاح جال بلاداً كثيرة ، وطلب عَلَى أيادي علماء عصره ، فجمع علوماً وظَّفها لخدمة منهجه التأليفي ، وهي تلك المعلومات التي استمدها شفاهاً من شيوخه ، ويمكننا جعلها عَلَى قسمين :
الأول : ما أبهم فيه مصدره فلم يصرح بطريق نقله ، مثل :
قوله : وأنبأني من سأل الحازمي أبا بكر عن الإجازة العامة ... )) (1) .
وقوله: (( وأخبرني من أُخبر عن القاضي عياض بن موسى من فضلاء وقته ... ))(2). ونحو ذلك قوله : (( وأخبرني بعض أشياخنا عمن أخبره عن القاضي ... ))(3).
الثاني : ما صرح فيه بذكر شيخه وسلسلة إسناده ، مثل :
قوله : (( كمثل ما حدثنيه الشَّيْخ أبو الْمُظَفَّر ، عن أبيه الحافظ أبي سعد
السمعاني ... )) (4) .
وكمثل قوله : (( حدثني بمرو الشَّيْخ أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد المروزي ، عن أبيه ... )) (5) .
وكقوله : (( أخبرنا أبو بكر بن أبي المعالي الفراوي قراءة عليه ، قال : أخبرنا الإمام جدي ... )) (6) . وغيرها كثير .
المطلب الثاني : المصادر الكتابية
اعتمد أبو عمرو على مصادر كتابية كثيرة في مختلف المواضيع كالحديث دراية ورواية والتفسير وعلوم القرآن والتاريخ وكتب الرجال والأدب والنحو واللغة وغريب الحديث وغيرها مما هو موضح في الفهرس الذي خصصناه بها فلا حاجة إلى التطويل بذكرها هنا .
ولكن نود هنا أن ننبه على أن أكثر تعويل ابن الصلاح كان على عالمين اثنين هما :
__________
(1) معرفة أنواع علم الحديث : 269 .
(2) المصدر السابق : 274 .
(3) المصدر نفسه : 328 .
(4) معرفة أنواع علم الحديث : 238 .
(5) المصدر السابق : 314 .
(6) المصدر نفسه : 325 – 326 .(1/35)
الأول : الحاكم أبو عبد الله النيسابوري الحافظ ، وذلك من خلال كتابه " معرفة علوم الحديث " ، حيث ضمَّن كثيراً من أفكاره في كتابه ، فضلاً عن كثير من النصوص التي نقلها منه .
الثاني : الخطيب البغدادي الحافظ ، إذ كان تعويله في أكثر مباحث كتابه على كتاب الخطيب " الكفاية " ، ويجد القارئ مصداق ذلك في عشرات النقول التي خرجناها من الكفاية ، بله لا تخلو صفحة – لا سيما مباحث ما قبل نصف الكتاب – عن ذَكَرَ الكفاية .
وكذلك عوَّل على بقية كتبه كالجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1)، وتلخيص المتشابه (2)، وتالي تلخيص المتشابه (3)، ورافع الارتياب ، وغيرها .
المبحث الرابع : جهود العلماء في خدمة كتاب ابن الصلاح
لعلّ كتاباً في مصطلح الحديث لم يخدم كما خدم كتاب ابن الصلاح إذ كان هو المحرك الفعلي الذي تولدت عنه عشرات بل مئات المؤلفات التي أغنت المكتبة الإسلامية ، وساهمت بمجموعها في إكمال حلقات هذا العلم المبارك .
وقد اختلفت اتجاهات المؤلفين في طبيعة بحوثهم لتطوير وتعزيز القيمة العلمية لهذا الكتاب فمنهم الناظم ، ومنهم الشارح ، ومنهم المختصر ، ومنهم المنكِّت توضيحاً أو استدراكاً فلهذا ارتأينا - خدمة لتقسيمات البحث العلمي المنظم - أن نوزعها على النحو الآتي ، وبالله التوفيق .
أ. المختصرات :
لعلّ هذا الطابع من التصنيف الذي كان كتاب ابن الصلاح المحفِّز لها هو الأكثر ، نظراً إلى أن من ألّف في هذا اللون يبغي تقليص حجم الكتاب الأصلي ؛ وذلك باختزال الألفاظ وتكثيف الفكر والمعاني ، وحذف الأمثلة التي لا حاجة لها والابتعاد عن المناقشات غير الضرورية ، وزيادة الفوائد والآراء ، مع مخالفة ترتيب الأصل أحياناً ، تسهيلاً لطلبة العلم وغيرهم .
ومن أبرز تلك المختصرات :
__________
(1) طبع ثلاث طبعات بتحقيقات مختلفة .
(2) طبع بتحقيق الأستاذة سكينة الشهابي .
(3) طبع بتحقيق مشهور حسن سلمان وأحمد الشقيرات .(1/36)
1. إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خير الخلائق ، للإمام النووي (ت 676 ه) (1) .
2. التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير ، للإمام النووي أيضاً (2) وهو اختصار لكتابه السابق .
3. المنهج المبهج عند الاستماع ، لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع ، لقطب الدين القسطلاني ( ت 686 هـ ) (3) .
4. أصول علم الحديث ، لعلي بن أبي الحزم القرشي الطبيب المشهور بابن النفيس ( ت 689 هـ ) (4) .
5. الاقتراح ، للإمام ابن دقيق العيد (ت 702 هـ ) (5).
6. الملخص ، لرضي الدين الطبري ( ت 722 هـ ) (6).
7. رسوم التحديث ، للجعبري ( ت 732هـ ) (7).
8. المنهل الروي ، لبدر الدين بن جماعة ( ت 733 هـ ) (8).
9. مشكاة الأنوار ، للبارزي ( ت 738 هـ) (9).
10. الخلاصة في علوم الحديث ، للطيبي ( ت 743 هـ ) (10).
__________
(1) طبع بتحقيق عبد الباري فتح الله السلفي عن مكتبة الإيمان سنة ( 1408 هـ– 1987 م ) .
(2) طبع مستقلاً ومع شرح السيوطي ، ونحن بسبيل طبعه محققاً على نسختين خطيتين .
(3) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1/236 ، وانظر : قواعد التحديث : 41 وقد شرحه عبد الهادي الأبياري (ت 1305 ه) منه نسخة في المكتبة السليمانية بتركيا برقم (167).
(4) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1 / 237 ، ولا نعلم عنه شيئاً .
(5) طبع بتحقيق د. قحطان عبد الرحمان الدوري في بغداد سنة (1402 هـ – 1982م) .
(6) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1 / 236 ومنه نسخة خطية بإسبانيا في مكتبة الأسكوريال برقم (ثان 1615 / 1 ) .
(7) منه نسخة خطية في المكتبة الأحمدية بحلب ، برقم (1428 ) .
(8) طبع بتحقيق د. محيي الدين عبد الرحمان رمضان سنة 1395 هـ – 1975 م .
(9) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1/237 – 238 ولا نعلم عنه شيئاً .
(10) طبع بتحقيق السيد صبحي السامرائي سنة 1391 هـ – 1971 .(1/37)
11. الكافي ، لتاج الدين التبريزي ( ت 746 هـ ) (1).
12. الموقظة ، للإمام الذهبي ( ت 748 هـ ) (2).
13. المختصر ، لعلاء الدين المارديني المشهور بابن التركماني (ت750 ه) (3).
14. مختصر ، لشهاب الدين الأندرشي الأندلسي ( ت 750 هـ) (4).
15. مختصر ، للحافظ العلائي ( ت 761 هـ) (5) .
16. الإقناع ، لعز الدين بن جماعة ( ت 767 هـ) (6) .
17. اختصار علوم الحديث ، للحافظ ابن كثير (ت 774 هـ) (7) .
18. التذكرة في علوم الحديث ، لسراج الدين ابن الملقن (ت 804 هـ)(8).
19. المقنع في علوم الحديث ، لسراج الدين ابن الملقن أيضاً (9) .
20. نخبة الفكر ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ) (10) .
21. المختصر ، للكافيجي ( ت 879 هـ) (11) .
22. مختصر بهاء الدين الأندلسي ( ... ؟ ) (12) .
__________
(1) منه نسخة خطية بإستانبول .
(2) طبع بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة سنة 1405 هـ/ 1985 م وهو في الحقيقة اختصار لكتاب ابن دقيق العيد " الاقتراح " ، وفي خزانتنا نسخة خطية متقنة منه .
(3) منه نسختان خطيتان : الأولى بالمكتبة الأحمدية بحلب برقم (283) والثانية في مكتبة لاله لي
برقم (390 / 15 ) .
(4) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 2 / 1162 .
(5) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1/238 – 239 .
(6) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1 / 239 – 240 .
(7) طبع مع شرح العلاَّمة أحمد محمد شاكر -رحمه الله- المسمى " الباعث الحثيث ".
(8) طبع بتحقيق علي حسن علي عبد الحميد الحلبي في دار عمار - الأردن .
(9) طبع بتحقيق عبد الله يوسف الجديع سنة 1413 هـ – 1992 م .
(10) طبعت عدة مرات .
(11) طبع بتحقيق د. علي زوين سنة 1407 هـ – 1987 م .
(12) مجهول الوفاة ، وراجع مقدمة التدريب : 7 .(1/38)
ب. المنظومات :
ظهر منذ عهد مبكر نسبياً ، تيّار في الشعر العربي ، انتقل إلى علماء الفنون المختلفة يسمى : الشعر التعليمي ، خصّص نطاق عمله في نظم الكتب المهمة في مجالات العلم تسهيلاً لطالبي العلوم في حفظها ، ومن ثَمَّ الغوص في معانيها . وعلى أي حال فقد كان نصيب كتاب " علوم الحديث " لابن الصلاح عدداً من المنظومات التي لا يستهان بها ، وسواء أكانت تلك المنظومات ذات جدة وحداثة أم لا ؟ فإنّها مثّلت جانباً من جوانب اهتمام العلماء واعتنائهم بهذا السفر العظيم . والذي يهمنا هنا أن نسلِّط الضوء عليها كوصلاتٍ في تاريخ هذا العلم المبارك ، وليس من شرطنا أن تكون هذه المنظومة قد احتوت كل المادة العلمية لكتاب ابن الصلاح ، بل يكفي أن يكون هذا الكتاب هو المرجع الأول بالنسبة لها ، وعلى هذا نجد أن بعض هذه المنظومات مطوّلة ، وبعضها مختصرة ، وبعضها متوسطة ، ولعلّ من أبرز من نظمه :
1. شمس الدين الخُوَيي ( ت 693 هـ ) ، وسمّى منظومته باسم " أقصى الأمل والسول في علوم حديث الرسول "، توجد منه عدة نسخ خطية(1).
2. أبو عثمان سعد بن أحمد بن ليون التجيبي ( ت 750 هـ )(2).
3. زين الدين العراقي ( ت 806 هـ ) المسمّى : التبصرة والتذكرة(3).
4. مُحَمَّد بن عبد الرحمان بن عبد الخالق المصري البرشنسي (ت 808 هـ) وسمّى منظومته : " المورد الأصفى في علم حديث المصطفى "(4).
5. شمس الدين محمد بن محمد بن محمد الدمشقي المعروف بابن الجزري
(
__________
(1) راجع كارل بروكلمان : تاريخ الأدب العربي 6 / 208 .
(2) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1 / 240 .
(3) طبعت بتحقيقنا .
(4) ذكره السيوطي في البحر الذي زخر 1/241 وقد شرحها الناظم نفسه انظر : شذرات الذهب 7/79 ، ومعجم المؤلفين 10 /142.(1/1)
ت 833 هـ) وسمّى منظومته " الهداية في علم الرواية " (1).
6. جلال الدين عبد الرحمان بن أبي بكر السيوطي ( ت 911 هـ) ومنظومته مشهورة باسم " الألفية " (2).
7. رضي الدين محمد بن محمد الغزي ( ت 935 هـ ) ، وسمّى نظمه " سلك الدرر في مصطلح أهل الأثر " (3).
8. منصور سبط الناصر الطبلاوي ( ت 1014 هـ ) (4).
ج. الشروح :
قد كان للجانب الشمولي في كتاب ابن الصلاح أثره الواضح في أن أحداً لم يتصدَّ لشرح الكتاب نفسه ، وإنما انعكس هذا الجانب على شرح مختصراته ومنظوماته ، لذا سنتناول أبرزها على اعتبار أن أصلها الأصيل هو كتاب ابن الصلاح ، ومن ذلك :
1. شروح ألفية العراقي .
2. نزهة النظر ، للحافظ ابن حجر ( ت 852 هـ) وما يتعلق بها (5) .
3. تدريب الراوي للسيوطي ( ت 911 هـ ) (6).
4. البحر الذي زخر ، للسيوطي ( ت 911 هـ) شرح فيه ألفيته (7).
د. التنكيت :
النُّكَت : جمع نُكْتَةٍ ، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي الصحيح ( نَكَتَ ) ، وهو ذو اشتقاقات مختلفة ، أجملها ابن فارس فَقَالَ : (( النون والكاف والتاء أصل واحد يدلّ على تأثير يسير في الشيء كالنكتة ونحوها،ونكت في الأرض بقضيبه ينكت : إذا أثّر
فيها )) (8).
__________
(1) لها عدة نسخ خطية انظر: الفهرس الشامل للتراث الإسلامي 3/1725 وقد شرحها غير واحد ، وفي خزانتنا نسخة خطية من الهداية .
(2) طبعت مجودة الشكل مع شرح العلامة أحمد محمد شاكر ، ومع شرح محمد محيي الدين عبد الحميد ، ومع شرح السيوطي نفسه .
(3) انظر : تاريخ الأدب العربي 6 / 208 .
(4) المصدر السابق 6 / 210 .
(5) طبعت عدة مرات ، وانظر : مقدمة علي الحلبي في تحقيقه لنزهة النظر : 5 – 26 .
(6) طبع بتحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف أكثر من مرة ، وقد ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون 1/465 شروحاً أخرى للتقريب .
(7) طبع بتحقيق أنيس أحمد طاهر سنة 1420 هـ – 1999 م .
(8) مقاييس اللغة 5/475 .(1/2)
أما في الاصطلاح فالنكتة : مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر ، من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها ، وسميت المسألة الدقيقة نكتةً ؛ لتأثير الخواطر في
استنباطها (1).
وقد كان نصيب كتاب ابن الصلاح من كتب النكت شيئاً دلّ على مدى تعمّق الدارسين في فهم معانيه ومدلولاته ، حسب اللون العلمي الذي يغلب على ذلك المنكِّت ، فنرى الأصولي يُغَلِّب المباحث الأصولية في طريق تقرير مسائل الكتاب المهمة ، وهذا ما نلمسه جلياً في نكت الزركشي ، والْمُحَدِّث يجعل همّه المباحثات الحديثية ، وهو منهج واضح نراه في نكت العراقي وشيخه مغلطاي ، وهكذا بالنسبة إلى الفقيه كما وقع للبلقيني وابن جماعة وغيرهم .
وعلّ الفطن من القرّاء عرف من العرض السابق أسماء بعض من كتب نكتاً على كتاب ابن الصلاح ، ولكننا نودّ أن نجعل الأمر استقصائياً استقرائياً ، فجمعنا مَن وقع في علمنا أنه ساهم في هذا الجانب ، سواء عن طريق الكتابة والبحث المباشر على كتاب ابن الصلاح أو العمل غير المباشر عن طريق التعليق على فروع كتاب ابن الصلاح ، وأهم هذه الكتب :
1. إصلاح كتاب ابن الصلاح ، لشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن الأسعردي الدمشقي ثُمَّ المصري المشهور بابن اللبان ( ت 749 هـ ) (2).
2. إصلاح كتاب ابن الصلاح ، للإمام العلاّمة علاء الدين أبي عبد الله مغلطاي بن قليج بن عبد الله البكجري الحنفي ( ت 762 هـ) (3).
3. النكت عَلَى مقدمة ابن الصَّلاَح ، للإمام بدر الدين أبي عَبْد الله مُحَمَّد بن
عبد الله بن بهادر الزركشي ( ت 794 هـ ) (4).
__________
(1) التعريفات للجرجاني : 134 ، وانظر : تاج العروس 5 / 128 ( نكت ) .
(2) نكت الزركشي 1/10 ، وطبقات ابن قاضي شهبة 3/69 ، والبحر الذي زخر 1/241 .
(3) انظر: نكت الزركشي 1/10، ومنه نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم (1/232).
(4) طبع بتحقيق د. زين العابدين بن محمد بلا فريح سنة 1419 هـ- 1998 م .(1/3)
4. الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح ، للشيخ برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أيوب الأبناسي ( ت 802 هـ ) (1) .
5. محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح ، لسراج الدين أبي حفص عمر ابن رسلان البلقيني ( ت 805 هـ ) (2).
6. التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح ، للحافظ
زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي ( ت 806 هـ ) (3).
7. شرح علوم الحديث ، لعز الدين مُحَمَّد ابن أبي بكر بن عبد العزيز بن جماعة الحموي ( ت 819 هـ ) (4).
8. النكت عَلَى كتاب ابن الصلاح ، للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن مُحَمَّد ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ ) (5).
الفصل الرابع : تحقيق الكتاب ومنهجنا فيه
المبحث الأول : اسم الكتاب
__________
(1) وإنما عددناه في النكت ؛ لكونه زاد بعض الزيادات التي خطرت له، والكتاب طبع بتحقيق صلاح فتحي هلل سنة 1418 هـ- 1998 م .
(2) طبع مع مقدمة ابن الصلاح بتحقيق د. عائشة عبد الرحمان ( بنت الشاطئ ) سنة
1974م .
(3) طبع قديماً بتحقيق عبد الرحمان محمد عثمان ، وهي إلى السقم أقرب ، وقد أعددناه للطبع على نسخ إحداها عليها خط المؤلف ، ومن الله التوفيق .
(4) انظر : بغية الوعاة 1 / 63 .
(5) طبع بتحقيق د. ربيع بن هادي عمير . سنة 1408 هـ – 1988 م .(1/4)
قد بات شيئاً مهمّاً في قواعد علم تحقيق المخطوطات ونشرها ، أن يثبت المحقق الاسم الصحيح للكتاب الذي أسماه به مؤلفه ، إذ قد تتقاذف الكتاب أيادي الدهر وتتقادم عليه الأيام والسنون ، فيبلى بمرورها اسمه ويندثر رسمه ، ومن تلك المصنفات التي جرت عليها هذه الجواري كتابنا هذا ، فقد اشتهر بين الناس أن اسمه " مقدمة ابن الصلاح " أو " علوم الحديث " ، والحق أن واحداً من هذين الاسمين لَمْ يسمه به مؤلفه ، وقد حقق هذا تحقيقاً علمياً الدكتور موفق بن عبد الله بن عبد القادر في فصل نفيس ضمَّنه كتابه القيم " توثيق النصوص وضبطها عن المحدِّثين " (1) ، رأينا أن ننقله بنصّه إذ لا مزيد عَلَى ما أتى به فقال – أيده الله – :
(( ومثاله أيضاً كتاب " معرفة أنواع علوم الحديث " للإمام الحافظ أبي عمرو عثمان ابن عبد الرحمان الشهرزوري المتوفَّى سنة (643 ه) . فإن هذا الكتاب عُرِف واشتُهِر بين طلاَّب العلم باسم "مقدِّمة ابن الصلاح" فَمِنْ أينَ جاءته هذه التسمية ؟
1. إن المصنِّف – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – لَمْ يسمِّ كتابه بـ " المقدمة " كما أن أحداً من أهل العلم ممَّن جاء بعد الصلاح لَمْ يسمِّ كتاب [ ابن ] (2) الصلاح بـ " المقدِّمة " .
2. إن ابن الصلاح قد سمَّى كتابه ونص عَلَى هذه التسمية في فاتحة كتابه فقال : (( ... فحين كاد الباحث عن مشكلة لا يلقى له كاشفاً ، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفاً ، مَنَّ الله الكريم – تبارك وتعالى – ، وله الحمد أجمع بكتاب : " معرفة أنواع علم الحديث " ، هذا الذي باح بأسراره الخفية ... )) (3).
__________
(1) 102 – 108 .
(2) سقطت من الأصل .
(3) معرفة أنواع علم الحديث : 74 من طبعتنا هذه .(1/5)
3. إن نسخة إستانبول المحفوظة في المكتبة السليمانية برقم ( 351 ) ، والتي كان الفراغ من قراءتها عَلَى المصنِّف سنة (641 ه) أي: قبل وفاة ابن الصلاح بعام واحد ونيِّف ، والتي أثبت ابن الصلاح – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – خطّه عليها في عدّة مواضع جاء في صورة السماع : (( سَمِعَ جميع هذا الكتاب وهو كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " على مصنِّفه ... )) . وكتب ابن الصلاح – رَحِمَهُ اللهُ – في آخر طبق السماع :
(( صحَّ ذَلِكَ نفعه الله وبلَّغه ... )) .
4. وجاء اسم الكتاب في سماع النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم : (155) مصطلح الحديث ، وهي نسخة قيمة وموثقة : (( سمعت جميع هذا الكتاب المترجم بكتاب " معرفة أنواع علم الحديث " ... )) .
5. أطلق كثير من العلماء عَلَى الكتاب اسم " علوم الحديث " عَلَى اعتبار مضمونه ومادته العلمية .
6. ومن هؤلاء الإمام محيي الدين يحيى بن زكريا النووي المتوفَّى سنة (667 ه) في كتابه " التقريب " (1) ، وفي " إرشاد طلاب الحقائق " سمّاه "معرفة علوم الْحَدِيْث " (2) .
7. وقال تلميذ ابن الصلاح شمس الدين أحمد بن مُحَمَّد بن خلكان المتوفَّى سنة (681ه) في ترجمة ابن الصلاح : (( وصنّف في علوم الحديث كتاباً نافعاً ... )) (3) .
8. واختصره الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي المعروف بـ: ابن كَثِيْر المتوفَّى سنة ( 774 ه) وسمّى هذا المختصر "اختصار علوم الحديث".
9. وكذا سمّاه " علوم الحديث " الإمام الحافظ أحمد بن محمد بن عثمان الذهبي المتوفَّى سنة ( 748 ه) في كتابه " سير أعلام النبلاء " (4) .
__________
(1) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي 1/61 .
(2) إرشاد طلاب الحقائق 1/107 .
(3) وفيات الأعيان 3/244 .
(4) 23/141 .(1/6)
10. وكذا قال قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن مُحَمَّد بن إبراهيم بن جماعة المتوفَّى سنة (767ه) فألَّف كتاب "الجواهر الصحاح في شرح علوم الحديث لابن الصلاح" ، وله نسخة خطية في دار الكُتُب المصرية تحت رقم ( 873 ه) مصطلح الحديث .
11. وكذا سمَّاه الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفَّى سنة (806 ه) في كتابه " التقييد والإيضاح لما أُطلِق وأُغلِقَ من كتاب ابن الصلاح" (1) .
12. وكذا سمَّاه " علوم الحديث " مصطفى بن عبد الله القسطنطيني الشهير بالملاَّ كاتب الجلبي والمعروف بحاجي خليفة المتوفَّى سنة ( 1067 ه) في كتابه : " كشف الظنون عن أسامي الكُتُب والفنون " (2) .
13. وكذا سمّاه " علوم الحديث " مُحَمَّد بن سليمان الروداني في " صلة الخلف بموصول السلف " (3) .
14. وكذا سمّاه "علوم الحديث"السيد مُحَمَّد بن جعفر الكتَّاني في كتابه " الرسالة المستطرفة " (4) .
15. وكذا عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفَّى سنة ( 1382 ه) في كتابه " فهرس الفهارس والأثبات " (5) .
16. وجاء اسم الكتاب على لوحة العنوان في النسخة الموصلية المحفوظة بخزانة دار الكتب المصرية تحت رقم (1) مصطلح الحديث " علوم الحديث " .
__________
(1) التقييد والإيضاح : 2 .
(2) كشف الظنون 2 / 1161 .
(3) صلة الخلف : 306 .
(4) الرسالة المستطرفة : 214 .
(5) فهرس الفهارس والأثبات 2/722 ، 816 .(1/7)
وجاءت في اللوحة الأخيرة : (( تمت أنواع علوم الحديث بمشيئة الله تعالى عَلَى يدي عليِّ بن يوسف الموصليِّ – عفا الله عنه – في مستهل جُمادَى الآخرة سنة إحدى وستين وست مئة ... )) ، وهي نسخة قديمة وقَيِّمة ومنقولة من أصل عليه سماعات ((وعرضاً في مجالس آخرها يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وست مئة )) . وفي آخرها توقيع ابن الصلاح بخطه وجاء فيه : (( هذا صحيح نفعه الله وبلّغه وإياي ، وكتب مؤلفه – عفا الله عنه وعنهم – )) .
17. إن " المقدمة " في " علوم الحديث " هو اسم لـ" المقدمة " التي كتبها الإمام الحافظ مجد الدين أبو السعادات المبارك بن مُحَمَّد المعروف بـ: ابن الأثير الجزري المتوفَّى سنة ( 606 ه) في " مقدمة " كتابه الجليل " جامع الأصول في أحاديث الرسول " 1/35–178 .
فإنه قال في فاتحة كتابه " جامع الأصول " الباب الأول: في الباعث عَلَى عمل الكتاب، وفيه مقدمة (1) وأربعة فصول " المقدمة " (2) .
وقال في آخر " المقدمة " وهي مقَدمة في " علوم الحديث " : (( هذا آخر القول في الباب الثالث من هذه المقدمة ))
18. لذا لا يمكن التسليم من الناحية العلمية أن كتاب " معرفة أنواع علم الحديث " للإمام الحافظ ابن الصلاح أنّه (( شهير ، أو معروف بالمقدمة )) .
19. ويبقى السؤال قائماً : مَن الذي سمّى كتاب ابن الصلاح "معرفة أنواع علم الحديث" بـ " المقدمة " ؟
والجواب عَلَى ذَلِكَ :
أ. إنّ أول من طبع الكتاب عَلَى الحجر هم الهنود سنة (1304ه) بعناية الشَّيْخ عبد الحي اللكنوي باسم " مقدمة ابن الصلاح " .
ب. ثُمَّ طبع للمرة الثانية في مطبعة السعادة بالقاهرة سنة (1326ه) بتصحيح الشَّيْخ محمود السكري الحلبي ، بعنوان : " كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح" كما كتب اسم الكتاب بأعلى كل صفحة منها "مقدمة ابن الصلاح" .
__________
(1) جامع الأصول 1 / 35 .
(2) المصدر السابق 1 / 178 .(1/8)
ج. ثُمَّ نشر الكتاب في المطبعة العلمية بحلب سنة ( 1350 ه) بعناية السيد مُحَمَّد راغب الطباخ ومذيلاً بذيلين أحدهما كتاب " التقييد والإيضاح لما أُطلِق وأُغلِق من كتاب ابن الصلاح " للحافظ العراقي ، والثاني " المصباح عَلَى مقدمة ابن الصلاح " للشيخ مُحَمَّد راغب الطبَّاخ ، غير أن الشيخ مُحَمَّد راغب الطبَّاخ سمَّى كتاب " التقييد " بـ: " التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصَّلاَح " ، وأطلق عَلَى كتاب " مَعْرِفَة أنواع علم الْحَدِيْث" لابن الصَّلاَح اسم " المقدمة " (1).
د. ثُمَّ جاءت المحقِّقة الفاضلة الدكتورة عائشة عبد الرحمان ( بنت الشاطئ ) فطبعت كتاب ابن الصلاح مذيلاً بكتاب " محاسن الاصطلاح " للحافظ سراج الدين البلقيني سنة (1393 ه- 1974 م) تحت عنوان " مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح " في حين أن اسم الكتاب عَلَى لوحة المخطوط هو " محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح " .
وهكذا اشتُهِر الكتاب باسم "المقدمة" تبعاً لطبعتي الهند (1304،1357ه) ، وطبعة القاهرة (1326 ه)، والطبعة الحلبية الأولى (1350 ه)، والحلبية الثانية (1386 ه).
ه. أمَّا ما جاء عن أرجوزة قاضي القضاة شهاب الدين أبي عبد الله مُحَمَّد بن أحمد بن أحمد بن خليل الخويِّي المتوفَّى سنة (693ه) ، والمسمَّاة بـ" أقصى الأمل والسول في أحاديث الرَّسُوْل " ، والموجود منها نسخة في دار الكُتُب المصرية تحت رقم (256) مصطلح حديث من القول : (( هي أرجوزة نظم فيها مقدمة ابن الصلاح )) (2)، فهذا القول قاله مؤلفو كتاب " فهرست المخطوطات " لدار الكُتُب المصرية .
__________
(1) انظر : 2 ، 4 ، 6 ، 14 ، 16 ، 419 .
(2) فهرست دار الكتب المصرية : 160 .(1/9)
و. وكذا ما جاء في تسمية كتاب قاضي القضاة مُحَمَّد بن إبراهيم ابن جماعة المتوفَّى سنة (733ه) "مختصر تلخيص مقدمة ابن الصلاح في معرفة أنواع علوم الحديث" الموجودة في دار الكتب المصرية تحت رقم ( 352 ) مصطلح حديث فإن هذه التسمية هي تسمية النسَّاخ وصانعو فهرست دار الكتب المصرية (1). وأن اسم الكتاب هو "المنهل الروي في الحديث النبوي" كما جاء في النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم ( 217 طلعت ) (2) وتحت هذا الاسم نشر الكتاب .
لذا فإن الصواب في اسم كتاب ابن الصلاح هو " معرفة أنواع علم الحديث " وأن تسميته بـ: " المقدمة " هُوَ اجتهاد من ناشري الكِتَاب في الطبعة الهندية الأولى
والثانية ، وكذا الطبعة المصرية ... ثُمَّ سار الناس عَلَى هذه التسمية ، وهي تسمية حديثة لَمْ يقلها أحد من أهل العلم )) (3) .
المبحث الثاني : توثيق نسبته إلى مؤلفه
هذا الكتاب مقطوع بصحة نسبته الى ابن الصلاح ، ويدل عَلَى ذَلِكَ دلالة صحيحة الأمور الآتية :
1. أن النسخ الثلاث اتفقت طررها عَلَى إثبات اسم ابن الصلاح عليها ، بالإضافة
إلى أن نسخة ( ج) احتوت عَلَى سند الرواية إلى ابن الصلاح ، وفي ختام النسخ الثلاث أيضاً تكرر ذكر اسمه ثانية .
2. أن الأسانيد التي في داخل الكتاب هي أسانيد أبي عمرو والشيوخ فيها هم شيوخ ابن الصلاح أنفسهم .
3. تشابه الأسلوب في كتابه هذا المصنف مع بقية مصنفات ابن الصلاح .
__________
(1) فهرست المخطوطات ، دار الكتب المصرية ، المجلد الأول ، مصطلح الحديث : 288 .
(2) فهرست المخطوطات 1 / 310 ( مصطلح الحديث ) .
(3) لذا سمينا نشرتنا هذه بـ: " معرفة أنواع علم الحديث " .(1/10)
4. كل من ترجم له ذكر له هذا التأليف (1) ، بل صار يعرف به فيقال : صاحب كتاب " علوم الحديث " (2) .
5. ما تولّد عنه من دراسات – عرضنا لها فيما سبق – .
كل هذا يجعلنا أمام علم ضروري بأن صاحب هذا الكتاب أبو عمرو بن الصلاح .
المبحث الثالث : وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق
بعيداً عن مصادر ابن الصلاح التي اعتبرناها مصادر ثانوية وروافد في عملنا والتي كنا حريصين على مراجعتها سواء أكانت كتب متون أم أسانيد أم رجال أم تواريخ أو غيرها ، فقد اعتمدنا ما يأتي :
أولاً : النسخ الخطية :
اعتمدنا عَلَى ثلاث نسخ خطية – وهي وإن لَمْ تكن عتيقة – لكنها كافية في تصورنا لإخراج نص سليم قويم – إن شاء الله تَعَالَى – وفيما يأتي وصف
موجز لكل منها (3):
1. نسخة خطية محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة الكائنة في مدينة السلام بغداد
– حرسها الله – برقم ( 1 / 2899 مجاميع ) تقع في ( 104 ورقة ) تحوي كل ورقة صفحتين ، في كل صفحة واحد وعشرون سطراً ، بمعدل تسع كلمات في السطر الواحد ، كتبت بدايات الأنواع بالمداد الأحمر ، خطّها نسخي جميل واضح ومقروء ، وقع الفراغ من نسخها سنة (1210 ه) . تظهر عليها آثار المقابلة ، وهي غير مشكولة ، ناسخها غير معروف ، ورمزنا لها بالرمز ( أ ) .
__________
(1) انظر: وفيات الأعيان 3/243، وسير أعلام النبلاء 23/140، وتذكرة الحفاظ 4/1430، والعبر 5/177 ، ومرآة الجنان 4 / 84 – 85 ، وطبقات الشافعية الكبرى 8 / 326 ، وطبقات الشافعية للإسنوي 2/133، والبداية والنهاية 13/142، والنجوم الزاهرة 6/354 وطبقات الحفاظ : 499 ، والدارس 1 / 16 ، وطبقات المفسرين للداوودي 1 / 377 ، وطبقات الشافعية لابن هداية الله :220 ، وشذرات الذهب 5/221 ، والأعلام 4/407 .
(2) انظر : تذكرة الحفاظ 4 / 1430 .
(3) انظر : فهرس مخطوطات مكتبة الأوقاف العامة في بغداد 1 / 269 – 270 .(1/11)
2. نسخة ثانية محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة في بغداد – حرسها الله – تحت الرقم (2949) وعدد أوراقها (119 ورقة)، تحوي كل ورقة صفحتين في كل صفحة واحد وعشرون سطراً ، بمعدل عشر كلمات في كل سطر ، عليها حواشٍ وآثار مقابلة ، خطها نسخي عادي واضح ومقروء ، يعود تاريخ نسخها إلى سنة (807 ه) إذ نسخت في رباط النورية في محلة الشونيزية في بغداد على يد مُحَمَّد ابن عبد الرحمان ابن مُحَمَّد بن عبد الرحمان الإسفراييني ، وهي قليلة الخطأ نادرة السقط ، وقد رمزنا لها بالرمز ( ب ) .
3. نسخة ثالثة محفوظة في مكتبة الأوقاف العامة أيضاً بغداد ، برقم (3/2773 مجاميع) في ( 111 ورقة ) ، تحوي كل ورقة صفحتين في كل صفحة ثلاثة وعشرون سطراً ، بمعدل تسع كلمات في السطر الواحد ، في بعض الأحيان عليها حواشٍ ، خطها واضح ومقروء ، وهي حديثة العهد إذ نسخت سنة (1125 ه) ، في مدينة انطاكية عَلَى يد أبي بكر بن حاج أحمد بن شيخ مُحَمَّد المؤذن بجامع الصوفية ، ورمزنا لها بالرمز (ج).
ثانياً : النسخ المطبوعة
بغية التوصل إلى نص صحيح اعتمدنا عَلَى نسخ مطبوعة ، ولا سيّما أن كلاً مِنْهُم اعتمد نسخاً خطيةً أُخْرَى لضبط النص ، وهذه النسخ هي :
1. النسخة المطبوعة بتحقيق الدكتور نور الدين عتر ، والتي نشرتها المكتبة العلمية في المدينة المنورة سنة (1386هم) ورمزنا لها بالرمز (ع).
2. النص المطبوع مع كتاب محاسن الاصطلاح للبلقيني بتحقيق الدكتورة عائشة
عَبْد الرحمان ( بنت الشاطئ ) نشر وطباعة دار الكتب في بيروت سنة
( 1974 م ) ، ورمزنا لها بالرمز ( م ) .
3. النص المطبوع مع كتاب التقييد والإيضاح للحافظ العراقي ، بتحقيق عبد الرحمن مُحَمَّد عثمان ، المطبوع في مطبعة العاصمة في القاهرة ونشرته المكتبة السلفية في المدينة المنورة سنة ( 1389ه- 1970 م ) ، ورمزنا لها بـ: ( التقييد ) .(1/12)
4. النص الَّذِي ضمّنه الأبناسي في كتابه " الشذا الفياح " ، والذي حققه صلاح فتحي هلل ، نشر مكتبة الرشد بالاشتراك مَعَ شركة الرياض في المملكة العربية السعودية ، سنة ( 1418 ه1998 م ) ، ورمزنا لها بـ : ( الشذا ) .
المبحث الرابع : منهج التحقيق
يمكننا أن نلخص منهج التحقيق الذي سرنا عليه والتزمناه في تحقيقنا لكتاب
" معرفة أنواع علم الحديث " في ما يأتي :
1. حاولنا ضبط النص قدر المستطاع معتمدين على النسخ الخطية ، ومستعينين بما نثق به من الكتب والطبعات السابقة للكتاب ، مع مراجعة المصادر المباشرة للمؤلف ، ككتب المتون والأسانيد ، وكتب الرجال على اختلاف ألوانها .
2. خرّجنا الآيات الكريمات من مواطنها في المصحف ، مع الإشارة إلى اسم السورة ورقم الآية .
3. خرّجنا الأحاديث النبوية الكريمة تخريجاً مستوعباً حسب الطاقة ، وبينا ما فيها من
نكت حديثية ، ونبّهنا على مواطن الضعف ، وكوامن العلل مستعينين بما ألّفه
الأئمة الأعلام جهابذة الحديث ونقّاد الأثر في هذا المجال .
4. خرّجنا أكثر نقولاته عن العلماء وذلك بعزوها إلى كتبهم .
5. تتبّعنا المصنف فيما يورده من المذاهب سواء أكانت لغوية أم فقهية أم غيرها ؟ ووثّقناها من المصادر التي تعنى بتلك العلوم .
6. لم يكن من وكدنا أن نترجم للأعلام الذين يذكرهم المصنف رغم فائدتها التي
لا تخفى ، مقدمين دفع مفسدة تضخم الكتاب ، على مصلحة التعريف بهؤلاء
الأعلام ، على أن الكتاب لا يخلو من التعريف ببعضهم .
7. قدّمنا للكتاب بدراسة نراها - حسب اعتقادنا - كافية كمدخل إليه .
8. لم نألوا جهداً في تقديم أي عمل يخدم الكتاب ، وهذا يتجلى في الفهارس المتنوعة التي ألحقناها بالكتاب ، بغية توفير الوقت والجهد على الباحث .
9. قمنا بشكل النص شكلاً كاملاً .
10. علّقنا على المواطن التي نعتقد أنها بحاجة إلى مزيد إيضاح وبيان .(1/13)
11. ذيّلنا الشرح بالمهم من نكت وتعليقات، ممّا أغنى الكتاب وتمّم مقاصده.
12. حاولنا جاهدين إيراد النكت والتعقبات وأجوبتها في أكثر الأحيان من مصادرها الأصيلة كـ" نكت الزركشي " و " نكت العراقي " و "نكت ابن حجر" و " البحر الذي زخر " وغيرها .
وبعد هذا كلّه ، فلسنا من الذين يدّعون الكمال لأنفسهم أو أعمالهم ، وليتذكر من يقف على هفوة أو شطحة قلم أن يقدّم النظر بعين الرضا على الانتقاد بعين السخط ، وليضع قول الإمام الشافعي – رحمه الله – نصب عينيه إذ يقول :
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ ولَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاويَا(1)
سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
__________
(1) ديوان الإمام الشافعي : 91 .(1/14)
e(1)
{ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }(2)
الحمدُ للهِ الْهَادِي مَنِ اسْتَهْدَاهُ ، الواقِي(3)
__________
(1) ... ورد في نسخة ( جـ ) سند النسخة المنقولة عَنْهَا هذِهِ النسخة عَلَى النحو الآتي :
(( الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلَّى الله عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلّم ، قرأت عَلَى الشَّيْخ الإمام الحبر ابن مُحَمَّد أحمد بن قاسم بن عَبْد الرحمان بن أبي بَكْر الحرازي جَمِيْع " علوم الحَدِيْث " لابن الصَّلاح بمكة المشرفة في شهور سنة خمس وخمسين وسبع مئة ، قَالَ : قرأت عَلَى العلاَّمة رضي الدين إبراهيم بن مُحَمَّد بن إبراهيم الطبري جميعه في سنة ثلاث عَشْرَة وسبع مئة ، قَالَ : أنبأنا الإمام الحافظ تقي الدين ابن ( كذا ، والصواب أبو ) عمرو عثمان بن عبد الرحمان بن عثمان بن موسى بن نصر النصري الشهرزوري الشافعي المعروف بـ( ابن الصلاح ) إجازة .
قال : وأخبرنا عنه سماعاً الإمام أمين الدين عبد الصمد بن عبد الوهاب بن أبي البركات الحسن ابن عساكر قال : أملى علينا ابن الصلاح – نوّر الله بالعلم صدره ورفع بالعمل الصالح في الدارين قدره – بمدينة دمشق بدار السنة الأشرفية ، وكان ابتداء إملائه علينا ونحن نسمع بعد صلاة الجمعة السابع من رمضان المعظّم من عام ثلاثين وست مئة ، فقال : ... )) .
(2) ... الكهف : 10 . ولم ترد الآية الكريمة في ( أ ) و ( ب ) ، وهي من ( جـ ) و ( ع ) و ( م ) .
(3) قال الحافظ ابن حجر في نكته 1 / 223 : (( بالقاف ، وهو مشتق من قوله تعالى : { فَوَقَاهُ اللهُ } عملاً بأحد المذهبين في الأسماء الحسنى – والأصحّ عند المحققيين : أنها توقيفية .
وأمّا قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا لَهُم مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ } فلا توقيف فيه على ذلك ؛ لكن اختيار الغزالي : أن التوقيف مختص بالأسماء دون الصفات ، وهو اختيار الإمام فخر الدين أيضاً . وعلى ذلك يحمل عمل المصنف وغيره من الأئمة )) . وانظر : القواعد المثلى ص 13 ، وص 28 .(1/1)
مَنِ اتَّقاهُ ، الكافي مَنْ تحرّى رضاهُ ، حمداً بالغاً أمدَ التمامِ ومنتهاهُ(1). والصلاةُ والسلامُ الأتمَّانِ(2)الأكملانِ على نبيِّنا والنبيِّينَ(3)،
وآلِ كُلٍّ(4)ما رجى راجٍ مغفرتَهُ ورحماهُ ، آمينَ .
هذا(5)،
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في نكته 1/223: (( اعترض عليه بأن هذه دعوى لا تصح وكيف يتخيل شخص أنه يمكنه أن يحمد الله حمداً يبلغ منتهى التمام . والفرض أن الخلق كلهم لو اجتمع حمدهم لم يبلغ بعض ما يستحقه تعالى من الحمد فضلاً عن تمامه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( لا أحصي ثناءً عليك )) ، مع ما صح عنه في حديث الشفاعة : (( أن الله يفتح عليه بمحامد لم يسبق إليها )) .
والجواب : أن المصنف لم يدَّعِ أن الحمد الصادر منه بلغ ذلك ، وإنما أخبر أن الحمد الذي يجب لله هذه صفته ، وكأنه أراد أن الله مستحقٌ لتمام الحمد ، وهذا بيِّن من سياق كلامه )) .
(2) لم ترد في النسخ الخطية و ( م ) ، وهي من ( ع ) والتقييد .
(3) للحافظ ابن حجر تعليق حول هذا التعبير . انظره في نكته 1 / 224 .
(4) قوله : (( وآل كل )) ، أضافه إلى الظاهر ، ولم يقل : وآلهم ؛ خروجاً من الخلاف ؛ لأن بعضهم لا يجيز إضافته إلى المضمر . وانظر : نكت الزركشي 1 / 13 مع حاشية المحقق ، ونكت ابن حجر 1 / 225.
(5) قال الزركشي في نكته 1 / 13 : (( هو فاصل عن الكلام السابق للدخول في غرض آخر ، ونظيره في التخلص قوله تعالى : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِيْنَ لَشَرَّ مَآبٍ } ، ولعل هذا السبب في أن المصنف لم يذكر
( أما بعد ) ، وإن ورد أن النبي كان يقولها في خطبه )) .
فهذا إذن من التفنن الذي لا حجر فيه ، على قول ابن حجر في نكته 1 / 225 .(1/2)
وإنَّ عِلْمَ الحديثِ(1)مِنْ أفضلِ العلومِ الفاضلةِ ، وأنفعِ الفنونِ النافعةِ ، يُحبُّهُ ذكورُ الرجالِ وفحولَتُهُم(2)، ويُعْنَى(3)بهِ محقِّقُو العلماءِ وكَمَلَتُهُم ، ولا يكرهُهُ مِنَ الناسِ إلاَّ رُذالتُهم(4)وسَفِلتُهُم(5).
__________
(1) قال ابن حجر في نكته 1 / 225 : (( أولى التعاريف لعلم الحديث – يريد علم الحديث دراية - : معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة حال الراوي والمروي )) . وانظر : تفصيل هذا في البحر الذي زخر 1/226 ، وتدريب الراوي 1 / 40 .
(2) ورد هذا المعنى في كلام الزهري – رحمه الله - . انظر : نكت الزركشي 1 / 14 .
(3) هو بضم الياء وفتح النون على البناء للمفعول ( المجهول ) ، وهو من الأفعال الملازمة للبناء للمفعول ، ويجوز فيه البناء للفاعل ( المعلوم ) أيضاً ، ولكن البناء للمفعول أفصح . انظر : الصحاح 6 / 2440 ، واللسان 15 / 104 ، ونكت الزركشي 1 / 21 ، والتقييد والإيضاح : 12 .
(4) الرُّذَالة : -بضمِّ الراء وفتح الذال- هو الرديء،والرذل : الدون والخسيس ، يقال : رجل رذل ومرذول ، وهو الدون في منظره وحالاته.انظر:أساس البلاغة:229 ، واللسان 11/280،ونكت الزركشي1/ 23.
(5) السَّفِلة : - بفتح السين وكسر الفاء – هم السُّقاط من الناس ، والمراد : أسافل الناس وغوغاؤهم. انظر: اللسان 11 / 337 ، ونكت الزركشي 1 / 23 .(1/3)
وهو مِنْ أكثرِ العلومِ تولُّجاً(1)في فنونها ، لا سيَّما الفقهُ(2)الذي هو إنسانُ
__________
(1) قال ابن حجر في نكته 1 / 227 : (( أي دخولاً في فنونها ، والمراد بالعلوم هنا الشرعية ، وهي : التفسير والحديث والفقه ؛ وإنما صار أكثر لاحتياج كل من العلوم الثلاثة إليه . أمّا الحديث : فظاهر . وأمّا التفسير : فإنّ أولى ما فسر به كلام الله تعالى ، ما ثبت عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ويحتاج الناظر في ذلك إلى معرفة ما ثبت مما لم يثبت . وأمّا الفقه : فلاحتياج الفقيه إلى الاستدلال بما ثبت من الحديث دون ما لم يثبت ، ولا يتبين ذلك إلا بعلم الحديث )) .
(2) الاسم الواقع بعد ( لا سيَّما ) إذا كان معرفة جاز فيه وجهان : الجر والرفع ، أما إذا كان نكرة ففيه ثلاثة أوجه : الجر والرفع والنصب ، وليس هذا محل توجيه ذلك .=
=والمشهور في استعمالها أن يقال : ( ولا سيَّما ) ، وذكروا أنها تخفّف وقد تحذف الواو ، وربّما حذفوا (لا) فيقال : ( سيما ) ، وهي لغة ضعيفة . انظر توجيه هذا الكلام وشواهده في اللسان 14 / 411 ، ونكت الزركشي 1 / 25 مع حاشية المحقق ، ومتن اللغة 3 / 258 .(1/4)
عُيونِها ؛ ولذلكَ كَثُرَ غَلطُ العاطلينَ(1)منهُ مِنْ مُصَنِّفِي الفقهاءِ ، وظهرَ الخللُ في كلامِ الْمُخلِّينَ بهِ مِنَ العلماءِ . ولقدْ كانَ شأنُ الحديثِ فِيْمَا مَضَى عظيماً ، عظيمةً جموعُ طَلبَتِهِ(2)، رفيعةً مقاديرُ حُفَّاظِهِ وحملَتِهِ . وكانتْ علومُهُ بحياتِهِم حيَّةً ، وأفنانُ فنونِهِ(3)ببقائِهِم غَضَّةً(4)، ومغانيهِ(5)بأهلِهِ آهِلَةً(6).
__________
(1) في جميع النسخ الخطية : (( الغالطين )) ، وأشار ناسخ ( أ ) إلى أنها في نسخة : (( العاطلين )) ، وما أثبتناه من ( م ) و ( ع ) والتقييد ، وهو الأجود معنًى .
(2) قال الزركشي في نكته 1 / 27 : (( وهذا شيء كالمتواتر عند من نظر تراجمهم وأحوالهم )) ثمَّ ساق أمثلة كثيرة على ذلك ، فراجعه تجد فائدة .
(3) قال ابن حجر في نكته 1 / 227 : (( الأفنان : جمع فنن – بفتحتين – وهو الغصن ، والفنون : جمع فنّ ، وهو الضرب من الشيء ، أي : النوع . ويجمع أيضاً على أفنان ؛ لكن المراد هنا بالأفنان جمع فنن كما تقدّم )) . وانظر : اللسان 13 / 326 .
(4) قال ابن حجر في نكته 1 / 227 : (( غضّة ، أي : طرية ، وهي استعارة مناسبة للفنن ، وفيه الجناس بين أفنان وفنون )) . وانظر : الصحاح 3 / 1095 .
(5) في ( أ ) : (( معانيه )) بالمهملة . قال ابن حجر 1 / 228 : (( المغاني – بالغين المعجمة – : جمع مغنى مقصور ، وهو المكان الذي كان مسكوناً ، ثمَّ انتقل أهله عنه ؛ فكأنه أطلق عليه ( مغنى ) ؛ باعتبار ما آل إليه الأمر ، وكان قبل ذلك مسكوناً بأهله المستحقين له لا بغيرهم )) . وانظر : اللسان 15 / 139 .
(6) قال ابن حجر 1 / 228 : (( فيه جناس خطي في قوله : بأهله آهلة ، بوزن فاعلة )) . وعن مصطلح الجناس الخطي ومفهومه ، انظر : الإيضاح في علوم البلاغة 217 .(1/5)
فلمْ يزالُوا في انقراضٍ ، ولَمْ يزلْ في اندراسٍ حتَّى آضتْ(1)بهِ الحالُ إلى أنْ صارَ أهلُهُ إنَّما هُمْ شِرْذِمةٌ(2)قليلةُ العَدَدِ(3)ضعيفةُ العُدَدِ ، لا تُعْنى على الأغلبِ في تحمُّلِهِ بأكثرَ مِنْ سماعهِ غُفْلاً(4)، ولا تتعنَّى في تقييدِهِ بأكثَرَ مِنْ كتابتِهِ عُطْلاً(5)،
__________
(1) الأيض : العود إلى الشيء ، يقال : آضَ يئيضُ أيْضاً ، أي: عاد . والأيض : الرجوع ، يقال : آض فلان إلى أهله ، أي : رجع إليهم ، وآض كذا ، أي : صار . وأصل الأيض : العود ، تقول : فعل ذلك أيضاً ، إذا فعله مُعاوداً له ، راجعاً إليه . انظر : تاج العروس 18 / 235 .
(2) الشرذمة – والدال لغة فيها - : الجماعة القليلة من الناس ، ومنه قوله تعالى : { وإِنَّهُمْ لَشِرْذِمَةٌ لَنَا غَائِضُونَ } . وانظر : مقاييس اللغة 3 / 273 ، ومتن اللغة 3 / 300 .
(3) في (جـ ) : القدر .
(4) الغُفْل – بضمِّ الغين وسكون الفاء – هو الذي لا علامة به ، يقال : أرضٌ غُفْلٌ ، لا عَلَمَ بها ولا أثر عمارة ، وأرضٌ غُفْلٌ : لم تمطر ، ورجلٌ غُفْلٌ : لم يجرِّب الأمور .
قال ابن حجر 1 / 228 : (( وهي استعارة ، يقال : أرض غُفْلٌ : لا عَلَمَ بها ولا أثر عمارة ، فكأنه شبَّه الكتاب بالأرض ، والتقييد بالنقط والشكل والضبط بالعمران )) . وانظر : الصحاح 5 / 1783 ، ونكت الزركشي 1 / 40 .
(5) عُطُل : بضمتين ، ويجوز إسكان الطاء ، معناه : الخلو من الشيء ، وأصل استعماله في الحَلي ، ويقال : عَطِلَ من المال والأدب ، فهو عُطْلٌ . انظر : مقاييس اللغة 4 / 351 ، واللسان 11 / 454 ، ونكت الزركشي 1 / 40 .
ولا بدَّ من التنبيه على أن المصنِّف أشار بذلك إلى أن الاقتصار على السماع والكتابة أدنى درجات علم الحديث . وانظر تفصيل ذلك في : نكت الزركشي 1 / 41 ، ونكت ابن حجر 1 / 228.(1/6)
مُطَّرِحِيْنَ علومَهُ التي بها جُلَّ قدرُهُ ، مباعدينَ معارفَهُ التي بها فُخِّمَ أمرُهُ .
فحينَ كادَ الباحثُ عنْ مُشْكلِهِ لا يُلْفِي لهُ كاشفاً ، والسائلُ عنْ علمِهِ لا يَلْقى بهِ عارفاً ، مَنَّ اللهُ الكريمُ - تباركَ وتعالى - عليَّ(1)– ولَهُ الحمدُ أجمعُ(2)– بكتابِ " معرفةَ أنواعِ علمِ الحديثِ " ، هذا الذي باحَ(3)بأسرارهِ الخفيَّةِ ، وكشفَ عَنْ مشكلاتِهِ الأبيَّةِ ، وأحكمَ(4)معاقدَهُ ، وقعَّدَ قواعدَهُ ، وأنارَ معالِمَهُ ، وبيَّنَ أحكامَهُ(5)، وفصَّلَ أقسامَهُ ، وأوضحَ أصولَهُ ، وشرحَ فروعَهُ وفصولَهُ ، وجمعَ شتاتَ علومِهِ(6)وفوائدَهُ ، وقنصَ شواردَ نُكتِهِ وفرائدَهُ(7). فاللهَ العظيمَ الذي بيدِهِ الضّرُّ والنَّفْعُ والإعطاءُ والمنعُ أسألُ ، وإليهِ أضَّرَّعُ وأبتهلُ ، متوسلاً إليهِ بكلِّ وسيلةٍ ، متشفِّعاً(8)0) إليهِ بكلِّ شفيعٍ، أنْ يجعلَهُ مَلِيّاً بذلكَ وأملى(9)،
__________
(1) ... ليست في ( جـ ) و ( م ) .
(2) في ( ع ) والتقييد : (( أن أجمع )) . ولم ترد ( أن ) في شيء من النسخ الخطية ولا ( م ) .
(3) في ( م ) : (( أباح )) .
(4) في ( أ ) حاشية نصها : (( أي أتقن المسائل المقررة )) .
(5) ساقطة من ب .
(6) شتات علومه )) ، سقطت من ( ب ) .
(7) ساقطة من ( أ ) ، وفي ( جـ ) : (( وفريده )) ، وفي التقييد : (( وفوائده )) .
(8) 10) في ( ب ) و ( جـ ) : (( مستشفعاً )) ، وسقطت : (( بكل وسيلة )) من ( ب ) .
(9) قال العراقي في التقييد:13 : (( استعمل المصنِّف هنا (( ملياً وأملى )) بغير همز على التخفيف ، وكتبه بالياء لمناسبة قوله : (( وفياً وأوفى )) ، وإلاّ فالأول مهموز من قولهم : مَلُؤَ الرجلُ – بضم اللام وبالهمز – أي : صار مليئاً ، أي: ثقة،وهو مَلِئٌ بَيِّن الملاء والملاءة ، ممدودان ، قاله الجوهري )) . وانظر: الصحاح 1/73..(1/7)
وافياً بكلِّ ذلكَ وأوفى ، وأنْ يُعَظِّمَ الأجرَ والنَّفْعَ بهِ في الدارَينِ ، إنَّهُ قريبٌ مجيبٌ ، وما توفيقي إلاَّ باللهِ عليهِ توكَّلْتُ وإليهِ أُنيبُ .
وهذهِ فِهْرِسْتُ(1)أنواعِهِ :
فالأوَّلُ منها : معرفةُ الصحيحِ مِنَ الحديثِ .
الثاني : معرفةُ الحسَنِ منهُ .
الثالثُ : معرفةُ الضعيفِ منهُ .
الرابعُ : معرفةُ الْمُسْنَدِ .
الخامسُ : معرفةُ الْمُتَّصِلِ .
السادسُ : معرفةُ المرفوعِ .
السابعُ : معرفةُ الموقوفِ .
الثامنُ : معرفةُ المقطوعِ ، وهو غيرُ المنقطعِ(2).
التاسعُ : معرفةُ المرسلِ .
العاشرُ : معرفةُ المنقطعِ .
الحادي عشرَ:معرفةُ الْمُعْضَلِ،ويليهِ تفريعاتٌ،منها:في الإسنادِ الْمُعَنْعَنِ، ومنها : في التعليقِ.
الثاني عشرَ : معرفةُ التدليسِ وحكمُ الْمُدَلَّسِ .
الثالثَ عشرَ : معرفةُ الشَّاذِّ .
الرابعَ عشرَ : معرفةُ الْمُنْكَرِ .
__________
(1) في ( م ) والتقييد : (( فهرسة )) بالتاء المربوطة .
قال ابن حجر 1 / 231 : (( الصواب أنها بالتاء المثناة وقوفاً وإدماجاً ، وربما وقف عليها بعضهم بالهاء وهو خطأ . قال صاحب تثقيف اللسان : فهرست –بإسكان السين– والتاء فيه أصلية، ومعناها في اللغة: جملة العدد للكتب،لفظة فارسية،قال: واستعمل الناس منها فهرسَ الكتبَ يفهرسها فهرسة ، مثل دَحْرَجَ . وإنما الفهرست: اسم جملة العدد، والفهرسة: المصدر، كالفذلكة ، يقال: فذلكت إذا وقفت على جملته)).
وجاء في القاموس المحيط وشرحه التاج 16 / 349 : (( الفِهْرِس – بالكسر – قال الليث : هو الكتاب الذي تجمع فيه الكتب ، وقال : ليس بعربي محض ، ولكنّه معرَّب ، وقال غيره : هو معرَّب فِهْرِسْت ، وقد اشتقّوا منه الفِعْل فقالوا : فَهْرَسَ كتابَهُ فَهْرَسَةً ، وجمعُ الفَهْرَسَةِ: فهارِس )) . وانظر : نكت الزركشي 1 / 55 ، والنكت الوفية 254 ب و 259 ب ، والمعجم الوسيط 2 / 704 .
(2) في ( م ) : (( المتقطع )) .(1/8)
الخامسَ عشرَ : معرفةُ الاعتبارِ والمتابعاتِ والشواهدِ .
السادسَ عشرَ : معرفةُ زياداتِ الثقاتِ وحكمِها .
السابعَ عشرَ : معرفةُ الأَفرادِ .
الثامنَ عشرَ : معرفةُ الحديثِ المعلَّلِ .
التاسعَ عشرَ : معرفةُ الْمُضْطَرِبِ مِنَ الحديثِ .
العشرونَ : معرفةُ الْمُدْرَجِ منَ الحديثِ .
الحادي والعشرونَ : معرفةُ الحديثِ الموضوعِ .
الثاني والعشرونَ : معرفةُ المقلوبِ .
الثالثُ والعشرونَ : معرفةُ صِفَةِ مَنْ تُقبَلُ روايتُهُ وَمَنْ تُرَدُّ روايتُهُ .
الرابعُ والعشرونَ : معرفةُ كيفيةِ سماعِ الحديثِ وتحمّلِهِ ، وفيهِ : بيانُ أنواعِ الإجازةِ وأحكامِها ، وسائرِ وجوهِ الأخذِ والتحمُّلِ ، وعِلْمٌ جَمٌّ(1).
الخامسُ والعشرونَ : معرفةُ كتابةِ الحديثِ وكيفيّةِ ضَبْطِ الكتابِ وتقييدِهِ ، وفيهِ معارفُ مهمّةٌ رائقةٌ .
السادسُ والعشرونَ : معرفةُ كيفيّةِ روايةِ الحديثِ وشرطِ أدائهِ وما يتعلَّقُ بذلكَ ، وفيهِ كثيرٌ من نفائسِ هذا العلمِ .
السابعُ والعشرونَ : معرفةُ آدابِ المحدِّثِ .
الثامنُ والعشرونَ : معرفةُ آدابِ طالبِ الحديثِ .
التاسعُ والعشرونَ : معرفةُ الإسنادِ العالي والنازلِ .
النوعُ(2)الْمُوَفِّي ثلاثينَ : معرفةُ المشهورِ مِنَ الحديثِ .
الحادي والثلاثونَ : معرفةُ الغريبِ والعزيزِ منَ الحديثِ .
الثاني والثلاثونَ : معرفةُ غريبِ الحديثِ .
الثالثُ والثلاثونَ : معرفةُ الْمُسَلْسَلِ .
الرابعُ والثلاثونَ : معرفةُ ناسخِ الحديثِ ومنسوخِهِ .
الخامسُ والثلاثونَ : معرفةُ الْمُصَحَّفِ منَ أسانيدِ الأحاديثِ ومتونِها .
السادسُ والثلاثونَ : معرفةُ مُخْتَلِفِ الحديثِ .
السابعُ والثلاثونَ : معرفةُ المزيدِ في متَّصِلِ الأسانيدِ .
__________
(1) في ( ع ) : (( فيه علم جم )) ، وكلمة : (( فيه )) لم ترد في شيء من النسخ و ( م ) والتقييد .
(2) سقطت من ( ع ) و ( م ) ، وهي من جميع النسخ والتقييد .(1/9)
الثامنُ والثلاثونَ : معرفةُ المراسيلِ الخفيِّ إرسالُهَا .
التاسِعُ والثلاثونَ : معرفةُ الصحابةِ - رضي الله عنهم - .
الموفِّي أربعينَ : معرفةُ التابعينَ - رضي الله عنهم - .
الحادي والأربعونَ : معرفةُ الأكابرِ مِنَ الرّواةِ(1)عنِ الأصاغرِ .
الثاني والأربعونَ : معرفةُ الْمُدَبَّجِ وما سواهُ منْ روايةِ الأقرانِ بعضُهُم عَنْ بعضٍ .
الثالثُ والأربعونَ : معرفةُ الإخوةِ والأخواتِ مِنَ العلماءِ والرواةِ .
الرابعُ والأربعونَ : معرفةُ روايةِ الآباءِ عَنِ الأبناءِ .
الخامسُ والأربعونَ : عكسُ ذلكَ(2): معرفةُ روايةِ الأبناءِ عنِ الآباءِ .
السادسُ والأربعونَ : معرفةُ(3)مَنِ اشتركَ في الروايةِ عنهُ راويانِ متقدِّمٌ ومتأخِّرٌ تباعدَ ما بينَ وفاتَيْهِما .
السابعُ والأربعونَ : معرفةُ مَنْ لَمْ يروِ عنهُ إلاَّ راوٍ واحدٌ .
الثامنُ والأربعونَ : معرفةُ مَنْ ذُكِرَ بأسماءٍ مختلفةٍ أو نعوتٍ متعدِّدَةٍ .
التاسعُ والأربعونَ : معرفةُ(4)المفرداتِ مِنْ أسماءِ الصحابةِ والرواةِ والعلماءِ .
الْمُوَفِّي خمسينَ : معرفةُ الأسماءِ والكُنَى .
الحادي والخمسونَ : معرفةُ كنى المعروفينَ بالأسماءِ دونَ الكنى .
الثاني والخمسونَ : معرفةُ ألقابِ المحدِّثينَ .
الثالثُ والخمسونَ : معرفةُ المؤتَلِفِ والمختَلِفِ .
الرابعُ والخمسونَ : معرفةُ المتَّفِقِ والمفترِقِ .
الخامسُ والخمسونَ : نوعٌ يتركَّبُ مِنْ هذينِ النوعينِ .
السادسُ والخمسونَ : معرفةُ الرواةِ المتشابهينَ في الاسمِ والنَّسبِ المتمايزِينَ بالتقديمِ والتأخيرِ في الابن والأبِ .
السابعُ والخمسونَ : معرفةُ المنسوبينَ إلى غيرِ آبائهِم .
__________
(1) في ( أ )و( ع ) : (( الأكابر الرواة ))،وفي ( م ) والتقييد: ((أكابر الرواة)) ، وما أثبتناه من (ب) و (ج).
(2) عكس ذلك )) لَم ترد في ( ب ) .
(3) في ( أ ) : ((معرفةُ رواية )) .
(4) ساقطة من ( ب ) .(1/10)
الثامنُ والخمسونَ : معرفةُ الأنسابِ التي باطنُها على خلافِ ظاهرِها .
التاسعُ والخمسونَ : معرفةُ المبهماتِ .
الْمُوَفِّي ستينَ : معرفةُ تواريخِ الرواةِ في الوَفَياتِ وغيرِها .
الحادي والستونَ : معرفةُ الثِّقَاتِ والضُّعفاءِ مِنَ الرواةِ .
الثاني والستونَ : معرفةُ مَنْ خَلَطَ في آخرِ عمرِهِ مِنَ الثقاتِ .
الثالثُ والستونَ : معرفةُ طبقاتِ الرواةِ والعلماءِ .
الرابعُ والستونَ : معرفةُ الموالي مِنَ الرواةِ والعلماءِ .
الخامسُ والستونَ : معرفةُ أوطانِ الرُّواةِ وبلدانِهِم .
وذلكَ آخِرُها ، وليسَ بآخرِ الممكنِ في ذلكَ فإنَّهُ قابلٌ للتنويعِ(1)
__________
(1) كانت للمنكتين والشرّاح والمختصرين لكتاب ابن الصلاح في هذا المقام اعتراضات ، ذكرها الزركشي في نكته 1 / 56 ، ومن ثَمَّ أجملها ابن حجر 1 / 232 ، وهي :
أ. تداخل بعض الأنواع مع بعضها الآخر . انظر : اختصار علوم الحديث لابن كثير 1 / 98 .
ب. عدم الدِّقَّة في الترتيب .
جـ. إهماله أنواعاً أخر .
ثُمَّ تولَّى الإجابة عن كلّ واحد منها ، ولولا خشية الإطالة لنقلنا لك كلامه ، فعُدْ إليه فإنّه نفيس قلَّ أن تجده .
قلنا : ولذلك نجد بعض من اختصر كتاب ابن الصلاح خالفه في ترتيب مباحث الكتاب ، كما فعل ابن جماعة في المنهل الروي ، وابن حجر في النخبة وغيرهما .
أمَّا كونه قد أهمل بعض الأنواع ؛ فَقَدْ زاد البلقيني في محاسنه خمسة أنواع مَعَ الشرح والأمثلة 612 – 674 . وزاد الزَّرْكَشِيّ في نكته أنواعاً أخر مَعَ أمثلتها وشرحها 1/ 56 – 85 ، ثُمَّ أشار ابن حجر في نكته 1 / 233 إلى إمكان الزيادة عَلَى مَا ذكره ابن الصَّلاح ، ووعد بأنه سيذكر أنواعاً عندما يفرغ من النكت مَعَ الكلام عَلَى كُلّ نَوْع بما لا يقصر، ونجد مِثْل تِلْكَ الزوائد والفوائد في النزهة :54 ؛ لذا كان أمام السيوطي سعة في الأمر ليقول في البحر الذي زخر 1 / 248 – 251 :
((
وزدت أنواعاً فتمّت مئة )) ثُمَّ سردها . ولكنَّ المتأمّل لكلام ابن الصلاح يجد أنه سدّ الباب على من يروم الاستدراك عليه ، فقال في نهاية كلامه : (( ولكنّه نصب من غير أرب )) .(1/11)
إلى ما لا يحصى ، إذ لا تُحصى أحوالُ رواةِ الحديثِ وصفاتُهُم ، ولا أحوالُ متونِ الحديثِ وصفاتُهُا ، وما مِنْ حالةٍ منها ولا صفةٍ إلاَّ وهيَ بصدَدِ أنْ تُفْرَدَ بالذِّكْرِ وأهلُها ، فإذا هيَ نوعٌ على
حِيالِهِ(1)ولكنَّهُ نَصَبٌ من غيرِ أَرَبٍ ، وحسبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ .
النوعُ الأوَّلُ مِنْ أنواعِ علومِ الحديثِ
معرفةُ الصَّحِيْحِ مِنَ الحديثِ(2)
اعلمْ – عَلَّمَكَ اللهُ وإيَّايَ(3)– أنَّ الحديثَ عندَ أهلِهِ ينقسِمُ إلى صَحيحٍ ، وحَسَنٍ ، وضَعيْفٍ(4).
__________
(1) في ( جـ ) : (( خياله )) ، وفي ( م ) : (( حاله )) .
(2) انظر في الصحيح :
معرفة علوم الحديث : 58 ، وجامع الأصول 1 / 160 ، وإرشاد طلاب الحقائق 1 / 110– 136 ، والتقريب : 31 – 42 ، والاقتراح : 152 ، والمنهل الروي : 33 ، والخلاصة : 35 ، والموقظة : 24 ، واختصار علوم الحديث: 21 ، والمقنع 1/41 وشرح التبصرة والتذكرة 1/110 ، ونزهة النظر : 82 ، والمختصر للكافيجي : 113 ، وفتح المغيث 1/17 وألفية السيوطي : 3 – 15 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 98 ، وتوضيح الأفكار 1 / 7 ، وظفر الأماني : 120 ، وقواعد التحديث : 79 .
(3) اعترض على ابن الصلاح في هذا ، أن قدّم الدعاء لغيره على الدعاء لنفسه ، إن الأولى : أن يُعْكَسَ فإن السُّنَّة في البداءة بالدعاء أن يكون بنفسه ثمَّ بغيرهِ ؛ لذا كانت هنا مناقشات ومباحثات ، وتفاصيل طويلة ، انظرها إن شئت في : نكت الزركشي 1 / 88 ، والتقييد والإيضاح 18 ، والشذا الفياح 1 / 67 .
(4) قال الحافظ ابن كثير 1 / 99 –معترضاً– : (( هذا التقسيم إن كان بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، فليس إلاَّ صحيح وضعيف.وإن كان بالنسبة إلى اصطلاح المحدِّثينَ،فالحديث ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك )).
قلنا : هذا اعتراض الحافظ ابن كثير ، وقد نوقش فيه ، وَوُجِّه مراد ابن الصلاح ، فانظر : نكت الزركشي 1 / 91 ، ومحاسن الاصطلاح : 82 ، والتقييد والإيضاح : 19 .(1/12)
أمَّا(1)الحديثُ الصحيحُ : فهو الحديثُ المسنَدُ الذي يتَّصِلُ إسنادُهُ بنقلِ العَدْلِ الضابطِ عنِ العَدْلِ الضابطِ إلى منتهاهُ ، ولا يكونُ شاذّاً ، ولا مُعلَّلاً(2). وفي هذهِ الأوصافِ احترازٌ عَنِ المرسَلِ ، والمنقطعِ ، والمعضلِ ، والشَّاذِّ ، وما فيهِ عِلَّةٌ قادحةٌ ، وما في راويهِ(3)نوعُ جرحٍ . وهذهِ أنواعٌ يأتي ذكرُهَا إنْ شاءَ اللهُ تباركَ وتعالى .
__________
(1) في ( ب ) : (( فأما )) .
(2) تعقَّب بعض الناس – على ما حكاه ابن حجر 1 / 234 – ابن الصلاح بأن في تعريفه هذا تكراراً ، كان بإمكانه اجتنابه لو قال : المسند المتصل ... الخ ، فيستغني عن تكرار لفظ الإسناد.
وأجاب عن هذا : بأنّه إنما أراد وصف الحديث المرفوع ؛ لأنه الأصل الذي يتكلّم عَلَيْهِ . والمختار في وصف المُسْنَد : أنه الحَدِيْث الذي يرفعه الصَّحَابيّ مَعَ ظهور الاتصال في باقي الإسناد . فعلى هَذَا لابدّ من التعرض لاتصال الإسناد في شرط الصَّحِيح . وانظر في محترزات وقيود ومناقشات هَذَا التعريف : الاقتراح 152 ، ونكت الزَّرْكَشِيّ 1 / 97 ، والتقييد والإيضاح : 20 ، ونكت ابن حجر 1 / 235 ، والبحر الذي زخر 1 / 310 .
(3) في ( ب ) و ( جـ ) : (( روايته )) .(1/13)
فهذَا(1)هو الحديثُ الذي يُحكمُ لهُ بالصِّحَّةِ بلا خلافٍ بينَ أهلِ الحديثِ(2). وقدْ يختلفونَ في صِحَّةِ بعضِ الأحاديثِ ؛ لاختلافِهِم في وجودِ هذهِ الأوصافِ فيهِ(3)أو لاختلافِهِم في اشتراطِ بعضِ هذهِ الأوصافِ كما في المرسَلِ .
ومتى قالُوا : (( هذا حديثٌ(4)صحيحٌ )) فمعناهُ : أنَّهُ اتَّصَلَ سَندُهُ معَ سائرِ الأوصافِ المذكورةِ ، وليسَ مِنْ شرطِهِ أنْ يكونَ مقطوعاً بهِ في نفس الأمرِ ، إذْ منهُ ما ينفردُ بروايتهِ عدْلٌ واحدٌ ، وليسَ مِنَ الأخبارِ التي أجمعَتِ(5)الأمّةُ عَلَى تَلَقِّيها بالقبولِ . وكذلكَ إذا قالوا في حديثٍ : (( إنَّهُ غيرُ صحيحٍ )) فليسَ ذلكَ قطعاً بأنَّهُ كذبٌ في نفس الأمرِ ، إذْ قدْ يكونُ صِدقاً في نفسِ الأمرِ ، وإنَّما المرادُ بهِ : أنَّهُ لَمْ يصحَّ إسنادُهُ على الشرطِ المذكورِ(6)، واللهُ أعلمُ .
فَوَائِدُ مُهِمَّةٌ :
__________
(1) في ( أ ) : (( هذا )) .
(2) قال العراقي في التقييد :20 : (( إنما قيّد الخلاف بأهل الحديث ؛ لأن غير أهل الحديث قد يشترطون في الصحيح شروطاً زائدة على هذه ، كاشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة ، فقد حكى الحازمي في شروط الأئمة ( ص 61 ) عن بعض متأخري المعتزلة ، على أنه قد حُكِيَ أيضاً عن بعض أصحاب الحديث )) . وانظر : نكت الزركشي 1 / 113 ، ونكت ابن حجر 1 / 238 .
(3) قال العراقي في التقييد : 21 : (( يريد بقوله : هذه الأوصاف ، أي : أوصاف القبول التي ذكرها في حدِّ الصحيح ، وإنّما نبَّهت على ذلك – وإن كان واضحاً – ؛ لأني رأيت بعضهم قد اعترض عليه ، فقال : إنه يعني الأوصاف المتقدّمة من إرسال وانقطاع وعضل وشذوذ وشبهها ... إلى آخر كلامه ، فراجعه فإنه مفيد ، وانظر : نكت الزركشي 1 / 115 .
(4) في ( جـ ) : (( الحديث )) .
(5) في ( أ ) : (( اجتمعت )) .
(6) انظر : نكت الزركشي 1 / 117 – 124 .(1/14)
إحداها : الصحيحُ يتنوَّعُ إلى متَّفَقٍ عليهِ ، ومُخْتَلَفٍ فيهِ(1)، كما سبقَ ذِكرُهُ ، ويتنوَّعُ إلى مشهُورٍ ، وغريبٍ ، وبَيْنَ ذلكَ . ثُمَّ إنَّ درجاتِ الصحيحِ تتفاوتُ في القوَّةِ بحَسَبِ تمكُّنِ الحديثِ مِنَ الصفاتِ المذكورةِ التي تَنْبَنِي(2)الصِّحَّةُ عليها ، وتنقسمُ باعتبارِ ذلكَ إلى أقسامٍ يُسْتَعْصَى إحْصاؤُها على العادِّ الحاصرِ .
ولهذا نرى الإمساكَ عَنِ الحكمِ لإسنادٍ أو حديثٍ بأنَّهُ الأصحُّ على الإطلاقِ(3)على أنَّ جماعةً مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ خاضُوا غَمْرَةَ(4)
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في المدخل إلى كتاب الإكليل : 29 – 43 ، ونكت الزركشي 1/125–128.
(2) في ( أ ) : (( تنبئ )) ، وفي ( ب ) : (( يبتني )) ، وفي ( جـ ) : (( تبنى )) ، وما أثبتناه من ( ع ) و ( م ) والتقييد والشذا الفياح .
(3) قال العراقي في شرح التبصرة 1 / 114 ( بتحقيقنا ) : (( القول المعتمد عليه المختار : أنّه لا يطلق على إسناد معين بأنّه أصحّ الأسانيد مطلقاً ؛ لأنّ تفاوت مراتب الصحَّة مترتب على تمكُّن الإسناد من شروط الصحة ؛ ويعزّ وجود أعلى درجات القبول في كلّ فردٍ فردٍ من ترجمة واحدة بالنسبة لجميع الرواة )) .
وانظر:نكت الزركشي 1/131–157 ، والتقييد والإيضاح 22 ، ونكت ابن حجر 1 / 247–262.
(4) خاضوا ، أي : اقتحموا . انظر : التاج 18 / 322 .
والغَمْرُ مِنَ الماءِ : خلافُ الضَّحْل ، وهو الذي يعلو مَنْ يدخله ويغطّيه . وغَمْرُ البحرِ : معظمه، والغَمْرة : الشدَّة ، والماء الكثير . انظر : اللسان 5 / 29 ، والمعجم الوسيط 1 / 262 .
وبيَّن السيوطي في شرح ألفية العراقي ( ص 100 ) معنى هذا فقال : (( أي : مشوا فيه ، من تشبيه المعقول بالمحسوس ، للإشارة إلى أن المتكلّم في ذلك كالخائض في الماء ، الماشي في غير مظنة المشي ، وهو يؤذن بعدم التمكن ، ولهذا اختلفوا فيه على أقوال كثيرة )) .(1/15)
ذلكَ ، فاضطربَتْ أقوالُهُم . فَرُوِّيْنا(1)عنْ إسحاقَ بنِ راهَوَيْهِ(2)
__________
(1) قال البقاعي في النكت الوفية 294 ب : (( قوله : رُوِّيْنا ، مضبوط في نسخ عديدة – بضمِّ الراء وتشديد الواو المكسورة – وهذا اصطلاح لابن الصلاح ، سَلَكَهُ ؛ لشدّة التَّحرِّي ، وَهُوَ أنه إذا حدّث بما حمَلَهُ
[ ممّن لَقِيَهُ هو وسَمِعَ منه مباشرةً ] قال : رَوَيْنا – بالفتح والتخفيف – أي : نَقَلْنَا لغَيْرِنا ، وإلاّ قال بالضمِّ – رُوِّيْنا – أي : نقل لنا شيوخُنا )) أ . هـ . وما بين المعكوفتين من كلام أبي غدّة ، وانظر : نكت الزركشي 1 / 128 ، وتوجيه النظر 2 / 921 مع تعليق المحقّق .
قال الزمخشري : (( ومنه قولهم : هو راوية للحديث ، وروى الحديثَ : حمله ، من قولهم : البعير يروي الماءَ ، أي: يحمله ، وحديثٌ مروِيٌّ ، وهم رواة الأحاديث وراووها : حاملوها ، كما يقال : رواة الماء )). أساس البلاغة :260 .
قال الزركشي 1 / 129 : (( ولهذا أطلقوا على المزادة التي يحمل فيها : راوية من باب مجاز المجاورة ، فإن راوية صيغة مبالغة ، وهي حقيقة للجمل ، فإطلاقه على ظرف الماء مجاز ، وليس هذا من باب : أروي الرباعي حتّى يستحقه الماء دون الجمل ؛ لأن اسم الفاعل منه : مَرْوٍ لا راوية ، وإنما يأتي راوية من الثلاثي)) . وانظر : اللسان 14 / 348 .
(2) قال الزركشي في نكته 1 / 129 : (( يجوز في ( راهويه ) فتح الهاء والواو وإسكان الياء ، ويجوز ضمُّ الهاء وإسكان الواو وفتح الياء ، وهذا الثاني هو المختار . وعن الحافظ جمال الدين المزّي أنّه قال: غالب ما عند المحدّثين ( فعلويه ) – بضم ما قبل الواو – إلاّ ( راهويه ) فالأغلب فيه عندهم فتح ما قبل الواو )) . وانظر : الأنساب 3 / 37 ، وسير أعلام النبلاء 11 / 358 ، وتدريب الراوي 1 / 338 .=
=أمّا معناه فقد قال الزركشي 1 / 131 : (( واعلم أن ( راهويه ) لقب لجده ، وسمِّي بذلك ؛ لأنه وُلِدَ في الطريق ، والرهو : الطريق ، وكان أبوه يكره أن يسمّى به )) . وانظر : تهذيب الكمال 1 / 176 .(1/16)
أنَّهُ قالَ : (( أصحُّ الأسانيدِ كلِّها : الزُّهريُّ عنْ
سالمٍ عنْ أبيهِ ))(1)، وَرُوِّيْنا نحوَهُ عنْ أحمدَ بنِ حنبلٍ(2). وَرُوِّيْنا عنْ عمرِو بنِ عليٍّ الفلاَّسِ أنَّهُ قالَ : (( أصحُّ الأسانيدِ : محمدُ بنُ سيرينَ عنْ عَبيدةَ(3)عنْ عليٍّ ))(4)، وَرُوِّيْنا نحوَهُ عنْ عليِّ بنِ المدِينيِّ(5)، ورُويَ ذلكَ عنْ غيرِهِما .
ثمَّ منهم(6)مَنْ عَيَّنَ(7)الراويَ عنْ محمدٍ وجعلَهُ أيُّوبَ السَّخْتِيانيَّ(8)،ومنهم(9)مَنْ جعلَهُ ابنَ عَوْنٍ . وفيما نرويهِ عَنْ يحيى بنِ مَعِينٍ أنَّهُ قالَ : (( أجودُها : الأعمشُ عنْ إبراهيمَ عَنْ عَلْقَمةَ عنْ عبدِ اللهِ(10)0) ))(11)1) ، وَرُوِّيْنا عنْ أبي بكرِ بنِ أبي شَيبةَ أنَّهُ(12)2) قالَ : (( أصحُّ الأسانيدِ كُلِّها : الزهريُّ عنْ عليِّ بنِ الحسينِ ، عنْ أبيهِ، عنْ عليٍّ(13)3) ))(14)
__________
(1) معرفة علوم الحديث : 54 ، والكفاية : ( 563 ت – 397 ه) .
(2) معرفة علوم الحديث : 54 .
(3) هو بفتح العين وكسر الباء ، بوزن سفينة . انظر : تبصير المنتبه 3 / 913 ، والتاج 8 / 345 .
(4) معرفة علوم الحديث 54 .
(5) المصدر السابق .
(6) هو سليمان بن حرب . انظر : شرح التبصرة والتذكرة 1 / 120 .
(7) في ( م ) : (( غيَّر )) .
(8) هو بفتح السين وسكون الخاء وكسر التاء ، هذه النسبة إلى عمل السِّخْتِيان وبيعها ، وهي جلود الماعز إذا دُبِغَتْ . انظر : الأنساب 3 / 255 ، والتاج 4 / 554 .
(9) هو علي بن المديني . انظر : شرح التبصرة والتذكرة 1 / 120 .
(10) 10) في ( جـ ) زيادة : (( ابن مسعود )) . وفي ( م ) : (( عُبيد الله )) ، مصغَّر محرف .
(11) 11) معرفة علوم الحديث : 54 .
(12) 12) ساقطة من ( ع ) والتقييد .
(13) 13) في ( أ ) : (( عن أبيه علي )) .
(14) 14) معرفة علوم الحديث : 53 . وهو قول عبد الرزاق الصنعاني . انظر : الكفاية ( 563 ت ،
397 ه) .(1/17)
4) . وَرُوِّيْنا عن أبي عبدِ اللهِ البخاريِّ – صاحبِ " الصحيحِ " – أنَّهُ قالَ : أصحُّ الأسانيدِ كُلِّها : مالكٌ عنْ نافِعٍ عنْ ابنِ عمرَ ))(1)5) . وبنى الإمامُ أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ بنِ طاهرٍ التَّمِيْمِيُّ(2)1) على ذلكَ أنَّ أجلَّ الأسانيدِ (( الشافعيُّ ، عنْ مالكٍ ، عنْ نافعٍ ، عنْ ابنِ
عمرَ )) ، واحْتَجَّ بإجماعِ أصحابِ الحديثِ على أنَّهُ لَمْ يكنْ في الرّواةِ عَنْ مالكٍ أجلُّ مِنَ الشافعيِّ - رضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ - ، واللهُ أعلمُ(3).
__________
(1) 15) معرفة علوم الحديث : 53 ، والكفاية : ( 563 ت ، 398 هـ ) .
(2) هو عبد القاهر بن طاهر البغدادي ، عالم متقن من أئمة الأصول ، له مؤلفات منها : الفرق بين الفرق ، ونفي خلق القرآن ، ومعيار النظر وغيرها ، توفي سنة ( 429 هـ ) . وفيات الأعيان 1 / 298 ، طبقات السبكي 3 / 238 ، الأعلام 4 / 173 .
(3) انظر عن هذه المسألة : نكت الزركشي 1 / 141،ومحاسن الاصطلاح:86،ونكت ابن حجر 1/262 .(1/18)
الثانيةُ(1): إذا وجدنا فيما يُروى مِنْ أجزاءِ الحديثِ وغيرِهَا حديثاً صحيحَ الإسنادِ، ولَمْ نجدْهُ في أحدِ ((الصحيحينِ))،ولا منصوصاً على صِحَّتِهِ في شيءٍ مِنْ مُصَنَّفَاتِ أئمَّةِ الحديثِ المعتمدةِ المشهورةِ،فإنَّا لا نتجاسرُ على جَزْمِ الْحُكْمِ بصِحَّتِهِ(2)، فقدْ تَعَذَّرَ في هذهِ الأعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيحِ بمجَرَّدِ اعتبارِ الأسانيدِ ؛ لأنَّهُ مَا مِنْ إسنادٍ مِنْ ذلكَ إلاَّ وتجدُ في رجالِهِ مَنِ اعْتَمَدَ في روايتِهِ عَلَى مَا في كتابِهِ عَرِيّاً عمَّا يُشترطُ في الصحيحِ مِنَ الحِفْظِ والضَّبْطِ والإتْقَانِ. فآلَ الأمرُ – إذنْ – في معرفةِ الصحيحِ والحسنِ ، إلى الاعتمادِ عَلَى مَا نصَّ عليهِ أئمَّةُ الحديثِ في تصانيفِهِم المعتمدةِ المشهورةِ ،الَّتِي يُؤمَنُ فِيْهَا ؛ لِشُهْرَتِها مِنَ التَّغييرِ والتَّحريفِ ، وصارَ مُعظمُ المقصودِ بما يُتَدَاولُ مِنَ الأسانيدِ خارجاً عنْ ذلكَ ، إبقاءَ سلسلةِ الإسنادِ التي خُصَّتْ بها هذهِ الأُمّةُ(3)،
__________
(1) راجع فيما يخصّ التصحيح في العصور المتأخرة : نكت الزركشي 1 / 158 ، والتقييد والإيضاح: 23 ، ونكت ابن حجر 1 / 266 . وكَتَبَ محقّق الشذا الفياح 1 / 71 تعليقاً موفقاً جداً ، وقد نقلناه في شرح التبصرة 1 / 150 ، فراجعه فإنه نفيس .
(2) في ( ب ) : (( على صحته )) .
(3) خالف الإمامُ النوويُّ ابنَ الصلاحِ فيما ذهب إليه ، فقالَ في التقريب : 41 : (( والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته )) .
قال العراقي في التقييد: 23 : (( وما رجَّحه الإمام النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث ، فقد صحَّحَ جماعة من المتأخّرين أحاديث لم نجد لمن تقدّمهم فيها تصحيحاً ... )) .
وقالَ الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحثيث : 29 : (( هذا هو الصواب )) ، ثمَّ علَّل ما ذهب إليه ابن الصلاح فقال : والذي أراه أنَّ ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة ، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه ، أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث . وهيهات !!! فالقول بمنع الاجتهاد قول باطل لا برهان عليه من كتاب ولا سنة ، ولا تجد له شبه دليل )) ، وقارن بما سبق . وانظر : التعليق على شرح التبصرة والتذكرة 1/150–154.(1/19)
زادها اللهُ تعالى شرفاً ، آمينَ.
الثالثةُ : أوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الصحيحَ البخاريُّ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ إسماعيلَ الْجُعْفِيُّ مولاهُم(1)، وتلاهُ أبو الحسينِ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ النَّيْسابوريُّ القُشَيْريُّ مِنْ أَنْفُسِهِم(2).
ومسلمٌ معَ أنَّهُ أخذَ عنِ البخاريِّ واستفادَ منهُ يشاركُهُ في أكثرِ(3)شيوخِهِ . وكتاباهُما أصحُّ الكُتُبِ بعدَ كتابِ اللهِ العزيزِ(4).
__________
(1) قال العراقي في التقييد 25 : (( اعترض عليه بأن مالكاً صنَّف الصحيح قبله .
والجواب : أن مالكاً – رحمه الله – لم يفرد الصحيح ، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات ، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف ، كما ذكره ابن عبد البرّ ، فلم يفرد الصحيح إذن ، والله أعلم )) . ولمزيد الفائدة انظر : نكت الزركشي 1 / 161 ، نكت ابن حجر 1 / 276 – 281 .
(2) أي : من بني قشير ، لا من مواليهم ، كما في حاشية المحاسن : 89 .
(3) في ( أ ) و ( ع ) : (( كثير من )) .
(4) قال الزركشي في نكته 1/163 : (( قال النووي : باتفاق العلماء فإن قيل : قد روى مسلم في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين : أهل الطبقة الثانية الذين ليسوا من شيوخ الصحيح قال النووي : فجوابه من أوجه ذكرها ابن الصلاح :
أحدها: أن ذلك فيمن هو ضعيف عند غيره ثقة عنده،ولا يقال:الجرح مقدم؛لأن شرط قبوله بيان السبب.
الثاني : أن ذِكْرَ الضعفاء في كتابيهما لم يوجد محتجاً به ، بل وقع متابعة واستشهاداً كمطر الورَّاق وبقيّة وابن إسحاق وعبد الله بن عمر العمري ونعمان بن راشد وغيرهم .
الثالث : أن يكون الضعف طرأ عليهم بعد أخذه عنهم ، باختلاط حديث لم يقدح فيما رواه عنهم قبل ذلك ، كرواية مسلم عن أحمد بن عبد الرحمان بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب ، فذكر الحاكم أنه اختلط بعد الخمسين ، وما بُيِّن بعد خروج مسلم من مصر .
الرابع : أن يقصد علو الإسناد بالرجل الضعيف ، والحديث عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ، ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفياً بمعرفة أهل الشأن ذلك،وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصاً)).
قلنا : الأمر كما ذكر الزركشي عن النووي ؛ ولكن لا بدّ من التنبيه على أن الشيخين ينتقيان من حديث الثقات ، وكذا من حديث الضعيف مما علما أنه لم يخطأ فيه . وانظر : ما علقناه على شرح التبصرة والتذكرة 1 / 144 .(1/20)
وأمَّا ما رُوِّيْناهُ عنِ الشافعيِّ - رضي الله عنه - مِنْ أنَّهُ قالَ : (( ما أعلمُ في الأرضِ كتاباً في العلمِ أكثرَ صواباً مِنْ كتابِ مالكٍ ))(1)ومنهم مَنْ رواهُ بغيرِ هذا اللفظِ(2)، فإنَّما قالَ ذلكَ قبلَ وجودِ كتابَي البخاريِّ ومسلمٍ .
__________
(1) أسنده ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل 1 / 12 ، والبيهقي في آداب الشافعي : 195 ، وابن حبان في المجروحين 1 / 41 ، وابن عبد البر في التمهيد 1 / 77 .
(2) انظر عن هذا اللفظ : نكت الزركشي 1/165،ونكت ابن حجر 1/281،وحاشية محققة المحاسن :90.(1/21)
ثُمَّ إنَّ كتابَ البخاريِّ أصحُّ الكتابَيْنِ صحيحاً وأكثرُهُما فوائدَ(1). وأمَّا ما رُوِّيْناهُ عنْ أبي عليٍّ الحافظِ النَّيْسابوريِّ أستاذِ الحاكمِ أبي عبدِ اللهِ(2)الحافِظِ مِنْ أنَّهُ قالَ : (( ما تحتَ أديمِ السماءِ كتابٌ أصحُّ مِنْ كتابِ مُسلمِ بنِ الحجَّاجِ ))(3)فهذا وقولُ مَنْ فضَّلَ مِن شيوخِ المغربِ كتابَ مسلمٍ على كتابِ البخاريِّ إن كانَ المرادُ بهِ أنَّ كتابَ مسلمٍ يترجَّحُ بأنَّهُ لَمْ يُمَازجْهُ غيرُ الصحيحِ ، فإنَّهُ ليسَ فيهِ بعدَ خُطبتِهِ إلاَّ الحديثُ الصحيحُ مسروداً غيرَ ممزوجٍ بمثلِ ما في كتابِ البخاريِّ في تراجمِ أبوابِهِ مِنَ الأشياءِ التي لَمْ يُسندْها على الوصفِ المشروطِ في الصحيحِ فهذا لا بأسَ بهِ(4). وليسَ يلزمُ منهُ أنَّ كتابَ مسلمٍ أرجحُ فيما يرجعُ إلى نفسِ الصحيحِ على كتاب البخاريِّ ، وإنْ كانَ المرادُ بهِ أنَّ كتابَ مسلمٍ أصحُّ صحيحاً ، فهذا مردودٌ على مَنْ يقولُهُ ، واللهُ أعلمُ .
__________
(1) انظر في المفاضلة بين الصحيحين : نكت الزركشي 1 / 165 ، ونكت ابن حجر 1 / 281 ، والبحر الذي زخر 2 / 530 .
(2) أستاذ الحاكم أبي عبد الله )) سقطت من ( ب ) .
(3) أسنده الخطيب في تاريخ بغداد 13 / 101 بمعناه . وللعلماء في توجيه هذا الكلام مباحثات . انظر : صيانة صحيح مسلم : 69 ، وسير أعلام النبلاء 16 / 55 ، وهدي الساري : 12 ، والنزهة : 86 ، وتدريب الراوي 1 / 93 – 95 .
(4) قال العراقي في التقييد 26 : (( قلت : قد روى مسلم بعد الخطبة في كتاب الصلاة بإسناده إلى يحيى بن أبي كثير أنه قال : (( لا يستطاع العلم براحة الجسم )) ، فقد مزجه بغير الأحاديث ، ولكنه نادر جداً بخلاف البخاري ، والله أعلم )) .
قلنا انظر : صحيح مسلم 2 / 105 ط إستانبول ، و 1 / 428 ( 175 ) ط عبد الباقي .(1/22)
الرابعةُ : لَمْ يَستوعبا الصحيحَ في صحيحَيْهِما ولا التزما ذلكَ(1)، فقدْ رُوِّيْنا عنِ البخاريِّ أنَّهُ(2)قالَ : (( ما أدخلْتُ في كتابي " الجامعِ " إلاَّ ما صحَّ ، وتركْتُ مِنَ الصِّحَاحِ لحالِ الطُّولِ ))(3). ورُوِّيْنا عنْ مسلمٍ أنَّهُ قالَ : (( ليسَ كُلُّ شيءٍ عندي ، صحيحٍ وَضَعْتُهُ هاهُنا – يعني : في كتابِهِ(4)الصحيحِ – إنَّما وضعْتُ هَاهُنا مَا أجْمعُوا عليهِ ))(5). قلتُ : أرادَ – واللهُ أعلمُ – أنَّهُ لَمْ يَضعْ في كتابِهِ إلاَّ الأحاديثَ التي وجدَ عندهُ فيها شرائطَ الصحيحِ الْمُجْمَعِ عليهِ ، وإنْ لَمْ يظهرْ اجتماعُها في بعضِها عندَ بعضِهِم(6).
__________
(1) انظر : نكت الزركشي 1 / 172 – 175 .
(2) في ( م ) : (( أن )) تحريف .
(3) رواه ابن عدي في الكامل 1 / 226 ، وفي أسماء مَن روى عنهم البخاري ( 4 أ ) ، والخطيب في تاريخ بغداد 2 / 8 – 9 ، والحازمي في شروط الأئمة الخمسة : 62 – 63 ، وانظر : هدي الساري 18 .
(4) في ( أ ) : خلال كتابه .
(5) صحيح مسلم 2 / 15 عقيب ( 404 ) .
(6) هذا أحد محملين حمل ابن الصلاح كلام مسلم عليهما ، والثاني : أنه لم يضع في كتابه ما اختلف فيه الثقات في نفس الحديث متناً أو إسناداً . ولم يرد بكلامه هذا ما كان اختلافهم فيه في توثيق بعض رواته وتضعيفهم . ورجَّحَ ابن الصلاح هذا الاحتمال الثاني . انظر : صيانة صحيح مُسْلِم: 74 – 75 .
ولكن ابن الصلاح استدرك فقال : (( ومع هذا فقد اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في متنها أو إسنادها ، وفي ذلك ذهول منه عن هذا الشرط أو سبب آخر ، وقد استدركت وعلَّلت )) .
وقد قيل في معناه أقوال أخر ، إذ قال القرطبي في مفهمه : (( مراده إجماع من لقيه من أهل النقل والعلم بالحديث )) . انظر : البحر الذي زخر 2 / 570 .
وقال الميانشي : (( يعني – [ إجماع ] – أئمة الحديث كمالك ، والثوري ، وشعبة ، وأحمد بن حنبل ، وابن مهدي وغيرهم )) . ما لا يسع المحدّث جهله 27 .
وقال البلقيني في محاسنه 91 : (( وقيل : أراد مسلم بقوله : (( ما أجمعوا عليه )) أربعة : أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعثمان بن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور الخراساني )) .(1/23)
ثُمَّ إنَّ أبا عبدِ اللهِ بنَ الأخرمِ الحافظَ قالَ : (( قَلَّمَا يَفُوتُ البخاريَّ ومسلماً ممَّا يَثْبُتُ مِنْ الحدِيْثِ ))(1)يعني : في كتابَيْهِما . ولِقائلٍ أنْ يقولَ : ليسَ ذلكَ بالقليلِ ، فإنَّ
"المستدركَ على الصحيحينِ" للحاكمِ أبي عبدِ اللهِ كتابٌ كبيرٌ يشتملُ ممَّا فاتهما علىشيءٍ كثير وإنْ يكنْ عليهِ في بعضِهِ مقالٌ ، فإنَّهُ يصفو لهُ منهُ صحيحٌ كثيرٌ. وقدْ قالَ البخاريُّ : (( أحفظُ مئةَ ألفِ حديثٍ صحيحٍ ، ومئتي ألفِ حديثٍ غيرِ صحيحٍ ))(2).
__________
(1) انظر : نكت الزركشي 1 / 179 – 188 . فقد أطال النفس بكلام نفيس . وانظر أيضاً : نكت ابن حجر 1 / 297 .
(2) أسنده ابن عدي في تقدمة الكامل 1 / 226 ، والخطيب في تاريخه 2 / 25 ، والحازمي في شروط الأئمة 61 ، وابن نقطة في التقييد : 33 .
قال الزركشي 1 / 178 : (( وقيل : إنه أراد المبالغة في الكثرة ، وهذا ضعيف ، بل أراد التحديد ، وقد نقل عن غيره من الحفّاظ ما هو أكثر من ذلك ، وعلى هذا ففيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد به تعدد الطرق والأسانيد .
والثاني : أن مراده بالأحاديث ما هو أعمّ من المرفوع والموقوف وأقاويل السلف ، وعلى هذا حمل البيهقي – في مناقب أحمد – قول أحمد : (( صحّ من الحديث سبع مئة ألف )) ، على أنه أراد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأقاويل الصحابة والتابعين ، فإن قلت : قد قال : ومئتي ألف غير صحيح ، فما فائدة حفظه
لذلك ؟؟ قلت : التمييز بينهما )) .=
=قلنا : وقد يراد الأمران كما أشار إليه المصنف ، وتابعه عليه العراقي في شرح التبصرة والتذكرة 1/130، والسيوطي في البحر الذي زخر 2 / 736 .(1/24)
وجملةُ ما في كتابِهِ الصحيحِ سبعةُ آلافٍ ومئتانِ وخمسةٌ وسبعونَ حديثاً بالأحاديثِ المكرَّرَةِ.وقدْ قيلَ:إنَّها بإسقاطِ المكرَّرَةِ أربعةُ آلافِ حديثٍ(1)،إلاَّ أنَّ هذهِ العبارةَ قدْ يندرجُ تحتَها عندهم آثارُ الصحابَةِ والتابعينَ،وربَّما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادينِ حديثينِ.
__________
(1) للاطّلاع على إحصائيات المتقدّمين لأحاديث الصحيحين ، انظر : نكت الزركشي 1 / 189، ومحاسن الاصطلاح:92،والتقييد والإيضاح:27، وشرح التبصرة والتذكرة 1/131، والبحر الذي زخر 2/719.
وقد قام السيد محمد فؤاد عبد الباقي بترقيم أحاديث البخاري " فتح الباري " فبلغت ( 7563 ) ورقم أحاديث صحيح مسلم فبلغت ( 3033 ) .
وذكر الحافظ العراقي في شرح التبصرة 1 / 131 ، أن ابن الصلاح لم يذكر عدة أحاديث مسلم قلنا : ولعله اكتفى بما ذكره في كتابه " صيانة صحيح مسلم " : 101 – 102 ، وانظر لزاماً تعليقنا على شرح التبصرة 1 / 131 هامش : ( 4 ) .(1/25)
ثُمَّ إنَّ الزيادةَ في الصحيحِ(1)على ما في الكتابينِ(2)يَتلقَّاهَا طالبُهَا ممَّا اشْتَمَلَ عليهِ أحدُ الْمُصَنَّفَاتِ المعتمدةِ المشتهرةِ(3)لأئمّةِ الحديثِ كأبي داودَ السِّجْسِتانيِّ ، وأبي عيسى التِّرمِذيِّ ، وأبي عبدِ الرحمانِ النَّسائيِّ(4)وأبي بكرِ بنِ خُزيمةَ ، وأبي الحسنِ الدَّارَقُطنيِّ وغيرِهِم ، منصوصاً على صحَّتِهِ فيها . ولا يكفي في ذلكَ مجرَّدُ كونِهِ موجوداً في كتابِ أبي داودَ ، وكتابِ الترمذيِّ ، وكتابِ النَّسائيِّ ، وسائرِ مَنْ جمعَ في كتابِهِ بينَ الصحيحِ وغيرِهِ ، ويكفي مجرَّدُ كونِهِ موجوداً في كتبِ مَنِ اشْتَرَطَ منهم الصحيحَ فيما جمَعَهُ ككتابِ ابنِ خُزَيمةَ ، وكذلكَ ما يوجدُ في الكُتبِ المخرَّجَةِ على كتابِ البخاريِّ وكتابِ مسلمٍ ، ك:كتابِ أبي عَوَانةَ الإسفرايينيِّ ، وكتابِ أبي بكرٍ(5)الإسماعيليِّ(6)، وكتابِ أبي بكرٍ البَرْقانيِّ،وغيرِها مِنْ تَتِمَّةٍ لمحذوفٍ أو زيادةِ شَرْحٍ في كثيرٍ مِنْ أحاديثِ "الصحيحينِ". وكثيرٌ من هذا موجودٌ في " الجمعِ بينَ الصحيحينِ " لأبي عبدِ اللهِ الْحُمَيديِّ(7).
__________
(1) في ( م ) : (( الصحيح المروي )) .
(2) راجع ما كتبه الزركشي في نكته 1 / 194 ، والعراقي في التقييد 27 ، وابن حجر في نكته 1 / 289 .
(3) في ( أ ) : (( المشهورة )) .
(4) ... في ( أ ) و ( جـ ) : (( النسوي )) .
(5) بفتح الباء ، وبعضهم يكسره . انظر : الأنساب 1/336 ، ومراصد الاطلاع 1/186 ،والتاج 25/40.
(6) وكتاب أبي بكر الإسماعيلي )) ، ساقطة من ( ب ) .
(7) قال العراقي في التقييد 28: ((وهو يقتضي أن ما وجد من الزيادات على الصحيحين في كتاب الحميدي : يحكم بصحته ، وليس كذلك ؛ لأن المستخرجات المذكورة قد رووها بأسانيدهم الصحيحة ، فكانت الزيادات التي تقع فيها صحيحة لوجودها بإسناد صحيح في كتاب مشهور على رأي المصنِّف ..وأما الذي زاده الحميدي في " الجمع بين الصحيحين " فإنه لم يروه بإسناده حتى ينظر فيه ، ولا أظهر لنا اصطلاحاً أنه يزيد فيه زوائد التزم فيها الصحة فيقلد فيها . وإنما جمع بين كتابين ، وليست تلك الزيادات في واحد من الكتابين ، فهي غير مقبولة حتى توجد في غيره بإسناد صحيح ، والله أعلم .
وقد نصَّ المصنِّف بعد هذا في الفائدة الخامسة التي تلي هذه أن مَن نقل شيئاً من زيادات الحميدي عن الصحيحين أو أحدهما فهو مخطئ ، وهو كما ذكر فمن أنزله ( كذا ) أن تلك الزيادات محكوم بصحتها بلا مستند ، فالصواب ما ذكرناه ، والله أعلم )) .
قلنا : قد تعقّب العراقيَّ تلميذُهُ ابنُ حجر في كلامِهِ هذا ببحث نفيس طويل فانظره في نكته 1 / 300 – 310 ، وانظر : تعليقنا على شرح التبصرة والتذكرة 1 / 140 .(1/26)
واعتنى الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ الحافظُ بالزيادةِ في عددِ الحديثِ الصحيحِ على ما في الصحيحينِ ، وجَمَعَ ذلكَ في كتابٍ سمَّاهُ " المستدركَ " أودَعَهُ ما ليسَ في واحدٍ مِنَ
" الصحيحينِ " ممَّا رآهُ على شرطِ الشيخينِ قدْ أخرجا عنْ رواتِهِ في كتابَيْهِما ، أو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ ، أو على شرطِ مسلمٍ وحدَهُ ، وما أدَّى اجتهادُهُ إلى تصحيحهِ وإنْ لَمْ يكُنْ على شرطِ واحدٍ منهما(1).
__________
(1) قال الزركشي في نكته 1 / 197 : (( فيه أمران :
أحدهما : نوزع في قوله : (( أودعه ما ليس في واحد منهما )) ، فإنَّهُ قد أودعه أحاديث في الصحيحين ، وهذا عجيب ، فإن هذه الأحاديث وقعت له سهواً ، على خلاف شرطه ، ولم يكن موضوع الكتاب لذلك ، ولا هو مقصوده ؛ إذ لا يكون ذلك استدراكاً حينئذٍ . فكلام المصنف صحيح .
الثاني : ما ذكره في شرطه ، قد تبعه عليه النووي وابن دقيق العيد وغيرهما ، وكأنهم لم يقفوا على شرط الحاكم ، والذي في خطبة المستدرك ما نصه : (( وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما )) انتهى .
وقال النووي : (( المراد بقولهم : (( على شرطهما )) : أن يكون رجال إسناده في كتابيهما ؛ لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما ولا في غيرهما )) . وعلى هذا عمل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ؛ فإنَّه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري – مثلاً – ثم يعترض عليه بأن فيه فلاناً ولم يخرج له البخاري ، وكذلك فعل الحافظ الذهبي في مختصر المستدرك ، وليس ذلك منهم بحسن ، لما ذكرنا من كلام الحاكم في خطبته أنه لم يشترط نفس الرجال المخرج لهم في الصحيح ، بل اشترط رواة احتج بمثلهم الشيخان أو أحدهما ، وإنما ينبغي منازعته في تحقيق المماثلة بين رجاله ورجال الصحيحين . =
= نعم ... القوم معذورون فإنه قال عقب أحاديث أخرجها : هو صحيح على شرط مسلم ، فقد احتج بفلان وفلان – يعني : المذكورين في سنده – ، فهذا منه جنوح إلى إرادة نفس رجال الصحيح ، وهو يخالف ما ذكره في مقدمة كتابه )) .
وقد تعقَّب الحافظُ ابنُ حجر شيخَهُ العراقيَّ الذي تبنّى رأي الزركشي نفسه كما في التقييد 29 ، فقال في نكته 1 / 320 مستدركاً : (( قلت : لكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما شيخنا – رحمه الله تعالى – فإنه إذا كان عنده الحديث قد أخرجا أو أحدهما لرواته ، قال : صحيح على شرط الشيخين أو أحدهما ، وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال : صحيح الإسناد حسب . ويوضّح ذلك قوله – في باب التوبة – لَمَّا أورد حديث أبي عثمان ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً : (( لا تنزع الرحمة إلاّ من شقيٍّ )). قال: هذا حديث صحيح الإسناد ، وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ، ولو كان هو النهدي لحكمت بالحديث على شرط الشيخين )) .
فدلَّ هذا على أنه إذا لم يخرجا لأحد رواة الحديث لا يحكم به على شرطهما ، وهو عين ما ادَّعى ابن دقيق العيد وغيره . وإن كان الحاكم قد يغفل عن هذا في بعض الأحيان ، فيصحح على شرطهما بعض ما لم يخرجا لبعض رواته ، فيحمل ذلك على السهو والنسيان ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض ، والله أعلم )) .
وفي صدد إيضاح منهج الحاكم في مستدركه وما أثارته مقالته في الشرط مع كثرة تعويل بعض المتعالمين على قوله هذا ، قال الإمام الزركشي – رحمه الله – موضحاً الأمر ومجلّياً ما قد خفي على هؤلاء الذين كان قصارى علمهم النقل ، وتلقي الكلام على علاّته ، والتسليم له من غير بحث وتدقيق. قال في نكته 1/198:
(( ثم إنه خالف الاصطلاحين في أثناء كتابه ، وقال – لما أخرج التاريخ والسير – : (( ولا بدَّ لنا من نقل كلام ابن إسحاق والواقدي )) .
واعلم أن ما اعتمده في تخريجه أن يرى رجلاً قد وثَّق وشهد له بالصدق والعدالة ، أو حديثه في الصحيح ، فيجعل كل ما رواه هذا الراوي على شرط الصحيح ، وفيه توقف ظاهر فإنه إنما يكون على شرط الصحيح إذا انتفت عنه العلل والشذوذ والنكارة وتوبع عليه ، فأما مع وجود ذلك أو بعضه فلا يكون صحيحاً ولا على شرط الصحيح .
ومن تأمل كلام البخاري ونظر في تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم في صحيحه عَلِمَ إمامته وموقعه من هذا الشأن ، وتبين له ما ذكرنا وأن الحال ليس مطّرداً على قانون واحد .
ونظير هذا من يرى الرجل قد تُكُلِّم في بعض حديثه وضُعِّف في شيخ أو في حديث ، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه ، وتضعيفه أين وجده ، كما يفعله كثير من المتأخرين من الظاهرية وغيرهم ، وهو غلط فإن تضعيفهم في رجل أو في حديث ظهر فيه غلطه لا يوجب ضعف حديثه مطلقاً .
ثمَّ العجب منه في شيئين :
أحدهما : أنه يخرج الحديث ويقول : (( على شرط الشيخين )) أو أحدهما ، ويكون الحديث بذلك اللفظ فيهما أو في أحدهما وقد وقع له ذلك في أحاديث )) ... فساق عشرة أمثلة ثم قال :
(( الأمر الثاني : ما يدعي أنه على شرط البخاري ، وقد ذكره البخاري على خلافه : منها : ما أخرجه عن سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن عبد العزيز بن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مَن وجد تمراً فليفطرْ عليهِ ، ومَنْ لا فليفطرْ على الماء فإنه طهور )) .
=وقال : (( على شرط الشيخين )) .
وليس كما قال ، فإن الترمذي في العلل قال: (( سألت محمداً عنه ، فقال : حديث سعيد بن عامر وهم .
ومنها : أخرج حديث عبد الله بن صالح ، عن يحيى بن أيوب ، عن ابن جريج ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعاً : (( من أذن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة )) ، وقال : على شرط البخاري .
ونقل البيهقي عن البخاري أن يحيى بن المتوكل رواه عن ابن جريج عمَّن حدّثه عن نافع ، وأن هذا أشبه ، فصحّح انقطاعه .
ومنها : أخرج من جهة جرير بن حازم ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : (( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل من المنبر فيعرض له الرجل في الحاجة فيقوم معه حتى يقضي حاجته )) .
وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وهذا الحديث أخرجه الأربعة من جهة جرير ، قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث جرير ، سمعت محمداً يقول : وهم جرير في هذا والصحيح ما روي عن ثابت ، عن أنس ، قال : (( أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ، الحديث هو هذا ، وجرير ربما يهم في الشيء وهو صدوق )) . انتهى كلام الزركشي ، وانظر : البحر الذي زخر 2 / 806 – 813 ، وانظر بلا بدّ : تعليقنا على شرح التبصرة والتذكرة 1 / 148 هامش ( 6 ) .(1/27)
وهوَ واسعُ الخَطْوِ في شرطِ الصحيحِ ، متساهِلٌ في القضاءِ بهِ(1). فالأَوْلَى أنْ نتوسَّطَ(2)في أمرِهِ فنقولَ : مَا حَكَمَ بصِحَّتِهِ وَلَمْ نَجِدْ(3)ذلكَ فيهِ لغيرِهِ مِنَ الأئمَّةِ ، إنْ لَمْ يكُنْ مِنْ قَبِيْلِ الصحيحِ فَهوَ مِنْ قَبيلِ الحسنِ يُحتجُّ بهِ ويُعْملُ بهِ ، إلاَّ أنْ تظهرَ فيهِ عِلَّةٌ تُوجِبُ ضَعْفَهُ(4)ويُقَاربُهُ في حُكْمِهِ " صحيحُ أبي حاتِمِ بنِ حِبَّانَ البُسْتِيِّ "(5)–رَحِمَهُمُ اللهُ أجمعينَ– واللهُ أعلمُ .
__________
(1) قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 17 / 175 : (( في المستدرك شيء كثير على شرطهما ، وشيء كثير على شرط أحدهما ، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقل ، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما ، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة ، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد ، وذلك نحو ربعه ، وباقي الكتاب مناكير وعجائب ، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها )) .
وقد قسم ابن حجر في نكته 1 / 314 – 319 : المستدرك إلى أقسام فانظرها فإنها مفيدة .
(2) في ( ب ) : يتوسط .
(3) في ( ج) : (( يجد )) .
(4) قال ابن جماعة : (( الحق أن يتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف )) .
قال العراقي في نكته 30 : (( وهذا هو الصواب )) . وانظر : نكت الزركشي 1 / 226 ، والبحر الذي زخر 2 / 845 – 846 .
(5) قال الزركشي في نكته 1 / 226 : (( أي : يقاربه فيما ذكر ، وليس كما قال ، بل صحيح ابن حبان أصح منه بكثير )) . وانظر : التقييد والإيضاح 30 – 31 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1 / 135 .(1/28)
الخامِسَةُ : الكتبُ الْمُخَرَّجَةُ(1)على كتابِ البخاريِّ أو كتابِ مسلمٍ -رضيَ اللهُ عنهما- لَمْ يلتزمْ مصنِّفُوها فيها موافقَتَهما في ألفاظِ الأحاديثِ بعينِها مِنْ غيرِ زيادةٍ ونقصانٍ ؛ لكونِهِم رَوَوْا تلكَ الأحاديثَ مِنْ غيرِ جهةِ البخاريِّ ومسلمٍ طَلَباً لِعُلُوِّ الإسنادِ، فحصلَ فيها بعضُ التفاوُتِ في الألفاظِ . وهكذا ما أخرجَهُ المؤلِّفُونَ في تصانيفِهِم المستَقِلَّة ك" السُّنَنِ الكَبِير " للبَيْهقيِّ ، و " شرحِ السُّنَّةِ " لأبي محمدٍ البَغَوِيِّ ، وغيرِهِما ممَّا(2)قالوا فيهِ : (( أخرجهُ البخاريُّ أو مسلمٌ )) ، فلا يُسْتَفَادُ(3)بذلكَ أكثرَ من أنَّ البخاريَّ أو مسلماً أخرجَ أصلَ ذلكَ الحديثِ ، مَعَ احتِمالِ أنْ يكونَ بينهما تفاوُتٌ في اللَّفظِ ، وربَّما كان تفاوتاً في بعضِ المعنى ، فقدْ وجدْتُ في ذلكَ ما فيهِ بعضُ التَّفاوتِ مِنْ حيثُ المعنى . وإذا كانَ الأمرُ في ذلكَ على هذا فليسَ لكَ أنْ تنقُلَ حديثاً منها وتقولَ : هو على هذا الوجهِ في كتابِ البخاريِّ ، أو كتابِ مسلمٍ ، إلاَّ أنْ تُقَابِلَ لفظَهُ ، أو يكونَ الذي خرَّجهُ قد قالَ : أخرجهُ البخاريُّ بهذا اللَّفظِ(4).
__________
(1) وحقيقته : أن يأتي المصنِّف إلى كتاب البخاري أو مسلم فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق البخاري أو مسلم ، فيجتمع إسناد المصنف مع إسناد البخاري أو مسلم في شيخه أو من فوقه )) . أفاده الزركشي في نكته 1 / 229 .
(2) في ( ج) : (( ما )) .
(3) في ( أ ) و ( ج) : (( فلا تستفيد ))،وفي ( ب ) : فلا يستفيد ))، وما أثبتناه من ( ع ) و ( م ) والتقييد.
(4) قال ابن حجر في نكته 1 / 310 : (( قلت : محصل هذا أن مُخَرِّج الحديث إذا نسبه إلى تخريج بعض المصنفين ، فلا يخلو : إما أن يصرّح بالمرادفة أو بالمساواة أو لا يصرّح . إن صرّح فذاك ، وإن لَم يصرّح كان على الاحتمال .
فإذا كان على الاحتمال فليس لأحد أن ينقل الحديث منها ويقول : هو على هذا الوجه فيهما ، لكن هل له أن ينقل منه ويطلق كما أطلق ؟ هذا محل بحث وتأمل )) .(1/29)
بخلافِ الكُتبِ المختصَرَةِ منَ الصحيحينِ ، فإنَّ مصنِّفِيها نقلُوا فيها ألفاظَ الصحيحينِ أو أحدهما(1)، غيرَ أنَّ " الجمعَ بينَ الصحيحينِ " لِلحُمَيديِّ الأندلسيِّ منها يشتملُ على زيادةِ تتمَّاتٍ لبعضِ الأحاديثِ كما قدَّمنا ذكرَهُ(2)، فربَّما نَقَلَ مَنْ لا يُمَيِّزُ بعضَ ما يجدهُ فيهِ عنِ الصحيحينِ أو أحدِهما ، وهو مخطِئٌ ؛ لكونِهِ مِنْ تلكَ الزياداتِ(3)التي لا وجودَ لها في واحدٍ(4)مِنَ الصحيحينِ . ثُمَّ إنَّ التخاريجَ المذكورةَ على الكتابينِ يُستفادُ منها فائدتانِ(5):
إحداهُما : عُلُوُّ الإسنادِ .
__________
(1) قال ابن حجر في نكته 1/312: (( محصله أن اللفظ إن كان متفقاً فذاك وإن كان مختلفاً فتارة يحكيه على وجهه ، وتارة يقتصر على لفظ أحدهما ، ويبقى ما إذا كان كل منهما أخرج من الحديث جملة لم يخرجها الآخر، فهل للمختصر أن يسوق الحديث مساقاً واحداً وينسبه إليهما ويطلق ذلك ، أو عليه أن يبيّن ؟
هذا محل تأمّل ، ولا يخفى الجواز ، وقد فعله غير واحد ، والله أعلم )) .
(2) قال الزركشي 1 / 230 – 231 : (( ومن هاهنا اعترض عليه – [ يعني : الحميدي ] – في إدخاله تلك الزيادات في الكتاب ، فإنَّه لم يذكرْها بإسناد لتتميز عن إيراد الصحيحين، وذكرها في ذيل الحديث موهماً أنها في الصحيح ، فليحذر من ذلك . وهذا بخلاف " الجمع بين الصحيحين " لعبد الحق ونحوه ، فإنه لا يأتي بغير لفظ الصحيح . وظاهر كلام ابن الصلاح أن الزيادات الواقعة في كتاب الحميدي لها حكم الصحيح ، وليس كذلك ؛ لأنه لم يروها بسند كالمستخرج ، ولا ذكر أنه يزيد ألفاظاً ويشترط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك )) .
(3) في ( جـ ) : (( الزيادة )) .
(4) في ( أ ) : (( أحد )) .
(5) انظر عن فوائد المستخرجات : نكت الزركشي 1 / 231 ، والتقييد والإيضاح 32، وشرح التبصرة والتذكرة 1 / 137 – 138 ، ونكت ابن حجر 1 / 321 .(1/30)
والثانيةُ : الزيادةُ في قدْرِ الصحيحِ لما يقعُ فيها مِنْ ألفاظٍ زائدةٍ وتَتِمَّاتٍ في بعضِ الأحاديثِ تُثْبِتُ(1)صِحَّتَها بهذهِ التخاريجِ ؛ لأنَّها واردةٌ بالأسانيدِ الثابتةِ في الصحيحينِ أو أحدِهِما وخارجةٌ مِنْ ذلكَ المَخْرَجِ الثابتِ ، واللهُ أعلمُ .
السادسةُ : ما أسنَدَهُ البخاريُّ ومسلمٌ – رحمهما اللهُ – في كتابَيْهِمَا بالإسنادِ المتَّصِلِ فذلكَ الذي حَكما بصحَّتِهِ بلا إشكالٍ . وأمَّا [ المعلَّقُ وهو ](2)الذي حُذِفَ مِنْ مبتدإِ إسنادِهِ واحدٌ أو أكثرُ ، وأغلبُ ما وقَعَ ذلكَ في كتابِ البخاريِّ(3)
__________
(1) في ( ب ) : (( ثبتت )) .
(2) ما بين المعكوفتين من (ع)و(م) والتقييد.وراجع في تفصيل أحكام التعاليق في الصحيحين: نكت الزركشي 1 / 232،والتقييد والإيضاح:32،وشرح التبصرة والتذكرة 1/156،ونكت ابن حجر 1/324 .
(3) قال ابن حجر في هدي الساري 469 : (( فجملة ما في الكتاب من التعاليق ألف وثلاث مئة وواحد وأربعون حديثاً وأكثرها مكرّر ، مُخَرَّجٌ في الكتاب أصول متونه ، وليس فيه من المتون التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مئة وستون حديثاً )) .
قلنا : وله كتاب فريد في بابه في وصل التعاليق التي في صحيح البخاري : تغليق التعليق ، طبع بتحقيق :
د. سعيد عبد الرحمن موسى القزقي ، ولخّصه الحافظ نفسه في هدي الساري 17–70 .(1/31)
وهو في كتابِ مسلمٍ قليلٌ جدّاً(1)ففي بعضِهِ نَظَرٌ . وينبغي أنْ نقولَ : ما كانَ مِنْ ذلكَ ونحوِهِ بلفظٍ فيهِ جَزْمٌ وحُكْمٌ بهِ على مَنْ عَلَّقَهُ عَنْهُ ، فقدْ حَكَمَ بصِحَّتِهِ عَنْهُ(2)،
__________
(1) بلغ ثلاثة مواضع فقط،وصل اثنان منها في صحيحه ، ثمَّ لَمَّا احتاج تكرارها علَّقها فلم يبقَ فيه غير حديث واحد معلّق غير موصول ، وهو حديث أبي الجهيم بن الحارث (( أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل ... الحديث )) ، حيث علَّقه مسلم بلفظ : (( وروى الليث بن سعد ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز،عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول:أقبلت أنا وعبد الرحمن بن يسار-مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتَّى دخلنا على أبي الجهيم فقال: ... الحديث)) صحيح مسلم 1/194 (369). وهذا الحديث وصله أحمد 4 / 169 من طريق أخرى ، وهي طريق الحسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، عن الأعرج .
ومن طريق الليث وصله : البخاري 1 / 92 ( 337 ) ، وأبو داود ( 329 ) ، والنسائي 1/165 ، وفي الكبرى ( 307 ) ، وابن خزيمة ( 274 ) ، وأبو عوانة 1 / 307 .
تنبيه : جميع من وصل الحديث ذكر : عبد الله بن يسار ، وانفرد مسلم بقوله : عبد الرحمان بن يسار . وانظر : التقييد والإيضاح : 32 – 33 ، ونكت ابن حجر 1 / 344 – 353 ، وشرح السيوطي على ألفية العراقي : 118 .
(2) قال الزركشي في نكته 1 / 236 : (( وهذا الذي ذكره من أن صيغة الجزم تدل على صحة الحديث ، والتمريض على ضعفه ، قد تبعه عليه أكثر الناس ، وقد اعترض عليه من جهتين : من جهة الصناعة ، ومن جهة الاستقراء .
فإن كان هذا قاله من جهة الصناعة فلا شكَّ أن قول البخاري – مثلاً – : (( قال )) بصيغة الجزم ليس ما يرى من قول التابعي الكبير : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الجزم ، وهو لا يقتضي صحة الحديث ، فبذلك ترى البخاري إذا علَّق الحديث لم يفد الصحة )) . ثمَّ قال :
((
وأما الاستقراء فلا يساعده ، فقد قال البخاري في كتاب العلم في باب الخروج في طلب العلم : رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد . انتهى .
هكذا جزم به ، ثم ذكره بصيغة التمريض في آخر الكتاب في الرد على الجهمية ، فقال : (( ويذكر عن جابر بن عبد الله ، عن عبد الله بن أنيس سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ... فذكره .
فدلّ على استواء الصيغتين عنده ، وإلاّ يلزم أن يكون الحديث الواحد ضعيفاً حسناً )) ، وقد ردَّ ابن حجر في الفتح 1 / 174 على قول الزركشي هذا فانظره ، وتأمل !! وانظر : تعليقنا على شرح التبصرة والتذكرة 1 / 163 – 165 .(1/32)
مثالُهُ : قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَذا وكذا ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ : كذا ، قالَ مجاهدٌ : كذا ، قالَ عَفَّانُ : كذا ، قالَ القَعْنَبِيُّ : كذا(1)، روى أبو هريرةَ : كذا وكذا ، وما أشبهَ ذلكَ مِنَ العباراتِ . فكلُّ ذلكَ حُكْمٌ مِنْهُ على مَنْ ذَكرَهُ عنهُ بأنَّهُ(2)قدْ قالَ ذلكَ ورَوَاهُ ؛ فلنْ يَسْتَجِيْزَ إطلاقَ ذلكَ إلاَّ إذا صحَّ عِندَهُ ذلكَ عنهُ ، ثمَّ إذا كانَ الذي علَّقَ الحديثَ عنهُ دُوْنَ الصحابةِ فالحُكْمُ بصِحَّتِهِ يتوقَّفُ على اتِّصَالِ الإسنادِ بينَهُ وبينَ الصحابيِّ .
__________
(1) قال العراقي في التقييد والإيضاح: 33: (( أن قوله – في أمثلة ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر -: قال عفان : كذا ، قال القعنبي : كذا ، ليس بصحيح ، ولم يسقط من هذا الإسناد شيء ، فإن عفان والقعنبي كلاهما من شيوخ البخاري الذين سمع منهم ، فما روى عنهما -ولو بصيغة لا تقضي التصريح= =بالسماع – فهو محمول على الاتصال ، وقد ذكره ابن الصلاح كذلك على الصواب في النوع الحادي عشر من كتابه في الرابع من التفريعات التي ذكرها فيه ... )) إلى آخر كلامه .
(2) في ( جـ ) : (( كأن )) .(1/33)
وأمَّا ما لَمْ يَكُنْ في لفظِهِ جَزْمٌ وحُكْمٌ ، مثلُ : رُويَ عنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : كذا وكذا ، أو رُويَ(1)عنْ فلانٍ : كذا وكذا(2)أو في البابِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : كذا وكذا ، فهذا وما أشْبَهَهُ مِنَ الألفاظِ ليسَ في شيءٍ منهُ(3)حُكْمٌ منهُ(4)بصحَّةِ ذلكَ عمَّنْ ذكَرَهُ عنهُ ؛ لأنَّ مثلَ هذهِ العباراتِ تُستَعملُ في الحديثِ الضعيفِ أيضاً ، ومعَ ذلكَ فإيرادُهُ لهُ في أثناءِ الصحيحِ مُشْعِرٌ بصِحَّةِ أصْلِهِ إشعاراً يُؤْنَسُ بهِ ويُرْكَنُ إليهِ ، واللهُ أعلمُ .
__________
(1) في ( ب ) : (( وروي )) .
(2) كذا )) الثانية من ( ب ) و ( جـ ) و ( ع ) فقط .
(3) منه )) سقطت من ( ب ) .
(4) كذلك .(1/34)
ثُمَّ إنَّ ما يتقاعدُ مِنْ ذلكَ عنْ شَرطِ الصحيحِ قليلٌ(1)، يوجَدُ في كتابِ البخاريِّ في مواضعَ مِنْ تراجمِ الأبوابِ دونَ مقاصِدِ الكتابِ وموضوعِهِ الذي يُشْعِرُ بهِ اسمُهُ الذي سمَّاهُ بهِ ، وهوَ " الجامعُ المُسْنَدُ الصحيحُ المختصرُ مِنْ أُمورِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وسُنَنِهِ وأيَّامِهِ " . وإلى الخصوصِ الذي بيَّناهُ يرجعُ مطلقُ قولِهِ: (( ما أدخلْتُ في كتابِ الجامعِ إلاَّ ما صحَّ )). وكذلكَ مُطْلَقُ قولِ الحافظِ أبي نَصْرٍ الوايليِّ السِّجْزِيِّ(2): (( أجمعَ أهلُ العِلْمِ – الفقهاءُ(3)وغيرُهُم(4)– أنَّ رَجُلاً لَو حَلَفَ بالطَّلاَقِ أنَّ جميعَ ما في كتابِ البخاريِّ ممَّا رُويَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ صحَّ عنهُ ، ورسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَهُ(5)لا شَكَّ فيهِ أنَّهُ لا يَحْنَثُ(6)، والمرأةُ بحالِها في حِبَالتِهِ(7)
__________
(1) قال ابن حجر في نكته 1 / 324 : (( أقول : بل الذي يتقاعد عن شرط البخاري كثير ليس بالقليل إلا أن يريد بالقلة قلة نسبية إلى باقي ما في الكتاب فيتجه ، بل جزم أبو الحسن بن القطان بأن التعاليق التي لم يوصل البخاري إسنادها ليست على شرطه ... )) إلى آخر كلامه فانظره فإنه بحث ممتع .
(2) السِّجْزِي – بكسر السين وسكون الجيم – : نسبة إلى سِجِستان على غير قياس . انظر : الأنساب 3/246 ، وانظر : التعليق في : 489 من هذا الكتاب .
(3) في ( جـ ) : (( والفقهاء )) .
(4) بعد هذا في ( ع ) زيادة : (( على )) .
(5) في ( ب ) : (( قد قاله )) .
(6) الحِنْث : الخُلْفُ في اليمين ، حَنِثَ في يمينِهِ حِنْثاً وحَنَثاً : لَمْ يبرَّ فيها . لسان العرب 2 / 151 .
(7) الحِبالة – بالكسر – : هي ما يصاد بها من أي شيء كانت ، والجمع: حبائل، ومنه : ما روي : (( النساء حبائل الشيطان )) أي : مصايده ، والمراد هنا : في عصمته ..انظر: النهاية 1/333 واللسان 11/ 136 .(1/35)
)(1).
وكذلكَ ما ذكرَهُ أبو عبدِ اللهِ الْحُمَيديُّ في كتابِهِ " الجمعِ بينَ الصحيحينِ " من قولِهِ : (( لَمْ نجدْ مِنَ الأئمَّةِ الماضينَ – رضيَ اللهُ عنهُم أجمعينَ – مَنْ أفصَحَ لنا في جميعِ ما جمَعَهُ بالصِّحَّةِ إلاَّ هذينِ الإمامَيْنِ ))(2). فإنَّما المرادُ بكلِّ ذلكَ مقاصدُ الكتابِ وموضوعُهُ ومتونُ الأبوابِ ، دونَ التراجمِ ونحوُهَا ؛ لأنَّ في بعضِها مَا ليسَ مِنْ ذلكَ قطعاً ، مثلُ : قولِ البخاريِّ: (( بابُ مَا يُذكَرُ في الفَخِذِ ، ويُروى عنِ ابنِ عبَّاسٍ، وجَرْهَدٍ(3)،ومحمدِ بنِ جَحْشٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : الفَخِذُ عوْرَةٌ ))(4)،
__________
(1) انظر : نكت الزركشي 1 / 249 ، والتقييد والإيضاح : 38 .
(2) انظر : الجمع بين الصحيحين 3 أ .
(3) بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الهاء . انظر : فتح الباري 1 / 478 .
(4) صحيح البخاري 1 / 103 عقيب ( 370 ) .
وحديث ابن عباس : أخرجه أحمد 1 / 275 ، والترمذي ( 2796 ) ، والطحاوي في شرح المعاني 1/474 ، والبيهقي 2 / 228 . من طريق أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مرفوعاً. وسنده ضعيف؛ لضعف أبي يحيى القتات . ليَّنه الحافظ في التقريب ( 8444 ) .
وحديث جرهد : أخرجه عبد الرزاق ( 1115 ) و ( 1988 ) ، والحميدي ( 857 ) ، وابن أبي شيبة (26692) ، وأحمد 3 / 478 و 479 ، والدارمي ( 2650 ) ، والبخاري في تاريخه الكبير 5/(154)، وأبو داود ( 4014 ) ، والترمذي ( 2795 ) ، والطحاوي في شرح المشكل ( 1701 ) و ( 1702 ) ، وفي شرح المعاني 1 / 475 ، وابن حبان (1710) والطبراني في الكبير ( 2138 ) – ( 2151 ) ، والدارقطني 1/224،والبيهقي 2/228. وحديثه مضطرب جداً. قال ابن عبد البر في الاستيعاب 1/255 متحدّثاً عن جرهد : (( لا تكاد تثبت له صحبة روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الفخذ عورة )) ، وقد رواه غيره جماعة ، وحديثه ذلك مضطرب )) . =
=وانظر فيه : بيان الوهم والإيهام 3 / 338 ( 1082 ) و ( 1083 ) فقد أطال النفس فيه ، ونصب الراية 1 / 241 – 242 ، وأثر علل الحديث 243 – 246 .
وحديث محمد بن جحش : أخرجه أحمد 5 / 289 – 290 ، وعبد بن حميد (367) ، والنسائي 7/314 ، والحاكم 4/180 ، والبغوي ( 2251 ) . قال الزيلعي في نصب الراية 4 / 245 عن إسناد أحمد : (( هذا مسند صالح )) .
قلنا : وكذلك ورد من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، مرفوعاً . بلفظ : (( إذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره ، فلا ينظر إلى شيء من عورته ؛ فإنَّما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته )) . أخرجه أحمد 2/187 ، وأبو داود ( 496 ) ، والبيهقي 2/228 – 229 ، وسنده قوي .(1/36)
وقولُهُ في أوَّلِ بابٍ من أبوابِ الغُسْلِ : (( وقالَ بَهْزُ [ بنُ حَكِيْمٍ ](1)، عنْ أبيهِ ، عنْ جَدِّهِ ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحيى منهُ ))(2). فهذا قطعاً ليسَ مِنْ شرطِهِ ؛ ولذلكَ(3)لَمْ يورِدْهُ الحُمَيديُّ في " جمعهِ بينَ الصحيحينِ " ، فاعلمْ ذلكَ فإنَّهُ مهمٌّ خافٍ ، واللهُ أعلمُ(4).
السابعةُ : وإذا انتهى الأمرُ في مَعْرِفَةِ الصحيحِ إلى ما خرَّجَهُ الأئمَّةُ في تصانيفِهِم الكافلةِ ببيانِ ذلكَ كما سبقَ ذِكرُهُ ، فالحاجَةُ ماسَّةٌ إلى التنبيه على أقسامِهِ باعتبارِ ذلكَ(5):
فأوَّلُها : صحيحٌ أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ جميعاً .
الثاني : صحيحٌ انفَرَدَ بهِ البخاريُّ ، أيْ : عنْ مسلمٍ .
الثالثُ : صحيحٌ انفَرَدَ بهِ مسلمٌ ، أيْ : عنِ البخاريِّ .
الرابعُ : صحيحٌ على شرطِهِما لَمْ يُخَرِّجاهُ .
الخامسُ : صحيحٌ على شرطِ البخاريِّ لَمْ يخرِّجْهُ .
السادسُ : صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ لَمْ يُخَرِّجْهُ .
__________
(1) لَم ترد في النسخ الخطية ولا في متن البخاري المطبوع،وهي من (ع) و ( م ) والتقييد ونكت الزركشي.
(2) صحيح البخاري 1 / 78 عقيب ( 277 ) . وقد وصله عبد الرزاق ( 1106 ) ، وأحمد 5 / 3 و 4 ، وأبو دواد ( 4017 ) ، وابن ماجه ( 1920 ) ، والترمذي ( 2769 ) و ( 2794 ) ، والنسائي في الكبرى ( 8972 ) ، والحاكم 4 / 179 ، وأبو نعيم 7 / 121، والبيهقي 1 / 199 ، والخطيب في تاريخه 3 / 261 . وقال اللكنوي في ظفر الأماني 164 : (( هو حديث حسن مشهور )) .
(3) في ( ب ) : (( وكذلك )) .
(4) راجع نكت الزركشي : 1 / 252 – 254 .
(5) تعقَّب بعضُ العلماء ابنَ الصلاح حول هذا التقسيم ، ودارت بينهم مناقشات ، انظرها في : نكت الزركشي 1 / 254 ، وشرح التبصرة والتذكرة 1 / 142 مع تعليقنا ، ونكت ابن حجر 1 / 363 ، وتوجيه النظر 1 / 290 مع تعليقات محققه .(1/37)
السابعُ : صحيحٌ عندَ غيرِهما ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهما .
هذهِ أمَّهاتُ أقسامِهِ وأعلاهَا : الأوَّلُ وهو الذي يقولُ فيهِ أهلُ الحديثِ كثيراً : (( صحيحٌ متَّفَقٌ عليهِ )) يُطْلِقُونَ ذلكَ ويَعْنونَ بهِ اتِّفاقَ البخاريِّ ومسلمٍ ، لا اتِّفاقَ الأمَّةِ(1)عليهِ ، لكنَّ اتِّفَاقَ الأمَّةِ عليهِ لازمٌ منْ ذلكَ ، وحاصِلٌ معهُ ؛ لاتِّفاقِ(2)الأمَّةِ على تلقِّي ما اتَّفَقا عليهِ بالقبولِ .
وهذا القسمُ جميعُهُ مقطوعٌ بصِحَّتِهِ ، والعِلْمُ اليقينيُّ النَّظريُّ واقعٌ بهِ ، خلافاً لقولِ مَنْ نَفَى ذلكَ ، مُحْتَجّاً بأنَّهُ لا يُفيدُ في أصلِهِ إلاَّ الظَّنَّ(3)، وإنَّما تلقَّتْهُ الأمَّةُ(4)بالقبولِ ؛ لأنَّهُ يجبُ عليهمُ العملُ بالظَّنِّ ، والظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ . وقدْ كنتُ أميلُ إلى هذا ، وأحسبُهُ قويّاً ثُمَّ بانَ لي أنَّ المذهبَ الذي اخْتَرْناهُ أوَّلاً هوَ الصحيحُ ؛ لأنَّ ظَنَّ مَنْ هوَ معصومٌ مِنَ الخطأِ لا يُخْطِئُ ، والأمَّةُ في إجماعِها مَعْصومةٌ مِنَ الخطأِ ، ولهذا كانَ الإجماعُ الْمُبْتَنَى(5)على الاجتهادِ حُجَّةً مقطوعاً بها ، وأكثرُ إجماعاتِ العلماءِ كذلكَ .
__________
(1) في ( أ ) و ( ب ) : (( الأئمَّة )) .
(2) في ( م ) : (( باتفاق )) .
(3) ينظر عن مسألة إفادة أحاديث الصحيحينِ لليقين أو الظنِّ : نكت الزركشي 1 / 276 ، ومحاسن الاصطلاح : 101 ، ونكت ابن حجر 1/371 ، والبحر الذي زخر 1/335 ، وتوجيه النظر : 307.
(4) في ( جـ ) : (( الأئمة )) .
(5) في ( م ) : (( المبني )) .(1/38)
وهذهِ نكتَةٌ نفيسةٌ نافعةٌ ، ومِنْ فوائدِها : القولُ بأنَّ ما انفردَ بهِ البخاريُّ أو مسلمٌ مندرجٌ في قبيلِ ما يُقْطَعُ بصِحَّتِهِ ؛ لتَلَقِّي الأمَّةِ كلَّ واحدٍ من كتابَيْهما بالقبولِ على الوجهِ الذي فصَّلناهُ مِنْ حالِهِما فيما سبقَ ، سوى أحرفٍ يسيرةٍ(1)تكلَّمَ عليها بعضُ أهلِ النَّقْدِ مِنَ الحفَّاظِ كالدَّارقطنيِّ وغيرِهِ ، وهي معروفةٌ عِندَ أهلِ هذا الشأْنِ ، واللهُ أعلمُ .
__________
(1) هي ليست باليسيرة ، فقد بلغت انتقادات الدارقطني وحده ( 218 ) ، وهذا فيما سوى ما انتقده أبو مسعود الدمشقي ، وأبو الفضل بن عمار ، وأبو علي الجياني . =
=ولربما أراد ابن الصلاح أنها يسيرة نسبياً إلى ما لا انتقاد عليه . والحقيقة أن هذهِ الانتقادات تتفرع عن الأقسام الآتية :
أ- الزيادة التي تقع في بعض الأحاديث .إذ قد ينفرد ثقة بزيادة لا يذكرها من هو مثله أو أحفظ منه ، فتحميل هذا الثقة تبعه أنه قد يكون غلط؛ ظن مجرد ، وغاية ما فيها أنها زيادة ثقة لا تنافي رواية الأحفظ والأكثر.
ب- الحديث الذي قد يرويه تابعي، المشهور أن روايته عن صحابي معين سمع منه، فيروي الحديث بواسطة عن ذلك الصحابي،فيعلل الأول بزيادة الراوي في الطريق الثانية.وهذا مندفع بأنه لا مانع من كون ذلك التابعي قد سمع ذلك الحديث بعينه من ذلك الصحابي مباشرة ثم سمعه بواسطة وهكذا يكون الأمر فيمن بعدهم .
جأن يشير صاحب الصحيح إلى علته ، كأن يرويه مسنداً ثم يذكر أنه روي مرسلاً ، فهذا من صاحب الصحيح ترجيح لرواية الواصل على المرسل .
د- ما يكون مداراً للاجتهاد وتكون علته مرجوحة بالنسبة إلى صحته .
وانظر : نكت الزركشي 1 / 287 ، والتقييد والإيضاح : 42 ، وابن حجر 1 / 380 .(1/39)
الثامنةُ : إذا ظهرَ بما قدَّمناهُ انحصارُ طريقِ معرفةِ الصحيحِ والحسنِ الآنَ في مراجعةِ الصحيحينِ وغيرِهما مِنَ الكتبِ الْمُعتمَدةِ ، فسبيلُ مَنْ أرادَ العملَ أو الاحتجاجَ بذلكَ إذا كانَ(1)ممَّنْ يسوغُ لهُ العملُ بالحديثِ أو الاحتجاجُ بهِ لذي مَذْهَبٍ أنْ يرجعَ إلى أصلٍ قدْ قابَلَهُ هو أو ثقةٌ غيرُهُ بأصولٍ صحيحةٍ متعدِّدةٍ(2)مرويةٍ برواياتٍ متنوعةٍ(3)؛ ليحصلَ لهُ بذلكَ – مَعَ اشتهارِ هذهِ الكتبِ وبُعْدِها عنْ أنْ تُقصَدَ بالتبديلِ والتحريفِ – الثقةُ بصِحَّةِ ما اتَّفَقَتْ عليهِ تلكَ الأصولُ ، واللهُ أعلمُ .
__________
(1) إذا كان )) : ساقطة من ( جـ ) .
(2) في ( جـ ) : (( معددة )) .
(3) قال العراقي في التقييد : 43 : (( ما اشترطه المصنِّف من المقابلة بأصول متعددة ، قد خالفه فيه الشيخ محيي الدين النووي ، فقال : وإن قابلها بأصل معتمد محقق أجزأه . قلت : وفي كلام ابن الصلاح في موضع آخر ما يدل على عدم اشتراط تعدد الأصل ، فإنه حين تكلم في نوع الحسن أن نسخ الترمذي تختلف في قوله : حسن أو حسن صحيح ، ونحو ذلك . قال : فينبغي أن تصحح أصلك بجماعة أصول وتعتمد على ما اتفقت عليه . فقوله هنا : ينبغي ، يعطي عدم اشتراط ، والله أعلم )) .
قلنا : تعقبه تلميذه ابن حجر فقال في نكته 1 / 384 : (( أقول : ليس بين كلاميه مناقضة ، بل كلامه هنا مبني على ما ذهب إليه من عدم الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد ؛ لأنه علل صحة ذلك بأنه ما من إسناد إلا ونجد فيه خللاً ، فقضية ذلك أن لا يعتمد على أحدهما بل يعتمد على مجموع ما تتفق عليه الأصول المتعددة ؛ ليحصل بذلك جبر الخلل الواقع في أثناء الأسانيد .
وأما قوله في الموضع الآخر : ينبغي أن تصحح أصلك بعدة أصول ، فلا ينافي قوله المتقدم ؛ لأن هذِهِ العبارة تستعمل في اللازم أيضاً ، والله أعلم )) . وانظر : التقريب والتيسير : 42 .(1/40)