ذخائر العرب 64:
مُقَدِّمَة ابْن الصَّلاح ومَحَاسِنُ الاصْطِلاح.
طبعة جديدة مُحَرَّرة.
د. عَائِشَةَ عَبْدالرَّحْمَن
(بنت الشَّاطِئ)
أستاذ الدراسات العليا
كلية الشريعة بفاس: جامعة القرويين.
دار المعارف.(1/1)
الناشر: دار المعارف - 1119 كورنيش النيل - القاهرة ج. م. ع(1/2)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ "
الإهداء
إلى مَن أعزَّني اللهُ تعالى بهِ أباً تقيَّاً زكِيَّاً ومعلماً مرشداً ورائداً ملهماً وإماماً مهيباً قدوة: فضيلة والدي العارف بالله العالم العامل: " الشيخ محمد علي عبد الرحمن الحسيني "
نذرني - رضي الله عنه - لعلوم الإِسلام، ووجهني من المهد إلى المدرسة الإسلامية، وقاد خُطاي الأولى على الطريق السوِيّ، يحصنني بمناعة تحمي فطرتي من ذرائع المسخ والتشويه.
وإلى أمي " السيدة فريدة عبد السلام منتصر " والجنة تحت أقدامها.
وإلى شيخي الإمام الجليل الأصولي: " الأستاذ أمين الخولي ".
الذي أدين له بتأصيل المنهج وترسيخ جذوري في المدرسة الإسلامية، وما علمني من أصول مناهجها وذخائر تراثها، ما أحقق به وجودي العلمي.
وإلى ابنتي الغالية، فقيدة العلم والشباب " الدكتورة أمين أمين الخولي " تفانت في طلب العلم، بذلاً وإِيماناً ومجاهدة وتجلت لها في دراستها العليا للرياضيات بجامعة فيينا آيات القدرة الإلهية، وكانت المثال الأصيل النبيل لطالبة علم مصرية مسلمة، عربية.
سلام عليكم في جوار الله تعالى.
مع الصديقين والشهداء " وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ".(1/3)
بياض بالأصل.(1/4)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم رسل الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
" اللهمَّ يَسِّرْ وأَعِن ".
هذه الطبعة:
ظهرت الطبعة الأولى مِن (مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح) من مركز تحقيق التراث بدار الكتب القومية بالقاهرة، سنة (1394 هـ: 1974 م) بعد أن استغرق طبعها في مطبعة الدار أكثر من خمس سنوات، في ظروف صعبة. فخرجت الطبعة مشوبة بأوهام وأخطاء وتصحيفاتٍ حاولتُ استدراك ما تنبه إليه منها وقتئذ، في ملحق بالطبعة لم يخل من وهم وخطأ وتصحيف، فضلاً عما فاتني من قصور في منهج التحقيق والتوثيق. وبلغ بي الضيق بذلك أن تمنيت على الله - عز وجل -، أن ييسر لي قبل الرحيل، إعداد طبعة جديدة محررة متقنة. واستجاب الله لدعائي، له الحمد والمنّة، فعكفت على إنجاز هذه الطبعة المحررة، قدر ما وسع الجهد وأسعفت الوسائل.
لم يكن الأمر، كما في الطبعة الأولى، مجرد إخراج متن من (المقدمة والمحاسن) من أصول لهما موثقة. فكل منهما قد قرئ على مصنفه ووثقه بخطه. وقد ظل أولهما بوجه خاص، مشغلة علماء الحديث من عصر ابن الصلاح فما بعده، بحيث يمكن لأهل الاختصاص التنبه إلى ما قد يقع في طبعاته، وقد تعددت، من أخطاء وأوهام.(1/5)
بل الأمر فيما ينبغي لتوثيق المتن، من مقابلة كل ما فيه من نقول على أصولها في الكتب التي نقل منها المصنف، صرَّح بأسمائها أو أبهم. واقتضى هذا وجوب البدء أولاً بجمع ما وصل إلينا من الكتب المصرح بها في نقول ابن الصلاح والسراج البلقيني، ومنها نوادر غير متداولة، ما بين مطبوع ومخطوط .. والمطبوع قلما يخلو من تصحيف وخلل ووهم، والمخطوطات لا تسلم من طمس وتآكل وخرم، وغالباً ما تكون كلماتها غير منقوطة، ومتونها خالية من الفواصل وعلامات الترقيم، وقد تكون على هوامشها إضافات دون علامة لمخارجها، تميز ما هو منها لحق لسقطٍ من المتن، وما هو من الحواشي عليه، للمصنف أو لغيره.
وكشفت المقابلة للنقول في (المقدمة والمحاسن) على ما تيسر لي من مصادرها، عن مواضع غير قليلة من الإِدراج والسقط والوهم، ما كان يمكن اتقاؤها ومصادر النقل ليست بين أيدينا، فكان أن تورطنا في ضبطها على السياق، اجتهاداً فيما لا مجال فيه لاجتهاد. كما وجهت المقابلةُ إلى ما يكون من اختلاف النقل عن نصه في المصدر المنقول منه. وقد جرينا فيما مضى على اعتماد مصادر النقل في مواضع الاختلاف، دون أن نقدر احتمال أن يكون النقل صحيحاً، وأن الخطأ في المصدر أو المرجع المنقول منه، لوهم من مؤلفه أو ناسخه أو ناشره وطابعه، وبهذا تثقل تكاليف التحقيق بالرجوع إلى مصادر أخرى مما يُحتكَم إليه في مثل هذا الاختلاف.
وكان من الإِخلال بقواعد المنهج كذلك، أن قصرتُ في الطبعة الأولى في تخريج الأحاديث بالمقدمة والمحاسن، اقتصاراً على الاطمئنان إليها بوجودها في كتب الحديث والسنن. وما كان ينبغي أن أغفل أن علماء المصطلح يشغلون بالحديث المرفوع أو الموقوف والمرسل والمنقطع والمقطوع والمعضل، والمدرج والشاذ والغريب، والمعلل، والضعيف، والمدلس والمنسوخ، والموضوع .. وذلك كله مما لا شأن لمفهرسي الأحاديث به، وقد يكون الحديث مخرجاً من طرقه الصحاح في كتب الحديث الأمهات، ويتعلق(1/6)
الأمر عند علماء المصطلح بإسناد معين أو رواية بذاتها، في كتاب منها أو في كتب غيرها من المصنفات الحديثية. وأشق ما تكون المعاناة حين لا يذكرون متن الحديث أو بابه، بل يكتفون بطرف منه أو كلمة، أو إشارة إلى إحدى طرقه، كأن يقولوا: الحديث الذي رواه فلان عن فلان وأنكر المروي عنه أنه روّاه إياه، أو الحديث الذي رواه فلان عن شيخ يشارك فيه عدد من الرواة، قل أو كثر، تشابهت أسماؤهم أو ألقابهم وكناهم وأنسابهم .. ونحو ذلك من الإِشارات التي بعُد العهد بمن كانوا يعرفونها بمجرد الإِشارة إليها، وأما نحن، في عصرنا البائس، فلا غنى لنا في تخريج الأحاديث بكتب المصطلح، عن كتب المستدرك والإِلزامات والمراسيل والعلل والأوهام، ومختلف الحديث وغريبه وناسخه ومنسوخه، والتدليس والوضع .. ومسائل الحفاظ لشيوخهم. وكتب التاريخ والرجال: الجرح والتعديل، والمؤتلف والمختلف، والمتفق والمفترق، والأسماء والكنى، والألقاب والأنساب، ومعاجم الشيوخ وبرامجهم، وكتب التقييد لرواة الكتب والمسانيد، وما تيسر من كتب الأطراف والمبهمات ..
وقد استغرق إعداد هذه الطبعة عشر سنين دأبًا، لئن شُغِلْتُ فيها، كذلك، بتكاليف الإِشراف على طلابي في الدراسات العليا، لقد كان لي من صحبتهم في رسائلهم ما زادني تحريرًا لمنهج التوثيق، وعلمًا بقوانين التحقيق، وزودني بمصادر ومراجع لم تكن مما وقفت عليه من قبل.
وكنت كلما عكفت على إنجاز هذه الطبعة ظهر مخطوط من حيث لا أحتسب، أو نُشر من كتب التراث ما أحتاج إليه. فعُدتُ على بدء أعيد النظر فيما سبق لي إنجازه .. وتكرر ذلك مرارًا حتى بدا لي كأنْ لا نهاية لما رجوت إكماله. وخشيت أن ينتهي الأجل المقدور لي، وأنا هامة اليوم أو غدٍ، قبل إخراج هذه الطبعة الجديدة، فاستخرت الله تعالى وقدمتها للطبع، ويظل المجال مفتوحًا لما بها من فوات يستدركه من ييسرهم الله تعالى لخدمة الحديث الشريف وعلومه.(1/7)
أدين بالفضل فيما تزودت به لهذه الطبعة من مصورات لعشراتٍ من المخطوطات لم يكن لي غنى عنها، إلى السادة الزملاء الكرام القائمين على خزائن المخطوطات بمصر والمغرب.
وأسعفتني الأريحية الأصلية لصاحب السمو الملكي " الأمير سعود الفيصل " والسيد الجليل " حبيب محمود أحمد، من أعيان المدينة المنورة " بمصورات لمخطوطات نادرة من خزائن استانبول ونجد والمدينة والمنورة، عزَّ عليَّ الظفر بها.
وأذكر بصادق التقدير والعرفان، ما أفدتُ من صحبتي، عشرين عامًا لأبنائي طلاب الدراسات الإِسلامية العليا بجامعة القرويين العريقة، تعلمت معهم في كل درس لنا أو لقاء، ما يُثري وجودنا العلمي، ويرهف اعتزازنا بالانتماء إلى المدرسة الإِسلامية، بما نهلتُ وإياهم من ينابيع سخية نقية لسلفنا العلماء النبلاء الصفوة، ورثة الأنبياء.
للهِ تعالى الحمدُ والمِنَّة
" وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَى "
صدق الله العظيم.
مصر الجديدة
صيف عام 1409 هـ - 1989 م.(1/8)
مدخل
1 - أبو عمرو ابن الصلاح، وكتابه
2 - السراج البلقيني وكتابه.(1/9)
بياض بالأصل.(1/10)
مدخل:
" يحمل هذا العلم من كل خلف عُدولُه، يَنفُون عنه تحريف الغالِين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين "
[حديث شريف]
أخرجه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي من عدة طرق، في الباب التاسع من كتابه (شرف أصحاب الحديث).
قدمت في الطبعة الأولى عرضًا سريعًا لمن تتابعوا على خدمة الحديث الشريف وعلومه ورجاله، من القرن الثاني إلى أبي عمرو ابن الصلاح وطبقته، ناظرة فيهم إلى توالي الطبقات واختلاف الأمصار من مشرق ومغرب. ومن وقتئذ وأنا أستدرك عليهم بين يوم وآخر من فاتني ذكرهم. فما عُدت اليوم أتجاسر على هذه المحاولة، وإني لأعتبر بالحافظ أبي عبد الله الذهبي: ترجم في المجلد الأول وبعض الثاني من (تذكرة الحفاظ) لأكثر من خمسمائة من أعيان الحفاظ إلى منتصف القرن الثالث للهجرة، ثم قال: عقب الطبقة الأخيرة منهم: " فهؤلاء المُسَمَّون في هذه الطبقة هم ثقات الحفاظ. ولعل قد أهملنا طائفة من نظرائهم، فإن المجلس الواحد في هذا الوقت كان يجتمع فيه أزيد من عشرة آلاف محبرة، يكتبون الحديث ويعتنون بهذا الشأن وبينهم نحو من مائتي إمام - في هذه الطبقة - قد برزوا وتأهلوا للفتيا " التذكرة 2/ 529.
على مر المراحل، كانت قواعد المصطلح يتوارد عليها العلماء تأصيلاً وضبطًا وتحريرًا، فبلغت من الكثرة بحيث احتيج إلى مصنفات فيها جامعة، أجمل ذكرها الحافظُ ابن حجر (773 - 852 هـ) في خطبة كتابه (شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) قال بعد الحمد والصلاة على النبي: " أما بعد فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت للأئمة في القديم والحديث. فمن أول من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرامهرمزي (- 360 هـ) في كتابه المحدث الفاصل، لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله(1/11)
النيسابوري (- 405 هـ) لكنه لم يهذب ولم يرتب. وتلاه أبو نعيم الأصبهاني (- 430 هـ) فعمل على كتابه مستخرجًا وأبقى أشياء للمتعقب. ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي (- 463 هـ) فصنف في قوانين الرواية كتابًا سماه الكفاية، وفي آدابها كتابًا سماه الجامع لآداب الشيخ والسامع .. وقلَّ فنٌّ من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر ابن نقطة (1): " كل من أنصف عَلِمَ أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه " ثم جاء بعض من تأخر عن الخطيب فأخذ من هذا العلم بنصيب، فجمع القاضي عياض (- 544 هـ) كتابًا لطيفًا سماه الإِلماع، وأبو حفص المَيَانجي (- 580 هـ) جزءًا سماه ما لا يَسَعُ المحدث جهلُه. وأمثال ذلك من التصانيف التي اشتهرت وبُسِطت ليُتوفَّرَ عليها. واختُصِرت ليتيسر فهمُها. إلى أن جاء الحافظ الفقيه تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري نزيل دمشق، فجمع لَمَّا ولِيَ تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور، فهذب فنونه وأملاه شيئاً بعد شيء، فلهذا لم يحصل ترتيبه على الوضع المتناسب. واعتنى بتصانيف الخطيب المفرَّقة، فجمع شتات مقاصدها، وضم إليها من غيرها نُخَبَ فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا اجتمع الناس عليه وساروا بسَيْره فلا يُحصَى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر. ومعارض له ومنتصر .. " (2).
من هذه الفقرة المجملة، يتبين مسار علوم المصطلح في مصنفاتها الجامعة، يتعاقب على خدمتها العلماء على توالي الأعصار، وتباعد الأمصار، من رامهرمز في خوزستان، ونيسابور وأصبهان وشهرزور وبغداد ودمشق، إلى مصر والمغرب. ومعهم في كل عصر عدول أئمة من الحفاظ والنظار، يحملون هذا العلم الشريف خلفًا عن سلف " ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ".
__________
(1) أبو بكر ابن نقطة: (كتاب التقييد في معرفة رواة السنن والمسانيد) ترجمة الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت: لـ56 مصورة من ميكروفلم معهد المخطوطات بالقاهرة 186/ 1 تاريخ، لمخطوط المتحف البريطاني 836.
(2) خطبة شرح النخبة، وتواريخ الوفيات لمن ذكرهم الحافظ في هذه الفقرة، إضافة منا لضبط السياق الزمني.(1/12)
المبحث الأول:
1 - ابن الصلاح
تقي الدين أبو عمرو الشهرزوري (577 هـ - 643 هـ)
عثمان بن الصلاح عبد الرحمن بن موسى بن أبي النصر الشافعي
موجز سيرته، رحلاته وشيوخه *
من القرن السابع، وفي نصفه الأول عاش التقي ابن الصلاح أخصب مراحل عمره، بدأت كتبُ التراجم والتاريخ تترجم له وتنوه به، لا نعلم خلافًا بين مترجميه في علمه وإمامته وورعه ومهابته، ولا فيما دونوه من سيرته.
__________
* مستخلص من:
- وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 243 ط بيروت 1970.
- وفيات الشريف عز الدين: ل 29 مصورة الخزانة العامة بالرباط، من مصورة بغداد لمخطوط كوبريلي رقم 1101.
- ذيل الروضتين لأبي شامة المقدسي. 175 ط القاهرة 1366 هـ.
- تاريخ الإِسلام للذهبي، مخطوط دار الكتب القاهرة.
- تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1430 ط حيدراباد الدكن 1374 هـ والعبر ودول الإِسلام له: وفيات سنة 643 هـ. وسير أعلام النبلاء، له:
- طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي: 5/ 137 ط أولى الحسينية بالقاهرة 1348.
ذيل التقييد للتقي الفاسي: 216 مخطوط دار الكتب 198 مصطلح.
وتراجم شيوخه، أكثرهم، من:
- التقييد لأبي بكر ابن نقطة، مصورة لميكروفلم معهد المخطوطات بالقاهرة.
- التكملة لوفيات النقلة، للزكي المنذري ط 2 بيروت 1401 هـ - 1981 م.
- تاريخ الإِسلام، وتذكرة الحفاظ والعبر، ودول الإِسلام وسير أعلام النبلاء للذهبي.
- طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي.(1/13)
ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة في بلدة شَرَخان قرب شهرزور من أعمال إربل. وغلب عليه لقب أبيه الصلاح عبد الرحمن. وينسب إلى جده الثالث أبي النصر فيقال: النصري، وإلى بلده: الشهرزوري الشرخاني.
حفظ القرآن في بلدته وجوَّده. وتفقه على والده الصلاح عبد الرحمن " وكان من مشايخ بلده المشار إليهم في الفقه والصلاح " ومن أكابر الشيوخ الشافعية الذين يتصل بهم سند شيخ الإِسلام أبي زكريا النووي، في فقه الشافعية " قراءة وتصحيحًا وسماعًا وشرحًا وتعليقًا. على طريقة العراقيين عن شيوخه الثلاثة: أبي إبراهيم المقدسي وأبي محمد ابن نوح وأبي حفص الربعي الإِربلي - يأتون في تلاميذ ابن الصلاح - عن تقي الدين أبي عمرو بن الصلاح. وتفقه هو على والده، وتفقه والده على أبي سعد بن أبي عصرون الموصلي، وتفقه أبو سعد على القاضي أبي علي الفارقي، وتفقه الفارقي على الشيخ أبي إسحاق الرازي، بسنده الفقهي المعروف عن الإمام الشافعي، تفقه على الإِمام مالك وتفقه مالك على ربيعة الرأي عن أنس، وعلى نافع عن ابن عمر: كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (1).
وكذلك تفقه ابن الصلاح على والده في فقه الشافعية على طريقة الخراسانيين. وتفقه والده على أبي القاسم ابن البزري الجزري، عن أبي الحسن الكيا الهراسي، عن أبي المعالي الجويني إمام الحرمين، عن أبي بكر المروزي الصغير، إمام طريقة خراسان بسنده (2).
في الموصل:
ظهرت نجابة تقي الدين عثمان. فنقله والده إلى الموصل، فسمع الحديث من:
" ابن السمين " أبي جعفر عبيد الله بن أحمد الوراق، نزيل الموصل (523 - 588 هـ)
__________
(1 - 2) النووي: تهذيب الأسماء واللغات 1/ 18، 19 ط بيروت. وتصحفت فيها كنية أبي سعد ابن أبي عصرون، بأبي سعيد. وانظر تراجم الشيوخ المذكورين في سند النووي الفقهي، في كتابه تهذيب الأسماء. وترجمة الصلاح عبد الرحمن في وفيات ابن خلكان 3/ 243، وطبقات الشافعية للتاج السبكي 5/ 65 ونبلاء الذهبي: ج 22 ويأتي فيما يلي من العرض، نزوحه مع ولده إلى الشام ووفاته بحلب في المدرسة الأسدية، سنة 816 هـ.(1/14)
وقرأ عليه كتاب (المهذب لأبي إسحاق الشيرازي) في فقه الشافعية " وكرره وهو غض الصبا لم يطر شاربه ".
ومن شيوخ ابن الصلاح بالموصل:
" نصر الله بن سلامة " بن سالم، أبو المعالي الهيتي المقرئ المحدث (- 598 هـ) سمع ببغداد من أبي الفضل محمد بن ناصر المقدسي، وأبي الكرم الشهرزوري، وأبي الفتح الكروخي، وحدث ببغداد والموصل.
" عبد المحسن الطوسي، أبو القاسم " بن عبد الله بن أحمد بن عبد القاهر خطيب الموصل (623 هـ) من بيت العدالة والخطابة والرواية. سمع بالموصل من أبيه أبي نصر عبد الله، ومن عمه أبي محمد عبد الرحمن، وببغداد من أبي الكرم الشهرزوري. وحدث ببغداد والموصل (1).
ثم لزم ابن الصلاح شيخه العلامة:
" العماد بن يونس " أبا حامد محمد بن يونس بن محمد بن منعة الإِربلي الموصلي الشافعي، إمام وقته في المذهب والأصول والخلاف، ومدرس النظامية، ومصنف (المحيط) في فروع الشافعية، جمع فيه بين (المهذب لأبي إِسحاق الشيرازي، والوسيط لأبي حامد الغزالي) ونجب عليه أئمة (535 - 608 هـ).
أقام ابن الصلاح بالموصل زمنًا يشتغل معيدًا لشيخه العماد أبي حامد، بالمدرسة النظامية (2). واتصل وقتئذ بأخي شيخه:
" الكمال بن يونس " موسى بن محمد بن يونس بن محمد بن منعة، أبي الفتح الموصلي الشافعي، الفقيه العلامة في العقليات والإِلهيات (511 - 639 هـ) بالغ ابن الصلاح في الثناء على فضائله وتعظيم شأنه. وفي ترجمته أن ابن الصلاح " سأله أن يقرأ عليه شيئًا من المنطق سِرًّا فأجابه إلى ذلك، وتردد إليه مدة يقرأ عليه فلم يُفتَح عليه بشيء. فقال له
__________
(1) ابن خلكان والذهبي والسبكي، في ترجمة ابن الصلاح، وترجمة شيخه عبد المحسن ابن الطوسي من (تكملة المنذري: 3/ 2023) كتب له بالإِجازة من الموصل غير مرة إحداها في سنة 610.
(2) ابن خلكان والذهبي والسبكي، في شيوخ ابن الصلاح. وترجمة العماد أبي حامد ابن يونس من تكملة المنذري 2/ 1198، وتاريخ الإِسلام والعبر للذهبي: وفيات سنة 608، وطبقات التاج السبكي 5/ 45.(1/15)
الكمال: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن. فسأله: ولم يا مولاي؟ فقال: لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من يشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقيدتهم فيك ولا يحصل لك من هذا الفن شيء .. فقبل إشارته وترك قراءته " (1).
ثم آثر ابن الصلاح الرحلة في طلب العلم والسماع. فاتجه شرقًا وطوف بالحواضر العلمية في خراسان ونيسابور ومرو وقزوين .. وأدرك جلة من علمائها ومسنديها الكبار، قبل أن يجتاحها التتار من سنة 616 هـ.
رحلته كانت قبل وفاة شيخه (العماد أبي حامد ابن يونس، سنة 608 هـ، وفيها توفي بنيسابور منصور بن عبد المنعم الفراوي وهو من شيوخ ابن الصلاح. لقيه بنيسابور وسمع منه وحدث عنه.
والراجح أنه لقي بإربل، أو بنيسابور:
" أبا الخطاب ابن دحية الكلبي، عمر بن حسن بن علي البستي، نزيل القاهرة ".
وسمع منه (الموطأ) رواية يحيى بن يحيى الأندلسي. ففي ترجمة الحافظ ابن دحية، بتذكرة الحفاظ وذيل التقييد: " أنه حدث بالموطأ، رواية يحيى بن يحيى سنة ستمائة، سمعه منه تقي الدين ابن الصلاح ". وفي ترجمة ابن دحية بنفح الطيب: سنة نيف وستمائة. وذكر أنه في رحلته الواسعو إلى العراق وأصبهان وخراسان: " صنف التنوير في مولد السراج المنير، عند قدومه إلى إربل في سنة 604 هـ، وهو متوجه إلى خراسان، وبعدها سمع نيسابور من منصور بن عبد المنعم الفراوي والمؤيد الطوسي - وهما من كبار شيوخ ابن الصلاح النيسابوريين - .. وعاد أبو الخطاب ابن دحية إلى مصر، وولي مشيخة المدرسة الكاملية بالقاهرة، وفيها وفاته سنة (633 هـ) (2).
__________
(1) ترجمة الكمال بن يونس في: وفيات ابن خلكان 4/ 253، والمختصر لأبي الفداء المؤيد إسماعيل (3/ 170 ط الحسينية بالقاهرة 1325 هـ) والطبقات للتاج السبكي 5/ 160 ومعها ترجمته في تكملة المنذري 3/ 1198، وتاريح الإِسلام ودول الإِسلام والعبر للذهبي: وفيات سنة 639 هـ.
(2) تذكرة الحفاظ: 4/ 1421، وذيل التقييد للفاسي (239 / أ) ونفح الطيب للمقري: 1/ 371 ط أولى، الأزهرية بالقاهرة 1302 هـ.(1/16)
في نيسابور:
سمع ابن الصلاح من
" المؤيد الطوسي " أبي الحسن محمد بن علي النيسابوري الشافعي ". الحافظ المسند الرحلة (524 - ظنا - 617 هـ) سمع منه ابن الصلاح صحيح البخاري بسماعه من أبي عبد الله الفراوي (440 - 530 هـ) وهو آخر من حدث عنه، بسماع الفراوي من سعيد بن أبي سعيد العيار النيسابوري (457 هـ) بسماعه من أبي عبد الله الشبوي المروزي، بسماعه في سنة 316 هـ من الفربري (231 - 320 هـ) بسماعه من الإِمام البخاري.
وحدث به المؤيد الطوسي أيضًا، عن وجيه بن طاهر الشجامي (455 - 541 هـ) وأبي الفتوح الشاذياخي (535 هـ) بسماعهما من أبي سهل الحفصي (466 هـ) عن أبي الهيثم الكشمهيني (389 هـ) عن الفربري.
وبصحيح مسلم عن أبي الحسين عبد الغافر الفارسي (353 - 466 هـ) عن أبي أحمد الجلودي النيسابوري (389 هـ) عن إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري (300 هـ) عن الإِمام مسلم (1). وهو سند الحافظ ابن حجر لرواية ابن شبويه عن البخاري من طريق أبي عمرو ابن الصلاح (أسانيد ابن حجر لروايات البخاري، في مقدمة فتح الباري).
" منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفَراوي، ذو الكُنى الثلاث: أبو الفتح وأبو بكر وأبو القاسم، بن أبي المعالي بن أبي البركات بن أبي عبد الله الفراوي ". الفقيه المفتي الحافظ المسند (522 - 608 هـ).
سمع منه أبو عمرو ابن الصلاح صحيح البخاري، عن جد أبيه " أبي عبد الله الفراوي، بسنده. وصحيح مسلم، عن جد أبيه عن عبد الغافر الفارسي، أبي الحسين. والأربعين لأبي البركات عبد الله الفراوي (547 هـ) بسماعه منه. والسنن الكبرى لأبي بكر البيهقي قراءة عليه، بسماع منصور الفراوي من أبي المعالي الفارسي
__________
(1) تقييد ابن نقطة: ل 155، وتكملة المنذري وقال: " ولنا منه إجازة كتب بها إلينا من خراسان غير مرة إحداهن في جمادى الآخرة سنة 607 هـ " (3/ 1198) وتذكرة الحفاظ 4/ 1421.(1/17)
(448 - 539 هـ) قراءة عليه. عن أبي بكر البيهقي (384 - 458 هـ) - وهو السند في مطبوعة السنن الكبرى المقروءة على ابن الصلاح - وبه حدث أبو عمرو ابن الصلاح بكتاب المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، والأربعين حديثًا المخرجة من المجلد الأول منها، انتقاء أبي المعالي الفارسي.
وشيخه منصور من بيت العلم والرواية، عدَّ الزكي المنذري سبعة محدثين منهم نسقًا (1).
" زينب الشعرية النيسابورية، أم المؤيد بنت أبي القاسم عبد الرحمن بن الحسين الشعري (2) المسندة المعمرة. تفردت بكثير من مسموعاتها، وانقطع بموتها إسناد عال (524 - 615 هـ).
حدثت بصحيح البخاري، عن وجيه الشحامي وأبي الفتوح الشاذياخي، عن أبي سهل الحفصي، عن الكشمهيني. وسمعته كذلك عن أبي المعالي الفارسي، عن سعيد العيار، عن ابن شبويه، عن الفربري. وممن أجاز لها أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، وأبو القاسم الزمخشري (2).
" ابن الصفار: الشهاب أبي بكر النيسابوري، القاسم بن أبي سعد عبد الله بن أبي حفص عمر بن أحمد بن منصور الشافعي " الفقيه النبيل الحافظ المسند، شيخ خراسان،
__________
(1) التقييد في معرفة رواة السنن والمسانيد، لأبي بكر ابن نقطة: ل 155 مصورة معهد المخطوطات 186/ 1 تاريخ، لمخطوط المتحف البريطاني 836. ومنصور من شيوخ ابن نقطة. وتكملة المنذري جـ 2 ت 1202، وكتب له بالإِجازة. والفراوي، ضبطه السمعاني في الأنساب، وابن الأثير في اللباب، عنه، بضم الفاء، نسبة إلى فُراو، بليدة مما يلي خوارزم.
وفي مستفاد الرحلة للتجيبي، عن شيخه أبي الفتح الشيباني الدمشقي، قال: " أخبرنا الإِمام تقي الدين أبو عمرو ابن الصلاح قراءة علية ونحن نسمع في جمادى الأولى سنة 638 هـ، قال: الفرواي نسبة إلى بليدة من ثغر خراسان مما يلي خوارزم، تسمى بالعجمية فُراووه. وذكر أبو سعد السمعاني فيما قرأته بخطه من كتاب الأنساب، الفُراوي، يضبطه بخطه مولعًا بذلك. وسألت حفيد الفراوي الشيخ أبا القاسم عن ذلك فقال: هو الفَراوي، بالفتح. قلت: ولا معدل عن هذا فإنه المعروف المتعالم، والسمعاني لم يذكر مستند الخلاف. انتهى كلام أبي عمرو - رحمه الله - " المستفاد 92.
(2) تقييد ابن نقطة (ل 169) وفيه أنها كتبت له بالإِجازة من نيسابور غير مرة إحداهن في شهر رجب سنة 608 هـ. والتكملة للمنذري (2/ 1648) وفيها أنها تدعى أيضًا " حرة " وله إجازة كتبت عنها من نيسابور سنة 608 هـ. وابن خلكان (ت 237) وله إجازة منها كتبت في بعض شهور سنة 610 هـ، وذيل التقييد للفاسي وأرخ مولدها سنة 525 هـ.(1/18)
الإِمام ابن الإِمام ابن الإِمام، روى عن جده أبي حفص، وأبي البركات عبد الله الفرواي ووجيه الشحامي، وأبي الأسعد القشيري. وروى عنه الأئمة: ابن الصلاح وأبو بكر ابن نقطة والزكي البرزالي والضياء المقدسي وأبو إسحاق الصريفيني. مولده سنة 533 هـ، واستشهد عندما دخل التتار نيسابور سنة (618 هـ).
وسمع ابن الصلاح بمرو، من:
" أبي المظفر السمعاني " الفخر عبد الكريم بن أبي سعد عبد الكريم بن محمد ابن أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني. مسند خراسان (537 - 617 هـ) أسمعه أبوه مبكرًا من شيوخ خراسان، منهم أبو الوقت السجزي، سمع منه صحيح البخاري، ومسندي الهيثم بن كليب وأبي محمد الدارمي. وأبو البركات الفراوي: سمع منه صحيح أبي عوانة الإِسفرائيني. وأبو طاهر السنجي: سمع منه مسندي الشافعي وابن وهب (2).
ومن شيوخ العراقيين ابن الصلاح بقزوين:
الإِمام الرافعي " أبو القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القزويني (- 623 هـ) شيخ الشافعية الصدر الرئيس، صاحب (الشرح الكبير) إليه انتهت معرفة المذهب ودقائقه. نقل النووي والذهبي والتاج السبكي في ترجمته قول ابن الصلاح: " أظن أنني لم أر في بلاد العجم مثله. " (3) وعقب السبكي: " قلت: لا شك في ذلك ".
__________
(1) طبقات التاج السبكي 5/ 3 وشيوخه ومسموعاته في تقييد ابن نقطة (ل 148) وهو من أصحابه.
وترجم له المنذري في (التكملة 3/ 1860) وله منه إجازة كتب بها إليه من نيسابور غير مرة إحداها في سنة 608، وتاريخ الإسلام والعبر للذهبي، وفيات سنة 618.
(2) تقييد ابن نقطة (ل 1230) وفيه: " انقطعت عنا أخباره من سنة 617 هـ " وأرخه الذهبي في وفياتها وقال: عُدم في دخول التتار بمرو في آخر العام (العبر، وتاريخ الإِسلام).
(3) تهذيب الأسماء واللغات للنووي (الكنى ت 405) وطبقات الشافعية الكبرى 5/ 119، وتاريخ الإِسلام، ودول الإِسلام، والعبر للذهبي: وفيات 623 هـ، وأعلام النبلاء، له (ج 22).(1/19)
وسمع بهمدان من:
" أبي الفضل ابن المعزم، عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن صالح الهمداني إمام جامعها. وكان فيها قال ابن نقطة: " محدثًا مكثرا صحيح السماع، سمعت منه ثلاثيات البخاري " ولم يؤرخ وفاته، وأرخه الزكي المنذري والذهبي في وفيات سنة (609 هـ) (1).
ثم رحل أبو عمرو ابن الصلاح إلى بغداد، حاضرة الخلافة قبل أن يجتاحها التتار. فسمع من شيوخها الحفاظ ومسنديها المعمرين. وممن رى عنهم في كتابه علوم الحديث:
" الضياء ابن سكينة، أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن عبد الله البغدادي " شيخها الحافظ (519 - 607 هـ) سمع من أبيه وطبقته من أعلام المسندين. ورافق الإِمام أبا سعد السمعاني أكثر من أربعين سنة. وحدث بمكة وبغداد والشام ومصر بمسموعاته، ومنها: الغيلانيات وأحاديث المزني، من أبي القاسم هبة الله ابن الحصين. وجامع الترمذي، من أبي الفتح الكروخي، وصحيح مسلم بإجازته من أبي عبد الله الفراوي (2).
" ابن طبرزد، أبو حفص عمر بن محمد بن معمر الدارقزي البغدادي " المعمر المسند المؤدِّب (516 - 607 هـ) أسمعه أخوه البقاء محمد وسمع بنفسه من أكابر الشيوخ. وتفرد بالرواية عن عدد منهم. وحدث ببغداد وإربل والموصل وحلب ودمشق. قرأ عليه ابن الصلاح ببغداد (جزء الأنصاري) روايته عن أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري البغدادي (535 هـ) بسنده إلى محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري البصري صاحب الجزء (215 هـ) وحدث بسنن أبي داود، سماعه لبعضها من أبي البدر الكرخي ولبعضها من مفلح الدومي، بروايتهما عن أبي بكر الخطيب. وبجامع الترمذي، من أبي الفتح الكروخي (تقييد ابن نقطة) وبالغيلانيات. قرأها عليه الزكي المنذري بدمشق في ذي
__________
(1) تقييد ابن نقطة (ل 118) وتكملة المنذري (2/ 1236) وله منه إجازة، كتب بها إليه من همدان في سنة 608 هـ، وتذكرة الحفاظ والعبر، وتاريخ الإِسلام: وفيات سنة 609 هـ، وخرج له أبو عبد الله ابن الدبيثي مشيخته في جزءين وبعض ثالث، شيوخه فيها ثلاثة وثمانون. واستُدرِك عليه. قاله المنذري.
(2) تقييد ابن نقطة (ل 129) وتكملة المنذري (2/ 1146) - وفيها: ولنا منه إجازة كتب بها إلينا من بغداد غير مرة. وخرج له صاحبنا أبو عبد الله النجار مشيخة في جزأين. وتاريخ الإِسلام والعبر ودول الإِسلام للذهبي، وفيات سنة 607 هـ والنبلاء: ج 22.(1/20)
الحجة سنة 603 هـ)، وسمع منه كثيرًا من الكتب الكبار والأجزاء والفوائد (1).
بعدها كانت الرحلة إلى الشام، مستهلَّ مرحلة جديدة من حياته، ذكرها كل مؤرخيه في ترجمته، وإن لم يعينوا تاريخها، فيما قرأت، وهل كانت رحلة في طلب العلم والسماع، أو كانت نزوح هجرة؟
هنا أحتاج إلى استطراد يسير، نطل به على عصر ابن الصلاح:
قبل مولده بنحو من عشر سنين، في مستهل سنة 567 هـ، كان " الملك العادل نورالدين محمود بن زنكي " قد قطع الخطبة للفاطميين بالشام، وأمر " صلاح الدين بن نجم الدين أيوب " نائبه على مصر، أن يقطعها بها. وأعيدت الخطبة للعباسيين بمصر والشام.
في سنة 569 هـ توفي العادل نورالدين، وآلت الدولة إلى صلاح الدين الأيوبي فواصل جهاد الصليبيين، وفي شهر ربيع الثاني من سنة 583 هـ كانت وقعة حطين الظافرة، وأعقبها تحرير بيت المقدس من قبضتهم، يوم الجمعة السابع والعشرين من شهر رجب، بعد مولد ابن الصلاح بنحو من خمس سنوات. وتوالت المعارك الباسلة في الجبهة الصليبية بمصر والشام إلى أن توفي الملك المظفر صلاح الدين، في صفر سنة 589 هـ، وتقاسم بنوه ملك مصر ودمشق وحلب، واستقل أخوه أبو بكر الأيوبي بالكرج والجزيرة وديار بكر وميافارقين، واستقل أخوهما سيف الإِسلام ضغتكين باليمين من زبيد إلى حضرموت. ونشبت فيهم فتن شرسة، وعاد الصليبيون يعربدون على ساحة الشام ويهددون ثغور مصر، حتى آلت الدولة الصلاحية إلى الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فحمل لواء الجهاد إلى وفاته سنة (615 هـ).
بعد سنة واحدة - أي سنة 616 هـ - تحركت جيوش التتار مما وراء النهر، فاجتاحوا خوارزم وبخارى، فقتلوا وخربوا وما أبقوا. وأخذوا خراسان إلى حدود العراق، ثم عطفوا على قزوين وأذربيجان فاستباحوهما، وكرُّوا على إربل ودخلوا مرو آخر سنة 617 فوطئوهما وطأة ساحقة.
__________
(1) تقييد ابن نقطة (ل 137) وتكملة المنذري (2/ 1158) والعبر، ودول الإِسلام للذهبي، وفيات 607 هـ.(1/21)
" واستهلت سنة 618 هـ والدنيا تغلي بالتتار " بلفظ مؤرخ الإِسلام الحافظ الذهبي في (العبر).
وقتئذ كان ابن الصلاح وأبوه في ديار الشام، ويتعين أن الرحلة إليها كانت قبل سنة 612 هـ إذ توفي فيها " الحافظ عبد القادر الرهاوي " أول شيوخه الشاميين وفاة. فلئن كان ابن الصلاح رحل مع أبيه في طلب السماع ولقاء الشيوخ، لقد سُدَّت عليها كل سبل العودة إلى إربل، والتتار يطئون بلاد الشام مما وراء النهر إلى حدود العراق، لم يبقوا على شيء في إربل وسائر الحواضر الإِسلامية التي كانت عامرة بشيوخ ابن الصلاح.
ومن أكابر شيوخه الشاميين الذين لقيهم وسمع منهم بدمشق:
" أبو القاسم ابن الحرستاني " جمال الدين عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الدمشقي الشافعي. قاضي القضاة.
سمع من شيوخ الوقت، وله إجازات عالية من الشيوخ الشاميين والعراقيين والأصبهانيين، وانتهى إليه علو الإِسناد وتفرد (1).
(520 - 614 هـ)
" الفخر ابن عساكر " أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الدمشقي، شيخ الشافعية بالشام ومن بيت العلم والرواية بها (2).
(550 طنا - 620 هـ)
" الشيخ الموفق " أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الصالحي (541 - 620 هـ) شيخ الحنابلة الإِمام الصدر القدوة، نقل الحافظ الذهبي في ترجمته قول الحافظ الضياء أبي عبد الله المقدسي: " سمعت أبا عمرو ابن الصلاح يقول: " ما رأيت مثل الشيخ الموفق " (3).
__________
(1) تقييد ابن نقطة (ل 131) تكملة المنذري (2/ 1568) لقيه بدمشق وسمع منه. تاريخ الإِسلام والعبر ودول الإِسلام: وفيات سنة 614 هـ، وطبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي: 5/ 74.
(2) تكملة المنذري (3/ 1935) وله منه إجازة كتب بها إليه من دمشق غير مرة. تاريخ الإِسلام والعبر ودول الإِسلام للذهبي: وفيات سنة 620 هـ، طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي 5/ 66.
(3) العبر (5/ 80) وسير أعلام النبلاء ج 22، والضياء المقدسي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي، محمد بن عبد الواحد، من أقران ابن الصلاح ويشاركه في كثير من شيوخه (569 - 643 هـ).(1/22)
وسمع بحران من حافظها ومفتيها:
" أبي محمد عبد القادر بن عبد الله بن عبد الرحمن الرُهَاوي الحنبلي " المسند الرحال. طوف بالبلاد، وسمع من أكابر شيوخ الوقت. ومن مسموعاته جامع الترمذي، سمعه بهراة من نصر بن سيار، أبي الفتح الهروي، عن أبي عامر الأزدي (536 - 612 هـ) (4).
وسمع بحلب من:
" ابن الأستاذ، أبي محمد عبد الرحمن بن الأستاذ عبد الله بن علوان الأسدي الحلبي " من شيوخها الصاحين. سمع بحلب من نزيلها أبي محمد عبد الله بن محمد الصنهاجي الأشيري (- 561 هـ) وطبقته. وسمع ببغداد وأجاز له جماعة من شيوخ خراسان وأصبهان ودمشق ومصر والإِسكندرية وحدث (2). وفاته بحلب سنة 623 هـ.
وابن الصلاح، في (سنن السماع بالمقدمة) يروي عن أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله الأسدي، عن أبي محمد ابن الأشيري، عن القاضي عياض (3).
في الشام كانت الحياة العاملة الخصبة للتقي أبي عمرو ابن الصلاح:
" أقام في بيت المقدس مدرسًا بالمدرسة الصلاحية، إلى أن هدم سلطان الشام الملك المعظم - شرف الدين عيسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر الأيوبي صاحب دمشق - سُور البلد عجزًا عن حمايته وخوفًا من الفرنجة أن تسيطر عليه. واتجه إلى
__________
(1) تكلمة المنذري (2/ 1399) إجازة من حران، كتابة، غير مرة، إحداها في ذي الحجة سنة 605 هـ، تذكرة الحفاظ ودول الإِسلام والعبر للذهبي: وفيات سنة 612 هـ، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 82، وذيل التقييد للتقي الفارسي (ل 121، 158).
(2) تكملة المنذري (3/ 2105) وله منه إجازة كتب بها إليه من حلب غير مرة، إحداها في صفر سنة 610، وتاريخ الإِسلام والعبر للذهبي: وفيات سنة 623 هـ، ويشاركه في اسم الشهرة والكنية، ولده: ابن الأستاذ أبو محمد زين الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي الشافعي، قاضي القضاة ومن سَرَوات الرؤساء (578 - 635 هـ).
وابنه الكمال أحمد بن الزين عبد الله بن أبي محمد عبد الرحمن الحلبي الشافعي، قاضيها، ابن الأستاذ (- 662 هـ).
(3) مقدمة ابن الصلاح، النوع الرابع والعشرون.(1/23)
دمياط فكان مع أخيه الكامل في كشف الصليبيين عنها " وقد أرخ ابن الأثير وأبو الفدا المؤيد إسماعيل والذهبي كائنة هدم سور المقدس في أول سنة 616 هـ، " وانجفل الناس وتشتَّتُوا (1).
ونزح أبو عمرو إلى دمشق.
وأما والده " الصلاح عبد الرحمن " فسكن حلب مدرسًا في المدرسة الأسدية، إلى وفاته بها في سنة 618 هـ (2).
وفي حاضرة الشام، أخذ التقي أبو عمرو ابن الصلاح مكانه المرموق " يعيد زمان السالفين ورعًا وعلمًا " ولي التدريس في " المدرسة الرواحية " مفوضًا في أمرها من قبل منشئها الزكي ابن رواحة (3).
وعهد إليه الملك الأشرف، موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر الأيوبي " في النظر في " مدرسة سِتِّ الشام " وفوض إليه أمرها، واكن أول من ولي التدريس به (4). ثم لما عمر الملك الأشرف " المدرسة الأشرفية " بدمشق، ولي أبا عمرو ابن الصلاح أمرها، وفوض إليه مهام التدريس بها (5).
فكان فيما قال تلميذه وصاحبه شمس الدين ابن خلكان: " يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا بعذر ضروري لا بد منه، مع اشتغاله بالفتوى تأتيه
__________
(1) الكامل، والمختصر في أخبار البشر، وتاريخ الإِسلام.
والعبر: سنة 616 هـ وتوفي الملك المعظم شرف الدين عيسى سنة 624 هـ وفي سنة 626 هـ، تفاوض أخواه الملك الكامل والملك الأشرف مع الفرنج على تسليم بيت المقدس إليهم، " واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والألم ما لم يمكن وصفه " (ابن الأثير في الكامل 12/ 187).
(2) وفيات الأعيان (3/ 243 ت 108) وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 65). وأعلام النبلاء ج 22.
(3) أنشأها الزكي ابن رواحة الدمشقي، فضل الله بن محمد الأنصاري، بدمشق في سنة 620 هـ (مختصر تنبيه الطالب وإرشاد الدارس في أخبار المدارس لأبي المفاخر النعيمي) ص 12 مخطوط دار الكتب.
(4) هي المدرسة الشامية البرانية، أنشأتها ست الشام ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب بن شادي، بدمشق، قبل وفاتها في سنة 616 هـ (مختصر النعيمي: 12، والعبر للذهبي 5/ 61).
(5) المدرسة الأشرفية، عمرها الأشرف بن موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر، بدمشق في سنة 628 وفتحت ليلة النصف من شعبان لسنة 630 هـ قبل وفاة الملك الأشرف في سنة 635 هـ (مختصر النعيمي: ص 3) مع تاريخ الإِسلام ودول الإِسلام والعبر للذهبي.(1/24)
من الأقطار، والتأليف والتدريس " ورحل إليه طلاب العلم من الآفاق " شهد له مؤرخوه من أصحابه وتلاميذه، على أنه " كان وافر الجلالة والعقل حسن السمت نبيلاً متبحرًا في العلم مضرب المثل في الطلب مجتهدًا في العبادة والطاعة، مشهودًا له بالورع والتقوى والصلاح والسداد، مجمعًا على إمامته وجلالته ".
إلى أن توفي - نضر الله وجهه - سحَرَ الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة " فازدحم عليه الناس وصُلِّي علي مرتين، ثم شيعوه إلى مثواه في مقابر الصوفية، وقبره ظاهر يزار ويتبرك به، وقيل: والدعاء عنده مستجاب " فيما حكى الحافظ أبو عبد الله الذهبي - المتوفى سنة 748 هـ - في أعلام نبلائه، والتاج السبكي المتوفى سنة 771 هـ، بعد وفاة التقي ابن الصلاح بنحو من مائةٍ وثمانٍ وعشرين سنة.(1/25)
مصنفات أبي عمرو ابن الصلاح
في الحديث وعلومه:
* كتابه (المقدمة في علوم الحديث) يأتي.
* (شرح صحيح مسلم).
مذكور له في شروح الصحيح. وأفاد بروكلمان بوجود نسخة منه في مكتبة أياصوفيا بعنوان: صيانة صحيح مسلم من الخلل والغلط وحمايته من الإِسقاط والسقط (1/ 182) ومثله في التراث العربي لسزجين، وتصحفت فيه ترجمته كنية أبي عمرو، بأبي عمر (1/ 212).
ويُكْثِر منه النووي في شرحه لصحيح مسلم، كما ينقل عنه في تهذيب الأسماء واللغات.
وفي (مستفاد الرحلة والاغتراب لأبي القاسم التجيبي السبتي - 730) نص ما أملاه ابن الصلاح من فوت سماع ٍ لابراهيم بن سفيان، من صحيح مسلم - فهو يرويه عنه بالإجازة - سمعه التجيبي بدمشق في سنة 697 هـ من شيخه الكمال أبي العباس الدمشقي، أحمد بن أبي الفتح بن محمود الشيباني (- 702 هـ) بسماعه من ابن الصلاح بدمشق في سنة 638 هـ.
نُشر حديثا بعنوان (صيانة صحيح مسلم من الخلل والغلط وحمايته من الإِسقاط والسقط).
* (الأحاديث الكلية التي عليها مدار الدين).
ذكره حاجي خليفة مع (الأربعين النووية) في كشف الظنون.
* (الأمالي).
في مسموعات الحافظ ابن حجر (852 هـ) من شيخه ابن أبي المجد الدمشقي، على بن محمد (707 - 800) بإجازته من الناصر ابن المهتار الدمشقي (715 هـ) بسماعه من ابن الصلاح (المجمع المؤسس لابن حجر: 414 مخطوط دار الكتب بالقاهرة).
* (حديث الرحمة المسلسل بالأولية) وطرقه.
وهو المجلس الأول من أماليه، حدث به عناصر ابن المهتار (ذيل التقييد للفاسي).(1/26)
والكمال أبو العباس بن أبي الفتح الشيباني الدمشقي (برنامج التجيبي: 171) وسَلْسَلَه معه، ونقل منه الشمس السخاوي في الحديث المسلسل بفتح المغيث (3/ 56).
* (حواش وتعليقات، على مطالع الأنوار لأبي إسحاق ابن قرقول): على كتاب شيخه القاضي عياض (مشارق الأنوار على صحاح الآثار).
نقلها من خط أبي عمرو ابن الصلاح " الشمسُ الموصلي محمد بن محمود بن عبد الكريم الدمشقي الشافعي، خطيب الجامع الأموي - 774 هـ) على هامش نظمه للمطالع في مخطوطاتها بخزانة الجامع الأعظم بمكناس (رقم 165) وخزانة القرويين بفاس (رقم 220) وخزانة دار الكتب بالقاهرة.
* في الفقه والفتاوى:
* (نكت على المهذب لأبي إسحاق الشيرازي).
في فروع الشافعية. ذكره له ابن قاضي شهبة في الطبقات. ورجع إليه الإِمام محي الدين النووي، في مواضع من (تهذيب الأسماء واللغات).
* (مشكل الوسيط، لأبي حامد الغزالي).
في فروع الشافعية، ذكره ابن خلكان في مصنفات ابن الصلاح، قال: وله إشكالات على الوسيط. وجاء في (الوسيط) بكشف الظنون: " علق أبو عمرو ابن الصلاح على الربع الأول منه تعليقة في جزأين ".
وينقل منه النووي كثيرًا في (تهذيب الأسماء واللغات) ضبطا أو شرحًا، أو بيانًا لوهم وتصحيحًا لخطأ. منها في الأسماء مثلاً: ابن القفال الشاشي (1/ 325 ت 704) وفي اللغات، مواد: الملقاح، في لقح، والمجيدية، والنظارة في نظر ....
* (صلة الناسك في صفة المناسك).
هكذا سماه الحافظ أبو عبد الله ابن رُشَيْد السبتي في رحلته (ملء العيبة) وابن قاضي شهبة في الطبقات. وقال ابن خلكان: وصنف في مناسك الحج وجمع فيه أشياء حسنة يحتاج إليها الناس، وهو مبسوط. وكشف الظنون: " المناسك للشيخ تقي الدين أبي عمرو ابن الصلاح .. وهو تأليف مبسوط ".
قلت: الكتاب كان دليل الحافظ ابن رشيد في الرحلة الحجازية، قال: " فأصبحنا يوم(1/27)
الثلاثاء التاسع من ذي الحجة - سنة 684 هـ - بعرفات، واستصحب معي (كتاب صلة الناسك في صفة المناسك للإِمام المحدث الأوحد الفقيه الشافعي أبي عمرو بن الصلاح) رحمه الله، فكنت أستعرف به المواضع التي يصفها الصفة وانطباقها على الموصوف ".
ثم لم يكد وصف ابن رشيد للمناسك والمشاعر يخلو من رجوع إلى هذا الدليل والنقل منه. وبعد بيان الواجب السادس من شعائر الطواف وكيفية ابتداء الطواف إلى انتهائه، - على ما قال الإِمام أبو عمرو - والدعاء عند الملتزم ما بين الباب والحجر. قال: " انتهى ما أردنا إيراده من كلام الإِمام أبي عمرو. وإن أطلنا في تتبع أمكنته وجمع متفرقه. فطلبًا للإِفادة بما يعز وجوده ويعجز عن مثل هذا البيان لسانه. والله المرشد " (1).
الفتاوى:
قال ابن خلكان: " وجمع بعض أصحابه فتاويه في مجلد " وذكرها التاج السبكي في طبقاته الكبرى، ونقل جملة مختارة منها. وكذلك نقل منها الزين العراقي في (التقييد والإِيضاح) والشمس السخاوي في (فتح المغيث) كما ذكرها ابن الصلاح، التقي الفاسي في (ذيل التقييد: 216 أ) وحاجي خليفة في الكشف، والبغدادي في هدية العارفين.
وهي مطبوعة في الجزء الثاني من (مجموعة الرسائل المنيرية) بالقاهرة سنة 1344 هـ مرتبة على أبواب في التفسير والحديث والأصول والعقائد. وللكمال ابن علوان أحمد بن أبي محمد زين الدين عبد الله بن أبي محمد عبد الرحمن بن الأستاذ عبد الله بن علوان الأسدي الحلبي الشافعي قاضيها - 662 هـ) حواش على فتاوى ابن الصلاح، ذكرها التاج السبكي وقال: " هي عندي بخطه، على نسخة ابن الصلاح، فيها فوائد. وكلامه يدل على فضل كثير واستحضار للمذهب " (2).
__________
(1) ابن رُشَيْد: ملء العيبة، المجلد الخامس (ص 87 - 115) من مخطوط دار الكتب بالقاهرة رقم 37851، منسوخ من مصور الدار رقم 2376، لأصل ابن رشيد في الأسكوريال، بخطه.
(2) طبقات الشافعية (5/ 8) ترجمة الكمال أحمد - وهو حفيد ابن الأستاذ أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي، من شيوخ ابن الصلاح - ونقله ابن العماد في الشذرات 5/ 168.(1/28)
* (كتاب أدب المفتي والمستفتي).
ذكره له حاجي خليفة في حرف الهمزة من كشف الظنون. مطبوع.
في الرجال:
* (طبقات الفقهاء الشافعية)
ذكره شيخ الإِسلام النووي في مصادره من كتب الطبقات لتهذيب الأسماء واللغات، قال: " ومن كتب طبقات الفقهاء، كطبقات أبي عاصم العَبَّادي - الهروي من أئمة الشافعية الخراسانيين: 458 هـ - وطبقات الشيخ أبي إسحاق، هو الشيرازي، وطبقات أبي عمرو ابن الصلاح، وهي مقطعات، وقد شرعت في تهذيبها وترتيبها. وهو كتاب نفيس لم يُصنَّف مثلُه ولا قريب منه ولا يغني عنه في معرفة الفقهاء غيرُه، ويقبح بالمنتسب إلى مذهب الشافعي جهله " تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 1 / 6.
وقال التاج عبد الوهاب السبكي في خطبة طبقاته الكبرى، وذكر من سبقوه إلى التأليف فيها: " ثم جاء الشيخ ابن الصلاح، رب الفوائد والفرائد ومجمع الغرائب والنوادر، فألف كتابه، وقد كان - رحمه الله - فيما يُفهم من كلامه، عزم على أن يجمع جمعًا ما بعده مطلب لِمُتَعَنِّتٍ ولا أَمَلٌ لِمُتَمَنٍّ، ولكن المنية حالت دون مقصوده فقضى نحبه والكتاب مسودة. فأخذه الشيخ الإِمام الزاهد أبو زكريا النووي واختصره وزاد عليه أسماء قليلة جدًّا. ومات أيضًا وكتابه مسودة فبيّضه شيخنا حافظ الزمان أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي - رحمه الله - .. ".
نقله حاجي خليفة في الكشف (2/ 1101) مع خلاف يسير.
وللتقي السبكي، علي بن عبد الكافي الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي، قاضي القضاة الفقيه الأصولي (683 - 756 هـ) كتاب " منتخب طبقات الفقهاء لابن الصلاح " ذكره له ابنه التاج عبد الوهاب في معجم شيوخه (مخطوط دار الكتب بالقاهرة).
* (المنتخب من المُذَهَّب في ذكر شيوخ المذهَبِ للمُطَوَّعي) - في فهارس الخزانة الظاهرية بدمشق. توجد مسودة منه برقم (157 عام) - وذكره التاج السبكي في مطلب ما صُنف في طبقات الشافعية، ونص عبارته " فأول مَن بلغني صنف في ذلك، الإمام(1/29)
أبو حفص عمر بن علي المُطَوَّعي، المحدث الأديب. صنف للإِمام الجليل أبي الطيب سهل بن الإِمام الكبير أبي سهل محمد بن سليمان الصعلوكي كتابًا سماه: المُذَهَّب في ذكر شيوخ المَذهب، وهو كتاب حسن العبارة مليح الإِشارة. وأنا لم أطلع عليه ولكن وقفت على منتخب انتخبه منه الإِمام أبو عمرو ابن الصلاح " الطبقات 1/ 114.
ثم نقل منه في ترجمة الإِمام أبي الطيب سهل أبياتًا أنشدها أبو حفص عمر بن علي المطوعي في كتاب المذهب، عن بعض أهل عصره، في المبعوثين على رءوس المئات الأربع الأولى (1).
نقله حاجي خليفة فوهم في نسبة الكتاب، قال في حرف الطاء: عن التاج السبكي في: " طبقات الشافعية .. فأول من بلغني أنه صنف فيه الإِمام أبو حفص عمر بن علي المطوعي المحدث الأديب. ثم صنف فيه الإِمام أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي المتوفى سنة أربع وأربعمائة كتابًا سماه المذهب في ذكر شيوخ المذهب. وقفت على منتخب منه انتخبه الإِمام أبو عمرو ابن الصلاح .. " الكشف 2/ 1100. وتكرر مثل هذا الوهم في حرف الميم: منتخب (الكشف 2/ 1100).
* (كتاب حلية الإِمام الشافعي).
أفاد سزجين بوجود نسخه منه من القرن السابع الهجري في الظاهرية بدمشق (فهرس الأستاذ يوسف العيش 2/ 168) وتصحفت كنية أبي عمرو ابن الصلاح في كتاب التراث العربي لسزجين، بأبي عمر، وكذا هو في غير موضع من كتاب سزجين، أو في الترجمة العربية للكتاب.
__________
(1) الطبقات الكبرى (3/ 171) وأرخ وفاة الإِمام أبي الطيب الصعلوكي، عالم المائة الرابعة، سنة أربع وأربعمائة. ومثله ابن خلكان في الوفيات والذهبي في تاريخ الإِسلام والعبر ودول الإِسلام، وابن الأثير في الكامل، والأنساب للسمعاني واللباب. وترجم له الإِمام النووي في حرف السين من تهذيب الأسماء.
وفي طبعة بيروت (من الطبقات) نقلاً عن الحاكم أبي عبد الله: " توفي عشية الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ". والذي في طبقات السبكي عن الحاكم، قال في سياق الخبر عن مجلسه العلمي: وبلغني أنه وضع في مجلسه أكثر من خمسمائة محبرة عشية الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة " 5/ 170. فلعل الوهم من ههنا.(1/30)
ولأبي عمرو ابن الصلاح أيضًا:
* (فوائد الرحلة):
ذكرها له التقي الفاسي، قال: " وله فوائد جمعها من رحلته " (ذيل التقييد 216) وابن قاضي شهبة في طبقاته الشافعية (52 أ مخطوط دار الكتاب بالقاهرة) ونقل منها الزين العراقي في (التقييد والإِيضاح) والشمس السخاوي في (فتح المغيث: 1/ 277، 2/ 285 .. ).
وقال حاجي خليفة، في حرف الفاء من كشف الظنون: " وهي مشتملة على قواعد - كذا ولعلها فوائد - غريبة من أنواع العلوم، نقلها في رحلته إلى خراسان ".
وجاءت في هدية العارفين باسم: الرحلة الشرقية.
* (أفراد العلم):
نقل منه الشمس السخاوي في (فتح المغيث 3/ 145).
* (التحرير):
ذكره الحافظ العراقي، ونقل منه في (التقييد والإِيضاح: في النوع الحادي والأربعين، الأكابر الرواة عن الأصاغر) (1).
__________
(1) قابل على مصنفات ابن الصلاح هنا، قائمة (بروكلمان) لمصنفاته، في (تاريخ الأدب العربي: 6/ 202: 211 - الترجمة العربية) وهي مصدر سخي لأماكن مخطوطاتها في خزائن المشرق والمغرب، وإن لم تخل من أوهام ننبه عليها في مواضعها، من سياق هذا العرض.(1/31)
أصحابه وتلاميذه:
خلَّف التقي ابن الصلاح أجيالاً من أصحابه وتلاميذه، عمرت بهم الحواضر الإِسلامية من عصره إلى آخر الربع الأول من القرن السابع، أقدمهم وفاةً فيما نعلم - والله أعلم - أبو مروان الباجي محمد بن أحمد بن عبد الملك الإِشبيلي (654 - 635). ثم امتدت بهم مدرسته في الفقه والحديث، في الأئمة الأعيان من تلاميذهم.
وتفقه على ابن الصلاح أئمة، منهم شيوخ الإِمام النووي الكبار الذين تفقه بهم في المذهب على طريقة الشاميين وعلى طريقة الخراسانيين، " قراءة وتصحيحًا وسماعًا وشرحًا وتعليقًا. وتفقهوا بالإِمام أبي عمرو ابن الصلاح، وتفقه بأبيه الصلاح عبد الرحمن " وهم:
" الكمال إسحاق، بن أحمد بن عثمان، أبو إبراهيم المعري " المتفق على علمه وورعه، أقام مع شيخه ابن الصلاح معيدًا له في المدرسة الرواحية. وجَمَع فتاويه، وسمع عليه السنن الكبرى للبيهقي، وعلوم الحديث (- 650 هـ).
و " شمس الدين أبو محمد، عبد الرحمن بن نوح المقدسي ثم الدمشقي " من أجلِّ أصحاب ابن الصلاح، وأعرفهم بالمذهب، درس بالرواحية بعده (- 654 هـ).
و " أبو حفص، عمر بن أسعد بن أبي غالب الشافعي، القاضي عز الدين ".
و " الكمال سلار بن عمر بن سعيد الإِربلي الدمشقي، من جلة شيوخ النووي، أصحاب ابن الصلاح (- 670 هـ) تهذيب النووي [1/ 18]، والعبر، وفيات (670 هـ).
ومعهم من طبقتهم، ثم من يليهم:
" أبو شامة المقدسي (599 - 665 هـ) وفيات الشريف عز الدين.
" الضياء الأسعردي أبو العباس بن إبراهيم (615 - 665 هـ) وفيات الشريف عز الدين.
" الكمال أبو الفتح التفليسي، عمر بن بُندار بن عمر الشافعي " القاضي الفقيه درَّس وأفتى وبرع في الأصول والأحكام. جالس ابنَ الصلاح وقرأ عليه كتابه في علوم الحديث، يأتي في طبقة السماع لنسخة (ع) (602 - 672 هـ).
" التقي ابن رزين، أبو عبد الله محمد بن الحسين الحموي ثم المصري الشافعي قاضي القضاة شيخ الإِسلام " (603 - 680 هـ) ومن الرواة عنه.(1/32)
يأتي في رواة كتابه. وحدث أيضًا بالسنن الكبرى للبيهقي، سمعه منه الشرف الدمياطي. أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الشافعي الحافظ النسابة. معجم شيوخ الدمياطي (4/ 34) مخطوط الأزهر الشريف.
" ابن خلكان، شمس الدين أبو عبد الله الشافعي قاضي القضاة " 608 - 681 هـ.
" التاج ابن الفركاح، أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري الدمشقي، فقيه الشام شيخ الإِسلام " (624 - 690 هـ) وأخوه الشرف أبو العباس أحمد (630 - 705 هـ) وهما من رواة الحديث عنه.
" الشرف النابلسي، أبو العباس أحمد بن أحمد بن نعمة المقدسي الشافعي خطيب دمشق ومفتي الشام "، انتهت إليه رياسة المذهب بعد التاج عبد الرحمن (694 هـ).
" الزين الغساني محمد بن الحسين بن علي التدمري الشافعي " قاضي تدمر، (612 - 697 هـ).
والذين سمعوا عليه الحديث كثرة لا يُحْصَوْن عدًّا. واقتصر على من سمعوا عليه كتابه في علوم الحديث - ويأتون في المبحث التالي - ومن سمعوا عليه الصحيحين والسنن الكبرى للبيهقي عن المؤيد الطوسي ومنصور بن عبد المنعم الفراوي - بأسانيدهما المبينة في مبحث شيوخ ابن الصلاح - فيما وقفت عليه من معاجم الشيوخ وكتب الطبقات والرجال والرحلات والبرامج والفهارس لرواة الكتب الكبار *.
__________
* بالتجريد من:
وفيات الشريف عز الدين: مصورة الخزانة العامة بالرباط، من مصورة بغداد لمخطوط كوبريللي. والترتيب فيها على سني الوفيات، كالعبر وذيله، وتاريخ الإِسلام للذهبي، مخطوط دار الكتب بالقاهرة، والترتيب فيه على حروف المعجم في وفيات السنن. وطبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي، والترتيب فيها على حروف المعجم لوفيات القرون. ذيل التقييد للتقي الفاسي، مخطوط دار الكتب، والترتيب فيه على حروف المعجم. وهو الترتيب في معاجم الشيوخ: الذهبي والتاج السبكي والمجمع المؤسس لابن حجر: مخطوطات دار الكتب. ومعجم شيوخ أبي الفتح اليعمري وبرنامج مروياته، تخريج الزميل الدكتور محمد الراوندي الأستاذ بدار الحديث الحسنية بالرباط، مخطوط. وما عداها من كتب الأعلام والرحلات والفهارس والبرامج، تُذكر مواضع الإِحالة عليها، حيث تجيء.(1/33)
ممن سمعوا عليه (صحيح البخاري):
" أبو اليمن ابن عساكر، أمين الدين عبد الصمد (614 - 686 هـ) يأتي في رواة كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث.
" العماد الشَّقَاري، يوسف بن أبي نصر بن أبي الفرج الدمشقي الأمير المسند (مولده في حدود سنة 610 وتوفي بدمشق سنة 684 هـ، ولي إمارة الحج مرات، وحدث. سمع منه الحافظ الذهبي. (معجم شيوخه) ولقيه الحافظ " أبو عبد الله ابن رُشيد السبتي " بالمدينة المنورة وأجاز له ولبنيه وأصحابه المذكورين في الاستدعاء. وكتب خطه في الرابع والعشرين من ذي قعدة سنة 684 هـ (ملء العيبة 5/ 65).
" فاطمة البطائحية، أم الخير وأم محمد، بنت إبراهيم بن محمود بن جوهر البعلبكي البطائحي المعمرة المسندة (625 - 711 هـ) من مسموعاتها على ابن الزبيدي وابن الصلاح صحيح البخاري - بفوت معين من أوله إلى باب التقارب في المسجد - وقرئَ عليها خمس مرات (ذيل التقييد / النساء) وقرئَ عليها في المدينة المنورة بجانب الروضة الشريفة. سمع عليها أبو عبد الله ابن رشيد. وكتبت له خطها بالإجازة في جميع مروياتها (ملء العيبة 5/ 37) خط.
وممن سمعوا عليه (صحيح مسلم):
" أبو اليمن ابن عساكر، أمين الدين عبد الصمد (614 - 688 هـ) مَرَّ فيمن سمعوا صحيح البخاري على ابن الصلاح. ويأتي في رواة كتابه علوم الحديث.
" العفيف التلمساني، سليمان بن علي بن عبد الله. وحدث (- 690 هـ).
" التاج أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري (624 - 690) وأخوه الشرف أبو العباس أحمد (630 - 700 هـ) وحدثا. سمع منها الأئمة (شيوخ الذهبي، وذيل التقييد).
" سونج بن محمد بن سونج بن عمر، أبو عبد الله التركماني الدمشقي (694 هـ) من مسموعاته على ابن الصلاح صحيح مسلم. وحدث. سمع منه الذهبي بالنيرب، وجامع دمشق (معجم شيوخ الذهبي، وتاريخ الإِسلام).
" ابن العطار، الكمال أبو العباس بن أبي الفتح الشيباني الدمشقي " رئيس الكتاب(1/34)
(626 - 702 هـ) يأتي في رواة كتاب ابن الصلاح.
" الشرف اليونيني، أبو الحسين علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله " شيخ بلاده، والرحلة إليه. قرأ البخاري على ابن مالك تصحيحًا، وأملى عليه فوائد مشهورة. سمع ابنَ الصلاح وتخرج به (621 - 701 هـ) تذكرة الحفاظ.
" الزين الفارقي، عبد الله بن مروان بن عبد الله الدمشقي الشافعي " شيخ الأشرفية بعد الإِمام النووي وخطيب الجامع الأموي (633 - 703 هـ) من مسموعاته على أبي عمرو ابن الصلاح صحيح مسلم. وحدث، سمع منه كثير من الحفاظ الأئمة (ذيل التقييد: ترجمتا الفارقي وابن الصلاح، ومعجم شيوخ الذهبي، وبرنامج الوادياشي 195/ 146).
" ابن بيان الأنصاري الدمشقي، الشهاب محمد بن أبي العز بن مشرف بن بيان البزاز الشافعي " شيخ الرواية بالأشرفية (620 - 707 هـ) من مسموعاته على ابن الصلاح صحيح مسلم. وحدث وعُمِّر وتفرد. سمع منه الأئمة (ذيل التقييد، وبرنامج الوادياشي 168/ 138).
" الشرف عطوف العطار، محمد بن علي بن أبي طالب الحسيني " من مسموعاته على ابن الصلاح صحيح مسلم. وحدث. توفي بالقاهرة (710 هـ) ذيل التقييد.
" الشرف موسى بن علي بن أبي طالب العلوي الموسوي، عز الدين أبو الفتح الدمشقي الحنفي العدل المعمر المسند (- 715 هـ). سمع صحيح مسلم كاملاً على ابن الصلاح والمشايخ الكبار. وسكن مصر في سنة سبعمائة، وعُمر ورحل إليه. وتوفي بها عن سبع وثمانين سنة وهم يسمعون عليه الصحيح (معجم شيوخ الذهبي والعبر، وذيل التقييد).
وممن سمعوا على ابن الصلاح (السنن الكبرى للبيهقي) سماعه على منصور الفراوي، بسماعه على أبي المعالي الفارسي، بسماعه من أبي بكر البيهقي:
" تقي الدين أبو عبد الله، محمد بن طرخان السلمي الدمشقي الحنبلي (561 - 637 هـ) - طباق السماع: مطبوعة السنن 8/ 349.(1/35)
" المجد أبو عبد الله الصفار، محمد بن محمد بن عمر الصفار الإِسفراييني قارئ دار الحديث الأشرفية بدمشق ومن رواة صحيح مسلم عن المؤيد الطوسي (587 - 648 هـ) وفي طباق السماع للسنن الكبرى، بمطبوعة الهند عن الأصل المسموع على ابن الصلاح " بقراءة الشيخ الفقيه مجد الدين أبي عبد الله محمد ابن محمد بن عمر الصفار " 8/ 346.
" محمد بن عَرَبشاه بن أبي بكر بن أبي نصر، أبو عبد الله الهمذاني ثم الدمشقي (607 - 677 هـ) من رواة صحيح البخاري. وسمع السنن الكبرى للبيهقي على ابن الصلاح (سماعات السنن 8/ 347، مع ذيل التقييد).
" التقي ابن رزين. أبو عبد الله محمد بن الحسين (603 - 680 هـ) مَرَّ فيمن تفقهوا على التقي ابن الصلاح، ويأتي في رواة كتابه علوم الحديث واسمه مثبت في أول طبقة للسماع لأصل (غ) ومعه:
" أحمد بن عبد الله بن شعيب التميمي " وله قصيدة في مدح الكتاب والمؤلف. انظر ص 125، 127.
وحدث عنه بالسنن الكبرى للبيهقي، سمعها عليه جماعة بقراءة الشريف عزالدين الحسيني، أبي العباس أحمد بن محمد (685 هـ) بالمدرسة السلطانية بالقاهرة، في مجالس آخرها يوم الأحد الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 674 هـ. وصح السماع، وكتب محمد بن رزين (سماعات السنن الكبرى: 8/ 346 - 350).
وسمعه منه الشرف الدمياطي، أبو محمد عبد المؤمن بن خلف (معجم شيوخ الدمياطي، مخطوط خزانة الأزهر).
" عبد المعطي بن عبد الكريم بن أبي المكارم الأنصاري الخزرجي، جمال الدين أبو محمد القوصي المصري (588 - 681 هـ) حدث عن أبي عمرو ابن الصلاح بكتابه في علوم الحديث، ويأتي في رواته. وسمع عليه السنن الكبرى للبيهقي (سماعات: 8/ 347).
" الصفي خليل بن أبي بكر بن محمد، أبو الصفا المراغي الحنبلي، الفقيه المحدث المسند (600 - 685 هـ) من مسموعاته على ابن الصلاح السنن الكبرى للبيهقي (8/ 347) وحدث. سمع منه الحافظان أبو الفتح اليعمري وأبو عبد الله الذهبي.
" الفخر البعلبكي، أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف الحنبلي الفقيه (611 - 688 هـ) عرض على ابن الصلاح كتابه في علوم الحديث، ويأتي في رواته. وسمع عليه السنن الكبرى للبيهقي (طباق السماع 8/ 347).
" الفخر الكرجي، أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الشافعي (611 - 688 هـ) ممن(1/36)
سُمِع بقراءته على ابن الصلاح، كتابه في علوم الحديث، وسمع عليه السنن الكبرى للبيهقي (طباق 8/ 346) والمدخل إليها، وحدث به. روى عنه الحفاظ الأئمة (ذيل التقييد).
" العفيف التلمساني، سُليمان بن علي بن عبد الله (690 هـ).
" ابن الفركاح، التاج أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري (624 - 690 هـ) مَرَّ فيمن تفقهوا به، وفي من سمعوا عليه صحيح مسلم. وحدث عنه كذلك بالسنن الكبرى للبيهقي (ذيل التقييد: ترجمتا ابن الصلاح، والتاج عبد الرحمن).
" ابن الفركاح، الشرف أبو العباس احمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري الدمشقي الشافعي، الخطيب (630 - 705) مرَّ مع أخيه التاج عبد الرحمن فيمن تفقهوا بابن الصلاح وسمعوا عليه صحيح مسلم. وسمع عليه الشرف أبو العباس كذلك، من السنن الكبرى للبيهقي، وحدث. سمع منه الحفاظ (شيوخ الذهبي، وذيل التقييد).
" ابن صدقة، أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن بن صدقة المخرمي (709 هـ) سمع على ابن الصلاح السنن الكبرى للبيهقي: سماعات (8/ 347).
" ابن المهتار، ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد السلمي الدمشقي الشافعي نائب الحكم " المسند المعمر (715 هـ) يأتي في رواة علوم الحديث عن ابن الصلاح. وسمع عليه كذلك المجلدات الستة الأولى من السنن الكبرى للبيهقي وجزءًا من أماليه فيه الحديث المسلسل بالأولية. وحدث. سمع منه الحفاظ (ذيل التقييد).
" الشهاب الجبلي، أبو العباس أحمد بن علي بن الزبير الدمشقي الشافعي، قاضيها " المحدث المعمر المسند (635 - 624 هـ) من مسموعاته على أبي عمرو ابن الصلاح مجلدان من السنن الكبرى للبيهقي، والأربعون المخرجة من المجلد الأول، انتقاء أبي المعالي الفارسي راوي الكتاب عن أبي بكر البيهقي. وحدث، سمع منه الحفاظ العلم البرزالي والذهبي، وابنه أبو هريرة زين الدين عبد الرحمن (799 هـ) وحدث بها عن الشهاب الجبلي، وسمعها عليه الحافظ ابن حجر (معجم شيوخ الذهبي، وذيل التقييد 108، 109، والمجمع المؤسس 172).(1/37)
" الشهاب الصقلي الدمشقي، أحمد بن العفيف محمد بن عمر بن عثمان الحنفي " إمام مسجد الرأس بدمشق، وآخر من سمع ابن الصلاح (637 - 725 هـ) حدث عنه بالسنن الكبرى للبيهقي، بفوت. سمع منه الحفاظ البرزالي والذهبي، وابنه أبو هريرة وحدث بها عنه. سمعها عليه الحافظ ابن حجر (شيوخ الذهبي، وذيل التقييد 121، 191 والمجمع المؤسس 172).(1/38)
كتاب ابن الصلاح
* رواته وأصولهم
* والمصنفات عليه
كتابه في علوم الحديث، هو أشهر مصنفاته على الإِطلاق بحيث يكفي أن يقال: كتاب ابن الصلاح، فيتجه إليه لشهرته ومكانته، وغلب على المتقدمين ذكره بموضوعه: كتاب ابن الصلاح ِ في علوم الحديث. أو كما سماه في خطبته: كتاب معرفة أنواع علم الحديث. واشتهر بآخرة، بمقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث *، إذ قدم فيه خلاصة لِسِتَّةٍ وستين نوعًا، قَلَّ منها لم يُصنَّف فيه قبله كتاب مفرد أو أكثر. فجاء كتاب ابن الصلاح أشبه بمقدمة جامعة لعلوم الحديث، احتاجت إليها عصور الملخصات التي أشار إليها في ديباجة الكتاب.
رواة الكتاب:
سمعه عليه من لا يُحصَون كثرة. وإنما نقدم هنا الذين وقفنا على ذكر أصولهم منه، أو حُمِلت عنهم روايته عن المصنف. مرتبين على تاريخ السماع أو تواريخ وفياتهم:
(1) أصل أبي مروان الباجي
" محمد بن أحمد بن عبدالملك الإِشبيلي المالكي " الفقيه الحجة النبيل القدوة. مولده بإشبيلية سنة 564 هـ، وخرج إلى المشرق حاجًا، فأبحر من سبتة في المحرم سنة 634 فدخل عكا في منتصف شهر رجب، وقدم دمشق لسبع خلون من شهر رمضان، وأقام بها إلى منتصف شوال حيث سمع على أبي عمرو ابن الصلاح كتابه في علوم الحديث، ثم خرج مع الركب الشامي إلى الحجاز وبعد أن حج أبحر من جدة إلى عيذاب ثم اتجه إلى
__________
* انظر مقدمة الشيخ محمد محي الدين عبدالحميد لكتاب (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار) للأمير الحسني الصنعاني محمد بن إسماعيل 1/ 38 ط السلفية بالمدينة المنورة، مع (بروكلمان: 6/ 202 - 211).(1/39)
القاهرة في النيل من قنا إلى قوص حيث بلغه أن الملك الكامل أمر بالبحث عنه وإكرامه، لما بلغه من فقهه ونبله، وكان الكامل يبحث عمن يوليه مشيخة الكاملية بالقاهرة بعد وفاة شيخها أبي الخطاب ابن دحية الكلبي السبتي في شهر ربيع الأول لسنة 633 هـ. لكن أبا مروان الباجي، كان عارفًا عن المناصب، ودخل القاهرة خفية فنزل في خان مغمور، حيث توفي عقب وصوله، ليلة الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الأول سنة 635 هـ، فتأسف السلطان لموته، وشيع في جنازة مشهودة إلى مثواه بالفرقة.
قال ابن عبدالملك المراكشي أبو عبدالله محمد بن محمد (- 703 هـ): " .. وسمع بدمشق على نزيلها المحدث الشهير أبي عمرو ابن الصلاح تألفيه في علوم الحديث، وهذا الأصل الذي سمع فيه قد صار إليَّ والحمد لله وفيه خط الحافظ ابن الصلاح بتصحيح التسميع، وقد تضمن إذنه في روايته لكل من حصَّل منه نسخة. فانتسخ منه جماعة من جلة أهل العلم ونبلائهم، منهم: أبو الحسن الشاري وأبو عمرو عثمان ابن الحاج وأبو القاسم أحمد بن نبيل وغيرهم " من أعيان القرن السابع.
(الذيل والتكملة: 5/ 685 الترجمة 1298).
وأصل أبي مروان الباجي، ذكره الحافظ أبو عبدالله ابن رُشَيد السبتي، في (إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح): رواية ابن الصلاح عن منصور بن عبدالمنعم الفراوي، بسنده.
(ص 103 ط أولى الدار التونسية للنشر).
(2) أصل التقي ابن رزين
أبي عبدالله محمد بن الحسين بن رزين الحموي ثم المصري الشافعي، قاضي القضاة (603 - 680 هـ).
سماعه من أبي عمرو ابن الصلاح في المدرسة الرواحية بدمشق سنة 636 هـ.
* منه النسخة (غ) المعتمدة في أصول النص المحقق. منقولة من نسخة الشمس ابن جميل، ومقابلة على أصل المسمِّع ابن جميل، شمس الدين أبي عبدالله محمد بن أبي القاسم(1/40)
بن عبدالسلام الربعي التونسي المالكي قاضي الإِسكندرية (639 - 715 هـ) قرأها على التقي ابن رزين مرتين، كملت أولاهما في الحادي عشر من المحرم سنة 673، وكملت الثانية في السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 678 هـ. وكتب محمد بن الحسين بن رزين الشافعي خطه بتصحيح السماع وكماله في المرتين. قوبلت عليها نسخة الفخر ابن المنير، عز القضاة عبدالواحد بن منصور بن محمد بن المنير الجذامي الإِسكندري المالكي (651 - 733 هـ) المقروء عليه في الثغر، سنة 718 هـ.
* ومن طريق ابن رزين:
" الحافظ شهاب الدين أبو الفضل ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني المصري الشافعي "، شيخ الإِسلام (773 - 852 هـ) عن شيخه أبي المعالي الأزهري، عبدالله بن عمر بن علي بن المبارك (728 - 807 هـ) سماعًا عليه عن البدر الفارقي، محمد بن أحمد بن خالد المصري (660 - 741 هـ) سماعًا عليه، بسماعه على التقي ابن رزين بسماعه على مؤلفه (المجمع المؤسس لابن حجر: 140) وسمع الحافظ ابن حجر كتاب ابن الصلاح كذلك على شيخه ابن أبي المجد علاء الدين محمد بن محمد بن أبي المجد بن علي الدمشقي خطيب مسجد الجوزة مسند الشام (707 - 800 هـ) بإجازته من ناصر الدين ابن المهتار - يأتي معه - وبسماعه على أبي المعالي الأزهري، بسماعه على البدر الفارقي: أنا ابن رزين، أنا ابن الصلاح (المجمع المؤسس: 214). وممن سمعه على ابن حجر. الشمس السخاوي. (ترجمته لنفسه في الضوء اللامع) وممن سمعه على ابن أبي المجد: الزين رضوان بن محمد بن يوسف، محدث الوقت ومفيد القاهرة (769 - 852 هـ) ويأتي في تلاميذ السراج البلقيني.
وسمع كتاب ابن الصلاح على التقي ابن رزين: " ابنُ القماح أبو المعالي شمس الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن حيدرة القرشي المصري الشافعي " القاضي الفقيه الحافظ المسند (655 - 741 هـ) وحدث. سمع منه الجمال الأميوطي (ذيل التقييد 1 / ب) وترجمة ابن القماح شمس الدين في ذيل العبر. وفي طبقات السبكي 5/ 212 والدرر. وفيها وفاته سنة 740 هـ.
وتنتمي إلى أصل ابن رزين أيضًا:(1/41)
نسخة الزريقي، الإِمام الحسن بن محمد بن علي الزريقي (896 - 960 هـ تقريبًا) كتبها برسمه ابنه محمد الزريقي. وسند الإِمام الزريقي فيها، إلى التقي محمد بن الحسن بن رزين عن المصنف. وهي النسخة المرموز إليها بحرف (ز) في نسخ النص المحقق.
(3) عبدالمعطي بن عبدالكريم بن أبي المكارم.
الأنصاري الخزرجي، أبو محمد القوصي (583 بقوص - 681 هـ في القاهرة) سمع على أبي عمرو ابن الصلاح السنن الكبرى للبيهقي (8/ 347) وكتابه في علوم الحديث. وحدث به. سمعه منه الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري الإِشبيلي المصري، محمد بن أبي عمرو محمد بن أبي بكر محمد بن أبي العباس أحمد " شيخ مدرسة الظاهرية بالقاهرة، وصاحب السيرة الكبرى عيون الأثر، ومنح المدح، وديوان بشرى اللبيب، وشرح الترمذي (672 - 733 هـ).
(معجم شيوخ اليعمري، وبرنامج مروياته) تخريج الأستاذ الدكتور محمد الراوندي، من مباحث رسالته لدكتوراه الدولة في علوم الإسلام طبع وزارة الأوقاف المغربية بالرباط 1410 هـ - 1990 م وموضوعها: (أبو الفتح اليعمري، حياته وآثاره، وتحقيق أجونته. - بإشرافي -)
- ونقل السراج البلقيني في محاسن الاصطلاح (النوع التاسع) بالوجادة من نسخة عبدالمعطي بن عبدالكريم بن أبي المكارم الأنصاري " تلميذ ابن الصلاح وسامع هذا الكتاب منه ".
المحاسن، مع ذيل التقييد للفاسي - أرخ فيه لمولده ووفاته، وترك بياضًا لموضع ترجمته -.
(4) أصل ابن الحجام، أبي محمد اللخمي التونسي.
عبدالله بن محمد بن أحمد، سماعًا على ابن الصلاح سنة 634 هـ بالأشرفية بدمشق. واسمه في تقييدات السماع على النسخة (غ) وحدث به.
* قرأه عليه " أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد ابن عبدالله التجيبي "، شُهِرَ بابن الحاج.
لقيه أبو عبدالله ابن رُشَيْدٍ بتونس مقدمَه عليها من بلاد المغرب برسم الوجهة الحجازية سنة 684 هـ، وأجاز له ولبنيه مسموعاته، ومنها: كتاب معرفة أنواع علم(1/42)
الحديث، إملاء أبي عمرو ابن الصلاح: قراءته على الإِمام أبي محمد عبدالله بن محمد اللخمي، وحدثني به عن مؤلفه - رحمه الله -، سماعًا عليه. (ملء العيبة 1/ 64 مخطوط القاهرة).
* وحمله الحافظ ابن حجر، بالإجازة عن " محمد بن محمد بن عرفة الورغمي، أبي عبدالله التونسي المالكي " إمامها وخطيبها، شيخ الإِسلام (716 - 803 هـ) ترجم له ابن حجر في شيوخه بالإِجازة، قال:
" قدم علينا حاجًّا سنة 793 فلم يتح لي لقاه، لكني استدعيت منه الإِجازة فكتب لي ما نصه: أجزت كاتبها ولمن ذكر معه في جميع ما ذكره، إجازة تامة بشرطها المعروف جعلني الله وإياه من أهل العلم النافع " ومن سماعاته على محمد بن عبدالسلام أبي عبدالله الهواري التونسي المالكي، قاضي الجماعة (- 749 هـ) بقراءته على أبي العباس أحمد بن موسى البطرني التونسي (668 - 710 هـ)، قال: أنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن أحمد اللخمي سماعًا، قال: أنا الإِمام تقي الدين أبو عمرو ابن الصلاح، سماعًا عليه في سنة 634 بالأشرفية بدمشق ".
(المجمع المؤسس 285).
وفي برنامج " المجاري، أبي عبدالله محمد بن محمد بن علي بن عبدالواحد الأندلسي - 862 هـ " سماعه لكتاب علوم الحديث لابن الصلاح، على شيخه الإِمام أبي عبدالله ابن عرفة الورغمي، قرأ بعض الكتاب على شيخه محمد بن عبدالسلام، وسمع سائره، وأجازه جميع ما رواه (143 ط بيروت 1985).
(5) أصل المجد ابن المهتار.
أبي الفضائل يوسف بن محمد بن عبدالله المصري ثم الدمشقي الشافعي الفقيه الصدر النبيل، قارئ الحديث بالمدرسة الأشرفية بدمشق، ومن أجَلِّ أصحاب أبي عمرو ابن الصلاح (610 - 685 هـ).
منه النسخة الموصلية المرموز لها بحرف (ص) في النسخ الأصول للنص المحقق، وهي(1/43)
أقدم نسخة وصلت إلينا من كتاب ابن الصلاح - وقع الفراغ من نسخها في مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وستمائة - والأصل الأم لها، سمعه على التقي أبي عمرو ابن الصلاح - بقراءة الفخر الكرجي، أبي حفص عمر بن يحيى - كاتبُ الطباق يوسف ابن محمد بن عبدالله المصري - هو المجد ابن المهتار - في جماعة كُتبت أسماؤهم بخطه. بدار الحديث الأشرفية بدمشق، في مجالس آخرها يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وستمائة. وعليها خط الحافظ ابن الصلاح، بصحة السماع.
وآلت النسخة المنقولة من هذا الأصل بالتملك إلى " ابن العديم ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر ابن قاضي القضاة عزالدين عبدالعزيز العقيلي الحلبي (689 - 752 هـ) قرأ نحو الثلث الأول منها على حافظ العصر زين الدين العراقي عبدالرحيم بن الحسين (725 - 806 هـ) وكتب خطه على المجالس المقروءة عليه.
(6) أبو اليمن ابن عساكر.
أمين الدين عبدالصمد بن التاج عبدالوهاب بن رزين الأمناء الحسن بن محمد بن هبة الله الدمشقي الشافعي، المجاور بمكة المكرمة (614 - 686 هـ) جاور بها أربعين سنة، وحدث بها وبالمدينة المنورة، بمسموعاته، ومنها:
(الصحيحان) روايته على التقي أبي عمرو ابن الصلاح، قراءة عليه، عن شيخه منصور بن عبدالمنعم الفراوي عن جد أبيه أبي عبدالله الفراوي محمد بن الفضل، بسنده فيها. حدث بها " أبو اليمن " في المسجد النبوي تجاه الحجرة الشريفة، وسمعها عليه جماعة بقراءة أبي عبدالله ابن الحكيم الرندي في مجالس، أوائلَ ذي القعدة سنة 684 هـ. وكتب بخطه بتصحيح السماع والإِجازة (ملء العيبة 5/ 166 / خط).
و (كتاب ابن الصلاح): سُمِعَ عليه بقراءة أبي عبدالله ابن الحكيم، قال " أبو اليُمْن " فيما نقله الحافظ ابن رشيد بخطه من أسمعته مروياته، وتصحيح السماع عليه: " كتاب معرفة أنواع علوم الحديث: تأليف شيخنا إمام عصره وشيخ وقته قدوة أهل الشام وشيخ الإِسلام أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن أبي النصر المعروف(1/44)
بابن الصلاح قدس الله روحه ونور ضريحه .. ، بسماعي لجميع الكتاب من إملائه علينا من لفظه، وقراءة علينا وأنا أسمع، وقراءة عليه عودًا على بدء، سمعوا ذلك مني وأجزتهم روايته عني بسندي المذكور، وأجزتهم رواية ما أسنده في أثنائه من مشايخه الذين أجازوا لي بإجازتي منه. رحمه الله ورحمهم ". (ملء العيبة: 5/ 177) مخطوط دار الكتب المصرية 37851 المنسوخ من مصورتها 2376 طلعت، لمخطوط الاسكوريال.
(7) الفخر البعلبكي.
أبو محمد، عبدالرحمن بن يوسف الحنبلي المفتي (611 - 688 هـ) ذكر الذهبي في ترجمته أنه عرض كتاب علوم الحديث على مؤلفه ابن الصلاح (العبر 5/ 385) ونقله ابن العماد في الشذرات (5/ 404) ولم أقف في تراجم من أخذوا عن " الفخر "، على تصريح بسماع الكتاب عليه.
(8) ابن الحَصَّار، أبو عبدالله الكتامي.
محمد بن محمد بن عبدالله التلمساني ثم السبتي المالكي الحاج الفقيه المحدث الضرير (692 هـ) حدَّث بسبتة، بكتاب معرفة علوم الحديث لابن الصلاح. سمعه منه عدد من الحفاظ المغاربة منهم:
* " الشيخ الأديب الحسيب السري أبو الحسن ابن رزين علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أبي بكر بن رزين التجيبي.
من أهل مرسية، وانتقل منها سنة 604 هـ، وسكن سبتة مدة ثم انتقل إلى بجاية سنة ثمان أو تسع وأربعين. ثم استوطن تونس. لقيه الحافظ أبو عبدالله ابن رشيد بتونس وصحبه أيام مقامه بها قافلا من الحج، قال:
" وقرأت عليه وسمعت، وأجاز لي جميع مروياته ومصنفاته ولِبَنِيَّ وإخواني المذكورين قبل، وكتب لي خطه بذلك غير مرة ...
" من شيوخه الحاج الفقيه المحدث الضرير أبو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله(1/45)
الكتامي " شُهِرَ بابن الحصار. قرأ عليه وسمع منه .. ومن ذلك كتاب معرفة علوم الحديث لابن الصلاح، حدثه به عنه.
(ملء العيبة 2/ 2، 2/ 283، 279) خط.
من طريقه:
" التجيبي، أبو القاسم علم الدين السبتي " الحافظ الرحالة (730 هـ).
قال في (برنامجه): " كتاب معرفة أنواع علوم الحديث وبيان أصوله وقواعده وإيضاح فروعه وأحكامه وكشف أسراره وشرح مشكلاته وإبراز نُكته وفرائده وإبانة مصطلحات أهل الحديث ورسومهم ومعالمهم ومقاصدهم، إملاء الحافظ المفتي تقي الدين عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الشهرزوري ثم الشرخاني المعروف بابن الصلاح - رحمه الله تعالى -، أملاه مع تصنيفه شيئًا فشيًا بدار الحديث الأشرفية من دمشق حرسها الله تعالى ورحم بانيها:
" سمعت جميعه كاملاً عودًا بعد بدء، وقرأت جميعه أيضًا من أوله إلى آخره بلفظي على الشيخ التاريخي الثبت أبي عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله الكتامي - رحمه الله تعالى - فكَمُل لي جميعه على ثلاث مرات ما بين قراءة وسماع: أولاها في خمسة مجالس آخرها يوم الخميس الرابع والعشرين لشهر ربيع الأول المبارك من سنة تسع وثمانين وستمائة، بمسجد زقاق السلال من داخل سبتة عمره الله بذكره وحرسها. بحق سماعه لجميعه على مصنفه بقراءة أبي حفص عمر بن يحيى الكرجي في مجالس أربعة آخرها يوم الأحد خامس شوال سنة أربع وثلاثين وستمائة، بدار الحديث الأشرفية من دمشق ".
(برنامج التجيبي: 139 - 141) ط الدار العربية للكتاب 1981 م.
ويأتي سماع التجيبي للكتاب، من الكمال أبي العباس الشيباني الدمشقي، ومن الرضي الطبري أبي إسحاق المكي.
" الوادياشي، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن جابر القيسي المالكي، الفقيه المقرئ الرحالة المحدث (673 - 749 هـ).
قال في شيوخه:
" محمد بن محمد بن عبدالله الكتامي التلمساني السبتي، ابن الحصار نزيل سبتة. سمع(1/46)
علوم الحديث لابن الصلاح عليه بدمشق في رابع شوال عام أربعة وثلاثين وستمائة ".
(البرنامج: 149/ 132) ط تونس 1401 - 1981.
ويأتي سماع الوادياشي للكتاب، على شيخه الرضي الطبري.
(9) ابن خليل، الشهاب الخُوَبِّي.
أبو عبدالله محمد بن شمس الدين أبي العباس أحمد بن الخليل بن سعادة الشافعي قاضي القضاة بالشام وابن قاضي القضاة (626 - 693 هـ) سمع كتاب علوم الحديث على ابن الصلاح، ونَظَمَه، يأتي مع منظومته في المصنفات في الكتاب.
(10) الصدر الأرمَوي.
" محمد بن الحسين بن يوسف " المحدث الضابط المعمر المسند (610 - 700 هـ) قدم دمشق وتنزل في دار الحديث فحضر حلقة ابن الصلاح وسمع عليه كتابه في علوم الحديث، وحدث به.
رواه عنه القاضي عزالدين عبدالعزيز بن قاضي القضاة بدرالدين ابن جماعة الشافعي (694 - 767 هـ) فيما خرجه الحافظ زين الدين العراقي (725 - 806 هـ) من الأسانيد للقاضي عزالدين، وأنه يروي الكتاب عن الصدر الأرموي.
_ (ذيل التقييد) ومعه تاريخ الإِسلام، ومعجم شيوخ الذهبي، وترجمة ابن الصلاح في تذكرة الحفاظ، وابن جابر الوادياشي (البرنامج: 172/ 139).
(11) الكمال الشهرزوري.
" أبو العباس أحمد بن عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالرحمن، الصوفي القادري " نزيل القاهرة (619 - 701 هـ).
سمع بدمشق على خاله الحافظ أبي عمرو ابن الصلاح كتابه في علوم الحديث. وحدث به عنه. سمعه منه الحافظان الذهبي وأبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري والمغاربة.
_ (ذيل التقييد، ومعجم شيوخ الذهبي، واليعمري).(1/47)
وسمعه منه أيضًا، بحق سماعه من المؤلف:
" الشهاب ابن العطار العسقلاني، أحمد بن محمد بن أبي بكر - 673 هـ حدث عنه الحافظ الزين العراقي، وعنه الحافظ ابن حجر (الدرر، ترجمة الشهاب العسقلاني).
وممن رواه عنه من المغاربة:
" القاضي السراج الشريف أبو علي حسن بن يوسف بن يحيى بن أحمد الحسيني ".
وعنه ابنه:
" كمال الدين أبو القاسم محمد (718 - 781 هـ) وأجازه إجازة عامة. (فهرس السراج 174/ 77) مخطوط الخزانة العامة بالرباط: 2643 / د.
(12) الكمال الشيباني أبو العباس الدمشقي.
" الكمال أبو العباس أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش الشيباني الدمشقي " رئيس الكتاب (627 أو 626 - 702 هـ).
حدث عن ابن الصلاح بصحيح مسلم، وفوتِ سماع إبراهيم بن محمد بن سفيان منه، فهو يرويه بالإجازة أو الوجادة. حدث به عن ابن الصلاح، ابنُ العطار الكمال أبو العباس. ورواه عنه كاملاً أبو القاسم التجيبي في (برنامجه: 86 - 87).
وحدث عنه أيضًا بكتابه في علوم الحديث، سماعًا عليه بدار الحديث الأشرفية بدمشق سنة 638 هـ.
قرأه عليه أبو القاسم التجيبي، بداره بدمشق (برنامج التجيبي 140).
ومرَّ سماع التجيبي للكتاب، قراءته كاملاً على ابن الحصار أبي عبدالله الكتامي، ويأتي سماعه كذلك من الرضي الطبري.
(13) ابن الفركاح شرف الدين.
" أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري الدمشقي الشافعي خطيب دمشق (630 - 705 هـ).
سمع مع أخيه التاج عبدالرحمن صحيح مسلم على ابن الصلاح بسماعه من المؤيد(1/48)
الطوسي. وسمع عليه أيضًا كتابه في علوم الحديث. وحدث. سمع منه الحافظ الذهبي. (الدرر، وذيل التقييد، ومعجم شيوخ الذهبي).
(14) ابن المهتار ناصرالدين.
" أبو عبدالله محمد بن يوسف بن محمد المصري الأصل الدمشقي الشافعي " نقيب الحاكم (715 هـ).
سمع في الخامسة على ابن الصلاح جزء المسلسل بالأولية، والمجلدات الستة الأولى من السنن الكبرى للبيهقي، وحدث بها عنه، وكتابه في علوم الحديث، فكان من آخر من حدث به عنه بالسماع. عُمِّرَ، وقارب المائة وتفرد ورُحِلَ إليه.
(ذيل التقييد، وذيل العبر للذهبي، والدرر الكامنة).
ممن حدثوا بالكتاب عنه:
* الصلاح العلائي، الحافظ أبو سعيد خليل بن كيكلدي نزيل القدس (694 - 761 هـ) وعنه الحافظ الزين العراقي، سماعًا لبعضه وإجازة لسائره.
* ابن خليل البهاء أبو محمد عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن خليل الأموي العسقلاني، نزيل القاهرة (694 - 777 هـ) قرأه عليه كاملاً الحافظ العراقي، بسماعه من ناصر الدين ابن المهتار، عن أبي عمرو ابن الصلاح.
(التقييد والإيضاح: الورقة الأولى من المخطوط 36 بدار الكتب بالقاهرة).
* الجمال ابن الصيرفي، يوسف بن محمد بن علي الأنصاري الدمشقي (788 هـ) سماعًا على ابن المهتار ناصر الدين، عن ابن الصلاح (ذيل التقييد).
* ابن أبي المجد، علي بن محمد بن محمد بن أبي المجد الدمشقي (707 - 800 هـ) قرأ عليه الحافظ ابن حجر مجلسًا من أمالي ابن الصلاح وكتابه في علوم الحديث، بإجازته من محمد بن يوسف ابن المهتار (المجمع المؤسس 214).
وممن حدث به عن ابن حجر: الشمس السخاوي (902 هـ) - ترجمته في الضوء - والشيخ زكريا الأنصاري الشافعي، شيخ الإِسلام (826 - 925 هـ) - الضوء اللامع ولم يدرك وفاته.(1/49)
وسبقت قراءة ابن حجر الكتاب على ابن أبي المجد، روايته من طريق التقي ابن رزين.
* التقي الفاسي، محمد بن أحمد بن علي الإِدريسي الحسني، أبو الطيب المكي الشافعي (775 - 832 هـ) سمع الكتاب وجزءًا من الحديث المسلسل بالأولية، ومن السنن الكبرى للبيهقي، على محمد بن يوسف ابن المهتار، عن أبي عمرو ابن الصلاح. (ذيل التقييد 89 أ).
* وآخر من سمعه على ابن المهتار ناصر الدين، الشيخ شمس الدين محمد ابن الولي القطب أبي الحسن الشاذلي علي بن عبدالله بن عبدالمجيد الجبار.
(الدرر، ترجمة ابن المهتار محمد بن يوسف بن محمد 1/ 224).
(15) الرضي الطبري.
" أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المكي الشافعي " شيخ الإِسلام إمام المقام الخليلي بالحرم ومسند الحجاز (634 - 722 هـ) حدث بكتاب ابن الصلاح إجازة منه، وسمعه على أبي اليمن ابن عساكر.
ممن سمعوه عليه:
* أبو القاسم التجيبي (730 هـ) سمعه عليه بالحرم المكي. (برنامج التجيبي، ومستفاد رحلته 393) وسمع عليه كذلك كتابيه على كتاب ابن الصلاح (الملخص، والمنتخب) يأتيان مع المصنفات على الكتاب.
* الوادياشي، أبو عبدالله محمد بن جابر (749 هـ) قرأ كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث على الرضي الطبري، بالحرم المكي تجاه الكعبة المشرفة، بإجازته من مؤلفه وبسماعه من أبي اليمن ابن عساكر (برنامج الوادياشي 114/ 254).
* العفيف اليمني، عبدالله بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح، شيخ الحرمين (685 - 768 هـ).
قرأ الكتاب على الشيخ رضي الدين الطبري، بمكة (ذيل التقييد 170) وسمعه على(1/50)
العفيف: الجمال الكازروني المكي، محمد بن عبدالله بن علي، رئيس المؤذنين بالحرم المكي (711 - 777 هـ) وهو من أقرانه (ذيل التقييد: 171).
* الشهاب الطبري، أبو العباس المكي أحمد بن محمد بن إسماعيل (712 - 780 هـ) سمع كتاب ابن الصلاح على الرضي الطبري بمكة. (ذيل التقييد 166: ترجمة الشهاب الطبري) (1).
__________
(1) تراجع مع ما هنا من رواة كتاب ابن الصلاح وأصولهم، فقرة في ترجمته بسير أعلام النبلاء (رقم 100 من الجزء 23) سرد فيها الحافظ الذهبي أسماء ثمانية عشر رجلا سمعوا كتاب علوم الحديث من ابن الصلاح مصنفه.(1/51)
المصنفات على كتاب ابن الصلاح.
" ... فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يُحصَى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك ومقتصِر، ومعارض له ومنتصر " ابن حجر في خطبة شرح نخبة الفكر.
من هؤلاء الذين لا يُحصَون كثرة، نقدم هنا من وقفنا عليه منهم، على الترتيب الزمني لوفياتهم.
أقدمُهم - فيما نعلم -:
" شيخ الإِسلام الإِمام محي الدين أبو زكريا، يحيى بن شرف النووي الدمشقي الشافعي " (631 - 676 هـ) وقد أدرك أبا عمرو ابن الصلاح، لكنا لم نقف على لقائه به. والذي في (تهذيب الأسماء واللغات للنووي) أنه تفقه في المذهب على طريقة الشاميين والخراسانيين كلتيهما، على أئمة ثلاثة من جلة شيوخه، تفقهوا على ابن الصلاح وتفقه هو على والده.
وقد صنف الإِمام النووي كتابين على كتاب ابن الصلاح:
أولهما (كتاب الإِرشاد) اختصر فيه كتاب ابن الصلاح ثم اختصر الإِرشاد في (كتاب التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير والنذير) قال بعد الديباجة: " وهذا كتاب اختصرته من كتاب الإِرشاد الذي اختصرته من علوم الحديث للشيخ الإِمام المتقن أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن المعروف بابن الصلاح رضي الله عنه. أبالغ فيه في الاختصار - إن شاء الله تعالى - من غير إخلال بالمقصود، وأحرص على إيضاح العبارة وعلى الله الاعتماد وإليه التفويض والاستناد " ولم يعدل النووي في التقريب، عن ترتيب أنواع علوم الحديث في كتاب الإِمام ابن الصلاح. والمعروف لنا من رواة التقريب والتيسير عن الإِمام(1/52)
النووي، تلميذه وصاحبه " أبو الحسن العلاء ابن العطار، على بن إبراهيم بن داود الدمشقي (654 - 724 هـ) وحدث به (ذيل التقييد 221، والدرر).
وممن أخذه عنه: أبو عبدالله الوادياشي محمد بن جابر (749 هـ) قال: قرأت يسيرًا من أوله بدمشق على الشيخ علاء الدين على ابن العطار وناولنيه. بروايته له عن مؤلفه الإِمام النووي فيما رأيته له بخطه قال: حفظًا سردًا من أوله لآخره، متقنًا مهذبًا مجودًا على نهاية من الاستعجال بلا تلعثم، في أوقات في آخر ذي القعدة عام أربع وسبعين وستمائة " برنامج الوادياشي: 120/ 256.
وللحافظ زين الدين العراقي (806 هـ) أمال ٍ على تقريب النووي ذكرها ونقل منها في (التقييد والإِيضاح 418) وذكره حاجي خليفة مع شروح التقريب في كشف الظنون. كما ذكر شروح: البرهان القباقبي إبراهيم بن محمد الحلبي ثم المقدسي (851 هـ) والشمس السخاوي محمد بن عبدالرحمن (902 هـ) - وذكره السخاوي في ترجمته لنفسه بالضوء اللامع وأقرأه بمكة المكرمة - وشرح الحافظ جلال الدين السيوطي (911 هـ) ذكره السيوطي في ترجمته لنفسه بحسن المحاضرة، كما ذكرهما حاجي خليفة في الكشف.
طبع شرح السيوطي: (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي) مع متن التقريب في القاهرة سنة 1307 هـ، ثم طبعة العلمية بالمدينة المنورة سنة 1392 هـ - 1972 م.
" الشهاب الخُوَبِّي، أبو عبدالله محمد بن أبي العباس شمس الدين أحمد بن خليل بن سعادة الشافعي قاضي قضاة الشام (626 - 693 هـ) من أعيان أصحاب أبي عمرو ابن الصلاح. نظم كتابه في أرجوزته المعروفة بمنظومة ابن خليل. منها نسخة خطية في دار الكتب بالقاهرة (رقم 256 مصطلح) وعنوانها: (أقصى الأمل والسُّول في علوم أحاديث الرسول (1)) عليه الصلاة والسلام، في ألف وستمائة بيت، مطلعها:
الحمد لله الذي هدانا ................................ بأحمد أعلَى الورى مكانا
........................................
وبعد حمد الله والثناء ................................. على الرسول خاتم الأنبياء
فإن أنواع علوم السُّنَنِ .............................. أجدرُ ما به المرءُ عُنِي
__________
(1) نسبها بروكلمان إلى ابن الصلاح في مصنفاته، ثم إلى الخُوَبِّي في المنظومات.(1/53)
وخيرُ ما صنف فيها واشتهرْ ............................. كتاب شيخنا الإِمام المعتبرْ
وهو الذي بابن الصلاح يُعْرفُ ............................ فليس من مِثلِه مصنف
............................
أتم نظمها في شهر المحرم سنة 691، كما قال في ختامها مؤرخًا:
وقد نظمتُ ما أردت نظمه ............................ ويسَّر الله تعالى ختمَهُ
في أول الأشهر مَبْدَا سنةِ .............................. إحدى وتسعين وستمائة
ثم الصلاة بعد حمد الباري ............................. على النبي المصطفى المختار
" الشرف الدمياطي، أبو محمد عبدالمؤمن بن خلف التوني الشافعي، الفقيه الحجة الحافظ الثبت النسابة المسند (613 - 705) له (تعليق على ابن الصلاح) نقل منه السيوطي في (تدريب الراوي 2/ 159).
" الرضى الطبري، أبو إسحاق المكي إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الشافعي " شيخ الإِسلام إمام المقام الخليلي ومسند الحجاز (634 - 722) من رواة كتاب التقي ابن الصلاح عنه إجازة.
وله عليه كتابان: (الملخص في علوم الحديث) لخص فيه كتاب ابن الصلاح و (المنتخب) انتخبه من الملخص. سمعهما عليه بمكة، مع كتاب ابن الصلاح " أبو القاسم التجيبي ".
مستفاد الرحلة 353
" التاج الأردبيلي، أبو الحسن علي بن عبدالله التبريزي الشافعي، نزيل القاهرة (677 - 746 هـ).
له اختصار علوم الحديث لابن الصلاح (الدرر الكامنة، والسيوطي في حسن المحاضرة 1/ 261 ط الحلبي).
" البدر ابن جماعة، محمد بن إبراهيم بن سعدالله الكناني المصري الشافعي، قاضي القضاة " (639 - 733 هـ) له (المنهل الروي في علوم الحديث النبوي) لخص فيه علوم الحديث(1/54)
لابن الصلاح. منه نسخة أصل بخطه في خزانة دار الكتب المصرية (رقم 352 مصطلح) ونشر في مجلة معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، المجلد الأول رقم 21 (مايو 1975 م جمادى الأولى 1395 هـ).
ويأتي شرح الحفيد العز ابن جماعة (819 هـ) في موضعه من سياق هذا العرض.
" الشرف الطيبي .. الحسن بن محمد بن عبدالله " الإِمام العلامة في المعقول والعربية والمعاني والبيان، العالم العامل القدوة، شارح الكشاف والمشكاة (743 هـ).
له (الخلاصة في أصول الحديث) لخصها من كتاب ابن الصلاح، ومختصري النووي والبدر ابن جماعة. وعليه حاشية للسيد الشريف الجرجاني (816 هـ) - كشف الظنون 1/ 720.
" العلاء التركماني، علي بن عثمان بن مصطفى بن إبراهيم المارديني المصري الحنفي، قاضي القضاة ... من كبار شيوخ الحافظ العراقي، أخذ عنه علم الحديث وبه انتفع (683 - 750 هـ).
من مصنفاته (مختصر ابن الصلاح) حسن مستوفى، ذكره له تلميذه العراقي في (التقييد والإِيضاح 418) والتقي ابن فهد في ذيل التذكرة (125) وابن حجر في (الدرر 3/ 84 - 179) وحاجي خليفة في الكشف مع: علوم الحديث لابن الصلاح.
وللجمال أبي المحاسن الكركي القاهري، يوسف بن شاهين الحنفي، سبط الحافظ ابن حجر (828 - 899) كتاب المنتخب في شرح علوم الحديث للعلاء التركماني. ذكره الشوكاني في ترجمته بالبدر الطالع 2/ 354.
" مُغلطاي بن قليج بن عبدالله، علاء الدين أبو عبدالله القاهري الحنفي " الحافظ المصنف (762 هـ) شيخ الظاهرية الكبرى بعد شيخه الحافظ أبي الفتح اليعمري.
من مصنفاته (إصلاح ابن الصلاح) ذكره له الزين العراقي في (التقييد والإِيضاح) وابن حجر في المجمع المؤسس (ترجمة السراج البلقيني 1/ 21). وبروكلمان في المصنفات على كتاب ابن الصلاح.
- ونقل منه الكوثري في التعليق على ترجمة ابن فهد لمغلطاي في ذيل التذكرة 215، والسيوطي في ذيل التذكرة (365) وحاجي خليفة في الكشف مع: علوم الحديث لابن الصلاح.(1/55)
" ابن كثير، العماد أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصروي الدمشقي الشافعي " المفسر المؤرخ المحدث (701 - 774 هـ) اختصر كتاب ابن الصلاح (الدرر) وأضاف إليه الفوائد الملتقطة من المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (كشف الظنون: مع علوم الحديث لابن الصلاح) وهو مطبوع.
" البدر الزركشي محمد بن بهادر بن عبدالله (1) القاهري الشافعي المنهاجي " من أعيان تلاميذ السراج البلقيني وصاحب كتاب البرهان في علوم القرآن (745 - 794 هـ).
ذكر له ابن حجر في (الدرر) شرح علوم الحديث لابن الصلاح، وقال السيوطي في حسن المحاضرة: له النُّكَت على ابن الصلاح (1/ 437) ونحوه في كشف الظنون مع علوم الحديث لابن الصلاح.
وتوجد نسخة خطية منه في خزانة السيد حبيب محمود أحمد بداره العامرة في المدينة المنورة، رقمها في فهرست خزانته (8/ 231 / 347 أصول الحديث).
" البرهان الأبناسي القاهري أبو محمد إبراهيم بن موسى بن أيوب الشافعي " الفقيه المفتي العابد القدوة (725 - 802 هـ) له (الشذى الفياح من علوم ابن الصلاح) وهو في كشف الظنون مع علوم الحديث لابن الصلاح.
" السراج ابن الملقن، أبو حفص عمر بن أبي الحسن علي بن أحمد الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والدار والوفاة الشافعي الفقيه المفتي الحافظ " المصنف (723 - 804 هـ).
من تصانيفه - وما أكثرها - في علم الحديث: (المقنع، والتذكرة).
صرح العز ابن جماعة، محمد بن أبي بكر (819 هـ) في خطبة كتابه على ابن الصلاح، بأن
__________
(1) من الدرر الكامنة 3/ 397 ط الهند، إنباء الغمر 1/ 446، ومثله في الشذرات، وهو " محمد بن عبدالله " في النجوم الزاهرة 12/ 134 وكشف الظنون، ومحمد بن عبدالله بن بهادر في حسن المحاضرة 1/ 347 وهو اسمه في طبعة كتابه البرهان، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل.(1/56)
ممن سبقوه السراج ابن الملقن اختصره وشرحه في كتابه (المقنع في علوم الحديث) ثم صنف فيه موجزًا من المقنع بعنوان (التذكرة في علم الحديث).
وقال ابن حجر (852 هـ) في ترجمة ابن الملقن بالمجمع المؤسس، أنه صنف في علوم الحديث مختصرًا أسماه الكافي.
وقال التقي ابن فهد: " له المقنع في علم الحديث وكذا الكافي " ذيل التذكرة 199 وانظر معها تنبيه الشيخ أحمد رافع الطهطاوي (161).
وذكر له الشمس السخاوي (902 هـ) كتابه المقنع، نقلاً عن شيخه ابن حجر، وأضاف: " وقفت عليه وهو في مجلد وله فيها - أي علوم الحديث - التذكرة في كراسة، رأيتها أيضًا " الضوء اللامع 6/ 100 واقتصر السيوطي (911 هـ) في ذيل التذكرة وفي طبقات الحفاظ على (المقنع) ومثله البدر الشوكاني (- 1250 هـ) في البدر الطالع 2/ 509.
ولم يصرح أحد منهم، بأن ابن الملقن صنف كتابه أو كتابيه على ابن الصلاح، سوى العز ابن جماعة.
وكذلك ذكر حاجي خليفة كتاب المقنع في حرف الميم ومختصره التذكرة في حرف التاء، ولم يشر إليهما مع المصنفات على (علوم الحديث لابن الصلاح).
في خزانة دار الكتب المصرية المخطوطان:
1 - (المقنع في علوم الحديث، لشيخ العلماء والمحدثين الإِمام [سراج الدين أبي حفص عمر بن] أبي الحسن علي بن أحمد الأنصاري المعروف بابن الملقن الشافعي المتوفى سنة 804 هـ وقع الفراغ من تعليقه سنة 791 هـ بالقاهرة المحروسة. رقمه 399 مصطلح، مصور من خزانة الجامع الأزهر، ونسخت منه الدار نسخة حديثة برقم 103/ 25 ب.
قال في فاتحة المقنع، بعد ذكر مصنفاتٍ للترمذي والحاكم أبي عبدالله وأبي بكر الخطيب: " ومن أجمعها كتاب العلامة الحافظ تقي الدين أبي عمرو ابن الصلاح، سقى الله ثراه وجعل الجنة مأواه، فإنه جامع لعيونها ومستوعب لفنونها .. ".
2 - (التذكرة في علوم الحديث لابن الملقن، تلخيص كتابه المقنع) رقمها 22608 ب.(1/57)
" السراج البلقيني، أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير المصري الشافعي " شيخ الإِسلام (724 - 805 هـ) له: (محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح) الذي نقدمه مع متن ابن الصلاح.
" الزين العراقي، أبو الفضل عبدالرحيم بن الحسين المصري الشافعي " حافظ الوقت الحجة الإِمام (725 - 806 هـ).
من أجَلِّ شُرَّاح كتاب ابن الصلاح وأوفرهم عناية به وخدمة له. وقد اشتهرت مصنفاته عليه وشروحها فحققت من الرواج لكتاب ابن الصلاح ما لا نعرف مثله ولا ما يقاربه لسائر المصنفات عليه.
له (الألفية في علوم الحديث) نظم فيها كتاب ابن الصلاح في ألف بيت. قال بعد ذكر عناية السلف قبله بالتصنيف في علوم الحديث:
وأحسن المؤلفات جمعًا .......................................... فيها، وأوفى وأتم نفعًا
تأليف خير عالم إمام ِ ............................................ أئمة الحفاظ في الأنام ِ
علامة الدنيا تقي الدين ....................................... ابن الصلاح الصادق الأمينِ
يرحمه الله ويرضى عنه .......................................... مُبرِّدا ثراه فضلا منه
وقد اتبع فيها نهج ابن الصلاح في مساق أنواع علوم الحديث، وزاد عليه فوائد ونُكتًا أشار إليها في قوله في المقطع الأول من ألفيته:
نظمتُها تبصرة للمبتدي ........................................... وتذكرة للمنتهي المسندِ
لخصت فيها ابن الصلاح أجمعَه .................................. وزدتُها علمًا تراه موضعَه
وألفيه العراقي مشهورة محفوظة متداولة. ومن قوله: نظمتها تبصرة للمبتدي وتذكرة للمنتهي .. صنف كتابه (التبصرة والتذكرة) وهو أول شروح الألفية. ذكره معها كل مترجمي الحافظ العراقي. وصدرهم تلميذه الحافظ ابن حجر في المجمع المؤسس والإِنباء، والتقي الفاسي في ذيل التقييد، والتقي ابن فهد في ذيل التذكرة، والشمس السخاوي في الضوء اللامع، والجلال السيوطي في طبقات الحفاظ وذيل التذكرة وحسن المحاضرة ...
ووهم بروكلمان فذكر العراقي في المنظومات " تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي .. أو ألفية العراقي ".(1/58)
وشراح الألفية كُثُرٌ. ومن أشهر شروحاتها " فتح المغيث بشرح ِ ألفية الحديث، للحافظ شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي - 902 هـ " وَهِمَ حاجي خليفة فقال في حرف الهمزة: " ألفية العراقي في أصول الحديث للحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة ثمانمائة وخمس. لخص فيها كتاب علوم الحديث لابن الصلاح .. ثم شرحها، وفرغ منه في شهر رمضان سنة ثمان وستين وسبعمائة، وسماه فتح المغيث بشرح ألفية الحديث " (1) وتكرر هذا الوهم في حرف الفاء فقال: " فتح المغيث في شرح ألفية الحديث - مرَّ - لمؤلف المتن الحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة ثمانمائة وخمس " وفي الموضعين أرخ وفاته سنة ثمانمائة وخمس. ولا نعلم خلافًا في وفاته سنة ست وثمانمائة، في ثامن شعبان المكرم منها.
وقد طبع " فتح المغيث، للحافظ شمس الدين السخاوي " مع متن الألفية في مطبعة أنوار محمدي بعناية منشئها محمد بهادر اللكنوي في سنة 1300 هـ من نسخة أصل، كتبها في حياة السخاوي تلميذه أبو المكارم جمال الدين محمد بن أبي السادات بن ظهيرة القرشي المخزومي المكي، بمكة المعظمة في جمادى الآخرة سنة 886 هـ، وكتب السخاوي عليها بخطه إجازة له. وفي خاتمة هذه الطبعة الهندية نبه الحافظ العلامة السيد محمد عبدالحي اللكنوي، على وهم صاحب كشف الظنون في نسبة فتح المغيث للحافظ العراقي.
ثم نشر - من الهندية - في طبعة للمكتبة السلفية بالمدية المنورة سنة 1968.
وأما شرح العراقي لألفيته في (التبصرة والتذكرة) فطبع في فاس سنة 1354 هـ مع شرحها (فتح الباقي على ألفية العراقي) لشيخ الإِسلام زكريا الأنصاري (- 925 هـ) سماعه للألفية وشرحها التبصرة والتذكرة، دراية ورواية. من الحافظ ابن حجر عن الزين العراقي. على الشمس القاياتي محمد بن علي (785 - 850 هـ) والكمال بن الهمام الحنفي (790 - 860 هـ) روايتهما عن الحافظ أبي زرعة ولي الدين العراقي (826 هـ) ابن الحافظ زين الدين أبي الفضل.
__________
(1) كذلك وهم بروكلمان في الشروح على ألفية العراقي وأولها عنده " شرح الناظم نفسه بعنوان: فتح الغيث أو المغيث، قال: وعلى هذا الشرح حاشية للسخاوي محمد بن عبدالرحمن " 6/ 208.(1/59)
ومن أقدم شراح الألفية بعد ناظمها، تلميذه " الشمس محمد بن عمار بن محمد القاهري المالكي (768 - 844 هـ) ذكر شرحه للألفية، الشوكاني في (البدر الطالع 2/ 232) ولم يذكره حاجي خليفة مع شراحها في كشف الظنون.
وللحافظ العراقي مع الألفية وشرحها، نُكَتُهُ على ابن الصلاح في كتابه الجليل:
(التقييد والإيضاح لما أُطْلِقَ وأُغلق من كتاب ابن الصلاح) وبهذا العنوان نسخة خطية موثقة بخزانة دار الكتب رقم 36 مصطلح، وهي نسخة تلميذه الشرف الأزهري، منقولة من أصل المؤلف ومقروءة عليه ومجاز منه. وعليها خطه. تأتي مع نسخ (المقدمة).
بعنوان (نكت العراقي على ابن الصلاح) مخطوط، وفي خزانة الدار نسخة مصورة من هذا الأصل، من التقييد والإِيضاح في خزانة الدار، رقم 337 25 / ب مؤرخ في سنة 1235 هـ. وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر لشيخه (النكت على ابن الصلاح) في المجمع المؤسس والإِنباء، والسيوطي في طبقات الحفاظ وذيل التذكرة، وابن العماد في الشذرات. وذكره التقي ابن فهد في ذيل التذكرة بعنوانه المشهور (التقييد والإِيضاح) وقال في ترجمة شيخه الحافظ الصلاة الأقفهي: " سمعت عليه ألفية العراقي ونُكتَه على ابن الصلاح " ذيل التذكرة 271.
وممن صنفوا على ابن الصلاح بعد الزين العراقي: " العز ابن جماعة، محمد بن أبي بكر بن عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم، عزالدين بن الشرف بن العز بن البدر ابن جماعة الكناني المصري الشافعي، الحكيم الأستاذ نادرة عصره في العقليات والنقليات (746 - 819 هـ) ذكر شرحه لكتاب ابن الصلاح: الشوكاني في البدر الطالع 2/ 147 وحاجي خليفة في الكشف، مع شراح علوم الحديث لابن الصلاح. وذكرا له أيضًا شرحًا على مختصر جده البدر ابن جماعة. وفي خزانة دار الكتب مخطوطة (الجَواهر الصحاح في علوم الحديث لابن الصلاح، للعز ابن جماعة) رقم 873 مصطلح. وهي نسخة قديمة عليها توقيع تملك سنة 862 هـ.
وأما شرحه لمختصر البدر ابن جماعة، فذكر السخاوي في ترجمة يحيى بن إبراهيم(1/60)
الأقصرائي، أنه: قرأ على العز ابن جماعة شرحه لمختصر جده لكتاب ابن الصلاح (الضوء اللامع 1/ 240).
وللحافظ الإِمام الشهاب أبي الفضل ابن الحجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني المصري الشافعي، شيخ الإِسلام (773 - 852 هـ): (الإِفصاح بتكميل النُّكت على ابن الصلاح) مما علقه في أثناء بحثه على شيخه أبي الفضل العراقي، نشرته " الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة " حديثًا بعنوان " النكت على ابن الصلاح).
وللحافظ كتاب (نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) مشهورة متداولة بين طلاب العلم. أعاد فيها ترتيب علوم الحديث، مع زيادات هامة، ثم شرحها في (شرح نخبة الفكر).
وعليها شروح ذات عدد، من أشهرها شرح الملا علي بن سلطان محمد الهروي القاري - 1041 هـ - والشيخ عبدالرءوف المناوي - 1031 هـ - وحاشية الشيخ إبراهيم اللقاني المصري المالكي - 1040 هـ - ونظمها الكمال الشمني ثم الإِسكندري محمد بن حسن بن محمد، من تلاميذ العراقي - 821 هـ - وشرح نظمه ابنُه التقي أبو العباس أحمد النحوي الإِمام - 872 هـ - وآخرون. (كشف الظنون).
و " الحافظ السيوطي، الجلال عبدالرحمن بن أبي بكر المصري الشافعي " (849 - 911 هـ) ذكر في ترجمته لنفسه من مصنفاته في علوم الحديث: تدريب الراوي على تقريب النواوي، وشرحه لألفية العراقي، ومنظومة له ألفية سماها نظم الدرر في علم الأثر. (حسن المحاضرة) وذكرها حاجي خليفة في كشف الظنون.
وفي الكشف ممن صنفوا على كتاب ابن الصلاح:
" الشهاب الأندرشي أحمد بن سعيد " له مختصر لكتاب ابن الصلاح، ولم يؤرخ وفاته. والمعروف لنا بهذا النسب: " أحمد بن سعد بن عبدالله الأندرشي الأندلسي نزيل دمشق، شيخ العربية. وفي ترجمته بالدرر وبغية الوعاة والشذرات أنه نسخ بخطه كتبًا كبارًا منها تهذيب الكمال للحافظ المزي وشرحه وشرح التسهيل توفي سنة 750 هـ. وفي ترجمته(1/61)
بطبقات القراء لابن الجزري أنه توفي في المحرم سنة 751 هـ.
لكن ليس في هذه التراجم ذكر لمختصره لابن الصلاح، والله أعلم.
ولعل آخر شراح ابن الصلاح:
" الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي الشامي، الوراق الخبير ومدرس الحديث بالمدرسة الخسروية بحلب " كتب تعليقة سماها (المصباح على مقدمة ابن الصلاح) نشرت ذيلاً على طبعته المتقنة من المقدمة والتقييد والإِيضاح: حلب 1350 هـ - 1931 م.
ولنذكر معها، أن من الكتب ما هو مصنف على كتاب ابن الصلاح وإن لم تُعرف بذلك فكتاب (الاقتراح لشيخ الإِسلام تقي الدين ابن دقيق العيد - 702 هـ) لا يكاد ينفصل عن كتاب ابن الصلاح، نسقًا ومادة، إلا من إضافات له. - وإن لم يصرح باسمه - بحيث لم أجد مجالاً لمقابلته على متن ابن الصلاح.
وكتاب (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار) للأمير الصنعاني يوشك أن يورد المسائل في أكثر أبوابه على أقوال ابن الصلاح - مقدمة توضيح التنقيح، ط القاهرة 1366 هـ - مصرحًا باسمه في كل نقل عنه، قال محققه الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد: " وقد رزق الله تعالى هذا الكتاب - لابن الصلاح - الحظوة لدى فحول العلماء ما أنسى الناس ذكر من تقدمه، فكم تجد له من شرح وكم تجد له من اختصار وكم تجد له من متعقب. وقَلَّ أن تجد واحدًا من الحفاظ الذين جاءوا بعد ابن الصلاح إلا وجدت له أثرًا على مقدمة ابن الصلاح .. ".
ثم لا أرى الإِثقال على هذا المدخل، بنقل عشر صفحات من تاريخ بروكلمان للأدب العربي، عامرة بذكر مخطوطات لكتاب ابن الصلاح والمصنفات عليه في خزائن المشرق والمغرب، أتحرج من تقديمها ولم يُتَح لي الاطلاع عليها والنظر فيها.(1/62)
المبحث الثاني:
السراج البلقيني
عالم المائة الثامنة
(724 - 805 هـ)
* موجز سيرته وعصره، شيوخه، شخصيته ومناصبه.
* أصحابه وتلاميذه، مصنفاته.
* كتابه محاسن الاصطلاح.
السراج البلقيني، أبو حفص عمر بن رسلان بن نصير الكناني المصري الشافعي: فقيه الزمان وحجة الله على خلقه في وقته، مجتهد عصره وعالم المائة الثامنة.
مَنَّ الله تعالى على الأمة به في مرحلة حرجة من تاريخها، ومنَّ عليه بجِلَّة من الشيوخ العلماء النبلاء، وصفوة من الأصحاب والتلاميذ الأعيان حملوا علمه وتراثه، ودوَّنوا سيرته شهودَ حال ٍ ورؤية، وعنهم أخذ أعلام من تلاميذهم تابعوا المسيرة ودوَّنوا ما سمعوه من شيوخهم ومعاصريهم، عن شيخ الإِسلام الإِمام.
ومن تراجم أصحابه وأعيان تلاميذه للشيخ، نستخلص موجزًا من سيرته، أكثر اعتمادنا فيها على أجل تلاميذه شيخ الإِسلام الحافظ ابن حجر في ترجمته المبسوطة لشيخه بالمجمع المؤسس وبالإِنباء. مع استكمال التعريف بالشيوخ والمرويات من ذيل التقييد، وذيول تذكرة الحفاظ. وبالتلاميذ من الدرر والضوء اللامع وحسن المحاضرة * وما تيسر من معاجم أعيان العصر وبرامج مروياتهم.
__________
* المجمع المؤسس، مخطوط دار الكتب بالقاهرة 216 - 222، وذيل التقييد للتقي الفاسي، مخطوط الدار، والدرر، وإنباء الغمر، والترتيب فيها على حروف المعجم، والتقي المقريزي في السلوك، وفي الخطط، للمدارس. وابن فهد في ذيل التذكرة 202 - 220، والنجوم الزاهرة المجلدين الحادي عشر والثاني عشر عصر دولتي المماليك، والترتيب فيها على السنين. وابن قاضي شهبة في الطبقات، مخطوط دار الكتب، والسخاوي في الضوء اللامع، والسيوطي في حسن المحاضرة وذيل التذكرة، وابن العماد في الشذرات، والشوكاني في البدر الطالع، وفهارس الكتب ومعاجم شيوخ الوقت وكتب الرحلات.(1/63)
ولد في " بُلْقِينَةَ " من ريف الدلتا، في ليلة الجمعة، الثانية عشرة من شعبان سنة 724 هـ، ومصر وقتئذ تنعم بعصر من أنضر عصور الاستقرار والمنعة والازدهار، في السلطة الثالثة " للملك الناصر محمد بن السلطان المنصور قلاوون " التي امتدت قرابةَ ثلث قرن (709 - 741 هـ) " تفرغ فيها للتعمير، واتفقت عليه كلمة المسلمين، فأقام مُلكًا مطاعًا لم يَرَ أحد مثل سعادة ملكه وعدم حركة الأعادي عليه بَرًّا ولا بحرًا مع طول المدة ... وأذعنت له الملوك، ودانت له الأمم، وخافته الأكاسرة والجبابرة ... وكان ملكًا مطاعًا مهيبًا معظِّمًا لأهل العلم. لقي مشايخ الوقت وسمع من كبار الحفاظ والمسندين، وأجازه جِلَّة منهم. وعُرِف له الحرصُ على حرمة المناصب العلمية، يتحَرى ألا يشغلها إلا من هو أهل لها، ويبالغ في ذلك. كما عُرِف عنه الحزمُ وطولُ الصبر على ما يكره .. " وبُنيَ في سلطنته من الجوامع والمدارس والخوانق ما لهج المؤرخون والرحالة بذكره (1).
في ذلك العهد الميمون، أمضى عمر بن رسلان البلقيني صباه الغض في بلقينة، حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وحفظ المحرر للإِمام الرافعي، والكافية لابن مالك والشاطبية في القراءات، ومختصر ابن الحاجب الأصلي. " وأقدمه أبوه القاهرة وله اثنتا عشرة سنة، فعرض محفوظاته على علماء الوقت فبهرهم بذكائه وكثرة محفوظه وسرعة إدراكه " (2).
من الشيوخ الذين عرض عليهم في هذه الرحلة الأولى إلى القاهرة:
" الجلال القزويني، محمد بن عبدالرحمن الشافعي، قاضي قضاة الإِقليمين، مصر والشام " (666 - 739 هـ) وصاحب الإِيضاح لمفتاح العلوم لأبي يعقوب السكاكي.
و " التقي السبكي، أبو الحسن علي بن عبدالكافي المصري الشافعي قاضي القضاة "، الفقيه المجتهد الأصولي النظار (683 - 756 هـ).
__________
(1) بتضمين من ذيل العبر لأبي المحاسن الحسيني - وهو من شهود عصر الناصر محمد - والنجوم الزاهرة، والسلوك، وترجمة الناصر محمد بن قلاوون في الدرر الكامنة.
(2) ما بين الأقواس، هنا وفيما يلي من المبحث، بلفظ الحافظ ابن حجر في المجمع المؤسس: ترجمة شيخه السراج البلقيني.(1/64)
قال ابن حجر: " ورجع إلى بلده، ثم عاد به أبوه في سنة ثمان وثلاثين - وسبعمائة - وقد ناهز الاحتلام، فاستوطن القاهرة وحضر دروس الأئمة وسمع في مجالس الحديث شيئًا كثيرًا وكان لا يترك البحث ... وسكن المدرسة الكاملية (1) مدة، وكان نقيب درس الحديثة بها للقاضي ابن جماعة عزالدين عبدالعزيز بن البدر محمد ".
السنوات الباقية من عهد الملك الناصر، كانت كافية لمثل ذلك الشاب الذكي الطموح، للتحصيل والأخذ عن علماء عصر الناصر، والسماع على حفاظه ومسنديه الذين كانت القاهرة عامرة بهم.
ولم يكن في حاجة إلى الرحلة إلى ما وراء أقطار دولة المماليك الكبرى: مصر والحجاز والشام والعراق. ومصر وقتئذ تستقطب علماء الأقطار الإِسلامية النازحين إليها من مشرق ومغرب، فتوسع لهم من ديارها خبر منزل، ولا تضن عليهم بأعلى مناصبها العلمية قضاءً وفتيا وتدريسا وإمامة وخطابة ..
حضر دروس الشيخين الجلال القزويني والتقي السبكي، وآخرين من العلماء، منهم على ترتيب ذكرهم في المجمع المؤسس:
" الشمس ابن عدلان " محمد بن أحمد بن عثمان المصري الشافعي الفقيه في الأصلين والقراءات، وشارح مختصر المزني (633 - 749 هـ).
" الشمس الأصبهاني " نزيل القاهرة، أبو الثناء محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الشافعي الأصولي، الإِمام في العقليات وشارح مختصر ابن الحاجب الأصلي، ومنهاج البيضاوي وطوالعه، ومتن الساوية في العروض (674 - 749 هـ).
قرأ عليه في الأصول والمعقولات، وأجازه الشيخ وأطنب في الثناء عليه، وأذن له في الإفتاء.
" النجم الأسواني " الحسين بن علي بن سيد الكل المصري الشافعي المقرئ. تصدر
__________
(1) بناها الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وكملت عمارتها سنة إحدى وعشرين وستمائة هـ، فكانت ثانية دار للحديث بعد الدار الأولى التي بناها بدمشق الملك العادل نورالدين محمود بن زنكي.
انظر (الكاملية) في مدارس القاهرة بخطط المقريزي، وحسن المحاضرة.(1/65)
بجامع عمرو بن العاص زمنًا، يقرئ ويفتي ويدرس، وأخذ عنه الطلاب طبقة بعد طبقة مع عفة وزهد وكرم (646 - 739 هـ).
" زين الدين الكناني " عمر بن أبي الحرم بن عبدالرحمن الشافعي الفقيه الحافظ، شيخ القبة المنصورية بالقاهرة، مع مشيخة الحديث بها. وولي حلقة الدرس بالجامع الحاكمي، والخطابة بجامع الملك الصالح (653 - 738 هـ).
" شمس الدين ابن القماح " محمد بن أحمد بن إبراهيم بن حيدرة القرشي، أبو المعالي المصري الشافعي. مهر في الفقه والإِفتاء وناب في الحكم ودرس بقبة الإِمام الشافعي، وسمع (كتاب علوم الحديث) على التقي ابن رزين عن ابن الصلاح، وصحيح مسلم من الرضي ابن البرهان، بفوت، وسمعه كاملاً من ابن عبدالهادي (655 - 741 هـ) تفقه به البلقيني.
" أبو حيان " أثير الدين محمد بن يوسف بن علي الأندلسي، نزيل القاهرة، اللغوي النحوي الأستاذ، والمفسر الإِمام والمقرئ الشيخ، والأديب الشاعر (654 - 745 هـ).
أخذ عنه النحو والتصريف والأدب، وأجاز له في التدريس والإِفتاء، مع شهادة عالية تأتي في موضعها من سياق العرض. ثُمَّ لاَزمَ " البهاء ابن عقيل " عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله الهاشمي المصري الشافعي، قاضي القضاة وصدر الشافعية ورئيس العلماء، شارح الألفية والتسهيل، شهد له الأستاذ أبو حيان، بأن " ليس تحت أديم السماء أَنْحَى من ابن عقيل " وسمع صحيح البخاري على " الحجار " مسند الدنيا، وعلى " وزيرة " والطبقة (694 - 769 هـ).
وحج " السراج عمر " في سنة أربعين وسبعمائة، وزار بيت المقدس. ثم حج في سنة تسع وأربعين وسمع الحديث من حفاظ الوقت ومسنديه.
قال ابن حجر: " لازمت الشيخ مدة، وقرأت عليه أجزاء حديثية وحضرت دروسه الفقهية، وسمعت عليه جزءًا من عواليه أخرجه الشيخ ولي الدين ابن شيخنا العراقي، والأربعين التي خرَّجتُها له عن مشايخه: عشرين بالسماع وعشرين بالإِجازة " سَمَّى ابن حجر في ترجمة الشيخ ستة من الأولين واثنين من الآخرين. ثم ذكر في أسمعته على شيخه عددًا آخر، مع تعيين مروياته عنهم وأسانيدهم فيها.(1/66)
المسمَّون في الترجمة، على ترتيب ذكرهم بالمجمع المؤسس مع الرجوع فيهم إلى (ذيل التقييد) للتقي الفاسي وهو من تلاميذ السراج البلقيني:
" محمد بن غالي " بن نجم، الشمس أبو عبدالله الدمياطي، المعمر المسند (650 - 741 هـ) سمع عليه البلقيني الجزء التاسع والستين من أمالي الضبي، القاضي أبي عبدالله المحاملي البغدادي، والمسلسل بالأولية، سماعه من النجيب عبداللطيف الحراني كبير مسندي الديار المصرية، بإسناده. وسمع عليه أيضًا الكثير من سنن أبي داود (1).
" أحمد بن كشتغدي " بن عبدالله المُعِزِّي، الشهاب أبو العباس، ابن الصيرفي المصري. من أكابر المحدثين. في مسموعاته كثرة، وحدث بعواليه (663 - 774 هـ).
سمع منه البلقيني المسلسل بالأولية عن النجيب عبداللطيف (2).
" ابن عبدالهادي " عبدالرحمن بن محمد بن عبدالحميد بن عبدالهادي، زين الدين أبو الفتوح الصالحي الحنبلي، المحدث الضابط المسند. سمع على أحمد بن عبد الدايم صحيح مسلم، والترغيب والترهيب - بفَوْت - والدعاء للمَحَاملي، واستُقدِم إلى مصر فحدث بصحيح مسلم مرارًا. وكان الجمع متوافرًا جدًّا بحيث رُتبت أسماؤهم في الطباق على حروف المعجم (657 - 741 هـ) حدث عنه البلقيني بصحيح مسلم (3).
" الحسن ابن السديد " بدرالدين بن محمد بن عبدالرحمن الإِربلي. سمع من الفخر ابن البخاري. وسمع منه حفاظ الوقت (658 - 748 هـ).
" إسماعيل بن إبراهيم التفليسي " النجم ابن الإِمام، المحدث، من أصحاب النجيب عبداللطيف، توفي سنة (647 هـ) عن 89 سنة.
سمع عليه البلقيني جزءًا فيه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لإِسماعيل بن إسحاق القاضي. وحدث به. سمعه عليه ابن حجر (الأسمعة، وذيل التقييد 240).
" عبدالرحيم ابن شاهد الجيش " جمال الدين بن عبدالله بن يوسف الأنصاري أبو علي
__________
(1) أسمعة ابن حجر في مجمعه المؤسس، وذيل التقييد، الفاسي: 216.
(2) الأسمعة، وذيل التقييد 115.
(3) الأسمعة، وذيل التقييد: 240، 191.(1/67)
المصري. من رواة صحيح البخاري عن شيوخ الطبقة (659 تقريبا - 746 هـ).
سمعه عليه البلقيني وحدث به. سمع عليه ابن حجر كثيرًا منه (1).
ومن شيوخ البلقيني بالإِجازة: " الحافظ المزِّي " جمال الدين أوب الحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن بن يوسف، إمام الحفاظ الصدر النبيل. صاحب تهذيب الكمال والأطراف (654 - 742 هـ).
حدث عنه البلقيني، إجازةً بالسنن الكبرى، والدلائل: للبيهقي. وجزء من حديث أبي الحسن الأشعري، قرأها عليه ابن حجر (2).
" الحافظ الذهبي " أبو عبدالله محمد بن أحمد بن قايماز الدمشقي الشافعي، شيخ الإِسلام الحافظ المؤرخ العلامة (573 - 748 هـ).
" أحمد بن علي، بن داود، الجزري " ثم الصالحي. الشهاب أبو العباس الكردي الهكاري. المحدث المسند العابد القدوة. أُسمِعَ وسمع على كبار الشيوخ، وعُمِّر وتفرد (649 - 743 هـ) (4).
ومعهم من شيوخ البلقيني في أسمعة ابن حجر عليه، لمروياته عنهم بأسانيدهم، مستكملة من ذيل التقييد:
" أبو الفتح الميدومي " محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم، شرف الدين المصري الخطيب الإِمام، خاتمة أصحاب النجيب عبداللطيف (664 - 754 هـ) سمع على النجيب مشيخته الكبرى، وعلى القطب القسطلاني جامع الترمذي وسنن أبي داود، والمسلسل بالأولية، سمعه عليه البلقيني (5).
" إبراهيم بن علي الزرزاري " ابن القطبي، أبو إسحاق. من أصحاب النجيب. سمع عليه حلية الأولياء لأبي نعيم (741 هـ) (6).
__________
(1) أسمعة ابن حجر بالمجمع، وذيل التقييد: 195.
(2) الأسمعة، وذيل التقييد: 267.
(3) المجمع المؤسس، والإنباء، وذيل التقييد: 8.
(4) المجمع المؤسس، والإنباء، وذيل التقييد 107.
(5) المجمع المؤسس، وذيل التقييد: 66.
(6) أسمعة ابن حجر بالمجمع، وذيل التقييد (24، 240).(1/68)
" عبدالعزيز بن عبدالقادر بن أبي الكرم بن أبي الدر الربعي نجم الدين البغدادي، نزيل القاهرة ومن محدثيها المسندين (662 - 748 هـ) من مسموعاته على الفخر ابن البخاري بدمشق، جامع الترمذي وسنن أبي داود (1).
" أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن عبدالعزيز، بن عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب " ناصرالدين ابن الملوك الأيوبي القاهري، الصوفي النبيل المحدث المسند. حدث عن كبار الشيوخ وعُمِّرَ وتفرد (674 - 756 هـ).
حدث عنه البلقيني بكتاب (المكمل في بيان المهمل) للخطيب البغدادي. قرأ عليه ابن حجر قطعة منه (2).
" ابن سوار " أحمد بن محمد بن عمر بن أبي الفرج الإِسنوي الأصل. الشهاب أبو العباس المصري المعروف بالحلبي، الصوفي الناسخ المعمر. المسند المقرئ، آخر أصحاب الكمال الضرير. سمع عليه البلقيني قطعة جيدة من صحيح البخاري (650 - 744 هـ) (3).
" المحب الدمياطي، أحمد بن عبدالمؤمن بن خلف، الحافظ أبو العباس ابن الحافظ النسابة شرف الدين أبي محمد. من رواة سنن أبي داود والغيلانيات (675 - 748 هـ) (4).
" الزين أبو الفرج المزي " عبدالرحمن ابن حافظ الآفاق أبي الحجاج المزي. له من أبيه إجازة، وحدث عن الفخر ابن البخاري توفي عن بضع وستين (- 749 هـ) من مسموعاته سنن ابن ماجة على القاضي التاج ابن علوان، وأجزاء حديثية على الشرف أبي الحسين اليونيني. وحدث بمسموعاته في دمشق والقاهرة (5).
" وتأهل السراج عمر البلقيني للتدريس والفتيا قبل أن يبلغ سن العشرين، ومهر وتفوق، وطبقةُ شيوخه متوفرون ".
أجاز له شيخه في الأصول والمعقولات " الشمس الأصبهاني " في التدريس والفتيا.
__________
(1) الأسمعة، وذيل التقييد 202، وذيل تذكرة الحفاظ لابن فهد.
(2) الأسمعة، وذيل التقييد 25 / ب.
(3) ترجمة البلقيني في ذيل ابن فهد، والضوء اللامع، وابن سوار في ذيل التقييد: 122.
(4، 5) البلقيني في ذيل ابن فهد، وفي ذيل التقييد، والمحب الدمياطي في ذيل التقييد: 106، وزين الدين المزي في ذيل التقييد: 193.(1/69)
- وقد توفي الشيخ سنة 749 هـ - ومعها إجازة من الأستاذ أبي حيان، حررها الحافظ ابن حجر في المجمع المؤسس - والنقل منه - والتقي ابن فهد في ترجمة الشيخ بذيل تذكرة الحفاظ، قال ابن حجر:
" وقد كتب له الشيخ أثير الدين أبو حيان، وسِنُّه إذ ذاك دون العشرين: قرأ عليَّ جميعَ الكافية الشافية في النحو قراءة بحث وتفهم، وتنبيه على ما أغفله الناظم. فكان يبادر إلى حلِّ ما قرأه عليَّ من مُشكل ٍ وغيرِه، فصار بذلك إمامًا يُنتفع به في هذا الفن العربي، مع ما منحه الله من علمه بالشريعة المحمدية، بحيث نال في الفقه وأصوله الرتبة العليا، وتأهل للتدريس والقضاء والفتيا ".
توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون - رحمه الله - في ذي الحجة من سنة 741 هـ، والسراج عمر في نحو الثامنة عشرة من عمره، أي أنه تأهل للتدريس والفتيا والقضاء في عهده الزاهر الممدود. ثم لم تمض على وفاة الناصر بضع سنوات، حتى كان السراج البلقيني فيما ذكر ابن حجر، قد: " أفتى ودرس وهو شاب، وناظر الأكابر، وظهرت فضائله وبهرت فوائده، وطار صيته في الآفاق قبل الطاعون " (1).
الطاعون الجارف كان سنة 749 هـ، بعد ثماني سنوات من وفاة الناصر، والسراج عمر وقتئذ في الخامسة والعشرين من عمره، قد بلغ قبلها ما بلغ ...
وقبل أن يبعد العهد بالملك الناصر، اطمأنت الحياة بالسراج البلقيني فأصهر إلى شيخه العلامة " البهاء ابن عقيل " في سنة 752 هـ، وناب عنه في القضاء لما وَلِيَه استقلالا - سنة 758 هـ - " وشهد له الشيخ بأنه أحق الناس بالفتيا ".
وانتقل السراج من منزله في المدرسة الكاملية إلى داره التي أسسها بحارة بهاء الدين بالقاهرة، ثم ألحق بها مدرسته الشهيرة وجامعه (2).
__________
(1) ابن حجر: إنباء الغمر 2/ 245.
وانظر خبر الطاعون في سلوك المقريزي: 2 ق 3/ 196، والنجوم الزاهرة: 10/ 195 - 213.
(2) انظر حارة بهاء الدين، أول (باب ذكر حارات القاهرة وظواهرها في خطط المقريزي، 2/ 2) وذكرها علي باشا في (الخطط التوقيفية 3/ 121) وذكر بعدها " مدرسة البلقيني، وهي المعروفة بجامع =(1/70)
في عصر ما بعد الناصر، كانت حياته العاملة في المناصب الكبرى، وفي الحياة العامة.
" وأول ما وليه من المناصب الكبرى إفتاء دار العدل رفيقًا للبهاء السبكي - أبي حامد، أحمد بن علي بن عبدالكافي - في سنة خمس وستين " وله من العمر إحدى وأربعون سنة " ودرَّس بالبديرية، وبالحجازية أولَ ما أنشئت، فاستمرنا معه. وبالخروبية: جعله صاحبها متصدرًا بها فاستمرت بيده. وولِيَ تدريس الخشابية بجامع مصر - العتيق - نحوًا من ثلاثين سنة، وولي قضاء الشام في سنة تسع وستين عوضًا عن التاج عبدالوهاب السبكي، فباشره دون السنة، وعاد إلى مصر وأضيف إليه بعد عودته تدريس المالكية والتفسير بجامع ابن طولون، ثم بالمدرسة الظاهرية البرقوقية لما فُتِحت " (1).
في الفترة التي أمضاها بدمشق على قضاء الشام، قرابة سنة، أحيا عهود الأئمة من السلف الصالح، في قضائه وعدله وسداده. وخطب بالجامع الأموي ودرَّس في دار الحديث الأشرفية، فينقل ابن حجر عن ابن حِجِّي البستاني، أحمد بن حجي بن موسى الدمشقي الشافعي حافظ الشام المؤرخ (751 - 816 هـ) قال: " قدم علينا دمشق قاضيًا، فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته وجودة معرفته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت
__________
= البلقيني " ووقع في طبعة دار الكتب من الخطط التوقيفية - 1970 م - أن المدرسة " أنشأها سراج الدين عمر في حياته، ولما مات - رحمه الله - سنة إحدى وتسعين وسبعمائة - كذا! - دفن بها، ودفن بها أيضًا الشيخ الصالح البلقيني الصغير "!؟ 3/ 2293.
(1) المجمع المؤسس 217، ومثله في ذيل التذكرة، لابن فهد 209.
والمدارس التي كانت بيده، نقلا من (الخطط المقريزية):
* البديرية: أنشأها ناصرالدين محمد بن محمد بن بدير العباسي سنة 758 هـ وقرر فيها درسًا للشافعية، درس فيه شيخنا السراج البلقيني (2/ 311).
* الحجازية: بجوار قصر الحجازية، أنشأتها سنة 761 هـ خوند تتر بنت الملك الناصر محمد، زوجة الأمير بكتمر الحجازي. جعلت بها درسًا للفقهاء الشافعية قررت فيه شيخنا سراج الدين البلقيني ودرسًا للمالكية، وإمامًا ومقرئين ومكتبًا لأيتام المسلمين، مع أوقاف جليلة (2/ 282).
* الخروبية: عَمَّرها بدرالدين محمد بن محمد الخروبي بعد سنة 750 هـ وقرر لدرس الفقه بها البهاء ابن عقيل، والسراج البلقيني (2/ 369).
* الخشابية: بزواية الإِمام الشافعي - رضي الله عنه - بجامع مصر العتيق.
* الظاهرية البرقوقية: بين القصرين، شُرِعَ في عمارتها في شهر رجب سنة 786 باسم السلطان الظاهر برقوق، وافتتحت في شهر رجب سنة 788 هـ، وقرر فيها الشيخ سراج الدين البلقيني مدرسًا للتفسير، وشيخ الميعاد (حسن المحاضرة 2/ 271).(1/71)
فاعترفوا بفضله " ونقل التقي ابن فهد عن شيخه الحافظ البرهان الحلبي سبط ابن العجمي، قال: " بهر من هناك بالشام من الشيوخ المصريين والشاميين، بجودة إيراده وإصداره وتحريره وبلاغته، وأقروا له بالتقدم والإِمامة، ودمشق وقتئذ غاصة بالأئمة الفضلاء ".
وولي قضءا العسكر سنة 773 هـ، ثم تركه لولده " بدرالدين محمد " عندما عُيِّن لقضاء القضاة 779 هـ، لكن الأمر لم يتم، وقد سما الشيخ على كل منصب، وولي قضاءَ القضاة في حياته ابنه " الجلال عبدالرحمن " وتفرغ هو لتكاليف الإِمامة والفتيا والتدريس. قال ابن حجر: " ولم تر العين مثله ولا رأى مثل نفسه. واشتهر اسمه في الآفاق وبعُد صيته إلى أن صار يُضرَب به المثل في العلم، ولا تركن النفس إلا إلى فتواه، وكان موفقًا في الفتوى يجلس من بعد صلاة العصر إلى المغرب يكتب على الفتاوى من رأس القلم غالبًا. ولا يأنف إذا أشكل عليه شيء من مراجعة الكتب ولا من تأخير الفتوى عنده إلى أن يحقق أمرها. وكان فيه من قوة الحافظة وشدة الذكاء ما لم يُشاهد مثله، وشرحُ ذلك يطول " وقال ابن فهد: إنه وصف بالتفرد قديمًا. ونقل من (الطبقات لمحمد بن عبدالرحمن العثماني قاضي صفد) قوله في ترجمته: " هو شيخ الوقت وإمامه وحجته. انتهت إليه مشيخه الفقه في وقته. وعلمه كالبحر الزاخر، ولسانه أفحم الأوائل والأواخر " (1).
قلت: القاضي العثماني، صاحب الطبقات الشافعية، توفي سنة 770 هـ، قبل خمس وثلاثين سنة من وفاة الإِمام البلقيني شيخ الإِسلام.
وقال ابن فهد: " قال شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي: اجتمعت به في رحلتي الأولى إلى القاهرة سنة ثمانين، فرأيته إمامًا لا يُجارَى، أكثرَ الناس ِ استحضارًا لكل ما يُلقى من علوم. كان فيه من قوة الحافظة وشدة الذكاء ما لم يُشاهد مثلُه. وقد حضرت عنده عدة دروس مع جماعة من أرباب المذاهب الأربعة، فيتكلم على الحديث الواحد بعد طلوع الشمس فربما أُذِّن للظهر في الغالب وهو لم يفرغ من الكلام عليه، ويفيد فوائد جليلة لأرباب كل مذهب، خصوصًا المالكية ... وممن كان يحضر عنده الإِمام نورالدين ابن
__________
(1) ابن فهد، في ذيل التذكرة: 215، مع ابن حجر، في الإنباء: 2/ 246.(1/72)
الجلال، أفقه أهل القاهرة وقتئذ في مذهب الإِمام مالك، وكان يستفيد منه، وكذا جمع سواه من أرباب المذاهب الأربعة. واستفدت منه فوائد جمة في التفسير والحديث والفقه والأصول .. وهو أجلُّ من أخذت عنه العلم " (1).
وحكى " أبو عبدالله الراعي عن بعض علماء المالكية "، قال: " كنا نقرأ المدوَّنة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي، فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي، فقال الشيخ: " في مذهبنا كذا " في مسألة لم يقل فيها: عن الشافعي، بما قال، وإنما نسبها لنفسه - ثم فطن وحذر أن يقولوا: أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي، فقال: " فإن قلتم يا مالكية عنا، لسنا بمالكية، قلنا: كذلك أنتم قاسمية، وقد اجتمعنا الكل في مالك " قال الرواي: وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ. ولما قرئ عليه (كتاب الشفا) مدحه وأثنى عليه إلى الغاية، وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي [جلال] الدين عبدالرحمن ابنُه، ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض؟ فقال له أبوه الشيخ سراج الدين: ومالك لا تقول للشافعية: ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض؟ (2).
وكان فيما وصفه أصحابه ومعاصروه " وقورًا حليمًا مهيبًا، سريع البادرة سريع الرجوع، ذكي العقل زكي النفس، نبيلا عالي الهمة عظيم المروءة، سريع البكاء في الميعاد مع الخشوع، لا يفتر عن الدرس والعمل ".
سوى أنه كان مع رسوخه في العلم: يتعانى النظم فيأتي منه بما نستحيي من نسبته إليه، وربما لم يُقم وزنه " قاله الحافظ ابن حجر. وتناقلوا قول البدر البشتكي الشاعر، أبي البقاء المصري محمد بن إبراهيم بن محمد (748 - 830 هـ) فيه: " لَمَّا لم يكن
__________
(1) ابن فهد في ذيل تذكرة الحفاظ (215).
والنور ابن الجلال، علي بن يوسف بن مكي 803 هـ يأتي في تلاميذ الشيخ.
(2) المقري: النفح 2/ 48 وقول الشيخ للمالكية: كذلك أنتم قاسمية، عنى " عبدالرحمن بن القاسم المصري " من كبار أصحاب الإمام مالك - رضي الله عنه - وراوي مدونة فقهه.
وأبو عبدالله الراعي، الغرناطي، المالكي، دخل القاهرة سنة 828 هـ واستقر بها وأخذ عن شيوخها وأمَّ بالمؤيدية، وفيها وفاته سنة 855 هـ.(1/73)
للشيطان سبيل للإِمام الشيخ سراج الدين البلقيني، حَسَّنَ له نظم الشعر فجاء بما يُضحَك منه " (1).
" وخضع له الأئمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والنحويين، إذا ذُكِرَ خضعت له الرقاب حتى كان الشيخ جمال الدين الإِسنوي يتوقى الإِفتاء مهابة له، لكثرة ما كان ينقب عليه " (2).
وأجمع علماء الأمصار في زمانه على أنه " طبقة وحده، وكملت له أدوات الاجتهاد باتفاق، وأنه عالم المئة الثامنة، وذكروا فيه الحديث المشهور عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس ِ كلِّ مئة سنة من يجدد لها أمر دينها " (3).
قالوا: " بُدئت بعمر، وخُتمت بعمر " يعنون عمر بن عبدالعزيز، خامس الراشدين - رضي الله عنهم - 101 هـ للمائة الأولى، وأبا حفص السراج عمر البلقيني، للمائة الثامنة.
ومن حيث انتهت إليه الرياسة في العلم والإِجماع على إمامته وعظم قدره عند العامة والخاصة لجلال شخصيته ونبل سجاياه وشدته في الحق، احتاجت إليه الأمة فيما مرَّ عليها من سنين شِداد بعد أن نعمت طويلا بالأمن والمنَعة والاستقرار في عهد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون.
ففيما بين وفاة الملك الناصر في ذي الحجة من سنة 741 هـ، إلى وفاة شيخ الإِسلام السراج البلقيني في ذي القعدة من سنة 805 هـ، شهدت مصر نهاية دولة المماليك الترك قهرة الصليبيين والتتار، وقيام دولة المماليك الجراكسة في سنة 784 هـ، وما كان في فترة
__________
(1) المجمع المؤسس 219، الضوء اللامع 6/ 278، البدر الطالع 2/ 93 - 94.
(2) الإنباء 2/ 246 والجمال الأسنوي، أبو محمد عبدالرحيم، من فقهاء الشافعية الأئمة بمصر (704 - 770 هـ).
(3) رواه الحافظ السيوطي في مدخل كتابه (التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كلِّ مِئة) ونقل بعد تخريجه ما أسنده " الحاكم أبو عبدالله " عن الإِمام ابن شهاب الزهري، قال: " فلما كان في رأس المئة الأولى، مَنَّ الله على هذه الأمة بعمر بن عبدالعزيز " رضي الله عنه - مخطوط بدار الكتب.(1/74)
احتضار الدولة الأولى، أواخرها، من تحرك " تيمور لنك " مما وراء النهر واجتياحه بلاد الشام، وما صاحب ذلك كله من فتن شرسة حالقة، وما لابسه من انتعاش الصليبية بعد سحقها في عصر السلاطين الترك العظام: المظفر قطز والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون، وابنيه الأشرف خليل والناصر محمد. لقد خلف الناصرَ ثمانية سلاطين من بنيه وأحفاده لم تتجاوز مدتهم جميعًا بضعًا وأربعين سنة - أي أقل من مدة سلطنة الملك الناصر وحده - أولهم المنصور سيف الدين أبو بكر بن الناصر محمد، لم يلبث سوى شهرين اثنين خُلِعَ بعدَهُما ونُفِيَ وإخوتُه إلى قوص في صفر سنة 742 هـ وفيها قُتِلَ. فكان النذير الصادع بسنينَ مشئومة واحتضار بطيء لم يكد ينجو فيه أحد من أبناء الناصر وحفدته الذين تعاقبوا على السلطنة، من تعذيب ونفي وقتل. آخرهم " الملك الصالح حاجي بن الأشرف شعبان بن الناصر محمد " بويع بعد مقتل أخيه " المنصور علي " في صفر سنة 783 هـ، ثم خُلِعَ في شهر رمضان من السنة التالية وتولى السلطنة الملك الظاهر برقوق، أول المماليك الجراكسة، وكان قويًّا جلْدًا شجاعًا ذكيًّا مهيبًا، مرجوًّا لصد الموجة التترية الطارئة، لكنه شغل بفتنة وإلى الشام، وخُلِع في جمادى الآخرة من سنة 791 هـ ونفى إلى الكرك. إلى أن استرد السلطنة في سنة 792 هـ بعد صراع ٍ دام ٍ مرير، وتيمورلنك قد اجتاح المماليك الشرقية وفعل الأفاعيل، والصليبيون يطئون ثغور الشام .. ورابط الظاهر برقوق في مصر متأهبًا لقتال، واقترض من تجارها وسُراتها ما جهز به عسكره " وكان السراج البلقيني يتقدم موكب العبماء في النفير لجهاد تيمورلنك ".
وتمت التعبئة وخرج السلطان إلى الشام في سنة 793 هـ وفي صحبته شيخ الإِسلام السراج البلقيني والقضاة والأمراء. وكسر الصليبيين مرة بعد مرة، إلى أن مات - رحمه الله - في ليلة النصف من شوال سنة 801 هـ.
بعدها " استهلت سنة 802 هـ وقد تحرك تيمورلنك إلى البلاد الشامية بعد أن غلب على ما وراءها وخرَّب ودمَّر، وقتل وذبح. ثم كانت الكائنة العظمى في سنة 803: " أعطى الطاغية أهل دمشق أمانًا على أن يؤدوا له ألف تُومَان، قيمة كل تومان عشرة آلاف دينار. فلما قبضها استباح دمشق وما حولها من ديار الشام: دورَها ومتاعها وأموالها ونساءها وصبيانها. وعاث جنوده في الديار فسقًا ونهبًا وقتلاً وخرابًا. وأعلنت التعبئة العامة(1/75)
في مصر للخروج إلى الشام، وبُسِطتْ أيدي الجُباة في أموال الناس، وعَمَّ ذلك في أموال اليتامى والأوقاف " (1).
وسُعار الفتن لا يخبو، وأفاعيل الصليبيين والتتار لا تفتر.
في تلك السنين الشداد، كان " السراج البلقيني " ملاذ الأمة في جوائح النوازل وعصيب الأزمات. وإذ كان مترجموه من شهود العصر ومؤرخيه، كابن حجر والتقي المقريزي وابن تغري بردي، يدونون الصفحات الغُرَّ في سيرته ومواهبه ومكانته وسجاياه ومناصبه، فإنهم في تأريخهم لأحداث العصر، لا تكاد تمر نازلة أو محنة إلا ذكروه فيها: مستشارًا مؤتمنًا ومفتيًا إمامًا، ودليلا للركب الساري بليل ٍ، لا يكذب أهله. فهو يلقانا في تاريخ العصر بموافقة المشهودة وسلطانه على ملوك الزمان، فتاويه المسددة في النوازل، صادعًا بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، أمينًا على شريعة الله تعالى في عباده، قائمًا في الدفاع عنهم من جور ظالم ٍ وجبروتِ متعسف. كان كما قال الحافظ ابن حجر: " شيخ الوقت وإمام الأئمة الأعلام، عَيْنَ أهل الإِسلام وعالمهم ومفتيهم ومعلمهم، عون الإِسلام وحجة الله تعالى على خلقه، يعولون عليه في كل المهمات الدينية، ولا يستغنون عنه في الأمور الدينية. يُفزع إليه في حل المشكلات وكشف المعضلات، بحيث لم يكن لسلطانٍ أن يعقد مجلسًا إلا به، ويقتدي برأيه ومشورته " لا يملك أن يحيد عنها (2).
وقد امتُحن - رحمه الله - بأن ثكل ابنه البكر " بدرالدين أبا اليمن محمد " في سنة 791 هـ وهو في الحادية والأربعين من عمره. وكان أعجوبة في الذكاء والفطنة والسمت والنبل، مهر ودرَّس وتفوق في شبابه، وولي قضاء العسكر سنة 779 هـ قبل أن يبلغ الثلاثين، ثم ولي الإفتاء في دار العدل. وكان أبوه معجبًا به، فحزن عليه أشد الحزن، ودفنه في مدرسته التي أنشأها مقابل مسكنه (3) ثم تجلد الشيخ الثاكل للمصاب الفاجع، وتابع الرباط والجهاد في موقعه العلمي والاجتماعي والسياسي، لم يكل ولم يفتر " مواظبًا على دروسه ومواعيده بذهن صاف وقريحة ثاقبة، صادعًا بالحق على العهد به، عدوًّا لمن
__________
(1) مستخلص بتضمين، من تاريخ مصر بعد الناصر إلى السنوات الأولى من القرن التاسع في: النجوم الزاهرة، وسلوك المقريزي، وإنباء الغمر لابن حجر.
(2) المجمع المؤسس: 217، ونحوه في ذيل التذكرة لابن فهد.
(3) بحارة بهاء الدين، وفيها (دار البلقيني) من معالم خطط القاهرة: (خطط المقريزي 2/ 52).(1/76)
ينحرف عن الدين من الأمراء أو يظلم الرعية. قذًى في عين كل فاجر وطاغية ". يقول شاهد العصر الحافظ ابن حجر، في وفاته لاجين بن عبدالله الجركسي إنه كان مترشحًا لأن يلي المملكة: " وكان مشهورًا بسوء العقيدة، توعَّدَ أن يغير معالم الشريعة، ويبطل الأوقاف كلها، ويستولي عليها، ويحرق كتب الفقهاء كلها. وكان يتهدد الأعيان بالقتل، وأول من يعاقب شيخ الإِسلام البلقيني. فحال الله تعالى دون ذلك، وقدّر موت لاجين في شهر ربيع الأول من هذه السنة - 804 هـ - وكفى الله شره " (1).
وعاش شيخ الإِسلام بعده سَنةً ونصفَ سنة، قويًّا جلدًا، مرابطًا مجاهدًا.
في أصيل يوم الجمعة، العاشر من ذي القعدة الحرام سنة خمس وثمانمائة، توفي شيح الإِسلام، عالم المائة الثامنة، قبيل صلاة العصر. وصلى عليه ابنه " الجلال عبدالرحمن قاضي القضاة " وشيعوه - رضي الله عنه - إلى مدفنه في مدرسته بحارة بهاء الدين في مشهد حافل مهيب. ونعوه إلى الأمة الإِسلامية وبلغ نعيه إلى الحجيج بعرفة فأصم ناعيه الواقفين بها. وقد كان الشهاب ابن حجر فيهم.
وظل الحزن عليه طويلا: خلا مكانه في الفقه والفتيا لم يخلف مثله. وأما في الحديث فكان لمصر وللأمة، حافظها الإمام الحجة الصدر " زين الدين أبو الفضل عبدالرحيم بن الحسين العراقي " إلى أن لحق بشيخ الإِسلام البلقيني، في ذي القعدة من السنة التالية (806 هـ) وكان مولده قبله بسنة واحدة كذلك: توفي كلاهما عن إحدى وثمانين سنة وثلاثة أشهر إلا أيامًا. فذلك قول الشهاب ابن حجر في مرثيته لشيخه سراج الدين عمر، وضمنها رثاء شيخه الزين العراقي: (2)
يا سائلي جهرة عما أكابده .............................. " عَدَتْكَ حاليَ لا سِرّي بمستتر "
أَقضي نهاريَ في غمٍّ وفي حَزَنٍ ............................ وطول ليليَ في فكرٍ وفي سهَرِ
__________
(1) إنباء الغمر، وفيات سنة 804 هـ (2/ 221).
(2) اقتصر ابن حجر في المجمع على ثلاثة أبيات منها - الأول والأخيران مما هنا - وروى السيوطي منها مائة بيتٍ واثنين وثلاثين في (حسن المحاضرة) (1/ 330 - 335).(1/77)
فرحمة الله والرضوان تَشمله ............................... سلامةٌ، ما بكى باكٍ على عُمَرِ
في القرن الأول الأخير لقد .................................. أحيا لنا العُمَرَانِ الدينَ عن قدَرِ
لكنْ أضاء سراج الدين منفردًا ............................. وذاك مشترَكٌ في سبعةٍ زُهُرِ
.....................................
من للفتاوى وحل المشكلات إذا ............................ جلَّ الخطاب وظل القوم في فِكَرِ
لمن يكون اختلاف الناس إن نعقتْ ......................... عمياءُ، والحكمُ فيها غيرُ مُستَطرِ
ترى خوارقَ في استنباطه عجبًا ................................ يردُّها العقلُ لولا شاهدُ البصرِ
قالت حواسدُه لَمَّا رأو غُرَرًا ................................... من بحثه خُبْرُها يربو على الخَبَرِ
الله أكبرُ ما هذا سوى مَلَكٍ .................................... وحاشَ الله ما هذا من البشَرِ
عهدي بأكبرهم قدرًا بحضرته ................................ مثل البُغاثِ لدى صقر من الصَّغَرِ
..............................................................................................
لهفي عليه لِلَيْل ٍ كان يقطعه ............................... نفلاً وذكرًا وقرآنا إلى السحَر
لهفي عليه لضدٍّ كان يدفعه ................................ عن الخلائق من بدوٍ ومن حَضَر
نعم، ويا طول حزني ما حييت على ...................... " عبد الرحيم " فحزني غير مقتصر
لهفي على حافظ العصر الذي اشتهرت ................... أعلامه كاشتهار الشمس في الظُّهُرِ
عِلم الحديث انقضى لما قضى ومضى ....................... " والدهر يفجع بعد العين بالأثر "
لهفي على فقد شيخيَّ اللذين هما ........................... أعز عنديَ من سمعي ومن بصرِي
اثنان لم يرتق النسران ما ارتقيا ............................. نسر السماء ونسر الأرض إن يَطرِ
لا ينقضي عجبي من وَفْقِ عُمرِهما .......................... العام كالعام، حتى الشهْر كالشَّهرِ
عاشا ثمانين عاما بعدها سنَةٌ ................................ وربعُ عام سوى بعض ٍ لمعتبِرِ
في وفيات سنة خمس وثمانمائة، كتب شيخ الإِسلام الحافظ ابن حجر، في ترجمة شيخه الإِمام " السراج أبي حفص البلقيني ":
" .. وكنت رأيت في هذه السنة أنني دخلت مدرسته وهو يصلي الظهر فأحسَّ بي داخلا فتمادى في الركوع فأدركتُ معه صلاة الظهر. فعبرتها عليه فقال لي: يحصل لك ظهور(1/78)
كبير. قلت: وبقية المنام أنك تأخرت لي حتى أدركتُك فأخذتُ عنك، وأذنتَ لي في ذلك. وكان الأمر كذلك " (1).
بعد نحوٍ من قرن، كان الحافظ جلال الدين السيوطي يدون بقلمه سيرته الذاتية فيكتب:
" ولما حججتُ شربت من ماء زمزم لأمورٍ منها: أن أصل في الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر " (2).
__________
(1) إنباء الغمر: 2/ 247.
(2) حسن المحاضرة: من كان بمصر من الأئمة المجتهدين (1/ 338).(1/79)
بياض بالأصل.(1/80)
أصحابه وتلاميذه.
" وكثر طلبته فنفعوا وأفتوا ودرَّسوا، وصاروا شيوخ بلادهم وهو حي " [ابن حجر في الإِنباء].
" ورحل إليه الطلبة من الآفاق الشاسعة للقراءة عليه فانتفعوا به. وتخرج به خلائق لا يُحصَون. وخضع له الأئمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والنحويين، وتتلمذوا له ... بحيث أنه لم يَمُتْ حتى كان قصارى الماهر في العلم أن يَنسب نفسَه إليه ويتبجح بالقراءة عليه ".
[ابن فهد، في ذيل التذكرة]
يضيق المجال هنا عن استيعابهم، وقد عمرت بهم كتب التراجم للأعيان من الربع الأخير للقرن الثامن، إلى أواخر القرن التاسع. فلأقتصر هنا على من كان لهم ظهور في حياته - فيما نعلم - وأعلام الأعيان من الطبقات بعدهم بدءًا بأعلام البيت البلقيني:
" بدرالدين أبو اليمن محمد بن السراج عمر البلقيني ". ولي في شبابه قضاء العسكر، والإِفتاء بدار العدل. وثكله أبوه في سنة (791 هـ) - مر في سيرة الشيخ.
الجلال أبو الفضل، عبدالرحمن بن السراج عمر، وسبط الفقهاء ابن عقيل " تفقه بأبيه وشيوخ الوقت وبرع في الفقه والأصول والتفسير والبيان، ولي قضاء القضاة في حياة أبيه فحُمِدت سيرته مع الحرمة والمهابة، وانتهت إليه الرياسة في الفتوى بعد أبيه، ودرَّس وحدث وصنف.
(763 - 724 هـ).
" علم الدين أبو البقاء صالح بن السراج عمر " ولي قضاء الشافعية ودرَّس وأفتى، " وحمل لواء المذهب في وقته وتفرد في الفقه وصنف فيه " وأكمل (التدريب) لأبيه، وأفرد فتاويه وأضاف إليها المهم من فتاويه، أخذ عنه الجم الغفير وألحق الأصاغر بالأكابر. أفرد تلميذه السيوطي ترجمته بالتأليف.
(791 - 868 هـ).
" الضياء عبدالخالق بن السراج عمر " تخرج بأبيه وولي تدريس المالكية، والميعاد بالحسينية، وناب في القضاء.
(773 - 869 هـ).(1/81)
ومن أحفاد الشيخ وبنيهم، وأبناء إخوته وبنيهم الذين أدركوه:
" تقي الدين محمد، بن البدر محمد بن السراج عمر " كفله جده بعد موت أبيه سنة 791 هـ، فربَّاه وعلمه. ناب في الحكم عن عمه قاضي القضاة الجلال عبدالرحمن، ودرّس بعده الفقه بجامع ابن طولون، وولي الخطابة به ومشيخة الميعاد. وقرئ عليه (كتاب الجمعة للنسائي) بسماعه من جده السراج، سماعه من إسماعيل التفليسي.
(789 - 838 هـ).
" زين الدين أبو العدل، قاسم بن الجلال عبدالرحمن بن السراج عمر " نشأ في كنف أبيه وجده وتفقه بهما وسمع عليهما. ناب عن أبيه في القضاء، وعن عمه العلم صالح في قضاء الجيزة، ودرس التفسير بجامع ابن طولون، والحديث بالمدرسة الناصرية.
(795 - 661 هـ)
" رسلان بن أبي بكر بن رسلان بن نصير البلقيني، البهاء أبو الفتح " تفقه بعمه شيخ الإِسلام، وكان يذاكره في اعتراضاته على (الروضة) وينازعه. ومهر في الفقه وناب في الحكم، وتصدر للإِفتاء والتدريس في حياة عمه، وتوفي قبله، وله سبع وأربعون سنة، وكثر التأسف عليه.
(803 هـ).
" أحمد بن محمد بن أبي بكر بن رسلان، شهاب الدين بن ناصرالدين البلقيني " حفيد أبي بكر، أخي السراج عمر. ولد قبل وفاة عم أبيه، بنحو من عشر سنين، وناب في الحكم عن قاضي القضاة الجلال عبدالرحمن. وأَمَّ بالمشهد الحسيني، ودرَّس (796 - 938 هـ).
من أعيان الطبقة الأولى من أصحاب السراج:
" البدر الزركشي، أبو عبدالله محمد بن بهادر بن عبدالله المصري الشافعي المنهاجي " الفقيه العلامة، مصنف (البرهان في علوم القرآن، وشرح المنهاج، وخادم الشرح، والنكت على صحيح البخاري، والإِجابة فيما استدركته السيدة عائشة على(1/82)
الصحابة - رضي الله عنهم - ... ) تفقه بالشيخين السراج البلقيني والجمال الإِسنوي. ودرس وأفتى.
(745 - 794 هـ).
" الصلاح الخليلي، محمد بن محمد بن سالم (795 هـ) " يأتي مع (محاسن الاصطلاح).
" الزين النويري المالكي، قاسم بن محمد بن علي " تصدر بالأزهر. قال الحافظ ابن حجر: " سمعت بقراءته الكثير على شيخنا سراج الدين " توفي وله ستون سنة.
(799 هـ).
" عمر بن السراج بن عبداللطيف الفُوِّي المصري " (1) نزيل حلب. تفقه بالقاهرة على السراج البلقيني، ثم ولي قضاء العسكر بحلب وبرع في النظم والنثر. له تخميس البردة.
(740 تقريبا - 801 هـ).
" الشهاب الأبوذَرِّي، أحمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن " المصري الشافعي المحدث. عرض على السراج البلقيني والبرهان الإِبناسي والزين العراقي وابن الفرات (الرسالة للإِمام الشافعي) سنة 792 هـ، و (العمدة) في السنة التي تليها، وأجازوه. توفي عن بضع وثمانين.
(801 هـ).
" محمد بن عبيدان، بدرالدين الدمشقي " (2) ولد قبل الخمسين، وتفقه وتميز. وأجازه شيخ الإِسلام السراج البلقيني بالإِفتاء قديمًا. وولي قضاء بعلبك ثم قضاء حمص.
(802 هـ).
" النور ابن الجلال، علي بن يوسف بن مكي الدميري المصري المالكي " من صدور فُقهائها وأعلمهم بالمذهب. ولي قضاء القضاة بعد عزل ابن خلدون في تاسع المحرم سنة 803، فلم يلبث أن مات في جمادى الآخرة من عامه.
وكان يحضر دروس السراج البلقيني وقد ذُكِر في موجز سيرته:
" البدر السبكي، محمد بن محمد بن عبدالبر " 803 هـ) يأتي مع رواة كتاب المحاسن.
__________
(1) من الإِنباء 2/ 79، ومثله في الشذرات 7/ 9 وتصحف الفوي فيها بالفيومي. وترجم السخاوي في الضوء اللامع لعبداللطيف الفوي المتوفى سنة 801 هـ (4/ 354) ثم أشار في ترجمة عمر الفوي، إلى أنه عبداللطيف (7/ 9).
(2) الإِنباء والضوء اللامع. ووقع في طبعة الشذرات (7/ 19): محمد بن عسال.(1/83)
بعدهم، من أعيان تلاميذه، على الترتيب الزمني لوفياتهم:
" ابن عماد، شهاب الدين الأقفهسي المصري، أحمد بن عماد بن يوسف الشافعي أحد أئمة الشافعية في وقته " كتب على (مهمات) شيخه الإِسنوي كتابا حافلا بتعقبات جليلة وله: (أحكام المساجد، وأحوال الهجرة)، قال ابن حجر: سمعت من فوائده، ومن لفظه قصيدة مدح بها شيخنا البلقيني. توفي سنة 808 هـ (1).
أمين الدين الحسباني، سالم بن سعيد بن علوي الشافعي " قدم القاهرة فقرأ النحو على البهاء ابن عقيل، والفقه على السراج البلقيني، ولما ولِيَ قضاء الشام ولاّه قضاء بُصْرَى، توفي - وقد جاوز السبعين - سنة (808 هـ).
" الزين الفارسكوري، أبو المعالي عبدالرحمن بن علي بن خلف المصري الشافعي " الفقيه الأصولي العلامة. تفقه بالقاهرة على الجمال الإِسنوي والسراج البلقيني. ومهر في الفقه وأصوله والعربية. وسمع الحديث فأكثر. درَّس بالمنصورية ووليَ نظر المدرسة الظاهرة بالقاهرة.
(755 - 808 هـ).
" الكمال الدميري، أبو البقاء محمد بن موسى بن عيسى المصري الشافعي " الفقيه الشاعر. قرأ في القفه على السراج البلقيني والشيوخ. والأدب على البرهان القيراطي الشاعر. وبرع في الفقه والحديث والتفسير والعربية. صنّف (شرح المنهاج، وحياة الحيوان، ونظم أرجوزة طويلة في الفقه) ودرس بالأزهر الشريف ومكة المكرمة. مولده بدميرة ووفاته بالقاهرة. (742 - 808 هـ).
" ابن حبيب، عزالدين طاهر بن زين الدين الحلبي ". (808 هـ).
ناظم محاسن الاصطلاح، يأتي مع منظومته.
" الشهاب ابن قماقم الدمشقي، أحمد بن محمد الفقاعي الشافعي " اشتغل ببلده وقرأ على الشيوخ. قال ابن حجر: وقدم القاهرة سنة الكائنة العظمى، وسمع بقراءتي على شيخنا البلقيني في الفقه والحديث، وكان يسميه البُوَيطي، لكثرة استحضاره إياه، ودرَّس بالأمجدية. (809 هـ).
" الشهاب الطنتدائي الحسيني، نزيل الحسينية بالقاهرة، أحمد بن علي بن خلف
__________
(1) المجمع المؤسس: 369.(1/84)
الشافعي ". من أقران الحافظ ابن حجر. قال في الإِنباء: " لازم شيخنا سراج الدين البلقيني وعلق من فتاويه قدر مجلد، ومهر في قراءة الحديث والعربية " نقله السخاوي في الضوء (2/ 55)، وقال إنه تزوج ابنة الشمس البوصيري. يذكر مع فتاوى الشيخ.
(- 813 هـ).
" النور الرشيدي، المصري علي عبدالرحمن بن أحمد الربَعي الشافعي، نزيل القاهرة " قال ابن حجر في الإنباء: قدم القاهرة فاشتغل بالعلم ولازم البلقيني ثم الدميري، ودرس بعده الحديث بقية بيبرس، وفاق في استحضار الفقه، فصار كثير النقل كثير البحث ... ودرَّستُ بعده للمحدثين. - 813 هـ).
" ابن الهائم، الشهاب أحمد بن محمد بن عماد المصري ثم المقدسي الشافعي " اشتغل بالقاهرة على السراج البلقيني، وعني بالفرائض حتى فاق الأقراتن ورُحِل إليه من الآفاق، وصنف فيها ودرَّس بالصلاحية بالقدس، ثم ولي قضاء القاهرة (753 - 815 هـ).
" الشمس الغَرَّافي - قرية بمصر - ثم القاهري، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن خليل الشافعي " لازم البلقيني وبه انتفع وعليه تخرج، وأذن له في الإِفتاء والتدريس، وأمَّ بالأزهر، نيابةً، وتصدر للتدريس بمدارس مصر ومكة ". (- 816 هـ).
" الجمال أبو حامد ابن ظهيرة، محمد بن عبدالله بن ظهيرة المخزومي المكي الشافعي " قاضيها المفتي وحافظها الثبت. ارتحل إلى مصر فسمع من حفاظها وتفقه بشيخ الإِسلام البلقيني وأجازه بالفقه وأصوله والحديث والعربية. وتصدر وقُصِدَ بالفتاوى. وهو صاحب (الأسئلة المكية) التي أجاب عنها الشيخ في الأجوبة المرضية (751 - 817 هـ).
" العز ابن جماعة، محمد بن أبي بكر بن العز عبدالعزيز بن البدر محمد الكناني المصري الشافعي " أعجوبة عصره ومفخرة مِصرِه في المعقول والمنقول. كان ابن حجر لا يلقبه إلا بإمام الأئمة. أخذ الفقه عن السراج البلقيني، وعن الشيوخ في كل فن، فصار المشارَ إليه فيها. مرَّ في المصنفين على كتاب ابن الصلاح. (749 - 819 هـ).
السلطان المؤيد، الجركسي، أبو النصر " شيخ بن عبدالله المحمودي ثم الظاهري (824 هـ)، قال ابن حجر: " حدث بصحيح البخاري عن شيخ الإِسلام السراج البلقيني(1/85)
بإجازة معه أخرجها بخطه، وذكر أنها كانت معه في أسفاره لا يفارقها. وحضرت عنده عدة مجالس " (1).
" البرهان البيجوري المصري، أبو إِسحاق إبراهيم بن أحمد بن علي بن سليمان الشافعي " أعلم الشافعية بالفقه في عصره. أخذ عن الإِسنوي ثم لازم شيخ الإِسلام البلقيني. قُصِد بالفتوى فتحرج منها تورعا كما أعرض عن الرياسة. وولي مشيخة الفخرية، وكان الطلبة " يصححون عليه تصانيف الحافظ العراقي فيهذبها ويهديهم إلى الصواب مما يقع فيها من الخطأ نقلاً وفهمًا، وكانوا يطالعون العراقي بذلك فلا يزال يصلح في تصانيفه بما ينقلونه عنه ". حكاه ابن حجر في الإنباء وقال: ولم يكن في عصره من يستحضر الفروع الفقهية مثله، ولم يخلق بعده من يقارنه في ذلك " ولد في حدود الخمسين وتوفي سنة: (- 825 هـ).
" ولي الدين أبو زرعة العراقي، أحمد بن عبدالرحيم بن الحسين المصري الشافعي " قاضي القضاة الحافظ ابن الحافظ. سمع من والده وحفاظ الوقت، وتفقه بالسراج البلقيني والأعيان، وتفوق ومهر. من مصنفاته: (المستفاد في مبهمات المتن والإِسناد، والنكت على المختصرات الثلاثة) في الفروع جمع فيها بين (التوشيح للتاج السبكي، وتصحيح الحاوي لابن الملقن، وفوائد من حواشي شيخه البلقيني على الروضة) واختصر المهمات للإِسنوي وأضاف إليها حواشي الشيخ. وخرج له جزءًا من عواليه قرأه الحافظ ابن حجر على الشيخ. (762 - 826 هـ).
" العِز النويري ثم المكي، عبدالعزيز بن أحمد بن علي بن أحمد الشافعي " تفقه في المذهب على السراج البلقيني، وقرأ عليه سنن أبي داود في سنة 802 هـ، ولي قضاء تعز باليمن. (778 - 826).
" ابن المُغلِي، أبو الحسن، علي بن النور أبي الثناء محمود بن أبي بكر الحموي الحلبي، نزيل القاهرة " أخذ عن البلقيني، وحدث عنه بصحيح البخاري، ومهر في المذاهب الأربعة " وكان آية، قل أن ترى العيون مثله " ولي قضاء حماة بعد التسعين، ثم
__________
(1) المجمع المؤسس: 395.(1/86)
قضاء حلب سنة أربع وثمانمائة، ثم قضاء الأحناف بمصر بعد سنة سبع عشرة، إلى وفاته. (828 هـ).
" ابن قارئ الهداية، السراج أبو حفص عمر بن علي بن فارس الكناني القاهري، الحسيني منزلاً بها. (829 هـ).
يأتي مع المحاسن.
" البدر القلقشندي، أبو عبدالله محمد بن محمد بن محمد بن إسماعيل القرشي المصري الشافعي " تفقه في القاهرة على الإِسنوي ثم البلقيني، ومهر وتفوق في الفرائض. وكان الشيخ يفتخر به ويقول: هو من قدماء طلبتي. حكاه ابن حجر في الإِنباء، وقال: ولي أمانة الحكم سنة تسعين ثم ناب عن قاضي القضاة الجلال عبدالرحمن البلقيني فكان يثني عليه حتى قال مرة: ليس في نوابي مثله. (742 - 83 - هـ).
" البدر البشتكي، محمد بن إبراهيم بن محمد المصري " كان أبوه نزيل خانقاه بشناق الناصري، حيث وُلد له ابنه محمد، الأديب الشاعر، يتردد ذكره في موجز سيرة الشيخ سراج الدين. (748 - 830 هـ) (1).
" الشمس البرماوي، محمد بن بن عبد الدائم الشافعي " من شيوخ العصر أعيان تلاميذ البلقيني. قال ابن حجر: لازم الشيخ بدرالدين الزركشي وتمهر به، وحضر دروس الشيخ سراج الدين البلقيني وقرأ عليه غالبها، وقد سمعت بقرءاته على الشيخ (مختصر الخرقي، وشرح العمدة، والبخاري في أربع مجلدات) وناب في الحكم عن الجلال عبدالرحمن البلقيني ثم عن التقي الأخنائي، وخطب ودرس. (763 - 831 هـ).
" التقي الفاسي، أبو الطيب المكي المالكي، محمد بن أحمد بن علي الحسيني " مفيد مكة ومؤرخها وعالمها، وأول من ولي بها قضاء المالكية استقلالا، ومصنف (ذيل التقييد في رواة الكتب والأسانيد - لأبي بكر ابن نقطة - وأخبار مكة، والعقد الثمين في أخبار البلد الأمين ... ) وفد على القاهرة غير مرة، فقرأ وعرض على شيخ الإسلام البلقيني وشيوخ
__________
(1) انظره مع ترجمة الشيخ في (ذيل التذكرة) لابن فهد، ترجمة البدر البشكتي في (الضوء اللامع للسخاوي، والبدر الطالع للشوكاني).(1/87)
الوقت وقال في ترجمته لنفسه بذيل التقييد: سمعت عليه جزء البطاقة، وفضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لإِسماعيل القاضي. وحضرت دروسه ". (775 - 832 هـ).
" ابن الجزري، أبو الخير محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الدمشقي. ثم الشيرازي الشافعي " مقرئ الممالك الإِسلامية وعالمها بالقراءات والقراء. مصنف (غاية النهاية) في طبقاتهم، ترجم لنفسه فيها فذكر من كبار الشيوخ الذين أجازوه شيخ الإِسلام البلقيني (1)، أجازه سنة خمس وثمانين (2/ 248 الترجمة 3433) وقال الشوكاني في ترجمته إنه رحل في دمشق إلى القاهرة فسمع من الشرف الدمياطي وأخذ القفه عن الجمال الإِسنوي والسراج البلقيني. مولده بدمشق ووفاته بشيراز. (754 - 833 هـ).
" المجد البرماوي ثم القاهري، أبو محمد إسماعيل بن أبي الحسن علي الشافعي " والد البدر. اختص بشيخ الإِسلام البلقيني ولازم الاشتغال عليه نحوًا من أربعين سنة، وهو الذي سأله الإِذن للبدر الزركشي في الإِفتاء والتدريس. وكان فيما ذكر السخاوي: بحرًا فهامة وطودًا شامخًا، زاهدًا نبيلا خيرًا، تخرج به كثير من العلماء. (549 - 834 هـ).
" الشرف الأقفهسي، عيسى بن محمد بن عيسى المصري الشافعي " لازم السراج البلقيني واشتغل عليه في الفقه، وقرأ عليه المنهاج في الأصول، وسمع عليه الصحيحين. وأذن له الشيخ في التدريس وناب في الحكم. (755 - 835 هـ).
" ابن الأمانة، بدر الدين أبو محمد الإِبياري ثم القاهري، محمد بن أحمد بن عبدالعزيز بن عثمان، الأمانة، الأنصاري الشافعي " قدم به أبوه من إبيار - غربيّ الدلتا - إلى القاهرة صبيًّا، ولازم شيخ الإِسلام البلقيني وسمع من الشيوخ، واجتهد وتصدر وأفتى. ولي القضاء، ودرس الفقه والتفسير بالشيخونية وجامع الحكم، والحديث بالمنصورية، وتصدر بالجامع العتيق وتخرج به أئمة.
" البرهان الحلبي، سبط ابن العجمي. إبراهيم بن محمد بن خليل الشافعي " حافظ الشام ومسنده. قدم القاهرة غير مرة، ولقي الشيوخ وقال عن السراج البلقيني: هو أجل من أخذت عنه العلم وسمعت عليه. (753 - 841). مرَّ في ترجمة الشيخ.
__________
(1) وفي ترجمة " ابن عيسى أبي القاسم بن الوجيه أبي محمد اللخمي الشريشي ثم الإسكندري المالكي - 29 هـ - " ذكر ابنُ الجزري كتابه (الجامع الأكبر) في القراءات، وقال: لم يصنف مثله في هذا الفن ... من رآه رأى العجب، أخبرني شيخنا العلامة سراج الدين عمر البلقيني أن عنده نسخة كاملة له. (غاية النهاية: 1 / الترجمة 661).(1/88)
" ابن ناصرالدين، شمس الدين أبو عبدالله الدمشقي، محمد بن أبي بكر بن عبدالله القيسي الشافعي " حافظ دمشق والشام ومؤرخ الديار الشامية وناظم (بديعة الزمان عن موت الأعيان) وشارحها في (التبيان لبديعة الزمان) من شيوخه المصريين السراج البلقيني. وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق. (777 - 842 هـ).
" ابن مرزوق الحفيد، أبو عبدالله العجيسي التلمساني، المالكي " الحافظ المسند الفقيه النظَّار. دخل مصر مرتين ولقي السراج البلقيني في عدد من علماء مصر وحفاظها، وتدبج مع الحافظ ابن حجر (1). ومن عواليه رواية عن البرهان ابن صديق الشامي والسراج البلقيني والنور الهيثمي، ذكرهم في (معاليه) (2).
" المحِب ابن نصرالله، أحمد بن نصرالله بن أحمد بن محمد البغدادي الكرماني التستري الأصل، نزيل القاهرة أبو عبدالله الحنبلي " مفتي المذهب وشيخه في الديار المصرية. ولد وتعلم ببغداد وأمَّ بجامع الخليفة وأعاد بالمستنصرية وأجيز بها للتدريس والإِفتاء. ثم قدم القاهرة سنة سبع وثمانين فلازم السراج البلقيني والزين العراقي وابن الملقن. وولي تدريس الظاهرية البرقوقية وناب في الحكم، وانتهت إليه مشيخة الحنابلة وكان إمامًا فقيهًا نظَّارًا، ورعًا وقورًا مهيبًا. (765 - 844 هـ).
" الشهاب الرملي. أبو العباس أحمد بن حسين بن حسن بن علي الشافعي " العالم العارف القدوة. سمع السراج البلقيني وقرأ على ولده الجلال عبدالرحمن أكثر البخاري وأذن له في الإِفتاء، وانتفع به الناس. (773 - 844 هـ).
" ابن عمار، شمس الدين محمد بن عمار بن محمد المصري المالكي " الفقيه الإِمام، من أعيان تلاميذ الشيخ المذكورين في ترجمته، سمع عليه مع ابن حجر، وشرح عمدة الأحكام، وكتب على التسهيل ومغني اللبيب، واختصر توضيح ابن هشام وعروس الأفراح للسبكي. مولده في حدود الستين والسبعمائة وتوفي سنة (844 هـ).
" التقي المقريزي، أبو العباس المصري أحمد بن علي بن عبدالقادر الحسيني " عمدة المؤرخين، العالم المحدث. كان على مذهب الإِمام أبي حنيفة ثم تحَول شافعيًّا. قرأ على
__________
(1) البدر الطالع للشوكاني 2/ 119، وفهرس الفهارس للسيد عبدالحي الكتاني: 1/ 296.
(2) مخطوطة بالخزانة العامة بالرباط، رقم (71 مجموع).(1/89)
جده لأمه الشمس ابن الصائغ، وسمع الكثير من السراج البلقيني في صفوة من علماء الوقت وحفاظه. من مصنفاته، وهي كثر: (السلوك، والخطط، والعقود الفريدة في تراجم الأعيان، وإمتاع الأسماع، ومجمع الفرائد) مولده بالقاهرة بعد سنة ستين وسبعمائة، وتوفي بها سنة (845 هـ).
الزين عُبَادة بن علي بن صالح بن عبدالمنعم الأنصاري الخزرجي المصري المالكي " الفقيه المفتي العالم النبيل. من أعيان التلاميذ المذكورين في ترجمة شيخ الإِسلام البلقيني. وتفقه في المذهب المالكي بالشيخ بهرام، ومهر في الأصلين وأفتى في المذهبين، ودرس للمالكية في الشيخونية، وفي أشرفية برسباي الموقوفة على الحنفية، عُيِّن لقضاء المالكية فأصر على الامتناع واختفى في دمياط عند الشيخ الولي الصالح إبراهيم المتبولي، إلى وفاته - رضي الله عنه -. (777 - 846 هـ).
" البرهان الأبناسي، إبراهيم بن موسى بن أيوب المصري الشافعي " شيخ الشيوخ في وقته. حضر دروس السراج البلقيني ودرَّس بالجامع الأزهر، وطُلِب للقضاء فامتنع. من مصنفاته (الشذى الفياح في مختصر ابن الصلاح). مرَّ في المصنفات عليه. (849 هـ).
" الشمس القاياتي، محمد بن علي بن محمد بن يعقوب المصري الشافعي " قاضي القضاة، الفقيه المحقق. حضر دروس البلقيني وأعيان الوقت، وشرح المنهاج، ودرس بالبرقوقية والأشرفية والقبة الشافعية والشيخونية. وتخرج به أئمة (785 - 850 هـ).
" ابن قاضي شهبة، تقي الدين أبو بكر بن الشهاب أحمد بن محمد بن عمر الدمشقي الشافعي " الفقيه المفتي العلامة المؤرخ، صاحب طبقات الشافعية وشرح المنهاج والمنتقى من تاريخ ابن عساكر، ومن الأنساب للسمعاني، تفقه بأبيه وأخذ عن السراجين البلقيني وابن الملقن، في جماعة من شيوخ مصر والشام والحجاز. (- 851 هـ).
" الشهاب أبو العباس أحمد بن الشرف يعقوب بن عبدالمنعم الأطفيحي القاهري الأزهري الشافعي " حفظ وعرض على شيخ الإِسلام البلقيني، وصحب الزين العراقي(1/90)
وأصهر إليه. وباشر النقابة عن الولي أبي زرعة العراقي ثم عن ابن حجر، وأمانة الحكم وأوقاف الحرمين، وكان من رجال القاهرة سؤددًا وكرمًا (792 - 851 هـ) وأبوه الشرف يعقوب بن أحمد بن عبدالمنعم الأزهري، هو صاحب النسخ الأصول المعروفة لنا من (التقييد والإِيضاح، والتبصرة والتذكرة) للحافظ العراقي.
" ابن حجر، الشهاب أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد العسقلاني الأصل المصري المولد والدار والوفاة، شيخ الإِسلام الصدر وحافظ العصر الإِمام، من جلة أصحاب السراج البلقيني. ترجم له في المجمع المؤسس وفي الإِنباء، وقال: أخرجت له أربعين حديثا عن أربعين شيخا، وقرأت عليه دلائل النبوة للبيهقي، وقرأت عليه دروسا من (الروضة) وأذن لي بخطه، وكتب لي خطه على جزء من تغليق التعليق الذي وصلت به تعاليق البخاري. (773 - 852 هـ).
" الزين رضوان، بن محمد بن يوسف بن سلامة العُتْبِي، أبو النعيم الصحراوي المصري الشافعي " الفقيه الفرضي الأصولي المتكلم المقرئ، مذكور في ترجمة الشيخ، في الصفوة من أصحابه. (769 - 852 هـ).
" الشهاب المحلي، أبو العباس أحمد بن الكمال محمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم الأنصاري المصري الشافعي " أخذ عن أبيه وعن السراج البلقيني وتفقه بها. (- 852 هـ).
" العلاء القلقشندي، أبو الفتوح علي بن القطب أحمد بن إسماعيل المصري الشافعي " تفقه بالسراج البلقيني وولدِه الجلال ِ عبدالرحمن.
سمع الحديث من الزين العراقي وأخذ عنه أكثر شرحه للألفية، وكَتَب الكثيرَ من أماليه، وتصدر للتدريس والفتيا وحدث وصنف، ورشح لقضاء القضاة فامتنع. من مصنفاته: (فاضحة الملحدين، ونزهة النظر في كشف حقيقة الإِنشاء والخبر). (788 - 856 هـ).
" التقي ابن ظهيرة، أبو محمد عبدالغني بن علي بن عبدالحميد بن عثمان، المغربي الأصل المنوفي ثم القاهري " تعلم بمنوف ثم تحول إلى القاهرة فنزل بجوار الشيخ في حارة بهاء الدين، وإليها نسب. تفقه به وسمع الحديث من الزين العراقي ثم لزم ابنه ولي الدين(1/91)
أبا زرعة واختص بابن حجر، وتصدر بجامع الحاكم وبالأشرفية بالقاهرة.
(770 - 858 هـ).
" المُجَارِي، أبو عبدالله الأندلسي محمد بن محمد بن علي بن عبدالواحد ". سمع بغرناطة وفاس، ورحل فسمع بتلمسان وبجاية وتونس. وأخذ بمصر عن أعلام شيوخها، وأولهم في (برنامجه) " شيخ الإِسلام الإِمام مفتي المذاهب الأربعة السراج أبو حفص البلقيني " سمع عليه بمدرسته كثيرًا من صحيح مسلم، وشيئًا من الأصول تفقها، وبمدرسة الظاهر برقوق يسيرا من كشاف الزمخشري تفقها. وتوثقت صلته به فكان يعلم أولاده وأحفاده العربية. أجاز له الشيخ وأحاله على برنامجه، وفيه من شيوخه أبو العباس الحجَّار والبهاء ابن عقيل والأستاذ أبو حيان. مولده حوالي منتصف الثامن، وتوفي (862 هـ) (1).
" الزين البوتيجي ثم القاهري، عبدالرحمن بن عنبر بن علي العثماني الشافعي الفرضي " قدم القاهرة سنة 784 هـ وعرض على البلقيني، والشيوخ، وحضر ميعاد البلقيني واستفتاه وضبط عنه لطائف، ومهر وأفتى وناب في القضاء (779 - 864 هـ).
" البرهان الباعوني، أبو إسحاق المقدسي إبراهيم بن أحمد بن ناصر بن خليفة " قدم القاهرة قريبًا من سنة أربع وثمانمائة فأخذ عن السراج البلقيني ولازمه إلى وفاته، وباشر نيابة الحكم والخطابة بالجامع الأموي، ومشيخة الشيوخ بالسميساطية بدمشق. مولده بصفد ووفاته بدمشق. (777 - 870 هـ).
" الهَنْتَاني، أصيل الدين أبو الفتح محمد بن البرهان أبي إسحاق محمد بن إبراهيم بن علي بن عثمان بن يوسف المراكشي الأصل الموحدي، المصري المولد والنشأة والمالكي " تلا على الشيوخ وجوّد وحفظ الشاطبيتين: العقيلة وحرز الأماني، والعمدة ومختصر ابن الجلاب ورسالة ابن أبي زيد، في الفقه المالكي، وألفية ابن مالك، وعرض على السراج البلقيني والشيخ بهرام. وحدث وأفاد ودرَّس وأعاد. مولده حوالي 780 هـ وتوفي سنة.
(872 هـ).
" ابن مفلح الراميني، نظام الدين أبو حفص، عمر بن التقي إبراهيم بن شيخ المذهب محمد بن مفلح الراميني المقدسي الصالحي الحنبلي " تفقه ببلده ودخل القاهرة قديمًا فحضر
__________
(1) برنامج المُجَاري: 149 ط بيروت 1982 م.(1/92)
بها عند شيخ الإِسلام البلقيني والشيوخ. وناب في القضاء بدمشق والقاهرة ثم ولي قضاء غزة استقلالا سنة خمس وثمانمائة. مولده حوالي سنة 781 وتوفي سنة (872 هـ).
" الجلال القُمَّصِي، أبو المعالي عبدالرحمن بن الشهاب أحمد بن عبدالرحمن المصري الشافعي " الفقيه الخطيب. عرض من محفوظاته في الفقه والقراءات والعربية على السراج البلقيني والشيوخ، وصحب العلم صالح البلقيني، وناب في الحكم وخطب بالمؤيدية وأمَّ بالفخرية، وحدث بالكثير، وعُمِّرَ وتفرد. (782 - 875 هـ).
" البهاء التتائي، أحمد بن عبدالرحمن بن سليمان المصري " سمع مع أخيه البدر محمد، على شيخ الإِسلام البلقيني ختم البخاري. (792 - 875 هـ).
" الجمال الغَمري القاهري، أبو عبدالله بن عبدالرحمن بن أحمد الشافعي الفقيه " أخذ عن السراج البلقيني وحضر مواعيده، وحلَّق بالأزهر ثم جاور بطيبة. (770 - 880 هـ).
" الشهاب الأقفهسي ثم القاهري، أبو العباس أحمد بن يوسف بن عبدالنبي الشافعي " حضر مجلس السراج البلقيني، ونقل السخاوي عن ابن حجر، قال: " سمعت من لفظه قصيدة مدح بها شيخنا " صنف كثيرًا، وله عدة منظومات في الفقه. توفي بعد سنة (880 هـ).
" البدر الدَّمَاطي، حسن بن علي بن أحمد، أبو علي الأزهري الشافعي، الضرير المقرئ الخطيب الصوفي ". أخذ الفقه عن السراج البلقيني وقرأ على الشيوخ. وتصدر للإِقراء وخطب بالأزهر وتنزل في صوفية سعيد السعداء بالقاهرة. أرخ السخاوي وفاته سنة (881 هـ).
" ابن حِرْمي العلقمي، بدر الدين حسن بن أحمد بن حرمي بن مكي المصري الشافعي " تفقه عند شيخ الإِسلام البلقيني، وناب في القضاء بالقاهرة وغيرها، وولي نظر الأوقاف. مولده بالعلاقمة من صعيد مصر قبيل سنة 770 وتوفي بالقاهرة سنة (893 هـ).(1/93)
هكذ على امتداد أكثر من قرن، يلقانا تلاميذ شيخ الإِسلام البلقيني طبقة بعد طبقة، اقتصرتُ فيهم على ما يحتمله المجال من مختلف الأنساب البلدانية والمذاهب الفقهية والمراكز العلمية، سوى من أجاز لهم من الرجال ومن النساء. وفي كتاب النساء من (الضوء اللامع) أكثر من عشر، أجاز لهن شيخ الإِسلام البلقيني، وحدثن، ومنهن من عمرت وتفردت.(1/94)
مصنفاته:
" ولم يكمل من مصنفاته إلا القليل، لأنه كان يشرع في الشيء فلِسعة علمه يطول عليه الأمر، حتى إنه كتب (شرح البخاري) على نحو عشرين حديثا، مجلدين. وكتب على (الروضة) عدة مجلدات تعقيبات، وعلق بعض طلبته من خطه من حواشي شيخه بالروضة خاصة، مجلدين .. وقد عمل له ولده جلال الدين - عبدالرحمن قاضي القضاة - ترجمة جمع فيها أسامي تصانيفه، وأشياء أخرى من اختياراتٍ أجادها، وقد سمعتُها كلها منه. وخرَّجتُ له أربعين حديثا عن أربعين شيخا، حدث بها مرارا .. "
الحافظ ابن حجر في ترجمة الشيخ بالإِنباء.
" اجتمعت به في رحلتي الأولى إلى القاهرة في سنة ثمانين، فرأيته إماما لا يُجارَى، أكثرَ الناس ِ استحضارا لما يلقي من العلوم. وقد حضرت عنده عدة دروس مع جماعة من أرباب المذاهب الأربعة فيتكلم على الحديث الواحد من بعد طلوع الشمس، وربما أذن الظهر في الغالب، وهو لم يفرغ من الكلام عليه ".
البرهان الحلبي، نقله عنه تلميذه ابن فهد في ذيل تذكرة الحُفَّاظ.
فيما يلي ما وقفنا عليه من مصنفات الشيخ، منسقة في أبواب، تبدأ بما ذكره المصنف لنفسه في متن (محاسن الاصطلاح).(1/95)
1 - في الحديث وعلومه:
ذكر السراج البلقيني لنفسه في المحاسن سبعة كتب، منها كتاب في الفقه، وستة في الحديث وعلومه، فهي مع المحاسن سبعة كتب، وهذه أسماؤها على ترتيب ورودها في متن المحاسن، مذيلة بأرقامها في المخطوط، ويأتي في فهرسة الكتب بيان أرقام صفحاتها في طبعتنا هذه، والله المستعان.
(ذكر الأسانيد في لفظ المسانيد).
ذكره في المحاسن مرتين: في النوع الثاني (الحديث الحسن)، وقال: " فليُنظَر فيه فإنه من المهمات " ثم في النوع الثامن (المقطوع)، وقال: " وقد بسطناه في ذكر الأسانيد في لفظ المسانيد " [10 / و - 13 / ظ]
(القول الحسن في ترجمة الحسن).
ذكره في النوع الرابع والعشرين في بيان طرق السماع منه، والاختلاف على سماع الحسن البصري من أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: " قد كتبت جزءًا سميته: (القول الحسن في سماع الحسن) بسطت القول فيه في ذلك وفي غيره، فليُنظر منه " - 48 / ظ.
(الطريقة الواضحة في تمييز الصنابحة).
ذكره ثلاث مرات: في النوع الأربعين (معرفة التابعين)، قال: " وقد بينت الصنابحيين في جزء سميته: الطريقة الواضحة في تمييز الصنابحة " [107 / و] وفي النوع السابع والأربعين، فيمن لم يرو عنه إلا راوٍ واحد [120 / ظ] ثم في النوع السابع والستين (رواية التابعين بعضهم عن بعض)، وقال: " فليُنْظرْ فإن فيه نفائس " [154 / و].
(بذل الناقد بعض جهده في الاحتجاج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده).
ذكره في النوع الخامس والأربعين (رواية الأبناء عن الآباء)، قال في الاختلاف على الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص: " وذلك مبسوط في التصنيف اللطيف الذي سميته (بذل الناقد بعض جهده في الاحتجاج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده)، فلينظر فيه " [116 / ظ].(1/96)
هذه الأجزاء الثلاثة الأولى من مصنفاته، لم أقف على ذكر في غير محاسن، وقد حرصت على نقل عبارته فيها، من أنها كانت ناجزة، يحيل النظر عليها للنظر فيها.
والرابع (بذل الناقد بعض جهده). ذكره السخاوي في (فتح المغيث 3/ 180).
(العرف الشذي على جامع الترمذي).
ذكره بهذا الاسم، وأحال عليه ليُنظَر فيه، في ستة مواضع من المحاسن:
في النوع الثاني عشر (التدليس وحكم المدلس)، قال: قد بسطنا القول فيه في باب ما جاء في التغليظ في الربا، في الكتاب الذي سميناه (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر فيه [25 / أ].
وفي النوع الثاني عشر (معرفة الشاذ)، قال في حديث النهي عن بيع الولاء وهبته: وقد أنهيت رُواته عن عبدالله بن دينار، إلى سبع عشرة نفسًا في (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر فيه " [33 / و].
وفي النوع الثامن عشر (الحديث المعلل)، قال في حديث كفارة المجلس وأسانيده: وقد بسطت القول في ذلك كله في (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر فيه " [93 / و].
ثم في: النوع الثلاثين (الحديث المشهور). [89 / ظ].
وفي الرابع والثلاثين (ناسخ الحديث ومنسوخه). [93 / و].
كتابه هذا، على الترمذي، ذكره الحافظ ابن حجر بالمجمع المؤسس، ونقل منه خطِّ البرهان الحلبي، قال: " وقرئ عليه مجلد من شرحه للترمذي " وقال السخاوي في ترجمة البرهان الحلبي، إبراهيم بن محمد بن خليل بالضوء اللامع: " قرأ على السراج البلقيني الجزء الذي شرحه من جامع الترمذي " والذي في (ذيل تذكرة الحفاظ) لابن فهد أن للشيخ شرحين على الترمذي: أحدهما صناعة والآخر فقه.
وفي شذرات الذهب: " وله شرحان على الترمذي " وفي كشف الظنون، من شروح " جامع الترمذي ": شرح سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني 805 هـ، " كتب قطعة منه ولم يكمله، وسماه العرف الشذي على جامع الترمذي ".(1/97)
(شرح البخاري).
أشار إليه البلقيني في النوع الأربعين (معرفة التابعين)، بقوله في صحبة مسروق بن الأجدع الهمداني، بحديث له مرفوع في صحيح البخاري: " وقد أثبتنا ذلك - يعني كون مسروق من التابعين - فيما اعترضنا به على البخاري " [108 / ب].
قال ابن حجر في المجمع: وكتب على البخاري ابتداء شرح مجلدين، وصل فيهما إلى كتاب الإِيمان، أطال النفس جدًّا، فلو قدر أن يكمل لكانَ مائتي مجلدة " وقال في الإِنباء: إنه شرح منه على عشرين حديثًا في مجلدين ".
وفي ذيل التذكرة لابن فهد: " شرح قطعة منه " وقال السيوطي في ذيله للتذكرة: له شرح على البخاري.
وذكره حاجي خليفة في حرف الجيم، في شروح " الجامع الصحيح للبخاري، قال: شرح قطعة من أوله إلى كتاب الإِيمان في نحو خمسين كراسة وسماه: فيض الجاري بشرح البخاري (الكشف 1/ 550).
ومعها من تصانيفه في الحديث وعلومه:
(محاسن الاصطلاح وتضمين ابن الصلاح) يأتي.
(مناسبة ترتيب أبواب البخاري).
ذكره الحافظ ابن حجر، في المبحث العاشر من (هدي الساري)، في سياق فهرسة البخاري بابًا بابًا وعدة ما في كل باب من الحديث، قال: أوردتهُ تبعًا لشيخ الإِسلام أبي زكريا النووي - رضي الله عنه - تبركًا به. ثم أضفت إليه مناسبة ذلك مما استفدته من شيخ الإِسلام أبي حفص البلقيني - رضي الله عنه - ".
ثم عقد فصلا عنوانه " ذكر مناسبة الترتيب المذكور بالأبواب المذكورة، ملَخَّصًا من كلام شيخنا شيخ الإِسلام أبي حفص عمر البلقيني - تغمده الله برحمته - ".
وقال في ختامه: " انتهى كلام الشيخ مُلَخَّصًا، ولقد أبدى فيه لطائف وعجائب. جزاه الله خيرًا بمنه وكرمه. " هدي الساري 470 - 473.(1/98)
(شرح زوائد مسلم على البخاري).
ذكره بروكلمان وسزجين مع شروح الجامع الصحيح للبخاري. ثم ذكره سزجين فيما على صحيح مسلم.
والذي في كشف الظنون، في شروح " الجامع الصحيح لمسلم: شرح زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين ابن الملقن، المتوفى سنة (804 هـ) وهو كبير في أربعة مجلدات.
(شرح السنن لأبي داود السجستاني).
ذكره له بروكلمان (3/ 187) وسزجين (1/ 236) مع شروح السنن. وتصحف اسم جده: نصير، فيهما بـ[نصر].
(عوالي السراج البلقيني).
تخريج تلميذه الحافظ ولي الدين أبي زرعة العراقي.
قال الحافظ ابن حجر في أسمعته على الشيخ بالمجمع: وسمعت عليه جزءًا أخرجه الشيخ ولي الدين ابن العراقي من عواليه ".
وقال السخاوي في ترجمة ولي الدين، أحمد بن عبدالرحيم العراقي، بالضوء اللامع: خرَّج لغير واحد من شيوخه، منهم سراج الدين البلقيني ".
(أربعون حديثًا عن أربعين شيخًا).
قال ابن حجر في أسمعته: وسمعت عليه الأربعين التي خرجتُها له عن مشايخه: عشرين بالسماع وعشرين بالإِجازة (المجمع والإنباء).
(غريب الحديث).
ذكره الحافظ شمس الدين السخاوي، فيما صُنِّفَ في غريب الحديث (فتح المغيث 3/ 55).
(ختم البخاري).
ذكره السخاوي في ترجمة " البهاء التتائي " أحمد بن عبدالرحمن بن سليمان (بالضوء اللامع)، قال: سمع من أخيه " البدر محمد " على السراج البلقيني (ختم البخاري) بقراءة الشهاب الحسيني (الضوء اللامع).(1/99)
(ختم الدلائل لأبي بكر البيهقي).
قرأها عليه ولده قاضي القضاة علم الدين صالح. (حسن المحاضرة، والشذرات عنها).
2 - وفي الفقه:
(ترتيب الأم، للإِمام الشافعي).
ذكره بهذا العنوان، ابنُ حجر في ترجمة الشيخ بالمجمع المؤسس وبالإِنباء، وقال: اقتصر فيه على ترتيب الأبواب، ولم يردّ الفروع التي يذكرها الشافعي استطرادًا إلى مظانها. وليس فيه كبير أمرٍ ولا تَعِبَ عليه ". ومثله في ذيل التذكرة لابن فهد، والشيخ الكوثري على هامشه.
وكتاب الأم للإِمام الشافعي - رضي الله عنه -، المطبوع في بولاق في سنوات 1321 - 1326 هـ - من نسخة السراج عمر بن رسلان البلقيني وترتيبه. وتصحف اسمه في طبعة المعارف لبروكلمان: بالقاسم بن رسلان البلقيني (3/ 296) وذكره سزجين بعنوان: تنقيح كتاب الأم.
(منهج الأصلين).
الدين والفقه. ذكره حاجي خليفة في حرف الميم من (كشف الظنون)، وقال: أكمل منه أصول الدين، وبلغ إلى نصف أصول الفقه، شرح العز ابن جماعة.
(تصحيح المنهاج).
قال ابن حجر: " كتب منه الربع الأخير في خمس مجلدات، أطال النفس وتوسع فيه جدًّا، وكان من حقه أن يجعله شرحًا. ولما فرغ من الرُّبْع الأخير شرع في الربع الثالث وكتب عليه مجلدًا واحداً " (المجمع)، ومثله في ذيل التذكرة لابن فهد (216).
وفي ذيل التقييد للتقي الفاسي: تصحيح على المنهاج، في أربع مجلدات، من كتاب الخراج إلى آخر المنهاج (240).
وذكره حاجي خليفة مع كتاب " منهاج الطالبين للشيخ محيي الدين النووي - 676 هـ - " - مختصِر المحرر في فروع الشافعية للإِمام الرافعي 623 هـ - قال: " وشرحه(1/100)
سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني وسماه (تصحيح المنهاج) أكمل منه الربع الأخير ووصل إلى رُبْع النكاح. ولولده جلال الدين عبدالرحمن - 824 هـ - نُكَتٌ على الأصل ولم تتم (كشف الظنون 2/ 1874).
(مختصر اللباب).
في فقه الشافعية لأبي الحسن المحاملي، أحمد بن محمد بن القاسم الضبي البغدادي - 415 هـ -.
ذكره ابن حجر في المجمع، قال: " واختصر (اللباب) وزاد عليه تصحيح مسائل واستدراك ضوابط، لكن وصل فيه إلى النفقات. الربع الثاني منه قدر الأول مرتين، والثالث لم يكمل " ومثله في ذيل التذكرة لابن فهد. والذي في كشف الظنون مع (لباب الفقه لأبي الحسن المحاملي): اختصره الإِمام ولي الدين أبو زرعة العراقي - 826 هـ - وسماه: تنقيح اللباب .. اختصره الشيخ زكريا الأنصاري - 926 هـ - وسماه: تحرير تنقيح اللباب، ومثله عند بروكلمان 3/ 305، وسزجين 2/ 192.
(الفوائد المحضة على الرافعي في الروضة): مختصر النووي للوجيز.
في فروع الشافعية للإِمام " أبي القاسم الرافعي - 623 هـ - "، قال ابن حجر في ترجمة السراج البلقيني بالمجمع: " كتب من فوائده عليها الكثير، ولم نر متتاليا سوى مجلدين. " ومثله في ذيل التذكرة لابن فهد (218)، وقال الشوكاني في ترجمة البدر البشتكي الشاعر محمد بن إبراهيم بن محمد الأنصاري المصري: " إن شيخه السراج البلقيني لمَّا سمى (الفوائد المنهضة على الرافعي في الروضة) كان البدر يقول: الروضة؟ يشير إلى أن السجعة غير مناسبة، فغيّر البلقيني التسمية إلى: الفوائد المحضة .. " (1).
وربما أفردوا ما يتعلق منها بالنووي، في: (حواش على الروضة للنووي) (2).
في أسمعه ابن حجر على الشيخ: وقرأتُ عليه الكثير من الروضة ومن كلامه في
__________
(1) البدر الطالع للشوكاني: 2/ 94.
(2) ذكرها شيخ الإِسلام أبو زكريا النووي لنفسه في الكتب الستة التي ألف لها كتابه (تهذيب الأسماء واللغات): مختصر أبي إبراهيم المزني، والمهذب لأبي إسحاق الشيرازي، والتدريب له، والوسيط للغزالي، والوجيز للرافعي، قال: " والروضة، وهو الكتاب الذي اختصرته من شرح الوجيز، للإِمام الرافعي " 1/ 3.(1/101)
حواشيها " - المجمع 220 - وقال في الإنباء: " وكتب على الروضة عدة مجلدات تعقيبات، وعلق بعض طلبته من خطِّه، من حواشي الشيخ على الروضة خاصة، مجلدين ".
قال ابن فهد في حواشي الشيخ على الروضة: " جمعها شيخنا ولي الدين العراقي في مجلدين " ذيل التذكرة 217. وفي ذيل التقييد للفاسي: له حواش على الروضة في مجلدين (240 / أ) وفي ترجمة ابن فهد لولي الدين العراقي، أنه اختصر المهمات للجمال الإِسنوي وأضاف إليها حواشي البلقيني على الروضة، وأفرد الحواشي المذكورة في مجلدين. (ذيل تذكرة الحفاظ: 288).
وذكرها حاجي خليفة مع كتاب " روضة الطالبين وعمدة المتقين، للإِمام محيي الدين النووي "، قال: وعليه حاشية للشيخ سراج الدين، عبدالرحمن - كذا، والصواب عمر - ابن رسلان البلقيني المتوفى سنة 805 هـ ولم يكملها، وأكملها ولده علم الدين صالح المتوفى سنة 868 هـ (الكشف 1/ 929).
وذكروا حواشيه على (الروضة) كذلك مع كتاب (معرفة المُلِمَّات بِرَدِّ المهمّات، لولي الدين أبي زرعة العراقي) اختصر فيه المهمات على الروضة، للجمال الإِسنوي عبدالرحيم بن حسن - 772 هـ - مع إضافة حواشي شيخه السراج البلقيني (ذيل التذكرة والضوء اللامع) وحاجي خليفة في الكشف مع كتاب: المهمات على الروضة للجمال الإِسنوي (2/ 1915).
(التدريب في الفقه).
ذكره ابن فهد في مصنفات الشيخ، بذيل التذكرة (ص 216) وقال التقي الفاسي: انتهى فيه إلى النفقات (ذيل التقييد 240) وفي ترجمة السخاوي لقاضي القضاة الجلال عبدالرحمن بن السراج البلقيني، أنه تفقه بأبيه وبحث معه الحاوي. وحفظ ما كتبه لأجله من التدريب (الضوء اللامع) وفي ترجمة علم الدين صالح بن السراج البلقيني أنه أكمل التدريب لأبيه (حسن المحاضرة والضوء اللامع)، وفي حرف التاء من (كشف الظنون): التدريب في الفروع، لسراج الدين البلقيني، بلغ فيه إلى الرضاع. ثم اختصره وسماه (التأديب). ولولده علم الدين صالح - 868 هـ - تكملةٌ لهذا الباب.(1/102)
(الفتاوى).
في ترجمة ابن حجر للشهاب الطنتدائي، أحمد بن علي بن خلف - 813 هـ - أنه علق من فتاوى الشيخ سراج الدين البلقيني قدر مجلد (الإِنباء، والضوء اللامع عن ابن حجر) وفي حرف الفاء من (كشف الظنون): فتاوى البلقيني (2/ 1221) ولم يزدها بيانًا.
(الأجوبة المرضيّة عن الأسئلة المكية).
ذكرها ابن فهد في ترجمة السراج البلقيني وقال عن المسائل المكية: سأله عنها شيخنا الحافظ أبو حامد ابن ظهيرة (ذيل التذكرة) وذكرها ابن حجر والسخاوي والشوكاني في ترجمة أبي حامد ابن ظهيرة جمال الدين محمد بن عبدالله بن ظهيرة المخزومي المكي (الإنباء، والضوء اللامع، والبدر الطالع) وفي ترجمة ابن حجر لشيخه ولي الدين أبي زرعة العراقي - هو من خاصة تلاميذ البلقيني - ذكر (الأجوبة المرضية عن الأسئلة المكية). (المجمع المؤسس 367) والبدر الطالع، عن ابن حجر 2/ 196.
وجاءت (الأجوبة المكية) في كشف الظنون (1/ 12) للسراج البلقيني.
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر أسمعته على الشيخ، في المجمع المؤسس: " وله عدة تواليف لطاف تبلغ العشرين " وسمى منها خمسة:
(طي العبير بنشر الضمير).
(الفتح الموهب في الحكم بالصحة والموجب).
(إظهار المستند في تعدد الجمعة في البلد).
(الجواب الوجيه في تزويج الوصيِّ السفيه).
(فتح الله بما لديه في بيان المدَّعِي والمدَّعَ عليه).
زاد ابن فهد في التذكرة:
(الينبوع المقرب، في إكمال المجموع على شرح المهذب).
وهو مما ذكره السراج البلقيني لنفسه في (المحاسن)، في النوع الحادي والستين (معرفة(1/103)
الثقات والضعفاء) وقال في جرح الفاسق وكونه ليس بغيبة: " وذلك كله مبسوط في كتاب النكاح من كتابي (الينبوع المقرب في إكمال المجموع على شرح المهذب) 144 / و.
وله في التفسير:
(الكشاف على الكشاف).
ذكره السيوطي فيما صنف الشيخ: حواشي على الكشاف (حسن المحاضرة 1/ 329) وفي كشف الظنون، ممن صنفوا على الكشاف للزمخشري: شيخ الإِسلام السراج البلقيني، في ثلاث مجلدات سماها: الكشاف على الكشاف (2/ 1479).
ويضاف إلى مصنفاته:
(برنامج السراج البلقيني).
ذكره " أبو عبدالله المجاري الأندلسي، محمد بن محمد بن علي بن عبدالواحد - 862 هـ " في ترجمته لشيخه السراج البلقيني - فيمن لقي في رحلته من علماء القاهرة، قال: " واستجزته فأجازني إجازة عامة بشرطها المعلوم، وأحالني على برنامجه، وسمي لي بعض شيوخه، فمنهم ... " - برنامج المجاري: 149 ط بيروت 1982 م.(1/104)
محاسن الاصطلاح وما عليها.
كتابه (محاسن الاصطلاح وتضمين علوم الحديث لابن الصلاح) من مصنفاته القليلة التي أكملها. وهو مذكور له عند أكثر مترجميه: الشهاب ابن حجر في المجمع المؤسس، والتقي الفاسي في ذيل التقييد، والتقي ابن فهد في ذيل تذكرة الحفاظ، والجلال السيوطي في طبقات الحفاظ وذيل التذكرة، ونقل من المحاسن كثيرا في تدريب الراوي، كما نقل منها الشمس السخاوي في (فتح المغيث)، وذكروها له في تراجم من قرأوها عليه من أعيان أصحابه .. ومنهم:
" الصلاح الحنبلي، محمد بن محمد بن سالم المصري الفقيه ".
برع في المذهب وأفتى ودرَّس بالظاهرية البرقوقية، وتعين لقضاء الحنابلة. قرأ (محاسن الاصطلاح) على شيخه السراج البلقيني في سنة تسعين وسبعمائة، وأجازه وكتب له خطه بصحة القراءة والسماع مع الإِجازة على نسختنا الموثقة المعتمدة أصلاً للمحاسن.
أرخ الحافظ ابن حجر وفاته في الإِنباء، سنة (795 هـ).
" البدر السبكي، محمد بن محمد بن عبدالبر الخزرجي المصري الشافعي " الفقيه المدرس الخطيب. قال السخاوي في ترجمته أنه قرأ على السراج البلقيني كتابه محاسن الاصطلاح (803 هـ).
" ابن حبيب الحلبي، بدرالدين طاهر بن زين الدين الحسين بن عمر " الأديب الناثر الناظم. قُرِّر موقعا بديوان الإِنشاء بحلب، ثم سكن القاهرة وولي عدة وظائف. وشرح البردة، وذيل على تاريخ أبيه، ونظم تلخيص المفتاح وغيره. " وأحسنُ ما نظم محاسنُ الاصطلاح للبلقيني ". قاله ابن حجر في الإِنباء. مولده بعد الأربعين وسبعمائة، وتوفي سنة 808 هـ.
تأتي منظومته مع المحاسن.(1/105)
" ابن قارئ الهداية، سراج الدين، عمر بن علي بن فارس الكانني القاهري الحسيني - منزله بالحسينية، بها - الحنفي الإِمام " تفقه بأبيه وبالسراج البلقيني وقرأ عليه (محاسن الاصطلاح)، وسمع عليه الصحيحين. ولازم الزين العراقي في ألفيته وشرحها. وانتهت إليه رياسة المذهب بعد أبيه قارئ الهداية - في فروع الحنفية للإِمام البرهان المَرْغيناني الفرعاني، 593 هـ - (1).
" ابن عَمَّار، شمس الدين محمد بن عمار بن محمد المصري المالكي الفقيه الإِمام " من أعيان أصحاب الشيخ، أخذ عنه وقرأ عليه كتاب (محاسن الاصطلاح)، وقرأ على العراقي نكته على كتاب ابن الصلاح. مولده في حدود الستين وسبعمائة، وتوفي سنة (844 هـ).
" العز ابن الفرات، عبدالرحمن ابن المؤرخ ناصرالدين محمد بن علي بن الفرات القاهري الحنفي " حضر دروس البلقيني الكثيرة في التفسير والحديث، ومما أخذه عنه بعض (محاسن الاصطلاح) وقرأ على العراقي شرحه لألفية الحديث ونُكته على ابن الصلاح، وأذن له إقرائها. (759 - 851 هـ).
قال في المجمع المؤسس إنه قرأ على الشيخ تواليفه. وذكر محاسن الاصطلاح وقال: " اختصر فيه كتاب ابن الصلاح، وزاد فيه أشياء من إصلاح ابن الصلاح لمغلطاي فنبَّه على بعض أوهام لمغلطاي وقلده في بعضها. وزاد فيه بعض مباحث أصولية، وليس هو على قدر رتبته في العلم ".
قلت: لم يرد في المحاسن على الإِطلاق تصريحٌ بذكر مغلطاي: ولا كتابه إصلاح ابن الصلاح. وكل ما تعقبه السراج البلقيني مما أُورِد على ابن الصلاح، ذكره بصيغة البناء للمجهول. فلم يدع مجالا لأي لبس أو إدراج، ويسَّر علينا استخلاص محاسنه كاملة،
__________
(1) من شراح الهداية - وهم كُثر - ابنُ الهمام الحنفي، الكمال محمد بن عبدالواحد (- 861 هـ) في كتابه (فتح القدير للعاجز الحقير) ابتدأ فيه سنة 829 عند الشروع في إقرائه، بلغ فيه إلى كتاب الوكالة. وذلك بعد قراءة الهداية تسع عشرة سنة، على وجه الإِتقان والتحقيق، على قارئها الإِمام سراج الدين عمر بن علي. وانظر شروح الهداية في كشف الظنون (2/ 2031 - 2040) ط استانبول.(1/106)
وتحديد مواضعها على المتن، وتقديمها ذيلا عليه، على نسق التقييد والإِيضاح، على متن ابن الصلاح.
والتفتُّ إلى أن الإِمام البلقيني والحافظ العراقي متعاصران: وُلِدَ أولهما قبل الآخر بسنة واحدة، وتوفي قبله بسنة واحدة كذلك. والفرق واضح بين محاسن البلقيني الفقيه الأصولي الحافظ، ونكت العراقي الحافظ الحجة، اتجهت عنايته فيها إلى قوانين الصنعة الحديثية وإيضاح ما أبهم منها، وتعقب أقوال الحفاظ النقاد، فيما هو موضع خلاف.
وأذكر هنا ما جاء في ترجمة " السراج ابن الملقن "، في ذيل التذكرة للتقي ابن فهد، قال: " قال شيخنا الحافظ برهان الدين الحلبي، سبط ابن العجمي: حفاظ مصر أربعة وهم من مشايخي: السراج البلقيني وهو أحفظهم لأحاديث الأحكام، والعراقي وهو أعلمهم بالصنعة، والهيثمي وهو أحفظهم للأحاديث من حيث، وابن الملقن وهو أكثرهم فوائد فيما يكتب على الحديث ".
لكن توارد " السراج البلقيني، والزين العراقي " من بلد واحد في زمن واحد على كتاب واحد، لا يخلو بالضرورة من مواضع اتفاق، فأيهما سبق صاحبه بكتابه على ابن الصلاح؟
ترجم لهما أعيان تلاميذهما دون إشارة إلى سبق أحدهما على الآخر.
فأما تاريخ إنجازهما، فالنسخة الموثقة من (التقييد والإيضاح) في خزانة دار الكتب (رقم 36 مصطلح) فيُستفاد من تقييدات السماع عليها أن توثيقها مرّ بثلاث مراحل: الأولى تاريخ فراغ العراقي من تبييض نسخة كتابه، ثم تاريخ فراغ الشيخ يعقوب الأزهري من كتابة نسخة قراءة على المصنف وعليها خطه بتصحيح القراءة في مجالس السماع ونص التقييد.
قال مؤلفه - أمد الله تعالى مدته -: وكان الفراغ من تبييض هذه النسخة في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة اثنتين وسبعمائة وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، كتبه بيده لنفسه ولمن شاء الله تعالى من بعده أقل عبيد الله تعالى وأفقرهم وأحقرهم وأصغرهم وأحوجهم إلى مغفرة ربه ورحمته، يعقوب بن أحمد بن عبدالمنعم(1/107)
الأزهري الأطفيحي غفر الله له ولجميع المسلمين .. وكان الفراغ من كتابته يوم الاثنين المبارك لثمانٍ وعشرين ليلة خَلت من شهر شعبان الكريم عام ثلاث وتسعين وسبعمائة أحسن الله عاقبتها في خير وعافية بفضله ومنه وكرمه، والحمد لله وحده).
وكتب الحافظ العراقي بقلمه تصحيح مجالس السماع. المرحلة الثانية للتوثيق: كانت بعد أن قوبلت النسخة المقروءة على الشيخ، بأصله وقرئت عليه وأجاز روايتها عنه، للشيخ يعقوب الأزهري كاتب النسخة وقارئها، ولمن حضروا معه مجالس السماع، ومنهم أحمد، ولد الشيخ يعقوب الأزهري. " وذلك في مجالس آخرها في يوم الثلاثاء، التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وسبعمائة.
الشيخ شرف الدين يعقوب بن أحمد الأزهري، من أعيان القرن الثامن، أصحاب الحافظ العراقي وهو والد الشهاب أحمد - المثبت اسمه في طباق السماع - صهر الحافظ العراقي، ومن تلاميذه وتلاميذ شيخ الإِسلام السراج البلقيني (1).
المعتبر من هذه التواريخ الثلاثى المقيدة على النسخة، هو تاريخ الفراغ من كتابتها في شهر شعبان الكريم عام ثلاثة وتسعين وسبعمائة، وقراءتها عليه في مجالس السماع.
وهذا التاريخ غير بعيد من تاريخ النسخة الفريدة التي صحت لنا من محاسن الاصطلاح، وعليها خط السراج البلقيني، بتصحيح قراءتها سماعًا عليه بمدرسته في حارة بهاء الدين بالقاهرة، مؤرخة في ليلة السبت العشرين من ذي القعدة سنة تسعين وسبعمائة (رقم 141 مصطلح) وهي أصلنا المعتمد لنص المحاسن على كتاب ابن الصلاح.
وعلماء الحديث - على أي حال - يتواردون على مناهل وأصول مشتركة، والأمر كما قال شيخ الإِسلام السراج البلقيني: " وما زال المصنفون يغترفون من كلام من تقدمهم، ثم مرة ينسبونه ومرة يسكنون ". محاسن الاصطلاح: 18 / ظ.
__________
(1) انظره فيمن قدمنا من تلاميذ السراج البلقيني. ترجمته في (الضوء اللامع، للسخاوي) وأرخ مولده، ووفاته (792 - 851 هـ).(1/108)
منظومة ابن حبيب لمحاسن الاصطلاح.
المعروف لنا مما صُنِّفَ على محاسن الاصطلاح (منظومة ابن حبيب المحاملي).
عز الدين طاهر بن الحسين بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب الأديب النائر الناظم، من تلاميذ السراج عمر البلقيني. ذكرها له ابن حجر في ترجمته إياه بإنباء الغمر، وقال: " إنها أحسن ما نظم ابن حبيب " وجاءت في كشف الظنون مع: محاسن الاصطلاح للسراج البلقيني، وبروكلمان في تاريخه (2/ 89).
وصلت إلينا في أصلها الموثق؛ كتب الناظم نحو نصفها الأول، وكتب باقيها، من مسودة الأصل، أبو عبدالله شمس الدين البرماوي، محمد بن عبدالدايم بن عيسى الشافعي المصري (- 831 هـ) بوصية من صديقه الناظم في مرض موته - وكلاهما من تلاميذ السراج البلقيني - وأنجز الشمس البرماوي كتابة النصف الثاني، تبييضًا من المسودة، قبيل وفاة ناظمها ابن حبيب.
رقم المخطوطة في خزانة دار الكتب المصرية (7 حليم، مصطلح حديث) عنوانها: (نظم محاسن الاصطلاح وتضمين ابن الصلاح).
عدد أوراقها: 121، قياسها 13 × 18.
وعدد أبياتها 3015 بيتًا، مطلعها:
الحمد لله الكريم ذي المِنَنْ ............................................................................. مانح أهل ِ العلم خدمة السُّنَنِ
وعليها تقييد الفراغ من كتابتها: في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وثمانمائة قبل وفاة ناظمها " ابن حبيب " سنة 808 هـ.
ولا نعلم كتابًا صُنِّف على (محاسن الاصطلاح) سوى منظومة ابن حبيب، على أن المصنفين على ابن الصلاح بعد البلقيني، قد رجعوا إلى المحاسن ونقلوا منها، نصًّا أو تضمينا، منهم:(1/109)
السخاوي في (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) ونقوله قد تأتي مصرحا فيها باسم المحاسن، ويكثر أن يكتفى فيها بذكر السراج البلقيني، وقد قابلتُها على مواضعها من متن المحاسن فألفيتها بنصها. وأفادتني في قراءة كلمات توقفت فيها من (المحاسن) وكذلك فيما توقفت فيه من مظان تصحيف أو خرم بطبعة (فتح المغيث).
من نقول السخاوي في الفتح من البلقيني.
1/ 297: في القطع بتعديل الرواة المحتج بهم في الصحيحين وما جاء في كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - إلى أبي موسى: " المسلمون عدول بعضهم على بعض ".
2/ 87: في النوع الثامن من الإجازة: " الإجازة بما لم يتحمله المجيز ".
واستظهار البلقيني بوصية الإِمام الشافعي، في تصحيح الإِذن في الوكالة بما لم يملك الموكِّل عند الإذن.
2/ 89: في النوع التاسع من الإِجازة، عن إجازة، وقول السراج البلقيني: إن القرينة الحالية من إرادة بقاء سلسلة الإسناد قاضية بأن كل مجيز بمقتضى ذلك، أذِنَ لمن أجازه أن يجيز.
2/ 105: في الإِجازة المقترنة بالمناولة، وهل هي بمنزلة السماع؟
2/ 132: في الرواية بالإِعلام.
3/ 52: في غريب الحديث، وارتباطه بأسباب النزول، قال السخاوي: وقد أفرده بنوع شيخُنا ابن حجر، تبعا لشيخه البلقيني في محاسنه.
3/ 60: في الناسخ والمنسوخ: ما زاده البلقيني في حده: كون الحكم الذي رُفِعَ متعلقا بالمحكوم عليه، ليخرج به تخفيف الصلاة ليلة الإِسراء من خميسن إلى خمس.
3/ 75: في مختلف الحديث، توسُّع الإِمام أبي بكر بن خزيمة في قوله: " لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده شيء من ذلك فليأتني به " قال البلقيني: لو فتحنا باب التأويلات لاندفعت أكثر العلل، وأول من تكلم في مختلف الحديث إمامنا الشافعي.
3/ 89: في معرفة الصحابة، وجَزَم البلقيني بأن يعد صحابيا من حصل له شرف الرؤية وإن فاته السماع. مع التنبيه على ألا يدخل في الصحابة، من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في(1/110)
المنام، كما جزم به البلقيني ثم شيخنا ... بل جزم البلقيني أيضًا بعدم دخول من رآه - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإِسراء، يعني من الأنبياء والملائكة - عليهم السلام - ممن لم يبرز إلى عالم الوجود.
.....................................
والحافظ السيوطي في (تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي) مكثر من السراج البلقيني ومحاسنه. في الأنواع الخمسة والستين من علوم الحديث لابن الصلاح، وقد قال في ختام النوع الخامس والستين: " هذا آخر ما أورده المصنف - النووي - رحمه الله تعالى من أنواع علوم الحديث تبعا لابن الصلاح، وقد بقيت أنواع أخرى هأنذا أوردها والله سبحانه وتعالى المستعان ".
في الأنواع المزيدة، الخمسةُ التي زادها السراج البلقيني في محاسنه، على علوم ابن الصلاح وهذه هي، في سياق (تدريب الراوي)، وبلفظه:
النوعان السادس والسابع والستون:
(رواية الصحابة بعضهم عن بعض).
و (رواية التابعين بعضهم عن بعض).
" هذان ذكرهما البلقيني في محاسنه، وقال: " فنقلهما بطولهما ".
النوع التاسع والثمانون: (معرفة أسباب الحديث):
" هذا النوع ذكره السراج البلقيني في محاسن الاصطلاح، وشيخ الإِسلام في النخبة ... " قال البلقيني: والسبب قد ينقل في الحديث .. وقد لا ينقل ... أو ينقل من بعض طرقه .. ".
النوع التسعون: (معرفة تواريخ المتون):
" ذكره البلقيني، وقال: فوائده كثيرة وله نفع في معرفة الناسخ والمنسوخ، قال: والتاريخ يعرف .. / فنقله.
وكانت (محاسن الاصطلاح لشيخ الإِسلام أبي حفص البلقيني) بين يدي العلامة المحقق " محمد بن إِسماعيل الحسني الصنعاني " في (توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الآثار، لابن الوزير الصنعاني) 1/ 78.(1/111)
نُسخ المقدمة والمحاسن.
مضينا فيما نلتزم به من قواعد التوثيق لمخطوطات من تراثنا، على جمع النسخ الخطية للمخطوط حيث تكون، وذلك ما لم يكن إليه سبيل في مثل كتاب ابن الصلاح، وقد أفاد " بروكلمان " بوجود مخطوطات منه في خزائن برلين والإِسكوريال وبريل، وتونس واستانبول وحلب والقاهرة والإِسكندرية ورامبو وآصفية وبنكيبور. ونقل عن " فايِسْفِيلَرْ " أن في حلب واستانبول خسما وثلاثين مخطوطة من الكتاب. وأضاف بروكلمان ملء عشر صفحات من تاريخه للأدب العربي، بمواضع مصنفات على كتاب ابن الصلاح والمصنفات عليها، في خزائن المشرق والمغرب، مقتصرا على سرد أسمائها وأرقامها وإذ تعذر عليَّ جمع هذه النسخ المئات، تحرجت من تقديمها نقلاً وسردًا، ولم يُتَحْ لي الاطلاع عليها والنظر فيها، فاقتصرت على ما تيسر لي من نسخ موثقة لأصول معروفة، عليها التقييدات المعتبرة في علم التوثيق، أسوة بعلماء السلف في تقديم مصنفاتهم على الكتب والأمهات، لم يجمعوا نسخها من شتى الخزائن العامة والخاصة، بل اقتصروا على عدد مختار من أسمعتهم بأسانيدها المحررة على أدق الشروط والضوابط، مع نصهم على أن لهم أسانيد أخرى إلى الأصول.
هذا إلى أنني لم أتعلق قط بأن تكون طبعتي هذه هي الطبعة الأخيرة من كتاب ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح، فذلك ما لا ينبغي لي ولا لسواي من شيوخ الجيل، وإنما نبذل غاية جهدنا ونمضي، فيحمل الأمانة من بعدنا خلف صالح يبدأون من حيث انتهت خُطانا، ويستكملون ما قصر عنه جهدنا ولم تسعف عليه وسائلنا، استدراكا لفواتٍ وتصحيحًا لخطأ وتنبيها على وهم ...(1/112)
1 - مقدمة ابن الصلاح
طبعاتها:
الهندية الأولى سنة 1304 هـ والثانية سنة 1957
السعادة بالقاهرة سنة 1326 هـ
الحلبية الأولى سنة 1350 هـ.
المكتبة العلمية: المدينة المنورة: 1996 م.
المكتبة العلمية: بيروت 1981 م.
النسخ الخطية المعتمدة:
الموصلية (ص) 661 هـ: من أصل ابن المهتار، مجد الدين
المغربية (غ) 713 هـ: من أصل التقي ابن رزين.
سماعًا عليه مرتين، في سنتي 673، 678 هـ وعليها توقيعه بتصحيح السماع.
الزريقية (ز) 957 هـ: من أصل التقي ابن رزين.
العراقية (ع) 793 هـ: من أصل ابن المهتار، ناصر الدين = متن ابن الصلاح مع التقييد والإِيضاح
نسخ أخرى مجهولة الأصل، مساعدة:
الهمدانية (743 هـ) والتركية (1150 هـ).
ونسخة الكتبخانة المصرية (1230 هـ).
2 - محاسن الاصطلاح:
نسخة دار الكتب، أصل موثقة: مقروءة على المصنف وعليها خطه بتصحيح قراءتها عليه بمدرسته في حارة بهاء الدين بالقاهرة، ومؤرخه في ذي القعدة سنة 790 هـ.(1/113)
بياض بالأصل.(1/114)
1 - مقدمة ابن الصلاح
الطبعة الهندية الأولى: 1304 هـ.
طبعت مقدمة ابن الصلاح لأول مرة - فيما نعلم - على الحجر في الهند سنة 1304 هـ، بعناية الشيخ عبدالحي اللكنوي. وقد نفدت من قديم. ومنها نسختان في محفوظات دار الكتب بالقاهرة، برقمي (150، 269 مصطلح حديث).
وتأتي الإِشارة إلى هذه الطبعة، في طبعات: القاهرة 1326 هـ، والحلبية الأولى 1350 هـ، والهندية الثانية 1357 هـ.
طبعة القاهرة: السعادة 1326 هـ
نُشرت على نفقة الجمال والخانجي. بتصحيح الشيخ محود السكري في 164 صفحة من القطع المتوسط. وعنوانها على الغلاف: (كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح) وكُتب على صفحة العنوان: أنها " قوبلت على نسختين: الأولى في إِحدى البلاد الهندية باعتناء العالم المحدث الشيخ عبدالحي اللكنوي، والثانية نسخة مخطوطة قوبلت على المؤلف، محفوظة برواق الأتراك مصر) وإن خَلَت الطبعة من أي أثرٍ لمقابلة أو مراجعة، وهي طبعة سقيمة، عارية من الضبط، والمتن فيها مضطرب السياق، والنقول والشواهد مدرجة بغير فواصل مميزة، ويكثر فيها الوهم والخطأ والتصحيف والعلل.
الطبعة الحلبية الأولى: 1350 هـ - 1931 م.
نشرتها المطبعة العلمية بحلب، بعناية صاحبها " الشيخ محمد راغب الطباخ " وعنوانها: (كتاب علوم الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح).
وعلى هامشها متن كتاب (التقييد والإِيضاح لما أطلق وأبهم من كتاب ابن الصلاح للحافظ زين الدين العراقي). مع تعليقة للشيخ المحقق سماها (المصباح على مقدمة ابن الصلاح).
وتقع الطبعة في 430 صفحة من القطع الكبير. وهي طبعة متقنة مجودة، اعتمد فيها الشيخ الطباخ متن ابن الصلاح مع كتاب التقييد والإِيضاح للعراقي أصلا عنده. وقد(1/115)
أشار في تصدير الطبعة إلى طبعة القاهرة 1326 هـ عن طبعة اللكنوي ومخطوط رواق الأتراك. وقال: " ومع هذا ففيها غلطات كثيرة غير ظاهرة، وتصحيفات يعصب معرفة صوابها ". ثم قال: " ولما كانت نسخ المقدمة قد نفدت، حتى من المكاتب المصرية، عولت بعد الاتكال على الله تعالى على إعادة طبعها على النسخ المتقدمة الذكر، لكن جُل الاعتماد في التصحيح سيكون - إن شاء الله - على النسخة الثالثة - يعني المتن مع التقييد والإِيضاح - التي عليها خط الشيه العراقي لأنها مقروءة غير مرة على عدة من الحفاظ كما علمتُ ". وذكر الشيخ أن الحافظ العراقي أغفل شرح تسعة عشر نوعًا من أنواع علوم الحديث في كتاب ابن الصلاح (1) فاستكملها في ذيل مستقل عنوانه (المصباح على مقدمة ابن الصلاح) ألحقه بطبعته، وقدم له بقوله:
" ولما رأيت في أثناء قراءتي للمقدمة أن هذه الأنواع - التي أغفلها العراقي في التقييد والإِيضاح - في حاجة إلى الإِيضاح، علقت عليها تعليقات مفيدة التقطتها من (التدريب، شرح التقريب: للحافظ جلال الدين السيوطي) ومن كتاب (معرفة علوم الحديث: للحافظ الحاكم النيسابوري) الذي منه نسخة نفيسة في مكتبة التكية الإِخلاصية بحلب. ومن غير ذلك، وعلقت على غير هذه الأنواع أيضًا تعليقات لطيفة بقدرٍ يتضح به الكلام ويدنيه إلى الأفهام ".
والشيخ الطباح إلى جانب خبرته بذخائر التراث طابعًا وناشرًا، قد نهض بتدريس كتاب ابن الصلاح في المدرسة الخسروية بحلب، في السنوات (1347 - 1349 هـ) ولعل ما كان يعينه من نشر الكتاب، تقديم نص منه مضبوط متقن، دون أن يثقل على قراء هذا الزمان بشواغل التوثيق التي قلَّ من يعنى بها من الناشرين والطلاب في هذا الزمان.
وقد نفدت هذه الطبعة المتقنة، لم يبق منها سوى نسخ غير متداولة، من محفوظات دور العلم.
وعليها - فيما نرجح - اعتمدت:
__________
(1) هي الأنواع: (5، 6، 7، 10، 17، 22، 28، 32، 35، 37، 38، 48، 52، 56، 58، 59، 61، 63، 65) وهي ثابتة في متن ابن الصلاح وإن لم يعلق عليها العراقي في النسخة الموثقة بخزانة دار الكتب المصرية من التقييد والإِيضاح (36 مصطلح) يأتي التعريف بها مع النسخ المخطوطة لمقدمة ابن الصلاح.(1/116)
الطبعة الهندية الثانية: 1357 هـ
نشر المطبعة القيمة بمدينة بمباي، بعناية شرف الدين الكتيبي، بعنوان (مقدمة ابن الصلاح) في 202 صفحة من القطع المتوسط. وهي طبعة جيدة، على هوامشها تعليقان مذيلة باسم: محمد راغب الطباخ (ص 170، 171، 194 .. ) أو يلقيه مختصرًا: الطباخ (ص 32، 93).
ومعها على هامش صفحتي (11، 92) تعليقان عن " النسخة المخطوطة " على التجهيل. فما ندري أهي نسخة مكتبة بخُدا بخش بمدينة أنكيبور بالهند، التي ذكرها الزركلي في معجمه للأعلام وقال: إنها بخط المؤلف؟ أم نسخة خطية أخرى؟
ولقد كانت هذه الطبعة الهندية الثانية هي المتداولة بعد نفاد طبعة الشيخ الطباخ. ثم ما لبثت أن نفدت كذلك، إلا ما بقي من نُسخها في دور الكتب العامة والخزائن الخاصة ..
طبعتا المكتبة العلمية: المدينة المنورة 1966 م، وبيروت 1981.
الطبعتان بتحقيق " د. نورالدين عنز " أولاهما في 432 ص من القطع المتوسط، مصدرة بترجمة لابن الصلاح.
لم يعتمد المحقق أصلا معينًا للنص في طبعته، بل صرح برجوعه إلى خمس نسخ وصفها جملة بالجودة، قال: " وقد اعتمدنا فيه على نسخ جيدة تكفي لتصحيح نسخة الكتاب، وتحقق الوصول إلى نص موثوق به عن المؤلف - رحمه الله -، وهي خمس نسخ نعرف بها " وهي، على ترتيبها عنده ووصفها بلفظه:
1 - (ع) نسخة خطية قديمة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة. رقمها52 مصطلح. بخط جيد خال من النقط في كثير من المواضع. كتبت بالقاهرة وتمت في الثالث عشر من جمادى الآخرة سنة 797 هـ، وعليها خط الحافظ العراقي.
2 - (ق) نسخة خطية جيدة أيضًا، مقروءة على الحافظ العراقي، في المكتبة الأحمدية بحلب، رقمها 353 مصطلح، تمت كتابتها في الرابع والعشرين من جمادى الأول سنة 814 هـ.(1/117)
3 - (ب) نسخة خطية ضمن مجموعة بالمكتبة الأحمدية في حلب، رقمها 308، تمت كتابتها بشيراز في الثالث من ذي القعدة سنة 802 هـ.
4 - (م) طبعة القاهرة: الخانجي، السعادة سنة 1326 هـ " وفيها أخطاء مطبعية يصعب تمييزها في كثير من الأحيان ".
5 - (س) نسخة خطية بمكتبة عارف حكمت رقمها 53 مصطلح كتبت سنة 1070 هـ وهي نسخة مصححة لا بأس بها ".
ثم نشرت المطبعة العلمية، من بيروت سنة 1401 هـ - 1981 م طبعة ثانية " في حلة جديدة من خمس نسخ مصححة جيدة " هي التي أخرجت منها الطبعة الأولى سنة 1966 م. وعلى ترتيب إيرادها فيها.
ولم ندر ضابطا لترتيب هذه النسخ، ولا الموازين المعتبرة في وصفها جملة بأنها " مصححة جيدة " على سواء، وليس في أي مخطوط من النسخ الخطية الأربع ما يصل سندها إلى المؤلف، أو إلى أصل مسمَّى من كتابه، بقراءة أو سماع أو إجازة. والنسخة (ق) الثانية عند المحقق - وهي أوْلى بالتقديم - جاء في التعريف بها أنها " مقروءة على الحافظ العراقي، وتمت كتابتها في جمادى الأولى سنة 814 هـ، أي بعد نحو من ثماني سينن من وفاته في شعبان سنة ست وثمانمائة.
ولم يذكر الدكتور المحقق، وجه تأخير المخطوطة (س) المكتوبة في سنة سبعين وألف، والموصوفة بأنها " مصححة لا بأس بها " عن طبعة القاهرة (1236 هـ) التي آثرها الدكتور المحقق بالتقديم دون سائر الطبعات - بما فيها طبعة حلب للشيخ محمد راغب الطباخ - فأخذت الطبعة القاهرية، على سقمها موضعها في طبعتيه: رابعة النسخ الخمس الموصوفة جملة بالصحة والجودة.(1/118)
النسخ المخطوطة.
من بين ست مخطوطات من كتاب أبي عمرو ابن الصلاح في خزانة دار الكتب القومية بالقاهرة، قدمنا ثلاث منها متصلة الإِسناد إلى أصول موثقة مقروءة على ابن الصلاح وعليها خطه بتصحيح القراءة والسماع.
الأوليان منها يقرب أن تكونا متكافئتين. وتلحق بهما المخطوطة الثالثة، متأخرة عنهما.
مع أصل الزين العراقي من متن ابن الصلاح، لكتاب (التقييد والإِيضاح).
أقْدَمُ هذه النسخ:
النسخة الموصلية (ص): 661 هـ.
رقمها (1 مصطلح حديث / 854 عمومية).
بعنوان: علوم الحديث لابن الصلاح.
في أربع وتسعين ورقة قياسها 19 × 11,5 سم2 بمتوسط واحد وعشرين سطرا في الصفحة، وثلاث عشرة كلمة في السطر.
مددها أسود باهت، لقدمه، أقرب إل البني الداكن. وعناوين الأنواع والتفريعات مميزة بالمداد الأحمد وخط واضح. وخطها نسخي جميل منسوب، في كلماته وأسطُره سعة، مع عناية واضحة بالتنسيق، لكن دون فواصل في المتن، أو علامات الترقيم.
كتبها " علي بن يوسف الموصلي " ووقَّع على آخر صفحة منها بعد نهاية المتن، بما صورته:
(تمت أنواع علوم الحديث بمشيئة الله تعالى، على يدي علي بن يوسف الموصلي - عفا الله عنه - في مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وستماية. وهو حامد لله تعالى نعمه، مُصَلٍّ على سيدنا محمد وآله ومُسَلِّم).
وعلى صفحة العنوان: كثرة من التوقيعات لمن دخلت النسخة في نوبتهم أو ملكيتهم تزاحمت فطُمِسَ أكثرها. ومن المقروء منها:(1/119)
(في نوبة محمد بن عبدالله بن يوسف في سنة خمس وسبعين وستماية حامدًا لله تعالى ومسلمًا على رسوله المجتبى محمد وآله وصحبه).
(في نوبة عبدالمحسن القيصري - أحسن الله إليه - .. في شعبان سنة إحدى وستين وسبعمائة).
(ملكه العبد الفقير الحقير الذليل الأسير، محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن أبي جرادة الحنفي الحلبي. من تركة محمد بن خليل الحلبي).
وعلى الورقة الثانية، أعلاها في الزاوية اليسرى، صورة وقفية برسم السلطان المؤيد شيخ المحمودي، المقروء من نصها: (الحمد لله ... السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ ... وقف هذا الكتاب على طلبة العلم .. وجعل مقره بجامعه بباب زُوَيلة. وشرط ألا يخرج منه لعارية .. ولا لغيرها) (1).
والنسخة التي وصلت إلينا، هي التي آلت إلى ملكية محمد بن إبراهيم بن عمر الحلبي، ناصرالدين ابن الكمال ابن العديم. المتوفى سنة 752 هـ.
والأصل الأم لهذه النسخة القديمة، أصل مقروء على ابن الصلاح وعليه خطه بتصحيح القراءة والسماع. فيما نقل ناسخها " علي بن يوسف الموصلي " بخطه، على آخر صفحة منها ونصه: (كان على الأصل المنقول ما هذه صورته: سمع جميعَ هذا الكتاب على مؤلفه شيخنا وسيدنا الإِمام العالم الصدر البارع الحافظ العدل الضابط، مفتي الشام وقدوة الأنام تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح - رضي الله عنه - بقراءة الفقيه الأجل فخرالدين أبي حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرجي،
__________
(1) السلطان المؤيد شيخ بن عبدالله المحمودي، الجركسي، مَرَّ في تلاميذ شيخ الإِسلام السراج البلقيني. ولي السلطنة من شعبان في 815 إلى وفاته بالقاهرة سنة 824 هـ أنشأ جامعة المؤيد، بجوار باب زُوَيلة، من داخله، بالقاهرة، وكان الشروع في بنائه في شهر ربيع الأول سنة 818 هـ واحتفل بافتتاحه في عشري المحرم سنة 820 هـ، وقال مؤرخوه إنه لم يبق في الإِسلام جامع في مثل فخامته وعظمته بعد الجامع الأموي بدمشق. وقد حمل السلطان إلى قاعة الكتب فيه، ما كان في قلعة الجبل من ذخائر المخطوطات، وقدم إليه كاتب سره ناصرالدين محمد بن البارزي خمسمائة مجلد، فعينه السلطان أمينا لخزانة الكتب في جامعه. انظر الجامع المؤيدي في (خطط المقريزي: المجلد الثاني 2/ 328).(1/120)
أبقاه الله تعالى، من الرابع عشر في النوع الخامس والعشرين إلى آخر الكتاب، وبقراءة غيره من أوله إلى هنا: صاحبُه السيد الفقيه الأجل الفاضل جمال الدين أبو بكر بن عبدالله بن جبريل بن عبدالجليل الخطيب الأبهري - أبقاه الله تعالى -، وكاتب الطباق بدار الحديث السلطانية الأشرفية بدمشق: يوسف بن محمد بن عبدالله الشافعي، وهذا خطه - غفر الله له ولوالديه برحمته وكرمه -، وجماعة أُخر أسماهم على أصل الشيخ المسمع، فصح السماع بالدار المذكورة وغيرها في مجالس آخرها يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين أصل الشيخ المسمع، فصح السماع وغيرها في مجالس آخرها يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وستماية والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد وآله وسلامه.
(هذا صحيح - نفعه الله وبلغه وإياي -، وكتب مؤلفه - عفا الله عنه وعنهم أجمعين -).
قلتُ: قارئ الأصل " الفخر الكرجي " من أعيان أصحاب ابن الصلاح. وأكثر الأصول لكتابه، مسموعة عليه بقراءة الفخر الكرجي (599 - 690 هـ).
وكاتبُ الطبقة على الأصل، بخطه، يوسف بن محمد بن عبدالله الشافعي، هو مجد الدين ابن المهتار المصري الشافعي الفقيه المحدث الورع، من أجل أصحاب ابن الصلاح، وقارئ الحديث بالأشرفية بدمشق. ولد في حدود سنة 610 وتوفي سنة (685 هـ) وابنه ناصرالدين ابن المهتار محمد بن يوسف (715 هـ) من أشهر رواة كتاب ابن الصلاح عنه ونسخته أصل لمتن ابن الصلاح في كتاب (التقييد والإِيضاح للحافظ العراقي).
وهذه الطبقة للسماع على ابن الصلاح: يوم الأحد التاسع من جمادى الأولى لسنة إحدى وأربعين وستمائة، متأخرة بضع سنين عن تاريخ إملائها المقيد على أول النسخة: " هذا ما أملى شيخنا ومولانا الفقيه الإِمام العالم العلامة الحافظ الضابط المتقن، حجة الحفاظ والعلماء مفتي الفروق، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الشهرزوري المعروف بابن الصلاح - متع الله الإِسلام والمسلمين بطول بقائه - في يوم الجمعة والسابع من شهر رمضان المبارك سنة .. وثلاثين وستمائة، بدار الحديث الملكية الأشرفية بمحروسة دمشق " [1 / أ].(1/121)
آلت النسخة إلى " محمد بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن أبي جرادة الحنفي، ناصر الدين ابن العديم " بطريق التملك لا بطريق الرواية والسماع. على أنه قرأ قدرا من هذه النسخة، نحوا من ثلثها، على الحافظ الإِمام زين الدين العراقي " عبدالرحيم بن الحسين " وكتب خطه بتصحيح القراءة والسماع، على كل مجلس مما قرئ عليه. ومن طريقه، بإسناده المعروف إلى ابن الصلاح، يمكن تعويض انقطاع السند من مالكها الناصر ابن العديم، إلى أصل النسخة.
وقد وقع في غير موضع من هذه النسخة الثمينة خلل أضرَّ بها غاية الضرر، حيث سقطت أنواع وتفريعات مع إدراج ما قبل الساقط فيما بعده، دون تنبه إليهم. وكله يقع في غير المقروء على الحافظ العراقي، كما أن المتن فيها خال ٍ - أو يكاد - من الفواصل وعلامات الترقيم، على ما يأتي تفصيله في (متن المقدمة في طبعتنا) هذه.
النسخة المغربية (غ).
رقمها في خزانة دار الكتب بالقاهرة (155 مصطلح).
تم نسخها في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 713 هـ عن تمام سماع ٍ سنة تسع وسبعمائة بثغر الإسكندرية، مكتوبة بخط مغربي جيد متقن، مدادها أسود قديم باهت، مع تمييز عناوين الأنواع والمسائل والتفريعات بالمداد الأحمر.
عدد أوراقها 216 ورقة = 232 صفحة، مسطرتها 21 × 13 سم2، بمتوسط ثلاثة وعشرين سطرا، في السطر اثنتا عشرة كلمة. وهوامشها عراض وملصق على مواضع كثيرةٍ منهاة ورقات بطرر وحواش على المتن ضاقت عنها هوامش النسخة.
كُتب على غلافها الخارجي بخط مختلف عن خط النسخة عنوان (التقريب في المصطلح للنووي) - وهو مختصر لكتاب ابن الصلاح - وجاء العنوان مفصلا على صواب، على الصفحة الأولى، بخط النسخة، هذه صورته:
(معرفة أنواع علوم الحديث وأصوله، وإِيضاح فروعه وكشف أسراره وشرح مشكلاته ونكته وفوايده، وإبانة مصطلحات أهل الحديث ورسومهم ومعالمهم ومقاصدهم، إملاء الفقيه الإِمام المحدث الحافظ الناقد الصدر الكبير القدوة، مفتي أهل الشام تقي الدين المعروف بابن الصلاح - رحمه الله -).
وقد لحق بالجملة الأخير ترميج على اس المؤلف - لم يطمسه -، ويبدو أن قارئًا توهم أن(1/122)
الكتاب للنووي فضرب على اسم ابن الصلاح.
وعلى الصفحة الأخيرة، بعد نهاية المتن توقيع ناسخها بخطه: (كمل الكتاب بحمد الله وعونه وإحسانه، وفضله وامتنانه. وكان الفراغ من نسخه في عصر يوم الجمعة الثاني والعشرين لشهر جمادى الأول من عام ثلاث عشرة وسبعماية للهجرة النبوية، عرف الله بركة مقدمها ويُمْنَ مَتمِّها بِمَنِّه وفصله وجوده. إنه على ما يشاء قدير، وبالإِجابة جدير، لا إله إلا هو العلي القدير. وكتبه عبيدُالله، أحمدُ بن سليمان بن أحمد الأنصاري الخزرجي التونسي، حامدًا لربه ومستغفرًا من ذنبه، ومُصَلِّيًا على سيدنا محمد نبيِّه وآله وصحبه).
والأصل الأم لهذا المخطوط: نسخة التقي ابن رزين، أبي عبدالله محمد بن الحسين الشافعي قاضي القضاة (604 - 680 هـ) سماعه للكتاب على ابن الصلاح، بقراءة عمر بن يحيى الكرجي الشافعي، بمدرسة ابن رواحة لدمشق، في شهر رمضان المعظم سنة 636 هـ.
وسمعها من التقي ابن رزين قراءة عليه مرتين، الفقيهُ شمس الدين ابن جميل أبو عبدالله محمد بن أبي القاسم بن عبدالسلام الربعي التونسي المالكي المفتي، قاضي الإِسكندرية (660 - 715 هـ).
وآلت النسخة إلى محمد بن محمد بن عيسى بن عثمان الفارسي، عُرِفَ بابن الفارسي، فقابلها على أصل الشيخ شمس الدين ابن جميل، وكان قد سمعه بثغر الإِسكندرية، بقراءة الشيخ يوسف بن أبي العباس أحمد بن محمد محمد بن عبدالغني، على الشمس ابن جميل، وكتب ابن الفاسي سماعه على الصفحة الأولى من النسخة، تحت عنوان الكتاب:
(سمعتُ جميعَ هذا الكتاب المترجم بكتاب معرفة أنواع علم الحديث، تصنيف الإِمام العالم العامل المحدث الحافظ الفقيه القدوة العمدة أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر الشهرزوري النصري ثم الدمشقي الشافعي. تقي الدين المعروف بابن الصلاح - قدس الله روحه ونور ضريحه -، بقراءة الفقيه الفاضل المفضل المحقق يوسف بن أبي العباس أحمد بن محمد بن عبدالغني - أيده الله - من أصل المسمَّع عليه وهو الإِمام العالم العامل العلامة المحقق المحصل المتقن شمس الدين أبي عبدالله بن أبي القاسم بن عبدالسلام الربعي التونسي المالكي المعروف بابن جميل،(1/123)
قدس الله روحه ونور ضريحه، قال: سمعته على الشيخ الإِمام العالم العلامة العمدة تقي الدين أبي عبدالله محمد بن الحسين ابن رُزَين الشافعي - رحمه الله - قراءة عليه بلفظي مرتين: الأولى في شهور سنة ثلاث وسبعين وستماية، والثانية في ربيع الآخر من سنة ثمان وسبعين: أخبرني به مؤلفه - رضي الله عنه وأرضاه -. فكمل لي سماعه بحمد الله عليه وقابلته حين السماع والقراءة، على أصل المسمع المقروء فيه أصلا كان بيدي، المقابلةَ الصحيحة. ثم منَّ الله الكريم بهذه النسخة فقابلتها بالفرع المذكور مرتين: المقابلة المرضية حسب الطاقة. وعلَّمت على أصل الشيخ شمس الدين علامة (ش) المعجمة. وصح في هذه النسخة كما تراه. وسمع جماعة كثيرة على أصل الشيخ المسمع. وأجاز الشيه المسمع للجميع روايةَ جميع ما صح له روايته بشرط عند أهله. وصح السماع وثبت في مجالس عديدة آخرها يوم الثلاثاء العاشر من ذي القعدة من عام تسع وسبعمائة بثغر الإِسكندرية التي كان مدرسَها .. وكتب العبد الفقير إلى رحمة مولاه، محمد بن محمد بن عثمان بن عيسى .. المعروف بابن الفاسي، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وكتب، بخطه، على الصفحة الأخيرة:
" الحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين. يقول الفقير إلى رحمة ربه، محمد بن محمد الفاسي: ألفيت في أصل شيخي السيد الإِمام العالم الكامل شمس الدين التونسي - رحمه الله -، وكان الكتاب كله بخطه، ما نصه:
(كمل سماع جميع هذا الكتاب عليَّ بروايتي عن مؤلفه - رضي الله عنه وأرضاه -. وصادف الفراغ من ذلك في الحادي عشر من محرم سنة ثلاث وسبعين وستماية، كاتبُه وصاحبه الفقيه الفاضل المفضل المحقق شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي القاسم بن عبدالسلام الربعي التونسي، عُرِفَ بابن جميل نفعه الله ونفع به. وكتب محمد بن الحسين بن رزين الشافعي).
قلت: ثم أسفل منه: (ثم قرأه صاحبه المذكور، جميعَه، في مجالس آخرها يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين، كتبه محمد بن رزين) .. ونقل من خط علي بن جابر بن علي موسى الهاشمي (1) عن أصل ابن رزين:
__________
(1) الإِمام المحدث، نور الدين علي بن جابر الهاشمي التميمي الشافعي " شيخ الحديث بالمدرسة المنصورية. أرخ الذهبي في ذيله للعبر وفاته سنة 715 هـ عن بضع وثمانين سنة. ونسبه في أصل =(1/124)
" سمع جميع كتاب معرفة أنواع علوم الحديث، هذا، على مصنفه شيخنا الإِمام العلامة تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان عرف بابن الصلاح. صاحبُه الإِمام الضابط تقي الدين فخر العلماء محمد بن الحسين بن رزين الحموي. وسمعه معه جماعة: شهاب الدين محمد بن أحمد بن الخليل بن سعادة الخُوَبِّي، وأبو الفضائل عبداللطيف ابن محمد بن أبي الكرم الحنفي، وشرف الدين أحمد بن الخضر القرشي، عُرِفَ بابن زنين، وأبو الفتح نصرالله بن أبي العز بن أبي طالب الصفار، وأبو عبدالله محمد بن عبدالجليل بن عبدالكريم ابن الموقاني، وأبو إِسحاق إبراهيم بن عبدالعزيز القرشي، ومحمد بن أبي بكر بن أبي الهيجا، وأبو المحاسن وعبدالرحمن ابنا أبي الحرم بن أبي المحاسن .. وخالهما أحمد بن عبدالله بن شعيب التميمي، وآخرون أسماؤهم مثبتة في أصل الشيخ المسمع - رضي الله عنه -، بقراءة العبد الفقير إلى الله كاتب الطبقة عمر بن يحيى بن عمر الكرخي الشافعي، يوم السبت عاشر شهر رمضان سنة ست وثلاثين وستماية، بمدرسة ابن رواحة داخل باب الفراديس بدمشق. وأجاز لهم المسمع، للجماعة المذكورين، وتلفظ بذلك والحمد لله. كتبه كما شاهده مختصرًا، علي بن جابر بن علي بن موسى الهاشمي التميمي (1) - عفا الله عنه -. نقله من خطه، كما شاهده، محمد بن محمد بن عيسى بن عثمان، عرف بابن الفاسي، والحمد لله وحده " وبعده:
(شاهدت على الأصل المنقول منه ما مثاله: سمع جميعَ كتاب معرفة أنواع علم الحديث، هذا، على مصنفه شيخنا الإِمام تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن ابن عثمان، المعروف بابن الصلاح، صاحبُه الإِمام تقي الدين محمد بن الحسين بن رَزين، وولده أبو محمد عبدالله، وجماعة منهم الفقيه كمال الدين عمر بن بندار بن عمر التفليسي، والفقيه ظهير الدين محمود بن عبدالله بن أحمد الزنجاني، ومحمد بن محمد بن المرتحل، وولده محمد، وأبو عبدالله محمد بن عبدالله النسوي، وأحمد بن زيد بن أحمد، وأحمد بن رضوان، وفخر الدين عبدالله بن محمد بن محمود الزرندي، ومحمد بن حمدان النميري، ويعقوب بن محمد بن خليل الكردي، وأبو العباس أحمد بن غانم بن عامر
__________
= الذهبي " التميمي " كما هنا، وكما في الدرر، عدل عنها محقق طبعة الكويت للعبر إلى [اليمني] كما في الشذرات ونسخة بأمريكا من ذيل العبر.
والمدرسة المنصورية بالقاهرة، أنشأها السلطان المنصور قلاوون سنة 683 هـ.(1/125)
التونسي وولده أبو بكر، وعفيف الدين عبدالرحمن بن طاوس الواسطي، ومحمد بن إسماعيل بن محمد الفارسي، وشعيب بن محمد بن موسى الهلالي، بقراءة كاتب الطبقة عمر بن يحيى بن عمر الكرخي الشافعي، بالمدرسة الملكية الأشرفية. وأجاز المسمع للمذكورين ما تجوز له روايته، وتلفظ بذلك والحمد لله رب العالمين. نقله مختصرًا العبد الفقير إلى الله تعالى عليُّ بن جابر بن علي بن موسى الهاشمي التميمي - عفا الله عنه -، فنقلته من خطه. كتبه محمد بن محمد بن عيسى بن عثمان، عرف بابن الفاسي، والحمد لله رب العالمين. ولم أجده لهذه الطبعة الثانية تاريخًا، ولعله: عودًا على بدءٍ والله أعلم).
وقرأها ابن الفاسي كذلك، على شيخه نجم الدين الواسطي، أبي بكر وأبي عبدالله محمد بن محمد الواسطي الإِسكندري (719 هـ) مقابلة على نسخته، روايته عن الشيخ المسند ابن عبدالغني القرشي الصقلي قراءة عليه سنة 696 هـ، قال: أخبرنا به مصنفه الإِمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح. وعلى الصفحة الأولى، من الشمال، مناولة من النجم الواسطي لابن الفاسي، الأصلَ المقابَلَ عليه. قرأها ابن الفاسي على شيخه عز القضاة الفخر ابن المنيّر، عبدالواحد بن شرف الدين منصور بن محمد الجذامي الإِسكندري المالكي (651 - 773 هـ) بثغر الإِسكندرية في ستة مجالس سنة 718 هـ، أثبتها في مواضعها من نسخته، وقيَّد على آخر النسخة:
(بلغ السماع بقراءتي على شيخنا فخر الدين عز القضاة أبي محمد عبدالواحد ابن المنير - أسعده الله -، في المجلس السادس فسمعه أخي أبو البركات محمد. وسمع من قوله " النوع الرابع والخمسون " إلى آخر الكتاب: الجماعةُ: أبو بكر بن إسماعيل بن علي، وشمس الدين محمد بن أبي بكر بن عمر النابلسي، وأبو عبدالله محمد بن النبيه، وعمر الخامي. وسمع من قوله " النوع الخامس والستون ": أبو زيد عبدالوهاب بن محمد عبدالرحمن القروي الإِسكندري. وأجاز المسمع لمن سمع مني شيئًا جميع الكتاب. كتب بثغر الإِسكندرية وذلك في يوم الخميس والسادس والعشرين من شوال سنة ثماني عشرة وسبعمائة).
وأثبت ابن الفاسي على النسخة، روايات النسخ المقابلة عليها، رامزًا لأصل الشيخ شمس الدين ابن جميل بحرف (ش) ولنسخة الشيخ نجم الدين الواسطي، بحرف (ط)(1/126)
ولرواية الإِمام عز القضاة الفخر ابن المنير بحرف (ز) ونقل معها ما على هوامش النسخ من أمال ٍ لابن الصلاح ومن طرر وتعليقات للشيخ أبي بكر نجم الدين الواسطي، فعمرت حواشي النسخة بهذه الأمالي والنقول.
وتحمل النسخة على الصفحة الأولى لأصل ابن رزين من نسخة (غ) منها: صور تقييدات سماع وإجازة نقلا من الأصل، بخط ابن الفاسي، منها تصحيح ابن الصلاح لسماع ابن القسطار الإِشبيلي، وأبي محمد ابن الحجام التونسي، مع إجازتهما من ابن الصلاح، نقلا من خطه على الأصل المنقول منه.
وألحق ابن الفاسي بنسخته، بعد الصفحة الأخيرة من متن ابن الصلاح وتقييدات السماع، ورقةً أنشد في أعلاها أبياتًا للشيخ أحمد بن عبدالله بن شعيب التميمي - المذكور اسمه في طبقة السماع الأول بخط المحدث أبي الحسن علي بن جابر بن علي بن موسى الهاشمي - في مدح ابن الصلاح وكتابه. يليها سماع أبي يعلى حمزة ابن أحمد بن عمر الهكاري الدمشقي أحد الفضلاء المحدثين، توفي سنة 749 هـ، ومعه أبو عبدالله محمد بن أحمد بن التفاوشي، من ابن الفاسي بلفظه، في شوال سنة 745 هـ، الأحاديث الثلاثة العوالي التي ختم بها ابن الصلاح النوع الخامس والستين (معرفة أوطان الرواة) آخر الأنواع في كتابه.
وهذه صورة ما على هذه الورقة الملحقة بآخر النسخة:
" قال أحمد بن عبدالله بن شعيب التميمي في مدح هذا الكتاب ومدح صاحبه:
لقد صنف الناس علم الحديث ............................................................ وصانوه عن سَوْرَة الباطل ِ
وذَبُّوا من الزور قول النبي ............................................................ إمام الهداة الرضَى العادل
ولم يلحقوا شأوَ هذا الكتاب ............................................................ ولا سَيْبَ إفضاله النائل
فيَمِّمْ دقيقَ المعاني به ............................................................ تجد ما يشق على الناخل
أجادَ به لِلوَرَى عالِمٌ ............................................................ صريح التُّقَى ليس بالباخل
يفيد العلومَ لطُلابها ............................................................ ويصفح عن زَلَّةِ الجاهل
فَلاَ مِثْلَ لابن الصلاح الإِمام ِ ............................................................ لكشف الغوامض للسائل
فسقيًا له ثم رَعْيًا على ............................................................ فوايدَ كالعارض الهاطل
ودام له السعدُ في نِعمةٍ ............................................................ دوام الفضائل للفاضل(1/127)
يليها:
(الحمد لله وحده، سمع من لفظي الأحاديثَ الثلاثة المذكورة في النوع الخامس والستين من هذا الكتاب، بسندي المذكور في الطبقة على شيخنا الواسطي أول هذا الكتاب: الأخُ في الله سبحانه، المحدثُ الفاضل أبو يَعْلَى حمزةُ بن عمر بن أحمد الهكاري الدمشقي، بلغه الله من كل خير مطلبه. وسمع ذلك معه أيضًا الأخ في الله الفقيهُ أبو عبدالله محمد بن أحمد بن التفاوشي. وذلك في يوم الخميس السابع والعشرين من شوال سنة خمس وأربعين وسبعماية، وأذنت لهما أن يرويا عني ما صح ويصح لي روايته عن أئمة الحديث - رضي الله عنهم -. قال: وكتبه محمد بن محمد بن عيسى بن عثمان .. الفاسي).
وتلحق بالنسختين الموصلية والمغربية نسخة ثالثة مروية بالإِسناد المتصل إلى التقي ابن رزين عن ابن الصلاح، وإن تأخرت عنهما بأكثر من قرنين، وهي:
نسخة الزريقي (ز): 957 هـ.
في المجموع رقم (584 مصطلح حديث، مجاميع طلعت) بخزانة دار الكتب بالقاهرة.
وتقع في أول المجموع، الأوراق من رقم 1 إلى 79، مسطرتها خمسة وعشرون سطرًا، قياسها 28 × 20 سم. مكتوبة بقلم معتاد وخط دقيق، وعلى الصفحة الأخيرة منها بخط الناسخ:
(تم الكتاب المبارك بحمد الله تعالى وإحسانه وإفضاله وكرمه وامتنانه والحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله. وكان فراغه نهار الاثنين ثاني شهر الله المحرم أول سنة سبع وخمسين وتسعمائة، وذلك برسم سيدنا الوالد ... الفاضل العلامة، سيد العلماء إمام الخطباء شرف الدين عمدة العلماء المتقين، الحسن بن محمد بن علي الزريقي حفظه الله وغفر له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات ... الأحياء منهم والأموات إنه مجيب الدعوات ... ).
وعلى الصفحة الأولى بخط الشيخ الزريقي، إسناده للكتاب، بعد حمد الله تعالى(1/128)
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ورضي الله عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين:
(هذا الكتاب المبارك الجليل القدر العظيم النفع، كتاب معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح - رحمه الله -: أرويه عن سيدي وشيخي وإمامي، الإِمام المتوكل على الله أمير المؤمنين شرف الدين أيده الله ورضي عنه، إجازة. وهو عليه السلام يرويه عن الإِمام محمد بن علي السراجي - رحمه الله - إجازة. بروايته عن شيخه الفقيه الإِمام في علم الحديث النبوي وغيره، الحافظ المحدث محيي الدين أبي بكر يحيى بن أبي بكر العامري - رحمه الله -، بروايته عن شيخه الفقيه الحافظ برهان الدين إبراهيم بن حسن الخوبي - رحمه الله - بروايته عن الفقيه العلامة شرف الدين أبي القاسم أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن مطير، بروايته عن أبيه عن جده الفقيه الحافظ إبراهيم بن محمد بن عيسى، عن والده المذكور - رحمه الله -، سماعًا عليه لجميعه عن الحافظ المحدث جمال الدين محمد بن عمر ... بسماعه لجميعه على الفقيه الحافظ أبي الخير بن منصور السماحي، بقراءته على الشيخ الأجل أبي عبدالله محمد بن مختار الداودي، عن ابن رزين، عن المؤلف الشيخ الإِمام أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الشهرزوري المعروف بابن الصلاح - رحمه الله -. ولي من غير هذه الطرق، وربما ذكرت ذلك في غير هذا الموضع، والله ولي التوفيق. قال ذلك وكتبه العبد الفقير إلى عفو الله وكرمه حسن بن محمد الزريقي، وفقه الله لما يحبه الله ويرضاه. آمين).
في الإِسناد طول، وأكثر رجاله من أئمة الزيدية وفقهاء اليمن. ويبدو أن الحرص فيه كان على تسلسل الرواية بهم، وإن لم يَعْلُ إسنادهم: فالشيخ الحسن بن محمد بن علي الزريقي الهمداني، من فقهائهم. توفي بظفير سنة 960 هـ تقريبًا. ومولده سنة 896 هـ وهو يروي الكتاب إجازة من طريق الإِمام المتوكل على الله، وشرف الدين يحيى بن شمس الدين العلوي، أمير المؤمنين المتوفى بحصن ظفير سنة 965 هـ ومولده سنة 877 هـ بالإجازة عن الإِمام السراجي، المنصور بالله محمد بن علي بن أحمد (845 - 910 هـ بصنعاء) بإجازته من الإِمام الهادي، عزالدين بن الحسن بن المؤيد بالله الحسني الزيدي (845 - 900 هـ) عن شيخه محدث اليمن الحافظ محيي الدين أبي بكر يحيى بن أبي بكر العامري اليماني الحرضي، المولود سنة 816 هـ، والمتوفى سنة 893 هـ.(1/129)
فهؤلاء أربعة رجال: من شيخ الزريقي فمن فوقه، في بضع وستين سنة، وهم معروفون، تراجمهم في (البدر والطالع للشوكاني) - على الحروف - ومنه ضبطنا أسماءهم وتواريخ المولد والوفاة.
يليهم ثمانية رجال في الإِسناد بين محيي الدين أبي بكر العامري، من القرن التاسع، والتقي ابن رزين أبي عبدالله محمد بن الحسين من القرن السابع (603 - 680 هـ) ولم أقف على تراجمهم فيما تقصيت من أسانيد الرواة لكتاب ابن الصلاح، فتأخرت النسخة بذلك عن النسختين الأوليين، وإن لم نستغن عنها فيما سقط من الأصول أو التبس من خطها ورسمها، كما استأنسنا بها في الترجيح والخلاف.
النسخة العراقية (ع).
وتزودنا بنسخة أصل عتيقة من متن ابن الصلاح للحافظ العراقي مع كتابه (التقيد والإِيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح) وكان من حقها أن تتصدر النسخ الأولى. لولا أن الكتاب أصلا، لتقييد العراقي وإيضاحه، وليس لمقدمة ابن الصلاح استقلالا، ولهذا جاء تصحيح العراقي للقراءة والسماع، مصرحًا فيه بأنه لِنُكَتِه على ابن الصلاح الذي أدرج متنه في التقييد دون فواصل، فأشفقت من تقديمه، مع ما ينبغي من اتقاء التعجل في معرفة مصطلح النسخة في الضبط وفي الفصل والوصل.
وهذا وصف النسخة العراقية لمتن ابن الصلاح، مدرجا مع التقييد والإِيضاح.
رقمها في خزانة دار الكتب القومية بالقاهرة (36 مصطلح حديث).
آلت إليها من خزانة (الدائرة السَّنِيَّة) - الخديوية - وكانت (مِلْك وَلِي النعم الوزير الحاج إبراهيم باشا والي جدِّه - لوالده محمد علي الكبير - دام عِزَّه ومجده.).
أوراقها مائة وست ورقات، مائتا صفحة واثنتا عشرة، قياسها 24 × 16 سم2، وقياس الكتابة 18 × 12 سم2 بمتوسط خمسة وعشرين سطرا، في السطر اثنتا عشرة كلمة.(1/130)
مدادها أسود باهت وورقها قدينم جيد سميك، وخطها متقن نُسِّقت فيه السطور من جدولة، وذيلت أواخر الصفحات اليمنى بالكلمات الأولى من الصفحات المقابلة لها.
كتبها بخطه الشيخ شرف الدين الأطفيحي الأزهري نقلا من أصل شيخه الزين العراقي، وعليها بخط الأزهري: (وكان الفراغ من كتابتها يوم الاثنين لثمان وعشرين خلت من شهر شعبان المبارك سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة).
ثم قرأها الشيخ شرف الدين على شيخه المصنف، في مجالس، عليها بلاغات القراءة، توالت مع توالي مجالس السماع بخط الشيخ، وكتب على آخر النسخة ما صورته:
(الحمد لله، قرأ عليَّ الشيخ المحدث المقرئ الفاضل شرف الدين يعقوب بن أحمد بن عبدالمنعم الأزهري - نفع الله به - كاتبُ هذه النسخة، جميع هذه النُّكت على كتاب ابن الصلاح - رحمه الله -. وسمع ذلك الشيخ الإِمام العالم الصالح أبو الفداء إسماعيل ابن الشيخ الصالح جمال الدين يوسف الإِنبابي وآخرون منهم ولدُ القارئ المذكور - أحمد - سمع مجالس كثيرة وفاتته مجالس من أول الكتاب في مجالس آخرها في يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين، وأجزت لهم أن يرووا ذلك وجميع ما يجوز لي وعني روايته من مسموع ومجاز، وتأليف نثر ونظم وكتبه عبدالرحمن بن الحسين العراقي حامدا الله تعالى ومصليا على نبيه ومسلما) (1).
__________
(1) الشيخ شرف الدين يعقوب بن أحمد بن عبدالمنعم الأزهري، من أصحاب الحافظ العراقي، وعليه قرأ كتاب (التبصرة والتذكرة) الذي نسخه بخطه من أصل العراقي، ومن نسخته نشرت طبعة الكتاب، بالمغرب. وابنه " الشهاب أبو العباس " أحمد بن شرف الدين يعقوب بن أحمد بن عبدالمنعم الأزهري، الإِطفيحي (92/ 1 - 856 هـ) من أعيان القاهرة سؤددا وكرما، صحب الزين العراقي وأصهر إليه. انظره في الضوء اللامع للسخاوي، وفي تلاميذ السراج البلقيني.
و " الشيخ أبو الفدا إسماعيل بن جمال الدين يوسف الإِنبابي بن الشيخ إسماعيل بن يوسف " ترجم الحافظ ابن حجر للشيخ " جمال الدين ابن القدوة إسماعيل " قال: أخذ الكثير عن شيوخنا وقرأ في الفقه والعربية والأصول وأكثر جدا، ثم انقطع بزاوية أبيه بإنبابة وأحبه الناس واعتقدوه وحج مرارا " وأرخ وفاته في (الإنباء سنة 823 هـ).(1/131)
هذه النسخة العراقية من كتاب ابن الصلاح، من أصل " ابن المهتار، ناصرالدين أبي عبدالله محمد بن يوسف بن محمد بن عبدالله المصري الأصل الدمشقي الشافعي. سمع على الحافظ تقي الدين أبي عمرو عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري ابن الصلاح، كتابه في علوم الحديث، في الخامسة من عمره .. وطال عمره وتفرد بأشياء (636 - 715) (1) وهذا سند الحافظ العراقي إلى أصل ابن المهتار، نقلا من خطبة كتابه التقييد والإِيضاح على الصفحة الأولى من المخطوط أصل، قال:
(وقد أخبرني بكتاب ابن الصلاح المذكور، الشيخان الإِمامان الحافظان البارعان صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي وبهاء الدين أبو محمد عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن خليل الأموي، بقراءتي على الثاني لجميع الكتاب وسماعا على الأول لبعض الكتاب وإجازة باقيه، قالا: أنا بجميعه محمد بن يوسف ابن المهتار الدمشقي، قال: أخبرنا مؤلفه الشيخ الإِمام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن موسى الشهرزوري قراءة عليه، في الخامسة من عمري ... ) (2).
هذه النسخة الأصلية الموثقة من متن ابن الصلاح مع التقييد والإِيضاح، تأخذ موضعها في النسخ المعتمدة لكتاب ابن الصلاح. وقد سبق للشيخ العلامة محمد راغب الطباخ، أن أخرج طبعته لمقدمة ابن الصلاح، من متنها بالتقييد والإِيضاح وقال إن جل اعتماده فيهما على نسخة عليها سماع الحافظ ابن حجر، محررة بخطه من أصل شيخه العراقي. وقد أشرت في وصف طبعة السيد الطباخ، إلى أنه نبه على إغفال الحافظ العراقي [شرح] تسعة عشر نوعا من أنواع علوم الحديث
__________
(1) ذيل التقييد للتقي الفاسي 88 / ظ.
ووالده " ابن المهتار، مجد الدين يوسف بن محمد (685 هـ) من أجل أصحاب أبي عمرو ابن الصلاح، رواة كتابه في علوم الحديث. وهو كاتب طبقة السماع على أصل النسخة الموصلية المقروءة على ابن الصلاح.
(2) الصلاح العلائي، أبو سعيد الدمشقي الشافعي نزيل القدس، حافظها الحجة وعالمها الإِمام (694 - 761 هـ) والبهاء ابن خليل، المكي الشافعي، الفقيه العلامة المقرئ الحافظ، الزاهد القدوة. سكن مصر وتعبد بثغر الإِسكندرية. سمع على ناصرالدين ابن المهتار محمد بن يوسف (694 - 777) هـ، كتاب علوم الحديث لابن الصلاح عنه (ذيل التقييد 158 / و).(1/132)
في كتاب ابن الصلاح، وأنه التقط فوائد هذه الأنواع من (تدريب الراوي للحافظ السيوطي، ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري) وجعلها ذيلا مستقلا بعنوان (المصباح على مقدمة ابن الصلاح).
يسبق إلى الوهم أن هذه الأنواع سقطت من متن ابن الصلاح بالتقييد والإِيضاح في أصل الحافظ العراقي المقروءة عليه.
لكنْ يتبين بقليل من التدبر، أنْ ليس في الأمر إغفال من العراقي، ولا سقط من نسخ كتابه، فهو لم يلتزم التعليق على كل أنواع علوم الحديث في كتاب ابن الصلاح، بل على ما يحتاج إلى تقييد لمطلقٍ وإيضاح لمغلقٍ. قال يقدم كتابه، بعد البسملة والحمد والتصلية:
(وبعد فإن أحسن ما صنف أهل الحديث في معرفة الاصطلاح كتاب علوم الحديث لابن الصلاح. جمع فيه غرر الفوائد فأوعى، ودَعَا له زمر الشوارد فأجابت طوعا. إلا أن فيه غير موضع قد خولف فيه، وأماكن أُخَر تحتاج إلى تقييد وتنبيه، فأردت أن أجمع عليه نُكَتًا تقيد مطلقه وتفتح مغلقه. وقد أورد عليه غير واحد من المتأخرين إيرادات ليست بصحيحة فرأيت أن أذكرها وأبين صواب كلام الشيخ وترجيحه، لئلا يعلق بها من لا يعرف مصطلحات القوم، وينفق من مُزْجَى البضاعات ما لا يصلح للسوم ... ).
وقد صورت منها دار الكتب نسخة برقم (25337 /).
ما جاء في طبعتنا من متن ابن الصلاح بالعراقية في مقابلات النسخ والترجيح بينها، فعلامته (ع) وأما ما كان للحافظ العراقي، من نكتٍ عليها، فيُصرح باسم كتابه (التقييد والإِيضاح) أو (التبصرة والتذكرة) في النقل منهما أو الإِحالة عليهما.
بقي أن نشير إلى ثلاث نسخ خطية أخرى غير موثقة، من كتاب ابن الصلاح في خزانة دار الكتب بالقاهرة، لم يخلُ الرجوع إليها والاستئناس بها في مواضع الخلاف من فائدة.(1/133)
نسخة الهمداني:
رقمها (138 مصطلح حديث): 743 هـ.
بعنوان: (كتاب معرفة أنواع الحديث، تصنيف الموالي الإِمام الكامل أوحد دهره وفريد عصره، مفتي الفرق الثقة الصدوق الحافظ المتقن تقي الدين أبي عمرو عثمان، عرف بابن الصلاح الشهرزوري، قدس الله روحه ونور ضريحه. آمين).
وتقع في مائة ورقة وأربع - ثماني صفحات ومائتين - قياسها 16,5 × 11 سم2، مسطرتها ثلاثة وعشرون سطرا بمتوسط ثلاث عشرة كلمة في السطر.
(كتبها علم الدين عبدالمؤمن بن عبدالعزيز الهمداني، وتمت كتابتها يوم الثلاثاء ثاني عشر شهر رجب المبارك سنة ثلاث وأربعين وسبعماية هلالية).
فهي ثالثة نُسَخِنا من حيث القدم، لكنها خالية من إشارة إلى الأصل المنقول منه، خالية كذلك من أي بلاغ أو تقييد لرواية وسماع.
النسخة التركية:
رقم (131 - مصطلح، طلعت): 1150 هـ.
في تسع وتسعين ورقة، مسطرتها ثلاثة وعشرون سطرا، قياسها 18 × 11 سم2، عنوانها (نخبة الملوك لابن الصلاح، من أصول الحديث) بقلم نسخ (كتب النسخة الشريفة عمر بن محمد التوقادي في بلدة قسطنطينية، بمدرسة كوبرولي محمد باشا وزير. وفرغ من نسخها يوم الخميس بعد صلاة الظهر في منتصف جمادى الآخرة سنة خمسين ومائة وألف).
ولم يذكر الأصل المنسوخ منه.
نسخة الكتبخانة المصرية:
في أول المجموع رقم (30 مصطلح): 1230 هـ في عشر ورقات ومائة، مسطرتها خمسة وعشرون سطرا، قياسها 23,5 × 15 سم2 بمداد أسود، مجدولة بمداد أحمر.
(تمت كتابتها يوم الاثنين المبارك لعشرة أيام خلت من شعبان المبارك سنة ثلاثين ومائتين وألف ... ).(1/134)
مجهولة الناسخ مُجَهَّلة الأصل المذكور مبهما في التوقيع بعد نهاية المتن، بخط النسخة:
(تم كتاب علوم الحديث لابن الصلاح، وهو في هذا الفن في غاية الإِتقان والإِصلاح، منسوخا من نسخة سُمِعَتْ على المصنف مرارا عديدة في أماكن ومجالس متعددة.).(1/135)
متن ابن الصلاح في هذه الطبعة.
ذكرت وأنا أطيل النظر في نسخنا الخطية المعتمدة لكتاب ابن الصلاح، وصية شيخي " الأستاذ أمين الخولي " - رضي الله عنه - بمقاومة جاذبية القدَم في موازين التوثيق، لأبصر ما قد تحجبه هذه الجاذبية من علل ٍ في مخطوط قديم، تؤخره عن نسخ أحدث زمنا وأتمَّ أصالة.
النسخة العراقية أحدث زمنا من الموصلية والمغربية، يفصلها عنهما نحو قرن، لكنها مع تأخر زمنها، كانت جديرة بأن نعتمدها أصلا للمتن في طبعتنا هذه، في مخطوطها الأصل العتيق المقروء على المصنف، الحافظ العراقي وعليه خطه - لا شك فيه - بتصحيح كل مجلس للسماع تقريبا، ثم على مقابلة النسخة بأصله، وتوقيعه بعدها بإجازة رواية الكتاب عنه، وسائر (ما يجوز له وعنه من مسموع ومُجَاز وتأليفٍ، من نثر ونظم).
لكني احتجت مع هذه النسخة، إلى مقاومة إغراء أصالتها النادرة، فهي أصلاً كتاب التقييد والإِيضاح للعراقي، وقد جاء متن ابن الصلاح فيها مُدرجًا في متن العراقي المشحون بالنقول والأعلام والمراجعات والتعقبات والمقابلات ... وقد خلت النسخة أجمع من الفواصل وعلامات الفصل والوصل دون تمييز لعناوين الأنواع والفصول والتفريعات بمدادٍ غير مداد النسخة، أو كتابتها أوائل سطر .. وكان يمكن بمشقة بالغة، استخلاص متن ابن الصلاح منها؛ إذ ليس الحافظ العراقي بحيث يفوته تمييز منقوله منها اتقاءَ الإِدراج والإِلباس، لكني تنبهت إلى علامات من مصطلح الرسم فيها غير مألوفة لي، لم أُسِغْ الاعتماد عليها باجتهاد. منها مثلا ما ظهر لي بادي النظر من احتمال تمييز فواصل الجمل بعلامة سكون صغيرة مقفلة (ْ) كأنها علامة وقف. وتمييز أوائل أقوال ابن الصلاح عن سائر النقول، بمدِّ حرف اللام من (قوله) ونحو ذلك مما أحتاج معه إلى إمعان النظر فيما لم آلفه من رسم هذا المخطوط الفريد وتحقيقه على تفرغ ٍ وخلوِّ بال، إذا يسَّر الله تعالى وأعان.
بل إنني حَذِرتُ كذلك، الإحالة عليه في مواضع النقل منه أو المقابلة عليه. فقابلت به(1/136)
الطبعة الثانية من (التقييد والإِيضاح) للمكتبة السلفية بالمدينة المنورة، تيسيرًا للإِحالة عليها.
النسخة الموصلية، تتصدر سائر النسخ بِقِدَمِها - مع معرفة أصلها - وبقراءة قدر منها، على الحافظ أبي الفضل العراقي.
لولا أنها آلت إلى صاحبها " ناصر الدين ابن العديم " بالتملك في القرن الثامن، منقطة الاتصال بأصلها في القرن السابع، ويمكن التجاوز عن هذا الانقطاع من طريق الحافظ العراقي، لو أنها قرئت عليه كاملة، لكن القدر المقروء عليه منها، ثلثها تقريبا، ثم تنقطع بلاغاته للناصر ابن العديم بتصحيح القراءة والسماع. من ثنايا القسم الأول من النوع الرابع والعشرين إلى نهاية النوع الخامس والستين - آخر الكتاب - مع انتفاء احتمال وفاته قبل إكمال قراءة النسخة عليه. فالناصر ابن العديم توفي في سنة 752 هـ، والعراقي في نحو السابعة والعشرين من عمره، أي بعد وفاة الناصر بأكثر من نصف قرن. ولئن أمكن التجاوز عن هذا أيضا، تقديرًا لاطلاع العراقي عليها جملة وسماحه بقراءتها عليه، لقد أضرَّ بها ما أشرنا إليه في وصفها من خلل ٍ هذا مجملُ بيانه:
سقط من أوائل النسخة قدر عشر صفحات منها، تبدأ من (النوع الخامس والستين) من فهرسة ابن الصلاح لأنواع الحديث في كتابه إلى آخر الأنواع. ثم متن النوع الأول كله " معرفة الصحيح من الحديث، [2 / أ] وهو من أوسع الأنواع - عدا السطر الأخير منه، قوله: " بالتبديل والتحريف، الثقة بصحة ما اتفقت عليه تلك الأصول، والله أعلم " بدئن به الصفحة التالية [2 / ب] بإدراج ما قبل السقط الكبير فيما بعده، دون تنبه إليه، وتوالي ترقيم الصفحات على هذا الإدراج.
ولا يدخل هذا السقط كله في المقروء من النسخة على الحافظ العراقي، إذ يبدأ أول بلاغ له بتصحيح القراءة والسماع، في ثنايا تفريعات النوع الثاني (الحديث الحسن) بعد الساقط من النسخة وهذه صورة توقيعه بخطه:
(بلغ ناصرالدين محمد، ولدُ قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم، قرأه عليَّ من أول الثالث من هذه التفريعات إلى الخامس، قراءة بحث ونظر،(1/137)
وعمُّه زين الدين عبدُالرحمن، وشمسُ الدين محمد بن خليل الحلبي. كتبه عبدالرحيم بن الحسين).
وأشد من هذا الخلل، ما وقع في ثنايا النوع السادس والعشرين (صفة رواية الحديث وشرط أدائه): سقط منه أواخر التفريع السادس عشر، وأضيف بهامشه لحقا، ثم التفريعان العشرون والحادي والعشرون، وبه يُختم النوع. وسقط أول تاليه: النوع السابع والعشرون، إلى قوله: " أو لإِفادة شيء من علومه " وأدرج ما قبل السقط من تفريعات النوع السادس والعشرين، فيما بعده من النوع السابع والعشرين. فجاء النص خليطا مضطربا مختلا.
وليس هذا الخلل مظنة احتمال ِ ضياع ورقات من المخطوطة، إذ يقع في ثنايا صفحة [52 / ب] لا في أولها، ولا في آخرها. وهذا الخلل أيضا، لا يدخل في المقروء من النسخة على الحافظ العراقي؛ إذ تنقطع بلاغاته بتصحيح القراءة والسماع، من ثنايا القسم الأول من (النوع الرابع والعشرين) [26 / أ]- إلى آخر الكتاب (النوع الخامس والستين).
ثم إنها مع تجويد خطها وتحرير ضبط الشكل لألفاظها، معيبة بإدراج عام للفقرات والجمل والنقول، فتمضي التفريعات والمسائل سردًا دون علامة فصل أو تمييز فقرة أو حصرٍ لنقل، مما لا يؤمن معه إقامة نصها إلا أن نثقل على المتن، لو أننا نقلناه منها، بالتنبيه على مظان العثار من مواضع الإِدراج والإِيهام والتصحيف.
فكان أن قدمنا هذا المتن من النسخة المغربية (غ) وهي أصح ضبطا وأتم سياقا وأحرص على التزام قواعد المنهج في الرواية والنقل والمقابلة، وفي الطرر والحواشي التي ضاقت بها هوامش النسخة فجيء بها في ورقات متصلة.
هذا مع اتصال سندها إلى أصل التقي ابن رزين على ابن الصلاح، وبلاغ ابن رزين بتصحيح قراءة الشمس ابن جميل للنسخة مرتين - في سنتي 873، 678 هـ ثم قراءتها على النجم أبي بكر الواسطي، وعلى عز القضاة ناصر الدين ابن المنير، وتقييد طبقات السماع على النسخة الأصل، وعلى فرع ابن جميل، ومجالس السماع على عز القضاة ابن المنير.
فلا يضير هذه النسخة، مع مزاياها الفريدة أنْ تأخر تاريخها - 713 هـ - عن تاريخ الموصلية - 661 هـ - وقد تبين من تخريجنا لمعجم أصحاب أبي عمرو ابن الصلاح أن(1/138)
العهد بهم امتد حتى الربع الأول من القرن الثامن. وهذا المجال الزمني تدخل فيه النسختان (ص، غ) كلتاهما.
ومما آنسني إلى نسخة (غ) ما عمرت به حواشيها من أمال ٍ لأبي عمرو ابن الصلاح على متن كتابه عند الإِملاء وفي مجالس القراءة والسماع، وجد قدر غير قليل منها، بنصه، على هوامش (ص) وبعضها في مصنفات للأئمة على كتابه، كتقييد العراقي وتبصرته ومحاسن السراج البلقيني، مع ما تنفرد به (غ) من طرر أخرى خصبة وأمال ٍ لشيوخ ممن قرئت عليهم النسخة، أو أصولها، تراجمَ لأعلام وضبطا لمشتبه وملتبس وإيضاحا لمبهم، نقلا من أصول كبرى ككفاية الخطيب وجامعه وعلوم الحاكم وتمييزه، وتمهيد ابن عبدالبر واستيعابه وجامعه، وتقييد المهمل لأبي علي الغَسَّاني الجياني، وإكمال الأمير أبي نصر ابن ماكولا وإلماع القاضي عياض ومشارق أنواره، وإكماله شرح صحيح مسلم، وتهذيب النووي وإرشاده وتقريبه، واقتراح ابن دقيق العيد أبي الفتح القشيري ...
روجعت هذه الطرر على الميسور لنا من مصادرها فصح بها النقل، وشهدت لمن تداولوا هذه النسخة بسعة الرواية.
وربما آنسني إليها كذلك، أنه حينما ذكر فيها المصنف أو المملي، تلته الجملة الدعائية: " حفظه الله وأبقاه " على حين يُذكر في (ص) متلوا بالدعاء: " رحمه الله " وهو يشبه أن يكون دعاء الراوي للشيخ بعد وفاته، لا في حياته حين أملى الكتاب، في الأصل المنقول منه.
وقد بقي للنسخة الموصلية على أي حال موضعها في النسخ الموثقة، أصْلا لما سلم منها واستقام، مع ترجيح روايتها في مواضع الخللاف، وليست كثيرة، فيما اتفقت فيه مع العراقية. ومع الاستئناس بالنسخة الزريقية في الترجيح، وفي ترميم خروم ٍ وإظهار مطموس، وقراءة ملتبس، والله المستعان.(1/139)
2 - محاسن الاصطلاح.
في خزانة دارة الكتب بالقاهرة، نسخة موثقة من كتاب (محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح) مقروءة على السراج البلقيني، وعليها خطه بتصحيح القراءة والسماع، والإذن في الرواية (1).
رقمها (141 مصطلح حديث)
عدد أوراقها 174 ورقة: 384 صفحة، قياسها 12,5 × 10 سم2، مسطرتها واحد وعشرون سطرا، بمتوسط عشر كلمات في السطر.
كتبها الصلاح الحنبلي، ووقع بخطه في ختامها، بما نصه:
(تم كتاب محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح. تصنيف العلامة شيخ الإِسلام حافظ مصر والشام سراج الدين عمر البلقيني الشافعي أبقاه الله تعالى) [173 / ظ].
يليه، على الصفحة التالية، بخطه:
(انهاه قرءاةً على مؤلفة مولانا وسيدنا وشيخنا، شيخ الإِسلام سراج الدنيا والدين أمتع الله المسلمين بطول بقائه في خير وعافية، وذلك ليلة السبت عشري شهر ذي القعدة سنة تسعين وسبعمائة، بمدرسته التي أنشأها بحارة بهاء الدين، تقبل الله منه: محمدُ بن سالم الحنبلي.).
ثم بخط السراج البلقيني ما صورتُه:
(صدَقَ وبَرَّ من وضَع خطَّه أعلاه، بأنه لهذا الكتاب قراءةً أنهاه، فقرأه عليَّ وحقَّقه لديّ، وهو الشيخ العالم مفتي المسلمين صدر المدرسين مفيد الطالبين جمال المعتبرين، صلاح الدين الحنبلي نفع الله بعلومه وما يبديه من منطوقه
__________
(1) أعفتنا هذه النسخة الأصل - بما استكملت من شروط التوثيق - من ضرورة الإِطلاع على مخطوطين من المحاسن. في: (برلين 148، والمتحف البريطاني: ثان 165) ذكرهما بروكلمان.(1/140)
ومفهومه. وأذنت له أن يروي عني هذا الكتاب وما يجوز لي وعني روايته بشرطه. وكتب عمر البلقيني حامدا ومصليا ومسلما.) [174 / و].
" الصلاح الحنبلي محمد بن محمد بن سالم، أبو عبدالله المقدسي الأصل المصري، المدرس بالظاهرية الجديدة بين القصرين بالقاهرة، أرخه الحافظ ابن حجر في وفيات سنة خمس وتسعين وسبعمائة، وقال: " كان بارعا في مذهبه، وأفاد ودرَّس وتعين لقضاء الحنابلة " ثم نقل عن التقي المقريزي، قال: " كان أبوه وعمه عبدالجليل مشهورين بالعلم والفقه والدين فاقتدى بهما وأربى عليهما. قال: وكان سمحا كريما حسن الملتقى جميل المحيا وكان يتعصب لابن تيمية " (1).
نسخته الأصل المكتوبة بقلمه، خطُّها واضح، وفي سطورها وكلماتها وهوامشها سعة، وإنما تصعب قراءتها غالبا من النقط والشكل. ولا يشكل هذا فيما هو من تضمين البلقيني لكتاب ابن الصلاح، ونص المتن بين أيدينا موثقا محققا، خلافا لمحاسن الاصطلاح - الفوائد والزوائد - في نسختنا الوحيدة، لم نقف على نسخة أخرى منها فالمراجعة والمقابلة على ما فيها. من نقول البلقيني في فوائده وزوائده، وقلما يفوته عزوها إلى مصادرها من كتب الحديث والفقة والأصول واللغة والرجال .. فكانت مقابلة النقول على أصولها معينة على ضبط المهمل وتمييز المشكل من خط النسخة. وفيما عدا ذلك، احتملتُ مسئولية الضبط بالشكل والفواصل، بإمعان التدبر في توجيه السياق.
والكتاب يتميز فيه قسمان: تضمين كتاب ابن الصلاح وقد آثرنا ألا نثقل على طبعتنا هذه بنقله، مع وجود متن ابن الصلاح كاملا فيها، واقتصرنا على القسم الثاني: محاسن السراج البلقيني عليه. وهي مميزة يؤمَن فيها اللبس والإِدراج، إذ يبدأ عقب فقرات
__________
(1) الإنباء: 1/ 464، ومعه الدرر الكامنة، وذيل ابن فهد لتذكرة الحفاظ: 184، والشذرات 6/ 341.
أبوه " شمس الدين محمد بن سالم بن عبدالرحمن بن عبدالجليل الدمشقي الحنبلي " الفقيه المفتي العالم العامل، انتقل إلى مصر فنزل في مدارس الحنابلة ودرس بمدرسة السلطان حسن بالقاهرة. توفي في شعبان سنة 777 هـ وعم الصلاح الحنبلي " عبدالجليل بن سالم بن عبدالرحمن بن عبدالجليل " نجم الدين الحنبلي الفقيه، من أعيانهم بمصر، توفي بالقاهرة في شهر ربيع الأول سنة 768 هـ.(1/141)
التضمين بقوله: فائدة، أو: زيادة، أو: فائدة وزيادة، ويختم كلا منها بكلمة " انتهت ".
ولأذكر أن زميلا كريما من أبنائي علماء القرويين، ودَّ لو أنني قدمت كتاب السراج البلقيني كاملاً، فلا يُعترض عليَّ بأن قدَّمتُ شطر الكتاب دون سائره.
وذلك ما اتقيتُه بأن قيَّدتُ عنوان مطبوعتي بمحاسن الاصطلاح، فلا يَردُ عليه ما لم أذكره في العنوان: (وتضمين كتاب ابن الصلاح). الذي أغنى عنه وجود متن ابن الصلاح كاملاً أعلى المحاسن.
ويختلف الأمر ههنا، عما في كتاب (التقييد والإِيضاح) المطبوع كاملا مع متن ابن الصلاح بتمامه أعلاه، فذلك من تصرف الناشر للطبعة السلفية على الطبعة الهندية. وقد ذكر معها مخطوط دار الكتب المصرية، رقم 25337 / ب) ومتن ابن الصلاح فيه، كما في الأصل الذي صُوِّر منه (رقم 36 مصطلح حديث) مدرج في متن التقييد والإِيضاح، غير مستقل منه.
بالله أستعين، عليه توكلت وإليه أنيب.(1/142)
بياض بالأصل.(1/143)
بياض بالأصل.(1/144)
بسْم ِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم ِ
" رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا " (1)
الحمد لله الهادي من استهداه، الواقي من اتقاه، الكافي مَن تحرى رضاه، حمدًا بالغًا أمَدَ التمام ومنتهاه. والصلاة والسلام الأكملانِ على نبينا والنبيين وآل ِ كلٍّ، ما رجا راج مغفرته ورُحْماه. آمين آمين.
هذا وإن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة. يحبه ذكور الرجال وفحولتهم، ويعنى به محققو العلماء وكَمَلتهم، ولا يكرهه من الناس إلا رُذَالتهم وسفلتهم. وهو من أكثر العلوم تولُّجًا في فنونها لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها. ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المُخِلِّين به من العلماء.
ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيمًا، عظيمة جموعُ طلبته، رفيعة مقاديرُ حُفاظِه وحَمَلتِه. وكانت علومه بحياتهم حَيَّة، وأفنان فنونه ببقائهم غضة، ومغانيه بأهله آهلة. فلم
__________
(1) تلتقي نسخنا جميعًا ابتداء من هذه الآية الكريمة التي يستهل بها المتن كما أملاه " ابن الصلاح " وقبلها ديباجة باسم الشيخ، نصها في (ص): [بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله حمد الشاكرين. هذا ما أملى شيخنا ومولانا الفقيه الإِمام العلامة الحافظ الضابط المتقن، حجة الحفاظ والعلماء، مفتي الفرق: تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن أبي نصر الشهرزوري الشافعي المعروف بابن الصلاح - متع الله الإِسلام والمسلمين بطول بقائه - في يوم الجمعة السابع من شهر رمضان المبارك لسنة ثلاثين وستمائة بدار الحديث الملكية الأشرفية بمحروسة دمشق، أثاب الله تعالى منشئها الجنان وتغمده بالمغفرة والرضوان؟ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. آمين].
وفي (ز): بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم أعن ويسر يا كريم.
[قال شيخنا الإِمام العالم الفاضل العامل المفتي الحافظ، تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الشهرزوري الشافعي، عرف بابن الصلاح، رضي الله عنه. وتلا: " رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا "].
ومثلها في (هـ) مع تفاوت يسير.(1/145)
يزالوا في انقراض، ولم يزل في اندراس، حتى آضت به الحال إلى أن صار أهله إنما وهم شِرْذِمة قليلة العَدد، ضعيفة العُدد، لا تُعنَى على الأغلب في تحمله بأكثر من سماعه غُفْلاً، ولا تتعنى في تقييده بأكثر من كتابته عُطْلاً، مُطَّرحين علومَه التي بها جلَّ قدرُه، مباعدين معارفه التي بها فخم أمره. فحين كاد الباحث عن مشكله لا يُلفى له كاشفًا، والسائل عن علمه لا يلقى به عارفًا، مَنَّ الله الكريم، تبارك وتعالى وله الحمدُ أجمع، بكتاب معرفة أنواع علم الحديث هذا الذي أباح بأسراره الخفية، وكشف عن مشكلاته الأبِيَّة، وأحكم معاقده وقَعد قواعده، وأثار معالمه، وبيَّن أحكامه، وفصَّل أقسامه، وأوضح أصوله، وشرح فروعَه وفصوله، وجمع شتاتَ علومه وفوائده، وقنص شوارد نُكَتِه وفرائده. فالله العظيمَ - الذي بيده الضر والنفع والإِعطاء والمنع - أسأل، وإليه أضرع وأبتهل، متوسلا إليه بكل وسيلة، متشفعًا إليه بكل شفيع، أن يجعله مَلِيًّا بذلك وأملى (1)، وافيًا بكل ذلك وأوفى "، وأن يعظم الأجر والنفع به في الدارين، إنه قريب مجيب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب *.
__________
(1) في تقييد العراقي: [قوله: أن يجعله - الله - مليًّا بذلك وأملى، وفيًّا بذلك وأوفى. استعمل المصنف هنا " مليًّا وأملى " بغير همز على التخفيف وكتبه بالياء مناسبة قوله: وفيًّا وأوفى، وإلا فالأول مهموز من قولهم: ملؤ الرجل، بضم اللام والهمز، أي صار مليئًا، أي ثقة. وهو مليء بيِّنُ الملاء والملاءة، ممدودان. قاله الجوهري. والله أعلم] وقوبل على تقييد العراقي بدار الكتب المصرية (خط 36 مصطلح حديث).
___________________________________
* محاسن الاصطلاح:
" بسم الله الرحمن الرحيم، ربِّ يَسِّرْ. الحمد لله الذي منح أهل الحديث خدمة السن، وأظهر لهم من أنواع علومها ما عظمت به المنة، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد المبعوث لجميع الإِنس والجنة، وعلى من تبعهم فتوصل بآثارهم إلى بحبوحة الجنة. أما بعد فإن من أهم ما يعتني به الطالب ويرغب فيه الراغب، معرفة أنواع علوم الحديث. ولقد تكلم على ذلك جمع من العلماء في القديم والحديث، ومن أحسنها جمعًا وأكثرها نفعًا وأعظمها وقعًا، كتاب الحافظ العلامة أبي عمرو ابن الصلاح، الذي أظهر فيه معظم الاصطلاح. قصدت اختصاره لأقتفي آثاره، مع الإِشارة إلى زيادات مهمة، وإيضاح أمور ملمة، بحيث يكون كالشرح له، من جهة بسطٍ وتنبيه على ما أغفله، وأتحرى عبارته =(1/146)
وهذه فهرسة أنواعه:
فالأول منها: معرفة الصحيح من الحديث.
الثاني: معرفة الحسَن منه.
الثالث: معرفة الضعيف منه.
الرابع: معرفة المسنَد.
الخامس: معرفة المتصل.
السادس: معرفة المرفوع.
السابع: معرفة الموقوف.
الثامن: معرفة المقطوع - وهو غير المنقطع.
التاسع: معرفة المرسَل.
العاشر: معرفة المنقطع.
الحادي عشر: معرفة المُعْضَل، ويليها تفريعات: منها في الإِسناد المُعَنْعَن، ومنها في التعليق.
الثاني عشر: معرفة التدليس، وحكم المدلَّس.
الثالث عشر: معرفة الشاذ.
الرابع عشر: معرفة المنكَر.
__________
(1) من (غ، ع) بتاء مربوطة، وفي (ص، ز): [فهرست] وعلى هامش (ز) حاشية نصها: [تكتب فهرست بتاء مجرورة مثناة من فوق. وأما كتابتها بالهاء فقط، قال في الإِفصاح لابن حجر: الصواب أنها بالتاء المثناة وقوفا وإدغاما، وربما وقف عليها بعضهم بالهاء وهو خطأ. قال صاحب تثقيف اللسان: فهرست، بإسكان السين، والتاء فيه أصلية، ومعناها في اللغة: جملة العدد للكتب، لفظه " فارسته "، قال: واستعمل الناس منها: فَهْرسَ الكتبَ يفهرسها فهرسة، مثل دحرج، وإنما الفهرست: اسم جملة العدد والفهرسة المصدر، كالفذلكة، يقال: فَذْلَكَ الحسابَ، إذا وقف على جملته. انتهى.].
___________________________________
= أو معناها، وأتوخى أن لا أزيل الحكايات والتواريخ عن لفظها ومعناها. وسميته (محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح) والمرجو من الله تعالى أن يكثر النفع به، وأن يظهر لقاصد هذه الأنواع جواهر مطلبه، وأن يفتح علينا من عطائه الجزيل، فهو حسبنا ونعم الوكيل. " 1 / و.(1/147)
الخامس عشر: معرفة الاعتبار والمتابَعات والشواهد.
السادس عشر: معرفة زيادات الثقات وحكمها.
السابع عشر: معرفة الأفراد.
الثامن عشر: معرفة الحديث المُعَلَّل.
التاسع عشر: معرفة المضطرب من الحديث.
العشرون: معرفة المدرج في الحديث.
الحادي والعشرون: معرفة الحديث الموضوع.
الثاني والعشرون: معرفة المقلوب.
الثالث والعشرون: معرفة صفة مَنْ تُقبَلُ روايتُه، ومن تُرَدُّ روايتُه.
الرابع والعشرون: معرفة كيفيات سماع الحديث وتحمُّله. وفيه بيان أنواع الإجازة، وأحكامها، وسائر وجوه الأخذ والتحميل، وعِلم جَمٌّ.
الخامس والعشرون: معرفة كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده. وفيه معارف مهمة رائقة.
السادس والعشرون: معرفة كيفية رواية الحديث، وشرط أدائه وما يتعلَّقُ بذلك. وفيه كثير من نفائس هذا العلم.
السابع والعشرون: معرفة آداب المحدِّث.
الثامن والعشرون: معرفة آداب طالب الحديث.
التاسع والعشرون: معرفة الإِسناد العالي والنازل.
الموفي ثلاثين: معرفة المشهور من الحديث.
الحادي والثلاثون: معرفة الغريب والعزيز من الحديث.
الثاني والثلاثون: معرفة غريب الحديث.
الثالث والثلاثون: معرفة المُسَلسَل.
الرابع والثلاثون: معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه.
الخامس والثلاثون: معرفة المُصَحَّف من أسانيد الأحاديث ومتونها.
السادس والثلاثون: معرفة مختلف الحديث.
السابع والثلاثون: معرفة المزيد في مُتَّصِل الأسانيد.(1/148)
الثامن والثلاثون: معرفة المراسيل الخفيِّ إرسالُها.
التاسع والثلاثون: معرفة الصحابة رضي الله عنهم.
الموفي أربعين: معرفة التابعين، رضي الله عنهم (1).
الحادي والأربعون: معرفة الأكابر (2) الرواة عن الأصاغر.
الثاني والأربعون: معرفة المدبَّج، وما سواه من رواية الأقران بعضِهم عن بعض.
الثالث والأربعون: معرفة الإِخوة والأخوات من العلماء والرواة.
الرابع والأربعون: معرفة رواية الآباء عن الأبناء.
الخامس والأربعون: عكس ذلك: معرفة رواية الأبناء عن الآباء.
السادس والأربعون: معرفة من اشترك في الرواية عنه راويان: متقدم، ومتأخر، تباعد ما بين وفاتهما (3).
السابع والأربعون: معرفة مَن لم يرو عنه إلا راوٍ واحدٌ.
الثامن والأربعون: معرفة من ذُكِر بأسماءٍ مختلفة أو نعوتٍ متعدّدة.
التاسع والأربعون: معرفة المفردات من أسماء الصحابة والرواة والعلماء.
الموفي خمسين: معرفة الأسماء والكُنَى.
الحادي والخمسون: معرفة كُنَى المعروفين بالأسماء، دون الكنَى.
الثاني والخمسون: معرفة ألقاب المحدِّثين.
الثالث والخمسون: معرفة المؤتلِف والمختلِف.
الرابع والخمسون: معرفة المتفق والمفترق (4).
الخامس والخمسون: نوع يتركب من هذين النوعين (5).
السادس والخمسون: معرفة الرواة المتشابهين في الاسم والنسب، المتمايزين بالتقديم. والتأخير في الابن والأب.
__________
(1) سقط [رضي الله عنهم] من متن (غ) وأضيف بهامشه لَحَقًا مع بيان المخرج.
(2) في متن (غ، ع، ز): [أكابر] وما هنا من (ص) وهامش (غ).
(3) من (ص، ز، ع) وموضعه في (غ) مثقوب من أثر البلى.
(4) من هنا يبدأ سقط مقداره نحو ورقة من نسخة (غ) فنقل من (ع، ز).
(5) من هنا يبدأ سقط من (ص) مقداره نحو اثنتين وعشرين صفحة من المطبوعة. مع توالي التصفيح. نقلناه من نسخة (ع، ز).(1/149)
السابع والخمسون: معرفة المنسوبين إلى غير آبائهم.
الثامن والخمسون: معرفة الأنساب التي باطنها على خلاف ظاهرها.
التاسع والخمسون: معرفة المبهَمات.
الموفي ستين: معرفة تواريخ الرواةِ في الوفياتِ وغيرِها.
الحادي والستون: معرفة الثقاتِ والضعفاء من الرواة.
الثاني والستون: معرفةُ من خَلَّطَ في آخرِ عُمرهِ من الثقات.
الثالث والستون: معرفة طبقاتِ الرواةِ والعلماء.
الرابع والستون: معرفة الموالي من الرواةِ والعلماء.
الخامس والستون: معرفة أوطانِ الرواةِ وبلدانهم.
وذلك آخرها، وليس بآخرِ الممكن في ذلك، فإنه قابلٌ للتنويع إلا ما لا يُحصى، إذ لا تُحْصَى أحوالُ رُواةِ الحديث وصفاتُهم، ولا أحوالُ متونِ الحديث وصفاتها، وما من حالة منها ولا صفة إلا وهي بصدَدِ أن تُفرَدَ بالذكرِ وأهلُها، فإذا هي نوعٌ على حالِه، ولكنه نَصَبٌ من غير أربٍ، وحسبُنا الله ونعم الوكيل *.
___________________________________
* محاسن الاصطلاح:
" هكذا رتب الشيخ أبو عمرو - رحمه الله - وقال: إن ذلك ليس بآخر الممكن، فإنه قابل للتنويع لما لا يحصى، ولو أن الشيخ ذكر كل نوع بجانب ما يليق به لكان أحسن، كأن يذكر بجانب المسند المنقطع والمرسل والمعضل. وأيضًا فقد ذكر أمورًا يمكن تداخلها. ولكنا نُجري الحال على ما ذكره، مع التنبيه على الفوائد والإِشارات للزوايد - إن شاء الله تعالى - وزدنا في الأنواع خمسة، تكملة للسبعين، كما يظهر ذلك ويبين، وهي: رواية الصحابة بعضهم عن بعض، رواية التابعين بعضهم عن بعض، معرفة من اشترك من رجال الإِسناد في فقه أو بلد أو إقليم أو غير ذلك، معرفة أسباب الحديث، التاريخ المتعلق بالمتون، وذلك ما ينفع في الفنون. وأسأل الله التوفيق لمسلك التحقيق " 1 / وجه.
وانظر خطبة ابن حجر، لشرح النخبة.(1/150)
النوع الأول من أنواع علوم الحديث:
معرفة الصحيح من الحديث.
اعلمْ - علمك الله وإياي - أن الحديثَ عند أهلِه ينقسمُ: إلى صحيح، وحسَن، وضعيف *.
أما الحديثُ الصحيح فهو: الحديثُ المسنَدُ الذي يتصل إسنادهُ بنقل ِ العدْل ِ الضابِط عن العَدْل ِ الضابط، إلى منتهاه؛ ولا يكون شاذًّا ولا مُعَلَّلا.
وفي هذه الأوصاف، احترازٌ عن المرسَل والمنقطع والمعضَل والشاذ، وما فيه عِلَّةٌ قادحة، وما في راويه نوعُ جرح ٍ، وهذه أنواع يأتي ذكرهُه إن شاء الله تبارك وتعالى.
فهذا هو الحديثُ الذي يُحكَمُ له بالصحة، بلا خلافٍ بين أهل ِ الحديث.
___________________________________
* محاسن الاصطلاح:
" فائدة: اصطلاح المحدِّثين في التسمية يزيدُ على ذلك كما سبق. وفي نفس الأمر، ليس إلا صحيحٌ ومقابِلُه. ولعل المراد بالانقسام المذكور، الاصطلاحيُّ بالنسبة إلى المراتب في الاحتجاج وعدمه في الجملة، وما يأتي بعد ذلك تفصيلٌ لهذه الجملة، وسيأتي في نوع " الحسَن " أن طائفة درجَتْه مع " الصحيح " وذِكرُ العدالةِ والضبطِ يُخرِجُه. انتهت " 1 / ظهر.
__________
- وانظر (التقييد والإِيضاح): 18 - 19 من المطبوعة ونخبة الفكر: 19، وتوضيح تنقيح معاني الآثار: 1/ 18 وننبه هنا إلى أن متن المقدمة مشحون بأعلام الرواة والمحدثين والحفاظ والنظار النقاد والمصنفين في علوم الحديث. ومعه ومتن المحاسن بأعلامه، بحيث تضيق الهوامش عن التعريف بالأعلام، فعرفنا بهم في فهرس الأعلام، إلا ما تدعو الضرورة إلى التعريف به على هامش المتن.(1/151)
وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجودِ هذه الأوصافِ فيه، أو لاختلافهم في اشتراطِ بعض ِ هذه الأوصاف (1)، كما في المرسل *
ومتى قالوا: " هذا حديث صحيح " فمعناه أنه اتصل سَنَدُه، مع سائر الأوصافِ المذكورة.
وليس من شَرْطِه أن يكونَ مقطوعًا به في نفس ِ الأمر، إذ منه ما ينفردُ بروايتهِ عَدْلٌ واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول.
وكذلك إذا قالوا في حديث: " إنه غير صحيح " فليس ذلك قطعًا بأنه كذِبٌ في نفس ِ الأمر، إذ قد يكون صِدْقًا في نفس الأمر، وإنما المرادُ به أنه لم يصح إسناده على الشرطِ المذكور. والله أعلم.
فوائد مهمة:
إحداها: الصحيحُ يتنوع إلى متَّفَقٍ عليه ومختلَفٍ فيه، كما سبق ذكره. ويتنوعُ إلى مشهورٍ وغريب، وبين ذلك. ثم إن درجات الصحيح تتفاوتُ في القوة بحسَبِ تمكُّنِ الحديث من الصفات المذكورةِ التي تنبني الصحةُ عليها، وتنقسم باعتبار ذلك إلى أقسام يستعصي إحصاؤها على العادِّ الحاصِر. ولهذا نرى الإمساكَ عن الحُكم لإِسناد أو حديثٍ بأنه الأصَحُّ على الإِطلاق (2). على أن جماعةً من أئمة الحديثِ خاضوا غمرة ذلك، فاضطربت أقوالُهم:
__________
(1) انظر تقييد العراقي: 21 وتبصرته: 1/ 15.
(2) بهامش (ز) حاشية: [قال الشيخ علاء الدين التركماني في مختصره لهذا الكتاب: والمختار ألا يطلق في إسناد أنه أصح الأسانيد].
___________________________________
* المحاسن: في تضمين البلقيني: كما في المرسل والشاذ يليه:
" فائدة وزيادة: لا يقال: لم يقل أحدٌ إن الشاذَّ صحيح: لما سنبين في موضعه.
ومن يقبل المرسلَ لا يشترط ما يخرجه؛ ومن لا يقبله من الفقهاء والأصوليين، لا يعتبر كثيرًا من العلل التي يعتبرها المحدِّث، بل القادحُ عنده ما نافَى العدالة أو الضبط، فتعريفُ الصحيح عنده: ما اتصل إسنادُه بنقل العدل ِ الضابط. انتهى " 1 / ظ.(1/152)
فروينا عن " إسحقَ بن راهَويه " أنه قال: " أصح الأسانيدِ كلِّها: الزهريُّ عن سالم عن أبيه (1) " وروينا نحوَه عن " أحمدَ بنِ حنبل " وروينا عن " عمرو بن علي الفلاس " أنه قال: " أصح الأسانيد: محمد بن سيرين عن عَبِيدةَ (2) عن علي "، وروينا نحوَه عن " علي بن المديني " ورُوِي ذلك عن غيرِهما.
ثم منهم من غَيَّرَ الراوي عن " محمد " (3) وجعله " أيوبَ السَّخْتِياني " (4)، ومنهم من جعله " ابنَ عون " (5).
وفيما نرويه عن " يحيى بن معين " أنه قال: " أجودُها: الأعمشُ (6) عن إبراهيمَ عن علقمة، عن عبدالله *. وروينا عن " أبي بكر بنِ أبي شيبة " أنه قال:
__________
(1) سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(2) بهامش (ز): [بكسر الباء وإسكان الياء: وهو عبيدة بن عمرو السلماني، يروي عن علي بن أبي طالب. قال أبو علي في تقييد المهمل: السلماني، بإسكان اللام، بطن من مراد. وأهل الحديث يروونه بفتح اللام - تمت].
في (تقييد المهمل وتمييز المشكل) لأبي علي الغساني: " .. وقال علي ابن المديني: هو عبيدة بن قيس بن مسلم السلماني حي من مراد. ويقال: سلمان في قضاعة، هكذا قال محمد بن حبيب في نسبه: سلماني، بإسكان اللام. وأهل الحديث يروونه بفتح اللام، وعبيدة هذا: من أصحاب علي وابن مسعود رويا له " يعني الشيخين. (110 أ مصورة معهد المخطوطات بالقاهرة) مع مختلف أنساب القبائل ومؤتلفها لابن حبيب: باب سلمان.
(3) محمد بن سيرين. والذي غيَّر الراوي عنه بعبيدة بن عمرو السلْماني عن علي - رضي الله عنه - هو ابن المديني عند الحاكم. وقابل على العراقي في (التبصرة 1/ 28).
(4) على هامش (ز): [نسبة إلى بيع الجلود] وفي (اللباب 1/ 108 بيروت) والضبط منه: نسبة إلى عمل السّختيان وبيعه، هو الجلود الضانية ليست بأدم.
(5) على هامش (ز): [ابن عون، اسمه عبدالله] أبو عون البصري الحافظ (ع).
(6) الأعمش، سليمان بن مهران الكاهلي، أبو محمد الكوفي، عن إبراهيم ين يزيد النخعي، أبي عمران الكوفي. عن علقمة بن قيس النخعي، أبي شبل الكوفي - والثلاثة حديثهم عند الستة - عن عبدالله بن مسعود الهذلي: أبي عبدالرحمن الكوفي رضي الله عنهم.
___________________________________
* محاسن الاصطلاح:
" زيادة: في كتاب الحاكم: قال إنسانٌ ليحيى لما قال ذلك: الأعمشُ مثلُ الزهري؟ فقال: برئتُ من الأعمش أن يكون مثلَ الزهري يرى العرضَ والإجازةَ، وكان يعمل لبني أمية. وذكر " الأعمش " فمدحه وقال: فقير صبور مجانب للسطان. وذكر علمَه بالقرآن وورَعَه. =(1/153)
" أصح (1) الأسانيد كلها: الزهريُّ، عن عليِّ بن الحسين، عن أبيه، عن علي ".
وروينا عن " أبي عبدِالله البخاري " صاحب (الصحيح) أنه قال: " أصحُّ الأسانيد كلها: مالكٌ عن نافع عن ابنِ عمر ".
وبَنَى " الإِمامُ أبو منصور عبدالقاهر بن طاهر التميمي " على ذلك، أن أجلَّ الأسانيد: " الشافعيُّ عن مالكٍ، عن نافع، عن ابنِ عمر. واحتج بإجماع أصحابِ الحديثِ
__________
(1) انتهى السقط من (غ)
___________________________________
= وما سبق عن " ابن المديني " ذكره " الحاكم " عنه بصيغة " أجود الأسانيد " وهو الذي غَيَّر " ابنَ عون، عن " ابن سيرين ". وما سبق عن " أحمد بن حنبل " نقله عنه بصيغة: " أجود " × وكان ذلك دائرًا بين أحمد ويحيى وابن المديني في جماعةٍ معهم. وقال رجل منهم لم يعينه: " أجود الأسانيد شعبة، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن عامر أخي أم سلمة، عنها (1). ومن ذلك يُعلم أن الجودةَ يعبر بها عن الصحة. وفي (جامع الترمذي، في الطب): هذا حديث جيد حسن ".
- قوبل على الحاكم في (معرفة علوم الحديث): 54، والترمذي في جامعه، ك الطب، باب ما جاء في الحِمْيَة.
* المحاسن:
" زيادة: أسند عبدالغني في (الكمال) - في ترجمة الزهري - إلى النسائي أنه قال: أحسن أسانيد يُرْوَى عن رسول ِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أربعة: الزهريُّ عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي، والزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن عمر، وأيوبُ عن محمد بن سيرين عن عَبِيدة عن علي، ومنصورُ عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود - انتهت " 2 / و.
- منصور بن المعتمر السلمي: أبو عتاب الكوفي (ع) عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن علقمة بن قيس النخعي.(1/154)
على أنه لم يكن في الرواة عن مالكٍ أجلُّ من الشافعي * رضي الله عنهم أجمعين. والله أعلم.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: لا يقال: القعنبي وابنُ وهب لهما القُعْدُدُ في الرواية عن مالك؛ لأنا نقول: وأين تقع رتبتهما من رتبة الإِمام الشافعي؟ وأبو حنيفة وإن رَوى عن مالكٍ كما ذكره الدارقُطْني، فلم تشتهر روايتُه عنه كاشتهارِ رواية الشافعي، رضي الله عنهم أجمعين.
ولا يقال فيما سبق من القول: في الترجيح نظرٌ؛ لأن ذلك إنما هو بالنسبة إلى صحة السند إلى ذلك الصحابي الذي ذُكر، لا إلى صحة الأسانيد المطلقة كما أوضحه الحاكم؛ لأنا نقول: " الحاكم " نقل تلك الأمورَ كلها كما تقدم. ونقل عن " البخاري " بعد قوله: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر: " أن أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ونقل " ابنُ بطة " (1) عن بعض ِ شيوخه عن سليمانَ بن دواد: أصح الأسانيد كلها: يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ".
واختار " الحاكم " بعد حكاية ذلك تخصيصَ الترجيح بمجال ٍ فقال: أصحُّ أسانيد أهل ِ البيت: جعفر بن محمد (2) عن أبيه عن جَدِّه عن عليّ: إذا كان الراوي عن جعفر ثقة. وأصح أسانيد الصدِّيق: إسماعيلُ بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر، وأصح أسانيد عمر بن الخطاب: الزهري عن سالم عن أبيه عن جده، وأصح أسانيد المكثرين من الصحابة، لأبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ولعبدالله بن عمر: مالكٌ عن نافع عنه، ولعائشة: عبيدُالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب. عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عنها - وأسند إلى ابن معين =
__________
(1) في علوم الحاكم: " أخبرنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن بطة الأصبهاني عن بعض شيوخه عن سليمان بن داود ... " ص 54.
(2) جعفر بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
واستشكل الوزير الصنعاني في كونه أصح أسانيد أهل البيت. انظر بيانه والانفصال عنه في (توضيح التنقيح 1/ 33 - 34).(1/155)
............................................................................................
___________________________________
= في هذا السند ترجمة مشبكة بالذهب (1) - ومن أصح أسانيدها أيضًا: الزهريُّ عن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشي عنها. وأصح أسانيد ابن مسعود: الثوريُّ عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود، وأصح أسانيد أنَس: مالكٌ عن الزهري عن أنس. وأصح أسانيد المكيين: ابنُ عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر. وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة. وأثبت أسانيد المصريين: الليثُ بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن عُقبةَ بنِ عامر [الجهني]. وأثبتُ أسانيدِ الشاميين: عبدُالرحمن بن عمرو الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة. وأثبتُ أسانيدِ الخراسانيين: الحسين بن واقد عن عبدالله بن بُرَيْدةَ عن أبيه ".
وهذا الذي اختاره " الحاكم " لا يرتد به ما تقدم من النقل عمن أطلق. ولم يذكر الحاكم الأصحَّ عن " عليٍّ " بالنسبة إلى الكوفة. وقال عبدُالله بن أحمد، وذكر حديثًا رواه عن أبيه عن يحيى بن معين عن سفيان عن سليمان التيمي عن الحارث بن سُوَيد، فقال: قال أبي: ليس بالكوفة عن " علي " أصحُّ من هذا. وقال " أبو حاتم الرازي " في حديثِ مُسَدَّد، عن يحيى بن سعيد، عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر: كأنها الدنانيرُ. ثم قال: كأنك تسمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. " ثم:
" زيادة " مقابلة لما تقدم: قال " الحاكم " أوهى (2) أسانيدِ أهل البيت: عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الحارث الأعور عن علي (3). وأوهى أسانيد الصديق: صدقة =
__________
(1) قال الحاكم: سمعت أبا بكر أحمد بن سلمان الفقيه يقول: سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيدالله بن عمر - بن حفص - عن القاسم عن عائشة: ترجمة مشبكة بالذهب. " معرفة علوم الحديث: 55.
(2) ما نقله البلقيني عن الحاكم هنا عن أوهى الأسانيد، منقول على طرة هامش (غ) أو النوع الثالث - معرفة الضعيف.
(3) في أوهى أسانيد أهل البيت:
" عمرو بن شمر، الكوفي " ضعفاء البخاري، والنسائي، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، والضعفاء والمتروكون للدارقطني، وميزان الاعتدال للذهبي، ولسانه لابن حجر.(1/156)
............................................................................................
___________________________________
= ابن موسى الدقيقي عن فرقد السَّبخي عن مُرَّةَ الطيب عن أبي بكر الصديق (1). وأوهى أسانيد العُمريين: محمد بن القاسم بن عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر عن أبيه عن جدِّه، فإن محمدًا والقاسم وعبدالله لا يُحتج بهم (2). وأوهى أسانيد أبي هريرة (3): السَّريُّ بن إسماعيل، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه عن أبي هريرة. وأوهى أسانيدِ عائشة (4): نسخة عند البصريين عن الحارث بن شِبْل، عن أم النعمان الكندية، عن عائشة. وأوهى أسانيدِ ابن مسعود (5): شريكٌ، عن أبي فزارة، عن أبي زيد عن عبدالله - وليس بأبي فَزارة راشدِين كَيْسانَ، فذاك كوفيٌّ ثقة - وأوهى أسانيد =
__________
= " جابر، بن يزيد الجعفي ": ضعفاء البخاري، وتاريخه. وضعفاء النسائي، والدارقطني، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم، وتهذيب التهذيب (د ت ق).
" الحارث بن عبدالله الأعور " أبو زهير الكوفي ": ضعفاء البخاري، وكُنَى مسلم، وضعفاء النسائي، والدارقطني، والميزان وتهذيب التهذيب (4).
(1) " صدقة بن موسى الدقيقي ": ضعفاء النسائي، والجرح والتعديل والميزان، وتهذيب التهذيب. (بخ د ت) عن " فرقد بن يعقوب السبخي " أبي يعقوب البصري: ضعفاء البخاري، وكنى مسلم وضعفاء النسائي، والدارقطني، والجرح والتعديل، والميزان وتهذيب التهذيب (ت ق). عن " مرة الطيب " بن شراحيل الهمداني التابعي وهو موثق (ع) عن أبي بكر رضي الله عنه.
(2) " محمد بن القاسم بن عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم " علوم الحاكم: 57.
وأبوه " القاسم ": ضعفاء البخاري، والنسائي، والجرح والتعديل، والميزان، وتهذيب التهذيب (ق).
(3) " السري بن إسماعيل " الهمداني الكوفي (ق): ضعفاء البخاري، وتاريخه، ضعفاء النسائي، والدارقطني، الجرح والتعديل، وتهذيب التهذيب (ق). عن " داود بن يزيد الأودي " أبي يزيد الكوفي الأعرج: تهذيب التهذيب (بخ ت ق).
أبوه " يزيد بن عبدالرحمن بن الأسود " أبو داود الكوفي: تهذيب التهذيب (بخ ت ق).
(4) " الحارث بن شبْل " البصري: ضعفاء البخاري، والدارقطني، والجرح والتعديل، والميزان، ولسانه. عن " أم النعمان الأنصارية " التابعية.
(5) شريك، عن " أبي فزارة العنزي "، أدخله البخاري في الضعفاء، يروي عن " أبي زيد " المخزومي مولاهم روى عن ابن مسعود، رضي الله عنهم. ولا راوي لأبي زيد هذا، إلا أبو فزارة. انظرهما في كُنى الجرح والتعديل (ت 2085، 1721) وأبو زيد في تهذيب التهذيب (د).(1/157)
............................................................................................
___________________________________
= أنس: داود بن المُحَبَّر بن قحذم (1)، عن أبيه، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس. وأوهى أسانيد المكيين (2): عبدُالله بن ميمون القداح عن شهاب بن خراش عن إبراهيم بن يزيد الخُوزي، عن عكرمة عن ابن عباس - ولعله أراد: إلى الخوزي؛ فالبخاري يحتج بِعِكْرمةَ - وأوهى أسانيد اليمانيين (3): حفصُ بن عمر العَدني عن الحكَم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس - في هذا أيضًا ما تقدم، وهو يؤيده - وأوهى أسانيد المصريين (4): أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بنِ سعد عن أبيه، عن جَدِّه عن قُرَّةَ بن عبدالرحمن، عن كل من روى عنه، فإنها نسخة كبيرة. وأوهى أسانيد الشاميين (5): محمد بن قيس المصلوب عن عبيدالله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن =
__________
(1) " داود بن المحبر بن قحذم " الثقفي البكراوي، أبو سليمان البصري نزيل بغداد: ضعفاء البخاري، والتاريخ، والجرح والتعديل، والدارقطني، والميزان، وتهذيب التهذيب (قدق). عن أبيه " المحبر ": (الجرح والتعديل، باب محبر) عن " أبان بن أبي عياش فيروز " أبي إسماعيل البصري: تهذيب التهذيب (خ م د س).
(2) " عبدالله بن ميمون بن داود، القداح. المخزومي، المكي ": ضعفاء البخاري والجرح والتعديل وتهذيب (ت).
" شهاب بن خراش " بن حوشب الشيباني الحوشبي، أبو السلط الكوفي ثم الواسطي: تهذيب (د).
" إبراهيم بن يزيد الخُوزي " أبو إسماعيل المكي: ضعفاء البخاري، والتاريخ، وضعفاء النسائي، والدارقطني، والجرح والتعديل، وتهذيب التهذيب (ت س).
" عكرمة " البربري، مولى ابن عباس، من حفاظ التابعين وعلمائهم بالتفسير (ع).
(3) " حفص بن عمر " بن ميمون العَدني الصنعاني أبو إسماعيل الفَرْخ: ضعفاء البخاري والنسائي والدارقطني، والجرح والتعديل، وتهذيب التهذيب (ق). عن:
" الحكم بن أبان " أبي عيسى العدني، العابد: تهذيب التهذيب (ز 4).
(4) " أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد المصري: الجرح والتعديل.
" الحجاج بن رشدين المصري ": الجرح والتعديل.
" رشدين بن سعد أبو الحجاج المصري ": ضعفاء البخاري والنسائي والدارقطني، والجرح.
" قرة بن عبدالرحمن " المعافري أبو محمد المصري: تهذيب التهذيب (م 4).
(5) " محمد بن سعيد المصلوب " الأسدي الدمشقي، ذكروه بعدة أسماء وكنى، وفي التقريب أنهم قلبوه على مائة وجه ليخفى: ضعفاء البخاري والنسائي، والدارقطني، والجرح والتعديل، وتهذيب التهذيب (ت ق).
عن " عُبَيدالله بن زَحْر " الضمري الكناني: الجرح والتعديل، تهذيب التهذيب (بخ 4) وانظر الضعفاء والمتروكين للدارقطني، الترجمة 327. =(1/158)
الثانية: إذا وجدنا فيما يُروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثًا صحيحَ الإِسناد ولم نجدْه في أحدِ (الصحيحين) ولا منصوصًا على صحته في شيءٍ من مصنفات أئمة الحديث المعتَمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جَزْم ِ الحُكم (1) بصحته *. فقد تعذر في هذه
__________
(1) في (غ) طرة على الهامش: [قال النووي: والأظهر عندي جوازه لمن تمكَّن وقويت معرفته. والله أعلم]. التقريب للنووي: 1/ 143، وقال الزين العراقي: " وما رجحه النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث. فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم لها تصحيحًا " وذكر منهم ثلاثة وعشرين من الحفاظ، من عصر ابن الصلاح إلى طبقة شيوخ العراقي. (التقيد والإِيضاح: 23).
___________________________________
= أبي أمامة. وأوهى أسانيد الخراسانيين (4): عبدالله بن مسلمة بن مليحة، عن نهشل بن سعيد، عن الضحاك، عن ابن عباس. قال " الحاكم النيسابوري ": " وابن مليحة ونهشل نيسابوريان، وإنما ذكرتهما في الجرح من بين سائر كورخراسان: ليُعْلَمَ أني لم أُحابِ في أكثر ما ذكرتُ (2) - انتهت " 2ظ - 3ظ.
* المحاسن:
" فائدة: والمختارُ أن المتبحر في هذا الشأن له ذلك بطرقِه التي تظهر له. وقال النووي: الأظهرُ عندي جوازُه. انتهت " 3 / ظ.
__________
= " علي بن زيد " بن أبي زياد الألهاني، أبو عبدالملك الدمشقي: ضعفاء البخاري والنسائي والدارقطني، والجرح والتعديل، والميزان وتهذيب التهذيب (ت ق).
" القاسم " بن عبدالرحمن الأموي، مولاهم، الشامي أبو عبدالرحمن الدمشقي: تهذيب التهذيب (بخ 4)، مع الجرح والتعديل.
(1) " عبدالله بن مليحة النيسابوري ": المعرفة للحاكم 58. عن:
" نهشل بن سعيد " بن وردان البصري، وسكن خراسان: ضعفاء البخاري والنسائي والدارقطني، الجرح والتعديل، الميزان، تهذيب التهذيب (ق). عن:
" الضحاك " بن مزاحم الهلالي، أبي القاسم الخراساني، التابعي المحدث المفسر: الجرح والتعديل، تهذيب التهذيب (4).
(2) المقابلة على (معرفة علوم الحديث للحاكم) في أوهى الأسانيدِ 56 - 58.(1/159)
الأعصارِ الاستقلالُ بإدراكِ الصحيح بمجردِ اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابِه، عريًا عما يُشترَط في الصحيح من الحفظِ والإِتقان: فآل الأمرُ إذًا في معرفة الصحيح والحسَن، إلى الاعتمادِ على ما نَصَّ عليه أئمةُ الحديثِ في تصانيفهم المعتَمدة المشهورة التي يُؤمن فيها، لشُهرتِها، من التغيير والتحريف؛ وصار معظمُ المقصودِ بما يُتداوَل من الأسانيدِ خارجًا عن ذلك، إبقاءَ سلسلةِ الإِسناد التي خُصَّت بها هذه الأمةُ، زادها الله شرفًا، آمين.
الثالثة: أولُ من صنف الصحيح *: " البخاريُّ أبو عبدالله محمد بن إِسماعيل الجعفي، مولاهم " (1)، وتلاه " أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القُشَيري، من أنفسِهم. و " مسلم " مع أنه أخذ عن " البخاري " واستفاد منه، يشاركه في أكثرِ شيوخِه. وكتاباهما أصَحُّ الكتبِ بعد كتاب الله العزيز (2). وأما ما رُوِّيناه عن " الشافعي " رضي الله عنه من أنه قال: " ما أعلم في الأرض كتابًا في العلم أكثرَ صوابًا من كتابِ مالك " - ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ (3) - فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري ومسلم.
ثم إن كتاب البخاري أصحُّ الكتابين صحيحًا وأكثرهما فوائدَ (4). وأما ما رويناه عن
__________
(1) على هامش (غ): [جد البخاري: " الأحنف " أسلم على يدي " يمان الجعفي " فهو مولى إسلام لا مولى عتاقة، والله أعلم].
(2) [العزيز]: ليست في (ز).
(3) انظره في التمهيد لابن عبدالبر (1/ 76) وترتيب المدارك للقاضي عياض (2/ 70) ومقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 12).
(4) على هامش (غ) طرة: [عن أبي جمرة في مختصره عن البخاري: كان مجاب الدعوة وكان من الصالحين ... وقد قال من لقيته من القضاة ورجال ... الذين كانت لهم الرحلة عن لقوا من السادة المقر لهم بالفضل: إن كتاب البخاري ما كتب في وقت شدة إلا فرجت، ولا ركب في مركب فغرق قط].
ابن أبي جمرة هو عبدالله بن سعد بن أبي جمرة الأندلسي (ت 699 هـ) وانظر مختصره للصحيح (بهجة النفوس) في (كشف الظنون 1/ 551 وسزجين 1/ 153).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: المجرد يُخرج إيرادَ مثل ِ: الموطأ، وتصنيفَ أحمدَ والدارمي. انتهت " 3 / ظ.
__________
- يعني بالمجردِ، للصحيح وحده، وبتصنيف أحمد: مسند الإِمام أحمد.(1/160)
" أبي علي النيسابوري أستاذِ الحاكم أبي عبدالله الحافظ " من أنه قال: " ما تحت أديم السماء كتابٌ أصحَّ من كتابِ مسلم بن الحجاج " (1) فهذا وقولُ من فضَّل من شيوخ المغرب كتابَ مسلم على كتابِ البخاري، إن كان المرادُ به أن كتابَ مسلم يترجَّحُ بأنه لم يمازجْه غير الصحيح - فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديثُ الصحيحُ مسرودًا غيرَ ممزوج بمثل ِ ما في كتابِ البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندْها على الوصفِ المشروطِ في الصحيح - فهذا لا بأس به (2)؛ وليس يلزم منه أن كتابَ مسلم ٍ أرجَحُ، فيما يرجع إلى نفس الصحيح، على كتابِ البخاري. وإن كان المرادُ به أن كتابَ مسلم أصحُّ صحيحًا، فهذا مردودٌ على من يقوله، والله أعلم *.
__________
(1) في (غ) خرم، وما هنا من (ز، ع). وعلى هامش (غ): [لفظ أبي علي بن الحسين بن علي النيسابوري: " ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث " كذا ذكره عنه أبو بكر بن ثابت الخطيب. وقال الشيخ أبو مروان الطُّبْني: كان من شيوخي من يفضّل كتاب مسلم على كتاب البخاري. وقال مسلمة بن قاسم القرطبي في تاريخه: " مسلم جليل القدر ثقة من أئمة المحدثين " وذكر كتابه في الصحيح فقال: " لم يضع أحد مثله " طرة: عياض] في خطبة الإِكمال.
وقول أبي علي النيسابوري / الحسين بن علي بن يزيد، حافظ الوقت: (277 - 349 هـ) ذكره الخطيب. بإسناده إلى أبي علي في ترجمة مسلم بتاريخ بغداد (12/ 101) وأبو بكر ابن نقطة، من طريق الخطيب، في ترجمة مسلم بالتقييد (ل 152) مصورة معهد المخطوطات. والحافظ النسائي بسنده إلى أبي عبدالله ابن منده، قال: سمعت أبا علي بن الحسين بن علي النيسابوري - وما رأيت أحفظ منه - يقول: ما تحت أديم السماء " .. فذكره. (فوائد حديثية 19 / ب).
(2) في برنامج التجيبي 93: كان أبو محمد ابن حزم يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري؛ لأنه ليس في بعد خطبته إلا الحديث السرد ".
نقله ابن حجر في هدي الساري 13، مع أقوال من فضلوا كتاب مسلم، وتعقبه لها في المفاضلة بين الصحيحين، بالفصل الثاني من هدي الساري (9 - 14) وقابل عليه: (فتح المغيث 1/ 28 وتدريب الراوي 1/ 59).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: توضَّح الردُّ أن البخاري اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي ثبت عنده سماعُه من شيخه، ومسلم يكتفي بمجرد المعاصرة. واختص بجمع طريق الحديث في مكان. انتهت " 4 / و.(1/161)
الرابعة: لم يستوعبا الصحيحَ في صحيحيهما، ولا التزما ذلك. فقد رُوِّينا عن " البخاري " أنه قال: " ما أدخلتُ في كتاب الجامع إلا ما صحَّ، وتركتُ من الصِّحاح ِ لحال ِ الطول (1) ". وروينا عن " مسلم " أنه قال: " ليس كلُّ شيء عندي صحيح، وضعتُها هاهنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعتُ هاهنا ما أجمعوا عليه " * (2).
قال الشيخُ رضي الله عنه (3): أراد - والله أعلم -، أنه لم يضع في كتابه إلا الأحاديثَ التي وجد عنده فيها شرائطَ الصحيح المجمَع ِ عليه، وإن لم يظهر اجتماعُها في بعضِها عند بعضهم، ثم إن " أبا عبدالله بن الأخرم الحافظ " قال: " فلما يفوتُ البخاريَّ ومسلمًا مما يثبت من الحديث " - يعني في كتابيهما (4).
ولقائل ٍ أن يقولَ: ليس ذلك بالقليل، فإن (المستدرَك على الصحيحين: للحاكم
__________
(1) شروط الأئمة لابن طاهر 63 / أ، ومقدمة النووي لشرح مسلم 1/ 14 وهدي الساري: 13 وما بعدها.
(2) قاله مسلم في كتاب الصلاة من صحيحه، باب التشهد ح 63: " وسئل عن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صفة الصلاة، فقال: هو صحيح. فسئل: لمَ لمْ تضعه ههنا؟ فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه ".
ونقله ابن طاهر في (شروط الأئمة: 64 / أ).
(3) في (ز، ع): [قلت].
(4) قال النووي: " والصواب أنه لم يفت الأصولَ الخمسة إلا اليسير. أعني: الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي " التقريب 1/ 99.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: نقل الحازمي لفظ البخاري، وفيه: " ما تركتُ من الصحاح أكثرُ " (1) وقيل: أراد مسلم بقوله: " ما أجمعوا عليه " أربعة: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني. انتهت " 4 / و.
__________
(1) الحازمي، أبو بكر (شروط الأئمة)، وانظر توضيح التنقيح (1/ 101) وقال الحافظ ابن حجر: " وأما ما نقل عن أبي علي النيسابوري .. فلم يصرح بكون كتاب مسلم أصح من صحيح البخاري؛ لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من مسلم؛ إذ المنفي هو ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة، ولم ينف المساواة. فإن قيل: العرف يقتضي في قولنا: ما في البلد أعلم من زيد؛ ينفي من يساويه أيضًا، قلنا: لا نسلم ... ".
(النخبة: 61) وانظر معها (فتح المغيث للشمس السخاوي 1/ 27 - 29).(1/162)
أبي عبدالله) كتابٌ كبير يشتمل مما فاتها على شيءٍ كثير، وإن يكن عليه في بعضِه مقالٌ فإنه يصفو له منه صحيحٌ كثير. وقد قال " البخاري ": " أحفظُ مائةَ ألفِ حديثٍ صحيح، ومائتي ألفِ حديثٍ غير صحيح " (1)، وجملةُ ما في كتابه الصحيح، سبعةُ آلافٍ ومائتان وخمسةٌ وسبعون حديثًا، بالأحاديث المكررة (2). وقد قيل إنها بإسقاط المكررة: أربعةُ آلاف حديث (3). إلا أن هذه العبارة قد يندرجُ تحتهَا عندهم، آثارُ الصحابةِ والتابعين. وربما عُدَّ الحديثُ الواحدُ المرويُّ بإسنادين، حديثين *
ثم إن الزيادَة في الصحيح على ما في الكتابين، يتلقاها طالبُها مما اشتملَ عليه أحدُ المصنفاتِ المعتَمدة المشتهرة لأئمة الحديث: " كأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبدالرحمن النسائي، وأبي بكر بن خُزَيمة، وأبي الحسن الدراقطني " وغيرهم، منصوصًا على صحتِه فيها. ولا يكفي ذلك مجردُ كونِه موجودًا في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب النسائي، وسائر مَن جمع في كتابه بين الصحيح وغيره؛ ويكفي مجردُ كونِه موجودًا في كتبِ من اشترط منهم الصحيحَ فيما جمعه، ككتابِ
__________
(1) ذكره محمد بن طاهر المقدسي في (شروط الأئمة) ل 63 / أ بمجموع فوائد حديثية، خطية دار الكتب بالقاهرة.
(2) قيد العراقي: " المراد بهذا العدد، الرواية المشهورة وهي رواية الفربري. فأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمائتي حديث. وأنقص الروايات رواية إبراهيم بن معقل - النسفي - فإنها تنقص عن رواية الفربري بثلثمائة حديث ". التقييد والإِيضاح 27، والتبصرة 1/ 27.
(3) في تقيد العراقي: [لم يذكر الشيخ عدد أحاديث مسلم. فقال النووي: هي بإسقاط المكررة، نحو أربعة آلاف]. مقدمة النووي لشرح مسلم: 1/ 21، والتقريب 1/ 104.
قال العراقي: ولم يذكر عدته بالمكرر، وهو يزيد على عدة كتاب البخاري لكثرة طرقه. وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة، أنه اثنا عشر ألف حديث " (التقييد: 27).
وعلى هامش (ز): [قال المؤلف: وهكذا في صحيح مسلم، نحو أربعة آلاف حديث بإسقاط المكرر، فقد روينا عن أبي موسى الحافظ، قال: كنت عند أبي زرعة الرازي، فجاء مسلم بن الحجاج فسلم عليه، فلما أن قام قلت: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح. فقال: لمن ترك الباقي؟ والله أعلم].
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: ومسلم بإسقاط المكرر، نحو من أربعة آلاف. انتهت " 4 / ظ.(1/163)
ابن خزيمة. وكذلك ما يوجد في الكتبِ المخرَجة على كتابِ البخاري وكتاب مسلم، ككتاب أبي عَوَانةَ الإِسفراييني، وكتابِ أبي بكر الإِسماعيلي، وكتابِ أبي بكر البَرقاني، وغيرها، من تتمةٍ لمحذوفٍ أو زيادة شرح في كثير من أحاديثِ الصحيحين. وكثيرٌ من هذا موجود في (الجمع بين الصحيحين، لأبي عبدالله الحُمَيْدي).
واعتنى " الحاكم أبو عبدالله الحافظُ " بالزيادةِ في عددِ الحديث الصحيح، على ما في الصحيحين، وجمع ذلك في كتابٍ سماه (المستدرَك) أودعه ما ليس في واحدٍ من (الصحيحين) (1) مما رآه على شرطِ الشيخين، قد أخرجا عن رواته في كتابيهما، أو على شرطِ البخاري وحده أو على شرطِ مسلم ٍ وحده (2)، وما أدى اجتهادُه إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرطِ واحدٍ منهما. وهو واسعُ الخَطْوِ في شرط الصحيح، متساهلٌ في القضاء به. فالأَوْلَى أن نتوسطَ في أمرِه، فنقول: ما حكم بصحتِه ولم نجد ذلك في لغيرِه من الأئمة، إن لم يكن من قبيل ِ الصحيح، فهو من قبيل ِ الحَسنِ يُحتَجُّ به ويُعْمَلُ به، إلا أن تظهر فيه عِلَّةٌ توجب ضعفه (3). ويقاربه في حُكْمِه (صحيحُ أبي حاتم بنِ حِبَّانَ البُستي) رحمهم الله أجمعين *. والله أعلم.
__________
(1، 2) انظر تقييد العراقي وإيضاحه: (29 - 30) والتبصرة له: (1/ 66).
(2) على هامش (غ): [قال القاضي بدرالدين: قول ابن الصلاح: " هو من قبيل الحسن " فيه نظر، بل ينبغي أن ينظر في أصله وسنده وسلامته، ثم يحكم عليه بحاله] من الحسن أو الصحة أو الضعف.
قال العراقي: " وهذا هو الصواب، إلا أن الشيخ أبا عمرو - رحمه الله، رأيه أن قد انقطع التصحيح في هذه الأعصار، فلهذا قطع النظر عن الكشف عليه. والله أعلم ". (التقييد والإِيضاح: 30).
وقوبل على (المنهل الروي، للبدر ابن جماعة) مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة، عدد مايو 1975 م.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: ما صحَّحه " الحاكم " ولم يوجد لغيره تصحيحُه، ينبغي أن يُتوقَّفَ فيه، فإن فيه الضعيف والموضوعَ أيضًا. وقد بين ذلك " الحافظُ الذهبي " وجمع جزءًا من الموضوعات تقارب مائةَ حديثٍ، ومع ذلك، ففيه صحيحٌ قد خرَّجه البخاري ومسلم أو أحدُهما، لم يعلم به الحاكم.
و " ابن حِبَّانَ " ليس يقاربه، بل هو أصح منه بكثير. وكذلك صحيحُ ابنِ خزيمة. =(1/164)
الخامسة: الكتب المخرَجة على كتاب البخاري أو كتاب مسلم - رضي الله عنهما - لم يلتزم مصنفوها فيها موافقتها في ألفاظِ الأحاديث بعينها من غير زيادة ونقصان (1)، لكونِهم روَوا تلك الأحاديثَ من غير جهةِ " البخاري، ومسلم "، طلبًا لعُلُوِّ الإِسنادِ،
__________
(1) من المستخرجات عليهما بلفظهما: الجمع بين الصحيحين لعبدالحق، وشرح السنة للبغوي، ومختصر المنذري. (توضيح التنقيح 1/ 76).
___________________________________
= لا يقال: " شرطُ ابنِ حبانَ أن يكون الراوي ثقة غير مدلَّس، سمع مَن فوقه وسمع منه الآخذُ عنه، ولا يكون هناك إرسالٌ ولا انقطاع. وهذا دون شرط " الحاكم " من أن يخرج أحاديث جماعة كمن خرج لهم الشيخان " لأنا نقول: لم يوفِ بشرطِه. وإيرادُ كونِ الرجل لم يخرج له من استدرك عليه، لا يُلتفت إليه , لأنه لم يلتزم العينَ بل الشَّبه، ومع ذلك فلم يوجد ما شَرَطه. ويوجد في (مسند الإِمام أحمد) من الأسانيد والمتون شيء كثير ليس في الصحيحين ولا في السنن أيضًا، وهي أربعة: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجَه. وكذلك يوجد في (مسند البزار، وابن منيع، والمعاجم للطبراني وغيرِه، ومسند أبي يعلى، والأجزاء) مما يتمكن العارفُ بهذا الشأن من الحكم بصحة كثير منه بعد النظر السديد، ويجوز له أن يحكم بالصحة كما تقدم. وقد كان " الحاكم، والخطيبُ البغدادي " يسميان كتابَ الترمذي: الجامعَ الصحيح. وكان " ابنُ السَّكَن، والخطيبُ " يقولان في كتابِ السنن للنسائي: " إنه صحيح، وإن له شرطًا في الرجال أشدَّ من شرطِ مسلم " (1). وكل ذلك فيه تساهل، والأولُ غير مُسَلَّم لما فيه منَ الرجال المجروحين والأحاديثِ الضعيفة. وكان " الحافظ أبو موسى المديني " يقول عن (مسند الإِمام أحمد): إنه صحيح. وذلك مردودٌ، ففيه أحاديثُ كثيرةٌ ضعيفة. وسيأتي شيءٌ من ذلك بزيادةٍ أخرى في ترتيب الاختصار. انتهى " 5 / و.
__________
(1) قال ابن طاهر: سألت الإِمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجل من الرواة وثقه. فقلت: إن أبا عبدالرحمن النسائي ضعفه. فقال: يا بني، إن لأبي عبدالرحمن في الرجال شرطًا أشد من شرط البخاري ومسلم. (شروط الأئمة 67 / أ ب) وانظر أبا القاسم الزنجاني الحافظ القدوة، نزيل الحرم، في تذكرة الحفاظ 3/ 1174 وفي وفيات سنة 471 هـ بالعبر.
وانظر تقييد العراقي (30) وتبصرته (1/ 55) وتدريب الراوي (1/ 109).(1/165)
فحصل فيها بعضُ التفاوتِ في الألْفاظ. وهكذا ما أخرجه المؤلفون في تصانيفهم المستقلة: كالسُّنَنِ الكبير للبيهقي، وشرح السنة لأبي محمد البغوي، وغيرهما، مما قالوا فيه: " أخرجه البخاري أو مسلم " فلا يستفاد بذلك أكثر من أن البخاري أو مسلما أخرج أصلَ ذلك الحديث، مع احتمال ِ أن يكون بينهما تفاوتٌ في اللفظ. وربما كان تفاوتًا في بعض ِ المعنى، فقد وجدتُ في ذلك ما فيه بعضُ التفاوت من حيث المعنى.
وإذا كان الأمرُ في ذلك على هذا؛ فليس لك أن تنقلَ حديثًا منهما وتقول: " هو على الوجه في كتابِ البخاري أو كتابِ مسلم " إلا أن تقابلَ لفظَه، أو يكونَ الذي خرَّجه قد قال: " أخرجه البخاري بهذا اللفظ " بخلافِ الكتب المختصرة مِن (الصحيحين) فإن مصنفيها نقلوا فيها ألفاظَ الصحيحين أو أحدِهما. غير أن (الجمع بين الصحيحين، للحميدي الأندلسي) منها، يشتمل على زيادةِ تتماتٍ لبعض الحديثِ، كما قدمناه ذكره، فربما نَقلَ من لا يميز بعضَ ما يجدُه فيه، عن الصحيحين أو أحدِهما، وهو مخطئ لكونِه من تلك الزيادات التي لا وجودَ لها في واحدٍ من الصحيحين (1).
ثم إن التخاريجَ المذكورةَ على الكتابين يُستفاد منها فائدتان: (2)
إحداهما: عُلوُّ الإِسناد.
والثانيةُ: الزيادةُ في قدر الصحيح لما يقع فيها من ألفاظٍ زائدة وتتماتٍ في بعض ِ الأحاديث تثبت صحتُها بهذه التخاريج، لأنها واردةٌ بالأسانيد الثابتة في الصحيحين
__________
(1) نبه الصنعاني، في (التوضيح) على أن أبا عبدالله الحميدي في كتابه بيّن اصطلاحه في هذه الزيادات، ووجه زيادتها. وأن الحافظ ابن حجر حققها فوجدها على ما بيَّن في مصطلحه (توضيح التنقيح 1/ 79).
(2) على هامش (غ): [قال الشيخ محيي الدين: فائدة ثالثة، وهي زيادة قوة الحديث]. وبمزيد تفصيل على هامش (ز): [وذكر النووي في شرح مسلم: يستفاد ثلاث فوائد: علو الإِسناد، وزيادة قوة الحديث بكثرة طرقه، وزيادة ألفاظ صحيحة مفيدة. قال: ثم إنهم لم يلتزموا موافقة اللفظ، لكونهم يروونها بأسانيد أخرى فيقع في بعضها تفاوت، والله أعلم]. مقدمة النووي لشرح مسلم 1/ 26.
وقال العراقي: " ولو قال إن هاتين الفائدتين من فائدة المستخرجات، كان أحسن. فإن فيها غير هاتين الفائدتين، فمن ذلك تكثير طرق الحديث ليرجح بها عند التعارض " التقييد: 32 والتبصرة 1/ 60.
وأضاف الصنعاني سبع فوائد للمستخرجات " لم يتعرض أحد لذكرها " فبلغ بها عشر فوائد (توضيح التنقيح 1/ 74).
ثم قال: " وليست الزيادات على ما في الصحيحين، كهما " (1/ 77).(1/166)
أو أحدِهما، وخارجةٌ من ذلك المخرج الثابت، والله أعلم (1) ز
السادسة: ما أسنده " البخاري ومسلم " رحمهما الله، في كتابيهما بالإِسنادِ المتصل، فذلك الذي حكما بصحتِه بلا إِشكال ٍ. وأما المعلَّق (2) الذي حُذِف من مبتدإ إسنادِه واحدٌ أو أكثر - وأغلبُ ما وقع ذلك في كتاب البخاري، وهو في كتاب [5 / و] مسلم (3) قليل جدًّا - ففي بعضِه نظَر. وينبغي أن نقولَ: ما كان من ذلك ونحوِه بلفظ فيه جزمٌ وحكمٌ به على من علَّقه عنه، فقد حكم بصحتِه عنه. مثالُه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، قال ابن عباس كذا، قال مجاهد كذا (4)، قال عفان كذا، قال القعنبي كذا، روى أبو هريرة كذا وكذا، وما أشبه ذلك من العبارات، فكل ذلك حُكم منه على من ذكره عنه، بأنه قد قال ذلك ورواه، فلن يستجيز إطلاقَ ذلك إلا إذا صحَّ عنده ذلك عنه. ثم إذا كان الذي علَّق الحديثَ عنه دون الصحابةِ، فالحكمُ بصحته يتوقفُ على اتصال ِ الإِسنادِ بينه وبين الصحابي.
وأما ما لم يكن في لفظه جَزْمٌ وحُكم، مثل: رُوِيَ عن رسول ِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو: رُوِيَ عن فلانٍ كذا، أو: في البابِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فهذا وما أشبَهه من الألفاظ، ليس في شيءٍ منه حكمٌ بصحةِ ذلك عمن ذكره عنه، لأن مثلَ هذه العبارات تُستعمَل في الحديثِ الضعيفِ أيضًا. ومع ذلك، فإيرادُه له في أثناء الصحيح ِ، مُشعِرٌ بصحةِ أصلِه إشعارًا يؤنَسُ به ويُركَن إليه، والله أعلم.
ثم إن ما يتقاعدُ من ذلك عن شرطِ الصحيح قليل، يوجد في (كتاب البخاري) في مواضعَ من تراجم الأبوابِ دون مقاصدِ الكتابِ وموضوعِه الذي يُشعِر به اسمُه الذي سماه به وهو: (الجامع المسنَدُ الصحيح المختَصر من أمورِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسُنَنِه وأيامِه)
__________
(1) " بلغ السماع بقراءتي عليه " ابن الفاسي على هامش (غ).
(2) في (ز، ع): [وهو الذي].
(3) يبدأ من هنا سقط في (غ) ينتهي عند قوله [تلقته الأمة بالقبول] في المسألة السابعة. وما هنا من (ز) مقابلا على متن ابن الصلاح بالتقييد والإِيضاح.
وانظر معلقات البخاري في (هدي الساري: الفصل الرابع) وهي مرتبة على الأبواب. وانظر بيان المعلق القليل في كتاب مسلم، في مقدمة النووي لشرحه (1/ 16) وتقييد العراقي: 32 وتوضيح التنقيح (1/ 136).
(4) انظر: تقييد العراقي: (33).(1/167)
وإلى الخصوص الذي بيَّناه يرجع مطلَقُ قوله: " ما أدخلتُ في كتاب الجامع إلا ما صحَّ " وكذلك مطلَقُ قول ِ " الحافظ أبي نصر الوائلي السَّجزي ": " أجمع أهلُ العلم، الفقهاء، وغيرهم، أن رجلا لو حلَف بالطلاقِ أن جميعَ ما في كتابِ البخاري مما رُوِيَ عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد صحَّ عنه، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاله لا شكَّ فيه: لا يحنث، والمرأةُ بحالِها في حبالته (1) ". وكذلك ما ذكره " أبو عبدالله الحميدي " في كتابه (الجمع بين الصحيحين) من قوله: " لم نجد من الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مَن أفصح لنا في جميع ما جمعَه بالصحةِ، إلا هذين الإِمامين ".
__________
(1) على هامش (ز): [وكذا صحيح مسلم، قال إِمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق زوجته أن ما في كتاب البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ألزمته الطلاق ولا حنثته؛ لإجماع المسلمين على صحتهما. ذكره النووي عنه في (شرح مسلم). والله أعلم]- مقدمة النووي 1/ 16 - 19.
وانظر معه تخريج العلماء لقول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، الفقيه الشافعي الأصولي، في شروط الأئمة لابن طاهر (فوائد حديثية (19 / ب) وتوضيح التنقيح 1/ 99.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: فقد قال في باب قول الله - عز وجل -: " وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ": وقال الماجِشُون عن عبدالله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة: " فأكون أول من بعث ". وقد أخرجه في أحاديثِ الأنبياء عن ابنِ الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة، وكذلك ما رواه مسلم والنسائي، وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما يعرف هذا عن الأعرج - لا عن أبي سلمة -.
لأنا نقول: البخاري حافظ لا يُعترض عليه بمجرد أنا لم نجد ذلك - انتهت " 6 / و.
__________
- انظر (باب: وكان عرشه على الماء) في كتاب التفسير من صحيح البخاري (فتح الباري 8/ 244) وكتاب بدء الخلق منه (فتح الباري 6/ 187) وكتاب التوحيد (فتح الباري 13/ 323).
وقابل على حديث أبي هريرة في كتاب الفضائل، باب تفضيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق، من صحيح مسلم (ح 3/ 2278).
وقول أبي مسعود الدمشقي - الحافظ إبراهيم بن محمد بن عبيد، ت 400 هـ - في كتاب (أطراف الصحيحين): ابن حجر في فتح الباري 13/ 323.(1/168)
فإنما المرادُ بكلِّ ذلك مقاصدُ الكتاب وموضوعُه وفنونُ الأبواب، دون التراجم ونحوها، لأن في بعضِها ما ليس من ذلك قطعًا، مثل قول ِ " البخاري ": باب ما يذكر في الفخذ: ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش (1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الفخِذُ عورة (2) ". وقولِه في أول بابٍ من أبوابِ الغسل: وقالَ بَهْزٌ بنُ حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الله أحقُّ أن يُستحيا منه (3) " فهذا قطعًا ليس من شرطِه، ولذلك لم يورده " الحميديُّ " في جمعِه بين الصحيحين، فاعلم ذلك فإنه مهمٌ خافٍ، والله أعلم *.
السابعة: وإذ انتهى الأمرُ في معرفةِ الصحيح إلى ما خرَّجه الأئمةُ في تصانيفهم الكافلة بِبيان ذلك كما سبق ذكرُه، فالحاجةُ ماسَّةٌ إلى التنبيهِ على أقسامه باعتبارِ ذلك:
فأولُها: صحيحٌ أخرجه البخاري وسلم جميعًا (4).
الثاني: صحيحٌ انفرد به البخاري، أي: عن مسلم (5).
__________
(1) على هامش (ز) تراجم موجزة عن ابن عبدالبر، لجرهد الأسلمي: (أفراد الجيم 1/ 270 - 355) ومحمد بن عبدالله، بن جحش الأسدي. (الاستيعاب) باب محمد.
(2) كتاب الصلاة، باب ماء جاء في الفخذ (مع فتح الباري 1/ 235) وانظر تقييد العراقي: 40.
(3) صحيح البخاري، ك الطهارة، باب من اغتسل عريانًأ وحده ومن تستر، والتستر أولى (مع فتح الباري 1/ 266).
وبهز بن حكيم، بن " معاوية بن حيدة القشيري، الصاحب ".
(4، 5) " انضمام مسلم إلى البخاري، لم يأت بزيادة تُقَوِّي رواية البخاري، بل من حيث صار له راويان فيما اتفقا على إخراجه، إسناده ومتنه معاً ...
" وليس ما اتفقا عليه سواء، بل مراتب، منه متواتر ومشهور ... وقد ينفرد البخاري بحديث له مخرج واحد، وينفرد مسلم بما تواتر. وإذنْ فليُحمَل ذلك على الأغلب ". توضيح التنقيح (1/ 87 - 88).
___________________________________
* المحاسن:
فائدة: لا يقال: فقد ذكر أشياء بصيغة: (ويُذكَر) ثم يخرجها في موضع آخر صححه. وفي موضع: (ورُوِيَ) مع أن بعضه يكون صحيحًا؛ لأنا نقول: لا يلزم من قولنا: إنه لا يكون صحيحًا، أن يكون حُكمًا بالضعف، بل المراد: لا دلالة على الصحة بمجرد هذا اللفظ، وقد يكون صحيحًا. انتهت " 5 / ظ.
- وانظر في (الفخذ عورة) سنن الدارقطني 1/ 224، ومشكل الآثار للطحاوي 2/ 283، وشرح معاني الآثار، له (1/ 473).(1/169)
الثالث: صحيح انفرد به مسلم، أي: عن البخاري.
الرابع: صحيح على شرطِهما، لم يُخرجاه.
الخامس: صحيح على شرطِ البخاري، لم يُخرجه.
السادس: صحيح على شرط مسلم، لم يخرجه (1).
السابع: صحيحٌ عند غيرهما، وليس على شرطِ واحدٍ منهما.
هذه أمهاتُ أقسامِه، وأعلاها الأولُ، وهو الذي يقول فيه أهلُ الحديث كثيرًا: " صحيحٌ متَّفقٌ عليه ". يطلقون ذلك ويعنون به اتفاقَ البخاري ومسلم، لا اتفاقَ الأمة عليه. لكن اتفاقَ الأمة عليه لازمٌ من ذلك وحاصل معه، باتفاقِ الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول.
وهذا القسمُ جميعُه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظريُّ واقع به، خلافًا لقول ِ من نفى ذلك محتجًّا بأنه لا يفيد في أصلِه إلا الظن وإنما تلقته (2) الأمة بالقبول، لأنه يجبُ عليهم العملُ بالظن (3) والظنُّ قد يخطىء.
وقد كنت أميلُ إلى هذا وأحسبه قويًّا. ثم بان لي أن المذهبَ الذي اخترناه أولا هو الصحيح، لأن ظنَّ من هو معصوم من الخطأ لا يخطىء. والأمةُ في إجماعِها معصومةٌ من الخطأ (4). ولهذا كان الإجماعُ المُبْتَنَى على الاجتهاد حُجةٌ مقطوعًا بها. وأكثر إجماعات
__________
(1) بيان شرط البخاري وشرط مسلم، في تبصرة العراقي (1/ 65) نقلا عن (شروط الأئمة) للحازمي، ولابن طاهر المقدسي.
وانظر في الأقسام الثلاثة الأولى: شروط الأئمة لابن طاهر (فوائد حديثية 63 / أ، 65 / ب).
(2) انتهى السقط من (غ).
(3) على هامش (ز): [قال في (البرهان لإِمام الحرمين) ما لفظه: " ثم أطلق الفقهاء القول بأن خبر الآحاد لا يوجب العلم ويوجب العمل، وهذا تساهل منهم. والمقطوع به أنه لا يوجب العلم ولا العمل، فإنه لو ثبت وجوب العمل مقطوعا به، لثبت العلم بوجوب العمل، وهذا يؤدي إلى إفضائه إلى نوع من العلم، وذلك بعيد؛ فإن ما هو مظنون في نفسه يستحيل أن يقتضي علما مبتوتًا. فالعمل بخبر الواحد، مستند إلى الأدلة التي سنقيمها على وجوب العمل عند خبر الواحد، وهذا تناقُش في اللفظ، ولسنا نشك في أن أحدا من المحققين لا ينكر ما ذكرناه "].
قوبل على (البرهان: جـ1 المسألة 538) ط الدوحة 1400 هـ.
(4) في (توضيح التنقيح 1/ 121، 123): الأمة معصومة من الضلالة، والخطأ ليس بضلالة ... =(1/170)
العلماء كذلك. وهذه نُكتةٌ نفيسةٌ نافعة. ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به " البخاري أو مسلمٌ " مندرج في قبيل ما يُقطَعُ بصحتِه لتلقي الأمةِ كلَّ واحدٍ من كتابيهما بالقبول ِ، على الوجهِ الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرفٍ يسيرة تكلم عليها بعضُ أهل النقد من الحُفَّاظِ كـ" الدارقطني " وغيره، وهي معروفة عند أهل ِ هذا الشأن (1) *، والله أعلم.
__________
= ولا نكير في الخلافيات.
وانظر مذهب ابن حزم في الإِجماع، في (المحلى جـ1 الفقرات 96 - 98) ومذهب الزيدية في الإِجماع السكوتي: صورته وحجيته، وهل المعصوم الأمة أو مجتهدوها؟ (التوضيح 1/ 94) وبيان الإِمام الجويني للإِجماع وتصور وقوعه، وحجيته، وكيفية ثبوته، في (البرهان: المسائل 618 - 675) من المجلد الأول.
(1) أوردها الحافظ ابن حجر في (الفصل الثامن، من هدي الساري: في سياق الأحاديث التي انتقدها على الصحيح، حافظ عصره أبو الحسن الدارقطني، وغيره من النقاد، وإيرادها حديثًا حديثًا على سياق الكتاب، وسياق ما حضر من الجواب عن ذلك).
وجملتها في هذا الفصل، عشرة أحاديث ومائة، مع ما على مسلم منها. وقال بعد (الحديث العاشر بعد المائة): " هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون، على خفايا الطرق. وليس كلها أفراد البخاري بل شاركه مسلم في كثير منها كما تراه واضحًا ومرقومًا عليه رقم مسلم (م) وعدة ذلك اثنان وثلاثون حديثًا. فأفراده - أي البخاري - منها ثمانية وسبعون فقط. وليست كلها قادحة، بل أكثرها الجوابُ عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضُها الجوابُ عنه محتمل، واليسيرُ منه في الجواب عنه تعسف كما شرحته مجملاً في أول الفضل وأوضحته مُبَيَّنًا في أثر كل حديث منها " ... (هدي الساري 346 - 383).
ومجمل العدد مما خولف فيه البخاري ومسلم، في شروط الأئمة لابن طاهر (63 / أ فوائد حديثية) وقابل على العدد في هدي الساري، ما نقله السيوطي في (تدريب الراوي 1/ 143) عن ابن حجر.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: قول النووي: وخالف في ذلك المحققون والأكثرون عند عدم التواتر (1). يؤيده أنه نقل عن " الشيخ أبي محمد بن عبدالسلام " أنه عاب هذا =
__________
(1) عبارة النووي: " وخالفه المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر ". التقريب 1/ 131.
وقال ابن حجر في النخبة: " والخبر المُحْتَفُّ بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتف به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول. وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم النظري، من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر ": ص 41.(1/171)
.........................................................................................................................
___________________________________
= القول على ابن الصلاح، وقال إن المعتزلة يرون أن الأمةَ إذا عملتْ بحديثٍ اقتضى ذلك القطعَ بصحتِه، وهو مذهب رديء.
وما قاله ابنُ عبدالسلام والنووي ومَن تبعهما ممنوعُ، فقد نقل بعضُ الحُفَّاظ المتأخرين - رحمهم الله - عن جماعة من الشافعية كالاسفرائيني أبي إسحاق وأبي حامد والقاضي أبي الطيب وتلميذه أبي أبي إسحاق الشيرازي، والسرخسي: من الحنفية، والقاضي عبدالوهاب من المالكية، وجماعةٍ من الحنابلة كأبي يعلى، وأبي الخطاب، وابن حامد، وابن الزاغوني، وأكثر أهل ِ الكلام من الأشعرية وغيرهم، منهم ابن فورك، وأهل الحديث قاطبة. ومذهب السلف عامةً، أنهم يقطعون بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول. وفي (صفوة التصوف لابن طاهر المقدسي)، وذَكَر الصحيحين: أجمع المسلمون على ما أخرج فيهما أو ما كان على شرطهما.
وما سبق من الأقسام في الصحيح، ذكر " الحاكم " (1) تقسيمًا غيره، فقال: الصحيح من الحديث ينقسم إلى عشرة أقسام: خمسة متفق عليها، وخمسة مختلف فيها. فالأول: اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح الذي برويه عن الصحابي المشهور راويان، ثم عن التابعي ثم تابع التابعي، كذلك إلى أحد الشيخين، والأحاديث المروية بهذا الشرط لا تبلع عشرة آلاف. الثاني من الصحيح المتفق عليه: الحديث الصحيح بنقل العدول الضابطين، لكن ليس عن الصحابي فيه إلا راوٍ واحد. الثالث: الذي ليس عن التابعي فيه إلا راوٍ واحد. الرابع: الأفراد الغرائب التي يرويها الثقاتُ العدولُ ينفرد بها ثقةٌ من الثقات وليس لها طرق مخرجة في الكتب. الخامس: أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم، ولم تتواتر الروايةُ عن آبائهم عن أجدادهم إلا عنهم.
" وأما الخمسةُ المختلَف فيها: فالمرسَل صحيحٌ عند جماعة أهل الكوفة. والمدلَّس إذا لم يذكر سماعه، صحيح عند جماعة من الكوفيين. والخبرُ الذي يرويه ثقة من الثقات عن إمام فيسنده ويرويه عنه جماعة من الثقات فيرسلونه، وروايةُ محدِّث =
__________
(1) في (المدخل): شروط الأئمة (64 ب).(1/172)
الثامنة: إذا ظهر بما قدمناه انحصارُ طريقِ معرفةِ الصحيح والحسَنِ، الآنَ، في مراجعة الصحيحين وغيرِهما من الكتب المعتمدة، فسبيلُ من أراد العمل أو الاحتجاج بذلك، إذا كان ممن يسوغ له العملُ بالحديث أو الاحتجاجُ به لذي مذهب، أن يرجعَ إلى أصل قد قابله هو أو ثقةٌ غيرُه بأصول ٍ صحيحة متعددةٍ مروية بروايات متنوعة، ليحصلَ له بذلك - مع اشتهارِ هذه الكتب وبُعدِها عن أن تُقصدَ (1) بالتبديل والتحريف - الثقةُ بصحة ما اتفقتْ عليه تلك الأصولُ. والله أعلم بالصواب (2)
__________
(1) هنا ينتهي المسقط من (ص) ويبدأ ما بعده من صفحة 2 / ب.
(2) بالصواب: من (غ، ز، ع) وليست في (ص).
وعلى هامش (غ)، بلغ السماع، في المجلس السادس.
وانظر النووي في مقدمة شرحه لمسلم (1/ 13 - 14) والعراقي في التقييد 43، والتبصرة (1/ 82).
وقال الصنعاني في (توضيح التنقيح): إن المقابلة على الأصول وجادة. والكلام هنا في النقل لا في العمل، فلهم في العمل شرائط غير شرائط الرواية (1/ 152).
___________________________________
= صحيح السماع صحيح الكتاب معروف السماع ظاهر العدالة، غير أنه لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه، وهذا صحيح عند أكثر أهل الحديث، ولا يحتج به أبو حنيفة ولا مالك. وروايةُ المبتدعة وأهل الأهواء مع الصدق في الرواية، مقبولة عند أكثر المحدثين. انتهت " 6 / و، ظ.(1/173)
النوع الثاني:
معرفة الحسَنِ من الحديث.
روينا عن " أبي سليمانَ الخَطَّابي " - رحمه الله - أنه قال، بعد حكايته أن الحديث عند أهله ينقسم إلى الأقسام الثلاثة التي قدمنا ذكرها: " الحسن: ما عُرِفَ مخرجُه " (1) واشتهر رجاله. قال: وعليه مدارُ أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثرُ العلماء ويستعمله عامةُ الفقهاء * " (2).
وروينا عن " أبي عيسى الترمذي " - رضي الله عنه - أنه يريد بالحسن: " أن لا يكون في إسنادِه [5 / ظ] مَن يُتَّهم بالكذبِ، ولا يكون حديثًا شاذًّا، ويروى من غير وجه نحو ذلك " (3) **
__________
(1) على هامش (ص): [قال المؤلف: المدلس قبل بيانه، والمنقطع ما لم يعرف مخرجه. ففي قوله: ما عرف مخرجه؛ احتراز من ذلك] 2 / ب.
(2) الخطابي (مقدمة معالم السنن: 6).
قال العراقي: وعامة الشيء تطلق بإزاء معظم الشيء، وبإزاء جميعه. والظاهر أن الخطابي أراد الكل. ولو أراد الأكثر ما فرق بين العلماء والفقهاء " التبصرة 1/ 90.
(3) الترمذي، في آخر الجامع (13/ 334 مع العارضة) وبه رد العراقي، ثم السيوطي، على العماد ابن كثير، حيث قال في اختصاره علوم الحديث - ص 38 ط 2 - : " وهذا إن كان روي عن الترمذي ففي أي كتاب قاله وأين إسناده عنه؟ ".
- التقييد 45، وتدريب الراوي 1/ 156.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: معرفة المخرج، يخرج المدلسَ قبل ثباته، والمنقطعَ. لا يقال: إن تم التعريف عند قوله: " رجاله " فالصحيحُ والضعيف كذلك. وإن كان آخرُ الكلام من جملة التعريف والمراد بقولنا: " عليه مدار أكثر الحديث " بالنسبة إلى الأخبار والآثار وتعداد الطرق؛ فإن غالب ذلك لا يبلغ رتبةَ الصحيح المتفق عليه. انتهت " 7 / و.
** " فائدة: هذا قد ذكره الترمذي في (جامعه) في أواخر كتاب العلل منه (1). انتهت " 7 / و.
__________
(1) الجامع: العلل (13/ 334).
ونقل العراقي في شرحه للألفية قول ابن الموَّاق، أبي عبدالله محمد بن أبي بكر المراكشي: أن الترمذي =(1/174)
وقال بعضُ المتأخرين: الحديثُ الذي فيه ضعفٌ قريب محتَمل، هو الحديث الحسَن، ويصلحُ للعمل به (1).
قال الشيخ - رضي الله عنه (2) -: كل ذلك مستبهم لا يشفي الغليلَ، وليس فيما ذكره " الترمذي، والخطابي " ما يفصل الحسنَ من الصحيح. وقد أمعنتُ النظر في ذلك والبحثَ، جامعًا بين أطراف كلامهم، ملاحظًا مواقعَ استعمالهم، فتنقح لي واتضح أن الحديث الحسن قسمان:
أحدهما: الحديثُ الذي لا يخلو رجالُ إسناده من مستورٍ لم تحقق أهليتُه، غير أنه ليس مغفلا كثيرَ الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذبِ في الحديث، أي لم يظهر منه تعمُّدُ الكذبِ في الحديث، ولا سبب آخرُ مُفسق، ويكونُ متنُ الحديث مع ذلك قد عُرِفَ، بأن رُوِيَ مثلُه أو نحوُه من وجهٍِ آخرَ أو أكثرَ، حتى اعتضد بمتابعةِ مَن تابع راويه على مثله. أو بما له من شاهدٍ، وهو ورودُ حديثٍ آخر بنحوه، فخرج بذلك عن أن يكون شاذًّا ومنكراً. وكلام " الترمذي " على هذا القسم يتنزَّل.
__________
(1) " وأراد المصنف ببعض المتأخرين هنا: أبا الفرج ابن الجوزي، فإنه قال هكذا في كتابيه الموضوعات والعلل المتناهية " تقييد العراقي 45.
وقوبل على ابن الجوزي في الموضوعات، المقدمة 1/ 35.
- وعلى هامش (غ) بخط الفاسي، طرة من ش / أصل الشيخ شمس الدين ابن جميل /: [قوله: " فيه ضعف قريب محتمل " ليس مضبوطًا بضابط يتميز به القدر المحتمل من غيره. وإذا اضطرب هذا الوصف لم يحصل التعريف المميز للحقيقة].
(2) في (ص): [قال الشيخ المؤلف رضي الله عنه ونفع به المسلمين] 2 / ب، وفي العراقية: [قلت]. وحيث يعلق ابن الصلاح على ما يورده في المتن من أقوال غيره، يأتي التعليق غالبًا في نسخة (غ) بصيغة: قال الشيخ - أبقاه الله -. وفيما يلي من (ص): قال المملي - رحمه الله -. وفي (ز) والعراقية: قلت. والضمير فيه لابن الصلاح.
وقد اكتفينا في المتن بعبارة (غ). ونستغني بهذا التنبيه، عن ذكر اختلاف النسخ في صيغة هذه العبارة.
___________________________________
= لم يخص الحسَنَ بصفة تميزه عن الصحيح، فلا يكون صحيحًا إلا وهو غير شاذ، ويكون رواته غير متهمين بل ثقات، قال: فظهر من هذا أن الحسَنَ عند أبي عيسى صفة لا تخص هذا القسم بل قد يشركه فيها الصحيح. . فكل صحيح عنده حسن وليس كل حسن عنده صحيحًا ". وعقب العراقي: " قال أبو الفتح اليعمري: بقي أنه اشترط في الحسَنِ أن يروى من وجه آخر، ولم يشترط ذلك في الصحيح ".
(التبصرة 1/ 85) وقوبل على أبي الفتح اليعمري في (شرح الترمذي: ل 7 / ب مخطوط تركيا).(1/175)
القسم الثاني: أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجةَ رجال الصحيح، لكونِه يقصُر عنهم في الحفظ والإِتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال ِ مَنْ يُعَدُّ ما ينفرد به من حديثه منكرًا، ويُعتَبر في كل هذا، مع سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا ولا منكرًا. سلامتُه من أن يكون مُعَلَّلاً.
وعلى القسم الثاني يتنزل كلامُ " الخطابي " (1).
فهذا الذي ذكرناه، جامعٌ لما تفرق في كلام مَن من بلغنا كلامُه في ذلك. وكأن " الترمذي " ذكرَ أحد نوعي الحسن، وذكر " الخطابي " النوع الآخر، مقتصِرًا كلُّ واحدٍ منهما على ما رأى أنه يُشكِل، مُعْرِضًا عما رأى أنه لا يشكل، أو أنه غفل عن البعض وذهل، والله أعلم.
__________
(1) نقل العراقي قول الشيخ تقي الدين - ابن دقيق العيد - في (الاقتراح) بعد أن حكى تعريف ابن الصلاح للحسن: " وعليه فيه [مباحثات] ومناقشات " ونقل بعده عمن لم يسمه من المتأخرين، قال: يَرِدُ على القسم الأول المنقطع والمرسل الذي في رجاله مستور وروى مثله أو نحوه. ويرد على الثاني المرسلُ الذي اشتهر رجاله بما ذكر. قال: فالأحسن أن يقال: الحسن ما في إسناده المتصل مستور، له به شاهد أو مشهود، قاصر عن درجة الإِتقان، وخلا من العلة والشذوذ، والله أعلم. (التقييد: 47).
قابل على (الاقتراح 169 - 170) ط بغداد 1402 - 1982 م.
___________________________________
(*) المحاسن:
" فائدة وزيادة: نوع الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر، كأن شيئًا ينقدح في نفس الحافظ قد تقصر عبارتُه عنه، كما قيل في الاستحسان، فلذلك صعب تعريفُه. ولا يقال: ما نسب إلى الخطابي والترمذي وأحمد، من جهة أن قول الخطابي: ما عرف مخرجُه، كقول الترمذي: ورُوِي نحوُه من غير وجه. وقل الخطابي: " اشتهر رجاله " يعني بالسلامة من وصمة الكذب، هو كقول الترمذي: " ولا يكون في إسناده من يُتَّهم بالكذب ".
لأنا نقول: اشتهار الرجال أخصُّ من قول الترمذي: " ولا يكون في إٍسناده من يتهم بالكذب " لشموله المستور. ولمَّا تَبَاينا تنزَّلا على القسمين السابقين. وبعض المتأخرين - فيما سبق - يُشبه أن يكون ابنَ الجوزي قد ذكره في كتاب (الموضوعات).
وما نسب إلى الترمذي لا يُفْهَمُ من اصطلاحه في (جامعه)، لقوله في كثير =(1/176)
هذا تأصيل ذلك، ونوضحه بتنبيهاتٍ وتفريعات:
أحدُها: الحسَنُ يتقاصَرُ عن الصحيح، في أن الصحيح من شرطه أن يكون جميعُ [6 / و] رواته قد ثبتت عدالتُهم وضبطُهم وإتقانُهم، إما بالنقل الصريح أو بطريق الاستفاضة، على ما سنبينه - إن شاء الله تعالى -. وذلك غير مُشترَطٍ في الحَسن، فإنه يُكتَفى فيه بما سبق ذكره من مجيء الحديث من وجوه، وغيرِ ذلك مما تقدم شرحه. وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية مستبعدٌ، ذكرنا له نصَّ " الشافعي " رضي الله عنه في مراسيل التابعين: أنه يقبل منها " المرسلَ الذي جاء نحوُه مسنَدًا، وكذلك لو وافقه مرسَلٌ آخرُ، أرسله مَن أخذ العلم عن غيرِ رجال ِ التابعي الأول " في كلام ٍ له ذكر فيه وجوها من الاستدلال ِ على صحة مخرج المرسَل ِ، بمجيئه من وجهٍ آخر (1).
وذكرنا له أيضًا ما حكاه الإمامُ " أبو المظفر السمعاني " (2) وغيره عن بعض ِ أصحابِ
__________
(1) الرسالة للإِمام الشافعي: 198 وما بعدها. وقال: " وأما من بعد كبار التابعين، فلا " - 200.
(2) منصور بن محمد بن عبدالجبار، جد أبي سعد عبدالكريم بن محمد بن منصور، والد عبدالرحيم بن عبدالكريم، ويقع لبس، في الكنية والنسب بين أبي المظفر السمعاني منصور (ت 489) وأبي المظفر السمعاني عبدالرحيم بن أبي سعد، المولود سنة 537 هـ وتوفي بعد 617، وهو شيخ ابن الصلاح الذي ينقل في المقدمة عن: السمعاني، وعن أبي المظفر السمعاني، فيتميز المراد منها بصيغة التحمل: رواية وسماعًا من شيخه عبدالكريم، وحكاية وبلاغًا عن الإِمام أبي المظفر منصور، من فحول أهل النظر. ناظر على مذهب أبي حنيفة ثلاثين سنة ثم تحول شافعيًا فاستحكم في المذهب وطار صيته، وله تصانيف في الخلاف والحديث والرجال. (فوائد حديثية 69 أ).
___________________________________
= من الأحاديث: " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه " وإن كان ذكره صريحًا فهو مخالف لما في (جامعه) إِلا أن ينزل قولُه: " لا نعرفه إلا من هذا الوجه " على اللفظ دون اعتبارِ الشاهد للمعنى. ويُطلَق الأحسنُ على الغريب أيضًا، فقد قال النخَعي: " كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُخرِجَ الرجلُ أحسنَ ما عنده "، قال السمعاني: عنى بالأحسن الغريبَ. وربما يطلق الحسَن على المنكر. قيل لشعبة: لأي شيء لا تَروي عن عبدالملك بن أبي سليمان، وهو حَسن الحديث؟ قال: من حسنه فررتُ (1) - انتهى " 7 / و، ظ.
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم عن أبيه بسنده إلى أمية - بن خالد القيسي أبي عبدالله البصري - قال: " قلت لشعبة: تحدث عن فلان وفلان، وتدع عبدالملك بن أبي سليمان؟ قال: تركته. قلت: إنه كان حسن الحديث. فقال: من حسنه فررت ". الجرح والتعديل 1/ 146، أقوال شعبة في الرجال.(1/177)
الشافعي: من أنه: تُقبَلُ روايةُ المستور وإن لم تقبل شهادةُ المستور *.
ولذلك وجهٌ متَّجِه، كيف وأنا لم نكتف في الحديث الحسن بمجردِ رواية المستور، على ما سبق آنفًا؟ والله أعلم.
الثاني: لعل الباحثَ الفَهِمَ يقول: إنا نجد أحاديثَ محكومًأ بضعفها مع كونِها قد رُوِيتْ بأسانيدَ كثيرةٍ من وجوهٍ عديدة، مثل حديث: " الأذنان من الرأس " ونحوه، فهلا جعلتم ذلك وأمثالَه من نوع الحسنِ لأن بعض ذلك عضد بعضًا، كما قلتم في نوع الحسَن على ما سبق آنفًا؟
وجواب ذلك، أنه ليس كلُّ ضعفٍ في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يُزيله ذلك، بأن يكون ضعفُه ناشئًا من ضعفِ حفظ راويه مع كونه من أهل ِ الصدق والديانة. فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجهٍ آخر، عرفنا أنه مما قد حفظه ولم يختل فيه ضبطُه له. وكذلك إذا كان ضعفُه من حيث الإِرسال، زال بنحو ذلك، كما في المرسَل الذي يُرسِلُه إمامٌ حافظ، إذ فيه ضعفٌ قليل، يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعفٌ لا يزول بنحوِ ذلك لقوة الضعف، وتقاعُدِ هذا الجابر عن جَبرِه ومقاومتِه، كالضعفِ الذي ينشأ [6 / ظ] من كونِ الراوي متَّهمًا بالكذب أو كونِ الحديثِ شاذا **
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وقد اكتفى بالمستور في عقد النكاح، مع اعتبارِ العدالة في شاهدين. وهو ما يؤكد ما سبق. انتهت " 8 / و.
** المحاسن:
" فائدة: لا يقال: ينجبر بأن يروى من وجه صحيح؛ لأن الكلامَ فيما إذا رُوِي بطرقٍ كلُّ منها مثلُ الأخرى في ذلك الضعف. والتمثيلُ بحديثِ " الأذنان من الرس ِ " يعني به: في تعدد طرقه التي لو انفرد كلُّ واحدة منها لكانت ضعيفة. وقد قال " البيهقي " عن الطرق المذكورة: رُوِيَ حديثُ: "(1/178)
............................................................................................................................
___________________________________
= كلام ِ البيهقي " حديثُ أبي هريرة ـ وأبي موسى، وأنَس ٍ، وابنِ عمر، وابنِ عباس، وعائشةَ، وسلمة بن قيس الأشجعي. وزاد " ابنُ مَنده " في كتاب (المستخرج): عثمانَ بن عفان، وسمرة بن جندب، وعبدَ عمرو ...
ولا يقال: يَرِدُ على " البيهقي، وابن الصلاح " أنه صحَّ من رواية عبدالله بن زيد، التي خرَّجها " ابنُ ماجة " عن سُوَيد بن سعيد - وهو ممن خرَّج له " مسلم " - عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدةَ - وهو متَّفقٌ عليه - عن شعبةَ عن حبيب بن زيد - وقد وثقه جماعةٌ - عن عباد بن تميم - وهو متفق عليه - عن عبدالله بن زيد. ولذلك صححه " ابنُ حبَّان "؛ لأنا نقول: وقع التمثيلُ بطرقٍ متعددة لم يصح شيءٌ منها. وأما حديث ابن عباس " الأذنان من الرأس " فقد رواه " الدارقطني " مع كثير من الطرق السابقة، وقال: كلُّها ضعيفة. ولم يروه من حديث عبدالله بن زيد، لكن قال " ابن القطان ": حديثُ ابن عباس الذي فيه " الأذنان من الرأس " إما صحيح، أو حسن. انتهت " 8 / ظ.
__________
- ما هنا عن البيهقي، في سننه الكبرى 1/ 66.
وابن ماجة: ك الطهارة، باب الأذنان من الرأس، ح (443)، وفي الزوائد: هذا إسناد حسن إن كان سويد حفظه، ثم من رواية حماد بن زيد عن سنان عن شهر عن أبي أمامة (ح 444) ويأتي ما فيها لأبي داود. ثم من حديث عن أبي هريرة (ح 445) بإسناد قال في الزوائد: ضعيف لضعف اثنين من رجاله. وحديث الباب في الترمذي، عن شهر عن أبي أمامة، ومعه في الباب من عدة طرق (1/ 54 مع العارضة) وأخرجه أبو داود في صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - من طريق سليمان بن حرب وقتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر عن أبي أمامة، فذكر وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه " الأذنان من الرأس "، قال قتيبة: قال حماد: لا أدري، هو من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي أمامة؟ (ح 134).
وجمع الدارقطني في كتاب الطهارة من (سننه، ما روي من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الأذنان من الرأس " من مختلف طرقه، مرفوعًا وموقوفًا ومرسلا (ح 1 - 47) ما أعله منها وما صححه. وهو في مسند أحمد من حديث شهر عن أبي أمامة مرفوعًا.
وفي (العلل للدارقطني) سئل عن حديث عائشة - رضي الله عنها - فيه. فذكر رواية عصام بن يوسف عن ابن المبارك عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عائشة، ورواية الفضل بن موسى عن ابن جريج. قال: " وكلتا الروايتين وهم في المتن والإِسناد، والصحيح: عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مضمضوا واستنشقوا، والأذنان من الرأس ". وكذلك رواه الثوري وهمام ووكيع وعبدالرزاق وابن عيينة وأصحاب ابن جريج، وهو الصواب " 5/ 28 خط.(1/179)
وهذه جملةٌ تفاصيلُها تُدرَك بالمباشرة والبحثِ، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة، والله أعلم (1).
الثالث: إذا كان راوي الحديث متأخرًا عن درجة أهل الحفظ والإِتقان، غير أنه من المشهورين بالصدقِ والسَّتْر، ورُوِيَ مع ذلك حديثُه من غيرِ وجه، فقد اجتمعت له القوةُ من الجهتين، وذلك يرقى حديثه من درجةِ الحسَنِ إلى درجة الصحيح.
مثالُه: حديثُ محمد بن عمرو، عن أبي سلمةَ عن أبي هريرةَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسوَاكِ عند كلِّ صلاةٍ (2) ". فمحمد بن عمرو بن علقمة من المشهورين بالصدق والصيانة، لكنه لم يكن من أهل ِ الإِتقان، حتى ضعَّفه بعضُهم من جهة سوء حفظه، ووثَّقَه بعضهم لصدقِه وجلالتِه، فحديثُه من هذه الجهة حَسَنٌ، فلما انضم إلى ذلك كونه رُوِيَ من أوجُهٍ أُخَرَ، زال بذلك ما كنا نخشاه عليه من جهةِ سوءِ حفظه، وانجبر به ذلك النقصُ اليسيرُ، فصحَّ هذا الإِسنادُ والتحق بدرجةِ الصحيح، والله أعلم.
الرابع: " كتابُ أبي عيسى الترمذي " - رحمه الله - أصلٌ في معرفة الحديث الحسن، وهو الذي نَوَّه باسمِه وأكثَر من ذكره في (جامعِه) ويوجدُ في متفرقات من كلام بعض ِ مشايخِهِ والطبقةِ التي قبله كأحمد بن حنبل ٍ والبخاري وغيرهما *.
__________
(1) على هامش (غ) بخط الفاسي: بلغ السماع بقرءاتي عليه في المجلس السابع.
(2) رواية محمد بن عمرو بن علقمة، بن أبي وقاص الليثي، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، عن أبي هريرة: في جامع الترمذي، ك الطهارة، باب ما جاء في السواك. وانظر الأقوال في محمد بن عمرو، بالجرح والتعديل (8/ 30 ت 138) وتهذيب التهذيب (9/ 375 ت 617) وحديث السواك، رواه مالك في الموطأ (طهارة، ما جاء في السواك ح 115) من حديث الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة. (مع التمهيد 7/ 194) والبخاري في كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، من حديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا. (مع فتح الباري 2/ 255)، وأخرجه مسلم في باب السواك من كتاب الطهارة، من حديث سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة (ح 42/ 252).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: " يعقوب بن شيبة " تلميذ ابن المديني، أكثَرَ من تحسين الأحاديثِ، وفي مواضعَ كثيرة يجمع بين الحُسْنِ والصحة. و " أبو علي الطوسي " شيخ أبي حاتم الرازي، جمع في كتابه (الأحكام) بين الحسْنِ والصحةِ والغرابةِ إثرَ كلِّ حديث. وكان =(1/180)
وتختلف النسخُ من كتابِ الترمذي في قوله: " هذا حديثٌ حسَنٌ " أو: " هذا حديث حَسَنٌ صحيح " ونحوِ ذلك. فينبغي أن تصحِّحَ أصلَك به بجماعةِ أصول ٍ وتعتمدَ على ما اتفقتْ عليه. ونَصَّ " الدارقطني " في (سُنَنِه) على كثيرٍ من ذلك. ومن مظانِّه (سُنن أبي داودَ السجستاني) - رحمه الله -. روينا عنه أنه قال: " ذكرتُ فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه (1). ". وروينا عنه أيضًا ما معناه: أنه يذكر في كل بابٍ أصحَّ ما عرفه في ذلك الباب. وقال: " ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وهَنٌ شديدٌ فقد بيَّنتُه [7 / ظ] وما لم (2) أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضُها أصح من بعض. " (3) *.
__________
(1) الخطيب، بسنده إلى أبي بكر ابن داسه، قال: " سمعت أبا داود يقول: " كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب، جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث، ذكرت فيها الصحيح وما يشبهه ويقاربه ". ترجمة أبي داود في تاريخ بغداد 9/ 57، وتقييد ابن نقطة (ل 96) من طريق الخطيب.
(2) يبدأ سقط في (غ) نحو ورقة، وننقله من (ص) مقابلا على (ع، ز).
(3) رسالة أبي داود إلى أهل مكة: 27، وشرح السلفي لمقدمة معالم السنن: 4/ 365. قال أبو الفتح اليعمري: " وأن الإِمام أبا عمرو - رحمه الله - زعم أن من مظان الحسن كتاب أبي داود، وإنما أخذ ذلك من قوله: ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه. وقد قال إنه يذكر في كتابه في كل باب أصح ما عرفه في ذلك الباب. وقال: " ما كان في كتاب من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض " فلم يرسم شيئًا بالحسن ". (شرح الترمذي لليعمري: ل 6 / أ) تركية.
وانظر تقييد العراقي 53، 54، وتبصرته 1/ 95، 100.
___________________________________
= في عصر الترمذي (1).
لأنا نقول: لم يشتهر ذلك كاشتهارِه عن الترمذي. انتهت " 8 / ظ.
* المحاسن:
" زيادة: وجاء عنه: " وما سكتُّ عنه فهو حسَن ". إلا أن الروايَة لسُنَنِ أبي داود مختلفةٌ، يوجَدُ في بعضِها كلام وحديثٌ ليس في الأخرى. و " للآجري " عنه: أسأله كذا فيحتمل قوله: وما سكتُّ عنه - أي في السننِ - ويحتمل مطلقًا. والأول أقرب. انتهت " 8 / ظ.
__________
(1) أبو علي الطوسي، الحسن بن علي بن نصر الخراساني " له كتاب الأحكام على نمط جامع الترمذي " - طبقات الحفاظ 330/ 753 - روى عنه شيخه أبو حاتم الرازي حكايات، كما جاء في تذكرة الحفاظ - 3/ 787 - وتوفي أبو علي سنة 312 هـ ولم يذكره ابن أبي حاتم الرازي في (الجرح والتعديل) وتوفي أبو حاتم سنة 277 هـ، وأبو عسيى الترمذي سنة 279 هـ. وانظر تقييد العراقي: 51 - 52.(1/181)
قلتُ: فعلى هذا، ما وجدناه في كتابِه مذكورًا مطلقًا، وليس في واحدٍ من الصحيحين، ولا نصَّ على صحتِه أحدٌ ممن يُمَيِّزُ بين الصحيح والحسن، عرفناه بأنه من الحسَن عند " أبي داود " وقد يكون في ذلك ما ليس بحسَنٍ عند غيرهِ (1)، ولا مندرج ٍ (2) فيما حققنا ضبطَ الحسَن به على ما سبق، إذ حَكَى " أبو عبدالله بنُ منده الحافظ " أنه سمع " محمدَ بنَ سعد الباوَرْدي " بمصر يقول: " كان من مذهب أبي عبدِالرحمن النسائي، أن يُخرجَ عن كل من لم يُجْمَعْ على تركِه " قال ابن منده: " وكذلك أبو داود السجستاني، يأخذ مأخذَه ويُخرج الإِسناد الضعيف، إذا لم يجدْ في البابِ غيرَه، لأنه أقوى عنده من رأي ِ الرجال " * والله أعلم.
الخامس: ما صار إليه صاحب (المصابيح) (4) - رحمه الله - من تقسيم أحاديثه إلى نوعين: الصِّحَاح والحِسان، مُريدًا بالصحاح: ما ورد في أحد الصحيحين أو فيهما، وبالحسان:
__________
(1) تعقبه الحافظ أبو عبدالله محمد بن عمر بن رشيد السبتي فيما نقل عنه الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري، " وذلك بأن قال: ليس يلزم أن يستفاد من كون الحديث لم ينص عليه أبو داود بضعف، ولا نص عليه غيره بصحة، أن الحديث عند أبي داود حسن، إذ قد يكون عنده صحيحًا وإن لم يكن عند غيره كذلك " قال أبو الفتح: وهذا تعقب حسن، لكنه ربما نبه عليه قول الإِمام أبي عمرو " وقد يكون من ذلك ما ليس بحسن عند غيره؛ لأنه جوز أن يخالف حكمه حكم غيره، في طرف؛ فكذلك يجوز أن يخالفه في طرف آخر. (شرح الترمذي النسخة التركية: 7 أ). خط.
(2) من (ز) والعراقية، ويطمئن به السياق، وفي (خ): [غير مدرج] وموضع الكلمة في (ص) فيه خرم، من أثر البلى.
(3) فوقها في (ز): [مدينة بخراسان]. يعني بلدة " الباوردي " التي ينسب إليها.
وفي معجم البلدان لياقوت: (باورد، بفتح الواو وسكون الراء، وهي أبيورد: بلد بخراسان بين سرخس ونسا) واقتصر في اللباب (1/ 115) على أنها بلدة بنواحي خراسان يقال لها أبيورد.
(4) صاحب المصابيح هو " الإِمام البغوي " ركن الدين أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، محيي السُّنة. ت 516 بمرو.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: يقرب من هذا، ما ذكره " الماوردي " من احتجاج " الشافعي " بالمرسَل إذا لم يوجد دلالةٌ سواه. وقد نقل ابنُ المنذر عن " أحمد بن حنبل " - رضي الله عنه - أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه، إذا لم يكن في البابِ غيرُه. سيأتي لذلك مزيدُ إيضاح في موضعه. انتهت " 9 / و.(1/182)
ما أورده أبو داودَ والترمذي وأشباهُهما في تصانيفهم. فهذا اصطلاح لا يُعرف. وليس الحسنُ عند أهل الحديث عبارةً عن ذلك. وهذه الكتُب تشتمل على حَسَنٍ وغيرِ حَسَنٍ، كما سبق بيانُه *، والله أعلم (1).
السادس: كتبُ المسانيد غيرُ ملتحقة بالكتبِ الخمسة - التي هي: الصحيحان، وسُنن أبي داودَ، وسُنن النسائي، وجامعُ الترمذي - وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركونِ إلى ما يورَد فيها مطلقًا: كمسندِ أبي داودَ الطيالسي، ومسنَدِ عبيدالله بن موسى، ومسند أحمدَ بن حنبل، ومسندِ إسحاقَ بن راهَوَيه، ومسندِ عبد بن حميد، ومسند الدارمي (2)،
__________
(1) على هامش (ص) بخط الحافظ العراقي ما صورته: بلغ ناصر الدين محمد، ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم، قراءة عليّ من أول الثاني من التعريفات إلى آخر الخامس، قراءة بحث ونظر. وعمه زين الدين وعبدالرحمن، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي، سماعا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
(2) على هامش (ص): بخط النسخة: [قال المؤلف: هو مسند عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي - رحمه الله -]. أبو محمد السمرقندي الحافظ - 255 هـ.
قال العراقي في تقييده على ابن الصلاح: إن عنده مسند الدارمي في جملة هذه المسانيد، مما أُفرِد فيه حديث كل صحابي وحده، وهم منه، فإنه مرتب على الأبواب كالكتب الخمسة، واشتهر تسميته بالمسند كما سمَّى البخاري: المسند بالجامع الصحيح. وإن كان مرتبًا على الأبواب لكون أحاديثه مسندة. إلا أن مسند الدارمي كثير الأحاديث المرسلة والمنقطعة والمعضلة والمقطوعة. والله أعلم ". وانظر معه (توضيح التنقيح: 1/ 230).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: الاصطلاحاتُ لا مشاحَّةَ فيها (1). فقد قال " البغوي ": " أردتُ بالصحيح ما خرج في كتاب الشيخين، وبالحسَنِ ما أورده أبو داودَ وأبو عيسى وغيرُهما، وما كان فيهما من غريب وضعيفٍ أشرت إليه، وأعرضتُ عن ذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا " وقد بوَّب على الصحيح والحسَن والغريبِ وغيرهما؛ لأنا نقول: يقع الاعتراضُ من وجه آخر، وهو أن فيها أحاديثَ صحيحةً ليست في الصحيحين، وباصطلاحِه يخرج عن ذلك لمرتبةِ الحسَنِ. ولم يقل بذلك أحدٌ غيره. انتهت " 9 / و.
__________
(1) نقل العراقي الاعتراض بأن لا مشاحة في اصطلاح البغوي، وقال: " فالإِيراد باق في مزجه صحيح ما في السنن، بما فيها من الحسن. وكأنه سكت عن بيان ذلك لاشتراكهما في الاحتجاج به. والله أعلم. (التقييد 56) ونقل السيوطي فيه: " قال التاج التبريزي: لا أزال أتعجب من الشيخين: ابن الصلاح والنووي في اعتراضهما على البغوي مع أن المقرر أنه لا مشاحة في الاصطلاح، وكذا مشى عليه علماء العجم، آخرهم شيخنا العلامة الكافيجي في مختصره " تدريب الراوي 1/ 165.(1/183)
ومسنَدِ أبي يعلى الموصلي، ومسند الحسن بن سفيان، ومسند البزار أبي بكر، وأشباهِها. فهذه عادتُهم فيها أن يُخرجوا في مسندِ كلِّ صحابيٍّ ما رَوَوه من حديثه، غيرَ متقيدين بأن يكون حديثًا محتجًّا به. فلهذا تأخرتْ مرتبتُها - وإن جَلَّت لجلالة مؤلفيها - عن مرتبةِ الكتُب الخمسة وما التحق بها من الكتبِ المصنفة على الأبواب *. والله أعلم.
السابع: قولهم: " هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد، أو حسَنُ الإِسناد " دونَ قولِهم: " هذا حديثٌ صحيحٌ، أو حديثٌ حسَن "؛ لأنه قد يقالُ: " هذا حديث صحيحُ الإِسناد " ولا يصحُّ
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: المسانيدُ، يجوزُ لك أن تُثبِتَ الياءَ فيها، والأوْلَى ألا تثبت. وقد صنفتُ على ذلك مصنَّفًا سميتُه (ذكر الأسانيدِ في لفظ المسانيد) فلينظر ما فيه فإنه من المُهِمَّات. وعَدُّ " الدارمي " في المسندات التي صُنِّفت على مسانِدِ الصحابةِ دون الأبوابِ، فيه نظرٌ؛ فالموجود للدارمي مصنَّف على الأبواب: الطهارة وغيرها. وقد جاء عن " إِسحاق بن راهويه " أنه قال: خَرَّجتُ عن كلِّ صحابي أمْثَلَ ما ورد عنه. ذكره " أبو زرعةَ الرازي ". و (مسند البزار) يبين فيه الكلامَ على الحديث. وجاء عن " أحمد بن حنبَل " أنه قال: " هذا الكتابُ جمعتُه وانتقيته من أكثر من سبعمائةٍ وخمسين ألفًا، فما اختلف المسلمون فيه من حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارجعوا إليها، فإن كان فيه، وإلا فليس بحجة " قال " أبو موسى المديني ": ولم يُخرج أحمدُ إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طُعِنَ في أمانته ". يدل على ذلك قولُ عبدِالله ابنِه: " سألتُ أبي عن عبدالعزيز بن أبانَ (1)، فقال: لم أُخرج عنه في المسند شيئًا " قال " أبو موسى ": " ومن الدليل على أن ما أودعه مسندَه احتاط فيه إسنادًا ومتنًا ولم يورد فيه إلا ما صحَّ عنده، ضربُه على أحاديثِ رجال ٍ ترك الرواية عنهم، وروى عنهم في غير المسند " وأما (مسند الدارمي) فقد أطلق عليه جماعةٌ من الحفاظ اسم الصحيح. انتهت " 9 / ظ.
__________
(1) عبدالعزيز بن أبان الأموي القرشي، أبو خالد الكوفي نزيل بغداد - ت -. (العلل للإِمام أحمد 1/ 228، 362 - وعنه ابن حجر في تهذيب التهذيب 6 رقم 634 - وضعفاء البخاري 75 والنسائي 72 والجرح والتعديل 2/ 2 / 377 والضعفاء والمتر كون للدارقطني 348) وانظر تبصرة العراقي 1/ 107 ونخبة ابن حجر 73 - 79.(1/184)
لكونِه شاذًّا أو معَلَّلا. غير أن المصنَّفَ المعتمَدَ منهم إذا اقتصر على قوله: " إنه صحيحُ الإِسنادِ " (1)، ولم يذكرْ له عِلَّة ولم يَقْدَحْ فيه، فالظاهرُ منه الحُكمُ له بأنه صحيحٌ في نفسِه، لأن عدَم العِلَّة والقادح ِ هو الأصلُ والظاهرُ. والله أعلم.
الثامن: في قول ِ " الترمذي " وغيره: " هذا حديثٌ حسَنٌ صحيح " (2) إِشكالٌ؛ لأن الحسن قاصرٌ عن الصحيح كما سبق إِيضاحُه، ففي الجمع بينهما في حديثٍ واحد، جمعٌ بين نَفْيِ ذلك القصورِ وإثباته. وجوابُه أن ذلك راجع إلى الإِسناد؛ فإذا رُوِيَ الحديثُ الواحد بإسنادين، أحدُهما إسنادٌ حسَنٌ والآخرُ إسنادٌ صحيح، استقام أن يقالَ فيه: إنه حديثٌ حسَن صحيح، أي أنه حسَنٌ بالنسبة إلى إسنادٍ، صحيحٌ بالنسبة إلى إسنادٍ آخَر. على أنه غيرُ مستنكَرٍ أن يكون بعضُ من قال ذلك، أراد بالحسنِ معناه اللغويَّ، وهو ما تميل إليه النفسُ ولا يأباهُ القلبُ، دون المعنى الاصطلاحي الذي نحن بصدَدِه، فاعلَمْ ذلك. والله أعلم *.
__________
(1) على هامش (غ) بخط الفاسي: [وجدت بخط شيخنا: سئل المصنف ابن الصلاح في فتاويه فأجاب بأنه متى كان المتن غير صحيح فمحال أن يصح إسناده على الشرط المذكور؛ لأن شرطه ألا يكون شاذًّا ولا معللا، فلأجله لا يصح المتن، فإذا أطلق عليه أنه إسناد صحيح، فمعناه أن رجال إسناده عدول ثقات، لا غير]- وانظر نخبة الفكر: 93.
(2) على هامش (غ) ووجدت بخطه - أيده الله -: [قال المؤلف: وجدت في أصل الحافظ أبي حازم العبدوي بكتاب الترمذي في حديث معاذ: " فيم يختصم الملأ الأعلى؟ " سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح. والله أعلم].
وعلى هامش (ص): [قال المؤلف] فذكره. وحديث " فيم يختصم الملأ الأعلى " في سنن الدارمي 2/ 126 من حديث عبدالرحمن بن عائش الحضرمي، مرفوعًا. ورواه أحمد والطبراني والبزار، من عدة طرق في بعضها مقال. (مجمع الزوائد، ك التعبير، باب فيما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام: 7/ 176 - 178).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: ما ذكر أولا يردُّه قولُ " الترمذي " في بعض الأحاديث: هذا حديث حَسنٌ صحيح لا نعرفُه إلا من هذا الوجهِ؛
لأنا نقول: أراد " الترمذي " بذلك انفرادَ أحدِ رُواتِه، لا أن المتنَ مُنفردٌ به. ويدل لهذا أنه يقول في بعض ِ الأحاديث: " غريب من هذا الوجه، يستغرب من حديث فلان " كقوله في حديثِ خالدٍ عن ابن سيرينَ عن أبي هريرة مرفوعًا: " من أشار إلى أخيه بحديدَةٍ ": =(1/185)
التاسع: من أهل ِ الحديثِ من لا يُفرِدُ نوعَ الحسَنِ ويجعله مندرِجًا في أنواع الصحيح؛ لاندراجِه في أنواع ِ ما يُحْتَجُّ به. وهو الظاهرُ من كلام " الحاكم أبي عبدالله
___________________________________
= " هذا حديث حسَنٌ [صحيح] غريب من هذا الوجه، يستَغرب من حديث خالد " (1).
وأما ما ذكر ابن الصلاح أخيرًا ففيه نظر؛ لقول ِ " الترمذي " ذلك في أحاديث مرويَّةٍ في صفةِ جهنم، والحدود والقصاص، ونحو ذلك. وأيضًا فالأحاديثُ الموضوعةُ فيها، لا يحل إطلاقُ الحسنِ عليها. والانفصالُ عنه أن يُقالَ: ولو كان في الأمورِ المذكورةِ، كان حسَنًا باعتبارِ ما فيه من الوعيدِ والزجرِ بالأساليبِ البديعةِ. وأما الموضوعُ فلا يَرِدُ؛ لأن الكلامَ فيما بين الصحةِ والحُسنِ، وهو غيرُ داخل ٍ، وأجاب " الشيخ أبو الفتح القشيري ": أن قصورَ الحسَنِ عن الصحيح، إنما يجيء إذا اقتصر على الحَسَنِ، أما إذا جَمع بينهما فلا قصورَ حينئذ. وبيانُ ذلك أن للرواة صفاتٍ تقتضي قبولَ روايتهم، وتلك الصفاتُ متفاوتةٌ: كالتيقظ والحفظِ والإِتقان مثلا، ودونَها الصدقُ وعدمُ التهمةِ بالكذب. فوجودُ الدرجةِ الدنيا كالصدقِ مثلا، لا ينافيه وجودُ ما هو أعلى منه كالحفظِ والإِتقان، وكذلك إذا وُجِدَت الدرجة العليا، لم يناف ذلك وجودَ الدنيا مع الصدقِ، فصحَّ أن يقال: حَسَنٌ باعتبارِ الصفةِ الدنيا، صحيحٌ باعتبارِ الصفةِ العليا. ويلزمُ على هذا أن يكونَ كلُّ صحيح حسَنًا، ويلتزمُه ويؤيده ورودُ قول ِ المتقدمين: هذا حديثٌ حسن، في الأحاديث الصحيحة. انتهى كلامُ القشيري. (2) وقيل: الجمعُ بين الحُسْنِ والصحةِ رتبةٌ متوسطةٌ بين الحسنِ المجرَّد والصحيح ِ. فأعلاها ما تمحَّض فيه وصفُ الصحة. وأدناها ما تمحَّض فيه وصفُ الحسن، وأوسطُها ما جمع بينهما، وفيه نظر. انتهت " 10 / ظ.
__________
(1) ك الفتن، باب ما جاء في إشارة المسلم إلى أخيه (9/ 7 مع عارضة الأحوذي) من حديث خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة.
وانظر صحيح البخاري، ك الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حمل علينا السلاح فليس منا ". وصحيح مسلم: ك البر والصلة، باب النهي عن الإِشارة بالسلاح إلى مسلم. وصححه الدارقطني من حديث الأنصاري ويزيد بن هارون عن ابن عون عن ابن سيرين، وعباد وهشام ومحبوب بن الحسن عن خالد عن ابن سيرين. (العلل: ل 3/ 128) خط.
(2) بتصرف يسير، من (الاقتراح لأبي الفتح القشيري ابن دقيق العيد: 175 - 176).
وانظر تقييد العراقي (60 - 61) والتبصرة (1/ 109 - 111).(1/186)
الحافظ في تصرفاته وإليه يومئ في تسميته كتابَ الترمذي (بالجامع الصحيح) وأطلق " الخطيبُ أبو بكر " أيضًا عليه اسمَ الصحيح، وعلى كتابِ النسائي.
وذكر " الحافظُ أبو طاهر السلَفي " الكتبَ الخمسةَ وقال: " اتفق على صِحَّتِها علماءُ الشرق والغرب. " (1). وهذا تساهلٌ؛ لأن فيها ما صرَّحوا بكونِه ضعيفًا أو منكرًا أو نحوَ ذلك من أوصافِ الضعيف. وصرح " أبو داودَ " فيما قدَّمناه روايتَه عنه، بانقسام ما في [7 / و] كتابه إلى صحيح وغيره، و " الترمذي " مُصَرَّحٌ فيما في كتابِه، بالتمييز بين الصحيح ِ والحَسن. ثم إن مَنْ سَمَّى الحسنَ صحيحًا، لا ينكر أنه دونَ الصحيح ِ المقَدَّم المبيَّن أولا، فهذا إذًا اختلافٌ في العبارةِ دون المعنى *. والله أعلم (2).
__________
(1) قابل على شرح السلفي لمقدمة معالم السنن: 4/ 357.
(2) على هامش (ص) بخط الحافظ العراقي ما صورته: بلغ ناصرالدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم. قراء بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
وعلى هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ السماع قراءة عليه.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: الذي ذكره " السِّلَفي " في (شرح مقدِمة السنَنِ للخطابي) ما نصُّه: " وكتابُ أبي داودَ أحدُ الكتبِ الخمسة التي اتفق أهلُ الحلِّ والعقدِ من الفقهاءِ وحُفَّاظِ الحديثِ الأعلام النبهاءِ على قبولها والحكم بصحة أصولِها " (1). فهذه لا إيرادَ عليها، ولا يخالف كلامَ غيره؛
لأنا نقول: قوله: " على قبولها والحكم بصحةِ أصولها " إما أن يريدَ به مجموعَ ما فيها، أو البعض. ولا يصح إرادةُ المجموع لما تقدم، ولا البعض ِ لأن " البخاري ومسلما " ليسا كذلك، بل تلقتهما الأمةُ بالقبول كما تقدم - انتهت ". 10 / ظ - 11 / و.
__________
(1) بعده في شرح السلفي لمقدمة الخطابي لمعالم السنن: " بعد الموطأ المتفق على صحته وعلو درجة مصنفه ورتبته ". ذيل معالم السنن: 4/ 357.
وانظر تقييد العراقي: 60 - 62.(1/187)
النوع الثالث:
معرفةُ الضعيفِ من الحديث
كلُّ حديثٍ لم تجتمع فيه صفاتُ الحديثِ الصحيح، ولا صفاتُ الحديثِ الحسن، المذكوراتُ فيما تقدم، فهو ضعيف (1). وأطنب " أبو حاتم بن حِبَّانَ البُسْتي " في تقسيمه، فبَلَغ به خمسين قسمًا إلا واحدًا. وما ذكرتُه ضابطٌ جامع لجميع ذلك.
وسبيلُ من أراد البَسْطَ: أن يَعمدَ إلى صفةٍ مُعَيَّنَةٍ منها فيجعلَ ما عُدِمَتْ فيه من غيرِ أن يخلُفَها جابرٌ - على حسبِ ما تقرر في نوع ِ الحسنِ - قسْمًا واحدًا، ثم ما عُدِمتْ فيه تلك الصفةُ مع صفةٍ أخرى مُعَيَّنةٍ قِسما ثانيًا. ثم ما عُدِمَتْ فيه مع صفتين معينتين، قسما ثالثًا. وهكذا إلى أن يستوفيَ الصفاتِ المذكوراتِ جُمَعَ. ثم يعود ويعين من الابتداء صفةً غيرَ التي عَيَّنها أولا، ويجعلَ ما عُدِمَتْ فيه وحدَها قسما، ثم القسمَ الآخرَ ما عُدِمَتْ فيه مع عدم صفةٍ أخرى، ولتكن الصفةُ الأخرى غيرَ الصفةِ الأولى المبدوءِ بها؛ لكونِ ذلك سَبَقَ في أقسام عدم الصفةِ الأولى. وهكذا هَلُمَّ جرًّا، إلى آخر الصفات.
ثم ما عُدِمَ فيه جميعُ الصفاتِ، هو القسم الآخِرُ (2) الأرذَلُ. وما كان من الصفات له شروط، فاعملْ في شروطِه نحوَ ذلك، فتتضاعف بذلك الأقسامُ *.
__________
(1) على هامش (غ) طرة بخط ابن الفاسي، بأوهى الأسانيد، مقيدة بمجال، عن أبي نعيم، كالتي نقلها البلقيني في المحاسن، عقب أصح الأسانيد، في النوع الأول، عن الحاكم.
(2) الضبط من متن (ص، غ) ضبط قلم.
وعلى هامش (غ) ضبط عبارة: [الأخر، على وزن الفخذ. قال في لسان العرب: الأخِر: المؤخر المطروح].
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: مثالُ التعدد، أن يقولَ: المنقطعُ قِسم: المنقطع الشاذُّ قسم آخر، المنقطعُ الشاذُّ المرسَل قسمٌ آخر، المنقطعُ الشاذ المرسلُ المضطربُ قسمٌ رابعٌ، ثم كذلك إلى آخرِ الصفات. ثم نعود فنقول: الشاذُّ قسم خامس، الشاذُّ المرسَلُ قسم سادس، الشاذُّ المرسَلُ المضطرِبُ قسمٌ سابعٌ، وهكذا إلى أنواع كثيرة. انتهت " 11 / و، ظ.
- وانظر تبصرة العراقي: (1/ 112 - 115) والتقييد والإِيضاح (63).(1/188)
والذي له لقبٌ خاصٌّ معروفٌ من أقسام ذلك: الموضوعُ، والمقلوب، والشاذُّ، والمعلَّلُ، والمضطرب، والمرسَلُ، والمنقطِع، والمعضَل - في أنواع - سيأتي عليها الشرحُ إن شاء الله تعالى.
والملحوظُ فيما نورِدُه من الأنواع: عمومُ أنواع علوم ِ الحديث، لا خصوصُ أنواع ِ التقسيم الذي فرغنا الآن من أقسامِه. ونسأل الله تبارك وتعالى تعميمَ النفع به في الدارين. آمين.(1/189)
النوع الرابع:
معرفةُ المُسْنَد.
ذكر " أبو بكر الخطيبُ الحافظ " - رحمه الله - أن المسنَد عند أهل ِ الحديثِ هو الذي اتصل إسنادُه من راويه إلى منتهاه، وأكثرُ ما يستعملُ ذلك فيما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون ما جاء عن الصحابةِ وغيرهم *. وذكر " أبو عمرَ ابنُ عبدالبرِّ الحافظُ " أن المسندَ ما رُفِع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً. وقد يكون متصلاً، مثل: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد يكون منقطعًا، مثل: مالك، عن الزهري، عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا مسنَدٌ؛ لأنه قد أسنِدَ إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو منقطعٌ لأن
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: لا يقال: الذي ذكره " الخطيبُ " في (كفايته) هو قوله: " ووصفُهم للحديثِ بأنه مسنَد، يريدون أن إسنادَه متصل بين راويه وبين من أَسند عنه، إلا أن أكثرَ استعمالهم هذه العبارةَ فيما أُسنِدَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خاصة (1) " ولم يذكر البقية؛
لأنا نقول: البقيةُ تخرجُ من عموم قولِه: " وبينَ من أسند عنه " وذلك واضح. وفي (أدب الرواية، للحفيدِ): أسندتُ الحديثَ أُسنِدُه، وعزَوته وعزَيته أعزوه وأعزيه، إذا رفعته. والأصلُ في الحرف راجع إلى المسنَدِ وهو الدهر. فيكون معنى إسنادِ الحديثِ: اتصالُه في الرواية اتصالَ أزمنةِ الدهرِ بعضِها ببعض. انتهى ذلك. " 11 / ظ.
__________
(1) قوبل على (الكفاية، للخطيب): 21.
وفي تبصرة العراقي: " وكذا قال ابن الصباغ في العدة: " المسند ما اتصل إسناده " فعلى هذا يدخل فيه المرفوع والموقوف. ومقتضى كلام الخطيب أنه يدخل فيه ما اتصل إسناده إلى قائله، من كان. فيدخل فيه المقطوع وهو قول التابعي، وكذا من بعد التابعين. وكلام أهل الحديث يأباه " 1/ 120.(1/190)
" الزهريَّ " لم يسمعْ من " ابنِ عباس " - رضي الله عنهم - (1) ز
وحَكى " أبو عمرَ " عن قوم ٍ، أن المسندَ لا يقعُ إلا على ما اتصلَ مرفوعًا إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (2).
قال المملي - أبقاه الله -: وبهذا قطع " الحاكمُ أبو عبدالله الحافظُ " - رحمه الله -. ولم يذْكر في كتابِه غيرَه (3). فهذه أقوال ثلاثة مختلفة. والقولُ الأولُ أعدلُ وأوْلى (4). والله أعلم.
__________
(1) ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 21).
(2) ابن عبد البر: التمهيد (1/ 25).
(3) الحاكم، في معرفة علوم الحديث: 17.
(4) هذه الجملة من (غ)، وليست في (ص، ز).(1/191)
النوع الخامس:
معرفة المتصل.
ويقال فيه أيضًا: الموصولُ. ومُطلَقُه يقع على المرفوع ِ والموقوف (1)، وهو الذي اتصلَ إسنادُه، فكان كل واحدٍ من رُواته قد سمعه ممن فوقه حتى ينتهيَ إلى منتهاه *.
مثالُ المتصل ِ المرفوع من (الموطأ): " مالكٌ [8 / و] عن ابنِ شهاب، عن سالم بن عبدِالله، عن أبيه، عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومثال المتصل ِ الموقوف: " مالكٌ، عن نافع، عن ابنِ عمر عن عمر (2)، قوله " ... والله أعلم (3).
__________
(1) بهامش (غ): [قال القاضي بدر الدين - ابن جماعة -: والمتصل يدخل في الأقسام الثلاثة].
(2) في (غ): [عن ابن عمر، قوله] وما هنا من (ص، ز، ع)، ومثله في التمهيد لابن عبد البر: (1/ 25).
(3) على هامش (ص) بخط الحافظ العراقي: بلغ ناصر الدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم قراءة بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي. كتب عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: يخرج بذلك المرسَلُ، والمنقطعُ، والمعضَلُ، والمعلَّق، ونحوها. انتهت " 12 / و.
__________
- وفي التبصرة: قلت: إنما يمتنع اسم المتصل في المقطوع على إطلاقه. وأما مع التقييد فجائز واقع في كلامهم، كقولهم: هذا متصل إلى سعيد بن المسيب، أو إلى مالك، أو إلى الزهري، ونحو ذلك " 1/ 122 - وانظر تبصرة العراقي: 1/ 124.(1/192)
النوع السادس:
معرفة المرفوع.
وهو ما أضيفَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصةً، ولا يقعُ مُطلَقُه على غيرِ ذلك نحو الموقوف على الصحابة وغيرِهم. ويدخلُ في المرفوع: المتصلُ، والمنقطعُ، والمرسَلُ، ونحوُها. فهو والمسنَدُ عند قوم ٍ سواءٌ، والانقطاعُ والاتصالُ يدخلان عليهما جميعًا. وعند قوم، يفترقان في أن الانقطاعَ والاتصالَ يدخلان على المرفوع، ولا يقع المسندُ إلا على المتصل ِ المضافِ إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال " الحافظُ أبو بكر بنُ ثابت " (1): " المرفوعُ ما أخبر فيه الصحابيُّ عن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو فعله " فخصَّصه بالصحابةِ، فخرج عنه مُرسَلُ التابعيِّ عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - *.
قال المملي - أبقاه الله -: ومن جعل من أهل الحديث المرفوعَ في مقابلةِ المرسَل؛ فقد عنى بالمرفوعا: المتصلَ. والله أعلم.
__________
(1) زاد في (ز): [الخطيب]، وقوبل على (الكفاية: 21).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: يخرج بذلك ما لم يذكر فيه الصحابة، مرسَلاً كان أو غيرَه. انتهت " 12 / و.(1/193)
النوع السابع:
معرفة الموقوف.
وهو ما يُروَى عن الصحابةِ - رضي الله عنهم - من أقوالهم وأفعالهم ونحوِها، فيوقَفُ عليهم ولا يُتَجاوَزُ به إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم إن منه ما يتصلُ الإسنادُ فيه إلى الصحابيِّ فيكون من الموقوف الموصول ِ، ومنه ما لا يتصلُ إسنادُه فيكون من الموقوف غير الموصول، على حسَبِ ما عُرِفُ مِثلُه في المرفوع ِ إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -. [والله أعلم (1)].
وما ذكرناه من تخصيصِه بالصحابيِّ؛ فذلك إذا ذُكِر الموقوفُ مطلقًا (2). وقد يستعمَلُ مقيدًا في غيرِ الصحابيِّ، فيقال: حديثُ كذا وكذا، وقفَه فلانٌ على " عطاء " أو على " طاوُسَ " أو نحو هذا. والله أعلم.
وموجودٌ في اصطلاح الفقهاءِ الخراسانيينَ تعريفُ الموقوفِ باسم ِ الأثرِ (3). قال " أبو القاسم الفُوراني " - منهم (4) - فيما بلغنا عنه: الفقهاءُ يقولون: الخبرُ ما يُروَى عن
__________
(1) من (ص، ز) وليست في (غ، ع).
(2) في الطرة على هامش (غ): [قال القاضي بدر الدين ابن جماعة: الموقوف وإن اتصل سنده، ليس بحجة عند الشافعي - رضي الله عنه -، وطائفة من العلماء، وهو حجة عند طائفة].
(3) على هامش (غ): [قال أبو زكريا: وأهل الحديث يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف]، قابل على متن التقريب لأبي زكريا النووي بتدريب الراوي: 1/ 184.
(4) من أعيان الفقهاء الخراسانيين الشافعية، الإِمام أبو القاسم عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران، صاحب (الإِبانة) في فقه المذهب (ت 461 هـ).
- انظر تهذيب الأسماء للنوي 1/ 2 / 280 ترجمة 482.
وضبطه بضم الفاء؛ نسبة إلى جده. (اللباب: 2/ 444).(1/194)
النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والأثَرُ ما يُروى عن الصحابةِ - رضي الله عنهم (1) * -.
__________
(1) على هامش (غ) بخط الفاسي: بلغ السماع بقراءتي في المجلس العاشر.
- وعلى هامش (ص) بخط الحافظ العراقي: بلغ ناصر الدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم، قراءة بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي، سماعًا. كتب عبدالرحيم بن الحسين (6 / و).
___________________________________
* نقل " البلقيني " هنا التفريعاتِ التي ذكرها ابنُ الصلاح في النوع الثامن، وقال البلقيني ما نصه: " وذكر ابنُ الصلاح هاهنا النوعَ الثامنَ المقطوعَ، ثم ذكر تفريعاتٍ تقديمُها أنسَبُ وهي .. " 12 / و.
ثم أورد هذه التفريعاتِ التي هنا في النوع السابع، وأضاف إليها ما رأى إضافتَهُ من فوائدَ وزيادات نقلناها في موضعها، في النوع الثامن، على ترتيبِ متنِ ابن الصلاح، ويختلف بذلك توالي أرقام الصفحات في نقولنا من مخطوط (المحاسن) في النوعين السابع والثامن.(1/195)
النوع الثامن:
معرفة المقطوع.
وهو غيرُ المنقطع الذي يأتي ذكرهُ - إن شاء الله تعالى -. ويقال في جمعِه المقاطيعُ والمقاطِع *، وهو من جاء عن التابعين موقوفًا عليهم من أقوالهِم وأفعالهِم. قال " الخطيبُ أبو بكر الحافظُ " في (جامعه): " من الحديث: المقطوعُ " وقال: " المقاطِعُ هي الموقوفاتُ على التابعين " **.
قلتُ: وقد وجدتُ التعبيرَ بالمقطوع ِ عن المنقطع غيرِ الموصول، في كلام ِ " الإِمام الشافعي، وأبي القاسم الطبرَاني " وغيرِهما (1). والله أعلم.
تفريعات:
أحدُها: قولُ الصحابيِّ: " كنا نفعل كذا " أو: " كنا نقول كذا "؛ إن لم يُضِفْه إلى زمان
__________
(1) أبو بكر الحميدي وأبو الحسن الدارقطني. قاله العراقي في (التبصرة 1/ 124).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: يجبُ عن البصريين - غير " الجَرْميِّ " - إثباتُ الياء [في مثل المقاطيع] في الاختيارِ. والكوفيون والجرميُّ يُجَوِّزون إسقاطَها اختيارًا، واختاره " ابنُ مالك " وقد بسطناه في (ذكرِ الأسانيد في لفظ المسانيد). انتهت " 13 / ظ.
** فائدة: قال " الخطيبُ " في (جامعه): " وأما المقاطعُ، وهي الموقوفات على التابعين، فيلزم كتبها والنظر فيها ليُتَخَيَّرَ من أقوالِهم، ولا يُشَذُّ عن مذاهبهم. " وذكر حديثًا من طريق جعفر بنِ محمد عن أبيه عن جدِّه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " ما جاء عن الله فهو فريضةٌ، وما جاء عني فهو حَتْمٌ كالفريضةِ، وما جاء عن أصحابي فهو سُنَّةٌ، وما جاء عن أتباعهم فهو أثَر، وما جاء عن من دونَهم فهو بِدْعَةٌ. انتهت " 13 / ظ.(1/196)
رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من قبيل ِ الموقوفِ. وإن أضافه إلى زمانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فالذي قَطَعَ به " أبو عبدالله بنُ البَيِّع الحافظُ (1) " وغيرُه من أهل ِ الحديث وغيرِهم، أن ذلك من قبيل ِ المرفوع.
وبلغني عن " أبي بكر البرقاني (2) " أنه سأل " أبا بكر الإِسماعيلي، الإِمامَ " عن ذلك، فأنكر كونَه من المرفوع. والأولُ هو الاعتمادُ، لأن ظاهرَ ذلك مُشعِرٌ بأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اطَّلع على ذلك وقرَّرهم عليه [9 / و] وتقريرُه أحدُ وجوهِ السنَن المرفوعة، فإنها أنواع: منها أقوالُه - صلى الله عليه وسلم -، ومنها تقريرُه، وسكوتُه عن الإِنكارِ بعد اطلاعِه.
ومن هذا القبيل ِ قولُ الصحابي: " كنا لا نرى بأسًا بكذا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فينا، أو: كان يقال كذا وكذا على عهدِه، أو: كانوا يفعلون كذا وكذا في حياتِه - صلى الله عليه وسلم -. فكلُّ ذلك وشبهه مرفوع مُسنَدٌ، مُخْرَّجٌ في كتبِ المسانيد (3).
وذكر " الحاكمُ أبو عبدالله " فيما رويناه، عن " المغيرةِ بنِ شعبة " قال: " كان أصحابُ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرعون بابَه بالأظافير (4) " أن هذا يتوهَّمه مَن ليس من أهل ِ الصنعة مُسنَدًا، يعني مرفوعًا؛ لذكرِ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وليس بِمُسنَدٍ، بل هو موقوفٌ (5).
__________
(1) الحاكم، في (معرفة علوم الحديث): 22.
(2) بفتح الباء وكسرها، في ضبط الأصلين (غ، ص) قلما. وهو في (اللباب 1/ 140) بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح القاف.
(3) من (ع ومتن غ) وفي (ص، ز) وهامش (غ).
(4) على هامش (غ، ص): [الأظافير: جمع أظفور، لغة في الظفر].
وحديث المغيرة بن شعبة، الثقفي - رضي الله عنه -؛ أخرجه الحاكم بإسناده عنه في (علوم الحديث 19) وذكر السيوطي في (التدريب 1/ 117) أن البيهقي أخرجه في (المدخل).
وأسنده البخاري في (الأدب المفرد 315) عن أنس - رضي الله عنه -، قال: " كانت أبواب النبي - صلى الله عليه وسلم - تقرع بالأظافير " وأخرجه البزار عن أنس بلفظ " كان باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرع بالأظافير ". (زوائد البزار: 2/ 421) ك الأدب، باب قرع الباب. وفي سنده ضعيف (مجمع الزوائد 1/ 43).
(5) تمام عبارة الحاكم: بل هو موقوف على صحابي حكى عن أقرانه من الصحابة، وليس بسنده واحد منهم ". معرفة: 19. وانظر النخبة: 166.(1/197)
وذكر " الخطيبُ " أيضًا نحوَ ذلك في (جامعه) *.
قال المُملي - أبقاه الله -: بل هو مرفوعٌ كما سبق ذكرُه، وهو بأن يكونَ مرفوعًا أحْرَى لكونِه أحْرَى باطلاعِه - صلى الله عليه وسلم - عليه. و " الحاكمُ " معترفٌ بكونِ ذلك مِن قبيل ِ المرفوع، وقد كنا عَدَدْنا هذا فيما أخذناه عليه، ثم تأوَّلناه له على أنه أراد أنه ليس بمسندٍ لفظًا، بل هو موقوف لفظًا. وكذلك سائرُ ما سبق، موقوفٌ لفظًا، وإنما جعلناه مرفوعًا من حيث المعنى. والله أعلم.
الثاني: قولُ الصحابي: " أُمِرْنا بكذا، أو: نُهينا عن كذا " من نوع ِ المرفوع والمسنَدِ عند أصحابِ الحديث، وهو قولُ أكثرِ أهل ِ العلم ِ. وخالف في ذلك فريقٌ منهم " أبو بكر الإِسماعيلي " (1). والأولُ هو الصحيح؛ لأن مُطْلَقَ ذلك ينصرفُ بظاهرِه إلى من إليه الأمرُ والنهيُ، وهو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا قولُ الصحابي: " من السُّنَّةِ كذا " فالأصحّ أنه مسنَدٌ مرفوع؛ لأن الظاهرَ أنه لا يريد به إلا سُنةَ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - وما يجبُ اتباعُه (2).
وكذلك قولُ " أَنَس ٍ " - رضي الله عنه -: " أُمِرَ بلالٌ أن يَشفَعَ الأَذانَ ويُوتِرَ الإِقامةَ " (3) "
__________
(1، 2) انظر تقييد العراقي 67، وتبصرته 1/ 126 - 127 ونخبة الفكر: 170 - 172.
(3) متفق عليه: البخاري في كتاب الأذان - وانظر فتح الباري 2/ 55 - ومسلم في كتاب الصلاة باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإِقامة (378).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما ذكر عن " الخطيبِ " أنه ذكر في (جامعه) نحوَ ما ذكر " الحاكم " لم أقفْ عليه في (جامع ِ الخطيب) فليُنْظَرْ. نعم وجدتُ في (جامع الخطيب) حديثَ القرع ِ بالأظافيرِ من حديثِ " أنَس ٍ " ولم يتعرضْ لقولِه موقوفًا. انتهت " 12 / ظ.(1/198)
وسائرُ ما جانَسَ ذلك. ولا فرقَ بين أن يقولَ ذلك في زمانِ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعدَه - صلى الله عليه وسلم * -. والله أعلم (1).
__________
(1) على هامش (ص): بلغ ناصر الدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين بن العديم قراءة بحث علي، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتب عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وأما مثلُ قولِه: " لا تلبِّسوا علينا سُنَّةَ نبيِّنا " كما رُوِيَ عن " عمرو بن العاص " في عِدَّةِ أُمِّ الولَدِ، وهو في (سُنن أبي داود) (1) وقوله: " أصبتَ السُّنةَ " كما جاء بإسنادٍ صحَّحه " الدارقُطْنِيُّ " في (سُنَنِهِ) (2) عن عُقبةَ بنِ عامرٍ عن عمر، في المسح على الخُفَّين - وإن كان فيه عِلَّة نَبَّه عليها " الدارقطنيُّ " في (عِلله) (3) - وقولُه: " سُنة أبي القاسم " كما في حديثِ ابن عباس في مُتْعةِ الحَجِّ (4): فهذه الألفاظُ في حُكْم قوله: " مِن السُّنَّةِ " وبعضُها أقربُ من بعض. وأقربُها للرفع: سُنَّةُ أبي القاسم، ويليها: لا تلبسوا علينا سُنةَ نبينا، ويلي ذلك: أصبتَ السُّنةَ.
ونظير حديث: " أُمِرَ بلالٌ " حديثُ عائشةَ رضي الله عنها: " فكنا نُؤمَرُ بقضاءِ الصوم " (5) =
__________
(1) ك الطلاق: ح 2308.
(2) ك الطهارة، باب المسح على الخفين 1/ 196 ح 11.
(3) في (العلل): وسئل عن حديث عقبة بن عامر عن عمر بن الخطاب، أنه قال لعقبة، حين قال: لبست الخف يوم الجمعة، فقال عمر: " أصبت السنة ". فقال الدارقطني: ورواه موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر ... وتابعه مفضل بن فضالة وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالله بن الحكم البلوي عن علي بن رباح، فقالوا فيه: " أصبت السنة " وخالفهم عمرو بن الحارث ويحيى بن أيوب والليث بن سعد فقالوا فيه: " فقال عمر: أصبت " ولم يقولوا: " السنة " كما قال من تقدمهم، وهو المحفوظ. والله أعلم.
ورواه جرير بن حازم عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رَباح عن عقبة. وأسقط من الإِسناد عبدَالله بن الحكم البلوي، وقال فيه: " أصبت السنة " كما قال ابن لهيعة والمفضل " (العلل 1/ 53) خط.
(4) كتاب الحج من صحيح البخاري، باب التمتع والقِران والإِفراد (مع فتح الباري 3/ 278) وصحيح مسلم، باب جواز العمرة في أشهر الحج (ح 1240 - 1242).
(5) سنن الدارقطني، ك الصيام (ح / 5)، وسنن أبي داود، ك الصيام، ح (2234) وابن ماجة، صيام، ح (3645).(1/199)
الثالث: ما قيل من أن تفسيرَ الصحابيِّ حديثٌ مسنَدٌ؛ فإنما ذلك في تفسير يتعلقُ بسببِ نزول ِ آيةٍ يُخبر به الصحابي، أو نحو ذلك. كقول ِ " جابر " - رضي الله عنه -: " كانت اليهودُ تقول: مَنْ أتى امرأتَه من دُبُرِها في قُبُلِها، جاء الولدُ أحْوَلَ " فأنزل الله عزَّ وجل: " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... " (1) الآية.
فأما سائرُ تفاسير الصحابةِ التي لا تشتمل على إضافةِ شيء إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - فمعدودةٌ في الموقوفاتِ. والله أعلم.
الرابع: من قبيل المرفوع، الأحاديثُ التي قيل في أسانيدِها عند ذكر الصحابيِّ: يَرفعُ الحديثَ، أو: يبلغُ به، أو: يَنْمِيه، أو: روايةً.
مثال ذلك: سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، روايةً: " تقاتلون قومًا صِغَار الأعينِ ... " (2) الحديث. وبه عن أبي هريرةَ، يبلغُ به، قال: " الناسُ
__________
(1) من الآية (223) سورة البقرة. وحديث جابر - رضي الله عنه - أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة البقرة (معه في فتح الباري 8/ 133) ومسلم في كتاب النكاح (ح 1435).
(2) بهذا الإِسناد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - روايةً، في صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب قتال الذين ينتعلون الشعر. معه في فتح الباري 6/ 66.
___________________________________
= وأما حديثُ " عمار " في صيام يوم الشك (1)، وحديثُ " أبي هريرة " في الخارج ِ عن المسجد بعد الأذان (2)، ونِسبةُ كل منهما إلى أنه عَصَى أبا القاسم، فالأقربُ أنه ليس بمرفوع ٍ؛ لجواز إحالة الآثم ِ على ما ظهر من القواعِد (3). انتهت " 13 / وظ.
__________
(1) صحيح مسلم، في الحيض: وجوب قضاء الصوم على الحائض، دون الصلاة، ح (19/ 335) وسنن أبي داود: ك طهارة، ح (263).
(2) مسلم، المساجد: باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن (258/ 655).
(3) انظر التمهيد لأبي عمر ابن عبدالبر (1/ 175) وتقييد العراقي: 67، وتبصرته 1/ 128 - 131.(1/200)
تَبَعٌ لقريش ٍ ... " (1) الحديثَ. فكلُّ ذلك وأمثالُهُ كنايةٌ عن رفع ِ الصحابيِّ الحديثَ إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وحُكْمُ ذلك عند أهل ِ العلم حُكمُ المرفوع ِ صريحًا.
قال المملي - أبقاه الله -: وإذا قال الراوي عن التابعي: يَرفعُ الحديثَ، أو: يبلغ به؛ فذلك أيضًا مرفوعٌ، ولكنه مرفوعٌ مرسَل (2). والله أعلم.
__________
(1) وبه، عن أبي هريرة، يبلغ به: في صحيح مسلم، كتاب الإِمارة، باب الناس تبع لقريش (ح 1/ 1818).
(2) انظر تقييد العراقي 67، والتبصرة 1/ 136.(1/201)
النوع التاسع:
معرفةُ المرسَل (1).
وصورتُه التي لا خلافَ فيها، حديثُ التابع الكبير الذي لقي جماعةً من الصحابة
__________
(1) حاشية مطولة على ورقة مستلقة ملصقة بالأصل (غ) بخط ابن الفاسي:
[قال القاضي عياض - رحمه الله - في (إكماله): اختلف العلماء في المرسل على ما يقع من الحديث وفي ثبوت الحجة به؛ فأما الفقهاء والأصوليون فيطلقون المرسل على كل ما لم يتصل سنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسله راو من رواته تابعيًّا كان أو من دونه، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو سكت فيه عن راو من رواته أو أكثر وارتفع إلى من فوقه، فهو داخل عندهم في المرسل. وكذلك إذا قال: عن رجل، ولم يسمه. وأما أصحاب الحديث فلهم تفريق في ذلك واصطلاحات بنوا عليها صنعتهم ورتبوا أبوابهم وتراجمهم، فلا يطلقون المرسل إلا على ما أرسله التابعي وقال فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون ذكر الصحابي. وقال " أبو عبدالله الحاكم " في كتاب (علوم الحديث) في هذا: فأما ما أرسله الراوي دون التابعي فهو عندهم المنقطع. وكذلك يسمون الحديث عن رجل لم يسم. وذكر في كتاب (المدخل إلى كتاب الإِكليل): المرسل أن يقول التابعي أو تابع التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن كان بين المرسِل والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من رجل سموه معضلا، كذا لقبه " ابن المديني " وغيره، وأدخل البلاغات وشبهها عندهم في باب المعضَل، وكل هذا بالحقيقة داخل في باب المرسل، إذ أصل ذلك إضافة الراوي الحديث إلى من روي عنه، وإرسال سنده وسقوط اتصاله. وأما الحجة به؛ فذهب السلف الأول إلى قبوله والحجة به. وهو مذهب " مالك، وأبي حنيفة " وعامة أصحابهما، وفقهاء الحجاز والعراق. وذهب " الشافعي، وإسماعيل القاضي " في عامة أهل الحديث وكافة أصحاب الأصول وأصحاب النظر إلى ترك الحجة به. وحكاه " الحاكم " عن ابن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث وفقهاء الحجاز ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وعن الأوزاعي والزهري وابن حنبل. والمعروف من مذهب مالك وأهل المدينة خلاف ما ذكره. وشرط من لم ير الحجة به مراسيل التابعين جملة. وخص بعضهم مراسيل كبار التابعين، وبعضُهم مراسيلَ الصحابة إذا قالوا: حدثني رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وخص الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب، وبعضهم مراسيل الأئمة، وجعلها كالمسندات؛ إذ أكثرها كذلك؛ إذ لا يرسلون إلا ما صح. ومنهم من جعل هذه أقوى من المسانيد؛ لأن الإِمَام لا يرسل الحديث إلا مع نهاية الثقة به والصحة. واختار بعض المحققين من المتأخرين قبول مرسل الصحابي والتابعي إذا عرف من عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي. قال أبو عمرو وأبو الوليد - الباجي -: ولا خلاف أنه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرز، يرسل عن غير الثقات " هـ.
- قوبل على الإِكمال للقاضي عياض، خط دار الكتب.
قال " البيهقي " في (مناقب الشافعي) بإسناده: من كلام الشافعي ما حاصله: يقبل مرسل التابعي إذا =(1/202)
وجالسَهم، كـ: عبيدالله بن عَدِي بن الخيار، ثم سَعِيدِ بن المسيب، وأمثالِهما؛ إذا قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " *. والمشهورُ التسويةُ بين التابعين أجمعين في ذلك - رضي الله عنهم -.
__________
= أسنده حافظ غيره، أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول، أو وافق قول بعض الصحابة، أو أفتى عَوَامُّ أهل العلم بمعناه. قال " البيهقي ": فالشافعي يقبل مراسيل الكبار من التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها، وإلا لم يقبلها سواء كانت مراسيل ابن المسيب أو غيره، فإذا لم ينضم إلى مراسيل سعيد بن المسيب ما يؤكدها؛ لم يقبلها، وإن انضم إلى مراسيل غيره ما يؤكدها؛ قبلها. ومزية " سعيد " أنه أصح التابعين إرسالا فيما زعم الحفاظ " هذا كلام الخطيب والبيهقي. وأما قول " القفال المروزي " في أول (شرح التلخيص): قال الشافعي في (الرهن الصغير): " مرسل ابن المسيب عندنا حجة "؛ فمحمول على ما ذكره الخطيب والبيهقي. كذا وجدته بخط شيخنا - أيده الله -].
ثم أضاف بظهر الورقة الملصقة نفسها:
[قال أبو زكريا في (مختصره) في آخر المرسل: فرع: اشتهر عند فقهاء أصحابنا أن مرسل سعيد بن المسيب حجة عند الشافعي حتى أن كثيرًا منهم لا يعرف غيره. وليس كذلك؛ إنما قال الشافعي في (مختصر المزني): وإرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن. وذكر صاحب (التهذيب) - وغيره من أصحابنا في أصول الفقه - في معنى كلامه وجهين: فمنهم من قال: حجة لأنها فتشت فوجدت مسانيد، ومنهم من قال: هي عندنا كغيرها، وإنما رجح الشافعي به، والترجيح بالمرسل صحيح. وحكى " الخطيب أبو بكر " هذين الوجهين لأصحاب الشافعي وقال: الصحيح عندنا هو الثاني؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندًا بحال من وجه يصح. وقد جعل " الشافعي " لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم، كما استحبه من مرسل سعيد. اهـ نقلته من خط شيخنا أبي بكر - أيده الله - كما وجدته، والحمد لله وحده. انتهى].
- وانظر: معرفة الحاكم 28، وتدريب الراوي 1/ 199، والتمهيد 1/ 30، ويأتي نص كلام الإِمام الشافعي في المرسل، فيما يلي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: " عبيد الله بن عدي " هذا، ذكره جماعةٌ جملة الصحابة، منهم: ابنُ عبدالبر، وابن حبان، وابن منده؛
لأنا نقول: الذي ذكره ابنُ عبدالبر: أنه وُلِدَ على عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر له سماعًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قال: رَوَى عن عمرَ وعثمانَ (1). وقد ذكر " الحاكم (2)، =
__________
(1) في الاستيعاب، ترجمة عبيدالله بن عدي بن الخيار القرشي النوفلي: 3/ 101. (1717).
(2) في المعرفة: 27.(1/203)
وله صُوَرٌ اختُلِفَ فيها أهي من المرسَل أم لا؟
إحداها: إذا انقطع الإِسنادُ قبل الوصول إلى التابعيِّ فكان فيه راو لم يسمع من المذكور فوقَه؛ فالذي قطع به " الحاكم الحافظُ أبو عبدالله " (1) وغيرُه من أهل الحديث، أن ذلك لا يسمَّى مرسَلا، وأن الإِرسالَ مخصوصٌ بالتابعين؛ بل إن كان مَنْ سقط ذكرُه قبل الوصول ِ إلى التابعي شخصًا واحدًا سُمي منقطعًا فحسبُ، وإن كان أكثرَ من واحدٍ سُمِّي: مُعضَلا، ويسمَّى أيضًا: منقطعًا، وسيأتي مثالُ ذلك إن شاء الله تعالى.
والمعروفُ في الفقه وأصولِه، أن كلَّ ذلك يُسمى مُرْسَلا *، وإليه ذهب من أهل ِ الحديث " أبو بكر الخطيبُ " وقطع به، وقال: " إلا أن (2) أكثر ما يوصَف بالإِرسال ِ من حيث الاستعمالُ، ما رواه التابعيُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما رواه تابع التابعيِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيسمونه المعضَلَ " والله أعلم.
الثانية: قولُ " الزهري، وأبي حازم، ويحيى بن سعيد الأنصاري " وأشباهِهم من أصاغرِ التابعين: " قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ حَكَى " ابنُ عبدالبر (3) " أن قومًا لا يسمونه
__________
(1) في معرفة علوم الحديث: 27 وانظر التقييد والإِيضاح 71 والتبصرة: 1/ 146.
(2) من (غ، ص، ع) وهو نص الخطيب في (الكفاية: معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات: 21) وفي (ز): [والأصح أن أكثر].
(3) في التمهيد 1/ 22. طبع الرباط.
___________________________________
= وابنُ الصلاح " تبعًا له في طبقات التابعين: مَن وُلِدَ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه. فالتمثيل صحيحٌ على تلك الطريقة. وسيأتي ما فيها. وليس المرادُ بقوله: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " حصرَ ذلك في القول ِ، بل لو ذكر فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مرسلا. انتهى " 13 / ظ.
* المحاسن:
" فائدة: قولُ " ابنِ الحاجب " وغيره من الأصوليين: " المرسَلُ قولُ غير الصحابي: قال صلى الله عليه وسلم؛ لا يعم صورةَ سقوطِ رجل ٍ قبل التابعي، ولا سقوطه مع التابعيِّ إذا ذكر الصحابي. " فيظهر بذلك توقفٌ في نسبةِ ذلك إلى المعروف في أصول الفقه - انتهت " 15 / و.(1/204)
مُرْسَلا، بل مُنقطِعًا؛ لكونهم لم يلقَوا من الصحابةِ إلا الواحدَ والاثنين (1)، وأكثرُ روايتهِم عن التابعين *.
__________
(1) بهامش الأصول (غ، ص، ز) من أمالي ابن الصلاح: [قال المملي رضي الله عنه - في (ص) قال المؤلف -: قولي: الواحد والاثنين؛ كالمثال في قلة ذلك، وإلا فالزهري قد قيل إنه رأى عشرة من الصحابة وسمع منهم: أنسًا، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، ومحمود بن الربيع، وسُنَينا أبا جميلة ... وغيرهم، ومع ذلك فأكثر روايته عن التابعين. والله أعلم].
في تقييد العراقي 72، أن المصنف أملاها حاشية على هذا المكان من كتابه ويأتي مثله في المحاسن عن ابن الصلاح مما وجد بخط تلميذه عبدالمعطي بن عبدالكريم الأنصاري، أبي محمد الخررجي القوصي (573 - 681 هـ) ذيل التقييد: ل / 22 أ.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وجدتُ بخط تلميذ ابن الصلاح سامع هذا الكتابِ منه، وهو " عبدالمعطي بن عبدالكريم بم أبي المكارم الأنصاري " قوله: - يعني الشيخ -: الواحد والاثنين؛ كالمثال ِ في قلة ذلك، وإلا فالزهري قيل إنه قد رأى عشرة من الصحابة وسمع منهم: " أنَسًا وسهلَ بن سعد، والسائب بن يزيد، ومحمود بن يزيد، ومحمود بن الربيع، وسُنَيْنا أبا جميلة ... وغيرَهم، ومع ذلك فأكثرُ روايتِه عن التابعين ".
ودخل تخت قول تلميذِ الشيخ: " وغيرهم " أنْ لم يتقيد بعَشرة: ابنُ عمر فإنه - يعني الزهري - رآه وروى عنه ثلاثةَ أحاديث، وأبو الطفيل عامرُ بن واثلةَ، وعبدالرحمن بنُ أزهرَ، وعبدُالله بن ثعلبةَ بن صُعَيْر، وربيعة بن عباد الديلي، وأبو أمامة بن سهل، وعبدالله بن عامر بن ربيعة " وذكر هؤلاءِ كلَّهم " عبدُالغني " في (الكمال) ومما زيد عليه: مسعودُ بن الحكم، وعبدالله بن الزبير، والحسَنُ، وأمُّ عبدِالله الدوسية، وأبو رُهْم، ومروان بن الحكم، وتمامُ بن العباس ِ بن عبدالمطلب، وسَندر " ورجلٌ من بَلِيِّ له صحبةٌ. وقد ذكره " عبدالغني " أيضًا. وحَكَى " ابنُ منجَويه ": أدرك " الزهري " عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر عن " العجلي " أنه أدرك عبدَالرحمن بن أيمن. قال: ولعله أراد: ابنَ أزهر (1).
__________
(1) عبدالرحمن بن أزهر الزهري، أبو جبير المدني. صحابي شهد حنينًا وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه ابناه عبدالله وعبدالحميد، والزهري. تهذيب التهذيب (6/ 135 / 281). وأما عبدالرحمن بن أيمن المخزومي، مولاهم، فمن التابعين روى عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهم -، وعنه عمرو بن المبارك. (تهذيب التهذيب 6/ 142 / 290).(1/205)
قال المملي - أبقاه الله -: وهذا المذهبُ فرعٌ لمذهبِ مَن لا يُسَمِّي المنقطعَ قبل الوصول ِ إلى التابعي: مُرسَلا. والمشهورُ التسويةُ بين التابعين في اسم الإِرسال كما تقدم. والله أعلم.
الثالثةُ: إذا قيل في الإِسناد: فلانٌ عن رجل أو عن شيخ عن فلان (1)، أو نحو ذلك؛ فالذي ذكره " الحاكمُ " في (معرفةِ علوم الحديث) (2) أنه لا يُسَمَّى مُرسَلا بل منقطِعًا. وهو
__________
(1) من (غ، ص، ع)، وفي (ز): [أو عن فلان].
(2) في النوع التاسع، منه: 27، 28.
___________________________________
= وفي بعض ِ ما زيد نظرٌ؛ فإن " أبا رُهْم " إن أريد به " الغفاريُّ كلثومُ بنُ الحصَين " فلم يسمع الزهريُّ منه؛ إنما روى عن رجل عنه، وفي روايةٍ عن رجلين عنه، وذلك في (معجم الطبرَاني الكبير). وإن أريد به: " أحزابُ بن أُسَيْد " فذاك مختلَفٌ في صحبتِه، والذي ذكره " البخاريُّ " في آخرين ... أنه لا صحبةَ له، (1) ولم أقفْ على روايةِ الزهري عنه. وإن أريدَ به " الأرْحَبيُّ " فلا يُعرَفُ للزهريِّ عنه روايةٌ؛ فلْيُنْظَرْ حالُ البقيةِ. و " مروانُ " لا يصحُّ له سَماعٌ. وبسْطُ ذلك في النوع التاسع والثلاثين في معرفةِ الصحابة. ولعل مرادَ " ابنِ الصلاح " أنه - أي الزهري - لم ير مَنْ له صحبةٌ مع روايةٍ كثيرة، وحينئذ فيقرُب، والكلامُ في المرسَل ِ يدلُّ على ذلك. وعلى تلك الطريقةِ يُزادُ: " كثيرُ ابنُ العباس، وأبو إدريسَ الخولاني ". وأما " أبو حازم الأشجعي سَلمانُ مولى عَزَّةَ " فإنه رَوى عن جماعةٍ من الصحابة. ذكر " عبدالغني " وغيرُه أنه سمع من أبي هريرة، وعبدِالله بن عمر، وعبدِالله بن الزبير، والحسنِ بن علي. وحينئذ فاعتذار تلميذِ الشيخ يحسن في " أبي حازم " دونَ " الزهري " على ما فُهِمَ.
وما تقدم من أن هذا المذهبَ فرعٌ لمذهبِ مَن لا يُسمِّي المنقطعَ قبل الوصول ِ إلى التابعيِّ مُرْسَلاً، فيه نظر؛ فذا المذهبُ أصلٌ يتفرعُ عليه أنه لا يُسمى المنقطعَ قبل الوصول ِ إلى التابعي مرسَلا - انتهت " 14 / و، ظ.
__________
(1) تاريخ البخاري: 2/ 64 (1700).(1/206)
في بعض المصنفاتِ المعتبرة في أصول الفقهِ معدود من أنواع ِ المرسل *. والله أعلم.
ثم اعلم أن حُكْم المرسَل ِ حُكْمُ الحديثِ الضعيفِ، إلا أن يصحَّ مخرجُه بمجيئه من وجهٍ آخر **، كما سبق بيانُه في نوع الحسن (1). ولهذا احتج " الشافعيُّ " - رضي الله عنه -
__________
(1) على هامش (غ) طرة: [المرسل إذا روي من جهة أخرى مرفوعًا أو مسندًا أو عمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء؛ اعتضد واحتج به. ذكر ذلك النووي في مقدمة شرح مسلم].
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: الذي ذكره " الحاكمُ " فيما إذا قال: عن شيخ، أو نحو ذلك؛ أنه منقطع، بشرط ألا يسمى ذلك الشيخ من طريق آخَر. فإن سُمِّيَ لم يكن منقطعًا. وهذا غير ما ذُكِرَ عن " الحاكم " إذ لا يلزم من تسميتِه منقطعًا أن يكون مرسَلا؛
لأنا نقول: قد صرَّح " الحاكمُ " في أول ِ كلامهِ في ذلك - وهو النوع التاسع - أن المنقطعَ غيرُ المرسل، فإذا سماه منقطعًا انتفى أن يكونَ مرسلا، بما قرر. وأما إذا سُمِّي المجهولُ من طريقٍ آخرَ، فمجموعُ الطريقين لا يُسمَّى منقطعًا.
وما نسبه لبعض ِ المصنفات في أصول ِ الفقه موجودٌ في كلام أهل ِ الحديث، ففي (مراسيل ِ أبي داود) كثيرٌ من ذلك. انتهت " 15 / و.
- انظر علوم الحاكم، النوع التاسع: 27، 28 وتقييد العراقي 74.
** " فائدة وزيادة: لا يقال: لا معنى لقولكم: " إلا أن يصحَّ مخرجُه بمجيئه من وجهٍ آخر " لأن الحجة بالمسنَدِ فقط. وأيضًا فإن " الشافعيَّ " لم يحتج بمرسَل ِ " سعيدٍ " كيف كان، وإنما أثنى على مراسيلِه حين قيل له: كيف قبلتَ عن سعيد منقطعًا ولم تقبلوه عن غيره؟ قال: لا نحفظ لسعيدٍ منقطعًا إلا وجدنا له ما يستدل على تسديده، ولا يَأثُر عن أحدٍ عرفناه عنه، إلا عن ثقةٍ معروف، فمن كان بمثل ِ حاله قبلنا منقطعَه؛
لأنا نقول: هذا سؤال موجود هو وجوابُه في كتبِ أصول ِ الفقه وقد سبق جوابه، ونقول: ما نُقِل عن الشافعيِّ في مراسيل ِ سعيد، هو معنى ما سبق، فلا معارضة. على أن " الماوَرْدي " في (الحاوي) في باب بيع اللحم بالحيوان، قال: " إن الشافعيَّ قد اختلف قولُه في مراسيل سعيد؛ فكان في (القديم) يحتجُّ بها بانفرادها؛ لأنه لا يرسل حديثًا إلا أن يوجَد مسندًا، ولأنه لا يروي ما سمعه من جماعة، أو عضده قولُ الصحابة، أو رآه منتشرًا =(1/207)
...........................................................................................................................
___________________________________
= عند الكافة، أو وافَقه فعلُ أهل ِ العصر؛ ولأنه لا يروي إلا عن أكابر الصحابة. وأيضًا فإن مراسيلَه سُبِرت فكانت مأخوذةً عن أبي هريرةَ لما بينهما من الوصْلةِ والصهارة، فصار إرسالُه كإسنادِه عنه. ومذهبُ الشافعيِّ في (الجديد) أن مرسَل سعيدٍ وغيره ليس بحجة، وإنما قال: مرسَل سعيدٍ عندنا حسن؛ لهذه الأمورِ التي وصفنا؛ استئناسًا بإرسالِه ثم اعتمادًا على ما قارنه من الدليل؛ فيصير المرسَلُ حينئذٍ مع ما قاربه حُجَّةً ".
وما ذكره " الماوردي " عن الجديدِ فيه نظر؛ ففي (الأم) - وهي من الكتبِ الجديدة على المشهور - في (الرهن الصغير) ساق ما سبق من الاعتراض ِ وذكره بزيادة وهو: قيل له: فكيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعًا ولم تقبلوه عن غيره؟ قلنا: لا نحفظ أن ابن المُسيَّبِ رَوَى منقطِعًا إلا وجدنا ما يدلُّ على تسديده، ولا أَثَرهُ عن أحدٍ فيما عرفنا عنه إلا عن ثقة معروف، فمن كان بمثل حالهِ قبلنا منقطعَه. ورأينا غيرَه يسمي المجهولَ، ويسمي من يُرغَب عن الروايةِ عنه، ويرسِلُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعن بعض ِ مَن لم يلحق من أصحابِه، المستنكَرَ الذي لا يوجَدُ له شيءٌ يُسدِّدُه. ففرقنا بينهم لافتراقِ أحاديثهم، ولم نُحابِ أحدًا، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفنا من صحةِ روايتِه " (1).
وهذا الكلامُ من " الشافعي " يؤيد ما سبق. وأطلق قومٌ من العلماء عن " الشافعي " أنه يحتجُّ بالمُرسَل ِ إذا أُسندَ أو أُرسِلَ من طريقٍ آخرَ، أو عضده قياسٌ أو قولُ صحابي أو فعلُ صحابي، أو يكونُ قولَ الأكثرين، أو يُنْشَر من غير دافع، أو عَمِلَ به أهلُ العصر. زاد " الماوردي ": أن المرسَل يُحتَجُّ به إذا لم توجدْ دلالةٌ سواه.
وما تقدم من الإِطلاق، فيه تفصيلٌ ذكره " الإِمام الشافعي " في (الرسالة) وهو قبولُ مراسيل ِ كبارِ التابعين بالشرط السابق، دون صغارِهم، فيذكره وفيه زياداتٌ حسنة، وذلك في أواخر بابِ (خبر الواحد) حيث ذكر أنه قال له قائل: فهل تقوم بالحديثِ المنقطع حجة على مَن عَلِمَه؟ وهل يختلف المنقطعُ أو هو وغيرُه سواءٌ؟ قال الشافعي: " فقلتُ له: المنقطع مختلِفٌ، فمن شاهَدَ أصحابَ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين =
__________
(1) كتاب الأم: ك البيوع، باب الرهن الصغير 3/ 188.(1/208)
...........................................................................................................................
___________________________________
= فحدَّث حديثًا منقطعًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اعتُبِر عليه بأمورٍ منها: أن يُنظَرَ إلى ما أرسل من الحديث؛ فإن شَرَكَه فيه ألفاظُ المأمونين فأسندوه إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى ما رَوَى؛ كانت هذه دلالةً على صحةِ من قبل عنه وحفظه. وإن انفرد بإِرسال حديث لم يَشْرَكْه فيه من يُسنِدُه؛ فيعتبر عليه بأن يُنظَر: هل يوافقه مُرسَلُ غيره ممن قُبِلَ العلمُ عنه من غيرِ رجاله الذين قبل عنهم؟ فإن وُجِدَ ذلك كانت دلالةً تُقوِّي له مُرسَلَه، وهي أضعفُ من الأولى، فإن لم يوجَد ذلك نظر إلى ما يروَى عن بعض ِ أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً له يوافقُه، فإن وجده يوافِقُ ما روِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلا عن أصل ٍ يصحُّ. قال الشافعي: وكذلك إن وُجِدَ عَوامٌّ من أهل ِ العلم يُفْتُونَ بمثل معنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم نعتبر عليه بأن يكونَ إذا سَمى مَن رَوى عنهم لم يُسمِّ مجهولا ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحتِه فيما يروى عنه. قال الشافعي: ويكون إذا شَرك أحدًا من الحُفَّاظ في حديثٍ لم يخالفه، فإن خالفه ووجدَ حديثُه أنقصَ؛ كانت في هذه دلائلُ على صحةِ مخرج حديثِه. ومتى خالف ما وصفتُ أضرَّ ذلك بحديثه، حتى لا يسعَ أحدًا منهم قبولُ مُرسَلِه. وإذا وُجِدت الدلائلُ بصحةِ حديثه بما وصفتُ؛ أحببنا أن نقبل مرسلَه، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتَها بالمتَّصل؛ وذلك أن معنى المنقطع مُغيَّبٌ يحتمل أن يكون حُمِلَ عمن يُرغَبُ عن الرواية عنه إذا سُمِّي، وأن بعضَ المنقطعاتِ وإن وافقه مرسَل مثلهِ، فقد يحتمل أن يكون مخرجُهما واحدًا من حيث لو سُمِّي لم يُقبَل، وأن قولَ بعض ِ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال برأيه أو وافقه؛ لم يدل على صحةِ مخرج الحديثِ دلالةً قويةً إذا نُظر فيها، ويمكنُ أن يكون إنما غلطَ به حين سمع قولَ بعض ِ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل مثلُ هذا فيمن يوافقه من بعض الفقهاء ".
قال الشافعي - رحمه الله -: " فأما مَنْ بعد كبارِ التابعين الذين كثُرت مشاهدتُهم لبعض ِ أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم؛ فلا أعلم منهم واحدًا يُقْبَلُ مُرسَلُه، لأمورٍ: أحدها: أنهم أشدُّ تجوزًا فيمن يروون عنه، والآخر أنهم يوجد عليهم الدلالةُ فيما أرسلوا بضعفِ مخرجه، والآخرة كثرة الإِحالة في الأخبار، وإذا كثُرت الإِحالة في الأخبارِ كان أمكَنَ للتوهُّهم وضعفِ =(1/209)
بمرسَلات " سعيدِ بن المسيب " - رضي الله عنهما -، فإنها وُجِدتْ مسانيدَ من وجوه أُخَرَ، ولا يختصُّ ذلك عنده بإرسال " ابن المسيَبِ " كما سبق.
ومَنْ أنكر هذا زاعمًا أن الاعتماد حينئذٍ يقع على المسنَدِ دونَ المرسَل ِ، فيقع لغوًا لا حاجةَ إليه؛ فجوابُه: أنه بالمسنَدِ يتبينُ صحةُ الإِسنادِ الذي فيه الإِرسالُ حتى يُحْكَمَ له مع إرسالِه بأنه إسنادٌ صحيحٌ تقومُ به الحجة، على ما مهَّدنا سبيلَه في النوع الثاني. وإنما يُنكِرُ هذا مَنْ لا مذاقَ له في هذا الشأنِ.
وما ذكرناه من سقوطِ الاحتجاج ِ بالمرسَل والحكم بضعفِه، هو المذهبُ الذي استقر عليه آراءُ جماهير حُفَّاظ الحديثِ ونُقَّاد الأثَرِ (1)، وتداولوه في تصانفيهم.
__________
(1) مقدمة ابن أبي حاتم لكتابه (المراسيل: 13) باب ما ذكر في الأحاديث المرسلة أن لا تقوم بها حجة.
___________________________________
= من يُقْبَلُ عنه " ثم قال الشافعي بعد ذلك بكلام: " ومن نظر في العلم بخبرةٍ وقلةِ غفلة، استوحشَ من مُرسَل كلِّ مَن دونَ كبارِ التابعين، بدلائلَ ظاهرةٍ فيها. قال له القائل: فلم فرقتَ بين كبارِ التابعين والمتقدمين الذين شاهدوا أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبين من شاهد بعضَهم دونَ بعض؟ قال الشافعي - رحمه الله -: فقلت: لِبُعدِ إحالةِ من لم يشهد أكثَرهم. قال: فلم لا تقبلُ المرسَلَ منهم ومن كلِّ ثقةٍ دونهم؟ فقلت: لما وصفتُ ".
ومُرادُ " الشافعي " بالذين شاهدوا أصحابَ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أي شاهدوا كثيرًا منهم، وبالذين شاهدوا بعضًا دون بعض: أي شاهدوا قليلاً كما تقدم في: أبي حازم، ويحيى بن سعيد، بل والزهري أيضًا. وإذا علمتَ ما تقدم في كلام " الشافعي " ظهر لك قصورُ من قال في اعتراضاته: وزعم " النوَويُّ " أن المرسَلَ إذا صحَّ مخرجُه بمجيئه من وجهٍ آخرَ مسندًا أو مرسَلا أرسله آخرُ غير رجال ِ الأول، كان محتجًّا به ويتبين بذلك صحةُ المرسَل، وأنهما صحيحان لو عارضَهما صحيحٌ من طريقٍ رجحناهما عليه إذا تعذر الجمعُ ".
ثمَّ يُعْتَرَضُ بأن الوجهَ الآخرَ المرسَلَ غيرُ مقبول ٍ ضُمَّ إلى غيرِ مقبول، ووجهُ ظهور قصورِه نِسبتُه إلى زَعْم ِ النووي، وهو نصُّ الإِمام الشافعي كما سبَق، والاعتراضُ عليه قد سبق نظيرُه وجوابُه - انتهى " 16 / و - 17 / ظ.
__________
- قوبل على (الرسالة للإِمام الشافعي) رواية الربيع بن سليمان المرادي: 198 - 201 والتقريب للنووي: 1/ 198 وانظر تبصرة العراقي 1/ 150.(1/210)
وفي صدر (صحيح مسلم): " المرسَلُ في أصل ِ قولِنا وقول ِ أهل العلم بالأخبار، ليس بِحُجَّةٍ " (1).
و " ابنُ عبدالبر: حافظُ المغرب " ممن حَكى ذلك (2) عن جماعةِ أصحابِ الحديث. والاحتجاجُ به مذهبُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأصحابهما في طائفةٍ (3) *. والله أعلم.
ثم إنا لَم نَعُدّ في أنواع المرسَل ِ ونحوِه، ما يُسَمَّى في أصول ِ الفقه مرسَلَ الصحابيِّ، مثل ما يرويه " ابنُ عباس " وغيرُه من أحداثِ الصحابةِ عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حُكم الموصول ِ المسندِ؛ لأن روايتَهم عن الصحابةِ **، والجهالةُ
__________
(1) مقدمة مسلم: 1/ 30 ط الحلبي، ت: محمد فؤاد عبدالباقي.
(2) في التمهيد: 1/ 5.
(3) زاد على هامش (ز): [وكذا وافقهم " أحمد بن حنبل ". ذكره النواوي في (شرح مسلم)].
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وهو روايةٌ عن الإِمام " أحمد بن حنبل ". وذكر " محمد بن جرير الطبري ": أن التابعين أجمعوا بأسرِهم على قبول ِ المراسيل، ولم يأت عنهم إنكارُه ولا عن أحدٍ من الأئمةِ بعدهم إلى رأس ِ المائتين. قال " ابنُ عبدالبر ": كأن ابنَ جرير يعني أن الشافعيَّ أولُ من أبَى قبولَ المراسيل. انتهت. " 17 / ظ.
- التمهيد لابن عبدالبر: 1/ 4.
** المحاسن:
" فائدة: حكى بعضُهم الإجماعَ على قبول ِ مراسيل الصحابة. ولكن الخلافَ ثابتٌ، ذكره بعضُ الأصوليين عن " الأستاذ أبي إسحاق الإِسفرائيني ". وحَكَى بعضُ المحدِّثين فيه الخلافَ؛ لاحتمال ِ تلقِّيهم ذلك عن بعض ِ التابعين. وللخطيبِ أبي بكر تصنيفٌ في (الصحابة الذين رووا عن التابعين) بلغ عددُهم ثلاثةَ وعشرين صحابيًّا. والمرادُ أن غالبَ روايةِ الصحابي إنما هو عن صحابي مثلِه. وما وقع في كلام " البيهقي " في تسمية ما يرويه التابعيُّ عن رجل ٍ من الصحابة مُرْسَلا، لا يريدُ أنه لا يُحْتَجُّ به، بل ذلك اصطلاحٌ في التسمية خاصة. انتهت. =(1/211)
بالصحابيِّ غيرُ قادحةٍ؛ لأن الصحابة كلهم عُدول (1). والله أعلم (2).
__________
(1) بهامش (غ) بخط ابن الفاسي:
[قال أبو زكريا - بعد قوله: كلهم عدول -: قلت: وحكى " الخطيب " وغيره عن بعض العلماء، أنه لا يحتج به لمرسل غيره إلا أن يقول: لا أروي إلا ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابي؛ لأنه قد يروي عن غير صحابي، وهو مذهب " أبي إسحاق الإسفرائيني ". والصواب صحته مطلقًا؛ لأن روايته عن غير الصحابة نادرة، وإذا رووها عينوها. كذا وجدته بخطه - أيده الله -. ثم وجدت بخطه أيضًا: وقال أبو إسحاق الإسفرائيني: لا يحتج به، إلا أن يقول إنه لا يروي إلا عن صحابي. نقله النواوي في (شرح مسلم). والله أعلم] ص 30.
(2) على هامش (ص): بلغ ناصر الدين ابن العديم قراءة بحث وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين أحمد بن محمد بن خليل الحلبي سماعا. وكتبه عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
= " وتتعلق بالمرسَل مسألةٌ مذكورة في نوع المعضَل (1)، وذِكرُها في المرسَل أنسبُ. وهي: أن الحديثَ إذا رواه بعضُ الثقات مرسَلا وبعضُهم متصلا كحديثِ: " لا نكاحَ إلا بَوَليٍّ " رواه إسرائيلُ بن يونس وغيرُه عن أبي إسحاق عن أبي بردةَ عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندًا متصلا. ورواه سفيانُ الثوريُّ وشعبةُ عن أبي بردةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلا. قال " الخطيبُ " (2): أكثرُ أهل ِ الحديث يرونَ الحكم للمرسل، وعن بعضهم: الحكمُ للأكثر، وعن بعضهم: للأحفَظ. ولا يقدح في عدالةِ من أسند إذا كان المرسِلُ أحفظَ. وقيل: يقدح في مسنده وأهليَّتِه. ومنهم من قال: الحكمُ لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطًا، وإن خالفه غيرُه، واحدًا كان أو جماعة. وصحَّحه " الخطيبُ " وهو الصحيحُ في الفقهِ وأصولِه. وسُئل " البخاريُّ " عن حديث: " لا نكاحَ إلا بِوَليٍّ " فحكم لمن وصلَه وقال: الزيادةُ من الثقةِ مقبولة. قال البخاري: مع أن شعبةَ وسفيانَ أرسلاه، وهما جبلان لهما من الحفظِ والإِتقانِ الدرجةُ العالية - انتهت " 17 / ظ - 18 / و.
__________
(1) النوع الحادي عشر، في خامس التفريعات منه: متن ابن الصلاح.
(2) في الكفاية: 411، وانظر حديث (لا نكاح إلا بِوَلِيّ " في فتح الباري (9، 144، 145، 149) وسنن الدارقطني (3/ 278 ح 4 - 11) وسئل فيه، فقال في العلل: والصواب عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (علل الدارقطني: 1/ 98) خط.(1/212)
النوع العاشر:
معرفة المنقطِع.
وفيه، وفي الفرق بينه وبين المرسَل، مذاهبُ لأهل ِ الحديث وغيرهم. فمنها ما سبق في نوع المرسل عن " الحاكم " صاحبِ كتاب (معرفة أنواع علوم الحديث) من أن المرسَل مخصوصٌ بالتابعي، وأن المنقطع منه: الإِسنادُ الذي فيه قبل الوصول ِ إلى التابعي راوٍ لم يسمع من الذي فوقه، والساقط بينهما غيرُ مذكورٍ لا مُعَينا ولا مُبْهمًا، ومنه [12 / ظ] الإِسنادُ الذي ذُكر فيه بعضُ رواتِه بلفظٍ مبهم، نحو: رجل ٍ، أو شيخ، أو غيرِهما (1).
مثالُ الأول: ما رويناه عن عبدالرزاق، عن سُفيانَ الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع، عن حذيفةَ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن وليتموها أبا بكرٍ فقويٌّ أمين ... " الحديث. فهذا إسنادٌ إذا تأمله الحديثيُّ وجد صورتَه صورةَ المتصل، وهو منقطع في موضعين؛ لأن عبدَالرزاق لم يسمعه من الثوري، وإنما سمعه من النعمانِ بنِ أبي شيبةَ الجَنَدِي عن الثوري، ولم يسمعه الثوريُّ أيضًا من أبي إسحاق، إنما سمعه من شَريكٍ عن أبي إسحاق (2).
ومثال الثاني: الحديثُ الذي رويناه عن أبي العلاء بن عبدِالله بنِ الشِّخِّير، عن رجُلين، عن شَدَّاد بن أوس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء في الصلاة: " اللهم إني أسألك "
__________
(1) معرفة علوم الحديث للحاكم (المرسل: 25، ثالث المنقطع: 28) وانظر معه تبصرة العراقي، وفتح الباقي عليها، للشيخ زكريا الأنصاري: 1/ 154 / 155.
(2) بمزيد بيان عند الحاكم في المعرفة (28، 29) وخرج حديث حذيفة بالإسنادين: المنقطع ثم المتصل. وانظر فيه (مجمع الزوائد للنور الهيثمي): 5/ 176.
- على هامش (ص): بلغ ناصر الدين محمد، ولد قاضي القضاة الكمال ابن العديم ...(1/213)
الثباتَ في الأمر ... " (1) الحديث. والله أعلم *.
ومنها، ما ذكره " ابنُ عبدالبر " - رحمه الله -، وهو أن المرسَل مخصوصٌ بالتابعين، والمنقطع شاملٌ له ولغيره. وهو عنده: " كل ما لا يتصل إسنادُه، سواء كان يُعزَى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى غيره " (2) **.
ومنها، أن المنقطع مثلُ المرسل، وكلاهما شاملان لكلِّ ما لا يتصل إسنادُه. وهذا المذهب أقربُ، صار إليه طوائفُ من الفقهاء وغيرهم، وهو الذي ذكره " الحافظ أبو بكر
__________
(1) الحاكم في (علوم الحديث: 27) وأخرجه الترمذي في الدعوات فيما يقرأ عند المنام، والنسائي في الصلاة، باب الدعاء بعد الذكر.
(2) ابن عبدالبر في (التمهيد: 1/ 21).
___________________________________
* المحاسن:
[لا يقال: فيه نظر في موضعين:
أحدهما: أن " الحاكم " ذكر المثالين المذكورين؛ فيكون ذلك ادعاءً لما ذكره الناس؛ لأنا نقول: لم يوجد في الكلام دعوى ذلك. وما زال المصنفون يغترفون من كلام مَنْ تقدمهم، ثم مرةً ينسبونه ومرة يسكتون.
الثاني: في المثال الثاني: عن رجلين، والذي في " الحاكم ": " عن رجل " وكذا ذكره الترمذي والنسائي:
وجوابه: أني وقفت على نسخة من (علوم الحديث للحاكم) أصل ٍ مسموعةٍ، وفيها: " عن رجلين " في السند، ثم في الكلام عليه. وهذا المثال يبين أن المنقطع ما سقط فيه رجل أو أبهم قبل الصحابي، ولو كان التابعي. وهذا خلافُ ما يقتضيه ما نُقِلَ عن المذهب الأول (1). انتهى ".
** " فائدة: فالمنقطع على هذا أعم من المرسل؛ فكل مرسل ٍ منقطعٌ، ولا عكسَ. وكلام " الشافعي " السابق ينطبق على هذا. انتهى " 18 / ظ.
__________
(1) قلت: في طبعة الحاكم، الهندية: عن رجلين من بنى حنظلة: ص 27 وفي جامع الترمذي: عن رجل من بني حنظلة (عارضة 12/ 293) أبواب الدعاء والنسائي (2/ 192).(1/214)
الخطيب " في (كفايته)، إلا أن أكثر ما يوصَف بالإِرسال من حيث الاستعمالُ: ما رواه التابعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر ما يوصف بالانقطاع: ما رواه مَنْ دونَ التابعين عن الصحابة، مثل مالك عن ابن عمر، ونحو ذلك (1). والله أعلم.
ومنها ما حكاه " الخطيب أبو بكر " عن بعض ِ أهل ِ العلم بالحديث، أن المنقطع ما رُوِي عن التابعي أو مَنْ دُونَه موقوفًا عليه من قوله أو فعله.
وهذا غريب * بعيد. والله أعلم (2).
__________
(1) قابل على الخطيب في (الكفاية: 21).
(2) على هامش (ص): بلغ ناصرالدين ابن العديم قراءة على العراقي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يلتبس ذلك بما سبق في المقطوع الموقوف على التابعي، من أنه يعبر بلفظه عن المنقطع غير الموصول. فإن الكلام في إطلاق المنقطع على ما يُطْلَقُ عليه المقطوعُ بزيادة، أو مَنْ دُونَ التابعي. وهذا هو الغريب. " 19 / و.(1/215)
النوع الحادي عشر:
معرفة المُعْضَل.
وهو لقبٌ لنوع خاصٍّ من المنقطع: فكل معضَل ٍ منقطعٌ، وليس كلُّ منقطع معضَلا. وقوم يسمونه مُرْسَلا كما سبق، وهو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدًا.
وأصحابُ الحديث يقولون: أعضله فهو معضَل، بفتح الضاد، وهو اصطلاح مُشكِلُ المأخذِ من حيث اللغةُ، وبحثت فوجدت له قولهم: أمر عضيل: أي مستغلَق شديد. ولا التفاتَ في ذلك إلى: معضِل، بكسر الضاد، وإن كان مثل عضيل في المعنى (1) *.
__________
(1) على هامش (غ، ص) من أمالي ابن الصلاح:
[قال المؤلف - رحمه الله -: " دلنا قولهم: عضيل، على أن في ماضيه: عضل؛ فيكون أعضله منه، لا من أعضل هو. وقد جاء: ظَلَم الليل وأظلم، وأظلمه الله، وغَطِشَ الليلُ وأغطشه الله ". وجدته بخطه].
قال العراقي: " وأراد المصنف بذلك تخريج قول أهل الحديث: معضَل، بفتح الضاد، على مقتضى اللغة فقال إنه وجد له قولهم: أمر عضيل. ثم زاده المصنف إيضاحًا فيما أملاه حين قراءته الكتاب عليه فقال: " إن فعيلا يدل على الثلاثي، فعلى هذا يكون لنا (عضل) قاصرًا، و (أعضل) متعديا وقاصرًا، كما قالوا: ظلم الليل وأظلم الليل. انتهى. وقد اعترض عليه بأن فعيلا لا يكون من الثلاثي القاصر. والجواب: أنه إنما يكون من الثلاثي القاصر إذا كان فعيل بمعنى مفعول. فأما إذا كان بمعنى فاعل فيجيء من الثلاثي القاصر كقولك: حريص، من: حرص. وإنما أراد المصنف بقولهم: عضيل، أي أنه بمعنى فاعل .... وقرأت بخط الحافظ شرف الدين الحسن بن علي بن الصيرفي المصري - ت 699 هـ - على نسخة من كتاب ابن الصلاح في هذا الموضع: " دلنا قولهم عضيل ... " - إلى آخر الطرة على هامش (غ، ص) - (التقييد: 102).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: إن كان وجه الإِشكال من حيث اللغة أن الماضي في ذلك ثلاثي ليس إلا، فممنوع. ففي (الصحاح للجوهري): وأعضلني فلان أي أعياني أمرُه، وقد أعضل الأمرُ أي اشتد واستغلق.
وإن كان وجه الإِشكال أن الرباعي إنما أتى في القاصر كأعضل الأمرُ، ومنه =(1/216)
ومثالُه ما يَرويه تابعيُّ التابعيِّ قائلا فيه: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما يرويه مَنْ دُونَ تابعي التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أبي بكر وعمر وغيرهما، غيرَ ذاكرٍ للوسائط بينه وبينهم (1). وذكر " أبو نصر السِّجِزِّي الحافظُ " قولَ الراوي: بلغَني، نحو قول ِ " مالك ": بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لِلمملوكِ طعامُه
__________
(1) على هامش (غ) طرة، بتعريف الحاكم كما في المحاسن فيما يلي.
___________________________________
= أمر مُعضِل، بكسر الضاد، فممنوع؛ فقد سبق في كلام الجوهري: أعضلني فلان. وهذا رباعي في المتعدي. ولعل المراد أن المتعدي إنما استعمل في نحو: أعضلني فلان أي أعياني أمره. وإذا قلت: أعضلني الحديثُ، أي أعياني أمره، كنتَ أنت مُعضَلاً، بفتح الضاد، وهو معضِل، بكسرِها. وهو خلاف المصطلح. فلذلك كان مشكلا، ويؤخذ من قولهم: أمر عضيل أي مستغلق. ولقائل أن يقول: لا يمتنع بما تقدم أن نقول: أعضلتُ الحديثَ وأعضلت فلانًا، إذا صَيَّرتُ أمره معضَلا. فيصح بذلك: حديث معضَل، بفتح الضاد.
لا يقال: " قوله: ولا التفات في ذلك إلى معضِل بكسر الضاد " كأنه يشير به إلى أن كسر ضاد معضل ليس عربيًّا، وهي لفظة عربية موجودة في (الموعَب، والمحكَم)؛
لأنا نقول: لا يشير ما ذَكَرَ إلى ذلك، بل إلى أنه لا يُؤخذ منه معضَل بفتح الضاد، فقط. وبيان ذلك نقرر أنه بالكسر عربي وإنما لم يُؤخذ منه معضَل بفتح الضاد لأن معضِلا بكسرها من رباعيٍّ قاصر، كما في: أظلم الليل فهو مظلم، والكلامُ في رباعيٍّ متعدٍّ. وعضيل يدل عليه؛ لأن فعيلا بمعنى مفعل، إنما يستعمل في المُعَدَّى. وقد فسر عضيل بمتسغلَق، فتبين أنه من رباعيٍّ متعد، وذلك يقتضي صحة معضَل ٍ بفتح الضاد، وهو المقصود.
ولا يقال: لعل عضيلا من الرباعي القاصر؛ لأنا نقول: فَعيل بمعنى مُفعِل، يدل على التعدي، فلا يكون من رباعي قاصر. وينبغي أن يضبط مستغلَق بفتح اللام بمعنى استغلقه غيره، كاستخرجه. وبالجملة فالأحسن أن يكون من: أعضله إذا صيرت أمره معضَلا. انتهت " 19 / وظ.
__________
- وانظر جامع التحصيل للعلائي: 15، وفتح المغيث 1/ 151.(1/217)
وكسوتُه ... " الحديث. وقال (1): أصحابُ الحديث يسمونه المعضَل (2).
قال المملي - أبقاه الله -: وقولُ المصنِّفين من الفقهاء وغيرهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ونحو ذلك؛ كلُّه من قبيل المعضَل؛ لما تقدَّم. وسمَّاه " الخطيبُ أبو بكر الحافظُ " في بعض كلامه: مرسَلا (3). وذلك على مذهب مَن يسمي كلَّ ما لا يتصلُ مرسَلا كما سبق *.
__________
(1) أبو نصر السجزي.
(2) بهامش الأصل (غ): [قال الحاكم: أعضل مالك هذا الحديث في الموطأ، ووُصِلَ خارجه - أي خارج الموطأ -: عن مالك عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة، قال: " للمملوك طعامه ... " الحديث]. قوبل على معرفة الحاكم: ص 37، وانظر التقصي لابن عبدالبر: 248 ح 809.
وسئل الدارقطني في حديث الموطأ - 2/ 980 باب الرفق بالمملوك - فقال: " يرويه محمد بن عجلان واختلف عنه: فرواه مالك، واختلف عنه: فرواه أصحاب الموطأ عن مالك أنه بلغه عن أبي هريرة؛ بغير إسناد ورواه إبراهيم بن طهمان والنعمان بن عبدالسلام ... عن مالك عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة. وخالفهم محمد بن عبدالوهاب القناد؛ فرواه عن ابن عجلان عن بكير بن عبدالله الأشج عن أبي هريرة. ورواه المفضل بن فضالة واختلف عنه عن ابن عجلان عن بكير عن عجلان عن أبي هريرة. ورواه سفيان بن عيينة وسعيد بن أبي أيوب وبكر بن مضر ووهيب بن خالد والليث بن سعيد وأبو ضمرة وطارق بن عبدالعزيز، عن ابن عجلان عن بكير عن أبي هريرة، وهو الصحيح " (العلل للدارقطني 3/ 202) خط.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، من طريق أبي الطاهر المصري عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث: أن بكير ابن الأشج حدثه عن العجلان مولى فاطمة بنت عتبة عن أبي هريرة يرفعه. (ك الإِيمان، باب إطعام المملوك، ح 41).
(3) الخطيب في (الكفاية: 21) وقال: وهو أخفض مرتبة من المرسل.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما سبق في المثال بقول " مالك " بلغني , مثَّل به " الحاكم " وذكر وصلَه خارجَ الموطأ، فأسند الحاكم من طريق إبراهيم بن طهمان، عن مالك عن محمد بن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " للمملوك طعامُه وكسوته بالمعروف، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق " وقد وصله أيضًا قبل الحاكم، الدارقطنيُّ في (الغرائب) ووصله الخطيب في (الكفاية). قال الحاكم: رواه النعمان بن عبدالسلام وغيره عن مالك.
وكان الحاكم ذكر قبل ذلك حديثًا من عمرو بن شعيب قال: " قاتل عبدٌ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَذِنَ لك سَيِّدُك؟ قال: لا، فقال: لو قُتِلتْ لدخلتَ النارَ. قال سيدُه: فهو حُرٌّ يا رسول الله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن فقاتلْ ". =(1/218)
وإذا رَوَى التابع عن التابع ِ حديثًا موقوفًا عليه، وهو حديث متصل مُسنَدٌ إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد جعله " الحاكم أبو عبدالله " نوعًا من المعضَل. مثالُه: ما رويناه عن الأعمش، عن الشعبي، قال: " يقال للرجل يوم القيامة: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: ما عملتُه. فيُختَم على فيه ... " الحديث؛ فقد أعضله الأعمشُ، وهو عند الشعبي: " عن (1) أنس ٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " متصلا مسندًا (2).
قال المملي - أبقاه الله -: هذا جيد حسن؛ لأن هذا الانقطاع بواحدٍ مضمومًا إلى الوقف، يشتمل على الانقطاع باثنين: الصحابي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذلك باستحقاق اسم الإِعضال أوْلَى. والله أعلم.
__________
(1) بهامش (غ): [الأعمش رأى أنس بن مالك. كذا وجدته بخطه - أيده الله -].
(2) من (غ، ص، ع) ومثله في متن (ز) ثم كتب فوقها: [متصل مسند] وهو لفظ الحاكم في معرفة علوم الحديث (38) قال بعد أن أخرجه: " متصل مسند مخرج في الصحيح لمسلم ".
وهو عند مسلم في كتاب الزهد والرقائق (ح 7) من رواية فضيل بن عمرو، عن الشعبي عن أنس قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك فقال: " هل تدرون مم أضحك؟ " قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: " من مخاطبة العبدِ ربَّه " الحديث بطوله.
___________________________________
= وذكر الحاكمُ حديثًا أسنده إلى ابن وهب، قال: أخبرني مسلمة بن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى إذا حضرتْه الوفاةُ حاف في وصيته فوجبت له النار. وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى إذا حضرته الوفاةُ عدل في وصيته فوجبت له الجنةُ ". قال " الحاكم ": فالإِسناد الأول أعضله عمرو بن شعيب، والثاني مسلمة بن علي، ثم لا نعلم أحدًا من الرواة وصله ولا أرسله؛ فالحديثان معضَلان. وليس كل ما يشبه هذا بمعضَل، فربما أعضل راوٍ الحديثَ في وقتٍ ثم وصله أو أرسله في وقت. ومثَّل بما سبق من قول مالك - رضي الله عنه -. قال الحاكم: " فينبغي للعالم بهذه الصنعة أن يميز بين المعضَل ِ الذي لا يوصَل، وبين ما أعضله الراوي في وقت ثم وصله في وقت ". انتهت " 20 / و.
- قوبل على الحاكم في: علوم الحديث 36 - 37، النوع الثاني عشر (المعضل).(1/219)
تفريعات:
أحدُها: الإِسناد المعنعَنُ، وهو الذي يقالُ فيه: فلان عن فلان. عَدَّه بعضُ الناس من قبيل المرسَل والمنقطِع، حتى يبينَ اتصالُه، بغيرِه.
والصحيحُ والذي عليه العملُ، أنه من قبيل ِ الإِسنادِ المتصل. وإلى هذا ذهب الجماهيرُ من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقَبلوه. وكاد (1) " أبو عمر ابن عبدالبر الحافظ " يَدَّعي إجماع أئمة الحديث على ذلك. وادّعى " أبو عمرو الداني (2) المقرئ الحافظُ " إجماع أهل النقل ِ (3) على ذلك. وهذا بشرط أن يكونَ الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتتْ ملاقاةُ بعضهم بعضا مع براءتهم من وصمة التدليس، فحينئذ يُحمَلُ على ظاهر الاتصال، إلا أن يظهر فيه خلافُ ذلك.
وكثُر في عصرِنا وما قاربه، بين المنتسبين إلى الحديث استعمالُ " عن " في الإجازة، فإذا قال أحدهم: قرأتُ على فلان عن فلان، أو نحو ذلك، فَظُنَّ به أنه رواه عنه بالإِجازة (3)، ولا يُخرجه ذلك من قبيل ِ الاتصال على ما لا يخفى. والله أعلم.
الثاني: اختلفوا في قول الراوي: أن فلانًا قال كذا وكذا؛ هل هو بمنزلة " عن " في الحَمْل ِ على الاتصال إذا ثبت التلاقي بينهما، حتى يتبين فيه الانقطاعُ؟
مثالُه: " مالك، عن الزهري: أن سعيد بن المسيب قال كذا ". فروينا عن " مالك - رضي
__________
(1) في التقييد 84: " لا حاجة إلى: كاد؛ فقد ادعاه فقال في مقدمة التمهيد: .. فوجدتهم أجمعوا على قبول الإِسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك، إذا جمع شروطًا ثلاثة وهي عدالة المحدثين، ولقاء بعضهم بعضًا مجالسة ومشاهدة، وأن يكونوا برءاء من التدليس " ثم قال: وهو قول مالك وعامة أهل العلم ".
(قوبل على التمهيد 1/ 12 وانظر التبصرة 1/ 193).
(2) [الداني] من هامش (غ) لحقًا والمتن في العراقية.
وانظر فائدة البلقيني، في ثالث هذه التفريعات.
(3) على هامش (غ، ص، ز) [قوله: فظُن - هنا - أمر بالظن، وليس بإخبار].(1/220)
الله عنه - " أنه كان يرى " عن فلان " و " أن فلانًا " سواء (1). وعن " أحمد بن حنبل " - رضي الله عنه - أنهما ليسا سواءً (2).
وحكى " ابنُ عبدالبر " عن جمهور أهل العلم، أن (عن) و (أنَّ) سواء. وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة. - يعني مع السلامة من التدليس - فإذا كان سماعُ بعضِهم من بعض صحيحًا؛ كان حديثُ بعضِهم عن بعض بأيِّ لفظٍ وَرَدَ، محمولا على الاتصال حتى يتبين فيه الانقطاعُ (3).
وحكى " ابنُ عبدالبر " عن " أبي بكر البردِيجي " أن حرف " أنَّ، محمولٌ على الاتقطاع حتى يتبين السماعُ في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى " (4).
وقال: عندي لا معنى لهذا؛ لإجماعهم على أن الإِسنادَ المتصل بالصحابي سواءٌ فيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال، أو: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم (5) -. والله أعلم.
قال الشيخ - أبقاه الله -: ووجدت مثل ما حكاه عن " البرديجي، أبي بكر الحافظ (6) ".
__________
(1) انظره في الكفاية: باب في ذكر الفرق بين قول الراوي: عن فلان، وأن فلانًا قال، فيما يوجب الاتصال والإِرسال (406 - 407).
وضبط " سواءٌ " من (غ): بالنصب مفعولا ثانيًا لـ: يرى. وضبطه في (ص) بالضم قلمًا، وليس السياق.
(2) على هامش (غ): [قال النواوي في (مختصره لهذا الكتاب): وقال أحمد بن حنبل وجماعة: لا تلتحق " أن " وشبهها بـ: عن؛ بل يكون منقطعًا حتى يتبين السماع. ففسر النواوي مذهب ابن حنبل، وأبهمه ابن الصلاح. قال القاضي عياض ما معناه: أن البرديجي موافق لقول ابن حنبل].
انظر متن التقريب للنووي، مع (تدريب الراوي 1/ 220).
(3) ابن عبدالبر في (التمهيد: 1/ 26).
(4) ابن عبدالبر، في التمهيد: 1/ 26 من قول البرديجي، وتمام عبارته: " حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر، أو يأتي ما يدل على أنه قد شهده وسمعه ".
وانظر (جامع التحصيل في أحكام المراسيل " للعلائي: 141.
(5) " كل ذلك سواء عند العلماء ". ابن عبدالبر في (التمهيد 1/ 26).
(6) في الطرة على هامش (غ): [برديج: مثل فعليل؛ بفتح أوله: بليدة، بينها وبين برذعة نحو أربعة عشر فرسخًا، إليها نسب هذا الحافظ " أحمد بن هارون، أبو بكر البرديجي البرذعي " ومن نحا بها نحو أوزان كلام العرب، كسر أولها نظرًا إلى أنه ليس في كلامهم فعليل بفتح الفاء. والله أعلم].
ومثلها على هامش (ز) مع اختلاف يسير في العبارة. وضبطها في (اللباب) عن الأنساب للسمعاني بفتح الباء الموحدة (1/ 136) بليدة بأقصى أذريبجان.(1/221)
للحافظ الفحل " يعقوبَ بنِ شيبةَ " في (مسنده) الفحل ِ، فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار، قال: " أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه، فردَّ عليَّ السلامَ .. " وجعله مسندًا موصولا. وذكر رواية قيس بن سعد لذلك، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية: " أن عمارًا مرَّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي .. " فجعله مرسلا من حيث كونه قال: إن عمارًا فعل، ولم يقل: عن عمار (1). والله أعلم.
ثم إن " الخطيبَ " مَثَّلَ هذه المسألةَ بحديث نافع عن ابن عمر عن عمر أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أينام أحدُنا وهو جُنُب؟ .. " الحديث. وفي رواية أخرى، عن نافع عن ابن عمر، أن عمر قال: " يا رسول الله .. " الحديث (2).
ثم قال: ظاهرُ الرواية الأولى، يوجب أن يكون من مسندِ عُمَرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثانيةُ ظاهرُها يوجب أن يكونَ من مسنَدِ ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشيخ - أبقاه الله -: ليس هذا المثالُ مماثلا لما نحن بِصددِه؛ لأن الاعتمادَ فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور؛ إنما هو على اللقاءِ والإِدراك، وذلك في هذا الحديث مشتَرَكٌ متردِّد؛ لتعلقه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعمر - رضي الله عنه -، وصحبةِ الراوي ابن عمر لهما، فاقتضى ذلك من جهةٍ، كونَه (3) رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن جهةٍ أخرى، كونَه رواه عن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم (4) -. والله أعلم *.
__________
(1) حديث عمار، بروايتيه: في (الاعتبار للحازمي: باب ما نسخ من الكلام في الصلاة: 143. وانظر: تقييد العراقي 85).
(2) كفاية الخطيب 407.
وحديث نافع عن ابن عمر أنه قال: استفتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أينام أحدنا وهو جنب؟. في الصحيحين: البخاري، ك الغسل (فتح الباري 1/ 271) ومسلم، ك الحيض (ح 24)، ورواية نافع عن ابن عمر أن عمر قال .. في ك الحيض من صحيح مسلم (ح 23).
(3) هكذا ضبطه بهامش (غ) ومتن (ص، ز) وهو السياق. والضمير في (رواه)؛ لابن عمر - رضي الله عنهما -. وضبطه في متن (غ): من جهة كونِه / بالجر، والإضافة.
(4) على هامش (ص) بلاغ القراءة على العراقي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: صحة التمثيل لما نحن بصدده؛ تظهر من وجه آخر؛ وذلك أن مقتضى =(1/222)
الثالث: قد ذكرنا ما حكاه " ابنُ عبدالبر " من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عن من لقيه بأي لفظٍ كان. وهكذا أطلق " أبو بكر الشافعي الصيرفي " (1) ذلك فقال: " كلُّ من عُلِم له سماعٌ من إِنسان فحدَّث عنه، فهو [14 / و] على السماع، حتى يُعلَم أنه لم يسمع ما حكاه، وكل من عُلِم له لِقاءُ إنسانٍ فحدَّث عنه؛ فحكمُه هذا الحكمُ ".
وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسُه.
ومن الحجة في ذلك وفي سائر الباب؛ أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإِطلاقِه الروايةَ عنه من غير ذكْر الواسطة بينه وبينه، مدلِّسًا. والظاهرُ السلامةُ من وصمةِ التدليس، والكلامُ فيمن لم يُعرف بالتدليس (2). ومن أمثلة ذلك قولُه: قال فلان كذا وكذا؛ مثل أن يقول نافع: قال ابن عمر، وكذلك لو قال عنه: ذَكَر، أو: فعل، أو: حدث، أو: كان يقول كذا وكذا، وما جانس ذلك. فكل ذلك محمولٌ ظاهرًا على الاتصال، وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما، مهما ثبت لقاؤه له على الجملة *.
ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشروطِ في ذلك ونحوه، على مطلَق اللقاءِ
__________
(1) محمد بن عبدالله بن إبراهيم، من أئمة الوجوه المتقدمين والمصنفين البارعين. له شرح الرسالة، وكتاب الإِجماع، والشروط. توفي سنة 330 هـ ببغداد.
(2) على هامش (غ): [قال الشيخ تقي الدين: إذا كان الراوي غير مدلس حملنا الرواية على الاتصال والسماع. وإن كان مدلسًا فالمشهور أنه لا يحمل على المساع حتى يبين الراوي ذلك. وما لم يبين فهو كالمنقطع فلا يقبل. وهذا جار على كثير من الأحاديث التي صححوها؛ إذ يتعذر علينا إثبات سماع المدلس فيها من شيخه. اللهم إلا أن يدعي مدع أن الأولين اطلعوا على ذلك، وإن لم نطلع نحن عليه]. قال: " وفي ذلك نظر " - (الاقتراح، للشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: 207 - 208).
___________________________________
= أن يكون من مسند ابن عمر؛ يقتضي أن عمر لم يدخل في السند بلفظة " أن " وكذلك لم يدخل عمار في السمد في رواية " أن " فجعله ابن شيبة مرسًلا، بخلاف: عن عمار. والراوي لهما واحد وهو ابن الحنفية. انتهت " 22 / و.
* المحاسن:
" فائدة: والظاهرُ الحملُ على الاتصال مطلقًا، ما لم يظهر خلافه كما تقدم. انتهت " 22 / ظ.(1/223)
أو السماع، كما حكيناه آنفًا. وقال فيه " أبو عمرو المقرئ ": (1) إذا كان معروفًا بالرواية عنه. وقال فيه " أبو الحسن القابسي ": إذا أدرك المنقولَ عنه إدراكًأ بيِّنًا.
وذكر " أبو المظفر السمعاني (2) " في العنعنة، أنه يُشترط طولُ الصحبة بينهم. وأنكر " مسلم بنُ الحجاج " في خطبة (صحيحه) على بعض ِ أهل ِ عصره، حيث اشترط في العنعنة ثبوتَ اللقاء والاجتماع. وادَّعى أنه قولٌ مخترَع لم يُسبَق قائلُه إليه، وأن القولَ الشائع المتفقَ عليه بين أهل العلم بالأخبار قديمًا وحديثًا، أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونُهما في عصر واحد، وإن لم يأتِ في خبرٍ قط أنهما اجتمعا أو تشافهَا (3).
وفيما قاله " مسلم " نظرٌ، وقد قيل إن القول الذي ردَّه " مسلم " * هو الذي عليه أئمةُ هذا العلم (4): " علي ابن المديني، والبخاري " وغيرهما. والله أعلم.
__________
(1) هو " الداني " / من تضمين البلقيني.
(2) على هامش (غ): [وجدت بخط شيخنا: أبو المظفر اسمه " منصور بن محمد الإِمام " وأبوه " محمد إمام، وولده - أعني ولد أبي المظفر - أبو بكر محمد بن منصور، ولده: أبو سعد عبدالكريم ابن أبي المظفر السمعاني / نسب إلى بطن من تميم، بيت علم وفضل وحديث].
قلتُ: وولد أبي سعد " أبو المظفر عبدالرحيم " شيخ ابن الصلاح.
(3) مقدمة مسلم، باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن (1/ 29) وانظر معه: معرفة الحاكم، النوع 11، معرفة الأحاديث المعنعنة، وتوضيح التنقيح (1/ 230).
(4) طرة على هامش (غ): [قال القاضي عياض: قال أبو عمر ابن عبد البر: وجدت أئمة الحديث أجمعوا على قبول المعنعن بغير تدليس إذا جمع شروطًا ثلاثة: عدالتهم، ولقاء بعضهم بعضًا، وبراءتهم من التدليس، على خلافٍ بينهم في ذلك. وقال ابن البيع: المعنعن بغير تدليس متصل بالإِجماع من أهل النقل على تورع راويه عن التدليس، وإلى ما ذهب إليه مسلم؛ ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره من أئمة النظار. والله أعلم].
- قوبل على التمهيد لابن عبدالبر 1/ 12.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: قيل: يريد مسلم بذلك " البخاريَّ ". إلا أن البخاري لا يشترط ذلك في أصل الصحة، ولكن التزمه في جامعه. ولعله يريدُ " ابنَ المديني " فإنه يشترط ذلك في أصل الصحة. وقد تكلم " الإِمام الشافعي " - رضي الله عنه - في (الرسالة) على المسألة، ودلَّ كلامه على مقتضى مذهب ابن المديني والتزام البخاري، فقال في (باب خبر الواحد) حكايةً عن سائل ٍ سأله فقال: " فما بالك قبلتَ ممن لا تعرفه بالتدليس أن يقول: عن =(1/224)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟ فقلت له: المسلمون العدول عدول أصحاء الأمر في أنفسهم، وحالهم في أنفسهم غيرُ حالهم في غيرهم، ألا ترى أني إذا عرفتهم بالعدل في أنفسهم قبلت شهادتهم، وإذا شهدوا على شهادة غيرهم لم أقبل شهادةَ غيرهم حتى أعرف حاله؟ ولم تكن معرفتي عدلهم، معرفتي عدلَ من شهدوا على شهادته. وقولهم عن خبر أنفسهم وتسميتهم على الصحة، حتى يستدل من فعلهم بما يخالف ذلك، فيحترس منهم في الموضع الذي خالف فعلهم فيه ما يجب عليهم. ولم يُعْرَف بالتدليس ببلدتنا فيمن مضى ولا من أدركنا من أصحابنا، إلا حديثًا. فإن منهم من قَبِلَه عمن لو تركه عليه كان خيرًا له. وكان قول الرجل: " سمعت فلانًا يقول: سمعت فلانًا " وقوله: " حدثني فلان عن فلان " سواءٌ عندهم، لا يُحدث أحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه. فمن عرفناه بهذه الطريق قبلنا منه: " حدثني فلان عن فلان ". ومن عرفناه دلس مرةً فقد أبان لنا عورتَه في روايته، وليست تلك العورة بكذبٍ فيُرَدَّ بها حديثُه، ولا النصيحةَ في الصدق فنقبل منه ما قبلناه من أهل النصيحة في الصدق. فقلنا: لا نقبل من مدلِّس ٍ حديثًا حتى يقول فيه: حدثني، أو سمعت (1).
وهذا الكلام من الإِمام الشافعي - رضي الله عنه - يدل على أن مذهبه في العنعنة ثبوتُ اللقاء مع البراءة من التدليس، وفي (كفاية الخطيب): " أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث: حدثنا فلان عن فلان؛ صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرَف أنه قد أدرك الذي قد حدث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدث ممن يُدلِّس، ولا يستجيز الإسقاطَ للعُلو. " (2) وما ذكره " الخطيب " ينطبق على مذهب الشافعي وابن المديني والتزام البخاري. وقال " الحاكم ": " الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس: متصلة بإِجماع أهل النقل على تورع رواتها عن أنواع التدليس " (3) هذا ليس فيه تعرض، لا للقاءٍ ولا لمعاصرة. انتهى " 22 / و، ظ.
__________
(1) قوبل على (الرسالة للإِمام الشافعي): ص 166 وما بعدها. ومعها (العلل لابن المديني): 45.
(2) الكفاية: 389.
(3) قوبل على الحاكم في المعرفة: 34، النوع الحادي عشر في الأحاديث المعنعنة.(1/225)
قال الشيخ - أبقاه الله -: وهذا الحكم لا أراه يَستمرُّ بعد المتقدمين فيما وُجِدَ من المصنفين في تصانيفهم، مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه: ذكر فلان، قال فلان، ونحو ذلك؛ فافهم كلَّ ذلك؛ فإنه مُهم عزيز (1). والله أعلم.
الرابع: التعليقُ الذي يذكره " أبو عبدالله الحميدي " صاحب (الجمع بين الصحيحين) [14 / ظ] وغيره من المغاربة، في أحاديثَ من (صحيح البخاري) قطع إسنادَها، وقد استعمله " الدارقطني " من قبل: صورتُه صورةُ الانقطاع وليس حكمُه حكمَه، ولا خارجًا ما وُجِدَ ذلك فيه منه، من قَبيل ِ الصحيح إلى قبيل ِ الضعيف. وذلك لما عُرِفَ من شَرْطِه وحُكمِه، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول *.
ولا التفات إلى " أبي محمد بن حزم الظاهري، الحافظ " في ردِّه ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لَيكونَنَّ في أمتي أقوام يستحلون الحريرَ والخمرَ والمعازفَ " .. الحديث؛ من جهةِ أن البخاري أورده قائلا فيه: " قال هشام بن عمار ". وساقه بإسناده (2). فزعم " ابنُ حزم " أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج ِ به على تحريم ِ المعازف (3).
وأخطأ في ذلك من وجوه. والحديث صحيح معروفُ الاتصال بشرط (الصحيح). و " البخاري " - رحمه الله - قد يفعل مثلَ ذلك لكون ذلك الحديث معروفًا من جهة الثقات،
__________
(1) انظر " جامع التحصيل لأحكام المراسيل " للعلائي: 143.
(2) على هامش (غ): [أخرجه البخاري في كتاب الأشربة فقال: قال هشام بن عمار: ثنا صدقة بن خالد، ثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، ثنا عطية بن قيس الكلابي، ثني عبدالرحمن بن غنم الأشعري، ثني أبو عامر - أو أبو مالك - الأشعري - والله ما كذبني - سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الحديث.
- كتاب الأشربة من البخاري، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (مع فتح الباري: 10/ 40).
(3) قاله ابن حزم في (المحلى). انظر (تقييد العراقي 89 - 90، وتوضيح التنقيح 1/ 145).(1/226)
عن ذلك الشخص الذي علَّقه عنه. وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخرَ من كتابه مسندًا متصلا. وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خللُ الانقطاع *. والله أعلم.
وما ذكرناه من الحُكم في التعليق المذكور؛ فذلك فيما أورده منه أصلا ومقصودًا، لا فيما أورده في معرض الاستشهاد؛ فإن الشواهدَ يُحتمَل فيها ما ليس من شرط الصحيح، معلَّقا كان أو موصولا. ثم إن لفظ التعليق وجدتُه مستعملاً فيما حُذِفَ من مبتدإ إسنادِه واحدٌ فأكثر، حتى إن بعضَهم استعمله في حذف كلِّ الإِسناد. مثال ذلك قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال ابن عباس كذا وكذا، روى أبو هريرة كذا وكذا، قال سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كذا وكذا، وهكذا إلى شيوخ شيوخه. وأما ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريبًا في الثالث من هذه التفريعات.
وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب [15 / و] جعله قسمًا من التعليق ثانيًا، وأضاف إليه قولَ " البخاري " في غير موضع من كتابه: " وقال لي فلان، وروانا فلان "؛ فوسم كلَّ ذلك بالتعليق المتصل ِ من حيث الظاهرُ، المنفصل ِ من حيث المعنى. وقال: متى رأيت البخاري يقول: " وقال لي فلان، وقال لنا " فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به وإنما ذكره للاستشهاد به. وكثيرًا ما يعبر المحدِّثون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذكرات والمناظرات، وأحاديثُ المذاكرة قلما يَحتجون بها.
قال الشيخ - أبقاه الله -: وما ادَّعاه على " البخاري " مخالفٌ لما قاله مَن هو أقدمُ منه وأعرفُ بالبخاري، وهو العبد الصالح " أبو جعفر بنُ حمدانَ النيسابوري " فقد روينا عنه أنه قال: كل ما قاله البخاري: " قال لي فلان " فهو عَرْضٌ ومُناولة.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: ليس بمسند؛ فلا يكون صحيحًا ولا داخلا في البخاري المسند الصحيح؛ لأنا نقول: إذا كان الإِسناد معروفًا من جهة الثقات كما تقدم؛ كان صحيحًا على شرط البخاري. انتهت " 22 / ظ.
__________
- وانظر مقدمة النووي لشرح مسلم: 1/ 20 وتخريج ابن حجر حديث " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف " في فتح الباري (10/ 43).(1/227)
قال الشيخ - أبقاه الله -: ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط فيه بعضُ رجال الإِسناد من وسطِه أو من آخره، ولا في مثل قوله: " يُروَى عن فلان، ويُذكَر عن فلان " وما أشبهه، مما ليس فيه جزم على من ذكَرَ ذلك عنه، بأنه قاله وذكره. وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار وتعليق الطلاق ونحوهِ، لما يشترك الجميعُ فيه من قطع الاتصال *. والله أعلم (1).
الخامس: الحديثُ الذي رواه بعضُ الثقات مرسَلاً وبعضُهم متصلا؛
اختلف أهلُ الحديث في أنه ملحَق بقبيل ِ الموصول أو بقبيل ِ المرسل. مثاله: " لا نكاحَ إلا بوليٍّ " رواه إسرائيلُ بن يونسَ في آخرين، عن جَدِّه أبي إسحاق (2) السَّبيعي، عن أبي بُرْدةَ، عن أبيه (3) عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ مسندًا هكذا متصلا .. ورواه سفيان الثوري، وشعبة، عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي
__________
(1) على هامش (ص): [بلاغ القراءة والسماع. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.].
(2) في (ز): [عن جده عن أبي إسحاق].
وأبو إسحاق السبيعي: هو جد " إسرائيل بن يونس ".
(3) في (غ) ومتن (ع) بمطبوعة التقييد والإِيضاح: [عن أبيه عن أبي موسى] ولا يصح. وما هنا من (ص) وكفاية الخطيب.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: أخذُه من تعليق الجدار ظاهر، أما من تعليق الطلاق ونحوه، فليس التعليق هناك لأجل قطع الاتصال، بل لتعليق أمرٍ على أمر، بدليل استعماله في الوكالة والبيع وغيرهما، بل وفي الصلاة أيضًا، فلا يصح أن يكون تعليق الطلاق لأجل قطع الاتصال، إلا أن يراد به قطعُ اتصال حكم التنجيز باللفظ لو كان منجزًا.
وذكَر هاهنا [في خامس التفريعات] مسألةَ ما إذا رَوَى الحديثَ بعضُ الثقات مُرسَلاً وبعضُهم متصلا، وقك ذكرتُ ذلك في آخر نوع المرسل لأنه أنسَبُ. وكان ينبغي أن نذكر مسألة العنعنة وما جرى مجراها، في أنواع المتصل أو المنقطع، إذا روعي مذهبُ من يرى الانقطاع، ولكن اقتدينا به في ذلك. انتهت " 23 / ظ.
- وانظر تقييد العراقي: 93.(1/228)
- صلى الله عليه وسلم - مرسَلا هكذا. فَحكَى " الخطيبُ الحافظ " أن أكثر أصحابِ الحديث يَرون الحُكم في هذا وأشباهِه للمرسَل. وعن بعضِهم أن الحُكم للأكثر، وعن بعضِهم أن الحكم للأحفَظ. فإذا كان من أرسله أحفظَ ممن وصله فالحكم لمن [15 / ظ] أرسله. ثم لا يقدح ذلك في عدالةِ مَنْ وصله وأهلِيته. ومنهم من قال: مَنْ أسند حديثًا قد أرسله الحُفَّاظُ، فإرسالُهم له يقدح في مُسندِه وفي عدالته وأهليته. ومنهم من قال: الحُكم لمن أسنده، إذا كان عدلا ضابطًا، فيقبل خبرُه وإن خالفه غيره، سواء كان المخالفُ له واحدًا أو جماعة. قال " الخطيب ": هذا القول هو الصحيح (1).
قلت: وما صححه؛ هو الصحيحُ في الفقه وأصوله. وسُئل " البخاري " عن حديثِ " لا نكاح إلا بِوليٍّ " المذكور، فحكَم لمن وصَلَه، وقال: " الزيادةُ من الثقة مقبولة. فقال " البخاري " هذا، مع أن مَنْ أرسله " شعبةُ، وسفيانُ " وهما جَبَلانِ لهما من الحفظِ والإِتقان الدرجةُ العاليةُ " (2).
ويلتحق بهذا، ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله، وصلَه في وقتٍ وأرسلَه في وقت. وهكذا إذا رفع بعضُهم الحديثَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقفه بعضُهم على الصحابي، أو رفعه واحدٌ في وقتٍ، ووقَفَه هو أيضًا في وقت آخرَ، فالحكمُ على الأصحِّ في كل ذلك لما زاده الثقةُ من الوصل والرفع؛ لأنه مُثبِتٌ وغيره ساكت، ولو كان نافيًا فالمثبِتُ مُقدَّم عليه؛ لأنه عَلِم ما خَفِيَ عليه (3). ولهذا الفصل تَعَلُّقٌ بفصل ِ (زيادةِ الثقة في الحديث) وسيأتي - إن شاء الله - تعالى. والله أعلم (4).
__________
(1) تمام عبارة الخطيب: عندنا؛ لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له، ولعله أيضًا مسند عند الذين رووه مرسلا أو عند بعضهم، إلا أنهم أرسلوه لغرض أو نسيان، والناسي لا يقضى به على الذاكر. (الكفاية 1/ 4).
(2) كفاية الخطيب: (413)، ومر حديث (لا نكاح إلا بولي) في المرسل. وانظر تقييد العراقي 94 وتبصرته 1/ 176.
(3) " وما صححه المصنف هو الذي رجحه أهل الحديث، وصحح الأصوليون خلافه؛ وهو أن الاعتبار بما وقع منه أكثر؛ فإن وقع وصله أو رفعه أكثر من إرساله أو وقفه؛ فالحكم للوصل والرفع. وإن كان الإِرسال أو الوقف أكثر؛ فالحكم له. والله أعلم " العراقي في التقييد: 94.
(4) على هامش (ص) بلغ ناصر الدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم، قراءة بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي / سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.(1/229)
النوع الثاني عشر:
معرفة التدليس وحُكم المدلس.
التدليس (1) قسمان:
أحدهما: تدليس الإِسناد: وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، موهمًا أنه سمعه
__________
(1) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي، في ورقة ملصقة:
[قال القاضي عياض - رحمه الله -: التدليس لقب وضعه أئمة هذه الصنعة على من أبهم بعض رواياته لمعان مختلفة وأغراض متباينة. وقد كان هذا من عصر التابعين. إلى هلم جُرًّا، وذكر ذلك عن جماعة من جلة الأئمة، ولم يضر ذلك حديثهم؛ لصحة أغراضهم وسلامتها، وأضر ذلك بغيرهم.
وهو على أمثلة: فمنه أن سفيان بن عيينة على جلالته، من كبار أصحاب الزهري، وسمع منه كثيرًا وأخذ عن أصحابه كثيرًا مما لم يسمعه من الزهري، فربما حدث فقال: قال الزهري، أو قال: قال الزهري عن فلان. وقد عرف بالتدليس فسئل؛ فمرة يقول: سمعته منه، ومرة يقول: حدثني به عنه فلان، أو فلان عن فلان، عنه.
ومن لا يدلس مثل مالك وشعبة لا يقول مثل هذا، بل يبين مَن حدث عنه، أو يقول: بلغني. قال شعبة: " لأن أزني أحب أليَّ من أن أدلس ". ولكن أمثال اولئك الجلة ممن استعمل التدليس إذا سئلوا أحالوا على الثقات؛ فحُمِلَ حديثهم وقام تدليسهم مقام المرسل. وحجة بعضهم أن يكونوا قد سمعوه من جماعة من الثقات عن هذا الرجل، فاستغنوا بذكره عن ذكر أحدهم أو ذكر جميعهم؛ لتحققهم صحة الحديث عنه، كما يفعل في المراسيل.
ومنهم من أراد أن ينزل حديثه وأن يعلو بذكر الشيخ دون من دونه؛ لصحة روايته عنه غير هذا، ولحقيقة أن الثقات حدثت عنه بذلك.
وطبقة أخرى جاءوا إلى رجال مشاهير ثقات أئمة سمعوا حديثهم، وجرت بينهم مباعدة حملتهم على اتهامهم وألا يصرحوا بأسمائهم المشهورة. ولم تحملهم ديانتهم على ترك التحدث عنهم، كما صنع " البخاري " في حديثه عن محمد بن يحيى الذهلي، لما جرى بينه وبينه، فمرة نجده يقول: ثنا محمد؛ لا يزيد، وثانية يقول: ثنا محمد بن خالد؛ ينسبه إلى جده الأعلى، ومرة يقول: ثنا محمد بن عبدالله، ينسبه إلى جده الأدنى. وطبقة أخرى رووا الحديث عن ضعيف أو مجهول، عن الشيخ، فسكتوا عنه واقتصروا على ذكر الشيخ إذ عرف سماعهم منه لغير هذا الحديث.
وطبقة أخرى رووا عن ضعفاء لهم أسماء أو كنى مشهورة عرفوا بها، فلو صرحوا بأسمائهم المشهورة أو كناهم لم يشتغل بحديثهم، فأتوا بالاسم الخامل مكان الكنية المشهورة، أو بالكنية المجهولة عوض الاسم المعلوم؛ ليبهموا الأمر ولئلا يعرف ذلك الراوي وضعفه فيُزهَدَ في حديثهم. =(1/230)
منه؛ أو عمَّن عاصره ولم يلقه، موهمًا أنه قد لقيه وسمعه منه. ثم قد يكون بينهما واحدٌ وقد يكون أكثر. ومن شأنه ألا يقولَ في ذلك: " أخبرنا فلان " ولا " حدثنا " وما أشبههما، وإنما يقول: " قال فلان، أو: عن فلان " ونحو ذلك (1). مثال ذلك: ما روينا عن " علي بن خشرم " قال: كنا عند ابن عيينة، فقال: " قال (2) الزهري ". فقيل له: حدثكم الزهري؟ فسكت ثم قال: " قال (3) [17 / و] الزهري " فقيل له: سمعتَه من الزهري؟ فقال: " لا، لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبدالرزاق عن معمر عن الزهري (4) ".
__________
= وطبقة أخرى رووا عن ضعيف له كنية يشاركه فيه رجل مقبول الحديث، وقد حدث منهما جميعًا، فيطلق الحديث بالكنية، يدخل الإِشكال ويقع على السامع اللبس، ويظن أن ذلك: القويُّ.
وهذه الطرق كلها، غير الأوليين، ردية قد أضرت بأصحابها وسببت الوقوف في كثير من حديثهم، إلا ما صرح به الثقات منهم بالسماع عن الثقات، ونصوا عليه وبينوه، ولهذا ما وقفوا فيما دلسه " الأعمش " لروايته عن الضعفاء، وفيما دلسه " بقية بن الوليد " لخلطه الأسماء والكنى، ولم يستريبوا فيما دلسه " ابن عيينة، والثوري " وضرباؤهما ممن لا يروي إلا عن ثقة.
واختلف أئمة الحديث في قبول من عرف بالتدليس إذا لم ينص على سماعه؛ فجمهورهم على قبول حديث من عرف منهم، بأنه لا يروي إلا عن ثقة؛ كما قالوا في حديث من علم أنه لا يرسل إلا عن ثقة، وعلى ترك حديث المتساهلين في الأخذ وترك الحجة به حتى ينص على سماعه. وقد ذكر " أبو عبدالله الحاكم " الاختلاف في ذلك كما قدمناه. والله أعلم].
(1) على هامش (غ): [قال الشيخ: متى قال - أي الراوي - صيغة تقتضي سماعه منه؛ فهو كذب وليس تدليسا].
(2 - 3) سقطت [قال] من (غ)، وما هنا من (ع)، وعلى هامش (ص،ز) وهو السياق.
(4) علوم الحاكم 105، والكفاية 359 من طريق الحاكم.
وعلى هامش (غ) في ورقة ملصقة: [قال الشيخ: قد يكون التدليس خفيًّا جدًّا، ولذلك مثالان: أحدهما: أنهم اختلفوا في سماع الحسن من أبي هريرة، فورد في بعض الروايات عن الحسن: " حدثنا أبو هريرة " فقيل إنه أراد: حدث أهل بلدنا. ولهذا إن لم يكن دليل قاطع على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة؛ لم يجز أن يصار إليه.
الثاني: قول أبي إسحاق: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبدالعزيز أو عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه؛ فظاهره أن المراد سماعه من عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه؛ لعدوله عن أبي عبيدة. فقيل إنه تدليس كما لو ابتدأ بذكر عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه، ولم يقل قبله: ليس أبو عبيدة ذكره.
وللتدليس مفسدة وفيه مصلحة؛ أما مفسدته: فإنه يخفى ويصير الراوي مجهولا؛ فيسقط العمل بالحديث لكون الراوي مجهولا عند السماع، مع كونه معروفًا في نفس الأمر، وهذه جناية عظمى ومفسدة كبرى. =(1/231)
القسم الثاني: تدليسُ الشيوخ، وهو أن يروي عن شيخ حديثًا سمعه منه فيسميه، أو يكنيه أو يَنسُبه أو يصفه، بما لا يُعرَفُ به؛ كي لا يُعرفَ *. مثاله: ما رُوِي لنا عن " أبي بكر بن مجاهد، الإِمام المقرئ " أنه رَوى عن أبي بكر عبدالله بن أبي داود السجستاني فقال: " حدثنا عبدالله بن أبي عبدالله " ورَوى عن " أبي بكر محمد بن الحسن النقاش المفسر المقرئ " فقال: " حدثنا محمد بن سند " نَسَبَه إلى جَدٍّ له (1). والله أعلم **.
__________
= فأما مصلحته؛ فامتحان الأذهان في استخراج التدليسات وإلقاء ذلك إلى من يراد اختبار حفظه ومعرفته بالرجال. ووراء ذلك مفسدة أخرى يراعيها أرباب الصلاح والقلوب، وهو ما في التدليس من التزين. وتنبه لذلك " ياقوتة العلماء، المعافى بن عمران الموصلي " وكان من أكابر العلماء والصلحاء].
يليه هامش (غ) طرة: [قال أبو زكريا: قال الخطيب: وربما لم يسقط شيخه لكن يسقط ممن بعده رجلا ضعيفًا أو صغير السن ليحسن الحديث بذلك، وكان " الأعمش، والثوري، وبقية " يفعلون هذا النوع - نقلته من خط شيخنا - أيده الله -].
وقوبل على كفاية الخطيب: ذكر شيء من أخبار المدلسين، ص 364.
(1) " سند " هو الجد الخامس لأبي بكر النقاش، في سياق نسبه بتاريخ بغداد 2/ 201 (635) وقد زاد العراقي صنفًا ثالثًا قال: هو شر الأقسام الثلاثة وهو تدليس التسوية. (التقييد 95 - 97 والتبصرة 1/ 190) وحكى السيوطي في (التدريب 1/ 226) أن شيخ الإِسلام ابن حجر زاد: تدليس العطف. وفي (توضيح التنقيح 1/ 275) زاد ابن الوزير الصنعاني وجوها أخرى للتدليس فبلغ بها عشرة. وانظر (علوم الحاكم 103 - 112، وكفاية الخطيب 1/ 358).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: يدخل في ذلك ما إذا لم يسقط شيخه وإنما أسقط غيره ضعيفًا أو صغيرًا؛ تحسينًا للحديث. انتهت " 23 / ظ.
** المحاسن:
" فائدة: لا يقال في الاعتراض على التقسيم: " قال " الحاكم ": التدليس ستة: الأول: قوم لم يميزوا بين ما سمعوه وما لم يسمعوه. الثاني: قوم يدلسون الحديث فإذا وقع لهم من يُنَقِّرُ عليهم ويلح في سماعاتهم ذكروا له. الثالث: قوم دلسوا عن أقوام مجهولين لا ندري من هم. الرابع: قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أنسابهم وكُناهم لئلا يعرفوا. الخامس: قوم دلسوا عن قوم سمعوا منهم الكثير وربما فاتهم الشيء =(1/232)
أما القسم الأول فمكروه جدًّا، ذمه أكثرُ العلماء، وكان " شعبةُ " من أشدهم ذمًّا له. فروينا عن " الشافعي الإِمام " عنه، (1) أنه قال: " التدليس أخو الكذب ". وروينا عنه أنه
__________
(1) الضمير في قوله: " عنه " يعود على " شعبة " وقد أشار إلى ذلك على هامش (غ) لكن يبدو أن الناسخ أضاف بعد قوله: " الإِمام "، كلمة [رضي الله] وَهْمًا، وما هنا من (ص، ع).
وقول شعبة: حكاه الخطيب في الكفاية 355 بسنده إلى الإِمام الشافعي، عن شعبة.
وعلى هامش (ز) [قال النووي في شرح مسلم بعد قوله: " وكان شعبة من أشدهم ذمًّا له ": وظاهر كلامه =
___________________________________
عنهم فيدلسون. السادس: قوم رووا عن شيوخ لم يرووا عنهم قط، إنما قالوا: قال فلان؛ فحُمِل على ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم سماع عنهم، عال ٍ ولا نازل " (1).
لأنا نقول: الأقسام الستة التي ذكرها " الحاكم " داخلة تحت القسمين السابقين، فالقسم الأول والثاني والثالث والخامس والسادس داخلة تحت القسم الأول، والرابع عَيْنُ القسم الثاني. وبيان ذلك أن من دلس فلم يميز بين ما سمع منه وما لم يسمع؛ فهو تدليس في الإِسناد. وأما من يدلس فإذا وقع له من ينقر عليه ويلح عليه ذكر له؛ فقد مثله " الحاكم " بأمثلة منها: ما رواه عن " علي بن خشرم " قال لنا ابن عيينة: " عن الزهري " .. فذكر ما تقدم. ومثَّل " الحاكم " الثالثَ بما رواه عن " علي ابن المديني " قال: " حدثني حسين الأشقر، ثنا شعيب بن عبدالله عن أبي عبدالله عن نَوْفٍ. قال: بتُّ عند عليٍّ؛ فذكر كلامًا. قال ابن المديني: فقلت لحسين: ممن سمعته؟ فقال: حدثنيه شعيب عن أبي عبدالله عن نوف. فقلت لشعيب: من حدثك بهذا؟ قال: أبو عبدالله الجصاص. قلت: عمن؟ قال: عن حماد القصار، فلقيت حمادًا فقلتُ: من حدثك بهذا؟ قال: بلغني عن فرقد السبخي عن نوف. فإذا قد دلَّس عن ثلاثة، والحديث بعدُ منقطع، و " أبو عبدالله " مجهول، و " حماد القصّار " لا ندري من هو، وبلغه عن " فرقد "، وفرقد لم يدرك " نوفًا " ولا رآه " (2). وهذا يدخل تحت القسم الأول أيضًا كما تقدم في الفائدة التي فيه. وأما السادس فهو صريح في القسم الأول، وأما الرابع فهو صريح في القسم الثاني؛ فآلت الأقسام الستة إلى القسمين المتقدمين .. ، وانتهت " 23 / ظ.
__________
(1) مستخلص من النوع السادس والعشرين: معرفة المدلسين الذين لا يميز من كتب عنهم بين ما سمعوه وما لم يسمعوه) معرفة الحاكم 103 - 112.
(2) قوبل على علوم الحاكم 105.(1/233)
قال: " لأَن أزني أحبُّ إليَّ من أن أدلس " (1). وهذا من " شعبةَ " إفراطٌ محمولٌ على المبالغة في الزجر عنه والتنفير *.
__________
= أنه حرام وتحريمه ظاهر؛ فإنه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به، ويؤدي أيضًا إلى إسقاط العمل برواية نفيسة، مع ما فيه من الغرر. ثم إن مفسدته دائمة. وبعض هذا يكفي في التحريم فكيف باجتماع هذه الأمور؟ ثم قال - النووي - بعد في سياق من احتج بروايته في الصحيحين من المدلسين: ودليل هذا أن التدليس ليس كذبًا. وإن لم يكن كذبًا - وقد قال الجماهير: إنه ليس محرمًا - والراوي عدل ضابط، وقد بين سماعه؛ وجب الحكم بصحته. والله أعلم]. قوبل على مقدمة النووي لشرح مسلم (1/ 33).
(1) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (باب ما ذكره من شدة قول شعبة في التدليس وكراهيته له: 1/ 173) والخطيب بسنده إلى المعافى - بن عمران، ياقوتة العلماء - عن شعبة (الكفاية 356) وابن حبان في مقدمة المجروحين (1/ 92).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد جاء عن شعبة: " التدليس في الحديث أشد من الزنَى، ولأَن أسقط من السماء أحَبُّ إليَّ من أدلس " وهذا الذي قاله " شعبة " ظاهر؛ فإن آفة التدليس لها ضرر كبير في الدين، وهي أضر من أكل الربا، وقد جاءت أحاديثُ محتَج بها تدل على أن أكل درهم من ربا أشد من الزنى، على وجوه مروية، وقد بسطنا القول فيها في: باب ما جاء في التغليظ في أكل الربا، في الكتاب الذي سميناه (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر منه. قال " الخطيب ": " فإن قيل: يجب ألا تقبلوا قول المدلس: أخبرني فلان؛ لأن ذلك يُستعمل في السماع و [في] غيره؛ فيُقال: " أخبرني "، على قصد المناولة والإجازة والمكاتبة، وأجاب بأن هذا لا يلزم، لأن هذه اللفظة ظاهرها السماع، والحمل على غير ذلك مَجاز، والحمل على الظاهر أولى. وما ذكره " الخطيب " حسن. وما ورد في حديث الرجل الذي هو آخر من يقتله الدجال أنه يقول له: " أنت الدجال الذي أخبرنا - وفي رواية: حدثنا - عنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يخالف ما تقدم؛ لأن السماع حيث كان =
__________
- ما هنا عن شعبة، قوبل على (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، ولفظه بالسند إلى أبي الوليد الطيالسي: سمعت شعبة يقول: لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول: زعم فلان، ولم أسمع منه " 1/ 173 ومثله في (كتاب المجروحين لابن حبان: 1/ 92) بسنده إلى عفان بن مسلم عن شعبة.
- وما نقل البلقيني عن الخطيب، قوبل على أخبار المدلسين في (الكفاية 363).(1/234)
ثم اختلفوا في قبول رواية من عُرِفَ بهذا التدليس، فجعله فريق من أهل الحديث والفقهاء مجروحًا بذلك، وقالوا: لا تُقبَل روايتُه بحال ٍ، بَيَّن السماع أو لم يُبَيِّنْ.
والصحيح التفصيلُ: وأن ما رواه المدلِّسُ بلفظٍ محتمل لم يبيِّن فيه السماعَ والاتصالَ، حُكمُه حُكْمُ المرسَل وأنواعِه، وما رواه بلفظ مُبيِّنٍ للاتصال نحو: سمعت، وحدثنا، وأخبرنا .. وأشباهِها؛ فهو مقبول مُحتَجٌّ به، وفي (الصحيحين) وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جدًّا، كَـ: قتادةَ، والأعمش، والسُّفيانَيْنِ، وهُشَيْم بن بَشِيرٍ، وغيرِهم. وهذا لأن التدليس ليس كذبًا وإنما هو ضرب من الإِيهام بلفظ محتمل. والحكم بأنه لا يُقْبَلُ من المدلِّس حتى يُبَيِّنَ، قد أجراه " الشافعيُّ " - رضي الله عنه - فيمن عرفناه دلَّس مرةً (1). والله أعلم.
وأما القسم الثاني فأمرُه أخَفُّ، وفيه تضييع للمرويِّ عنه وتوعيرٌ لطريق معرفته على من يطلب الوقوفَ على حاله وأهليته *. ويختلف الحالُ في كراهة ذلك بحسب الغرض الحامل عليه، فقد يحمله على ذلك كون [17 / ظ] شيخه الذي غَيَّرَ سِمَتَه غير ثقة، أو كونُه متأخرَ الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعةٌ دونه، أو كونُه أصغرَ سنًّا من الراوي
__________
(1) " فقد أبان لنا عورته بروايته ": الرسالة للإِمام الشافعي: 164 وعلى هامش (غ): [زاد النووي ههنا في (مختصره) زيادة حسنة فقال: وما كان في (الصحيحين) وشبههما عن المدلسين بـ: " عن " محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى. والله أعلم]- التقريب 1/ 230 وانظر تقييد العراقي 99.
___________________________________
= السماع ممكنًا، وحينئذ تعين الحملُ على المجاز بالقرينة، نحو قول أبي طلحة: إني سمعت الله يقول: " لن تنالوا البر حتى تُنْفقوا مما تحبون " الحديث. والمراد: سمعت كلام الله، ونحو ذلك. وجواب آخر: وهو أن ذلك الرجل يقال إنه " الخضر " كما نقل عن " أبي إسحاق السبيعي " فإن صح؛ كانت اللفْظَةُ على بابها. انتهت " 24 / ظ.
* المحاسن:
" فائدة: توعير الطريق قد يكون لامتحان الأذهان في استخراج المدلسات واختبار الحفظ، وقد يكون لغير ذلك فتحصل المفسدة. انتهت " 25 / و.(1/235)
عنه، أو كونُه كثيرَ الرواية عنه، فلا يُحبُّ الإكثارَ من ذكرِ شخص ٍ واحد على صورة واحدَة (1). وتَسمح بذلك جماعةٌ من الرواة المصنفين، منهم " الخطيبُ أبو بكر " فقد كان لهِجًا به في تصانيفه. والله أعلم (2).
__________
(1) على هامش (غ): [قال الشيخ: " بعض هذه الأغراض مذموم قادح فيمن فعله لذلك الغرض عالمًا به. وهو أن يترك ذكر الراوي لأنه لو صرح به لَعُلِمَ ضعفه ولم يقبل حديثه. وإنما قلنا إنه قادح؛ لما فيه من عدم النصح وترويج الباطل، وأكثر مقصود المتأخرين في التدليس طلب العلو أو إيهام كثرة المشايخ " - وهذه أمثلة ذكرها الشيخ فاختصر عن نقلها - ثم قال بعد ذلك: فهذا كله إذا كان تدليسًا في نفس الأمر؛ فليس بكذب، وإنما المقصود منه الإِغراب].
وقال العراقي: " المصنف بيَّن الحكم فيمن عُرِفَ بالقسم الأول من التدليس، ولم يبين الحكم في القسم الثاني، وإنما قال: " إن أمره أخف " فأردت بيان الحكم فيه للفائدة: وقد جزم " أبو نصر ابن الصباغ " في كتاب العدة أن من فعل ذلك لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره، يجب ألا يقبل خبره، وإن كان هو يعتقد فيه الثقة فقد غلط؛ لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو. وإن كان لصغر سنه، فيكون ذلك رواية عن مجهول لا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه. والله أعلم " (التقييد والإِيضاح 100).
(2) على هامش (ص): [بلغ ناصر الدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم، قراءة بحث علي، وعمه زين الدين عبدالرحمن، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.(1/236)
النوع الثالث عشر:
معرفة الشاذِّ.
روينا عن " يونس بن عبد الأعلى " قال: قال لي " الشافعي " - رضي الله عنه - (1): " ليس الشاذُّ من الحديث أن يروي الثقةُ ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يرويَ الثقةُ حديثا يخالفُ ما روَى الناس " (2).
وحكى " الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني " نحوَ هذا عن الشافعي - رحمه الله -، وجماعةٍ من أهل الحجاز ثم قال: " الذي عليه حُفَّاظُ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذُّ بذلك شيخٌ، ثقةً كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يُقبَل، وما كان عن ثقة؛ يُتوَقَّف فيه ولا يُحْتَجُّ به ".
وذكر " الحاكم أبو عبدالله الحافظ " أن الشاذ هو الحديث الذي ينفرد به ثقة من الثقات وليس له أصل بمتابع (3) لذلك الثقة. وذكر أنه يغاير المعلَّلَ، من حيث أن المعلَل (4) وُقِفَ على عِلَّتِه الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علةٍ كذلك (5).
قال الشيخ - أبقاه الله -: أما ما حكم " الشافعيُّ " عليه بالشذوذ؛ فلا إِشكالَ في أنه شاذ غير مقبول. وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدلُ الحافظ الضابط، كحديثِ " إنما الأعمال بالنيات " فإنه حديث فرد؛ تفرد به " عمرُ " - رضي الله عنه عن
__________
(1) من (ص) وفي متن المقدمة بالتقييد والإِيضاح: [رحمه الله].
(2) الحاكم، بسنده إلى يونس بن عبد الأعلى عن الإِمام الشافعي (المعرفة 119).
(3) العراقية، و (غ)، وفوقه: [كذا وقع] ومثله بهامش (ز) مع حاشية: [وصوابه: متابع، أو بمتابعة ذلك الثقة].
وعبارة الحاكم في متن مطبوعة المعرفة 119: " وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة ". وعلى هامشه في ش: [بمتابع] أي في نسخة الظاهرية بدمشق.
(4) لفظ الحاكم فيها: المعلول (ص 119).
(5) [بلغ مقابلة بالأصل المقابل على أصل السماع، ثم بلغ مقابلة عليه ثانية]. (غ) بخط ابن الفاسي.(1/237)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تفرد به عن عمر: " علقمةُ بن وقاص " (1) ثم عن علقمة: " محمدُ بن إبراهيم " ثم عنه (2): " يحيى بنُ سعيد " على ما هو الصحيح عند أهل الحديث *.
__________
(1) " علقمة بن وقاص " الليثي المدني التابعي. وكان في (غ، ز): [بن أبي وقاص] ثم كشطت [أبي] في الأولى، وضرب عليها في الثانية، وفوقها: صح.
(2) الضمير لمحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أبي عبدالله المدني التابعي، ومن هذه الطريق، رواه: البخاري: في ك الإِيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية (فتح الباري 1/ 6 - 14) وفيه تخريجه من مختلف طرقه. ثم في كتب: العتق، ومناقب الأنصار، والطلاق، والأيمان.
ومسلم: في كتاب الإِمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنية " (ح 1907) 3/ 1515. وأبو داود: ك الطلاق، باب فيما عني به الطلاق والنيات (ح / 220): 2/ 262.
والترمذي: أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا (8/ 151 عارضة الأحوذي).
والنسائي: طهارة، باب النية في الوضوء (1/ 58) وفي الطلاق، والأيمان.
وابن ماجة: في الزهد، باب النية (ح 4227) ص / 1413، والإِمام أحمد في مسند عمر - رضي الله عنه - 1/ 258 معارف. وانظر الإِلماع: 54.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: جواب الإِشكال أن الانفراد هنا لم يحصل فيه الشذوذ المقصود؛ لحصول الشهرة بعد ذلك. فلا يرد على من قال: الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد. وأما على طريق " الحاكم " فالمراد بالانفراد: ما خالف الشواهد أو القواعد. وهذا غير موجود في حديث " إنما الأعمال بالنيات ". ولا يقال: لم ينفرد به عمر - رضي الله عنه - بذلك فقد رواه عن سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ كثيرة منهم: أبو سعيد الخدري - ذكره الدارقطني -، وذكر ابنُ منده في (المستخرج) أنه رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليُّ بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وابن عباس، ومعاوية، وأبو هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبة بن عبد، وهَزَّال بن سويد، وعقبة بن عامر، وأبو ذر الغفاري، وجابر، وعتبة بن النُّدَّر، وعقبة بن مسلم " وذكر أحاديثهم فيه؛ لأنا نقول: لم يصح ذلك عن واحد من المذكورين. أما حديث أبي سعيد؛ فرواه عبد المجيد الثقفي - وهو موثق -، عن مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم: =(1/238)
.............................................................................................................................
___________________________________
= " الأعمال بالنية " وقد وهَّمه الحُفاظ فيه (1). وأخرجه أبو يعلى الخليلي في (كتاب الإرشاد) (2) وقال في موضع آخر: وهو غير محفوظ عن زيد بن أسلم بوجه، وهو مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة. ورواه الدارقطني في (أحاديث مالك التي ليست في الموطأ) ولفظه: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " الحديث. وقال: تفرد به عبد المجيد عن مالك (3)، ولا يُعلَم حدث به عن عبد المجيد، غيرُ نوح بن حبيب وإبراهيم بن محمد العتيق. وأما الصحابة الذين ذكرهم " ابنُ منده " فلم يَذكر الأسانيد حتى يُنظَر فيها، فلا يرد شيء منها ولا يحفظ لها سند، إلا ما كان من حديث " أنس " فإن بقية بن الوليد روى عن إسماعيل النصري عن أبَان عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا ولا عملا إلا بِنيَّة، ولا يقبل قولا ولا عملا ونية إلا بإصابة السنة " أخرجه " الحافظ أبو القاسم علي الدمشقي " في المجلس الأول من (أماليه) وقال: هذا حديث حسن (4). و " بقيَّةُ " الكلام فيه معروف. فظهر أنه - أي الحديث - لم يصح عن أحد إلا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ فهو من أفراد عمر، على الصحيح.
__________
(1) " وسئل الدارقطني عن حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنية " الحديث؛ فقال: يرويه عبد المجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وأصحاب مالك يروونه عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصحيح ".
(العلل للدارقطني: 3/ 223 خط) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
(2) كتاب (الإرشاد في علماء البلاد) لأبي يعلى الخليلي: 15 مخطوط الخزانة العامة بالرباط، رلقم: 528 ك / انتخاب الحافظ أبي طاهر السلفي.
(3) في العلل للدارقطني، وسئل عنه: " قال: وروى هذا الحديث مالك بن أنس، واختلف عنه؛ فرواه عبد المجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، ولم يتابع عليه، وأما أصحاب مالك الحفاظ فرووه عن: مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن عمر، وهو الصواب ".
(العلل 1/ 52 - 57) حديث عمر - رضي الله عنه -.
(4) أبو القاسم ابن عساكر، علي بن الحسن بن هبة الله - 571 هـ.
انظر ابن حجر في (فتح الباري 1/ 6 - 14، وفي النخبة 33 - 36).(1/239)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ولا يقال أيضًا: " أبو يعلى، والحاكم " إنما ذكرا الثقة دون الحفظ؛ فلا يستشكل كلامهما بحديث " إنما الأعمال " لما تقدم من أنه انفرد به العدل الحافظ الضابط، فالحفظ والضبط زيادة على الثقة؛ لأنا نقول: أطلقا .. [يعني: أبا يعلى والحاكم] الثقةَ. ومن جملة ما يدخل تحته، ما إذا كان الثقة حافظًا.
ولا يقال: إن أراد بالعدل الحافظ الضابط " أميرَ المؤمنين عمر بن الخطاب " فكلامه بعيد من الصواب لأن مثل هذا لا يوصف به عمرُ، وإن أراد بقيةَ مَن في السند فغير مُسلَّم؛ لأن علقمة ومحمدا [بن إبراهيم] لم يقل أحد إنهما حافظان؛
لأنا نقول: نعم، أراد بالعدل الحافظ الضابط جميع رجال السند، وما المانع من إطلاق ذلك على عمر - رضي الله عنه - عمومًا وخصوصًا؟ وقد قال الله سبحانه وتعالى: " وكذلكَ جَعَلناكُم أمَّةً وسَطا "؟ قال المفسرون: خيارًا عدولا. وقال تعالى: " إنْ كلُّ نَفس ٍ لَمَّا عَليها حافِظ " فوصف الملائكة بالحفظ. وليت شعري ما يقول هذا المعترضُ في قول الأصوليين والمحدثين في مسألة: الصحابة كلهم عدول؟ ولكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض. وأما علقمة ومحمد؛ فوصفُهما بالحفظ ليس على طريق الاصطلاح الحادث؛ بل لأن الأئمة تلقوا حديثهما بالقبول، وذلك دليل على الضبط المقتضي للحفظ. وقد ترك المعترضُ أن يقول: لم ينفرد به " علقمة بن وقاص " فقد رواه عن عمر، غير علقمة: " جابرُ بن عبدالله الأنصاري، وعبدالله بن عامر بن ربيعة، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وأبو جُحيفة، وذو الكلاع، ومحمد بن المنكدر، وواصل .... ، وعطاء بن يسار، وناشرة بن سُمَيّ، وسعيد بن المسيب ". وأيضًا لم ينفرد به " محمد بن إبراهيم " عن علقمة؛ فقد رواه عنه: " نافع مولى ابن عمر، وابن المسيب " كذا ذكره ابن منده في (المستخرج) مع ذكره ابنَ المسيب في جملة من روى عن عمر. لكن رواية ابنِ المسيب عن عمرَ منقطعة، وروايتُه عن علقمة متصلة. ولم ينفرد يحيى بن سعيد برواية ذلك عن محمد بن إبراهيم؛ فقد رواه عن محمد بن إبراهيم: " محمدُ بن محمد بن علقمة، وداودُ بن أبي الفرات، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وحجاج بن أرطاة، وعبد ربه بن سعيد " هذا كله من كلام " ابن منده " في (المستخرج) ولكن لما لم تصح أسانيد ذلك؛ كان =(1/240)
وأوضَحُ من ذلك في ذلك، حديثُ عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن بيع الولاء وهَبتِه (1)؛ تفرد به " عبدالله بن دينار ". وحديثُ مالك عن الزهري عن أنس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسِه المغفرُ " (2) تفرد به مالكٌ عن الزهري *. فكل هذه مخرجَة في (الصحيحين) مع أنه ليس لها إلا إسناد واحد تفرد به ثِقَةٌ. وفي غرائب
__________
(1) من (غ، ص، ع) وفي (ز): [وعن هبته] وحديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر متفق عليه. أخرجه الشيخان في كتاب العتق من الصحيحين، باب النهي عن بيع الولاء وهبته، وهو في الباب من بيوع الترمذي (5/ 245 مع العارضة) وفرائض ابن ماجة (ح 2747).
(2) الموطأ، باب جامع الحج: عن الزهري عن أنس - رضي الله عنه - (ح 247) ومعه (التمهيد لابن عبدالبر: 6/ 157) وأخرجه في الباب، من رواية مالك عن الزهري عن أنس: (البخاري مع فتح الباري 4/ 41، ومسلم: ح 450/ 1357) والترمذي، في الباب، وقال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرف كبيرَ أحدٍ رواه غير مالك عن الزهري (7/ 186 مع العارضة).
وقول ابن الصلاح: " تفرد به مالك عن الزهري " تعقبه العراقي في التقييد والتبصرة بنحو ما يلي في فائدة المحاسن، وأتم ابن حجر تعقب شيخه العراقي فيه، في (فتح الباري 4/ 42).
___________________________________
= الحديث فردًا بالنسبة إلى الصحة. والله أعلم. وانتشر حديث " إنما الأعمال " عن يحيى بن سعيد، حتى يقال إنه بلغت روايته مئينَ كثيرة، وقد ذكر كثيرًا منهم " ابنُ منده " في (المستخرج) فوصل عدَّتَهم إلى نحو من ثلثمائة وأربعين نفسًا. انتهت " 25 / ظ - 27 / و.
- انطر تقييد العراقي: 101 وتبصرته 1/ 194، 2/ 275 وفتح الباري: (1/ 6 - 14) وشرح النخبة (33 - 36)، وتوضيح التنقيح: 1/ 381.
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: حديث عبدالله بن دينار لم ينفرد به، فقد رواه عن ابن عمر: نافع؛ لأنا نقول: تلك الرواية وهم، ولذلك قال الترمذي: " وقد روى يحيى بن سُلَيم هذا الحديثَ عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر. وهو وَهمٌ وَهِمَ فيه يحيى بن سُلَيم، فقد رواه عبدالوهاب الثقفي وعبدالله بن نمير، وغير واحد، عن عبيدالله [بن عمر] =(1/241)
الصحيح أشباهٌ لذلك غيرُ قليلة. وقد قال " مسلم بن الحجاج ": للزهري نحو تسعين حرفًا يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشاركه فيها أحدٌ، بأسانيدَ جِياد. والله أعلم.
___________________________________
= عن عبدالله بن دينار. وهذا أصح من حديث يحيى بن سليم " (1) وهذا الذي قاله الترمذي يعضده قول " مسلم ": " الناس كلها في هذا الحديث عيال على عبدالله بن دينار " وقد أنهيتُ رواتَه عن عبدالله بن دينار، سبعَ عشرة نفسًا في (العرف الشذي) فلينظر فيه. وفي (العلل لابن أبي حاتم): سألت أبي عن حديثٍ رواه سعيد بن يحيى الأموي عن نافع، وعبدُالله بن دينار عن ابن عمر، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهبته "، قال أبي: نافع أخذ عن عبدالله بن دينار هذا الحديث، ولكن هكذا قال. وفي (المعجم الأوسط للطبراني) في باب الألف: " حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى، حدثنا أبي عن أبيه عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار، أنه سمع ابن عمر يقول: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وعن هبته " قال الطبراني: لم يروه عن سفيان عن عمرو بن دينار إلا يحيى بن حمزة، تفرد به ولده عنه، ورواه الناس عن سفيان عن عبدالله بن دينار " (2).
ولا يقال: حديث المغفر لم ينفرد به مالك؛ فقد رواه عن الزهري ابنُ أخيه فيما ذكر ابن عبد البر، ورواه أيضًا أبو أويس والأوزاعي عن الزهري عن أنس؛
لأنا نقول: تلك روايات، والتفصيل الذي يتقيد به إطلاقُ " الخليلي والحاكم " أن الراوي إذا انفرد وخالف رواية من هو أحفظ وأضبط منه، رُدَّ ما تفرد به؛ وإن لم يخالف وكان عدلا حافظًا موثوقًا بإتقانه وضبطه؛ قُبِلَ منه ما انفرد به، كما فيما سبق من الأمثلة. وإن لم يوثق بحفظه وإتقانه لما انفرد به؛ نزل عن الصحيح. ثم إن لم يبعد عن درجة الحافظ الضابط المقبول ِ تفردُه؛ كان حديثه حسنًا، وإلا فشاذ منكر " 27 / وظ.
__________
(1) الترمذي (5/ 245) وفي العلل الصغير، بآخر جامعه (13/ 334 عارضة الأحوذي) وقد رواه ابن ماجة من حديث يحيى بن سليم الطائفي عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، في الفرائض، (ح 2748) بعد حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر.
(2) المعجم الأوسط للطبراني: باب الألف، (مكروفيلم معهد المخطوطات بالقاهرة 483 مصطلح حديث، من كوبريللي 454).(1/242)
فهذا الذي ذكرناه وغيره من مذاهب أئمةِ الحديث، يبين لك أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به " الخليلي، والحاكم " بل الأمر في ذلك على تفصيل نبيِّنه فنقول: إذا انفرد الراوي بشيء نُظِرَ فيه؛ فإن كان ما انفرد به مخالفًا لما رواه مَنْ هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبطُ، كان ما انفرد به شاذًّا مردودًا. وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فَيُنْظَر في هذا الراوي المنفرد: فإن كان عدلا حافظًا موثوقًا بإتقانه وضبطِه؛ قُبِلَ ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه، كما فيما سبق من الأمثلة؛ وإن لم يكن ممن يوثَق وإتقانه لذلك الذي انفرد به؛ كان انفراده به خارِمًا له مُزَحزِحًا له عن حيِّز الصحيح.
ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتبَ متفاوتةٍ بحسب الحال فيه؛ فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفردُه، استحسنَّا حديثه ذلك، ولم نحطّه إلى قبيل الحديث الضعيف. وإن كان بعيدًا من ذلك، رددنا ما انفرد به وكان من قبيل ِ الشاذ المنكر.
فخرج من ذلك أن الشاذَ المردودَ قسمان:
أحدهما: الحديث الفرد المخالِف.
والثاني: الفرد الذي ليس في رواية من الثقة والضبط ما يقع جابرًا لما يوجبه التفرد والشذوذُ من النكارة والضعف. والله أعلم (1).
__________
(1) على هامش (ص) بلاغ القراءة والسماع، على العراقي.(1/243)
النوع الرابع عشر:
معرفة المنكَر من الحديث.
[18 / ظ] بلغنا عن " أبي بكر أحمد بن هارون البَردِيجي الحافظ " أنه الحديث الذي ينفرد به الرجل ولا يُعرَف متنُه من غير روايته: لا من الوجه الذي رواه منه، ولا من وجه آخر.
فأطلق " البرديجي " ذلك ولم يفصل. وإطلاقُ الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ، موجود في كلام كثير من أهل الحديث. والصوابُ فيه التفصيلُ الذي بيناه آنفا في شرح الشاذ.
وعند هذا نقول: المنكرُ ينقسم قسمين على ما ذكرناه في الشاذ؛ فإنه بمعناه. مثال الأول - وهو المنفرد المخالف لما رواه الثقات -: روايةُ مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عُمَرَ بن عثمان عن أسامة بن زيد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يرث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ " فخالف " مالك " غيرَه من الثقات في قوله: " عُمَرَ بن عثمان " بضمِّ العين. وذكر " مسلم " صاحب (الصحيح) في كتاب التمييز، أن كل من رواه من أصحاب الزهري قال فيه: " عَمرو بن عثمان " يعني: بفتح العين، وذكر أن " مالكًا " كان يشير بيده إلى دار عمر بن عثما، كأنه علم أنهم يخالفونه (1). وعمرو وعُمر جميعًا: ولدا
__________
(1) الإِمام مالك في الموطأ: ك الفرائض (ميراث أهل الملل: ح / 10) والحديث من رواية " ابن شهاب الزهري عن علي بن حسين، زين العابدين، عن عَمرو بن عثمان بن عفان عن أسامة، يرفعه " في: البخاري، ك الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (فتح الباري 12/ 39) - وفيه تخريجه - وفي ك الحج، باب توريث دور مكة، وكتاب المغازي.
ومسلم: ك الفرائض، ح (1/ 4 / 16) وأبو داود في الفرائض: هل يرث المسلم الكافر (ح 2909). وابن ماجة: ك الفرائض، ميراث أهل الإِسلام من أهل الشرك (ح 2729) وتأتي رواية النسائي فيما يلي. والدارمي، فرائض، ميراث أهل الشرك وأهل الإِسلام (2/ 370) والإِمام أحمد في مسند حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - (2/ 200 / 208).(1/244)
عثمان، غير أن هذا الحديث إنما هو عن " عَمرو " بفتح العين، وحكم " مسلم " وغيره (1) على " مالك " بالوهم فيه. والله أعلم *.
ومثال الثاني - وهو الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والإِتقان ما يحتمل معه تفرده -: ما رويناه من حديث أبي زُكَير يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا البلح بالتمر؛ فإن الشيطان إذا رأى ذلك غاظه، ويقول: عاش ابن آدم حتى أكل الجديدَ بالخَلق " تفرد به " أبو زكير " وهو شيخ صالح أخرج عنه " مسلم " في كتابه (2)، غير أنه لم يبلغ
__________
(1) والبخاري في تاريخه، ترجمة عمرو بن عثمان بن عفان (6/ 253 / 2612) وعلي ابن المديني عن يحيى بن معين، وقال يحيى: " فقلت لمالك: عمرو بن عثمان؛ فأبى أن يرجع وقال: قد كان لعثمان ابن يقال له عمر، هذه داره ". الجرح والتعديل: المقدمة 1/ 241.
وانظر: (التمهيد لابن عبدالبر: 7/ 160 - 162، وفتح الباري 12/ 39، وتهذيب التهذيب 7/ 481، ترجمة عمر بن عثمان بن عفان: 799).
وقابل على التمهيد، تعقب العراقي في (التقييد والإِيضاح 106، والتبصرة: 1/ 200).
(2) هو في صحيح مسلم متابعة: ك الإِيمان، باب خصال المنافق (ح 109/ 59) " آية المنافق ثلاث " وانظر تقييد العراقي: 108.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: قد وجدنا متابعًا على ذلك، وهو ابن جريج، ذكره البخاري في عامة ما رأى المعترض من أصول كتابه؛
لأنا نقول: الموجود في (النسخة المعتمدة بالكاملية) في باب: لا يرث المسلم الكافر، روايةُ ابن جريج وفيها " عَمرو " بإثبات الواو؛ فلا متابعة حينئذ. انتهت " 28 / أ.
- يعني نسخة المدرسة الكاملية بالقاهرة، ولعلها نسخة الحافظ أبي علي الصدفي انظر (فهارس الفهارس للكتاني: 2/ 111).(1/245)
مبلغ من يُحْتَمَلُ تفردُه. والله أعلم *.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يعترض بأن أبا زكير لم يخرج له " مسلم " إلا في المتابعات، وهذا الحديث منكر، بل ذكره " ابنُ الجوزي " في (الموضوعات) (1)؛
لأنا نقول: ذلك جاء من تفرده الذي لا يحتمل، وهو الذي تقدم. انتهت " 28 / ظ.
__________
(1) باب أكل البلح بالتمر من الأطعمة: (3/ 25 - 26).
والحديث في الباب، من سنن ابن ماجة، من طريق بكر بن خلف عن يحيى بن محمد بن قيس المدني - هو أبو زكير - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - (ح 3330) انظر التعليق عليه، مع (تقييد العراقي، والفوائد المجموعة للشوكاني: ح 63) ص 181.(1/246)
النوع الخامس عشر:
[19 / و] معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد (1).
هذه أمورٌ يتداولونها في نظرهم في حال الحديث؛ هل تفرد به راويه أو لا؟ وهل هو معروف أو لا؟ ذكر " أبو حاتم محمد بن حبَّانَ التميمي الحافظ " - رحمه الله تعالى (2)، أن طريق الاعتبار في الأخبار مثالُه: أن يرويَ: " حمادُ بن سلمة " حديثًا لم يتابَع عليه، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينظَر: هل روى ذلك ثقةٌ غير أيوب عن ابن سيرين؟ فإن وُجِد؛ عُلِمَ أن للخبر أصلا يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك؛ فثقة غير ابن سيرين رواه عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأي ذلك وَجِدَ؛ يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه، وإلا فلا.
قال الشيخ - أبقاه الله -: فمثال المتابعة: أن يَروِيَ ذلك الحديثَ بعينِه عن أيوب غيرُ حماد (3)، فهذه المتابعة التامة. فإن لم يروه أحد غيره عن أيوب، ولكن رواه بعضهم عن ابن سيرين، أو عن أبي هريرة، أو رواه غير أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك قد يُطلقُ عليه اسمُ المتابعة أيضًا، ولكن تقصر عن المتابعة الأولى بحسب بُعْدِها منها، ويجوز أن يُسَمى ذلك بالشاهد أيضًا (4)، فإن لم يُرْوَ ذلك الحديثُ أصلا من وجه من الوجوه
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في نزهة النظر، شرح نخبة الفكر: هذه العبارة توهم أن الاعتبار قسيم للمتابعات والشواهد، وليس كذلك؛ بل الاعتبار الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد، وعلى هذا كان حق العبارة أن يقول: معرفة الاعتبار للمتابعة والشاهد. وما أحسن قول شيخنا في منظومته:
الاعتبار سبرك الحديثَ هل .................................................... تابع راوٍ غيره فيما حملْ
- يعني شيخه العراقي في ألفية الحديث، وانظر (توضيح التنقيح 2/ 11).
(2) [تعالى] من نسخة (ز).
(3) هو حماد بن سلمة، بن دينار الربعي أبو سلمة البصري. وأيوب: السختياني. وابن سيرين: محمد.
(4) على هامش (غ، ز): [سمى " الحاكم " في (المدخل إلى الصحيح) المتابعاتِ شواهدَ].(1/247)
المذكورة، لكن رُوِيَ حديثٌ آخرُ بمعناه، فذلك الشاهدُ من غير متابعةٍ. فإن لم يُروَ أيضًا بمعناه حديثٌ آخر؛ فقد تحقق فيه التفرد المطلق حينئذ. وينقسم عند ذلك إلى مردودٍ منكَر وغير مردود كما سبق. وإذا قالوا في مثل هذا: " تفرد به أبو هريرة، وتفرد به عن أبي هريرة ابنُ سيرين، وتفرد به عن ابن سيرين أيوبُ، وتفرد به عن أيوبَ حمادُ بن سلمة " كان في ذلك إشعار بانتفاء وجوه المتابعات فيه.
ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد *، روايةُ من لا يُحتَجُّ بحديثِه وحدَه بل يكون معدودًا في الضعفاء. وفي (كتابي البخاري ومسلم) جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد. [19 / ظ] وليس كل ضعيف يصلح لذلك؛ ولهذا يقول " الدارقطني " وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به، وفلان لا يُعتبَرُ به. وقد تقدم التنبيه على نحوِ ذلك. والله أعلم.
مثالٌ للمتابع والشاهد: روينا من حديث سفيان بن عُيَيْنةَ عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به " (1) ورواه ابنُ جُرَيج عن عمرو (2) عن عطاء؛ ولم يذكر فيه الدباغ. فذكر " الحافظ أحمد البيهقي " لحديث ابن عيينة متابِعًا وشاهدًا:
__________
(1) مسلم، ك الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (102/ 363).
(2) من (ص، ز) والعراقية وسقط من (غ) وهو في أسانيد الحديث من رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: مسلم (ح 103/ 363).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: عطفُ الاستشهاد على المتابعة يقتضي تغايرهما، و " الحاكم " في (المدخل) سمى المتابَعاتِ شواهدَ؛
لأنا نقول: المغايرة صادقة، بألا يسمى الشواهد متابعات. وأما تسمية المتابعة شاهدًا فهو موجود في قوله: " ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد أيضًا ". انتهت " 29 / ظ.(1/248)
أما المتابع؛ فإن أسامة بن زيد تابعه عن عطاء، وروى بإسناده عن أسامة عن عطاء عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا نزعتم جلدها فدبغتموه فاستمعتم به؟ "
وأما الشاهد؛ فحديثُ عبدِالرحمن بن وعلةَ عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما إهابٍ دُبغَ فقد طهر " (1). والله أعلم.
__________
(1) على هامش (غ): [قال المؤلف - رحمه الله -: طهر: بالفتح والضم في الهاء، والفتح أفصح. وإهاب بكسر الهمزة وفتحها، والكسر أفصح] ومثله على هامش (ز).
والحديث في السنن الكبرى للبيهقي، ك الطهارة، باب طهارة جلد الميتة بالدبغ (1/ 1796) من رواية إبراهيم بن نافع الصايغ عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس، ولم يذكر الدباغ. ثم من رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد الليثي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل شاة ماتت: " ألا نزعتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به "، قال البيهقي: وهكذا رواه الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاءٍ، وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن عطاء.
والروايتان في سنن الدارقطني، من تسعة وعشرين حديثًا جمعها في باب الدباغ من كتاب الطهارة (السنن 1/ 41 - 49) وانظر الباب في السنن الأربعة، و (تقييد العراقي 109 والتبصرة 1/ 206).(1/249)
النوع السادس عشر:
معرفة زيادات الثقاتِ وحكمها.
وذلك فن لطيف تُستحسن العنايةُ به. وقد كان " أبو بكر بن زياد النيسابوري، وأبو نُعَيم ٍ الجرجاني، وأبو الوليد القرشي " (1) الأئمة، مذكورين بمعرفة زيادات الألفاظ الفقهية في الأحاديث *.
ومذهب الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث، فيما حكاه " الخطيب أبو بكر " أن الزيادة من الثقة مقبولة (2) إذا انفرد بها، سواء كان ذلك من شخص واحد بأن رواه
__________
(1) أبو نعيم الجرجاني، عبدالملك بن محمد بن عدي الأستراباذي (323 هـ) الفقيه الشافعي الإِمام الحافظ. (تاريخ جرجان 276 - 278/ 466)، نقل الذهبي في ترجمته بالعبر (2/ 198): " قال الحاكم: سمعت أبا الوليد الفقيه - شيخ الشافعية بخراسان -: يقول: ولم يكن في عصرنا أحفظ للفقهيات وأقاويل الصحابة بخراسان من أبي نعيم الجرجاني .. ".
وأبو الوليد القرشي الأموي، حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القزويني النيسابوري، له (المستخرج على مسلم)، وصنف أحكامًا على المذهب. توفي سنة 344 عن 72 سنة (تهذيب النووي، كنى: 272/ 242 وتذكرة الحفاظ 3/ 895، والعبر 2/ 281).
(2) بهامش (غ): [قال الخطيب في (كتاب الكفاية) له: الذي أختاره أن الزيادة مقبولة إذا كان راويها عدلا حافظًا متقنًا؛ لاتفاق جميع أهل العلم على أنه لو انفرد بنقل حديث لم ينقله غيره وجب قبوله]. قوبل على الكفاية: 425.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ليس المراد بمعرفة زيادات الألفاظ الفقهية، ما زاده الفقهاء، فذاك يذكر في المدرج. بل المراد الزيادات التي تظهر منها الأحكام الفقهية؛ كزيادة " وتربها " في التيمم و " من المسلمين " في حديث زكاة الفطر - انتهت " 29 / و.
- نقل الأمير الصنعاني فيها، قول الحافظ ابن حجر: " مراده بذلك: الألفاظ التي تستنبط منها الأحكام الشرعية ". (توضيح التنقيح 2/ 16).(1/250)
ناقصًا مرة ورواه مرةً أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة (1) من غير من رواه ناقصًا. خلافًا لمن رد من أهل الحديث ذلك مطلقًا، وخلافًا لمن رَدَّ الزيادةَ منه وقبِلها من غيره. وقد قدمنا عنه حكايته عن أكثر أهل الحديث فيما إذا وصل الحديثَ قومٌ وأرسله قومٌ؛ أن الحكم لمن [20 / و] أرسله؛ مع أن وصلَه زيادةٌ من الثقة *.
وقد رأيتُ تقسيم ما ينفرد به الثقةُ إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقع مخالفًا منافيًا لما رواه سائر الثقات؛ فهذا حكمهُ الردُّ كما سبق في نوع الشاذ.
الثاني: ألا يكون فيه منافاةٌ ومخالفة أصلاً لما رواه غيرُه؛ كالحديث الذي تفرد برواية جملتِه ثقةٌ، ولا تَعرُّضَ فيه لما رواه الغيرُ بمخالفةٍ أصلاً؛ فهذا مقبولٌ. وقد ادَّعى " الخطيبُ " فيه اتفاقَ العلماء عليه (2). وسبق مثالُه في نوع الشاذ.
الثالث: ما يقع بين هاتين المرتبتين؛ مثل زيادة لفظةٍ في حديثٍ لم يذكرها سائرُ مَنْ رَوَى ذلك الحديثَ.
__________
(1) [أو كانت الزيادة] من (غ، ز) والعراقية، وسقطت من (ص).
(2) في الكفاية: 424 - 425.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد تقدم أن " الخطيبَ " صحَّح أن الحكم للمسند، وقد يفرق بينهما على طريقة أكثر المحدثين بأن الإرسال عِلة في السند، وليست الزيادة في المتن كذلك، وسيأتي ما يدل له.
ولا يُعترض بأن الذي ذكره " الخطيب " في ذلك، الجزم بأن الزيادة مقبولة، تقدمت أو تأخرت، وليس في ذلك حكايةٌ عن الأكثر؛
لأنا نقول [هنا في الأصل بياض نصَّ عليه بهامشه] وليس لقائل أن يقول: لا ريبة فيما إذا روى أولا زائدًا، إنما الريبةُ فيما إذا روى ثانيًا بزيادة؛ لأنا نقول: كل منهما فيه الريبة؛ فاستويا. انتهت " 29 / ظ.(1/251)
مثالُه: ما رواه مالكٌ عن نافع ٍ عن ابنِ عمر: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاةَ الفِطر من رمضانَ على كلِّ حُر أو عبدٍ، ذكر أو أنثى من المسلمين (1) ". فذكر " أبو عيسى الترمِذي " أن مالكًا تفرد من بين الثقات بزيادة قوله: من المسلمين (2). وروَى عبيدُالله بن عمر وأيوبُ وغيرُهما، هذا الحديثَ عن نافع عن ابن عمر، دونَ هذه الزيادة. فأخذ بها غير واحد من الأئمة واحتجوا بها، منهم الشافعيُّ وأحمدُ - رضي الله عنهم -. والله أعلم *.
__________
(1) الموطأ: ك الزكاة، باب زكاة الفطر (ح 52) والتمهيد 14/ 314 - 330.
(2) الترمذي: أبواب الزكاة (3/ 186) مع عارضة الأحوذي.
(3) حاشية من (غ): [قال النووي: " ومثلَّه الشيخ بزيادة " مالك " في حديث الفطر: من المسلمين ولا يصح التمثيل به؛ فقد وافق مالكًا على ذلك: عمر بن نافع، والضحاك بن عثمان. والله أعلم " قال شيخنا: حديث عمر بن نافع عن أبيه، خرجه " البخاري " في كتاب الزكاة، وحديث الضحاك بن عثمان، أخرجه " مسلم " في صحيحه. قال " أبو عمر بن عبدالبر ": قد رواه إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر، ورواه سعيد بن عبدالرحمن الجمحي عن عبيدالله بن عمر بن نافع عن ابن عمر، ورواه كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر، ويونس بن يزيد عن نافع عن ابن عمر. كلهم قالوا فيه: من المسلمين].
وعلى هامش (ز): [ذكر النووي في (شرح مسلم، وكتاب علوم الحديث، له): أن هذا التمثيل لا يصح؛ فقد وافق مالكًا على ذلك عمر بن نافع، والضحاك بن عثمان. والله أعلم].
متن التقريب 1/ 247 مع تدريب الراوي.
رواية عمر بن نافع عن أبيه، في صحيح البخاري، ك الزكاة، باب زكاة الفطر (فتح الباري 3/ 237 - 238) ورواية الضحاك بن عثمان عن نافع: في صحيح مسلم، زكاة الفطر على المسلمين (ح 12/ 984) وسئل الدارقطني، في (العلل)، عنه فقال: ورواه عبدالرزاق عن الثوري وزاد فيه: على المسلمين ... وكذلك رواه عمر بن نافع والمعلى بن إسماعيل والضحاك بن عثمان ويونس بن يزيد الأيلي. وكذلك قال سعيد بن عبدالرحمن الجمحي عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر وقالوا فيه: على كل مسلم. وكذلك قال مالك بن أنس في الموطأ، ورواه قتيبة بن سعيد - عنه - فسقط عليه: من المسلمين (العلل 4/ 113) خط.
ويأتي فيما يلي من (المحاسن) جملة روايات فيه بهذه الزيادة، ونحوه في تقييد العراقي (112) وخرجه ابن حجر، بغاية التقصي في (فتح الباري 3/ 237 - 238).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة:
المشهور في رواية عبيدالله وأيوب، ما تقدم. ولكن قد روى " الحاكم " في (مستدركه) رواية وصححها عن عبيدالله، فيها: " من المسلمين " أخرجها من طريقين: عن =(1/252)
.............................................................................................................................
___________________________________
= سعيد بن عبدالرحمن الجمحي: حدثنا عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من بٌرٍّ، على كل حُر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين " (1). وأخرج الدارقطني في (سننه) رواية من جهة الثوري عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر، وفيها: على كل مسلم. ثم قال: وكذلك رواه سعيد بن عبدالرحمن الجمحي عن عبيدالله بن عمر، وقال فيه: من المسلمين. ثم أخرجها بعد ذلك بأحاديث كثيرة (2). وأما رواية أيوب؛ فالمعروف فيها ما تقدم. لكن الزيادة أيضًا جاءت من روايةِ أيوب السختياني، خرجها ابن خزيمة في (صحيحه) (3). وجاءت رواية الزيادة المذكورة من طريق أيوب بن موسى القرشي، ذكرها البيهقي (4). وجاءت من غير رواية المذكورين، عن نافع أيضًا، وهي في البخاري: من حديث إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر. وفي مسلم: من حديث ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن نافع. ورواها أيضًا كثير بن فرقد عن نافع، وهي في (الحاكم). ولفظه عن ابن عمر: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: زكاة الفطر فرض على كل مسلم حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين، صاع من تمر أو صاع من شعير " قال: هذا حديث صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه (5). وجاءت الزيادة من حديث المعلى بن إسماعيل عن نافع، وحديثه في ابن حبان، ومن حديث يونس بن يزيد، ذكرها الطحاوي في (المشكل) (6)، ومن حديث ابن أبي ليلى عن نافع، وهي في (سنن الدارقطني)، وحديثِ الثوري عن عبيدالله، وابن أبي ليلى عن نافع. وفيه: على كل مسلم (7). وجاءت من رواية عبيدالله العمري عن نافع، =
__________
(1) المستدرك: صدقة الفطر حق واجب (1/ 110).
(2) سنن الدارقطني، كتاب زكاة الفطر (ح 3، 4) ثم ما بعدهما.
(3) صحيح ابن خزيمة، وجوب صدقة الفطر، فرض زكاة الفطر على كل حر أو عبد من المسلمين (4/ 83 ح 384).
(4) سنن البيهقي: زكاة، أبواب صدقة الفطر (4/ 168).
(5) مستدرك الحاكم، الباب (3/ 90).
(6) مشكل الآثار للطحاوي: (3/ 82).
(7) سنن الدارقطني (ح 3، 4) من كتاب زكاة الفطر: 2/ 139.(1/253)
ومن أمثلة ذلك، حديث: " جُعِلتْ لنا الأرضُ مسجدًا، وجُعلت تربتُها لنا طهورا " (1). فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك سعدُ بن طارق الأشجعي *. وسائرُ الروايات لَفظُها:
__________
(1) مسلم، ك المساجد (ح: 4/ 522) من رواية أبي مالك الأشجعبي عن ربعي عن خراش عن حذيفة، مرفوعًا ولفظه: " وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا إذا لم نجد الماء " ص 1/ 371.
___________________________________
= وهي في الدارقطني، وقد نبه عليها أبو داود، وعلى رواية سعيد الجمحي عن عبيدالله، ثم قال: والمشهور عن عبيدالله، ليس فيه: " من المسلمين " (1) ونبه " الدارقطني " على أكثر ما تقدم، جملة ثم تفصيلا، في كثير منه بالرواية، فقال: رواه سعيد بن عبدالرحمن الجمحي عن عبيدالله، ثم قال: والمشهورُ عن عبيدالله، ليس فيه " من المسلمين " (2) وكذلك رواه مالك بن أنس والضحاك بن عثمان، وعمر بن نافع والمعلى بن إسماعيل وعبيدالله العمري وكثير بن فرقد ويونس بن يزيد، ورُوِيَ عن ابن شوذب عن أيوب عن نافع كذلك.
وفي (سنن البيهقي) ذكرها من حديث يحيى بن سعيد وموسى بن عقبة، عن نافع (3) وبذلك يرتد قولُ من قال: إن مالكًا تفرد بها , وإن غير مالك لا يرويها؛ لظهور مَن تابع مالكًا على الزيادة، مع كثرة المتابعين. لا سيما وقد جمع الدارقطني أكثرهم في (سُننِه) (4) في دول الشطرين، بل قال: روى مالك عن نافع عن ابن عمر نحو حديث أيوب، وزاد فيه: من المسلمين " وروى غير واحد عن نافع ولم يذكروا فيه: " من المسلمين ". انتهى " 29 / ظ - 30 و.
__________
(1) سنن أبي داود: ك الزكاة، باب كم يؤدي صدقة الفطر (ح 1613، 1612).
(2) السنن، والعلل (4/ 113 خط) وانظر معها التعليق المغني على سنن الدارقطني بهامشه (2/ 138).
(4) السنن الكبرى: (4/ 168).
(4) سنن الدارقطني، كتاب زكاة الفطر، الأحاديث: (3 - 10).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ليس لقائل أن يقول: إذا جازت الروايةُ بالمعنى؛ فيكون أبو مالك أراد بالتربة الأرضَ من حيث هي أرض، وذلك لشيوعه في لسان العرب، يعبرون عن التربة بالأرض؛ فلا يبقى فيه مخالفة ولا زيادة لمن أطلق في سائر الروايات =(1/254)
" وجُعلت لنا الأرضُ مسجدًا وطهورًا " (1). فهذا وما أشبهه يُشبِه القسم الأولَ، من حيث إن ما رواه الجماعةُ عامٌّ، وما رواه المنفردُ بالزيادة مخصوص، وفي ذلك مغايَرة في الصفةِ ونوعٌ من المخالفة يختلف به الحكمُ، ويشبهُ أيضًا القسمَ الثاني من حيث إنه لا منافاةَ بينهما.
وأما زيادةُ الوصل مع الإرسال؛ فإن بين الوصل ِ والإرسال من المخالفة نحوَ ما ذكرناه، ويزداد ذلك بأن الإرسالَ [20 / ظ] نوعٌ قد قدح في الحديث، فترجيحُه وتقديمُه من
__________
(1) من حديث جابر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - مرفوعًا. في البخاري: ك التيمم (فتح الباري 1/ 298) وكتاب الصلاة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا " (فتح 10/ 359) وكتاب الجهاد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: نصرت بالرعب (فتح 6/ 79) وفي صحيح مسلم، ك المساجد (ح 3/ 522، 5/ 523) وانظر في كفاية الخطيب، باب القول في حكم خبر العدل إذا انفرد برواية زيادة فيه لم يروها غيره (424 - 429).
___________________________________
= لأنا نقول: جواز الرواية بالمعنى شرطُه عدم التغاير، والتغاير هنا موجود. وكونه أراد بالتربة الأرضَ مخالفة أن يكون روَى ما سمع، وحملُ التربة على التراب هو المتبادر إلى الأفهام. وقوله: يعبرون عن التربة بالأرض؛ صوابه العكس لأنه المقصود، وشاهدُه حديثُ أبي هريرة في (مسلم): " أن الله خلق التربة يوم السبت " (1) وجوابه: أنه لو أريد ذلك لم يذكر التربةَ لسبقِ الأرض، بل كان يجيء كما في أكثر الطرق: " جعلت لنا الأرض مسجدًا وطهورًا " إذ هذا من الاختصار. وقد جاء في هذه الأحاديث التي فيها الاختصاصاتُ التي له على سائر الأنبياء: " أوتيت جوامع الكلم ". (2) انتهت " 31 / أ.
__________
(1) صحيح مسلم، ك صفة القيامة والجنة والنار، باب ابتداء الخلق (ح 27/ 2789).
(2) في صحيح البخاري، رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، مرفوعًا، بلفظ (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب فبينا أنا نائم أوتيت مفاتيح خزائن الأرض) ك الجهاد، باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: نصرت بالرعب، (فتح الباري 6/ 79) ومثله في مسلم، مساجد (ح 6/ 522) وبلفظ " وأوتيت " من رواية أبي يونس مولى أبي هريرة، عنه. ورواية همام بن منبه عن أبي هريرة (مساجد ح: 7، 8/ 523) وأخرجه مسلم من رواية العلاء - بن عبدالرحمن بن يعقوب - عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، بلفظ: " فٌضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون " مساجد (ح 5/ 523).
- انظر مع كفاية الخطيب (524/ 529): تقييد العراقي (114) وتبصرته (1/ 215) وتوضيح التنقيح (2/ 23).(1/255)
قَبيل تقديم الجرح ِ على التعديل. ويجابُ عنه بأن الجرحَ قُدِّمَ لما فيه من زيادةِ العلم، والزيادةُ عنا مع مَنْ وصَلَ *. والله أعلم (1).
__________
(1) على هامش ص: [16 / ظ] بخط العراقي: بلغ ناصرالدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين بن العديم قراءة بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما قاله " النسائي " وغيرُه، من أنَّ مَنْ أرسلَ معه زيادةُ علم على من وصَلَ؛ لأن الغالبَ في الألسنة الوصلُ، فإذا جاء الإرسالُ؛ عُلم أن مع المرسل زيادَة علم. وقد رجَّحه " ابن القطان " وغيرُه؛ معارَضٌ بأن الإرسال نقصٌ في الحفظ، وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسانُ من السهو والنسيان. فتبين أن النظر صحيح، أن زيادةَ العلم إنما هي مع من أسند. انتهت " 31 / و.
__________
- انظر مع كفاية الخطيب (524 - 529): تقييد العراقي (114) وتبصرته (1/ 215) وتوضيح التنقيح لابن الوزير الصنعاني (2/ 23).(1/256)
النوع السابع عشر:
معرفة الأفراد.
وقد سبق بيانُ المهمِّ من هذا النوع في الأنواع التي تليه قبلَه، لكنْ أفردته بترجمةٍ كما أفرده " الحاكم أبو عبدالله " (1)، ولِمَا بَقِيَ منه. فنقولُ: الأفراد منقسمة إلى ما هو فردٌ مطلقًا، وإلى ما هو فردٌ بالنسبة إلى جهةٍ خاصة.
أما الأوّل: فهو ما ينفرد به واحدٌ عن كلِّ أحدٍ. وقد سبقت أقسامُه وأحكامُه قريبًا.
وأما الثاني: وهو ما هو فردٌ بالنسبة، فمثلُ ما ينفرد به ثقةٌ عن كلِّ ثقة، وحكمُه قريبٌ من حُكم ِ القسم الأول ِ. ومثلُ ما يقال فيه: هذا حديثٌ تفرد به أهلُ مكة، أو تفرد بها أهلُ الشام، أول أهلُ الكوفة، أو أهلُ خراسانَ، عن غيرهم، أو: لم يروه عن فلان غيرُ فلان - وإن كان مرويًّا من وجوه عن غير فلان، أو تفرد به البصريون عن المدنيينَ، أو الخراسانيون عن المكيين، وما أشبه ذلك.
ولسنا نُطوِّل بأمثلةِ ذلك؛ فإنه مفهومٌ دونَها. وليس في شيءٍ من هذا ما يقتضي الحُكْمَ بِضَعفِ الحديث، إلا أن يُطلِقَ قائلٌ قولَه: تفرد به أهلُ مكةَ، أو تفرد به البصريون عن المدنيين، أو نحو ذلك، على ما لم يَروِه إلا واحدٌ من أهل ِ مكة أو واحدٌ من البصريين ونحوه، ويضيفه إليهم كما يُضافُ فعلُ الواحدِ من القبيلة إليها مَجازًا. وقد فعل " الحاكمُ أبو عبدالله " هذا فيما نحن فيه، فيكون الحكمُ فيه على ما سبق في القسم الأول *.
__________
(1) في معرفة علوم الحديث، النوع الخامس والعشرون: معرفة الأفراد من الأحاديث (ص 96).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قَسَّم " الحاكمُ " التفردَ ثلاثةَ أقسام: الأول تفرُّدُ أهل ِ مدينةٍ عن صحابي، الثاني: تفرد رجل ٍ عن إمام. الثالث: تفرد أهل مدينة عن مدينة أخرى. =(1/257)
[21 / و]. والله أعلم (1).
__________
(1) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: [بلغ السماع بقراءتي في المجلس الأول على شيخنا عز القضاة ابن المنبر. وسمعه الفقيه زين الدين أبو محمد عبدالملك بن أبي القاسم بن عبدالملك بن منصور بن رستم، وأبو البركات محمد، أخي. وكتبه محمد بن محمد ابن الفاسي].
___________________________________
= والأولُ والثالثُ من أقسام " الحاكم " يدخلان تحت التفرد بالنسبة إلى جهة خاصة. انتهت " 32 / أ.
- انظر الأقسام الثلاثة، وأمثلة الحاكم لكل قسم منها، في النوع الخامس والعشرين، من كتابه المعرفة: الأفراد (96 - 100) وانظر معه تبصرة العراقي (1/ 217).(1/258)
النوع الثامن عشر:
معرفة الحديثِ المُعلَّل.
ويسميه أهلُ الحديث: المعلول. وذلك منهم ومن الفقهاء في قولهم في باب القياس: العلة، والمعلول مرذولٌ عند أهل ِ العربية واللغةِ * (1).
اعلم أن معرفةَ عِلَل ِ الحديثِ من أجَلِّ علوم الحديث وأدقِّها وأشرفِها، وإنما يضطلع بذلك أهلُ الحفظِ والخبرةِ والفهم الثاقب. وهي عبارةٌ عن أسبابٍ خفيةٍ قادِحةٍ فيه. فالحديثُ المعلَّل هو الحديث الذي اطُّلِع فيه على علةٍ تقدح في صحته، مع أن ظاهرَهُ السلامةُ منها. ويتطرق ذلك إلى الإِسنادِ الذي رجالُه ثقاتٌ، الجامع ِ شروطَ الصحة من حيثُ الظاهرُ. ويستعان على إدراكِها بِتفرُّدِ الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائنَ تنضم إلى
__________
(1) انظر تقييد العراقي (116 - 118) وتبصرته (1/ 225) وشرح النخبة (132) وتوضيح التنقيح (2/ 25).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: ليست مرذولة، حكاها صاحب الصحاح والمُطَرَّزي (1) وقطرب، ولم يترددوا. وتبعهم غيرُ واحد؛
لأنا نقول: المستعمَلُ عند المحدثين والفقهاء والأصوليين، إنما يقصدون به أن غيره أعلَّه، لا أنه عُلَّ بنفسه. والذي ذكره " الجوهري ": عُلَّ الشيءُ فهو معلول، وما ذكره في أول المادة من أن عَلَّه الثلاثي يتعدى؛ فذاك في السقْي [أي بمعنى: سَقَاه] وحينئذ فصوابُ الاستعمال ِ: المعلَّلُ، إذا كان من: أَعَلَّ. انظر تقييد العراقي (117) واستشهاده بقول الجوهري في الصحاح: " لا أعَلَّكَ الله، أي لا أصابك بعِلة ". انتهت " 31 / ظ.
__________
(1) المُطَرَّزي، أبو الفتح وأبو المظفر ناصر بن عبدالسيد الخوارزمي. اللغوي العلامة الفقيه الحنفي (533 - 610) في كتابه (المغرب في لغات الفقه: ص 116) حرف العين.(1/259)
ذلك تُنَبه العارفَ بهذا الشأن على إرسال ٍ في الموصول أو وقف في المرفوع، أو دخول ِ حديثٍ في حديثٍ، أو وهم واهم لِغير ذلك؛ بحيث يغلب على ظنه فيحكم به، أو يترددُ فيتوقفُ فيه. وكلُّ ذلك مانعٌ من الحُكم بصحةِ ما وُجِدَ ذلك فيه.
وكثيرا ما يُعللون الموصولَ بالمرسَل، مثل أن يجيء الحديثُ بإسنادٍ موصول ٍ، ويجيءَ أيضًا بإسنادٍ منقطع أقوى من إسناد الموصول. ولهذا اشتملت كتبُ عِلَل ِ الحديثِ على جميع ِ طرقهِ. قال " الخطيب أبو بكر ": السبيلُ إلى معرفة علةِ الحديثِ أن يُجمع بين طُرقِه ويُنظرَ في اختلافِ رُوَاتِه ويُعتبر بمكانِهم من الحفظ ومنزلتِهم في الإِتقانِ والضبط. ورُوِي عن " عليِّ ابنِ المديني " قال: البابُ إذا لم تجمع طُرقُه، لم يتبينْ خطؤه (1).
ثم قد تقع العلةُ في إسنادِ الحديث، وهو الأكثر، وقد تقع في مَتْنِه. ثم ما يقع في الإِسناد قد يَقدحُ في صحةِ الإِسناد والمتنِ جميعًا، كما في التعليل بالإِرسال والوقف. وقد يقدح في صحةِ الإِسناد خاصةً من غير قدح في صحةِ المتن.
فمن أمثلة ما وقعت العِلةُ في إسنادِه من غير قدح ٍ في صحة المتْنِ، ما رواه الثقةُ يعلى ابنُ عبيد، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " البيعانِ بالخيارِ ... " الحديث. فهذا إسنادٌ متصلٌ بنقل ِ العدل ِ عن العدل ِ. وهُوَ معلَّلٌ غيرُ صحيح، والمتنُ على كلِّ حال صحيح. والعلةُ في قوله: " عن عمرو بنِ دينار "؛ إنما هو عن " عبدِالله بنِ دينار عن ابنِ عمر " هكذا رواه الأئمةُ من أصحابِ " سفيانَ " عنه. فَوَهِمَ " يَعلى بنُ عُبَيد " وعدَلَ عن عبدِالله بن دينار، إلى عمرو بن دينار. وكلاهما ثقة (2).
__________
(1) وأسند ابن حبان عن عباس بن محمد - الدوري - قال: سمعت يحيى بن معين يقول: لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهًا لم نعرف ما علته " مقدمة المجروحين 1/ 33.
(2) قال العراقي: إنما المعروف من حديث سفيان - الثوري -: عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر. هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان: أبو نعيم الفضل بن دكين وعبيدالله بن موسى العبسي ومحمد بن يوسف الفريابي ومخلد بن يزيد وغيرهم. وهكذا رواه عن عبدالله بن دينار، شعبة وابن عيينة ويزيد بن عبدالله بن الهاد، ومالك من رواية ابن وهب عنه. والحديث المشهور لمالك وغيره، عن نافع عن ابن عمر. وأما رواية عمرو بن دينار؛ فوهم من يعلى بن عبيد (التبصرة 1/ 231).
رواية مالك عن نافع عن ابن عمر، في الموطأ: بيوع (ح79) وفي صحيح البخاري: بيوع، باب بيع الخيار (مع فتح الباري 4/ 225)، ومسلم في باب خيار المتبايعين (ح 43/ 1531) وبرواية الثوري عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر، في الباب من الصحيحين كذلك (فتح الباري 4/ 230، ومسلم ح 46/ 1531).(1/260)
ومثالُ العِلةِ في المتْنِ، ما انفرد " مسلمٌ " 01) بإخراجِه في حديثِ " أَنَس ٍ " من اللفظ المصرِّح بنفيِ قراءةِ " بسم الله الرحمن الرحيم " فعلَّل قومٌ روايةَ اللفظ المذكور، لَمَّا رأوا الأكثرين إنما قالوا فيه: " فكانوا يستفتحون القراءةَ بالحمد لله رب العالمين " من غير تعرُّض لذِكرِ البسلمة، وهو الذي اتفق " البخاري ومسلم " على إخراجه في الصحيح. (2) ورأوا أن مَنْ رَواه باللفظ المذكور، رواه بالمعنى الذي وقع له؛ ففَهِمَ من قوله: " كانوا يستفتحون بالحمدُ الله " أنهم كانوا لا يُبَسْمِلون، فرواه على ما فهم، وأخطأ؛ لأن معناه أن السورةَ التي كانوا يفتتحون بها من السوَرِ هي الفاتحة، وليس فيه تعرض لذكر التسمِيةِ. وانضم إلى ذلك أمورٌ منها: أنه ثبت عن " أنس " أنه سُئِل عن الافتتاح بالتسمية، فَذَكَرَ أنه لا يحفظ فيه شيئًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (3) *. والله أعلم.
__________
(1) ك الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة (ح 52/ 399) رواية قتادة عن أنس، وفيه الزيادة: (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم، في أول قراءة ولا في آخرها).
(2) صحيح البخاري: ك الأذان، باب ما يقول بعد التكبير (فتح الباري 2/ 145).
" مسلم: ك الصلاة، من قال لا يجهر بالبسملة (ح 50/ 399) ورواه الإِمام الشافعي من حديث قتادة عن أنس، بغير هذه الزيادة (المسند 3)، كما في البخاري، وكذلك الدارقطني عن عدد من أصحاب قتادة (السنن: ك الصلاة: باب ذكر اختلاف الرواية في الجهر بالبسملة ح 6) ورواه عدد من طرق عن أنس بلفظ: فكانوا لا يجهرون، أو: فلم أسمع أحدًا منهم يجهر بالبسملة " (ح 1 - 5) ورواه الإِمام مالك في الموطأ عن حميد الطويل عن أنس، موقوفا.
(3) سنن الدارقطني (ح 10) من الباب، ومسند الشافعي: 13.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقدح في ذلك قول " ابنِ طاهر " في كتابه (تصحيح العلل) بعد رواية ذلك عن " أنس ": هذا إسنادٌ صحيح متصل، لكنَّ هذه الزيادةَ في متنه مٌنْكَرَةٌ موضوعة. ولا قولُ " ابن عبدالبر ": عندي أن من حَفِظَ مُقَدَّم على من سأله في حال ِ كِبَرِهِ ونسيانِهِ. (1).
لأنا المقصودَ وجودُ مثال ٍ لعلةٍ في المتنِ، وقد وُجِدَ، وانضم إليه تأييد. انتهت " 33 / ظ.
__________
(1) التمهيد 14/ 365.
قلت: جمع الدارقطني في الجهر بالبسملة أربعين حديثًا، وفي الاختلاف عليها أربعة وعشرين، مخرجة في التعليق المغني على سنن الدارقطني، بهامشه (3/ 302 - 313) وبسط ابن عبدالبر القول في المسألة، والنظر في مختلف الروايات فيها. بالتمهيد (2/ 228 - 231) والاستذكار (2/ 151 - 165) وإليهما آل الزين العراقي (التقييد 119 - 126، والتبصرة 1/ 231) مع تخريج مختلف الأحاديث فيها. وانظر أيضًا فتح الباري (2/ 154 - 155).(1/261)
ثم اعلم أنه قد يُطلَقُ اسمُ العِلَّةِ على غيرِ ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحةِ في الحديث، المُخرجةِ له من حال ِ الصحةِ إلى حال ِ الضعف، المانعةِ من العمل ِ به على ما هو مُقتضَى لفظِ العلةِ في الأصل. ولذلك تجدُ في كتبِ علل ِ الحديث الكثيرَ من الجرح ِ بالكذبِ، والغفلة، وسوءِ الحفظ. ونحو ذلك من أنواع الجرح. وسَمَّى " الترمذيُّ " النسخَ عِلةً من علل ِ الحديث. ثم إن بعضهم (1) أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال ِ مَن أرسلَ الحديثَ الذي أسنده الثقةُ الضابطُ [23 / و] حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيحٌ معلول. كما قال بعضُهم (2): من الصحيح ما هو صحيح شاذ. والله أعلم *.
__________
(1) قال العراقي: أبهم المصنف قائل ذلك، وهو الحافظ أبو يعلى الخليلي، فقال في كتاب الإرشاد: إن الأحاديث على أقسام كثيرة، صحيح متفق عليه، وصحيح معلول، وصحيح مختلف فيه، إلى آخر كلامه (التقييد 124) وتوضيح التنقيح 2/ 34.
(2) بلاغ المقابلة والسماع بقراءة ابن الفاسي، على هامش (غ).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: قد تقدم ما في نحو ذلك من العمل فليُنظر ذلك في موضعه. وجعل " الحاكم " معرفةَ علل الحديث علمًا برأسِه؛ غير الصحيح والسقيم والجرح والتعديل. وأسنَدَ عن " ابن مهدي ": لأنْ أعرفَ علةَ حديثٍ أحَبُّ إليَّ من أكتب عشرين حديثًا ليس عندي. " قال " الحاكم ": وإنما يُعَلَّلُ الحديث من أوجهٍ ليس للجرح فيها مدخَلٌ؛ فإن حديثَ المجروح ساقط [واهٍ]. والحجة في التعليل عندنا الحفظُ والفهمُ والمعرفةُ لا غير. قال " ابنُ مهدي ": معرفةُ علة الحديث إلهامٌ، فلو قلتَ للعالم بعلل ِ الحديث: من أين قلتَ ها؟ لم يكن له حجةٌ. وأسند " الحاكمُ " إلى أبي زرعة، سأله رجل: ما الحجةُ في تعليلكم الحديث؟ قال: " الحجةُ أن تسألَني عن حديث له علةٌ، فأذكر عِلّتَه، ثم تقصد " ابنَ وارَه " فتسأله ولا تخبره، فيذكر علَّتَه، ثم تقصد " أبا حاتم " فيعلِّله، ثم تميز كلامنا (1) على =
__________
(1) في (معرفة علل الحديث: 113): [ثم تميز كلام كل منا] وعلى هامشه: [بالأصل: كلامنا] وما حكاه عن أبي زرعة وابن واره وأبي حاتم، ذكر نحوه ابن أبي حاتم الرازي في ترجمته لأبيه، وأنه سمعه يقول: إن رجلا متن جلة أصحاب الرأي جاءه وعرض عليه دفترًا معه، فقال أبو حاتم في بعضه: هذا حديث خطأ، وفي بعضه: هذا باطل، وفي بعضه: هذا كذب. فسأله الدليلَ على ما يقول، فاقترح عليه أن يذهب إلى أبي زرعة فيسأله فيما عرضه عليه ولا يخبره بما قال. ففعل الرجل، وعجب من اتفاقهما دون تواطؤ بينهما (مقدمة الجرح والتعديل 1/ 248).(1/262)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ذلك الحديث، فإن اتفقا فاعلم حقيقة هذا العلم، وإن اختلفا فاعلم أن كلَّا يتكلم على مراد " ففعل الرجلُ فاتفقتْ كلمتُهم، فقال: " أشهد أن هذا العلم إلهام ".
وهذه الحكاية التي ذكرها " الحاكم " تدل على أن الجهابذة النقادَ يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه ومعوجِّه، كما يميز الصيرفي بين الجيد والرديء. وكم من شخص لذلك لا يهتدي. وجعل " الحاكمُ " أجناسَ العلل عشرةً، وطَوّلها فنَذكرها مختصرةً:
أولها: أن يكون السند ظاهرُه الصحة، وفيه من لا يُعرَف بالسماع ممن رَوى عنه. ومثلَّه بما أسنده عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من جلس مجلسًا كثُر فيه لغطُه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غُفِرَ له ما كان في مجلسه ذلك " ثم أسند إلى " مسلم " أنه جاء إلى " البخاري " فقبل بين عينيه وقال: دعني حتى أُقبِّلَ رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله، حدثك محمدُ بن سلام قال حدثنا مخلد بن يزيد الحراني، قال حدثنا ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، ما علتُه؟ قال " البخاري ": هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول؛ حدثنا به موسى بن إسماعيل، قال حدثنا وهيب، ثنا سهيل، عن عون بن عبدالله، قوله .. " قال محمد بن إسماعيل: هذا أولى؛ لا يذكر لموسى بن عقبة سماعٌ من " سهيل " (1). انتهى كلام " الحاكم " وهذه الطريقة التي ذكرها مسلم للبخاري معروفة. ورواه " الطبراني " في (معجمه الأوسط) عن حجاج بن محمد، عن سفيان عن ابن جريج، فقال: ثنا محمد بن جعفر بن أعين، ثنا يحيى بن المبارك الكوفي، ثنا حجاج بن محمد، عن سفيان عن ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فذكر الحديثَ وفي آخره: " كان كفَّارةً لما كان في ذلك المجلس " بدل =
__________
(1) المقابلة على الحاكم في (المعرفة 113) بإسناده عن أبي حامد القصاد عن مسلم وكذلك الخطيب في (تاريخ بغداد 2/ 29 ترجمة البخاري) وأبو بكر ابن نقطة في (التقييد: ل 6 ترجمة البخاري) من طريق الخطيب، وتعقب العراقي هذه الحكاية، واتهم بها القصار، راويها عن مسلم (التقييد والإيضاح 118، والتبصرة 1/ 229) ثم ذكر من خرجوا حديث كفارة المجلس: الترمذي، وصححه، وابن حبان والحاكم.(1/263)
.............................................................................................................................
___________________________________
= قوله: " إلا غُفِرَ له " قال " الطبراني ": لم يُدْخِل في إسناد هذا الحديث بين حجاج وابن جريج " سفيانَ " أحدٌ ممن رواه عن حجاج؛ إلا يحيى بن المبارك (1).
ولم يتعقب " الحاكم " كلام البخاري في قوله: " لا أعلم في الدنيا " إلى آخره. وفي البابِ: عن أبي برزة: رواه أبو داود (2) والنسائي، وجبير بنِ مطعلم ورافع بن خديج وعائشة: رواه النسائي في عمل اليوم والليلة. وفي الباب أيضًا: عن نافع بن صبرة، وققد أشار إلى حديثه ابنُ عبدالبر في (الاستيعاب) فقال: " نافع بن صَبرة، مخرج حديثه عن أهل المدينة، بمثل حديث أبي هريرة، في كَفَّارة ما يكون في المجلس من اللغَط " (3). وما أشار إليه " ابنُ عبدالبر " خرجه الترمذي (4). وفي الباب أيضًا عن أنس بن مالك: أسند " الطبراني " في (معجمه الأوسط) فقال: ثنا محمد بن محمد بن التمَّار البصري، ثنا أبو بكر بن حارث بن عياش الأحدب، وعيسى بن إبراهيم البَرْكي قالا: ثنا عثمان بن مطر الشيباني عن ثابت البناني عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كفارة المجلس، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " قا " الطبراني ": لا يُروَى هذا الحديثُ عن أنس ٍ إلا بهذا الإسناد؛ تفرد به عثمان بن مطر. وروى " الحاكم " في (مستدركِه) (5) من حديث عائشة، وقال: صحيح الإسناد.
وقد بسطتُ القول في ذلك في (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر منه.
ثاني الأجناس: أن يكون الحديثُ مرسَلا من وجهٍ رواه الثقاتُ الحُفَّاظ، ويسنده من وجهٍ ظاهره الصحةُ. ولكن له علةً تمنع من صحة السند. ومثلَّه بما أسنده عن قبيصة =
__________
(1) قابل على مجمع الزوائج للنور الهيثمي، باب كفارة المجلس (10/ 141 - 142).
(2) في كتاب الأدب، باب في كفارة المجلس من حديث أبي برزة الأسلمي (ح 4859).
(3) الاستيعاب: ترجمة نافع بن صبرة (رقم 2588) 4/ 1490.
(4) جامع الترمذي، باب ما يقول إذا قام من المجلس، من رواية حجاج بن محمد عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. قال أبو عيسى: وفي الباب عن أبي برزة وعائشة .. قال: هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه. لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه (12/ 314) عارضة.
(5) المستدرك، ك الدعاء، باب دعاء كفارة المجلس (1/ 537).(1/264)
.............................................................................................................................
___________________________________
* = ابن عقبة عن سفيان عن خالدٍ الحذَّاء وعاصم ٍ - وانظر في (معرفة الحاكم: 114) تحرير إسناده وعلة وهم من أسنده عن سفيان عن خالد الحذاء أو عاصم، عن أبي قلابة عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أرحمُ أمَّتي أبو بكر، وأشدُّهم في دين الله عمرُ، وأصدقهم حياءً عثمانُ، وأقرؤهم أُبَيُّ بن كعب، وأعلمُهم بالحلال والحرام معاذُ بن جبَل، وإن لكل أمة أمينًا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة: فلو صح إسناده لأخرج في (الصحيح)؛ إنما روى خالدٌ الحذاء عن أبي قلابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أرحمُ أمتي ... " مرسلا. لكن آخره: " إن لكل أمة أمينًا " رواه البصريون الحُفَّاظُ عن خالد وعاصم ٍ جميعًا، فأُسقِط المرسَلُ وخُرِّج المتصلُ بذكر أبي عبيدة في (الصحيحين) (1).
ثالث الأجناس: أن يكون الحديثُ محفوظًا عن صحابي، فيُروى عن غيره لاختلاف بلادِ رُواتِه، كرواية المدنيين عن الكوفيين. ومثَّله بما أسنده عن موسى بن عقبةَ عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائةَ مرة " وهذا إسنادٌ لا ينظر فيه حديثيٌّ إلا ظن أنه من شرط الصحيح. والمدنيون إذا رووا عن الكوفيين؛ زلَقوا. وإنما الحديث محفوظ من حديث أبي بردة عن الأغرِّ المُزَني وكانت له صحبة. أسنده " الحاكم " من جهةِ حماد بن زيد عن ثابت البناني، قال: سمعت أبا بردة يُحدِّث عن الأغرِّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنه ليُغَان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائةَ مرة " ورواه مسلم في (صحيحيه) (2) ورواه الكوفيون أيضًا: مِسعر وشعبةُ وغيرُهما عن عمرو بن مرة عن أبي بردة، هكذا.
رابع الأجناس: أن يكون الحديثُ محفوظًا عن صحابي، فيُروَى عن تابعي يقع الوهمُ بالتصريح بما يقتضي صُحبتَه، بل ولا يكون معروفًا من جهته، وربما وقع وهم آخرُ في إسناده. مثاله: ما أسندَ عن زهير بن محمد، عن عثمان بن سليمان، عن أبيه: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطورِ. وقد خرَّج " العسكريُّ " وغيره هذا الحديثَ في (الوحدان). وهو معلول؛ أبو عثمان لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وعثمانُ إنما رواه =
__________
(1) البخاري في ك المناقب، أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - (فتح الباري 7/ 65 - 66) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة - رضي الله عنه - (ح 53/ 2419). ولفظه في الصحيحين: ( ... وإن أميننا أيتها الأمة: أبو عبيدة بن الجراح).
(2) ك الذكر والدعاء، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (ح 41، 42) 2702، 2703.(1/265)
.............................................................................................................................
___________________________________
= عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه. وإنما هو " عثمان بن أبي سليمان " (1).
خامس الأجناس: أن يكون الحديثُ رُوِيَ بعنعنةٍ سقط منها رجلٌ دلَّ عليه طريقةٌ أخرى محفوظةٌ. مثاله: ما أسنَد عن يونس [بن يزيد] عن ابن شهاب عن علي بن الحسين، عن رجال ٍ من الأنصار: " أنهم كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلة فَرُمِيَ بنجم فاستتار " الحديث، بطُولِه. وعليه: أن " يونسَ " مع جلالته قَصَّر به، وإنما هو " عن ابن عباس، قال: حدثني رجال من الأنصار ... " هكذا رواه ابنُ عيينة وشعيب وصالح والأوزاعي وغيرُهم عن الزهري، وهو مُخرجٌ في (الصحيح) (3).
سادس الأجناس: أن يُختَلفَ على رجل بالإسناد وغيره، ويكون المحفوظ عنه ما قابل الإسنادَ، فيكون ذلك علة في المسنَد. مثاله: ما أسنَدَ عن علي بن الحسين بن واقد، [قال]: حدثني أبي، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، ما لكَ أفصحُنا، ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: " كانت لغةُ إسماعيلَ قد درَستْ، فجاء جبريلُ - عليه السلام - فحفظنيها " وعِلَّتُه: ما أسنَد عن علي بن خشرم، ثنا علي بن الحسين بنِ واقد: بلغني أن عمر بن الخطاب ... ، فذكره (3).
ومن غريب ما وقع لي في هذا الحديث، ما ذكره " أبو نعيم الأصبهاني " في (تاريخ أصبهان) في ترجمة أحمد بن يحيى بن الحجاج الجُرْوَاءاني فقال: ومن مناكير حديثه، روايتُه عن عمرو بن علي: ثنا عبدُالرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس، عن نَافع، عن ابن عمر، قال: قال عمر: " يا نبي الله، ما لك أفصَحُنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: جاءني جبريل فلقنني لغة أبي إسماعيل ". (4).
__________
(1) عبارة الحاكم أوضح، قال بعد أن ذكر تخريج العسكري للحديث في الوحدان: " وهو معلول بثلاثة أوجه: أحدها أن عثمان هو ابن أبي سليمان، والآخر أن عثمان إنما رواه عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، والثالث قوله: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وأيوب لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره (المعرفة 115: رابع أجناس العلل).
(2) صحيح مسلم، ك السلام، باب تحريم الكهانة (ج 124/ 2229) وقابل على رواية يونس عن الزهري، فيه.
(3) الحاكم في المعرفة (علل الحديث: 116).
(4) أبو نعيم: (ذكر أصبهان: 1/ 117) ط بريل. والجرواءاني، نسبة إلى جرواآن " محلة كبيرة بأصفهان، يقال لها بالعجمية: كرواآن " (اللباب 1/ 274).(1/266)
.............................................................................................................................
___________________________________
= سابع الأجناس: الاختلافُ على رجل في تسميةِ شيخِه أو تجهيله. مثالُه: ما أسنَد عن ابن شهاب عن سفيان الثوري، عن حجاج بن فُرافِصةَ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خَبٌّ لئيم "، وهكذا رواه عيسى بن يونس ويحيى بن الضريس، عن الثوري، وعلته: ما أسند عن محمد بن كثير، ثنا سفيانُ الثوري، عن الحجاج بن فرافصة، عن رجل ٍ، عن أبي سلمة - قال سفيان: أراه ذكر أبا هريرة - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكره (1).
ثامن الأجناس: أن يكون الراوي عن شخس ٍ أدركه وسمع منه، لكنْ لم يسمع منه أحاديثَ معينةً، فإذا رواها عنه من غير ذكر واسطة تبينت عِلتُها ببيان أنه لم يسمعها منه. مثالُه: ما أسنَد عن يحيى بن أبي كثير عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر عند أهل بيت قال: " أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، ونزلت عليكم السكينة. " فيحيى بن أبي كثير رأى أَنَسًا، وظهر ذلك من غيرِ وجهٍ، إلا أنه لم يسمع منه هذا الحديثَ. ثم أسنَد عن يحيى قال: حُدِّثتُ عن أنَس أن النَبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر عند أهل بيتٍ قال: " أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكة " (2).
تاسع الأجناس: أن يكون طريقه معروفة، يروى أحدُ رجالها حديثًا من غيرِ تلك الطريقة؛ فيقع من رواه من تلك الطريقة " ثنا " على الجادة، في الوهم. مثالُه: عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللهم تبارك اسمُك وتعالى جَدُّك " الحديث، بطولِه. أخذ فيه " المنذرُ " طريق المجرة فيه، وإنما هو من حديث عبدالعزيز بن أبي سلمة: " حدثنا عبدُالله بن الفضل، عن الأعرج، عن عبيدالله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فذكر [الحديث بغير هذا اللفظ] وهكذا أخرجه " مسلم " في (صحيحه) (2).
__________
(1) الحاكم: علل الحديث 117 (المعرفة).
(2) الحاكم في المعرفة (علل الحديث 117 - 118) والنسائي في الوليمة.
(3) الحاكم: 118 وصحيح مسلم: ك صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (ح 201/ 771).(1/267)
.............................................................................................................................
___________________________________
= عاشر الأجناس: أن يُروَى الحديثُ مرفوعًا من وجهٍ آخر. مثالُه: ما أسنَدَ عن أبي فروة يزيد بن محمد، [بن يزيد بن سنان الرهاوي]: ثنا أبي عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من ضحك في صلاةٍ؛ يعيد الصلاةَ ولا يعيد الوضوءَ ". وعِلته: ما أسند عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، قال: سئل جابر عن الرجل يضحك في الصلاة؛ قال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء (1).
قال " الحاكم ": وبقيتْ أجناس لم نذكرها، وإنما جعلنا هذه مثالاً لأحاديثَ كثيرة (2)، وما أشار إليه " الحاكم " من الأجناس يدخل تحت القسمين السابقين. وإنما ذكرتُ كلامه في ذلك ملَخصًا؛ ليكونَ مدخلا إلى العلل، وإن كان عليه في بعضه كلامٌ يُفهَم بعضُه مما تقدم.
وأجلُّ كتابٍ في العلل، كتاب " الحافظ ابن المديني " وكذلك كتاب " ابن أبي حاتم " وكتاب (العلل للخلاَّل) وأجمعُها كتابُ الحافظِ الدارقطني. انتهت " 33 / ظ - 36 و.
__________
(1 - 2) الحاكم في المعرفة: (علل الحديث 119).(1/268)
النوع التاسع عشر:
معرفة المضطرب من الحديث.
المضطربُ من الحديث: هو الذي تَختلِفُ الروايةُ فيه، فيرويه بعضُهم على وجهٍ، وبعضُهم على وجهٍ آخرَ مخالفٍ له. وإنما نسميه مضطربًا إذا تساوت الروايتان. أما إذا ترجَّحتْ إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى، بأن يكون راويها أحْفَظَ أو أكثرَ صحبةً للمرويِّ عنه، أو غيرَ ذلك من وجوه الترجيحات المعتمَدة، فالحُكمُ للراجِحةِ، ولا يُطلَقُ عليه حينئذٍ وصفُ المضطرب، ولا له حُكْمُه (1).
__________
(1) طرة على هامش (غ) طرة بخط ابن الفاسي، لم أتحقق من قائلها:
[الأمر في المطضرب منقسم؛ فإن كان أحد الوجوه مرويًّا من وجه ضعيف والآخر من وجه قوي فلا اضطراب، والعمل بالقوي متعين. وإن لم يكن كذلك؛ فإن أمكن الجمع بين تلك الوجوه بحيث يمكن أن يكون المتكلم معبرًا باللفظين الواردين عن معنى واحد؛ فلا إشكال أيضًا. مثل أن يكون في أحد الوجهين قد قال الراوي: عن رجل، وفي الوجه الآخر سمّى رجلا. فهذا يمكن أن يكون ذلك المسمى هو ذلك المبهم، فلا تعارض.
وإن لم يكن كذلك بأن يسمى الراوي باسم معين في رواية، ويسمى باسم آخر في رواية أخرى؛ فهذا محل نظر؛ إذ يتعارض فيه أمران: أحدهما: أنه يجوز أن يكون الحديث عن الرجلين معًا، والثاني أن يغلب على الظن أن الراوي واحد اختلف فيه. فهاهنا لا يخلو أن يكون الرجلان معًا ثقتين أو لا؛ فإن كانا ثقتين فهاهنا مقتضى مذاهب الفقهاء والأصوليين ألا يضر هذا الاختلاف؛ لأنه إن كان الحديث عن هذا المعين فهو عدل، وإن كان عن الآخر فهو عدل، فكيفما انقلبنا؛ فإلى عدل، فلا يضر هذا الاختلاف. وغيرهم يقول: إن الاضطراب في الحديث دليل على عدم ضبطه في الجملة. وهذا إنما يتوجه إذا كان لا دليل لنا على أن الحديث عنهما جميعًا. أما إن دل دليل فلا اختلاف. مثل أن يروي إنسان حديثًا عن رجل تارة، ويروي ذلك الحديث عن آخر تارة، ثم يرويه عنهما معًا في مرة ثالثة.
وأما إن كان أحد الراويين ضعيفًا؛ فقد تردد الجال بين أن يكون عن القوي، أو عن الضعيف، أو عنهما. وهو على أحد هذه التقديرات غير حجة ... وهذا بشرط ألا تكون الطريقان مختلفتين، بل يكونان عن رجل واحد. ومع ذلك فيجوز أن يكون قد رواه عنهما جميعًا. فمن يعتمد مجرد الجواز لا يلتفت إلى هذا التعليل. ولا يغفلن في جميع هذا عن طلب الترجيح عند الاختلاف؛ فإن النظر إنما هو عند التساوي أو التفاوت. والله أعلم].(1/269)
ثم قد يقع الاضطرابُ في مَتْنِ الحديث، وقد يقع في الإسناد، وقد يقع ذلك من رواٍ واحد، وقد يقع بين رُواةٍ له جماعةٍ. والاضطرابُ موجِبٌ ضعفَ الحديث؛ لإِشعارِهِ بأنه لم يُضْبَط. والله أعلم.
ومن أمثلتِه: ما رويناه عن إسماعيلَ بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جَدِّه حريث، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المُصَلِّي: " إذا لم يجد عصًا ينصبها بين يديه؛ فَلْيَخُطَّ خَطًّا ". فرواه " بِشرُ بنُ المفضل (1)، وروحُ بنُ القاسم " عن إسماعيلَ، هكذا. ورواه " سفيانُ الثوري " عنه، عن أبي عمرو ابن حريث، عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه " حميدُ بنُ الأسود " عن إسماعيل عن أبي عمرو بن محمد بن حريث بن سليم عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه " وهيبٌ، وعبدُالوارث " عن إسماعيل عن أبي عمرو بن حريث، عن جدِّه حريث. وقال " عبدُالرزاق " عن ابنِ جُرَيْج: سمع إسماعيل، عن حريث بن عمار عن أبي هريرة (2). وفيه من الاضطراب أكثر مما ذكرناه. والله أعلم * (3).
__________
(1) قابل على رواية بشر بن المفضل في سنن أبي داود، ك إقامة الصلاو، باب الخط إذا لم يجد عصًا (ح 689) ولأبي داود كلام فيه، يأتي فيما يلي من (المحاسن).
(2) عبدالرزاق: عن ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل بن أمية عن حريث بن عمار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره (المصنف 2/ 12) (ح 2286).
(3) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ مقابلة بالأصل المقابل على أصل السماع.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: لا يقال: من جملة رُواة حديثِ الخَطِّ: " سفيانُ الثوري " وليس فيهم من يقاربه في الحفظ والإتقان، فهلا جعل روايتَه راجحةً وليست مضطربة كما تقدم، وما بالعهدِ من قِدَم؟ لأنا نقول: ليس الترجيح مختصًّا بالحفظ بل الكثرة، وغيرُها من والوجوه المعتمدة في الترجيح معتبرةٌ أيضًا والكثرةُ موجودة، بخلاف رواية " سفيانَ " لا سيما إذا كان في الكثرة من هو موصوف بالحفظ أيضًا كابن جُريج وغيره ممن ذكر.
ورواية بشر بن المفضل؛ خرَّجها " أبو داود " في (سُنَنِه) (1) وفيها التصريحُ بالتحديث والسماع، فقال: " ثنا مسدد، ثنا بشرُ بن المفضل، ثنا إسماعيل بن أمية، ثني أبو عمرو =
__________
(1) سنن أبي داود، ك الصلاة، باب الخط إذا لم يجد عصًا (ح 689).(1/270)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ابنِ محمد بن حريث أنه سمع جده حريثًا يحدث عن أبي هريرة ". وتقرب منها روايةُ سفيان بن عيينة، خرَّجها " ابنُ ماجه " في (سُنَنِه) (1) فقال: " ثنا عمار بن خالد، ثنا سفيان بن عُيينةَ، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي عمرو بن محمد بن عمرو بن حريث، عن جدِّه حريث بن سليم، عن أبي هريرة " وفيها التصريحُ بأن الرواية عن جده حريث، ولكن فيها أن بين محمدٍ وحريثٍ عَمْرًا. ورواه " أبو داودَ " عن سفيان - هو ابن عيينة - خلافَ ذلك، فقال: " ثنا محمدُ بن يحيى بن فارس، ثنا عليُّ - يعني ابن المديني - عن سفيان عن إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، عن جده حريث - رجل من عذرة - عن أبي هريرة عن أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال " (2) فذكر حديثَ الخطِّ. ورواه " ابن ماجه " قبل رواية سفيان بن عُيينةَ فقال: " حدثنا بكر بن خلف أبو بشر، ثنا حُمَيْدُ بن الأسود، ثنا إسماعيل ". ثم حَوَّل إلى طريقة ابن عيينة التي ذكرناها (3)، وهذا يخالف ما تقدم من رواية " حميد بن الأسود " وأما رواية " سفيان الثوري " فلم أقف عليها. والحديث مضطرب كما تقدم، و " إسماعيل بن أُميةَ " كان إذا حدَّث بهذا الحديث يقول: عندكم شيء تَشُدُّونه به؟ ذكره " المنذري ". وفي (سنن أبي داود) عقبَ رواية سفيان السابقة: " قال سفيان: لم نجد شيئًا نشد به هذا الحديث، ولم يجىء إلا من هذا الوجه؛ قال: قلت لسفيان: إنهم يختلفون فيه. ففكر ساعةً ثم قال: ما أحفظ إلا أبا محمد بن عمرو، وقال سفيان: قدم هنا رجل بعدما مات إسماعيل بن أميَّةَ، فطلب هذا الشيخ أبا محمد حتى وجده فسأله عنه، فخلط عليه " (4).
وهذا من " أبي داود " إشارةٌ إلى تضعيفه. وقد أشار " الشافعيُّ " إلى تضعيفه، وقال في البُوَيطي: ولا يَخطُّ بين يديه خَطًّا إلا أن يكون في ذلك حديثٌ ثابت فيتبع " قال =
__________
(1) سنن ابن ماجة، ك إقامة الصلاة، باب ما يستر المصلي (ح 943).
(2) سنن أبي داود، باب الخط (ح 690).
(3) ابن ماجة، باب ما يستر المصلي (ح 943) وسياق إسناده: حدثنا بكر بن خلف - أبو بشر - ثنا حميد بن الأسود، ثنا إسماعيل بن أمية، (ح) وحدثنا عمار بن خالد، ثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن أبي عمرو بن محمد بن حريث، عن جده حريث بن سليم عن أبي هريرة.
(4) سنن أبي داود، صلاة، باب الخط (ص 1/ 184) بعد حديث: 690.(1/271)
.............................................................................................................................
___________________________________
= " البيهقي ": وإنما توقَّف الشافعيُّ في الحديث لاختلافِ الرواةِ على إسماعيلَ بن أمية. وقال البيهقي: ولا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى. وقد ضعفه غيرُ البيهقي، وخالف " ابنُ حبانَ " فأخرجه في (صحيحه) وكأنه لم يقدح عنده الاضطرابُ (1). =
__________
" سئل الدارقطني عن حديث العمري، حفص بن عاصم، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عودًا، وإن لم يجد فليخط خطًّا "؛ فقال: يرويه إسماعيل بن أمية واختلف عليه؛ فرواه وهيب بن خالد وسالم بن خالد الزنجي عن إسماعيل عن أبي محمد بن عمرو بن حريث عن أبيه عن جده عن أبي هريرة. واختلف عن وهيب، ورواه ابن عيينة واختلف عنه؛ فقال سعيد بن منصور عنه، عن إسماعيل عن أبي محمد بن عمرو بن حريث عن أبيه عن جده عن أبي هريرة، وخالفه جماعة من أصحاب ابن عيينة فقالوا عنه: عن أبي محمد بن عمرو بن حريث عن جده، ولم يقولوا: عن أبيه. وكان ابن عيينة يضطرب في هذا الحديث فربما قال: عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، وربما قال: عن أبي عمرو بن محمد. ثم ثبت على: أبي محمد بن عمرو. واختلف عن ابن جريج؛ فرواه حجاج عن ابن جريج عن إسماعيل عن أبي محمد بن عمرو عن أبي هريرة، ولم يقل: عن أبيه ولا عن جده، ورفعه. وقال عبدالرزاق: عن ابن جريج عن إسماعيل عن حريث عن عمار عن أبي هريرة، وقال أبو عاصم عن ابن جريج: عن إسماعيل بن أمية عن ابن عمرو بن حريث عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا. وكذلك قال معمر عن إسماعيل. وقال داود بن عُلْبَةَ: عن إسماعيل عن ابن عمرو بن حريث بن سليم عن جده حريث عن أبي هريرة، مرفوعًا. ورواه بشر بن المفضل وعبدالوارث بن سعيد وحميد بن الأسود وأبو إسحاق الفزاري فقالوا: عن إسماعيل عن أبي عمرو بن محمد بن حريث عن جده عن أبي هريرة، إلا أن حميدًا قال من بينهم: عن أبيه عن أبي هريرة. واختلف عنه؛ فرواه خارجةُ بن مصعب عن إسماعيل فقال: عن عمرو بن حريث أو حريث بن عمرو عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا. وقال نصر بن حاجب: عن إسماعيل عن محمد بن عمرو عن أبيه عن أبي هريرة، وقال إسماعيل بن مسلمة: عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن عمرو بن حزم عن جده حريث بن سليم عن أبي هريرة - ووهم في قول: حزم؛ وإنما هو حريث. - ورواه همام عن إسماعيل فقال: حدثني ابن عم لي، لم يسمه، عن أبي هريرة.
وكل هؤلاء رفعه .. ورواه إسماعيل بن أمية وقال: عن أبي عمرو بن محمد بن حريث عن جده حريث عن أبي هريرة، موقوفًا. ورفعه صحيح عن إسماعيل " (العلل للدارقطني 3/ 164) خط.
وانظر معه تقييد العراقي (125 - 127) وتبصرته (1/ 242 - 244) وفيه رواية إسماعيل بن مسلمة عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن عمرو بن حزم التي وهمه الدارقطني في قوله: حزم؛ وإنما هو حريث.
على أن محقق التبصرة، ترجم لمحمد بن عمرو بن حزم، بن زيد، الأنصاري النجاري (2/ 243 تبصرة، هامش).(1/272)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ومتى كان أحدُ الوجوه ضعيفًا والآخرُ قويًّا عُمِل بالقوي، وإلا فإن أمكن الجمعُ بينهما مثل إن قال الراوي: " عن رجل " وفي طريق آخر سماه؛ فلا تعارض. وأما إذا أسماه باسم معين في رواية، وذكر اسمًا لآخر في أخرى، فيجوز أن يكون الحديث عنهما معًا. فإن كانا ثقتين لم يضر. وإن كان أحدهما ضعيفًا، والطريقتان عن رجل واحد اختلف عليه؛ فهو محل نظر. وحينئذ فيطلب الترجيحُ والأقرب صحةً عند واحدةٍ لا تقدح الأخرى فيها. انتهى " 36 / ظ - 37 و.(1/273)
النوع العشرون:
معرفة المدرج من الحديث.
وهو أقسام: منها ما أدرِج في حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كلام ِ بعض ِ راوته، بأن يذكر الصحابيُّ أو مَنْ بَعْدَه، عَقِبَ (1) ما يرويه من الحديث، كلامًا من عندِ نفسه، فيرويه مَنْ بعدَه موصولاً غيرَ فاصل ٍ بينهما بذكر قائله، فيلتبس الأمرُ فيه على من لا يعلم حقيقةَ الحال، ويتوهم أن الجميعَ عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أمثلتِه المشهورة: مارويناه في التشهُّدِ عن أبي خَيثمةَ زهير بن معاوية عن الحسن بن الحُرِّ، عن القاسم بن مُخَيْمِرةَ، عن علقمة، عن عبدالله بن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه التشهدَ في الصلاة فقال: " قل: التحياتُ لله " - فذكر التشهدَ، وفي آخره: " أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله " " فإذا قلتَ هذا فقد قضيتَ صلاتَك، إن شئتَ أن تقوم فقُم، وإن شئت أن تقعد فاقعدْ ". هكذا رواه أبو خيثمةَ عن الحسن بن الحر، فأدرج في الحديثِ قولَه: " فإذا قلت هذا " إلى آخره؛ وإنما هذا من كلام " ابن مسعود " لا من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الدليل ِ عليه، أن الثقةَ الزاهدَ " عبدَالرحمن بنَ ثابت بنَ ثَوْبانَ " رواه عن
__________
(1) في الأصول: [عقيب] وكتب على هامش (غ): [صوابه: عقب].
وعلى هامش (غ) طرة مطموس - أولها كأنه: قال الشيخ تقي الدين - والمقروء منها:
والمدرج [قد يقوى في بعض المواضع بأن يكون كلام الراوي أتى بعد انقضاء كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - متصلا بآخره. ومما قد يضعف فيه أن يكون مدرجًا في أثناء لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما إن كان مقدمًا على اللفظ المروي أو معطوفًا عليه بواو العطف، كما لو قال: من مس أنثييه وذكره فليتوضأ، بتقديم لفظ الأنثيين على الذكر. فهاهنا يضعف الإدراج لما فيه من اتصال هذه اللفظة بالعامل الذي هو من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -].
قلت: وهذا لفظ الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في (الاقتراح: 244) المدرج. ومنه نقل الصنعاني في (توضيح التنقيح 2/ 56).(1/274)
راويه (1) " الحسن بن الحر " كذلك، واتفق " حسين الجعفي، وابن عجلان " وغيرهما في روايتهم عن " الحسن بن الحر " على ترك ذكرِ هذا الكلام في آخرِ الحديث، مع اتفاقِ كلِّ مَنْ روَى التشهدَ عن " علقمةَ " وعن غيرِه، عن " ابن مسعود " على ذلك. ورواه " شبابة " عن أبي خيثمة، ففَصَلَه أيضًا.
ومن أقسام المدرَج: أن يكونَ متنُ الحديث عند الراوي له بإسنادٍ إلا طرفًا منه؛ فإنه عنده بإسناد ثان، فيدرجه مَن رواه عنه على الإسناد الأول، ويحذف الإسنادَ الثاني، ويروي جميعَه بالإسناد الأول. مثالُه: حديثُ ابن عيينة، وزائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر، في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي آخره: " أنه جاء في الشتاء فرآهم يرفعون أيديهم من تحت الثيابِ " والصوابُ روايةُ مَن رَوَى عن " عاصم بن كليب " بهذا الإسناد صفةَ الصلاة خاصة، وفصَلَ ذكرَ رفع الأيدي عنه، فرواه عن عاصم عن عبدالجبار بن وائل عن بعض ِ أهلهِ عن وائل ِ بن حُجْر (2).
ومنها، أن يُدْرَجَ في متنِ حديثٍ بعضُ متنِ حديثٍ آخرَ مخالفٍ للأول في الإِسناد. مثالُه: روايةُ سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن الزهري، عن أنَس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تَبَاغضوا ولا تحاسدوا، ولا تَدابروا، ولا تنافسوا ... " (3) الحديث.
فقوله: " لا تنافسوا " أدرجه " ابنُ أبي مريم " من مَتْنِ حديثٍ آخر، رواه مالكٌ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، فيه: " لا تَجَسَّسُوا ولا تَحَسَّسوا، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا " (4). والله أعلم.
__________
(1) من (غ، ص) وفي ز والعراقية: [رواية] وعبدالرحمن بن ثابت العنسي توفي سنة 165 هـ، روى عن الحسن بن الحر بن الحكم النخعي ت سنة 133 هـ.
وانظر الحاكم في المعرفة (المدرج 39 - 40) وتصحف " الحسن بن الحر " في شرح الملا علي القاري للنخبة، بالحسن بن [الحرب] 136.
(2) على هامش (غ) موجز ترجمة وائل بن حجر، أبي هنيدة الحضرمي - رضي الله عنه - من الاستيعاب. وفيها أن عبدالجبار بن وائل، لم يسمع من أبيه فيما يقولون. انظره في (تهذيب التهذيب 6/ 105).
(3 - 4) الحديثان في الموطأ، كتاب حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة:
- مالك عن الزهري عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ح 14) وليس فيه: ولا تنافسوا.
- مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه:
(ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا) (ح 15) وأخرج =(1/275)
ومنها، أن يروي الراوي حديثًا عن جماعة بينهم اختلافٌ في إسنادِه، فلا يَذكر الاختلافَ، بل يُدرِجُ روايتَهم على الاتفاق. مثالُه: روايةُ عبدِالرحمن بنِ مهدي ومحمد بن كثير العبدي، عن الثوري، عن منصور والأعمش وواصل الأحدب، عن أبي وائل، عن عمرو بن شُرحبيلَ، عن ابن مسعود: " قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ ... " الحديث. وواصلٌ إنما رواه عن أبي وائل، عن عبدالله، من غير ذكر عمرو بنِ شُرَحبيلَ بينهما. والله أعلم *.
__________
= ابن عبدالبر حديث سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس، بزيادة: ولا تنافسوا. وأسند عن حمزة بن محمد الكتاني، قال: " لا أعلم أحدًا قال في هذا الحديث عن مالك: ولا تنافسوا؛ غير سعيد بن أبي مريم ". التمهيد (6/ 116).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: قال " الدارقطني " في (علله) (1): يشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة، لابن مهدي ولابن كثير فجعلَ إسنادهم واحدًا. ولم يذكر بينهم خلافًا، وحَمَلَ حديثَ واصل ٍ على حديث الأعمش ومنصور، وقد فصل الثوري ليحيى بن سعيد فحدثه عن منصور والأعمش، عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل، وحدثه عن واصل، عن أبي وائل عن ابن مسعود. ومن ذلك قال " الدارقطني ": إن التفصيل هو الصواب؛ لأن شعبة ومهديَّ بن ميمون، روَياه عن واصل عن أبي وائل عن عبدالله؛ كما رواه يحيى عن الثوري - انتهى ".
وفيه نظر: فقد رواه محمد بن يسار، عن عبدالرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن واصل، عن أبي وائل، عن ابن شرحبيل. وهذا يقدح فيما تقدم من المثال. إلا أن يقال: =
__________
(1) العلل للدارقطني، حديث أبي وائل، شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي عن ابن مسعود - والحديث أخرجه البخاري في التفسير، البقرة " فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا " ومسلم في الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب (ح 141) من رواية منصور عن أبي وائل عن عبدالله، وبذكر عمرو بن شرحبيل، في البخاري: كتاب المتحاربين، باب إثم الزنى، من رواية منصور وسليمان - بن مهران الأعمش - عن أبي وائل عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن عبدالله. (مسلم في الإيمان: ح 142) من رواية الأعمش بهذا السند.
وفي (فتح الباري 12/ 93 - 94) بيان لزيادة عمرو بن شرحبيل بين أبي وائل وعبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -. وانظر تبصرة العراقي (1/ 258).(1/276)
.............................................................................................................................
___________________________________
= لعله لما روى سفيانُ لابن مهدي والعبدي الحديثَ من الثلاثة جمعًا، روى ابنُ مهدي حديثَ واصل ٍ على انفراد بمقتضى الجمع، وهو بعيد. وقد نبه الدارقطني على أن الأعمشَ أيضًا اختُلف عليه؛ فروى أبو شهاب، وأبو معاوية وشيبانُ الحديثَ عن الأعمش، عن أبي وائل عن عبدالله، ورواه الثور ومعمر وجرير وعبدالله بن نمير، عن الأعمش كما تقدم.
وذكر " الحاكم " من أمثلة المدرَج بعد التمثيل بحديث التشهد، حديثَ أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أعتق نصيبًا له في عبد " وفيه ذكرُ السعاية. فقال الحاكم: حديث العتق ثابتٌ صحيح. وذِكْرُ الاستسعاءِ فيه، من قول قتادة، وَهِمَ مَنْ أدرجه في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر " الحاكم " عن همام، أن قتادة كان يقول؛ فذكر " السعاية " من قوله. وفي ذلك كلام له بَسْطٌ ليس هذا موضعه (1). =
__________
(1) الحاكم في المعرفة (النوع 13 معرفة المدرج ص 40) وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: (من أعتق نصيبًا له في عبد) - أو: شركًا، أو: شقصًا، أو: شقيصًا - في الصحيحين وكتاب العتق في السنن. ورواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة. وفيها ذكر الاستسعاء: في الصحيحين: البخاري، ك الشركة، باب الشركة في الرقيق (فتح الباري 5/ 384) ثم في كتاب العتق وفضله، باب إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه. وقال بعد إخراج الحديث من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر عن بشير عن أبي هريرة: " تابعه حجاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة. واختصره شعبة " قال الحافظ ابن حجر: أراد البخاري بهذا الردَّ على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث، غير محفزظ وأن سعيد بن أبي عروبة انفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن أبي حازم بموافقه، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها (فتح الباري: 5/ 95).
وكذلك أخرج مسلم الحديث، من رواية سعيد عن قتادة في كتاب العتق، باب ذكر سعاية العبد، من طريقين (ح 3، 4 - 3، 15) ثم في كتاب الإيمان، باب من أعتق شركًا له في عبد، من عدة طرق عن سعيد عن قتادة (ح 54، 55 - 996) 1668.
وأما رواية همام عن قتادة، بفصل الاستسعاء وجعله من كلام قتادة؛ فتعقبها الحافظ ابن حجر، وبين أنها حيث جاءت؛ فمن طريق همام وحده. وجمع الروايات من مختلف الطرق، ما فيه ذكر الاستسعاء مرفوعًا. وما جاء مختصرًا دون ذكره كرواية هشام الدستوائي وشعبة عن قتادة، وما فصله من طريق همام " وهو ما أباه آخرون منهم صاحبا الصحيحين فصححا رواية سعيد عن قتادة، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد لكثرة ملازمة سعيد لقتادة وأخذه عنه، وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد؛ لم ينافيا ما رواه وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه. وقال: والعجب ممن طعن في رفع الاستسعاء بكون همام جعله من قول قتادة، ولم يطعن في فصل الاستسعاء (فتح الباري: 9515 - 98) وانظر التبصرة (1/ 258 - 259).(1/277)
واعلمْ أنه لا يجوزُ تعمُّدُ شيءٍ من الإدراج ِ المذكور. وهذا النوع قد صَنَّفَ فيه " الخطيبُ أبو بكر " كتابه الموسوم (1) بـ (الفَصل للوصل ِ المُدرَج في النقل ِ) فشَفَى وكفى *. والله أعلم (2).
__________
(1) في (غ): [المرسوم] وما هنا من (ص، ز، ع).
(2) على هامش ص (ل 18 / أ) بخط العراقي: بلغ ناصرالدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم قراءة بحثٍ عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي، سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
= واعلم أنهُ يضعف دعوى الإدراج في المقدم (1). ومن أمثلته في العطف: لو جاء مَنْ مَسَّ أنثييه وذَكَرَه فليتوضأ. انتهى " 38 / وظ.
* المحاسن:
قوله: " وقد صنف أبو بكر الخطيب ... فشفى وكفى "، ومع ذلك فقد ترك أشياء " 38 / ظ.
__________
(1) أوجز بيانه، على هامش ص، أول المدرج.
قلت: حديث الوضوء من المس؛ رواه الثقات من أصحاب هشام بن عروة عن أبيه عن مروان بن الحكم عن بسرة بنت صفوان، ترفعه (الموطأ، طهارة ح 58، والترمذي - وقال: حسن صحيح - والنسائي وابن ماجة في باب الوضوء من مس الذكر، والدارقطني في الطهارة: باب فيما روي في لمس القبل والذكر (ح 1، 2، 3، 4، 7، 11، 12).
وأخرجه من رواية عبدالحميد بن جعفر عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ)، قال الدارقطني: كذا رواه عبدالحميد بن جعفر عن هشام، ووهم في ذكر الأنثيين والرفغ، وإدراجه ذلك في حديث بسرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمحفوظ أن ذلك من قول عروة غير مرفوع. كذلك رواه الثقات عن هشام، منهم أيوب السختياني وحماد بن زيد وغيرهما (ح 10) ثم أخرجه من طريق أيوب وحماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة، أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من مس ذكره؛ فليتوضأ " وكان عروة يقول: إذا مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ (ح 11، 12).
والحديث خرجه من مختلف طرقه " الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري " في (أجوبته على مسائل تلميذه الحافظ ابن أبيك) حققها، ووثقها: الزميل الأستاذ الدكتور محمد الراوندي. (خزانة دار الحديث الحسنية بالرباط). طبعته وزارة الأوقاف المصرية بالرباط: 1410 هـ - 1990 م.(1/278)
النوع الحادي والعشرون:
معرفة الموضوع.
وهو المُختَلَقُ الموضوع.
اعلم أن الحديثَ الموضوع شَرُّ الأحاديث الضعيفة (1) ولا تَحِلُّ روايته لأحدٍ عَلِمَ حالَه في أيِّ [24 / ظ] معنًى كان، إلا مقرونًا ببيان وضعِه. بخلاف غيره من الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقُها في الباطن، حيث جاز روايتها في الترغيبِ والترهيب، على ما نبينُه قريبًا إن شاء الله تعالى.
وإنما يُعرف كونُ الحديثِ موضوعًا بإقرارِ واضعِه، أو ما يتنزلُ منزلةَ إقراره (2). وقد يَفهمون الوضعَ من قرينةِ حال ِ الراوي أو المروِيِّ، فقد وُضِعَتْ أحاديثُ طويلةٌ يشهدُ بوضعِها رَكاكةُ ألفاظِها ومعانيها. ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر (الموضوعاتِ) في نحو مُجلَّدين (3)، فأودع فيها كثيرًا مما لا دليل على وضعه، وإنما حقه أن يُذكَر في مُطلَقِ الأحاديثِ الضعيفة.
والواضعون للحديث أصنافٌ، وأعظمُهم ضررًا قومٌ من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الأحاديثَ احتسابًا فيما زعموا، فتقبل الناسُ موضوعاتِهم ثقةً منهم بهم وركونًا إليهم. ثم
__________
(1) اعتُرِض عليه بأن (الموضوع) ليس حديثًا. وقال الشيخ زكريا الأنصاري: إنه (أورده في أنواع الحديث مع أنه ليس بحديث؛ نظرًا إلى زعم واضعه. ولتعرف طرقه التي يتوصل بها إلى معرفته؛ لينفى عن القبول (فتح الباقي على تبصرة العراقي 1/ 261).
(2) نقلوا فيه عن التقي ابن دقيق العيد في (الاقتراح) أنه استشكل الحكم على الموضوع بإقرار من واضعه فقال: " هذا كاف في رده، لكن ليس بقاطع في كونه موضوعًا لجواز أن يكذب في هذا الإقرار بعينه ". تقييد العراقي 131 وشرح النخبة 123، مع (الاقتراح لابن دقيق العيد: 234).
(3) على هامش (غ): [قال النواوي: يعني أبا الفرج ابن الجوزي].
قاله في متن التقريب (1/ 278) وقال العراقي في ألفيته:
وأكثر الجامعُ فيه إذ خرج ....................................................................... لمطلق الضعف عَنَى أبا الفرجْ(1/279)
نهضتْ جهابذةُ الحديثِ بكشفِ عَوارِها ومَحْوِ عارِها والحمد لله. وفيما روينا عن " الإمام أبي بكر السمعاني " أن بعضَ الكَرَّامِيَّة (1) ذهب إلى جوازِ وضع الحديث في باب الترغيب والترهيب (2).
__________
(1) نسبة إلى محمد بن كرَّام، أبي عبدالله السجستاني (ت 255 هـ) وكان من عُباد المرجئة. انظر مع تقييد ابن نقطة، لسان الميزان 5/ 353 والعبر 2/ 10.
(2) طرة على ورقة ملصقة بنسخة (غ):
[قال القاضي عياض في (إكماله): اعلم أن الكذابين على ضربين: ضرب عرفوا بذلك في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهم على أنواع: منهم من يضع عليه ما لم يقله أصلاً؛ إما تراقُعًا واستخفافًا كالزنادقة وأشباههم، ممن لم يرع للدين وقارًا، أو حسبة بزعمهم وتدينًا، كجهلة المتعبدة الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب، أو إغرابًا وسمعة، كفسقة المحدثين، أو تعصبًا واحتجاجًا كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب، أو اتباعًا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه، وطلبِ العذر لهم فيما أتوه. وقد تعين جماعة في كل طبقة من هذه الطبقات عند أهل الصنعة وعلم الرجال.
ومنهم من لا يضع متن الحديث، ولكن ربما وضع للمتن الضعيف إسنادًا صحيحًا مشهورًا.
ومنهم من يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويتعمد ذلك؛ إما للإغراب على غيره، أو لدفع الجهالة عن نفسه.
ومنهم من يكذب فيدعي سماع ما لم يسمع ولقاء من لم يلق، ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم.
ومنهم من يعمد إلى كلام الصحابة أو غيرهم وحِكَم ِ العراب والحكماء فينسبها للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهؤلاء كلهم كذابون متروكو الحديث. وكذلك من تجاسر بالحديث بما لم يحققه ولم يضبطه أو هو شاك فيه.
فلا يُحدَّث عن هؤلاء ولا يُقبَل ما حدثوا به ولو لم يكن منهم مما جاءوا به من هذه الأمور إلا المرة الواحدة، كشاهدِ الزور إذا تعمد ذلك سقطت شهادته.
واختُلِفَ: هل تقبل في المستقبل إذا ظهرت توبته أو زادت في الخير حالته؟
والصنف الآخر من لا يستجيز شيئًا من هذا كله في الحديث ولكن يكذب في حديث الناس، قد عرف بذلك. فهذا أيضًا لا يقبل حديثه ولا شهادته، قاله " مالك " وغيره، وتنفعه التوبة، ويرجع إلى القبول.
فأما من يندر منه القليل من الكذب ولم يعرف به، فلا يقطع بتجريحه بمثله؛ إذ يتأول عليه الغلط أو الوهم، وإن اعترف متعمدًا بذلك، المرَّةَ الواحدة، مما لم يضرّ بها مسلمًا؛ فلا تلحق بمثله الجرحة وإن كان معصية؛ لندورها، ولأنها لا تلحق بالكبائر والموبقات، ولأن أكثر الناس قلما يسلمون من مواقعة بعض الهنات، ولهذا قال " مالك " - رحمه الله - فيمن ترد شهادته: أن يكون كاذبًا في غير شيء. وقال " سحنون " في الذي يقارف بعض الذنب كالزلة: تجوز شهادته لأن أحدًا لا يسلم من مثل هذا. فإذا تكرر هذا منه؛ سقطت به شهادته. وكذلك لا يسقطها كذبه فيما هو من باب التعريض أو الغلو في القول؛ إذ ليس بكذب في على الحقيقة، وإن كان في صورة الكذب؛ لأنه لا يدخل تحت حد الكذب، ولا يريد المتكلم به الإخبار عن ظاهر لفظه. وقد قال عليه السلام: " أما أبو جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه " وقال إبراهيم - عليه السلام -: " هذه أختي "، وقد أشار " مالك " - رحمه الله - لنحو ذلك. والله أعلم].
وانظر مقدمة النووي لشرح مسلم (1/ 129) وتبصرة العراقي (1/ 263 - 266) وشرح النخبة (123 - 130).(1/280)
ثم إن الواضع ربما وضع كلامًا من عند نفسِه فرواه، وربما أخذ كلامًا لبعض الحكماء أو غيرِهم، فوضعَه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وربما غَلط غالطٌ فوقع في شِبْهِ الوضع ِ من غير تعمُّدٍ، كما وقع لثابت بن موسى الزاهد، في حديثِ: " من كثُرت صلاتُه بالليل حَسُن وجهُه بالنهار " (1).
مثال: روينا عن أبي عصمةَ - نوح بن أبي مريم - أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورةً سورةً؟ فقال: " إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآنِ واشتغلوا بفقهِ أبي حنيفةَ ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعتُ هذه الأحاديثَ حِسْبةً " (2).
وهكذا حالُ الحديثِ الطويل الذي يُروى عن " أُبَيِّ بن كعبٍ " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في
__________
(1) ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه، أنه سأل عبدالله بن نمير في هذا الحديث، فقال: هذا حديث منكر. فسأل ابن أبي حاتم أباه: ما تقول أنت فيه؟ قال: هو حديث موضوع " مقدمة الجرح والتعديل (1/ 327) ونقل العراقي فيه قول الحاكم: دخل ثابت بن موسى على شريك بن عبدالله القاضي، والمستملي بين يديه، وشريك يقول: حدثنا للأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر المتن فلما نظر إلى ثابت قال: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وإنما أراد ثابتًا لزهده وورعه. فظن ثابت أنه روى هذا الحديث مرفوعًا بهذا الإسناد، فكان ثابت يتحدث به عن شريك. وقال أبو حاتم بن حبان في تاريخ الضعفاء: هذ قول شريك؛ قاله عقيب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر .. فأدرجه ثابت في الخبر وسرقه منه جماعة ضعفاء وحدثوا به عن شريك " فجعله ابن حبان من نوع المدرج .. (تقييد العراقي 132).
- وأخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة من سننه، باب ما جاء في قيام الليل (ح 1333) عن إسماعيل بن محمد الطلحي، عن ثابت بن موسى، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، مرفوعًا. وعليه من حاشية السندي: معنى الحديث ثابت بموافقة القرآن وشهادة التجربة، لكن الحفاظ على أن أهل الحديث بهذا اللفظ غير ثابت " وأخرج البيهقي في (الشعب) عن محمد بن عبدالرحمن بن كامل قال: قلت لمحمد بن عبدالله بن نمير: ما تقول في ثابت بن موسى؟ قال: شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة. قلت: ما تقول في هذا الحديث؟ قال: غلط من الشيخ، وأما غير ذلك فلا يتوهم عليه. وقد تواردت أقوال الأئمة على عد هذا الحديث في الموضوع على سبيل الغلط لا التعمد. وخالفهم القضاعي في مسند الشهاب؛ فمال في الحديث إلى ثبوته " اهـ.
وحديث ثابت بن موسى أدخله ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 109) واللآلئ (2/ 32) والشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (ص 35 ح 78).
(2) حكاه ابن حجر عن الحاكم، في ترجمة نوح بن أبي مريم، أبي عصمة المروزي، قاضي مرة (تهذيب التهذيب 10/ 488 ت 876) وانظر معه ترجمته في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/ 484 ت 2210).(1/281)
فضل ِ القرآن سورةً سورة. بحث باحثٌ عن مخرَجه، حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعةً [26 / و] وضعوه (1). وإن أثَر الوضْع ِ لَبَيِّنٌ عليه. ولقد أخطأ " الواحديُّ المفسِّر " ومَنْ ذكره من المفسرين (2)، في إيداعهِ تفاسيرَهم. والله أعلم *.
__________
(1) في تقييد العراقي (134): أبهم المصنف ذكر هذا الباحث الذي بحث عن هذا الحديث، وهو مؤمل بن إسماعيل. فروينا عن مؤمل أنه قال: حدثني شيخ بهذا الحديث فقلت: من حدثك به؟ فقال: حدثني رجل بالمدائن، وهو حي. فسرت إليه فقلت: من حدثك؟ فقال: شيخ بعبادان. فصرت إليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتًا فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني. فقلت: يا شيخ، من حدثك؟ فقال: لم يحدثني أحد، ولكننا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن ". وحكاها الخطيب في الكفاية، بسنده إلى محمود بن غيلان، أبي أحمد المروزي، عن مؤمل بن إسماعيل العدوي البصري. قابل على (الكفاية: 401).
(2) " لكن، من أبرز إسناده في ذلك كالثعلبي والواحدي؛ فهو أبسط لعذره إذ أحال ناظهر على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه. وأما من لم يسند، فخطؤه فاحش ". العراقي في التبصرة (1/ 271).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة:
لا يقال: الإقرار بأنه كذب لا يعرفنا أنه موضوع؛ لأنه إذا اعترف الإنسان بالكذب على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الذي ليس الكذبُ عليه كالكذب على غيره - فجائز أن بكذبَ على نفسِه؛ إما للتغير عن ذلك الحديث المروي، أو لنوع آخر؛ ليحصل لغيره الريبةُ والشك فيه؛ لأنا نقول: إذا كان الحديث لا يعرف إلا من طريق ذلك الشخص، كان إقراره بذلك مسقطًا لروايته، وقد حكم الشرع على المقر بمقتضى إقراره، وإن كان يحتمل أن يكون في نفس الأمر خلافه. فلا نظر إلى ذلك، ويحكم على الحديث بأنه موضوع، ولا يصح إنكار وقوع الوضع.
ومنهم من قرر وقوعه بأن قد ورد في الحديث: " أنه سيُكذَبُ عليَّ " فإن كان هذا صحيحًا وقع الكذب، وإلا فقد حصل المقصود. =(1/282)
..............................................................................................................................
= وفيه نظر بالنسبة إلى الأحاديث الموجودة الآن؛ لأن استقبال في: سَيُكْذَبُ، لا يعين زمنها، وقد بقيت أزمان.
وكل هذا الكلام عند أئمة الحديث ضعيف ولهم طرق في معرفة ذلك، وملكة يعرفون بها الموضوع. وشاهده: أن إنسانًا لو خدم إنسانًا سنينَ، وعرف ما يحب وما يكره، فجاء إنسان ادعى أنه يكره شيئًا يعلم ذلك أنه يحبه؛ فبمجرد سماعه يبادر إلى تكذيب من قال إنه يكرهه.
وجعل بعضهم من ذلك ما خالف الكتابَ وصحيح السنة، وقال بعض هؤلاء الجهلة في الحديث الصحيح المشهور الذي رواه خلق كثير من الصحابة " من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار " (1): نحن ما كذبنا عليه، إنما كذبنا له. وهذا من عظيم جهلهم وعدم عقلهم وكثرة افترائهم؛ فإن شريعته مكملة، لا تحتاج إلى غيره.
وما سبق من الذي " أكثر من جمع الموضوعات " كأنه " ابن الجوزي ". والاعتراضُ عليه متوجه كما سبق، ومن جهة أنه ذكر أشياء فيها حسنٌ بل وصحيحٌ أيضًا. والحديث الذي رواه ثابت بن موسى، رواه ابن جميع في (معجمه) من غير طريق ابن موسى فقال: ثنا أحمد بن محمد بن سعيد الرقي، ثنا أبو الحسين محمد بن هشام بن الوليد، ثنا جُبَارة بن المُغَلِّس، عن كثير بن سليم عن أنس ... مرفوعا (2). انتهى " 39 / ظ.
__________
(1) حديث " من كذب عليَّ " يأتي تخريجه في النوع الثلاثين (المشهور) وانظر (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) ح 1 - 4 وباب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب العلم من صحيح البخاري، ومقدمة مسلم، ومقدمة السنن لابن ماجة.
وانظر فيه (فتح الباري 1/ 143).
(2) أورده العراقي في الباب، وقال ردًّا على من اعترضوا به على ابن الصلاح: وهذا الاعتراض عجيب فإن المصنف لم يقل إنه لم يُرْوَ إلا من طريق ثابت بن موسى، ومع ذلك فهذا الطريق، في سند ابن جميع أضعف من طريق ثابت؛ لضعف كثير بن سليم وجبارة. (التقييد: 133).(1/283)
النوع الثاني والعشرون:
معرفة المقلوب.
هو نحوُ حديثٍ مشهورٍ عن " سالم " جُعِلَ عن " نافع " ليصير بذلك غريبًا مرغوبًا فيه. وكذلك ما رويناه أن " البخاري " - رضي الله عنه - قدم بغداد، فاجتمع قبلَ مجلسهِ قومٌ من أصحاب الحديث، وعمدوا إلى مائة حديثٍ، فقلبوا متونَها وأسانيدها وجعلوا مَتْنَ هذا الإِسناد لإِسنادٍ آخر، وإسنادَ هذا المتنِ لمتنٍ آخرَ، ثم حضروا مجلسَه، وألقوها عليه، فلما فرغوا من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة، التفت عليهم فردَّ كلَّ مَتْنٍ إلى إسناده، وكلَّ إسنادٍ إلى مَتْنِه، فأذعنوا له بالفضل (1).
ومن أمثلتِه، ويصلحُ مثالا للمعلَّل: ما رويناه عن إسحاق بن عيسى الطبَّاع، قال: أخبرنا جريرُ بن حازم عن ثابت عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أقِيمت الصلاةُ فلا تقوموا حتى تَروني " قال إسحاق بن عيسى: فأتيت حمادَ بن زيد فسألتُه عن الحديث، فقال: وَهِمَ أبو النضر؛ إنما كنا جميعًا في مجلس ثابت البناني، وحجاجُ بن أبي عثمان معنا، فحدثنا حجاجٌ الصوَّافُ عن يحيى بن أبي كثير، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أقيمت الصلاةُ فلا تَقوموا حتى تروني " (2)، فظن أبو النضر
__________
(1) في ترجمته بتاريخ بغداد، وتقييد ابن نقطة، وتذكرة الحفاظ.
(2) " وهذا الحديث مشهور ليحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا رواه الأئمة الخمسة من طرق عن يحيى. وهو عند (م، س) من رواية حجاج بن أبي عثمان الصواف عن يحيى. وجرير إنما سمعه من حجاج فانقلب عليه. وقد بين ذلك حماد بن زيد فيما رواه أبو داود بالمراسيل " العراقي في التبصرة 1/ 287.
- وكذلك رواه أبو داود في (السنن: صلاة: ح 539) من طرق عن يحيى، منها رواية حجاج الصواف. وانظر (فتح الباري 2/ 81).(1/284)
أنه فيما حدثه ثابتٌ عن أنس - أبو النضر هو جرير بن حازم -. والله أعلم *.
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: ما سبق هو القلب في الإِسناد. وقد يقع القلب في المتن، ويمكن تمثيله بما رواه خبيب بن عبدالرحمن عن عمته أُنَيْسة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا، وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا " وإن كانت المرأة منا ليبقى عليها شيء من سحورها فتقول لبلال: أمهل حتى أفرغ من سحوري. رواه الإِمام أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال ابن خزيمة: هذا خبر قد اختلف فيه - يعني على خبيب - رواه شعبة عنه عن عمته أنيسة فقال: " ابن مكتوم أو بلال ينادي بليل " (1)، وروى ابن خزيمة عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال " وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر. والمشهور من حديث ابن عمر وعائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم " وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحتَ أصبحتَ. (2) فالرواية بخلاف ذلك مقلوبة، لا سيما إذا كان الشك وقع في طريق الراوي لها - شعبة - ولكن لم يجعل ابن خزيمة وابن حبان ذلك من المقلوب، بل قال ابن خزيمة إنه لا تضاد بين الخبرين " إذ جائز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الليل نوايب بين بلال وبين ابن أم مكتوم، فحين تكون نوبة أحدهما ليلا، تكون نوبة الآخر عند طلوع الفجر فجاء الخبران على حسب الحالين ". (3) وقال ابن حبان: ليس بين الخبرين تضاد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - =
__________
(1) صحيح ابن خزيمة: 1/ 210 (ح 505).
(2) حديث ابن عمر في الموطأ، ك الصلاة، باب قدر السحور من القراءة (ح 14): يحيى عن مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر. وفي البخاري، ك الأذان، باب أذان الأعمى، من رواية القعنبي عن مالك، عن سالم بن عبدالله بن عمر عن أبيه (انظر التمهيد 10/ 55 - 57) وفتح الباري (2/ 67) وهو في مسلم، كتاب الصوم باب الدخول في الصوم بطلوع الفجر، من رواية الزهري عن سالم عن أبيه، ورواية نافع عن ابن عمر (ح 36 - 38/ 1092) ورواه الشافعي عن مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وعن القعنبي عن مالك عن الزهري مرسلا (المسند 10).
(3) صحيح ابن خزيمة: 1/ 212 (ح 505).
وانظر ترجمة خبيب بن عبدالرحمن بن خبيب بن يساف الأنصاري في (تهذيب التهذيب 3/ 136) وترجمة عمته أنيسة بنت خبيب بن يساف، في نساء الإصابة (رقم 126) وفيه حديثها في الأذان، وفي نساء تهذيب التهذيب (12/ 403).(1/285)
فصل: قد وفينا بما سبق الوعدَ بشرحِه من الأنواع الضعيفة والحمدُ لله، فَلْنُنَبه الآن على أمورٍ مهمة:
أحدها: إذا رأيتَ حديثًا بإسنادٍ ضعيف، فلكَ [26 / ظ] أن تقول: هذا ضعيف، وتعني أنه بذلك الإِسناد ضعيفٌ. وليس لك أن تقول: هذا ضعيف، وتعني به ضَعْفَ مَتْنِ الحديث، بناءً على مجرد ضعفِ ذلك الإِسناد؛ فقد يكون مرويًّا بإِسنادٍ آخرَ صحيح يَثبتُ بمثلِه الحديثُ، بل يتوقف جوازُ ذلك على حُكم إمام من أئمة الحديث، بأنه لم يُرْوَ بإِسناد يثبتُ به، أو بأنه حديثٌ ضعيف. أو نحو هذا، مفسِّرًا وجهَ القدح فيه. فإ، أطلق ولم يفسِّر، ففيه كلامٌ يأتي - إن شاء الله تعالى -. فاعلم ذلك؛ فإنه مما يُغلَطُ فيه. والله أعلم.
الثاني: يجوز عند أهل الحديث وغيرِهم، التساهلُ في الأسانيد، ورواية ما سِوَى الموضوع ِ من أنواع الأحاديث الضعيفةِ من غيرِ اهتمام ببيان ضعفهما، فيما سِوَى صفاتِ الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال ِ والحرام وغيرهما.
وذلك كالمواعظ، والقصص، وفضائل ِ الأعمال وسائرِ فنون الترغيب والترهيبِ وسائر ما لا تعلقَ له بالأحكام والعقائد. وممن روينا عنه التنصيص على التساهل في نحوِ ذلك؛ عبدُالرحمن بن مهدي، وأحمدُ بن حَنبل ٍ (1)، رضي الله عنهما *.
__________
(1) الخطيب، في الكفاية (باب التشدد في أحاديث الأحكام) بأسانيده. (والتجوز في فضائل الأعمال) وانظر مقدمة النووي لشرح مسلم (1/ 125).
___________________________________
= كان جعل أذان الليل بين بلال وبين ابن أم مكتوم نوبًا " فجزم ابن حبان به - ولم يقل: لعل؛ كما قال شيخه - وهو بعيد. ومع ذلك فدعوى القلب لا تبعد، ولو فتحنا باب التأويلات لاندفع كثير من علل المحدثين. ويمكن أن يسمى ذلك المعكوسَ، ولكن لم أر من تعرض له. انتهت " 40 / و ظ.
* المحاسن:
" زيادة: زاد " الخطيبُ " السفيانين، ويحيى بن محمد. انتهت " 41 / و.
__________
- في الكفاية (ص 134، 135) ويحيى بن محمد هو الذهلي.(1/286)
الثالث: إذا أردتَ روايةَ الحديثِ الضعيف بغير إسنادٍ فلا تقلْ فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، وما أشبه هذا من الألفاظ الجازمة بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك؛ وإنما تقول فيه: رُوِيَ عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو: بلغنا عنه كذا وكذا، أو: ورد عنه، أو: جاء عنه، أو: رَوَى بعضُهم، وما أشبه ذلك. وهذا الحكمُ فيما تشك في صحتِه وضعفِه. وإنما تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ظهر لك صحتُه بطريقه الذي أوضحناه أولا. والله أعلم (1).
__________
(1) على هامش ص (19 أ) بلاغ قراءة ناصرالدين ابن العديم، وعمه زين الدين والشمس الحلبي، بخط العراقي.(1/287)
النوع الثالث والعشرون:
[27 / و] معرفة صفةِ مَن تُقبلُ روايتُه، ومن تُرَدُّ روايتُه، وما يتعلق بذلك من قَدح ٍ وجَرح وتوثيق وتعديل.
أجمع جماهيرُ أئمةِ الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يُحتجُّ بروايته أن يكون عَدلا ضابطًا لما يرويه. وتفصيله: أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلاً، سالمًا من أسبابِ الفسق وخوارم ِ المروءة *، متيقظًا غير مغفل، حافظًا إن حَدَّث من حفظه، ضابطًا لكتابه إن حَدَّث من كتابه. وإن كان يُحدث بالمعنى اشتُرِط فيه مع ذلك أن يكون عالمًا بما يحيل المعاني. والله أعلم.
ونوضح هذه الجملةَ بمسائلَ:
إحداها: عدالةُ الراوي تارةً تثبتُ بتنصيص ِ مُعدلين (1) على عدالته، وتارةً تثبت بالاستفاضةِ، فمن اشتهرت عدالتُه بين أهل النقل أو نحوهم من أهل ِ العلم وشاع الثناءُ
__________
(1) ضبطه في (غ) على التثنية. قلمًا. انظر المسألة الرابعة فيما يلي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يعترض على ما سبق بقول " الخطيب " إن المروءة لم يتشرطها أحد إلا " الشافعي ".
لأنا نقول: سيأتي عن " شعبة " أنه ترك حديثَ شخص لأنه رآه يركُض على برذون، وهذا يقتضي أن مذهب " شعبة " التشديدُ باعتبار المروءة. انتهت " 41 / و.
__________
- انظر الرسالة للإِمام الشافعي، باب خبر الواحد: 159 والمحدث الفاصل، للقاضي ابن خلاد الرامهرمزي، (باب القول فيمن يستحق الأخذ عنه) ص 403 والكفاية للخطيب البغدادي (باب وصف من يحتج بحديثه ويلزم قبول روايته) 23 وتقييد العراقي (136) وتبصرته (1/ 293 - 294).(1/288)
عليه بالثقة والأمانة، استُغنيَ فيه بذلك عن بَيِّنةٍ شاهدةٍ بعدالتِه تنصيصًا. وهذا هو الصحيحُ في مذهبِ " الشافعي " وعليه الاعتماد في فمن أصول الفقه (1).
وممن ذكر ذلك من أهل الحديث " أبو بكر الخطيبُ الحافظُ " (2)، ومثَّل ذلك بِـ " مالكٍ، وشعبةَ، والسفيانين، والأوزاعي، والليثِ، وابنِ المبارك، ووكيع، وأحمدَ بنِ حنبل، ويحيى بن معين، وعليِّ ابن المَديني " ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر (3)؛ فلا يُسأَل عن عدالةِ هؤلاء وأمثالِهم؛ وإنما يُسأل عن عدالة من مَنْ خفِيَ أمرُه على الطالبين.
وتوسَّعَ " ابنُ عبدالبر الحافظ " في هذا فقال: كلُّ حامل ِ علم معروف العنايةِ به؛ فهو عدل محمولٌ في أمرِه أبدًا على العدالةِ حتى يتبينَ جرحُه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " يَحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه " (4).
وفيما قاله اتِّساعٌ غير مرضِيٍّ. والله أعلم.
__________
(1) المحدث الفاصل: 404 فقرة 419.
(2) في: (الكفاية) باب المحدث المشهور بالعدالة. وقد اقتصر ابن الصلاح هنا على أحد عشر إمامًا، من ستة عشر مثل بهم " الخطيب " في (الكفاية) الخمسة الباقون هم: حماد بن زيد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وعفان بن مسلم.
(3) " والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم ". (الكفاية) ص 87.
(4) ابن عبدالبر، التمهيد: 1/ 28، 58.
___________________________________
* المحاسن:
فائدة: وجه كونه غيرَ مرضي؛ أن الحديث لم يصح؛ فإنه رُوِيَ مرفوعًا من حديث أسامة بن زيد وأبي هريرة وابن مسعود وغيرهم، وفي كلها ضعف (1). وقال " الدارقطني ": " لا يصح مرفوعًا - يعني مسندًا - إنما هو عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) " وقال " ابن عبالدبر ": " روِي عن أسامة بن زيد وأبي هريرة بأسانيد =
__________
(ا) أخرجه الخطيب من حديثهم مرفوعًا، في باب قوله صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " في (شرف أصحاب الحديث) 28 - 29.
(2) وأخرجه الخطيب من حديث معان بن رفاعة عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره، وأسند فيه عن مهنى بن يحيى أنه سأل الإِمام أحمد عن هذا الحديث وقال: كأنه كلام موضوع، فقال أحمد: لا؛ هو صحيح .. وقال: معان بن رفاعة لا بأس به (29) وفي استدراك ابن نقطة على =(1/289)
الثانية: يُعرَفُ كونُ الراوي ضابطًا، بأن تُعتَبر رواياتُه برواياتِ الثقاتِ المعروفين بالضبطِ والإِتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم، أو موافقةً لها في الأغلب، والمخالفة نادرة؛ عرَفْنا حينئذ [27 / ظ] كونَه ضابطًا ثبتًا، وإن وجدناه كثيرَ المخالفةِ لهم عرفنا اختلالَ ضبطِه ولم نحتج بحديثِه. والله أعلم.
الثالثة: التعديلُ مقبولٌ من غيرِ ذكر سببه، على المذهب الصحيح المشهور؛ لأن أسبَابه كثيرةٌ يصعب ذكرها؛ فإن ذلك يُحوِجُ المُعَدِّل إلى أن يقولَ: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا وكذا؛ فيعدد جميعَ ما يفسق بفعلِه أو بتركِه، وذلك شاقٌّ جدًّا.
وأما الجرحُ؛ فإنه لا يُقْبَلُ إلا مُفَسَّرًا مبيَّنَ السبب؛ لأن الناسَ يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدُهم الجرح بناءً على أمرٍ اعتقده جرحًا وليس بجرح ٍ في نفس ِ الأمر، فلا بد من بيان سببِه ليُنظَرَ فيه: أهو جرح أم لا؟ وهذا ظاهرٌ مقررٌ في الفقه
___________________________________
= كلها مضطربة غير مستقيمة " , (1) وحينئذ فلا يصح الاحتجاج به، ولو صح لكان محمولا على الأمر كما حمله جماعة من العلماء على ذلك. وقد جاء بسند جيد أن " عمر بن الخطاب " كتب إلى أبي موسى: " المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودًا في حَدٍّ، أو مُجرَّبًا عليه شهادةُ زورٍ، أو ظنينًا في ولاءٍ أو نسبٍ " (2) وهذا يقوِّي ما قال " ابنُ عبدالبر " لكن كلام ابن عبدالبر، مخصوص بحمَلَة العلم كما تقدم، ولو صح الحديث لكان أقوى من ذلك. انتهت " 41 / و، ظ.
__________
= الإِكمال (هامش 1/ 413): وإبراهيم بن عبدالرحمن العذري من أهل دمشق، حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " الحديث. روى عنه معان بن رفاعة السلامي، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن عياش. وهو مرسل، وإبراهيم ليست له صحبة ". اهـ.
(1) أنظر أسانيد ابن عبدالبر لهذا الحديث، في (التمهيد 1/ 58) والحديث أخرجه ابن حجر من مختلف طرقه في ترجمة " إبراهيم بن عبدالرحمن العذري " بالقسم الرابع من حرف الألف في (الإصابة).
(2) من رسالة القضاء لعمر - رضي الله عنه - أخرجها الدارقطني في كتاب الأقضية والأحكام من سننه (باب كتاب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري) من طريقين (ح 15، 16) وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى، كتاب القضاء، وكتاب الشهادات. وعدد جم تقصاهم الأستاذ الزميل الدكتور أحمد سحنون في (رسالة القضاء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب: توثيق وتحقيق) لدرجة دكتوراة الدولة في علوم الإِسلام، بإشرافي. مخطوطة بدار الحديث الحسنية بالرباط.(1/290)
وأصولِه *. وذكر " الخطيبُ الحافظُ " (1) أنه مذهبُ الأئمةِ من حُفَّاظِ الحديثِ ونُقَّاده، مثل " البخاري، ومسلم " وغيرهما. ولذلك احتج " البخاري " بجماعةٍ سبق من غيرِه الجرحُ لهم، كَـ: عكرمةَ مولى ابن عباس - رضي الله عنهما -، وكإسماعيل بنِ أبي أويس، وعَاصم بن علي، وعمرِو بن مرزوق، وغيرهم. واحتج " مسلم " بِـ: سُوَيد بن سعيد، وجماعةٍ اشتهر الطعنُ فيهم، هكذا فعل " أبو داود السجستاني "، وذلك دالٌّ على أنهم ذهبوا إلى أن الجرحَ لا يثبتُ إلا إذا فُسِّرَ سببهُ **، ومذاهب النقاد للرجال ِ غامضة مختلفة.
وعقَد " الخطيبُ " (2) بابًا في بعض ِ أخبار من استُفسِر في جرحِه، فذكر ما لا يصلُح جارحًا. منها عن " شعبة " أنه قيل له: لم تركت حديثَ فلان؟ فقال: " رأيته يركُضُ على بِرْذَوْن فتركتُ حديثه ". ومنها عن " مسلم بن إبراهيم " أنه سئل عن حديث الصالح
__________
(1) في الكفاية، باب القول في الجرح؛ هل يحتاج إلى كشف أو لا؟ (ص 108).
(2) في الكفاية (باب ذكر بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة) ص 110 - 114 وابن حِبَّان في المجروحين: 1/ 30.
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وذهب قوم إلى أنه لا يشترط ذلك. كما مر مثله في التعديل على المشهور. وأَغْرَبَ من قال: يكفي الإِطلاقُ في الجرح دون التعديل. وقيل: إن كان عالمًا بالأسباب كفى الإِطلاق فيهما، وإلا لم يكف في واحد منهما. وتقرير الأدلة في فن الأصول. انتهت " 41 / ظ.
** " فائدة: قد يقال: لا يلزم ذلك؛ لجواز أن يكون لم يثبت عندهم الجرح وإن فسر. هذا هو الأقرب؛ فإن المذكورين ما من شخص منهم إلا ونسب إلى أشياء مفسَّرة من كذبٍ وغيره، يعرفها من يراجع كتب القوم، ولكنها لم تثبت عند من أخذ بحديثهم ووثقهم وروى عنهم. انتهت " 42 / و.
__________
- وانظر في توضيح التنقيح (1/ 102) مجروحين أخرج لهم الشيخان.(1/291)
المُرِّي، فقال: " ما يُصنَعُ (1) بصالح؟ ذكروه يومًا عند حماد بن سلمة فامتخط حماد ". والله أعلم.
قال الشيخ - أبقاه الله -: ولقائل ٍ أن يقولَ: إنما يتعمدُ الناسُ في جرح الرُّواةِ وردِّ حديثِهم، على الكتب التي صَنَّفها أئمةُ الحديث في الجرح، أو في الجرح والتعديل. وقلما يتعرضون فيها لبيانِ السبب، بل يقتصرون [29 / و] على مجردِ قولهم: فلانٌ ضعيف، وفلانٌ ليس بشيء، ونحو ذلك، أو: هذا حديثٌ ضعيف، وهذا حديثٌ غيرُ ثابت، ونحو ذلك. فاشتراطُ بيانِ السببِ يُفضي إلى تعطيل ِ ذلك، وسدِّ بابِ الجرح في الأغلبِ الأكثر.
وجوابُه: أن ذلك وأن لم نعتمده في إثباتِ الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في أن توقَّفنا عن قبول حديثِ من قالوا فيه مثلَ ذلك، بناءً على أن ذلك أوقَع عندنا فيهم رِيبةً يوجب مثلُها التوقُّفَ (2).
ثم من انزاحت عنه الريبةُ منهم، بِبحثٍ عن حالهِ أوْجَبَ الثقةَ بعدالتِه؛ قبلنا حديثَه ولم نتوقَّفْ، كالذين احتج بهم صاحِبا (الصحيحين) وغيرهما، ممن مسَّهم مثلُ هذا الجرح ومن غيرِهم، فافهم ذلك فإنه مَخْلَصٌ حسن *. والله أعلم (3).
__________
(1) على هامش (ص): [قال المؤلف: يُصنَع، مقيد كذا في أصل موثوق به عليه سماع الخطيب - رحمه الله -] (20 أ).
وما هنا عن صالح، بن بشير المري، في المجروحين لابن حبان 1/ 371 والميزان: 2/ 389.
(2) انظر الكفاية (107، 108) وتقييد العراقي (141) والتبصرة (1/ 305).
(3) على هامش ص (20 / ب) بخط العراقي: بلغ ناصرالدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم قراءة بحث عليَّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن، وشمس الدين محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا المخلص فيه نظر؛ من جهة أن الريبة لا توجب التوثق؛ ألا ترى أن القاضي إذا ارتاب في الشهود فإنه يجوز أن يحكم مع قيام الريبة؟ وإنما كلام الأئمة المنتصبين لهذا الشأن أهل الإِنصاف والديانة والنصح يؤخذ مُسَلَّمًا، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل، أو أنه كذاب متروك. وذلك واضح لمن تأمله. و " الإِمام الشافعي " يقول في مواضع: " هذا حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث ". وردَّه بذلك. انتهت " 42 / و.(1/292)
الرابعة: اختلفوا في أنه: هل يثبت الجرحُ والتعديلُ بقول ِ واحدٍ، أو لا بد من اثنين؟ فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين كما فية الجرح والتعديل في الشهادات، ومنهم من قال - وهو الصحيح الذي اختاره " الحافظ أبو بكر الخطيب (1) " وغيره -: أنه يثبت بواحدٍ؛ لأن العددَ لم يُشترَط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديلِه، بخلاف الشهادات (2). والله أعلم *.
__________
(1) الكفاية: باب القول في العدد المقبول تعديلهم لمن عدلوه (97).
(2) طرة على ورقة ملصقة بالأصل (غ) بخط ابن الفاسي:
[قال القاضي عياض: اختلف المحدثون والفقهاء والأصوليون في باب الخبر وباب الشهادة: إذا عدل معدلون رجلا وجرحه آخرون؛ فالجرح أولى، وحكوا في ذلك إجماع العلماء مع الحجة بأن المجرح زاد ما لم يعلم المعدل، وهو بين، ولا خلاف في هذا إذا كان عدد المجرحين أكثر. فإن تساووا فكذلك عند " القاضي أبي بكر " والجمهورِ، وذهب بعض المالكية إلى توقف الأمر عند التكافؤ، وقيل: يُقْضَى بالأعدل. فإن كان عدد المعدلين أكثر؛ فالجمهور على تقديم الجرح؛ للعلة المتقدمة. وذهبت طائفة إلى ترجيح التعديل. قال " الباجي ": وهذا عندي يحتاج إلى تفصيل، فإذا قال المعدل: هو عدل رَضِيٌّ، وقال المجرح: فاسق رأيته أمس يشرب الخمر، فلا تنافي بين الشهادتين، وقد أثبت هذا فسقًا لم يعلمه الآخر. فأما لو قال المعدل: ما فارقني أمس من الجامع، ومثل هذا؛ فقد تعارضت الشهادتان " ولعل توقف مَن توقف من أصحابنا؛ لهذا الوجه. وقال " اللخمي ": إذا كان اختلافهما في ذلك عن كلام قاله في مجلس أو فعل فعله؛ قضى بالأعدل لأنه تكاذب - وهذا نحو ما أشار إليه " الباجي " - وإن كان عن مجلسين متباينين غلب الجرح. وإليه يرجع قول الجمهور. وإن تباعدت شهادة المعدل من شهادة المجرح، قضى بأخراهما، وهذا مما لا يختلف فيه، إلا أن يعلم أنه كان حين شهد عليه بتقديم الجرح، ظاهر العدالة إذ ذاك حسب ما هو عليه الآن، فيغلب الجرح. قال القاضي: ثم نرجع إلى الأصل عند تعارض الشهادتين؛ فإن كان قبلُ محمولا على العدالة وجاءت بعدُ مثل هذه الشهادة مضت عدالته على ما تقدم له وعرف من حاله؛ إذ سقطت الشهادتان. وإن كان على غير ذلك؛ بقي على حكمه الأول، وهل يترجح العارض مع القول بالتوقف بالكثرة على الخلاف المتقدم؟ ... ].
وانظر في (الكفاية): باب ما يستوي فيه المحدث والشاهد من الصفات وما يفترقان فيه (94 - 96).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: عن " أبي حنيفة وأبي يوسف " في الشهادة أيضًا، الاكتفاءُ بمعدِّل ٍ أو مُجَرَّح. وهو اختيار أبي الطيب. انتهت " [43 / ظ].
__________
- القاضي أبو الطيب، هو الطبري، الفقيه الشافعي الأصولي النظار، إمام وقته (450 هـ) وانظر (الكفاية: 94) وتقييد العراقي (142).(1/293)
الخامسة: إذا اجتمع في شخص ٍ جرحٌ وتعديلٌ. فالجرحُ مقدَّمٌ؛ لأن المعدِّلَ يُخبرُ عما ظهرَ من حاله، والجارِح يخبر عن باطنٍ خَفِيَ على المعدَّل. فإن كان عددُ المعدلين أكثر؛ فقد قيل: التعديل أوْلَى. والصحيحُ والذي عليه الجمهور: أن الجرح أولى؛ لما ذكرناه *. والله أعلم.
السادسة: لا يجزئ التعديلُ على الإبهام من غير تسمية المُعَدَّل. فإذا قال: " حدثني الثقةُ " أو نحو ذلك، مقتصرًا عليه؛ لم يُكتَف به فيما ذكَره " الخطيبُ الحافظُ (1)، والصيرفي الفقيهُ " وغيرُهما، خلافًا لمن اكتفى بذلك. وذلك لأنه قد يكونُ ثقةً عنده. وغيرُه قد اطلع على جرحِه بما هو جارحٌ عنده، أو بالإِجماع. فيُحتاج إلى أن يُسَميه حتى يُعرَف. بل إضرابُه عن تسميته مُريب، يوقع في [29 / ظ] القلوب (2) فيه ترددًا. فإن كان القائل لذلك عالمًا؛ أجزأ ذلك في حق مَنْ يوافقه في مذهبه، على ما اختاره بعضُ المحققين.
وذكر الخطيبُ (3) الحافظ أن العالم إذا قال: كلُّ من رويت عنه فهو ثقة وإن لم أُسَمِّه. ثم روى عن من لم يُسمِّه، فإنه يكون مُزَكِّيًا له، غير أنا لا نعمل بتزكيته هذه. وهذا على ما قدمناه. والله أعلم.
السابعة: إذا روَى العَدْلُ عن رجل ٍ وسَمَّاه؛ لم تُجعَلْ روايتُه عنه تعديلاً منه له، عند أكثر العلماء من أهل ِ الحديث وغيرِهم. وقال بعضُ أهل ِ الحديث وبعضُ أصحاب الشافعي: يُجعَلُ ذلك تعديلاً منه له؛ لأن ذلك يتضمنُ التعديلَ.
__________
(1) أبو بكر، البغدادي، في (الكفاية: 92) وانظر تبصرة العراقي (1/ 314).
(2) في ص: [في القلب].
(3) في الكفاية: (92) وانظر في التبصرة (1/ 315 - 319) ما أبهم مالك والشافعي - رضي الله عنهم - باعتبار شيوخهما، فقالا: أخبرني، أو: حدثني الثقة، من يكون؟. .
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وقيل يرجح بالأحفظ. ثم تقديم الجارح مشروط عند الفقهاء بأن يطلف المعدِّل. فإن قال المعدل: " عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب وحسنت حالته " فإنه يقدم المعدل. ومحل هذا في الرواية، في غير الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه لا تقبل روايته وإن تاب، كما سيأتي. انتهت " 42 / و.(1/294)
والصحيح هو الأولُ؛ لأنه يجوزُ أن يَرويَ عن غير عدل ٍ، فلم يتضمن روايتُه عنه تعديلَهُ. وهكذا نقول إن عملَ العالم أو فُتياه على وفقِ حديثٍ، ليس حُكْمًا منه بصحة ذلك الحديث. وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحًا منه في صحتِه ولا في راويه. والله أعلم.
الثامنة: في رواية المجهول وهي في غرضنا هاهنا أقسام:
أحدُها: المجهولُ العدالةِ من حيثُ الظاهرُ والباطنُ جميعًا. وروايتُه غيرُ مقبولةٍ عند الجماهير *، على ما نبَّهنا عليه أولا.
الثاني: المجهولُ الذي جُهلتْ عدالتُه الباطنةُ وهو عدلٌ في الظاهر، وهو المستورُ. فقد قال بعضُ أئمتِنا (1): المستورُ مَن يكون عدلا في الظاهرِ ولا تُعرَفُ عدالةُ باطنِه. فهذا المجهولُ يَحتجُّ بروايتِه بعضُ من رَدَّ روايةَ الأول. وهو قول بعض الشافعيين، وبه قطع منهم (2) " الإِمامُ سليم بنُ أيوبَ الرازي ". قال: لأنَّ أمرَ الأخبار مَبنِيٌّ على حُسنِ الظنِّ بالراوي، ولأن روايةَ الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفةُ العدالة في الباطن، فاقتُصر منها على معرفةِ ذلك في الظاهر. وتفارق الشهادةَ؛ فإنها تكونُ عند الحكَّام ولا يتعذَّر عليهم ذلك، فاعتُبِر فيها العدالةُ في الظاهرِ والباطن.
قال الشيخ - أبقاه الله -[30 / و] ويشبه أن يكونَ العملُ على هذا الرأي في كثيرٍ من كتبِ الحديثِ المشهورةِ، في غيرِ واحدٍ من الرواة الذين تقادم العهدُ بهم، وتعذرت الخبرةُ الباطنةُ بهم. والله أعلم.
__________
(1) انظر تقييد العراقي (145) والتبصرة (1/ 323).
(2) الأصول والمتن في (ع)، وعلى هامش ص: [جماعة منهم] " وسليم بن أيوب الرازي، أبو الفتح " الغريق في بحر القلزم سنة 447 هـ: من أئمة الشافعية وله كتاب (المختصر، في فروع الشافعية) شرحه الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي - ت 490 هـ - وسماه (الإشارة) وصنف في التفسير والحديث وغريبه والنحو والفقه. انظر مع طبقات الشافعية الكبرى، تهذيب النووي (1/ 213 ت 228).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: " أبو حنيفة " يقبل مثل هذا. انتهت " [43 / و].(1/295)
الثالث: المجهولُ العين. وقد يَقبل روايةَ المجهول العدالةِ، مَن لا يَقبل روايةَ المجهول ِ العينِ. ومَن روَى عنه عدلانِ وعيَّناه، فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة.
ذكر " أبو بكر الخطيبُ البغدادي " في أجوبةِ مسائلَ سُئِلَ عنها (1): أن المجهولَ عند أصحابِ الحديث هو كلُّ مَن لم يعرفْه العلماءُ، ومن لم يُعرَف حديثُه إلا من جهةِ راوٍ واحد، مثل: " عمرو ذي مُرّ، وجبار الطائي، وسعيدِ بنِ ذي حُدَّان " لم يَروِ عنهم غيرُ أبي إسحاق السبيعي، ومثل " الهزهازِ بنِ ميزن " (2) لا راويَ عنه غيرُ الشعبي، ومثل " جُرَيِّ بن كليب "، لم يرو عنه إلا قَتَادَةُ (3).
قلت: قد رَوى عن " الهزهاز " الثوريُّ أيضًا.
قال " الخطيبُ ": " وأقلُّ ما ترتفعُ به الجهالةُ، أن يرويَ عن الرجل اثنانِ من المشهورين بالعلم ... إلا أنه لا يثبتُ له حُكمُ العدالةِ بروايتِهما عنه ". (4) وهذا مما قدَّمنا بيانَه. والله أعلم.
قال الشيخ المملي - أبقاه الله -: قد خرَّج البخاري في (صحيحه) حديثَ جماعة ليس لهم غير راوٍ واحدٍ، منهم: " مِرداسُ الأسلمي " (5)، لم يَروِ عنه غيرُ قيس بن أبي حازم، وكذلك خرَّج " مسلم " حديثَ قوم لا راويَ لهم غيرُ واحدٍ، منهم: " ربيعةُ بن كعب الأسلمي " لم يَروِ عنه غيرُ أبي سلمةَ بن عبدالرحمن (6). وذلك منهما مَصِيرٌ إلى أن الراوي قد يخرج عن
__________
(1) قال العراقي في ما عزاه المصنف إلى أجوبة مسائل سئل عنها الخطيب: " والخطيب ذكر ذلك مع زيادة فيه، في كتاب الكفاية، والمصنف كثير النقل منه. فأبعد النجعة في عزوه ذلك إلى مسائل سئل عنها ". التقييد 147.
انظر في الكفاية (باب ذكر المجهول وما به ترتفع عنه الجهالة).
(2) قال العراقي: الخطيب سمى والد هزهاز: ميزن، بالياء المثناة وتبعه المصنف. والذي ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، أنه مازن، بالألف. وفي بعض النسخ بالياء، ولعل بعضهم أماله في اللفظ (التقييد 146) مع الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، أفراد الهاء (ت 514) وهو في الطبعة الهندية: بن ميزن. بالياء.
(3) ذكر " الخطيب " آخرين مع هؤلاء، في (باب ذكر المجهول وما ترتفع به الجهالة).
(4) الكفاية: 88 باب ذكر المجهول وما ترتفع به الجهالة.
(5) في كتاب الرقاق، باب ذهاب الصالحين، (فتح الباري 11/ 197) حديث " يذهب الصالحون ".
(6) صحيح مسلم، ك الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه (ح 226/ 489) وانظر شروط الأئمة لابن طاهر (ل 65) خط.(1/296)
كونه مجهولا مردودًا بروايةِ واحدٍ عنه (1). والخلافُ في ذلك مُتَّجِه نحوَ اتجاهِ الخلافِ المعروفِ في الاكتفاءِ بواحد في التعديل ِ *، على ما قدمناه. والله أعلم (2).
__________
(1) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي:
[قال النووي: لا يصح الرد الخطيب، والصواب: نقل الخطيب، ولا يصح الرد عليه بمرداس وربيعة؛ فإنهما صحابيان مشهوران، والصحابة كلهم عدول؛ فلا تضرنا الجهالة بأعيانهم لو ثبتت. ومع هذا فليسا بمجهولين على ما نقله " الخطيب " لأنه شرط في المجهول: ألا يعرفه العلماء؛ وهذان معروفان عند أهل العلم، بل مشهوران. قال النووي: فحصل بما ذكرناه أن " البخاري ومسلمًا " لم يخالفا نقل الخطيب عن أهل الحديث. وقد حكى الشيخ [ابن الصلاح] في النوع السابع والأربعين، عن " ابن عبدالبر ": أن كل من لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول عندهم، إلا أن يكون مشهورًا في غير تحمل العلم، كاشتهار " مالك بن دينار " في الزهد " وعمرو بن معدي كرب " في النجدة. والله أعلم].
قابل على نص النووي في التقريب (1/ 318).
(2) على هامش ص (21 / ب): بلغ ناصرالدين محمد ولد قاضي القضاة كمال الدين ابن العديم قراءة بحث عليّ، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدسن محمد بن خليل الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: اكتغى " ابن حبان " بمجرد رواية عدلين في التعديل أيضًا، وهو بعيد. ولا يلزم من إخراج " البخاري ومسلم " مما ذُكرَ، مصيرُهما إلى ما ذَكر؛ لأن المثل المذكورة في الصحابة، وجهالة عين الصحابي لا تضر. وهو لو قال: عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان ذلك كافيًا. وقد قال " الحاكم " إن الصحابي المعروف إذا لم نجد له راويًا غير التابعي الواحد المعروف؛ احتججنا به وصححنا حديثه؛ إذ هو على شرطهما جميعًا. فقد احتج " البخاري " بحديثِ قيس عن مرداس: " يذهب الصالحون (1) " و " مسلم " بحديثِ قيس ٍ عن عديٍّ بن عميرة: " من استعملنا ... " (2) وليس لهما راوٍ غير قيس ٍ.
ثم يقال على كلام " الحاكم " وغيره: إن قيسًا لم ينفرد بالرواية عن مرداسن؛ فقد =
__________
(1) صحيح البخاري، ك الرقاق، باب ذهاب الصالحين (فتح الباري 11/ 197).
(2) صحيح مسلم، ك الإمارة، باب تحريم هدايا العمال، حديث قيس عن عدي بن عميرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من استعملنا منكم على عمل فكتمنا مَخِيطًا فما فوقه؛ كان غُلولا يأتي به يوم القيامة) (30 (1833).(1/297)
التاسعة: اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفُر في بدعتِه (1)، فمنهم من ردَّ روايتَه مطلقًا؛ لأنه فاسقٌ ببدعتِه، وكما استوى في الكفرِ المتأولُ وغيرُ المتأول، يستوي في الفِسقِ المتأولُ وغيرُ المتأول. ومنهم من قَبِلَ روايةَ المبتدع إذا لم يكن ممن يستحلُّ الكذبَ في نصرة مذهبِه أو لأهل ِ [30 / ظ] مذهبه، سواء كان داعيةً إلى بدعتِه أو لم يكن. وعزا بعضُهم (3) هذا إلى " الشافعي " لقولِه: " أقبلُ شهادة أهل ِ الأهواء إلا الخطابيةَ من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادةَ بالزورِ لموافقيهم " *.
__________
(1) على هامش (غ): [قال شيخنا نجم الدين: لم يذكر ابن الصلاح من يكفر ببدعته، إنما ذكر " من لم يكفر ببدعته ". فقال " النووي " هنا في (مختصره): " من كفر ببدعته لم يحتج به بالاتفاق ". واعترض عليه بنقل الخطيب الخلاف فيه، فقال: الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته وإلا قبلنا] ... قوبل على متن التقريب للنووي (1/ 324) وكفاية الخطيب (120 - 130) (باب ما جاء في الأخبار عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم).
(2) قال العراقي: " أراد المصنف ببعضهم، أبا بكر الخطيب فإنه عزاه للشافعي في كتاب الكفاية ". التقييد 159، وانظره في الكفاية (120).
___________________________________
= روى عن مرداس ٍ، " زيادُ بنُ علاقة " أيضًا. وأما ربيعة الأسملي فقد روى عنه: " أبو عمران الجوني، ومحمدُ بن عمرو بن عطاء ". وسيأتي لهذه الأمثلة تتماتٌ في النوع السابع والأربعين. وهناك نذكر عن " ابنِ عبدالبر " أن الجهالة تزول بواحدٍ إذا كان مشهورًا في حمل العلم، كاشتهار " مالك بن دينار " بالزهد، و " عمرو بن معدي كرب " بالنجدة: وهذا خلافُ ما أطلقَ " الخطيبُ ". وقد أخرج " البخاري " للوليد بنِ عبدالرحمن الجارودي، ولا يُعرف عنه راوٍ غير ولده المنذر. انتهت " 43 / ظ.
* المحاسن:
: فائدة: لا يقال: الخطابية لا يُجوِّزون الكذب، ومن كذب عندهم خرج من مذهبهم، فإذا سمع بعضُهم بعضًا قال شيئًا؛ عرف أنه ممن لا يُجوِّز الكذب فاعتمد قوله بذلك وشهد بشهادته، فلا يكون شهِد بالزور، إنما شهِدَ بما يعرف أنه حق؛
لأنا نقول: ما بنى عليه شهادتَه أصلٌ باطل؛ فوجب ردُّ شهادته لاعتماده أصلا باطلا، وإن زعم هو أنه حق. انتهت " 44 / و.(1/298)
وقال قومٌ: تُقْبلُ روايتُه إذا لم يكن داعيةً، ولا تُقبل إذا كان داعيةً إلى بدعتِه. وهذا مذهبُ الكثيرِ أو الأكثرِ من العلماء.
وحكَى بعضُ أصحاب " الشافعي " - رضي الله عنه - خلافًا بين أصحابِه في قبول ِ روايةِ المبتدع ِ إذا لم يدعُ إلى بدعتِه، وقال: " أما إذا كان داعيةً فلا خلافَ بينهم في عدم قبول روايته " *.
وقال " أبو حاتم بن حِبَّان البستي " (1) - أحدُ المصنفين من أئمة الحديث -: " الداعيةُ إلى البدَع لا يجوزُ الاحتجاجُ به عند أئمتنا قاطبةً، لا أعلم بينهم فيه خلافًا ".
وهذا المذهبُ الثالثُ أعْدَلُها وأوْلاها، والأولُ بعيدٌ مباعِدٌ للشائع عن أئمةِ الحديثِ، فإن
__________
(1) قاله ابن حبان في تاريخ الثقات، في ترجمة " جعفر بن سليمان الضبعي " تقييد العراقي 160 وفيه النص. وعقب العراقي: وفيما حكاه ابن حبان من الاتفاق نظر؛ فإنه يروى عن الإمام مالك رد روايتهم مطلقًا كما قاله الخطيب في الكفاية. اهـ: (ص 117) كفاية.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وحُكِي عن نص الشافعي. انتهت.
وزيادة: قد خرَّج " البخاريُّ، ومسلم " عن جماعة قد قبل عنهم إنهم دعاة، فمن ذلك أن " البخاري " خرَّج لعمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجي، مادح ِ " عبدِالرحمن بن ملجم: قاتل عليِّ بن أبي طالب " وهذا من أكبر الدعوة إلى البِدعة. وخرَّج الشيخان لعبدالحميد بن عبدالرحمن الحِماني، وقد قال " أبو داود السجستاني ": " كان داعية إلى الإرجاء ". فالأقرب أنه لا فرق، ولذلك أطلق " الشافعي " النص المشهورَ عنه وهو قوله: " أقبل شهادةَ الجميع إلا الخطابية " وقد قال في (الأم) ما نصه: " ذهب الناسُ في تأويل ِ القرآن والسنة إلى أمور تباينوا فيها تباينًا شديدًا، واختلفوا اختلافًا بعيدًا، فلم يُرَ أحدٌ منهم ردَّ شهادة أحدٍ بتأويل، وإن خَطَّأه وضلله، ورآه استحلَّ ما حرم الله " ومحلُّ ما تقدم، في المبتدع الذي لا يكفر ببدعته، أما الكافرُ ببدعته فروايتُه ساقطة على مقتضى ذلك جزمًا ". انتهت " 43 / وظ.(1/299)
كتبَهم طافحة بالرواية عن المبتدعةِ غير الدعاة وفي (الصحيحين) كثيرٌ من أحاديثهم في الشواهدِ والأصول ِ (1). والله أعلم.
العاشرة: التائبُ من الكذبِ في حديثِ الناس ِ وغيرِه من أسبابِ الفسق، تُقبَلُ روايتُه، إلا التائبَ من الكذبِ متعمدًا في حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا تُقبَلُ روايتُه أبدًا وإن حسُنتْ توبته، على ما ذُكِرَ عن غير واحدٍ من أهل ِ العلم، منهم: " أحمدُ بن حنبل، وأبو بكر الحميدي: شيخُ البخاري " (2).
وأطلق " الإِمامُ أبو بكر الصيرفي الشافعي " فيما وَجَدْتُ له في (شرحه لرسالة الشافعي)، فقال: " كلُّ من أسقطنا خبرَه من أهل ِ النقل ِ بكذبٍ وجدناه عليه؛ لم نَعُدْ
__________
(1) في ورقة مصلقة بنسخة (غ) بخط ابن الفاسي:
[قال " عياض ": قد قدمنا ما حكاه " الغساني " من الاتفاق على قبول روايتهم إذا لم يكونوا دعاة ولا غلاة، وظهر صدقهم. وقد ذكرنا أن " أبا عبدالله بن البيِّع " ذكرهم في القسم الخامس. وإلى قبول روايتهم وشهادتهم مال " الشافعي ". وقال " مالك ": " لا يؤخذ الحديث عن صاحب هوى يدعو إلى هواه "؛ فانظر اشتراطه الدعاء هل هو ترخيص في الأخذ عنه إذا لم يدع؟ أو أن البدعة سبب تهمته في أن يدعو الناس إلى هواه؟ أي: لا تأخذوا عن ذي بدعة فإنه ممن يدعو إلى هواه، أو أن هواه يحمله أن يدعو إلى هواه، ونتهمه لذلك. وهذا المعروف من مذهبه. وقد تأول " الباجي " أن معنى يدعو: يظهرها ويحقق عليه. فأما من دعا؛ فلم يختلف في ترك حديثه. وأما " القاضي أبو بكر الباقلاني " في طائفة من المحققين من الأصوليين والفقهاء والمحدثين من السلف والخلف؛ فأبوا قبول خبر المبتدع والفسَّاق المتأولين، ولم يعذروهم بالتأويل، وقالوا: هو فاسق بقوله، فاسق بجهله، فاسق ببدعته؛ فتضاعف فسقه.
وعلى هذا، وقع خلاف الفقهاء في شهادتهم فقبلها " الشافعي " وابن أبي ليلى، وردها " مالك " وغيره. وكذلك لا يشترط فيمن دعا إلى بدعته ما ذكره " الغساني " من افتعاله الحديث وتحريفه الرواية؛ لنصرة مذهبه؛ فإن هذا ثبت كذبه وطرح قوله، ولو لم يكن ذا بدعة، ومن شهر بالبدعة اتهمناه أن يفعل هذا وإن لم يفعله لثبوت فسقه ببدعته. قال " مالك " - رضي الله عنه -: لا يؤخذ الحديث عن أربعة، ويؤخذ عن سواهم: رجل معلن بفسقه، وإن كان أروى الناس، ورجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصاحب بدعة يدعو إلى بدعته، ورجل له فضل [لا يعلم ما يحدث به]- (من الإكمال).
= وجرد السيوطي أسماء من خرج لهم الشيخان أو أحدهما، ممن رموا بالبدعة، فبلغ بهم واحدًا وثمانين (تدريب الراوي 1/ 328).
(2) انظر المحدث الفاصل (404 ف 419) وتقييد العراقي 150 والتبصرة (1/ 333).(1/300)
لقبولِه بتوبة تظهرُ. ومَنْ ضعَّفنا نقلَه لم نجعله قويًّا بعد ذلك "، وذكر أن ذلك مما افترقتْ فيه الرواية والشهادةُ (1).
وذكر الإمام " أبو المظفر السمعاني المروزي ": " أن من كذب في خبرٍ واحدٍ وجب
__________
(1) طرّة في ورقة ملصقة بنسخة (غ) بخط ابن الفاسي:
[قال " القاضي عياض " في (الإكمال): اعلم أن الشهادة والخبر يجتمعان عندنا في خمسة أحوال، ويفترقان في خمسة أحوال. فالخمسة الجامعة لها: العقل، والبلوغ، والإِسلام، وضبط الخبر أو الشهادة حين السماع والأداء. فمتى اختل وصف من هذه الأوصاف في أحد؛ لم يقبل خبره، ولا شهادته. وأما الخمسة التي يفترقان فيها: فالحرية، والذكورية، والعدد، ومراعاة الأهلية، والعداوة. فخبر العبد مقبول، وإن لم تقبل شهادته عندنا، وكذلك خبر الواحد والمرأة مقبول، ولا تقبل شهادتهما مجردة، إلا في مواضع مستثناة، وبشرائط معلومة. وخبر الرجل وروايته فيما ينفع به خاص أهله أو يضرّ به عدوه مقبول. ولهذا لا يعذر في مكشفي ومجرحي السر. وكذلك تجوز رواية الابن عن أبيه وأمه، وروايتهما عنه، وإن لم يجزه بعض العلماء في نقل الشهادة. وفي مذهبنا فيها وجهان؛ لأن الرواية والخبر يعم ولا يخص شخصًا دون شخص، والشهادة خاصة. ولهذا نعمل الشهادة كيف كانت ولا نردها بظنة منفعة ولا عداوة، كالشهادة على العدو من أهل الكفر، وعلى الأمور العامة للمسلمين في سككهم ومرافقهم، وإن كان الشاهد واحدًا منهم. وشرط " الشافعي ": البصر في الشهادة دون الخبر، ولا حجة له في ذلك قائمة. وشرط بعض الأصوليين: البلوغ حين السماع، والإِجماع يخالفه، وشرط " الجبائي " وبعض القدرية: العدد؛ فلا بد عنده من اثنين عن اثنين في الخبر كالشهادة. وعند الآخرين: أربع عن أربع في كل خبر، وهذا مما يتعذر ولا يفيد معنى في باب الفعل. وأسقط " أبو حنيفة " شرط العدالة ورأى أن مجرد الإِسلام عدالة في الشهادة والخبر لمن لم يُعلَم فسقه وجُهِلَ أمره. ورأى بعض أهل الحديث أن رواية رجلين عمن روى عنه يخرجه عند حد الجهالة، وإن لم تعرف حاله. والصواب أن الجهالة لا ترتفع عنه بروايتهما، حتى يعرف حاله وتتحقق عدالته، وإن جهل نسبه. والله أعلم. " ذكر هذه الفوائد في أول شرح خطبة مسلم قبل تفسيره: " من كذب علي متعمدًا ... " الحديث. قال " القرافي " في (قواعده): قال الإِمام المازري في (شرح البرهان): الشهادة والرواية خبران، على أن المخبر عنه إن كان أمرًا عامًّا لا يختص بمعين فهو الرواية، كقوله عليه السلام: " الأعمال بالنيات " أو " الشفعة فيما لم يقسم " لا يختص بشخص معين بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار، بخلاف قول العدل عند الحاكم: " لهذا عند هذا دينار " إلزام لمعين لا يتعداه لغيره، فهذا هو الشهادة المحضة، والأول هو الرواية المحضة]. ومعها، على هامش (غ) أيضًا:
[قال النووي: " كل هذا مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا، ولا يقوى الفرق بينه وبين الشهادة " [ووجدت بخط شيخنا: قد قال " مالك " في شاهد الزور: إذا ثبتت عليه شهادة الزور لا تسمع له شهادة بعد ذلك، تاب أم لا، وعند الشافعي والحنفي: لو ردت شهادته لفسق، ثم حسنت حالته، لا تسمع إعادتها لما يلحقه من التهمة في تصديق نفسه، ولا يبعد أن يخفى مثله هنا؛ لأن الرواية كلها كنوع من الشهادة. وقال " أبو حنيفة ": إذا ردت شهادة أحد الزوجين للآخر ثم بانت، لا نسمعها؛ للتهمة].
وانظر تقريب النووي 1/ 330 وكفاية الخطيب باب ما جاء في الأخذ عن أهل البدع (120 - 132).(1/301)
إسقاط ما تقدم من حديثه * " وهذا يُضاهي من حيث المعنى ما ذكره " الصيرفي ". والله أعلم.
الحادية عشرة: إذا روى ثقةٌ حديثًا وروجع المروِيُّ عنه فَنَفاه، فالمختارُ أنه إن كان جازمًا بنفيِه بأن قال: ما روَّيته، أو: كذب عليَّ، أو نحو ذلك؛ فقد تعارض الجَزْمان، والجاحِد هو الأصلُ فوجَبَ ردُّ حديثِ فرعِه ذلك **، ثم لا يكونُ ذلك جرحًا له يوجبُ ردَّ باقي حديثه؛ لأنه مكذِّبٌ لشيخِه أيضًا في ذلك، وليس قبولُ جرح ِ شيخِه له، بأوْلى من قبول ِ جرحِه لشيخه، فتساقطا.
أما إذا قال المرويُّ عنه: لا أعرفه، أو: لا أذكره، أو نحو ذلك، فذلك لا يوجِبُّ ردَّ رواية الراوي عنه. ومن روَى حديثًا ثم نسيَه؛ لم يكن ذلك مسقِطًا للعمل به عند جمهور أهل ِ الحديث وجمهورِ الفقهاء والمتكلمين، خلافًا لقوم من أصحاب " أبي حنيفة " صاروا
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وما نَقَل عن " الصيرفي " يقرب منه ما قال " ابنُ حزم ": " من أسقطنا حديثه لم نعد لقبوله أبدًا، ومن احتججنا به لم نُسقِط روايته أبدا ". وكذا قاله " ابن حبان " في آخرين. قال النووي: وكل هذا مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيرنا. ولا يقوى الفرق بينه وبين الشهادة. انتهت " 44 / ظ.
انظر تقريب النووي (1/ 330) والأحكام لابن حزم (1/ 131).
** المحاسن:
" فائدة: وقد يعارض هذا أن المثبتَ مُقدَّمٌ على النافي، ولما كان النافي هنا نَفَى ما يتعلق به في أمرٍ يقرُب من المحصور بمقتضى الغالب؛ اقتضى أن يرجح النافي. وكذلك في الشهادة، وفي القاضي إذا شهد عليه الشهودُ بحكم فأنكر حُكمَه، خلافًا لمالك ومحمد بن الحسن وغيرهما في صورة القاضي، وهو الأقربُ لتعلق حقِّ الغير، لا سيما مع الانتشار وكثرة الأحكام. انتهت " 44 / ظ ثم:
" فائدة: والحاكم إذا لم ينكر حكمهم بل توقف، ففي قبول شهادة الشهود لحكمه وجهان عند " الشافعي ": أوقفهما لقول الأكثرين قبولُ الشهادة بحكمه، وقد أجراهما بعض المتأخرين في الشهادة على الشهادة، إذا ظهر توقف الأصل. انتهت ".(1/302)
إلى إسقاطِه بذلك، وبَنوا عليه رَدَّهم حديثَ سليمانَ بنِ موسى، عن الزُّهري عن عُروةَ عن عائشةَ، عن رَسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نكحت المرأةُ بغير إذنِ وَليِّها فنكاحُها باطل " ... الحديث؛ من أجل ِ أن " ابن جُرَيج " قال: " لقيتُ الزهريَّ فسألتُه عن هذا الحديث فلم يعرفْه ". وكذا حديثَ ربيعة الرأي، عن سهيل بنِ أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضَى بشاهدٍ ويمين "؛ فإن عبدالعزيز بنَ محمد الدراوَرْدي " قال: " لقيت سُهَيلاً فسألتُه عنه فلم يعرفه " (1).
والصحيحُ ما عليه الجمهورُ؛ لأن المرويَّ عنه بصددِ السهوِ والنسيانِ، والراوي عنه ثقةٌ جازم؛ فلا يُرَدُّ بالاحتمال ِ روايتُه (2). ولهذا كان " سُهَيلٌ " بعد ذلك يقولُ: " حدثني ربيعةُ عني، عن أبي "، ويسوقُ الحديثَ. وقد روَى كثيرٌ من الأكابرِ أحاديثَ نسَوها بعدما حُدِّثوا بها عن مَنْ سَمِعها منهم، فكان أحدُهم يقولُ: حدَّثني فلانٌ عني عن فلانٍ بكذا وكذا. وجَمع " الحافظُ الخطيبُ " ذلك في كتابِ (أخبار من حَدَّث ونَسِيَ) (2) *.
__________
(1) تمام الخبر في (الإرشاد لأبي يعلى الخليلي): " فكان سهيل يقول بعد ذلك: حدثني ربيعة، وهو ثقة، عني، عن أبي، عن أبي هريرة ". ترجمة سهيل بن أبي صالح، يأتي في الحاشية، فيما يلي، تخريج ما أجمله ابن الصلاح هنا.
(2) مذهب الفقهاء، من أصحاب مالك والشافعي، وجمهور المتكلمين في العمل بحديث رواه ثقة عمن نسيه " وزعم المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة أنه لا يجب العمل به " بينه الخطيب في الكفاية (باب القول فيمن روى حديثًا ثم نسيه؛ هل يجب العمل به أو لا؟) وأخرج حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل .. " الحديث. وقال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه. (ص 380).
ورواه الشافعي من عدة طرق، منها رواية ابن جريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مرفوعًا، بلفظ " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل " - المسند 76 - والإِمام أحمد في حديث عروى عن عائشة - رضي الله عنها -، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في السنن - ك النكاح، باب لا نكاح =
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: والدارقطني قبله، وضع كتابًا في ذلك. انتهت " 44 / ظ.
وعلى الهامش:
" حاشية: من إملاء المصنف وقت القراءة: فائدة: خرج البخاري ومسلم حديثًا فيه علة الإنكار، وهو ما رويناه من طريق عمرو بن دينار أن أبا معبد مولى ابن عباس =(1/303)
.............................................................................................................................
= إلا بِوَليٍّ - وقال الترمذي: حديث حسن قد تكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج قال: ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره، فضعف الحديث من أجل هذا، لكن ذكر عن يحيى بن معين أنه قال: لم يذكر هذا - القول - عن ابن جريج غير ابن علية، وضعف يحيى رواية ابن علية عن ابن جريج. وكذلك قال الحاكم في المستدرك، عن ابن علية عن ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه ... وقال ابن معين: سماع ابن علية من ابن جريج ليس بذاك، قال: وليس أحد يقول فيه هذه الزيادة غير ابن علية. وأخرجه الدارقطني في سننه من حديث أبي بردة عن أبيه، والزهري عن أبي سعيد الخدري، وسعيد بن جبير عن ابن عباس، يرفعونه. ومن رواية ابن جريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، مرفوعًا. ولم يذكر فيه هذه الزيادة. وسئل في (العلل) (3/ 80) عن حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة؛ فقال: " يرويه الزهري، واختلف عنه؛ فرواه عمر بن قيس - أبو حفص المكي - عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة " ووهمه في إسناده ومتنه ثم قال: " وإنما روى الزهري هذا الحديث عن عروة عن عائشة ".
وحديث سهيل في (الكفاية للخطيب) أخرجه من طريق عبدالعزيز بن محمد - هو الدراوردي - وسليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى بشاهد ويمين) وقال عبدالعزيز: فلقيت سهيلا فسألته عنه فلم يعرفه (ص 381) وأخرجه أبو داود في الأقضية، من رواية سليمان بن بلال عن ربيعة وزاد فيه: قال سليمان: فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث فقال: ما أعرفه. فقلت: إن ربيعة أخبرني به عنك، فقال: إن كان ربيعة أخبرك به عني فحدث به عن ربيعة عني. فقال =
___________________________________
= أخبره أن رفع الصوت بالذكر، الحديث (1). وقد أنكر أبو معبد ذلك وقال لعمرو: لم أحدثك بهذا، قال عمرو: قد أخبرتنيه قبل ذلك. ذكر ذلك مسلم والشافعي قبله. قال الشافعي: كأنه نسي (2). ودل إخراج البخاري ومسلم لهذا الحديث على أنهما لم يؤثر عندهما إنكار أبي معبد. واسمه نافذ " 44 / ظ.
__________
(1) البخاري، ك الأذان، باب الذكر بعد الدعاء، من طريق عمرو بن دينار عن أبي معبد عن مولاه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير) ولم يشر البخاري إلى إنكار أبي معبد. وقال ابن حجر: الزيادة - قول عمرو أن أبا معبد أنكره - في مسلم. ثم حرر مسألة رواية الثقة عن راوٍ ينفي أنه حدثه (فتح الباري 2/ 221) وأخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب الذكر بعد الصلاة (ح 120/ 583) من رواية ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد وفيه قال عمرو: فذكرت ذلك لأبي معبد فأنكره وقال: لم أحدثك بهذا. قال عمرو: وقد أخبرنيه قبل ذلك.
(2) مسند الشافعي، من كتاب الصلاة، سماعه من ابن عيينة عن عمرو عن أبي معبد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير). قال عمرو بن دينار: ثم ذكرته لأبي معبد بعد فقال: لم أحدثكه. قال عمرو: " قد حدثتنيه ". قال: وكان من أصدق موالي ابن عباس. أهـ (ص 16).(1/304)
ولأجل ِ أن الإنسانَ معرَّضٌ للنِسيانِ، كَرِهَ منْ كَرِه [31 / ظ] من العلماءِ الروايةَ عن الأحياءِ، منهم " الشافعيُّ " - رضي الله عنه -. قال ابن عبدالحكم: " إياك والروايةَ عن الأحياء " (1). والله أعلم.
الثانية عشرة: مَن أخذ على التحديثِ أجرًا؛ منَعَ ذلك من قبول ِ روايتِه عند قوم ٍ من أئمةِ الحديث. روينا عن إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهَوَيه (2) - أنه سُئل عن المحدِّث يُحدِّث بالأجرِ، فقال: لا يُكتَب عنه. وعن " أحمدَ بن حنبل، وأبي حاتم الرازي " نحو ذلك. وترخَّصَ " أبو نعيم الفضلُ بنُ دكين، وعليُّ بن عبدالعزيز المكي " وآخرون، في أخذِ العِوَض ِ على التحديثِ (3)، وذلك شبِيهٌ بأخذِ الأجرةِ على تعليم القرآنِ ونحوه. غير أن في هذا من حيث العرفُ خَرْمًا للمروءة، والظنُّ يُساءُ بفاعلِه، إلا أن يَقترنَ ذلك بعذرٍ، يَنْفِي ذلك عنه، كمثل ِ ما حدَّثنيه الشيخُ " أبو المظفر، عن أبيه، الحافظ أبي سعد السمعاني " أن " أبا الفضل محمدَ بنَ ناصر السلامي، ذكر أن " أبا الحسين بن النقور " فعل ذلك؛ لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجواز أخذِ الأجرةِ على التحديث؛ لأن
__________
= وكان سهيل أصابته علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه فكان سهيل بعدُ يحدث به عن ربيعة عنه عن أبيه (3/ 309) وأخرجه الترمذي في الأحكام عن الدراوردي وقال: حديث حسن غريب (عارضة 5/ 106) وابن ماجه في الشهادات (ح 1888) والدارقطني في السنن من حديث عدد من الصحابة. ومنها رواية الدراوردي عن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه (ك الأقضية والأحكام، ح 23).
وسئل عنه في (العلل)؛ فقال: يرويه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبيه هريرة. حدث به عنه سليمان بن بلال واختلف عنه ... والصحيح عن سليمان عن ربيعة، وقد بين ذلك زياد بن يونس في روايته عن سليمان، فقال فيه: قال سليمان: فلقيت سهيلا فسألته عنه فلم يعرفه فقلت: حدثني به عنك ربيعة. فقال: فحدث به عن ربيعة عني. ورواه عبدالعزيز الدراوردي عن ربيعة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة ... " العلل (3/ 130) خط.
وقبلهم أخرجه الشافعي من عدة طرق عن عدد من الصحابة، وقال في رواية الدراوردي عن ربيعة عن سهيل عن أبيه: " قال عبدالعزيز: فذكرت ذلك لسهيل قال: أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه، ولا أحفظه. قال عبدالعزيز: وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض حفظه ونسي بعض حديثه، وكان سهيل بعدُ يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه " (مسند الشافعي: 52).
(1) الكفاية للخطيب (ذكر من كره من العلماء التحديث عن الأحياء) 139 - 140.
(2) من (ص) وهامش (غ).
(3) الكفاية للخطيب (باب كراهة أخذ الأجر على التحديث .. وذكر بعض أخبار من كان يأخذ العوض عن التحديث (153 - 157).(1/305)
أصحابَ الحديثِ كانوا يمنعونه عن الكسبِ لعياله " (1) *. والله أعلم (2).
الثالثة عشرة: لا تُقبَلُ روايةُ من عُرَفَ بالتساهل في سماع ِ الحديث أو إسماعه (3)، كمن لا يُبالي بالنوم في مجلس ِ السماع (4)، وكمن يُحدِّثُ لا من أصل ٍ مقابَل ٍ صحيح ٍ. ومن هذا القبيل ِ مَنْ عُرِف بقبول ِ التلقينِ في الحديثِ. ولا تُقبَلُ روايةُ من كثُرت الشواذُّ والمناكيرُ في حديثه. جاء عن " شُعبةَ " أنه قَال: " لا يجيئك الحديثُ الشاذُّ إلا من الرجل ِ الشاذِّ (5) ". ولا تُقبَلُ روايةُ مَنْ عُرِفَ بكثرةِ السهوِ في رواياتِه، إذا لم يُحدِّثْ من أصل ٍ صحيح ٍ.
وكلُّ هذا يخرم الثقة بالراوي وضبطه.
وورد عن " ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، والحميدي " وغيرهم، أن من غلط في حديث وبُيِّنَ له غلطه فلم يرجع عنه وأصرَّ على رواية ذلك الحديث؛ سقطت رواياته، ولم يكتب عنه. وفي هذا نظرٌ، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهةِ العنادِ أو نحوِ ذلك. والله أعلم.
__________
(1) تقييد ابن نقطة، ترجمة أبي الحسين، ابن النقور أحمد بن محمد بن أحمد (ل: 140) والعبر للذهبي (3/ 272).
(2) بلاغ القراءة والسماع بخط العراقي. (ص).
(3) الكفاية للخطيب (152) وتقييد العراقي (155) والتبصرة (1/ 343).
(4) كذا في الأصول. وقال " الزمخشري " في (الأساس): لا أباليه ... هو أفصح من: لا أبالي به.
(5) الخطيب في الكفاية (باب ترك الاحتجاج بمن غلب على حديثه الشواذ ورواية الغرائب والمناكير) 141، و (باب ترك الاحتجاج بمن كثر غلطه وكان الوهم غالبًا على رواياته) 144، وانظر أيضًا في الكفاية (باب رد حديث من عرف بقبول التلقين، وباب ترك الاحتجاج بمن عرف بالتساهل في رواية الحديث) وابن حبان في المجروحين (النوع 16 ص 1/ 78).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا قوي. وفي (صحيح البخاري) (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتابُ الله ". انتهت " 45 / ظ.
__________
(1) في كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقبة على أحياء العرب بفاتحة القرآن (وانظر معه فتح الباري 4/ 304) وأخرجه كذلك في كتاب الطب، أبواب الرقية، باب الشرط في الرقية. وانظر في باب التزويج على القرآن بغير صداق (فتح الباري 9/ 161).(1/306)
[32 / و] الرابعة عشرة: أعرَض الناسُ في هذه الأعصارِ المتأخِرَة عن اعتبارِ مجموع ِ ما بَيَّنَّا من الشروطِ في رُواة الحديثِ ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم لتعذرِ الوفاء بذلك على نجوِ ما تقدم، وكان عليه مَنْ تَقَدَّم، ووجهُ ذلك ما قدمناه في أول ِ كتابِنا هذا من كونِ المقصودِ آل آخِرًا إلى المحافظةِ على خصيصةِ هذه الأمةِ في الأسانيدِ والمحاذرةِ من انقطاع سلسلتِها، فليُعتبَرْ من الشروطِ المذكورةِ ما يليقُ بهذا الغرِض على تجرُّدِه، وليُكتَفَ في أهليَّةِ الشيخ: بكونِه مسلمًا بالغًا عاقلا، غيرَ متظاهرٍ بالفسق والسخف، وفي ضبطه: بوجود سماعِه مثبتًا بخطٍ غير متَّهم، وبروايتِه من أصل ٍ موافِقٍ لأصل ِ شيخِه. وقد سبق إلى نحوِ ما ذكرناه " الحافظ الفقيهُ أبو بكر البيهقي " - رحمه الله تعالى -. فإنه ذكر فيما رويناه عنه، توسُّعَ مَنْ توسَّع في السماع من بعض محدِّثي زمانِه الذين لا يحفظون حديثَهم، ولا يحسنون قراءتَه من كتبهم، ولا يعرفون ما يُقرَأ عليهم بعد أن تكون القراءةُ عليهم من أصل سماعِهم، ووجَّه ذلك بأن الأحاديث التي قد صَحَّتْ أو وقفت بين الصحةِ والسقم، قد دُوِّنتْ وكُتِبَتْ في الجوامع التي جمعها أئمةُ الحديث. ولا يجوز أن يذهبَ شيءٌ منها على جميعِهم وأن جاز أن يذهبَ على بعضِهم؛ لضمانِ صاحبِ الشريعة حِفظَها. قال: فمن جاء اليومَ بحديثٍ لا يوجَدُ عند جميعِهم لمْ يُقْبَلْ منه. ومن جاء بحديثٍ معروفٍ عندهم فالذي يرويه لا ينفردُ بروايتِه، والحجةُ قائمةٌ بحديثِه بروايةِ غيرهِ. والقصدُ من روايته والسماع منه؛ أن يصير الحديثُ مسلسلا بـ: حدثنا، وأخبرنا. وتبقى هذه الكرامةُ التي خُصَّتْ بها هذه الأمةُ شرفًا لنبيِّنا المصطفى - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -. والله أعلم.
الخامسة عشرة: في بيانِ الألفاظِ المستعملة من أهل هذا الشأنِ في الجرح ِ والتعديل. وقد رتبها " أبو محمد عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي " في كتابه [32 / ظ] في (الجرح والتعديل) (1) فأجاد وأحْسَنَ. ونحن نُرتبها كذلك، ونورد ما ذكره، ونضيف إليه ما بلَغنا في ذلك عن غيرِه، إن شاء الله تعالى.
أما ألفاظ التعديل فَعلى مراتب:
الأولى: قال " ابنُ أبي حاتم ": إذا قيل للواحدِ إنه ثقةٌ أو مُتقِنٌ؛ فهو ممن يُحتَجُّ بحديثِه.
__________
(1) (باب بيان درجات رواة الآثار): 2/ 37.(1/307)
قال الشيخ - أبقاه الله -: وكذا إذا قيل: ثَبْتٌ *، أو: حُجة. وكذا قيل في العدل: إنه حافظٌ ضابط. والله أعلم.
الثانية: قال " ابنُ أبي حاتم ": إذا قيل: إنه صدوق، أو: محلُّه الصدقُ، أو: لا بأس به؛ فهو ممن يُكتَبُ حديثُه وينظر فيه، وهي المنزلةُ الثانية.
قال الشيخ - أبقاه الله -: هكذا كما قال؛ لأن هذه العباراتِ لا تشعِرُ بشريطةِ الضبطِ، فينظرَ في حديثِه، ويُختبَر حتى يُعرَفَ ضبطُه، وقد تقدم بيانُ طريقِه في أول ِ هذا النوع. وإن لم نستوفِ النظرَ المعرِّفَ لكونِ ذلك المحدِّثِ في نفسِه ضابطًَا مطلقًا، واحتجنا إلى حديثٍ من حديثِه؛ اعتبرنا ذلك الحديثَ ونظرنا: هل له أصلٌ من روايةِ غيره؟ كما تقدم بيانُ طريقِ الاعتبارِ في (النوع الخامس عشر).
ومشهورٌ عن " عبدالرحمن بن مهدي " القدوةِ في هذا الشأنِ، أنه حدَّث فقال: " حدثنا أبو خلدةَ " فقيل له: أكان ثقة؟ فقال: "كان صدوقًا وكان مأمونًا وكان خَيِّرًا - وفي روايةٍ: كان خيارًا - الثقةُ شُعبةُ وسُفيانُ " **.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ثبت، ذكرها " ابنُ أبي حاتم ". انتهت " 46 / و.
- قال العراقي - وذكر مثل هذا الاعتراض -: " وليس في النسخ الصحيحة من كتابه - الجرح والتعديل - إلا ما نقله المصنف عنه كما تقدم، ليس فيه ذكر (ثبت) وفي بعض النسخ: إذا قيل للواحد إنه ثقة أو متقن ثبت؛ فهو ممن يحتج بحديثه، هكذا في نسختي منه، أو: متقن ثبت، لم يقل فيه: أو ثبت ". التقييد 158.
** المحاسن:
" فائدة: ذكر " الخطيب " الحكايةَ فقال: الثقةُ مثل شعبةَ ومِسْعرِ بن كِدَام. انتهت " 46 / و.
قلت: في نسختنا من الكفاية، ط حيدرأباد، الهند: " الثقة شعبة وسفيان " كما ذكر ابن الصلاح.
وكذلك أسنده ابن أبي حاتم عن عبدالرحمن بن مهدي، وقيل له: أبو خلدة ثقة؟ فقال: كان صدوقًا وكان مأمونًا، الثقة سفيان وشعبة ". الجرح والتعديل (2/ 37).
وابن حبان، في مقدمات كتابه الضعفاء: 1/ 49.(1/308)
ثم إن ذلك مخالِفٌ لما وردَ عن " ابن أبي خيثمة "، قال: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: فلانٌ ليس به بأس، وفلان ضعيف. قال: إذا قلتُ لك: ليس به بأس؛ فهو ثقة. وإذا قلت لك: هو ضعيف؛ فليس هو بثقةٍ، لا تكتبْ حديثَه (1).
قال الشيخ - أبقاه الله -: لسي في هذا حكايةُ ذلك عن غيرِه من أهل ِ الحديث، فإنه نسبَه إلى نفسِه خاصّةً بخلاف ما ذكره " ابن أبي حاتم ". والله أعلم.
الثالثة: قال " ابنُ أبي حاتم ": إذا قيل: شيخ؛ فهو بالمنزلةِ الثالثةِ، يُكتَبُ حديثُه، ويُنظَر فيه، إلا أنه دونَ الثانية (2).
الرابعة: قال: إذا قيل: صالح الحديث؛ فإنه يُكتَبُ حديثُه للاعتبار.
قال الشيخ - أبقاه الله -: وجاء عن " أبي جعفر أحمد بن سنان " قال: كان " عبدالرحمن بن مهدي " ربما جرَى ذكرُ حديثِ الرجل فيه ضعفٌ وهو رجل صدوق فيقول: " رجلٌ صالحُ الحديث ". والله أعلم.
وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضًا على مراتبَ:
أولاها: قولهم: ليِّن الحديث. قال " ابنُ أبي حاتم ": إذا أجابوا في الرجل بـ: لَيِّنِ الحديثِ؛ فهو ممن يُكتَبُ حديثُه وينظَر فيه اعتبارًا.
قال الشيخُ - أبقاه الله -: وسأل " حمزةُ بن يوسفَ السهمي " أبا الحسن الدارقطني الإمامَ "، فقال له: إذا قلتَ: فلان لين، أَيْش (3) تريد به؟ قال: " لا يكون ساقطًا متروكَ الحديث ِ، ولكن مجروحًا بشيء لا يسقِطُ عن العدالة ".
__________
(1) الكفاية للخطيب، بإسناده (معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات) ص 22.
(2) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ السماع بقراءتي في المجلس الثالث عشر. وعلى هامش (ص) بلاغ قراءة الناصر ابن العديم وسماع عمه زين الدين عبدالرحمن والشمس ابن خليل الحلبي. كتبه عبدالرحيم بن الحسين ص (24 أ).
(3) من (غ، ز، ع) ومتن ص. وعلى هامشه: صوابه أي شيء (24 أ)، وهو في كفاية الخطيب بسنده إلى حمزة السهمي: أيش تريد به؟ (23) ومثله في (سؤالات حمزة بن يوسف السهمي مشايخ عصره في جرح بعض الراوة وتعديلهم، من سؤاله لشيخه الدارقطني: فوائد حديثية، (ل 3 / أ) وقوبلت بقول ابن الصلاح في هذا النوع عن ابن أبي حاتم، على مقدمات كتابه (الجرح والتعديل 2/ 37، 38).(1/309)
الثانية: قال " ابنُ أبي حاتم ": إذا قالوا: ليس بقويٍّ؛ فهو بمنزلةِ الأول في كَتْبِ حديثِه، إلا أنه دونه.
الثالثة: قال: إذا قالوا: ضعيف الحديث؛ فهو دونَ الثاني، لا يُطرح حديثُه بل يُعتبر به.
الرابعة: قال: إذا قالوا: متروك الحديث، أو: ذاهب الحديث، أو: كذاب؛ فهو ساقطُ الحديثِ، لا يُكتَبُ حديثُه، وهي المنزلة الرابعة.
قال " الخطيب أبو بكر ": أرفعُ العباراتِ في أحوال ِ الرواةِ أن يقال: حجة، أو: ثقة. وأَدْوَنُها أن يُقال: كذاب ساقط (1).
أخبرنا " أبو بكر بن عبدالمنعم الصاعدي الفراوي " قراءةً عليه بنيسابورَ: أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ، أخبرنا أبو الحسين بن الفضل، أخبرنا عبدالله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعت أحمد بن صالح قال: لا يُترَكُ حديثُ رجل ٍ حتى يجتمعَ الجميعُ على ترك حديثِه. قد يقال: فلانٌ ضعيف، فأما أن يقال: فلانٌ متروكٌ؛ فلا، إلا أن يُجمِع الجميعُ على تركِ حديثه " (2).
ومما لم يشرحه " ابنُ أبي حاتم " وغيرُه منَ الألفاظِ المستعملة [34 / ظ] في هذا الباب قولُهم: فلانٌ قد روى الناسُ عنه، فلانٌ وسَطٌ، فلان مقارِبُ الحديثِ *، فلانٌ مضطرِبُ
__________
(1) في الكفاية: (معرفة ما يستعمل أصحاب الحديث من العبارات في صفة الأخبار وأقسام الجرح والتعديل).
(2) رواه الخطيب أيضًا من طريق شيخه محمد بن الحسين القطان، أبي الحسين ابن الفضل، عن عبدالله بن جعفر - هو ابن درستويه - عن يعقوب بن سفيان الفسوي، عن أحمد بن صالح المصري (الكفاية: باب القول في الجرح؛ هل يحتاج إلى كشف أو لا؟) 110.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: مقارِب الحديث، بكسر الراء، من ألفاظ التعديل. وسَوَّى " البطليوسي " بين الفتح والكسر. وفيه نظر؛ فالفتح تجريح، تقول: هذا تبر مقارَب، أي رديء. ذكره ثعلب " 46 / ظ.(1/310)
الحديثِ، فلانٌ لا يُحتَجُّ به، فلانٌ مجهولٌ، فلانٌ لا شيء، فلانٌ ليس بذاكَ - وربما قيل: ليس بذاك القوي -، فلانٌ فيه، أو في حديثه: ضعف - وهو في الجرح أقلُّ من قولهم: فلانٌٌ ضعيف الحديث - فلانٌ ما أعلمُ به بأسًا. وهو في التعديل دونَ قولهم: لا بأس به (1).
وما من لفظةٍ منها ومن أشباهها إلا ولها نظيرٌ شرحناه أو أصلٌ أصَّلناه، نُنبِّهُ - إن شاء الله تعالى - به عليها. والله أعلم (2).
__________
(1) انظر معه تقييد العراقي (161، 162) والتبصرة (2/ 6 - 11).
(2) على هامش (غ) لابن الفاسي: بلغت المقابلة بأصل قوبل بأصل الشيخ - رحمه الله -، ثم بلغ مقابلة عليه ثانية.
وعلى هامش ص (24 أ) بلاغ قراءة ناصرالدين العديم، وسماع عمه زين الدين عبدالرحمن، والشمس محمد بن خليل الحلبي. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.(1/311)
النوع الرابع والعشرون:
معرفة كيفية سماع الحديثِ وتحمُّلِه وصفة ضبطه.
اعلم أَن طرقَ نقل ِ الحديثِ وتحمُّلهِ على أنواع ٍ متعددة، ولنقدِّمْ على بيانِها ببيانَ أُمورٍ:
أحدها: يَصحُّ التحمُّلُ قبلَ وجودِ الأهليَّة، فُتقبلُ روايةُ من تَحَمَّلَ قبلَ الإسلام وروَى بعدَه، وكذلك روايةُ مَن سمع قبل البلوغ وروَى بعده. ومنع من ذلك قومٌ، فأخطئوا؛ لأن الناسَ قَبِلوا روايةَ أحداثِ الصحابةِ كـ: " الحسنِ بن علي، وابنِ عباس، وابنِ الزُّبَيْر، والنعمانِ بنِ بَشير " (1)، وأشباهِهم، من غيرِ فرقٍ بين ما تحملوه قبل البلوغ وما بعده. ولم يزالوا قديمًا وحديثًا يُحضِرون الصبيانَ مجالسَ التحديثِ والسماع ِ. ويعتدون بروايتِهم لذلك *. والله أعلم.
الثاني: قال " أبو عبدالله الزبيري " (2): يُستَحَبُّ كَتْبُ الحديثِ في العشرين؛ لأنها مُجتَمع العقل، وأحِبُّ أن يشتغلَ دونَها بحفظِ القرآنِ والفرائض.
__________
(1) ذكرهم الخطيب، وآخرين غيرهم، في الكفاية (باب ما جاء في صحة سماع الصغير): 55.
(2) بهامش (غ): [هو أبو عبدالله الزبير بن أحمد الشافعي البصري].
- انظر ترجمته في تاريخ بغداد (8/ 471) وتهذيب النووي (2/ 251 ف 381) وقوله هنا في سن السماع، حكاه ابن خلاد الرامهرمزي في (المحدث: 187 ف 51) والخطيب في الكفاية من طريقه (55) والقاضي عياض في الإِلماع (65) من طريق الرامهرمزي أيضًا.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: الاعتداد بتحملهم في حال الصِّبا، ليرووه بعد البلوغ، هو المعروف. وشذ قوم فجوَّزوا رواية الصبي قبل بلوغه، وهو وجهٌ عند الشافعية. والمشهور الأول. ولهم وجه آخر بالمنع من التحمل قبل البلوغ، وقد تقدمت حكايته عن قوم. انتهت " 47 / و.(1/312)
وورد عن " سفيان الثوري " قال: كان الرجلُ إذا أراد أن يطلبَ الحديثَ تعبَّد قبل ذلك عشرينَ سنة. (1) وقيل لـ " موسى بن إسحاق ": كيف لم تكتب عن أبي نُعَيْم؟ فقال: كان أهلُ الكوفة لا يُخرِجون أولادَهم في طلبِ الحديثِ صغارًا، حتى يستكملوا عشرين (2) سنة. * وقال " مُوسى بن هارون ": أهلُ البصرة يكتبون لِعَشرِ سنينَ، وأهلُ الكوفة لعشرين، وأهلُ الشام لِثلاثين. (3). والله أعلم.
قال الشيخ - أبقاه الله -: [35 / و] وينبغي بعد أن صار الملحوظُ إبقاءَ سلسلةِ الإِسناد، أن يُبَكِّر بإسماع الصغيرِ في أول ِ زمانٍ يصحُّ فيه سماعه.
وأما الاشتغالُ بِكِتْبَةِ (4) الحديثِ وتحصيله وضبطِه وتقييده؛ فمن حين يتأهلُ لذلك ويستعد له. وذلك يختلف باختلافِ الأشخاص، وليس ينحصر في سِنٍّ مخصوص (5) كما سبق ذكره آنفًا عن قوم. والله أعلم.
__________
(1) رواه الرامهرمزي في (المحدث الفاصل: 187) والخطيب في (الكفاية: 54).
(2 - 3) (بسندهما إلى أبي عاصم - النبيل، الضحاك بن مخلد - عن الثوري (المحدث الفاصل: 186 ف 48) والكفاية (54، 55) من طريق الرامهرمزي، والقاضي عياض، من طريقه كذلك، في الإلماع (64، 65).
(4) الضبط من الأصول بكسر الكاف. وفي (القاموس): والكتبة: بالضم: السير يخرز به، وبالكسر: اكتتابك كتابًا تنسخه.
(5) كذا في الأصول، ومتن ابن الصلاح في مطبوعة التقييد والإيضاح 164، وتضمينه في (تدريب الراوي 2/ 4) والذي في القاموس: السن .. مؤنثة، وأسنَّ كبرت سنه. وانظرها في (الأساس).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا ينافي ذلك ما ذُكر من أن أبا نعيم، الفضل بن دكين الكوفي، مَرَّ [بمحمد بن عبدالله بن سليمان] الملقب بمُطَّين - صغيرًا، وقد تلطخ بالطين، فقال له: يا مطين، قد آن لك أن تحضر مجلسنا للسماع (1)؛
لأنا نقول: لعل أبا نعيم ظهر له منه النجابةُ، فخالف به العادة. انتهت " 47 / ظ.
__________
(1) الحاكم في علوم الحديث، بسنده إلى أبي جعفر الحضرمي - مطين - (212) ووقع في اسمه هنا بالمحاسن: [مر بعبدالرحمن الملقب بمطين]. والصحيح: محمد بن عبدالله بن سليمان، أبو جعفر الحضرمي الكوفي الحافظ (تذكرة الحفاظ 2/ 662، والعبر، وفيات سنة 297 هـ، وطبقات الحفاظ 288 ت. 660).
وانظره فيما يلي في النوع الثاني والخمسين (معرفة ألقاب المحدثين)، واسمه فيها على صواب.(1/313)
الثالث: اختلفوا في أول ِ زمان يصحُّ فيه سماعُ الصغير. فروينا عن " موسى بن هارون الحمَّال " أحدِ الحُفَّاظِ النُقَّاد: أنه سئل: متى يسمع الصبيُّ الحديثَ؟ فقال: إذا فرَّق بين البقرةِ والدابة - وفي رواية: بين البقرة والحمار (1).
وعن " أحمدَ بنِ حنبل " - رضي الله عنه - أنه سئل: متى يجوزُ سماعُ الصبيِّ للحديثِ؟ فقال: إذا عَقَلَ وضبط. فُذكِرَ له عن رجل أنه قال: لا يجوز سماعُه حتى يكون له خمسَ عشرة سنة. فأنكر قولَه وقال: بئس القولُ (2).
وأخبرني الشيخ أبو محمد عبدُالرحمن بنُ عبدِالله الأسدي، عن أبي محمد عبدِالله بنِ محمد الأشيري، عن القاضي الحافظ عياض بن موسى السَّبْتي اليَحْصُبي، قال: قد حدَّد أهلُ الصنعةِ في ذلك أن أقلَّه سِنُّ محمود بن الربيع. وذكَر روايةَ البخاري في (صحيحه) بعد أن ترجم (متى يصح سماعُ الصغير) بإسنادِه عن " محمود بن الربيع " قال: " عقلتُ من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابنُ خمس ِ سنينَ، من دَلْو ". وفي رواية أخرى أنه كان ابن أربع سنين (3).
__________
(1) الروايتان في الكفاية (65) بسند الخطيب إلى يزيد بن هارون الحمال، أبي عمران البغدادي.
(2) أسنده الخطيب إلى عبدالله بن أحمد عن أبيه (الكفاية: 64).
(3) القاضي عياض في الإلماع (باب متى يستحب سماع الطالب ومتى يصح سماع الصغير) وأخرج الحديث من رواية الزبيدي - أبي الهذيل الحمصي محمد بن الوليد - عن الزهري عن محمود بن الربيع، وزاد: وفي رواية أخرى أنه كان ابن أربع سنين (63) وأخرجه الخطيب في باب ما جاء في صحة سماع الصغير، من طريق يعقوب بن سفيان عن عبدالرحمن بن نمر عن الزهري عن محمود، وفيه قال: " وأنا ابن خمس سنين " (الكفاية). وأخرجه البخاري في كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير، من رواية الزبيدي عن الزهري. قال ابن حجر: " قوله: وأنا ابن خمس سنين: لم أر التقيد بالسن عند تحمله في شيء من طرقه، لا في الصحيحين ولا في غيرهما من الجوامع والمسانيد، إلا في طريق الزبيدي هذه. والزبيدي من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري .. وقد تابعه عبدالرحمن بن نمر عن الزهري ومن لفظه، عند الطبراني والخطيب في الكفاية. وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس سنين. وقد ذكر ابن حبان وغيره أن الربيع مات سنة تسع وتسعين وهو ابن أربع وتسعين، وهو مطابق لهذه الرواية. وذكر القاضي عياض في الإِلماع وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا النص صريحًا في شيء من الروايات مع التتبع التام، إلا إن كان ذلك مأخوذًا من قول صاحب الاستيعاب أنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أو خمس. وكان الحامل له على هذا التردد قول الواقدي إنه كان ابن ثلاث وتسعين لما مات. والأول أولى بالاعتماد لصحة إسناده. على أن قول الواقدي يمكن حمله على أنه ألغى الكسر، وجَبَره غيره. والله أعلم " (فتح الباري 1/ 126) مع ترجمة محمود بن الربيع، الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه - في (الاستيعاب) والإِصابة.(1/314)
قال الشيخ - أبقاه الله -: التحديدُ بخمس ٍ هو الذي استقر عليه عملُ أهل ِ الحديث المتأخرين، فيكتبون لابنِ خمس ٍ فصاعدًا: سمع، ولمن لم يبلغ خَمْسًا: حضَر، أو: أُحضِر. والذي ينبغي في ذلك أن نعتبرَ في كلِّ صغيرٍ حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعا عن حال ِ مَن لا يَعقل فهمًا للخطاب وردًّا للجواب ونحو ذلك؛ صحَّحنا سماعَه وإن كان دونَ خمس ٍ، وإن لم يكن كذلك؛ لم نُصححْ سماعَه وإن كان ابن خمس ٍ، بل ابنَ خمسين (1).
وقد بلغنا عن " إبراهيم بن سعيد الجوهري " قال: " رأيتُ صبِيًّا ابن أربع سنين قد حُمِلَ إلى " المأمون " قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي " (2). وعن " القاضي أبي محمد عبدالله بن محمد الأصبهاني " قال: " حفظتُ القرآن ولي خمسُ سنين، وحُمِلتُ إلى " أبي بكر (3) بن المقرئ " لأسمع منه، ولي أربع سنين، فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قُرئ فإنه صغير. فقال لي ابن المقرئ: اقرأ (سورة الكافرون) فقرأتها، فقال: اقرأ (سورة التكوير) فقرأتها، فقال لي غيره: اقرأ (سورة المرسلات) فقرأتها ولم أغلط فيها. قال ابن المقرئ: سَمَّعوا له والعُهْدةُ عليَّ " (4).
وأما حديث " محمود بن الربيع " فيدلُّ على صحة ذلك من ابن خمس ٍ مثل محمود، ولا يدلُّ على انتفاء الصحة فيمن لم يكن ابن خمس ٍ، ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ٍ ولم يميز تمييز محمود - رضي الله عنه -. والله أعلم.
__________
(1) مضمونه في طرة على هامش (غ).
(2) حكاها الخطيب، بإسناده إلى الصاغاني عن إبراهيم بن سعيد الجوهري. (الكفاية: 64).
(3) في (ص): إلى [أبي بكر المقرئ].
(4) بنصه في (الكفاية: 64) سماع الخطيب من شيخه القاضي أبي محمد عبدالله بن محمد الأَصبهاني، المعروف بابن اللبان. وحكاها كذلك، في ترجمة شيخه سماعًا منه. في (تاريخ بغداد: 1/ 144 ت 529).
وما حكاه الخطيب عن الصبي الذي حمل إلى المأمون، وما سمعه من شيخه القاضي أبي محمد ابن اللبان، من مسموعات التاج السبكي من شيخه علم الدين أبي محمد البرزالي، حدثه بها من طريق الخطيب أبي بكر (معجم شيوخ السبكي: 1/ 290) مخطوط دار الكتب بالقاهرة.(1/315)
بيان أقسام طرق نقل الحديث وتحمله، ومجامعها ثمانية أقسام:
الأول: السماع من لفظ الشيخ. وهو ينقسم إلى إملاء، وتحديث من غير إملاء، وسواء كان من حفظه أو من كتابه. وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير. وفيما نرويه عن " القاضي عياض بن موسى السبتي " أحد المتأخرين المطَّلعين، قوله: لا خلاف أنه يجوز في هذا أن يقول السامع منه: حدثنا وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت فلانًا يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان " (1).
قال الشيخ - أبقاه الله -: في هذا نظر، وينبغي فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصًا بما سُمع من غير لفظ الشيخ - على ما نبينه إن شاء الله تعالى - ألا يُطلق فيما سُمِع من لفظ الشيخ لما فيه من الإِيهام والإِلباس. والله أعلم.
وذكر " الحافظ أبو بكر الخطيب " [36 / و] أن أرفع العبارات في ذلك: سمعت، ثم حدثنا وحدثني؛ فإنه لا يكاد أحدٌ يقول: سمعت، في أحاديث الإجازة والمكاتبة، ولا في تدليس ما لم يسمعه (2).
وكان بعض أهل العلم يقول فيما أجيز له: حدثنا. وروى عن " الحسن " أنه كان يقول: حدثنا أبو هريرة. ويتأول أنه حدَّث أهل المدينة. وكان " الحسن " إذ ذاك بها، إلا أنه لم يسمع منه شيئًا (3).
__________
(1) الإِلماع للقاضي عياض: 69.
(2) كفاية الخطيب: 284.
(3) على هامش (غ): [قال المؤلف: قال " علي بن المديني " فيما روينا عنه: قول الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة، إنما هو كقول ثابت: قدم علينا عمران بن حصين، ومثل قول مجاهد: خرج علينا علي. وقال علي ابن المديني: الحسن لم يسمع من ابن عباس وما رآه قط، كان بالمدينة أيام كان ابن عباس بالبصرة. والله أعلم ". وجدته بخطه - أعني شيخنا - فنقلته] وانظره في (علل ابن المديني: 51).
وعبارة الخطيب في الكفاية: " وروي عن الحسن أنه كان يقول: ثنا أبو هريرة، ويتأول أنه حدث أهل البصرة، والحسن منهم. وكان الحسن إذ ذاك بالمدينة فلم يسمع منه شيئًا. ولم يستعمل قول: سمعت، في شيئ من ذلك ". باب ما جاء في عبارة الرواية عما سمع من المحدث لفظًا: ص 284.
وأسند الطبري من طريق عمرو بن علي الفلاَّس عن عفان بن مسلم عن وهيب بن خالد الباهلي أبي بكر البصري، عن أيوب السختياني، قال: " لم يسمع الحسن من أبي هريرة ". ومن طريق عمرو بن علي أيضًا عن أبي قتيبة، سلم بن قتيبة، عن شعبة، قال: قلت ليونس بن أبي إسحاق السبيعي: أسمع الحسن من أبي هريرة؟ قال: لا، ولا حرفا ". (المنتخب من ذيل المذيل: 637).(1/316)
قلت: ومنهم من أثبت له سماعًا من أبي هريرة *. والله أعلم.
ثم يتلو ذلك قول: أخبرنا. وهو كثير في الاستعمال، حتى إن جماعة من أهل العلم كانوا لا يكادون يخبرون عما سمعوه من لفظ من حدثهم إلا بقولهم: أخبرنا. منهم: حماد بن سلمة، وعبدالله بن المبارك، وهُشَيمُ بن بَشير، وعُبيدالله بن موسى، وعبدالرزاق بن همام، ويزيد بن هارون، وعمرو بن عون، ويحيى بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهويه، وأبو مسعود أحمد بن الفرات، ومحمد بن أيوب الرازيان، وغيرهم (1). وذكر " الخطيب " عن محمد بن رافع، قال: " كان عبدالرّزاق يقول: أخبرنا. حتى قدم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فقالا له: قل: حدثنا؛ فكل ما سمعت مع هؤلاء قال: حدثنا، وما كان قبل ذلك؛ قال: أخبرنا " (2).
وعن " محمد بن أبي الفوارس الحافظ " قال: هُشيم، ويزيد بن هارون، وعبدالرزاق لا يقولون إلا: " أخبرنا ". فإذا رأيت " حدثنا " فهو من خطأ الكاتب (3). والله أعلم (4).
قال الشيخ - أبقاه الله -: وكان هذا كلُّه قبل أن يشيع تخصيصُ " أخبرنا " بما قُرئ على الشيخ.
ثم يتلو قولَ: أخبرنا، قولُ: أنبأنا، وهو قليلٌ في الاستعمال.
قال الشيخ: " حدثنا، وأخبرنا " أرفع من " سمعت " من جهة أخرى، وهي أنه ليس في " سمعت " دلالةٌ على أن الشيخ روَّاه الحديث وخاطبه به، وفي " حدثنا، وأخبرنا " دلالةٌ على أنه خاطبه به [36 / ظ] ورواه له، أو هو ممن فُعِلَ به ذلك. سأل " الخطيبُ أبو بكر الحافظ " شيخه " أبا بكر البرقاني، الفقيهَ الحافظ " - رحمهما الله تعالى - عن السرِّ في كونه
__________
(1) قاله الخطيب في الكفاية: 285.
(2) الكفاية، بسند الخطيب إلى محمد بن رافع القشيري، مولاهم أبي عبدالله النيسابوري الحافظ الزاهد.
(3) الكفاية، بسند الخطيب إلى ابن أبي الفوارس، محمد بن محمد بن فارس، أبي الفتح البغدادي.
(4) على هامش ص: (26 أ) بلغ ناصرالدين ابن العديم قراءة بحث، وعمه زين الدين عبدالرحمن وشمس الدين الحلبي سماعًا. كتبه عبدالرحيم بن الحسين.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد كتبت جزءًا سميته (القول الحسن في ترجمة الحسن) بسطتُ القول فيه في ذلك وفي غيره، فلينظر منه. انتهت " 48 / و.(1/317)
يقولُ فيما رواه لهم عن " أبي القاسم عبدالله بن إبراهيم الجرجاني الآبندوني " (1): سمعت، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا. فذكر له أن " أبا القاسم " كان مع ثقتِه وصلاحِه، عسيرًا] (2) في الروايةِ، فكان " البرقاني " يجلسُ بحيث لا يراه أبو القاسم ولا يعلم بحضورِه، فيسمع منه ما يُحدِّث به الشخصَ الداخلَ إليه، فلذلك يقول: سمعت، ولا يقول: حدثنا، ولا: أخبرنا؛ لأن قصده كان الرواية للداخل إليه وحده.
وأما قوله: قال لنا فلان، أو: ذكر لنا فلانٌ؛ فهو من قبيل قوله: حدثنا فلان، غير أنه لائقٌ بما سمعه منه في المذاكرة، وهو به أشبه من " حدَّثنا ".
وقد حكينا في فصل التعليق عقيب (النوع الحادي عشر) عن كثير من المحدِّثين استعمال ذلك، معبِّرين به عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات. وأوضع (3) العبارات في ذلك أن يقول: " قال فلان " أو: " ذكر فلانٌ " من غير ذكر قوله: لي، ولنا، ونحو ذلك.
وقد قدَّمنا في (فصل الإِسناد المعنعن) أن ذلك وما أشبهه من الألفاظ، محمولٌ عندهم على السماع إذا عُرِفَ لقاؤه له وسماعه منه على الجملة، لا سيما إذا عُرِفَ من حاله أنه لا يقول: " قال فلان " إلا فيما سمعه منه.
وقد كان " حجاج بن محمد الأعور " يروي عن " ابن جريج " كتبه، ويقول فيها: " قال ابن جريج " فحملها الناس عنه، واحتجوا برواياته، وكان قد عُرِفَ من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه. وقد خصَّص " الخطيب أبو بكر الحافظ " القولَ بحمل ذلك على السماع، بمن عُرِفَ من عادته مثلُ ذلك (4).
والمحفوظ المعروف ما قدمنا ذكره. والله أعلم.
القسم الثاني: من [37 / و] أقسام الأخذ والتحمُّل: القراءة على الشيخ. وأكثر المحدِّثين يسمونها: عرضًا، من حيث إن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه، كما يَعرِضُ القرآن على المقرئ. وسواءٌ كنت أنت القارئ، أو قرأ غيرُك وأنت تسمع، وقرأت من
__________
(1) [قال المؤلف: آبندون: قرية من قرى جرجان] من هامش (غ، ص) والضبط بفتح الألف الممدودة والباء الموحدة، وسكون النون وضم الدال المهملة وفي آخره نون، من (اللباب: 1/ 17).
(2) في طبعة الهند من الكفاية: " عسرًا في الرواية " 287.
(3) من الوضع، بمعنى ما وضعوه في مصطلحهم.
(4) كفاية الخطيب: 290 (باب ما جاء في عبارة الرواية عما سمع).(1/318)
كتاب أو من حفظك، أو كان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه، أو لا بحفظ لكن يمسك أصله، (1) هو أو ثِقةٌ غيره.
ولا خلاف أنها روايةٌ صحيحةٌ، إلا ما حُكي عن بعض من لا يُعتدُّ بخلافه *. والله أعلم.
__________
(1) الإِلماع: 70.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ذكر " الرامهرمزي " في كتابه (الفاصل) في باب القراءة على المحدِّث، بإسناد إلى " ابن ماجشون " قال: " حضرت مالكًا وأتاه رجل من الصوفية، فسأله عن ثلاثة أحاديث يحدثه بها، فقال " مالك ": اعرضْها إن كان لك حاجة. فقال: يا أبا عبدالله، إن العض لا يجوز عندنا، فقال له " مالك ": فأنت أعلم. فأتاه مرارًا، كل ذلك يقول: اعرضها إن كانت لك حاجة، فيقول: العرض لا يجوز ". وساق الحكاية (1) وأسند في أول الباب (2) عن " أبي عاصم النبيل " قال: " سمعت سفيان وأبا حنيفة ومالكًا وابن جريج، كل هؤلاء سمعتهم يقولون: لا بأس بها - يعني القراءة - وأنا لا أراه، وما حدثت بحديث عن أحد من الفقهاء قراءة ". وأسند إلى " عبدالرحمن بن سلاَّم " قال: " دخلت على مالك بن أنس وعلى بابه من يحجبه، فقال - وبين يديه " ابن أبي أُويس - وهو يقول: حدثك نافع؟ حدثك ابن شهاب؟ حدثك فلان وفلان؟ فيقول مالك: نعم، نعم. فلما فرغ قال: يا أبا عبدالله، عَوِّضني عما حدثته بثلاثة أحاديث تقرؤها عليَّ. قال: أعراقي؟ أعراقي؟ أخرجوه عني ". وما ذهب إليه العلماء إلا ما شذَّ منهم، مُستَندُه حديث " ضمام بن ثعلبة " وهو في الصحيح (3). " 48 / ظ 49 / و.
__________
(1) الرامهرمزي، القاضي ابن خلاد: المحدث الفاصل 423 فقرة 469.
(2) باب القراءة على المحدث، من كتاب المحدث الفاصل: 421 ف 459.
بإسناده إلى ابن الماجشون، عبدالملك بن عبدالعزيز بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون، أبي مروان المدني.
(3) في صحيح البخاري، كتاب العلم (باب القراءة والعرض على المحدث) عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على =(1/319)
واختلفوا في أنها مثل السماع من لفظ الشيخ في المرتبة، أو دونه، أو فوقه؛ فنُقِلَ عن " أبي حنيفة وابن أبي ذئب " وغيرهما، ترجيح القراءة على الشيخ على السماع من لفظه، ورُوي ذلك عن " مالك " (1) أيضًا *. ورُوِي عن " مالك " (2) وغيره أنها سواءٌ. وقد قيل إن التسوية بينهما مذهب عظيم علماء الحجاز والكوفة، ومذهب مالك وأصحابه وأشياخه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم **.
والصحيح ترجيح السماع من لفظ الشيخ، والحكم بأن القراءة عليه مرتبةٌ ثانيةٌ. وقد
__________
(1 - 2) المحدث الفاصل: ف 459 + 420 ف 457، وكفاية الخطيب: باب ذكر الرواية عمن أجاز أن يقال في أحاديث العرض: حدثنا، ولا يفرق بين: سمعت، وحدثنا وأخبرنا (305 - 310).
والإِلماع للقاضي عياض: 71 - 74.
وابن رشيد في المرحلة: ل 3/ 288 مصورة دار الكتب من أصل الاسكوريال.
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: والحسن بن عُمارة وابن جريج. انتهت " 49 / و.
" زيادة: وممن سوى بينهما علي بن أبي طالب، فقال: القراءة =
__________
= جمل أناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبدالمطلب؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قد أجبتك " فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك. فقال: " سل عما بدا لك " فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آالله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: " اللهم نعم " الحديث بطوله. وفي آخره قال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول مَن ورائي مِن قومي وأنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر. (انظر: فتح الباري 1/ 111 - 113).
وانظر معه في حديث طلحة بن عبيدالله - رضي الله عنه -: " جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإِسلام ". رواه مالك في الموطأ (باب جامع الترغيب في الصلاة: ح 94) والشيخان في الصحيحين من طريق مالك: البخاري في ك الإيمان باب الزكاة من الإِيمان، ومسلم في ك الإِيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام. ولم يسم هذا الرجل. وأخرجه ابن عبدالبر في ترجمة ضمام بن ثعلبة السعدي - رضي الله عنه - (الاستيعاب: ت 1262) ونقل ابن حجر جزمَ ابنِ بطال بأنه ضمام وإن تعقبه القرطبي (فتح الباري 1/ 79).
وفي (المستفاد من مبهمات المتن والإِسناد، للولي أبي زرعة العراقي) أنه ضمام بن ثعلبة، عند ابن بشكوال وابن طاهر (3 / خطية دار الكتب المصرية).(1/320)
قيل إن هذا مذهب جمهور أهل المشرق. والله أعلم.
وأما العبارة عنها عند الرواية به فهي على مراتب:
أجودها وأسلمها أن يقول: " قرأت على فلانٍ، أو: قرئ على فلانٍ وأنا أسمع فأقر به " فهذا سائغ من غير إشكال.
ويتلو ذلك ما يجوز من العبارات في السماع من لفظ الشيخ مطلقةً، إذا أتى بها ههنا مقيدةً بأن يقول: حدثنا فلانٌ قراءةً عليه، أو: أخبرنا قراءةً عليه، ونحو ذلك. وكذلك: أنشدنا قراءةً عليه، في الشعرِ.
وأما إطلاق " حدثنا، و أخبرنا " في القراءة على الشيخ؛ فقد اختلفوا فيه على مذاهب:
فمن أهل الحديث من مَنعَ منها جميعًا، قيل إنه قول " ابن المبارك، ويحيى بن يحيى التميمي " [37 / و] وأحمد بن حنبل، والنسائي " (1) وغيرهم.
ومنهم من ذهب إلى تجويز ذلك وأنه كالسماع من لفظ الشيخ في جواز إطلاق: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا. وقد قيل إن هذا مذهبُ معظم الحجازيين، والكوفيين، وقول " الزهري، ومالك، (2) وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان " (3). في آخرين من الأئمة
__________
(1) المحدث الفاصل: 426 - 425. ف 434، 497. وقال أبو داود: " سمعت أحمد يقول: أرجو أن يكون العرض لا بأس به. فقيل لأحمد: كيف يعجبك أن يقول؟ قال: يعجبني أن يقول كما فعل؛ إن قرأ قال: قرأت. قيل لأحمد وأنا أسمع: كأن " أخبرنا " أسهل من: حدثنا؟ قال: نعم؛ " أخبرنا " شديد " (مسائل أحمد: 282) والكفاية.
(2) طُرة على هامش (غ):
[قال شيخنا نجم الدين: رويت بسند يرفع ... إلى محمد بن سعد، عن إسماعيل بن أبي أويس، قال: سئل " مالك " عن حديثه، أسماع هو؟ قال: منه سماع، ومنه عرض، وليس العرض عندنا بأدنى من السماع، وبه عن " مطرف بن عبدالله " قال: سمعت مالكًا يقول: لبعض من يحتج عليه في العرض أنه لا يجزئه إلا المشافهة، فيأبى " مالك " ذلك واحتج بأن المقرئ يقرأ عليه فيقول: أقرأني فلان، وهو لم يقرأ عليه. وعنه قال: صحبت مالكا نحو عشرين سنة، فلم أر أحدًا أقرأ مالكا عليه. وقال " مالك ": عجبًا لمن يريد المحدث يحدثه مشافهة، وذلك إنما أخذ حديثه عرضًا.] وانظر الإِلماع: 72 - 75، والكفاية: 308.
(3) قابل على المحدث الفاصل: 432 ف 490، 433 ف 393.
___________________________________
على العالم بمنزلة السماع منه. وابن عباس، قال: اقرءوا عليَّ فإن قراءتكم عليّ كقراءتي عليكم. ذكر ذلك كله الرامهرمزي (1). 49 / و.
__________
(1) في المحدث الفاصل: 428، 429 ف 478.(1/321)
المتقدمين، وهو مذهب " البخاري " - صاحب الصحيح - في جماعة من المحدِّثين، ومن هؤلاء من أجاز فيها أيضًا أن يقول: سمعت فلانًا *.
والمذهبُ الثالثُ: الفرقُ بينهما في ذلك، والمنعُ من إطلاقِ: حدثنا، وتجويزُ إطلاقِ: أخبرنا. وهو مذهبُ " الشافعي " وأصحابِه، وهو منقولٌ عن " مسلم " - صاحبِ الصحيح -، وجمهورِ أهل المشرق (1).
وذكر صاحبُ (كتابِ الإِنصاف): " محمدُ بن الحسن التميمي الجوهري المصري " أن هذا مذهبُ الأكثر من أصحاب الحديثِ الذين لا يُحصيهم أحدٌ، وأنهم جعلوا " أخبرنا " عَلَمًا يقومُ مقامَ قول ِ قائلِه: أنا قرأتُه عليه، لا أنه لَفَظَ به لي. قال: وممن كان يقول به من أهل زماننا: " أبو عبدالرحمنِ النسائي " في آخرينَ من الأئمةِ في جماعةٍ مثلِه من محدِّثينا (2).
قلتُ: وقد قيل إن أول من أحدث الفرقَ بين هذين اللفظين " ابنُ وهبٍ " بمصرَ، وهذا يدفعه أن ذلك مروِيٌّ عن " ابن جريج، والأوزاعي " حكاه عنها " الخطيبُ أبو بكر ". إلا أن يعني أنه أولُ من فَعَلَ ذلك بمصر (3). والله أعلم
__________
(1) المحدث الفاصل، بأسانيد الرامهرمزي: 425، 431 - 433 ف 470، 481، والكفاية (296 - 297).
(2) انظر معه، الباب في كفاية الخطيب.
والفقرات 486 - 497 من المحدث الفاصل للرامهرمزي.
(3) الكفاية: باب ما جاء في عبارة الراوي عما سمع من المحدث لفظًا (288 - 289) والمحدث الفاصل، بإِسناد الرامهرمزي إلى ابن جريج (433 - 492) وإلى الأوزاعي (431 - 432 ف 487 - 489).
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وممن جوَّز إطلاقَ " حدثنا " في ذلك " عطاءٌ، والحسنُ، وأبو حنيفة وصاحباه، وزُفَر، ومنصور " قال " الثوري " لما سئل عن ذلك: أتقول سمعت فلانًا؟ قال: نعم. ذكره الرامهرمزي (1). انتهت " 50 / و.
__________
(1) في المحدث الفاصل: 422 ف 465 (عطاء)، 426/ 473، 474 (الحسن)، 425/ 471 (أبو حنيفة وصاحباه)، 428/ 478 (زفر)، 422/ 463 (منصور)، 422/ 464 (الثوري).(1/322)
قال الشيخ - أبقاه الله -: الفرقُ بينهما صار هو الشائع الغالب على أهل ِ الحديث، والاحتجاجُ لذلك من حيث اللغةُ عناءٌ وتكلف. وخيرُ ما يقال فيه أن اصطلاحٌ منهم؛ أرادوا به التمييزَ بين النوعين، ثم خُصِّص النوعُ الأول بقول ِ: " حدثنا " لقوةِ إشعارِه بالنطقِ والمشافهة (1).
ومن أحسن ما يُحكَى عمن يذهبُ هذا المذهبَ، ما حكاه " الحافظُ أبو بكر البرقاني " عن أبي حاتم محمد بن يعقوب الهَروي، أحدِ رؤساء أهل ِ الحديث بخراسان، أنه قرأ على بعض ِ الشيوخ عن " الفَرَبْري " (صحيحَ البخاري) [38 / و] وكان يقول له في كل حديث: " حدَّثكم الفَرَبْري " فلما فرغ من الكتاب، سمع الشيخَ يذكر أنه سمع الكتابَ من " الفربري " قراءةً عليه، فأعاد " أبو حاتم " قراءةَ الكتابِ كلِّه، وقال له في جميعِهِ: " أخبركم الفربري " (2) *. والله أعلم.
__________
(1) طرة على هامش (غ):
[من المتأخرين من يتسامح ويقول: سمعت فلانًا يقول، فيما قرئ عليه أو سمعه من القارئ عليه. وهذا تسامح خارج عن الوضع، ليس له وجه إلا أن يكون يتغير اصطلاح، وهو أن يقع الاصطلاح عامًّا. فقد يقرب الأمر فيه، وإن وضعه هذا الراوي بنفسه فلا أرى ذلك جائزًا. وربما قربه بعضهم بأن يقول: سمعت فلانًا قراءة عليه، وفلانًا ... بسماعه من لفظه. نعم. وقع الاصطلاح العام من أرباب التواريخ أن يقولوا عمن يترجمون باسمه: سمع فلانًا وفلانًا. ولا يريدون بذلك السماع من لفظه، بل ما هو أعم من ذلك.].
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: هذه الحكاية مباينة لما حَكَى " أبو جعفر بنُ النحاس " في كتابه (الناسخ والمنسوخ) وهي أن " حبيب بن أبي ثابت " - على محله في العلم - لا يقوم بحديثِه حجة، لأمرٍ كان يذهب إليه، وكان مذهبه ما قال: " إذا حدثني رجل عنك بحديث، ثم حدثتُ به عنك، كنتُ صادقًا ". (1) فانظر إلى حكاية " أبي حاتم الهروي " وتشديده. وحكاية " حبيب " وتساهله. ومع ذلك فقد خُرِّجَ لحبيب بن أبي ثابت في (الصحيح) فكأن هذه الحكاية لم تصح.
__________
(1) أبو جعفر ابن النحاس: الناسخ والمنسوخ (58) في آية البقرة 219 " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ".(1/323)
تفريعات:
الأول: إذا كان أصلُ الشيخ ِ عند القراءةِ عليه بيَدِ غيره وهو موثوقٌ به، مراع ٍ لما يقرأ، أهل لذلك؛ فإن كان الشيخ يحفظ ما يُقرَأ عليه؛ فهو كَما لو كان أصلُه بِيَدِ نفسِه، بل أوْلَى؛ لتعاضُدِ ذِهنَي شخصينِ عليه.
وإن كان الشيخُ لا يحفظ ما يُقرَأ عليه؛ فهذا مما اختلفوا فيه؛ فرأى بعضُ أئمةِ الأصول ِ إن هذا سماعٌ غيرُ صحيح (1). والمختارُ أن ذلك صحيح، وبه عَمِلَ معظمُ الشيوخ ِ وأهل ِ الحديث.
وإذا كان الأصلُ بيدِ القارئ، وهو موثوقٌ به دِينًا ومعرفةً، فكذلك الحكم فيه، وأوْلى بالتصحيح.
وأما إذا كان أصلُه بيدِ مَنْ لا يوثَقُ بإمساكه له، ولا يؤمَنُ إهمالُه لما يَقرأ، فسواءٌ كان بِيَدِ القارئ أو بيدِ غيره، في أنه سماعٌ غير مُعْتَدٍّ به إذا كان الشيخُ غير حافظ للمقروء عليه. والله أعلم.
الثاني: إذا قرأ القارئ على الشيخ قائلا: أخبرك فلان، أو قلتَ: أخبرنا فلان، أو نحو ذلك، والشيخُ ساكتٌ مُصْغ ٍ إليه، فاهمٌ لذلك غيرُ منكرٍ له؛ فهذا كافٍ في ذلك (2).
واشترط بعضُ الظاهرية وغيرُهم إقرارَ الشيخ ِ نُطْقًا (3)، وبه قطع " الشيخُ أبو إسحاق
__________
(1) حكاه القاضي عياض في (الإلماع: 75) عن الإِمام الجويني، عبدالملك بن عبدالله بن يوسف، إمام الحرمين. ثم قال: " وتردد فيه القاضي ابن الطيب - هو الباقلاني - وأكثر ميله إلى المنع " ونقله العراقي في (التقييد 171) عن عياض.
(2) في الكفاية: باب ما جاء في إقرار المحدِّث بما قرئ عليه، وسكوته أو إنكاره (280).
(3) الكفاية: 281، والإِلماع للقاضي عياض: 78.
___________________________________
= وفي كتاب " السلفي " الذي سماه (شرط القراءة): هل على التلميذ أن يُرِيَ الشيخَ صورةَ سماعِه في الجزء، أو يقتصر على إعلامه؟ قال أبو طاهر: " هما سيانِ، على هذا عَهِدْنا علماءنا من آخرهم. ولم يزل الحفاظ قديمًا وحديثًا يخرجون للشيوخ من الأصول، فتصير تلك الفروع بعد المقابلة أصولا، وهل كانت الأصول أولا إلا فروعًا؟ " (1). انتهت " 50 / و.
__________
(1) مثله فيما نقل العراقي عن الحافظ أبي طاهر السلفي (التقييد: 171).
=(1/324)
الشيرازي، وأبو الفتح سليم الرازي، وأبو نصر بن الصباغ " من الفقهاء الشافعيين. قال " أبو نصر ": " ليس له أن يقول: حدثني، أو: أخبرني. وله أن يعملَ بما قُرِئ عليه، وإذا أراد روايتَه عنه قال: قرأتُ عليه، أو قُرِئ عليه وهو يسمع ".
وفي حكاية بعض ِ المصنفين للخلافِ في ذلك، أن بعضَ الظاهرية شرطَ إقرارَ الشيخ عند تمام ِ السماع، بأن يقول القارئ للشيخ: هو [38 / ظ] كما قرأتُه عليك؟ فيقول: نعم (1).
والصحيحُ أن ذلك غيرُ لازم، وأن سكوتَ الشيخ على الوجهِ المذكور نازلٌ منزلةَ تصريحِه بتصديق القارئ اكتفاءً بالقرائنِ الظاهرة. وهذا مذهبُ الجماهير من المحدِّثين والفقهاء وغيرهم. والله أعلم (2).
الثالث: فيما نرويه عن " الحاكم أبي عبدالله الحافظ " - رحمه الله - قال: " الذي أختاره في الرواية - وعهِدتُ عليه أكثر مشايخي وأئمةَ عصري - أن يقولَ في الذي يأخذه من المحدِّث لفظا وليس معه أحد: حدثني فلان. وما يأخذه من المحدث لفظًا ومعه غيره: حدَّثنا فلان، وما قرأ على المحدِّث بنفسِه: أخبرني فلان، وما قرئ على المحدِّثِ وهو حاضر: أخبرنا فلان " (3).
وقد روينا نحوَ ما ذكره، عن " عبدِالله بن وهب، صاحبِ مالك " - رضي الله عنهما (4) -، وهو حسَنٌ رائق.
فإن شَكَّ في شيءٍ عنده أنه من قَبيل ِ: حدَّثنا أو أخبرنا، أو من قبيل: حدثني، أو أخبرني؛ لتردُّدهِ في أنه كان عند التحمُّل ِ والسماع ِ وحدَه أو مع غيره؛ فيحتملُ أن نقول: ليقلْ: " حدثني، أو أخبرني " لأن عدمَ غيرِه هو الأصل. ولكنْ ذكَر " عليُّ بنُ عبدالله المديني الإِمامُ " عن شيخِه " يحيى بن سعيد القطان الإِمام ِ " فيما إذا شكَّ أن الشيخ قال: حدَّثني فلان، أو قال: حدثنا فلان. أنه يقول: حدثنا. وهذا يقتضي فيما إذا
__________
(1 - 2) الكفاية: 281، 282، والإِلماع: 78.
(3) علوم الحديث للحاكم، في النوع الثاني والخمسين. وتمام قوله: " وما عُرِضَ على المحدِّث فأجاز له روايته شفاهًا يقول فيه: أنبأني فلان، وما كتب إليه المحدِّث من مدينة ولم يشافهه بالإِجازة؛ يقول: كتب إليَّ فلان ".
(4) الإِلماع: 126 - 127، وانظر تقييد العراقي: 172.(1/325)
شكّ في سماع نفسِه في مثل ِ ذلك أن يقولَ: حدثنا (1).
وهو عندي يتوجَّهُ بأن " حدثني " أكملُ مرتبةً، و " حدثنا " أنقصُ مرتبةً، فليقتصر إذا شكَّ على الناقص ِ؛ لأن عدمَ الزائد هو الأصلُ، وهذا لطيفٌ.
ثم وجدت " الحافظَ أحمدَ البيهقي " قد اختار بعد حكايةِ (2) قول ِ القطان، ما قدَّمتُه.
ثم إن هذا التفصيلَ من أصلِه مستحَبٌّ ولسي بواجب، حكاه " الخطيبُ الحافظ " عن أهل ِ العلم كافةً. (3) فجائزٌ إذا سمع وحده [39 / ظ] أن يقول: " حدثنا " أو نحوه؛ لجواز ذلك للواحدِ في كلام العربِ. وجائزٌ إذا سمع في جماعةٍ أن يقول: " حدثني " لأن المحدِّث حدَّثه وحدَّث غيرَه. والله أعلم.
الرابع: روينا عن " أبي عبدِالله أحمدَ بنِ حنبل " - رضي الله عنه - أنه قال: اتبعْ لفظ الشيخ ِ في قولِه: حدثنا، وحدثني، وسمعت، وأخبرنا، ولا تَعْدُه (4).
قال الشيخ - أبقاه الله -: ليسَ لكَ فيما تجدُه في الكتبِ المؤلَّفة من رواياتِ مَنْ تقدمكَ، أن تبدلَ في نفس ِ الكتابِ ما قيل فيه: " أخبرنا " بِـ " حدثنا " ونحوِ ذلك، وإن كان في إقامةِ أحدِهما مقامَ الآخر خلافٌ وتفصيلٌ سبقَ؛ لاحتمال ِ أن يكون مَنْ قال ذلك ممن لا يرى التسويةَ بينهما. ولو وجدتَ من ذلك إسنادًا عرفتَ من مذهبِ رجالِه التسويةَ بينهما، فإقامتُك أحدَهما مقامَ الآخِر من بابِ تجويزِ الرواية بالمعنى. وذلك وإن كان فيه خلافٌ معروفٌ؛ فالذي نراه الامتناعُ من إجراءِ مثلِه في إبدال ِ ما وُضِعَ في الكتبِ المصنَّفةِ والمجامع ِ المجموعةِ، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وما ذكره " الخطيبُ أبو بكر " في (كفايته) (5)، من إجراء ذلك الخلاف في هذا؛ فحمولٌ عندنا على ما يسمعه الطالبُ من لفظِ المُحَدِّثِ غير موضوع ٍ في كتابٍ مؤلَّفٍ. والله أعلم.
__________
(1) انظر تقييد العراقي: 172.
(2) في (ص): [في بعض حكايته].
(3) كفاية الخطيب: باب القول فيمن سمع حديثًا وحده؛ هل يجوز أن يقول في روايته: حدثنا؟ ومن سمع مع جماعة؛ هل يجوز أن يقول: حدثني؟ (294).
(4) في متن (غ): [ولا تعدوه] وفوقها: ش صح، أي نسخة الشمس ابن جميل. ومثله على هامش ص، ومتن ابن الصلاح في التقييد والإِيضاح. والذي في متن ص، ز، وهامش غ: [ولا تَعْدُه].
(5) في باب ذكر الرواية عمن قال: يجب البيان عن السماع كيف كان (ص 299) وباب ذكر الرواية عمن أجاز أن يقال في أحاديث العرض: حدثنا، ولا يفرق بين: سمعت، وحدثنا، وأخبرنا (305).(1/326)
الخامس: اختلف أهلُ العلم في صحةِ سماع ِ مَنْ يَنسَخُ وقتَ القراءةِ؛ فوردَ عن " الإِمام إبراهيمَ الحربي، وأبي أحمدَ بنِ عدي الحافظِ (1)، والأستاذ أبي إسحاق الإِسْفَرَاييني الفقيهِ الأصولي " وغيرهم، نفيُ ذلك. وروينا عن " أبي بكر أحمد بنِ إسحاق الصِّبْغِي (2) أحدِ أئمة الشافعيِّين بخراسان أنه سُئل عمن يكتب في السماع، فقال: " يقول: حضرتُ، ولا يقل: حدثنا، ولا: أخبرنا ".
وورد عن " موسى بن هارونَ الحمَّال ِ " تجويز ذلك. وعن " أبي حاتم الرازي " قال: كتبتُ عند " عارم " (3) وهو يقرأ، [39 / ظ] وكتبتُ عند " عمرِو بن مرزوق " وهو يقرأ (4).
وعن " عبدِالله بن المبارك " أنه قرئ عليه وهو ينسخُ شيئًا آخرَ غيرَ ما يُقرأ. ولا فرق بين النسخ من السامع والنسخ ِ من المسمِّع.
قال الشيخ - أبقاه الله -: وخيرٌ من هذا الإطلاق، التفصيلُ؛ فنقول: لا يصحُّ السماعُ إذا كان النسخُ بحيث يمتنع معه فهمُ الناسخ لما يُقرأ، حتى يكون الواصلُ إلى سمعِه كانه صوتٌ غُفْلٌ، ويصحُّ إذا كان بحيث لا يمتنعُ معه الفهمُ، كمثل ِ ما روينا عن " الحافظِ العالم أبي الحسن الدارقطني " أنه " حضر في حداثته مجلسَ " إسماعيلَ الصفَّارِ " فجلس ينسخُ جزءًا وإسماعيلُ يملي، فقال له بعضُ الحاضرين: لا يصحُّ سماعُك وأنت
__________
(1) في الكفاية، بإسناد الخطيب إلى الإِمام الحربي والحافظ ابن عدي (66 باب ما جاء في سماع من كان ينسخ وقت القراءة).
(2) على هامش ص: [قال المؤلف: الصبغي بكسر الصاد المهملة والغين المعجمة. والله أعلم]. وعلى هامش (غ): [الصبغي بكسر الصاد، نُسِبَ إلى بيع الصبغ، وهو أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد بن الحسين، الفقيه النيسابوري الصبغي، بالصاد المهملة والغين المعجمة. وجدته بخط شيخنا].
قلت: الذي في متن ابن الصلاح " أبو بكر احمد بن إسحاق الصبغي " وكذلك هو في كفاية الخطيب (96) قال النووي: أحد أئمة أصحابنا الوجوه البارعين الجامعين بين الحديث والفقه " توفي سنة 343 هـ (تهذيب الأسماء 1/ 193 ت 293) وقال الذهبي: شيخ الشافعية بخراسان. (دول الإِسلام 1/ 212 والعبر وفيات 342 هـ) ومثله في اللباب (2/ 234) ومعه في (الصبغي): أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد بن الحسين النيسابوري - 344 هـ -.
(3) على هامش (غ) حاشية من النسخة الأصل: [قال الشيخ المؤلف - رضي الله عنه -: اسمه محمد بن الفضل، وعارم لقب سوء وقع على رجل صالح]. ونحوه على هامش (ص) ويأتي " عارم " في النوع الثاني والخمسين (معرفة ألقاب المحدثين).
(4) أسنده الخطيب عن أبي حاتم الرازي، في (الكفاية: 67).(1/327)
تنسخ. فقال: فَهمِي خلافُ فهمِك. ثم قال: تحفظ كم أملى الشيخُ من حديثٍ إلى الآن؟ فقال: لا، فقال الدارقطنيّ: أملى ثمانيةَ عشرَ حديثًا، فعُدَّت الأحاديثُ فوُجِدتْ كما قال. ثم قال أبو الحسن: الحديثُ الأول منها عن فلانٍ عن فلان، ومَتْنُه كذا، والحديثُ الثاني عن فلان عن فلان، ومَتْنُه كذا .. ولم يزل يذكر أسانيدَ الأحاديث ومتونَها على ترتيبها في الإِملاءِ حتى أتى على آخرِها، فتعجب الناسُ منه " (1). والله أعلم.
السادس: ما ذكرناه في النسْخ ِ من التفصيل، يجري مثلُه فيما إذا كان الشيخُ أو السامعُ يتحدث، أو كان القارئ خفيفَ القراءة يُفْرِطُ في الإِسراع، أو كان يُهَيْنِمُ (2) بحيث يخفى بعضُ الكلام، أو كان السامعُ بعيدًا عن القارئ، وما أشبه ذلك.
ثم، الظاهرُ أنه يُعفَى في كلِّ ذلك عن القدرِ اليسيرِ، نحو الكلمةِ والكلمتين.
ويُستَحبُّ للشيخ أن يجيزَ لجميع السامعين روايةَ جميع الجزء أو الكتاب الذي سمعوه وإن جرى على كلِّه اسمُ السماع، وإذا بذَل لأحدٍ منهم خطَّه بذلك كتب: أنه " سمع مني هذا الكتابَ، وأجَزْتُ له روايتَه عني " أو نحو هذا، كما كان بعضُ [40 / و] الشيوخ يفعل. وفيما نرويه عن الفقيهِ " أبي محمد بن أبي عبدالله بن عتاب، الفقيهِ الأندلسي " عن أبيه - رحمهما الله - أنه قال: " لا غِنى في السماع عن الإجازة؛ لأنه قد يغلط القارئ ويغفل الشيخ، أو يغلط الشيخُ إن كان القارئَ ويغفل السامعُ، فينجبرُ له ما فاته بالإجازة " (3).
وقد روينا عن " صالح بنِ أحمدَ بن حنبل " - رضي الله عنه -، قال: " قلت لأبي: الشيخُ يدغم الحرفَ يُعرَفُ أنه كذا وكذا، ولا يُفهَمُ عنه، ترى أن يُروَى ذلك عنه؟ قال: أرجو ألا يضيقَ هذا " (4).
__________
(1) بنصه في رواية الخطيب عن شيخه الأزهري (تاريخ بغداد، ترجمة الدارقطني).
(2) الضبط من (غ) وعلى هامشه: [أفرط في الأمر أي جاوز في الحد، وفرَّط: قصر. (الصحاح). والهينمة: إخفاء الصوت].
وانظر (ما جاء فيمن سمع حديثًا فخفي عليه في وقت السماع حرف منه لإدغام المحدث إياه) في الكفاية: 68 - 69.
(3) بنصه في (الإلماع: 92) سماع القاضي من شيخه أبي محمد عبدالرحمن بن أبي عبدالله محمد بن عتاب القرطبي، عن أبيه.
(4) أسنده الخطيب في (الكفاية: 68 - 69) عن صالح بن أحمد بن حنبل.(1/328)
وبلغنا عن " خلف بن سالم (1) المُخَرِّمي " قال: سمعتُ ابنَ عُيينةَ يقول: " نا عمرو بن دينار " (2) يريد: حدثنا عمرو بن دينار؛ لكن اقتصر من " حدثنا " على النون والألف. فإذا قيل له: قل: " حدثنا عمرو " قال: لا أقول؛ لأني لم أسمع من قوله " حدثنا " ثلاثة أحرف وهي: حدَّث؛ لكثرة الزحام (3).
قال الشيخُ - أبقاه الله -: قد كان كثير من أكابر المحدِّثين يَعظُمُ الجمعُ في مجالِسهم جدًّا، حتى ربما بلغ ألوفًا مؤلفة، ويُبَلِّغهم عنهم المستَملون، فيكتبون عنهم بواسطة تبليغ المسْتملينَ، فأجاز غيرُ واحدٍ لهم روايةَ ذلك عن المُمْلي. روينا عن " الأعمش " - رضي الله عنه - قال: " كنا نجلس إلى إبراهيمَ فتَتَّسِعُ الحلقةُ، فربما يُحدِّثُ بالحديث فلا يسمعه مَنْ تنحَّى عنه، فيسأل بعضُهم بعضًا عما قال، ثم يروونه وما سمعوه منه ". (4) وعن " حماد بن زيد " أنه سأله رجلٌ في مثل ِ ذلك، فقال: " يا أبا إسماعيل كيف قلتَ؟ فقال: استفهمْ مَنْ
__________
(1) على هامش (غ) من نسخة: [ابن صالح] والصحيح: ابن سالم كما في المتن وسائر النسخ. والمخرمي: نسبة إلى المخرم، محلة ببغداد نسب إليها أبو محمد خلف بن سالم (اللباب 3/ 178) والضبط منه.
(2) حكاه الخطيب في الكفاية (69) ووقع في طبعة الهند [ثنا عمرو بن دينار] وليس السياق. وعلى هامش (غ) حاشية، من النسخة الأصل عن المؤلف:
[ولقد تسامح الناس في هذه الأعصار؛ فيستعجل القراء استعجالا يمنع من إدراك حروف كثيرة. وهذا عندنا شديد؛ لأن عمدة الرواية الصدق ومطابقة ما يخبر به للواقع. وإذا قال السامع على هذا الوجه: قرأه عليَّ فلان وأنا أسمع، أو: أنا فلان قراءة عليه وأنا أسمع؛ فهذا إخبار غير مطابق؛ فيكون كذبا. وما قيل في هذا أنه يدخل في الإجازة المقرونة بالسماع ويكون ذلك رواية لبعض الألفاظ بالإجازة من غير بيان؛ هذا تسامح لا أرضاه؛ لما أشرنا إليه من بُعْدِ الإجازة عن معنى الإخبار، بل ها هنا أمر آخر، وهو دلالة اللفظ على أنه سمع جميع ما يرويه من الشيخ. ولم يكن المتقدمون على مثل هذا التساهل. هذا " أبو عبدالرحمن النسائي " يقول فيما لا يحصى من المواضع في كتابه: " وذكر كلمة معناها كذا وكذا " والذي أراه في مثل هذا أن يستقري الشيخ برواية جميع الجزء. فإذا وقع مثل هذا في السماع أطلق الراوي الإخبار قائلا: أنا فلان، من غير أن يقول: قرأه عليه؛ لأنا قد بينا أن الإخبار الجملي في هذا، كاف لمطابقة الواقع، وكونه على قانون الصدق. غاية ما في الباب أن يكون بعض تلك الألفاظ التي لم يسمعها داخلة في هذا الإخبار الجملي، وذلك صدق، وإنما كرهنا ذلك فيما إذا لم يسمع الجزء أصلا؛ لمخالفته العادة، أو لكونه قد يوقع تهمة إذا عُلم أنه لم يسمع الجزء من الشيخ.
وهذا معدوم في هذه الصورة، لا سيما إذا أثبت السماع بغير خطه. وانتفت الريبة من كل وجه].
(3 - 4) أسندها الخطيب في الكفاية: عن الأعمش (ص 72) وحماد بن زيد (71) وابن عيينة (72) باب ما جاء في استفهام الكلمة من غير الراوي كالمستملي ونحوه.(1/329)
يَلِيكَ ". (1) وعن " ابن عيينة " أن أبا مسلم المستملي قال له: " إن الناس كثيرٌ لا يسمعون. قال: تسمع أنت؟ قال: نعم، قال: فأسْمِعهم " (2).
وأبَى آخرون ذلك. روينا عن " خلفِ بن تميم " قال: سمعتُ من سفيان الثوري عشرةَ آلافِ حديثٍ أو نحوها، فكنت أستفهمُ جَلِيسي، فقلت لزائدة، فقال لي: " لا تُحدِّث منها إلا [40 / ظ] بما تحفظُ بقلبِك وسَمْع ِ أذنك " قال: فألقيتُها (3).
وعن " أبي نُعَيْم ٍ " أنه كان يرى فيما سقط عنه من الحرف الواحد والاسم ِ مما سمعه من سفيانَ والأعمش ِ، واستفهمه من أصحابه، أن يرويَه عن أصحابه، لا يرى غيرَ ذلك واسعًا له (4).
قال الشيخ - أبقاه الله -: الأولُ تساهلٌ بعيد. وقد روينا عن " أبي عبدالله ابن منده الحافظِ الأصبهاني " أنه قال لواحدٍ من أصحابه: " يا فلان، يكفيكَ من السماع ِ شَمُّه ". وهذا إما متأوَّلٌ أو متروكٌ على قائلِه. ثم وجدتُ عن عبدِالغني بنِ سعيد الحافظ، عن حمزةَ بنِ محمد الحافظِ بإِسنادِه، عن عبدِالرحمن بنِ مهدي، أنه قال: " يكفيكَ من الحديث شمه " قال عبدالغني: " قال لنا حمزة: يعني إذا سُئِلَ عن أول ِ شيء عرَفه، وليس يعني التسهُّلَ في السماع ". والله أعلم (5).
السابع: يَصحُّ السماعُ ممَّن هو وراءَ حجاب، إذا عُرِفَ صوتُه فيما إذا حَدَّثَ بلفظِه، وإذا عُرِفَ حضورُه بمسمع ٍ منه فيما إذا قرئ عليه. وينبغي أن يجوزَ الاعتمادُ في معرفة صوتِه وحضورِه على خَبر مَنْ يوثَقُ به. وقد كانوا يَسمعون من " عائشةَ " وغيرِها من أزواج ِ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - من رواءِ حجاب، ويروونه عنهن اعتمادًا على الصوتِ. واحتجَّ " عبدُالغني بنُ سعيد الحافظُ " في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن بلالا ينادي بِلَيل ٍ، فكُلوا واشربوا
__________
(1 - 2) الخطيب في الباب، بأسانيده إليهم.
(3) أسنده الرامهرمزي في المحدث الفاصل (601 ف 867) والخطيب في الكفاية (70) من طريق الرامهرمزي.
(4) الخطيب في الكفاية (73).
(5) انظر تقييد العراقي: 176 - 178.(1/330)
حتى يناديَ ابنُ أمِّ مكتوم ". (1) وروَى بإسنادِه عن " شعبةَ " أنه قال: " إذا حدثك المحدِّثُ فلم تر وجهَه فلا تَرْوِ عنه، فلعله شيطانٌ قد تصورَ في صورتِه يقول: حدثنا، وأخبرنا ". والله أعلم.
الثامن: من سمع من شيخ حديثًا ثم قال له: " لا تَروِه عني، أو: لا آذَنُ لك في روايته عني، أو قال: لستُ أخبركَ به، أو: رجعتُ عن إخباري إياكَ به فلا تَروِه عني " غيرَ مسندِ ذلك [41 / و] إلى أنه أخطأ فيه أو شكَّ فيه ونحوِ ذلك، بل منعه من روايتِه عنه مع جَزْمِه بأنه حديثُه، فذلك غيرُ مبطل ٍ لسماعه، ولا مانع له من روايته عنه. وسأل " الحافظُ أبو سعيد بن عَلِيَّك النيسابوري " (2) الأستاذ أبا إسحاق الإِسْفَراييني، (3) - رحمهما الله - عن محدِّث خَصَّ بالسماع قومًا، فجاء غيرُهم وسمع منه من غير علم المحدِّثِ به؛ هل يجوز له روايةُ ذلك عنه؟ فأجاب بأنه يجوز، ولو قال المحدِّثُ: " إني أخبركم ولا أخبرُ فلانًا " لم يضره. والله أعلم (4).
القسم الثالثُ من أقسام طرق نقل الحديث وتحمله: الإِجازةُ.
وهي متنوعة أنواعًا:
أولها: أن يُجيزَ لمعيَّنٍ في مُعينٍ، مثل أن يقولَ: " أجزتُ لكَ الكتابَ الفلاني، أو: ما اشتملت عليه فَهْرستي هذه " فهذا أعلى أنواع الإِجازةِ المجرَّدةِ عن المناولة. وزعم
__________
(1) بلفظ البخاري في كتاب الأذان، باب أذان الأعمى إذا كان هناك من يخبره. وبلفظ " إن بلالا يؤذن بليل " في صحيح مسلم، ك الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. وانظر (فتح الباري 2/ 67) ومعه الحديث في النوع 22 مما يلي، فانظره.
(2) في (غ): [أبو سعد بن عليك] وقع في طبعة العراقية: أبو سعيد [بن غلبك] بالغين المعجمة والباء، قلمًا.
وفي سير النبلاء (11/ 113): عبدالرحمن بن الحسين بن عليك النيسابوري أبو سعد: محدث حافظ جمع وصنف، وتوفي سنة 431 هـ، وهو من أبناء السبعين. والذي في الإكمال للأمير (باب عليل وعليك): " أبو سعيد عبدالرحمن وابنه شيخنا أبو القاسم علي بن عبدالرحمن " واستوفى ابن نقطة ضبط ابن عَلِيَّك، أبي سعيد عبدالرحمن بن الحسن بن عليك الرازي، في المستدرك على الإِكمال (هامش 6/ 262) فانظره.
(3) في النسخ: الأسفرائيني؛ مهموزًا. بالفتح - قلما - والضبط: بكسر الألف وسكون السين المهملة وفتح الفاء والراء وكسر الياء، نسبة إلى إسفراين، بليدة قرب نيسابور، من (اللباب 1/ 55).
وانظر فصل الإِذن في الرواية، في (الكفاية: 282).
(4) على هامش (غ): [بلغ السماع بقراءتي في المجلس الثاني على شيخنا عز القضاة ابن المنير وسمعه أبو محمد عبدالله بن أبي القاسم بن رستم، وأبو البركات محمد، أخي. وكتبه محمد بن محمد الفاسي].(1/331)
بعضُهم أنه لا خلافَ في جوازِها ولا خالَفَ فيها أهلُ الظاهر، وإنما خلافُهم في غير هذا النوع. وزاد " القاضي أبو الوليد الباجي المالكي " فأطلق نَفْيَ الخلاف وقال: " لا خلافَ في جواز الرواية بالإِجازة من سلَف هذه الأمة وخلفِها ". وادَّعى الإِجماعَ من غير تفصيل، وحكى الخلافَ في العمل بها (1). والله أعلم.
قال الشيخ - أبقاه الله -: هذا باطلٌ؛ فقد خالفَ في جوازِ الرواية بالإِجازة جماعاتٌ من أهل ِ الحديثِ والفقهاءِ والأصوليين، وذلك إحدى الروايتينِ عن " الشافعيِّ " - رضي الله عنه -؛ رُوِيَ عن صاحبِه " الربيع بنِ سليمانَ " قال: كنا الشافعي لا يرى الإجازةَ يف الحديث. قال الربيعُ: أنا أخالفُ الشافعيَّ في هذا *.
وقد قال بإبطالها جماعة من الشافعيين، منهم [41 / ظ] القاضيان " حُسَيْن بنُ محمد المرورُّذي، (2) وأبو الحسن الماوردي " - وبه قطع الماوردي في كتابه (الحاوي) وعَزَاه إلى مذهب الشافعي - وقالا: جميعًا: لو جازت الإِجازة لبطلت الرحلةُ.
__________
(1) الإِلماع للقاضي عياض: 89 وانظر معه الكفاية (317) أبواب الإجازة.
(2) على هامش (غ): [المرو الرُّوذي] وفي اللباب: نسبة إلى مرو الروذ، من أشهر مدن خراسان، وأما المروَزي؛ فسنة إلى مرو الشاهجان، بينها وبين مرو الروذ أربعون فرسخًا (3/ 198، 199) والقاضي حسين بن محمد بن أحمد، أبو علي المروَروذي، شيخ الشافعية بخراسان، مشهور باسم " القاضي حسين " ت سنة 462 هـ. تهذيب النووي 1/ 164.
وفي بلدان ياقوت: " نسبة إلى مروذ، بالفتح ثم التشديد والضم وسكون الواو وذال معجمة، وهو مدغم من: مرو الروذ، هكذا يتلفظ به جميع أهل خراسان ".
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد فعلها " الشافعي " للكرابيسي حين أراد أن يقرأ كتبَ الشافعي عليه، فأتى الشافعي فقال: " خذ كتبَ الزعفراني فانسخْها فقد أجزتُها لك " فأخذها إجازة. أسنده الرامهرمزي (1). انتهت " 51 / و.
__________
(1) في المحدث الفاصل (448 ف 532) بإسناده إلى أبي علي الكرابيسي: الحسين بن علي بن يزيد البغدادي، وهو والزعفراني أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح، من أثبت رواة القديم عن الإِمام الشافعي. (تهذيب النووي، الترجمتان: 486، 465).(1/332)
ورُوِيَ أيضًا هذا الكلامُ عن " شُعبةَ " وغيره (1).
وممن أبطلها من أهل ِ الحديث: " الإِمامُ إبراهيمُ بن إسحقا الحربي، (2) وأبو محمد عبدُالله بن محمد الأصبهاني الملقبُ بأبي الشيخ (3)، والحافظُ أبو نصر الوائلي السجزي ". وحكى " أبو نصر " فسادَها عن بعض ِ من لَقِيه. قال أبو نصر: وسمعتُ جماعةً من أهل ِ العلم يقولون: " قولُ المحدث: قد أجزتُ لك أن تَروِيَ عني؛ تقديرُه: أجزتُ لك ما لا يجوزُ في الشرع؛ لأن الشرعَ لا يبيحُ روايةَ ما لم يسمَعْ ".
قال الشيخ - أبقاه الله -: ويُشبِهُ هذا ما حكاه " أبو بكر محمد بن ثابت الخُجَنْدي " أحد من أبطل الإجازو من الشافعية، عن " أبي طاهر الدباس " أحدِ أئمةِ الحنفية، قال: " من قال لغيره: أجزتُ لك أن ترويَ عني ما لم تسمع؛ فكأنه يقولُ: أجزتُ لك أن تكذبَ عليَّ " (5).
ثم إن الذي استقر عليه العملُ، وقال به جماهيرُ أهل ِ العلم من أهل الحديث (6) وغيرهم: القولُ بتجويز الإجازةِ وإباحةِ الرواية بها. وفي الاحتجاج لذلك غموضٌ. ويَتَّجِهُ أن نقولَ: إذا أجاز له أن يَروِيَ عنه مروياتِهِ وقد أخبره بها جملةً فهو كما لو أخبره تفصيلا، وإخبارُه بها غيرُ متوقّفٍ على التصريح نُطْقًا كما في القراءة على الشيخ كما سبق، وإنما الغرضُ حصولُ الإِفهام ِ والفهم، وذلك يحصلُ بالإجازة المفهِمة. والله أعلم.
ثم إنه كما تجوزُ الروايةُ بالإجازة؛ يجبُ العملُ بالمروِيِّ بها، خلافًا لمن قال من أهل ِ الظاهرِ ومَنْ تابَعَهم: أنه لا يجبُ العملُ به وأنه جارٍ مجرى المُرسلَ. وهذا باطلٌ لأنه ليس
__________
(1 - 2) أسنده الخطيب في الكفاية (315) عن شعبة، وعن الإمام الحربي.
(3) وأسنده أبو محمد الأصبهاني عبدالله بن محمد، أبو الشيخ، إلى عطاء (الكفاية 313) قال: العلم سماع. وإلى أبي زرعة، وسئل عن إجازة الحديث والكتب فقال: " ما رأيت أحدًا يفعله، فإن تساهلنا في هذا يذهب العلم ولم يكن للطلب معنى، وليس هذا من مذهب أهل العلم " (الكفاية 315).
(4) على هامش (غ): [الخجندي: بضم الخاء المعجمة وفتح الجيم وسكون النون ثم دال مهملة، نسبة إلى " خجندة ": مدينة كبيرة على طرف سيحون. كذا وجدته بخط شيخنا أبي بكر فنقلته].
وهو الضبط في (اللباب: 1/ 424).
(5) في تقييد العراقي: 181.
(6) في (ص): [جماهير أهل الحديث]. وما هنا من (غ، ع).(1/333)
في الإِجازة ما يقدحُ في اتصال ِ المنقول ِ بها وفي الثقةِ به * [42 / و]. والله أعلم (1).
__________
(1) على هامش (غ): بلغت المقابلة على أصل الشيخ. ثم بلغ مقابلة عليه ثانية.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ذكر " ابن حزم " مخالفتَه في العمل وفي جوازِ الرواية؛ فقال في كتابه (الإحكام) (1): " وأما الإجازة التي يستعملها الناس فباطل، ولا يجوز لأحدٍ أن يخبر بالكذب، ومن قال لآخر: ارو عني جميعَ روايتي، أو يخبره بها ديوانًا ديوانًا وإسنادًا إسنادًا، فقد أباح له الكذب. (1) [قال]: ولم تأت الإِجازة عن سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابِه [رضي الله عنه] ولا عن التابعين، ولا [عن أحد من] أتباع التابعين، فحسبك بدعةً بما هذه صِفَتُه ". (2) وما ذكره " ابن حزم " قد سبق نقلُه عن جماعة، وفي (القنية) من كتب الحنفية: " إذا أعطاه المحدِّثُ الكتابَ، وأجاز له ما فيه، ولم يسمع ذلك منه ولم يعرفه؛ فعند " أبي حنيفة، ومحمد " لا يجوز روايتُه " وهذا يدل على منع الإجازة المقرونة بالمناولة وسيأتي الكلامُ عليها. و " وابن حزم " إن كان كلامه المتقدم في الإجازة المقرونة بالمناولة وغيرِها؛ رُدَّ عليه قوله: " إنها لم يقل بها أحد من التابعين " .. إلخ، فسننقل ذلك في المناولة عن جماعة من التابعين، وجاء عن " أنَس ٍ " ما يُشْعِر بها؛ ففي (معجم البغوي الكبير) عن يزيد الرقاشي قال: " كنا إذا أكثرنا على أنَس ِ بن مالك أتانا بِمخَال ٍ له فألقاها إلينا وقال: هذه أحاديثُ سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتبتُها وعرضتها ". وفي (المحدِّث الفاصل، للرامهرمزي) في (باب القول ِ في الإِجازة والمناولة) أَسنَد إلى " الحسن " أنه كان لا يرى بأسًا أن يدفع المحدِّثُ كتابَه ويقول: ارْوِ عني جميعَ ما فيه، يسعه أن يقول: حدثني فلان عن فلان (3).
وإن كان كلام " ابن حزم " في الإِجازة الخالية عن المناولة، فلا يناسِبُ تعليلَه؛ إذ لا فرق بينهما. وما نقل [ابنُ الصلاح] عمن قال من الظاهرية: إن العمل بالإجازة لا يجب ويجري مجرى المرسل؛ يقتضي ذلك منعَ العمل ِ دون التحديث. وقد نُقِل عن " الأوزاعي " عكسُ ذلك، ففي (كتاب الرامهرمزي) قال " الأوزاعي " في كَتْب =
__________
(1 - 2) ابن حزم: (الإحكام، فصل في صفة الرواية) 2/ 147، 148 والمقابلة عليه، مع خلاف يسير في بعض الألفاظ.
(3) المحدث الفاصل (435 ف 498).(1/334)
النوع الثاني من أنواع الإجازة:
أن يجيزَ لمعيَّنٍ في غير مُعيَّنٍ، مثل أن يقول: " أجزتُ لك، أو لكم، جميعَ مسموعاتي، أو جميعَ مروياتي " وما أشبَه ذلك. فالخلافُ في هذا النوع أقوى وأكثر. والجمهورُ من العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم على تجويزِ الرواية بها أيضًا، وعلى إيجابِ العمل ِ بما رُوِيَ بها بشرطِه. والله أعلم.
النوع الثالث من أنواع الإجازة:
أن يجيزَ لغير مُعَيَّن بوصفِ العموم، مثل أن يقولَ: أجزتُ للمسلمين، أو: أجزتُ لكلِّ أحدٍ، أو: أجزتُ لمن أدرك زماني، وما أشبهَ ذلك. فهذ نوعٌ تكلم فيه المتأخرون ممن جوَّز أصلَ الإجازة، واختلفوا في جوازه؛ فإن كان ذلك مقيَّدًا بوصفٍ حاصرٍ أو نحوِه؛ فهو إلى
___________________________________
* الأمانة، يعني المناولة: يعمل به ولا يحدّث به (1). وعن " الأوزاعي " في ذلك رواياتٌ ذكرها " الرامهرمزي " منها: أنه قال لِعَمرو بن أبي سلمة لما سأله عن المناولة: أقول فيها حدثنا؟ قال: إن كنتُ حدثتُك فقُلْ. قال: أقول فيها أخبرنا؟ قال: لا. قلت: فكيف أقول؟ قال: قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو (2).
وعلى هذا ينبغي أن يُحمَل قولُه فيما تقدم: ولا يحدثْ به، أي بصيغة التحديث. ويدل على هذا روايةٌ أخرى عن " الأوزاعي " قال عمر بن عبدالواحد: دفع إليَّ " الأوزاعي " كتابًا بعد ما نظر فيه، فقال: اروِه عني (3). وعن " الأوزاعي ": دفع إليَّ يحيى بنُ أبي كثير صحيفةً فقال: اروِها عني (4).
وفي بعض هذه السياقة ما له تعلقٌ بالقول في عبارة الراوي بطريق المناولة والإجازة، وسيأتي ذلك مُستوفىً، وإنما سقنا ذلك لما حكينا عنه: " يعمل به ولا يحدث به ". فاحتجنا إلى تأويله بما نقل عنه. انتهت " 51 / و ظ.
__________
(1 - 2) المحدث الفاصل: (437/ 503، 436/ 502) على التوالي.
(2) أسنده الرامهرمزي عن عمر بن عبدالواحد (المحدث الفاصل 437/ 504) والخطيب في (الكفاية: 322) باب ذكر بعض أخبار من كان يقول بالإجازة ويستعملها.
(4) أسنده الرامهرمزي عن أبي عمرو الأوزاعي، في (المحدث: 437 ف 505).(1/335)
الجواز أقربُ. وممن جوَّز ذلك كلَّه " الخطيبُ الحافظ أبو بكر " (1). وروينا عن " أبي عبدالله ابنِ مَنْده الحافظِ " أنه قال: " أجزتُ لمن قال لا إله إلا الله ". وجوَّز " القاضي أبو الطيِّب الطبري " أحد الفقهاء المحققين - فيما حكاه عنه الخطيبُ (2) - الإجازةَ لجميع المسلمين مَنْ كان منهم موجودًا عند الإجازة. وأجاز " أبو محمد ابنُ سعيد " أحد الجِلَّةِ من شيوخ الأندلس، لكلِّ مَن دخل قرطبةَ من طلبة العلم (3). ووافقه على جوازِ ذلك جماعة منهم: " أبو عبدالله بنُ عتَّاب " - رضي الله عنهم -. وأنبأني مَن سأل " الحازميَّ أبا بكر " عن الإجازة العامة هذه، فكان من جوابه، أنه من أدركه من الحُفَّاظ، نحو " أبي العلاءِ الحافظ " وغيره، [42 / ظ] كانوا يميلون إلى الجواز. والله أعلم.
قال المُملي - أبقاه الله -: ولم نَرَ ولم نسمع عن أحدٍ ممن يُقتَدَى به، أنه استعمل هذه الإِجازة فروى بها، ولا عن الشرذمة المستأخرة (4) الذين سوَّغوها. والإِجازةُ في أصلِها ضعفٌ، وتزداد بهذا التوسع ِ والاسترسال ِ ضعفًا كثيرًا لا ينبغي احتمالُه *. والله أعلم.
__________
(1 - 2) الكفاية: 316، 325 من باب (الكلام في الإجازة وأحكامها وتصحيح العمل بها) والإِلماع: 98.
(3) القاضي عياض بسنده إلى أبي عبدالله بن عتاب، عن أبي محمد عبدالله بن سعيد الشنتجالي (الإلماع: 99) توفي أبو محمد ابن سعيد بقرطبة سنة 436 هـ (الصلة لابن بشكوال 1/ 263).
(4) من (ع) ومتن (غ، ص) وعلى هامشها: [المتأخرة] خ.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قال " النووي ": " الظاهرُ من كلام مَن صحَّحها، جوازُ الرواية بها، وهذا مقتضى صحتها، وأي فائدة لها غير الرواية؟ " (1) وما قاله " النووي " لا ينافي ما ذكره " ابنُ الصلاح ". ومرادُ ابنِ الصلاح أنه لم يجد وقوعَها، وقد وقعتْ ولم يبلغ ابنَ الصلاح. فقد حَكَى " ابنُ تامتيت " أن الحافظَ المنذري ندب الناس إلى قراءة البخاري على أبي العباس ابن تامتيت بالإِجازة العامة، (2) فسمعه عليه خلقٌ كبير. وحكى =
__________
(1) في التقريب (2/ 33) بلفظ: وهذا يقتضي صحتها.
(2) أبو العباس ابن تامتيت، أحمد بن محمد بن الحسن اللواتي الفاسي نزيل القاهرة (ت 657 هـ) روى البخاري بالإجازة العامة عن أبي الوقت السجزي عبدالأول بن عيسى الهروي، انتهت إليه رياسة الحديث وعلو الإِسناد (458 - 553 هـ).(1/336)
النوع الرابع من أنواع الإجازة:
الإجازةُ للمجهول ِ أو بالمجهول.
وتتشبثُ بذيلِها الإجازةُ المعلقةُ بالشرط: وذلك مقل أن يقولَ: " أجزتُ لمحمدِ بن
__________
= " ابنُ دِحْيَة " أن الحافظَ السلفي حدَّث عن " ابن خيرونَ " بها، وابنُ دحيةَ حدَّث بها في تصانيفه عن " أبي الوقت، والسلفي ". و " أبو الحسن الشيباني القفطي " حدّث في كتابه (تاريخ النحاة) عن السلفي بها. وقد جمع " أبو جعفر البغدادي " (1) كتابًا، فيه ذِكْرُ مَن جوَّزها وكتب بها، فمن جملته أن " أبا طاهر " كتَب بها، وحدَّث بها " ابنُ أبي المعمر " في كتابه (علوم الحديث) عن السلفي، ولعل جميع ذلك لم يبلغ " ابنَ الصلاح ".
واستعملها من المتأخرين: الحجَّارُ، والشيخ شرف الدين الدمياطي حدث بها عن المؤيد الطوسي، وحدَّث عبدُالباري الصعيدي بمشيخة الصفراوي عنه بها. وما قيل من أن أصل الإجازة العامة ما ذكره " ابنُ سعد " في (الطبقات) (2): " ثنا عفَّان، ثنا حماد، ثنا علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما احتُضِر قال: مَنْ أدرك وفاتي من سَبْيِ العرب فهو حُرٌّ من مال ِ الله " ليس فيه دلالة؛ لأن العتق النافذ لا يحتاج إلى ضبطٍ وتحديثٍ وعمل، بخلافِ الإجازة، ففيها تحديثٌ وعمل وضبطٌ، فلا يصح أن يكون ذلك دليلا لهذا، ولو جُعِلَ دليلُه ما صح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بَلِّغوا عني ". (3) الحديث؛ لكان له وجهٌ قوي. انتهت " 52 / و ظ.
__________
(1) في تقييد العراقي: " أبو جعفر محمد بن الحسين بن أبي البدر، الكاتب البغدادي، في جزء كبير رتب أسماءهم فيه على حروف المعجم لكثرتهم " (183) وهو في كشف الظنون (1/ 10) كتاب (الإجازة العامة) لأبي جعفر البغدادي محمد بن الحسين بن أبي البدر.
(2) في طبقات ابن سعد، وذكر استخلاف عمر - رحمه الله -: " أخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع .. " فذكره (3/ 342 ط بيروت).
(3) " بلغوا عني " الحديث بطوله، أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. وانظر (فتح الباري 6/ 1319) وتمام الحديث: " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بن إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار " وأخرجه الترمذي في جامعه 2/ 111 وقال: حسن صحيح، والخطيب في (شرف أصحاب الحديث (13 - 15) من حديث عبدالله بن عمرو، من عدة طرق، ومن حديث أبي هريرة. وهما في مسند أحمد. وأخرج ابن عبدالبر طرفه الأول في (جامع بيان العلم 2/ 40) من حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهم جميعا -.(1/337)
خالد الدمشقي "، وفي وقتِه ذلك جماعةٌ مشتركون في هذا الاسم والنسبِ، ثم لا يعين المجازَ له منهم. أو يقول: " أجزتُ لفلانٍ أن يرويَ عني كتابَ السُّنَنِ " وهو يروي جماعةً من كتبِ السننِ المعروفةِ بذلك، لا يُعَيِّنُ. فهذه إجازةٌ فاسدةٌ لا فائدةَ لها. وليس من هذا القبيل ِ ما إذا أجاز لجماعةٍ مُسمَّين معيَّنين بأنسابِهم، والمجيزُ جاهلٌ بأعيانِهم غيرُ عارفٍ بهم، فهذا غيرُ قادح ٍ. كما لا يقدحُ عدمُ معرفتِه به إذا حضر شخصُه في السماع منه. والله أعلم.
وإن أجاز للمسمَّين المنتسبين في الاستجازة، ولم يَعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم، ولم يعرف عدَدَهم ولم يتصفح أسماءهم واحدًا فواحدًا، فينبغي أن يَصِحَّ ذلك أيضًا، كما يصحُّ سماعُ مَن حضر مجلسَه للسماع ِ منه، وإن لم يعرفْهم أصلا ولم يعرف عددَهم، ولا تصفَّح أشخاصَهم واحدًا واحداً.
وإذا قال: " أجزتُ لمن يشاء فلانٌ " أو نحو ذلك، فهذا فيه جهالةٌ وتعليقٌ بشرطٍ، فالظاهرُ أنه لا يصح. وبذلك أفتى " القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي " إذ سأله " الخطيبُ الحافظ " عن ذلك، وعلَّل بأنه إجازةٌ لمجهول، فهو كقولِه: " أجزتُ لبعض ِ الناس " من غير تعيينٍ. وقد يُعلِّل ذلك أيضًا بما فيها من التعليق بالشرطِ، فإن ما يُفَسَّر بالجهالة يُفَسَّر بالتعليق، [43 / و] على ما عُرِفَ عند قوم. وحكى " الخطيبُ " عن أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي، وأبي الفضل بن عمروس المالكي: أنهما أجازا ذلك. وهؤلاء الثلاثةُ، كانوا مشايخَ مذاهبِهم ببغداد إذ ذاك. وهذه الجهالةُ ترتفع في ثاني الحال ِ عند وجودِ المشيئة، بخلافِ الجهالة الواقعة فيما إذا أجاز لبعض ِ الناس. وإذا قال: " أجزتُ لم نشاء " فهو كما لو قال: " أجزتُ لمن شاء فلانٌ ". والله أعلم. بلة هذه أكثرُ جهالةً وانتشارًا، من حيث إنها معلقةٌ بمشيئةِ مَنْ لا يُحصَرُ عددُهم، بخلافِ تلك.
ثم هذا فيما إذا أجاز لمن شاء الإجازةَ منه له. فإن أجاز لمن شاء الروايةَ عنه فهذا أوْلَى بالجواز، من حيث أن مقتضى كلِّ إجازةٍ تفويضُ الرواية بها إلى مشيئةِ المُجازِ له. فكان هذا، مع كونه بصيغةِ التعليق، تصريحًا بما يقتضيه الإطلاقُ وحكايةً للحَال ِ، لا تعليقًا في الحقيقة. ولهذا أجاز بعضُ أئمة الشافعيينَ في البيع أن يقول: " بعتُكَ هذا بكذا إن(1/338)
شئتَ ". فيقول: قبلتُ *.
ووُجِدَ بخط " أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي الحافظ ": " أجزتُ روايةَ ذلك لجميع من أحَبَّ أن يرويَ ذلك عني ".
أما إذا قال: " أجزتُ لفلانٍ كذا وكذا إن شاء روايتَه عني، أو: لكَ إن شئتَ، أو ك أحببتَ، أو: أردتَ " فالأظهرُ الأقوى أن ذلك جائز؛ إذ قد انتفت فيه الجهالةُ وحقيقةُ التعليق، ولم يبق سوى صيغتِه. والعلمُ عند الله تعالى.
النوع الخامس من أنواع الإجازة:
الإِجازةُ للمعدوم، ولنذكر معها الإجازةَ للطفل الصغير.
هذا نوع خاض فيه قوم من المتأخرين واختلفوا في جوازه. [43 / ظ] ومثالُه أن تقول: " أجزتُ لمن يولَدُ لفلان ". فإن عَطَفَ المعدومَ في ذلك على الموجودِ بأن قال:
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما تقدم، فيما إذا أراد من شاء الرواية، وأنه أولى بالجواز؛ أي مما إذا قال: أجزت لمن شاء فلان؛ أن قوله: لمن شاء، يريد الرواية، لا يحسن تشبيهُه بأحدِ الوجهين، وهو الأصحُّ فيما إذا قال: بعتُك هذا بكذا إن شئتَ، فيقول: قبلتُ. من جهة أن قوله: بعتُك إن شئتَ، ليس تعليقًا على ما عليه تفرعٌ من جهة التصريح بمقتضى الإطلاق، فإن المشتري بالخيار: إن شاء قَبِلَ وإن شاء لم يقبل؛ لتوقفِ تمام ِ البيع على قبولِه. وليس كذلك في الإجازة، فلا تتوقف على القبول فيكون قولُه: " أجزتُ لمن شاء الرواية " تعليقًا؛ لأنه قَبْلَ مشيئةِ الروايةِ ولا يكون، وبعد مشيئتها يكون مُجازًا؛ وحينئذ فلا يصح؛ لأنه يؤدي إلى تعليق وجهل، وذلك باطل كما تقدم. ونظيرُه في الوكالة: وكَّلتُ في بيع هذه العينَ من شاء بيعَها. وفي الوصايا: وصيتُ بهذه العين مَن شاء أن يقبلها. ومثل هذا، إذا بطل في الوصية مع احتمالها ما لا يحتمله غيرُها، فَلأنْ يبطلَ فيما نحن فيه أوْلَى. نعم، نظيرُ فرع البيع أن يقول: " أجزتُك إن شئتَ " على معنى أن ترويَ إذا شئتَ، وذلك صحيح، وسيأتي قريبًا.
ويدل لما قدمنا أنه لو قال: " راجعتُكَ إن شئتِ " فإنه لا تصح الرجعةُ. انتهت " 53 / و ظ.
__________
- وانظر تقييد العراقي (185) وتدريب الراوي (2/ 36) عن العراقي والبلقيني.(1/339)
" أجزتُ لفلانٍ ومَن يولَد له، أو: أجزتُ لكَ ولولدِك وعقبِك ما تناسلوا " كان ذلك أقربَ إلى الجوازِ من الأول. ولمثل ِ ذلك أجاز أصحابُ الشافعي في الوقفِ القسمَ الثاني دون الأول. * وقد أجاز أصحابُ مالكٍ وأبي حنيفة - أو مَن قال ذلك منهم - في الوقفِ، القسمين كليهما. وفَعَلَ هذا الثانيَ في الإجازة من المحدِّثين المتقدمين " أبو بكر بن أبي داود السجستاني " فإنا روينا عنه أنه سئل الإجازةَ فقال: " قد أجزتُ لك ولأولادِك ولِحَبَل ِ الحَبلةِ " يعني الذين لم يُولَدوا بعد (1).
وأما الإجازة للمعدوم ابتداءً من غير عطفٍ على موجود؛ فقد أجازها " الخطيبُ أبو بكر الحافظ " وذكر أنه سمع " أبا يعلى بن الفراء الحنبلي، وأبا الفضل بن عمروس المالكي " يجيزان ذلك. وحكى جوازَ ذلك أيضًا " أبو نصر ابنُ الصباغ الفقيه " فقال: " ذهب قوم إلى أنه يجوز أن يُجيز لمن لم يُخلَقْ ". قال: (2) " وهذا إنما ذهب إليه من يعتقد أن الإجازةَ إذنٌ في الرواية، لا محادثة " ثم بَيَّنَ بُطلانَ هذه الإجازة، وهو الذي استقر عليه رأيُ شيخِه " القاضي أبي الطيب الطبري الإمام ".
وذلك هو الصحيحُ الذي لا ينبغي غيرُه؛ لأن الإجازةَ في حُكم الإخبار جملةً بالمُجازِ على ما قدمناه في بيانِ صحة أصل الإجازة؛ فكما لا يصحُّ الإخبارُ للمعدوم، لا تصح الإجازةُ للمعدوم. ولو قدَّرنا أن الإجازة إذنٌ فلا يصح أيضًا ذلك للمعدوم، كما لا يصح الإذنُ في بابِ الوكالةِ للمعدوم؛ لوقوعهِ في حالةٍ لا يصحُّ فيها المأذونُ فيه من المأذونِ له.
__________
(1) أسنده الخطيب عن أبي بكر بن أبي داود، في (الكفاية 325).
(2) الخطيب أبو بكر، في: الكفاية: 325 / أبواب الإجازة.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: الشافعي نفسُه أجازه، ونصَّ عليه في وصيته المكتتبة في (كتاب الأم) فأوصى فيها أوصياء على أولادِه الموجودين ومَنْ يُحدِثه الله له من الأولاد. انتهت " 54 / و.
- الأم، كتاب الوصايا: 4/ 122 - 123.
" فائدة: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل ِ المبالغة وتأكيد الإجازة، لا أن المرادَ به حقيقةُ اللفظ. انتهت " 54 / و.(1/340)
وهذا أيضًا يوجبُ بطلانَ الإجازة للطفل ِ الصغير الذي لا يصحُّ سماعُه. قال " الخطيبُ ": سألت القاضي أبا الطيبِ الطبري [44 / و] عن الإجازة للطفل الصغير: " هل يُعتبر في صحتها سِنُّه أو تمييزُه، كما يُعتَبرُ ذلك في صحةِ سماعِه؟ فقال: لا يُعتبَر ذلك. قال: فقلت له: إن بعضَ أصحابِنا قال: لا تصحُّ الإجازةُ لمن لا يصحُّ سماعه. فقال: قد يصحُّ أن يجيزَ للغائبِ عنه، ولا يصح السماعُ له " (1). واحتج " الخطيبُ " لصحتها للطفل ِ بأن الإجازةَ إنما هي إباحة المجيزِ للمجازِ له أن يرويَ عنه. والإباحةُ تصحُّ للعاقل ِ وغيره العاقل قال: " وعلى هذا رأينا كافة شيوخِنا يجيزون للأطفال ِ الغُيَّب عنهم. من غير أن يَسألوا عن مبلغ أسنانِهم وحال ِ تمييزهم، ولم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودًا في الحال " (2).
قال المملي - أبقاه الله -: كأنهم رأوا الطفلَ أهلاً لتحمل ِ هذا النوع ِ من أنواع تحمل ِ الحديثِ ليؤديَ به بعد حصول ِ أهليتِه؛ حرصًا على توسيع السبيل ِ إلى بقاء الإسنادِ الذي اختصت به هذه الأمّة، وتقريبِه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم (3).
النوع السادس من أنواع الإجازة:
إجازة ما لم يسمعه المجيزُ ولم يتحملْه أصلاً بعدُ ليرويه المجازُ له إذا تحمله المجيزُ بعد ذلك. أخبرني من أخبر عن " القاضي عياض ِ بن موسى " من فضلاءِ وقته بالمغربِ، قال: " هذا لم أر من تكلم عليه من المشايخ، ورأيتُ بعض المتأخرين والعصريينَ يصنعونه " ثم حكى عن " أبي الوليد يونس بن مغيث، قاضي قرطبة " أنه سُئل الإجازةَ لجميع ِ ما رواه إلى تاريخها وما يرويه بعدُ، فامتنع من ذلك، فغضب السائلُ، فقال له بعضُ أصحابه: " يا هذا، يُعطيكَ ما لم يأخذْه؟ هذا محال " قال " عياض ": وهذا هو الصحيح (4).
__________
(1) كفاية الخطيب (325) وتمام عبارت: ولا يصح السماع منه لمن غاب عنه، أو كلامًا كهذا ".
(2) يليه في الكفاية: ولو فعله فاعل يصحُّ لمقتضى القياس " (325 - 326).
(3) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ مقابلة بالأصل المقابل بأصل المسمِّع، ثانية.
(4) قوبل على (الإلماع للقاضي عياض: 105 - 106) قراءته من فهرسة الشيخ أبي مروان عبدالملك بن زيادة الله الطبني. وزاد عياض: " فقال يونس: هذا جوابي ".(1/341)
قال المملي - أبقاه الله -: ينبغي أن يُبنَى هذا على أن الإجازةَ في حكم الإخبار بالمجاز جملةً، أو هي إذْنٌ. فإن جُعِلتْ في حكم الإخبار لم تصح هذه الإجازةُ؛ [44 / ظ] إذ كيف يخبر بما لا خبرَ عنده منه؟ وإن جُعِلتْ إذْنًا انبنى هذا على الخلافِ في تصحيح الإذنِ في بابِ الوكالة فيما لم يملكْه الآذنُ الموكِّلُ بعدُ، مثل أن يوكِّلَ في بيع العبدِ الذي يريد أن يشتريه، وقد أجاز ذلك بعضُ أصحابِ الشافعي. والصحيحُ بطلانُ هذه الإجازة. * وعلى هذا يتعينُ على من يردي أن يرويَ بالإجازةِ عن شيخ ٍ أجاز له جميعَ مسموعاته مثلا، أن يبحثَ حتى يعلمَ أن ذلك الذي يريد روايتَه عنه، مما سمعه قبلَ تاريخ الإجازة. وأما إذا قال: " أجزتُ لك ما صحَّ ويصحُّ عندك من مسموعاتي " فهذا ليس من هذا القبيل، وقد فعله " الدارقطني " وغيره. وجائزٌ أن يرويَ بذلك عنه ما صحَّ عنده بعد الإجازة أنه سمعه قبل الإجازة. ويجوز ذلك وإن اقتصر على قوله: " ما صحَّ عندك " ولم يقل: " وما يصح "؛ لأن المرادَ: أجزت لك أن ترويَ عني ما صحَّ عندك. فالمعتبر إذًا فيه صحةُ ذلك عنده حالةَ الرواية. والله أعلم.
النوع السابع من أنواع الإجازة: إجازة المُجاز (1).
مثل أن يقول الشيخُ: " أجزتُ لك مُجازاتي، أو: أجزتُ لك روايةَ ما أجيز لي روايتُه "
__________
(1) انظر في الكفاية (الرواية إجازة عن إجازة): 349.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لو وكله في بيع ما ملكه وما سيملكه؛ فالذي يظهر صحتُه بما نص عليه " الشافعيُّ " في وصيته، وقد تقدم؛ فلا يُنَظَّر ذلك بما إذا وكَّله في بيع عبد سيملكه مجردًا، بل نظيرُه أن يوكله في بيع ما في مِلْكه وما سيجري في ملكه؛ فتقرب الصحةُ حينئذ في الإجازة. انتهت " 55 / و.
__________
- وانظر (فتح المغيث: 2/ 86).(1/342)
فمنع من ذلك بعضُ مَن لا يُعتَدُّ به من المتأخرين. * والصحيحُ والذي عليه العملُ أن ذلك جائز. ولا يشبه ذلك ما امتنع من توكيل الوكيل بغير إذن الموكِّل. ووجدتُ عن " أبي عمرو السفاقسي الحافظ المغربي " قال: " سمعتُ أبا نُعيم الحافظَ الأصبهاني (1) يقول: الإجازةُ على الإجازة قويةٌ جائزة ".
وحكى " الخطيبُ الحافظُ " تجويز ذلك عن " الحافظِ الإمام أبي الحسن الدارقطني، والحافظِ أبي العباس المعروف بابنِ عُقدةَ الكوفي " وغيرِهما. (2) وقد كان الفقيهُ الزاهد [45 / و] " نصرُ بنُ إبراهيمَ المقدسي " يروي بالإجازةِ عن الإجازة، حتى ربما والَى في روايتِه بين إجازاتٍ ثلاث. **
وينبغي لمن يَروي بالإجازة عن الإجازة أن يتأملَ كيفيةَ إجازةِ شيخ ِ شيخِه ومقتضاها؛ حتى لا يرويَ بها ما لم يندرجْ تحتها: فإذا كان مثلاً صورةُ إجازةِ شيخ ِ
__________
(1) [أصبهان، بكسر الهمزة وفتحها] من هامش (غ) وهو ضبطه في (اللباب: 2/ 69). وانظر معه (مشارق الأنوار على صحاح الآثار 1/ 58).
(2) الكفاية: باب الرواية إجازة عن إجازة (350) وفيها صورة من نص إجازة الحافظ أبي العباس ابن عقدة: أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي (249 - 332 هـ).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قيل: كأنه يشير إلى الإمام العلامة الحافظ عبدالوهاب الأنماطي (1)؛ فإنه جمع في ذلك شيئًا. انتهت " 55 / و.
** المحاسن:
" فائدة: القرينة الحالية من إرادة إبقاء السلسلة، قاضيةٌ بأن كلَّ مُجيزٍ بمقتضى ذلك، أَذِنَ لمن أجازه أن يُجِيزَ، وذلك في الإذن في الوكالة جائز. انتهت " 55 / و.
__________
(1) عبدالوهاب بن المبارك بن أحمد، أبو البركات الأنماطي الحافظ، محدث بغداد (462 - 538 هـ) كان لا يجوز الإجازة على الإجازة، وصنف في ذلك (تذكرة الحفاظ للذهبي: 4/ 1282، والعبر، له: 4/ 104) مع التقييد لابن نقطة (ل: 128).(1/343)
شيخِه: " أجزتُ له ما صحَّ عنده من سماعاتي " فرأى شيئًا من مسوعاتِ شيخ ِ شيخِه؛ فليس له أن يرويَ ذلك عن شيخِه عنه؛ حتى يستبينَ أنه مما كان قد صحَّ عند شيخِه كونُه من مسموعات شيخِه الذي تلك إجازتُه، ولا يكتفي بمجردِ صحةِ ذلك عنده الآنَ؛ عملاً بلفظِه وتقييدِه. ومَن لا يتفطنْ لهذا وأمثاله يَكثرْ عثارُه. والله أعلم.
هذه أنواعُ الإجازة التي تمسُّ الحاجةُ إلى بيانها. ويتركبُ منها أنواعٌ أُخَرُ سيتعرفُ المتأملُ حُكمَها مما أمليناه إن شاء الله تعالى.
ثم إنا نُنَبِّهُ على أمور:
أحدها: روينا عن " أبي الحسين (1) أحمدَ بنِ فارس " الأديب المصنفِ - رحمه الله - قال (2): " معنى الإجازة في كلام العرب مأخوذٌ من جوازِ الماء الذي يُسقاه المالُ من الماشيةِ والحَرْث، يقال منه: استجزتُ فلانًا فأجازني، إذا أسقاك ماءً لأرضِك أو ماشيتِك. كذلك طالبُ العلم يسأل العالِمَ أن يجيزَه عِلْمَه فيجيزَه إياه " (3).
قال المملي - أبقاه الله -: فللمجيزِ على هذا أن يَقولَ: " أجزتُ فلانًا مسموعاتي أو مَروِيَّاتي " فيُعدِّيه بغيرِ حرفِ جَرٍّ، من غيرِ حاجةٍ إلى ذكر لفظِ الرواية أو نحوِ ذلك. ويحتاج إلى ذلك من يَجعل الإجازةَ بمعنى التَسويغ والإِذْنِ والإِباحة، وذلك هو المعروف، فيقول: " أجزتُ لفلانٍ روايةَ مسموعاتي " مثلا. ومَن يقول منهم: " أجزت له مسمُوعاتي " فعلى سبيل ِ الحذف الذي لا يخفى نظيرُه. والله أعلم.
الثاني: [45 / ظ] إنما تُستحسَنُ الإجازةُ إذا كان المجيزُ عالما بما يجيز، والمُجاز له من أهل ِ العلم؛ لأنها توسُّع وترخيصٌ يتأهَّلُ له أهلُ العلم لمسيس ِ حاجتهم إليها. وبالغ بعضُهم في ذلك فجعله شرطًا فيها. وحكاه " أبو العباس الوليدُ بن بكر المالكيُّ " عن
__________
(1) متن (غ، ص). وبهامش (غ): [أبو الحسن] خ / ومثله في مطبوعة (ع).
انظر: " أحمد بن فارس بن زكريا، القزويني الرازي، أبا الحسين " صاحب (معجم مقاييس اللغة، والمجمل) في: اليتيمة: 3/ 214، ابن الأنباري 392، ابن خلكان 1/ 351، إنباه القفطي 1/ 92 والعبر 3/ 58 وفيات سنة 395 هـ.
(2) أحمد بن فارس " في جزء له سماه مأخذ العلم " قاله السخاوي في (فتح المغيث 2/ 94).
(3) أسنده الخطيب في (الكفاية: 312) عن أبي الحسين أحمد بن فارس.(1/344)
" مالك " - رضي الله عنه -. وقال " الحافظُ أبو عمر ": " الصحيحُ أنها لا تجوزُ إلا لماهرٍ بالصناعةِ، وفي شيء معيَّنٍ لا يشكل إسنادُه " (1). والله أعلم.
الثالث: ينبغي للمُجيز إذا كتَبَ إجازتَه أن يتلفظَ بها، فإن اقتصر على الكتابة كان ذلك إجازةً جائزةً إذا اقترن بقَصْدِ الإجازة، غير أنها أنقصُ مرتبةً من الإجازة الملفوظِ بها. وغيرُ مستبعَدٍ تصحيحُ ذلك بمجردِ هذه الكتابة في بابِ الروايةِ الذي جُعِلتْ فيه القراءةُ على الشيخ، مع أنه لم يلفظ بما قُرئ عليه؛ إخبارًا منهُ بما قرئ عليه، على ما تقَدم بيانُه. والله أعلم.
القسم الرابع من أقسام ِ طُرُقِ تحمُّل ِ الحديث وتلقيه:
المناولة، وهي على نوعين:
أحدُهما: المناولةُ المقرونةُ بالإجازة، وهي أعلى أنواع الإجازةِ على الإِطلاق. ولهما صُوَرٌ:
منها: أن يدفع الشيخُ إلى الطالبِ أصلَ سماعه أو فرعًا مقابَلا به ويقولَ: " هذا سماعي، أو روايتي عن فلانٍ، فاروِه عني، أو: أجزتُ لك روايتَه عني ". ثم يُملكه إياه. أو يقول: " خُذْهُ وانسخْه وقابلْ به، ثم رُدَّه إليَّ " أو نحو هذا.
__________
(1) أبو عمر ابن عبدالبر، في (جامع بيان العلم: 2/ 179 - 180).
ونقل الحافظ شمس الدسن السخاوي في (فتح المغيث: 2/ 96): قال ابن سيد الناس: " أصل الإجازة مختلف فيه، ومن أجازها فهي قاصرة عنده عن رتبة السماع. وحينئذ فينغي ألا تجوز من كل من يجوز منه السماع. وإن ترخص مرخص وجوزها من كل من يجوز منه السماع؛ فأقل مراتب المجيز أن يكون عالمًا بمعنى الإِجازة العلم الإجمالي من أنه روى شيئًا، وأن معنى إجازته لغيره إذنه لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة من أهل هذا الشأن؛ لا العلم التفصيلي بما روى وبما يتعلق بأحكام الإجازة. وهذا العلم الإجمالي حاصل فيمن رأيناه من عوام الرواة. فإن انحط راوٍ في الفهم عن هذه الدرجة - ولا إخال أحدًا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به - فلا أحسبه أهلا لأن يُتحمَّلَ عنه بإجازة ولا سماع. قال: وهذا الذي أشرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور ".
- قوبل على (أجوبة ابن سيد الناس) الحافظ أبي الفتح اليعمري، على مسائل تليمذه الحافظ ابن أبيك الدمياطي: ل 46 أ مصورة معهد المخطوطات بالقاهرة، من مخطوط الإسكوريال.(1/345)
ومنها: أن يجيء الطالبُ إلى الشيخ بكتابٍ أو جزءٍ من حديثِه فيعرضَه عليه، فيتأمله الشيخُ وهو عارفٌ متيقظ، ثم يعيده إليه ويقول له: " وقفتُ على ما فيه، وهو حديثي عن فلانٍ، أو: روايتي عن شيوخي فيه، فاروِه عني، أو: أجزتُ لك روايتَه عني ". وهذا قد سماه غيرُ واحدٍ من أئمة الحديث: [46 / و] عَرْضًا. وقد سبقت حكايتُنا في (القراءةِ على الشيخ) أنها تُسمَّى عَرْضًا، فلنُسمِّ ذلك: عرضَ القراءةِ، وهذا: عرضَ المناولة.
وهذه المناولة المقرونةُ بالإجازةِ حالَّةٌ محلَّ السماع ِ عند " مالكٍ " وجماعةٍ من أئمةِ أصحابِ الحديث. وحَكَى " الحاكمُ أبو عبدِالله الحافظُ النيسابوري " في عَرْض ِ المناولة المذكور، عن كثير من المتقدمين، أنه سماع. (1) وهذا مُطَّرِدٌ في سائرِ ما يماثلُه من صُوَرِ المناولة المقرونةِ بالإِجازة. فمِمَّنْ حكى " الحاكمُ " ذلك عنهم: " ابنُ شهاب الزهري، وربيعةُ الرأي، ويحيى بنُ سعيد الأنصاري، ومالكُ بنُ أنس الإمامُ " في آخَرِينَ من المدنيين، و " مجاهدٌ، وأبو الزبير، وابنُ عُيَيْنَةَ " في جماعةٍ من المكيين، و " علقمةُ وإبراهيمُ النخَعِيَّانِ، والشعبيُّ " في جماعةٍ من الكوفيين، و " قتادةُ، وأبو العالية، وأبو المتوكِّل ِ (2) الناجي " في طائفةٍ من البصريينَ، و " ابن وهب، وابن القاسم، وأشهب " (3) في طائفة من المصريين، وآخرون من الشاميين والخراسانيين. ورأى " الحاكمُ " طائفةً من مشايخِه على ذلك * (4).
__________
(1) في معرفة علوم الحديث، النوع 52 (معرفة من رخص في العرض على العالم ورآه سماعا). 257 - 260.
وانظر معه في كتاب العلم من صحيح البخاري (باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان) فتح الباري 1/ 114.
(2) على هامش (غ): [أبو المتوكل، هو علي بن دُوَاد. ويقال: ابن داود، أيضًا. والله أعلم] وفي تهذيب التهذيب: بن داود، ويقال: بن دُوَاد (7/ 318)، وفي معرفة الحاكم: علي بن دُواد، ومثله في الإكمال (3/ 336).
(3) [أشهب: لقب له، واسمه: مسكين] من هامش (غ).
(4) قوبل على معرفة الحاكم: 256 - 268.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: أحسنُ ما يُستدلُّ به على المناولة بغير قراءة، ما ذكر " الحاكم " مستدلا به مسنَدًا من حديثِ ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بكتابه إلى كسرى =(1/346)
.............................................................................................................................
___________________________________
= مع عبدالله بن حذافة، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، ويدفعَه عظيمُ البحرين إلى كسرى (1).
وأرفعُ من حكاه من المدنيين، أنها بمنزلة السماع: أبو بكر بن عبدالرحمن، أحدُ الفقهاء السبعة، وعكرمة مولى ابن عباس. ومن دونهم: العلاءُ بن عبدالرحمن، وهشام بن عروة، ومحمد بن عمرو بن علقمة، ومن دونهم: عبدُالعزيز بن محمد بن عبيد (2).
من جملة المكيينَ أيضًا: عبدُالله بن عثمان بن خُثَيم، ونافع الجمحي، وداودُ العطار، ومسلم الزنجي. (3).
ومن الكوفيين: أبو بردة الأشعري، وعلي بن ربيعة الأسدي، وحبيبُ بن أبي ثابت، ومنصورُ بن المعتمر، وإسرائيلُ، والحسنُ بن صالح، وزهير بن معاوية الجعفي، وجابر الجعفي.
ومن البصريين: حُمَيدُ الطويل، وسعيد بن أبي عروبةَ، وزياد بن فيروز، (4) وعلي بن زيد بن جدعان، وداود بن أبي هند، وكهمس، وجرير بن حازم، وسليمان بن المغيرة.
ومن المصريين: عبدُالله بن عبدالحكم، وسعيدُ بن عفير، ويحيى بنُ عبدالله ابن بكير، ويوسفُ بن عمرو. قال " الحاكم ": وجماعةٌ من المالكيين بعدهم.
وممن ذكر " الرامهرمزي " عنه أن كان يرى المناولة [سماعًا]: " الحسنُ البصري " كان لا يرى بأسًا أن يدفع المحدِّثُ كتابَه ويقولَ: " اروِ عني جميعَ ما فيه؛ يسعه =
__________
(1) علوم الحاكم (258) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة، وكتاب الجهاد، باب دعوة اليهود والنصارى، والمغازي، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر. وفي (فتح الباري 1/ 115) أن كسرى هو أبرويز بن هرمز بن أن شروان، وعظيم البحرين: المنذر بن ساوي العبدي - رضي الله عنه -.
(2) نسبه في مطبوعة المعرفة (257): الأندراوردي. وهو في (طبقات ابن سعد): عبدالعزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي، أبو محمد، من أهل المدينة (5/ 423) ومثله في تهذيب التهذيب، وذكر في نسبه أيضًا: الأندراوردي (6/ 353) وانظره في اللباب (1/ 496).
(3) المعرفة للحاكم: 257.
(4) هو " أبو العالية " البصري في متن ابن الصلاح، وفي علوم الحاكم: وأبو العالية زياد بن فيروز: (257).(1/347)
وفي كلامه بعضُ التخليطِ: من حيث كونُه خَلط بعضَ ما ورد في عرض ِ القراءةِ، بما ورد في عَرْض ِ المناولة. وساق الجميعَ مَساقًا واحدًا. والصحيحُ أن ذلك غيرُ حالٍّ محلَّ السماع، وأنه مُنْحَطٌّ عن درجةِ التحديثِ لفظًا والإخبارِ قراءةً * (1).
وقد قال " الحاكم " في هذا العرض: أما فقهاء الإِسلام الذين أفتَوا في الحلال ِ والحرام فإنهم لم يروه سماعًا، وبه قال " الشافعي، والأوزاعي، والبويطي، والمزني، وأبو حنيفة، وسفيانُ الثورِي، وأحمدُ بن حنبل، وابنُ المبارك، ويحيى بن يحيى، وإسحاق بن [46 / ظ]
__________
(1) انظر تقييد العراقي: 195.
___________________________________
= أن يقول: حدثني فلان عن فلان ". (1) وذكر أيضًا عن " يحيى بن أبي كثير " أنه كان يرى المناولة (2). انتهت " 56 / و.
* المحاسن:
" فائدة: أسند " الرامهرمزي " عن إسماعيلَ بن أبي أُوَيس قال: " سألتُ مالكًا عن أصَحِّ السماع؛ فقال: قراءتك على العالم - أو قال: المحدث - ثم قراءة المحدِّث عليك، ثم أن يدفع إليك كتابَه فيقول: اروِ هذا عني " (3).
فهذا تصريحٌ من " الإمام مالك " بانحطاطِ درجةِ المناولة عن القراءة على الشيخ وقراءةِ الشيخ على الطالب. وهذا خلافُ ما يقتضيه ظاهرُ كلام " الحاكم " في النقل عن " مالك " وغيره. وقد روى " الحاكم " عن ابن أبي أويس، قال: " سُئل مالكٌ عن حديثِه، أسمَاعٌ هو؟ فقال: منه سماع ومنه وعرض، وليس العرضُ عندنا بأدنى من السماع. (4) وهذا يمكن حملُه على عرض ِ القراءة. وفي رواية " الرامهرمزي " ما يقتضي تسميةَ عرض ِ المناولةِ سماعًا؛ لأن الترتيب جوابٌ عن: أصحِّ السماع عندك. وكأن هؤلاء الأئمة المحكِيَّ عنهم جوَّزوا الروايةَ بها، لا أنهم يُنزلونها منزلةَ السماع سواءً بسواء. انتهت " 56 / ظ.
__________
(1 - 2) الرامهرمزي في (المحدث الفاصل: 435 ف 498، 437/ 505).
(2) زاد الرامهرمزي عن إسماعيل، قال: فقلت لمالكٍ: أقرأ عليك وأقول: حدثني؟ قال مالك: أو لم يقل ابن عباس: أقرأني أبيُّ بن كعب، وإنما قرأ على أُبيَّ؟ (المحدث 438 ف 506).
(4) قوبل على الحاكم في (المعرفة: 259).(1/348)
راهويه " قال: " وعليه عهِدنا أئمتنا، وإليه ذهبوا وإليه نذهب ". (1) والله أعلم *.
ومنها: أن يُناوِلَ الشيخُ الطالبَ كتابَه ويُجيزَ له روايتَه عنه، ثم يمسكه الشيخُ عنده ولا يُمكِّنه منه. فهذا يتقاعدُ عما سبق؛ لعدم احتواءِ الطالبِ على ما تحمَّله، وغيبتِه عنه. وجائزٌ له روايةُ ذلك عنه، إذا ظفر بالكتاب أو بما هو مقابَلٌ به، على وجهٍ يثقُ معه بموافقتِه لما تناولتْه الإجازةُ، مع ما هو مُعتبَرٌ في الإجازات المجردةِ عن المناولة.
ثم إن المناولةَ في مثل ِ هذا، لا يكادُ يظهر حصولُ مزيةٍ بها على الإجازة الواقعة في مُعيَّنٍ كذلك من غير مناولة، وقد صار غيرُ واحدٍ من الفقهاء والأصوليين إلى أنه لا تأثيرَ لها ولا فائدة. غيرَ أن شيوخَ أهل ِ الحديث في القديم والحديث، أو من حُكِي ذلك عنه منهم، يَرون لذلك مزيَّةً مُعتَبَرةً. والعلمُ عند الله تعالى.
__________
(1) الحاكم في المعرفة (259 - 260) نظر الحاكم فيهم إلى كونهم علماء الأمصار.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: احتج " الحاكم " لذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها " (1) وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تسمعون ويُسمَعُ منكم " (2).
وما احتج به " الحاكم " لا يقتضي امتناعَ تنزيل المناولة على ما تقدم، منزلةَ السماع في القوة. على أني لم أجد من تصريح كلامهم ما يقتضي ذلك. انتهت " 57 / و.
__________
(1) أخرجه الحاكم في المعرفة (260) والرامهرمزي في (باب فضل الناقل لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) من عدة طرق، بأسانيده، والخطيب في شرف أصحاب الحديث (17 - 19) وابن عبدالبر في (جامع بيان العلم) باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمستمع العلم وحافظه ومبلغه: (1/ 38) وأخرجه قبلهم أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه، وحسَّنه، والنسائي، وابن ماجه في سننهما. وضبط الرامهرمزي: نضر بالتخفيف، وقال: وأكثر المحدثين يقولونه بالتثقيل إلا من ضبط منهم (المحدث 168 ف 10) وقال الخطابي في (معالم السنن 4/ 187): يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها، والتخفيف أجود. وقال عياض في المشارق (2/ 16): " بتخفيف الضاد وتشديدها، وأكثر الشيوخ يشددون، وأكثر أهل الأدب يخففون. قال ابن خلاد: وهو الصحيح ".
(2) الحاكم في المعرفة وأخرجه (260) وفي المستدرك (1/ 95) وابن خلاد الرامهرمزي في المحدث الفاصل، والخطيب في الشرف باب 13 (37 - 38) وابن عبدالبر في جامع بيان العلم (1/ 43).(1/349)
ومنها: أن يأتيَ الطالبُ الشيخَ بكتابٍ أو جزء فيقول: " هذا روايتُك فناوِلنيه وأَجِزْ لي (1) روايتَه ". فيجيبه إلى ذلك من غير أن ينظر فيه ويتحققَ روايتَه لجميعِه. فهذا لا يجوز ولا يصح *. فإن كان الطالبُ موثوقًا بخبرِه ومعرفته جاز الاعتمادُ عليه في ذلك، وكان ذلك إجازةً جائزة، كما جاز في القراءة على الشيخ الاعتمادُ على الطالبِ حتى يكون في القارئ من الأصل، إذا كان موثوقًا به معرفةً ودِينًا **.
قال " الخطيب أبو بكر ": ولو قال: " حدِّث بما في هذا الكتاب عني إن كان من حديثي مع براءتي من الغلَطِ والوهم؛ كان ذلك جائزًا حسنًا " (2). والله أعلم.
الثاني: المناولة المجردة عن الإجازة، بأن يناوله الكتابَ كما تقدم ذكرُه أولا، ويقتضر على قولِه: " هذا من حديثي، أو: من سماعاتي " ولا يقول: " اروِه عني، أو: أجزتُ لك روايتَه [47 / و] عني " ونحو ذلك؛ فهذه مناولة مختلة لا تجوز الروايةُ بها. وعابها غيرُ واحدٍ من الفقهاء والأصوليين على المحدِّثين الذين أجازوها وسوَّغوا الروايةَ بها. وحَكَى " الخطيبُ " عن طائفةٍ من أهل ِ العلم أنهم صحَّحوها وأجازوا الروايةَ بها. (3) وسنذكر إن
__________
(1) في ص: [وأجزني].
(2) في الكفاية: 318 وانظر جامع بيان العلم (2/ 179 - 180) والإلماع (95).
(3) الخطيب في الكفاية (328) من طريق ابن خلاد الرامهرمزي، وهو في (المحدث الفاصل) بإسناده: حدثنا الساجي، ثنا هارون بن سعيد الأيلي، ثنا أبو زيد بن أبي الغمر، قال: اجتمع ابن وهب وابن القاسم وأشهب بن عبدالعزيز، أني إذا أخذت الكتاب من المحدث، أن أقول فيه: أخبَرني " ص 440 ف 513.
___________________________________
* المحاسن:
" على هامش المحاسن، بخط الشيخ:
[حاشية: قوله: فلا يجوز؛ فيه نظر؛ لأنه يشتمل على ما إذا استمر الحال على عدم المعرفة، أو انكشف. وفي هذا الثاني يكون على تقدير قوله: أجزرك بروايته، إن كان من مروياته ... وهو أولى مما تقدم في بحث الإجازة " 57 / و.
** " فائدة: لا سيما إذا كان الكتابُ مشهورًا كالبخاري أو مسلم أو نحوِهما؛ فإنه يقرب من تمليكه له أو إعارته. انتهت " 57 / و.(1/350)
شاء الله سبحانه وتعالى قولَ من أجاز الروايةَ بمجردِ إعلام ِ الشيخ الطالبَ أن هذا الكتابَ سماعُه من فلان *. وهذا يزيدُ على ذلك ويترجَّحُ بما فيه من المناولة؛ فإنها لا تخلو من إشعارٍ بالإذنِ في الرواية. والله أعلم.
القولُ في عبارةِ الراوي بطريقِ المناولةِ والإجازة:
حُكِيَ عن قوم من المتقدمين ومَن بعدهم أنهم جوَّزوا إطلاق " حدثنا وأخبرنا " في الرواية بالمناولة. حُكي ذلك عن " الزُّهري، ومالكٍ " وغيرهما. (1) وهو لائقٌ بمذهبِ جميع ِ من سبقت الحكايةُ عنهم أنهم جعلوا عَرْضَ المناولةِ المقرونةِ بالإجازة سماعًا. ويُحكَى أيضًا عن قوم مثلُ ذلك في الرواية بالإجازة. وكان الحافظُ " أبو نُعَيم الأصبهاني " صاحبُ التصانيف الكثيرة في علم الحديث، يطلق " أخبرنا " فيما يَرويه بالإجازة. روينا عنه أن قال: " أنا إذا قلتُ: حدثنا؛ فهو سَماعي، وإذا قلتُ: أخبرنا، على الإطلاق؛ فهو إجازة من غير أن أذكر: إجازةً أو كتابةً، أو: كَتبَ إليَّ، أو: أَذِنَ لي في الرواية عنه ".
وكان " أبو عبيدالله المرزباني " (2) الأخباري صاحبُ التصانيف في علم الخبر، يروي
__________
(1) انظرهم في (الإلماع، باب في العبارة عن النقل لوجوه السماع والأخذ، والمتفق في ذلك والمختلف فيه، والمختار منه عند المحققين والمحدثين) 128.
(2) في (هـ): [أبو عبدالله المرزباني] تصحيف. وكذلك وقعت كنيته في طبعة العبر، وفيات سنة 384 (3/ 27).
ترجمة " محمد بن عمران بن موسى، أبي عبيدالله المرزباني " صاحب (معجم الشعراء، والموشح) في: تاريخ بغداد 3/ 135، وابن خلكان 1/ 506 وميزان الذهبي 2/ 429، وإنباه القفطي 3/ 180.
* المحاسن:
على هامش المحاسن بخط الشيخ:
" حاشية: زاد في (المحصور): إذا أشار الشيخ إلى كتاب فقال: هذا سماعي من فلان؛ جازت الرواية عنه، سواء [أراد روايته] أم لا.
قلت: وهذه الإشارة أعلى من الإعلام المجرد " 57 / ظ.(1/351)
أكثرَ ما في كُتبِه إجازةً من غير سماع، ويقول في الإجازة: " أخبرنا "، ولا بينهما. وكان ذلك - فيما حكاه " الخطيب - مما عيب به (1) ز
والصحيحُ والمختارُ الذي عليه عملُ الجمهور، وإياه اختار أهلُ التحرِّي والورَع، [47 / ظ] المنعُ في ذلك من إطلاق " حدثنا وأخبرنا " ونحوِهما من العبارات، وتخصيصُ ذلك بعبارةٍ تُشعِرُ به، بأن يُقيِّدَ هذه العباراتِ فيقولَ: أخبرنا أو حدثنا فلانٌ مناولةً وإجازةً، أو أخبرنا إجازةً، أو أخبرنا مناولةً، أو أخبرنا إذنا، أو في إذنه، أو فيما أذن لي فيه، أو فيما أطلق روايتَه عنه. أو يقول: أجاز لي فلان، أو أجازني فلان كذا وكذا، أو ناولني فلان، وما أشبه ذلك من العبارات.
وخصص قومٌ الإجازةَ بعباراتٍ لم يسلموا فيها من التدليس ِ أو طرَفٍ منه، كعبارة من يقول في الإجازة: " أخبرنا مشافهةً " إذا كان قد شافهه بالإجازة لفظًا، وكعبارةٍ من يقول: " أخبرنا فلانٌ كتابةً، أو فيما كتاب إليَّ، أو في كتابِه " إذا كان قد أجازه بخطِّه. فهذا وإن تعَارَفَه في ذلك طائفةٌ من المحدِّثين المتأخرين، فلا يخلو عن طريفٍ من التدليس؛ لما فيه من الاشتراكِ والاشتباه بما إذا كَتَبَ إليه ذلك الحديثَ بعينِه.
وورد عن " الأوزاعي " أنه خصص الإجازةَ بقوله: " خبَّرنا " بالتشديدِ، والقراءةَ عليه بقوله: " أخبرنا " (2). واصطلح قومٌ من المتأخرين على إطلاق " أنبأنا " في الإجازة، وهو اختيارُ " الوليدِ بن بكر " صاحبِ (الوجازة (3) في الإجازة).
وقد كان " أنبأنا " عند القوم فيما تقدم، بمنزلةِ " أخبرنا ". وإلى هذا نحا الحافظُ المتقن
__________
(1) قال الخطيب: " وكان حسن الترتيب لما يجمعه، غير أن أكثر كتبه لم تكن سماعًا له، وكان يرويها بالإجازة ويقول في الإجازة: أخبران، ولا يبينها ". وقال: " وقد ذكره محمد بن أبي الفوارس فقال: كان يقول بالإجازات. وكان فيه اعتزال وتشيع ". تاريخ بغداد (3/ 135 - 136).
(2) اسند الرامهرمزي عن الوليد بن مَزْيَدَ البيروني - قال: " قلتُ للأوزاعي: ما قرأته عليك، وما أجزته لي؛ ما أقول فيهما؟ فقال: ما أجزته لك وحدك فقل فيه: خبرني، وما أجزته لجماعةٍ أنت فيهم فقل فيه: خبرنا، وما قرأت عليَّ وحدك فقل: أخبرني، وما قرئ عليَّ في جماعة أنتَ فيهم فقل فيه: أخبرنا، وما قرأتُه عليك وحدك فقل فيه: حدثني، وما قرأتُه على جماعة أنت فيهم فقل: حدثنا " المحدث الفاصل 436 - 501 وانظر كفاية الخطيب: 302 والإلماع 127.
(3) في (ص): [الإجازة في الإجازة].(1/352)
" أبو بكر البيهقي " إذ كان يقول: " أنبأني فلانٌ إجازةً ". وفيه أيضًا رعايةٌ لاصطلاح المتأخرين. والله أعلم.
وروينا عن " الحاكم أبي عبدالله الحافظ " - رحمه الله - أنه قال: " الذي أختارُه وعهدتُ عليه أكثرَ مشايخي وأئمة عصري، أن يقول فيما عَرَض على المحدِّث فأجاز له (1) روايتَه شفاهًا: أنبأني فلان، وفيما كتب إليه المحدِّثُ من مدينةٍ ولم يُشافهه بالإجازةِ: كتب إليَّ فلانٌ " (2) وروينا عن " أبي عمرو بن أبي جعفر بن حمدان النيسابوري " [48 / و] قال: " سمعتُ أبي يقول: كلُّ ما قال (3) البخاري: قال لي فلان؛ فهو عَرْضٌ ومناولة ".
قال المملي - أبقاه الله -: وورد عن قوم ٍ من الرواة التعبيرُ عن الإجازةِ بقول: " أخبرنا فلانٌ أن فلانًا حدَّثه، أو أخبره ". وبلغنا ذلك عن الإمام " أبي سليمانَ الخَطَّابي " أنه اختاره أو حَكَاه، وهذا اصطلاحٌ بعيدٌ بعيدٌ (4) عن الإِشعار بالإِجازةِ (5)، وهو فيما إذا سمع منه الإِسنادَ فحسبُ وأجاز له ما وراءه، قريبٌ؛ فإن كلمة أنَّ في قوله: " أخبرني فلان أن فلانًا أخبره " فيها إشعارٌ بوجودِ أصل ِ الإِخبار، وإنْ أجمل المُخبَرَ به ولم يذكره تفصيلا.
قال المملي - أبقاه الله -: وكثيرًا ما يُعبر الرواةُ المتأخرونَ عن الإجازةِ الواقعة في رواية مَنْ فوق الشيخ ِ المُسَمِّع ِ، بكلمة " عن " فيقول أحدُهم إذا سمع على شيخ ٍ بإجازته عن شيخِه: " قرأتُ على فلانٍ عن فلانٍ " وذلك قريبٌ فيما إذا كان قد سمع منه بإجازته عن شيخِه، إن لم يكن سماعًا فإنه شاكٌّ. وحرفُ " عن " مشترَكٌ بين السماع ِ والإجازةِ صادقٌ عليهما. والله أعلم.
ثم اعلم أن المنعَ من إطلاق: " حدثنا وأخبرنا " في الإجازةِ، لا يزولُ بإباحةِ المجيز
__________
(1) في (ص): [فأجاز روايته] وفي علوم الحاكم: فأجاز له؛ كما في (غ، ع).
(2) قوبل على علوم الحاكم (260).
(3) رسمه في (غ): [كلما قال].
(4) غير مكرر في (ع) مكرر في (غ، ص) وفوق [بعيد] الثانية منهما: صح في (غ).
(5) قال عياض: " وأنكر هذا بعضُهم، وحقه أن ينكر؛ فلا معنى له يُتفهم به المراد، ولا اعتيد هذا الوضع في المسألة لغة ولا عرفًا ولا اصطلاحًا ". الإلماع 129.(1/353)
لذلك كما اعتاده قومٌ من المشايخ من قولهم في إجازاتهم لمن يُجيزون له: " إن شاء قال: حدثنا، وإن شاء قال: أخبرنا " فليُعلَم ذلك (1). والعلم عند الله تبارك وتعالى.
القسم الخامس من أقسام طرق نقل الحديث وتلقيه:
المكاتبة:
وهي أن يكتب الشيخُ إلى الطالب وهو غائبٌ شيئًا من حديثِه بخطِّه، أو يكتب له ذلك وهو حاضر. ويلحقُ بذلك ما إذا أمر غيرَه بأن يكتبَ ذلك عنه إليه. وهذا القسم ينقسم أيضًا إلى نوعين:
أحدهما: أن تتجرد المكاتَبةُ عن الإجازةِ:
والثاني: أن تقترنَ بالإجازةِ بأن يكتب [48 / ظ] إليه ويقول: " أجزتُ لك ما كتبتهُ لك، أو ما كتبتُ به إليك " أو نحو ذلك من عبارات الإجازة.
أما الأول وهو ما إذا اقتصر على المكاتَبةِ؛ فقد أجاز الروايةَ بها كثيرٌ من المتقدمين والمتأخرين، منهم: " أيوبُ السختياني، ومنصورٌ، والليثُ بنُ سعد " (2) وقاله غيرُ واحد من الشافعيين. وجعلها " أبو المظفر السمعاني " - منهم - أقوى من الإجازة. وإليه صار غيرُ واحد من الأصولِيينَ. وأبَى ذلك قومٌ آخَرونَ، وإليه صار من الشافعيِّينَ " القاضي الماوَردِي "، قطع به في كتابه (الحاوي).
والمذهبُ الأولُ هو الصحيح المشهورُ بين أهل ِ الحديث. وكثيرًا ما يوجَدُ في مسانيدِهم ومصنفَّاتهم قولُهم: " كتب إليَّ فلانٌ، قال: حدَّثنا فلان " والمرادُ به هذا. وذلك معمولٌ به عندهم معدود في المسنَدِ الموصول. وفيها إشعار قويٌّ بمعنى الإجازة؛ فهي وإن لم تقترن بالإِجازةِ لفظًا فقد تضمنت الإجازةَ معنى.
ثم يكفي في ذلك أن يعرفَ المكتوبُ إليه خطَّ الكاتبِ وإن لم تقم البينةُ عليه. ومن
__________
(1) وقال النووي: " لأن إباحة الشيخ لا يغيرُ بها الممنوع في المصطلح ". التقريب 2/ 54 وبسط السخاوي القول في بيان وجه هذا المنع (فتح المغيث 2/ 118 - 120).
(2) أسنده الخطيب في الكفاية: عن منصور بن المعتمر (343) وأيوب السختياني والليث بن سعد (344) باب (كيفية العبارة بالرواية عن المكاتبة).(1/354)
الناس ِ من قال: " الخطُّ يشبهُ الخطَّ؛ فلا يجوز الاعتمادُ على ذلك ". وهذا غيرُ مَرضِيٍّ لأن ذلك نادر، والظاهر أن خطَّ الإنسانِ لا يَشتبهُ بغيره، ولا يقعُ فيه إلباسٌ (1).
ثم ذهب غيرُ واحدٍ من علماء المحدِّثين وأكابرِهم، منهم " الليثُ بنُ سعد، ومنصورٌ " إلى جوازِ إطلاقِ " حدثنا وأخبرنا " في الرواية بالمكاتبة. (2) والمختارُ قولُ مَن يقول فيها: " كتب إليَّ فلانٌ، قال: حدثنا فلان بكذا وكذا. " وهذا هو الصحيح اللائقُ بمذاهب أهل ِ التحري والنزاهة. وهكذا لو قال: " أخبرني به مكاتبةً، أو: كتابةً " ونحو ذلك من العباراتِ. * والله أعلم.
أما المكاتبةُ المقرونةُ بلفظِ الإجازة فهي في الصحةِ والقوةِ شبيهةٌ بالمناوَلة المقرونةِ بالإِجازة. والله أعلم.
[49 / و] القسم السادس من أقسام الأخذ ووجوهِ النقل:
إعلامُ الراوي للطالبِ بأن هذا الحديثَ أو هذا الكتابَ سماعُه من فلان أو روايتُه، مقتصرًا على ذلك من غير أن يقول: " اروِه عني، أو: أذِنتُ لك في روايتِه ". ونحو ذلك؛ فهذا عند كثيرين طريقٌ مُجَوِّزٌ لرواية ذلك عنه ونقلهِ (3). حُكِيَ ذلك عن " ابن جُرَيج " وطوائفَ من المحدِّثين والفقهاءِ والأصوليِّين (4) والظاهريين، وبه قطَع " أبو نصر بنُ الصباغ " من
__________
(1) نقل الخطيب عن بعض أهل العلم، قال: " وأما الكتاب من المحدث إلى آخر بأحاديث يذكر أنه سمعها من فلان، كما رسمها في الكتاب؛ فإن المكاتَب لا يخلو من أن يكون على يقين من أن المحدث كتب بها إليه، أو يكون شاكًّا فيه؛ فإن كان شاكًّا فيه لم يجز له روايته عنه، وإن كان متيقنًا له فهو وسماعه الإقرارَ منه سواء ... " 345 وانظر المحدث الفاصل (452 ف 541).
(2) الكفاية (343، 344) وانظر المحدث الفاصل (452/ 541) وقال ابن حزم: " وأما من كتب إلى آخر كتابا يوقن المكتوب إليه أنه من عنده، فيقول له في كتابه: ديوان كذا أخذته عن فلان - كما وصفنا قبل - فليقل المكتوب إليه: أخبرني فلان في كتابه إليَّ ... " الإحكام 2/ 147.
(3) انظر المحدث الفاصل: 450 ف 539.
(4) في (غ): [الأصليين] وكانت كذلك في (ص، ز) ثم صححت فيهما كما نقلنا من (ع).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: بشرط الاحترازِ عن تدليس ٍ سبق التنبيهُ عليه. انتهت " 58 / ظ.(1/355)
الشافعيين، واختاره ونَصَره " أبو العباس ِ الوليدُ بن بكر الغمري المالكي " في كتابِ (الوجازة في تجويز الإجازة) (1).
وحكَى " القاضي أبو محمد بن خلاد الرامَهرمُزِي " صاحب كتاب (الفاصل بين الراوي والواعي) عن بعض ِ أهل ِ الظاهر، أنه ذهب إلى ذلك واحتج له، وزاد فقال: " لو قال له: هذه روايتي لكن لا تروِها عني؛ كان له أن يرويها عنه، كما لو سمع منه حديثًا ثم قال له: لا تروه عني ولا أُجِيزه لك؛ لم يضره ذلك " (3).
ووَجْهُ مذهبِ هؤلاء، اعتبارُ ذلك بالقراءةِ على الشيخ؛ فإنه إذا قرأ عليه شيئًا من حديثِه، وأقرَّ بأنه روايتُه عن فلانِ ابنِ فلان؛ جاز له أن يرويَه عنه، وإن لم يسمعه من لفظِه ولم يقل له: اروِه عني، أو: أذنتُ لك في روايته عني. والله أعلم.
والمختارُ ما ذُكِرَ عن غيرِ واحدٍ من المحدِّثين وغيرهم، من أنه لا تجوزُ الروايةُ بذلك، وبه قَطَع " الشيخُ أبو حامد الطوسي " من الشافعيين ولم يذكر غيرَ ذلك. (3) وهذا لأنه قد يكون لك مسوعَه وروايتَه، ثم ل يأذنُ في روايته عنه لكونِه لا يُجَوِّزُ روايتَه لخلل ٍ يعرفُه فيه، ولم يوجد منه التلفظُ به، ولا ما يتنزل منزلةَ تلفظِه به، وهو تلفظ القارئ عليه وهو يسمع ويُقِرُّ به؛ حتى يكون قولُ الراوي عنه السامع ِ ذلك: " حدثنا وأخبرنا " صِدقًا،
__________
(1) حكاه عياض في الإلماع (108) وقال: " وما قاله صحيح لا يقتضي النظر سواء؛ لأن منعه ألا يحدث بما حدث به، لا لعلة ولا ريبة في الحديث، لا يؤثر؛ لأنه قد حدثه فهو شي لا يرجع فيه. وما أعلم مُقتدًى به قال خلاف هذا ". ثم قال: " إلا أني قرأت في كتاب الفقيه أبي بكر بن أبي عبدالله المالكي القروي، في (طبقات علماء إفريقية) عن شيخ من جلة شيوخنا أنه أشهد بالرجوع عما حدث به بعض أصحابنا؛ لأمر نَقِمَه عليه " (الإلماع: 111).
(2) المحدث الفاصل (451 ف 540) والخطيب في الكفاية (348) من طريق الرامهرمزي وكذلك عياض في الإلماع (110) مع إضافة ما نقلناه آنفا.
قال أبو محمد ابن حزم الظاهري في (فصل صفة الرواية) من إحكامه: " وسواء أذن له المسموع عنه ذلك أو لم يأذن، حَجَر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه، كل ذلك لا معنى له. ولا يحل لأحد أن يمنع من نقل حتى فيه خير للناس قد سمعه الناقل، ولا يحل لأحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع " وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ " وإنما هو حق أو كذب، فالحق الذي ينتفع به مسلم واحد فصاعدا واجب نقله، والكذب حرام ". (الإحكام: 2/ 146).
(3) الإمام أبو حامد الغزالي، الطوسي، في كتابه (المستصفى: مسألة مستند الراوي وكيفية ضبطه) 1/ 165 وانظر فتح المغيث 2/ 129.(1/356)
وإن لم يأذن له [49 / ظ] فيه. وإنما هو (1) كالشاهد، إذا ذَكَرَ في غير مجلس ِ الحُكم شهادتَه بشيءٍ فليس لمن سمعَه أن يشهد على شهادتِه، إذا لم يأذنْ له ولَم يُشهِدْه على شهادته. وذلك مما تساوت فيه الشهادة والرواية؛ لأن المعنى يجمع بينهما في ذلك وإن افترقتا (2) في غيرِه.
ثم إنه يجب عليه العملُ بما ذكره له إذا صح إسنادُه، وإن لم تَجُزْ له روايتُه عنه؛ لأن ذلك يكفي فيه صحتُه في نفسِه *. والله أعلم.
القسم السابع من أقسام الأخذِ والتحمل:
الوصيةُ بالكُتُب:
أن يوصِيَ الراوي بكتابٍ يرويه، عند موته أو سفرِه، لشخص ٍ. فَرُوِي عن بعض ِ السلفِ - رضي الله عنهم - أنه جوَّز بذلك روايةَ الموصَى له لذلك عن الموصِي الراوي، وهذا بعيدٌ جدًّا، وهو إما زَلَّةٌ عالم، أو مُتَأوَّلٌ على أنه أراد الروايةَ على سبيل ِ الوجادةِ التي يأتي شرحُها، إن شاء الله تعالى. (3) وقد احتج بعضُهم لذلك فَشَبَّهه بقسم الإعلام وقسم
__________
(1) من متن الأصلين. وعلى هامش (غ) [وإنما هذا] خ. ومثله في متن المقدمة بالتقييد.
(2) من (ص) وهامش (غ). وفي متن (غ) [افترقا] كالمتن في (ع).
(3) أسند الرامهرمزي عن حماد بن زيد، قال: أوصى أبو قلابة فقال: ادفعوا كتبي إلى أيوب، إن كان حيًّا، وإلا فاحرقوها. وأسند عن أيوب السختياني قال: أوصى إليَّ أبو قلابة بكتبه، فبعثت فجيء بها إليَّ، وعن أيوب قال: قلت لمحمد - هو ابن سيرين -: إن فلانًا أوصى لي بكتبه، أو أحدث بها عنه؟ قال: نعم. ثم قال لي بعد ذلك: لا آمرك ولا أنهاك (المحدث الفاصل 459 ف 546 - 547) وعياض في (الإلماع 116) من طريق الرامهرمزي. وأسنده الخطيب في الكفاية (باب الوصية بالكتب: 352) ثم قال: يقال إن أيوب كان قد سمع تلك الكتب، غير أنه لم يحفظها فلذلك استفتى محمد بن سيرين عن التحديث بها. ولا فرق بين أن يوصي العالم بكتبه وبين أن يشتريها ذلك الرجل بعد موته، في أنه لا يجوز له الرواية منها إلا على سبيل الوجادة، وعلى ذلك أدركنا كافة أهل العلم، اللهم إلا أن يكون تقدمت من العالم إجازة لهذا الذي صارت الكتب له بأن يروي عنه ما يصح عنده من سماعاته؛ فيجوز أن يقول فيما يرويه من الكتب: أخبرنا أو حدثنا؛ على مذهب من أجاز أن يقول ذلك في أحاديث الإجازة، مع أنه قد كره الروايةَ من الصحف التي ليست مسموعة، غيرُ واحد من السلف " (الكفاية 352 - 353).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: كلام " ابن حزم " السابق، يقتضي منعَ هذه أيضًا. انتهت " 59 / و.(1/357)
المناولة. (1) ولا يصحُّ ذلك؛ فإن لقول ِ مَن ْجوَّز الروايةَ بمجرد الإعلام والمناولة مستندًا ذكرناه، لا يتقرر مثلُه ولا قريبٌ منه ههنا. والله أعلم.
القسم الثامن: الوجادة:
وهي مصدر لِ: وجد يجد، مولَّد غيرُ مسموع من العرب.
روينا عن " المُعافَى بن زكريا النهرواني " العلامةِ في العلوم، أن المولدين فرَّعوا قولَهم: " وِجادة " فيما أخِذ من العلِْم من صحيفةٍ من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة؛ من تفريق العربِ بين مصادرِ " وَجَدَ " للتمييزِ بين المعاني المختلفة. يعني قولهم: وجد ضالَّتَه وجدانًا، ومطلوبَه: وجودًا، وفي الغضبِ: مَوجِدةً، وفي الغِنى: وُجدًا، وفي الحُبِّ: وَجْدًا.
مثالُ الوِجادة [50 / و] أن يقف على كتابِ شخص ٍ فيه أحاديثُ يرويها بِخَطِّه ولم يلقه، أو لَقِيه، ولكن لم يسمعْ منه ذلك الذي وجده بخطِّه، ولا له منه إجازةٌ ولا نحوُها؛ فله أن يقولَ: " وجدتُ بخطِّ فلانٍ، أو: قرأتُ بخط فلان، أو: في كتابِ فلانٍ بخطِّهِ: أخبرنا فلانٌ بنُ فلانٍ " * ويذكر شيخَه ويسوقُ سائرَ الإسنادِ والمتن. أو يقول: " وجدتُ، أو: قرأت بخط فلان عن فلان " ويذكر الذي حدَّثه ومَن فوقَه. هذا الذي استمر عليه العملُ قديمًا وحديثًا، وهو من باب المنقطع ِ والمرسَل ِ، غير أنه أخذ شَوْبًا من الاتصال ِ بقوله: وجدتُ بخطِّ فلان (2).
وربما دلَّس بعضُهم فذكر الذي وجَدَ خطَّه وقال فيه: " عن فلان، أو: قال فلان " وذلك
__________
(1) انظر تأول القاضي عياض، في باب الوصية بالكتاب من كتابه (الإلماع: 119) ومعه (تدريب الراوي 2/ 60).
(2) انظر في كفاية الخطيب (ذكر أخبار من كان من المتقدمين يروي عن الصحف وجادة ما ليس بسماع له ولا بإجازة): 355 وفي (الإلماع: باب الخط 116) وتقييد العراقي 201.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: يقع هذا كثيرا في (مسند الإمام أحمد)؛ يقول ابنُه عبدالله: " وجدتُ بخطِّ أبي: حدثنا فلان " ويذكر الحديث. انتهت " 59 / و.(1/358)
تدليسٌ قبيحٌ إذا كان بحيث يوهِمُ سماعَه منه، على ما سبق في نوع ِ التدليس. وجازف بعضُهم فأطلق فيه: " حدثنا، وأخبرنا " وانتُقِدَ ذلك على فاعلِه.
وإذا وجَد حديثًا في تأليفِ شخص ٍ وليس بخطِّه؛ فله أن يقول: " ذَكر فلانٌ، أو: قال فلانٌ أخبرنا فلان، أو: ذكر فلان عن فلان " وهذا منقطعٌ لم يأخذْ شوبًا من الاتصال *.
وهذا كلُّه إذا وَثِقَ بأنه خطُّ المذكورِ أو كتابُه، فإن لم يكن كذلك فليقلْ: " بلغني عن فلان، أو: وجدت عن فلان " أو نحو ذلك من العبارات، أو ليُفصِحْ بالمستنَدِ فيه، بأن يقولَ ما قاله بعضُ من تقدَّمَ: قرأتُ في كتابِ فلانٍ بخطِّه، وأخبرني فلانٌ أنه بخطِّه، أو يقول: وجدتُ في كتابٍ ظننتُ أنه بخطِّ فلان، أو: في كتابٍ ذكر كاتبُه أنه فلانُ بنُ فلانٍ، أو: في كتاب قيل إنه بخطِّ فلان (1).
وإذا أراد أن ينقلَ من كتاب منسوب إلى مصنِّف فلا يقلْ: " قال فلانٌ كذا وكذا " إلا إذا وثِقَ بصحةِ النسخة بأن قابلها، هو أو ثقةٌ أو غيره، بأصول ٍ متعددة كما نَبَّهْنا عليه في آخرِ النوع الأول، وإذا لم يوجَد ذلك ونحوُه [50 / ظ] فليقلْ: " بلغني عن فلانٍ أنه ذَكر كذا وكذا، أو: وجدت في نسخةٍ من الكتاب الفلاني " وما أشبه هذا من العبارات.
وقد تسامح أكثرُ الناس ِ في هذه الأزمانِ بإطلاقِ اللفظِ الجازم في ذلك من غير تَحَرٍّ وتَثَبُّتٍ؛ فيطالع أحدُهم كتابًا منسوبًا إلى مصنِّفٍ مُعَيَّنٍ، وينقلُ منه عنه من غير أن يثق بصحةِ النسخةِ، قائلا: " قال فلانٌ كذا وكذا، أو: ذكر فلانٌ كذا وكذا " والصوابُ ما قدمناه.
فإن كان المطالعُ عالِمًا فَطِنا، بحيث لا يخفى عليه في الغالبِ مواضعُ الإِسقاطِ والسقَطِ
__________
(1) انظر في المحدث الفاصل (باب من قال: وجدت في كتاب فلان، ومن قال: قرأت في كتاب فلان بخطه عن فلان، وأخبرني فلان أنه خط فلان) 497 - 500 ف 615 - 617، ومعه التبصرة 2/ 111 وفتح المغيث 2/ 135 ف 615 - 617.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ويجيء في " قال فلان " عند إيهام اللقاء، ما تقدم من التدليس ِ. انتهت " 59 / ظ.(1/359)
وما أَحِيلَ عن جهتِه إلى غيرها؛ رجونا أن يجوزَ له إطلاقُ اللفظِ الجازم فيما يَحكيه من ذلك. وإلى هذا - فيما أحسب - استروح كثير من المصنِّفين فيما نقلوه من كتبِ الناس. والعلم عند الله تعالى.
هذا كلُّه كلامٌ في كيفيةِ النقل ِ بطريقِ الوِجادة:
وأما جوازُ العمل ِ اعتمادًا على ما يوثَقُ به منها؛ فقد روينا عن بعض ِ المالكية أن معظَمَ المحدِّثين والفقهاء من المالكيين وغيرهم لا يَرون العملَ بذلك. وحُكِيَ (1) عن " الشافعي " وطائفةٍ من نُظَّارِ أصحابِه جَوازُ العمل ِ به.
قال المملي - أبقاه الله -: قطع بعضُ المحقِّقِين من أصحابه في أصول ِ الفقه بوجوبِ العمل ِ به عند حصول ِ الثقةِ به، وقال: " لو عُرِضَ ما ذكرناه على جُملةٍ المحدِّثين لأبَوه ". وما قطع به، هو الذي لا يتجهُ غيرُه في الأعصارِ المتأخرة؛ فإنه لو توقَّف العملُ فيه على الرواية لانسدَّ بابُ العمل ِ بالمنقول ِ، لتعذُّرِ شرطِ الرواية فيها على ما تقدَّم في النوع الأول. والله أعلم (2).
__________
(1) الضبط من (ص، ع). وضبطه في (غ) مبنيًّا للمعلوم، مع نصب [جواز] بعده؛ مفعولا به. ولا يبدوا لنا وجه هذا الضبط قريبًا.
(2) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغت المقابلة بأصل مقابل على أصل السماع والحمد لله. ثم بلغ مقابلة عليه ثانية.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: احتج بعضُهم بالعمل ِ بالوِجادة بما ورد في الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أي الخلق أعجبُ إليكم إيمانًا؟ قالوا: الملائكة، قال: وكيف لا يؤمنون والوحيُ ينزل عليهم؟ قالوا: فنحن. قال: وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم، قالوا: فمن =(1/360)
.............................................................................................................................
___________________________________
= يا رَسولَ الله؟ قال: قوم يأتُون من بعدِكم يجِدون صُحفًا يؤمنونَ بما فيها " وهذا استنباط حسن. انتهت " 60 / و.
__________
(1) أخرجه الرامهرمزي بهذا اللفظ في (باب فضل الناقل لسنة - رسول الله عليه وسلم -) من المحدث الفاصل: 163 والخطيب في (شرف أصحاب الحديث) من طريق ابن عرفة، حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا. ومن طريق أبي يعلى الموصلي، من حديث عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لنا: " أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانًا " قلنا: يا رسول الله، الملائكة. قال: " نعم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله بالمنزلة التي قد أنزلهم بها؟ بل غيرهم ". قلنا: يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله بالنبوة والرسالة. قال: " هم كذلك ويحق لهم ذلك وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالنبوة والرسالة؟ بل غيرهم ". قلنا: يا رسول الله، الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة مع الأنبياء. قال: " نعم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة؟ بل غيرهم ". قلنا: يا رسول الله، فمن؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: " أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني ويصدقون بي ولم يروني، يرون الورق المعلق فيعملون بما فيه ": 33، 34 وهو في الترمذي بلفظ: " أي الناس خير؟ " - مع عارضة الأحوذي 7/ 155 - وانظر تدريب الراوي 2/ 64.(1/361)
النوع الخامسُ والعشرون:
في كتابة الحديث وكيفية ضبطِ الكتابِ وتقييده.
اختلف الصدْرُ الأولُ - رضي الله عنهم - في كتابة الحديث؛ فمنهم من كَرِهَ كتابةَ الحديث والعلم وأمروا بحفظِه، ومنهم من أجاز ذلك.
وممن روينا عنه كراهةَ ذلك: " عمرُ، وابنُ مسعود، وزيدُ بن ثابت، وأبو موسى، وأبو سعيد الخدري " في جماعةٍ آخَرينَ من الصحابة والتابعين. (1) ورُوِّينا عن " أبي سَعيد الخُدري " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئًا غيرَ القرآنِ فليمحُه " أخرجه " مُسلمٌ " في صحيحه (2).
وممن روينا عنه إباحةَ ذلك أو فعلَه: " عليّ، وابنُه الحَسنُ، وأنس، وعبدُالله بن عمرو بن العاص " في جمع آخرين من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين * -.
__________
(1) بتفصيل في (ذكر كراهية كتابة العلم) من جامع ابن عبدالبر: 1/ 63 - 70 وتقييد العلم للخطيب (50 - 51) وانظر باب كتابة العلم في (مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 150 - 151).
(2) في باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، من (صحيح مسلم): 72/ 3004 وأخرجه الرامهرمزي في (المحدث الفاصل: 379 ف 362).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: أعْلَى من رُوِيَ عنه ذلك من الصحابة: " عمرُ بن الخطاب " ثم " عثمانُ بن عفان ". أسند " الرامَهُرْمُزي " في كتابه (الفاصل) بإسنادٍ ذكره عن عمرو بن أبي سفيان، أنه سمع عمرَ بنَ الخطاب يقول: " قيِّدوا العلمَ بالكتابِ ". (1) وفي كتاب " المرزُباني " من حديث عبدِالله بن راشد قال: " قال عثمان بن عفان: قيدوا العلمَ. قلنا: وما تقييدُه؟ قال: تعلَّموه وعلموه واستنسخوه " وجاء عن " طلحةَ بن عبيدالله =
__________
(1) المحدث الفاصل: 377/ 358، وجامع بيان العلم 1/ 72. وعلى هامش المحاسن بخط البلقيني: هذا الكلام مناقض لما قبله فتأمل (60 / و) يعني ما روى عن كراهة عمر - رضي الله عنه - كتابة الحديث.(1/362)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ما يقتضي جوازَ كتابة غير القرآن. وأسند " الرامَهُرْمزي " عن عبدِالله بن محمد بن عقيل قال: " كنت أذهب أنا وأبو جعفر إلى جابر بن عبدالله ومعنا ألواحٌ صِغارٌ نكتب فيها الحديثَ ". (1) وأسند " المرزباني " بسَندٍ - قيل إنه جيد - عن عبدالله بن بريدة، أن أناسًا من أهل الكوفة كانوا في سفرٍ ومعهم شدَّادُ بنُ أوس، فقال له رجلٌ: حدِّثْنا عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ائتوني بصحيفة ودواة. فأتَوه بهما، فقال: " اكتبْ، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر حديثًا. وجاء نحوُ ذلك عن " ابن عباس، وأبي أمامة، وعتبانَ " وقد سبق في الأصل ذكرُ " أنَس " وعنه رواياتٌ: إحداها: أسندها " الرامهرمزي " وغيرُه، أنه كان يأمر بَنيه أن يُقيِّدوا العلمَ بالكتابِ. (2) وأخرى: أسندها " الرامهرمزي " وغيرُه عن هبيرة بن عبدالرحمن، وأسندها " البغوي " في (معجمه الكبير) عن يزيد الرقاشي: " كنا إذا أكثرنا على أنس بن مالك، ألقى إلينا مخلاة - وفي رواية الرقاشي: أتانا بمخَال ٍ - فألقاها إلينا، وقال: هذه أحاديثُ كتبتُها عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - " (3) وفي رواية الرقَاشي: " سمعتُها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتبتُها وعرضتُها ". وعن أبي هريرة نحوُ ذلك. وعن أنس ٍ أيضًا: " كَتْبُ العلم فريضة ". وأما عبدُالله بنُ عمرو بن العاصي " فإنه إنما كتب بإذنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، جاءت عنه رواياتٌ مسنَدة: منها من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو: قلت: يا رسول الله، أكتبُ ما أسمعه منك؟ قال: " نعم " قلت: في الغضب والرضَى؟ قال: " نعم؛ فإني لا أقول إلا حقًّا " (4). ومنها من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: " قلنا: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياءَ لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال: بلى فاكتبوها ". ومنها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قيِّدوا العلمَ بالكتاب ". (5) =
__________
(1) المحدث الفاصل (370/ 355) أسنده الرامهرمزي إلى عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قال: كنت أنطلق أنا ومحمد بن علي أبو جعفر - هو الباقر - إلى جابر .. " فذكره.
(2) المحدث الفاصل (368 ف 326) والخطيب في تقييد العلم من عدة طرق عن أنس - رضي الله عنه - (96 - 97) وجامع بيان العلم (1/ 73).
(3) المحدث الفاصل 368 وفي تقييد العلم: أتانا بمجال، وفي رواية عن هبيرة بن عبدالرحمن: جاء بصكاك (95 - 99).
(4 - 5) المحدث الفاصل 365، 364 ف 318، 315 وجامع ابن عبدالبر 1/ 71، 73، وتقييد العلم: 86، 74 - 75 من عدة طرق.(1/363)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ومنها ما رواه عبدُالله بن المؤمل عن ابنِ جُرَيج، عن عطاء، عن عبدالله بن عمرو: " قلت: يا رسول الله، أقيد العلم؟ قال: نعم. قلت: وما تقييده؟ قال: " الكتاب " (1). ورواه " ابن فارس " في كتاب (مآخذ العلم) ثم قال: " لم يَرْوه عن ابنِ جُرَيج إلا عبدُالله بنُ المؤمل ". (2) ومنها ما أسند " الرامَهرمزي " عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: " قلت: يا رسول الله: إني أسمع منك الشيءَ، أفأكتبه؟ قال: نعم فاكتبْه. قلتُ: إنك تغضب وترضَى. قال: إني لا أقول في الرِّضى والغضب إلا حقًّا " (3) ورواه بلفظٍ آخر: " إنا نسمع منك أشياءَ أفنكتبها؟ قال: نعم. قلت: في حال ِ الرضَى والسخط، قال: في حال الرضى والسخط ". (4) ورواه بلفظ آخرَ قال: " قالت لي قريش: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في الرضى والغضب فلا تكتب، فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: اكتبْ، فوالذي نفسي بيدِه ما يخرجُ مني إلا حق ". (5) وحديثُ " عبدِالله بن عمرو بن العاص " صحيح، ولذلك خرَّجه " الحاكم " في (مستدركهِ) (6) وله شواهد. وقد جاء عن " عبدِالله بن عمرو " أنه قال: " ما آسَى على شيءٍ إلا على الصادقة، والصادقةُ صحيفةٌ استأذنتُ فيها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن أكتبَ فيها ما أسمع منه؛ فأذِنَ لي ". رواه " الرامهرمزي " من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد (3)، ومن طريق ليثٍ، عن مجاهدٍ، عنه. وقال: " ما يُرغبُني في الحياة إلا خَصلتانِ: الوَهْطُ، والصادقةُ: صحيفةٌ كنتُ أستأذنت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أكتبها عنه فكتبتها. وهي الصادقةُ " وأسند عن مجاهدٍ قال: " رأيتُ عند عبدِالله بن عمرو صحيفةً فذهبتُ أتناولها، فقال: مَهْ يا غلامَ بني مخزوم: قلت: ما كنتَ تمنعني شيئًا. قال: هذه الصادقةُ، فيها ما سمعتهُ من رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه فيها أحَدٌ " (7) =
__________
(1) والطبراني في الكبير والأوسط، من رواية عبدالله بن المؤمل عن ابن جريج (مجمع الزوائد 1/ 152).
(2 - 3) المحدث الفاصل: 365، 366 ف 319، 320 وجامع بيان العلم (1/ 70).
(4) المحدث الفاصل 366 ف 322 ومستَدرك الحاكم 1/ 106 والجامع 1/ 71.
(5 - 6) المحدث الفاصل: 366 ف 323، وتقييد العلم: 84 والجامع لابن عبدالبر: 1/ 72، والوهْط: مال كان لعمرو بن العاص بالطائف، كان ابنه عبدالله يقوم به (النهاية لابن الأثير: الواو مع الهاء) وفي الجامع: أرض تصدق بها (1/ 72).
(7) المحدث الفاصل: 367/ 324، وبلفظ مقارب في تقييد العلم: 25 أسنده الخطيب عن مجاهد.(1/364)
ومن صحيح حديثِ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الدالِّ على جوازِ ذلك: حديثُ " أبي شاه اليَمني " في التماسه من رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتبَ له شيئًا سمِعه من خطبته عامَ فتح مكة، وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: " اكتبوا لأبي شاه " *.
___________________________________
= وكان " عبدُالله بن عمرو " بسبب الكتابةِ كثيرَ الحديث، ولذلك قال " أبو هريرة ": " ما أحَدٌ من أصحابِ محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ حديثًا مني عن رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عبدالله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتبُ (1) " وعنه: " كنت أعي بقلبي، وكان يعي هو بقلبِه ويكتبُ بيدِه (2) ". وما رواه " عبدُالله بنُ عمرو " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قولِه: " قيِّدوا العلمَ بالكتاب " رواه " أنس بن مالك ". وقد أسنده " الرامهرمزي " في كتابه (الفاصل) فقال: " حدثنا محمد [بن الجنيد] بن بهرام الأرجاني، ثنا لُوَيْنٌ، ثنا عبدالحميد بن سليمان عن عبدالله بن المثنى، عن عمه ثمامةَ عن أنس ٍ، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " قيدوا العلم بالكتابِ " قال " لُوَيْنٌ ": لم يروِه غيرُ هذا الشيخ " (3).
وما جاء في السُّنةِ جاء في القرآنِ أيضًا، قال " ابنُ فارس ": أعلى ما يُحتَج به في ذلك قوله تعالى: " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ " قال الحسنُ البصري: ن، الدواة، والقلمُ: القلم (4). وقد ندب اللهُ إلى الكتابةِ في قوله [تعالى]: " فَاكْتُبُوهُ " وفي قوله - تعالى -: " وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ " (5). انتهت " 60 / و، ظ.
* المحاسن:
" فائدة: الأحاديثُ السابقة أصْرَحُ في تعميم الإذْنِ من حديثِ " أبي شاه " لجوازِ أن يُدَّعى فيه أنه واقعةُ عَيْنٍ، ولكنه أصح وهو في (الصحيحين) (6)، وفي البابِ أحاديثُ =
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم من صحيحه، بلفظ: " ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثًا " .. والمحدث الفاصل: 368/ 328 بلفظه هنا، وجامع بيان العلم 1/ 70 بلفظ مقارب.
(2) المحدث الفاصل: 369 ف 329. والمقابلة عليه.
(3) الجامع 1/ 173، والخطيب عن لوين، به، موقوفًا.
(4) الطبري عن الحسن البصري، في تفسير سورة القلم. وانظر (فتح الباري 8/ 466).
(5) من آية الدَّين في سورة البقرة الآية 282.
(6) البخاري: في كتاب العلم (فتح الباري 1/ 29 وكتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة مكة (2/ 45) ومسلم: في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد، على الدوام ح 447، 448.(1/365)
.............................................................................................................................
___________________________________
= غير ما سبق: منها: ما أسنده " الرامهرمزي " وغيرُه عن رافع بن خَدِيج قال: مرَّ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ونحن نتحدث فقال: ما تحدثون؟ فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله. قال: " تحدثوا وليتبوأ مقعَده من كذَب عليَّ، من جهنم ". ومضى لحاجته، وسكت القومُ فقال: ما شأنهم لا يتحدثون؟ قالوا: الذي سمعناه منك يا رسول الله. قال: إني لم أُرِدْ ذلك؛ إنما أردتُ من تعمد ذلك " فتحدثنا، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ إنا نسمع منك أشياءَ أفنكتبُها؟ قال: " اكتبوا ذاك ولا حرج " (1) ومنها عن " عائشة " - رضي الله عنها - قالت: " دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًّا بأديم ودواةٍ، فأملى عليه وكتب حتى ملأ الأديم وأدارِعَه " (2).
وفي كلام بعض ِ من صنف من المتأخرين من المحدِّثين في اعتراضاتٍ على " ابن الصلاح " ذكرُ أمورٍ في ذلك، في أثنائها. وفي (أدب الدنيا والدين، للماوردي): رُوِي أن رجلا شكا إلى سيدنا رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - النسيانَ فقال: " استعمل يَدَك - أي اكتب - حتى ترجعَ إذا نسيتَ إلى ما كتبتَ " (3).
والعجبُ من محدِّث يترك نقلَ الحديثِ من كتبه ويعدِلُ إلى نقلِه من غيرِ كتبه، والحديثُ أخرجه " الترمذِيُّ " في بابِ الرُّخصةِ في كتابة العلم فقال: " ثنا قتيبةُ، ثنا الليثُ عن الخليل بن مُرَّةَ عن يحيى بن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كان رجلٌ من الأنصار يجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ اله، إني لأسمع منك الحديثَ فيعجبني ولا أحفظه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " استعنْ بيمينِك " وأومأ بيدِه إلى الخطِّ " قال " الترمذي ": " وفي الباب عن عبدالله بن عمرو، وهذا حديثٌ ليس إسنادُه بذاك القائم؛ سمعتُ محمد بن إسماعيلَ يقول: الخليلُ بن مرة مُنكَرُ الحديث " (4) =
__________
(1) في (المحدث الفاصل (369 ف / 33) وتقييد العلم: 73 وجامع ابن عبدالبر، باب الرخصة في كتابة العلم (1/ 70).
(2) المحدث الفاصل 364، وعن عبدالله بن عمرو: ف 317 وتقييد العلم: 71.
(3) أدب الدنيا والدين: 66 (الباب الثاني: فصل في التعلم).
(4) الترمذي: 10/ 134 (عارضة) أبواب العلم، من الجامع في (ما جاء في الرخصة) والخطيب من رواية النعمان بن عبدالسلام عن الخليل بن مرة به (التقييد 96) وقال الشوكاني في (مختصر المقاصد: 80 ح 92): ضعيف. وانظر كشف الخفا: 1/ 118.(1/366)
ولعلَّه - صلى الله عليه وسلم - أذِنَ في الكتابةِ عنه لمن خشي عليه النسيانَ، ونهى عن الكتابةِ عنه مَنْ وَثِقَ بحفظِه؛ مخافةَ الاتكال ِ على الكتابِ، أو نهى عن كتابةِ ذلك عنه حين خاف عليهم اختلاطَ ذلك بصحُفِ القرآنِ العظيم، وأذِنَ في كتابتِه حين أمِنَ من ذلك.
وأخبرنا " أبو الفتح بنُ عبدالمنعم الفراوي " قراءةً عليه بِـ " نيسابورَ " - جبرها الله - قال: أنا أبو المعالي الفارسي، قال: أنا الحافظُ أبو بكر البيهقي قال: أنا أبو الحسين بن بشران قال: أنا أبو عمرو بن السماك قال: نا (1) حنبلُ بنُ إسحاق قال: نا سليمانُ (2) بن أحمد قال: نا الوليدُ - هو ابنُ مسلم - قال: " كان الأوزاعي يقول: كان هذا العِلْمُ كريمًا يتلاقاه الرجالُ بينهم، فلما دخَل في الكُتُبِ دخَل في الكُتُبِ دهَل فيهم غيرُ أهله " (3) *.
ثم إنه [51 / ظ] زال ذلك الخلافُ وأجمع المسلمونَ على تسويغ ذلك وإباحتِه، ولولا تدوينُه في الكُتبِ لدرَسَ في الأعصُرِ الآخرةِ. واللهُ أعلم.
__________
(1) ليست في (ص).
(2) على هامش (غ): [سليمان بن أحمد هذا: نراه أبا محمد الدمشقي، نزيل واسط. والله أعلم]. انظره في (الجرح والتعديل: 4/ 101 ترجمة 455).
(3) في رواية جعفر بن محمد الفريابي عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم، قال: سمعت الأوزاعي يقول: كان هذا العلم شريفا إذ كان في أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار في الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله ".
ابن عبدالبر في الجامع (1/ 68) والخطيب في تقييد العلم (64).
___________________________________
= ثم أسند " الترمذي " حديث أبي هريرة الذي فيه " اكتبوا لأبي شاه " (1). وقولُ الترمذي: وفي البابِ عن ابن عمرو؛ قد تقدم حديثُه، ويزادُ على الترمذي حديث أنس ورافع بن خديج وعائشة، وعليٍّ أيضًا؛ فقد جاء عنه مُسنَدًا مرفوعًا: " إذا كتبتم الحديثَ فاكتبوه بسندِه ". انتهت " 62 / و، ظ.
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: في المسألة مذهبٌ ثالثٌ ذكره " الرامهرمزي "؛ وهو أن من السَلفِ =
__________
(1) جامع الترمذي: 10/ 135 عارضة. وقال: هذا حديث حسن صحيح.(1/367)
.............................................................................................................................
___________________________________
= مَن كان يكتبُ، فإذا حفِظَ محاه. رواه عن " عبدالرحمن بن سلمةَ الجُمَخي " (1).
و " محمدُ بنُ سيرين " (2) كان لا يرى بكتابةِ الحديثِ بأسًا فإذا حفظه محاه. " وعاصمُ بن ضمرة " (3) كان يسمع الحديث ويكتبه، فإذا حفظه دعا بمقراض ٍ فقرضه. و " هشامُ بن حسانَ " (4) اتفق له أنه لم يكتب إلا حديثًا واحدًا ثم محاه، وكذلك " حمادُ بن سلمة " (5).
وأما من أباح ذلك من التابعين فكثير، مثل " الحسنِ، وعطاء، وأبي قلابة، وأبي المليح " (6). ومن مُلَح ِ ما قال: يعيبون علينا أن نكتبَ العلم وندونه وقد قال اللهُ - عز وجل -: " عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى " (7). ورَوَى " الرامهرمزي " ذلك عن قَتادة، وجاء عن معاويةَ بن قرة: " من لم يكتب العلم لم يعد علمُه عِلمًا " (8) وأسند " الرامهرمزي " إلى عبدالله بن دينار، قال: " كَتَب عمر بنُ عبدالعزيز إلى أهل المدينة: انظروا ما كان من حديثِ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبوه؛ فإني خِفْتُ دروسَ العلم وذهابَ العلماء " (9). وعن " يزيد الرقاشي ": " حججتُ مع عمر بن عبدالعزيز =
__________
(1 - 2) المحدث الفاصل في (باب من كان يكتب فإذا حفظه محاه): 382 الفقرتان 370، 371 والخطيب في الباب من تقييد العلم: 59 - 60.
(3) الرامهرمزي في المحدث، أسنده عن عاصم (382 ف 371) والخطيب من طريقه، في التقييد: 59.
(4 - 5) المحدث الفاصل، بالإسناد عن هشام (383 ف 373) وعن حماد بن سلمة (ف 374).
(6) المحدث الفاصل: الفقرات: 377، 339، 338، 340 على التوالي.
(7) أسنده عن أبي المليح الهذلي ابن عبدالبر في جامعه: 1/ 73 والخطيب في تقييد العلم 103، وفي رواية بإسناد الرامهرمزي: " قالوا لقتادة: نكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب فقال: " عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي " - الآية 52 من سورة طه.
(8) المحدث الفاصل (372 ف 340، 341) وتقييد العلم: 109 وجامع بيان العلم 1/ 74.
(9) على هامش المحاسن بخط الشيخ: يمكن أن يقال العكس فيقال: لولا تدوينه لما وقع التقاعد والكسل الآن (62 / ظ).
وانظر: المحدث الفاصل: 373 ف 346.
وفي كتاب العلم من صحيح البخاري، باب كيف يقبض العلم، أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: " انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ". وانظر (فتح الباري 1/ 140) وبإسناد ابن عبدالبر عن ابن شهاب: أمرنا عمر بن عبدالعزيز بكتابة السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا (الجامع 1/ 76).(1/368)
ثم إن على كَتَبةِ الحديثِ وطلبتِه، صرفَ الهمةِ إلى ضبطِ ما يكتبونه أو يُحصِّلونه بخطِّ الغيرِ من مروياتهم، على الوجهِ الذي رَووه شكلا ونَقْطًا يؤمَنُ معهما الالتباسُ. وكثيرًا ما يتَهاون الواثقُ بذهنِه وتيقظِه، وذلك وخيمُ العاقبة؛ فإن الإنسانَ مُعَرَّضٌ للنسيانِ، وأولُ ناس ٍ أولُ الناس. وإعجامُ المكتوبِ يمنع من استعجامِه، وشكلُه يمنع إشكالِه. ثم لا ينبغي أن يتعنى بتقييد الواضح الذي لا يكاد يلتبس، وقد أحسن من قال: إنما يُشْكَلُ ما يُشْكِلُ (1). وقرأت بخطِّ صاحبِ كتاب (سماتِ الخطِّ ورقومه: علي بنِ إبراهيم البغدادي) فيه: أن أهل العلم يكرهون الإعجامَ والإعرابَ إلا الملتبس.
وحَكَى غيرُه عن قوم أنه ينبغي أن يُشكَلَ ما يُشكِلُ وما لا يُشكِلُ؛ وذلك لأن المبتدئ وغيرَ المتبحرِ في العلم، لا يميزُ ما يُشكِلُ مما لا يُشكِل، ولا صوابَ الإعرابِ من خطئهِ (2). والله أعلم.
وهذا بيانُ أمورٍ مفيدةٍ في ذلك:
أحدها: ينبغي أن يكونَ اعتناؤه - من بين ما يلتبس - بضبطِ الملتبِس من أسماءِ الناس أكثرَ؛ فإنها لا تُستدرَكُ بالمعنى ولا يستدَلُّ عليها بما قبلُ وبعدُ (3).
الثاني: يستحَبُّ في الألفاظ المشكِلة، أن يُكَرِّرَ ضبطَها بأن يضبطَها في متنِ الكتابِ ثم يكتبها قُبالَةَ ذلك في الحاشيةِ مفردةً مضبوطةً؛ فإن ذلك أبلَغُ في إبانتها وأبعَدُ من التباسِها، وما ضبطَه في أثناءِ الأسطر ربما داخلَه نَقْطُ غيرِه وشَكلُه، مما فوقَه وتحتَه، لا سيما عند دقَّةِ الخطِّ وضيق الأسطُر، وبهذا جرى رسمُ جماعةٍ من أهل ِ الضبط (4). واللهُ أعلم.
__________
(1 - 2) مثله في المحدث الفاصل (608 ف 688) والإلماع (150 - 152).
(3 - 4) انظر فيه (النقط والشكل) من المحدث الفاصل: 608 ف 886، والإلماع: 150 - 157 بمزيد تفصيل، ومعها تقييد العراقي: 205.
___________________________________
= فحدثتُه بأحاديثَ عن أنَس ِ بنِ مالك فكتبها، وقال: ليس عندي مالٌ فأعطيك، ولكنْ أفرض لك في الديوان، ففرض [لي] أربعمائة درهم. " (1) ومن أباح ذلك كثيرٌ، وهم الجَمُّ الغفير. والآن فهو مُجمَعٌ عليه لا يتطرق خلافٌ إليه. انتهى " 62 / ظ - 63 / و.
__________
(1) المحدث الفاصل: 372/ 343 وتابع في الباب، الفقرات (344 - 361) منه.(1/369)
الثالث: يُكرهُ الخَطُّ الدقيقُ من غير عُذرٍ [52 / و] يقتضيه. روينا عن " حنبل بنِ إسحاقَ " قال: " رآني أحمدُ بن حنبَل وأنا أَكتبُ خطًّا دقيقا فقال: لا تفعلْ، أحْوَجَ ما تكونُ إليه يخونكُ " (1). وبلَغنا عن بعض ِ المشايخ أنه كان إذا رأى خطًّا دقيقًا قال: " هذا خَطُّ مَنْ لا يوقنُ بالخلفِ من اللهِ تعالى ".
والعُذْرُ في ذلك؛ هو مثلُ أن لا يجدَ في الورقِ سَعَةً، أو يكونَ رحَّالا يحتاج إلى تدقيقِ الخَطِّ ليَخِفَّ عليه مَحملُ كتابِه، ونحو هذا.
الرابع: يُختار له في خطِّه التحقيقُ دون المشْقِ والتعليق. بلغنا عن " ابن قتيبة " قال: قال عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: " شرُّ الكتابة المَشْقُ، وشرُّ القراءةِ الهَذرمةُ، وأجْوَدُ الخطِّ أبْيَنُهُ " (2). والله أعلم.
الخامس: كما تُضبَطُ الحروفُ المعجمةُ بالنقطِ؛ كذلك ينبغي أن تضبطَ المهمَلاتُ غيرُ المُعجَمةِ، بعلامة الإِهمال لتدلَّ على عدم إعجامها.
وسبيلُ الناس ِ في ضبطِها مختلف:
فمنهم من يَقْلِبُ النقطَ؛ فيجعل النقطَ الذي فوق المعجمَاتِ، تحت ما يشاكِلُها من المهمَلات؛ فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين، ونحوِها من المهمَلات. وذكر بعضُ هؤلاء أن النُّقَطَ التي تحت السينِ المهملة تكون مبسوطةً صَفًّا، والتي فوق الشينِ المعجمةِ تكون كالأَثافيِّ (3).
ومن الناس من يجعل علامةَ الإهمال فوق الحروفِ المهمَلة كقُلامةِ الظفرِ مُضجَعةً على
__________
(1) على هامش (ص): [ويروى عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه قال لتلميذه وكان يقرمط: لا تقرمطْ فإنك إن عشت ندمت وإن مت شُتمت].
القرمطة: دقة الكتابة (القاموس).
(2) المشق: سرعة الكتابة، والهذرمة: سرعة الكلامة والقراءة (القاموس).
(3) على هامش (غ) طرة: [قال القاضي عياض: قال محمد بن الزيات في صفة دفتر فيما ذكره لنا بعض شيوخنا:
وأرى وشوما في كتابك لم تدع ............................................................ شكلاً لمرتاب ولا لمفكر
نقط وأشكال تلوح كأنها .................................................................. ندب الخدوش تلوح بين الأسطر].
قوبل على (الإلماع 157 - 158) ووقع في طبعته في الشطر الأخير:
* ندب الخدش * وانظر تخريج الزميل الأستاذ السيد صقر على هامشه.(1/370)
قَفَاها. ومنهم من يجعل تحتَ الحاءِ المهمَلة حاءً مفردةً صغيرة، وكذا تحت الدال ِ والطاءِ والصادِ والسينِ والعينِ، وسائر الحروف المهمَلة الملتبسةِ مثل ذلك *.
فهذه وجوه من علامات الإهمال شائعةٌ معروفة. وهناك من العلاماتِ ما هو موجود في كثيرٍ من الكتبِ القديمة ولا يفطن له كثيرون: كعلامةِ مَنْ يجعل فوق الحرفِ المهمَل ِ خَطًّا صغيرًا، وكعلامةِ من يجعل تحت الحرفِ المهمل مثلَ الهمزة. [52 / ظ] واللهُ أعلم.
السادس: لا ينبغي أن يصطلح مع نفسِه في كتابه بما لا يفهمه غيرُه فيوقِعَ غيرَه في حيرة، كفعل ِ من يجمع في كتابه بين رواياتٍ مختلفة، ويرمز إلى راوٍ بحرفٍ واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك. فإن بَيَّنَ في أول كتابه أو آخره مرادَه بتلك العلامات والرموز؛ فلا بأس. مع ذلك فالأوْلَى أن يتجنبَ الرمزَ، ويكتبَ عند كلِّ روايةٍ اسمَ راويها بكمالِه مختصَرًا، ولا يقتصر على العلامة ببعضه. والله أعلم.
السابع:
ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارةٌ تفصلُ بينهما وتميز. وممن بلغنا عنه ذلك من الأئمة: " أبو الزناد، وأحمدُ بن حنبل، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، ومحمد بن جرير الطبري " - رضي الله عنه -. واستحب " الخطيبُ الحافظ " أن تكون الداراتُ غُفلا، فإذا عارض فكلُّ حديثٍ يفرغ من عرضه ينقط في الدارة التي تليه نقطةً أو يخط في وسطها
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: والخاء لا تدخل في هذا، وإنما ترك ذكره لوضوحه. وقد أسند المرزباني عن محمد بن عبيد الغساني، قال: حدثني أبي قال: كتبت بين يدي معاوية كتابًا فقال لي: يا عبيد، ارقش كتابك فإني كتبت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: " يا معاوية، ارقش كتابك. " قال: قلت: وما رَقْشُهُ يا أمير المؤمنين؟ قال: أعطِ كل حرف ما ينوبه من النقط (1).
وهذا عام في كل حرف كما قدمناه، ويستدل به لهذا الطريق. انتهت " 63 / ظ.
__________
(1) أسنده الرامهرمزي عن عبيد بن أوس الغساني، في المحدث الفاصل (608 ف 688).
" وعبيد بن أوس الغساني: سيد أهل الشام، كاتب معاوية بن أبي سفيان ".
ابن حبيب في: المحبر: 377 (أسماء أشراف الكتاب).(1/371)
خطًّا. قال: وقد كان بعض أهل العلم لا يعتد من سماعه إلا بما كان كذلك، أو في معناه. والله أعلم (1).
الثامن: يُكرَه (2) له في مثل " عبدِالله بن فلان بن فلان " أن يكتب " عبد " في آخر سطر، والباقي في أوَّل ِ السطر الآخَر. وكذلك يكره في " عبدِالرحمن بنِ فلان " وفي سائرِ الأسماءِ المشتملة على التعبيد لله تعالى، أن يكتبَ " عبد " في آخرِ سطرٍ، واسم اللهِ مع سائرِ النسبِ في أول ِ السطرِ الآخر. وهكذا يُكره أن يكتَبَ " قال رسول " في آخر سطرٍ، ويكتَبَ في أول ِ السطرِ الذي يليه: " الله صلى الله تعالى عليه وآلِهِ وسلم " وما أشبَهَ ذلك. والله أعلم.
التاسع: ينبغي أن يحافظَ على كِتبةِ الصلاة والتسليم على رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -[53 / و] عند ذكرِه، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره؛ فإن ذلك من أكبرِ الفوائد التي يتعجلُها طلبةُ الحديث وكَتَبتُه. ومَن أغفل ذلك حُرِمَ حظًّا عظيمًا. وقد روينا لأهل ِ ذلك مناماتٍ صالحةً *. وما يكتبهُ من ذلك فهو دعاء يُثبِتُه، كلامٌ يرويه؛ فلذلك لا يتقيد به
__________
(1) انظر في المحدث الفاصل: (الدائرة بين الحديثين) 606 ف 882.
وانظر معه (الاقتراح 260، 290) آداب طالب الحديث، وآداب كتابته.
(2) في تقييد العراقي: " اقتصر المصنف في هذا على الكراهة. والذي ذكره الخطيب في (كتاب الجامع) امتناع ذلك؛ فإنه روى عن أبي عبدالله ابن بطة أنه قال: هذا كله غلط قبيح فيجب على الكاتب أن يتوقاه ويتأمله ويتحفظ منه. قال الخطيب: وهذا الذي ذكره أبو عبدالله صحيح فيجب اجتنابه. انتهى. واقتصر ابن دقيق العيد في (الاقتراح) على جعل ذلك كله من الآداب، لا الواجبات. والله أعلم ". التقييد والإيضاح: 208.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: في كتاب (أنوار الآثار المختصة في فضل الصلاة على النبي المختار، للحافظ التُّجَيبي): وكما تصلي على نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - بلسانك؛ فكذلك تخط الصلاةَ عليه ببنانك مهما كتبت اسمَه المبارك في كتاب؛ فإن لك بذلك أعظمَ الثواب. فقد رُوي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كتب عني علمًا وكتب معه صلاتَه عليَّ؛ لم يزل في أجرٍ ما قُرِئَ ذلك الكتابُ ". (1) ورُوِيَ عن أبي هريرةَ - رضي اللهُ عنه -
__________
(1) وأسنده الخطيب كذلك عن أبي بكر - رضي الله عنه - (شرف أصحاب الحديث: 35).(1/372)
............................................................................................................................
___________________________________
= عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من صلى عليَّ في كتابٍ لم تزل الملائكةُ تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب " (1). ولذلك قال سفيان الثوري: " لو لم يكن لصاحبِ الحديث فائدةٌ إلا الصلاة على رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يصلي عليه ما دام في ذلك الكتاب " (2). ثم حَكَى مناماتٍ في ذلك عن محمد بن أبي سليمان وعن عبيد الله الفزاري، وعن سفيان بن عيينة، وعن عبدالله بن عبدالحكم لما رأى الشافعي في المنام. وإنما لم نذكرها لأن " ابن الصلاح " قد أشار إليها. ثم إنما يستدلُ بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم؛ وقد جاء بإسنادٍ صحيح من طريق عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن أنس، يرفعه: " إذا كان يومُ القيامة جاء أصحابُ الحديث، وبأيديهم المحابرُ فيرسل الله - عز وجل - إليهم جبريل - عليه الصلاة والسلام - فيسألهم: من أنتم؟ - وهو أعلم - فيقولون: أصحاب الحديث. فيقول الرب - جل وعلا -: ادخلوا الجنةَ فطالما كنتم تصلون على نبيي في دار الدنيا " (3) صلى الله عليه وسلم.
وفي (تاريخ أصبهانَ) للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، في ترجمة " جعفر بن محمد الخشاب " أسند إلى أبي ضمرةَ أنس ِ بن عياض عن هشامبن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: " قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما من كتاب يُكتَبُ فيه صلى الله على محمد؛ إلا صلى الله وملائكتُه على من كتب ذلك ما دام اسمي في ذلك الكتاب " صلى الله عليه أفضلَ الصلاةِ والسلام. انتهت " 64 / و ظ.
__________
(1) أورده الشوكاني في (الفوائد المجموعة) وقال: " في إسناده من لا يحتج به، وقد روي من طرق ضعيفة جدا ". 239 ح 42، وقال السيوطي: " وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فهو مما يحسن إيراده في هذا المعنى، ولا يلتفت إلى ذكر ابن الجوزي له في الموضوعات - اللآلئ - فإن له طرقًا تخرجه عن الوضع وتقتضي أن له أصلا في الجملة؛ فأخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة، وأبو الشيخ، والديلمي - في مسند الفردوس - من طريق آخر، وابن عدي من حديث أبي بكر الصديق، والأصبهاني - يعني قوام السنة أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل، شيخ حفاظ الوقت: 538 هـ - في ترغيبه، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (تدريب الراوي: 2/ 75) ويأتي سند أبي نعيم، فيما يلي من المحاسن.
(2) أسنده الخطيب عن سفيان بن عيينة (شرف أصحاب الحديث: 36).
(3) نقله السيوطي من المحاسن وقال: " وهذا الحديث رواه الخطيب عن الصوري - أبي عبدالله محمد بن علي بن عبدالله، من شيوخه - عن أبي الحسين ابن جميع عن محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي عن =(1/373)
بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل. وهكذا الأمرُ في الثناء على الله - سبحانه - عند ذكر اسمِه نحو: عزَّ وجل، وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك *. وإذا وُجِدَ شيءٌ من ذلك قد جاءت به الروايةُ، كانت العنايةُ بإثباتِه وضبطِه أكثرَ. وما وُجِدَ في خَطِّ " أبي عبدِالله أحمدَ بنِ حنبلَ " - رضي الله عنه - من إغفال ِ ذلك عند ذكر اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلعل سبَبَه أنه كان يرى التقيدَ في ذلك بالرواية، وعَزَّ عليه اتصالُها في ذلك في جميع ِ مَن فوقه من الرواة. قال " الخطيبُ أبو بكر ": وبلغني أنه كان يُصَلِّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - نُطْقًا لا خَطًّا **. قال: وقد خالفه غيرُه من الأئمةِ المتقدمين في ذلك. ورُوِيَ عن " علي ابن المديني، وعباس بن عبدالعظيم العنبري " قالا: " ما تركنا الصلاةَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كلِّ حديثٍ سمعناه، وربما عَجِلْنا فنبيض الكتابَ في كل حديثٍ حتى نرجعَ إليه ". والله أعلم.
ثم ليتجنبْ في إثباتها نقصين: أحدهما: أن يكتبها منقوصةً صورةً، رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني أن يكتبها منقوصةً معنى، بأن لا يكتب: وسلم، وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين. سمعت " أبا القاسم منصور بن عبدالمنعم، وأم المؤيد بنت أبي القاسم " بقراءتي عليهما، قالا: سمعنا أبا البركات عبدالله بن محمد الفراوي لفظًا قال: سمعت
___________________________________
* المحاسن:
" زاد النووي في (مختصره): وهكذا الترضي والترحم على الصحابة والعلماء وسائر الأخبار. انتهى " 65 / و.
** المحاسن:
" فائدة: لا يقال: لعل سببه أن كان يكتب عَجِلاً لأمرِ اعتاده؛ فيترك ذلك للعجلة لا للتقيُّدِ بالرواية وشبهها؛ لأنا نقول: تركُ مثل هذا الثواب بسبب الاستعجال، لا ينبغي أن يُنْسَب للعلماء الجِبال. انتهت " 65 / و.
__________
(1) الطبراني عن الزبير عن عبدالرزاق، به، وقال: إنه موضوع، والحمل فيه على الرقي. قلت: له طريق غير هذه عن أنس، أوردها الديلمي في مسند الفردوس (تدريبُ الراوي 2/ 75).
وأبو سعد السمعاني أخرجه في أدب الإملاء (53) من طريق الدبري عن عبدالرزاق.(1/374)
المقرئ ظريفَ بن محمد يقول: سمعت عبدَالله (1) بن محمد بن إسحاق الحافظِِ [53 / ظ] قال: سمعت أبي يقول: سمعت حمزةَ الكناني يقول: " كنت أكتب الحديثَ، وكنت أكتب عند ذكر النبي: صلى الله عليه، ولا أكتب: وسلم. فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي: ما لك لا تُتم الصلاةَ عليَّ؟ قال: فما كتبتُ بعد ذلك: صلى الله عليه، إلا كتبت: وسلم ".
قلت: ويُكرَه أيضًا الاقتصارُ على قوله: عليه السلامُ. والله أعلم (2).
العاشر: على الطالبِ مقابلةُ كتابِه بأصل ِ سماعه وكتابِ شيخه الذي يرويه عنه، وإن كان إجازةً. روينا عن " عروةَ بن الزبير " - رضي الله عنه - أنه قال لابنه هشام: كتبتَ؟ قال: نعم، قال: عارضتَ كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب (3).
وروينا عن " الشافعي الإمام " وعن " يحيى بن أبي كثير " قالا: " من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاءَ ولم يستنج ". (4) وعن " الأخفش " قال: " إذا نُسِخ الكتابُ ولم يُعارَض،
__________
(1) ذُيِّل المتن في الأصلين، ومتن ابن الصلاح بالتقييد والإيضاح، بما نصه [وقع في الأصل، في شيخ المقرئ ظريف: " عبدالله " وإنما هو " عبيدالله " بالتصغير؛ محمد بن إسحاق، أبوه، هو أبو عبدالله ابن منده. فقوله الحافظ؛ إذن مجرور].
وفي ترجمة أبي عبدالله ابن منده، محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده (310 - 395 هـ) أنه سمع بمصر من حمزة بن محمد الكناني، روى عنه أولاده: عبدالرحمن وعبدالوهاب وعبيدالله. (تقييد ابن نقطة ل 11 يقول ... / فذكر رؤياه بلفظ مقارب لما هنا (التذكرة: 3/ 933).
(2) [بلغ السماع بقراءتي في المجلس الرابع عشر] على هامش (غ) بخط ابن الفاسي.
(3) الرامهرمزي في باب المعارضة (544 ف 18/ 1) وأخرجه الخطيب في باب المقابلة وتصحيح السماع (الكفاية: 237) وابن عبدالبر في باب معارضة الكتاب (الجامع 1/ 77) وعياض في (الإلماع 160) من طريق الرامهرمزي.
(4) أسنده ابن عبدالبر عن الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير (الجامع 1/ 77) وأسنده عن يحيى: الخطيبُ في الكفاية (237) والسمعاني في أدب الإملاء (78).
ونبه العراقي على أنه أنما يُروَى عن الأوزاعي ويحيى بن أبي كثير قال: وكأنه سبق قلم من الأوزاعي إلى الشافعي. وقال: ولم أر لهذا ذكرا عن الشافعي في شيء من الكتب المصنفة في علوم الحديث، ولا في شيء من مناقب الشافعي. والله أعلم (التقييد 210).(1/375)
ثم نُسِخ ولم يُعارَض؛ خرج أعجميًّا " * (1).
ثم إن أفضل المعارضةِ أن يعارضَ الطالبُ بنفسه كتابَه بكتابِ الشيخ مع الشيخ في حال ِ تحديثه إياه من كتابِه؛ لما يجمع ذلك من وجوه الاحتياطِ والإِتقان من الجانبين. (2) وما لم يجتمعْ فيه هذه الأوصافُ نقص من مرتبته بقدرِ ما فاته منها. وما ذكرناه أوْلَى من إطلاق (3) " أبي الفضل الجارودي الحافظ الهروي " قولَه: " أصدقُ المعارضةِ مع نفسِك ".
__________
(1) أسنده عن الأخفش: الخطيب في الكفاية 237 وابن عبدالبر في الجامع 1/ 78.
(2) انظر في الكفاية، باب المقابلة وتصحيح السماع (238).
(3) [بإطلاق] في متن (غ، ص) وعلى هامشهما: [من إطلاق - نسخة -] وهو اللفظ في متن ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح: 210.
وعلى هامش (غ): [قال الحافظ السلفي شعرًا]:
وأجل أنواع الحديث بأسرها ...................................................... ما يكتب الإنسان في الإملاء =
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: أقدمُ من يُنقَلُ ذلك عنه " عروةُ "، وقد أسند كلامَه وكلامَ يحيى بنِ أبي كثير " الرامهرمزيُّ " في كتابه (الفاصل) في: باب المعارضة (1).
وفي المسألة حديثان مرويان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أحدهما: من طريق عقيل عن ابن شهاب عن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: " كنت أكتب الوحيَ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا فرغتُ قال: اقرأه. فأقرؤه، فإذا كان فيه سقَطٌ أقامَه ". ذكره " المرزباني " في كتابه (2).
الحديث الثاني: ذكره " السمعاني " في كتاب (أدب الإملاء) من حديث عطاء بن يسار قال: " كتب رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: كتبتَ؟ قال: نعم. قال: عرضت؟ قال: لا، قال: لم تكتب حتى تعرضَ فيصحَّ " (3) وهذا أصْرَحُ في المقصود، إلا أنه مُرْسَل. انتهى " 65 / و ظ.
__________
(1) المحدث الفاصل: 544 الفقرات 718 - 720.
(2) وأسنده السمعاني في (أدب الإملاء: 77) من رواية ابن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبيه عن جده - رضي الله عنه -.
(3) أدب الإملاء، أسنده السمعاني عن عطاء (78) وانظر باب معارضة الكتاب في (جامع بيان العلم) 1/ 77.(1/376)
ويُستحب أنه ينظر معه في نسختِه، مَنْ حضر من السامعين ممن ليس معه نسخة، لا سيما إذا أراد النقل منها. وقد رُوِي عن " يحيى بن معين " أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدِّث يقرأ؛ هل يجوز أن يحدِّثَ بذلك عنه؟ فقال: أما عندي فلا يجوز، ولكن عامةَ الشيوخ هكذا سماعُهم (1).
[54 / و] قلت: وهذا من مذاهبِ أهل ِ التشديد في الرواية، وسيأتي ذكرُ مذهبِهم - إن شاء الله تعالى -. والصحيحُ أن ذلك لا يُشترط، وأنه يصحُّ السماعُ وإن لم ينظر أصلا في الكتابِ حالةَ القراءة، وأنه لا يُشترط أن يُقابله بنفسه، بل يكفيه مقابلةُ نسختِه بأصل ِ الراوي وإن لم يكن ذلك حالةَ القراءة، وإن كانت المقابلةُ على يدي غيره إذا كان ثقةً موثوقًا بضبطِه (2).
قلت: وجائز أن تكون مقابلته بفرع قد قوبل المقابلةَ المشروطةَ بأصل ِ شيخِه، أصل ِ السماع، وكذلك إذا قابل بأصل ِ أصل ِ الشيخ المقابَل ِ به أصلُ الشيخ ِ؛ لأن الغرض المطلوب أن يكون كتابُ الطالب مطابقًا لأصل ِ سماعِه وكتابِ شيخه، فسواء حصل ذلك بواسطةٍ أو بغيرِ واسطة. ولا يجزئ ذلك عند من قال: لا تصح مقابلتُه مع أحدٍ غير نفسِه، ولا يُقلد غيره ولا يكون بينه وبين كتابِ الشيخ (3) واسطةٌ، وليقابل نسختَه بالأصل بنفسه حرفًا حرفًا حتى يكون على ثقة ويقين من مطابقتها له. وهذا مذهب متروك، وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في أعصارنا. والله أعلم.
أما إذا لم يعارض كتابَه بالأصل فقد سئل " الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني " عن جواز روايته منه فأجاز ذلك، وأجازه " الحافظ أبو بكر الخطيب " أيضًا، وبَيَّنَ شرطَه فذكر أنه يشترَط أن تكون نسختُه نُقِلَت من الأصل ِ وأن يُبَِّنَ عند الرواية أنه لم يعارض.
وحَكى عن شيخه " أبي بكر البرقاني " أنه سأل أبا بكر الإسماعيلي: هل للرجل ِ أن
__________
= وهو ثاني بيتين، رواهما السمعاني بإسناده عن الحافظ أبي طاهر السلفي، أنشدهما لنفسه، وقبله:
واظِبْ على كَتْب الأمالي جاهدًا ......................................................... من ألسن الحفاظ والفقهاء
(أدب الإملاء: 11).
(1 - 2) قاله الخطيب (الكفاية: 238، 239).
(3) في ص: [شيخه]، وما هنا من (غ، ع).(1/377)
يُحدِّثَ بما كتب عن الشيخ ولم يعارض بأصله؟ فقال: نعم، ولكن لا بد أن يبينَ أنه لم يعارض. قال (1): " وهذا هو مذهبُ أبي بكر البرقاني؛ فإنه روى لنا أحاديثَ كثيرةً وقال فيها: أخبرنا فلانٌ، ولم أعارضْ بالأصل ".
قلت: ولا بدر من شرطٍ ثالث، وهو أن يكون ناقلُ النسخةِ [54 / ظ] من الأصل ِ غيرَ سقيم النقل، بل صحيحَ النقل ِ قليل السقَطِ. والله أعلم.
ثم إنه ينبغي أن يراعَى في كتابِ شيخِه بالنسبة إلى مَن فوقه، مثلَ ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابِه، ولا يكون منه كطائفة من الطلبة إذا رأوا سماعَ شيخ ٍ لكتابٍ قرءوه عليه من أي نسخةٍ اتفقتْ. والله أعلم.
الحادي عشر: المختار في كيفية تخريج الساقط في الحواشي - ويسمى اللحَقَ، بفتح الحاء - أن يخط من موضع سقوطِه من السطر خطًّا صاعدًا إلى فوق، ثم يعطفه بين السطرين عطفةً يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحَق. ويبدأ في الحاشية بكتبة اللحق مقابِلا للخط المنعطف، وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين. وإن كانت تلي وسطَ الورقة إن اتسعت له؛ فليكتبه (2) صاعدًا إلى أعلى الرواية لا نازلا به إلى أسفل.
قلت: وإذا كان اللحق سطرين أو سطورًا فلا يبتدئ بسطوره من أسفلَ إلى أعلى، بل يبتدئ بها من أعلى إلى أسفل؛ بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة، إذا كان التخريجُ في جهةِ اليمين، وإذا كان في جهة الشمال، وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة. ثم يكتب عند انتهاء اللحق: صح. ومنهم من يكتب مع صح: رجع. ومنهم من يكتب في آخرِ اللحقِ الكلمةَ المتصلةَ به داخلَ الكتابِ في موضع التخريج ليؤذنَ باتصال ِ الكلام، وهذا اختيارُ بعض ِ أهل ِ الصنعةِ من أهل ِ المغرب، (3) واختيارُ " القاضي أبي محمد بن
__________
(1) الخطيب في الكفاية: باب المقابلة وتصحيح السماع: 239.
وعلى هامش (غ) نقلا من أصل السماع: [فإن لم يبين ذلك فإن علم كثرة الخطأ لم يرو ذلك بوجه إلا بعد المقابلة أو بعد بيان آخر لكثرة الخطأ في الكتابة. وإن كان تغلب الصحة على الكتابة فقد يقال إن الظاهر عدم التغيير والمخالفة بعد الاطلاع عليها في الأصل، ويكون البيان مستحبًّا. وقد يقال إن الأصل عدم وقوع هذا المكتوب؛ على وفق الأصل، حتى يتحقق ذلك بالمقابلة].
(2) من (ص)، وفي (غ): [أو ليكتبه].
(3) انظره في باب التخريج والإلحاق للنقص، من (الإلماع: 162 - 163).(1/378)
خلاد " صاحب كتاب (الفاصل بين الراوي والواعي) (1) من أهل المشرق مع طائفة. وليس ذلك بمرضي؛ إذ رُبَّ كلمة تجيء في الكلام مكررةً حقيقة، فهذا التكرير يوقعُ بعضَ الناس ِ في توَهُّم مثل ِ ذلك في بعضِه.
واختار " القاضي ابنُ خلاد " أيضًا في كتابه أن يمدَّ عَطْفةَ خطِّ التخريج ِ من موضعِه حتى يُلحِقَه بأول اللحَق بالحاشية. (2) [55 / و] هذا أيضًا غيرُ مرضي؛ فإنه وإن كان فيه زيادة بيان؛ فهو تسخيم للكتابِ وتسويد له، لا سيما عند كثرة الإِلحاقات. والله أعلم.
وإنما اخترنا كتبةَ اللحقِ صاعدًا إلى أعلى الورقة؛ لئلا يخرج بعده نقصٌ آخرُ فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغًا له، لو كان كتب الأولَ نازلا إلى أسفلَ (3). وإذا كتب الأولَ صاعدًا فيما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغًا له. وقلنا أيضًا: يخرجه في جهة اليمين؛ لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال ِ فربما ظهر بعده في السطرِ نفسِه نقصٌ آخرُ، فإن خرجه قُدَّامَه إلى جهة الشمال أيضًا وقع بين التخريجين إشكال، وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفةُ تخريج جهةِ الشمال وعطفةُ تخريج جهة اليمين، أو تقابَلَتا؛ فأشبه ذلك الضرْبَ على ما بينهما، بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال، اللهم إلا أن يتأخر النقصُ إلى آخرِ السطر، فلا وجهَ حينئذ إلا تخريجُه إلى جهةِ الشمال لِقُربِه منها ولانتفاءِ العلة المذكورة، من حيث أنا لا نخشى ظهورَ نقص ٍ بعدَه. وإذا كان النقصُ في أول السطر، تأكد تخريجُه إلى جهة اليمين؛ لما ذكرناه من القُربِ مع ما سبق (4).
__________
(1 - 2) ابن خلاد الرامهرمزي في (المحدث الفاصل: 606 ف 884) قال في التخريج على الحواشي: " وأجوده أن يخرج من موضعه حتى يلحق به طرف الحرف المبتدأ به من الكلمة الساقطة في الحاشية، ويُكتَب في الطرف الثاني حرف واحد مما يتصل به في الدفتر؛ ليدل على أن الكلام قد انتظم ".
(3) انظر (الإلماع: 163).
(4) على هامش (غ) طرة على ورقة ملصقة، بخط ابن الفاسي:
[قال القاضي عياض: قال لنا القاضي الشهيد أبو علي: سمعت أبا يوسف عبدالسلام بن بندار القزويني يقول: أنشدني الشريف أبو علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي لأحمد بن حنبل:
من طلب العلم والحديث فلا .............................................................. يضجرْ من خمسةٍ يقاسيها
دراهم للعلوم يجمعها ..................................................................... وعند نشر الحديث يفنيها
يضجره الضرب في دفاتره ................................................................ وكثرة اللحق في حواشيها
يغسل أثوابه وبزَّته ........................................................................ من أثر الحبر ليس ينقيها =(1/379)
وأما ما يخرج في الحواشي من شرح أو تنبيه على غلطٍ أو اختلاف روايةٍ أو نسخة أو نحوِ ذلك مما ليس من الأصل؛ فقد ذهب " القاضي الحافظُ عياض " - رحمه الله - إلى أنه لا يُخرجُ لذلك خطُّ تخريج ٍ لئلا يدخل اللبسُ ويُحسَبَ من الأصل، وأنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل، لكن ربما جُعِلَ على الحرق المقصود بذلك التخريج علامةٌ كالضبةِ أو التصحيح؛ إيذانًا به (1).
قلت: التخريج أوْلَى وأدَلُّ وفي نفس هذا المخرَج ما يمنع الإِلباسَ. ثم هذا التخريجُ [55 / ظ] يخالف التخريجَ لما هو من نفس الأصل في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط، وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خُرِّجَ المخرَّجُ في الحاشية. والله أعلم.
الثاني عشر: من شأنِ الحُذَّاقِ المتقنين، العنايةُ بالتصحيح والتضبيب والتمريض:
أما التصحيحُ فهو كتابة " صح " على الكلام أو عنده، ولا يفعل ذلك إلا فيما صح روايةً ومعنى، غير أنه عرضة للشكِّ أو الخلاف، فيكتب عليه: صح؛ ليُعرَفَ أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضُبِطَ وصَحَّ على ذلك الوجه.
وأما التضبيب - ويسمى أيضًا التمريض -؛ فيُجعل على ما صح ورودُه كذلك من جهةِ
__________
= وقال في ذلك القاضي عياض - رحمه الله -:
خير ما يقتني اللبيب كتاب ..................................................................... محكم النقل متقن التقييد
خَطَّه عارف نبيل وعانا .................................................................. فصحَّ التبييض بالتجويد
لم يخنه إتقانُ نقط وشكل ................................................................. لا ولا عابه لحاق المزيد
فكأن التخريج في طُرَّتيه ................................................................. طرر صُففت بِبيض ِ الخدود
فيناجيك شخصه من قريب ............................................................... ويناديك نصه من بعيد
فاصْحَبَنْه تجده خير جليس ................................................................. واختبره تجده أنس المريد
- الأبيات الأولى، قوبلت على ما في (الإلماع 165) سماع عياض من شيخه القاضي الشهيد أبي علي - هو الصدفي - ووقع في مطبوعته نسب " عبدالسلام بن بندار ": [القروي] روجع فيه: أبو يوسف القزويني عبدالسلام بن محمد بن يوسف بن بندار، شيخ المعتزلة وصاحب التفسير الكبير (دول الإِسلام 2/ 16، والعبر 3/ 321) وفيات سنة 488 هـ، فيهما. وقوبلت أبيات عياض، على (الإلماع: 165) وهي، والأبيات قبلها بنصها هنا.
(1) الإلماع 164، وقال القاضي عياض: " وقد حدثني بعض من لقيته ممن يُعنى بهذا الشأن، أن كُتُبَ الحكم ِ المستنصر خرجت إلى أهل بيت المقابلة والنسخ بقصره، برسوم منها بعض ما ذكرناه ".(1/380)
النقل، غير أنه فاسدٌ لفظًا أو معنى، أو ضعيف، أو ناقص؛ مثل أن يكون غير جائز من حيث العربيةُ، أو يكون شاذًّا عند أهله يأباه أكثرهم، أو مصحَّفًا، أو ينقُصَ من جملة الكلام كلمة أو أكثر، وما أشبه ذلك، فيُمَدّ على ما هذا سبيلُه خطٌّ، أوَّلُه مثلُ الصادِ، ولا يُلزَق بالكلمة المعلَّم عليها كيلا يُظَنَّ ضربًا، وكأنه صادُ التصحيح بمَدَّتها دون حائها، كُتبت كذلك ليفرقَ بين ما صحَّ مطلقًا من جهة الرواية وغيرها، وبين ما صح من جهة الرواية دون غيرها، فلم يكمل عليه التصحيح. وكتب حرف ناقص عهلى حرف ناقص؛ إشعارًا بنقصه ومرضِه مع صحة نقله وروايته، وتنبيهًا بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه، ولعل غيره قد يخرج له وجهًا صحيحًا، أو يظهر له بعد ذلك في صحتِه ما لم يظهر له الآن. ولو غَيَّرَ ذلك وأصلحه على ما عنده؛ لكان معترضًا لما وقع فيه غيرُ واحدٍ من المتجاسرين الذين غيَّروا، وظهر الصوابُ فيما أنكروه والفسادُ فيما أصلحوه (1).
وأما تسمية ذلك ضبة؛ فقد بلغنا عن " أبي القاسم إبراهيم بن محمد [56] اللغوي، المعروف بابن الإفليلي " أن ذلك لكونِ الحرف مُقْفَلاً بها لا يتجه لقراءةٍ؛ كما أن الضبةَ مقفلٌ بها. والله أعلم (2).
قلت: ولأنها لما كانت على كلام فيه خَلل أشبهت الضبةَ التي تُجعل على كسر أو خلل، فاستعِير لها اسمُها. ومثلُ ذلك غيرُ مستنكرٍ في بابِ الاستعارات *.
__________
(1) قاله القاضي عياض في خطبة (مشارق الأنوار: 1/ 4) ثم في (الإلماع: 167).
(2) نقله القاضي عياض قراءة بخط أبي عبدالله الحميدي محمد بن أبي نصر نزيل بغداد بإسناده عن أبي القاسم ابن الإفليلي إبراهيم بن محمد بن زكريا (الإلماع: 168).
___________________________________
* في المحاسن على هامش التضمين، كتب البلقيني بقلمه:
" قول ابن الإفليلي أوْلى؛ لأن ضبة القدح جُعلت جابرة للكسر الذي هو فيه. وضبة الكتابة جُعلت منبهة على أن فيه خللا ".
__________
- وانظر تقييد العراقي: 214، وتبصرته: 2/ 144.(1/381)
ومن مواضع التضبيب أن يقع في الإِسناد إرسالٌ أو انقطاع، فمن عادتهم تضبيبُ موضع ِ الإرسال والانقطاع، وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيبِ على الكلام الناقص.
ويوجَدُ في بعض ِ أصول الحديث القديمة في الإِسناد الذي يجتمع فيعه جماعةٌ معطوفة أسماؤهم بعضُها على بعض، علامة تشبه الضبةَ فيما بين أسمائهم، فيتوهم من لا خبرةَ له أنها ضبةٌ وليست بضبة، وكأنها علامةُ وصل ٍ فيما بينها، أثبتت تأكيدًا للعطف؛ خوفًا من أن تُجعلَ " عن " مكانَ الواو. والعلم عند الله تعالى.
ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح، فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب. والفطنةُ من خير ما أوتيه الإنسانُ. والله أعلم.
الثالث عشر: إذا وقع في الكتابِ ما ليس منه؛ فإنه يُنفَى عنه بالضرب، أو الحكِّ أو المحوِ، أو غير ذلك. والضربُ خيرٌ من الحَكِّ والمحو. روينا عن " القاضي أبي محمد بن خلاد " - رحمه الله - قال: " قال أصحابنا: الحك تهمة " (1). وأخبرني من أخبر عن " القاضي عياض " قال: " سمعت شيخنا أبا بحر سفيانَ بن العاصي، يحكي عن بعض شيوخه أنه كان يقول: كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلسَ السماع؛ حتى لا يُبشَرَ شيء؛ لأن ما يبشر فيه ربما يصح في رواية أخرى , وقد يُسمع الكتابُ مرةً أخرى على شيخ آخرَ يكون ما بُشِرَ [56 / ظ] وحُكَّ من روايةِ هذا، صحيحًا في روايةِ الآخر، فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بُشِرَ، وهو إذا خُطَّ عليه من رواية الأول ِ وصَحَّ عند الآخرِ، اكتفى بعلامةِ الآخر عليه بِصحتِهِ " (2).
ثم إنهم اختلفوا في كيفية الضرب؛ فروينا عن " أبي محمد بن خلاد " قال: " أجودُ الضربِ أن لا يطمس المضروب عليه، بل يخط من فوقه خطًّا جيدا بَيِّنا، يدل على إبطاله، ويُقرأ من تحته ما خُطَّ عليه " (3). وروينا عن " القاضي عياض " ما معناه، أن اختياراتِ الضابطين اختلفت في الضرب؛ فأكثرهم على مدّ الخطِّ على المضروبِ عليه مختلطًا
__________
(1) المحدث الفاصل: 606 ف 883، والقاضي عياض في الإلماع: 170 من طريقه (باب في الضرب والحك والشق والمحو).
(2) بنصه، في الإلماع: 170.
(3) ابن خلاد الرامهرمزي في (المحدث الفاصل 606/ 883).(1/382)
بالكلمات المضروبِ عليها، ويسمَّى ذلك: الشقَّ (1) أيضًا. ومنهم من لا يخلطه ويثبته فوقه، لكنه يَعطف طرفي الخطِّ على أول ِ المضروب عليه وآخرِه. ومنهم من يستقبحُ هذا ويراه تسويدًا وتطليسًا، بل يُحوِّقُ على أول ِ الكلام المضروب عليه بنصفِ دائرة، وكذلك في آخره. وإذا كثُر الكَلامُ المضروبُ عليه فقد يفعل ذلك في أول ِ كلِّ سطرٍ منه وآخره، وقد يكتفي بالتحويق على أول ِ الكلام وآخرِه أجمَعَ. ومن الأشياخ من يستقبح الضربَ والتحويقَ ويكتفي بدائرة صغيرة أولَ الزيادةِ وآخرَها، ويسميها صِفْرًا كما يسميها أهلُ الحسابِ. وربما كتب بعضهم عليه " لا " في أولِه و " إلى " في آخرِه. ومثلُ هذا يحسن فيما صحَّ في روايةٍ، وسقط في رواية أخرى (2). والله أعلم.
وأما الضربُ على الحرف المُكرَّرِ؛ فقد تقدم بالكلام فيه " القاضي أبو محمد ابن خلاد الرامهرمزي " - رحمه الله - على تقدمه؛ فروينا عنه قال: " قال بعض أصحابنا: أوْلاَهما بأن يبطلَ الثاني؛ لأن الأولَ كُتِبَ على صواب، والثاني كُتِبَ على الخطأ، فالخطأ أوْلَى بالإِبطال. وقال آخرون: إنما الكتاب علامةٌ لما يُقرأ، فأوْلَى الحرفيْن بالإِبقاء أدَلُّهمَا عليه وأجودُهما صورةً " (3) وجاء عن " القاضي عياض " آخرًا، ففصَّل تفصيلا حسنا، فرأى إن تكررَ الحرف إن كان في أول ِ سطرٍ فليضربْ على الثاني [57 / و] صيانةً لأول ِ السطرِ عن التسويدِ والتشويه، وإن كان في آخر سطرٍ فليُضربْ على أولهما صيانةً لآخرِ السطر فإن سلامةَ أوائل ِ السطور وأواخرها عن ذلك أولى؛ فإن اتفق أحدُهما في آخر السطر والآخرُ في أول ِ سطر آخرَ فليُضرَبْ على الذي في آخر السطر، فإن أولَ السطرِ أوْلى بالمراعاة؛ فإن كان التكرُّرُ في المضاف أو المضاف إليه أو في الصفة أو الموصوف أو نحوِ ذلك؛ لم نراع حينئذ أولَ السطر وآخره، بل نراعي الاتصالَ بين المضاف والمضاف إليه ونحوِهما في
__________
(1) الإلماع: 171 وقال العراقي في الشق: وهذا الاصطلاح لا يعرفه أهل المشرق، ولم يذكره الخطيب في الجامع ولا في الكفاية، وهو اصطلاح لأهل المغرب وذكره القاضي عياض في الإلماع، ومنه أخذه المصنف وكأنه مأخوذ من الشق وهو الصدع، أو من شق العصا وهو التفريق، فكأنه فرق بين الكلمة الزائدة وما قبلها من الصحيح الثابت بالضرب عليها، ويوجد في بعض نسخ علوم الحديث [النشق] بزيادة بنون مفتوحة في أوله وسكون الشين. فإن لم يكن تصحيفًا من النساخ فكأنه مأخوذ من نشق الظبي في حبالته إذا علق فيها، فكأنه إبطال لحركة الكلمة بجعلها في صورة وثاق يمنعها من التصرف. والله أعلم " التقييد 216.
(2) قوبل على الإلماع: 171.
(3) الرامهرمزي في المحدث الفاصل: 607 ف 885.(1/383)
الخط، فلا نفصل بالضرب بينهما، ونضرب على الحرف المتطرف من المتكرر، دون المتوسط (1).
وأما المحو فيقارب الكشطَ في حُكمه الذي تقدم ذكره. وتتنوع طرُقُه، ومن أغربِها - مع أنه أسلمُها - ما رُوِيَ عن " سَحْنونَ بن سعيد التنوخي (2) الإمام المالكي " أنه كان ربما كَتب الشيءَ ثم لَعِقَه. (3) وإلى هذا يومِىءُ ما روينا عن " إبراهيم النخَعي " - رضي الله عنه - أنه كان يقول: " من المروءةِ أن يُرَى في ثوبِ الرجل ِ وشفتيه مدادٌ ". والله أعلم.
الرابع عشر: ليكنْ فيما تختلف فيه الرواياتُ قائمًا بضبطِ ما تختلف فيه في كتابِه، جيدَ التمييز بينها كيلا تختلطَ وتشتبه فيفسُدَ عليه أمرُها. وسبيلُه أن يجعل أولا متنَ كتابِه على روايةٍ خاصة، ثم ما كانت من زيادة لروايةٍ أخرى ألحقها أو من نقص ٍ أعلم عليه، أو من خلافٍ كتبه، إما في الحاشيةِ وإما في غيرِها، مُعَيِّنًا في ذلك كل من رواه، ذاكرًا اسمَه بتمامِه، فإن رمز إليه بحرفٍ أو أكثر، فعليه ما قدمنا ذكرَه، من أنه يبين المرادَ بذلك في أول ِ كتابِه أو آخرِه كيلا يطولَ عهدُه به فينسى، أو يقَع كتابه إلى غيرِه، [57 / ظ] فيقعَ من رموزِه في حيرة وعَمى. وقد يُدفَعُ إلى الاقتصار على الرموز عند كثرةِ الروايات المختلفة، واكتفى بعضُهم في التمييز بأن خص الروايَةَ الملحقةَ بالحُمرةِ. فَعل ذلك " أبو ذر الهروي " من المشارقة، و " أبو الحسن القابسي " (5) من المغاربةِ، مع كثيرٍ من المشايخ وأهل ِ التقييد. (6) فإذا كانت في الرواية الملحقةِ زيادةٌ على التي في متنِ الكتابِ كتبَها بالحُمرة، وإن كان فيها نقصٌ والزيادةُ في الرواية التي
__________
(1) قوبل على الإلماع: 172.
(2) على هامش (ص): [هو من القيروان، إمام كبير، صاحب عبدالرحمن بن القاسم صاحب مالك].
(3 - 4) في الإلماع: 174 بسند القاضي عياض إلى سحنون، ثم سحنون عن إبراهيم النخعي.
(5) حاشية على هامش (ص): [هو إمام فقيه من بلاد إفريقية، القيروان قديمًا. واليوم قاعدة إفريقية تونس. وهذا القابسي له مختصر الموطأ اسمه: الملخص].
(6) قال عياض في (باب ضبط اختلاف الروايات):
" وأوْلى ذلك أن يكون الأم على رواية مختصة. ثم ما كانت من زيادة الأخرى ألحقت، أو من نقص أعلم عليها، أو من خلاف خرج في الحواشي، وأعلم على ذلك كله بعلامة صاحبه: من اسمه أو حرف منه للاختصار لا سيما مع كثرة الخلاف والعلامات، وإن اقتصر على أن تكون الرواية الملحقة بالهمزة، فقد عمل ذلك كثير من الأشياخ وأهل الضبط كأبي ذر الهروي وأبي الحسن القابسي وغيرهما. فما أثبتَّ لهذه الرواية كتبته بالحمرة، وما نقص منها مما ثبت للأخرى حُوِّق بها عليه ". الإلماع: 189.(1/384)
في مَتْنِ الكتابِ، حَوَّق عليها بالحمرة. ثم على فاعل ذلك تبيينُ من له الروايةُ المعلمةُ بالحمرةِ، في أول الكتابِ أو آخرِه على ما سبق (1). والله أعلم.
الخامس عشر: غلب على كتبةِ الحديث الاقتصارُ على الرمز في قولهم: حدثنا، و: أخبرنا. غير أنه شاع ذلك وظهر حتى لا يكاد يلتبِس. أما " حدثنا " فيكتب منها شطرها الأخير وهو الثاء والنون والألف، وربما اقتُصِرَ على الضمير (2) منها وهو النون والألف. * وأما أخبرنا؛ فيكتب منها الضمير المذكور مع الألف أولا. وليس بحسَنٍ ما تفعله طائفة من كتابة أخبرنا بألف، مع علامة حدثنا المذكورة أولا، وإن كان " الحافظُ البيهقي " ممن فعله. وقد يكتب في علامة أخبرنا: راء بعد الألف، وفي علامةِ حدثنا: دال في أولها. وممن رأيت في خطه الدال في علامة حدثنا: " الحافظ أبو عبدالله الحاكم، وأبو عبدالرحمن السلمي، والحافظ أحمد البيهقي " (3). والله أعلم.
وإذا كان للحديث إسنادانِ أو أكثر، فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسنادٍ إلى إسناد، ما صورتُه " ح " وهي (4) حاء مفردةٌ مهملة. ولم يأتنا عن أحد ممن يُعتَمدُ بيانٌ لأمرها. غير أنني وجدت بخط " الأستاذ الحافظ أبي عثمان الصابوني، والحافظ أبي مسلم عمر بن علي الليثي البخاري، والفقيه المحدِّث أبي سعد الخليلي " (5) - رحمهم الله - في مكانها بدلا عنها:
__________
(1) قابل على الإلماع، وانظر فتح المغيث 2/ 180.
(2) من (غ) وهامش (ص) وفي متنها [على الضميرين) (خ).
(3) طرة على هامش (غ):
[وجدت بخط شيخنا أبي بكر - أيده الله -: قلت: ورأيت الدال في خط الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي وصورته: دثنا. هكذا صوره - أيده الله -.].
وقابل على (التبصرة 2/ 153 - 154) وفيها نقل العراقي عن ابن الصلاح في (فتاويه).
(4) حاشية من (ص): [هذه الحاء المفردة كثيرًا ما تقع في كتاب مسلم، وتقع في غيره].
(5) من متن (غ) ومتن ابن الصلاح بالتقييد والإيضاح (218) وفي (ص) وهامش (غ) وتضمين المحاسن: [أبي سعيد] الخليلي. وقال السخاوي في الفتح 2/ 193 " والفقيه المحدث أبي سعد محمد بن أحمد بن محمد بن الخليل الخليلي " وهو ما في طبقات السبكي 4/ 63 ولباب ابن الأثير 1/ 458 - الخليلي - وأرخا مولده في ذي الحجة سنة 467 هـ ووفاته سنة 548 في المحرم.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: فيه إيهام، إلا على طريقة من لا يفرق بينهما. انتهت " 68 / و.(1/385)
" صح " صريحةً. وهذا يُشعِرُ بكونِها رمزًا إلى: صح، وحَسُن إثباتُ " صح " ههنا لئلا يُتَوهَّمَ أن حديث هذا الإسناد سَقَط، ولئلا يركبَ الإسنادُ الثاني على الإِسنادِ الأول فيُجعلا إسنادًا واحدًا. وحكى لي بعض من جمعتني وإياه الرحلةُ بخراسانَ عمن وصفه بالنقل من الأصبهانيين، أنها حاءٌ مهملة من: التحويل، أي من إسناد إلى إسنادٍ آخرَ. وذاكرتُ فيها بعضَ أهل ِ العلم من أهل ِ المغرب. (1) وحكيت له عن بعض من لقيت من أهل الحديث أنها حاءٌ مهملة؛ إشارة إلى قولنا: الحديث، فقال لي: " أهل المغرب، وما عرفت بينهم اختلافًا، يجعلونها حاءً مهملة، ويقول أحدهم إذا وصل إليها: الحديث ". وذكر لي أنه سمع بعضَ البغداديين يذكر أيضًا أنها حاءٌ مهملة، وأن منهم من يقول إذا انتهى إليها في القراءة: " حاء " ويمر.
وسألت أنا الحافظَ الرحال " أبا محمد عبدالقادرَ بنَ عبدالله الرهاوي - رحمه الله - " عنها، فذكر أنها حاء من: حائل، أي تحول بين إسنادين. قال: ولا يُلفَظ بشيءٍ عند الانتهاءِ إليها في القراءة. وأنكر كونَها من: الحديث، وغير ذلك، ولم يعرف غيرَ هذا عن أحدٍ من مشايخه، وفيهم عددٌ كانوا حُفَّاظَ الحديث في وقتِه.
وأختار أنا - والله الموفق - أن يقول القارئ عند الانتهاء إليها: " حا " ويمر؛ فإنه أحوَطُ الوجوه وأعدلها (2). والعلمُ عند الله تعالى.
السادسَ عشر: ذكر " الخطيبُ الحافظُ " أنه ينبغي للطالبِ أن يكتبَ بعد البسملة اسمَ الشيخ الذي سمع الكتابَ منه وكنيتَه ونسبَه، ثم يسوق ما سمعه منه على لفظِه. قال: وإذا كتب الكتابَ المسموعَ فينبغي أن يكتبَ فوق سطرِ التسميةِ أسماءَ من سمع معه وتاريخَ وقتِ السماع، وإن أحبَّ كتبَ ذلك في حاشيةِ أول ِ ورقةٍ من الكتاب؛ فكُلاًّ قد فعله شيوخُنا. والله أعلم.
[58 / ظ] قلتُ: كِتْبَةُ التسميع ِ حيث ذَكَره، أحوَظُ وأحْرَى بأنْ لا يخفى على من
__________
(1) في (ص): [الغرب].
(2) نقله الشمس السخاوي في (فتح المغيث 2/ 193) وقال: " والظاهر كما قال بعض المتأخرين أن ذلك من اجتهاد أئمتنا في شأنها؛ من حيث إنهم لم يتبين لهم فيها شيء من المتقدمين. قال الدمياطي - الحافظ شرف الدين أبو محمد 705 هـ -: ويقال إن أول من تكلم على هذه الحرف ابن الصلاح، وهو ظاهر من صنيعه لا سيما وقد صرح في أول المسألة بقوله: ولم يأتنا عن أحد ممن يعتد به بيان لأمرها ".(1/386)
يحتاجُ إليه، ولا بأس بكتبتِه آخرَ الكتابِ وفي ظهرِه، وحيث لا يخفى موضعُه. وينبغي أن يكونَ التسميعُ بخطِّ شخص ٍ موثوق به غير مجهول ِ الخطِّ، ولا ضيرَ حينئذٍ في أن لا يكتبَ الشيخُ المسمعُ خَطَّه بالتصحيح. وهكذا لا بأس على صاحبِ الكتابِ إذا كان موثوقًا به، أن يقتصر على إثباتِ سماعِه بخطِّ نفسِه؛ فطال ما فعل الثقاتُ ذلك.
وقد حدثني بمروَ " الشيخُ أبو المظفرُ بنُ الحافظ أبي سعد الهروي " عن أبيه عمن حدثه من الأصبهانية، أن " عبدالرحمن بن أبي عبدالله ابن مَنْده " قرأ ببغدادَ جزءًا على " أبي أحمدَ الفَرضي " وسأله خطَّه ليكون حُجةً له. فقال له أبو أحمد: يا بني، عليك بالصدقِ؛ فإنك إذا عُرِفتَ به لا يكذبك أحدٌ، وتُصَدَّقُ فيما تقول وتنقل، وإذا كان غير ذلك؛ فلو قيل لك: ما هذا خط أبي أحمد الفرضي، ماذا تقول لهم؟
ثم إن على كاتبِ التسميع التحري والاحتياطَ، وبيانَ السامع والمسموع والمسموع منه (1)، بلفظٍ غير محتمل، ومجانبةَ التساهل فيمن يُثبتُ اسمَه، والحذرَ من إسقاطِ اسم أحدٍ منهم لغرض ٍ فاسِد؛ فإن كان مُثبِتَ السماع غيرَ حاضرٍ في جميعِه، لكن أثبته معتمدًا على إخبارِ مَن يثق بخبرِه من حاضريه، فلا بأسَ بذلك إن شاء الله تعالى.
ثم إن من ثَبَتَ سماعُه في كتابِه، فقبيح به كتمانُه إياه ومنعُه من نقل سماعِه ومن نَسخ الكتاب، وإذا أعاره إياه فلا يبطئ به. روينا عن " الزهري " أنه قال: " إياك وغُلولَ الكُتبِ. قيل له: وما غُلول الكتب؟ قال: حَبْسُها عن أصحابِها " (2). وروينا عن " الفُضيل بنِ عِيَاض ٍ " - رضي الله عنه - أنه قال: ليس من أفعال ِ أهل الورع ولا من فعال ِ الحكماء، أن يأخذَ سماعَ رجل فيحبسَه عنه، ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه - وفي رواية: ولا من [59 / و] فعال العلماء أن يأخذ سماعَ رجل وكتابه فيحبِسه عليه - ". فإن منعه إياه؛ فقد روينا أن رجلا ادَّعى على رجل ٍ بالكوفة سماعًا منعه إياه فتحاكما إلى قاضيها " حفص بن غياث " فقال لصاحب الكتاب: " أخرج إلينا كُتُبَك؛ فما كان من
__________
(1) في النسخ المطبوعة، ومتن ابن الصلاح بمطبوعة التقييد والإيضاح 220: [السامع والمسموع منه] بإسقاط: المسموع. ولعل النساخ حسبوه مكررًا، وليس كذلك. وفي تقريب النووي: " وبيان السامع والمسمع والمسموع " 2/ 90.
(2) انظر: التقييد والإيضا 220، والتبصرة 2/ 161.
وانظر فصل إعارة الكتب عند الحاجة، من (تذكرة السامع والمتكلم للبدر ابن جماعة): 167.(1/387)
سماع هذا الرجل ِ بخطِّ يدِك ألزمناك، وما كان بِخطِّه أعفيناك منه ". قال " ابنُ خلاد ": " سألت أبا عبدالله الزبيري عن هذا، فقال: لايجيء في هذا البابِ حُكْمٌ أحسن من هذا؛ لأن خطَّ صاحبِ الكتابِ دالٌّ على رضاه باستماع صاحبه معه " قال ابنُ خلاد: وقال غيره: ليس بشيء (1) وروى " الخطيبُ [أبو بكر الحافظ (2)] عن إسماعيلَ بنِ إسحاق القاضي (3)، أنه تُحوكِمَ إليه في ذلك فأطرق مليًّا ثم قال للمدَّعى عليه: " إن كان سماعُه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره، وإن كان سماعُه في كتابك بخطِّ غيرك فأنت أعلم ".
قلت: " حفصُ بن غياث " (4) معدود في الطبقة الأولى من أصحابِ أبي حنيفة، و " أبو عبدالله الزبيري " من أئمة أصحابِ الشافعي، و " إسماعيل بن إسحاق " لسانُ أصحابِ مالكٍ وإمامهم، وقد تعاضدت أقوالُهم في ذلك، ويرجع حاصلُها إلى أن سماعَ غيره إذا ثبت في كتابِه برضاه فيلزمه إعارتُه إياه. وقد كان لا يبين لي وجهُه، ثم وجَّهتُه بأن ذلك بمنزلة شهادةٍ له عنده، فعليه أداؤها بما حَوَتْه. وإن كان فيه بذلُ مالِه، كما يلزم متحملَ الشهادةِ أداؤها وإن كان فيه بذلُ نفسِه، بالسعي إلى مجلس ِ الحكم لأدائها. * والعلم عند الله - تبارك وتعالى -.
__________
(1) المحدث الفاصل: 589 ف 838 (منع السماع).
(2) سقط من متن (غ، ص) وأضيف بهامش (ص) لحقا. وجاء على هامش (غ): [أبو بكر الحافظ، سقط من أصل الشيخ. وأبو بكر الحافظ، هو الخطيب البغدادي].
(3) على هامش (ص): [كان قاضي بغداد. وهو مالكي، صاحب أحكام القرآن] توفي سنة 282 هـ.
(4) في الهندية، ومطبوعة (ع) 221: [جعفر بن غياث] تصحيف.
انظر ترجمة " حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي، أبي عمر الكوفي " قاضي بغداد ثم الكوفة، الحافظ الإمام القدوة، من جلة أصحاب أبي حنيفة - 194 هـ - (تاريخ بغداد 8/ 188 ت 4313، وتذكرة الحفاظ 1/ 297 والفوائد البهية: 68 وتهذيب التهذيب 2/ 415) حديثه عند الستة.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: عندي في توجيهه غيرُ ما قال " ابن الصلاح " وهو أن مثلَ هذا من المصالح العامة التي يُحتاج إليها مع حصول عُلْقة بين المحتاج والمحتاج إليه، يقتضي إلزامَه بإسعافه في مقصده. أصله: إعارةُ الجدار لوضع جذوع الجار. وقد ثبت في (الصحيحين) =(1/388)
ثم إذا نسخ الكتابَ فلا ينقل سماعَه إلى نسختِه إلا بعد المقابلةِ المرضية. وهكذا لا ينبغي لأحدٍ أن ينقل سماعًا إلى شيء من النسخ أو يثبتَه فيها عند السماع ابتداءً، إلا بعد المقابلة المرضيةِ بالمسموع؛ كيلا يغتر أحدٌ بتلك النسخةِ غير المقابَلة؛ إلا أن يُبَيِّن مع النقل ِ وعنده، [59 / ظ] كونَ النسخةِ غيرَ مقابلة. والله أعلم.
__________
(1) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغت المقابلة بأصل قوبل على أصل المسمع - رحمه الله -، ثم مقابلة ثانية. وبلغت سماعًا بقراءتي في المجلس الخامس عشر.
___________________________________
= وغيرهما من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه -، الحديثُ فيه (1). وقال بوجوب ذلك جمع من العلماء، وهو أحدُ قولي الشافعي - رضي الله عنه -. وإذا كان يلزم الجار بالعارية، مع دوام الجذوع في الغالب؛ فلأَنْ يلزم صاحبَ الكتاب مع عدم دوام العرية، أوْلَى. وكأن الشيخ ابنَ الصلاح إنما قاسَه على أداء الشهادة من جهة أنها متفق عليها، لكن الفرق بينهما أن في الشهادة حقا يتعلق بالحكم الذي هو نظام الأمور العامة والخاصة. فلو لم يقل بلزوم الأداءِ لَتعطَّلَ هذا النظامُ، بخلاف العارية فيما نحن فيه. والأقربُ في القياس والتوجيه ما ذكرتُه. ولا يقال: تخرجت على قول مرجوح في المذهب؛ لأنا بَيَّنَّا الأولويةَ التي تقتضي رجحانَ الإِلزام فيما نحن فيه. انتهت " 69 / ظ (2).
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبة في جداره ".
أخرجه (خ) في كتاب المظالم، باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره. وأخرجه (م) في كتاب المساقاة، باب غرز الخشب في جدار الجار.
(2) نقله، عنه السيوطي في (تدريب الراوي 2/ 92).(1/389)
النوع السادس والعشرون:
في صفةِ روايةِ الحديث وشرطِ أدائه وما يتعلق بذلك.
وقد سبق بيانُ كثيرٍ منه في ضمن النوعين قبلَه.
شدَّد قومٌ في الروايةِ فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرَّطوا: ومن مذاهب التشديد مذهبُ من قال: لا حُجةَ إلا فيما رواه الراوي من حفظِه وتذكُّرِه، وذلك مروِيٌّ عن مالك وأبي حنيفة - رضي الله عنهما -. وذهب إليه من أصحاب الشافعي " أبو بكر الصيدلاني المروزي " (1).
ومنها مذهبُ من أجاز الاعتمادَ في الرواية على كتابِه، غير أنه لو أعار كتابَه وأخرجه من يدِه لم ير الروايةَ منه لغيبتِه عنه. وقد سبقت حكايتُنا لمذاهبَ عن أهل ِ التساهل، وإبطالُها، في ضمن ما تقدم من شرح وجوهِ الأخذ والتحمل، ومن أهل التساهل قوم سمعوا كتُبًا مصنفةً وتهاونوا، حتى إذا طعنوا في السنِّ واحتيج إليهم، حملهم الجهلُ والشَره على أن روَوها من نُسَخ مشتراةٍ أو مستعارةٍ غير صحيحةٍ ولا مقابَلة، فعَدَّهم " الحاكم أبو عبدالله الحافظ " في طبقات المجروحين. قَال: وهم يتوهمون أنهم في روايتها صادقون. وقال: وهذا مما كثُر في الناس ِ وتعاطاه قومٌ من أكابرِ العلماء والمعروفين بالصلاح.
قلت: ومن المتساهلين " عبدُالله بن لهيعةَ المصري " تُركَ الاحتجاجُ بروايته، مع جلالتِه؛ لتساهلِه. ذُكِرَ عن " يحيى بنِ حسان " (2) أنه رأى قومًا معهم جزء سمعوه من " ابن لهيعة " فنظر فيه فإذا ليس فيه حديث [60 / و] واحد من حديثِ ابن لهيعة، فجاء
__________
(1) انظر تبصرة العراقي: 2/ 161 وفتح المغيث: 2/ 201 - 203.
(2) [هو التنيسي. روى عنه الشافعي] من هامش (غ) أبو زكريا التنيسي المصري. ت 208 عن أربع وستين سنة. (التهذيب، والخلاصة، والعبر) ووقع في طبعة اللباب: التنيسي، أبو زكريا يحيى بن [أبي حسان].(1/390)
ابن لهيعة فأخبره بذلك. فقال: ما أصنع؟ يجيئوني (1) بكتابٍ فيقولون: هذا من حديثك، فأحدثهم به " (2).
ومِثلُ هذا واقعٌ من شيوخ زماننا *؛ يجيء إلى أحدِهم الطالبُ بجزءٍ أو كتابٍ فيقول: هذا روايتُك. فيمكنه من قراءته عليه مقلدًا له، من غير أن يبحث بحيث تحصل له الثقةُ بصحة ذلك.
والصواب ما عليه الجمهور؛ وهو التوسطُ بين الإِفراط والتفريط؛ فإذا قام الراوي في الأخذ والتحمل بالشرط الذي تقدم شرحُه، وقابَل كتابَه وضَبطَ سماعَه على الوجه الذي سبق ذكرُه، جازت له الروايةُ منه، وإن أعاره وغاب عنه، إذا كان الغالبُ من أمره سلامتَه من التغيير والتبديل. لا سيما إذا كان ممن لا يخفى عليه في الغالبِ، لو غُيِّر شيءٌ منه وبُدِّل، تغييرُه وتبديلُه. وذاك لأن الاعتمادَ في باب الرواية على غالب الظنِّ، فإذا حصل أجْزَأَ، ولم يُشترك مَزيدٌ عليه. والله أعلم.
__________
(1) هكذا رسمه في النسخ، وفي مطبوعتي (الكفاية، والتقييد).
(2) أسنده ابن حبان: في النوع السابع من المجروحين، من طريق نعيم بن حماد، قال: سمعت يحيى بن حسان يقول .. فذكره 1/ 69 وفيه [يجيئون بكتاب].
والخطيب من طريق أبي حازم عمر بن إبراهيم بسنده إلى نعيم بن حماد. (الكفاية باب ترك الاحتجاج بمن عرف بالتساهل في الرواية: 152).
___________________________________
* المحاسن:
" كذا قال ابن الصلاح، وفيه نظر؛ فالواقع من شيوخ زمانِه وزمانِنا، ليس كالواقع من ابنِ لهيعة وأنظاره؛ لأن السندَ في هذا الزمان غيرُ منظورٍ إلى رجاله، وإنما المطلوبُ بقاءُ السلسلة، وقد تقدم ما يرشد لذلك. انتهت " 70 / و.
__________
- وانظر معه (فتح المغيث 2/ 208).(1/391)
تفريعات:
أحدُها: إذا كان الراوي ضريرًا ولم يحفظ حديثَه من فم من حدثه، واستعان بالمأمومين في ضبطِ سماعه وحفظِ كتابِه ثم عند روايتِه في القراءةِ منه عليه، واحتاط في ذلك على حسبِ حاله، بحيث يحصلُ معه الظنُّ بالسلامةِ من التغيير، صحت روايتُه. غير أنه أوْلى بالخلافِ والمنع ِ من مثل ِ ذلك من البصير *. قال " الخطيب الحافظ ": " والسماعُ من البصير الأميِّ والضرير اللذين لم يحفظا من المحدِّثِ ما سمعاه منه، لكنه كُتِبَ لهما بمثابة واحدة. قد منع منه غير واحد من العلماء، ورخَّصَ فيه بعضُهم ". والله أعلم (2).
الثاني: إذا سمع كتابًا ثم أراد روايتَه من نسخة ليس فيها سماعُه، ولا هي مقابَلة بنسخةِ سماعه، غير أنه سُمِع منها على شيخِه، لم يجز له ذلك. [60 / ظ] قطع به " الإمامُ أبو نصر بن الصباغ الفقيه " فيما بلغنا عنه. وكذلك لو كان فيها سماعُ شيخِه أو روى منها ثقةٌ عن شيخِه، فلا يجوز له الروايةُ منها اعتمادًا على مجردِ ذلك؛ إذ لا يؤمَنُ أن يكونَ فيها زوائدُ ليست في نسخة سماعه. ثم وجدتُ " الخطيبَ " قد حكى مِصداقَ ذلك عن أكثر أهل ِ الحديث، فذكر فيما إذا وجَد أصلَ المحدِّثِ ولم يُكْتَب فيه سماعُه، أو وجد
__________
(1) الكفاية: باب القول فيمن كان معوله على الرواية في كتبه لسوء حفظه: 228.
وانظر معه في (الكفاية: باب القول في تلقين الضرير والأمي) 257.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد تُمنع الأولوية من جهة تقصير البصير، فيكون الأعمى أوْلى بالجواز؛ لأنه أتى باستطاعتِه (1). انتهت " 70 / ظ.
__________
(1) نقله السخاوي، وأضاف: وقال شيخنا - ابن حجَر -: إذا كان الاعتماد على ما كتب لهما فهما سواء؛ إذ الواقف على كتابهما يغلب على ظنه السلامة من التغيير أو عكسها. على أن " الرافعي " قد خص الخلاف في الضرير بما سمعه بعد العمى. فأما ما سمعه قبله فله أن يرويه بلا خلاف. يعني بشرطه. وفي نفي الخلاف توقف ". (فتح المغيث 2/ 208).(1/392)
نسخةً كتبت عن الشيخ تسكن نفسُه إلى صحتها، أن عامةَ أصحابِ الحديث منعوا من روايته من ذلك. وجاء عن " أيوب السختِياني، ومحمد بن بكر البُرساني " الترخُّصُ فيه (1).
قلت (2): اللهم إلا أن يكون له إجازةٌ من شيخه عامة لمروياته أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ الروايةُ منها؛ إذ ليس فيه أكثرُ من رواية تلك الزيادات بالإِجازة بلفظِ " أخبرنا " أو " حدثنا " من غير بيانٍ للإِجازة (3) فيها، والأمرُ في ذلك قريبٌ يقع مثلُه في محلِّ التسامح. وقد حكينا فيما تقدم أنه لا غنى في كلِّ سماع عن الإجازة (4)؛ ليقع ما يسقط في السماع على وجهِ السهو وغيره من كلماتٍ أو أكثرَ، مرويًّا بالإجازة، وإن لم يُذكر لفظُها. فإن كان الذي في النسخة سَماعُ شيخ ِ شيخِه، أو هي مسموعةٌ على شيخ ِ شيخِه، أو مرويةٌ عن شيخ ِ شيخِه، فينبغي له حينئذ في روايتِه منها، أن تكون له إجازةٌ شاملة من شيخه، ولشيخِه أجازةٌ شاملة من شيخِه، وهذا تيسيرٌ حسنٌ هدانا اللهُ له - وله الحمد - والحاجةُ إليه ماسَّةٌ في زمانِنا جدًّا. والله أعلم.
الثالث: إذا وجد الحافظُ في كتابِه خلافَ ما يحفظه، نظر؛ فإن كان إنما حفظ ذلك من كتابِه فليرجعْ إلى ما في كتابه، وإن كان حَفظه من فم المحدِّثِ فليعتمدْ حِفظَه دون ما في كتابِه إذا لم يتشكك. وحَسَنٌ أن يذكرَ الأمرين في روايتِه، فيقول: " حفظي كذا، وفي كتابي كذا " هكذا فعل " شُعبةُ " وغيرُه. وهكذا إذا خالفه فيما يحفظه بعضُ الحُفَّاظ، فليقلْ: " حفظي كذا وكذا، وقال فيه فلان، أو: قال فيه غيري كذا وكذا " أو شبه هذا من الكلام. كذلك فعل " سُفيانُ الثوري " وغيرُه. والله أعلم.
الرابع: إذا وجد سماعَه في كتابِه وهو غير ذاكر لسماعِه ذلك؛ فعن " أبي حنيفةَ " - رحمه الله -، وبعض ِ أصحاب " الشافعي " - رحمه الله - أنه لا يجوز له روايتُه. ومذهب " الشافعي " وأكثرِ أصحابِه، وأبي يوسفَ ومحمد، أنه يجوز له روايتُه.
__________
(1) الكفاية: 257 (باب القول فيمن سمع من بعض الشيوخ أحاديث لم يحفظها ثم وجد أصل المحدِّث بها ولم يُكتب فيها سماعه ... ).
(2) على هامش (غ): [قال المؤلف، شيخنا المملي - رضي الله عنه -] خ.
(3) في (ص): [بالإجازة].
(4) في (ص): [من الإجازة].(1/393)
قلت: هذا الخلاف ينبغي أن يُبْنَى على الخلافِ السابق قريبًا، في جوازِ اعتماد الراوي على كتابه وفي ضبطِ ما سمعه؛ فإنَّ ضَبْطَ أصل ِ السماع كضبطِ المسموع، فكما كان الصحيحُ وما عليه أكثرُ أهل ِ الحديث، تجويزَ الاعتماد على الكتاب المصونِ في ضبط المسموع؛ حتى يجوزَ له أن يرويَ ما فيه، وإن كان لا يذكر أحاديثَه حديثًا حديثًا؛ كذلك ليكنْ هذا إذا وُجِدَ شرطُه، وهو أن يكون السماع بخطِّه أو بِخَطِّ من يثق به، والكتابُ مصون بحيث يغلب على الظنِّ سلامةُ ذلك من تطرُّق التزوير والتغيير إليه، على نحو ما سبق ذكره في ذلك. وهذا إذا لم يتشكك فيه وسكنتْ نفسُه إلى صحته، فإن تشكك فيه لم يجز الاعتمادُ عليه. والله أعلم.
الخامس: إذا أراد روايةَ ما سمعه على معناه دون لفظِه، فإن لم يكن عالما عارفًا بالألفاظِ ومقاصدها، خبِيرًا بما يُحيل معانيها، بصيرًا بمقادير التفاوت بينها؛ فلا خلافَ أنه لا يجوزُ له ذلك، وعليه ألا يرويَ ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير [61 / ظ] تغيير. فأما إذا كان عالمًا عارفًا بذلك؛ فهذا مما اختلف فيه السلفُ وأصحابُ الحديث وأربابُ الفقه والأصول؛ فجوَّزه بعضُ المحدِّثين، وطائفةٌ من الفقهاءِ والأصوليين من الشافعيين وغيرهم. (1) ومنعه بعضُهم في حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وأجازه في غيره (2).
__________
(1) على هامش (غ): [حكى " ابن بطال " هذين القولين: الجواز والمنع. وزاد أنه يجب مراعاة اللفظ إذا خاف وقوعَ اللبس بغيره، مثل أن يكون معناه غامضًا أو محتملا للتأويل، فلا يغير. فأما إذا كان المعنى ظاهرا فلا بأس].
(2) على ورقة مصلقة بنسخة (غ): [قال الشيخ: ومما وقع في اصطلاح المتأخرين، أنه إذا روى كتاب مصنفٍ بيننا وبينه وسائط، تصرفوا في أسماء الرواة وقلبوها على أنواع، إلى أن يصلوا إلى المصنف، فإذا =
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: عدمُ العلم أشدُّ من الشكِّ. فإن كان المراد أنه شكٌّ في السماع فلا يحسن، وإن كان المراد أنه شك في تطرقِ التزوير ونحوِه، فغلبةُ ظن السلامةِ يخرجه، فلا حاجة إلى قيدٍ بعده. وشبَّهه بعضُهم بما إذا نسي الراوي سماعَه، فإنه يجوز لمن سمعه الروايةُ، ولا يضره نسيانُ شيخِه. ولا يصح هذا التشبيه؛ لأن الراوي فيما نحن فيه غيرُ متذكر، وفي الصورة المذكورة متذكر ولكن أصلَه ناس ٍ. انتهت " 71 / و.(1/394)
والأصحُّ جوازُ ذلك في الجميع إذا كان عالمًا بما وصفناه، قاطعًا بأنه أدَّى معنى اللفظ الذي بلغه؛ لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوالُ الصحابة والسلف الأولين وكثيرًا ما كانوا ينقلون معنى واحدًا في أمرٍ واحد بألفاظٍ مختلفة، (1) وما ذلك إلا لأن مُعَوَّلَهم كان على المعنى دون اللفظ *.
__________
= وصلوا إليه تبعوا لفظه من غير تغيير. وهذا فيه بحثان: أحدهما: أنه ينبغي أن يحفظ فيه شروط الرواية بالمعنى؛ فقد رأينا من يعبر في هذه الرواية بعبارات لعل المروي عنه لو أراد التعبير عنه لم يستجز ذلك أو لم يستحسنه، فهذا خارج عن الرواية بالمعنى، فليراع ذلك. مثاله أن يقول الشيخ: " أخبرنا فلان ابن فلان " فيقول الراوي عنه: " أنا فلان، قال أنا الإمام العلامة أوحد الزمان " إلى غير ذلك من ألفاظ التعظيم التي لو عرضت على الشيخ قد لا يختارها ولا يرى المرويَّ عنه أهلا لها، فكيف يسوغ أن يحمل عليه ما يجوز أنه لا يراه؟ ثم إن هذه إشارة لذلك الشخص بهذه المرتبة، وقد أخبر هذا الراوي عن شيخه بهذه المرتبة، وأنه شاهد بها؛ ومن ذلك أن أرباب الأصول اشترطوا في الرواية بالمعنى عدم الزيادة والنقصان بالنسبة إلى الترجمة والمترجم عنه، ونرى بعض أهل الحديث قد لا يلتزم ذلك؛ فيذكر الرواية عن شخص ويزيد فيه تاريخ السماع إذا كان يعلمه، وإن لم يذكره الشيخ، وربما زاد فيه: بقراءة فلان أو بتخريج فلان، وإن لم يسمع ذلك أو لم يقرأه، وكل هذا زيادة عما يحمله لفظًا ومعنى؛ فلا يجري على قانون أهل الأصول.
البحث الثاني: الذي اصطلحوا عليه من عدم التغيير للألفاظ، بعد وصولهم إلى المصنف، ينبغي أن ينظر فيه: هل هو على سبيل الوجوب أو هو اصطلاح على سبيل الأول؟ وفي كلام بعضهم ما يشعر بأنه ممتنع لأنه وإن كان له الرواية بالمعنى، فليس له تغيير التصنيف. وهذا كلام فيه ضعف، وأقل ما فيه أنه يقتضي تجويز هذا فيما ينقل من المصنفات المتقدمة إلى أجزائنا وتخاريجنا؛ فإنه ليس فيه تغيير التصنيف المتقدم، وليس هذا جاريًا على الاصطلاح فإن الاصطلاح على ألا تغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة، سواء رويناها فيها أو نقلناها منها / طرة].
(1) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: [قال أبو بكر ابن العربي في (الأحوذي، شرح الترمذي) =
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وسنَدُ ذلك من السنة ما ذكره " أبو نعيم " في كتابه (معرفة الصحابة) في ترجمة سليمان بن أكيمة، يسنده إلى يعقوب بن عبدالله بن سليمان بن أكيمة الليثي، عن أبيه عن جده قال: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا له: بأبينا أنت وأمِّنا يا رسول الله، إنا لنسمع منك الحديثَ فلا نقدر أن نؤديَه كما سمعناه. فقال: " إذا لم تُحِلُّوا حرامًا، ولم تُحرِّموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس. " (1) وذكره " ابنُ منده " في كتابه (معرفة الصحابة)، =
__________
(1) أخرجه الطبري في (المنتخب من ذيل المذيل) بسنده إلى يعقوب بن عبدالله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده (ص 565) ط أولى ذخائر. وأخرجه الخطيب بهذا اللفظ من طريق الطبري بإسناده (الكفاية: 199 باب ذكر الحجة في إجازة رواية الحديث على المعنى).(1/395)
ثم إن هذا الخلافَ لا نراه جاريًا ولا أجراه الناسُ فيما نعلم فيما تضمنته بطونُ الكتب؛ فليس لأحدٍ أن يغير لفظَ شيءٍ من كتاب مصنَّف، ويُثبت بدلَه فيه لفظًا آخرَ بمعناه، بل الروايةُ بالمعنى رَخَّص فيها من رخص لما كان عليه في ضبطِ الألفاظ والجمودِ عليها من الحرَج والنَّصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطونُ الأوراق والكتبِ، ولأنه إن مَلَكَ تغيير اللفظِ فليس يملك تغيير تصنيفِ غيرِه. والله أعلم.
السادس: ينبغي لمن رَوى حديثًا بالمعنى أن يُتبعه بأن يقول: أو كما قال، أو نحو هذا وما أشبه ذلك من الألفاظ. رُوِيَ ذلك من الصحابة عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأنَس ٍ - رضي الله عنهم -. * قال " الخطيب ": " والصحابة أربابُ اللسانِ وأعلم الخلق بمعاني الكلام،
__________
= في نقل الحديث بلفظه أو بمعناه، والصحيح أن للصحابة أن ينقلوه بالمعنى قطعًا وليس ذلك لغيرهم. والدليل عليه أن الصحابة كلهم قالوا: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، ونهى عن كذا، وهذا نقل لقوله على المعنى. والله أعلم].
- وانظر في هذا الباب: كفاية الخطيب: ذكر الرواية عمن أجاز النقصان في الحديث ولم يجز الزيادة 189، وإلماع عياض: 174 وفتح المغيث 2/ 212.
___________________________________
= ولفظُه: " قلت يا رسول الله: إني لأسمع منك الحديث لا أستطيع أن أرويَه كما أسمع منك، يزيد حرفًا أو ينقص حرفًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا لم تحلوا حرامًا، ولا تحرموا حلالا، وأصبتم المعنى فلا بأس " قال: فذُكِر ذلك للحسن بن أبي الحسن فقال: " لولا هذا ما حدثنا ". وهذا يدل على أن مذهبَ الحسن الجوازُ، ومقابِله عن ابنِ سيرين. وقيل: يجوز بلفظٍ مرادف (1). انتهت " 71 / ظ.
__________
(1) وقابل على تخريج ابن حجر لهذا الحديث، والذي بعده، في ترجمة سليم بن أكيمة الليثي (الإصابة: في أول ترجمة 3427) 3/ 124 وانظر (فتح الباري 2/ 217) وترجمة سليمان بن أكيمة في الإرشاد للخليلي. وأحال ابن حجر في " سليمان بن أكيمة " بالإصابة، على " سليم بن أكيمة ".
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ليس في ذلك النقل عن هؤلاء، بأنهم جوزوا نقل الحديث بالمعنى كما فهمه بعضُ من لا يصح فهمه. انتهت " 72 / و.
__________
- وانظر في (الكفاية: ذكر الرواية عمن لم يجز إبدال حرف بحرف) 239 و (بيان ما جاء في تغيير نقط الحروف لما في ذلك من الإحالة والتصحيف) 247.(1/396)
ولم يكونوا يقولون ذلك (1) إلا تخوفًا من الزلَل لمعرفتهم بما في الرواية على المعنى من الخطر " (2).
قلت (3): وإذا اشتبه على القارئ فيما يقرؤه فقرأها على وجه يشكُّ فيه، ثم قال: أو [62 / و] كما قال؛ فهذا حسَنٌ، وهو الصوابُ في مثلِه لأن قولَه: او كما قال؛ يتضمن إجازة من الراوي، وإذنًا في رواية صوابِها عنه إذا بان. ثم لا يشترط إفرادُ ذلك بلَفظِ الإِجازة؛ لما بيَّناه قريبًا. والله أعلم.
السابع: هل يجوز اختصارُ الحديث الواحد وروايةُ بعضِه دون بعض؟ اختلف أهلُ العلم فيه؛ فمنهم من منع ذلك مطلقًا بناءً على القول بالمنع من النقل بالمعنى مطلقًا. ومنهم من منع من ذلك مع تجويزه النقلَ بالمعنى، (4) إذا لم يكن قد رواه على التمام مرةً أخرى، ولم يعلم أن غيره قد رواه على التمام. ومنهم من جوَّز ذلك وأطلق ولم يُفَصِّل. وقد روينا عن " مجاهدٍ " أنه قال: انقُصْ من الحديث ما شئتَ ولا تَزِدْ فيه. *
والصحيحُ التفصيلُ، وأنه يجوز ذلك من العالم العارف، إذا كان ما تركه متميزًا عما نقله، غير متعلق به بحيث لا يختل البيانُ، ولا تختلف الدلالةُ فيما نقله بترك ما تركه، (5) فهذا ينبغي أن يجوز وإن لم يجز النقل بالمعنى؛ لأن الذي تركه - والحالةُ هذه - بمنزلة
__________
(1) سقط من (ص).
(2) الكفاية: (ذكر من كان يذهب إلى إجازة الرواية على المعنى): 205.
(3) من متن (غ، ص، ع). وعلى هامش (غ): [قال المؤلف شيخنا - رضي الله عنه -] خ.
(4) انظر الكفاية: 189.
(5) على هامش (غ): [قال الشيخ: إن كان اختصار الحديث مما يغير المعنى لو لم يختصر؛ فلا يجوز، وإن لم يغير المعنى، مثل أن يذكر لفظين مستقلين في معنيين، فيقتصر على أحدهما؛ فالأقرب الجواز لأن عمدة الرواية في التجويز هو الصدق، وعمدتها في التحريم الكذب. وفي مثل ما ذكرناه، الصدق حاصل فلا وجه للمنع، فإن احتاج ذلك إلى تغيير لا يخل بالمعنى؛ فهو خارج عن جواز الرواية بالمعنى].
___________________________________
* المحاسن:
" فيه نظر؛ لأن الاختصار التصرف في اللغة، ولكن المعنى بخلاف اللفظ ". بخط الشيخ على هامش (72 / و).(1/397)
خبرين منفصلين في أمرين لا تعلُّقَ لأحدِهما بالآخر (1).
ثم هذا إن كان رفيعَ المنزلة بحيث لا يتطرقُ إليه في ذلك تهمةُ نقلِه أولا تامًّا، (2) ثم نقله ناقصًا، أو نقله أولا ناقصًا ثم نقله تامًّا. فأما إذا لم يكن كذلك؛ فقد ذكر " الخطيبُ الحافظ " أن من روى حديثًا على التمام، وخاف إن رواه مرة أخرى على النقصان، أن يُتَّهمَ بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه، أو أنه نسي في الثاني باقي الحديثِ لقِلَّةِ ضبطهِ وكثرةِ غلَطه، فواجبٌ عليه أن يَنفي هذه الظَّنَّةَ عن نفسه. (3) وذكر " الإِمامُ أبو الفتح سُليمُ بنُ أيوبَ الرازي، الفقيهُ " [62 / ظ] أن مَن روى بعضَ الخبر ثم أراد أن ينقلَ تمامَه، وكان ممن يُتَّهم بأنه زاد في حديثه؛ كان ذلك عُذرًا له في تركِ الزيادة وكتمانِها.
قلتُ: مَن كان هذا حاله؛ فليس له من الابتداء أن يرويَ الحديثَ غيرَ تامٍّ، إذا كان قد تعيَّن عليه أداءُ تمامِه؛ لأنه إذا رواه أولا ناقصًا، أخرج باقيَه من حيِّزِ الاحتجاج به،
__________
(1) على هامش (غ): [قال القاضي عياض: اختلف المحدثون والفقهاء والأصوليون في اختصار الحديث، والتحديث به على المعنى، وفي الحديث بفصل منه دون كماله؛ فأجاز هذا كله على الجملة قوم، وهو مذهب " مسلم بن الحجاج "، ومنعه على الجملة آخرون وهو تحري " البخاري". ورخص قوم فيما يقع من الكلمات موقع مثالها، كالجلوس عوض القعود، والقيام عوض الوقوف، وشبهه، دون ما يمكن أن يختلف اختلافًا ما. وجوّز آخرون الحديث على المعنى في غير لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنعه في لفظه - عليه الصلاة والسلام -، وذكر هذا عن " مالك ". وذهب المحققون إلى أن الراوي إذا كان ممن يستقل بفهم الكلام ومعانيه، ويعرف مقاصده، ويفرق بين الظاهر والأظهر، والمحتمل والنص؛ فجائز لهذا الحديثُ على المعنى إذا لم يحتمل عنده سواه، وانفهم له فهمًا جليًّا معناه. وحكى غير واحد معنى هذا عن " مالك وأبي حنيفة والشافعي ". وكذلك جوزوا الحديث ببعض الحديث، إذا لم يكن مرتبطًا بشيء قبله ولا بعده ارتباطًا يخل بمعناه. وكذلك إن جمع الحديث حكمين أو أمرين، كل واحد مستقل بنفسه غير مرتبط بالآخر؛ فله الحديث بأحدهما. وعلى هذا كله كافة الناس ومذاهبُ الأئمة، وعليه صنف المصنفون كتبهم في الحديث على الأبواب، وفصلوا الحديث الواحد على الأجزاء أجزاء بحكمها، واستخرجوا النكت والسنن من الأحاديث الطوال، وهو معنى قول " مسلم " في خطبته، وعمله البخاري كثيرًا في صحيحه. ولهذا روى الحديث الواحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ مختلفة، في القصة الواحدة، والمقالة الفذة، والقضية المشهورة، من عهد الصحابة فمن بعدهم. لكن لحماية الباب من تسلط من لا يحسن، وغلط الجهلة في نفوسهم وظنهم المعرفة مع القصور؛ يجب سد هذا الباب؛ إذ فِعْلُ هذا على من لا يبلغ درجة الكمال في معرفة المعاني، حرام باتفاق / طرة، من الإكمال] روجع على الإكمال: (ل 30). دار الكتب بالقاهرة، مخطوط.
- وانظر (الإلماع: 181) وفيه قال القاضي عياض: وقد تقصيتُ الكلام في هذا في كتاب الإكمال لشرح صحيح مسلم ".
(2) من (غ) وفي (ص، ع): [تماما].
(3) الكفاية: (باب ذكر الرواية عمن أجاز النقصان من الحديث ولم يجز الزيادة): 193.(1/398)
ودار بين أن لا يرويه أصلا، فيُضيِّعَه رأسًا، وبين أن يرويَه متَّهمًا فيه فيضيعَ ثمرتَه؛ لسقوطِ الحجةِ فيه. والعلم عند الله تعالى.
وأما تقطيع المصنِّف متنَ الحديث الواحد وتفريقه (1) في الأبواب؛ فهو إلى الجواز أقربُ ومن المنع أبعَدُ. وقد فعله " مالك، والبخاري " وغيرُ واحدٍ من أئمة الحديث، ولا يخلو من كراهية. * والله أعلم.
__________
(1) بهامش (غ): [وتفريعه، صح، معا].
وانظر في (الكفاية: باب ما جاء في تقطيع المتن الواحد وتفريقه على الأبواب) 193.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: قال " النووي " في مختصره: " ما أظن أن ابن الصلاح يوافق على الكراهية " (1) وأطلق هو وابن الصلاح الخلافَ في الفرع، ثم أردفاه بالتفصيل. وهو يقتضي أن لنا قولا بجوازه مطلقًا، حتى يترك الشرط والاستثناء والغاية. وهذا مما لا يقوله أحد، وإنما يحمل التفصيل على جملة حالاته، ويتقيد القولان قبله بما إذا لم يكن للمحذوف تعلق بالمروي. ومن ثم قال " ابن الحاجب " في مختصره: " حذف بعض الخبر جائز عند الأكثر، إلا في الغاية والاستثناء ونحوِه ".
وما تقدم من صنيع " البخاري " لم يفعله " الإمامُ مسلم " بل يسوق الحديثَ بتمامِه ولا يقطعه. وقد تقدم أن ذلك من جملةِ أسبابِ ترجيحِه عند جماعة. وأما حذفُ زيادةٍ مشكوكٍ فيها فهذا شائع، كان " مالك " يفعله كثيرًا تورعًا، بل كان يقطع إسنادَ الحديث إذا شكَّ في وصلِه. ومحلُّ حذفِ الزيادة المشكوك فيها، زيادةٌ لا تعلُّقَ للمذكورِ بها؛ فإن تعلَّق ذَكَرها مع الشكِّ ليعلم، كقول " داود بن الحصين " في حديث: " الرخصة في العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق " فشكَّ، ولكن لما كان المشكوكُ فيه مما لا يسوغ حذفُه؛ ذكره على الشكِّ (2). انتهى " 73 / ظ.
__________
(1) متن التقريب للنووي (مع تدريب الراوي 2/ 105) وانظر معه تبصرة العراقي (2/ 173).
(2) الموطأ، ك البيوع، باب ما جاء في بيع العَريَّة ح 14 (2/ 620) ومعه (التمهيد لابن عبدالبر: 3/ 323). وانظر كتاب البيوع في الصحيحين: (خ) باب الثمر على الرؤوس النخل. (م) باب تحريم الرطب بالتمر إلا في العرايا - من طريق الإمام مالك فيها - مع (فتح الباري 4/ 265).(1/399)
الثامن: ينبغي للمحدِّث ألا يروي حديثه بقراءةِ لحَّانٍ أو مصحِّف. روينا عن " النضر بن شُميل " - رضي الله عنه -، قال: " جاءت هذه الأحاديثُ عن الأصل معربة ". وأخبرنا " أبو بكر بن أبي المعالي الفراوي " قراءةً عليه قال: أنا الإمام أبو جَدِّي، (1) أبو عبدالله محمدِ بن الفضل الفراوي، قال: أنا أبو الحسين عبدالغافر بن محمد بن الفارسي، قال: أنا الإِمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي قال: حدثني محمد بن معاذ، قال: أنا بعضُ أصحابِنا عن أبي داودَ السِّنْجِي، (2) قال: سمعتُ الأصمعي يقول: إن أخوفَ ما أخاف على طالبِ العلم إذا لم يعرف النحوَ أن يدخل في جملة (3) قول ِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعَده من النار "؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلحن، فمهما رويتَ عنه حديثًا ولَحنتَ فيه؛ كذبتَ عليه (4).
قلت: فحقّ على طالبِ الحديث أن يتعلم من النحوِ واللغةِ ما يتخلصُ به من شَيْنِ اللحنِ والتحريفِ ومعرَّتها. روينا [63 / و] عن " شعبةَ " قال: " من طلب الحديثَ ولم يبصر العربيةَ فمثلُهُ مثلُ رجل ٍ عليه بُرنُسٌ ليس له رأس " - أو كما قال -. وعن " حماد بن سلمة " قال: " مثَلُ الذي يطلب الحديثَ ولا يعرفُ النحو، مَثَلُ الحمار عليه مخلاةٌ لا شعيرَ فيها ".
وأما التصحيف فسبيلُ السلامةِ منه، الأخذُ من أفواهِ أهل ِ العلم أو الضبطِ؛ فإن مَن حُرِمَ ذلك، وكان أخذُه وتعلمُه من بطونِ الكتُبِ؛ كان من شأنه التحريفُ، ولم يُفلِتْ من التبديل والتصحيف. والله أعلم.
التاسع: إذا وقع في روايتِه لحنٌ أو تحريف؛ فقد اختلفوا؛ فمنهم من كان يرى أنه يَرويه على الخطأ كما سمعه، وذهب إلى ذلك من التابعين: " محمد بن سيرين، وأبو معمر
__________
(1) أبو بكر " منصور بن أبي المعالي عبدالمنعم بن أبي البركات عبدالله بن أبي عبدالله محمد بن الفضل الفراوي. حدث عن أبيه، وجده، وجد أبيه (522 - 608 هـ) تقييد ابن نقطة ل 154 / أ.
(2) على هامش (غ): [سنج: قرية من قرى مرو، ينسب إليها أبو علي السنجي الفقيه - الشافعي، الحسين بن شعيب -. والله أعلم] والضبط من اللباب: 2/ 147.
(3) بهامش (غ): [أي عموم قوله]- عليه الصلاة والسلام -.
(4) رواه ابن خلاد الرامهرمزي في (المحدث الفاصل: باب القول في تقويم اللحن بإصلاح الخطأ) من طريق الخطابي بسنده إلى الأصمعي. والقاضي عياض في (الإلماع 184) من طريق ابن خلاد.(1/400)
عبدالله بن سخبرة ". وهذا غُلُوٌّ في مذهب اتباع (1) اللفظِ والمنع من الرواية بالمعنى. ومنهم من رأى تغييرَه وإصلاحَه وروايتَه على الصواب؛ روينا ذلك عن " الأوزاعي، وابنِ المبارك " وغيرهما. وهو مذهبُ المحصِّلين والعلماء من المحدِّثين. والقولُ به في اللحنِ الذي لا يختلفُ به المَعنى وأمثالِه، لازمٌ على مذهبِ تجويزِ روايةِ الحديثِ بالمعنى. (2) وقد سبق أنه قولُ الأكثرين *.
وأما إصلاحُ ذلك وتغييره في كتابِه وأصلِه؛ فالصوابُ تركُه، وتقريرُ ما وقع في الأصل ِ على ما هو عليه، مع التضبيبِ عليه، وبيانِ الصوابِ خارجًا في الحاشية؛ فإن ذلك أجمعُ للمصلحة وأنفى للمفسَدة. وقد روينا أن بعضَ أصحابِ الحديثِ رُئِيَ في المنام وكأنه قد مَرَّ من شفتِه أو لسانِه شيء، فقيل له في ذلك، فقال: لفظةٌ من حديثِ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - غيرتُها برأيي؛ ففُعِلَ بي هذا.
وكثيرا ما نرى ما يتوهمُه كثيرٌ من أهل العلم خطأً - وربما غيَّروه - صوابًا ذا وجهٍ
__________
(1) ضبطه في (ص): [أتباع] مهموزا. وانظر الباب في (المحدث الفاصل) فقرات 662 - 673 و (جامع بيان العلم) 1/ 78، وأبوابه في (الكفاية: 239 فما بعدها).
(2) على هامش (غ): [قال الشعبي: لا بأس أن يعرب الحديث إذا كان فيه لحن، قوال ابن حنبل: يجب؛ لأنهم لم يكونوا يلحنون. وقال النسائي: لا يغير ما وجد في لغة، وما لم يوجد في كلام العرب يغير؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلحن. ذكره كله " ابن بطال ".] وانظر الإلماع: 184.
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: ذكر " ابنُ أبي خيثمة ": سئل " الشعبي وأبو جعفر محمد بن علي بن حسين وعطاء والقاسم " عن الرجل يحدِّث بالحديث فيلحن؛ أأحدث كما سمعتُ أو أعربه؟ فقالوا: لا، بل أعْربْه (1). انتهت " 73 / و.
__________
(1) أسنده ابن عبدالبر عن أحمد بن زهير، ابن أبي خيثمة، بسنده إلى جابر، بن يزيد الجعفي الكوفي، قال: سألت عامرًا - يعني الشعبي -، وأبا جعفر - يعني محمد بن علي -، وعطاء - يعني ابنَ رَباح -، والقاسم - يعني ابن محمد -، عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن .. " فذكره. (الجامع 1/ 78).(1/401)
صحيح، وإن خَفِيَ واستُغرب، لا سيما فيما يعدونه خطأ من جهةِ العربية؛ وذلك لكثرةِ لغاتِ العربِ وتشعُّبِها.
[63 / ظ] وروينا عن " عبدالله بن أحمد بن حنبل " قال: " كان إذا مرَّ بأبي لحنٌ فاحشٌ غَيَّره، وإذا كان لحنًا سهلا تركه، وقال: كذا قال الشيخ " (1).
وأخبرني بعضُ أشياخِنا عمن أخبره عن " القاضي الحافظ عياض " بما معناه واختصارُه، أن الذي عليه استمر عملُ أكثرِ الأشياخ، أن ينقلوا الروايةَ كما وصلت إليهم ولا يغيروها في كُتبِهم، حتى في أحرف من القرآن، استمرت الروايةُ فيها في الكتب على خلافِ التلاوةِ المجمَع عليها، ومن غير أن يجيء ذلك في الشواذ. ومن ذلك ما وقع في (الصحيحين، والموطأ) وغيرها. لكن أهل المعرفة منهم ينبهون على خطئها هذا عند السماع والقراءةِ، وفي حواشي الكتب مع تقريرِهم ما في الأصول على ما بلغهم. ومنهم من جَسُرَ على تغييرِ الكتبِ وإصلاحِها، منهم " أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني الوَقَشِي " (2) فإنه لكثرَةِ مطالعتِه وافتنانِه وثقوبِ فهمِه وحِدَّةِ ذهنِه، جَسُرَ على الإِصلاح كثيرًا، وغلط في أشياءَ من ذلك. وكذلك غيرُه ممن سلك مسلكَه. والأوْلَى سدُّ بابِ التغيير والإصلاح لئلا يجسُرَ على ذلك مَن لا يُحسَنُ، والطريقُ الأول أسلم (3) مع التبيين؛ فيذكر ذلك عند السماع كما وقع، ثم يذكر وجهَ صوابِه: إما من جهةِ العربية، وإما من جهة الرواية. وإن شاء قرأه أولا على الصوابِ ثم قال: وقع عند شيخِنا، أو: في روايتنا، أو: من طريق فلان، كذا وكذا ... وهذا أولى من الأول ِ كيلا يُتَقَوَّلَ على رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ما لم يَقُل. وأصلَحُ ما يعتمدُ عليه من الإِصلاح ِ، أن يكون ما يَصلُحُ به الفاسدُ قد ورد
__________
(1) في الكفاية بإسناد الخطيب إلى عبدالله بن أحمد (باب ذكر الرواية عمن كان لا يرى تغيير لحن الحديث).
(2) طرة على هامش (ص): [هو مغربي أندلسي، وهو صاحب كتاب (النجم من كلام سيد العرب والعجم) يناسب (الشهاب) للقضاعي. وله أيضا كتاب (الكوكب الدري) في الأحاديث النبوية أيضا].
وهو وهم؛ فمؤلف النجم والكوكب الدري، هو أبو العباس أحمد بن معد الإقليشي المتوفى سنة 549 هـ كما في (الذيل والتكملة) وذكرهما له حاجي خليفة في حرفي النون والكاف من الكشف.
وانظر بطاقة أبي الوليد الوقشي هشام بن أحمد في فهرس الأعلام.
(3) من متن (غ) وبهامشه: [وهو أسلم، والأول أسلم: معا] وفي مطبوعة العراقية: وهو أسلم.(1/402)
من أحاديثَ أُخَر، فإن ذاكِرَه آمِنٌ من أن يكون متقوِّلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل. والله أعلم (1) *.
العاشر: إذا كان الإِصلاحُ بزيادةِ شيءٍ قد سقط؛ فإن لم يكن من ذلك مغايرةٌ في المعنى؛ فالأمرُ فيه على ما سبق، وذلك كنحو [64 / و] ما رُوِيَ عن " مالك " - رضي الله عنه - أنه قيل له: " أرأيت حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُزاد فيه الواوُ والألف، والمعنى واحد؟ فقال: أرجو أن يكون خفيفًا ".
وإن كان الإِصلاحُ بالزيادةِ يشتمل على معنى مغايرٍ لما وقع في الأصل؛ تأكد فيه الحكمُ بأنه يذكر ما في الأصل مقرونًا بالتنبيهِ على ما سقطَ؛ ليسلم من معرَّةِ الخطأ، ومن أن يقول على شيخه ما لم يقل. حدَّث " أبو نعيم الفضلُ بن دكين " عن شيخ له بحديث قال فيه: " عن بُحَيْنةَ " فقال أبو نعيم: " إنما هو ابنُ بُحينةَ، ولكنه قال: بحينة " (2).
وإذا كان مَن دُون موضع ِ الكلام الساقِط معلومًا أنه أتى به، وإنما أسقطه مَنْ بعدَه، ففيه وجهٌ آخر، وهو أن يُلحقَ الساقط في موضعِه من الكتاب مع كلمة: يعني (3)، كما فعل
__________
(1) عياض: الإلماع: 185 - 187 وانظر خطبته لمشارق الأنوار.
(2) أسنده الخطيب عن أبي نعيم في (الكفاية: باب إصلاح الكلمة التي لا بد منها) 251.
(3) طرة، على هامش (غ): [قوله: وإذا كان من دون موضع الكلام .. إلى آخره. عبر عنه " النواوي " في (اختصاره) فقال: فإن عَلمَ أن بعض الرواة أسقطه وحده؛ فله أيضًا أن يلحقه مع كلمة: يعني]- متن التقريب (مع تدريب الراوي 2/ 108).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قال الإِمام ابن دقيق العيد: " سمعت أبا محمد بن عبدالسلام، وكان أحد سلاطين العلماء، يذكر في هذه المسألة ما لم أره لأحد، وهو أن هذا اللفظ المحتمل لا يروى على الصوابِ ولا على الخطأ. أما على الصوابِ فلأنه لم يسمع من الشيخ ذلك، وأما على الخطأ فلأن سيدَنا سيد المخلوقين - صلى الله عليه وسلم - لم يقله كذلك. " (1) وقال: هذا معنى ما قاله، أو قريب منه (1). انتهت " 73 / ظ.
__________
(1) ابن دقيق العيد، في (الاقتراح 294 - 295) بلفظه هنا، لا مع اختلاف يسير كما ذكر الأستاذ قحطان الدوري، محقق الاقتراح (ط أولى بغداد)، ثم نقل ما في (المحاسن) بخروم ليست في طبعتنا من أصله هنا وإليها رجع.(1/403)
" الخطيب الحافظ " إذ روى عن أبي عمرَ بن مهدي، عن القاضي المحاملي بإِسناده عن عروة، عن عمرةَ بنت عبدالرحمن - تعني عن عائشة - أنها قالت: " كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُدنِي إليَّ رأسَه فأُرَجِّله " قال " الخطيب ": كان في أصل ابن مهدي: عن عمرة أنها قالت: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدني إليَّ رأسَه " فألحقنا فيه ذكرَ " عائشةَ " إذ لم يكن منه بُدٌّ، وعلمنا أن " المحاملي " كذلك رواه، وإنما سقط من كتابِ شيخِنا أبي عمر، وقلنا فيه: " تعني عن عائشة "؛ لأجل أن ابن مهدي لم يقل لنا ذلك. وهكذا رأيتُ غيرَ واحدٍ من شيوخِنا يفعل في مثل هذا " ثم ذكر بإِسناده عن " أحمدَ بنِ حنبل " - رضي الله عنه - قال: " سمعت وكيعًا يقول: أنا أستعين في الحديثِ بِ: يعني " (1).
قلتُ: وهذا إذا كان شيخُه قد رواه له على الخطأ. فأما إذا وجد ذلك في كتابِه وغلب على ظنِّه أن ذلك من الكتابِ لا من شيخه؛ فيتجه ههنا إصلاحٌ ذلك في كتابِه وفي روايته عند تحديثِه به [64 / ظ] معًا. ذكر " أبو داودَ " أنه قال لأحمدَ بن حنبل: " وجدتُ في كتابي: حجاج عن جريج عن أبي الزبير؛ يجوزُ لي أن أصلحَه: ابن جريج؟ فقال: أرجو أن يكونَ هذا لا بأسَ به " (2). والله أعلم.
وهذا من قبيل ِ ما إذا دَرَس من كتابه بعضُ الإِسنادِ أو المتن؛ فإنه يجوز له استدراكُه من كتاب غيره، إذا عرف صحتَه وسكنتْ نفسُه إلى أن ذلك هو الساقط من كتابِه؛ وإن كان في المحدِّثين من لا يستجيز ذلك. وممن فعل ذلك " نعيم بن حماد " فيما رُوِي عن يحيى بن معين عنه. قال " الخطيبُ الحافظ ": " ولو بيَّن ذلك في حال الرواية كان أوْلَى " (3).
__________
(1) الكفاية: باب إلحاق الاسم المتيقن سقوطه من المتن: 253.
وانظر الحديث في (الموطأ، ك الاعتكاف ح 1) ومعه (التمهيد 8/ 316، ومشارق الأنوار 2/ 91) وسنن أبي داود: ك الصوم، باب المعتكف يدخل بيته لحاجته ح 2467 (2/ 332).
وأخرجه البخاري في (ك الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة) من حديث الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة، عن عائشة (معه فتح الباري 4/ 194) وأخرجه مسلم في (ك الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله) من عدة طرق: مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة، وعن الليث عن ابن شهاب عن عمرة عن عائشة، وعن عروة عن عائشة - رضي الله عنها -.
(2) أبو داود: مسائل أحمد 283. وأسنده الخطيب عنه في الكفاية 251. وفيها: " عن جريج بن أبي الزبير عن جابر " - رضي الله عنه -.
(3) في الكفاية: باب ما جاء فيمن دَرَس - أي بلى - من كتابه بعض الإِسناد أو المتن. (253 - 254).(1/404)
وهكذا الحكم في استثباتِ الحافظِ ما شكَّ فيه من كتابِ غيرِه أو من حفظِه، وذلك مروِيٌّ عن غير واحدٍ من أهل الحديث، منهم: " عاصم، وأبو عوانَةَ، وأحمدُ بنُ حنبل ". وكان بعضُهم يبين ما ثبَّتَه فيه غيرُه. فيقول: " حدثنا فلان، وثبتني فلان " كما روي عن " يزيد بن هارون " أنه قال: " أنا عاصم، وثبَّتني شعبةُ، عن عبدالله بن سَرْجِسَ ... " (1).
وهكذا الأمرُ فيما إذا وجد في أصل ِ كتابه كلمةً من غريبِ العربية أو غيرها غيرَ مقيدةٍ وأشكلتْ عليه؛ فجائزٌ أن يسأل عنها أهلَ العلم بها، ويرويها على ما يخبرونه به. رُويَ مثلُ ذلك عن " إسحاق بن راهَويه، وأحمدَ بنِ حنبل " وغيرِهما، (2) - رضي الله عنهم -. والله أعلم.
الحادي عشر: إذا كان الحديث عند الراوي عن اثنين أو أكثرَ، وبين روايتهما تفاوتٌ في اللفظ، والمعنى واحدٌ، كان له أن يجمعَ بينهما في الإِسناد ثم يسوق الحديثَ على لفظِ أحدِهما خاصةً، ويقول: أخبرنا فلان وفلان، واللفظُ لفلانٍ، أو: وهذا لفظُ فلان، قال أو قالا: أخبرنا فلان، أو ما أشبه ذلك من العبارات.
ولِ " مسلم: صاحب الصحيح " مع هذا في ذلك عبارةٌ أخرى حسنةٌ، مثلُ قولِه: " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة [65 / و] وأبو سعيد الأشج، كلاهما عن أبي خالد، قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش " وساق الحديثَ. فإعادتُه ثانيًا ذِكرَ أحدِهما خاصةً، إشعارٌ بأن اللفظَ المذكورَ له.
وأما إذا لم يخص أحدَهما بالذكر، بل أخذ من لفظِ هذا ومن لفظِ ذاك، وقال: " أخبرنا فلان وفلان، وتقاربا في اللفظِ، قالا: أخبرنا فلان "؛ فهذا غيرُ ممتنع على مذهبِ تجويز الروايةِ بالمعنى.
وقولُ " أبي داودَ: صاحبِ السنَن ": " حدثنا مُسَدَّد وأبو توبة، (3) المعنى، قالا: حدثنا
__________
(1) الكفاية: (باب ذكر بعض الروايات عمن قال: ثنا فلان وثبتني فلان) 218.
(2) الكفاية: باب القول في المحدِّث يجد في أصل كتابه كلمة من غريب اللغة غير مقيدة؛ هل يجوز أن يسأل عنها أهل العلم بها؟ (255 - 256).
(3) مسدد بن مُسَرْهَد بن مُسَرْبَل البصري، أبو الحسن: أول من صنف (المسند) بالبصرة، كان حافظًا حجة من الأئمة الأثبات، توفي سنة 228 هـ (طبقات الحنابلة 1/ 341، وتذكرة الحفاظ 2/ 8). وأبو توبة، الطرطوسي، الربيع بن نافع الحلبي، روى عنه أبو داود. أخرج له الجماعة سوى الترمذي: 241 هـ.(1/405)
أبو الأحوص " مع أشباهٍ لهذا في كتابِه، يحتمل أن يكونَ من قبيل ِ الأول، فيكون اللفظُ لمسدد ويوافقه أبو توبة في المعنى، ويحتمل أن يكون من قبيل الثاني، فلا يكون قد أورد لفظَ أحدِهما خاصة، بل رواه بالمعنى عن كليهما *، وهذا الاحتمالُ يقربُ في قوله: " حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل، المعنى واحد، قالا: حدثنا أبان ".
وأما إذا جمع بين جماعةِ رواةٍ قد اتفقوا في المعنى، وليس ما أورده لفظَ كلِّ واحدٍ منهم، وسكت عن البيان لذلك؛ فهذا مما عيب به " البخاريُّ " أو غيرُه، ولا بأسَ به على مقتضى مذهبِ تجويزِ الرواية بالمعنى، وإذا سمع كتابًا مصنفًا من جماعةٍ، ثم قابل نسختَه بأصل ِ بعضِهم دون بعض، وأراد أن يذكر جميعَهم في الإِسناد ويقول: واللفظ لفلانٍ؛ كما سبق، فهذا يحتمل أن يجوزَ كالأول ِ؛ لأن ما أوردَه قد سمعه بنصِّه (1) ممن ذكره أنه بلفظِه، ويحتمل ألا يجوزَ لأنه لا علم عنده بكيفيةِ روايةِ الآخرين حتى يخبرَ عنها، بخلاف ما سبق فإنه اطلع على روايةِ غيرِ مَنْ نَسَبَ اللفظَ إليه، وعلى موافقتهما (2) من حيث المعنى، فأخبر بذلك **. والله أعلَم.
__________
(1) من (ص) وهامش (غ) والعراقية. وفي متن (غ): [بنفسه] خ.
(2) في (ص): [موافقتها].
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا الاحتمال الثاني عجيب؛ إذ يلزم عليه ألا يكون رواه بلفظٍ لواحدٍ من شيخيه، وهو بعيد. وكذلك إذا قال: " أنا فلان وفلان، وتقاربا في اللفظ " فليس هو منحصرا في أن روايته عن كل منهما بالمعنى وأن المأتيَّ به لفظ ثالث غير لفظيهما. والأحوال كلها آيلة في الغالب إلى أنه لا بد أن يسوق الحديث على لفظٍ مروي له بروايةٍ واحدة، والباقي بمعناه. انتهت " 75 / و.
** " فائدة وزيادة: إذا كان الحديث قد روى بعضَه عن جماعةٍ، ورواه كلَّه عن غيرهم؛ فكيف يصنع؟ لم أر من تعرض له ممن صنف في علوم الحديث. وهو موجود في رواية " الزهري " في حديثِ الإِفْكِ، وفيه قال " الزهري ": " أخبرني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمةُ بن وقاص، وعبيدالله بن عبداللهِ بن عتبة بن مسعود =(1/406)
الثاني عشر: ليس له أن يزيدَ في نسبِ مَنْ فوق شيخِه من [65 / و] رجال الإِسناد على ما ذكره شيخُه، مُدرَجًا (1) عليه من غير فصْل مُميِّز. فإن أتى بفصل ٍ جاز، مثل أن يقول: هو ابن فلان الفلاني، أو: يعني ابن فلان، ونحو ذلك. وذكر " الحافظ الإِمام أبو بكر البرقاني " - رحمه الله - في (كتابِ اللُّقَطِ) له، بإِسناده عن " علي ابن المديني " قال:
__________
(1) على هامش (غ) طرة: [جرت عادة المتقدمين إذا كتبوا كتابًا عن شيخ نسبوه في أول صفحة، ثم أدرجوا عليه اسمه بأن يقولوا في بقية الأحاديث: أنا فلان، لا ينسبونه. فهل يجوز لمن روى هذا عن الراوي أن ينسبه في بقية الأحاديث؟ إن منعنا الرواية بالمعنى لم يجز، وإن أجزنا فقد يمكن جوازه. وحكى " الخطيب " عن أكثر أهل العلم أنهم أجازوه، والأولى عندنا أن يقال فيه: هو فلان بن فلان، أو: يعني ابن فلان].
بنصه في الكفاية 215.
___________________________________
= عن حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لها أهلُ الإِفك ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا. وكلٌّ حدثني طائفةٌ من الحديث، وبعضُ حديثهم يُصدِّقُ بعضًا، وإن كان بعضُهم أوعى له من بعض. الذي حدثني به عروة عن عائشة .. " وساق الحديث. وهذا في كلام أصحابِ السِّير يوجَد كثيرًا ولا يعلم به الإِنسانُ القدرَ الذي رواه عن كلِّ واحدٍ من الذين حدثوه طائفةً منه. وقد تعرض " ابن الصلاح " لشيء من ذلك في الحادي والعشرين مما نحن فيه، لكنه لم يكمل التمثيل، وسيأتي (1). وأغرب من ذلك ما صنعه " البخاري " في صحيحه في كتاب الرقاق، في باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا: " حدثني أبو نعيم بنحو من نصفِ هذا الحديثِ، ثنا عمر بن ذر، ثنا مجاهد أن أبا هريرة كان يقول .. " فساق حديث أصحاب الصفة وشرب اللبن (2).
ووجهُ الغرابة فيه أنه قال: " حدثني أبو نعيم بنحوٍ من نصفِ هذا الحديث " ولم يبين مَنْ رَوى عنه النصفَ الآخرَ، وهذا مما لم أره في رواية أحد. والظاهرُ أن المرادَ بما ساقه بالسندِ أوائلَ الكلام دون أواخرِه، وبذلك يرتد قولُ من يقول: لا ندري حدثه بالنصفِ الأول ِ أم بالآخر؟ انتهى " 75 / ظ.
__________
(1) يأتي حديث الإفك، بإِسناد الزهري في التفريع الحادي والعشرين، مما يلي.
(2) مثَّل به العراقي في (التقييد والإِيضاح: 242).
وانظر حديث البخاري في الرقاق بهذا الإِسناد، ومعه (فتح الباري 11/ 222).(1/407)
إذا حدثك الرجل فقال: حدثنا فلان، ولم ينسبه، فأحببتَ أن تنسبه فقلْ: حدثنا فلان أن فلان بن فلان حدَّثه. والله أعلم.
وأما إذا كان شيخُه قد ذكر نَسبَ شيخِه أو صفتَه في أول كتابٍ أو جزءٍ عند أول حديثٍ منه، واقتصر فيما بعده من الأحاديث على ذكر اسم الشيخ أو بعض ِ نسبِه - مثالُه أن أروي جزءًا عن " الفراوي " وأقولَ في أوله: " أخبرنا أبو بكر منصور بن عبدالمنعم بن عبدالله الفَراوي، قال: أخبرنا فلان " وأقول فيه باقي أحاديثه: " أخبرنا منصور، ... أخبرنا منصور " فهل يجوز لمن سمع ذلك الجزءَ مني أن يرويَ عني الأحاديثَ التي بعد الحديثِ الأول ِ متفرقةً، ويقولَ في كلِّ واحد منها: " أخبرنا فلان، قال أخبرنا أبو بكر منصور بن عبدالمنعم بن عبدالله الفراوي قال: أخبرنا فلان " - اعتمادًا على ذكري له أولا؟ فهذا قد حكى " الخطيبُ الحافظ " عن أكثر أهل ِ العلم أنهم أجازوه. وعن بعضِهم أن الأوْلى أن يقول: يعني ابن فلان. وروى بإسناده عن " أحمدَ بن حنبل " - رضي الله عنه - أنه كان إذا جاء اسمُ الرجل غيرَ منسوب قال: يعني ابنَ فلان (1).
ورَوَى عن " البرقاني " بإسناده عن " علي ابن المديني " ما قدمنا ذكره عنه. ثم ذكر أنه هكذا رأى " أبا بكر أحمدَ بن علي الأصبهاني، نزيل نيسابور " يفعل، وكان أحدَ الحفاظِ المجوِّدين ومن أهل الورع ِ والدينِ، وأنه سأله [66 /و] عن أحاديثَ كثيرةٍ رواها له قال فيها: " أخبرنا أبو عمرو بن حمدان أن أبا يَعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي أخبرهم، وأخبرنا أبو بكر بن المقرئ أن إسحاق بن أحمد بن نافع حدَّثهم، وأنا أبو أحمد الحافظ أن أبا يوسف محمدَ بن سفيان الصفَّار أخبرهم ". فذكر له أنها أحاديثُ سمعها قراءةً على شيوخه في جملة نسخ نسبوا الذين حدثوهم بها في أولها، واقتصروا في بقيتها على ذِكْرِ أسمائهم (2).
__________
(1 - 2) الكفاية: (باب في المحدث يروي حديثا عن شيخ ينسبه فيه ثم يروي بعده عن ذلك الشيخ). وعبارة الخطيب: " وهذا الذي أستحسنه " وختمها بقوله: " فاستعمال ما ذكرتُ أنفى للظنَّة، وإن كان المعنى في العبارتين واحدًا ".(1/408)
قال: وكان غيره يقول في مثل ِ هذا: أخبرنا فلان، قال أخبرنا فلان، هو ابن فلان. ثم يسوق نسبَه إلى منتهاه. قال: وهذا الذي أستحِبُّه لأن قومًا من الرواة كانوا يقولون فيما أجيز لهم: أخبرنا فلان أن فلانا حدثهم (1).
قلتُ: جميعُ هذه الوجوه جائزٌ. وأوْلاها أن يقول: هو ابن فلان، أو: يعني ابن فلان. ثم أن يقول: إن فلان بن فلان. ثم أن يذكر المذكورَ في أول الجزء بعينِه من غير فصل ٍ. والله أعلم.
الثالث عشر: جرت العادةُ بحذفِ " قال " ونحوِه فيما بين رجال الإِسنادِ خَطًّا، ولا بد من ذكره حالةَ القراءة لفظًا. ومما قد يُغفَلُ عنه من ذلك، ما إذا كان في أثناء الإِسنادِ: " قرئ على فلان، أخبرك فلان " فينبغي للقارئ أن يقول فيه: " قيل له، أخبرك فلان ". ووقع في بعض ِ ذلك: " قرئ على فلانٍ، حدثنا فلان " فهذا يُذكر فيه: قال، فيقال: " قرئ على فلان، قال حدثنا فلان " وقد جاء هذا مصرَّحًا به خطًّا هكذا في بعض ِ ما رويناه. وإذا تكررت كلمةُ " قال " كما في قوله في (كتاب البخاري): " حدثنا صالح بن حيان، قال: قال عامر الشعبي " حذفوا إحداهما في الخَطِّ، وعلى القارئ أن يلفظَ بهما جميعًا. والله أعلم.
الرابع عشر: النسخُ المشهورةُ المشتملة على أحاديثَ بإِسنادٍ واحدٍ - كنسخةِ " همام بن مُنَبِّه (2) " عن [66 / ظ] أبي هريرةَ، رواية عبدالرزاق عن معمر، عنه. ونحوِها من النسخ والأجزاء: منهم من يُجَدِّدُ ذِكر الإِسناد في أول ِ كلِّ حديث منها. ويوجَد هذا في كثير من الأصول ِ القديمة، وذلك أحْوَطُ. ومنهم من يكتفي بذكرِ الإِسناد في أولها عند أول ِ حديث منها، أول في أول كلِّ مجلس ٍ من مجالس سماعها، ويدرج الباقي عليه ويقول في كلِّ حديثٍ بعده: " وبالإِسناد " أو: " وبه " وذلك هو الأغلَبُ الأكثر (1).
وإذا أراد من كان سماعُه على هذا الوجه تفريقَ تلك الأحاديثِ وروايةَ كلِّ حديثٍ منها بالإِسناد المذكور في أولها، جاز له ذلك عند الأكثرين، منهم " وكيع بن الجراح،
__________
(1) الكفاية، مع ما قبله.
(2) من (ص، ع) - وفي نسخة (غ) تلف من أَرَضَة أو بلى، يحول دون قراءة الاسم. على أنه جاء فيها مرتين مقروءًا دون لبس، في آخر هذا التفريع الرابع عشر. وانظره في كتاب (الكفاية، للخطيب البغدادي: 214) باب ما جاء في تفريق النسخة المدرجة وتجديد الإِسناد المذكور في أولها لمتونها.
(3) الكفاية: 214 - 215.(1/409)
ويحيى بن معين، وأبو بكر الإِسماعيلي " وهذا لأن الجميع معطوف على الأول، فالإِسنادُ المذكورُ أولا، في حُكم المذكورِ في كلِّ حديث، وهو بمثابةِ تقطيع المتن الواحد في أبوابٍ، بإِسنادِه المذكورِ في أولِه (1). والله أعلم.
ومن المحدِّثين من أبَى إفرادَ شيء من تلك الأحاديث المدرَجةِ بالإِسناد المذكور أولا، ورآه تدليسًا. وسأل بعضُ أهل ِ الحديث " الأستاذَ أبا إسحاق (2) الأسفرائيني، الفقيه الأصولي " عن ذلك، فقال: لا يجوز (3).
وعلى هذا؛ من كان سماعُه على الوجه، فطريقه أن يُبَيِّنَ ويحكي ذلك كما جرى، كما فعله " مسلم " في صحيحه في (صحيفة همام بن منبه) نحو قوله: " أخبرنا محمد بن رافع، قال أخبرنا عبدالرزاق، قال أنبأنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة " وذكر أحاديثَ منها: " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أدنى مَقعدِ أحدِكم في الجنة أن يقول له: تَمَنَّ " (3) الحديث. وهكذا فعل كثيرٌ من المؤلفين *. والله أعلم.
__________
(1) الكفاية، مع ما قبله.
(2) على هامش (غ): [أبو إسحاق بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإمام في الفقه والأصول، وهو أحد الثلاثة الناصرين مذهب السنة: الأشعري والباقلاني، والأسفرائيني هذا، أبو إسحاق].
(3) على هامش (غ): [قال الشيخ: وهذا عندنا على طريق الأولى، ولو أفرد بعضها لم يمتنع، إذا كانت العبارة كعبارة مسلم. والله أعلم]. تأتي عبارة " مسلم " في الفقرة الثانية.
(4) كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية (ح 182/ 300) ولفظ الإِسناد: وحدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد صنَع " البخاري " ما يقتضي الاحتياطَ في ذلك، فأشكل على الناس ِ ما صنعه، فقال في ترجمة " لا تبولوا في الماء الدائم ": حدثنا أبو اليمان أنا شعيب، أخبرنا أبو الزناد أن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج حدثه، أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " نحن الآخرون السابقون " وبإِسناده قال: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه " (1) فكأن البخاري سمعه من أبي اليمان في الأول =
__________
(1) صحيح البخاري: ك الوضوء، باب الماء الدائم.(1/410)
الخامس عشر: إذا قَدَّم ذِكر المتن على الإِسناد أو ذكرَ المتنِ وبعض ِ الإِسناد، ثم ذكَرَ الإِسنادَ عقيبَه على الاتصال، مثل أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو يقول: روى [67 / و] عمرو بن دينار عن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ثم يقول: أخبرنا به فلان قال أنا فلان، ويسوق الإسناد حتى يتصلَ بما قدَّمه، فهذا يلتحق بما إذا قَدَّمَ (1) الإِسنادَ في كونِه يصير به مسنِدًا للحديث لا مرسلا له. فلو أراد من سمعه منه هكذا أن يُقدم الإِسنادَ ويؤخرَ المتنَ ويُلَفِّقَه كذلك؛ فقد ورد عن بعض ِ من تقدم من المحدِّثين أنه جوَّز ذلك (2).
قلتُ: ينبغي أن يكونَ فيه خلافٌ نحو الخلافِ في تقديم بعض ِ مَتْنِ الحديث على بعض. وقد حكى " الخطيبُ " المنعَ من ذلك، على القول ِ بأن الرواية على المعنى لا تجوز؛
__________
(1) كذا ضبطه في (غ) بالقلم، مبنيًّا للمعلوم. وضبطه في (ص) مبنيًّا للمجهول، بالقلم أيضًا.
(2) الكفاية: (باب ما جاء في إرسال الراوي للحديث وإذا سئل بعد ذلك عن إسناده ذكره) 212.
___________________________________
= بالإسناد مردفًا عليه - قائلا: وبإسناده - حديثَ البَوْل ِ، فأورده كما سمعه. ولو ذكر حديثَ البول ِ بالسندِ لأوهم أنه سمعه بالسند، ولم يقع ذلك. ويدل لهذا أنه ذكر حديث: " نحن الآخرون السابقون " في (باب الجمعة) (1) بالسندِ، من غير أن يذكر حديثَ البول ِ في الماء الدائم؛ إذ لا حاجةَ له به هناك. وهذا الاحتياطُ يحتمل أن يكون للورَع والخروج ِ من الخلاف المذكور، ويحتملُ أن يكونَ مذهبُ البخاري أنه لا يجوز، كمختار " الأستاذ أبي إسحاق ". ومثلُ ذلك ما وقع في البخاري في (علامات النبوة): أخرج حديثَ " شَبيب بن غَرقدةَ " عن الحَيِّ عن " عروة " في قصةِ الشاة والدينار (2). انتهى ".
__________
(1) باب فرض الجمعة.
(2) يشير إلى ما في إسناد " البخاري " لهذا الحديث عن " شبيب بن غرقدة " قال: سمعت الحيَّ يحدثون عن عروة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارًا يشتري له به شاة ... " الحديث (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام) وانظر (فتح الباري 6/ 410 - 411) وسنن الدارقطني (ك البيوع ح 28 - 30) 3/ 10 ومعجم شيوخ التاج السبكي (ل 1/ 214 - 215) مخطوط دار الكتب.(1/411)
والجوازَ، على القول ِ بأن الرواية على المعنى لا تجوز. ولا فرقَ بينهما في ذلك * (1). والله أعلم.
وأما ما يفعلُه بعضُهم من إعادةِ ذكر الإِسناد في آخرِ الكتاب أو الجزء بعد ذكرِه أولا، فهذا لا يرفع الخلافَ الذي تقدم ذكره في إفرادِ كلِّ حديث بذلك الإسناد عند روايتها؛ لكونه لا يقعُ متصلا بكلِّ واحدٍ منها. ولكنه يفيد تأكيدًا واحتياطًا ويتضمن إجازةً بالغةً من أعلى أنواع ِ الإجازات. والله أعلم.
السادس عشر: إذا روَى المحدِّثُ الحديث (2) بإسناد ثم أتبَعه بإسنادٍ آخر وقال عند انتهائه: " مثله " فأراد الراوي عنه أن يقتصرَ على الإِسنادِ الثاني ويسوق لفظَ الحديث المذكور عقيبَ الإِسناد الأول، فالأظهَرُ المنعُ من ذلك **.
__________
(1) قابل على كفاية الخطيب (ذكر الرواية عمن لم يجز تقديم كلمة على كلمة) 175.
(2) من (غ، ع) وفي (ص): [إذا روى المحدث بإسناد] بإسقاط الحديث.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما ذكره " ابن الصلاح " من التخريج ممنوعٌ. والفرقُ أن تقديم بعض ِ الألفاظِ على بعض ٍ قد يؤدِّي إلى الإخلال ِ بالمقصودِ، في العَطْفِ وعَوْدِ الضمير ونحوِ ذلك، بخلافِ السنَدِ؛ فإن تأخُّرَ بعضِه أو كلِّه على المتن، في حُكم المقدم فلذلك جاز تقديمُه ولم يتخرج على الخلاف. وقد ذكر ابن الصلاح أنه يجري فيه ما تقدم من الخلاف، ولم يتقدم له. انتهت " 77 / ظ.
** المحاسن:
" فائدة: وما قدمه " ابن الصلاح " من الأظهر، فيه نظر، ولا سيما إذا قال كما يقول " مسلم ": مثله، سواء. فإن الأرجحَ خلافُ ما قال إنه الأظهر. ويدل لما رجحناه من الجواز أن " البيهقي " صنع ذلك حتى في الموضع المحتمِل. وذلك أن " الدارقطني " في (سننه) خرَّج من طريق أبي هريرة حديثَ: " تقول المرأة: أنفِقْ عليَّ وإلا طلِّقني " (1) ثم خرَّج من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته =
__________
(1) سنن الدارقطني: كتاب النكاح، باب المهر (ح 191 - 194) 3/ 297.(1/412)
وروينا عن " أبي بكر الخطيب الحافظ " - رحمه الله - قال: كان " شُعبةُ " لا يجيز ذلك. وقال بعضُ أهل ِ العلم: يجوز ذلك إذا عرف أن المحدِّثَ ضابطٌ متحفظ يذهب إلى تمييز الألفاظِ وعدِّ الحروف. فإن لم يعرف ذلك منه؛ لم يجز ذلك. وكان غيرُ واحدٍ من أهل العلم إذا روَى مثلَ هذا، يورد الإسنادَ ويقول: [67 / ظ] مثل حديثٍ قبله، متنُه كذا وكذا، ثم يسوقه. وكذلك إذا كان المحدث قد قال: نحوه، قال: " وهذا هو الذي أختارُه " (1).
أخبرنا " أبو أحمد عبدالوهاب بن أبي منصور علي بن علي البغدادي " شيخ الشيوخ بها، بقراءتي عليه بها، قال: أخبرني والدي - رحمه الله -، قال أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد الصريفيني، قال أخبرنا أبو القاسم بن حُبابَة (3)، قال حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد البغوي، قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد، قال حدثنا وكيع قال: قال " شعبة ": " فلانٌ عن فلان، مثلُه: لا يجزئ. " قال " وكيع ": " وقال سفيان الثوري: يُجزئ ".
__________
(1) أبو بكر الخطيب: الكفاية (باب ماء جاء في المحدث يروي حديثًا ثم يتبعه بإسناد آخر) 212.
(2) على هامش (ص): [هو ابن سكينة، مشهور ببغداد] = من شيوخ ابن الصلاح وصيغة التحمل في هذا الإسناد في (غ): [أنا] وما هنا من (ص، ع).
(3) بهامش (ص): [هذا صاحب البغوي] = أبو القاسم بن حبابة، عبيدالله بن محمد بن إسحاق البغدادي، (389 هـ) راوي الجعديات عن أبي القاسم البغوي عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز (ت 317 هـ).
___________________________________
= قال: " يفرق بينهما (1) " ثم أخرج من حديث أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله (2). فهذا احتمالِه أن يكون مثلَ الموقوفِ وأن يكون مثلَ المرفوع قبلَه، خرَّجه " البيهقي " (3) بطريق الدارقطني وفيه لفظُ المرفوع، فروى بإسنادِه إلى أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أعسر الرجلُ بنفقةِ امرأته يفرق بينهما " ولم يقع ذلك في (كتابِ الدارقطني) ولا في كتابِ من أخذ عنه " الدارقطني " إلا بلفظة: " مثله " (4) المحتملة. وحينئذ فإذا زال الاحتمالُ جاز أن يأتيَ بذلك اللفظِ بالسند الذي فيه لفظة: مثله. انتهت " 78 / و.
__________
(1 - 2) سنن الدارقطني: كتاب النكاح، باب المهر (ح 191 - 194) 3/ 297.
(2) السنن الكبرى: كتاب النفقات، باب الرجل لا يجد نفقة المرأة (7/ 470).
(4) سنن الدارقطني: نكاح، المهر (ح 194).
- وانظر (فتح المغيث 2/ 259 - 262).(1/413)
وأما إذا قال: نحوه؛ فهو في ذلك عند بعضهم كما إذا قال: مثله. نُبِّئنا بإسنادٍ عن " وكيع " قال: " قال سفيان: إذا قال: نحوه؛ فهو حديث ". وقال " شعبة ": " نحوه، شَكٌّ. وعن " يحيى بن معين " أنه أجاز ما قدمناه ذكره في قوله: مثله، ولم يجزه في قوله: نحوه. قال " الخطيبُ ": وهذا القولُ على مذهبِ من لم يُجز الروايةَ على المعنى. فأما من على مذهب من أجازها؛ فلا فرقَ بين: مثله، و: نحوه (1).
قلت (2): هذا له تعلُّقٌ بما رويناه عن " مسعود بن علي السِّجزي " (3) أنه سمع الحاكم أبا عبدالله الحافظَ يقول: أن مما يلزم الحديثي من الضبطِ والإِتقان أن يفرق بين أن يقول: مثله، أو يقول: نحوه؛ فلا يحل له أن يقول: مثله، إلا بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل أن يقول: نحوه، إذا كان على مثل ِ معانيه. والله أعلم.
السابع عشر: إذا ذكر الشيخُ إسناد الحديثِ ولم يذكر من متنِه إلا طرفًا ثم قال: وذكرَ الحديثَ. أو قال: وذكر الحديث بطولِه. فأراد الراوي عنه أن يرويَ الحديثَ بكمالِه وبطوله، فهذا أولى بالمنع مما سبق ذكره في قولِه: مثلُه، أو: نحوه. فطريقُه أن يبيِّن ذلك بأن يقتصَّ ما ذكره الشيخُ على وجهِه ويقول: " قال - وذكر الحديثَ بطوله " [68 / و] ثم يقول: " والحديثُ بطوله هو كذا وكذا " ويسوقه إلى آخره. وسأل بعضُ أهل الحديث " أبا إسحاق إبراهيم بن محمد الشافعي " (4) المقدم في الفقه والأصول، عن ذلك فقال: لا يجوز لمن سمع على هذا الوصف أن يروي الحديث بما فيه من الألفاظ على التفصيل.
__________
(1) الخطيب في الكفاية، بإسناده إلى وكيع: 214 (باب ما جاء في المحدث يروي حديثًا ثم يتبعه بإسناد آخر).
(2) من هنا حتى نهاية هذا التفريع السادس عشر، ساقط من متن (ص) وأضيف بالهامش: (52 أ) لحقا.
(3) في متن (غ) [السجستاني] وعلى هامشه: السجزي، من أصل الشيخ شمس الدين. وهو ما في متن ابن الصلاح بالتقييد والإيضاح (238) نسبة إلى سجستان على غير قياس (اللباب 2/ 104) والضبط منه. ومسعود بن علي، أبو سعيد السجزي: تلميذ الحاكم أبي عبدالله. أكثر منه، وله عنه سؤالات. توفي سنة 438 هـ (تذكرة الحفاظ 3/ 1117 طبقات الحفاظ 428/ 971).
(4) [أبو إسحاق الأسفرائيني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإمام في الفقه والأصول، وهو أحد الثلاثة الناصرين مذهب أهل الحديث والسنة: أبو إسحاق هذا، وأبو الحسن الأشعري، وأبو بكر الباقلاني - رضي الله عنهم - وعن جميع المسلمين] من هامش (غ).
- قال النووي: " قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح: وكان الأستاذ أبو إسحاق ناصرًا لطريقة الفقهاء في أصول الفقه مضطلعًا بتأييد مذهب الشافعي في مسائل من الأصول أشكلت على كثير من المتكلمين الشافعيين حتى جبنوا عن موافقته .. " تهذيب الأسماء (2/ 169 - 170).(1/414)
وسأل " أبو بكر البرقاني الحافظُ الفقيه " أبا بكر الإسماعيلي الحافظَ الفقيه عمن قرأ إسناد حديثٍ على الشيخ ثم قال: وذكر الحديث؛ هل يجوز أن يُحدِّثَ بجميع ِ الحديث؟ فقال: إذا عرف المحدِّثُ والقارئ ذلك الحديثَ فأرجو أن يجوز ذلك، والبيانُ أوْلى أن يقولَ كما كان.
قلتُ: إذا جوَّزنا ذلك؛ فالتحقيقُ فيه أنه بطريق الإجازة فيما لم يذكره الشيخُ، لكنها إجازةٌ أكيدةٌ قويةٌ من جهاتٍ عديدةٍ، فجاز لهذا مع كونِ أوله سماعًا، إدراجُ الباقي عليه من غير إفرادٍ له بلفظ الإجازة *. والله أعلم.
الثامن عشر: الظاهرُ أنه لا يجوز تغيير " عن النبي " إلى: " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ". وكذا بالعكس، وإن جازت الروايةُ بالمعنى؛ فإن شرطَ ذلك أن لا يختلفَ المعنى، والمعنى في هذا مختلف. وثبت عن " عبدالله بن أحمد بن حنبل " أنه رأى أباه إذا كان في الكتاب " النبي " فقال المحدِّث: " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم "؛ ضرب وكتب: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال " الخطيبُ أبو بكر ": " هذا غيرُ لازم؛ وإنما استحبَّ " أحمدُ " اتباعَ المحدِّث في لفظه، وإلا فمذهبُه الترخيصُ في ذلك. " (1) ثم ذكر بإسناده عن " صالح بن أحمد بن حنبل " قال: " قلت لأبي: يكون في الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيجعل الإنسان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: أرجو ألا يكونَ به بأس " (2) وذكر " الخطيبُ " بسَنده عن " حماد بن سلمة " [68 / ظ] أنه كان يُحدِّث وبين يديه " عفانُ، وبَهْزٌ " فجعلا يغيران " النبي - صلى الله عليه وسلم - " من
__________
(1 - 2) الكفاية: (باب القول في تغيير: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ هل يلزم ذلك؟) 244.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وعلى تقدير الإجازة؛ لا يكونُ أوْلى بالمنع من: مثله، و: نحوه، إذا كان الحديث بطوله معلومًا لهما كما ذكر " الإسماعيلي " بل يكون أولى بالجواز. انتهت " 79 / و.
__________
- وانظر (التقييد والإيضاح: 239) والأحكام لابن حزم: 2/ 86.(1/415)
" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". فقال لهما حماد: " أما أنتما فلا تفقهان أبدًا (1). " * والله أعلم.
__________
(1) الكفاية: الباب، ص 244.
وعلى هامش (غ): [قال النواوي: الصواب - والله أعلم - جوازه؛ لأنه لا يختلف به هنا معنى] في التقريب 2/ 122 [بلغت سماعًا بقراءتي في المجلس السادس عشر] غ بخط ابن الفاسي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا أولى من جواز رواية الحديث بالمعنى، خلافًا لما تقدم. واختلافُ المعنى لا يضرُّ في الألفاظ المنقولة، فالذي رُوِيتْ عنه واحدٌ - صلى الله عليه وسلم -. بخلاف الرواية بالمعنى؛ فقد يطرقها في التغيير ما لا يفهم الراوي. ولا يُرَدُّ ذلك بحديث " البراء " في (الصحيحين) (1) في حديث: " ونبيِّك الذي أرسلت " للتعبد بالألفاظ في ذلك الباب، مع ما فيه من حسن الإِتيان بالصفتين العظيمتين. انتهت " 79 / و.
__________
(1) حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به ". قال: فردّدتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك. قال: " لا؛ ونبيك الذي أرسلت ".
أخرجه البخاري في (كتاب الوضوء، باب فضل من بات على وضوء) واللفظ منه. وفي كتاب الدعوات: (باب إذا بات طاهرًا) مثله. (فتح الباري 1/ 248، 11/ 86) وأخرجه مسلم في (كتاب الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع) من عدة طرق عن البراء. أورده الخطيب في الحجة عمن قال لم يجز إبدال كلمة بكلمة (الكفاية 175) وقال العراقي: فليس فيه حجة على منع ذلك في الرواية لأن ألفاظ الأذكار توقيفية ... وربما كان في اللفظ سر ليس في لفظ آخر يرادفه. ولعله أراد الجمع بين وصفه بالنبوة والرسالة في موضع واحد، واستظهر بقول النووي هنا (التقييد 240).
ونقل فيه ابن حجر قول الخطابي: فيه حجة لمن منع رواية الحديث على المعنى، ويحتمل أن يكون أشار إلى أنه كان نبيًّا رسولا. وقال غيره: ليس فيه حجة على منع ذلك لأن لفظ الرسول ليس بمعنى لفظ النبي، ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى، أو لأن ألفاظ الأذكار توقيفية فربما كان في اللفظ سر ليس في الآخر ولو كان يرادفه في الظاهر، أو ذكره احترازا ممن أرسل بغير نبوة، كجبريل وغيره من الملائكة، فلعله أراد تخليص الكلام من اللبس، أو لأن لفظ رسول مشترك في الإطلاق. بخلاف لفظ نبي فإنه لا اشتراك فيه عرفًا (فتح الباري 1/ 248) ونحوه في (فتح المغيث 2/ 264، وتدريب الراوي 2/ 122).
- وانظر الدلالة القرآنية للكلمتين، في مبحث الترادف وسر الكلمة، من كتابي (الإعجاز البياني للقرآن الكريم) ط دار المعارف بالقاهرة.(1/416)
التاسعَ عشر: إذا كان سماعُه على صفةٍ فيها بعضُ الوَهَنِ، فعليه أن يذكرها في حالة الرواية؛ فإن في إغفالها نوعًا من التدليس، وفيما مضى لنا أمثلة لذلك. ومن أمثلتِه، ما إذا حدَّثه المحدِّثُ من حِفظِه في حالة المذاكرة، فليقل: " حدثنا فلان مذاكرةً، أو: حدثنا في المذاكرة ". فقد كان غيرُ واحدٍ من متقدمي العلماء يفعل ذلك. وكان جماعةٌ من حُفاظِهم يمنعون من أن يُحمَلَ عنهم في المذاكرةِ شيءٌ، منهم " عبدالرحمن بن مهدي، وأبو زُرْعةَ الرازي " ورويناه عن " ابنِ المباركِ " وغيره. وذلك لما قد يقع فيها من المساهلة مع أن الحفظَ خَوَّان، ولذلك امتنع جماعةٌ من أعلام الحُفَّاظ من روايةِ ما يحفظونه إلا كُتبِهم، منهم " أحمدُ بن حنبل " - رضي الله عنهم أجمعين -. والله أعلم.
العشرون (1): إذا كان الحديثُ عن رجلين أحدُهما مجروح، مِثل أن يكونَ عن " ثابت البُنَاني، وأبان بن أبي عيَّاش (2)، عن أنس " فلا يُستحسَنُ إسقاطُ المجروح من الإِسنادِ والاقتصارُ على ذكرِ الثقة؛ خوفًا من أن يكون فيه عن المجروح شيء لم يذكره الثقة. قال نحوًا من ذلك " أحمدُ بن حنبل " ثم " الخطيب أبو بكر " قال " الخطيب ": " وكان مسلم بن الحجاج في مثل هذا ربما أسقط المجروحَ من الإِسنادِ ويذكر الثقة، ثم يقول: " وآخر "، كنايةً عن المجروح " قال (3): " وهذا القول لا فائدة فيه " *.
قلتُ: وهكذا ينبغي إذا كان الحديثُ عن رجلين ثقتين ألا يُسقِطَ أحدَهما منه؛ لتطرقِ مثل ِ الاحتمال ِ المذكورِ إليه، وإن كان محذورٌ الإِسقاط فيه أقلَّ. ثم لا يمتنع ذلك في
__________
(1) سقط التفريعان: العشرون والحادي والعشرون، من متن (ص) وأدرج ما قبل السقط ما فيما بعده.
(2) (الثقة) هو " ثابت البناني " بن أسلم أبو محمد البصري، من أثبت أصحاب أنس - رضي الله عنه -، والمجروح هو " أبان بن أبي عياش " قال ابن معين: متروك. (تهذيب التهذيب).
(3) الخطيب، في الكفاية (باب في المحدث يروي حديثًا عن رجلين أحدهما مجروح) 377 - 378.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: فائدته الإعلام بأنه رواه عن رجلين، وأن المذكور لم ينفرد، وفيه إعلام بتتبع الطرق. انتهت " 79 / و.
__________
- وانظر تقييد العراقي: 241، وفتح المغيث (2/ 265 - 271).(1/417)
الصورتين [69 / و] امتناعَ تحريم؛ لأن الظاهرَ اتفاقُ الروايتين (1). وما ذكر من الاحتمال نادرٌ بعيد؛ فإنه من الإدراج ِ الذي لا يجوز تعمُّدُه، كما سبق في نوع ِ المدرَج ِ. والله أعلم (2).
الحادي والعشرون: إذا سمع بعضَ حديثٍ من شيخ وبعضَه من شيخ آخر، فخلَطه ولم يميزه، وعَزَا الحديثَ جملةً إليهما مبيِّنًا أن عن أحدهما بعضَه وعن الآخر بعضه؛ فذلك جائزٌ. كما فعل " الزهري " في (حديث الإفك)؛ حيث رواه عن عروةَ، وابن المسيب، وعلقمة بن وقاص الليثي، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن عائشةَ. وقال: " وكلُّهم حدَّثني طائفةً من حديثها، قالوا: قالت ... " الحديث *.
ثم إنه ما من شيءٍ من ذلك الحديث إلا وهو في الحُكم كأنه رواه عن أحد الرجلين على الإبهام، حتى إذا كان أحدُهما مجروحًا لم يجز الاحتجاجُ بشيءٍ من ذلك الحديث. وغيرُ جائزٍ لأحد بعد اختلاط ذلك، أن يُسقطَ ذِكْرَ أحدِ الراويين ويروي الحديثَ عن الآخِر وحدَه، بل يجب ذكرُهما جميعًا مقرونًا بالإِفصاح بأن بعضَه عن أحدهما، وبعضه عن الآخر. والله أعلم.
__________
(1) من متن (غ) وعلى هامشها: [الراويين] خ. ومثلها في (ع).
(2) [بلغ مقابلة بالأصل المقابل بأصل السماع. ثم بلغ مقابلة عليه ثانية] (غ).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما ذكره في حديث الإفك؛ قد تقدم أن " الزهري " قال فيه، بعد أن ذكر ما ذكر: " الذي حدثني عروة عن عائشة " وساق الحديثَ من طريق عُرْوةَ على التمام. وقد تقدم ما فيه في (الحادي عشر) من هذا النوع، فليُنظَر منه. انتهت " 79 / ظ.
__________
(1) حديث الإفك من طريق الزهري بهذا الإسناد في الصحيحين. (خ) كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا (فتح الباري 5/ 171) وكتاب المغازي، باب حديث الإفك (فتح الباري 7/ 305). (م) كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (ح 10/ 2770).
وهي رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا الإسناد على التمام في (السيرة 3/ 309 هشامية) خبر الإفك في غزوة بني المصطلق.(1/418)
النوع السابع والعشرون:
معرفةُ آدابِ المحدِّث.
وقد مضى طرفٌ منها اقتضته الأنواعُ التي قبله.
علم الحديث علم شريفٌ يناسب (1) مكارمَ الأخلاق ومحاسنَ الشيم، وينافر مساوئ الأخلاق ومشاينَ الشيم. وهو من علوم الآخرة لا من علوم الدنيا، فمن أراد التصدي لإسماع الحديث أو لإفادة شيء من علومه، فليقدمْ تصحيحَ النيَّة وإخلاصَها، وليطهرْ قلبَه من الأغراض الدنيوية وأدناسها، وليَحذَرْ بَلِيَّةَ حُبِّ الرياسة ورعوناتها.
وقد اختُلِفَ في السنِّ الذي إذا بلغه استُحِبَّ له التصدِّي لإسماع الحديث والانتصابُ لروايته. والذي نقوله: إنه متى احتِيجَ إلى ما عنده؛ استُحِبَّ له التصدي لروايتِه ونشره [69 / ظ] في أيِّ سنٍّ كان (2). وروينا عن " القاضي الفاضل أبي محمد بن خلاد " - رحمه الله -، أنه قال: الذي يصحُّ عندي من طريق الأثر والنظر، في الحدِّ الذي إذا بلغه الناقلُ حَسُنَ به أن يُحدِّثَ، هو أن يستوفيَ الخمسين لأنها انتهاء الكهولة وفيها مجتمعُ الأَشُدِّ. قال " سُحَيمُ بن وثيل (3) ":
__________
(1) في متن (ص): [مناسب] وعلى هامشه [يناسب] كما في (غ، ز، ع).
(2) على هامش (غ) من أمالي ابن الصلاح: [قال: وذلك بحسب الزمان والمكان؛ فرب بلاد مهجورة يقع إليها من يُحتاج إلى روايته هناك، ولا يُحتاج إلى روايته في البلاد التي يكثر فيها العلماء].
(3) سحيم بن وثيل بن عمرو، الرياحي اليربوعي الحنظلي التميمي: شاعر مخضرم. ناهز عمره المائة. كان شريفًا في قومه، نابه الذكر. قال ابن دريد: عاش أربعين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام. والشاهد من قصيدته المشهورة، أصمعية حماسية:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا .............................................. متى أضع العمامة تعرفوني
وماذا يطلب الشعراء مني .............................................. وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين ... البيت
(مؤتلف الآمدي 137، الإصابة: ق 3 ت 3360، الأصمعيات 6، شرح الحماسة للمرزوقي 1/ 28، سمط اللآلي 1/ 558) وجمهرة الأنساب: 215.(1/419)
أخو خمسينَ مجتمعٌ أشُدِّي .................................................... ونَجَّدني مداوَرَةُ الشئونِ
قال: " وليس بمنكرٍ أن يُحدِّثَ عند استيفاء الأربعين؛ لأنها حَدُّ الاستواء. ومنتهى الكمال؛ نُبِّئ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ أربعين، وفي الأربعين تتناهى عزيمة الإنسان وقوتُه، ويتوفرُ عقلُه ويجودُ رأيه " (1).
وأنكر " القاضي عياض " ذلك على ابن خلاد وقال: " كم من السلف المتقدمين ومن المحدثين، من لم ينته إلى هذا السنِّ ومات قبلَه، وقد نَشَر من الحديث والعلم ما لا يحصى! هذا عمر بن عبدالعزيز توفي ولم يكمل الأربعين، وسعيد بن جبير لم يبلغ الخمسين، وكذلك إبراهيم النخعي، وهذا مالك بنُ أنس جلس للناس ابنَ نَيِّفٍ وعشرين - وقيل: ابن سبع عشرة - والناس متوافرون وشيوخُه أحياء. وكذلك محمد بن إدريس الشافعي قد أُخِذَ عنه العلمُ في سنِّ الحداثةِ وانتصب لذلك ". والله أعلم (2).
قلتُ: ما ذكره " ابنُ خلاد " غير مستَنكر، وهو محمول على أنه قاله فيمن يتصدَّى للتحديثِ ابتداءً من نفسه، من غير براعة في العلم تعجلتْ له قبل السن الذي ذكره، فهذا، إنما ينبغي له ذلك بعد استيفاءِ السنِّ المذكور فإنه مظِنَّةُ الاحتياج إلى ما عندَه (3).
وأما الذين ذكرهم " عياضٌ " ممن حدَّث قبل ذلك؛ فالظاهرُ أن ذلك لبراعة منهم في العلم تقدمتْ، ظهر لهم معها الاحتياجُ إليهم فحدثوا قبل ذلك، أو لأنهم سُئلوا ذلك، وإما بصريح السؤال أو بقرينة الحال.
__________
(1) القاضي ابن خلاد: المحدث الفاصل: باب القول في أوصاف الطالب والحدث الذي إذا بلغه صح الطلب فيه. والإلماع 200 من طريقه.
(2) الإلماع (199 - 208) وعلى هامش (غ):
[قال القاضي عياض: وقد أنشد بعض البغداديين:
إن الحداثة لا تقصر بالفتى المرزوق ذهنا
لكن تذكي قلبه .......... فيفوق أكبر منه سنا
في (الإلماع: 204) والبيتان في (المحدث الفاصل للقاضي ابن خلاد)، قال: " أنشدنا أصحابنا البغداديون " 193 ف 94، وفي جامع بيان العلم لابن عبدالبر 1/ 85.
(3) قال العراقي: وقد حمل ابن الصلاح كلام ابن خلاد على محمل صَحيح (التبصرة 2/ 205) ومعه مما قاله ابن خلاد في الباب: " فليس المعتبر في كتب الحديث البلوغ ولا غيره، بل يعتبر فيه الحركة والنضاجة والتيقظ والضبط، وقد دل قول الزهري: ما رأيت طالبًا للعلم أصغر من ابن عيينة؛ على أن طلاب العلم في عصر التابعين كانوا في حدود العشرين " المحدث: 186 ف 48.(1/420)
وأما [70 / و] السن الذي إذا بلغه المحدِّثُ انبغى له الإمساكُ عن التحديث؛ فهو (1) السنُّ الذي يُخشَى عليه فيه من الهرَم والخرَفِ، ويُخاف عليه فيه أن يُخَلِّط ويرويَ ما ليس من حديثه. والناسُ في بلوغ هذا السنِّ يتفاوتون بحسب اختلاف أحوالهم. وهكذا إذا عَمِيَ خاف أن يُدخَل عليه ما ليس من حديثه، فليُمسِكْ عن الرواية.
وقال " ابن خلاد ": " أعجبُ إليَّ إن يمسكَ في الثمانينَ؛ أنه حَدُّ الهرم، فإن كان عقلهُ ثابتًا ورأيُهُ مجتمعًا يُعرفُ حديثَه ويقوم به، وتحرَّى أن يُحدِّثَ احتسابًا؛ رجوت له خيرًا " (2).
ووَجْهُ ما قاله، أن من بلغ الثمانينَ ضعُفَ حالُه في الغالب، وخيف عليه الاختلالُ والإخلالُ، وألا يُفطَنَ له إلا بعد أن يخلط، كما اتفق لغير واحد من الثقات، منهم: " عبدالرزاق، وسعيد بن أبي عروبة (3) " وقد حدَّث خلقٌ بعد مجاوزة هذا السن فساعدهم التوفيق وصحبتهم السلامة، منهم: " أنسُ بن مالك، وسهل بن سعد وعبدالله بن أبي أوفى " من الصحابة، و " مالك، والليث، وابن عيينة، وعلي بن الجعد " في عدد جَمٍّ من المتقدمين والمتأخرين، وفيهم غيرُ واحد حدثوا بعد استيفاء مائةِ سنة، منهم: " الحسنُ بن عرفة، وأبو القاسم البغوي، وأبو إسحاق الهُجَيمي، والقاضي أبو الطيب الطبري " (4) - رضي الله عنهم أجمعين -. والله أعلم.
ثم إنه لا ينبغي للمُحدِّث أن يحدث بحضرة من هو أولى منه بذلك. وكان " إبراهيم، والشعبي " إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء. وزاد بعضهم فكره الرواية ببلد فيه من
__________
(1) في (ص): [وهو] ولا يطمئن به السياق.
(2) من المحدث الفاصل: 354 ف 289 بتصرف يسير. وقابل على (الإلماع: 204).
وعلى هامش (غ): [قال الشاعر:
إن الثمانين - وبُلِّغتَها - ................................................ قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنا ................................................ وكنت كالصعدة تحت السنان
ولم تدع فيَّ لمستمتع ................................................. إلا لساني وبحسبي لسان]
وهي في (الإلماع: 120).
والأبيات من قصيدة مطولة، لأبي المحلم " عوف بن المحلم، الخُزاعي " شاعر عباسي مجيد، كان منقطعًا لآل طاهر بن الحسين. ت سنة 214 هـ في عهد المأمون. انظرها في (الأغاني 4/ 145) و (رسالة الغفران: 576) ط الذخائر. مع تخريجها على هامش الإلماع: 210.
(3) معهما غيرهما في (الكفاية: باب ما جاء في ترك السماع ممن اختلط وتغير) 135 - 137.
(4) الإلماع: 207.(1/421)
المحدثين مَن هو أولى منه لسِنِّه أو لغير ذلك. روينا عن " يحيى بن معين " قال (1): " إذا حدثتُ في بلدٍ فيه مثلُ " أبي مسهر " فَيجب للحيتي أن تُحلَق " وعنه أيضًا: " إن الذي يُحدث بالبلدة وفيها من هو أولى بالتحديث منه، أحمق " (2).
وينبغي للمحدث إذا التُمِسَ منه ما يعلمه عند غيره في بلده أو غيره بإسنادٍ أعلى من إسناده أو أرجحَ من وجهٍ آخر، أن يُعلم الطالب به [70 / ظ] ويرشده إليه، فإن الدين النصيحة. ولاَ يمتنع من تحديث أحد لكونه غير صحيح النيَّةِ فيه، فإنه يُرجى له حصولُ النيةِ من بعد. روينا عن " معمر " قال: كان يقال: " إن الرجل ليطلب العلم لغير الله، فيأبى عليه العلمُ حتى يكونَ لله - عز وجل - " (3). وليكن حريصًا على نشره مبتغيًا جزيلَ أجره. وقد كان في السلف - رضي الله عنهم - من يتألف الناسَ على حديثه، منهم " عروةُ بن الزبير " - رضي الله عنهما -. والله أعلم.
وليقتدِ بمالكٍ - رضي الله عنه - فيما أخبرناه " أبو القاسم الفراوي " بنيسابور قال: " نا أبو المعالي الفارسي، قال: أنا أبو بكر البيهقي الحافظ، قال: أنا أبو عبدالله الحافظ،
__________
(1) على هامش (ص):
ولابن معين في الرجال مقالة ................................................. سيُسأل عنها والمليك شهيدُ
فإن تك حقا فهي لا شك غيبة ................................................ وإن كان زورًا فالعقاب شديد
أنشدهما كمال الدين بن العقيمي]. ولا يبدو لهما في المتن محل شاهد.
وهما في (الجامع لابن عبدالبر) لبكر بن حماد، ومعهما فيه معارضات للشعرءا في الرد عليهما (2/ 125 - 127) وأسندهما الخطيب في الكفاية إلى بكر بن حماد، في أربعة أبيات نظمها في أقول يحيى بن معين في الجرح، مع خلاف يسير في الألفاظ، في روايات البيتين. وبكر بن حماد، ذكره أبو الوليد ابن الفرضي في ترجمة أبي جعفر المليلي، قاضيها للناصر. (تاريخ علماء الأندلس 1/ 61 / 202) ط المصرية 1966 م.
(2) ابن أبي حاتم، بإسناده عن يحيى بن معين في ترجمة أبي مسهر الغساني عبدالأعلى بن مسهر الدمشقي عالمها (مقدمة الجرح والتعديل 1/ 285).
(3) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: [قال شيخنا أبو بكر: فيما قاله نظر مما حكى عن معمر؛ فقد منع الغزالي ذلك وحمل قول ابن معين وغيره من العلماء على تأويل. والذي قاله - ابن الصلاح - أيضًا لا بد فيه من تفصيل؛ فإنه ينبغي أن يكون ذلك عند الاستواء فيما عدا الصفة المرجحة، علو الإسناد، فأما مع التفاوت بأن يكون الأعلى إسنادا عاميا لا معرفة له بالصنعة، والأنزل إسنادا عارف ضابط؛ فهذا ينظر فيه بالنسبة إلى الإرشاد المذكور لأنه قد يكون في الرواية عن هذا الشخص العامي ما يوجب خللا].(1/422)
قال: أخبرني إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني (1) قال: نا جَدِّي قال: نا إسماعيل بن أبي أُوَيس، قال: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يحدِّث توضأ، وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقارٍ وهيبة، وحدَّث، فقيل له في ذلك فقال: أحب أن أعظم حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدِّث إلا على طهارة متمكنا " وكان يكره أن يُحدث في الطريق أو وهو قائم، أو يستعجل، وقال: " أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (2) ورُوِيَ أيضًا عنه أنه كان يغتسل لذلك ويتبخَّر ويتطيب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه زجره [و] (ت. ع) قال: " قال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ "، فمن رفع صوتَه عند حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فكأنما رفع صوته فوق صوتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (3).
وروينا - أو بلغنا - عن " محمد بن أحمد بن عبد الله الفقيه " (4) أنه قال: " القارئ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام لأحد فإنه تُكتب عليه خطيئة ".
ويستحب له مع أهل مجلسه، ما ورد عن " حبيب بن أبي ثابت " أنه قال: " إن من السُّنةِ إذا حدث الرجلُ القومَ أن يُقبِل عليهم جميعًا ". والله أعلم.
ولا يسرد الحديث سَردًا يمنع السامعَ من إدراك بعضه. (5) وليفتتح مجلسَه وليختمه بذكرٍ
__________
(1) على هامش (ص، غ): [الشعراني، بفتح الشين، نسبة إلى الشعر: والمراد به " الفضل " جده، كان يرسل شعره]. قاله في (اللباب 2/ 21) وإسماعيل بن محمد بن الفضل، أبو الحسن الشعراني - 317 هـ - حدث عن جده أبي محمد الفضل بن محمد الشعراني (252 هـ).
(2) المحدث الفاصل: من كره أن يحدث حتى يتطهر، بإسناد ابن خلاد عن أبي سلمة الخزاعي، منصور بن سلمة البغدادي، من أصحاب الإمام مالك (85 هـ) وترتيب المدارك: 2/ 14 - 16، وأدب الإملاء، بإسناد السمعاني عن أبي مصعب الزهري (46 - 48).
(3) سورة الحجرات، من الآية 2. وانظر ترتيب المدارك 2/ 26 وأدب الإملاء للسمعاني، وتذكرة السامع للبدر ابن جماعة، فصل 2/ 31.
(4) أبو زيد المروزي - 371 هـ - (تقييد ابن نقطة 18، وتهذيب النووي 2/ 334 / 350).
(5) هذه الجملة والتي بعدها، نقلنا في (ص) من موضعهما هنا، إلى آخر صيغة الدعاء، بعد قوله: [أن يسأله السائلون].
Q ( ت. ع) قلت: ما بين المعقوفتين زيادة مستدركة من " مقدمة ابن الصلاح " (1/ 137). والله أعلم.(1/423)
ودعاء يليق بالحال. ومن أبلغ ما يفتتح به أن يقول: " الحمد لله رب العالمين أكمَل الحمدِ على كل حال، والصلاة والسلام الأتَمَّانِ على سيد المرسلين كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون؛ اللهم صلِّ عليه وعلى آله وسائر النبيين، وآل ِ كلٍّ، وسائر الصالحين، نهايةَ ما ينبغي أن يسأله السائلون ". *
ويُستحب للمحدِّث العارف، عقدُ مجلس ِ لإملاء الحديث؛ فإنه من أعلى مراتب الراوين، والسماعُ فيه من أحسن وجوه التحمل وأقواها. وليتخذْ مستمليًا يبلغ عنه إذا كثر الجمعُ (1)؛ فذلك دأب أكبار المحدِّثين المتصدِّين لمثل ذلك. وممن رُوِي عنه ذلك " مالك، وشعبة، ووكيع، وأبو عاصم، ويزيد بن هارون " في عدد كثير من الأعلام
__________
(1) في أدب الإملاء للسمعاني: " فإن تكاثر الجمع بحيث لا يُكتفى بمستمل ٍ واحد؛ اتخذ مستمليين فأكثر. " وذكر من ذلك أن مجلس أبي مسلم الكجي، وكان فيه سبعة مستملين، وحُزِر من كتبوا عنه، بمحابرهم، نيفًا وأربعين ألف محبرة. ومثله في ترجمة أبي مسلم الكجي. أسنده ابن نقطة عن الخطيب (ل 68).
وروى السمعاني من ذلك أيضًا: أن مجلس عاصم بن علي، أبي الحسن الواسطي بمسجد الرصافة، كان يحزر بأكثر من مائة ألف. وانظره في (تهذيب التهذيب 5 (49/ 81).
(2) الذي في ترجمة الإمام مالك بترتيب المدارك (2/ 26) أنه لما كثر الناس عليه في مجلسه بالروضة الشريفة، فقيل له: لو جعلت مستمليا يسمع الناس؟ فتلا الآية: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ " وقال: وحرمته حيا كحرمته ميتا ". ومثله في أدب الإملاء، السمعاني 45 - 46.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وفي التحميد سنن مشهورة ينبغي اتباعها، وكذلك يتبع السنة الصحيحة في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد نبه على هذا " النووي " وغيره. انتهت " 81 / و.
__________
- قال النووي في التقريب: " ويستنصت المستملي الناس بعد قراءة قارئ حسن الصوت شيئًا في القرآن، ثم يبسمل ويحمد الله تعالى ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتحرى الأبلغ فيه. " 2/ 134.
ونقل السيوطي من (الروضة) قول النووي عن جماعة من علماء الخراسان: إن أبلغ ألفاظ الحمد: " الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ". قال: ليس لذلك دليل يعتمد. " وعقب السيوطي: قال البلقيني: بل الحمد لله رب العالمين؛ لأنه فاتحة الكتاب وآخر دعوى أهل الجنة، ينبغي الجمع بينهما (تدريب الراوي 2/ 135).(1/424)
السالفين. وليكن مستمليه محصِّلا متيقظًا كيلا يقع في مثل ما روينا أن يزيد بن هارون سئل عن حديث فقال: حدثنا به عِدَّةٌ. فصاح به مستمليه: يا أبا خالد، عِدَّةُ ابنُ من؟ فقال له: عدةُ ابنُ فقدتُكَ (1)!
وليستمل ِ على موضع مرتفع من كرسي أو نحوِه، فإن لم يجد استملى قائمًا. وعليه أن يتبع لفظَ المحدِّث فيؤديه على وجهه من غير خلاف. والفائدة في استملاء المستملي، توصُّلُ من يسمع لفظَ المملي على بُعدٍ منه، إلى تفهمه وتحققه، بإبلاغ المستملي. وأما من لم يسمع إلا لفظَ المستملي، فليس يستفيد بذلك جوازَ روايته لذلك عن المملي مطلقًا [71 / ظ] من غير بيانٍ للحال فيه، وفي هذا كلام قد تقدم في النوع الرابع والعشرين.
ويُستحب افتتاحُ المجلس بقراءة قارئٍ لشي من القرآن العظيم. فإذا فرغ استنصت المستملي أهلَ المجلس إن كان فيه لَغْطٌ (2)، ثم يبسمل وبحمد الله تبارك وتعالى، ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتحرى الأبلغَ في ذلك، ثم يقبل على المحدِّث ويقول: من ذكرتَ أو ما ذكرتَ، رحمك الله، أو: غفر الله لك، أو نحو ذلك. والله أعلم.
وكل ما (3) انتهى إليه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ صلى عليه (4). وذكر " الخطيبُ " أنه يرفع صوته بذلك. وإذا انتهى إلى ذكر الصحابي قال: رضي الله عنه (5).
ويحسن بالمحدِّث الثناءُ على شيخِه في حالة الرواية عنه بما هو أهل له؛ فقد فعل ذلك غيرُ واحد من السلف والعلماء، كما رُوِي عن " عطاء بن أبي رباح " أنه كان إذا حدث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " حدثني البحر "، وعن " وكيع " أنه قال: " حدثنا
__________
(1) أسنده السمعاني في أدب الإملاء، عن إسحاق بن وهب، أبي يعقوب الواسطي، من أصحاب يزيد بن هارون، الواسطي، أبي خالد السلمي.
(2) ضبطه في (غ) بالفتح والسكون، قلما. وعلى هامشه: [قال المصنف: لغط، بالسكون، أفصح، وبالفتح أشهر.].
(3) [وكل ما] كذا رسمُه في النسخ (غ، ص، ع) وليس الأولى.
(4) على هامش (غ): [قال: من أحسن ما يقصد في هذا العلم، التعبد بكثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما تكرر ذكره. ويحتاج ذلك أن يكون مقصودًا عند اللفظ به، ولا يخرج على وجه العادة].
(5) أضاف على هامش (غ): [زاد " النواوي " في (مختصره): فإن كان ابنَ صحابي قال: رضي الله عنهما]. (متن التقريب، مع تدريب الراوي 2/ 136).(1/425)
سفيان، أمير المؤمنين في الحديث ". وأهم من ذلك الدعاءُ له عند ذكره، فلا يغفلن عنه (1).
ولا بأسَ بذكرِ من يروي عنه، بما يعرف به من لقب كـ " غُندر " لقب محمد بن جعفر صاحب شعبة، و " لُوَيْن " لقب محمد بن سليمان المصيصي، أو نسبةٍ إلى أمٍّ عُرف بها، كـ " يعلى بن مُنْيةَ " الصحابي، وهو ابن أمية - و " مُنيةُ " أمُّه، وقيل جدته أم أبيه (2) - أو وصفٍ بصفةِ نقص ٍ في جسَدِه عُرف به كـ " سليمان الأعمش "، و " عاصم الأحول " إلا ما يكرهه من ذلك، كما في " إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن عُلَية " وهي أمُّه وقيل أم أمه. روينا عن " يحيى بن معين " أنه كان يقول: " حدثنا إسماعيل بن عُلَيّة " فنهاه " أحمدُ بن حنبل " وقال: قلْ: إسماعيل بن إبراهيم؛ فإنه بلغني أنه كان [72 / و] يكره أن يُنسب إلى أمه، فقال: قد قبلنا منك يا معلم الخير.
وقد استُحِبَّ للمُملي أن يجمع في إملائه بين الرواية عن جماعةٍ من شيوخه مقدمًا للأعلى إسنادًا، أو الأوْلَى من وجهٍ آخر، ويملي عن كل شيخ منهم حديثًا واحدًا ويختار ما علا سندُه وقصُر متنُه؛ فإنه أحسنُ وأليَق، وينتقي ما يمليه ويتحرى المستفادَ منه، وينبه على ما فيه من فائدة وعلوٍّ وفضيلة، ويتجنب ما لا تحتمله عقولُ الحاضرين، وما يخشى فيه من دخول الوهم عليهم في فهمه.
وكان من عادة غير واحد من المذكورين، ختمُ الإملاء بشيءٍ من الحكايات والنوادر
__________
(1) نقل فيه السمعاني: " ويُكره أن يدعو للشيخ بطول البقاء؛ فإن السلف كرهوا ذلك " وأسند عن أبي زرعة الدمشقي، قال: سمعت أبا مسهر يقول: قال رجل لسعيد بن عبدالعزيز، بن أبي يحيى: أطال الله بقاءك. فغضب وقال: بل عجل بي إلى رحمته، وعن عبدالله بن أحمد، قال: كان أبي إذا دُعي له بالبقاء يكرهه ويقول: هذا شيء قد فرغ منه، ثم أسند عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: " كانوا يقولون: رحمنا الله وإياكم وغفر لنا ولكم. " أدب الإملاء 100 - 101.
(2) قال العراقي: " رجح المصنف هنا أن منية أم يعلى. واقتصر في النوع السابع والخمسين على كونها جدته، وحكاه عن الزبير بن بكار، وأنها جدته أم أبيه. وما قاله الزبير هو الذي جزم به أبو نصر ابن ماكولا. ولكن قال ابن عبدالبر: لم يُصب الزبير. " التقييد والإيضاح 249.
وقوبل على: (الإكمال لابن ماكولا: 7/ 296، والاستيعاب: 4/ 1586 ت 2815، ومشارق الأنوار للقاضي عياض: 1/ 396).(1/426)
والإنشادات بأسانيدها، وذلك حسن *.
وإذا قصَّر المحدثُ عن تخريج ما يمليه فاستعان ببعض حُفَّاظ وقتِه فخرَّج له فلا بأس بذلك. قال " الخطيبُ ": كان جماعة من شيوخنا يفعلون ذلك (1).
وإذا نجِز (2) الإملاءُ، فلا غنى عن مقابلته وإتقانه وإصلاح ِ ما فسد منه بزيغ القلم وطغيانه.
هذه عيونُ من أداب المحدِّث اجتزأنا بها، معرضين عن التطويل بما ليس من مهماتها، أو هو ظاهر ليس من مشتبهاتها. والله الموفق، وهو أعلم (3).
__________
(1) الكفاية: (في جواز استثبات الحافظ ما شك فيه) ويليه (باب ذكر الرواية عمن قال: ثنا فلان، وثبتني فلان) 216 - 217.
(29 ضبطه على هامش (ص، غ): [قال المؤلف: نجِز، بكسر الجيم، معناه: انقضى، وأما بالفتح كما تقول العامة فمعناه حضر. وليس هذا موضعه. والله أعلم]. وأضاف في (غ): [قال " الجوهري ": نجز الشيء، بالكسر، ينجز نجزا: أي انقضى وفنى، ونجز حاجتَه، بالفتح، ينجز بالضم: قضاها. زاد " ابن القطاع " في (الأفعال): نجز الشيء نجازا: حضر، وأيضا ذهب. نقلته من خط شيخنا أبي بكر.].
قال العراقي: قوله: نجِز، هو بكسر الجيم على المشهور، وبه جزم الجوهري فقال: نجِز الشيء بالكسر ينجِز نجزًا، انقضى وفنى. وهذا هو الذي قيَّد عن المصنف في حاشية علوم الحديث حين قرئ عليه. والذي صدر به صاحب المحكم كلامه، بالفتح، فقال: نجَز الكلام، بالفتح، انقطع ونجز الوعد ينجز نجزا حضر. قال: وقد يقال: نَجِز. قال ابن السكيت: كأن نَجِزَ فنى، وكأن نَجَزَ قضى حاجته. انتهى " التقييد والإيضاح 250.
(3) من (غ، ز، ع) وفي (ص): [والله أعلم] وعلى هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ السماع بقراءتي على شيخنا أبي محمد ابن المنير. وسمعه شرف الدين بن المرحل وزين الدين بن رستم، وأخي أبو البركات محمد، وذلك في المجلس الرابع، يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شوال سنة ... وسبعماية، بمنزلة بثغر الإسكندرية. قاله وكتبه محمد بن محمد الفاسي.].
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة: وأَوْلاها، ما في الزهد ومكارم الأخلاق. انتهت " 81 / ظ.
__________
- قال السمعاني: ومما تختم به المجالس للترويح الأناشيد والأشعار. وأسند عن عروة بن الزبير عن أبيه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الشعر كلام، حسَنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه " وعن عمر - رضي الله عنه - قال: " تعلموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تُنتقى، وحكمة للحكماء ويدل على مكارم الأخلاق " وعن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " إذا قرأتم شيئًا من القرآن فلم تدروا ما تفسيره؛ فالتمسوه في الشعر فإنه ديوان العرب " أدب الإملاء 70 - 71.(1/427)
النوع الثامن والعشرون:
معرفة آدابِ (1) طالبِ الحديث.
وقد اندرج طرفٌ منه في ضمن ما تقدم.
فأول ما عليه: تحقيقُ الإِخلاص والحَذَرُ من أن يتخذه وُصْلةً إلى شيء من الأغراض الدنيوية. روينا عن " حماد بنِ سلمةَ " - رضي الله عنه - أنه قال: " من طلب الحديثَ لغير الله؛ مُكِرَ به (2) " وروينا عن " سفيانَ الثوري " - رضي الله عنه - قال: " ما أعلم عملا هو أفضلُ من طلبِ الحديث لمن أراد اللهَ به " وروينا نحوَه عن " ابن المبارك " - رضي الله عنه -.
ومن أقرب الوجوه في إصلاح النيةِ فيه، ما روينا عن " أبي عَمرو إسماعيلَ بن نجيد " أنه سأل أبا جعفر أحمد بن حمدانَ، وكانا عبدين صالحين، [72 / ظ] فقال له: بأي نية أكتب الحديث؟ فقال: ألستم تروون أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: نعم. قال: فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسُ الصالحين (3).
وليسأل الله - تبارك وتعالى - التيسيرَ والتأييد والتوفيق والتسديد، وليأخذ نفسه بالأخلاق الزكية والآدب المرضية. فقد روينا عن " أبي عاصم النبيل " قال: " من طلب هذا الحديثَ فقد طلب أعلى أمورِ الدين؛ فيجب أن يكون خيرَ الناس ".
وفي السِّنِّ التي يُستَحبُّ فيها الابتداءُ بسماع الحديث وبِكَتْبِه اختلافٌ سبق بيانُه في أول النوع الرابع والعشرين.
__________
(1) في متن (ص، غ، ع) وبهامش (غ): [آداب / صح ش] أصل الشيخ شمي الدين ابن جميل. وهو ما في فهرسة ابن الصلاح، بالمدخل، وتقريب النووي، وتقييد العراقي.
(2) أسنده ابن عبدالبر عن يعقوب بن إسماعيل الحضرمري، قال: سمعت حماد بن سلمة يقول / فذكره (جامع بيان العلم 1/ 191).
(3) وانظر في المحدث الفاصل (باب النية فيه): 182.(1/428)
وإذا أخَذ فيه فليشمِّرْ [عن (1)] ساق جهده (2) واجتهاده، ويبدأ بالسماع من أسنَدِ شيوخ مِصره، ومن الأوْلى فالأوْلى من حيث العلمُ أو الشهرةُ أو الشرفُ أو غير ذلك.
وإذا فرغ من سماع العوالي والمهماتِ التي ببلده، فليرحَلْ إلى ما غيره، رُوِّينا عن " يحيى بن معين " أنه قال: " أربعة لا تُؤنِسْ منهم رشدًا: حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدِّث، ورجل يكتب في بلدِه ولا يرحلُ في طلب الحديث " (3).
وروينا عن " أحمدَ بنِ حنبل " - رضي الله عنه - أنه قيل له: أيرحل الرجلُ في طلب العلو؟ فقال: " بلى والله شديدًا. لقد كان علقمةُ والأسودُ يبلغهما الحديثُ عن عمر - رضي الله عنه - فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمرَ فيسمعانه منه " (4). والله أعلم.
وعن " إبراهيمَ بن أدهم " - رضي الله عنه - قال: " إن الله تعالى يدفع (5) البلاءَ عن هذه الأمة برحلة أصحابِ الحديث ".
ولا يحملنه الحرصُ والشرهُ على التساهل في السماع والتحمُّل ِ، والإِخلال ِ بما يُشترط عليه في ذلك، على ما تقدم شرحُه.
وليستعملْ ما يسمعُه من الأحاديثِ الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرهما من الأعمال الصالحة، فذلك زكاةُ على ما روينا (6) عن العبد الصالح " بشر بن الحارث الحافي " - رضي الله عنه -. وروينا عنه أيضًا أنه قال: " يا أصحابَ الحديث أدُّوا زكاةَ هذا الحديث، اعملوا من كل مائتي حديثٍ بخمسة أحاديث ". وروينا عن " عمرو بن قيس الملائي " - رضي الله عنه - قال: " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرةً؛ تكن من أهله ".
__________
(1) في (غ): [على ساق] وما هنا من (ص، ز، ع).
(2) ضبطه بالضم والفتح معًا في متن (غ) ضبط قلم ونقل على هامشه:
[الجهد، بفتح الجيم: المشقة، وقيل: بالضم. والجهد، بالضم: الطاقة. كذا وجدته بخط شيخنا.] والذي في (القاموس): الجهد، بالفتح: الطاقة، ويضم: المشقة.
(3) أسنده الحاكم عن يحيى في (علوم الحديث: 9) والخطيب في (الرحلة في طلب الحديث: 89).
(4) [فيسمعانه] (غ، ص، ز، ع) وفوقها في (غ): كذا.
(5) في (غ، ص، ع): [يدفع].
وأسند الخطيب عن ابن أبي حاتم، قال: بلغني أن إبراهيم بن أدهم، قال: " إن الله يرفع البلاء " بالراء، في مطبوعة (الرحلة: 89 - 90).
(6) من (ص، ع) وفي (غ): رويناه.(1/429)
وروينا عن " وكيع " قال: " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به ".
وليعظم شيخَه ومن يسمع منه؛ فذلك من إجلال الحديث والعلم. ولا يثقل عليه ولا يُطَوِّلْ بحيث يُضْجِرُه (1)؛ فإنه يُخشَى على فاعل ذلك أن يُحرَمَ الانتفاعَ. وقد روينا عن " الزهري " أنه قال: " إذا طال المجلس؛ كان للشيطان فيه نصيب " (2).
ومن ظفر من الطلبة بسماع شيخ فكتمه غيرَه لينفرد به عنهم، كان جديرًا بألا ينتفع به، وذلك من اللؤم الذي يقع فيه جَهَلةُ الطلبة الوضعاء. ومن أول فائدة طلبِ الحديث الإفادةُ. روينا عن " مالك " - رضي الله عنه - أنه قال: " من بركةِ الحديثِ إفادةُ بعضِهم بعضًا ". وروينا عن " إسحاق بن إبراهيم بنِ راهويه " (3) أنه قال لبعض من سمع منه في جماعة: " انسخْ من كتابهم ما قد قرأت. فقال: إنهم لا يمكنونني. قال: إذًا واللهِ لا يلفحون، قد رأينا أقوامًا منعوا هذا السماعَ فواللهِ ما أفلحوا ولا أنجحوا ".
قلتُ: وقد رأينا نحن أقوامًا منعوا السماعَ فما أفلحوا ولا أنجحوا، ونسأل الله العافيةَ. والله أعلم (4).
__________
(1) الضبط من (ص) وضبطه في (غ) ثلاثيًّا متعديًا. والذي في (القاموس): ضجر منه، وبه - كفرح - وتضجر: تبرم. وأضجرته فأنا مضجر. وانظر معه في جامع بيان العلم (باب حمد السؤال والإلحاح في طلب العلم) (1/ 87).
(2) قال العراقي: روينا عن محمد بن سيرين أنه سأله رجل عن حديث وقد أراد أن يقوم، فقال:
إنك إن كلفتَني ما لم أطِقِ ........................................................ ساءك ما سرك من خلقي
(التبصرة: 2/ 229).
(3) على هامش (غ): [أبو يعقوب إسحاق بن راهويه: ولد سنة إحدى وستين - وقيل ست وستين - ومائة. سكن نيسابور وبها مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين. قاله الشيرازي.].
تمام اسمه: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي. حديثه عند الستة.
(4) على هامش (غ): [قال الشيخ تقي الدين: من أحسن ما يقصد في هذا العلم قصد الانتفاع والنفع للغير كما قال " ابن المبارك " وقد استكثر كثرة الكتابة منه: " لعل الكلمة التي منها نجاتي لم أسمعها إلى الآن " - أو كما قال -. ولا خفاء بما في تبليغ العلم من الأجر، لا سيما وبرواية الحديث يدخل الراوي في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها] الطرة بنصِّها من (الاقتراح 263). والحديث أخرجه ابن عبدالبر من عدة طرق في (الجامع 1/ 40، 2/ 124) وانظر معه باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رب مبلغ أوعى من سامع " في كتاب العلم من صحيح البخاري (فتح الباري 1/ 116) والجامع. وانظر ترجمة عبدالله بن المبارك بسير أعلام النبلاء (8/ 360).(1/430)
ولا يكنْ ممن يمنعه الحياءُ أو الكِبْرُ عن كثير من الطلب، وقد روينا عن " مجاهد " - رضي الله عنه - أنه قال: " لا يتعلمُ العلمَ مستحي ٍ ولا مستكبر " (1). وروينا عن " عمر بن الخطاب وابنِه " - رضي الله عنهما - أنهما قالا: " من رقَّ وجهُه رقَّ علمُه ".
ولا يأنف من أن يكتب عمن دونه ما يستفيده منه. روينا عن " وكيع بن الجراح " - رضي الله عنه - أنه قال: " لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقَه وعمَّن هو مثلُه، وعمن هو دونَه ".
وليس بموفقٍ من ضيَّع [73 / ظ] شيئًا من وقته في الاستكثار من الشيوخ لمجرد اسم الكثرة وصيتها. وليس من ذلك قولُ " أبي حاتم الرازي ": " إذا كتبتَ فقمِّش، وإذا حدثتَ ففَتِّشْ " (2).
وليكتبْ وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام، ولا ينتخبْ؛ فقد قال " ابنُ المبارك " - رضي الله عنه -: " ما انتخبتُ على عالم قط إلا ندمت (3) ". وروينا عنه (4) أنه قال: لا يُنتخَب على عالم إلا بذنب. وروينا - أو بلغنا - عن " يحيى بن معين " أنه قال: " سيندم المنتخِبُ في الحديث حين لا تنفعه الندامة ".
فإن ضاقت به الحالُ عن الاستيعاب، وأُحوِجَ إلى الانتقاء والانتخاب، تولى ذلك بنفسِه إن كان أخلا مميزًا عارفًا بما يصلح للانتقاءِ والاختيار. وإن كان قاصرًا عن ذلك، استعان ببعض الحفاظ لينتخب له. وقد كان جماعةٌ من الحفاظِ مُتصدين للانتقاء على الشيوخ، والطلبةُ تسمع وتكتب بانتخابهم، منهم: " إبراهيمُ بن أُرمةَ الأصبهاني، وأبو عبدالله الحسين بن محمد المعروف بِعُبيدٍ العجل ِ، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو بكر الجِعابِيِّ " في آخرين. وكانت العادة جاريةً برسم الحافظِ علامةً في أصل ِ الشيخ على
__________
(1) ذكره البخاري تعليقًا في (باب الحياء في العلم) من كتاب العلم. قال ابن حجر: " و " لا " نافية لا ناهية. ولهذا كانت ميم " يتعلم " مضمومة .. وقول مجاهد هذا؛ وصله أبو نعيم في الحلية من طريق علي ابن المديني عن ابن عيينة عن منصور، عنه. وهو إسناد صحيح على شرط المصنف (فتح الباري 1/ 162).
(2) التقميش، والقمش أيضًا: جمع الشيء من هنا وههنا (التبصرة 2/ 232).
(3) أسند القاضي عياض عن عبدالله بن المبارك، قال: " ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت. ومن بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما أن يموت فيذهب علمه، أو ينساه، أو يتبع سلطانًا ". الإلماع: 218.
(4) من هنا، إلى قوله: [الندامة] في آخر الفقرة، سقط من متن (ص) وقد ألحق منه بهامشه، من قوله: [وروينا أو بلغنا] إلى آخر السقط.(1/431)
ما ينتخبه، فكان " النُّعَيمي أبو الحسن " يُعلِّمُ بِصَادٍ ممدودة، و " أبو محمد الخلال " بطاء ممدودة، و " أبو الفضل الفلكي " بصورةِ همزتين. وكلُّهم يُعلم بِحبر في الحاشية اليمنى من الورقة. وعلَّم " الدارقطني " في الحاشية اليسرى بخطٍ عريض ٍ بالحُمرة. وكان " أبو القاسم اللالكائي الحافظ " يعلم بخط صغير بالحُمرة على أول ِ إسناد الحديث. ولا حَجْرَ في ذلك، ولكِلٍّ الخيارُ.
ثم لا ينبغي لطالبِ الحديثِ، أن يقتصرَ على سماع الحديث وكَتْبِه دون معرفته وفهمه، فيكون قد أتعب نفسَه من غير أن يظفر بطائل، وبغير أن يحصلَ في عِدادِ أهل ِ الحديث، بل لم يزد على أن صار من المتشبهين [74 / و] المنقوصينَ المتحلين بما هم منه عاطلون (1). أنشدني " أبو المظفر بنُ الحافظِ أبي سعد السمعاني " - رحمه الله - لَفْظًا بمدينة " مَرْوَ " قال: أنشدنا والدي لفظًا أو قراءةً عليه، قال أنشدنا محمد بن ناصر السلامي من لفظه، قال: أنشدني الأديبُ الفاضل فارسُ بن الحسين لنفسِه:
يا طالبَ العلم ِ الذي ............... ذهبتْ بمُدَّته الروايه
كنْ في الرواية ذا العنا ............. ية بالروايةِ والدرايه
وارْوِ القليل وراعِهِ .............. فالعلمُ ليس له نهايه
وليقدمْ العناية بالصحيحين، ثم بسنن أبي داوُدَ، وسننِ النسائي، وكتابِ الترمذي؛ ضبطًا لمشكلها وفهما لخفيِّ معانيها. ولا يُخدَعَنَّ عن كتابِ (السنن الكبير للبيهقي) فإنا لا نعلم مثلَه في بابِه. ثم بسائرِ ما تمس حاجةُ صاحبِ الحديث إليه من كتبِ المسانِد (2) (كمسند أحمد) ومن كتب الجوامع المصنفة في الأحكام المشتملة على المسانيد وغيرها، و (موطأُ مالكٍ) هو المقدَّمُ منها (3)، ومن كتبِ علل الحديث، ومن أجْوَدِها: (كتابُ العلل) عن أحمد بن حنبل، و (كتاب العلل) عن الدارقطني، ومن كتب معرفة الرجال وتواريخ
__________
(1) أسند ابن خلاد إلى أبي عاصم النبيل، قال: " الرياسة في الحديث بلا دراية، رياسة نذلة " (المحدث الفاصل 253 ف 161).
(2) في (ص): [المسانيد] وما هنا من (غ، ع).
(3) في التبصرة، عن الخطيب البغدادي: " ثم الكتب المصنفة ككتاب ابن جريج وابن أبي عروبة وابن المبارك وابن عيينة وهشيم وابن وهب والوليد بن مسلم ووكيع وعبدالوهاب بن عطاء وعبدالرزاق وسعيد بن منصور وغيرهم. قال: وأما موطأ مالك فهو المقدم في هذا النوع ويجب أن يبتدأ بذكره على كل كتاب غيره " 2/ 240.(1/432)
المحدِّثين، ومن أفضلها: (تاريخُ البخاري الكبير) وكتابُ (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم)، ومن كتب الضبط لِمُشكِلِ الأسماء، ومن أكمَلِها (كتابُ الإِكمال، لأبي نصر بن ماكولا) (1).
وليكنْ كلما مرَّ به اسمٌ مشكل، أو كلمةُ حديثٍ مشكلةٌ، بحث عنها وأودعها قلبَه؛ فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في يُسْرٍ.
وليكن تحفظه (2) للحديثِ على التدريج قليلا قليلا مع الأيام والليالي؛ فذلك أحْرى بأن يُمتَّع بمحفوظه. وممن ورد ذلك عنه من حُفاظ الحديث المتقدمين: " شعبةُ، وابنُ عُلَيَّةَ، ومَعْمَر " وروينا عن " معمر " قال: " سمعتُ الزهريَّ يقول: من طلب [74 / ظ] العلم جملةً؛ فاتَه جُملةً. وإنما يُدْرَكُ العلمُ حديثًا وحديثين " (3) ز
وليكن الإتقانُ من شأنِه؛ فقد (4) قال " عبدُالرحمن بنُ مهدي ": " الحفظُ الإتقانُ ".
ثم إن المذاكرةَ بما يتحفظه من أقوى أسبابِ الإمتاع به. روينا عن " علقمةَ النخعي " قال: " تذاكروا الحديثَ؛ فإن حياتَه ذِكره ". وعن " إبراهيم النخعي " قال: " مَن سَرَّه أن يحفظ الحديثَ فليُحدثْ به، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه " (5).
وليشتغلْ بالتخريج ِ والتأليفِ والتصنيف إذا استعد لذلك وتأهَّل له؛ فإنه كما قال " الخطيبُ الحافظ ": يُثَبِّتُ الحفظَ (6) ويُذَكي القلبَ ويَشْحَذُ الطبعَ، ويجيد البيانَ ويكشف الملتبس، ويُكسِبُ جميلَ الذكر، ويخلده إلى آخر الدهر. وقلَّ ما يَمْهَرُ في علم الحديثِ ويقفُ على غوامضه ويستبين الخفيَّ من فوائده، إلا من فعل ذلك.
__________
(1) زاد في التبصرة:
في العلل: كتب ابن المديني وأبي علي النيسابوري، والتمييز لمسلم. وفي التاريخ: كتاب ابن معين، وتاريخ خليفة بن خياط، وأبي حسان الزيادي - الحسن بن عثمان - ويعقوب الفسوي وابن أبي خيثمة وأبي زرعة الدمشقي وحنبل بن إسحاق والسراج (2/ 240 - 241).
(2) من (غ، ز، والعراقية) وفي (ص): [حفظه].
(3) بعده في (ص): [والله أعلم].
(4) في (ص): [فقال].
(5) وانظر في كتاب العلم من صحيح البخاري، باب فضل من علم وعلَّم، يليه باب رفع العلم وظهور الجهل (فتح الباري 1/ 128 - 130) وباب الحث على طلب العلم وتعليمه من (الجامع لابن عبدالبر 1/ 58).
(6) من (غ، ع، ز) وسقط من (ص).(1/433)
وحدَّث " الصُّوريُّ الحافظُ، محمد بن علي " قال: " رأيتُ أبا محمد عبدَالغني بن سعيد الحافظ في المنام فقال لي: يا أبا عبدالله، خَرِّجْ وصنِّفْ قبل أن يُحالَ بينك وبينه، هذا أنا تراني قد حِيل بيني وبين ذلك ".
وللعلماء بالحديثِ في تصنيفه طريقتان:
إحداهما: التصنيفُ على الأبواب، وهو تخريجُه على أحكام الفقه وغيرِها، وتنويعه أنواعًا، وجمعُ ما ورد في كلِّ حُكم وكلِّ نوع، في بابٍ فبابٍ.
الثانية: تصنيفُه على المسانيد، وجمعُ حديثِ كلِّّ صحابيٍّ وحدَه، وإن اختلفت أنواعه. ولمن اختار ذلك أن يرتبهم على حروف المعجم في أسمائهم، وله أن يرتبهم على القبائل، فيبدأ ببني هاشم، ثم بالأقربِ فالأقرب نسبًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وله أن يُرتِّبَ على سوابق الصحابةِ، فيبدأ بالعشرة، ثم بأهل ِ بدر، ثم أهل ِ الحديبية، ثم بمن أسلم وهاجر بين الحديبية [75 / و] وفتح مكة، ويختم بأصاغر الصحابة كأبي الطفيل ونُظَرائه، ثم بالنساء، وهذا أحسن، والأولُ أسهلُ. وفي ذلك من وجوه الترتيبِ غيرُ ذلك.
ثم إن من أعلى المراتب في تصنيفه، تصنيفَه معللا؛ بأن يجمعَ في كلِّ حديثٍ طرقَه واختلافَ الرواةِ فيه، كما فعل " يعقوبُ بنُ شيبةَ " في (مُسندِه) (1).
ومما يعتنون به في التأليف جمعُ الشيوخ، أي جمع حديثِ شيوخ مخصوصين، كل واحد منهم على انفراده. قال " عثمانُ بن سعيد الدارمي ": " يقال: من لم يجمع حديثَ هؤلاء الخمسة فهو مُفْلِسٌ في الحديث: سفيان، وشعبة، ومالك، وحماد بن زيد، وابن عُيينة، وهم أصول الدين " (2).
__________
(1) قال الخطيب في ترجمة يعقوب: وصنف مسندًا معللا إلا أنه لم يتممه. قال الأزهري: ولم يصنف يعقوب المسند كله، وسمعت الشيوخ يقولون: لم يتم مسند معلل قط. وبلغني أن يعقوب كان في منزله أربعون لحافًا أعدها لمن كان يبيت عنده من الوراقين لتبييض المسند ونقله، ولزمه على ما خرَّج من المسند عشرة آلاف دينار، قال: وقيل لي إن نسخة بمسند أبي هريرة شوهدت بمصر فكانت مائتي جزء. قلت: والذي ظهر ليعقوب: مسند العشرة، وابن مسعود وعمار وعتبة بن غزوان والعباس، وبعض الموالي. هذا الذي رأينا من مسنده فحسب ".
(تاريخ بغداد: 14/ 281 ت 7575، وتقييد ابن نقطة ل 167 من طريق الخطيب).
(2) ترتيب المدارك (1/ 157) وانظر معه مقدمة ابن أبي حاتم لكتابه (الجرح والتعديل 1/ 10 - 11).(1/434)
وأصحابُ الحديث يَجمعون حديثَ خلقٍ كثير، غير الذين ذكرهم " الدارِميُّ " منهم: " أيوبُ السختياني، والزهري، والأوزاعي ". ويجمعون أيضًا التراجم، وهي أسانيد يخصون ما جاء بها بالجمع والتأليف، مثل: ترجمة مالك عن نافع عن ابنِ عمر، وترجمة سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وترجمة هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، في أشباهٍ لذلك كثيرةٍ. ويجمعون أيضًا أبوابًا من أبواب الكتب المصنفة الجامعةِ للأحكام، فيفردونها بالتأليف فتصير كتبًا مفردة، نحو: باب رؤية الله - عز وجل -، وباب رفع اليدين، وباب القراءة خلف الإمام، وغير ذلك. ويفردون أحاديثَ، فيجمعون طُرقَها في كتب مفرَدة، نحو: طرق حديثِ قبض العلم، وحديثِ الغُسل يومَ الجمعة، وغير ذلك.
وكثيرٌ من أنواع كتابِنا هذا، قد أفردوا أحاديثَه بالجمع والتصنيف.
وعليه في كلِّ ذلك، تصحيحُ القَصْدِ والحذرُ من قصدِ المكاثرة ونحوه. بلغنا عن " حمزةَ بنِ محمد الكِنانيِّ " أنه خرَّج حديثًا واحدًا من نحو مائتي طريق، فأعجبه ذلك، فرأى " يحيى بنَ معين " في منامِه فذكر له ذلك [75 / ظ] فقال له: أخشى أن يدخل هذا تحت " أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ " (1).
ثم ليحذرْ أن يُخرِجَ إلى الناس ما يصنفه، إلا بعد تهذيبه وتحريره وإعادة النظر فيه وتكريرِه، وليتَّقِ أن يجمع ما لم يتأهلْ بعدُ لاجتناءِ ثمرته واقتناص فائدةِ جمعهِ، كيلا يكونَ حُكْمهُ ما رويناه عن " علي ابن المديني " قال: " إذا رأيتَ الحَدَثَ (2) أول ما يكتب الحديثَ يجمع حديثَ الغُسْل ِ وحديثَ: مَنْ كَذب؛ فاكتبْ على قَفَاه: لا يُفلِح ".
__________
(1) أسنده ابن عبدالبر عن حمزة، في باب ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له والتفقه فيه (الجامع 2/ 132) ونقله الذهبي عن ابن عبدالبر بمثل إسناده في الجامع، في ترجمة حمزة بن محمد بن علي الكناني (تذكرة الحفاظ 3/ 933).
(2) في (ص): [الحديث] ولا يصح به السياق، ويعني بحديث: من كذب، الحديث المتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ".(1/435)
ثم إن هذا الكتابَ مَدخلٌ إلى هذا الشأن، مُفصِحٌ عن أصوله وفروعِه، شارع لمصطلحاتِ أهلِه ومقاصدهم ومهماتهم التي ينقص المحدِّثُ بالجهل بها نقصًا فاحشًا، فهو - إن شاء الله - جدير بأن تقدمَ العنايةُ به، ونسأل الله سبحانه فضلَه العظيم *. وهو أعلم (1).
__________
(1) على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغت سماعًا بقراءتي في المجلس السابع عشر.
___________________________________
* في تضمين المحاسن، قال البلقيني:
" وأنواع علوم الحديث ينبغي أن تقدم العناية بمعرفتها. والمدخل في ذلك كتاب ابن الصلاح الذي ضمناه محاسن الاصطلاح " 84 / و.(1/436)
النوع التاسع والعشرون:
معرفةُ الإسنادِ العالي والنازل ِ.
أصلُ الإسناد أولا خصيصةٌ فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسُنَّةٌ بالِغةٌ من السنَنِ المؤكدة. روينا من غير وجهٍ عن " عبدالله بن المبارك " - رضي الله عنه - أنه قال (1): " الإسناد من الدِّين، لولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاء " *.
__________
(1) أسنده مسلم في مقدمة الصحيح (1/ 15) والترمذي في العلل (الجامع 13/ 307) عن عبدان بن عثمان عن ابن المبارك. وأسنده الحاكم أيضًا عن عبدان، عنه (معرفة علوم الحديث 6) والسمعاني في أدب الإملاء 7) عن عبدان عنه أيضًا.
___________________________________
* المحاسن:
" زيادة في (علوم الحاكم) بسنده إلى عُتبةَ بن أبي حكيم، أنه كان عند إسحاق بن أبي فروةَ وعنده الزهريُّ، فجعل ابنُ أبي فروةَ يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابنَ أبي فروة، ما أجرأكَ على الله! ألا تُسنِد حديثَك؟ تُحدِّثنا بأحاديثَ ليس لها خُطُمٌ ولا أزِمَّة؟ (1).
وفي (مقدمة مسلم) أن أبا إسحاق إبراهيمَ بن عيسى الطالقاني قال: [قلت] لعبدالله بن المبارك: يا أبا عبدالرحمن، الحديث الذي جاء " إن من البِر بعد البرِّ أن تصليَ لأبويكَ مع صلاتك، وتصومَ لهما مع صيامك ... ؛ فقال عبدُالله: يا أبا إسحاق، عمن هذا؟ قلت: هذا من حديثِ شهابِ بن خِراش. قال: ثقة، قال عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار. =
__________
(1) المقابلة على (علوم الحاكم: النوع الأول، معرفة عالي الإسناد، وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة). وأخرجه الترمذي في العلل، من طريق علي بن حجر عن بقية بن الوليد عن عقبة بن أبي حكيم (الجامع، العلل 13/ 328) وعلته إرساله. ومعه (أدب الإملاء للسمعاني: 7).(1/437)
وطلَبُ العُلُوِّ فيه، سُنَّةٌ أيضًا (1). ولذلك استُحِبَّت الرحلة فيه، على ما سبق ذكره *. قال " أحمدُ بن حنبل " - رضي الله عنه -: طلبُ الإسنادِ العالي سُنَّةٌ عمن سلف (2). وقد
__________
(1) الحاكم: وفي طلب الإسناد العالي سنة صحيحة (علوم: 6).
(2) أسند الخطيب عن عبدالله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: " طلب علو الإسناد من السنن ". (الرحلة: 98).
___________________________________
= قال: ثقة، عمن؟ قلت: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج [بن دينار] وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مفاوزَ تنقطع فيها أعناقُ المطِيِّ. ولكن ليس في الصدقة اختلافٌ " (1).
وكلام السلفِ في ذلك كثير. انتهت " 84 / ظ.
* المحاسن:
" فائدة: احتج له " الحاكم " بحديث أنس، في حديث الرجل الذي أتي النبي - صلى الله عليه وسلم، الذي فيه: " زعم رسولك " قال " الحاكم ": " هذا حديث مخرج في (مسلم) وفيه دليل على علو الإسناد (2). قال: " وقد رحل في طلب الإسناد، غيرُ واحدٍ من الصحابة " وساق حديثَ خروج " أبي أيوب " إلى " عُقبَة بن عامر " يسأله عن حديث سمعه من رسول الله - لم يبقَ أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره وغير عقبةَ - في ستر المؤمن. وساق القصة، وفيه قال " عقبة ": نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من ستر مؤمنًا على خزية ستره الله يوم القيامة ". فقال له " أبو أيوب ": صدقتَ. ثم انصرف أبو أيوبَ إلى راحلتهِ فركبها راجعًا إلى " المدينة فما أدركته جائزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر " (3). =
__________
(1) المقابلة على مقدمة مسلم للصحيح (1/ 16) وفي علل الترمذي عن ابن المديني، قال: " سألت يحيى بن سعيد عن حكيم بن جُبير، فقال: تركه شعبة من أجل حديث الصدقة ". وذكره (الجامع: 5/ 757).
(2) علوم الحاكم: 5، وحديث أنس - رضي الله عنه - في ك الإيمان من صحيح مسلم، باب السؤال عن أركان الإسلام. وانظر (فتح الباري 1/ 110) على باب القراءة والعرض على المحدث، من ك الإيمان من صحيح البخاري.
(3) المقابلة على (علوم الحاكم: 7) وأخرجه ابن عبدالبر في (الجامع 1/ 94) والخطيب في (الرحلة 118) بلفظ: " من ستر على مؤمن خزية. " وانظر تخريج حديث الستر في (فتح الباري 1/ 128).(1/438)
روينا أن " يحيى بنَ معين " - رضي الله عنه -، قيل له في مرضِه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ قال: بيت خالي وإسناد عالي (1).
__________
(1) كذا رسمه في الأصول، بإثبات ياء المنقوص من [خالي .. عالي].
___________________________________
= وأسند إلى " عَمْرِو بن أبي سلمة " قال: قلت للأوزاعي: يا أبا عمرو، أنا ألزمك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثًا. قال: وتستقِلُّ ثلاثين حديثًا في أربعة أيام؟ لقد سار " جابرُ بن عبدالله " إلى مصر، واشترى راحلةً فركبها، حتى سأل " عقبة بنَ عامر " عن حديث واحدٍ، ثم انصرف إلى المدينة [وأنت مستقل ثلاثين حديثًا في أربعة أيام] (1).
وأسند عن " ابن عمر ": قُلْ لطالبِ الحديث يتخذ نَعْلَين من حديد " (2) وأسند عن " سعيد بن المسيّب ": إنْ كنتُ لأسافرُ مسيرةَ الأيام ِ والليالي في الحديثِ الواحد " (3). وذكر حديثَ الشعبي عن أبي بُردةَ عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَن كانت له وليدة فأدَّبَها .. " وساقه. ثم قال الشعبي [لمن سأله فيها]: " إني أعطيتكها بغير أجر، فلقد كان الراكب يركب فيما هو أدنى من هذا، إلى المدينة " (4) والحديث في (الصحيحين) (5) ولذلك شواهدٌ يطولُ ذكرُها. انتهت " 84 ظ - 85 و.
__________
(1) المقابلة على (علوم الحاكم: 8) وأخرجه ابن خلاد بسنده إلى جابر - رضي الله عنه - في (المحدث الفاصل 223 ف 114) والخطيب في (الرحلة 125). ورحلة جابر - رضي الله عنه - إلى مصر كانت في طلب حديث في القصاص بلغه أن صاحبه في مصر. انظر تخريجه في (فتح الباري 1/ 127) مع حديث جابر في رحلته إلى عبدالله بن أنيس مسيرة شهر، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يحشر الله الناس يوم القيامة عراة " الحديث: ك العلم، باب الخروج في طلب العلم، بالبخاري، مع ترجمة عبدالله بن أُنيس - رضي الله عنه - في (الإصابة، وتهذيب التهذيب).
(2) علوم الحاكم: 9.
(3) علوم الحاكم: 8 بسنده إلى يحي بن سعيد عن ابن المسيب، وأسنده ابن خلاد عن الزهري عن سعيد في (المحدث الفاصل: 332 ف 111) وابن عبدالبر في الجامع 1/ 94 بلفظ: إن كنت لأسير .. وخرّجه. وبهذا اللفظ أيضًا في رواية الخطيب (الرحلة 123) وفي رواية عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، بلفظ: " إن كنت لأرحل " في (فتح الباري 1/ 128).
(4) علوم الحاكم (7). وابن عبدالبر في (الجامع 1/ 93) والخطيب في (الرحلة في طلب الحديث: 140).
(5) الحديث أخرجه البخاري، من رواية الشعبي عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه، يرفعه، في ثلاثة مواضع من الصحيح: ك العلم، باب تعليم الرجل جاريته وأمته (مع فتح الباري 1/ 138): ك العتق =(1/439)
قلت: العُلوُّ يبعد الإسنادَ من الخلل؛ لأن كلَّ رجل من رجاله يحتمل أن يقع الخللُ من جهتِه سهوا أو عمدا. ففي قِلَّتِهم قلة جهاتِ الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهاتِ الخلل، وهذا جليٌّ واضح (1).
ثم إن العُلو المطلوبَ في رواية الحديث على أقسام خمسة:
أولها: القربُ [76 / و] من رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ نظيف غير ضعيف، وذلك من أجلِّ أنواع العلو، وقد روينا عن " محمد بن أسلم الطوسي " الزاهد العالم - رضي الله عنه -، أنه
__________
(1) حاشية ملصقة على (غ): [قال عياض: النزول في الرواية، كالرواية عن الأقران وطبقة المحدث، أو بسند يوجد أعلى منه وأقل رجالا. والصعود: الرواية بالسند العالي والقرب فيه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلة عدد رجاله، أو من إمام مشهور حدث به. هذا هو طريق أهل الصنعة ومذهبهم، وهو غاية جهدهم ... وبمقدار علو حديث الواحد منهم تكثر الرحلة إليه والأخذ عنه، مع أن له في طريق التحقيق والنظر وجهًا وهو أن أخبار الآحاد ورواية الأفراد لا توجب كما قدمنا علمًا ولا يُقطَع على مغيب صدقها؛ لجواز الغفلات والأوهام والكذب، على آحاد الرواة. لكن لمعرفتهم بالصدق ظاهرًا وشهرتهم بالعدالة والستر، غلب على الظن صحة حديثهم وصدق خبرهم، فكلفنا العمل به، وقامت الحجة بذلك بظاهر الأوامر الشرعية، ومعلوم إجماع سلف هذه الأمة، ومغيب أمر ذلك كله لله تعالى. وتجويز الوهم والغلط، غير مستحيل في كل راوٍ ممن سمّي في الخبر، فإذا كثروا وطال السند كثرت مظان التجويز، وكلما قل العدد قلت، حتى أن من سمع الحديث من التابعي المشهور عن الصحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اقوى طمأنينة بصحة حديثه، ثم من سمعه من الصحابي كان أعلى درجة في قوة الطمأنينة وإن كان الوهم والنسيان جائزًا على البشر، حتى إذا سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت أسباب التجويز، وانسدت أبواب احتمالات الوهم وغير ذلك؛ للقطع أنه - عليه السلام - لا يجوز عليه شيء من ذلك في باب التبليغ والخبر، وأن جميع ما يخبر به حق وصدق. والله أعلم].
__________
= باب فضل من أدب جاريته وعلمها. ثم في: ك الجهاد، باب فضل من أسلم من أهل الكتابين (فتح 6/ 88). وأخرجه مسلم مع خبر الخراساني في ك الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته. وفيه أن رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي: يا أبا عمرو، إن من قِبَلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بَدنتَه؟ فقال الشعبي: حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران. وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أَمَة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ".
ثم قال الشعبي: " خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دونَ هذا إلى المدينة ".
ثم أخرج مسلم طرف هذا الحديث، عن الشعبي عن أبي بردة عن أبيه، في كتاب النكاح باب فضيلة عتاقه أمَته ثم يتزوجها (2/ 1043 ح 1428).(1/440)
قال: " قرب الإسناد، قربٌ أو قربةٌ، إلى الله - عز وجل - ". وهكذا كما قال؛ لأن قربَ الإسناد قرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقرب إليه قرب من الله - عز وجل -.
الثاني: وهو الذي ذكره " الحاكم أبو عبدالله الحافظ ": القربُ من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العددُ من ذلك الإمام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). فإذا وُجِد ذلك في إسنادٍ؛ وُصِفَ بالعلوِّ نظرًا إلى قربه من ذلك الإمام، وإن لم يكن عاليًا بالنسبة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكلام " الحاكم " يوهم أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُعَدُّ من العلوِّ المطلوبِ أصلا. وهذا غلط من قائله؛ لأن القرب منه - صلى الله عليه وسلم - بإسنادٍ نظيف غير ضعيف، أوْلَى بذلك، ولا ينازع في هذا مَن له مُسْكَةٌ من معرفة (2). وكأن " الحاكم " أرادَ بكلامه ذلك إثباتَ العلو للإسنادِ لقربه من إمام، وإن لم يكن قريبًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإنكارَ على من يراعي في ذلك مجردَ قربِ الإسناد إلى رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان إسنادًا ضعيفًا، ولهذا مثَّل ذلك بحديث " أبي هُدبةَ، ودينارٍ، والأَشجِّ " وأشباهِهم * والله أعلم.
__________
(1) علوم الحاكم: النوع الأول، 9 - 11.
(2) في الطرة على هامش (غ): [قال وكيع: أي الإسنادين أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله؟ أو: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل، فقال: يا سبحان الله! الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه ومنصور فقيه وإبراهيم فقيه وعلقمة فقيه. وحديث يتداوله الفقهاء، خير من أن يتداوله الشيوخ].
تأتي في فائدة الإمام البلقيني التالية، نقلا من علوم الحاكم. وعلى هامش (غ) أيضًا: [قال القاضي عياض: قرأت بخط الشيخ أبي عمر ابن عبدالبر الحافظ، مما نسبه للقعنبي:
إذا لم يكن خبر صحيح ........................... عن الأشياخ متضح الطريق
فلا ترفع به رأسًا ودعه .......................... فإني ناصح لك يا صديقي
وإسقاط المشايخ من حديث ....................... أشد عليَّ من فقد الشقيق
وما في الأرض خير من حديث ................... له نور بإسناد وثيق]
- بنصه، في (الإلماع: (197 - 198).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ليس في كلام " الحاكم " ما يوهم ما تقدم. كيف، وقد ساق حديث " زعم رسولُك "، وما تقدم؟ وقوله: " فأما معرفة العالية من الأسانيد؛ فليس على ما يتوهمه عوام الناس؛ يعدون الأسانيد، فما وجدوا منها أقربَ عددًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوهمونه أعلى ". =(1/441)
.............................................................................................................................
___________________________________
= يعني " الحاكم " بمجرد العدد من غير معرفة ما يفهم، يعني ولا نظر إلى صحيح ولا ضعيف، وذلك واضح من كلامه. فلا يقال: " وكأن الحاكم " إلى آخر ما قال ابن الصلاح، بل يجزم بذلك. ومثَّل " الحاكم " لنفسه برباعيات - وكلها بِ: أخبرنا - من جهة [أبي الحسن علي بن محمد بن عقبة] الشيباني، عن [الخضر] بن أبان الهاشمي، عن أبي هُدبة عن أنس ٍ " قال: وهذه نسخة عندنا بهذا الإسناد، ومن جهة " أحمدَ بن كامل، عن أحمد بن محمد بن غالب، عن عبدالله بن دينار عن أنَس "، وهي نسخة كبيرة، ومن جهة " الصفار، عن محمد بن مسلمة الواسطي، عن موسى بن عبدالله الطويل عن أنس "، وهي نسخة. قال: " وأعجب من ذلك ما حدثناه جماعة من شيوخنا عن أبي الدنيا، واسمه عثمان بن الخطاب، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. قال: وعلى الجملة قهذه الأسانيد وأشباهها كَـ: " خِراش بن عبدالله، وكثير بن سُلَيم، ويَغْنَم بن سالم بن قَنْبَرَ (1) مما لا يفرحُ بها (2) ولا يُحتج بشيء منها. وقَلَّ ما يوجد في مسانيد أئمة الحديث حديث واحد عنهم. وأقربُ ما يصح لأقراننا من الأسانيدِ بعددِ الرجال، ما حدثونا عن أحمد بن شبيان الرملي: حدثنا سفيان بن عيينة، عن: عمرو بن دينار عن ابن عمر، وعن الزهري عن أنس، وعن عبيدالله بن أبي يزيد عن ابن عباس، وعن عبدالله بن دينار عن ابن عمر، (3) وعن زياد بن علاقة عن جرير. فهذه أسانيد لابن عيينةَ صحيحة، ومن =
__________
(1) يغنم؛ غير منقوط في الأصل، وما هنا في (علوم الحاكم) ولم يضبط في مطبوعته، والضبط للأمير ابن ماكولا: يغنم بياء مفتوحة معجمة باثنتين من تحتها، بعدها غين معجمة ثم نون مفتوحة: خادم الإمام علي - رضي الله عنه -. يروي عن أنس (الإكمال 7/ 358). قال أبو حاتم: مجهول ضعيف الحديث (الجرح والتعديل: أفراء الياء 9/ 314 / 136).
(2) من علوم الحاكم. وتقرأ في أصل المحاسن [يعرج بها].
(3) في مطبوعة (علوم الحاكم): " عن ابن عمرو عن زياد بن علاقة " (ص 10) قلت: تحرير الإسناد كما في المحاسن: عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر، وعن زياد بن علاقة عن جرير. من أسانيد عالية لسفيان بن عيينة. وسفيان من الرواة عن عبدالله بن دينار، أبي عبدالرحمن المدني، مولى ابن عمر، عن ابن عمر، وعنه السفيانان. ت 127 هـ وعن زياد بن علاقة الثعلبي أبي مالك الكوفي - 126 هـ - عن جرير البجلي، وعنه السفيانان.
(تهذيب التهذيب: 5/ 201 / 349، 3/ 380 / 693).(1/442)
.............................................................................................................................
___________________________________
= رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريبة. وكذلك حدثونا [عن جماعة من شيوخنا] عن يزيد بن هارون عن سليمان التيمي عن أنَس ٍ، وعن حميد الطويل عن أنس. قال " الحاكم ": " والعالي من الأسانيد: الذي لا يعرف بالفهم لا بعددِ الرجال؛ فَرُبَّ إسنادٍ يزيد عددُه على السبعة والثمانية إلى العشرة، وهو أعلى من ذلك ". ومثَّل ذلك بحديث: " أربع مَنْ كُنَّ فيه كان منافقًا " وعددُ رواته سبعة: أولهم: " أبو العباس محمد بن يعقوب " والصحابيُّ سابعهُم " عبدالله بن عمرو " (1). قال " الحاكم ": [هذا إسناد صحيح مخرج في مسلم] (2) وهو أعلى من الأربع السابقة ". فإن الغرض فيه القربُ من الأعمش، والحديثُ له، وهو إمام. وبين " الحاكم " وبينه ثلاثة. وكذلك كلُّ إسنادٍ يقربُ من إمام. فإذا صحت الرواية إليه بالعدد والسنين فإنه عال ٍ. روى " الحاكم " عن علي بن خشرم قال (3): " قال لنا وكيع: أي الإسنادين أحبُّ إليكم: الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله؟ أو: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل. فقال: يا سبحان الله! الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ، وسفيان فقيه ومنصور فقيه وإبراهيم فقيه وعلقمة فقيه؛ وحديث يتداوله الفقهاءُ خيرٌ من أن يتداوله الشيوخُ ". ثم روى " الحاكم " عن ابن عمر مرفوعًا: " مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْم " وفي إسناده ستة، وصار عاليًا لِقُربه من =
__________
(1) يقتضي البيان، ذكر سند الحاكم إلى حديث الأعمش: حثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، ثنا عبدالله بن نمير عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله بن عمرو ". (المعرفة: النوع الأول) ص 11.
(2) إضافة من (علوم الحاكم) لا بد منها. فحديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -، مرفوعًا: " أربع من كنَّ فيه كان منافقًا " متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، عن قُبيصة عن عقبة عن سفيان عن الأعمش (فتح الباري 1/ 67) وهو في مسلم (ك الإيمان، باب بيان خصال المنافق ح 106) من طريقين عن عبدالله بن نمير عن الأعمش، كسند الحاكم، ثم من طريق وكيع عن سفيان عن الأعمش.
(3) أخرجه الحاكم عن أبي الطيب محمد بن أحمد المُذَكِّر عن إبراهيم بن محمد المروزي، عن علي بن خشرم. وكذلك أسنده ابن خلاد في (المحدث الفاصل: القول في فضل من جمع بين الرواية والدراية)، عن وكيع (238 ف 139) والخطيب في الكفاية، من طريق أبي الطيب المذكر بسنده عند الحاكم (436).
وذكره الحازمي، مما " حكي عن علي بن خشرم عن وكيع " في الوجه الثالث والعشرين من وجوه الترجيح: أن يكون رواة أحد الحديثين، مع تساويهم في الحفظ والإتقان، فقهاء (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) 39.(1/443)
الثالث: العُلوُّ بالنسبة إلى رواية (الصحيحين) أو أحدِهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمَدة، وذلك ما اشتهر آخِرًا من الموافقات والأبدال والمساواة والمصافحة، وقد كثر اعتناءُ المحدِّثين المتأخرين بهذا النوع. [76 / ظ] وممن وجدتُ هذا النوعَ في كلامه: " أبو بكر الخطيب الحافظ " وبعض شيوخه، و " أبو نصر ابن ماكولا، وأبو عبدالله الحميدي " وغيرُهم من طبقتهم، وممن جاء بعدهم.
أما الموافقة: فهي أن يقع لك الحديثُ عن شيخ ِ " مسلِم " فيه مثلا، عاليًا بعددٍ أقلَّ من العدد الذي يقع لك به الحديث عن ذلك الشيخ إذا رويتَه عن " مسلم "، عنه.
وأما البدل: فمثلُ أن يقع لك مثلُ هذا العلو عن شيخ غير شيخ " مسلم " في ذلك الحديث. وقد يُرَدُّ البدلُ إلى الموافقة فيقال فيما ذكرناه: إنه موافَقة عالية، في شيخ شيخ مسلم. ولو لم يكن ذلك عاليًا فهو أيضًا موافقة وبدَلٌ، لكن لا يطلق عليه اسمُ الموافقة والبدل ِ لعدم الالتفات إليه.
وأما المساواة: فهي في أعصارنا أن يقل العددُ في إسنادك لا إلى شيخ " مسلم " وأمثاله، ولا إلى شيخ شيخه، بل إلى من هو أبعد من ذلك؛ كالصحابي أو مَن قاربه، وربما كان إلى
__________
= هُشَيْم [بن بَشِير وهو أحد الأئمة]؛ لأنه رواه عن علي بن الفضل عن ابن عرفة عن هُشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر (1). قال " الحاكم ": وكذلك كلُّ إسنادٍ يقرب من ابن جُرَيج والأوزاعي ومالك والثوري وشعبةَ بن الحجاج وزُهير وحماد بن زيد، وغيرهم من أئمة الحديث؛ فإنه عال ٍ وإن زاد في عدده بعد ذكر الإمام الذي جعلناه مثالا ".
ولم يقل " الحاكم " إن غيره ليس بعال ٍ، بل أراد بيانَ أن هذا مما يُعَدُّ عاليًا، ردًّا على من يعتقد القصورَ على مجرد العدد كما تقدم. انتهت " 85 / ظ - 86 / و (2).
__________
(1) وحديث " مطل الغني ظلم " بهذا الإسناد العالي للحاكم، من طريق " الحسن بن عرفة ". وهو في (الموطأ: ك البيوع) من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ومعها في الصحيحين رواية معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة: (خ) في باب الحوالة، وفي باب الاستقراض وأداء الديون. (م) في كتاب المساقاة، باب تحريم مطل الغني. وانظر فتح الباري (4/ 312، 5/ 39).
(2) المقابلة على نص " الحاكم " في (معرفة علوم الحديث)، النوع الأول: معرفة عالي الإسناد 9 - 12. وانظر (تدريب الراوي 2/ 167).(1/444)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يقع بينك وبين الصحابي مثلا من العدد، مثلُ ما وقع من العدد بين " مسلم " وبين ذلك الصحابي؛ فتكون بذلك مساويًا لِ " مسلم " مثلاً في قرب الإسناد وعددِ رجاله.
وأما المصافحة: فهي أن تقع هذه المساواةُ التي وصفناها، لشيخِك لا لك، فيقع ذلك لك مصافحةً؛ إذ تكون كأنك لقيتَ " مسلمًا " في ذلك الحديثِ وصافحتَه به؛ لكونِك قد لقيتَ شَيخك المساويَ لمسلم.
فإن كانت المساواةُ لشيخ شيخِك، كانت المصافحةُ لشيخِكَ، فتقول: كأن شيخي سمع مسلِمًا وصافحه. وإن كانت المساواةُ لشيخ شيخ شيخِك، فالمصافحةُ لشيخ شيخِك فتقول فيها: كأن شيخَ شيخي سمع مُسلِمًا وصافحه. ولك أن لا تذكر لك في ذلك نسبةً، بل تقول: كأن فلانًا سمعه من مسلم، من غير أن تقول فيه: [77 / و] شيخي، أو شيخ شيخي.
ثم لا يخفى على المتأمل أن في المساواة والمصافحة الواقعتين لك، لا يلتقي إسنادُكَ وإسنادُ " مسلم " أو نحوه إلا بعيدًا عن شيخ مسلم، فليتقيانِ في الصحابي أو قريبًا منه، فإن كانت المصافحة التي تذكرها ليست لك بل لمن فوقك من رجال إسنادك، أمكن التقاءُ الإسنادين فيها في شيخ مسلم أو أشباهِه، وادخَلت المصافحةُ حينئذ الموافقة؛ فإن معنى الموافقة راجع إلى مساواةٍ ومصافحةٍ مخصوصة؛ إذ حاصلُها أن بعض من تقدم من رُواةِ إسنادك العالي، ساوى أو صافح " مسلمًا او البخاري " لكونِه سمع ممن سمع من شيخِهما، مع تأخر طبقتِه عن طبقتهما. ويوجد في كثير من العوالي المخرجةِ لمن تكلم أولا في هذا النوع وطبقتهم، المصافحاتُ مع الموافقات والأبدال ِ؛ لما ذكرناه.
ثم اعلم أن هذا النوعَ من العُلوِّ علوٌّ تابع لنُزول ٍ؛ إذ لولا نزولُ ذلك الإمام في إسنادِه، لم تعلُ أنت في إسنادك. وكنتُ قد قرأتُ بمروَ على شيخنا المكثر " أبي المظفر عبدالرحيم بن الحافظ المصنف أبي سعد السمعاني " - رحمهما الله - في أربعي " أبي البركات الفراوي " حديثًا ادعى فيه أنه كأنه سمعه هو أو شيخه من البخاري. فقال الشيخ أبو المظفر: " ليس لكَ بعال، ولكنه للبخاري نازل ". وهذا حسن لطيف يخدش وجهَ هذا(1/445)
النوع من العلوِّ * (1). والله أعلم.
الرابع: من أنواع العلوِّ، العلوُّ المستفاد من تقدم وفاة الراوي. مثالُه ما أرويه عن شيخ ٍ أخبرني به عن واحد، عن البيهقي الحافظ عن الحاكم أبي عبدالله الحافظ، أعلى من روايتي لذلك عن شيخ أخبرني به واحدٌ عن أبي بكر ابن خلف (2) عن الحاكم، وإن تساوى الإسنادان في [77 / ظ] العدد؛ لتقدم وفاة " البيهقي " على وفاة " ابنِ خلف " لأن " البيهقي " مات سنة ثمان وخمس ٍ وأربعمائة، ومات " ابنُ خلف " سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وروينا عن " أبي يعلى الخليلي بن عبدالله الخليلي الحافظ " - رحمه الله تعالى - (3)، قال: " قد يكون الإسنادُ يعلو على غيره بتقدم موتِ راويه، وإن كان متساويين في العدد ". ومَثَّلَ ذلك من حديثِ نفسِه بمثل ما ذكرناه.
__________
(1) قال العراقي: " أطلق المصنف أن هذا النوع من العلو تابع للنزول، وليس ذلك على إطلاقه؛ وإنما هو الغالب، وربما يكون هذا النوع غير تابع لنزول، بل يكون عاليا من حديث هذا الإمام أيضًا ". ومثَّل له بحديث رواه الترمذي - في كتاب اللباس: 10 - عن ابن مسعود، يرفعه. ووقع للعراقي من طريق الحسن بن عرفة عاليًا بدرجتين، قال: " فهذا الحديث بهذا الإسناد لا يقع لأحد في هذه الأزمان أعلى منه على وجه الدنيا من حيث العدد. وهو علو مطلق ليس تابعًا لنزول فإنه عال ٍ للترمذي أيضًا " ثم بين علو طريقته: فإن شيخه أبا الفتح الميدومي آخر من روى عن النجيب عبداللطيف الحراني بالسماع، والنجيب آخر من روى عن عبدالمنعم بن كليب بالسماع، وابن كليب آخر من روى عن ابن بيان، وهو آخر من روى عن ابن مخلد، آخر من روى عن الصفار، آخر من روى عن ابن عرفة، وابن عرفة هو آخر من روى عن خلف بن خليفة، وهو آخر من رأى الصحابة؛ فهو علو مطلق ".
(التقييد والإيضاح 258 - 259).
وانظر (فتح المغيث 3/ 18، وتدريب الراوي 2/ 170).
(2) وقع في طبعة العلمية ببيروت 1401 هـ - 1981 م، من علوم الحديث لابن الصلاح: [عن أبي بكر عبدالله بن خلف] ترجيحًا للمحقق د. عنتر، لإحدى النسخ. والصحيح أنه أبو بكر أحمد بن علي بن عبدالله بن خلف الشيرازي النيسابوري مسند خراسان، توفي سنة 487 هـ، وقد نيف على التسعين وانتهى إليه علو الإسناد، وبخاصة ي كتب الحاكم أبي عبدالله إذ كان آخر من سمع منه وفاةً.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يخدش في هذا النوع ما نبه عليه؛ فقد يحصل لا بالنزول؛ بأن تتأخر وفاةُ من سمعه من شيخ " مسلم " مثلا، ويسمع منه من تتأخر وفاتُه. فيحصل لك أنت الموافقةُ، وإن لم يكن هناك لمسلم نزول. انتهت " 87 / و.(1/446)
ثم إن هذا كلامٌ في العلو المنبني على تقدم الوفاة، المستفادِ من نسبةِ شيخ إلى شيخ، وقياس ِ راوٍ براوٍ، وأما العلوُّ المستفادُ من مجرد تقدم وفاة شيخيك، من غير نظرٍ إلى قياسه براوٍ آخر، فقد حَدَّه بعضُ أهل هذا الشأن بخمسين سنة. وذلك ما رويناه عن " أبي علي الحافظ النيسابوري " قال: " سمعتُ أحمدَ بن عُمَيْر (1) الدمشقي، وكان من أركان الحديث، يقول: إسنادُ خمسين سنةً من موت الشيخ، إسنادُ علوٍّ ". وفيما نروي عن " أبي عبدالله ابن منده الحافظ " قال: " إذا مر على الإِسناد ثلاثون سنةً؛ فهو عال ". وهذا أوسعُ من الأولى. والله أعلم.
الخامس: العلو المستفاد من تقدم السماع. أنبئنا عن محمد بن ناصر الحافظ، عن محمد بن طاهر الحافظ، قال: " من العلو تقدمُ السماع ".
قلتُ: وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبله، وفيه ما لا يدخل في ذلك بل يمتاز عنه. مثل أن يسمع شخصان من شيخ واحد، وسماعُ أحدِهما من ستين سنةً مثلا، وسماعُ الآخرِ من أربعين سنةً. فإذا تساوى السندُ إليهما في العدد، فالإِسنادُ إلى الأول الذي تقدم سماعُه أعلى (2).
فهذه أنواع العلوِّ على الاستقصاءِ والإِيضاح الشافي. ولله سبحانه وتعالى الحمدُ كلُّه. والله أعلم.
وأما ما رويناه عن " الحافظ [78 / و] أبي طاهر السلفي " - رحمه الله - من قوله في أبياتٍ له: (3)
بل علوُّ الحديث بين أُولي الحف ............................................. ظ والإتقانِ صحةُ الإِسنادِ
__________
(1) على هامش (ص): [قال المؤلف: ابن عمير هذا، هو ابن جَوْصَا، الحافظ أبو الحسن الدمشقي] 320 هـ عن نحو تسعين سنة.
(2) مثل له الحافظ العراقي في (التبصرة 2/ 260) بأن من سمع سنن أبي داود على الزكي المنذري، أعلى ممن سمعه على النجيب الحراني. ومن سمعه على النجيب أعلى ممن سمعه على ابن خطيب المزة والفخر ابن البخاري، وإن اشترك الأربعة في رواية الكتاب عن شيخ واحد وهو ابن طبرزد - 607 هـ -؛ لتقدم وفاة المنذري 656 هـ، على النجيب 672 هـ، على ابن خطيب المزة 687 هـ والفخر ابن البخاري 690 هـ.
(3) من أبياتٍ ثلاثة أسندها التقي ابن رافع السلامي: قرأت على ست الفقهاء بنت الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن علي الواسطي، أنا جعفر بن علي الهمذاني إجازة، قال: أنشدنا - يعني أبا طاهر -: =(1/447)
وما رويناه عن " الوزيرِ نظام الملك " من قوله: " عندي أن الحديثَ العالي ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن بلغت رواتُه مائةً ". فهذا ونحوُه ليس من قبيل ِ العُلوِّ المتعارَفِ إطلاقُه بين أهل ِ الحديث، وإنما هو علوٌّ من حيث المعنى فحسب. والله أعلم.
فصل: وأما النزولُ فهو ضد العلو. وما من قسم من أقسام العلو الخمسة إلا وضده قسمٌ من أقسام النزول؛ فهو إذًا خمسةُ أقسام، وتفصيلُها يُدرَكُ من تفصيل أقسام العلو، على نحوِ ما تقدم شرحُه.
وأما قول " الحاكم أبي عبدالله ": " لعل قائلا يقول: النزولُ ضد العلو، فمن عرف العلوَّ فقد عرف ضِدَّه، وليس كذلك؛ فإن للنزول مراتبَ لا يعرفها إلا أهلُ الصنعة " إلى آخر كلامه (1)، فهذا ليس نفيًا لكون النزول ضِدًّا للعلو على الوجهِ الذي ذكرتُه، بل نفيًا لكونه يُعْرَفُ بمعرفة العلو. وذلك يليق بما ذكره هو في معرفة العلوِّ؛ فإنه قَصَّرَ في بيانِه وتفصيله. وليس كذلك ما ذكرناه نحن في معرفة العلو؛ فإنه مفصَّلٌ تفصيلا مفهِمًا لمراتبِ النزول. والعلمُ عند الله تبارك وتعالى.
ثم إن النزولَ مفضولٌ مرغوبٌ عنه، والفضيلةُ للعلوِّ على ما تقدم بيانُه ودليلُه. وحَكَى " ابن خلادٍ " عن بعض أهل النظر أنه قال: " التنزلُ في الإِسنادِ أفضلُ " واحتج له بما معناه أنه يجب الاجتهادُ والنظرُ في تعديل كلِّ راوٍ تخريجه، فكلما زادوا كان الاجتهادُ أكثرَ، فكان الأجرُ أكثرَ (2).
__________
= ليس حسن الحديث قرب رجال .......... عند أرباب علمه النُّقَّاد
بل علو الحديث عند أولي الإت ............. قان والحفظ صحةُ الإِسناد
فإذا ما تجمعا في حديث .................... فاغتنمه فذاك أقصى المراد
(فوائد حديثية: 17 /ب) مخطوطة التيمورية.
(1) بعده في علوم الحاكم: " فمنها ما تؤدي الضرورة إلى سماعه نازلا، ومنها ما يحتاج طالب الحديث إلى معرفةٍ وتبحرٍ فيه فلا يكتب النازل وهو موجود بإسناد أعلى منه " - 12.
(2) المحدث الفاصل: (القول في التعالي والتنزل فيه) 216 ف 107 وقال بعد أن حكى الخلاف فيه: " وفي الاقتصار على التنزل إبطال الرحلة وفضلها ". ثم نقل مقالا مسهبًا في الرد على من غضوا من الرحلة في طلبه، جاء فيه:
" تهيبوا كدَّ الطلب ومعالجة السفر، وبعلوا بحفظ الآثار ومعرفة الرجال واختلفت عليهم طرائق =(1/448)
وهذا مذهب ضعيف، ضعيف (1) الحجة. وقد روينا عن " علي ابن المديني، وأبي عَمْرو المستملي النيسابوري " أنهما قالا: " النزولُ شؤم " وهذا ونحوُه مما جاء في ذمِّ النزول ِ، مخصوصٌ [78 / ظ] ببعض ِ النزول؛ فإن النزولَ إذا تعيَّن دونَ العلوِّ طريقًا إلى فائدة راجحة على فائدة العلو، فهو مختار غيرُ مرذول. والله أعلم.
__________
(1) بتكرار في النسخ الأصول.
__________
= الأسانيد ووجوه الجرح والتعديل، فآثروا الدعة واستلذوا الراحة وعادوا ما جهلوا، وعلى المطامع تألفوا وفي المآثم والحطام تنافسوا، وتباهوا في الطيالس والقلانس ولازموا أفنية الملوك وأبواب السلاطين ... واقتصروا على ابتياع صحيفة .... فإن حفظ أحدهم من السنن شيئًا فمن صحيفة مبتاعة كفاه غيره مئونة جمعه وشرحه، من غير رواية لها ولا دراية. فإن تعلق بشيء منها يسير خلط الغث [بالسمين] (ت. ع) والسليم بالجريح .... ولو عرف الطاعنُ على أهل الرحلة مقدار لذة الراحل في رحلته ومشاهدة ما لم ير من عجائب البلدان واختلاف الألسنة والألوان ... لعلم أن لذات الدنيا مجموعة فيها (216 - 217 ف 107 - 108).
Q ( ت. ع) قلت: في الأصل: " بالثمين "، والتصويب من " المحدث الفاصل " (1/ 218). والله أعلم.(1/449)
النوع الموفي ثلاثين:
معرفة المشهورِ من الحديث.
ومعنى الشهرة مفهوم، * وهو منقسم إلى: صحيح، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمالُ بالنيات " **. وأمثالِه، وإلى غير صحيح كحديثِ: " طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلم " ... . وكما بلغنا عن " أحمد بن حنبل " - رضي الله عنه - أنه قال: " أربعةُ أحاديثَ تدور عن
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لم يذكر له ضابطًا. وفي كتب الأصول: المشهورُ - ومنهم من يقول: المستفيض - هو الذي يزيد نَقَلَتُه على ثلاثة. انتهت " 88 / و.
** " فائدة: حديث " إنما الأعمال بالنية " قد تقدم في الشاذِّ أنه مما انفرد به " عُمر " - رضي الله عنه، وعنه " علقمة "، وعن علقمة " محمدُ بنُ إبراهيم "، ومثلُ ذلك كيف يمثل للمشهور؟ وجوابُه أن المراد ما اشتهر، وإن لم يصل نقلتُه في جميع المراتبِ إلى ثلاثة. وتقدم هناك - في النوع الثالث عشر - الكلامُ على من رواه غيرُ عمر. فليُنظر فإن فيه فوائدَ. انتهت " 88 / و.
... " فائدة: المراد ما لم يبلغ رتبةَ الصحيح؛ فإن الحديثَ رُوِيَ بِطُرقٍ، ومنها طريقة في (سُنَنِ ابن ماجه) ليس منها من يوضع عليه النظر غير حفص ِ بن سليمان (1). وقد قال عبدالله بن أحمد: سألتُ أبي عنه؛ فقال: صالح، وعنه تضعيفُه. انتهت " 88 / و.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن (باب فضل العلماء والحث على طلب العلم) (ح 224) عن هشام بن عمار عن حفص بن سليمان عن كثير بن شِنظير عن ابن سيرين عن أنس - رضي الله عنه -، مرفوعا. وفي الزوائد عليه من حاشية السندي، تضعيف حفص بن سليمان. وإن كان للحديث طرق تبلغ رتبة الحسن، جمع السيوطي منها خمسين طريقًا له في جزء. وخرج ابن عبدالبر الحديث من بضعة عشر طريقًا، منها طريق حفص عن ابن شنظير عن ابن سيرين عن أنس (الجامع 1/ 7 - 10) ثم ذكر أقوال العلماء في الحديث. وحفص بن سليمان الأسدي الغاضري هو أبو عمر البزار الكوفي المقرئ، متروك الحديث موثق في القراءة عن عاصم وكان ابن امرأته (تهذيب التهذيب 2/ 100 / 700).(1/450)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق ليس لها أصلٌ: (1) من بشرني بخروج آذار بشَّرتُه بالجنةِ، ومن آذى ذِمِّيًّا فأنا خَصْمُه يومَ القيامة، ونحرُكم يوم صومكم، وللسائل ِ حقٌّ وإن جاء على فرس ٍ " (2) *.
__________
(1) على ورقة ملصقة بهامش (غ) بخط ابن الفاسي: [حديث: " للسائل حق وإن جاء على فرس " خرجه " أبو داود " مسندًا بعد أن بوب (باب حق السائل) ثم قال: ثنا محمد بن كثير، أنا سفيان، ثنا مصعب بن محمد بن شرحبيل، ثني يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين، عن حسين بن علي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " للسائل حق وإن جاء على فرس " ثم قال: " ثنا محمد بن رافع ثنا يحيى بن آدم، ثنا زهير عن شيخ - قال: رأيت سفيان عنده - عن فاطمة بنت حسين، عن أبيها، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثله ". وأورد " الترمذي " معناه ثم قال: " وفي الباب عن علي وحسين بن علي وأبي أمامة ". وقد ذكره " الحافظ أبو عمر ابن عبدالبر في (تمهيده) مسندًا فقال: حدثنا عبدالوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا يحيى بن عبدالحميد، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن مصعب بن محمد، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة ابنة حسين، عن أبيها قال. الحديث. وخرج " مالك " في (الموطأ) عن زيد بن أسلم، مرسلا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطوا السائل ولو جاء على فرس " فهذا الحديث معنى الأول. فقال " ابن عبدالبر ": إن هذا مرسل بلا خلاف بين رواة مالك، والأول مسند كما تقدم].
(2) في تقييد العراقي، أن حديث " للسائل حق " رواه الإمام أحمد نفسه في مسنده. وحديث " من آذى ذِميًّا " رواه الطبراني عن الهرماس بن زياد، وأبو داود من رواية صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم دِنْيَة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسكت أبو داود عليه فهو عنده صالح. وأما حديث " من بشرني بخروج آذار " وحديث " يوم صومكم " فلا أصل لهما (263 - 265).
- يأتي حديث أبي داود في المحاسن. وحديث الموطأ في (الترغيب في الصدقة) مرسلا، عن زيد بن أسلم العدوي، مولاهم، التابعي المدني. وهو الحديث السابع والأربعون لمالك عن زيد، في (التمهيد لابن عبدالبر: 5/ 294) وانظر الحديث الأول في (الفوائد المجموعة للشوكاني): ص 438 ح 1) والحديث الثاني (213 ح 31) والحديث الرابع (65 ح 14، 15) وانظر فيما يلي فائدة المحاسن مع تقييد العراقي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: إدخال مثل هذا في قسم المشهور غير الصحيح، إنما يصح إذا عنى به مطلق الشهرة، لا المشهور عند أهل ِ الحديث. فحديث: " من بشرني بخروج آذار " (1) لا يعرفه المحدِّثُ. وحديث: " من آذى ذميًّا " له في سنن أبي داود أصلٌ في باب (في تعسير أهل الذمة إذا أخلفوا) (2) قال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب =
__________
(1) الموضوعات لابن الجوزي، باب ذكر آذار (2/ 74) والفوائد للشوكاني: 213 ح 31.
(2) من كتاب الخراج في سنن أبي داود (3/ 171).(1/451)
وينقسم من وجه آخر إلى ما هو مشهور بين أهل الحديث وغيرهم، كقوله - صلى الله غليه وسلم -: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " (1) وأشباهِه. وإلى ما هو مشهورٌ بين أهل الحديث خاصة دون غيرهم، كالذي رويناه عن محمد بن عبدالله الأنصاري، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلَزٍ، عن أنس ٍ " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شهرًا بعد الركوع يدعو على رِعْل ٍ وذَكْوانَ " فهذا مشهورٌ بين أهل الحديثِ مخرج في الصحيح، وله رُواةٌ عن " أنس ٍ " غير أبي مجلز، ورواه عن " أبي مجلز " غيرُ التميمي، ورواه عن " التيمي " غيرُ الأنصاري، ولا يَعلم ذلك إلا أهلُ الصنعة، وأما غيرُهم فقد يستغربونه من حيث أن " التيميَّ " يروي
__________
(1) متفق عليه: (خ) في ك الإِيمان، باب أي الإسلام أفضل. (م) الإِيمان، باب تفاضل الإِسلام ح (65/ 41).
___________________________________
= حدثني أبو صخر المديني أن صفوان بن سليم أخبره عن عدة من أبناء أصحابِ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم. دِنيةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَلاَ مَن ظَلَم معاهدًا، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجُه يومَ القيامة " إسنادُه جيد، لولا ما فيه من جهالة الذين أخبر عنهم صفوان بن سليم. فإن " المهري " ثقةٌ، و " ابن وهب " إمام جليل متفق على الإخراج له. و " أبو صخر المديني، حميدُ بن زياد الخراط " قال أحمد ويحيى: ليس به بأس. وقال ابنُ عدي: صالح، ولكن عن يحيى رواية بضعفه.
وحديثُ " نحركم يوم صومكم " لا يُعرَف، ويدور بلفظٍ آخر: " يوم صومكم يوم أول سنَتِكم " وربما يقولون: " سنتكم هذه " والكلُّ لا أصلَ له.
وحديث " للسائل حق وإن جاء على فرس " أخرجه أبو داود في سننه من حديث الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - بإسنادٍ فيه " يعلى بن أبي يحيى " وهو ضعيف، وفي (الأحكام للضياء): ورواه أبو داود، عن علي، ولم أقف على ما قاله " الضياء ". ورواه " ابن قانع " في (معجم الصحابة) من حديث " الهرماس بن زياد ". وهذه الأحاديث وإن لم تبلغ رتبةَ الصحيح ولا الحسن، فمثلُ ذلك لا يقال فيه: ليس له أصل. انتهت " 88 / ظ.(1/452)
عن أنس، وهو [79 / و] ها هنا يروي عن واحدٍ عن أنس (1) *.
ومن المشهورِ، المتواتُرِ الذي يذكره أهلُ الفقه وأصولهِ. وأهلُ الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعرِ بمعناه الخاص **، فإن كان " الحافظ الخطيبُ " قد ذكره ففي كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غيرَ أهل ِ الحديث، ولعل ذلك لكونِه لا تشتمله صناعتُهم ولا يكاد
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في (الوتر: باب القنوت بعد الركوع) من عدة طرق، منها: عن زائدة، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس، ثم في كتاب المغازي، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة، من عدة طرق كذلك، منها عن عبدالله بن المبارك عن التيمي، عن أبي مجلز، عن أنس. وفي تخريجهما قال ابن حجر في الفتح: سليمان التيمي يروي عن أنس نفسه، وعنه بواسطة كما في هذا الحديث (7/ 275) وأخرجه مسلم في ك المساجد (باب استحباب القنوت في جميع الصلاة في النازلة) من رواية المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن أبي مجلز عن أنس (ح 299) ومن طرق أخرى: الأحاديث 297، 298، 300 - 303، 307.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا التقسيم فيه نظر؛ فإنه إن عنى شهرةَ المتن، فالأول صحيح والثاني كذلك، من غير حاجة إلى ذكر ما في السند، وإن عَنَى ما في السند من الدقائق، فلا فرق بين الحديثين. انتهت " 89 / و.
** المحاسن:
" فائدة: لا يقال: فقد ذكره " الحاكم " وكتابه مشحون به، و " ابنُ حزم " في (المُحَلَّى)؛ لأنا نقول: ليس ما ذكراه على الشرط المذكور، إن صح النقلُ عنهما. ولكن قد يوجد معنى التواتر في الأمور المقطوع بها، وإن كان الإسنادُ بالتحديث ونحوِه يَعسر فيه ذلك. انتهت " 89 / و.
__________
- قال العراقي: " وقد اعتُرض على المصنف بأنه قد ذكره الحاكم وابن حزم في المحلى وأبو عمر ابن عبدالبر وغيرهم من أهل الحديث. والجواب عن المصنف أنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص. وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم التعبير عنه بما فسره الأصوليون. وإنما يقع في كلامهم أنه تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو أن الحديث الفلاني متواتر .... وقد يريدون بالتواتر معنى الاشتهار، لا المعنى الذي فسره به الأصوليون ". (التقييد والإيضاح 266).
وانظر (متن النخبة بشرح الملا علي القاري: 39 وفتح المغيث 3/ 40).(1/453)
يوجد في رواياتهم؛ فإنه عبارةٌ عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلمُ بصدقِه ضرورةً، ولا بد في إسنادِه من استمرارِ هذا الشرطِ في رُواته من أوله إلى منتهاه، ومَن سُئل عن إبراز مثال ٍ لذلك فيما يُروَى من الحديثِ أعياه تطلبُه. وحديثُ " إنما الأعمال بالنيات " ليس من ذلك بسبيل ٍ وإن نقله عددُ التواتر وزيادةٌ؛ لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده ولم يوجَدْ في أوائله، على ما سبق ذكره (1). نعم، حديثُ " من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار " نراه مثالا لذلك؛ فإنه نقله من الصحابة - رضي الله عنهم - العددُ الجمُّ، وهو في (الصحيحين) مَرويٌّ عن جماعة منهم، وذكر " أبو بكر البزار، الحافظ الجليل " في (مسنده) أنه رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو من أربعين رجلا من الصحابة. وذكر بعض الحفاظ (2) أنه رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وستون نفسًا من الصحابة وفيهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجنة. قال: وليس لهم الدنيا حديث اجتمع على روايته العشرةُ، غيرَه. ولا يعرف حديثٌ يروى عن أكثر من ستين نفسًا من الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث الواحد *.
__________
(1) وانظر تقييد العراقي (267) وفيه بيان لعلل الطرق التي رُوِيَ بها الحديث، من غير طريق محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر - رضي الله عنه -.
(2) قال العراقي موضحًا: " ما أبهمه المصنف، هو الحافظ ابن الجوزي؛ فإنه ذكر ذلك في النسخة الأولى من (الموضوعات): رواه واحد وستون من الصحابة، ثم ذكر ما روي عن أبي بكر محمد بن عبدالوهاب النيسابوري: إنه ليس في الدنيا ... إلخ. ثم قال ابن الجوزي: إنه ما وقعت له رواية عبدالرحمن بن عوف إلى الآن ". هكذا نقلته من نسخة الموضوعات بخط الحافظ الزكي المنذري، وهذه هي النسخة الأولى من الكتاب، ثم زاد ابن الجوزي في الكتاب المذكور أشياء، وهي النسخة الأخيرة، فقال فيها: رواه من الصحابة ثمانية وتسعون نفسا. هكذا نقلته من خط " علي "ولد المصنف (التقييد والإيضاح 269 - 270).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يزادُ على ذلك: الوضوءُ من مَسِّ الذكَرِ وعدمُه؛ فإنه بلغ عددُ رواته نيفًا وستين صحابيًّا. وكذلك: الوضوءُ مما مست النار وعدمُه، والمسح على الخفين وتوابعه: يبلغان نيفًا وسبعين صحابيًّا. وحديث الحوض، والشفاعة: زاد عددُ رُواتِها على أربعين صحابيًّا. وكذلك حديث النزول، وشبه ذلك؛ لأنا نقول: الوضوء من مَسِّ الذكر وعدمه حديثان، والكلام إنما هو حديث واحد. وكذلك الوضوء مما مسَّت النارُ وعدمه، =(1/454)
قلتُ: وبلغ بهم بعضُ أهل الحديث أكثرَ من هذا العدد، وفي بعض ذلك عددُ التواتُر. ثم لم يزل عددُ رُواته في ازديادٍ وهلم جرًّا، على التوالي والاستمرار (1). والله أعلم (2).
__________
(1) على هامش (غ): [قال ابن جماعة: قيل رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتان من الصحابة].
(2) بلغ مقابلة بالأصل المقابل على أصل السماع، ثم بلغ مقابلة عليه ثانية (غ).
___________________________________
= وكذلك المسحُ على الخُفَّيْنِ وتوابعه، وحديثُ الحوض ِ والشفاعةِ يزيد على الأربعين. والكلام فيما زاد على الستين.
لكن المسح على الخُفَّينِ من غير توابعِه: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعون صحابيًّا، منهم العشرةُ المشهودُ لهم بالجنة، وحديث رفع اليدين: رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعٌ كبير، ويزيد رواته على أربعين. وحديث: " مُرُوا أبا بكر فلُيصلِّ بالناس " رواه الأنصار حين سألهم " عمرُ " عن ذلك، ورواه عدةٌ غير الأنصار، وهذا يزيد على ما سبق. وحديث الأنصار في (مصنف ابن أبي شيبة) (1) بإسنادٍ جيد، وقد بينتُ ذلك كلَّه في (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر منه. انتهت " 89 / ظ.
__________
(1) كتاب الصلوات، الائتمام بالإمام: 2/ 329 - 333.
- وانظر (التقييد والإيضاح: 267 - 270) ومتن النخبة بشرح الملا: 29 - 30، وفتح المغيث 3/ 40).(1/455)
النوع الحادي والثلاثون:
معرفة [79 / ظ] الغريب والعزيزِ من الحديث.
روينا عن " أبي عبدِالله ابن منده الحافظِ الأصبهاني " أنه قال: " الغريبُ من الحديث، كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم، إذا انفرد الرجلُ عنهم بالحديثِ يُسمى غريبًا، فإذا روى عنهم رجلانِ وثلاثة واشتركوا في حديثٍ؛ يسمى عزيزًا، فإذا روى الجماعةُ عنهم حديثًا سُمِّي مشهورًا " (1).
قلتُ: الحديثُ الذي ينفرد به بعضُ الرواة يوصَفُ بالغريبِ، وكذلك الحديثُ الذي ينفرد فيه بعضُهم بأمور لا يذكره فيه غيرُه، إما في متنه وإما في إسناده، وليس كلُّ ما يُعَدُّ من أنواع الأفراد معدودًا من أنواع الغريب، كما في الأفراد المضافة إلى البلاد على ما سبق شرحه.
ثم إن الغريب ينقسم إلى: صحيح، كالأفراد المخرجة في (الصحيح).
وإلى غيرِ صحيح، وذلك هو الغالبُ على الغرائب. روينا عن " أحمدَ بن حنبل " - رضي الله عنه - أنه قال غيرَ مرة: " لا تكتبوا هذه الأحاديثَ الغرائب فإنها مَنَاكيرُ، وعامتُها عن الضعفاء ".
وينقسم الغريبُ أيضًا من وجهٍ آخرَ: فمنه ما هو غريب متنًا وإسنادًا، وهو الحديث الذي تفرد برواية مَتْنِه راوٍ واحد. ومنه ما هو غريب إسنادًا لا متنًا، كالحديث الذي متنُه معروف مرويٌّ عن جماعة من الصحابة، إذا انفرد بعضُهم بروايته عن صحابيٍّ آخرَ كان غريبًا من ذلك الوجه، مع أن متنه غير غريب، ومن ذلك غرائب الشيوخ في أسانيد
__________
(1) انظر متن النخبة: 32.(1/456)
المتون الصحيحة (1)، وهو الذي يقول فيه " الترمذي ": " غريبٌ من هذا الوجه " (2).
ولا أرى هذا النوعَ ينعكس؛ فلا يوجد إذًا ما هو غريب متنًا وليس غريبًا إسنادًا، إلا إذا اشتهر الحديثُ الفرد عمن تفرد به فرواه عنه عدد كثيرون [80 / و] فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا، وغير غريبٍ إسنادًا. لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد، فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول، متصف بالشهرة في طرفه الآخر، كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " وكسائر الغرائب التي (3) اشتملت عليها التصانيفُ المشهورة (4). والله أعلم.
__________
(1) على هامش (غ): [غرائب الصحيح: مالك عن الزهري عن أنس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر " تفرد به مالك عن الزهري. وغرائب الشيوخ كرواية الربيع بن سليمان: أنا الشافعي، أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يَبعْ حاضر لبادٍ " غريب لمالك عن نافع، تفرد به عنه الشافعي، وهما إمامان، لا نعلم من حدث به عنه غير الربيع وهو ثقة مأمون. هكذا وجدته بخط شيخنا فنقلته].
قلت: حديث الإمام مالك في (الموطأ: الحج، باب جامع الحج، ح 247) وقال: ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمًا. قال ابن عبدالبر: وهذا الحديث مما تفرد به مالك عن ابن شهاب الزهري (التجريد 117 خ 362) وحديث الإمام الشافعي في (مسنده جـ 2 من اختلاف الحديث بالأصل العتيق: 2/ 60) وانظر (سنن الدارقطني، وتخريج المغني على هامشه) 3/ 74 ح 281 - 284.
(2) على هامش (غ): [قال الترمذي في آخر كتابه: أما قولي: غريب؛ فمعناه ألا يروى إلا من طريق واحدة. وقد يروى من طريق فيستغرب إذا جاء من طريق منفردة].
جامع الترمذي 13/ 334 مع العارضة.
(3) من (ص، ع) وفي (غ): [الذي].
(4) قال العراقي: استبعد المصنف وجود حديث غريب متنا لا إسنادًا إلا بالنسبة إلى طرفي الإسناد. وأثبت أبو الفتح اليعمري هذا القسم مطلقًا من غير حمل له على ما ذكره المصنف؛ فقال في (شرح الترمذي): الغريب على أقسام: غريب سندًا ومتنًا، ومتنًا لا سندًأ، وسندًا لا متنًا، وغريب بعض السند فقط، وغريب بعض المتن فقط. ثم أشار إلى أنه أخذ ذلك من كلام محمد بن طاهر المقدسي فإنه قسم الغرائب والأفراد إلى خمسة أنواع، خامسها أسانيد ومتون ينفرد بها أهل بلد لا توجد إلا من رواياتهم، وسنن ينفرد بالعمل بها أهل مِصْرٍ، لا يعمل بها في غير مصرهم. ثم تكلم أبو الفتح على الأقسام التي ذكرها ابن طاهر إلى أن قال: وأما النوع الخامس فيشمل الغريب كله سندًا ومتنًا، أو أحدهما دون الآخر " التقييد والإيضاح 273.
قوبل على شرح الترمذي لأبي الفتح اليعمري، المقدمات. مخطوط تركيا، مصورة الزميل السيد الدكتور، محمد الراوندي، الأستاذ بدار الحديث الحسينية بالرباط.(1/457)
النوع الثاني والثلاثون:
معرفة غريبِ الحديث.
وهو عبارة عما وقع في متون الأحاديثِ من الألفاظ الغامضة، البعيدة من الفهم لقلة استعمالها.
هذا فن مُهِم يقبحُ جهلُه بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامةً. والخوضُ فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيقٌ بالتحري جديرٌ بالتوقي.
روينا عن " الميموني " قال: سئل أحمد بن حنبل عن حرف من غريب الحديث، فقال: " سَلُوا أصحابَ الغريب فإني أكره أن أتكلم في قول ِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظنِّ فسأخطئ " (1).
وبلغنا عن " التاريخي، محمد بن عبدالملك " قال: " حدثني أبو قِلاَبة عبدُالملك بن محمد، قال: قلت للأصمعي: يا أبا سعيد، ما معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الجار أحق بِسَقَبِه "؟ فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن العرب تزعم أن السَّقَبَ اللزيقُ " (2).
ثم إن غير واحدٍ من العلماء صنَّفوا في ذلك فأحسنوا، روينا عن " الحاكم أبي عبدالله الحافظ " قال: " أولُ من صنَّف الغريبَ في الإسلام النضرُ بنُ شُمَيْل " (3) ومنهم من خالفه
__________
(1) من (غ، ص، ز) ونقل بهامش (ص): [في نسخة أخرى: فأخطئ] وهي رواية (ع).
(2) على هامش (غ): [السقب: القرب، وهو المراد بالحديث. وقد سقبت داره - بالكسر - وأسقبت، أي قربت، وأسقبتها أنا أي قربتها (الصحاح) زاد ابن الأثير: ويقال بالصاد أيضًا] باب السين مع القاف من كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر).
- وحديث " الجار أحق بسقبه " أخرجه البخاري في كتاب الشفعة باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع (2/ 23) وأبو داود في كتاب البيوع، باب الشفعة، ح 3516 (3/ 286) وابن ماجة في كتاب الشفعة ح: 2495، 2496 (2/ 834).
(3) علوم الحاكم: 88. وانظر (التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة الأصبهاني): 33.
ونقل على هامش (غ): [قال ابن الأثير في (النهاية): أول من صنف في هذا الفن أبو عبيدة معمر =(1/458)
فقال: " أولُ من صنف فيه أبو عبيدةَ مَعْمَرُ بنُ المثَنَّى " وكتاباهما صغيران. وصنف بعد ذلك " أبو عبيدة القاسم بن سلام " كتابَه المشهورَ، فجمع وأجاد واستقصى، فوقع من أهل ِ العلم بموقع جليل، وصار قدوة في هذا الشأن. ثم تتبع " القُتيبي " (1) ما فات " أبا عبيد " فوضع فيه كتابه المشهور، ثم تتبع " أبو سليمان الخطابي " ما فاتهما فوضع في ذلك كتابه المشهور (2). فهذه الكتبُ الثلاثة أمهاتُ الكتبِ المؤلفة في ذلك، ووراءها مجامعُ تشتمل من ذلك على زوائدَ وفوائد كثيرة ولا ينبغي أن يقلد منها إلا ما كان مصنفوها أئمةً جِلَّة.
وأقوى ما يُعتَمدُ عليه في تفسير غريب الحديث، أن يُظفر به مُفَسَّرًا في بعض روايات الحديث، نحو ما رُوِي في حديث " ابن صياد " (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: " قد خبأتُ خبيئًا
__________
= ابن المثنى التيمي، ثم أبو الحسن النضر بن شميل المازني، ثم عبدالملك بن قريب الأصمعي، وكان في عصر أبي عبيدة وتأخر عنه، وكذلك محمد بن المستنير المعروف بقطرب، وجماعة من أئمة اللغة والفقه. ثم أبو عبيد القاسم بن سلام بعد سنة المائتين، ثم أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري. وكذلك في زمانه أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثم جماعة منهم: شمر بن حمدويه، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد، وأبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وأحمد بن الحسين الكندي، وأبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد صاحب ثعلب، وغيرهم من الأئمة، ثم أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البسني، بعد الثلاثمائة والثمانين - رحمه الله -]- 388 هـ (تقييد ابن نقطة) -.
الحاشية منقولة بتلخيص، من مقدمة كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير " مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزري ".
(1) القتيبي: أبو محمد ابن قتيبة، عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ويقال في نسبه أيضًا: القُتبي (تهذيب التهذيب) وليس في اللباب سوى القتبي (3/ 15).
(2) على هامش (غ): " ثم بعد الخطابي، أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي صاحب الإمام أبي منصور الأزهري اللغوي، كان في زمن الخطابي وبعده وفي طبقته. ثم الإمام أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري. ثم الإمام الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر بن أبي عيسى الأصبهاني، ومات سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وفي عصره الإمام الحافظ أبو الفرج عبدالرحمن بن علي الجوزي، ثم ابن الأثير، - رحمهم الله -].
وهذه الإضافة أيضا، تلخيص لما في مقدمة (النهاية لابن الأثير).
قلت: " النضر بن شميل " أولهم، توفي سنة 203 هـ ومن طبقته " أبو بكر الباجدَّائي الحسين بن عياش السلمي، مولاهم، المتوفى سنة 204 هـ، نقل في ترجمته بتهذيب التهذيب: وقال الخطيب: كان أديبًا فاضلا وله كتاب مصنف في غريب الحديث (2/ 362 / 620) وأما من بعد ابن الأثير الجزري المتوفى 606 هـ فقد تابع الشمس السخاوي - 902 هـ - المصنفات في غريب الحديث إلى وقته (فتح المغيث 2/ 185).
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري في الجنائز، باب إذا أسلم الصبي هل يُصلى عليه. والجهاد، كيف يعرض الإسلام على الصبي، والأدب، باب قول الرجل: اخسأ. والفتن، ذكر الدجال.
ومسلم في (الفتن: حديث الدجال ابن صياد).(1/459)
لك فما هو؟ قال: الدُّخ " (1) فهذا خَفِيَ معناه وأعضل، وفسره قوم بما لا يصح، وفي (معرفة علوم الحديث للحاكم) أنه الدَّخ بمعنى الزَّخّ الذي هو الجماع (2)، وهذا تخليط فاحش يغيظ العالمَ والمؤمنَ؛ وإنما معنى الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: قد أضمرت لك ضميرًا فما هو؟ قال: الدخ. بضم الدال، يعني الدخان. والدخ هو الدخان في لغة؛ إذ في بعض روايات الحديث ما نصه: ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني قد خبأت لك خبيئًا " - وخبأ له " يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ " - فقال ابنُ صياد: هو الدُّخ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اخسأ فلن تعدو قدرك " وهذا ثابت صحيح، خرجه الترمذي (3) وغيره، فأدرك " ابن صياد " من ذلك هذه الكلمة فحسب؛ على عادة الكهان في اختطاف بعض الشيء من الشياطين، من غير وقوف على تمام البيان، ولهذا قال له: " اخسأ فلن تعدوَ قدرَك " أي فلا مزيدَ لك على قدرِ إداركِ الكهان. والله أعلم *.
__________
(1) على هامش (غ): [قال ابن الأثير: الدخ بضم الدال وبفتحها هو الدخان. وأنشد:
* عند رواق البيت يغشى الدخا *] (النهاية) وفي مشارق الأنوار: قيل هي لغة في الدخان .. وقيل: أراد أن يقول: الدخان، فزجره النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تمامه فلم يكمله. وقيل: هو نبت موجود بين النخيل، ورجح هذا الخطَّابي وقال: لا معنى للدخان هنا إلا أن يريد بـ: خبأت، أضمرت. قال القاضي عياض: بل الأصح والأليق بالمعنى أنه هنا الدخان " المشارق 2/ 254 وانظر فتح الباري 6/ 105 وشرح النووي للحديث في كتاب الفتن، باب حديث الدجال، من صحيح مسلم، والعراقي في التبصرة 2/ 284.
(2) لم أجده نصا في مطبوعة حيدراباد من (معرفة علوم، الحاكم: الألفاظ الغريبة في المتون) وفيها: " مزخة يزخها " في رجز عن الإمام علي - كرم الله وجهه - (91) ويبدو مبتور السياق. وفي فتح الباري ما نصه: " وقع عند الحاكم: الزخ، بفتح الزاي بدل الدال. وفسَّره بالجماع. واتفق الأئمة على تغليطه في ذلك. ويردّه ما وقع في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: " فأراد أن يقول: الدخان، فلم يستطع، فقال: الدخ؛ على عادة الكهان من اختطاف الكلمة " الفتح 6/ 105.
(3) جامع الترمذي، كتاب الفتن.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قال " أبو موسى المديني ": " السر في أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبأ لابن صياد الدخانَ، أن عيسى - صلى الله عليه وسلم - يقتله بجبل الدخان ". =(1/460)
............................................................................................................................
___________________________________
= وهذا الذي قاله أبو موسى؛ تفريعًا على طريقة من يرى أن ابن صياد هو الدجال. وهذا الذي قاله أبو موسى قد جاء في (مسند أحمد) (1) من حديث أبي الزبير. عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهت " 91 / ب.
__________
(1) في مسند حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لابن صياد: " اخسأ فلن تعدو قدرك " قال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى بن مريم " وانظر في (فتح الباري 6/ 105) اختلاف الروايات فيه.(1/461)
النوع الثالث والثلاثون:
معرفة المسلسَل ِ من الحديث.
التسلسلُ من نعوتِ الأسانيد وهو عبارة عن تتابع رجال ِ الإسناد وتواردهم فيه، واحدًا بعد واحد، على صفةٍ أو حالة واحدة.
وينقسم ذلك إلى ما يكون صفةً للرواية والتحمُّل، وإلى ما يكون صفةً للرواة وحالةً لهم. ثم إن صفاتهم في ذلك وأحوالهم، أقوالا وأفعالا ونحو ذلك (1) تنقسم إلى ما لا نحْصيه. ونوَّعه " الحاكم أبو عبدالله الحافظُ " إلى ثمانية أنواع، والذي ذكره فيها إنما هو صور وأمثله ثمانية (2).
ومثالُ ما يكون صفةً للرواية والتحمل، ما يتسلسل بِـ: سمعت فلانًا قال سمعت فلانًا، إلى آخر الإِسناد، أو ليسلسل بِـ: حدثنا وأخبرنا، إلى آخره، ومن: أخبرنَا والله فلان، قال أخبرنا والله فلان .. إلى آخره *.
ومثالُ ما يرجع إلى صفاتِ الرواةِ وأقوالهم ونحوِها، إسنادُ حديث: " اللهم أعِنِّي على
__________
(1) على هامش (غ): [قال أبو زكريا النواوي: ومنها المسلسل باتفاق أسماء الرواة وآبائهم، وكناهم، وأنسابهم، وبلدانهم. فحديث أبي ذر: " يا عبادي " وقع لي مسلسلا بالبلد؛ كلهم دمشقيون، وأنا دمشقي، وهذا نادر في هذه الأزمان. ومسلسل الفقهاء؛ فقيه عن فقيه، كحديث " المتبايعان بالخيار " ط من خطه - أيده الله -].
متن التقريب مع (التدريب 2/ 188).
(2) علوم الحاكم: النوع العاشر (معرفة المسلسل من الأسانيد) 29 - 34.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ومنه: صُمَّتْ أذناي إن لم أكن سمعتُه ... إلى آخره. انتهت " 91 / و.
__________
- وانظر (التبصرة 2/ 288) وفتح المغيث: 3/ 53 - 58، وتدريب الراوي (2/ 187).(1/462)
شكرِك وذكرِك وحسن عبادتك " المتسلسِل بقولهم: " إني أحبك فقُلْ " (1)، وحديث التشبيك باليد، وحديث العَدِّ في اليدِ *؛ في أشباهٍ لذلك نرويها وتُروَى كثيرة. وخيرُها ما كان فيها دلالة على اتصال ِ السماع وعدم التدليس.
ومن فضيلة (2) التسلسل اشتمالُه على مزيدِ الضبطِ من الرواة، وقلما تسلم المسلسلاتُ
__________
(1) نقل على هامش (غ): [في سنن أبي داود والنسائي عن معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: " يا معاذ، والله إني أحبك .. أوصيك يا معاذ لا تدعنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " وأوصى بذلك معاذ " الصنابحي " وأوصى به الصنابحي " أبا عبدالرحمن ". رواه أبو داود: " ثنا عبيدالله بن عمر بن ميسرة، ثنا عبدالله بن يزيد المقرئ، حدثني حيوة بن شريح، حدثني عقبة بن مسلم يقول: حدثني أبو عبدالرحمن الحُبُلِّي عن الصنابحي عن معاذ ". قال شيخنا: الصنابحي اسمه عبدالرحمن بن عسيلة، قدم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصح في أبي داود من جميع النسخ تقديم: " ذكرك ". كذا وجدته بخطه].
يعني في الدعاء: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ". والحديث في سنن أبي داود، ك الوتر، باب الاستغفار 2/ 86 مسلسلا براويين. وهو في سنن النسائي ك الصلاة، باب الدعاء بعد الذكر (1/ 192) غير مسلسل.
(2) على هامش (غ): [قال الشيخ تقي الدين: وفائدة التسلسل أمران:
أحدهما: أنه قد يكون اقتداء بما فعله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن يكون مفيدًا لاتصال الرواية وعدم انقطاعها إذا كانت السلسلة تقتضي ذلك، كسمعت وأطعمني وسقاني، ونحوه].
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: كذا مثَّل لصفة الرواة ومثالهم. وليس في المثال إلا ذكر الأقوال والأفعال، وليس فيه ذكرُ صفةٍ تتعلق بالرواة.
ومثالُ المسلسَل بصفةٍ تتعلق بالرواة كأن يكونوا فقهاء، كما وقع في حديث " البَيِّعان بالخيار " (1) أو من البلد الفلانية، ونحوها من اتفاق الأسماء وغير ذلك. انتهت " 91 / ب.
__________
(1) انظر تخريجه ورواته في (فتح الباري 4/ 225 - 226: بيوع) وتقييد العراقي: 227، وكشف الخفا 1/ 346.(1/463)
من ضعف، أعني في وصفِ التسلسل لا في أصل المتن. ومن المسلسَل ِ ما ينقطع تسلسله في وسطِ إسنادِه، وذلك نقص فيه. وهو كالمسلسل بِـ: أول حديث سمعته، على ما هو الصحيح في ذلك *. والله أعلم.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: الأنواع الثمانية التي تقدم أن " الحاكم " ذكرها:
أولها: حديث مسلسل بِـ: سمعت.
ثانيها: مسلسل ب: قُم فصُبَّ عليَّ حتى أُريكَ. مسلسل بذلك من منصور إلى ابن مسعود، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قم فصبَّ عليَّ حتى أريك وضوء جبريل " وذكر: ثلاثًا ثلاثًا.
وثالثها: فيه الإخبارُ في أول السند، والسماعُ في آخره.
ورابعها: مسلسل بـ: أمرني، خُرِّج من طريق حُسين [بن ذيال] الجعفي، قال: " قال رجل للحسن بن صالح: أمسح على الخفين؟ قال: نعم. قال: فإن قال لي ربك: من أمرك بهذا؟ فقال: قل: الحسن بن صالح (1) قال: فإن قيل لك أنت؟ قال: أقول: أمرني منصور بن المعتمر. قال: فإن قيل لمنصور؟ قال: يقول: أمرني إبراهيم. قال: فإن قيل لإبراهيم؟ قال: يقول: أمرني همام بن الحارث. قال: فإن قيل لهمام؟ قال: يقول: أمرني جرير، قال: فإن قيل لجرير؟ قال: يقول: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
وفي عدِّ هذا النوع الذي ذكره " الحاكم " من المسلسل ِ نظر؛ فإن هذا قول شخس واحد وذلك يمكن في كلِّ حديث الآن؛ فليس هذا من المسلسل في شيء. =
__________
(1) في علوم الحاكم: قل: الحسن ابن حي.
وهو الحسن بن صالح، بن صالح بن مسلم بن حيان، حيّ بن شفي، الهمداني الكوفي العابد الفقيه (بخ م 4) توفي سنة 169 هـ (تهذيب التهذيب: 2/ 285 / 516).(1/464)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وخامسها: حديثُ أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يجد العبدُ حلاوة الإيمان حتى يؤمنَ بالقدَرِ خيرِه وشره وحُلوِه ومُرِّه " قال: " وقَبَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على لحيتِه وقال: آمنتُ بالقدر خيره وشره وحلوه ومُرِّه " قال: وقبضَ " أنَس " على لحيتِه وقال ذلك، وأخذ " يزيد الرقاشي " بلحيتِه وقال ذلك، وأخذ " شهابُ بن خِراش " بلحيتِه وقال ذلك، وأخذ " سعيد الآدم " بلحيته وقال ذلك، وأخذ " سليمان بن شعيب الكاساني " (1) بلحيته وقال ذلك، وأخذ " يوسفُ بن عبدالواحد " بلحيته وقال ذلك، وأخذ " الزبير [بن عبدالواحد] شيخ الحاكم " بلحيته وقال ذلك، وأخذَ " الحاكم " بلحيته وقال ذلك.
سادسها: مسلسل بالعَدِّ من " الحاكم " إلى " عليٍّ "، قال: " عَدَّهن في يدي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: عدَّهن في يدي جبريل عليه السلام وقال جبريل: هكذا نزلت بهن من عند ربِّ العزة " فذكر: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وذكر: اللهم باركْ، كذلك: اللهم ترحمْ، كذلك: اللهم وتحنن، كذلك: اللهم وسلم، كذلك: وقبض خمسَ أصابعه ". وفيه تسلسل منقطع.
وسابعها: مسلسل بـ: " شهد علي " من أبي بكر محمد بن داود بن سليمان الصوفي فيسلسل إلى: إني شهدت على ابن عباس، إني شهدت على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، أنه قال: " كُل ِ السمكةَ الطافيةَ ".
وثامنها: مسلسل بالتشبيك، من الحاكم إلى أبي هريرة، قال أبو هريرة: شبك بيدي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - وقال: " خلق الله الأرض يوم السبت " فذكره. انتهت " (2). 91 / ظ - 92 / و.
__________
(1) في مطبوعة الحاكم: " الكسائي ".
(2) المقابلة على علوم الحاكم: النوع العاشر (المسلسل من الأسانيد) (29 - 34) وفيها أسانيده كاملة. وقال بعد مسلسلاته الثمانية: " فهذه أنواع المسلسل من الأسانيد المتصلة التي لا يشوبها تدليس، وآثار السماع بين الراويين ظاهرة. غير أن رسم الجرح والتعديل عليها مُحَكَّم. وإني لا أحكم لبعض هذه الأسانيد بالصحة، وإنما ذكرتها ليستدل بشواهدها عليها إن شاء الله ". وانظر (تقريب النووي 2/ 188 وتقييد العراقي 277، وفتح المغيث 3/ 55 - 57، وتدريب الراوي 2/ 188).(1/465)
النوع الرابع والثلاثون:
[81 / ظ] معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه.
هذا فنٌّ مهم مستصعب. روينا عن " الزهري " - رضي الله عنه - أنه قال: " أعيا الفقهاءَ وأعجزهم أن يعرفوا ناسخَ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه " (1) وكان للشافعي - رضي الله عنه - فيه يد طولَى وسابقة أولى؛ روينا عن " محمد بن مسلم بنِ وَاره " أحد أئمة الحديث، أن " أحمد بن حنبل " قال له وقد قدم من مصر: " كتبتَ كُتبَ الشافعي؟ قال: لا. قال: فرطتَ؛ ما علمنا المجملَ من المفسر، ولا ناسخَ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه، حتى جالَسْنا الشافعيِّ " (2).
وفيمن عاناه من أهل الحديث، مَن أدخل فيه ما ليس منه؛ لخفاء معنى النسخ وشرطِه، وهو عبارة عن: رفع الشارع ِ حُكْمًا منه متقدمًا بحكم منه متأخرٍ (3) وهذا حدٌّ وقع لنا، سالم من اعتراضاتٍ وردتْ على غيره *.
__________
(1) قول الزهري، أسنده الحازمي إليه، في (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار: 18).
وعلى هامش (غ): [قال عباد بن كثير: كان أعلمهم - يعني التابعين - بناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنسوخه إبراهيم النخعي] الفقيه، إمام العراق، ت 95 هـ. وعباد بن كثير الرملي، توفي في حدود السبعين ومائة.
(2) الحازمي، بإسناده إلى ابن واره: 19 وانظر أبواب الناسخ والمنسوخ في (رسالة الشافعي).
(39 وانظر حد النسخ عند الحازمي (18) ونقله العراقي في (التقييد والإيضاح (278) ووصل ابن حجر هذا النوع بمختلف الحديث وقال في الحديثين يختلفان: " إن لم يمكن الجمع بينهما فلا يخلو أن يعرف التاريخ فإن ثبت به المتأخر أو بأصرح منه نصًّا فهو الناسخ .. والنسخ رفع تعلقحكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه، والناسخ ما دل على الرفع المذكور. وتسميته ناسخًا مجاز لأن الناسخ في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى " النخبة: 101.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وينبغي أن يقال: رفع الشارع حُكْمًا منه متقدمًا متعلقًا بالمحكوم عليه، =(1/466)
ثم إن ناسخ الحديثِ ومنسوخَه ينقسم أقسامًا (1):
فمنها ما يُعرفُ بتصريح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به، كحديثِ " بُرَيدةَ " الذي أخرجه " مسلم " في صحيحه (2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كنت نهيتكم عن زيارةِ القبورِ فزوروها " في أشباهٍ لذلك.
ومنها ما يعرف بقول ِ الصحابيِّ، كما رواه " الترمذي " (3) وغيره، عن " أُبَيِّ بن كعب " - رضي الله عنه - أنه قال: " كان الماءُ من الماءِ رخصةً في أول الإسلام، ثم نُهِيَ عنه " *. وكما خرجه " النسائي " (4) عن " جابر بن عبدالله " قال: " كان آخر الأمرين
__________
(1) الأقسام فيما يلي، ذكرها الحازمي في (أمارات النسخ: 26 - 29) من مقدمات كتابه الاعتبار.
(2) صحيح مسلم، الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة قبر أمه. وانظره عند الحازمي (29، 246) وفيهما تخريجه.
(3) جامع الترمذي: ك الطهارة، باب ما جاء في أن الماء من الماء (11/ 84 مع عارضة الأحوذي) وانظره في (اعتبار الحازمي: 65) وفيها تخريجه.
(4) سنن النسائي، ك الطهارة وسننها (1/ 199 - 200) ح 609 مع كتاب الحازمي: 99، وفيها تخريجه.
___________________________________
= بحكم منه متأخر؛ ليخرج بذلك تخفيفُ الصلاة ليلةَ الإسراء من خمسين إلى خمس؛ فإنه لا يُسمَّى نسخًا؛ لِعدَم ِ تعلقه بالمحكوم عليهم؛ لعدم بلاغِه لهم.
وأما في حقه - صلى الله عليه وسلم - فمحْتَمل، إلا إن لُمِحَ أنه إنما يتعلق بعد البيان، وهي غير مسألة النسخ قبل وقتِ الفعل؛ لوجود التعلق بخلاف البيان. انتهت " 92 / ظ.
* المحاسن:
" فائدة: هو في (سنن أبي داود) (1) بإسنادٍ جيد متصل. وفي المسألة حديثٌ عن " عائشة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك ولا يغتسل، وذلك قبل فتح مكة، ثم اغتسل بعد ذلك. خرجه " ابن حبان " في صحيحه. وقد بسطت القول على ذلك كله في (العرف الشذي على جامع الترمذي) فلينظر منه. انتهت ".
__________
(1) ك الطهارة، باب في الإكسال: ح 214 (1/ 45). وانظر حديث عائشة - رضي الله عنها -، في الناسخ والمنسوخ للحازمي (29) من حديث الزهري عن عروة بن الزبير، عنها، وسنن الدارقطني، باب نسخ قوله: الماء من الماء (ح 2: 1/ 129).(1/467)
من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مَسَّت النارُ " في أشباه لذلك.
ومنها ما عُرِفَ بالتاريخ، كحديثِ " شدَّادِ بن أوس " وغيرِه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أفطر الحاجمُ والمحجومُ " وحديثِ " ابن عباس ": " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[82 / و] احتجم وهو صائم ". فبيَّن " الشافعيُّ " أن الثاني ناسخ للأول، من حيث أنه رُوِي في حديثِ " شداد " أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - زمانَ الفتح فرأى رجلا يحتجمُ في شهر رمضان فقال: " أفطر الحاجم والمحجوم " ورُوِيَ في حديث ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو مُحْرِم صائم؛ فبان بذلك أن الأولَ كان زمنَ الفتح في سنة ثمانٍ، والثاني في حِجَّة الوداع في سنة عَشر * (1).
__________
(1) الحازمي 267 ومعه (ذكر خبر يصرح بالنسخ: 268) و (ذكر خبر يدل على الرخصة، والغالب أن الرخصة لا تكون إلا بعد النهي) - 269.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: من قال: المسافرُ له أن يفطرَ بما شاء، فاحتجامُه [صلى الله عليه وسلم]- وهو محرم - كان وهو مسافر؛ ففطرُه لبيانِ الجواز لا لرفع حُكْم.
يقال له: سبقك إلى هذا " ابنُ خُزيمةَ " حكاه عنه " الحاكم " فقال في (مستدركه): ثبتت الأحاديثُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أفطر الحاجم والمحجوم " فقال بعض من خالفنا في هذه المسألة: لا يفطر؛ لحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم صائم. ولا حجة له في هذا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما احتجم وهو محرم صائم في السفر؛ لأنه لم يكن محرمًا مقيمًا ببلده، والمسافر إذا نوى الصومَ؛ له الفطر بالأكل والشربِ والحجامة وغيرها، فلا يلزم من حجامته ألا يفطر، فاحتجم وصار مفطرًا، وهو جائز (1).
وهذا الكلام حكاه " الخطَّابي " في (المعالم) وقال: " هذا تأويل باطل؛ لأنه قال: احتجم وهو صائم، فأثبت له الصيامَ مع الحجامة، ولو بطل صومُه بها لقال: أفطر بالحجامة، كما يقال: أفطر بالأكل. ولا يقال: أكل وهو صائم " (2). =
__________
(1) المستدرك لأبي عبدالله الحاكم: الصوم (1/ 429) ح 1.
(2) قابل على معالم السنن باب المحرم يحتجم (1/ 180).(1/468)
ومنها ما يعرفُ بالإجماع، كحديثِ قتل شاربِ الخمر في المرة الرابعة، فإنه منسوخ؛ عُرفَ نسخُه بانعقاد الإجماع على تركِ العمل به (1)، والإجماعُ لا يَنسخُ ولا يُنسَخُ، ولكن يدل على وجودِ ناسخ غيره *. والله أعلم بالصواب.
__________
(1) الحازمي: باب نسخ القتل في حد السكران (366) وفيها تخريجه. وانظر تقييد العراقي (280).
___________________________________
= وهذا الذي قاله " الخطابي " حسن، ويعضد النسخَ أحاديثُ من طريق أبي سعيد وأنس ٍ وغيرهما، بسطتُها في (العرف الشذي على جامع الترمذي). وللإمام الشافعي أجوبة عن أحاديثِ " أفطر الحاجم والمحجوم " غير ما سبق. وكذلك للخطابي، والبيهقي، وهي مبسوطة في موضعها. انتهت " 93 / و.
* المحاسن:
" فائدة وزيادة: ما حكاه " ابنُ حزم " عن عبدالله بن عمرو بن العاص من أن شاربَ الخمر يقتل في المرة الرابعة، وكذلك قولُ " ابن المنذر ": " أُزيل القتلُ عن الشاربِ في المرة الرابعة بإجماع عوام أهل العلم، إلا شاذًّا من الناس " لا يُعَدُّ خلافًا ولا يقدح فيما تقدم؛ لأن الرواية عن عبدالله بن عمرو بن العاص إن لم تصح فلا قدحَ، وإن صحتْ فقد جاء الإجماعُ بعدها، وهو يرفع الخلافَ على طريقة مشهورة في الأصول، ولا سيما مع ندرة المخالفِ فإنه يُقَوِّي إدعاءَ الإجماع. وقول " ابن المنذر ": " بإجماع عوام أهل العلم " واستثنائه شاذًّا، موصوف بأنه لا يعد خلافًا. ومن مثل ِ معرفة النسخ بالإجماع، الحديثُ الذي رواه أبو داود في (سننِه) من حديث " أم سلمة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لوهبِ بن زمعه ورجل آخر: " إن هذا يوم رُخِّص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة، أن تحلوا - يعني من كل ما حرمتم منه إلا النساءَ - فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حُرُمًا كهيئتِكم قبل أن ترموا الجمرة، حتى تطوفوا به " (1) وإسناده جيد، وإن كان فيه محمدُ بنُ إسحاق؛ لكنه صرَّح بالتحديث. فهذا مما أجمع العلماء على ترك العمل به. وأشباه ذلك قليلة، وأما قول الصحابي: هذا ناسخ؛ فلا يؤثَر عن الأكثر؛ لأنه قد يكون سندُه الاجتهادَ. =
__________
(1) سنن أبي داود، ك المناسك، باب الإفاضة في الحج ح 1999 (2/ 207).(1/469)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ولو قال هذا، قيل: هذا قبلُ؛ لأنه مجرد رواية. إلا إذا كان في متواترين، ففيه توقُّف لتعارض دليل ِ المنع ودليل ِ قبول ِ قولِه. أما دليلُ المنع فإنه يتضمن نسخ المتواتر بقول ِ الواحدِ وهو غير جائز. وأما دليل القبول؛ فهو أن النسخ لا يكون بخبر الواحد، بل بالمتواترِ، وخبرُ الواحد معين للناسخ لا ناسخ. والأخذ بهذا الثاني ... (1) [يدل] (ت) على ذلك. وذلك مبسوط في موضعِه من الأصول. انتهت " 93 / ظ - 94 / و.
__________
(1) مطموس في الأصل. ونقله السخاوي عدا الفقرة الأخيرة، وفيها موضع المطموس (فتح المغيث 3/ 65).
وأخرجه البخاري وفي سنده محمد بن إسحاق، في (جزء رفع اليدين للصلاة: 13).
قال العراقي: " قول المصنف: عُرف نسخه بالإجماع، فيه نظر؛ من حيث إن ابن حزم خالف في ذلك. إلا أن يقال: إن خلاف الظاهرية لا يقدح في الإجماع. وقد ذكر أبو الفتح اليعمري في شرح الترمذي، أنه رُوي ذلك أيضًا عن عبدالله بن عمرو. والله أعلم. ومع الإجماع على خلاف العمل به، فقد ورد النسخ لذلك كما قال الترمذي من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن شرب الخمر فاجلدوه، فإن شرب الرابعة فاقتلوه، قال: ثم أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله ". وكذا روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا، قال: فرُفع القتل، وكانت رخصة. ولم يجعل أبو بكر الصيرفي من أئمة الشافعية الإجماع دليلا على تعيين المصير للنسخ، بل جعله مترددًا بين النسخ والغلط، قال في كتابه (الدلائل): " فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو غلط والآخر ثابت ". وما قاله محتمل. والله أعلم " (التبصرة 2/ 94 - 295).
وحديث الزهري عن قبيصة أخرجه أبو داود في الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر ح 4485 (4/ 165).(1/470)
النوع الخامس والثلاثون:
معرفة المصحَّف من أسانيدِ الأحاديث ومتونِها.
هذا فنٌّ جليل إنما ينهض بأعبائه الحُذَّاقُ من الحُفَّاظِ، و " الدارقطني " منهم. وله فيه تصنيف مفيد. وروينا عن " أبي عبدالله أحمد بن حنبل " - رضي الله عنه - أنه قال: ومن يَعْرَى من الخطأ والتصحيف؟ (1).
فمثالُ التصحيف في الإِسناد: حديثُ شعبةَ عن العوَّام بنِ مُراجِم، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها ". الحديث؛ صحف فيه " يحيى بنُ معين " فقال ابن مزاحم، بالزاي والحاء، فرُدَّ عليه؛ وإنما هو " ابن مراجم ": بالراء المهملة والجيم (2).
ومنه ما رويناه عن " أحمدَ بن حنبل " قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة، عن مالك بن عُرفُطَة، عن عبدِ خيرٍ، عن عائشة: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[82 / ظ] نهى عن الدُّبَّاء والمُزَفَّت " (3) وقال أحمد: " صحَّف شعبةُ فيه، وإنما هو خالد بن علقمة " وقد رواه
__________
(1) وقاله أبو أحمد العسكري في كتابه المشهور (التبصرة 2/ 296).
(2) في العلل للدارقطني، وسئل في هذا الحديث؛ فقال بعد تخريجه عن أصحاب شعبة: إن أبا علي الصواف حدثه عن عبدالله بن أحمد عن أبيه قال: ثنا أبو قطن، عن شعبة، عن العوام بن مراجم. فقال له يحيى بن معين: إنما هو ابن مزاحم. فقال أبو قطن: عليه وعليه - أو قال: ثيابه للمساكين - إن لم يكن ابنَ مراجم. فقال يحيى: حدثنا به وكيع وقال: ابن مزاحم. فقلت أنا: حدثنا يحيى، عن شعبة عن العوام بن مراجم. فسكت يحيى " وهو الصواب (العلل 1/ 80 - 81) وممن نبه على التصحيف (الحاكم في المعرفة 149، والأمير في الإكمال 7/ 241، والهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 352).
(3) مسند أحمد: عبد خير عن عائشة (6/ 172) وأما حديثها - رضي الله عنها - في (الأشربة للإمام أحمد: 256) فمن غير رواية عبد خير.(1/471)
" زائدةُ بن قدامة " (1) وغيرُه على ما قاله أحمد *.
__________
(1) سنن أبي داود، طهارة، صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم (ح 111).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: أبو عوانة الوضاح تابع شعبةَ على ذلك. كما ذكره ابن العبد عن أبي داود، وفي صحيح الدارمي متابعة حسن بن عقبة المرادي أيضًا، فلا تفرد إذًا ولا وهم على شعبة؛
لأنا نقول: الأصل في ذلك هو شعبة، وأبو عوانة تابع شعبة في وهمه لخوفه منه. وفي (الكمال) في ترجمة أبي عوانة، حكاية عن احمد ويحيى، ثم قال: " وكان أبو عوانة مع ثقته وأمانته يفزع من شعبة، فأخطأ شعبة في حديث الوضوء، وروى عن: الحكم - بن عتيبة الكندي - عن خالد بن عرفطة " وفيه أمران: أحدهما: أن شعبة رواه من غير ذكر الحكم. والآخر: أنه قال: إن شعبة سماء خالد بن عرفطة، وكذا وقع في (العلل للدارقطني) وإنما سماه: مالك بن عرفطة. وفي (التهذيب) في ترجمة خالد بن علقمة: " وسماه شعبة مالك بن عرفطة فوهم في اسمه واسم أبيه. لكنه في رواية ابن العبد عنه، قال أبو داود: إن أبا عوانة قال يوما: حدثنا مالك بن عرفطة، عن عبد خير. فقال له أبو عمرو الأغضف: رحمك الله يا أبا عوانة، هذا خالد بن علقمة، ولكن شعبة يخطئ فيه. فقال أبو عوانة: هو في كتابي: خالد بن علقمة، ولكن قال شعبة: مالك بن عرفطة. قال أبو داود: ثنا عمرو بن عون، ثنا أبو عوانة، ثنا مالك بن عرفطة. وسماعه قديم - يعني سماع ابن عون من أبي عوانة - قال أبو داود: ثنا أبو كامل، ثنا أبو عوانة، ثنا خالد بن علقمة، وسماعه متأخر. كأنه بعد ذلك رجع إلى الصواب. وهذه الحكاية التي ذكرها أبو داود تدل على أن أبا عوانة كان أولا يقول: خالد بن علقمة، على ما هو في كتابه، ثم إنه خالف شعبة فقال ما قال: ثم رجع إلى الصواب. ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي عوانة عن خالد بن علقمة. قال النسائي: " مالك بن عرفطة خطأ، والصواب خالد بن علقمة ". وأما متابعة حسن بن عقبة التي ذكرها الدارمي - طمس من أثر عرق أو رطوبة - " واعلم أن إدخال مثل ذلك في نوع التصحيف فيه نظر؛ فخالد لا يتصحف =(1/472)
وبلغنا عن " الدارقطني " أن ابن جرير الطبري قال فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني سليم: " ومنهم عُتبة بن البُذَّر " قاله بالباء والذال المعجمة، وروى له حديثًا؛ وإنما هو " ابن النُدَّر " بالنون والدال غير المعجمة (1).
ومثال التصحيف في المتنِ: ما رواه " ابنُ لهِيعةَ " عن كتاب " موسى بنِ عُقبةَ " إليه، بإسناده عن زيد بن ثابت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في المسجد - وإنما هو بالراء - " احتجر في المسجد، بخُصٍّ أو حصير، حجرةً يصلي فيها " فصحّفه " ابنُ لهيعة " لكونه أخذه من كتابٍ بغيرِ سماع، ذكر ذلك " مسلم " في كتاب (التمييز) له (2).
__________
(1) " نقله عن ابن جرير الطبري غير واحد، آخرهم ابن الصلاح في علوم الحديث، وجزموا بأنه تصحيف " ابن حجر في ترجمة عتبة بن الندر: تهذيب التهذيب 7/ 102 (220).
(2) أسنده مسلم رواية ابن لهيعة بهذا الوهم الفاحش. ثم أخرج الحديث بالرواية الصحيحة وقال: " وابن لهيعة إنما وقع في الخطأ من هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ذكر، وهي الآفة التي تخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو عرض ٍ عليه ". (التمييز 139 - 140 ط جامعة الرياض).
وانظر حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - من طريق موسى بن عقبة، في الصحيحين: البخاري في باب صلاة الليل، وكتاب الأدب (فتح الباري 2/ 146، 10/ 495) ومسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته (213/ 781).
___________________________________
= بمالك، ولا علقمة بعرفطة، إلا ببُعدٍ. وإنما يحمل مثل ذلك على الوهم. ولعلهم يطلقون على مثل ذلك تصحيفًا على معنى أنه قلب عن الصواب فيه، أو تجوزًا كما سيأتي. انتهت " 94 و - 95 و.
__________
قلت: نحوه في ترجمة خالد بن علقمة بتهذيب التهذيب.
وحديث صفة وضوئه - صلى الله عليه وسلم - في (سنن أبي داود): عن أبي عوانة عن خالد بن علقمة عن عبد خير (ح 111) وعن زائدة عن خالد بن علقمة عن عبد خير (112) وعن شعبة عن مالك بن عرفطة عن عبد خير (ح 113) 1/ 27 - 28.
وفي سنن الدارقطني، في الباب: عن زائدة عن خالد بن علقمة عن عبد خير (ح 1) 1/ 89 وفي علل الدارقطني: " وسئل عن حديث عبد خير عن علي في المسح على الخف فقال: وأما شعبة فوهم في اسم خالد بن علقمة فسماه خالد بن عرفطة ".
وحديث زائدة عن خالد بن علقمة عن عبد خير، وحسن بن عقبة المرادي مثله، في (سنن الدارمي: المضمضة) 1/ 178.(1/473)
وبلغنا عن " الدارقطني " في حديثِ أبي سفيان عن جابر قال: " رُميَ أُبيٌّ يومَ الأحزاب على أكحلِه، فكواه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال فيه: أَبِي، وإنما هو " أُبَيُّ بنُ كعب " (1) وفي حديثِ أنس: " ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذَرَّة " قال فيه شُعبة: ذُرَة (2)، بالضم والتخفيف، ونُسِب فيه إلى التصحيف (3) وفي حيدثِ أبي ذر: " تُعينَ الصانعَ " قال فيه " هشامُ بن عروة " بالضاد المعجمة، وهو تصحيف، والصوابُ ما رواه " الزهري ": الصانع، بالصاد المهملة، ضدُّ الأخرق (4).
وبلغنا عن " أبي زُرعة الرازي " أن يحيى بنَ سلام - هو المفسر - حدَّث عن سعيد بن أبي عَروبة عن قتادة في قوله تعالى (5): [83 / و] " سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ " قال: " مِصْر " واستعظم أبو زُرْعةَ هذا واستقبحه، وذكر أنه في تفسير سعيد عن قتادة: " مَصِيرَهم " (6).
وبلغنا عن " الدارقطني " أن محمد بن المثنى أبا موسى العَنَزي، حدث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يأتي أحدُكم يوم القيامة ببقرةٍ لها خُوار " فقال فيه: " أو شاةٍ تَنْعَرُ " بالنون. وإنما هو: تَيعر، بالياء المثناة من تحت (7). وأنه قال لهم يومًا: " نحن قوم لنا شرف، نحن من
__________
(1) حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -، في صحيح مسلم، ك السلام، باب لكل داء دواء (ح 74/ 2207) رُمِيَ أُبيّ يوم الأحزاب " الحديث. انظر الوهم فيه في (مشارق الأنوار: 1/ 60) مع ترجمة " عبدالله بن عمرو بن حرام الأنصاري الخزرجي - والد جابر رضي الله عنهما - وقد استشهد يوم أحد، ولم يدرك الأحزاب (الإصابة ق أول من العين: 4829).
(2) حديث أنس - رضي الله عنه -، في صحيح مسلم، ك الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (ح 325) وذكر مسلم عن يزيد بن زريع أحد رجال السند، قال: صحف فيها أبو بسطام، شعبة.
والحديث في البخاري ك الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، ونقل ابن حجر في فتح الباري عليه (1/ 78) ما قاله مسلم.
(3) حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، في (البخاري، ك العتق، باب أي الرقاب أفضل، وفي مسلم، ك الإيمان، كون الإيمان أفضل الأعمال (ح 136).
(4) انظر بيان الوهم فيه، في (مشارق الأنوار (2/ 47، وفتح الباري 5/ 90 - 91).
(5) وقع في تصفيح نسخة (غ) هنا: 103 بدلا من 83 / و.
(6) الطبري، عن قتادة، في تفسير الآية 145 من سورة الأعراف (9/ 41).
(7) في الصحيحين من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - يرفعه (البخاري في الأيمان والنذور، وفي الأحكام، ومسلم في الإمارة، هدايا العمال) انظر بيان التصحيف في " تيعر " في (مشارق الأنوار 1/ 133، وفتح الباري 13/ 134، والتنبيه على حدوث التصحيف لحمزة الأصبهاني: 36 ط بغداد).(1/474)
عَنزةَ، قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا " يريد ما رُوِيَ " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى عَنَزةٍ " (1) توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العَنَزَةُ ها هنا: حربة نُصِبتْ بين يديه فصلَّى إليها.
وأظرفُ من هذا ما رويناه عن " الحاكم أبي عبدالله " عن أعرابي زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صَلَّى نُصِبتْ بين يديه شاة أي عَنْزَة. صحفها، بإسكان النون *.
وعن " الدارقطني " أيضًا أن أبا بكر الصولي أملى في الجامع حديثَ أبي أيوب: " من صام رمضانَ وأتْبَعه سِتًّا من شوال " فقال فيه: شيئًا، بالشين والياء (2). وأن " أبا بكر الإسماعيلي الإمام " كان فيما بلغهم عنه يقول في حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكهان (3): " قر الزجاجة " بالزاي، وإنما هو " الدجاجة " بالدال. وفي حديث يُروَى عن " معاوية بن أبي سفيان " قال: " لعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يُشقِّقون الخُطَبَ تشقيقَ الشِّعْر "، ذكر " الدارقطني " عن وكيع أنه قاله مرة بالحاء المهملة، وأبو نعيم شاهد، فردَّه عليه بالخاء المعجمة المضمومةِ. وقرأتُ بخَطِّ مصنِّفٍ أن " ابنَ شاهين " قال في جامع المنصور في الحديث: " إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تشقيق الحَطَبِ " فقال بعضُ الملاحين:
__________
(1) الحاكم في معرفة علوم الحديث 148. والحديث في الصحيحين في سترة المصلي.
(2) تصحيف لحديث استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لشهر رمضان، في صحيح مسلم. بيان التصحيف في (المشارق 2/ 206، والتبصرة 2/ 26).
(3) في البخاري، ك الطب، باب الكهانة (في فتح الباري اختلاف الرواية فيه 10/ 171) وفي الأدب، باب قول الرجل للشيء ليس بشيء (فتح 10/ 452): قرَّ الزجاجة، ومسلم في ك السلام (باب تحريم كلام الكهان ح 123).
قال القاضي عياض: لم تختلف الرواية فيه في مسلم، واختلفت في البخاري فرواه بعضهم الزجاجة بالزاي، مضمومة وكذا جاء للمستملي وابن السكن وعبدوس والقابسي، في كتاب التوحيد وفي مواضع أخر. وللأصيلي: الدجاجة. وخرجها القاضي عياض على الروايتين (المشارق 1/ 254) وقال ابن حجر: ووقع في رواية المستملي: الزجاجة بالزاي مضمومة وأنكرها الدارقطني وعدها في التصحيف. لكن وقع في حديث (الباب / ذكر الملائكة في كتاب بدء الخلق): فيقرها في أذنه كما تقر القارورة. وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء. قال الطيبي بأن ذكر الدجاجة أنسب. قلت: ويؤيده قول الدارقطني وهو إمام الفن. فلا أقل من أن تكون أرجح (فتح الباري 10/ 171).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ووجه الخطأ أنه اعتقد الإسكان في النون، ثم نقل ذلك إلى شاة. انتهت " 95 / ظ.(1/475)
يا قوم، فكيف نعمل والحاجةُ ماسَّة؟ (1).
قلت: فقد انقسم [83 / ظ] التصحيفُ إلى قسمين: أحدهما في المتنِ والثاني في الإسناد.
وينقسم قسمةً أخرى إلى قسمين: أحدهما: تصحيف البصر، كما سبق عن " ابن لهيعة " وذلك هو الأكثر. والثاني: تصحيف السمع، نحو حديثٍ لـ " عاصم الأحول " رواه بعضُهم فقال: عن واصل الأحدب. فذكر " الدارقطني " أنه من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر (2)، كأنه ذهب - والله أعلم - إلى أن ذلك مما لا يشتبه من حيث الكتابة، وإنما أخطأ فيه سمعُ من رواه.
وينقسم قسمة ثالثةً إلى: تصحيفِ اللفظ وهو الأكثر، وإلى تصحيفٍ يتعلق بالمعنى دون اللفظ، كمثل ِ ما سبق عن " محمد بن المثنى " في الصلاة إلى عنَزَةَ.
وتسمية بعض ما ذكرناه تصحيفًا، مجازٌ. والله أعلم.
وكثير من التصحيف المنقول عن الأكبار الجِلَّة لهم فيه أعذار لم ينقلها ناقلوه. ونسأل الله التوفيق والعصمة، هو أعلم.
__________
(1) تصحيف " الخطب " - جمع خطبة، بضم الخاء المعجمة - بالحطَب.
(2) انظر العراقي في التبصرة: 2/ 300، 301.(1/476)
النوع السادس والثلاثون:
معرفة مختلِف الحديث.
وإنما يكمل للقيام به الأئمةُ الجامعون بين صناعتي الحديثِ والفقه، الغوَّاصون على المعاني الدقيقة *.
اعلم أن ما يُذكَر في هذا الباب ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يمكنَ الجمعُ بين الحديثين، ولا يتعذر إبداءُ وجهٍ ينفي تنافِيهما. فيتعين حينئذ المصيرُ إلى ذلك، والقولُ بهما معًا. ومثالُه: حديثُ " لا عدوى ولا طِيرة " مع حديث: " لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ "، وحديث " فِرَّ من المجذوم فرارَكَ من الأسد " (1).
__________
(1) نقل على هامش (غ): [قوله: " لا يورد ممرض على مصح " بكسر الراء والصاد منهما. ومفعوله محذوف، أي لا يورد إبله المراض. والممرض والمصح: صاحب الإبل الصحاح والمراض. المعنى: لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على صاحب الإبل الصحاح. نقلته من كلام شيخنا - أيده الله -، وخطه بيده].
وهو نحو ما في شرح الحديث بصحيح مسلم، والمشارق (1/ 377).
[قوله " فر من المجذوم " رواه البخاري. وفي مسلم: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنا قد بايعناك فارجع " قال عياض: " وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل مع مجذوم، وقال له: كل؛ ثقة بالله وتوكلا عليه. وعن عائشة قالت: " كان لنا مولى مجذوم، فكان ينام في فراشي ويأكل في صحافي ويشرب في أقداحي " قال: وذهب " عمر " وغيره من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ. قال: وقيل: يجمع بينهما بأنه فعله بيان للجواز، وأن النهي ليس للتحريم. هو قول الطبري. وقال الباجي: هو بمعنى الإباحة، أي إذا لم تصبر على هذا أو كرهت مجاورته، فيباح لك الفرار منه. من خطه - أيده الله -]. =
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا النوع من أهم الأنواع. وأجلُّ ما صُنِّفَ في ذلك: كتابُ (اختلف الحديث) للإمام الشافعي - رضي الله عنه -. وهو مدخل عظيم في هذا النوع. انتهت " 96 / و.(1/477)
وجهُ الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تُعدِي بطبعها، ولكن الله - تبارك وتعالى - جعل مخالطة المرِيض بها للصحيح سببًا لإعدائه مرضَه. ثم قد [84 / و] يتخلف ذلك عن سببِه كما في سائر الأسباب. ففي الحديث الأول نَفى - صلى الله عليه وسلم - ما كان يعتقده الجاهلُ من أن ذلك يُعدي بطبعِه، ولهذا قال: " فمن أعدى الأوَّلَ؟ " (1) وفي الثاني أعْلَمَ بأن الله - سبحانه - جعل ذلك سببًا لذلك، وحذر من الضرر الذي يغلب وجودُه عند وجودِه، بفعل ِ الله - تبارك وتعالى -. ولهذا في الحديث أمثال كثيرة (2).
وكتاب (مختلف الحديث، لابن قُتَيبة) في هذا المعنى، إن يكن قد أحسن فيه من وجه، فقد أساء في أشياءَ منه قَصُرَ باعُه فيها، وأتى بما غيرُه أوْلى وأقوى. وقد روينا عن " محمد بن إسحاق بنِ خزيمة " الإمام أنه قال: " لا أعرف أنه رُوِيَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثان بإسنادين صحيحين متضادان، فمن كان عنده فلْيأتني به لأؤلف بينهما " (3).
القسم الثاني: أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، وذلك على ضربين:
أحدهما: أن يظهر كونُ أحدهما ناسخًا والآخر منسوخًا؛ فيُعمَلُ بالناسخ ويُتْرك المنسوخ.
__________
= انظر صحيح البخاري، ك الطب: باب في الجذام. وباب لا عدوى ولا صفر. وفي فتح الباري جمع لرواياته والأقوال فيه (10/ 122 - 126) ومعه أيضًا، الفتح 10/ 132 وفي صحيح مسلم: كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة .. ولا يورد ممرض على مصح (4/ 1752) ح 2231.
(1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا عدوى ولا صفر ولا هامة " فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها؟ فقال: " فمن أعدى الأول؟ ". متفق عليه، واللفظ واحد. أخرجه البخاري في الطب، ومسلم في السلام.
(2) توسع شراح الصحيحين والمصنفين على ابن الصلاح في توجيه ظاهر الخلاف بين الحديثين، منهم القاضي عياض والنووي في شرح مسلم، وابن حجر في (فتح الباري شرح صحيح البخاري، وفي شرح النخبة) وابن دقيق العيد في البرهان، والعراقي في التقييد وفي التبصرة، والسخاوي في (فتح المغيث) والسيوطي في (تدريب الراوي) والمسألة معروضة بتفصيل في (معاني الآثار للطحاوي 4/ 303 - 314) باب الرجل يكون به الداء هل يجتنب أو لا؟
(3) أسنده الخطيب إلى أبي بكر ابن خزيمة، في (الكفاية، باب تعارض الأخبار ووجوه الترجيح بينها: 433 - 437) وقابل على علوم الحاكم، في النوع التاسع والعشرين: (معرفة سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعارضها مثلها).(1/478)
الثاني: ألا تقوم دلالة على أن الناسخ أيهما والمنسوخ أيهما؛ فيُفزَع حينئذ إلى الترجيح ويُعْمَلُ بالأرجح منهما والأثبتِ، كالترجيح بكثرةِ الرواة أو بصفاتهم، في خمسين وجهًا من وجوه الترجيحات وأكثر (1)، ولتفصيلها موضعٌ غيرُ ذا *. والله سبحانه أعلم.
__________
(1) قال العراقي: اقتصر المصنف على هذا المقدار من وجوه الترجيح. وتبع في ذلك الحازميَّ فإنه قال في (كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ): " ووجوه الترجيحات كثيرة، أنا أذكر معظمها " فذكر خمسين وجهًا ثم قال: " فهذا القدر كاف في ذكر الترجيحات، وثم وجوه كثيرة أضربنا عن ذكرها كي لا يطول به هذا المختصر " قال العراقي: ووجوه الترجيحات تزيد على المائة، وقد رأيت عدَّها مختصرًا فأبدأ بالخمسين التي عدها الحازمي، ثم أسرد بقيتها على الولاء ".
ومضى في سردها فبلغ بها إلى الوجه العاشر بعد المائة ثم قال: " وثم وجوه أخرى للترجيح في بعضها نظر. وفي بعض ما ذُكِرَ نظر أيضًا، وإنما ذكرت هذا أيضا منها لقول المصنف أن وجوه الترجيح خمسون فأكثر. والله أعلم " التقييد والإيضاح 286 - 289 وقوبل على الاعتبار للحازمي (20 - 29).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: محل بيانها كتب أصول الفقه، وفيها باب معقود لذلك فلينظره من يريد الخوض فيه. انتهت " 96 / ظ.(1/479)
النوع السابع والثلاثون:
معرفةُ المزيدِ في متَّصل ِ الأسانيد.
مثالُه ما رُوِي عن " عبدالله بن المبارك " قال: أخبرنا سفيانُ عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، قال حدثني بُسْرُ بنُ عبيدالله (1)، قال سمعت أبا إدريس (2) يقول: سمعت واثلةَ بنَ الأسقع يقول: سمعت أبا مرثد الغَنوي (3) يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تجلسوا على القبورِ ولا تُصَلُّوا إليها ".
فذِكْرُ سُفيانَ في هذا الإسنادِ، زيادة ووَهْم، وهكذا ذِكْرُ أبي إدريس؛ أما الوهم في ذِكْرِ " سفيان " فممن دونَ ابنِ المبارك؛ لأن جماعة ثقاتٍ روَوه عن ابن المبارك عن ابن جابر نفسه، ومنهم من صرَّح فيه بلفظِ الإخبار بينهما. وأما ذِكْرُ " أبي إدريس " فيه فابنُ المبارك منسوب فيه إلى الوهم؛ وذلك لأن جماعةً من الثقات روَوه عن " ابن جابر " فلم يذكروا أبا إدريسَ بين بُسْر وواثلةَ. وفيهم من صرَّح فيه بسماع ِ بُسْرٍ من واثلة. قال " أبو حاتم الرازي ": " يُرَون أن ابن المبارك وهِمَ في هذا ". قال: " وكثيرًا ما يُحدِّثُ بُسْرٌ عن أبي إدريس، فغلط " ابنُ المبارك " وظنَّ أن هذا مما رُوِيَ عن أبي إدريس عن واثلة، وقد سمع هذا بُسْرٌ من واثلةَ نفسِه ".
قلت: قد ألَّف " الخطيبُ الحافظ " في هذا النوع كتابًا سماه (كتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد) وفي كثيرٍ مما ذكره نظر؛ لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد، إن كان بلفظ " عن " في ذلك فينبغي أن يُحكم بإرساله، ويُجعَلَ مُعلَّلاً بالإِسناد الذي ذُكِرَ فيه الزائد
__________
(1) [بسر بن عبيدالله الحضرمي الشامي. روى له الجماعة] من هامش (غ). روى عن واثلة بن الأسقع وأبي إدريس الخولاني. وعنه عبدالرحمن بن يزيد بن جابر وغيره. قال أبو مسهر: هو أحفظ أصحاب أبي إدريس (تهذيب التهذيب).
(2) [أبو إدريس: عائذ الله بن عبدالله الخولاني] من هامش (غ).
(3) [أبو مرثد كناز بن الحصين الغنوي. صحابي. ليس له في (مسلم) سوى هذا الحديث الواحد. وليس له في البخاري شيء. وهذا الحديث رواه مسلم عن ابن حجر عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن جابر عن بسر بن عبيدالله عن واثلة عن أبي مرثد] (غ) - يأتي حديثه عند مسلم، فيما يلي.(1/480)
لما عُرِفَ في نوع المعلل، وكما يأتي ذكره - إن شاء الله تعالى - في النوع الذي يليه. وإن كان فيه تصريح بالسماع أو بالإخبار كما في المثال الذي أوردناه، فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل، عنه، ثم سمعه منه نفسه فيكون " بُسْرٌ " في هذا الحديث قد سمعه من " أبي إدريس، عن واثلة " ثم لقي " واثلةَ " فسمعه منه، كما جاء مثلُه مصرَّحًا به في غير هذا. اللهم إلا أن توجد قرينة تدل على كونِه وَهْمًا، كنحوِ ما ذكره " أبو حاتم " في المثال المذكور. وأيضًا فالظاهرُ ممن وقع له مثلُ ذلك [85 / و] أن يذكر السماعَيْنِ، فإذا لم يجئ عنه ذكرُ ذلك؛ حملناه على الزيادة المذكورة *. والله أعلم.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قال " الدارقطني ": " زاد ابنُ المبارك في إسناد هذا الحديث أبا إدريس الخولاني، ولا أحسبه إلا أدخل حديثًا في حديث؛ لأن وُهَيْبَ بن خالد رواه عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن بُسر بن عبيدالله عن أبي إدريس عن أبي سعيد. ولم يذكر في (العلل) هذا، وذكر أن " بِشر بن بكر " رواه عن ابن جابر بإدخال أبي إدريس، كما رواه " ابنُ المبارك " قال: " ورواه وهيبُ بن خالد عن ابن جابر بإسناد آخر، عن القاسم بن مُخَيمِرة عن أبي سعيد، ولم يتابَعْ عليه. والصحيحُ حديثُ واثلة عن أبي مرثدَ ".
وما ذكره " الدارقطني " من أن الصحيح حديثُ واثلة عن أبي مرثَد، قد سبقه إليه " أبو حاتم " كما سبق، و " الترمذي " صريحًا؛ حيث عقبَ على رواية الوليد بن مسلم التي فيها ذِكر أبي إدريس بقوله: وهذا الصحيحُ، وقال الترمذي: قال البخاري: " حديثُ ابنِ المبارك أخطأ فيه وزاد فيه: عن أبي إدريس ". ولم يذكر أحد من أصحاب الكتب الستة حديثَ ابن المبارك الذي فيه إدخالُ أبي إدريس، غير مسلم والترمذي؛ مسلم عن الحسن بن الربيع، عن ابن المبارك، والترمذي عن هناد بن السري عنه، وعن محمد بن بشار عن عبدالرحمن بن مهدي، عنه. وأما إدخالُ سفيانَ؛ فلم يُخرجْه أحد من أصحاب الكتبِ الستة. انتهت " 97 / و - ظ.
__________
- حديث أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه -، مرفوعًا: " لا تجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها " أخرجه مسلم في (كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه) بإسنادين: حدثني علي بن حجر السعدي، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، عن بسر بن عبيدالله عن واثلة، عن أبي مرثد. =(1/481)
.............................................................................................................................
___________________________________
__________
= وحدثني الحسن بن الربيع، عن عبدالله بن المبارك، عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيدالله، عن أبي إدريس الخولاني، عن واثلة، عن أبي مرثد ". وفي جامع الترمذي أبواب الجنائز، ما جاء في كراهية الوطء على القبور والجلوس عليها والصلاة إليها: حدثنا هناد، حدثنا عبدالله بن المبارك عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن بسر بن عبيدالله عن أبي إدريس الخولاني عن واثلة عن أبي مرثد - فذكره - وفي الباب عن أبي هريرة وعمرو بن حزم وبشير بن الخصاصية. حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن مهدي، عن عبدالله بن المبارك، بهذا الإسناد نحوه. حدثنا علي بن حجر وأبو عمار قالا: أخبرنا الوليد بن مسلم عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن بسر عن واثلة عن أبي مرثد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وليس فيه: عن أبي إدريس، وهذا هو الصحيح. قال محمد - هو البخاري -: وحديث ابن المبارك خطأ؛ أخطأ فيه وزاد فيه: عن أبي إدريس الخولاني؛ وإنما هو: بُسر عن واثلة. هكذا رَوى غير واحد عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر، وليس فيه: عن أبي إدريس. وبسر بن عبيدالله قد سمع من واثلة بن الأسقع " (جامع الترمذي 4/ 270 مع العارضة.
- وانظر (فتح المغيث 3/ 79 - 82، وتدريب الراوي 2/ 205).(1/482)
النوع الثامن والثلاثون:
معرفة المراسيل الخفيِّ إرسالها.
هذا نوع مُهِمٌّ عظيم الفائدة، يُدرَك بالاتساع في الرواية، والجمع لطرقِ الأحاديث، مع المعرفة التامة. " وللخطيبِ الحافظ " فيه (كتاب التفصيل ِ لِمُبهَم ِ المراسيل).
والمذكور في هذا الباب، منه ما عُرِفَ فيه الإرسالُ بمعرفةِ عدم السماع من الراوي فيه أو عدم اللقاء، كما في الحديث المرويِّ عن العوَّام بن حوْشَب، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال بلال: قد قامت الصلاة؛ نهض وكبر " رُوِيَ فيه عن " أحمدَ بن حنبل " أنه قال: العوامُ لم يلق ابنَ أبي أوفى (1).
ومنه ما كان الحكم بإرساله مُحَالا على مجيئه من وجه آخر بزيادةِ شخص واحد أو أكثرَ، في الموضع المدَّعَى فيه الإرسالُ، كالحديث الذي سبق ذكرُه في النوع العاشر، عن عبدالرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق، فإنه حُكِمَ فيه بالانقطاع والإرسال ِ بين عبدالرزاق والثوري؛ لأنه رُوي عن عبدالرزاق، قال: " حدثني النعمانُ بن أبي شيبةَ الجَنَدي (2)، عن الثوري عن أبي إسحاق ". وحكم أيضًا فيه بالإرسال بين الثوري وأبي إسحاق؛ لأنه رُوِي عن الثوري عن شريك عن أبي إسحاق.
[وما رواه (3) بكر بن بكار وغيره عن المسعودي عن عبدالكريم بن مالك الجزري عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عَلِيٍّ: " أمرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[85 / و] أن أتصدق بلحوم البُدْنِ وجلالِها وجلودِها " فهذا قد حُكم فيه بالإرسال بين عبدالكريم الجزري وابن
__________
(1) رواه أبو الشيخ - أبو محمد عبدالله بن محمد بن جعفر بن حبان - في كتابه (الأذان) جمع الجوامع: 2/ 430. وانظر (اللباب 1/ 297).
(2) على هامش (غ): [الجندي، بفتح الجيم والنون. تقدم ضبطه كذا في النوع العاشر. وأبو شيبة؛ قال " الحاكم ": اسمه عبيد. والله أعلم].
(3) هذه الفقرة من (غ) وعلى هامشها: [من قوله: " وما رواه بكر بن بكار وغيره عن المسعودي " إل قوله: " عن مجاهد عن ابن أبي ليلى " هذا كله لم يثبت في نسخة الشيخ شمس الدين - أيده الله - ساقط من أصله .. ، وسقط أيضا من أصل شيخنا نجم الدين - نفع الله به -] قلت: وسقط كذلك من (ص، ومطبوعة ع).(1/483)
أبي ليلى، وبأن بينهما مجاهدًا، ولأن ابن عيينة وإسرائيلَ بن يونس وغيرهما رووه عن عبدالكريم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى *].
وهذا وما سبق في النوع الذي قبله، يتعرضان لأن يُعترض بكلِّ واحد منهما على الآخر، على ما تقدمت الإشارة إليه. والله أعلم.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما ذكر من تسمية ذلك الممثَّل ِ به مُرسَلا، هو على طريقةٍ سبقت في نوع المرسل. انتهت " 98 / و.
__________
- وانظر (فتح المغيث 3/ 79 - 82، وتدريب الراوي 2/ 205).(1/484)
النوع التاسع والثلاثون:
معرفة الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -.
هذا علم كبير، قد ألف الناس فيه كتبًا كثيرة، ومن أحلاها (1) وأكثرها فوائد (كتاب الاستيعاب، لابن عبدالبر) لولا ما شانه به من إيراده كثيرًا مما شجر بين الصحابة، وحكاياته عن الأخباريين (2) لا المحدِّثين. وغالبٌ على الأخباريين الإكثارُ والتخليطُ فيما يروونه.
وأنا أورد نُكَتًا نافعة - إن شاء الله تعالى - قد كان ينبغي لمصنفي كتبِ الصحابة أن يتوجوها بها، مقدِّمين لها في فواتحِها *.
__________
(1) من (غ، ص، ز) وفي (ع): [أجلها] وفي تقريب النووي: [أحسنها].
(2) قال السيوطي: عده ابن هشام - اللخمي - من لحن العامة وقال: الصواب خَبَري؛ أي لأن النسبة في تُرَدّ إلى الواحد كما تقرر في علم الصرف، تقول في الفرائض: فَرَضي. ونُكتته أن المراد النسبة إلى هذا النوع، وخصوصية الجمع ملغاة " (تدريب الراوي: 2/ 208).
(3) طرة، على هامش (غ): [قال النووي - رحمه الله -: " قد جمع ابن الأثير الجزري في الصحابة كتابًا حسنًا جمع فيه كتبًا كثيرة، وضبط وحقق أشياء حسنة، وقد اختصرته بحمد الله تعالى ".
انظر مقدمة كتاب (أسد الغابة في معرفة الصحابة) لابن الأثير عزالدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبدالكريم، صاحب التاريخ - 630 هـ -.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قد جمع " ابن الأثير " في الصحابة كتابًا عظيمًا نبه فيه على زيادات مهمة وفوائد جمة، وبهذا النوع يعرف المتصل من المرسل. انتهت " 98 / و.
__________
- انظر ما تقصاه السخاوي من كتب الصحابة في (فتح المغيث 3/ 84) والسيوطي في (تدريب الراوي 2/ 207).(1/485)
إحداها: اختلف أهل العلم في أن الصحابي من؟ فالمعروفُ من طريقة أهل ِ الحديث، أن كلم مسلم رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو من الصحابة *.
قال " البخاري " في (صحيحه): من صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين؛ فهو من أصحابه " (1).
وبلغنا عن " أبي المظفر السمعاني المروزي " (2) أنه قال: " أصحابُ الحديث يطلقون اسمَ الصحابة على كلِّ من روى عنه [صلى الله عليه وسلم] حديثًا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون (3) من رآه رؤية، من الصحابة؛ وهذا لشرفِ منزلة النبي 86 / و]- صلى الله عليه وسلم -، أعطَوا كلَّ من رآه حُكْمَ الصُّحبة ". وذكر أن اسم الصحابي من حيث اللغةُ والظاهر، يقع على من طالت صحبتهُ
__________
(1) كتاب المناقب (باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه) - فتح الباري 2/ 7 - وأسنده الخطيب عن البخاري في (الكفاية: 51).
(2) على هامش (غ): [أبو المظفر: منصور بن محمد بن عبدالجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر السمعاني التميمي، له تصانيف في الفقه وأصوله والحديث، وهو صاحب كتاب (الاصطلاح). كان حنفيًّا ثم صار شافعيًّا. توفي سنة 489 هـ، وكان أبوه محمد وولده أبو بكر فاضلين، نسبوا إليه بطن من بني تميم. وأبو سعد عبدالكريم بن أبي بكر هذا، هو صاحب (الذيل على تاريخ الخطيب) وله كتاب (الأنساب) المشهور. فهم بيت علم - والسمعاني، بفتح السين: نسبة إلى جدهم جماعة فضلاء غير هؤلاء - نقلته من خط شيخنا أبي بكر، وقد تقدم ذكره قبل هذا في النوع الحادي عشر مختصرًا. والحمد لله: أبو منصور محمد، ولده أبو المظفر منصور، ولده أبو بكر محمد، ولده أبو سعد عبدالكريم. وجدت بخط شيخنا - أيده الله -: قلت: فما أعلم المذكورين أولا، هل هو بفتح السين أم بكسرها؟ فالله أعلم].
في اللباب: سمعان، بفتح السين وسكون الميم وفتح العين المهملة .. هذه النسبة إلى سَمْعان، وهو اسم لبعض أجداد المنتسب إليه. وأما الذي ينسب إليه أبو سعد السمعاني وأهله؛ فهو بطن من تميم (2/ 138).
(3) كذا في (غ، ص، ع) وعلى هامش (ص): [حتى يعدوا] خ.
___________________________________
المحاسن:
" فائدة: إطلاقُ الرؤية على الغالب، وإلا فالأعمى الذي حضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - معدود في الصحابة وإن لم يره. قال بعضهم: الأحسن أن يقال: " رآه النبي - صلى الله عليه وسلم ". وينبغي أن يُزادَ على ذلك ما يُخرِجُ من يراه في المنام أو ليلةَ الإسراء ممن لم يبرز إلى عالم الوجود من أُمَّته. انتهت " 98 / و.(1/486)
للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكثُرت مجالسته له على طريق التَّبَع له والأخذِ عنه. قال: وهذا طريق الأصوليين *.
قلت: وقد روينا عن " سعيد بن المسَيَّب " أنه كان لا يَعُدُّ الصحابيَّ إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنةً أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين. وكأن المراد بهذا - إن صح عنه - راجع إلى المحكِيِّ عن الأصوليين، ولكنْ في عبارته ضيق يوجب ألا يُعَدَّ من الصحابة " جريرُ بنُ عبدالله البجلي " ومن شاركه في فَقْدِ ظاهرِ ما اشترطه فيهم، ممن لا نعرف خلافًا في عدِّه من الصحابة **.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا الذي حكى عن " السمعاني " طريقةُ بعض الأصوليين، والمشهورُ عندهم ما هو المعروف عن المحدِّثين. وقيل لا بد من رواية حديثٍ أو حديثين (1). انتهت " 98 / و.
__________
(1) انظر تقييد العراقي (292 - 298) وشرح النخبة (181) وفتح المغيث (3/ 86) وما بعدها، ومعها (باب وصف الصحابي والطريق إلى معرفة كونه صحابيا) في الكفاية: 49 - 52 وخطبة ابن عبدالبر للاستيعاب، وابن الأثير لأسد الغابة، وابن حجر للإصابة، وفي (فتح الباري: فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - 7/ 24 - 26).
** " فائدة: لا يقال: جرير إسلامُه قديم فإن " الطبراني " في (الأوسط من معاجمه) قال: حدثنا محمد بن علي الصائغ، حدثنا محمد بن مقاتل المروزي، حدثنا حُصَيْنُ بن عمرو الأحْمَسِي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبدالله، قال: لما بُعِث النبي - صلى الله عليه وسلم - أتيته [لأبايعه] فقال لي: " يا جرير لأي شيء جئتنا [يا جرير؟] قلت: لأسلم على يديك يا رسول الله. فألقى إليَّ كساء، ثم أقبل على أصحابه فقال: إذا أتاكم كريمُ قوم ٍ فأكرموه ". قال الطبراني: لم يَرْوِ هذا الحديثَ عن إسماعيل بن أبي خالد إلا حُصَين الأَحْمَسِي. ورواه في (معجمه الكبير) (1) من هذه الطريقة =
__________
(1) الحديث (2350): 2/ 370 والمقابلة عليه.
وسئل الدارقطني عن حديث الشعبي عن جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه " فذكر الاختلاف فيه عن طارق بن عبدالرحمن عن الشعبي، ثم في الثوري عن طارق، بين الإرسال والرفع. قال: روواه شعبة عن طارق عن الشعبي عن النعمان بن بشير، واختلف عنه بين الإرسال والرفع، والصحيح روايته عن شعبة مرسلا. (العلل ل 2/ 16 حديث الشعبي عن جرير بن عبدالله).(1/487)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ومن طريق محمد بن عبدالله الحضرمي: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي خلف عن حُصَيْنِ بن عمرو. فذكرَه. وفيه قال: " فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتؤمن بالقدَرِ خيره وشره ".
لأنا نقول: هذا اللفظ، وهو قوله: " لما بُعِثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتيتُه " لم يُرِدُ " جرير " به أنه حين بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى إليه. ولو جرينا على ظاهرِ ذلك لَلَزِمَ أن يكون إسلامُ جرير بمكةَ حين بُعِث النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مردود بلا شك؛ ونفس حديث جرير يدل على تأخره؛ ألا ترى إلى قوله: " وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة "؟ والصلاة المكتوبة إنما فُرضت ليلة الإسراء. وكان ذلك بعد البعثة بمدة طويلة - على ما فيه من الخلاف المبَيَّنِ في موضعه - والزكاة إنما فُرضت بالمدينة، وهذا من الأمور التي لا تَوقف فيها.
وإذا كان هذا اللفظُ متروكَ الظاهر، لم يُحتَجّ به على قدم إسلام جرير. كيف وقد قال جرير: " ما كان إسلامي إلا بعد نزول المائدة " وفي (الاستيعاب): " قال جرير: أسلمت قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا " (1) وهذا وإن كان يؤيده أن قوله تعالى: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية، إنما نزلت بعرفاتَ في حجة الوداع، وهو من جملة آيات المائدة، لكن الظاهر أن المراد به الوضوء (2)، وهي نزلت قبل غزوة تبوك. وأيضًا فإن الذي جرى عليه الحفاظ المتأخرون، أن إسلامه سنة عشر في شهر رمضان. وقال " الطحاوي " (3): من قال إن جريرًا أسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يومًا؛ غلط؛ لما صح عنه أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له في حجة الوداع: " استَنْصِتْ لي الناسَ ".
لكن هذا كله يدل على قرب إسلامه، وأما ما في (معجم ابن قانع) من حديث شريك، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن جرير قال: " لما نُعِيَ النجاشيُّ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن =
__________
(1) الاستيعاب: جرير بن عبدالله البجلي - رضي الله عنه - (1/ 337 / 322).
(2) يعني آية المائدة (6) في الوضوء والتيمم. وانظر حديث جرير - رضي الله عنه - في مشكل الآثار للطحاوي: (بيان مشكل ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - في مسحه خفيه؛ هل كان بعد نزول المائدة أو قبلها؟) 3/ 189 ومعه (بيان مشكل ما روي في نزول سورة المائدة: 3/ 195).
(3) في مشكل الآثار: (بيان مشكل ما روي في إسلام جرير؛ متى كان؟) 3/ 194.(1/488)
وروينا عن شعبة عن موسى السَّبَلاني - وأثنى عليه خيرًا - قال: " أتيت أنسَ بن مالك فقلت: هل بقي من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرك؟ قال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه، فأما من صَحِبَه فلا " إسنادُه جيد، حدث به " مسلم " بحضرة " أبي زُرْعَة ".
ثم إن كونَ الواحدِ منهم صحابيًّا، تارةً يُعرفُ بالتواتر، وتارةً بالاستفاضة القاصرة عن التواتر، وتارة بأن يُروَى عن آحاد الصحابة أنه صحابي، وتارةٍ بقولِه وإخبارِه عن نفسِه
___________________________________
= أخاكم النجاشي هلك. فاستغفروا له " والنجاشي توفي في رجب سنة تسع؛ فلا يدل على أن جريرًا كان مسلمًا ذلك الوقت؛ لجوازِ أن يكون من مُرسَلات الصحابة. فعائشة - رضي الله عنها - قد روت حديث مبدأ الوحي، ولم تكن إذ ذاك زوجة - النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ولا حملتْ بها أمُّها. فإنه تزوجها وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع، وتوفي وسنها ثماني عشرة سنة. وأما ما ذكره " الطبراني " من حديث موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم عن جرير، قال: " بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثر العُرَنيين " ففيه الدِّلالةُ على تقدم إسلامه؛ لأن أمر العُرنيين سنة سِتٍّ، لكن السندَ ضعيف؛ فيه: موسى بنُ عبيدةَ الرَّبَذي.
وأصح ما جاء مما يَرُدُّ أربعين يومًا: حديثُ " استَنصت الناس " وهو في الصحيحين والنسائي وابن ماجه. ولفطه: " قال لي " رواها الطبراني في (معجمه الكبير) بإسناد صحيح " (1). 98 / ظ - 99 / و.
__________
(1) حديث جرير - رضي الله عنه -: من رواية حفيدة أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جده، في: البخاري، ك العلم (باب الإنصات إلى العلماء) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في حجة الوداع: " استنصت الناس " وفي ك المغازي، باب حجة الوداع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجرير. وفي (فتح الباري 1/ 155، 8/ 76) تحرير لوقت إسلامه.
والحديث في سنن النسائي (تفسير، سورة التحريم) وفي سنن ابن ماجه (فتن، باب لا ترجعوا بعدي كفارا) ح 3942 عن جرير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: " استنصت الناس ".
وهو في كبير الطبراني بسنده، من طريقين إلى شعبة قال: سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده جرير، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع / فذكره (2/ 383 ح 2402).(1/489)
- بعد ثبوتِ عدالته * - بأنه صحابي. والله أعلم.
الثانية: للصحابةِ بأسرهم خَصِيصَة، وهي أنه لا يُسأل عن عدالةِ أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونِهم على الإطلاق معدَّلين بنصوص الكتابِ والسنة وإجماع ِ من يُعتدُّ به في الإجماع من الأمة (1).
قال الله - تبارك وتعالى -: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (2) الآية. قيل: اتفق المفسرون على أنه وارد في أصحابِ رسول الهل - صلى الله عليه وسلم -. وقال تعالى: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " (3) وهذا خطاب مع الموجودين حينئذ. وقال سبحانه: " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ " (4) الآية.
وفي نصوص السُّنة الشاهدة بذلك كثرة، منها حديثُ " أبي سعيد " المتَّفَقُ على صحتِه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدَكم أنفق مثلَ
__________
(1) بمزيد تفصيل في (الكفاية: باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة (46 - 48) ومعه تقييد العراقي: 299.
(2 - 4) الآيات: آل عمران 110، البقرة: 143، الفتح 29.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: هذا منافٍ لما سيأتي من أن " للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحدٍ منهم ".
لأنا نقول: الخصيصة لمن ظهرت صحبتُه لا لكلِّ من ادَّعاها؛ لجواز أن يكون فاسقًا، فلا يقبل قولُه. ولو جاء إنسان إلى تابعي وقال له: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا، لم يَسُغْ لذلك التابعي أن يرويَ ذلك الحديثَ على أنه صحابي بمجرد قوله، ولا أن يقول: حدثني بعضُ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يظهر له أمرُه في الدين. ومن ادعى تسويغَ ذلك فليس بصحيح. ولكنْ يسوغ أن يقول: قال فلان: رأيتُ - إلى آخره - ولم يظهر لي صحبتُه. انتهت " 99 / ظ.(1/490)
أحُدٍ ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدِهم ولا نَصِيفَه " (1) *.
ثم إن الأمة مجمعة على تعديل الصحابة، ومَن لابسَ الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذي يُعتَدُّ بهم في الإجماع (2)، إحسانًا للظنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تمهَّد لهم من المآثر، وكأن الله - سبحانه - أتاح (2) الإجماعَ على ذلك؛ لكونِهم نَقَلةَ الشريعة. والله أعلم.
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعًا أخرجه البخاري في المناقب، فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وانظر تخريجه ورواياته وشرحه في (فتح الباري 7/ 24 - 26) وأخرجه مسلم في الفضائل، باب تحريم سب الصحابة - رضي الله [عنهم] (ت) (ح 2540) وفي شرحه أن هذا التحريم شامل لمن لابس الفتن منهم وغيره؛ لأنهم مجتهدون في ذلك. والخطيب في باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة (الكفاية: 47) والطبراني في الصغير.
المد: هو ربع الصاع. وروي: مَد، بالفتح، وهو الغاية، من قولهم: لا يبلغ مَدَّ فلان؛ أي: لا يلحق شأوه. (الفائق في غريب الحديث 3/ 15). والنصيف: هو النصف، كالعشير في العشر (النهاية) ومشارق الأنوار (1/ 375، 2/ 15).
(2) انظر تقييد العراقي (203) على القول بالإجماع. وقال: " وإذا نهي الصحابي عن سب الصحابي؛ فغير الصحابي أولى بالنهي عن سب الصحابي ".
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: لا يقال: حديث " لا تَسُبُّوا أصحابي " ليس بعامٍّ في جميع الصحابة، بل في ناس دون آخرين، ويُسنَد ذلك بما ذكره " الحكيم الترمذي " في كتابه (نوادر الأصول) أن خالد بن الوليد تقاول هو وعبدُالرحمن بن عوف فكأن خالدًا أغلظ لعبدالرحمن، فشكاه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لخالد: " هل أنتم تاركون لي أصحابي؟ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذهبا .. " الحديث (1).
لأنا نقول: الذي سبق الاحتجاجُ به هو " لا تسبوا أصحابي " وهو عام. وأما حديثُ خالد ففيه: " هل أنتم تاركون لي أصحابي " فاقتضت العربية التخصيص. على أنه يمكن حملُه على العموم من جهة اللفظ والمعنى، ولا يكون السبب مخصصًا. وفائدة قوله: " هل أنتم تاركون لي أصحابي؟ " وإن كان المقول له منهم، التنبيهُ على مزية هذه المنزلة العظيمة، كما لو كان لإنسان قريبان تخاصما، فقال للذي أغلظ: لا أحب أن تسب أقاربي؛ وإن كان المقول له قريبًا له أيضًا، لكن التنبيه على أن القرابة أريد حفظُها من هذه الأمور. انتهت " 100 / و.
__________
(1) نوادر الأصول: (الأصل 84/ 124) في أن الناس ينزلون منازلهم / ط بيروت عن ط القسطنطينية.(1/491)
الثالثة: أكثرُ الصحابة حديثًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أبو هريرة " * رُوِيَ ذلك عن سعيد بن أبي الحسن، وأحمدَ بن حنبل، وذلك من الظاهر الذي لا يخفى على حديثي. وهو أوَّلُ صاحبِ حديثٍ. بلغنا عن " أبي بكر بن أبي داود السِّجِستاني " (1) قال: " رأيت أبا هريرة في النوم وأنا بسجستان أصنِّف حديثَ أبي هريرة. فقلت: إني لأحِبُّك. فقال: أنا أولُ صاحبِ حديثٍ كان في الدنيا " وعن " أحمد بن حنبل " أيضًا - رضي الله عنه - قال: " ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثروا الرواية عنه وعُمِّروا: أبو هريرة، وابنُ عمر، وعائشةُ (2)، وجابرُ بن عبدالله، وابنُ عباس، وأنس. وأبو هريرة أكثرهُم حديثًا، وحمَلَ عنه الثقاتُ " (3).
ثم إن أكثر الصحابة فُتْيا تُروَى: " ابنُ عباس ". بلغنا عن " أحمد بن حنبل " قال: " ليس أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يُروَى عنه في الفتوى أكثر من ابن عباس ". وروينا عن " أحمد بن حنبل " أيضًا أنه " قيل له: من العبادلةُ؟ فقال: عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو. قيل له: فابن مسعود؟ قال: لا، ليس عبدالله بن مسعود من العبادلة ".
قال " الحافظ أحمد البيهقي " فيما رويناه عنه وقرأتُه بخطه: " وهذا لأن ابنَ مسعودٍ
__________
(1) نقل على هامش (غ): [سجستاني، بكسر السين والجيم ثم سين ساكنة: منسوب إلى (سجستان) الإقليم المعروف بين خراسان وكرمان. ويقال فيه أيضًا: سُجني، وهو من عجيب التصغير. كذا من خطه - نفع الله به -].
(2) نقل على هامش (غ) خلاصة لترجمة السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، من الاستيعاب: توفيت - رضي الله عنها - سنة سبع وخمسين.
(3) في التبصرة إحصاء لعدد الأحاديث لكل من هؤلاء الستة - رضي الله عنهم - (3/ 15 - 16).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ما رُوِي عن أبي هريرة من قوله إنه أكثر الصحابة حديثًا " إلا ما كان من عبدالله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب " فقد يقدح في ذلك. وجوابه أن الذي نُقِلَ ورُوِيَ من حديث أبي هريرة أكثر. انتهت " (100 / و).(1/492)
تقدم موتُه، وهؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم. فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قولُ العبادلة، أو: هذا فِعلُهم ".
قلت: ويلتحقُ بابنِ مسعود في ذلك، سائر العبادلة (1) المسمَّين بعبدِالله من الصحابة، وهم نحو مائتين وعشرين نفسًا. والله أعلم *.
وروينا عن " علي بنِ عبدالله المَديني " (2) قال: " لم يكن من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد له أصحاب يقومون بقوله في الفقهِ إلا ثلاثة: عبدُالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس - رضي الله عنهم -. كان لكل رجل منهم أصحاب يقومون بقولِه ويُفتون الناس " (3).
__________
(1 على هامش (غ): [في جمع العبادلة وجهان:
أحدهما: أن يكون جمع عبدل، على زيادة اللام كزيدل.
الثاني: أن يكون صاغ من المتضايفين اسمًا برأسه في الجمع، كما قالوا في النسب: عبشمي وعبقسي، في عبد شمس وعبد القيس].
(2) على هامش (غ): [أبو الحسن علي بن عبدالله بن جعفر بن نجيح السعدي، مولاهم، المدني - بالياء، وأكثرهم ينسب إليها: مدني - وهي مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتثبت الياء تارة وقد تحذف وهو الأكثر، وقالوا في هذا الإمام علي بن عبد الله: المديني، بالياء، وكان أصله من المدينة ونزل بالبصرة. قال شيخنا أبو بكر: واتفق الحفاظ على أنه بهذا النسب علي بن عبدالله بن جعفر. والله أعلم]. وهو نحو ما في (اللباب 3/ 184).
(3) العلل، لابن المديني (42 فقرة 14) بخلاف يسير في اللفظ.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: في كتاب ابن الأثير: المسمَّى بعبدِالله، من الصحابة: أربعمائة وستة وأربعون رجلا. انتهت " 100 / ظ.
__________
- وفي تقييد العراقي على عددهم عند ابن الصلاح: " بل هم أكثر من ذلك بكثير، وكأن المصنف أخذ ما ذكره من (الاستيعاب لابن عبدالبر) لأنه عدَّ من اسمه عبدالله مائتين وثلاثين، ومنهم من لم يصحح له صحبه ومن ذكره للمعاصرة من غير رؤية، على قاعدته، ومنهم من كرره للاختلاف في اسم أبيه، ومنهم من اختلف في اسمه أيضًا. ومجموعهم عشرة فتبقى منهم نحو مائتين وثلاثين. ولكن فات ابن عبدالبر منهم جماعة ذكرهم غيره ممن صنف في الصحابة. ذكر منهم الحافظ أبو بكر بن فتحون في ذيله على الاستيعاب مائة وأربعة وستين منهم أيضًا من عاصر ولم ير، ومنهم من لم تصح له صحبة أو كرر للاختلاف في اسم أبيه، ولكن يجتمع من المجموع نحو ثلاثمائة (التقييد 303) وانظر معه (فتح المغيث 3/ 112).(1/493)
وروينا عن " مسروق " قال: " وجدت علم أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى سِتة: عُمَرَ، وعلي، وأُبَيّ، وزيدٍ، وأبي الدرداء، وعبدالله بن مسعود. ثم انتهى عِلم هؤلاء الستة إلى اثنين: عليٍّ، وعبدِالله ". وروينا نحوه عن مُطَرِّف عن الشعبي عن مسروق، لكنْ ذكر " أبا موسى " بدلَ " أبي الدرداء " (1).
وروينا عن " الشعبي " قال: " كان العلم يؤخذ عن ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمرُ وعبدُالله وزيد، يشبه علمُ بعضِهم بعضًا. وكان يقتبس بعضُهم من بعض، وكان عليٌّ والأشعري وأُبَيُّ يشبه علم بعضِهم بعضًا، وكان يقتبس بعضُهم من بعض " (2).
وروينا عن " الحافظ [87 / و] أحمد البيهقي " أن الشافعي ذكر الصحابة في (رسالته) القديمة وأثنى عليهم بما هم أهلُه، ثم قال: " وهم فوقَنا في كلِّ علم واجتهاد وورَع وعقل، وأمرٍ استدْرِكَ به علمٌ واستنبِط به، وآراؤهم لنا أحْمَدُ وأوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا. ". والله أعلم.
الرابعة: روينا عن " أبي زُرعةَ الرازي " أنه سئل عن عِدَّةِ مَن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " ومن يضبط هذا؟ شهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع أربعون ألفًا، وشهد معه تَبوكَ سبعون ألفًا " (3).
ورينا عن " أبي زرعة " أيضًا أنه قيل له: " أليس يقال: حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف حديث؟ قال: ومن قال ذا قَلْقَلَ الله أنيابَه؟ هذا قولُ الزنادقة، ومن يُحصي حديثَ رسول ِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قُبِضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مائة ألفٍ وأربعةَ عشر ألفًا من الصحابة ممن رَوَى عنه وسمع منع - وفي رواية: ممن رآه وسمع منه - فقيل له: يا أبا زرعة! هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه؟ قال: أهلُ المدينة وأهل مكة ومَن بينهما، والأعرابُ، ومَن
__________
(1) أسنده ابن المديني عن الشعبي في (العلل: 42 ف 11).
(2) قابل على رواية ابن المديني في (العلل: 41 ف 10).
(3) قال العراقي: وأما ما ذكره المصنف عن أبي زرعة فلم أقف له على إسناد ولا هو في كتب التواريخ المشهورة. وقد ذكره أبو موسى - المديني - في ذيله على صحابة بغير إسناد. (التقييد 206) وذكر السيوطي أن الخطيب أخرجه بإسناده (التدريب 2/ 220) ولم أقف عليه.
وانظر غزوة تبوك في (فتح الباري 8/ 78).(1/494)
شهد معه حجة الوداع، كلٌّ رآه وسمع منه بعرفة " (1) *.
قلت: ثم إنه اختُلف في عددِ طبقاتهم وأصنافهم، والنظرُ في ذلك إلى السبق بالإسلام والهجرة، وشهودِ المشاهد الفاضلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا هو صلى الله عليه وسلم - وجعلهم " الحاكم أبو عبدالله " اثنتي عشرة طبقة (2)، ومنهم من زاد على ذلك، ولسنا نطوِّل بتفصيل ذلك. والله أعلم.
الخامسة: أفضلُهم على الإطلاق: " أبو بكر، ثم عمر ". ثم إن جمهورَ السلفِ على تقديم " عثمان " على " عليٍّ ". وقَدَّم أهلُ الكوفة من أهل ِ [88 / و] السُّنةِ عليًّا على عثمانَ، وبه قال جماعةٌ، منهم " سفيانُ الثوري " أولا، ثم رجع إلى تقديم عثمان. روَى ذلك عنه وعنهم " الخطابي " (3). وممن نُقِلَ عنه من أهل ِ الحديث تقديمُ عليٍّ على عثمانَ: " محمدُ بن إسحاق بن خُزيمة ".
__________
(1) المصدر السابق.
(2) الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث).
(3) من (ص، ع) وفي (غ): [ومنهم الخطابي].
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: عن الشافعي - رضي الله عنه -: " روَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه من المسلمين نحو من ستين ألفا " (1) ولكن ما ذكروه أبو زرعة، فيه زيادة كثيرة. انتهت " 101 / و.
__________
(1) في تقييد العراقي: رواه الساجي في (مناقب الشافعي) عن محمد بن عبدالله بن عبدالحكم، قال: أنبأنا الشافعي قال: قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ستون ألفا: ثلاثون ألفا بالمدينة وثلاثون ألفا في قبائل العرب وغير ذلك. قال: وهذا إسناد جيد ومع ذلك فجميع من صنف في الصحابة لم يبلغ مجموع ما في تصانيفهم عشرة آلاف " (التقييد 206).
** " فائدة: بل هو أفضل الناس بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. انتهت " 101 / ظ.(1/495)
وتقديمُ " عثمانَ " هو الذي استقرتْ عليه مذاهبُ أصحابِ الحديث وأهل السنة (1) *.
وأما أفضلُ أصنافهم صِنفًا فقد قال " أبو منصور البغدادي التميمي ": أصحابُنا مُجمِعون على أن أفضلهم الخلفاءُ الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة (2)، ثم البدريون، ثم أصحاب أُحُد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحُدَيبِية.
قلت: وفي نصِّ القرآن تفضيلُ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار **. وهم " الذين وصلوا إلى القبلتين " في قول " سعيد بن المسيب " وطائفة. وفي قول " الشعبي ":
__________
(1) انظر: التبصرة للعراقي (3/ 24 - 26) وفتح المغيث (3/ 115 - 121) وتدريب الراوي (2/ 222).
(2) على هامش (غ): [في العشرة - رضي الله عنهم -، لبعضهم:
لقد بُشِّرتْ بعد النبي عصابةٌ ............................................... بجنات عدن زمرة سعداءُ
سعيد، وسعد، والزبير، وعامر ....................................... وطلحة، والزهريُّ، والخلفاء]
وهم على ترتيب الناظم: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي، وسعد بن أبي وقاص الزهري، والزبير بن العوام الأسدي، وعامر بن عبدالله أبو عبيدة بن الجراح الفهري، وطلحة بن عبيدالله التيمي، والزهري: عبدالرحمن بن عوف، والخلفاء: الراشدون الأربعة - رضي الله عنهم جميعا -.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قال الدارقطني: " مَن قدَّم علِيًّا على عثمانَ فقد أزرى بالمهاجرينَ والأنصار ".
وإنما قال " الدارقطني " ذلك؛ لأن عمرَ - رضي الله عنه - لما جَعَل الأمرَ من بعده شورى بين سِتة، انحصر في عثمانَ وعلي. واجتهد فيهما عبدُالرحمن بن عوف ثلاثةَ أيام بلياليها يسأل الناس حتى سأل النساءَ في خدورها، والصبيانَ في المكاتب، فلم يرهم يَعدِلون بعثمانَ أحدًا، فقدَّمه على عليٍّ. انتهت " 101 / ظ.
** " فائدة: تفضيلُ السابقين الأولين في القرآن، إيماءٌ إليه، لا أنه نص. والنصُّ الصريحُ في القرآن، في تفضيل ِ من أنفق من قبل الفتح وقاتل (1). انتهت " 102 / و.
__________
(1) يشير إلى قوله تعالى: " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " الحديد: 10.
- وانظر (تقييد العراقي 306، وفتح المغيث 3/ 21، وتدريب الراوي 2/ 223).(1/496)
" هم الذين شهدوا بيعةَ الرضوان ". وعن " محمد بن كعب القرظي، وعطاء بن يَسار " أنهما قالا: هم " أهل بدر " روى ذلك عنهما " ابنُ عبدالبر (1) " فيما وجدناه عنه. والله أعلم.
السادسة: اختلف السلفُ في أوَّلهم إسلامًا، فقيل: " أبو بكر الصديق ". رُوِي ذلك عن ابن عباس،وحسانِ بن ثابت، وإبراهيمَ النخعي، وغيرِهم. وقيل: " علي " أولُ من أسلم. رُوِي ذلك عن زيد بن أرقم، وأبي ذر، والمِقدادِ، وغيرهم.
وقال " الحاكم أبو عبدالله ": " لا أعلم خلافًا بين أصحاب التواريخ أن عليَّ بن أبي طالب أولُهم إسلامًا " (2) واستُنكِرَ هذا من " الحاكم " (3).
وقيل: أولُ من أسلم " زيدُ بن حارثة ". وذكر " معمر " نحو ذَلك عن " الزهري ".
وقيل: " أولُ من أسلم خديجةُ (4) أم المؤمنين " رُوِي ذلك من وجوهٍ عن " الزهري ".
وهو قول " قَتادةَ، ومحمد بن إسحاق بن يَسار " وجماعة، ورُوِيَ أيضًا عن " ابن عباس ". وادَّعى " الثعلبيُّ " المفسِّر - فيما رويناه [88 / ظ] أو بلغنا عنه - اتفاقَ العلماء على أن أول من أسلم " خديجةُ " وأن اختلافهم إنما هو في أول ِ من أسلم بعدها.
والأوْرَعُ أن يقال: أولُ من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر، ومن الصبيان
__________
(1) في خطبة الاستيعاب: 1/ 7.
(2) في علوم الحديث (22).
(3) وقال العراقي: إن كان الحاكم أراد بهذا: من الذكور؛ فهو قريب من الصحة، إلا أن دعوى إجماع أصحاب التواريخ على ذلك؛ ليس بجيد؛ فإن عمر بن شبة منهم، وقد ادعى أن خالد بن سعيد بن العاص أسلم قبل علي بن أبي طالب. وهذا وإن كان الصحيح خلافه فإنما ذكرته لدعوى الحاكم نفي الخلاف بين المؤرخين، وهو إنما ادعى نفي علمه بالخلاف فلا اعتراض عليه، ومع دعواه ذلك فقد صَحَّحَ أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال البالغين فقال بعد ذلك: " والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر الصديق أول من أسلم من الرجال البالغين لحديث عمرو بن عنبسة في ذلك " (308).
يريد ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عمرو في قصة إسلامه وقوله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: من معك على هذا؟ قال: " حر وعبد " ومعه يومئذ أبو بكر وبلال. (ح 132) ك صلاة المسافرين.
(4) على هامش (غ): [قال أبو عمر: اختلف في وقت وفاة خديجة - رضي الله عنها -. فقال أبو عُبيدة معمر بن المثنى: توفيت قبل الهجرة بخمس سنين. قال: وقيل بأربع سنين. وقال قتادة: توفيت قبل الهجرة بثلاث سنين. قال أبو عمر: قول قتادة هو الصحيح. قيل: كانت يوم توفيت بنت خمس وستين سنة. توفيت في شهر رمضان ودفنت في الحجر. والله أعلم.] من الاستيعاب.(1/497)
أو الأحداث: علي، ومن النساء: خديجةُ، ومن الموالي: زيدٌ، ومن العبيد: بلالٌ *. والله أعلم.
السابعة: آخرُهم على الإطلاق موتًا " أبو الطفيل عامرُ بنُ واثِلةَ " مات سنة مائة من الهجرة.
وأما بالإضافة إلى النواحي: فآخرُ من مات بالمدينة " جابرُ بنُ عبدالله ". رواهُ أحمدُ بن حنبلَ عن قتادة. وقيل: " سهل بن سعد ". (1) وقيل: " السائب بن يزيد ".
وآخر من مات منهم بمكة: " عبدالله بن عمر "، وقيل: " جابر بن عبدالله ". وذكر " علي ابن المديني " أن " أبا الطفيل " بمكة مات؛ فهو إذًا الآخِرُ بها **.
__________
(1) من هامش (غ): [توفي جابر بن عبدالله بالمدينة سنة أربع وسبعين، وقيل سنة ست وسبعين. وكان عمره أربعًا وتسعين. أو قيل في جابر: توفي سنة ثمان وتسعين].
ومعه هامش (غ): [توفي سهل بن سعد بالمدينة سنة ثمان وثمانين، وقيل: إحدى وتسعين. وبلغ مائة سنة وقيل كان عمره ستة وتسعين. ذكر ذلك كله ابنُ عبدالبر] في (الاستيعاب) وفيه: توفي السائب سنة ثمانين، وقيل ست وثمانين، وقيل إحدى وتسعين.
- قال العراقي بعد ذكر هذه الأقوال في وفيات الثلاثة: وعلى أقصاها، فإن محمود بن الربيع متأخر عنهم: توفي بالمدينة سنة تسع وتسعين، وصحبته ثابتة بما عقل المجة التي مجَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه واستدلوا بها على صحة سماع الصغير. وعلى هذا فيكون محمود بن الربيع آخر الصحابة موتًا بالمدينة. والله أعلم (التقييد 314).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه (التنبيه والإشراف) أن قومًا قالوا: إن أول الصحابة إسلامًا خبابُ بن الأرَتِّ. وقال آخرون: بلال. وذكر عمر بن شبة أن أولهم إسلامًا خالدُ بن سعيد بن العاص. وكلُّ ذلك غريب، والمعروف ما تقدم. انتهت " [102 / و].
** " فائدة: أُورِد على ذلك " عِكْراشُ بن ذؤيب " فإنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وله حديث، وشهد الجملَ مع عائشة، فقال الأحنف: كأنكم به قد أُتِيَ قتيلا أو به جراحةٌ لا تفارقه حتى يموت. فضُرب يومئذ ضربةً على أنفه، فعاش بعدها مائة سنة، وأثر الضربة به. وذكر ذلك " ابنُ دريد " فعلى هذا تكون وفاته سنةَ خمس وثلاثين ومائة، =(1/498)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وعكراش لا خلاف في صحبته، وأما أبو الطفيل فأكثرهم لا يثبت له صحبةً، وإنما يذكرون له رؤية. وجوابُ هذا الإيراد، أن هذه الحكاية قد ذكرها غيرُ ابن دريد، ولم نقف لها على إسنادٍ، ومثلُ ذلك لا يثبت به هذا الأمرُ إلا بعد ثبوته. انتهت (1). ووقع في حديثٌ في (معجم الطبراني الأوسط) يدل على أن بعض الصحابة تأخرت وفاته بعد المائة بنحو من عشر سنين أو أكثر. وفيه مع ذلك فائدة أخرى جليلة، وهو ما أخرجه من باب " من اسمه موسى " من شيوخه قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا إسحاق بن راهويه، قال: أخبرني سليمان بن نافع العبدي بحلب، قال: قال لي أبي: وفد المنذر بن سَاوِي [العبدي] من البحرين حتى أتى مدينةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومع المنذر أناس، وأنا غُلَيِّمٌ لا أعقل إلا مسكَ (2) جِمالهم. قال: فذهبوا مع سلاحهم فسلموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووضع المنذر سلاحه ولبس ثيابًا كانت معه، ومسح لحيته بدهن، فأتى نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم وأنا مع الجِمال، أنظر إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال المنذر: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رأيت منك ما لم أر من أصحابك ". قلت: وما رأيتَ مني يا نبي الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: " وضعتَ سلاحك =
__________
(1) العراقي أيضا ذكر الاعتراض على ابن الصلاح " بما حكاه ابن دريد في (الاشتقاق) وقال: " قلت: وهذا خطأ صريح ممن زعم ذلك. وابن دريد لا يُرجَع إليه في ذلك. وقد أخذه من ابن قتيبة فإنه حكى في (المعارف) هذه الحكاية، وهو أيضا كثير الغلط. ومع ذلك فالحكاية بغير إسناد، وهي محتملة لأنه إنما أراد أنه أكمل مائة سنة، وهو الظاهر. والصواب ما ذكره المصنف أن آخرهم موتا على الإطلاق أبو الطفيل. ولم يختلف على ذلك أحد من أهل الحديث، إلا قول جرير بن حازم إن آخر الصحابة موتا سهل بن سعد. والظاهر أنه أراد بالمدينة. وما ذكرنا من أن أبا الطفيل آخرهم موتا، جزم به مسلم، ومصعب بن عبدالله الزبيري، وأبو زكريا بن منده. وروينا في صحيح مسلم بإسناده إلى أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما على وجه الأرض رجل رآه غيري ". (التقييد 313).
قلت: جزم به مسلم في (كتاب الفضائل: باب كان صلى الله عليه وسلم أبيض مليح الوجه). بإسناده عن الجريري عن أبي الطفيل، قال الجريري: " قلت له: أرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كان أبيض مليح الوجه " " قال مسلم بن الحجاج: مات أبو الطفيل سنة مائة، وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
ثم أخرج مسلم عن الجريري، عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما على وجه الأرض رجل رآه غيري، فقلت له: كيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحا مقصَّدا " أي معتدلا. (ح 98، 99 - 2340) وأخرجه البخاري عن الجريري عن أبي الطفيل. في (الأدب المفرد، باب الهدي والسمت الحسن) 235.
(2) في أوسط الطبراني: [لا أمسك] وفي زوائده عند الهيثمي: [لا أعقل مسك].(1/499)
.............................................................................................................................
___________________________________
= ولبست ثيابك وتدهنت ". قلت: يا نبيَّ الله أفشيء جُبِلتُ عليه أم شيء أحدثتُه؟ قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا بل شيءٌ جُبِلتَ عليه " فَسلِّموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أسلمتْ عبدُ القيس طوعًا، وأسلم الناس كرهًا، فبارك الله في عبد القيس وموالي عبد القيس " قال لي أبي: نظرتُ إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كما أني أنظر إليك. ولكنني لم أعقل. قال: ومات أبي وهو ابنُ عشرين ومائةِ سنة.
قال الطبراني: لا يُروى هذا الحديث عن نافع العبدي إلا بهذا الإسناد، تفرد به إسحاق بن راهويه (1) ". وقدومُ المنذر إنما كان في آخر الأمر بالمدينة، إما في التاسعة أو في العاشرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه قبل قدومه في أمر الجزية، وهو قوله: " ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزيةُ " ذكره الواقدي بإسناده عن عكرمة: " وجدتُ هذا الكتابَ في كتب ابن عباس يعد موته فسنختُه " وساقه. والجزيةُ إنما نزلت في (سورة براءَة) وبراءةُ إنما نزلت في سنة تسع. وأما ما ذكره " القاضي عياض " من أن قدوم وفد عبد القيس كان عامَ الفتح قبل خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، فلا ينافي هذا؛ لأن أولئك هم الوفد الأول الذين منهم الأشجُّ واسمه المنذر أيضًا، ولكنه ابنُ عائذ. وهؤلاء وفد آخر (2). =
__________
(1) المعجم الأوسط للطبراني، باب من اسمه موسى - 45 - مصورة معهد المخطوطات بالقاهرة (483 حديث / مصطلح) والمقابلة عليه. مع الاستئناس بزاوئد الطبراني في (مجمع الزوائد: 9/ 390) باب ما جاء في الأشج ورفقته.
(2) في طبقات ابن سعد، عن الواقدي: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاء الخضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي بالبحرين، وكتابه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: " من أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية " (1/ 263) ثم قدوم وفد عبد القيس عام الفتح مع الأشج وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيك خصلتان يحبهما الله " الحديث (1/ 314) وأخرجه مسلم في ك الإيمان، باب الأمر بالإيمان، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (ح 26/ 28) والبخاري في (الأدب المفرد) باب التؤدة في الأمور (172).
وفي باب وفد عبد القيس من المغازي بصحيح البخاري، قال ابن حجر: " كان لعبد القيس وفادتان:
إحداهما قبل الفتح ... وكان ذلك قديمًا، إما في سنة خمس أو قبلها. وكانت قريتهم بالبحرين - جواثا - أو قرية أقيمت فيها الجمعة كما في حديث الباب، بكتاب الجمعة. وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلا ... وكان فيهم الأشج وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة " واسمه المنذر.
وثانيتهما كانت في سنة الوفود وكان عددهم حينئذ أربعين رجلا، وكان فيهم الجارود العبدي (فتح الباري 8/ 61 - 62).(1/500)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وبتقدير أن يكون واحدًا، فغايةُ ما يكونُ سِنُّ نافع العبدي سبعَ سنين؛ لأنه قال: لا أعقل. ويكون سنه عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فتكون وفاته سنة عشرين ومائة من الهجرة. وبتقدير ذلك يتأخر عن " أبي الطفيل " بعشرين سنة. ولم أر من نبه على ذلك.
وفيه: أن " إسحاق بن راهويه " أدرك بعض التابعين ورَوَى عنه، ولم يتفق ذلك لأحمد ولا للشافعي، وهو أسَنُّ من إسحاق بعشر سنين. وقد أخرج الحديثَ أبو القاسم بن بشران: حدثنا دعلج، حدثنا موسى بن هارون - هو الحمَّال بالحاء المهملة - وهو ثقة إمام جليل. وليس بالسند إلا سليمان (1)، وقد روى عنه إسحاق، وهو إمام جليل. وقد ذكر بعضهم أنه غير معروف. قال موسى: ليس عند إسحاق أعلى من هذا الحديث.
وقد وقع لي أغربُ من ذلك، وهو أن شخصًا عاش بعد الإمام الشافعي - رضي الله عنه - سبعين سنةً وأكثر، وأدرك بعض التابعين، وهو " عبيدُالله بن رُمَاحِس ". روينا في (المعجم الصغير للطبراني) قال: حدثنا عبيدُالله بن رُمَاحس (2) القيسي برمادة الرملة سنةَ أربع وسبعين ومائتين، قال حدثنا أبو عمرو (3) زياد بن طارق - وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة - قال: سمعت أبا جرول زُهَيْر بنَ صُرَدَ الجُشَمي يقول: لما أسرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ هوازن وذهب يفرق السبيَ والشاء، أتيتُه فأنشأت أقول هذا الشعر:
امْنُنْ علينا رسول الله في ..................... كرم فإنك المرء نرجوه وننتظرُ
امْنُنْ على بيضة قد عاقها .................... قَدَرٌ مُشَتِّتٌ شملَها في دهرها غِيَرُ
أبقت لنا الدهرَ هتّافا على حَزَنٍ ............... على قلوبهمُ الغمَّاءُ والغمَر
إن لم تَدَارَكهمْ نُعمَى تيسرها ................. يا أرجحَ الناس حِلما حين تُختبرُ =
__________
(1) قال النور الهيثمي، بعد ذكر حديث الأشج: رواه الطبراني في الأوسط والكبير. وفي إسناده سليمان بن نافع العبدي، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلا، وبقية رجاله ثقات " مجمع الزوائد 9/ 390.
وفي (الجرح والتعديل) قال ابن أبي حاتم: " سليمان بن نافع العبدي، روى عن محمد بن سيرين .. وعن أبيه. روى عنه إسحاق بن راهويه " 4/ 147 (636).
(2) تصحف في طبعة السلفية بالمدينة من صغير الطبراني بـ[بن رماحبيب] وفي الكبير: [بن رماحي] ط بغداد وليست كاملة، مع كثرة الخطأ والتحريف.
(3) في طبعة المعجم الصغير: [أبو عمرو] وفي منح المد لليعمري: [أبو عمرو] من طريق الطبراني، وفي تدريب الراوي - في النوع التاسع والعشرين: الإسناد العالي والنازل - من طريقه أيضًا.(1/501)
.............................................................................................................................
___________________________________
= امْنُنْ على نسوةٍ قد كنتَ تَرْضَعُها .......................... إذ فوك تملؤه من مَحْضِها الدرَرُ
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ........................... وإذ يَزينكَ ما تأتي وما تذر
لا تجعلَنَّا كمن شالتْ نعامتُه ................................. واستبق منا فإنا معشر زُهُر
إنا لنشكر للنعماءِ إذ كُفِرَتْ ................................. وعندنا بعد هذا اليوم مُدَّخَرُ
فألبس العفوَ من قد كنتَ تَرْضَعُه ........................... من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خيرَ من مرحتْ كُمْتُ الجياد به ......................... عند الهياج إذا ما استوقدَ الشرَرُ
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه .................................. هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعفُ عفا الله عما أنت راهبُه .............................. يومَ القيامة إذ يُهدى لك الظفَرُ
قال: فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الشعر قال: " ما كان لي ولبني عبدالمطلب؛ فهو لكم ". وقالت قريش: " ما كان لنا؛ فهو لله ولرسوله ". وقالت الأنصار: " ما كان لنا؛ فهو لله ولرسوله ".
قال الطبراني: " لا يروى عن زهير بن صُرَدَ بهذا التمام إلا بهذا الإسناد، تفرد به عُبيدالله بن رُمَاحِس " (1) وهذا من ثلاثيات الطبراني. وقد رواه عبيدالله بن رماحس للطبراني سنة أربع وسبعين ومائتين، عن زياد بن طارق وهو تابعي رأى زهيرَ بن صرد وهو صحابي، ذكره ابن عبدالبر في (الاستيعاب (2)) وذكر رواية القصة من طريق =
__________
(1) المعجم الصغير (1/ 236 - 237) والمقابلة عليه. مع الاستئناس بمجمع الزوائد (غنائم هوازن: 6/ 186) ورواية الحافظ اليعمري في (منح المدح (مصورة مخطوطة لاله لي 1951، من طريق الطبراني في المعجم الصغير، كاملة. ورواها السيوطي من طريق الطبراني أيضا في (الإسناد العالي والنازل) من تدريب الراوي 2/ 162، والماوردي في (الأحكام السلطانية: أحكام السبي: 134 - 135) بغير إسناد، ومع اختلاف في النسق وبعض ألفاظ.
(2) في ترجمة " زهير بن صرد: 2/ 520 ت 820 " من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. والبيتان الناقصان هما الثالث والتاسع من رواية الطبراني في الصغير. واقتصر في السيرة الهشامية على السند والخبر والحديث، دون الشعر (أمر أموال هوازن وسباياها) 4/ 152 ط أولى. قال السهيلي في الروض الأنف: " ولم يذكر ابن إسحاق شعر زهير في النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم، في رواية البكائي، وذكره في رواية إبراهيم بن سعد. " ثم أورد أبيات زهير بن صرد، كما في الاستيعاب من طريق إبراهيم بن سعد (الروض 4/ 152).
ورواية البكائي، هي التي روى بها ابن هشام السيرة، عنه عن ابن إسحاق.(1/502)
.............................................................................................................................
___________________________________
= محمد بن إسحاق، عن عَمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده الحديثَ بطوله والشعرَ، إلا أن في الشعر بيتين لم يذكرهما محمد بن إسحاق في حديثه، ذكرهما عبيدالله بن رُماحس، عن زياد بن طارق بن زياد، عن زياد بن صُرَد عن زخير بن صرد، عن أبيه، عن جده " زهير بن صرد أبي جرول " وهذا يدل على واسطةٍ بين زياد بن طارق وبين زهير بن صُرد، وهو خلاف رواية الطبراني.
ومن الغرائب أن بعض التابعين عاش بعد موت الشافعي أكثر من عشر سنين. وهذا من الغرائب أيضًا، ذكر أبو نُعَيْم في (تاريخ أصبهان) في ترجمة جعفر بن محمد بن أبَان الخراساني نزيل أصبهان - فيما ذكره أحمد بن موسى - قال: " ثنا محمد بن الحسين، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن أبَان الخراساني نزيل أصبهان - وذكر أنه وُلِدَ في زمن هارون الرشيد - قال: كنت بحلوان والناس يَعْدُون ويزدحمون، فقلت: ما لهؤلاء يَعُدُون؟ قالوا: ههنا رجل يقال له أبو جحش المغربي، وقد رأى عليَّ بن أبي طالب. فذهبت معهم إلى عند أبي جحش المغربي - شيخ أسود مثل القِير، طويل - فقلت له: أنت رأيت عليَّ بن أبي طالب، ابن عم المصطفى؟ قال: نعم. قلت: وابنَ كم كنتَ؟ قال: ابن عشر سنين، أقلّ أو أكثر. فحسبنا عمرَه، وإذا قد أتى عليه مائة وخمسون وثمانون سنةً. قلت: وأي يوم رأيتَه؟ قال: رأيته وقتَ الفتن حين طُعِنَ، وهو عليل. ووصف لنا خلقته، قال: كان رجلا عظيم الهامة دقيقَ الساقين، كبير البطن، طويل اليدين والأصابع. قال: ووجَّه علي بن أبي طالب الرسالةَ إلى بنيه يقول لهم: لا تظلموه، واضربوه ضربةً في المكان الذي ضربني؛ فإن هذا وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أوصاني به قبل هذا ". تم كلامه (1).
إذا كان حينَ الحكاية المذكورة، سِنه مائةٌ وخمس وثمانون سنةً، فيكون وُلِدَ بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرين سنة، ويكون تاريخ الحكاية من الهجرة سنةَ خمسَ عشرة ومائتين. وهذا غريب. انتهت " 103.
__________
(1) قوبل على (أخبار أصبهان، لأبي نعيم): 1/ 249 - 250.(1/503)
وآخِرُ من مات منهم بالبصرة: " أنَسُ بن مالك " (1). قال أبو عمر ابن عبدالبر: " ما أعلم أحدًا مات بعده ممن رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أبا الطفيل ".
وآخر من مات منهم بالكوفة: " عبدُالله بن أبي أوفى " (2).
وبالشام: " عبدالله بنُ بسر " (3) وقيل: بل " أبو أمامة ".
وتبسط بعضُهم (4) فقال: آخر من مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
بمصر: " عبدُالله بن الحارث بن جَزء الزبيدي ".
وبفلسطين (5): " أبو أبَيّ بنُ أم حرام ".
وبدمشقَ: " واثلةُ بنُ الأسقع " (6).
وبحمصَ: " عبدُالله بنُ بُسْر " (7).
__________
(1) على هامش (غ): [توفي أنس بن مالك بالبصرة سنة إحدى وتسعين. وقيل تسعين. قيل كان عمره مائة وثلاث سنين. زاد الواقدي: وقيل توفي سنة ثلاث وتسعين، وقيل سنة اثنتين وتسعين، ومات أنس وهو ابن [مائة] وعشر سنين. وقيل ابن مائة وسبع سنين، وقيل ابن بضع وتسعين، والصحيح أن عمره مائة إلا سنة] من الاستيعاب.
قال العراقي: " أقرَّ المصنفُ ابنَ عبدالبر في هذا، وفيه نظر؛ فإن محمود بن الربيع تأخر بعد أنس بلا خلاف، توفي سنة تسع وتسعين. وأيضًا فقد ذكر أبو زكريا ابن منده أن عبدالله بن بسر المازني توفي سنة ست وتسعين، لكن المشهور وفاته سنة ثمان وثمانين. وأيضًا فقد روى الخطيب في (المتفق والمفترق) عن محمد بن الحسن الزعفراني، أن عمرو بن حريث توفي سنة ثمان وتسعين، فإن كان كذلك فقد بقي بعد أنس. وقيل إن ابن حريث توفي سنة خمس وثمانين، فعلى هذا يكون قبل أنس. والله أعلم] (التقييد 315).
(2) على هامش (غ): [عبدالله بن أبي أوفى، توفي سنة ست وثمانين].
(3) على هامش (غ): [وعبدالله بن بسر، توفي سنة ثمان وثمانين]. هو المازني.
(4) أبهم المصنف، وقال العراقي: هو أبو زكريا يحيى بن عبدالوهاب بن منده، فإنه قال ذلك في جزء جمعه في (آخر من مات من الصحابة) التقييد 316، واستدرك منه على من ذكرهم ابن الصلاح: بريدة بن الخصيب: آخر من مات بخراسان من الصحابة، والعداء بن خالد بن هوذة، آخرهم بالرُخج من أعمال سجستان. ولكنْ في بريدة نظر؛ فقد توفي سنة ثلاث وستين، وتأخر بعده أبو برزة الأسلمي، توفي بخراسان سنة أربع وستين غازيا. وقيل مات بنيسابور، وقيل بالبصرة، وقيل غير ذلك (التقييد 319).
(5) ضبطه على هامش (غ) ضبط عبارة: [فسلطين بكسر الفاء وفتح اللام: من كور الشام ما بين الأردن وديار مصر. أم بلادها وقاعدتها: بيت المقدس، وهي إيلياء، بكسر الهمزة ممدودة. ومن العرب من يقول: فلسطون في الرفع، وبالياء في غيره].
(6) من هامش (غ): [توفي واثلة سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة: وهو من بني ليث].
(7) النصري، أمير حمص. انظره مع عبدالله بن بسر المازني في (الإصابة: ت 4556).(1/504)
وباليمامة: " الهرماسُ بن زياد ".
وبالجزيرة: " العرسُ بن عَميرة ".
وبأفريقيةَ: " رُوَيفع بن ثابت (1) ".
وبالبادية في الأعراب: " سلَمةُ بن الأكوع ".
رضي الله عنهم أجمعين (2).
وفي بعض ما ذكرناه خلافٌ لم نذكره. وقوله في " رويفع ": بإفريقية؛ لا يصح؛ إنما مات في حاضرة برقة، وقبرُه بها. ونزل " سلمة " إلى المدينة قبل موته بليال ٍ فمات بها. والله أعلم.
__________
(1) على هامش (غ): [وقيل في " رويفع " إنه مات بالشام. قاله ابن عبدالبر].
(2) في ورقة ملصقة بهامش (غ) بخط النسخة عن وفيات المعمرين من الصحابة - رضي الله عنهم -، عن ابن عبدالبر وهم: السائب بن يزيد، وعبدالله بن عمرو، وأبو أمامة الباهلي صدي بن عجلان، وعبدالله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبو أبيّ بن أم حرام ربيب عبادة بن الصامت، والهرماس بن زياد الباهلي، والعرس بن عميرة الكندي، وسلمة بن الأكوع - رضي الله عنهم / نقلاً من تراجمهم بالاستيعاب.(1/505)
[90 / و] النوع الموفي أربعينَ:
معرفة التابعين.
هذا، ومعرفةُ الصحابةِ أصل أصيلٌ يُرجَعُ إليه في معرفة المُرسَل والمسند (1). قال " الخطيبُ الحافظ ": التابعيُّ من صَحِبَ الصحابي (2).
قلت: ومطلقُه مخصوص بالتابع بإحسان. ويقال للواحدِ منهم: تابعٌ وتابِعي. وكلام " الحاكم أبي عبدالله " وغيرِه، مُشعِرٌ بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه، وإن لم توجد الصُّحبةُ العُرْفِيَّةُ (3). والاكتفاءُ في هذا بمجرد اللقاء والرؤية، أقربُ منه في الصحابي نظرًأ إلى مقتضى اللفظين فيهما *.
وهذه مهماتٌ في هذا النوع:
إحداها: ذكر " الحافظُ أبو عبدالله " أن التابعين على خمسَ عشرةَ طبقةً. الأولى: الذين لحقوا العشرةَ: سعيدُ بن المسيَّب، وقيس بن أبي حازم، وأبو عثمان النهدي،
__________
(1) زاد النووي: والمتصل. (التقريب 2/ 234).
(2) الكفاية: ما يستعمله أصحاب الحديث في العبارات (22).
(3) علوم الحديث للحاكم: معرفة التابعين. ولفظه: فخير الناس قرنا بعد الصحابة، من شافه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنهم الدين والسنن وهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل ". ورجحه العراقي على قول الخطيب (التقييد 320).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وما قيل " لم يكتفوا هنا بمجرد رؤيتِه الصحابيَّ " كما اكتفوا في إطلاق اسم الصحابيِّ على من رآه - صلى الله عليه وسلم -، والفرق عِظَمُ شرف رؤيته - صلى الله عليه وسلم - " حَسَنٌ لو صح ما نُسِب إليهم. لكن كلام " الحاكم " يدل على الاكتفاء بالرؤية كما سبق (1). انتهت " 105 / و.
__________
(1) انظر (معرفة علوم الحديث للحاكم 42 - 43. وتقييد العراقي 317، والتبصرة: 3/ 45).(1/506)
وقيس بن عباد، وأبو ساسانَ حُصَين (1) بن المنذر، وأبو وائل، وأبو رجاء العُطاردي، وغيرهم (2).
وعليه في بعض ِ هؤلاء إنكار؛ فإن " سعيد بن المسيب " ليس بهذه المثابة؛ لأنه ولد في خلافة عمر، ولم يسمع من أكثر العشرة. وقد قال بعضهم (3): لا تصح له روايةٌ عن أحدٍ من العشرة إلا سعد بن أبي وقاص.
قلت: وكان " سعدٌ " آخرَهم موتًا.
وذكر " الحاكم " قبل كلامه المذكور أن سعيدًا أدرك " عمرَ " فمن بعده إلى آخر العشرة *. وقال ": " ليس في جماعة التابعين من أدركهم وسمع منهم غير سعيد وقيس بن أبي حازم ".
__________
(1) حُضَين، بالضاد المعجمة كما في معرفة الحاكم (42) والكنى لمسلم (127) والإكمال للأمير ابن ماكولا (2/ 481) ووقع بالصاد المهملة في طبعتي التقييد 381 والتدريب 2/ 235.
(2) نقل على هامش (غ): [أبو وائل: شقيق بن سلمة: أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه ومات سنة تسع وتسعين في خلافة عمر بن عبدالعزيز، وهو ابن مائة وخمسين سنة. عنه، قال: " أدركت سبع سنين من سني الجاهلية ". روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعد، وغيرهم. وأبو رجاء: عمران بن ملحان، ويقال ابن تميم: أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وأسلم بعد الفتح. توفي ابن مائة وثلاثين. وقيل غيره. روى عن عمر، وعلي، وغيرهما ذكره كله " المقدسي " في (الكمال). والله أعلم].
(3) في تقييد العراقي: " هكذا أبهم المصنف، والظاهر أنه أخذ ذلك من قول قتادة الذي رواه مسلم في مقدمة الصحيح .. ثم تعقب العراقي النظر فيه (320) وفي مقدمة مسلم بإسناده عن قتادة: " فوالله ما حدثنا الحسن عن بدريٍّ مشافهة، ولا حدثنا سعيد بن المسيب عن بدري مشافهة إلا عن سعد بن مالك " 1/ 22 وسعد بن مالك، أبي وقاص بن أهيب الزهري " أحد العشرة، وأحد الستة من أصحاب الشورى، وسابع سبعة في الإسلام.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: الذي رأيته في كلام " الحاكم " في الكلام على (النوع الثامن، في معرفة المراسيل): وقد أدرك سعيدٌ أبا بكر وعمر " - فعدَّ العشرةَ - ثم قال: " وليس في جماعة التابعين من أدركهم " إلى آخر ما تقدم، لم يسقط أبا بكر. انتهت " 105 / ظ.
__________
قلت: الذي في مطبوعة علوم الحديث للحاكم / كنقل ابن الصلاح هنا: " أدرك عمرَ فمن بعده " ونصه في النوع الثامن: معرفة المراسيل: " وأصحها مراسيل سعيد بن المسيب، والدليل عليه أنه من أولاد الصحابة، فإن أباه المسيب بن حزن من أصحاب الشجرة وبيعة الرضوان. وقد أدرك سعيد عمر وعثمان وعليًّا وطلحة .. إلى آخر العشرة وليس في التابعين من أدركهم وسمع منهم غير سعيد وقيس بن أبي حازم. ثم مع هذا فإنه فقيه أهل الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة الذين يَعُد مالك بنُ أنس إجماعهم إجماع كافة الناس ". وكذلك ذكر أبو حاتم الرازي أنه روى عن عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص .. (الجرح والتعديل 2/ 59 ت 262).(1/507)
وليس ذلك على ما قال كما ذكرناه، نعم " قيس بن أبي حازم " سمع العشرةَ وروَى عنهم، وليس في التابعين أحدٌ روَى عن العشرة سواه. ذكر ذلك " عبدُالرحمن بن يوسف [90 / ظ] بن خراش الحافظ " روينا - أو بلغنا - عنه. وعن " أبي داودَ السجِستاني " أنه قال: روَى عن التسعة ولم يرو عن عبدالرحمن بن عوف.
ويلي هؤلاء التابعون الذي ولدوا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبناء الصحابة *، كعبدِالله بن أبي طلحة، وأبي أُمامةَ (1) أسعدَ بنِ سهل بن حُنَيف، وأبي إدريسَ الخَوْلاني وغيرِهم.
__________
(1) وقع في مطبوعة الحاكم (45): [أمامة بن سهل بن حنيف] ولعله من خطأ الطبع.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: هذا الكلام ليس بمستقيم معنىً ولا نقلا:
أما المعنى؛ فكيف يجعل مَن وُلِدَ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَلِي من وُلِدَ بعده - صلى الله عليه وسلم -؟ والصوابُ أن يكون مَن وُلِد في حياته مقدَّمًا، وأن تلك الطبقةَ تليه، لا أنه يَليها.
وأما النقل؛ فلم يذكر " الحاكم " ذلك، ولكنه عدَّ المخضرمين ثم قال: " ومن التابعين بعد المخضرمين، طبقةٌ وُلِدوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعوا منه ". وذكَر ممن سبق " أبا أمامةَ " فقط. وعدَّ من جملتهم: " يوسفَ بن عبدالله بنَ سلاَم، ومحمدَ بن أبي بكر الصديق، وبشيرَ بن أبي مسعود الأنصاري، وعبدَالله بن عامر بن كريز، وسعيدَ بن سعد بن عبادة، والوليدَ بن َعبادة بنِ الصامت، وعبدَالله بنَ عامر بن ربيعة، وعبدَالله بن ثعلبة بن أبي صُعَير (1) وأبا عبدالله الصنابحي، وعمرَو بنَ سلمة الجرمي، وعُبيد بن عُمير، وسليمانَ بن ربيع، وعلقمةَ بن قيس " ولم يذكر من جملتهم: عبدالله بنَ أبي طلحة، ولا أبا إدريس. وما ذكره " الحاكم " هنا، يناقض ما قرره في (النوع السابع: في معرفة الصحابة) إذ قال: " والطبقة الثانية عشرة صِبيانٌ وأطفالٌ رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ذكرع الحاكم هنا: بن صُعَيْر (45) وذكره قبل ذلك في الصحابة (24): بن أبي صعير. وهما قولان اسم جدِّ عبدالله بن ثعلبة (التهذيب، والخلاصة، والإصابة).(1/508)
= في حجة الوداع وغيرِها، وعِدادُهم في الصحابة. منهم: السائبُ بنُ يزيد، وعبدُالله بنُ ثعلبةَ بن أبي صُعير؛ فإنهما قدما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا لهما، وجماعة يطولُ الكتابُ بذكرهم ومنهم: أبو الطفيل عامرُ بنُ واثلة، وأبو جُحَيْفةَ؛ فإنهما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف وعند زمزم " (1).
ونحن نتعقب هؤلاء المذكورين؛ فأما " عبد
الله بنُ أبي طلحة " فلما وُلِدَ ذهب به أخوه لأمه، أنَسُ بنُ مالك، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحنَّكه وبرَّك عليه وسماه عبدَالله. وإذا عُدَّ " محمد بنُ أبي بكر " في الصحابة - وإنما ولدَ عند الشجرة وقت الإحرام بحجة الوداع، ولم يُذكر له حضورٌ عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنه رآه - فَـ " عبدُالله بن أبي طلحة " أوْلى أن يعد في أصاغر الصحابة. وأما " أبو أمامة أسعد بن سهل بن حُنَيف ". فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماه باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة، وكناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكنيته ودعا له وبرَّك عليه، وقال " الزبيري ": " أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وكان ممن أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ". وما ذكره " الحاكم " من عدِّه في التابعين، طريقةٌ لبعضهم عدَّه في كبار التابعين، ومقتضى ما تقدم أن هؤلاء كلهم معدودون في الصحابة.
وأما " أبو إدريس الخولاني، عائذ الله "؛ فأبوه عبدُالله صحابيٌّ، وهو وُلد يومَ حنين، فولادته متقدمة بكثير على محمد بن أبي بكر. أما " يوسف بن عبدالله بن سَلاَم "؛ فجيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير فأجلسه في حجره ومسح على رأسه، وقال عبدالله بن سلام (2): " رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ كِسرةً من خبزِ شعيرٍ فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدامٌ " ثم أكلها. وذكر ذلك ابنُ عبدالبر.
وأما " محمد بن أبي بكر " فهو معدود في الصحابة كما تقدم. وأما " بَشِير بن أبي مسعود "؛ فقد ذكر ابنُ عبدالبر في (الاستيعاب) أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير. =
__________
(1) قوبل على علوم الحديث للحاكم: في المخضرمين 44 - 45 وفي الصحابة: 24.
(2) هكذا في مخطوط المحاسن. والحديث ذكره ابن عبدالبر في ترجمة يوسف بن عبدالله بن سلام، مما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يسنده (4/ 159 ت 2827) والذي في مجمع الزوائد للنور الهيثمي، أن الحديث عن عبدالله بن سلام رواه أبو يعلى (الأطعمة: أكل الخبر بالتمر: 5/ 40).
وانظر في ترجمة يوسف بتهذيب التهذيب (11/ 416 ت 811) الخلاف في صحبته وروايته.(1/509)
.............................................................................................................................
___________________________________
= فعلى هذا، هو صحابي. وأما " عبدالله بن عامر بن كُرَيز " - بضم الكاف وفتح الراء المهملة وآخره زاي - فذكر ابنُ عبدالبر في (الاستيعاب) أنه ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأتِيَ به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير، وقال: " هذا شَبَهُنَا "، وجعل يتفل عليه ويعوِّذه، فجعل عبدالله يتسوغ ريقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنه لَمُسْقَى " فكان لا يعالج أرضًا إلا ظهر له الماءُ. قال ابن عبدالبر: وقد روَى عبدُالله هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أظنه سمع منه " وما قدمناه من القصة التي ذكرها ابن عبدالبر، يقتضي أن يكون صحابيًّا.
وأما " سعيدُ بن سعدِ بن عبادة "؛ فقال قوم: له صحبةٌ. وقال أحمدُ بن حنبل: أما أخوه قيس فنعم، وأما سعيد فلا أدري (1)، قال أبو عمر بن عبدالبر: صحبتُه صحيحة، ذكره الواقدي وغيره فيمن له صحبة (2).
وأما " الوليدُ بنُ عبادةَ بن الصامت "؛ فقال " ابنُ عبدالبر ": له صحبةٌ، قاله هشامُ بن عمار، عن حنظلة عن أبي حَزْرَة يعقوب بن مجاهد عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: كنت أخرج مع أبي وكانت له صحبة (2). وأما " عبدالله بن عامر بن ربيعة " الأصغر؛ فإنه وُلِد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل في سنة ست من الهجرة، وحفظ عنه وهو صغير، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ أربع سنين أو خمس سنين، وروى الليثُ بن سعد عن محمد بن عجلان عن زيادٍ، مولى لعبدِالله بن عامر بن ربيعة، عن عبدالله بن عامر، قال: جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في دارِنا وكنت ألعب فقالت أمي: يا عبدالله تعال أعطيك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أردتِ أن تعطيه؟ " قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا، قال: " أما إنك لو لم تفعلي كُتِبَتْ عليك كذبة " (3). وأما " عبدالله بن ثعلبة بن صُعَيْر [ويقال: ابن أبي صُعير] فقد قيل له: إنه ولد قبل الهجرة بأربع سنين، وقيل وُلد بعد الهجرة بست سنين، وأتي به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح على وجهه ورأسِه زمنَ الفتح =
__________
(1) الاستيعاب 2/ 620 (983).
(2 - 3) من الاستيعاب لأبي عمر بن عبدالبر: ترجمة الوليد بن عبادة بن الصامت (رقم 719) وعبدالله بن عامر بن ربيعة (586).(1/510)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وقد تقدم في كلام " الحاكم " شيء من ذلك حين ذكَرَه (1)، والسائب بن يزيد. وأما " أبو عبدالله الصُّنَابِحي، الذي هو عبدالرحمن بنُ عُسَيْلةَ "؛ فلا ينبغي أن يُعَدَّ مع هؤلاء؛ فإن ولادته قديمة، ولكن إسلامه قبيل الوفاة، وسافر إلى المدينة فبلغه في الجُحْفةِ وفاةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، وإنما عَدَّه " الحاكم " مع هؤلاء باعتبار حصول ِ الإسلام له ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُقبَض، كما حصل لهؤلاء بالبيعة ولم يحصل لهم صحبة، وقد بينت الصنابِحيين في جزء سميته (الطريقة الواضحة في تمييز الصنابحة). وأما " عمرو بن سلمة الجرمي "؛ فقد قيل إنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه، ذكر ذلك ابنُ عبدالبر. وذكر ابنُ أبي حاتم في كتاب (الجرح والتعديل (3)): روى بعضهم أن أباه ذهب به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما ذكره ابنُ أبي حاتم وابن عبدالبر، جزم به الذهبي في (الصحابة) (4). وأما " عُبَيد بنُ عُمَيْر "؛ فقد ذكر البخاري أنه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد عده جمع في الصحابة، وقال أبو حاتم الرازي: له صحبة. وقال ابن عبدالبر: هو عندي كما قالا. وأما " علقمة بن قيس "؛ فهو الفقيه الراوي عن عبدالله بن مسعود، والأمر فيه كما قال " الحاكم ".
واعلم أن " الحاكم " لم يستوف بيان الطبقات التي أشار إليها في التابعين وهي خمس عشرة طبقة، وإنما ذكر الطبقة الأولى والطبقة الثانية، فعدَّ فيها " الأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وأبا سلمة بن عبدالرحمن، وخارجة بن زيد " قال: وغيرهم من هذه الطبقة.
فائدة: وما ذكره " الحاكم " في مسروق، جرى فيه على المشهور. وقد ذكره " الحافظ الذهبي " في (الصحابة) فقال: " مسروق بن الأجدع الهمداني، أبو عائشة، أدرك زمن الجاهلية وسمع عليًّا (5) " هذا كلامه بحروفه، وهذا غريب، والمشهور أنه من التابعين.
وأما أرفعه في ذلك؛ فرواية البخاري التي أسندها عن مسروق، عن " أم رومان "، وأم رومان توفيت سنة أربع أو خمس من الهجرة، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرها. =
__________
(1 - 2) (الاستيعاب، لابن عبدالبر): عبدالله بن ثعلبة بن صعير (1478) وعبدالرحمن بن عسيلة الصنابحي (1439) مع علوم الحديث للحاكم: 45.
(3) قابل على الجرح والتعديل (3/ 1179 ت 1922).
(4) تجريد الصحابة لأبي عبدالله الذهبي: 1/ 409.
(5) التجريد: 2/ 72.(1/511)
الثانية: المخضرَمون من التابعين، هم الذين أدركوا الجاهليةَ وحياةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلموا ولا صحبة لهم *. واحدُهم مخضرَمٌ بفتح الراء، كأنه خُضْرِمَ (1) أي قُطِعَ عن
__________
(1) طرة على هامش (غ): [قال الحاكم: قال بعض الأدباء: إن المخضرم اشتقاقه أن أهل الجاهلية كانوا يخضرمون آذان الإبل أي يقطعونها لتكون علامة لإسلامهم إن أغير عليها أو حوربوا. ط]
- في علوم الحاكم: حدثني بعض مشايخنا أن المخضرم .. (45).
___________________________________
= فمبقتضى ذلك يكون صحابيًّا. لكن قد روي هذا الحديث عن مسروق، عن عبدالله بن مسعود، عن أم رومان. قال عبدالغني: وهو الأشبه بالصواب ". وقد أثبتنا ذلك فيما اعترضنا به على " البخاري ". وانتهت.
" وذكر في الطبقة الثالثة: " الشعبي، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وشريحا " قال: وأقرانهم من هذه الطبقة، قال: " ثم هي طبقات خمس عشرة طبقة، آخرهم من لقي " أنس بن مالك " من أهل البصرة، ومن لقي " ابن أبي أوفى " من أهل الكوفة، ومن لقي " السائب بن يزيد " من أهل المدينة، ومن لقي " عبدالله بن الحارث بن جزء " من أهل الحجاز، ومن لقي أبا أمامة [الباهلي] من أهل الشام ". وكأن " الحاكم " أجرى ذلك على آخر من مات من الصحابة بالنواحي، وقد تقدم بما فيه. وينبغي أن يعد آخر طبقة في التابعين " سليمان بن نافع العبدي " الذي لقيه إسحاق بن راهويه - وقد تقدم حديثه - والذين لقوا " عكراش بن ذؤيب " إن صحت الحكاية المتقدمة. انتهت " 105 / ظ - 107 / ظ.
__________
- قوبلت النقول هنا، على: علوم الحاكم، واستيعاب ابن عبدالبر، وتجريد الذهبي، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ليس في هذا الكلام أنهم أسلموا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر بعضهم أنهم الذين أسلموا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروه. ومجرد ذلك لا يصح؛ إذ كان يلزم عليه أن يعد " الصنابحي، وأُوَيسًا القُرَني " من المخضرمين؛ فلا بد من ذكر إدراك الجاهلية إلى آخره. ثم الظاهر أنه كيف حصل الإسلام، يسمى مخضرما. انتهت " 108 / و.
__________
- وانظر تقييد العراقي: 323.(1/512)
نظرائه الذين أدركوا الصحبةَ وغيرَها. وذكرهم " مسلم " فبلغ بهم عشرين نفسًا، منهم: " أبو عمرو الشيباني (1)، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي، وعبدُ خير بن يزيد (2) الخَيْوَاني، وأبو عثمان النهدي عبدُالرحمن بن مل (3)، وأبو الحلال العتكي ربيعة بن زرارة " *.
__________
(1) على هامش (غ): [أبو عمرو الشيباني: اسمه سعد بن إياس. وعده الحاكم من المخضرمين .. ] علوم الحاكم: 44.
(2) على هامش (غ): [عبد خير بن يزيد الخَيواني، بفتح الخاء المعجمة من فوق: من خَيْوَانَ، بطن من همدان.] وانظره في (تهذيب التهذيب 6/ 124 / 258).
(3) على هامش (ص): [قال المؤلف - رحمه الله -: في الميم هنا الحركات الثلاث، واللام مشددة. ومنهم من أسكنها وكسَر الميم وهو غريب].
ووقع في طبعة الهند، والعلمية ببيروت سنة 1401 هـ، ومتن ابن الصلاح بالتقييد والإيضاح طبعة السلفية بالمدينة المنورة: [وأبو عثمان النهدي وعبدالرحمن بن مل] والصواب أن أبا عثمان النهدي، هو عبدالرحمن بن مل - ضبطه في (التقريب): بلام ثقيلة والميم مثلثة - وذكره ابن عبدالبر في (الاستيعاب في حرف العين برقم 1461 وفي باب الكنى برقم 3084) وانظر (تهذيب التهذيب 6/ 277 / 546) و (جمهرة أنساب العرب لابن حزم 418).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وتمام من ذكره " مسلم " فيما ذكره " الحاكم ": " شريح بن هانئ الحارثي، ويُسَيْر - ويقال أُسَيْر بن عمرو، وأهل البصرة يقولون: ابن جابر - والأسودُ بن يزيد النخعي، والأسودُ بن هلال المحاربي " من الكوفة. و " المعرورُ بن سويد، وشبيل بن عوف الأحمسي، ومسعود بن خراش، ومالك بن عمير، وأبو رجاء العطاردي عمران بن تيم - وقيل في اسم أبيه: مِلْحان - وغنيم بن قيس، وأبو رافع الصائغ، وخالد بن عمير العدوي، وثمامة بن حَزْن القُشَيري، وجُبَيْر بن نُفَيْرة الحضرمي. انتهت " 108 / و.
__________
- زاد العراقي عشرين آخرين من المخضرمين، لم يذكرهم مسلم ولا المصنف، انظر أسماءهم في (التقييد والإيضاح: 325).(1/513)
وممن لم يذكره " مسلم " منهم: " أبو مسلم الخَوْلاني عبدالله بن ثُوَب (1)، والأحنف بن قيس ". والله أعلم *.
الثالثة: من أكابر التابعين، الفقهاءُ السبعةُ من أهل المدينة وهم: " سعيدُ بن المسيب، والقاسمُ بن محمد، وعروةُ بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن،
__________
(1) ضبطه على هامش (غ): [ثوب، بضم الثاء المثلثة على وزن عمر، وقيل اسمه عبدالله بن عوف، والأول أكثر وأشهر. ط] وضبطه في (التقريب): بضم المثلثة وفتح الواو، بعدها باء موحدة. من كبار التابعين. أسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقدم المدينة يوم قبض. ذكره ابن عبدالبر في حرف العين من (الاستيعاب) برقم 1479 وفي باب الكنى برقم 3175 وانظره في (اللباب 1/ 472).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: المخضرمون أكثر من ذلك، وقد ذكر بعضُ المتأخرين أنه بلغ بهم أكثر من مائة رجل، ولست بالواثق بذلك، ولكن سأفرد لهم عملا مستقلا بكراسة - إن شاء الله تعالى -. ويُطلق مخضرم على من لم يحج، وقال " ابن حبان " في صحيحه: " والرجل إذا كان له في الكفر ستون سنة وفي الإسلام ستون سنة، يدعى مخضرَمًا " - وسيأتي في النوع الموفي ستين من هو بهذه المثابة والزيادةُ، على ما ذكر من حسان بن ثابت، وحكيم بن حزام - وقال أبو موسى المديني في كتابه (معرفة الصحابة): " إن جماعة من أحياء العرب أسلموا ولم يهاجروا فخضرموا آذانَ إبلِهم لتكون علامةً لإسلامهم؛ حتى لا يغار عليهم ولا يُقاتَلوا، فسموا مخضرمين ".
وما تقدم من ضبطهم بالخاء المعجمة وفتح الراء، يخالفه ما ذكره " ابنُ خلكان " أنه سُمع بالحاء المهملة وكسر الراء (1). وذكر " العسكري (2) ": " الخضرمة من الإبل ما نتجت من العراب والبخاتي فقيل رجل مخضرم إذا عاش في الجاهلية والإسلام ". وما ذكره " العسكري " يقرب منه ما اشتهر في العُرف من إطلاق مخضرم على من يشتغل بهذا الفن وهذا الفن، ولا يمعن في واحد منهما " 108 / و ظ.
__________
(1) وفيات الأعيان: 2/ 214 ط بيروت. وذكر قبلها الخضرمة، بالخاء المعجمة.
(2) العسكري، أبو هلال، في كتابه (الأوائل) قاله العراقي في (التقييد والإيضاح) وفيه: ما نتجت من العراب واليمانية. (322).(1/514)
وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وسُليمان بن يسار ". روينا عن " الحافظ أبي عبدالله " أنه قال: " هؤلاء الفقهاء السبعة، عند الأكثر من علماء الحجاز " (1) وروينا عن " ابن المبارك " قال: " كان فقهاء أهل المدينة الذين يصدرون عن رأيهم، سبعة " فذكر هؤلاء، إلا أنه لم [91 / و] يذكر " أبا سلمة بن عبدالرحمن " وذكر بَدَلَه " سالمَ بنَ عبدِالله بن عمر ". وروينا عن " أبي الزناد " تسميتهم في (كتابه) عنهم، فذكر هؤلاء، إلا أنه ذكر " أبا بكر بنَ عبدالرحمن " بدلَ " أبي سلمة، وسالم " (2).
__________
(1) علوم الحديث للحاكم، أبي عبدالله الحافظ: في معرفة التابعين (43).
وعلى هامش (ص) نظما:
[ألا كل مَن لا يقتدي بأئمة ...................... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
فخذهم: عبيدالله، عروة قاسم ................ سعيد، أبو بكر، سليمان، خارجه].
وفي ورقة ملصقة على هامش (غ): [الفقهاء السبعة - على الخلاف فيهم -: " سعيد بن المسيب أبو محمد المخزومي " ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر وتوفي بالمدينة، قال يحيى بن سعيد: سنة إحدى أو اثنتين وتسعين. وقال الواقدي: سنة أربع وتسعين - وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها - وقال المدائني ويحيى بن معين: سنة خمس ومائة.
و " أبو عبدالله عروة بن الزبير " ولد سنة ست وعشرين. قال " مصعب " - الزبيري -: ومات وهو ابن سبع وستين. قال الواقدي: مات سنة أربع وتسعين.
و " أبو القاسم بن محمد بن أبي بكر " توفي سنة إحدى أو اثنتين ومائة، وقال يحيى بن معين: سنة ثمان ومائة. وقال الواقدي: سنة اثنتي عشرة ومائة وهو ابن سبعين أو اثنتين وسبعين سنة.
و " أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام " ولد في خلافة عمر بن الخطاب، ومات في سنة أربع وتسعين.
و " أبو عبدالله عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود " قال يحيى بن معين: مات سنة اثنتين ومائة، وقيل: سنة تسع وتسعين. قال الواقدي: سنة ثمان وتسعين، وقال الهيثم بن عدي: سنة سبع وتسعين.
و " أبو زيد خارجة بن زيد بن ثابت " مات سنة مائة وهو ابن سبعين سنة.
و " أبو أيوب سليمان بن يسار " مولى ميمونة، أخو عطاء وعبدالملك وعبدالله - بني يسار -. قال الواقدي: مات سليمان سنة سبع ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. وقال الهيثم بن عدي: مات سنة مائة.
و " أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف " قال يحيى بن معين: مات سنة أربع وتسعين، وقال الواقدي: سنة أربع ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
و " أبو عمر سالم بن عبدالله بن عمر " قال الواقدي: مات سنة ست ومائة، وقال الهيثم: سنة ثمان ومائة.].
- قابل على تراجمهم في (تهذيب التهذيب).
(2) الحاكم، بإسناده عن أبي الزناد (علوم الحديث 43). =(1/515)
الرابعة: ورد عن " أحمد بن حنبل " أنه قال: " أفضل التابعين سعيدُ بن المسيّب " فقيل له: فعلقمةُ والأسودُ؟ فقال: " سعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود " وعنه، أنه قال: " لا أعلم في التابعين مثلَ أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم. " وعنه أيضًا، أنه قال: أفضل التابعين: قيس، وأبو عثمان، وعلقمة، ومسروق. هؤلاء كانوا فاضلين ومن عِلْيَةِ التابعين " (1).
وأعجبني ما وجدته عن " الشيخ أبي عبدالله بن خفيف الزاهد الشيرازي " في كتاب له، قال: " اختلف الناس في أفضل التابعين، فأهلُ المدينة يقولون: سعيد بن المسيب، وأهل الكوفة يقولون: أويس القرني، وأهل البصرة يقولون: الحسن البصري " (2).
__________
= وأسند بعده عن علي بن المديني، قال: " سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: فقهاء المدينة اثنا عشر: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبدالله بن عمر، وإخوته حمزة وزيد وعبيدالله وبلال، بنو عبدالله بن عمر، وأبان بن عثمان بن عفان، وقَبِيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأخوه إسماعيل بن زيد بن ثابت (44). نقله العراقي في التبصرة (3/ 53 - 54) ولم يشر النووي في (التقريب) إلى خلاف في السبعة المذكورين أولا في متن ابن الصلاح - عن الحاكم - لكنه في مراتب التابعين بتهذيب الأسماء، ذكر الستة الأولين ثم قال: وفي السابع ثلاثة أقوال: هل هو أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، أو سالم بن عبدالله بن عمر، أو أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام؟ (1/ 1 / 16) وهو نظم العراقي في الألفية:
وفي الكبار الفقهاءُ السبعة خارجةُ، القاسمُ، ثم عروه
ثم سليمان، عبيدُالله سعيد، والسابع ذو اشتباه
إما أبو سلمة أو سالمُ أو فأبو بكرٍ، خلاف قائمُ
(1) على ورقة ملصقة بنسخة (غ) من تعريف بهؤلاء الأئمة الأربعة وتواريخ وفياتهم:
[أبو شبل علقمة بن قيس بن عبدالله بن علقمة النخعي، وهو عم الأسود بن يزيد وعبدالرحمن بن يزيد، وهو خال إبراهيم النخعي. مات سنة اثنتين وستين.
- أبو عمرو، ويقال أبو عبدالرحمن، الأسود بن يزيد، بن قيس، مات سنة خمس وسبعين.
- أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني، مات سنة ثلاث وستين.
- الحسن أبو سعيد بن أبي الحسن البصري، واسم أبي الحسن يسار مولى الأنصار. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر - رضي الله عنه -. ومات بالبصرة سنة عشر ومائة. روي أن أمه كانت خادمة لرسول لأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما بعثتها في حاجة فيبكي الحسن فتناولته ثديها. يُرَون أن تلك الحكم التي رُزِقَها الحسن من بركات ذلك. ورُوي أن أم سلمة أخرجته إلى عمر فدعا له فقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس.] قوبل على تراجمهم في (تهذيب التهذيب).
(2) قال العراقي: " والصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة؛ لما رَوى مسلم في صحيحه من حديث =(1/516)
وبلغنا عن " أحمد بن حنبل " قال: " ليس أحدٌ أكثرَ في فتوى من الحسَن، وعطاء " (1) يعني من التابعين. وقال أيضًا: " كان عطاء مفتي مكة، والحسنُ مفتي البصرة، فهذانِ أكثَرَ الناسُ فتيا عنهم، وكذا رأيهم " (2).
وبلغنا عن " أبي بكر بن أبي داود " قال: " سيدنا التابعين من النساء: حفصة بنت سيرين، وعمرة بنت عبدالرحمن. وثالثتهما - وليست كَهُما - أم الدرداء * " والله أعلم.
الرابعة: روينا عن " الحاكم أبي عبدالله " قال: " طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماعُ أحدٍ منهم من الصحابة، منهم: إبراهيمُ بن سويد النخعي - وليس بإبراهيم بن يزيد النخعي - وبُكَيْرُ بنُ أبي السَّمِيط (3)، وبكيرُ بنُ عبدالله بنِ الأشجِّ. " وذكر غيرهم، قال: " وطبقةٌ عِدادُهم عند الناس في أتباع التابعين، وقد لقُوا الصحابةَ، منهم: " أبو الزناد
__________
= عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن خير التابعين رجل يقال له أويس ". الحديث. وقد يحمل ما ذهب إليه أهل المدينة، وأحمد أيضًا، من تفضيل سعيد بن المسيب على سائر التابعين؛ أنهم أرادوا فضيلة العلم، لا الخيرية الواردة في الحديث. والله أعلم (التقييد والإيضاح: 326).
- وحديث عمر - رضي الله عنه -، أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل أويس القرني - رضي الله عنه - (ح 2542) 4/ 1968 وانظر معه في (مجمع الزوائد، فضائل: ما جاء في أويس القرني (10/ 22).
(1) [عطاء بن أبي رباح، كنيته أبو محمد - واسم أبي رباح أسلم - وكان مفلفل الشعر، أسود أفطس أشل أعور، ثم عَمِيَ، وكان مولى فهر أو جمح. قال الواقدي وأبو نعيم: مات عطاء سنة خمس عشرة ومائة. وقال الهيثم بن عدي: سنة أربع عشرة ومائة. قال الواقدي: مات وهو ابن ثمان وثمانين سنة] من هامش (غ).
(2) من (غ، ص)، وفي (ع): [فهذان أكثر الناس عنهم رأيهم].
(3) على هامش (ص): [قال المؤلف: السميط هو بفتح السين المهملة، وبعد الميم ياء].
- وفي (التقريب): ويقال بالضم.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: المراد أم الدرادء الصغرى (1) التابعية، واسمها هُجَيمة - وبهامشه: ويقال: جهيمة - والأحسن في تفضيل التابعين أن يقال: من حيث الزهد والورع، أويس، ومن حيث حفظ الخبر والأثر: سعيد. انتهت " 109 / و.
__________
(1) الاحتراز، من " أم الدرداء الكبرى، خيرة بنت أبي حدرد الأسلمي " الصحابية - رضي الله عنها - (الاستيعاب 4150) وانظر معه في (أسد الغابة) التنبيه على وهم " أبي نعيم " في أن خيرة هي هجيمة.(1/517)
عبدالله بن ذكوان " لقي عبدَالله بن عمر وأنَسًا، و " هشامُ بن عروة " وقد أدخِلَ على عبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله، و " موسى بنُ عقبة " وقد أدرك أنَس بنَ مالك، و " أمُّ خالد بنتُ خالد بن سعيد بن العاصي " (1).
وفي بعض ما قاله مقال (2) *.
__________
(1) الحاكم، علوم الحديث، آخر النوع الحادي والعشر: معرفة التابعين (44 - 45).
(2) بيانه في التقييد والإيضاح (327) والتبصرة (3/ 61) وفيما يلي من المحاسن.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: قال الحاكم: رواية إبراهيم بن سويد النخعي، الصحيحة، عن علقمة والأسود. وبُكَيْر بنُ أبي السَمِيط، لم يصح سماعه من أنَس، وإنما أسقط قتادة من الوسط. وبُكَير بنُ عبدالله بن الأشج، لم يثبت سماعه من عبدالله بن الحارث بن جزء، وإنما روايته عن التابعين. وثابت بن عجلان الأنصاري: لم يصح سماعه من ابن عباس، إنما يروي عن عطاء وسعيدِ بن جبير عن ابن عباس. وسعيدُ بن عبدالرحمن الرَّقاشي، وأخوه واصل، أبو حرة، لم يثبت سماع واحد منهما من أنس " (1).
وعلى بعض ما ذكره " الحكم " مقال؛ فإن " بكير بن عبدالله بن الأشج " سمع من السائب - بن يزيد - وربيعة بنِ عباد الديلي ولهما صحبة، وروى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وقد تقدم أنه صحابي. ولعل ما ذكره " الحاكم " تفريع على طريقته التي تقدمت في عدِّ أبي أمامة هذا وأمثالِه في التابعين، وقد تقدم أنه وقع منه ما خالفها، وسيأتي قريبًا في " عبدالله بن ذكوان " خلافها. و " ثابت بن عجلان " معدود في التابعين، روى عن أنس وأبي أمامة الباهلي. انتهت " 109 / و.
__________
(1) قوبل النقل عن الحاكم على (علوم الحديث: 45).
وقوله: وسعيد بن عبدالرحمن الرقاشي وأخوه واصل أبو حُرة؛ وهَّمه العراقي في نسبه رقاشيًّا وأنه أخوا أبي حرة الرقاشي. وليس واحد منهما رقاشيًّا. وأبو حرة اسمه حنيفة. وأما واصل فليس بأبي حرة الرقاشي. وغلَّطه المزي. وقد ذكر ابن حِبّان في أتباع التابعين سعيدَ بن أبي عبدالرحمن البصري وأخاه واصلا وقال: أمهما بزة مولاة بني سليم (التبصرة 3/ 61).(1/518)
قلتُ: وقوم عُدُّوا من التابعين وهم من الصحابة: ومن أعجب ذلك، عَدُّ " الحاكم أبي عبدالله " " النعمانَ، وسويدًا، ابني مُقَرِّنِ المزني " في التابعين، عندما ذكر الإخوة َمن التابعين. وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة (1). والله أعلم *.
__________
(1) علوم الحاكم: (145) و " النعمان بن مقرن بن عائذ المزني " أبو عمرو - وقيل أبو حكيم - كان صاحب لواء مزينة يوم فتح مكة. روي عنه أنه قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربعمائة من مزينة ". ثم سكن البصرة، وتحول عنها إلى الكوفة. وشارك في الفتوح واستشهد في وقعة نهاوند، فنعاه " أمير المؤمنين عمر " إلى الناس على المنبر، ووضع يده على رأسه يبكي. (الاستيعاب: 2626) وأخوه " سويد بن مقرن أبو عدي صحابي، كذلك، يعد في الكوفيين، وبالكوفة مات. (الاستيعاب: 1123).
- على هامش (غ) بخط ابن الفاسي: بلغ مقابلةً ثانية بأصل ٍ مقابل على أصل الشيخ - رحمه الله -.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: أول التابعين موتًا " أبو زيد معمرُ بن زيد " قتل بخراسان، وقيل: بأذريبجان سنة ثلاثين. وآخرهم موتًا " خلفُ بن خليفة " توفي سنة ثمانين ومائة. وما تقدم من حكاية أبي جحش المغربي - إن صحت - تقتضي أن يكون هو آخر التابعين موتًا. وانظر ما يناسبها مما تقدم. انتهت " 109 / ظ.(1/519)
النوع الحادي والأربعون:
معرفة الأكابرِ الرواةِ عن الأصاغر.
ومن الفائدة فيه، ألا يُتوهَّمَ كونُ المرويِّ عنه أكبرَ أو أفضلَ من الراوي؛ نظرًا إلى أن الأغلب المرويِّ عنه كذلك، فيُجهَل بذلك منزلتُهما، وقد صح عن " عائشة " - رضي الله عنها - أنها قالت: " أَمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نُنَزِّلَ الناسَ منازلَهم " (1) *.
__________
(1) قيد عليه العراقي: أنه جزم بصحة حديث عائشة - رضي الله عنها -. " وفيه نظر؛ فمسلم رواه قي مقدمته بغير إسناد، وأبو داود رواه في سننه من رواية ميمون بن أبي شبيب عن عائشة. وأعلَّه بالانقطاع. لكن المصنف تبع الحاكم في تصحيحه. وسبق في النوع السادس عشر أنه لا يرى ما انفرد الحاكم بتصحيحه صحيحًا، بل ينظر فيه فإن لم نجد فيه علة توجب رده حكمنا عليه بأنه حسن " (التقييد 328 - 330).
- الحديث في (مقدمة مسلم، مع قوله تعالى: " وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ " (سورة ص: 6)) وفي سنن أبي داود، ك الأدب (ح 4842) وقال أبو داود: ميمون لم يدرك عائشة - رضي الله عنها -.
وفي نوادر الأصول للحكيم الترمذي من رواية ميمون بن أبي شبيب عن عائشة - رضي الله عنها - (الأصل 84/ 124) وفي العلل للدارقطني: وسئل عن حديث عثمان بن مخارق، أو ابن أبي مخارق عن عائشة: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " الحديث، فقال: يرويه أسامة بن زيد - الليثي، مولاهم - عن عمرو بن مخارق موقوفًا وهو الصواب (5/ 94) وانظر تخريج الحديث في (كشف الخفا 1/ 224 ح 590) مع (مختصر المقاصد: 92 ح 161).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: الحديث ذكره " مسلم " في مقدمة كتابه.
ومن أحلى ما يُذكر في رواية الأكبر عن الأصغر، ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تميم الداري، في أمر الدال، والحديث في (الصحيح) (1) ومن ذلك أمرُ الأذان (2)، وما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمر بن الخطاب وسعد بن عبادة.
__________
(1) في صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجسَّاسة، لتجسسها الأخبار للدجال (ح 119/ 4942).
(2) في الصحيحين: كتاب الصلاة، الأذان، باب بدء الأذان، مع (فتح الباري 2/ 53 - 55).(1/520)
ثم إن ذلك يقع على أضرب:
منها: أنيكون الراوي أكبر سنًّا وأقدم طبقة من المرويِّ عنه: كالزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، في روايتهما عن " مالك "، وكأبي القاسم عبيدالله بن أحمد الأزهريّ - من المتأخرين، أحد شيوخ الخطيب - روَى عن " الخطيبِ " في بعض تصانيفه، و " الخطيبُ " إذ ذاك في عنفوانِ شبابِه وطلبه.
ومنها: أن يكون الراوي أكبر قدرًا من المرويِّ عنه، بأن يكون حافظًا عالمًا، والمرويُّ عنه شيخًا راويا فحسب، كـ: " مالك " في روايته عن عبدالله بن دينار، و " أحمد بن حنبل، وإسحاقَ بن راهَويه " في روايتهما عن عبيدالله بن موسى، في أشباه لذلك كثيرة.
ومنها: أن يكون الراوي أكبر من الوجهين جميعًا، وذلك كرواية كثيرٍ من العلماء والحفاظ عن أصحابهم وتلامذتهم كَـ: " عبدِالغني الحافظ " في روايته عن محمد بن علي الصوري، وكرواية " أبي بكر البَرْقاني (1) " عن أبي بكر الخطيب، وكرواية " الخطيبِ " عن أبي نصر ابن ماكولا، ونظائر ذلك كثيرة.
ويندرج تحت هذا النوع، ما يُذكر من رواية الصحابي عن التابعي، كرواية العبادلة وغيرهم * من الصحابة، عن كعب الأحبار.
__________
(1) على هامش (غ): [البَرْقاني، بفتح الياء، نسبة إلى قرية بناحية خوارزم خربت، منها الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب، توفي سنة 425 هـ]
- كما في (اللباب: 1/ 140) ومولده سنة 363 هـ (تقييد ابن نقطة 66).
___________________________________
= ويدخل في هذا النوع، روايةُ الصحابي عن التابعي: كعبدالله بن مسعود، عن زِرِّ بن حُبَيْش ٍ، وكعبدالله بن عباس عن كُرَيْبٍ، وكعبدالله بن عمر عن سعيد بن المسَيَّب، وعطيةَ العوفي وأبي بردةَ بن أبي موسى، وكأبي هريرة، عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وقد تعرض " ابنُ منده " لكثير من ذلك. انتهت " 110 / و.
* المحاسن:
" فائدة: يدخل في قوله: وغيرهم؛ ما حكاه عنه " عمر، وعلي، وأبو هريرة " وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -. انتهت " 110 / و.(1/521)
وكذلك رواية التابعي عن تابع التابعي: كما قدمناه من رواية الزهري والأنصاري عن " مالك " وكَـ " عمرِو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص " لم يكن من التابعين (1)، ورَوَى عنه أكثر من عشرين نفسًا من التابعين، جمعهم " عبدالغني بنُ سعيد الحافظ " في كتيب له (2). وقرأت بخط " الحافظِ أبي محمد الطَّبَسِي " (3) في تخريج له، قال: " عمرو بن شعيب ليس بتابعي، وقد روى عنه نيف وسبعون رجلا من التابعين ". والله أعلم.
__________
(1) في تقييد العراقي: قال الحافظ أبو الحجاج المزي في (التهذيب) بعد حكاية القول بأن عمرو بن شعيب ليس من التابعين: " وليس كذلك ". ثم ذكر سماعه من الرُبَيِّع بنت معوذ، وزينب بنت أبي سلمة (322).
(2) في تقييد العراقي أن " عبدالغني " عدَّهم في الجزء المذكور أربعين نفسًا إلا واحدًا، وهذه أسماؤهم مرتبين على الحروف " فذكرهم سردًا ثم أضاف:
" قد روى عنه جماعة كثيرون من التابعين غير هؤلاء، لم يذكرهم عبدالغني، وهم ... " وسمى اثني عشر منهم وقال: " فهؤلاء زيادة على الخمسين من التابعين وقد رووا عنه. وقد حكى المصنف عقب هذا عن الطبسي أنه رَوَى عنه نيف وسبعون من التابعين. والله أعلم " (التقييد والإيضاح: 233).
(3) نقل على هامش (غ): [الطبسي، بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة، وفي آخره سين مهملة: نسبة إلى مدينة (طبس) بين نيسابور وأصبهان وكرمان. من خط شيخنا] = (اللباب: 2/ 247) وهو فيه: أبو الفضل محمد بن محمد بن أبي جعفر الطبسي - الشافعي الفقيه - الحافظ، صاحب التصانيف المشهورة، روى عن الحاكم أبي عبدالله. توفي في حدود سنة ثمانين وأربعمائة بطبس " وأرخ الذهبي وفاته في تذكرة الحفاظ وفي العبر، سنة 482 هـ.
وقال العراقي: كذا كناه ابن الصلاح أبا محمد، وإنما هو أبو الفضل محمد - بن أحمد - بن أبي جعفر الطبسي. هكذا كناه وسماه الحافظ أبو سعد السمعاني في (الأنساب) ووصفه بالحافظ صاحب التصانيف المشهورة .. (التقييد والإيضاح 331) مع (الأنساب للسمعاني، ومختصره اللباب): الطبسي.(1/522)
النوع الثاني والأربعون:
معرفة المُدَبَّج ِ (1) وما عداه من رواية الأقران بعضهم عن بعض.
وهم المتقاربون في السن والإسناد. وربما اكتفى " الحاكم أبو عبدالله " (2) فيه بالتقارب في الإسناد وإن لم يوجد التقاربُ في السن.
اعلم أن رواية القرين عن القرين تنقسم:
فمنها المدبج، وهو أن يروي القرينانِ كلُّ واحد منهما عن الآخر. مثالُه في الصحابة: " عائشة، وأبو هريرة " روى كلُّ واحد منهما عن الآخر.
وفي التابعين: رواية " الزهري " عن " عمر بن عبدالعزيز " ورواية " عمر " عن " الزهري ".
وفي أتباع التابعين: رواية " مالك " عن " الأوزاعي ". ورواية " الأوزاعي " (3) عن " مالك ".
__________
(1) على هامش (غ): [قال شيخنا: كأنه من الديباج الذي هو الحرير. فمدبج، أي مُوَشَّى، أي مُعلَم، وصف لهذا النوع].
(2) في علومه، النوع السادس والأربعون: معرفة رواية الأقران بعضهم عن بعض: 215 وقال العراقي: " وما قصره الحاكم، وتبعه ابن الصلاح، على أن المدبج أن يروي كل من القرينين، ليس على ما ذكرا، وإنما المدبج أن يروي كل من الراويين عن الآخر، سواء كانا قرينين أم كان أحدهما أكبر من الآخر فيكون من رواية الأكابر عن الأصاغر. والحاكم أخذ هذه التسمية عن بعض شيوخه من غير أن يسميه. والمراد الدارقطني فإنه أحد شيوخه وهو أول من سماه بذلك فيما أعلم وصنف فيه كتابًا حافلا سماه (المدبج) في مجلد، وعندي منه نسخة صحيحة (التقييد والإيضاح: 333).
(3) على هامش (غ)، بخط ابن الفاسي:
[" الأوزاعي، عبدالرحمن بن عمرو بن يحمد ": من تابعي التابعين. سمع " الزهريَّ، ونافعًا، وعطاء " وغيرهم. كان أهل الشام والمغرب على مذهبه قبل انتقال المغرب إلى مذهب " مالك ". نُسب إلى أوزاع القبائل، أي فِرقها. وقيل: الأوزاع بطن من همدان، وقيل غيرُه. سكن دمشق وتوفي ببيروت سنة 157 هـ. من خطه].(1/523)
وفي أتباع الأتباع: " أحمدُ بن حنبل " عن " عليّ ابن المديني " ورواية " علي " عن " أحمد ".
وذكر " الحاكم " (1) في هذا، روايةَ " أحمد بن حنبل " عن " عبدالرزاق "، وروايةَ " عبدالرزاق " عن " أحمد ". وليس هذا بمرضيٍّ.
ومنها غيرُ المدبج، وهو: أن يرويَ أحدُ القرينين عن الآخر، ولا يروي الآخرُ عنه فيما نعلم. مثالُه: رواية " سليمانَ التيمي " عن " مِسْعَر " وهما قرينان، ولا نعلم لمِسعرٍ روايةً عن التيمي. ولذلك أمثال كثيرة *. والله أعلم.
__________
(1) علوم الحاكم (218) وانظر تقييد العراقي عليه: (235).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: مثَّل " الحاكم (1) " رواية أبي هريرة عن عائشة في حديث: " فقدتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة في الفراش فجعلتُ أطلبه بيدي، فوقعت يدي على باطن قدميه وهما منصوبتان، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ برحمتك من سخطك ... " الحديث، ومثَّل روايةَ عائشةَ عن أبي هريرة، بحديثٍ سألتْه عنه في امرأة عُذِّبتْ في هِرَّة.
وجعل " الحاكم (2) " روايةَ جابر عن ابن عباس وبالعكس، مما نحن فيه؛ بناء منه على الاكتفاء بالتقارب في السند دون السن. ومثَّل ذلك برواية جابر عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يدخل الجنةَ من بايع تحت الشجرة إلا صاحبَ الجمل ِ الأحمر "، ومثَّل لعكسِه بحديث ابن عباس عن جابر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: " وإذَا سأَلكَ عِبادِي عَنِّي " ... الآية، فقال: " اللهم إنك أمرتنا بالدعاء ... " الحديث، ومثَّل لرواية الزهري عن عمر بن عبدالعزيز بحديثٍ رواه عنه، عن إبراهيم بن عبدالله بن قارظ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " توضئوا مما مَسَّت النار ". ومثَّل لعكسِه بحديثٍ رواه =
__________
(1) في علومه: (215 - 216) وأخرج الحديثين بسنده، من رواية أبي هريرة عن عائشة، ومن رواية عائشة عن أبي هريرة - رضي الله عنها -.
(2) في علومه: (216) وأخرج حديث جابر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وحديث ابن عباس عن جابر، بإسناده إلى كل، مع متون الأحاديث كاملة.(1/524)
............................................................................................................................
___________________________________
= عمرُ بن عبد العزيز عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: " دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحديبيةِ الناسَ للبيعة: فجاء أبو سنان بن محصن فقال: يا رسول الله، أبايعك على ما فس نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أُقتَلَ. قال: فبايعه وبايع الناس على بيعة أبي سنان " (1).
وذكر روايةَ الأوزاعي، عن مالك، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن عمر بن أبي سلمة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اُدْنُ بُنيَّ فَسَمِّ اللهَ وكُلْ بيمينِك، وكُلْ مما يَلِيكَ ". وعكسه: مالك عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن اللهَ يحب الرفقَ في الأمر كله " (2).
وذكر روايةَ أحمد، عن عبد الرزاق، عن عمر بن حوشب، عن إسماعيل بن أميَّةَ، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: كان لهم غلام يقال له طهمان، أو زكوان، قال: فأعتق جدُّه بِضْعَه فجاء العبدُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تُعتقُ في عتقك وترق في رقِّك. " (3). قال: فكان [يخدم] (ت. ع) سيدَه حتى مات. ومثل لعكسِه بما رواه عبد الرزاق، عن أحمد، عن الوليد بن مسلم، عن يزيد بن واقد، قال: سمعت نافعًا يقول: " كان ابن عمر إذا رأى مصلِّيًا لا يرفع يديه في الصلاة حَصَبه، وأمره أن يرفع يديه " (4).
وزاد " الحاكم " في الطبقة الخامسة: رواية يحيى بن محمد بن يحيى عن أبيه، ورواية أبيه عنه (5). وهذا ينبغي أن يمثل به في رواية الأكابر عن الأصاغر وفي رواية الآباء عن الأبناء.
وذكر في الطبقة السادسة: ما رواه شيخُه أبو بكر محمد بن داود الزاهد عن أبي العباس بن عقدة، وعكسه (6).
وذكر في غير المدبج: روايةَ سليمان التيمي، عن مسعر، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن الحسن، عن عبد الله بن جعفر، في شأن هؤلاء الكلمات: " لا إله إلا الله =
__________
(1 - 6) قوبلت على (علوم الحديث للحاكم: 217 - 220) وفيها تخريجه لكل هذه الأحاديث مع متونها كاملة.
Q ( ت. ع): قلت: في الأصل: " بخدم "، ولعله خطأ من الطابع، والصواب ما أثبتناه. والله أعلم.(1/525)
.............................................................................................................................
___________________________________
= الحكيم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم اغفر لي اللهم ارحمني، اللهم تجاوز عني، اللهم اعفُ عني فإنك عفو غفور ".
قال عبدالله بن جعفر: " أخبرني عمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه هؤلاء الكلمات " (1). ولم يحفظ " الحاكم " عكسَ ذلك، ولا يعقب عليه.
وذكر من هذا النَمطِ: روايةَ زائدةَ بنِ قدامة، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله " أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان إذا دعا دعا ثلاثًا ": " زائدةُ بن قدامة، وزهير بن معاوية ": قرينان، ولا يُحفَظ لزهير عن زائدةَ رواية. (2)
وروى ابنُ الهاد - يزيد - عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة مرفوعًا: " قد كان يكون في الأمم مُحدِّثون ... " الحديث. قال " الحاكم ": يزيدُ، وإن كان أسنَد وأقدمَ من إبراهيم، فإنهما في أكثر الأسانيد قرينان. ولا يحفظ العكس (3). وأجرى " الحاكم " ذلك على طريقته في التقارب في السند، وإلا فهذا يصلح أن يكون مثالا لرواية الأكابر عن الأصاغر. ومن ذلك روايةُ سليمان التيمي عن رَقبةَ بن مصقَلَة، عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عاس، قال: " ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامَ الذي قتله الخضر. فقال: طُبعَ كافرًا ": سليمان، ورقبة قرينان، ولا يحفظ لرقبة عنه رواية (4). انتهت " 109 / ظ - 111 / ظ.
__________
(1 - 2) المصدر السابق.
(3 - 4) قوبل على (علوم الحاكم: 220).
وفي تقييد العراقي على أمثلته لغير المدبج: " ذكر الحاكم منه أربعة أمثلة: الأول الذي ذكره ابن الصلاح، والثاني رواية زائدة بن قدامة عن زهير بن معاوية، والثالثة من رواية ابن الهاد يزيد بن عبدالله بن أسامة عن إبراهيم بن سعد بن عبدالرحمن بن عوف. قلتُ: بل قد روى عنه إبراهيم، في مسلم والنسائي. والرابع رواية سليمان بن طرخان التيمي عن رقبة. قلت: بل قد روى رقبة عن سليمان كما ذكر الدارقطني في (المدبج) ثم روى له حديث أبي عوانة عن رقبة عن سليمان عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا حبذا المتخللون من أمتي " والحديث رواه الطبراني في الأوسط فجعله من رواية رقبة عن أنس، لم يذكر فيه سليمان .. فلم يصح من الأمثلة الأربعة التي ذكرها الحاكم، إلا المثال الثاني فقط، وهو رواية زائدة عن زهير ". (التقييد 336).(1/526)
النوع الثالث والأربعون:
معرفة الإخوة والأخوات من العلماء والرواة.
وذلك إحدى معارف أهل ِ الحديث المفردةِ بالتصنيف، صنف فيها: " علي ابنُ المديني، وأبو عبدالرحمن النسَوي، وأبو العباس السراج " وغيرُهم (1).
فمن أمثلة الأخوين من الصحابة: " عبدُالله بن مسعود، وعتبةُ بن مسعود: هما أخوَانِ، " زيد بن ثابت، ويزيد بن ثابت ": أخوَانِ، " عمرو بن العاص، وهشام بن العاص (2) ": أخوان *.
__________
(1) ومسلم، وأبو داود (التبصرة 3/ 71) ولم يذكر الاحكم منهم سوى أبي العباس السراج (152).
(2) نقل على هامش (غ): [زاد النواوي هنا: من أمثلة الأخوين، من الصحابة: عليّ، وجعفر، وعقيل: بنو أبي طالب. وعمر، وزيد: ابنا الخطاب] وهم في علوم الحاكم (153) ونص النووي في (التقريب): مثال الأخوين من الصحابة: عمر وزيد ابنا الخطاب، وعبدالله وعتبة ابنا مسعود (2/ 245).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ممن ذكره " الحاكم " (1) في أمثلة ذلك: " عمر بن الخطاب، وزيد بن الخطاب " وترك فاطمةَ أختَيها، فهم مثالٌ لثلاثةِ إخوة، وكذلك " أبو سعيد الخُدْري، وأخته الفارعة، وأخوهما لأمهما: قتادة بن النعمان ".
ومثال الأربعة: حمزةُ والعباسُ وصفيةُ، وأروى - عند العقيلي خلافًا لغيره - وعليّ وجعفر وعقيل، أولاد عبدالمطلب ": ذكرهم " الحاكم " (2) ولم يزد، وترك فاختة [أم هانئ] =
__________
(1 - 2) يقابل على علوم الحاكم: النوع 36 معرفة الإخوة والأخوات .. (152) ففي مطبوعته بعضُ خلاف عما في النقل عنه بالمحاسن.
وانظر في " أروى بنت عبدالمطلب " الخلاف في صحبتها في ترجمتها بالاستيعاب (رقم 3225) وفي نساء الإصابة، القسم الأول من حرف الهمزة (رقم 33). =(1/527)
.............................................................................................................................
___________________________________
= بنت أبي طالب، فهم مثالٌ لأربعةِ إخوة - قيل: " و " جمانة " فعليه، يُمثَّلُ بهم لخمسةِ إخوة - من الصحابة، وفي الصحابة أربعة إخوة: أولاد أبي بكر الصديق: " عبدالرحمن ومحمد وعائشة وأسماء ".
ومن الخمسة: " عبدالله، وضباعة، وصفية، وأم الحكم، وأم الزبير ": أولاد الزبير بن عبدالمطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الصحابةِ سبعةُ إخوة: " النعمان بن مُقَرن، وإخوته: معقل وعقيل وسويد وسنان وعبدالرحمن ونعيم ". وذِكرُ هؤلاء السبعةِ هنا أنسبُ من تأخيرهم. والسابعُ الذي قال ابنُ الصلاح: - فيما يلي من الباب - لم يُسَمَّ لنا - هو " نعيم ". ذكره ابن عبدالبر في (الاستيعاب) - وذكر الطبري " ضرارَ بن مقرن " حضر فتحَ الحيرة، قال: وهو عاشر العشرة الإخوة. والسبعةُ المذكورون هاجروا وصحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يشاركهم في هذه المكرمة غيرُهم - فيما ذكره ابنُ عبدالبر وجماعةٌ - وقد قيل إنهم شهدوا الخندقَ.
وما ذكره ابنُ الصلاح في السبعة المذكورين في المكرمة، لا يرد عليه أن يقال: في الصحابة سبعة غير هؤلاء، وهم: " تميم والسائب وأبو قيس وسعيد وعبدالله والحجاج وبشر: أولاد الحارث السهمي " لأن الكلامَ فيمن هاجر وصحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك لا يقال في الإيراد: ثَم سبعةُ إخوةٍ صحابة شهدوا كلُّهم بَدْرًا، وهم: أولاد عفراء بنت عبيد، تزوّجت أولاً بالحارث بن رفاعة الأنصاري فأولدها: معاذًا ومعوذًا ثم تزوجت بعد طلاقه بالكبير بن عبدياليل، فأولدها: إياسًا، وخالدًا، وعاقلا، وعامرًا. ثم عاذت إلى الحارث فأولدها: عوفًا. فأربعةٌ منهم أشقاء وثلاثة أشقاء. وكذلك لا يرد ثمانية إخوةٍ صحابة ذكرهم أبو القاسم البغوي وابن عبدالبر، وهم: " أسماء وهند وخراش وذؤيب وحمران وفضالة وسلمة ومالك: بنو حارثة الأسلميون " صحبوا سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =
__________
= و " جمانة بنت أبي طالب " ذكر ابن إسحاق في مقاسم خيبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها ثلاثين وسقًا (السيرة 3/ 366) ومثله في طبقات ابن سعد (بنات عم النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وعن ابن إسحاق في ترجمتها بالاستيعاب (رقم 3271) وعن ابن سعد في ترجمتها بالقسم الأول من حرف الجيم في نساء الإصابة (رقم 222).
- يأتي ذكر هؤلاء في موضعه من نسق ابن الصلاح فيما يلي من الباب. مع المقابلة على مراجعه، وما نرى وجهًا لنقله مما تُعُقِّبَ به عليه.(1/528)
ومن التابعين: " عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة، وأخوه أرقم بن شرحبيل ": كلاهما من أفاضل أصحابِ ابن مسعود.
" هُزَيل بن شُرَحبيلَ، وأرقمُ بن شرحبيل " (1): أخوانِ آخرانِ من أصحابِ ابن مسعود أيضًا *.
__________
(1) أهمله النووي في التقريب (2/ 250).
وقال العراقي: " هذا الذي ذكره المصنف من كون أرقم بن شرحبيل اثنين، أحدهما أخو عمرو بن شرحبيل والآخر أخو هزيل بن شرحبيل، ليس بصحيح، وأرقم بن شرحبيل واحد؛ وإنما اختلف كلام التاريخيين والنسابين: هل الثلاثة إخوة، وهم: عمرو بن شرحبيل وأرقم بن شرحبيل وهزيل بن شرحبيل؟ أو أن أرقم وهزيلا إخوان وليس عمرو أخا لهما؟ فذهب أبو عمر ابن عبدالبر إلى الأول. قال: هم ثلاثة إخوة " والصحيح الذي عليه الجمهور أن أرقم وهزيلا إخوان فقط، وهو الذي اقتصر عليه البخاري في (التاريخ الكبير) وابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) وحكاه عن أبيه وعن أبي زرعة، وكذلك اقتصر عليه ابن حبان في (الثقات) واقتصر عليه الحاكم في علوم الحديث. وكذلك المزي في " تهذيب الكمال " .. (التقييد والإيضاح 337).
___________________________________
= وشهدوا معه بيعة الرضوان بالحديبية؛ لما تقدم. وكذلك أخَواتُ " جابر بن عبدالله " وهن تسع - وقيل: سبع - قال أبو موسى المديني: كُلُّهن لهن صحبة؛ فالكلامُ في زيادة وصفِ الهجرة. وبتقدير ضمِّ " جابر " إليهن تصير الجملة عشرة إخوة من الصحابة. أولاد العباس أحدَ عشرَ، وهم: " الفضلُ وعبدُالله وعبيدُالله ومعبدُ وقُثَم وعبدُالرحمن، وأمُّ حبيب، وتمام وكثير والحارث وعون " قال ابن عبدالبر: " وكل بني العباس لهم رؤية، وللفضل ِ وعبدِالله وعبيدِالله سماع ورؤية ". انتهت " 112 / و ظ.
- المقابلة على (علوم الحاكم: 154) في التابعين. وابن عبدالبر في الاستيعاب.
* المحاسن:
" فائدة: " محمد وعبدالله " ابنا مسلم بن شهاب الزهري، " محمد ونافع ": ابنا جبير بن مطعم، " عبدالرحمن وأبو عبيدة ": ابنا عبدالله بن مسعود، " الحسنُ وسعيد ": ابنا أبي الحسن، " سعيد وعبدالله ": ابنا عبدالرحمن بن [أَبْزَى]، " وهب وهمام ": ابنا منبه، " محمد وأبو بكر ": ابنا المنكدر، " علقمة وعبدالجبار ": ابنا وائل بن حجر، " الأسود وعبدالرحمن ": ابنا يزيد النخعي، " زيد وخالد ": ابنا أسلم العدوي، " عبدالله وسليمان ": ابنا بُرَيدة، " بعجة ومعاذ ": ابنا عبدالله بن بدر، " مطرف و [يزيد] ": ابنا =(1/529)
ومن أمثلة ثلاثةِ الإخوة: " سهلٌ وعبَّاد وعثمانُ بنو حنيف * " إخوةٌ ثلاثة. " عمرو بن شعيب وعمر وشعيب: بنو شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص " إخوة ثلاثة.
___________________________________
= عبدالله بن الشِّخِّير، " عاصم وعبدالله ": ابنا ضمرة [السلولي]، " محمد والمغيرة ": ابنا المنتشر. انتهت " 112 / ظ.
__________
- والمقابلة على الباب في المعرفة: 154.
* المحاسن:
" فائدة: لكنْ سهلٌ وعثمان صحابيان.
ومن الثلاثة في التابعين: " أبان وسعيد وعمرو ": أولاد عثمان بن عفان. " كثير وتمام وقثم ": ولد العباس بن عبدالمطلب - ذكره " الحاكم " وقد سبق ما يخالفه -. " سالم وزياد وعبيد ": بنو أبي الجعد.
ومن أمثلة الأربعة في التابعين: " محمد الباقر وعبدالله وزيد وعمر ": أولاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (1). " إبراهيم وحميد ومصعب وأبو سلمة ": أولاد عبدالرحمن بن عوف. " عبيدالله وعُتبة وعون وناجية ": أولاد عبدالله بن عتبة بن مسعود. " عروة وحمزة والعَقَّار ويعفور " (2): أولاد المغيرة بن شعبة.
ومن أمثلة الخمسة في التابعين: " موسى وعيسى ويحيى وعمران وعائشة ": أولاد طلحةَ بن عبيدالله، " عبدُالرحمن وعبدالعزيز وعبيدالله ومسلم ويزيد ": أولاد أبي بكرة [الثقفي].
ومن أمثلة الستة في التابعين: " عطاء وسليمان وعبدالله وإسحاق وموسى وعبدالرحمن ": بنو يسار.
ومن أمثلة السبعة في التابعين: " سالم وعبدالله وعبيدالله وحمزة وزيد =
__________
(1) لفظ الحاكم: " ومن الإخوة في التابعين: محمد بن علي الباقر، وعبدالله بن علي وزيد بن علي وعمر بن علي، إخوة تابعون " 153.
- أبوهم الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -.
(2) علوم الحاكم (153) ويحتمل القراءة في مخطوط المحاسن [يعقوب] ويعفور، ذكره ابن حزم مع إخوته في أبناء المغيرة بن شعبة بن أبي عامر الثقفي، من أصحاب بيعة الرضوان - رضي الله عنهم -. وضبطه الأمير: يعفور - بالفاء وبعد الواو راء - بن المغيرة بن شعبة، روى عنه إسماعيل الأسدي. (الإكمال 7/ 436).(1/530)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وواقد وعبدالرحمن ": أولاد عبدالله بن عمر.
ومن أمثلة الثمانية في التابعين: " مصعب وعامر ومحمد وإبراهيم وعمر ويحيى وإسحاق وعائشة ": أولاد سعد بن أبي وقاص (1).
ومن أمثلة التسعة في التابعين: أولاد سيرين، وهم: " محمد وأنس (2) ويحيى ومعبد وخالد وحفصة وكريمة وعمرة وسَودة " وسيأتي الكلام عليهم.
ومن أمثلة العشرة في التابعين: بنو أنس بن مالك الأنصاري. كلُّهم حَملَ العِلْمَ وهم: " النضر وموسى وعبدالله وعبيدالله وزيد وأبو بكر وعمر ومالك وثمامة ومعبد وحفصة وأم عمرو ". وإن شئت جعلت أولاد " أنس بن مالك " مثالا لما يزيد على مائة وعشرين إخوة من التابعين؛ لأن في البخاري في باب (من زار قومًا فلم يفطر عندهم) عن أنس بن مالك، لما ذكر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وفيه: " اللهم ارزقْه مالاً وولدًا " (3) قال: " فحدثتني بنتي أُمَيْنَةُ أنه دُفِنَ لصُلْبِي مَقْدِمَ الحَجاج البصرةَ، بضع وعشرون ومائة ". وهذا الذي ذكره البخاري يقتضي أن هؤلاء غير الأحياء، ويُزاد العددُ على ذلك.
وذكر الكلبي أن " الأقرعَ بنَ حابس " قُتِلَ باليرموك في عشرةٍ من بنيه، فهم مثالٌ للعشرة، ولكنْ لم يظهر لنا: هل فيهم صحابي أو لا؟.
ومن غريب ما يُذكر في كثرةِ أولاد صحابيًّ ويُمثَّلُ به لثلاثِ مائة، ما ذكره ابنُ أبي خيثمة أن " أبا ليلى " - رضي الله عنه -، وقع إلى الأرض من صُلبِه ثلاثمائة ولدٍ. =
__________
(1) قال العراقي: أكثر ما رأيت مسمى من الإخوة والأخوات، من أولاد سعد بن أبي وقاص. سمَّى له ابن الجوزي خمسة وثلاثين ولدًا. وقد روى عنه من أولاده في الكتب الستة: إبراهيم وعامر وعمر ومحمد ومصعب وعائشة (التقييد والإيضاح: 345).
(2) في مطبوعة علوم الحاكم: [وأنيس] ولم أقف عليه في بني سيرين الرواة، وأما أنس بن سيرين الأنصاري، مولى أنس بن مالك؛ فحديثه عند الستة. ويأتي التمثيل بستة منهم في متن ابن الصلاح.
(3) كتاب الصوم، باب من زار قومًا فلم يفطر عندهم. (معه فتح الباري (4/ 164) وضبطُ أُمَيْنَة: بهمزة مضموة وياء التصغير بعدها نون، من (تقييد المهمل لأبي علي الجياني) 33 - 34، وروى الحديث كاملا.
وحديث الدعاء، دون ما بعده من كلام أنس، متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - وفي الأدب المفرد - ومسلم في فضائل أنس - رضي الله عنه -.
المسمون في أول الفقرة - مثالا للإِخوة العشرة التابعين - اثنا عشر. والذي في (معرفة الحاكم 153): النضر وموسى وعبدالله وعبيدالله وعمر ". وقال الحافظ العراقي في هذا النوع الثالث والأربعين: وقد كان أولاد أنس بن مالك يزيدون على المائة، وسُمِّي لنا ممن روى العلم عنه من أولاده لصُلبه عشرة " ثم ذكر حديث الدعاء (التقييد 345).(1/531)
ومن أمثلة الأربعة: " سهيل بن أبي صالح السمان الزيات " وإخوته: " عبدالله - الذي يقال له عباد - ومحمد، وصالح " (1).
ومن أمثلة الخمسة: ما نرويه عن " الحاكم أبي عبدالله " قال: " سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ، غيرَ مرَّة، يقول: آدم بنُ عُيينة، وعمران بن عيينة، ومحمد بن عيينة،
__________
(1) " ليس في أولاد أبي صالح من اسمه محمد؛ إنما هم سهيل وعباد - وهو عبدالله -، ويحيى وصالح، بنو أبي صالح. فأبدل يحيى بمحمد، وهو وهم ".
قاله العراقي في (التبصرة 3/ 72) عن ابن عدي في الكامل.
___________________________________
= وذكر غيرُه أنه شهد وقعة الجمل ومعه سبعون من بَنيه ومعه رايةُ " علي بن أبي طالب " - رضي الله عنه -. وذكر " القَرّابُ " في تاريخه أن " عبدالرحمن بن أبي ليلى " قُتِلَ بدير الجماجم في عشرة بنينَ له. وذكرتُهم هنا تبعا لجدِّهم. ومما يذكر في كثرة أولادِ صحابي، ما ذكره " أبو نعيم الحافظ " من أن " بُهَيَّة بنتَ عبدالله البكرية " وفدت مع أبيها على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا لها ولولدها، قالت: " فولدت ستين ولدًا - أربعين رجلاً وعشرين مرأة - استشهد منهم عشرون في سبيل الله " (1).
وأما مَنْ بعدَ التابعين: فالأخَوان " عبدُالله بنُ يزيد بن عبدالله بن قسيط، ويزيدُ بن يزيد بن عبدالله بن قسيط " قد روى الواقدي عنهما، " إسماعيل ومحمد ": ولدا عبدالرحمن بن أبي ذئب، " إسماعيلُ بن إبراهيم بن عُلَيَّةَ وربعي بن إبراهيم بن عُلَيَّةَ "، " مِسْحاج (2) وسماك ": ولدا موسى الضَّبِّيانِ. انتهت " 113 / و - 114 / و.
__________
(1) ذكره ابن عبدالبر في ترجمتها بالاستيعاب (رقم 3260) بغير إسناد. وأسنده البارودي، وأخرجه ابن منده عن البارودي. (من الإصابة، ق أول حرف الباء نساء: رقم 191).
(2) تقرأ في مخطوط المحاسن: [سجاح] وما هنا من (علوم الحاكم: 155) مع (تهذيب التهذيب 1/ 107 - 201).
- وقوبل ما في المحاسن على النوع السادس والثلاثين من (علوم الحاكم) 152 - 156 وقد ختمه بذكر الإخوة من علماء نيسابور، إلى وقته.(1/532)
وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بنُ عيينة: حدَّثوا عن آخرهم " (1) *.
ومثالُ الستة: أولاد سِيرين، ستة تابعيون وهم: " محمد وأنس ويحيى ومعبد وحفصة [93 / و] وكريمة " ذكرهم هكذا أبو عبدالرحمن النَّسوي. ونقلته من كتابه - بخط " الدارقطني " فيما أحسب - ورُوِيَ ذلك أيضًا عن يحيى بن معين، وهكذا ذكرهم " الحاكم " في كتاب (المعرفة) (2) لكن ذكَر فيما نرويه من (تاريخه) بإسنادنا عنه، أنه سمع أبا علي الحافظ يذكر بني سيرين خمسة إخوة: محمد وسيرين، وأكبرهم معبد بن سيرين، ويحيى بن سيرين، وأنس (3) بن سيرين، وأصغرهم (3) حفصةُ بنت سيرين **.
__________
(1) الحاكم في معرفة علوم الحديث (155) وقال العراقي: هؤلاء هم المشهورون من أولاد عيينة، وإلا فقد ذكر غير واحد أنهم عشرة. منهم عبدالغني المقدسي وقد سمى لنا منهم سبعة، منهم الخمسة المذكورون. ولم يذكر ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) غيرهم. واقتصر البخاري في (التاريخ الكبير) على أربعة منهم فلم يذكر آدم، والسادس أحمد بن عيينة ذكره الدارقطني وابن ماكولا، والسابع مخلد، ذكره أبو بكر ابن المقرئ .. فإن قيل إنما اقتصر المصنف على الخمسة المذكورين لكونهم الذين حدثوا منهم دون الباقين كما حكاه المزي في (التهذيب) عن بعضهم فقال: " وقيل كان بنو عيينة عشرة إخوة خزازين حدث منهم خمسة " فذكرهم؛ قلنا: وقد حدث أحمد بن عيينة أيضًا. قال الدارقطني في (المؤتلف والمختلف): عيينة بن أبي عمران الهلالي، والد سفيان وإبراهيم وعمران وآدم ومحمد وأحمد بني عيينة، المحدثين. وكذا ذكرهم ابن ماكولا في (الإكمال) وقال: كلهم محدثون " (التقييد والإيضاح 338) مع (الإكمال 6/ 124).
(2) معرفة علوم الحديث للحاكم (153) ووقع في المطبوعة: [وأنيس].
(3) في تقييد العراقي: " ما قال الحافظ أبو علي النيسابوري من أن أصغرهم حفصة بنت سيرين، وسكت عليه المصنف، ليس بجيد؛ وإنما أصغرهم أنس بن سيرين، كما قال أبو عمرو بن الفلاس، وهو الصواب؛ فإن المشهور أنه ولد لست بقيت من خلافة عثمان، وبه صدَّر المزي كلامه. وتوفي في قول أحمد ومحمد بن أحمد المقدسي سنة عشرين ومائة .. وأما حفصة فإنها توفيت سنة إحدى ومائة، وعاشت إما سبعين سنة أو تسعين، وعلى كل تقدير فهي أكبر من أنس. والله أعلم " (339).
___________________________________
* المحاسن:
* فائدة: ذكر الصريفيني وغيره، أنهم عشرة. انتهت " 114 / و.
** فائدة: ومقتضى هذا أن يكونوا مع كريمة بنت سيرين، وقد تقدم زيادة اثنين منهم، ومثلنا بهم للتسعة. انتهت " 114 / و.(1/533)
قلتُ: وقد رُوِيَ عن محمد، عن يحيى، عن أنس، عن أنس بن مالك، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا " (1) وهذه غريبة عايَى بها بعضُهم فقال: أي ثلاثة إخوةٍ رَوَى بعضُهم عن بعض *؟
__________
(1) في المحدث الفاصل، بإسناد الرامهرمزي، عن هشام بن حسان، عن محمد عن أخيه يحيى عن أخيه أنس بن سيرين عن أنس بن مالك (624 ف 904) ومثله في زوائد هشام بن حسان عن يحيى بن سيرين عن أنس. نقله العراقي وذكر أن أبا منصور البغدادي، رواه في تخريج ابن طاهر المقدسي: عن محمد بن سيرين عن أخيه يحيى عن أخيه معبد عن أخيه أنس عن أنس. قال العراقي: والمشهور ما ذكره المصنف من كونهم ثلاثة (التقييد 340) وانظر فائدة (المحاسن).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: ذكر " الحافظُ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي " في تخريجه لأبي منصور البغدادي هذا الحديثَ عن أربعةٍ من بني سيرين بعضهم عن بعض: محمد عن أخيه يحيى عن أخيه معبد عن أخيه أنس، عن أنس بن مالك.
ووقع لي قريب مما سبقَ، لكنْ فيه نظر، وهو: يحيى بن سعيد الأنصاري، روى عن أخيه سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال .. " الحديث (1). ورواه ابن لهيعة عن عبد ربه بن سعيد عن أخيه يحيى عن عمر بن ثابت. ويحيى في الرواية السابقة يرويه عن أخيه سعد، فإذا جُمع بينهما؛ كان فيه ثلاثة إخوة، روَى بعضهم عن بعض، عبد ربه عن أخيه يحيى عن أخيه سعد.
والنظر في ذلك، من جهة التركيب والجمع بين الروايتين؛ فلم يقع ذلك في رواية واحدة فيما وقفتُ عليه.
ومقتضى ما رتَّبنا أن يذكر هنا مثال ستة من غير التابعين، ومثال السبعة من غير التابعين - فإن المذكور في مثال ِ السبعة بنو مُقرِّن، وقد تقدموا في الصحابة - مثال =
__________
(1) حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، أخرجه مسلم في (كتاب الصيام، باب استحباب صيام ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان) من رواية إسماعيل بن جعفر وعبدالله بن سعد وقيس - الأنصاري، أخي يحيى بن سعيد - وعبدالله بن نمير وعبدالله بن المبارك ثلاثتهم عن سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري، عن عمر بن ثابت عن الحارث الخزرجي، عن أبي أيوب، يرفعه (ح 204/ 1164).(1/534)
.............................................................................................................................
___________________________________
= الستة كذا .. مثال السبعة كذا، مثال الثمانية: أولاد " البراء بن ربعي الفقعسي الشاعر ". مثال التسعة كذا .. مثال العشرة: أولاد " الحسن بن عرفة " - صاحب الجزء المشهور -. قال أبو نعيم: كان له عشرةُ أولاد سماهم بأسماء العشرة. و " قتيبة بن مسلم " صاحب خراسان، وإخوته: " عمرو وصالح وعبدُالله وعبدُالرحمن وزياد ومساور ومعاوية وحماد وضرار "، وذكرهم " الحاكم " في (تاريخ نيسابور). وذكر لهم حديثًا. ومثال الأحدَ عشر كذا .. ومثال اثني عشر: بنو عبدالله بن أبي طلحة، ذكره " أبو الفرج البغدادي " فقال: " هم القاسم وعمير وزيد وإبراهيم وإسماعيل ويعقوب وإسحاق ومحمد وعبدالله وعمر ومعمر وعمارة ". قال: وكلُّهم قرأ القرآن، وقال " أبو نعيم ": وكلهم حُمِلَ عنه العلمُ.
ومثالُ المائة ما ذكره " القاضي أبو يوسف " في كتابه (لطائف المعارف) قال: " وممن ولد له في الإسلام مائةُ مولود: جعفر بنُ سليمان الهامشمي، وعبدالله بن عمير الليثي، وخليفة ابن السعدي ". وذكر " ابن شداد " في كتابه (أخبار القيروان) (1) أن " تميم بن المعز بن باديس: ملك إفريقية " لما توفي خلف من البنين أكثر من مائة. ومن الخلفاء الذين كثرت أولادهم " المتوكلُ على الله " ويقال إنه مات عن نيف وخمسين ابنًا، وعشرين بنتًا.
وهذه فوائد غيرُ ملتزَم فيها الترتيبُ السابق، فمنا: أن " حضرمي بن عامر " وفد على سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما ذكره " أبو موسى المديني " في كتاب (الصحابة) قال " القالي " في كتابه (الأمالي): وكان له عشرة إخوة فماتوا فورثهم، فقال له ابنُ عمٍّ له، يقال له جَزْء: مَنْ مِثلُك يا حضرمي، ورثتَ إخوتك فأصبحت ناعمًا جذلا؟ فقال:
يقول جَزْءٌ ولم يقل جللا .................. أني تروَّحت ناعما جَذلا
إن كنتَ أزريتني بها كذبًا ................. جزءُ، فلاقيتَ مثلَها عَجلا
قال: وكان لجزء تسعةُ إخوة، فجلسوا على بئر فانخسفت بهم فماتوا كلهم، =
__________
(1) " الجمع والبيان في أخبار القيروان، فيمن فيها وفي سائر بلاد المغرب من الملوك والأعيان " طبع في دار المعارف بالقاهرة 1971 م.(1/535)
ومثال السبعة: " النعمانُ بن مُقَرِّن، وإخوته: مَعقِل وعقيل وسُوَيد وسنان وعبدالرحمن - وسابع لم يُسَمَّ لنا - بنو مُقَرِّن المزنيون " سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشاركهم - فيما ذكره ابنُ عبدالبر وجماعة - في هذه المكرمة غيرُهم. وقد قيل: إنهم شهدوا الخندقَ كلُّهم (1).
وقد يقع في الإخوة ما فيه خلاف في مقدار عددهم. ولم نُطوِّل بما زاد على السبعة لندرته. ولعدم الحجاة إليه في غرضنا هاهنا (2). والله أعلم.
__________
(1) هم أكثر من سبعة فيما تقصى العراقي. وقال: إنما اشتهر كونهم سبعة لما روى مسلم في صحيحه من حديث سُويد بن مقرن، قال: " لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم غير واحدة، لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعتقها. " (التقييد والإيضاح 341).
وحديث سويد - رضي الله عنه -، في كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من يلطم عبده ح (1657 - 1659).
(2) على هامش (غ): [قال أبو زكريا في مختصره الكبير: " ومن طُرَفه أخوانِ تباعد ما بين مولدهما ثمانين سنة، وهما " موسى بن عبيدة الرَّبَذِي، وأخوه عبدالله ". وأربعة إخوة ولدوا في بطن واحدة، وهم: بنو راشد السلمي: محمد وعمر وإسماعيل وأخوهم " من خط الشيخ]. وانظر تقييد العراقي 341 - 345.
___________________________________
= وصارت قبرهم، ونجا هو، فقال حضرمي: " إنا لله وإنا إليه راجعون، كلمة وافقتْ قَدَرًا وأبقتْ حقدًا " (1).
ومنها ما ذكره " الرشاطي " أن " قيس بن عاصم المنقري " قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وُلِدَ لي ثمانون ما سميتُ منهم أحدًا " وكان هذا - والله أعلم -؛ لأنهم ماتوا قبل أن يُسَمَّوا، ودلَّ ذلك على كثرة أولادِه. انتهت " 114 / و - 115 / و.
__________
(1) الأمالي لأبي علي القالي، عن ابن دريد 1/ 68. بخلاف يسير في اللفظ. ومع البيتين ثالث. وانظره في (الاشتقاق لابن دريد: 394) ط المثنى ببغداد، وتقييد العراقي (343).(1/536)
النوع الرابع والأربعون:
معرفةُ روايةِ الآباء عن الأبناء.
و " للخطيبِ الحافظِ " في ذلك كتاب. روينا فيه عن العباس بن عبدالمطلب، عن ابنه الفضل - رضي الله عنهما -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[93 / ظ] جمع بين الصلاتين بالمزدلفة " (1).
وروينا فيه عن " وائل ِ بن داود " عن ابنه " بكرِ بن وائل "، وهما ثقتان، أحاديثَ منها: عن ابن عيينة عن وائل بن داود عن ابنه بكر، عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أخِّروا الأحمالَ فإن اليدَ مُعلَّقةٌ والرِّجلَ موثقة ". قال " الخطيبُ ": لا يُروَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلمه، إلا من جهة بكر وأبيه (2).
وروينا فيه عن " معتمر بن سليمان التيمي " قال: " حَدَّثَني أبي قال: حَدَّثْتني أنت عني، عن الحسن، قال: " ويح، كلمةُ رحمةٍ " (3).
وهذا طريف يجمع أنواعًا (4).
وروينا فيه عن " أبي عمرَ حفص ِ بنِ عُمَر الدوري المقرئ (5)، عن ابنه أبي جعفر محمد
__________
(1) انظر مسند الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - في (جمع الجوامع 2/ 588) والحديث في الموطأ والصحيحين لأسامة بن زيد ولأبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنهم -.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده في حديث قيس بن الربيع عن بكر بن وائل عن الزهري، ليس فيه وائل (فتح المغيث 30/ 171) مع زاوئد أبي يعلى في (مجمع الزوائد، ك الأدب، باب تأخير الحمل) عن أبي هريرة مرفوعًا، بلفظ " إن الرجل موثقة واليد معلقة " 8/ 109.
(3) قيل: ويح كلمة تقال لممن وقع في مهلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له، وويل: تقال لمن يستحقها ولا يترحم عليه .. وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الويح باب رحمة والويل باب عذاب (مشارق الأنوار 2/ 297).
(4) قال الشيخ زكريا الأنصاري: أي رواية الآباء عن الأبناء، وعكسه، والأكابر عن الأصاغر، والمدبج، والتحديث بعد النسيان (فتح الباقي على شرح ألفية العراقي: التبصرة 3/ 85).
(5) قال السخاوي: " وأكثر ما في كتاب الخطيب، مما رواه، ستة عشر حديثًا أو نحوها، لحفص بن عمر الدوري المقرئ - صاحب الكسائي - عن ابنه أبي جفعر محمد (فتح المغيث: 3/ 172).(1/537)
ابن حفص " ستةَ عشرَ حديثًا أو نحوَ ذلك، وذلك أكثرُ ما رويناه لأبٍ عن ابنهِ. وآخرُ ما رويناه من هذا النوع وأقربُه عهدًا، ما حَدَّثنيه " أبو المظفر عبدالرحيم بن الحافظ أبي سعد المَرْوَزِي " - رحمهما الله - بها (1)، من لفظِه قال: " أنبأني والدي عني فيما قرأتُ بخطه، قال: حدثني ولدي أبو المظفر عبدالرحيم من لفظه وأصلِه، فذكر بإسنادِه عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أحضِروا موائدَكم البقلَ فإنه مَطْرَدَة للشيطانِ مع التسمية " *.
وأما الحديثُ الذي رويناه عن أبي بكر الصديق عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " في الحبةِ السوداء شفاء من كلِّ داء " فهو غَلطٌ ممن رواه، إنما هو عن أبي بكر بن
__________
(1) بها، أي ببلدة " مرو الشاهجان " النسبة إليها: مروزي، بالزاي، على غير قياس. وانظر (المرو الروذي) في (اللباب 3/ 198).
وفي تقييد العراقي على رواية ابن الصلاح عن شيخه أبي المظفر عبدالرحيم السمعاني عن والده أبي سعد لحديث " أحضروا موائدكم البقل " قال:
" وقد أبهم المصنف ذكر إسناده، والسمعاني، أبو سعد، رواه في (الذيل) من رواية العلاء بن مسلمة الرواس، وذكر سنده إلى أبي أمامة، يرفعه. وهو حديث موضوع، فأبهم المصنف منه موضع العلة وسكت عليه. وقد ذكر المصنف في النوع الحادي والعشرين: أنه لا يحل رواية الحديث الموضوع لأحدٍ عَلِمَ حاله، في أي معنى، إلا مقرونًا ببيان وضعه، وهذا الحديث ذكر غيرُ واحدٍ من الحفاظ أنه موضوع: وقد رواه أبو حاتم بن حبان في (الضعفاء) في ترجمة العلاء بن مسلمة الرواس، بهذا الإسناد، وقال فيه: يَروِي عن الثقات الموضوعاتِ. وقال أبو الفتح الأزدي: كان رجلَ سوءٍ لا يبالي ما روى. وقال محمد بن طاهر: كان يضع الحديث. وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وقال: لا أصل له، وقد يجاب عن المصنف بأنه لا يرى أنه موضوع وإن كان في إسناده وضاع. فكأنه ما اعترف بوضعه، وقد تقدم أن المصنف أنكر على من جمع الموضوعات في عصره، فأدخل فيها ما ليس بموضوع. يشير بذلك إلى ابن الجوزي. والله أعلم. .. (التقييد 346 - 347).
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: الحديث ذكره " ابن الجوزي " في الموضوعات. انتهت " 115 / ظ.
__________
- الموضوعات لابن الجوزي: باب فضل البقل 1/ 298، والفوائد المجموعة للشوكاني: أطعمة. 165 ح 32.(1/538)
أبي عتيق عن عائشة، وهو " عبدُالله بن محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق " * وهؤلاء هم الذين قال فيهم [94 / و] " موسى بن عقبة ": " لا نعرف أربعةً أدركوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هم وأبناؤهم إلا هؤلاء الأربعة " (1). فذكر: أبا بكر الصديق، وأباه، وابنه عبدَالرحمن، وابنَه محمدا أبا عتيق. والله أعلم (2).
__________
(1) قابل على قول موسى بن عقبة في نقل العراقي من معرفة الصحابة، لابن منده (التقييد 347).
(2) بلغت المقابلة بأصل السماع، ثم بلغ مقابلة عليه ثانية بالأصل المذكور وهامش (غ) بخط ابن فاسي.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: في (المستخرج لابن منده): أبو بكر الصديق عن عائشة. وفيه: عمر بن الخطاب عن عبدالله ابنه. وذكر " ابن الجوزي " أن الصديق روى عن ابنتِه عائشة، وروت أنها أمُّها أمُّ رومان. فإن كانت رواية الصدِّيق أخِذت من ذلك الحديث، فقد تقدم أنه وهم.
وذكر رواية العباس عن ابنه عبدالله، ورواية العباس وحمزة عن ابن أخيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعم بمنزلة الأب.
وفي هذا التمثيل نظر.
وروى مصعب الزبيري عن ابن أخيه الزبير بن بكار. وإسحاق بنُ حنبل عن ابن أخيه أحمد بن محمد بن حنبل. وروى مالك عن ابن أختِه إسماعيل بن عبدالله بن أبي أُوَيْس. انتهت " 116 / و.(1/539)
النوع الخامس والأربعون:
معرف رواية الأبناء عن الآباء.
ولِـ " أبي نصر (1) الوايلي الحافظِ " في ذلك كتاب.
وأهمه ما لم يُسَمَّ فيه الأبُ والجد. وهو نوعان:
أحدُهما: رواية الابن عن الأبِ عن الجدِّ، نحو " عمرو بن شُعَيب، عن أبيه عن جَدِّه ". وله بهذا الإسنادِ نسخة كبيرة أكثرها فِقهيات جِياد، وشعيب هو ابن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص. وقد احتج أكثر أهل الحديث (2) بحديثه؛ حملاً لِمُطلَقِ الجَدِّ فيه على الصحابيِّ " عبدالله بن عمرو " دون ابنه (3) محمد والد شعيب؛ لما ظهر لهم من
__________
(1) [أبو نصر، عبيدالله بن سعيد بن أبي حاتم بن أحمد السجزي الوايلي بالياء آخر الحروف، نسب إلى قرية بسجستان يقال لها: وايل. أحد الحفاظ مات سنة 444 هـ وقيل كان من بكر بن وائل] من هامش (غ) مع (اللباب 3/ 352).
(2) على هامش (غ):
[قوله: " وقد احتج أكثر أهل الحديث " يفهم منه أن الأقل منهم لم يحتجوا به. وقد نقل الخلاف ابن بشير] ومعه الطرة: [قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه (اللمع): وأما إذا قال الراوي: أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحتمل أن يكون ذلك عن جده الأدنى وهو محمد بن عبدالله بن عمرو، فيكون مرسلا. ويحتمل أن يكون ذلك عن جده الأعلى فيكون مسندًا؛ فلا يحتج به لأنه يحتمل الإسناد والإرسال فلا يجوز إثباته، إلا أن يثبت أنه ليس يروي إلا عن جده الأعلى، فحينئذ يحتج به. قاله " ابن بشير " في شرحه. وغيره يقول: لا يخلو اللفظ الوارد من أن يكون نصًّا في المسند، أو نصًّا في المرسل، أو محتملا من غير ظهور، أو يكون في أحدهما أظهر: فإن كان نصًّا في الإسناد أو في الإرسال فلا إشكال يحمل عليه. وإن احتمل الحديث احتمالا متساويًا ألحق بالمرسلات، ولا شك فيه إذا كان في عدم الإسناد أظهر. فإن كان في الإسناد أظهر؛ فإن علم أن الراوي لم يدرك من روى عنه أو شك فيه؛ ألحق بالمرسلات، وإن علم أنه أدركه فهاهنا الخلاف: هل يلحق بالمرسلات نظرًا إلى الحمل على الأقل؟ أو بالمسندات نظرًا إلى الأظهر؟].
(3) من (غ، ع) وفي (ص): [دون أبيه محمد] وليس بالسابق.(1/540)
إطلاقه ذلك *.
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وقد يقع في جملةٍ من الأحاديث تعيينُ " عبدِالله بن عمرو " وحينئذ فترتفع إرادةُ محمد والد شعيب. وقد كنت كتبتُ من ذلك جملةً ردًّا على " ابنِ حزم " في قوله: ليس لعمرِو بن شعيب حديثٌ صحيح، إلا حديثان " - فذكر حديث: " لا يحل بيعُ وسلف (1) .. " إلى آخره، فإنه سمى فيه " عبدالله بن عمرو ". وذكر حديثَ " لا يحل لواهبٍ أنه يرجع فيما وهبه (2) .. " إلى آخره، فإنه رواه مجاهد عن عبدالله بن عمر بن الخطابِ وعبدِالله بن عباس (3). وأشرتُ إلى من احتج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه من المحدثين: " الحميدي، وابنِ المديني، والبخاريِّ " وغيرهم، وذكرتُ قولَ " الحسن بن سفيان ": " إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثِقةً، فهو كأيوب عن نافع عن ابنِ عُمَر ". وذكرتُ ما جاء عن " الشافعي "، مما يخالف ذلك، ومن غَمْصِه على عمرو بن شعيب، وما يدل على الاحتجاج به، وما جاء عن " أحمد ": " ربما احتججتُ به إذا لم يكن في البابِ غيره ".
والصوابُ الذي عليه جمهورُ المحدثين، الاحتجاجُ به (4). وقد أدرك " شعيب " =
__________
(1) حديث " لا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك " من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو، مرفوعًا، في مسند عبدالله بن عمرو، بمسند أحمد، وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن ماجه والمستدرك.
(2) في مسند أحمد، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي وقال: حسن صحيح.
(3) حديث ابن عباس، مرفوعًا، في كتاب الهبة من صحيح البخاري (باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته أو صدقته) من رواية قتادة عن سعد بن المسيب عن ابن عباس، وأيوب عن عكرمة عن ابن عباس. (معه فتح الباري 5/ 148).
(4) في (فوائد حديثية) للتقي ابن رافع السلامي بالإسناد إلى الدارقطني، قال: " حدثنا أبو بكر النيسابوري، نا محمد بن علي الوراق، قال: قلت لأحمد بن حنبل: شعيب سمع من أبيه شيئًا؟ قال: يقول: حدثني أبي. قلت: وأبوه سمع من عبدالله بن عمرو؟ قال: نعم، أراه سمع منه. وقال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه، وسماع شعيب من جده عبدالله بن عمرو " 9 / ب.
وقال البخاري، في ترجمة عمرو بن شعيب بالتاريخ الكبير: رأيت أحمد بن حنبل وعلي ابن المديني =(1/541)
ونحو " بَهْزِ بن حكيم، عن أبيه عن جده ": رَوى بهذا الإسناد نسخةً كبيرة حسنة، وجَدُّه هو " معاوية بن حَيْدةَ القُشَيري * " (1).
و " طلحةُ بن مُصرِّف، عن أبيه، عن جده "، وجدُّه: " عمرو بن كعب اليَامِي (2) - ويقال: كعب بن عمرو - " **.
__________
(1) على هامش (غ): [معاوية، أسلم وله صحبة. وأما أبوه حيدة؛ فجاهلي لم يسلم].
(2) على هامش (غ): [عمرو بن كعب صحابي. وكان سفيان ينكر هذا السند، انفرد بحديثه عن أبيه]. يأتي في فائدة المحاسن.
___________________________________
= عبدَالله بنَ عمرو، وفي ذلك قصةٌ فيمن جامع زوجتَه وهو مُحرِم - ساقها الدارقطني وغيرُه - تدل على ذلك وعلى أنه كان كبيرًا يفهم الكلام. وذلك مبسوط في التصنيف اللطيف الذي سميتُه (بذل الناقد بعضَ جهده، في الاحتجاج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) فلينظَر فيه. انتهت " 116 / و ظ.
* المحاسن:
" فائدة: " البخاري " في كتابه، ذكر شيئًا من أحاديث هذه النسخة معلقًا بخلاف النسخة الأولى، فقيل بترجيح هذه؛ لهذا. ولعدم الإلباس الذي يوهم الإرسال. ولبعض المتأخرين في ذلك كلامٌ، بَيَّنَ فيه ما لكل واحدة من الترجيح. انتهت " 117 / و.
- يعني بالنسخة الأولى: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
** " فائدة: لكن هذه الطريقة فيها نظر؛ من جهة أن أبا داود قال في (سُنَنِه) في حديث الوضوء: سمعت أحمدَ بن حنبل يقول: ابنُ عيينة - زعموا - كان ينكره ويقول: أيش هذا؟ طلحة عن أبيه عن جده؟ (1). =
__________
= وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عبدالله بن عمرو .. " وقال: " اجتمع علي وابن معين وأحمد وأبو خيثمة وشيوخ أهل العلم يتذاكرون حديث عمرو بن شعيب، أثبتوه وذكروا أنه حجة " (التاريخ الكبير: 6/ 1342 / 25/ 78) وانظر (تهذيب التهذيب: 8/ 48 ت 80، والتبصرة 2/ 92 - 96 وفتح المغيث 3/ 178).
(1) سنن أبي داود، ك الطهارة، باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -: حدثني محمد بن عيسى ومسدد، قالا: =(1/542)
.............................................................................................................................
___________________________________
= وقال " عثمان بن سعيد الدارمي ": سمعتُ عليَّ ابنَ المديني يقول: قلت لسفيان: إن لَيْثًا يروي عن طلحةَ بن مصرف عن أبيه عن جَدِّه، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ. فأنكر سفيانُ ذلك، وعجِبَ أن يكون جَدُّ طلحةَ لقي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. قال علي: وسألتُ ابنَ مهدي عن نسب جَدِّ طلحة فقال: عمرو بن كعب، أو كعب بن عمرو، وكانت له صحبة. وقال عباسُ الدّوري: قلتُ ليحيى بن معين: طلحةُ بن مصرِّف عن أبيه، عن جدِّه، رأى النبي - صلى الهل عليه وسلم -؟ فقال يحيى: المُحدِّثون يقولون قد رآه، وأهلُ بيتِ طلحةَ يقولون: ليست له صحبة. وفي (الاستيعاب): وقال بعضُ أصحاب الحديث إن جَدَّ طلحة بن مصرف، صخر بن عمرو (1). انتهت " 117 / و.
__________
= ثنا عبدالوارث، عن ليث، عن طلحة بن مصرف، عن أبيه، عن جده، قال: " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأسه .. " الحديث. قال مسدد: فحدثت به يحيى فأنكره. قال أبو دواد: وسمعت أحمد بن حنبل يقول. فذكره (ح 132 - 1/ 32) وفي (الجرح والتعديل) أسند ابن أبي حاتم عن علي ابن المديني، قال: قلت لسفيان: إن ليثًا روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ .. ، فأنكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جد طلحة لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -. " (1/ 38 في معرفة سفيان بن عيينة بالعلم وكلامه في رواته).
(1) تمام عبارة ابن عبدالبر في (الاستيعاب، رقم 1948): " وقال غيره: كعب بن عمرو. فالله أعلم " وقد ترجم له باسم " عمرو بن كعب اليامي، بطن من همدان ". وفي نسب بني همدان بالجمهرة ذكر " ابن حزم " في بني يام بن أصفى الجشمي الهمداني: " طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب ". وقال: وقال: لطلحة ابنُ يسمى محمدًا ضعيف الحديث. وأما طلحة وابن عمه زبيد، ففي غاية الثقة والزهد.
جمهرة الأنساب (370 ط أولى ذخائر). وفي الإصابة، أحال ابن حجر في عمرو بن كعب اليامي - جد طلحة بن مصرف - على " كعب بن عمرو " واقتصر على القولين في اسمه. وفي تهذيب التهذيب، أحال كذلك في عمرو بن كعب ونقل ما حكي من قول ابن عيينة فيه، وأضاف: " قلت: في الحديث المذكور أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؛ فإن كان هو جد طلحة فقد رجح جماعة أنه كعب بن عمرو، وجزم ابن القطان بأنه عمرو بن كعب. وإن كان طلحة المذكور ليس هو ابن مصرف، فهو مجهول وأبوه مجهول وجده لا تثبت له صحبة؛ لأنه لا يعرف إلا بهذا الحديث (8/ 431 رقم 790) وأما طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي، أبو محمد الكوفي سيد قرائها، فموثق ... حديثه عند الستة توفي سنة 112 هـ. وليث، الراوي عنه، هو ابن أبي سليم الكوفي 143 هـ.(1/543)
ومن أظرفِ ذلك، روايةُ " أبي الفرج (1) عبدالوهاب التميمي " الفقيه الحنبلي - وكانت له ببغداد في جامع المنصور حلقة للوعظ والفتوى - عن أبيه في تسعةٍ من آبائه نسَقًا، أخبرني بذلك " الشيخ أبو الحسن مؤيد بن محمد (2) بن علي النيسابوري " بقراءتي عليه بها، قال أنبأنا المنصور عبدالرحمن بن محمد الشيباني (3) في كتابه إلينا، قال: أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي، قال:
" ثنا عبدالوهاب بن عبدالعزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أُكَيْنَة بن عبدالله التميمي، من لفظِه، قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عليَّ بن أبي طالب وقد سُئِل عن الحنَّانِ المَنَّانِ، فقال: " الحنانُ الذي يُقْبِلُ على من أعرض عنه، والمنانُ الذي يبدأ بالنوال ِ قبلَ السؤال " آخرهُم: أُكَينةُ، بالنون، وهو السامع عَليا - رضي الله عنه - (4) ".
حدثني " أبو المظفر عبدالرحيم بن الحافظ أبي سعد السمعاني " بمرو الشاهجان، عن
__________
(1) يأتي فيما يلي من متن ابن الصلاح، اسم " أبي الفرج عبدالوهاب التميمي " كاملا. في آبائه التسعة.
(2) [هذا هؤ المؤيد محمد بن علي الطوسي النيسابوري المشهور. وهو راوي صحيح مسلم] من هامش (غ) وهو من شيوخ ابن الصلاح.
(3) على هامش (غ): [قال شيخنا أبو بكر: " أنا محمد بن أبي الحزم بن أبي الذكر، ثنا أبو محمد، ثنا المؤيد بن محمد، أنا أبو منصور عبدالرحمن الشيباني، أنا الخطيب الحافظ أبو بكر "
[عبدالرحمن بن محمد بن عبدالواحد بن الحارث بن منازل، أبو منصور المعروف بابن زريق. حدث عن أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب - قاله ابن نقطة - أظنه هذا]. تقييد ابن نقطة: ل 117، وأرخ وفاته سنة 535 هـ.
(4) قوبل على رواية الخطيب عن " عبدالوهاب بن عبدالعزيز بن الحارث، أبي الفرج التميمي " بإسناده هنا، تاريخ بغداد 11/ 32 (5704) وأرخ مولده، عنه، سنة 353، ووفاته ببغداد ثالث ربيع الأول 425 هـ. ورواه العراقي سماعًا من شيخه البرهان ابن لاجين الرشيدي، بسنده عن رزق الله بن عبدالوهاب التميمي: سمعت أبي يقول. فذكره. قال العراقي: أخبرنا الحافظ أبو سعيد العلائي في كتاب (الوشي المعلم) قال: هذا إسناد غريب جدًّا. ورزق الله كان إمام الحنابلة في زمانه من الكبار المشهورين، مات سنة 488 هـ. وأبوه الفرج عبدالوهاب، مشهور أيضًا. ولكن جده عبدالعزيز متكلم فيه كثيرًا، على إمامته، واشتهر بوضع الحديث. وبقية آبائه مجهولون لا ذكر لهم في شيء من الكتب أصلا. وقد تخبط فيهم عبدالعزيز أيضا (التقييد والإيضاح 348).(1/544)
أبي النصْر عبدِالرحمن بن عبدالجبار الفامي (1)، قال: سمعتُ السيد أبا القاسم منصور بن محمد العلوي يقول: الإسناد بعضه عوال ٍ وبعضه معال. وقول الرجل: حدثني أبي عن جدي؛ من المعالي " (2) *.
__________
(1) على هامش (غ): [قال أبو سعد السمعاني: الفامي، بالفاء مفتوحةً، نسبة إلى بيع الفواكه اليابسة ويقال لبائعها أيضًا. وقال: المروزي، بزيادة زاي، نسبة إلى مرو الشاهجان. خرج منه جماعة من العلماء وقال غيره: هي المدينة المشهورة بخراسان.] معه (اللباب: 2/ 410).
(2) أسنده العراقي من طريق شيخه أبي سعيد العلائي بقراءته عليه ببيت المقدس، قال أخبرني محمد بن يوسف، أخبرنا الإمام أبو عمرو بن الصلاح، حدثني أبو المظفر عبدالرحيم بن الحافظ أبي سعد السمعاني، فذكره (التبصرة 3/ 89) ومحمد بن يوسف، شيخ العلائي، هو ابن المهتار.
قال الشيخ زكريا الأنصاري في شرحه: معال أي مفاخر للحفيد الراوي عن أبيه عن عن جده، وزاد: " فائدة: يلتحق برواية الرجل عن أبيه عن جده، رواية المرأة عن أمها عن جدتها. ومنه ما رواه أبو داود عن بندار عن عبدالحميد بن عبدالواحد الغنوي البصري: عن أم جنوب بنت نميلة عن أمها سُويدة بنت جابر عن أمها عقيلة بنت أسمر بن مضرس، عن أبيها أسمر قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعته فقال: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له " (فتح الباقي على التبصرة 3/ 93).
والحديث في سنن أبي داود: ك الخراج والإمارة والفيء (ح 3071) وفيه: " سبق إلى ما لم يسبق إليه ".
___________________________________
* المحاسن:
" فائدة: وأزيَدُ من ذلك [أي: التسعة] بواحدٍ، ما وُجِدَ بخطِّ " الحافظ عبدالغني بن سعيد ": حدثني أبو الطيب محمدُ بن أحمد بن محمد بن خالد بن المعتمر بن خالد بن حراد بن العلاء بن صدقَة بن نصر بن الحجاج بن عِلاط السُّلَمِي. [قال]: حدثني أبي عن جدي محمد بن خالد عن أبيه خالد بن المعتمر، [عن أبيه المعتمر] عن أبيه خالد عن أبيه حراد عن أبيه العلاء عن أبيه صدقة عن أبيه نصر، عن أبيه الحجاج بن عِلاَط " أنه وجد كنزًا فأخرج خُمْسَه لَبِنَةً من ذهب، فأتى بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ... " الحديث.
وأزيدُ من هذا باثنين، ما ذكره " ابنُ دِحْيةَ " في كتاب (المولد): أخبرتني خالةُ أبي " أمَةُ العزيز "، قالت: " حدثني جَدِّي الحسن، قال: حدثني أبي موسى حدثني [أبي] عبدُالله، حدثني أبي الحسينُ، حدثني أبي جعفرُ، حدثني أبي عليٌّ، حدثني أبي محمد، حدثني أبي عليٌّ، حدثني أبي موسى، قال: حدثني أبي عليٌّ، حدثني أبي جعفرُ، قال: حدثني أبي محمدُ الباقرُ، حدثني أبي عليُّ بنُ الحسين، حدثني أبي الحسينُ، حدثني =(1/545)
.............................................................................................................................
___________________________________
= أبي عليُّ بنُ أبي طالب، قال: " كان لي شارِفٌ من نصيبي ببدرٍ .. " الحديث (1).
وأزيدُ من هذا بواحدٍ، ما رواه " السنَدُ أبو محمد الحسنُ بن علي " قال: حدثني والدي عليُّ بن أبي طالب، حدثني والدي أبو طالب الحسنُ بنُ عبيدالله، حدثني والدي عبيدُالله بن محمد، حدثني والدي محمد بن عبيدالله، حدثني والدي عبيدُالله بن علي، حدثني والدي عليٌّ بن الحسن، حدثني والدي الحسنُ بنُ الحسينِ، حدثني والدي الحسينُ بن جعفر، حدثني والدي جعفرُ بن عبيدالله، حدثني والدي عبيدُالله، حدثني والدي الحسينُ الأصغر، حدثني والدي علي زينُ العابدين، حدثني والدي الحسينُ، حدثني والدي عليٌّ بن أبي طالب - رضي الله عنهم أجمعين -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المجالس بالأمانة " (2).
واعلم أنه قد تقدم مثالُ تسعةِ آباءٍ يروي بعضُهم عن بعض، فيكون بالابن الأول ِ عشرةً - وهو في الحديث الذي رواه عبدالوهاب الحنبلي - ومثالُ عشرةِ آباء يروي بعضُهم عن بعض فيكونُ بالابن أحدَ عشرَ أبًا، ومثالُ أحد عشرَ أبًا فيكون الجملةُ بالابنِ اثني عشر، ومثال اثني عشرَ أبًا وبالابن ثلاثةَ عشرَ، ومثالُ أربعةَ عشرَ أبًا وبالابنِ خمسةَ عشرَ.
بقي أن يُمثَّل لثمانية آباء يروي بعضُهم عن بعض ٍ، وسبعةِ آباءٍ يروي بعضُهم عن بعض، وهكذا إلى ثلاثة آباء .. =
__________
(1) كتاب المولد (السراج المنير في مولد البشير النذير، لابن دحية الكلبي، أبي الخطاب السبتي نزيل القاهرة) مقيد في فهارس دار الكتب المصرية، وأُخبرت أنه مفقود. والمقابلة على نقل الشمس السخاوي من خط مغلطاي (فتح المغيث 3/ 181) وحديث الإمام علي - رضي الله عنه -، أخرجه أبو داود في سننه، ك الخراج والإمارة والفيء، باب في مواضع قسم الخمس وسهم ذوي القربى (ح 2986) من رواية الزهري عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -.
(2) مثل به العراقي لأربعة عشر رجلا يرويه كل منهم عن أبيه نسقًا، من رواية الحافظ أبي سعد السمعاني في (الذيل: ترجمة السيد الحسن بن علي بن أبي طالب هذا، وقال: كان أحد الكبار المشهورين بالجود والسخاء وفعل الخيرات ومحبة أهل العلم ... توفي سنة اثنتين وخمسمائة) قال العراقي: وفي آبائه من لا يعرف حاله، وهذا الحديث من جملة أربعين حديثًا، منها مناكير (التقييد 349) وانظر حديث " المجالس بالأمانة " في (مختصر المقصاد للشوكاني: 228 ح 923) وتخريجه على هامشه.(1/546)