الجزء الثاني
س 201: هل هناك فرق بين مجرد ذكر ابن حبان للراوي في كتابه: «الثقات»، وبين ذكره له في نفس الكتاب، مع مدحه بالإتقان والضبط واستقامة الحديث، وغير ذلك، أم لا؟ وما هي منزلة توثيق ابن حبان بين الأئمة؟
ج 201: الإجابة عن ذلك فرع عن استقراء كتاب «الثقات» لأبي حاتم بن حبان البُسْتي – يرحمه الله -، وقد يسّر الله – عزّ وجلّ -، ليّ استقراء الكتاب، ووقفت فيه على فوائد جمة، محلها – إن شاء الله تعالى – في كتابي: «شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل» في قسم القواعد.
لكن يهمني هنا أن أقول: إن توثيق ابن حبان للرواة في كتابه «الثقات»، ليس على درجة واحدة، فمنه المعتمد، ومنه غير المعتمد.
وبيان هذا يحتاج أن أتكلم على شرط ابن حبان – يرحمه الله -، الذي ذكره في بيان الثقة عنده، فقد قال – يرحمه الله – في مقدمة كتابه: «الثقات» (1/ 11 - 13):
ولا أذكر في هذا الكتاب الأول – يعني «الثقات» -، إلا الثقات الذين يجوز الاحتجاج بخبرهم، ... فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول – أي «الثقات» – فهو صدوق، يجوز الاحتجاج بخبره، إذا تعرى خبره عن خصالٍ خمس، فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا؛
فإن ذلك الخبر لا ينفك من إحدى خمس خصال:
إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرتُ اسمَه في كتابي هذا في الإسناد رجل ضعيف لا يُحتج بخبره، أو يكون دونه رجل واهٍ، لا يجوز الاحتجاج بروايته، أو الخبر: يكون مرسلاً، لا يلزمنا به الحجة، أو يكون منقطعا، لا يقوم بمثله الحجة، أو يكون في الإسناد رجل مدلس، لم يبين سماعه في الخبر مِنَ الذي سمعه منهُ؛ فإن المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه؛ لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر؛ لأنه لا يُدْرَى: لعله سمعه من إنسان ضعيف، يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه، وعُرف الخبر به، فما لم يَقُلْ المدلس في خبره – وإن كان ثقة -: سمعت، أو حدثني، فلا يجوز الاحتجاج بخبره، ...(1/1)
وإنّما أذكر في هذا الكتاب الشيخ بعد الشيخ، وقد ضعفه بعض أئمتنا، ووثقه بعضهم، فمن صح عندي منهم أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب «الفصل بين النقلة»؛ أدخلته في هذا الكتاب؛ لأنه يجوز الاحتجاج بخبره، ومن صح عندي منهم أنّه ضعيف بالبراهين الواضحة التي ذكرتها في كتاب «الفصل بين النقلة»؛ لم أذكره في هذا الكتاب، لكني أدخلته في كتاب: «الضعفاء بالعلل»؛ لأنَّه لا يجوز الاحتجاج بخبره؛ فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تعرى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها؛ فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره؛ لأن العدل من لم يُعرف منه الجرح؛ إذ الجرح ضد التعديل، فمن لم يُعلم بجرح؛ فهو عدل، إذ لم يبين ضده، إذ لم يُكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنّما كلفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيب عنهم ... ، اهـ. وكذا ذكر نحوه في (5/ 595).
وقد ذكر هذا الحافظ في «لسان الميزان» (1/ 14) ملخصاً عن الحافظ شمس الدين بن عبدالهادي في «الصارم المنكي» مع شيء من التصرف الذي غيّر فيه بعض شروط ابن حبان.
وقال في «المجروحين» (1/ 8): وأقل ما يثبت به خبر الخاصة حتى تقوم به الحجة على أهل العلم؛ هو خبر الواحد الثقة في دينه، المعروف بالصدق في حديثه، العاقل بما يحدِّث به، العالم بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، المتعرى عن التدليس في سماع ما يروى عن الواحد مثله في الأحوال بالسنن وصفتها، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سماعاً متصلاً، اهـ.
وفي مقدمة «صحيح ابن حبان» (1/ 151 - 152) قال: وأمّا شرطنا في نقله ما أودعناه كتابنا هذامن السنن؛ فإنّا لم نحتجَّ فيه إلا بحديث اجتمع في كل شيخ من رواته خمسة أشياء:
الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل.
والثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه.
والثالث: العقل بما يحدَّث من الحديث.
والرابع: العلم بما يُحيل من معاني ما يروى.
والخامس: المتعرِّي خبره عن التدليس.(1/2)
قال: فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس، احتججنا بحديثه، وبَنَيْنا الكتاب على روايته، وكل من تعرَّى عن خصلة من هذه الخصال الخمس، لم نحتجَّ به.
قال: والعدالة في الإنسان: هو أن يكون أكثر أحواله طاعة الله، لأنّا متى ما لم نجعل العدل إلا من لم يوجد منه معصية بحال؛ أدّانا ذلك إلى أنْ ليس في الدنيا عدل، إذ الناس لا تخلو أحوالهم من ورود خلل الشيطان فيها.
بل العدل: من كان ظاهر أحواله طاعة الله، والذي يخالف العدل: من كان أكثر أحواله معصية الله، وقد يكون العدل الذي يشهد له جيرانه وعدولُ بلده به، وهو غير صادق فيما يروي من الحديث؛ لأن هذا شيء ليس يعرفه إلا مَنْ صناعته الحديث، وليس كلُّ معدَّل يَعْرِف صناعة الحديث، حتى يعدِّل العدل على الحقيقة في الرواية والدين معاً.
قال: والعقل بما يحدث من الحديث: هو أن يعقل من اللغة بمقدار ما لا يُزيل معاني الأخبار عن سَننها، ويعقل من صناعة الحديث ما لا يُسند موقوفاً، أو يرفع مرسلاً، أو يصحِّف اسماً.
قال: والعلم بما يُحيل من معاني ما يروي: هو أن يعلم من الفقه بمقدار ما إذا أدى خبراً، أو رواه من حفظه، أو اختصره، لم يُحِلْه عن معناه الذي أطلقهُ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى معنى آخر.
قال: والمتعري خبره عن التدليس: هو أن كون الخبر عن مثل مَنْ وصفنا نعته بهذه الخصال الخمس، فيرويه عن مثله سماعاً، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ، من «الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان».
وقد تكلم الحافظ في «النكت» (1/ 290 - 291) على شرط ابن حبان في راوي الصحيح، فقال: وقد صرح ابن حبان بشرطه، وحاصله: أن يكون راوي الحديث عدلاً مشهوراً بالطلب، غير مدلس، سمع ممن فوقه، إلى أن ينتهي، فإن كان ما يروي من حفظه؛ فليكن عالماً بما يحيل المعاني.(1/3)
قال الحافظ: فلم يشترط على الاتصال والعدالة، ما اشترطه المؤلف – يعني: ابن الصلاح – في الصحيح؛ من وجود الضبط، ومن عدم الشذوذ والعلة، وهذا وإن لم يتعرض ابن حبان لاشتراكه؛ فهو إن وجده كذلك أخرجه وإلا فهو ماشٍ على ما أصّل؛ لأنَّ وجود هذه الشروط لا ينافي ما اشترطه.
وسمّى ابن خزيمة كتابه: «المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة» وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء؛ لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة، مغترف من بحره، ناسج على منواله.
قال: ومما يعضد ما ذكرنا: احتجاج ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية؛ الذين يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات: كابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغير هؤلاء، اهـ.
مناقشة ما سبق من كلام ابن حبان – يرحمه الله -:
1 - من تأمل شروط ابن حبان فيمن يحتج بخبره – كما في كتابه «الثقات» (1/ 1113) بدا له وكأن ابن حبان لا يرى أن الثقة قد يروي ما يُنكر عليه؛ لأنَّه ذكر: أنّنا إذا رأينا خبراً منكراً؛ فلا ينفك من إحدى خمس خصال، فذكرها، ولم يذكر احتمال خطأ الثقة الذي أدخله في كتابه، مع أن ابن حبان قد صرح في غير موضع أن الثقة قد يخطئ، وأنَّه لا يتوقف في كل حديث الثقة من أجل أخطائه التي لا ينفك عنها البشر.(1/4)
كما في معقل بن عبيدالله الجزري، قال: وكان يخطئ، لم يفحش خطؤه، فيستحق الترك، وإنما كان ذلك منهُ على حسب ما لا ينفك منهُ البشر، ولو تُرك حديث من أخطأ، من غير أن يفحش ذلك منه، لوجب ترك حديث كل محدث في الدنيا، لأنهم كانوا يخطئون، ولم يكونوا بمعصومين، بل يحتج بخبر من يخطئ، ما لم يفحش ذلك منه، فإذا فحش، حتى غلب على صوابه تُرِك حينئذٍ، ومتى ما عُلِم الخطأ بعينه، وأنه خالف فيه الثقات؛ تُرِك ذلك الحديث بعينه، واحْتُجَّ بما سواه، هذا حكم المحدثين الذين كانوا يخطئون، ولم يفحش ذلك منهم، اهـ. (7/ 492) وقد ذكر نحو ذلك في مواضع كثيرة من كتابه، انظر (6/ 279، 379)، (7/ 98، 669، 670)، (8/ 484) وقد مَثَّل بحماد بن سلمة في ترك ما أخطأ فيه فقط، وقبول باقي ما رواه – كما في «الإحسان» (1/ 153 - 154).
وظاهرمن كلام ابن حبان؛ أن الحد الفاصل بين فحش الخطأ وقلته، أنَّه إذا غلب خطؤه على صوابه كان متروكاً، وإلا لم يُعْدَل به عن سبيل العدول، هكذا صرّح ابن حبان – يرحمه الله -، لكن لا يُسلَّم له ذلك، فلا يشترط في ترك رواية الراوي أنه يخطئ في أكثر من نصف رواياته، وأنه إذا كانت أخطاؤه دون النصف فهو عدل؛ لأن الأئمة ربما تكلموا بشدة في الراوي إذا روى حديثاً فاحش الخطأ، وقد قال شعبة في عبدالملك بن سليمان العرزمي – لما روى حديث الشفعة -: لو جاء عبدالملك بآخر مثله، لرميت بحديثه، اهـ، من «تهذيب التهذيب» (6/ 397).(1/5)
فالخطأ اليسير الذي هو تقديم اسم الأب على اسم الابن، ونحو ذلك، يقع للكبار – فضلاً عن غيرهم – أما من يروي حديثاً عن أنس عن شريك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمثل هذا لا يكون إلا مغفلاً أو كذاباً، والعلماء ينظرون في عدد الخطأ ونوعه: هل هو فاحش أم محتمل؟ مع النظر في كثرة حديث الراوي وقلته، فرُبَّ رجل يخطئ في حديث واحد، فيكون متروكاً، لأنّه ليس له غيره، وربّ رجل يخطئ في عشرة أحاديث؛ وهو مع ذلك إمام من الأئمة، لانغمار ذلك في سعة ما روى، فليس نظر النقاد منصرفاً إلى مجرد العدد فقط، وهل زاد على النصف أم لا؟ بل ينظرون أيضاً إلى قرائن أخرى، والله أعلم.
2 - ذكر ابن حبان أن العدل من لم يُعرف منه الجرح، إذ الجرح ضد التعديل، والمعلوم عن كثير من الأئمة أن العدالة لا تثبت إلا بالتزكية، سواء كان ذلك باستفاضة العدالة، أو تزكية إمام من أئمة الجرح والتعديل، وسواء كانت التزكية من معاصر، أو من متأخر، بعد النظر في حديث الراوي، أو بعد النظر في أصوله – كما في «الكفاية» (ص: 141 - 144).
ويقوي ما ذهب إليه ابن حبان ما قاله ابن الصلاح في «علوم الحديث» (ص:53) في النوع الثالث والعشرين، المسألة الثامنة، القسم الثاني، فذكر الكلام على المجهول والمستور.
وذكر عن البعض: أن المستور من عُلمت عدالته الظاهرة دون الباطنة، وأن بعضهم احتج به.
ثم قال ابن الصلاح: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة؛ في غير واحد من الرواة، الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، والله أعلم. اهـ.
إلا أنّه من المعلوم أنّ الإمام المتأخر؛ لو وقف على أصول الراوي، فإنَّه يتمكن من خلال الأصول أن يعرف دين الراوي وورعه، وكذلك يعرف تدليسه واختلاطه، لكن يرد على ذلك أن بعض الأئمة قد يتكلم في الراوي لمجرد حديث واحد سمعه، ولا شك أنه في هذه الحالة، لا يتمكن من الوقوف على عدالته الباطنة، والله أعلم.(1/6)
وللإمام الذهبي كلام يشد من أزر مذهب ابن حبان أيضاً، إلاَّ أنَّ الحافظ ابن حجر تعقبه، ففي «لسان الميزان» (5/ 4 - 5) ط/ دار الكتب العلمية، ترجمة مالك بن الخير الزيادي، قال ابن القطان: وهو ممن لم تثبت عدالته اهـ.
قال الذهبي: يريد أنه ما نص أحدٌ على أنَّه ثقة، وفي رواة «الصحيحين» عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم والجمهور على أن من كان من المشايخ، قد روى عنه جماعة، ولم يأت بما يُنكر عليه، أن حديثه صحيح. انتهى.
قال الحافظ: وهذا الذي نسبه إلى الجمهور، لم يصرح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان، قال الحافظ: نعم، هو حق في حق من كان مشهوراً بطلب الحديث والانتساب إليه، كما قررته في «علوم الحديث».
ثم إن قول الشيخ: إن في رواة «الصحيح» عدداً كثيراً ... إلى آخره، مما يُنازع فيه، بل ليس كذلك، بل هذا شيء نادر؛ لأنَّ غالبهم معروفون بالثقة، إلا من خرّجا له في الاستشهاد ... ، اهـ.
وهذا النص من الحافظ يدل على تفرد ابن حبان – دون أئمة النقد – بهذا المذهب، ومما ينبغي أن أنبِّه عليه: أن في بعض نسخ «لسان الميزان» تصحيفاً وسقطاً، وقد نظرت في «فتح المغيث» (1/ 323) وأصلحت منه ومن غيره ما ظهر لي أنه خطأ أو تصحيف، والله أعلم.
وعلى كل حال؛ فلا يخلو مذهب ابن حبان – هذا – من تساهل، وإن حاول المعلِّمي – يرحمه الله – أن يضم آخرين إلى ابن حبان في هذا المذهب – كما في «التنكيل» (ص:256)، والله أعلم.
(تنبيه):(1/7)
فسَّر ابن حبان العدل بأنه من كان أكثر أحواله طاعة الله، وغير العدل بأنه من كان أكثر أحواله معصية الله، كما سبق في مقدمة «الإحسان» (1/ 152)، وهذا تعريف غير دقيق؛ لأنَّنا لو اشترطنا الأكثرية في الأمرين: لزمنا أن من قام بأكثر من نصف الواجبات فهو عدل، وغن ضيع الباقي، وأن من ارتكب أكثر من نصف المحرمات فهو غير عدل، والذي عليه الكثير من أهل العلم أن من جاهر بكبيرة واحدة، وتهاون بها؛ رُدَّت روايته، وإن تمسك بباقي الشرائع، فالعدل الذي يتمسك بالأوامر، ويترك المحرمات، وإن غلبته نفسه تاب وأناب، وأصلح من أمره ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، والله أعلم.
3 - كلام ابن حبان في «المجروحين» (1/ 8) يدل على أنَّه يشترط في صحة الحديث: أن يكون روايه ثقة في دينه – وهو محمول على ما سبق في الأمر الثاني -، وأن يكون معروفاً بالصدق في حديثه، وهذا يدل على أنه يشترط الضبط في الراوي، بل اشترط أن يعرف ما يحيل معنى الحديث عن وجهه، مع سلامة السند من عنعنة مدلس، فضلاً عن الانقطاع الجلي.
وذكر في مقدمة كتابه «التقاسيم» – المعروف بـ «صحيح ابن حبان» نحو ذلك، وبين أن صدق الراوي في حديثه، يكون بالشهرة فيه، وهذا دليل على اشتراطه الضبط؛ لأنَّ الراوي إذا اشتهر بالطلب؛ دلّ ذلك على عنايته بالرواية.
ومن اعتنى بالرواية، وذاكر أهل العلم بالروايات، قويت شوكته، وتم ضبطه، بخلاف المقلّين في الروايات، الذين لا يعتنون بالطلب، فتكثر في أحاديثهم الأوهام.
إلا أنَّ الذي ينظر في كتاب «الثقات» يجد ابن حبان – يرحمه الله – يذكر جماعة من الرواة المقلين في الرواية، بل قد يذكرمن ليس له إلا حديث واحد، بل قد يذكر من ليس له حديث مسند، إنما يروي الحكايات فقط، فأين اشتراط الشهرة بالطلب؟!
••وهاك عدة تراجم تدل على ما قلتُ:
قال في عقال بن شبة: ما له إلا حديث واحد في الجمع بين الصلاتين، اهـ (7/ 306).(1/8)
وقال في أبيّ بن قيس – أخي علقمة بن قيس -: ليس له حديث مروي يُرجع إليه، إلا ما يحى عنه النخعي الحرف بعد الحرف، اهـ (4/ 51).
وقال في عامر بن عبدالله بن عبد قيس التميمي العنبري: روى عنه الحسن، وابن سيرين، وأهل البصرة، لست أحفظ له خبراً مسنداً حدَّث به، اهـ (5/ 187).
وقال في حسان بن أبي سنان العابد: يروي عنه أهل البصرة الحكايات والرقائق، ولست أحفظ له حديثاً مسنداً، اهـ (6/ 225).
وقال في كهمس بن الحسن القيسي العابد: يروي الرقائق، ما له حديث مسند يُرجع إليه، روى عنه البصريون الحكايات، اهـ (7/ 358).
وقال في عبدالعزيز بن سليمان العابد: ممن له حكايات كثيرة مروية في الرقائق والعبادات ...
قال: وإنّما ذكرته لشهرته في المتعبدين، ولِمَا كان فيه من استجابة الدعاء. اهـ (8/ 394).
وقال في عرفجة العابد: ليس له حديث مسند يُرجع إليه، وله الحكايات في التعبد، اهـ (8/ 524).
فكيف يقال بعد ذلك: إنَّ ابن حبان لا يوثِّق إلا المشهور بالطلب؟! فالذي يظهر أنَّه إذا لم يجد عند الراوي روايات منكرة، اعتبره ضابطاً، وهذا صحيح في الجملة، لأنَّ الراوي إذا كان مكثراً؛ تيسر للناقد الحكم عليه، أما المقلون، أو من ليس لهم حديث مسند – أصلاً -؛ فكيف يُحكم عليهم بالضبط؟! ولذلك نرى ابن عدي – في أمثال هؤلاء - يقول: وفلان في مقدار ما يرويه، لم يتبيَّن لي صِدْقُه من كذبه – أو بهذا المعنى -.
قال الحافظ في «النكت» (1/ 291) – في معرض بيان عدم اشتراط ابن حبان الضَّبْطَ: ومما يعضد ما ذكرنا: احتجاج ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية، الذي يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات، كابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، ومحمد بن عجلان، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وغير هؤلاء، اهـ.(1/9)
والذي يظهر أنَّ ابن حبان قد اشترط الضبط، ويكون العدل عنده أي في الرواية، فيشمل العدالة في الدين والضَّبط، إلا أن صنيعه الذي قدمتُه يدل على أنَّه لم يوف بذلك في كتابه «الثقات»، أو أنَّه يفهم الضبط بخلاف فهم غيره، كما سبق قبل قليل.
ولو نظرت في تقسيمه أجناس المجروحين، كما في كتابه «المجروحين» النوع الخامس (1/ 67) واالنوع السادس (1/ 68) والنوع السابع (1/ 68 - 69) والنوع الثاني عشر (1/ 75) علمت أنّه يتحاشى رواية غير الضابطين، وكذلك لو نظرت في أجناس الثقات الذين لا يحتج بهم، لرأيت نحو ذلك، إلا أنَّ هذا كله محمول على ما تقدم، والله أعلم.
4 – لم يصرح ابن حبان – فيما سبق نقله من مقدمة «الإحسان» (1/ 151 - 152) – بأنَّه يشترط في صحة الخبر – عنده – أن يكون سالماً من الشذوذ والعلة، وإنّما الذي يظهر أنَّه اشترط العدالة والضبط – على ما سبق فيهما من بحث – والاتصال.
ويشهد لذلك اسم كتابه؛ فقد سماه بـ «المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع؛ من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها».
وقد قال الحافظ في «النكت» (1/ 290 - 291) – في معرض كلامه على عدم اشتراط ابن حبان الضبط -: وسمى ابن خزيمة كتابه: «المسند الصحيح المتصل بنقل العدل؛ عن العدل من غير قطع في السند، ولا جرح في النقلة».
قال: وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء؛ لأنَّ ابن حبان تابع لابن خزيمة، مغترف من بحره، ناسج على منواله، اهـ.
ولو تأملنا كلام ابن حبان في عدة مواضع من «الصحيح» و «المجروحين»؛ ظهر لنا أن ابن حبان يقف في بعض حديث المشاهير للمخالفة، وإن لم ينصَّ على نفي الشذوذ والعلة في كلامه على الحديث الذي يحتج؛ فقد قال في مقدمة «صحيحه»:(1/10)
وقد تركنا من الأخبار المشاهير التي نقلها عدول ثقات، لعل تبيَّن لنا منها الخفاء على عالم من الناس جوامعها، وإنّما نُمْلِي بعد هذا علل الأخبار، ونذكر كل خبر مرويّ صح أو لم يصح، بما فيه من العلل، إن يسَّر الله ذلك وسهله، اهـ من «الإحسان» (1/ 166)؛ فهذا يدل على أنَّ أمر العلة لا يخفى على ابن حبان.
ولو تأملنا ما ذكره في «المجروحين» (1/ 90) تحت عنوان: ذكر أجناس من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، لو تأملنا هذه الأجناس؛ علمنا أنه متيقظ للسلامة من العلة، فقد قال – يرحمه الله -: ومن أحاديث الثقات أجناس لا يحتج بها، قد سبرتُ رواياتهم، وخبرتُ أسبابها، فرأيتها تدور في نفس الاحتجاج بها على ستة أجناس:
الجنس الأول: وهو الذي كثر في المحدثين، فمنهم من كان يخطئ الخطأ اليسير، إما في الكتابة حيث كتب، ولم يعلم به، حتى بقي الخطأ في كتابه إلى أن كبر، واحتيج إليه، مثل تصحيف اسم يُشبِه (اسماً)، ومثل رفع مرسل، أو إيقاف مسند، أو إدخال حديث في حديث، أو ما يشبه هذا ... ثم بيّن أن حديث هؤلاء لا يحتج به إذا انفردوا.
ثم ذكر في الجنس الرابع: أنه لا يقبل من الثقة الحافظ حديثه إذا حدث من حفظه، وليس بفقيه؛ لاعتناء هذا الصنف بالأسانيد دون المتون.
وذكر في الجنس الخامس: أنّه لا يحتج بالفقيه إذا حدث من حفظه، وهو ثقة في روايته؛ لأنَّ الغالب على هذا الصنف حفظ المتون دون الأسانيد، اهـ ملخصاً (1/ 93) وهذا يدل على عدم قبوله ما فيه علة، وإن كان لا يُسلَّم له ما قاله في الحفاظ والفقهاء.
ومن نظر في تراجم «صحيحه» علم أنَّهُ يعتني بدفع العلل عن كثير من الأحاديث التي يوردها، فيقول: ذكر الخبر المدحض كون من زعم أنَّ هذا الخبر تفرد به فلان، أو زعم أنَّ هذا الخبر معلول، أو ذُكْر خبر قد يوهم غير المتبحر في صناعة الحديث أنَّ خبر فلان معلول.(1/11)
وفي (5/ 184 - 185) قال: عبدالحميد – يعني: ابن جعفر – رضي الله عنه -، - أحد الثقات المتقنين – قد سَبرتُ أخباره، فلم أره انفرد بحديث مُنكر لم يشارك فيه، وقد وافق فليحُ بن سليمان وعيسى بنُ عبدالله بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد عبدَالحميد في هذا الخبر. اهـ. عقب الحديث رقم (1867) فهذا كله يدل على أنَّه ينظر في علل الروايات.
هذا مع أنَّه – كما في مقدمة «الإحسان» (1/ 157) – قال: وأما قبول الرفع في الأخبار؛ فإنّا نقبل ذلك عن كل شيخ اجتمع فيه الخصال الخمس التي ذكرتها، فإن أرسل عدل خبراً، وأسنده عدل آخر، قبلنا خبر من أسند؛ لأنَّه أتى بزيادة حفظها، ما لم يحفظ غيره ممن هو مثله في الإتقان، فإن أرسله عدلان، وأسنده عدلان، قبلت رواية العدلين اللذين أسنداه على الشرط الأول.
وهذا الحكم فيه – كثُر العدد فيه أوْ قلّ – فإن أرسله خمسة من العدول، وأسنده عدلان، نظرت حينئذٍ إلى من فوقَهُ بالاعتبار، وحكمت لمن يجب، قال: كأنَّا جئنا إلى خبر رواة نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اتفق مالك، وعبيدالله بن عُمر، ويحيى بن سعيد، وعبدالله بن عون، وأيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عُمر، ورفعوه، وأرسله أيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية، وهؤلاء كلُّهم ثقات، أو أسند هذان، وأرسل أولئك، اعتبرت فوق نافع: هل روى هذا الخبر عن ابن عمر أحدٌ من الثقات غيرُ نافع مرفوعاً، أو من فوقَهُ؟ على حسب ما وصفنا، فإذا وُجد ما قلنا، قبلنا خبر من أتى بالزيادة في روايته – على حسب ما وصفنا -.
قال: وفي الجملة يجب أن يعتبر العدالة في نقلة الأخبار، فإذا صحت العدالة في واحد منهم، قُبل منه ما روى من المسند، وإن أوقفه غيره، والمرفوع وإن أرسله غيره من الثقات؛ إذ العدالة لا توجب غيره، فيكون الإرسال والرفع عن ثقتين مقبولين، والمسند والموقوف عن عدلين يقبلان، على الشرط الذي وصفناه، اهـ.(1/12)
وهناك مواضع كثيرة تدل على طريقة ابن حبان في سبر الروايات – كما في «الإحسان» (1/ 153 - 155) -، فأنت ترى أنَّ ابن حبان يعتني بباب سبر الروايات، إلا أنَّ تحصيل كلامه يدل على وجود فرق بين طريقته في الإعلال، وبين طريقة الجهابذة من الأئمة، فالظاهر أنّه يميل – في الجملة – إلى مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين في قبول زيادة الثقة، إلا أنَّه قد يُعلُّ بعض الزيادات، وليس هو في ذلك كنقاد الحديث، وقد قال الحافظ في «النكت» (2/ 726) وهو معروف بالتساهل في باب النقد ... اهـ. وانظر «الصارم المنكي» (ص:104 - 105). وقد احتج بعض أهل العلم بأنَّ ابن حبان اشترط في الخبر سلامته من النكارة، واستدل بذلك على أنَّ ابن حبان يشترط في الخبر السلامة من الشذوذ والعلَّة، وهذا استدلال ليس بوجيه:
لأنَّ الظاهر أنَّ ابن حبان يعني بالنكارة: العلَّة الظاهرة لا الخفية؛ لأنَّه قال: فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا، فإنَّ ذلك لا ينفك من إحدى خمس خصال، وذكر: ضعف شيخ من ذكره، أو ضعف تلميذه، أو الإرسال والانقطاع، أو التدليس من أحد الرواة، ولم يعرّج على ذكر العلة الخفية من قريب ولا من بعيد، في هذا الموضع، والله أعلم.
5 – الذي ينظر في كتاب «الثقات» يجد أن من ذكرهم ابن حبان ليسوا على درجة واحدة، بل هم أصناف كثيرة، وهاك تفصيل ذلك، وهو الجواب على ما ورد في السؤال:
(1) هناك تراجمُ ذَكرها ابن حبان في «الثقات» وقال فيها: ضابط، أو متقن، أو كان من علماء الناس في زمانه، أو كان متيقظاً يحفظ، أو كان ممن يتعاطى الحفظ، أو كان صاحب حديث، أو حسن المذاكرة، ممن جمع وصنف، أو كان من علماء الحديث، أو كان صاحب حديث يحفظ، أو كان يحفظ حديثه – أو أكثر حديثه -، أو كان من متقني أهل الكوفة – مثلاً – أو ثبْت، أو من الحفاظ المتقنين، أو أعلم الناس بحديث فلان.(1/13)
وعدد التراجم التي وصفها بهذا الوصف – تقريباً – (152) ترجمة، منها في طبقة التابعين أربع تراجم، وفي أتباعهم ثمان وأربعون ترجمة، وفي أتباع أتباعهم مائة ترجمة.
فهذه الدراسة تثبت لنا أنَّه لا يطلق المدح في الراوي؛ إلا بعد الوقوف على حديثه؛ لأنَّ الطبقات القريبة منه، قد تَمَكَّن فيها من الوقوف على حديث الراوي أكثر منه في الطبقات البعيدة عنه، إلا أنَّهُ يطلق التوثيق وإن لم يقف للراوي إلا على حديث واحد، أو بعض الحكايات غير المسندة.
ثم لو نظرنا في هذه التراجم السابقة، وقارنّا كلامه مع كلام غيره، ولو بالنظر إلى «تقريب التهذيب» للحافظ ابن حجر – الذي هو تلخيص لأقوال الأئمة التي في «تهذيب التهذيب» – غالباً – لرأيناه قد توبع في التوثيق على (123) ترجمة، وخولف في ترجمتين، مع أن المخالفة محتملة، انظر ترجمة عبدالرحيم بن ميمون أبي مرحوم (7/ 134) وترجمة عصام بن يوسف البلخي (8/ 521) من «الثقات»، ونرى أنه انفرد بمدح سبع وعشرين ترجمة.
وحسب هذه الدراسة، فالنفس تطمئن إلى اعتماد هذا النوع من توثيق ابن حبان، لأنَّه قد توبع على نسبة عاليةمن التراجم، والمخالفة لا تكاد تذكر، فإذا كثرت الموافقة، وقلّت المخالفة، قُبل ما انفرد به، وهذا هو النهج السديد في معرفة تشدد الإمام أو تساهله أو اعتداله.
ثم لو نظرنا نظرة أُخرى في نوعية الموافقة التي وافق فيها غيره من الأئمة:
نجد أن من جملة التراجم التي مدحها وهي (123) ترجمة، قد حكم الحافظ على (107) ترجمة منها بقوله: ثقة، أو ثقة حافظ، أو ثقة ثبت، أو إمام.
وفي (14) ترجمة قال الحافظ: صدوق: أو ما في معناه، وسقط ترجمتان لعل ذلك عن سهو في حصر التراجم، والله أعلم.
فهذا كله يفيدنا أن توثيق ابن حبان على هذا النحو توثيق معتمد، والله أعلم.(1/14)
وهناك تراجم قد يقول فيها ابن حبان: «متقن ربما وهم» وهي نحو ست تراجم، حكم الحافظ على خمس منها بالوهم أيضاً، وخالفه في واحدة، فلم يعتبر حكم ابن حبان عليها بالوهم، فهذا كلهُ يدل على تحري ابن حبان يرحمه الله.
لكن ينبغي التنبيه على أمور:
الأول: أنَّ أكثر الذين تفرد ابن حبان بمدحهم قوم عوجلوا بالموت، ولم يشتهر أمرهم، فلعل تفرده بذلك لأن غيره لم يعرفهم، ومن عرف حجة على من لم يعرف.
الثاني: أنَّه قد يذكر الراوي، ويصفه بالإتقان، ويصرح بأنَّه ليس له حديث مسند، كما قال في مسمع بن عاصم أبي سنان (9/ 198) من «الثقات»: كان من عباد البصرة ومتقنيهم، ما له حديث مسند يرجع إليه، لكن الحكايات في فضائله وتعبده كثيرة، اهـ ويظهر ليّ أن كلمة «ومتقنيهم» تصفحت عن «ومتقيهم» والله أعلم.
الثالث: أنَّ هذه الدراسة التي قمت بها، تُعْتَبر تقريبية، وليست بتلك الدرجة في الدقة، لكن اطمأنت نفسي لها في الجملة، والله أعلم.
والخلاصة: أنّنا نعض بالنواجذ على هذا النوع من توثيق ابن حبان، وهو في الدرجة العالية من التوثيق، ويجمع بين كلامه وكلام غيره إذا خولف، ويُرجَّح الراجح بالقرينة، والله أعلم.
(2) وقد يذكر ابن حبان الراوي، ويقول: مستقيم الحديث، أو استقامته في الحديث استقامة الأثبات، أو مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة، أو روى عن الثقات، أو حسن الحديث مستقيم، أو مستقيم الأمر فيما يروي، أو مستقيم الحديث من المتقنين، أو استقام في أمر الحديث إلى أن مات، أو مستقيم الحديث ربّما أخطأ، أو يغرب، أو حسن الاستقامة في الروايات، أو مستقيم الحديث جداً، أو كان تقياً نقياً، أو صدوق في الرواية أو صدوق، أو ثقة في فلان دون فلان، أو ثقة، أو ثقة فقيه، أو ثقة ثقة، أو لم أرّ في حديثه إلا الاستقامة، أو حديثه يشبه حديث الاثبات، أو لم أرَ في حديثه ما في القلب منه، وعدد هذه التراجم نحو (226) ترجمة.
توبع على التوثيق والمدح في (104) ترجمة.(1/15)
وافرد بـ (112) ترجمة، وخولف في عشر تراجم.
فنسبة المخالفة إلى الموافقة قليلة جداً، ولذا نقبل تفرده.
ونلاحظ أنَّ التراجم التي يرفع في مدحها يتابع – في الغالب – عليها، وكذلك التي ينص على وجود الخطأ فيها، والتي يقول فيها: «مستقيم الحديث» يظهر أنَّ التوثيق فيها أكثر وأرجح، إمّا بمنزلة: «ثقة»، أو بمنزلة: «صدوق»، ولعل منزلة: «ثقة» أظهر، ونلاحظ – أيضاً – أنَّ هذه الأقوال لم تأتِ عنه في طبقة التابعين، إنّما وردت في الأتباع، وأكثر منها جداً في تبع أتباع التابعين، وهذا يدل على أنَّ إطلاقه ذلك يكون بعد الوقوف على حديثهم – غالباً – إلا أنّه يطلق ذلك ولو لم يقف إلا على حديث أو حكاية، وفي هذا توسع غير مرضي، والذي تطمئن إليه النفس أنَّ حكمه في هذه الطائفة يكون كحكم غيره، في الاعتماد عليه، ويُجمع بين كلامه وكلام غيره إذا خولف، ويُرجح الراجح حسب القرائن، الله أعلم.
(3) وكثيراً ما يذكر الراوي ويقول: يغرب، أو يخطئ، أو ربّما أخطأ، أو وهم، أو تفرد، أو يخالف، أو رديء الحفظ، أو ليس من الذين يحفظون، أو يخطئ وينفرد على عدالته، أو يغرب ويتفرد ويخطئ ويخالف، أو ربّما يكون في روايته بعض المناكير، أو يغرب على قلة حديثه، أو ليس له روايةٌ يعتمد عليها، أو يخطئ كثيراً، أو لا يعجبني الاحتجاج به، أو لست أعتمد عليه، أو لا يعتبر بحديثه، أو يدخله في «الثقات» لأنّه شك فيه، لأنَّ له مدخلاً للضعفاء، ومدخلاً للثقات، وجملة التراجم هذه – على وجه التقريب – (549) ترجمة.
وقد أدخل بعضهم في كتابه «المجروحين» وجرحهم بشدة، وعددهم عشر تراجم تقريباً.
وهم:
1 – حبة بن جوين العرني، في «الثقات» (4/ 182)، وفي «المجروحين» (1/ 264).
2 – زياد بن عبدالله النميري، في «الثقات» (4/ 256)، وفي «المجروحين» (1/ 304).
3 – عمران العمى عن أنس، في «الثقات» (5/ 224)، وفي «المجروحين» (2/ 123).(1/16)
4 – بكر بن سوادة قصرى، في «الثقات» (6/ 104)، وفي «المجروحين» (1/ 187).
5 – الحسن بن عطية العوفي، في «الثقات» (6/ 170)، وفي «المجروحين» (1/ 228).
6 – الحكم بن مصعب القرشي، في «الثقات» (6/ 187)، وفي «المجروحين» (1/ 244).
7 – محمد بن ذكوان السمَّان، في «الثقات» (7/ 417)، وفي «المجروحين» (2/ 262).
8 – حماد بن قيراط، في «الثقات» (8/ 206)، وفي «المجروحين» (1/ 249).
9 – محمد بن الحسن الأسدي، في «الثقات» (9/ 78)، وفي «المجروحين» (2/ 277).
10 – وهب بن راشد، في «الثقات» (9/ 228)، وفي «المجروحين» (3/ 75).
وبعض هذه التراجم يحتاج إلى نظر.
وقد أدخل – أيضاً – بعضهم في «المجروحين» وجرحهم جرحاً خفيفاً، وعددهم تقريباً (12) ترجمة.
وقد أدخل محمد بن المنذر بن الزبير في «الثقات» (7/ 437) وفي إدخاله إياه في «المجروحين» اشتباه، كل هذا فيمن ذكرهم في «الثقات» وجرحهم جرحاً خفيفاً، وقد ذكر في «الثقات» عدة تراجم، وذكرهم بكثرة الخطأ، ولم يذكر منهم في «المجروحين» إلا ترجمة واحدة، وهي ترجمة عبدالله بن عُصْم الحنفي في «الثقات» (5/ 57) وذكرها في «المجروحين» (2/ 5).
فالشاهد: أنَّه ليس كل من أدخله ابن حبان في «الثقات» كان ممن يُحْتَج به عنده، خلافاً لما صرح به في مقدمة «الثقات» (1/ 11 - 13) ونلاحظ أن قوله: «يخطئ) وما في معناه في الطبقات المتأخرة أكثر منه في الطبقات العالية.
(4) وهناك تراجم ذكر فيها أن الراوي لم يروِ مسنداً، أو ما له حديث يُرجع إليه، أو يروي المقاطيع، وعدتهم (17) ترجمة.
وهم:
1 – عامر بن عبدالله بن عبد قيس التميمي العنبري، (5/ 187).
2 – محمد بن بشير الأنصاري، (5/ 366).
3 – محمد بن ثوبان، (5/ 370).
4 – حسان بن أبي سنان العابد، (6/ 225).
5 – خليفة العبدي، (6/ 268).
6 – سالم بن مخراق العبدي، (6/ 411).
7 – عتبة الغلام هو ابن أبان بن صمعة، (7/ 270).
8 – يزيد الضبي، (7/ 620).(1/17)
9 – توبة بن الصمة الزاهد، (8/ 156).
10 – سليمان الخواص العابد، (8/ 277).
11 – عبدالعزيز بن سليمان العابد، (8/ 394).
12 – عمر العنْزي، (8/ 442).
13 – عيسى بن جابان، (8/ 491).
14 – وأعاد ذكر عتبة بن أبان، (8/ 507).
15 – قعنب اليمامي، (9/ 23).
16 – محمد بن النضر الحارثي، (9/ 72).
17 – مسمع بن عاصم أبو سنان، (9/ 198).
وكونه يذكر الرجل وليس له حديث مسند، دل ذلك على عدم اعتناء المترجم بالرواية.
فكيف يقال: إن ابن حبان لا يوثِّق إلا المشهور بالطلب؟! والراوي إذا لم يرو المسندات، لا يتمكن الناقد من معرفة حاله، كما هو معلوم، وانظر «الثقات» (7/ 123) ترجمة عبدالواحد بن قيس الشامي.
(5) وقد يذكر ابن حبان الراوي، ولم يذكر عنه إلا راوياً واحداً، ثم يضعف هذا التلميذ، أو يضعف السند إليه، أو يتشكك في اتصاله، أو يضعف حديثه.
وهؤلاء هم:
1 – زياد – مولى عثمان بن عفان -، (4/ 260).
2 – أيوب بن قطن، (4/ 29).
3 – شرحبيل بن القعقاع، (4/ 365).
4 – عبدالعزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة، (5/ 125).
5 – عبدالحكيم البصري يروي عن عائشة، (5/ 131).
6 – عبدالسلام أبو كيسان البصري، (5/ 131).
7 – عبيد بن أبي عبيد مولى أبي رهم، (5/ 135).
8 – عامر بن خارجة بن سعد، (5/ 194).
9 – عمير بن المأمون التيمي، (5/ 256).
10 – عطية بن بسر، (5/ 261).
11 – محمد بن ركانة بن عبد يزيد، (5/ 360).
12 – وثيمة النصري، (5/ 499).
13 – هرمز والد عبدالرحمن بن هرمز الأعرج، (5/ 94).
14 – يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، (5/ 519).
15 – ابنة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، (5/ 594).
16 – بشر بن عبدالله بن أبي أيوب الأنصاري، (6/ 96).
17 – عمر بن يزيد النصري، (7/ 179).
18 – عثمان بن دينار، (7/ 194).
19 – محمد بن علوان، (7/ 410).
20 – يحيى بن عبدالرحمن، (7/ 606).
21 – إبراهيم بن جريج الرهاوي، (8/ 61).
22 – الفرات بن نصر، (9/ 14).(1/18)
ونلاحظ أنَّ هذا في التابعين أكثر، وكلّما نزلت طبقة الراوي قلّ إطلاق ابن حبان هذا القول في ترجمة الراوي، وإذا كان الراوي قد عرفه ابن حبان من رواية أحد التلاميذ، ثم ليّن تلميذه، فكيف يحكم بتوثيقه؟ نعم، إن كان له أكثر من راو؛ فالأمر أهون، كما في عنترة والد هارون بن عنترة، قال: روى عنه أبو سنان وابنه هارون، وهارون؛ الله المستعان على إثباته (5/ 282)، فهذا يدل على أنَّ إدخاله هؤلاء في «الثقات» ليس بصواب.
وقد يذكر الراوي برواية تلميذ عنه، ويبهم التلميذ، أو يحكم عليه بعدم المعرفة له: كما في حملة بن عبدالرحمن العكي (4/ 193)، وربيعة بن دراج (4/ 229)، وربيعة بن قيس (4/ 231)، وشداد أبي قادم الجريري (4/ 358)، وشرحبيل بن القعقاع (4/ 365)، وعبدالرحمن بن أمرئ القيس (5/ 94)، ومحمد بن عثمان الأخنسي (5/ 375)، ويعقوب بن غضبان (5/ 554) وهذا كله يدل على تساهله – يرحمه الله -.
(6) وبعضهم يذكره ابن حبان من رواية مدلس عنه، أو يتشكك في سماع تلميذه منه، وقد مر بعض هؤلاء في المسألة (5).
وهؤلاء هم:
1 – زكريا بن أبي مريم الخزاعي، (4/ 263).
2 – سنان بن جرير العنس، (4/ 337).
3 – صالح بن أبي زيد النخعي، (4/ 373).
4 – عبدالله بن جرهد الأسلمي، (5/ 22).
5 – عبدالله بن أبي عثمان القرشي، (5/ 33).
6 – عبدالله بن أبي مرة الزوفي، (5/ 45).
7 – عطاء الحمصي عن عائشة، (5/ 204).
8 – الفضل بن عيسى عن أنس، (5/ 296).
ونلاحظ أن هذا في التابعين فقط.
والراوي لا يكون ثقة، وهو لم يُعْرَف إلا برواية لا تصح إليه، كما هو معلوم.
(7) وبعضهم يذكره ابن حبان، ثم يقول: لا أدري من هو، وقد يزيد على ذلك فيقول: لا أدري مَنْ هو، ولا ابن من هو، وقد يقول: لست أعرفه ولا أباه، أو لست أعرفه، ولا مَنْ روى عنه، أو يقول: لسته أدري: هو الأول – أي الترجمة السابقة – أم لا، وقد يذكره على التردد فيه، أو في الراوي عنه، وعدة هؤلاء تقريباً: (64) ترجمة.(1/19)
انظرها في هذه المواضع: (4/ 37، 39، 96، 126، 146، 180، 238، 265، 318، 342، 363، 384، 396)، (5/ 129، 142، 143، 207، 229، 295، 306، 367، 382، 390، 425، 428، 450، 459، 481، 494، 497)، (6/ 60، 106، 146، 168، 170، 178، 226، 240، 249، 253، 330، 372، 406، 415، 418، 445، 447، 458)، (7/ 55، 128، 188، 233، 300، 316، 406، 535، 598)، (8/ 41، 63، 241، 242 مرتين، 299)، (9/ 180).
ونلاحظ أن هذه العبارات كانت أكثر ذكرها في التابعين، وكلّما نزلت الطبقة قلّ ذكر هذه العبارات.
فإذا كان ابن حبان يذكر الراوي في «الثقات» وهو لا يعرفه، فكيف يوثقه؟.
فإن قيل: ينظر في حديثه ويقارنه بحديث الثقات، ويحكم عليه بالتعديل، إذا وجده يكثرمن موافقة الثقات.
فالجواب: أنَّ هذا الأمر لم يلتزم به ابن حبان في كل من أدخله في كتابه، ومما يدل على ذلك أنَّه ذكر ترجمة سيف أبي محمد – شيخ يروي عن منصور -، قال: روى عنه عمرو بن محمد العنقزي، لست أعرف أباه، فإن كان سيف بن محمد؛ فهو واه، وإن كان غيره؛ فهو مقبول الرواية حتى تصح مخالفته الأثبات في الروايات، أو يسلك غير مسلك العدول في الأخبار، فحينئذٍ يلزق به الوهن، اهـ (8/ 299)، فهذا يدل على أنَّ ابن حبان إذا وقف – ولو على رواية واحدةّ – ولم يرّ فيها منكراً؛ فإنَّه يوثق الراوي، وقد سبق أن هذا مذهب من هو واسع الخطو في التوثيق، فَمِن هذا وغيْرِه دخل التساهل على ابن حبان؛ لتوسعه في شروطه، والله أعلم.
(8) وقد يذكر ابن حبان الراوي، ويقول: هو ممن استخير الله – تعالى – فيه، كما في زهرة بن معبد أبي عقيل القرشي (6/ 344)، أو يقول: هو مِمَّن استخرت الله فيه، كما في مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير (7/ 478)، وقد يصفه باستقامة حديثه، مع قربه من الضعفاء، كما في إبراهيم بن سليمان الزيات (8/ 68)، ومالك بن سليمان بن مرة النهشلي (9/ 165)، ونلاحظ أنَّه ليس في التابعين من هؤلاء أحد.(1/20)
(9) وقد يذكر الراوي، ويقول: لست أعرفه بعدالة ولا جرح، ولم يذكر إلا تلميذاً واحداً، ويضعفه، كما في سليم بن عثمان – أبي عثمان الطائي – (6/ 415) قال: روى عنه سليمان بن سلمة الحبائري الأعاجيب الكثيرة، ولست أعرفه بعدالة ولا جرح، ولا له راوٍ غير سليمان، وسليمان ليس بشيء، فإن وُجد له راوٍ غير سليمان بن سلمة الحبائري، اعتُبِر حديثه، ويلزق به ما يتأهله من جرح أو عدالة، اهـ.
فأنت ترى ابن حبان يُدخل الرجل في كتابه، مع أنَّه يحتاج إلى نظر في حاله عنده.
وقال في محمد بن إبراهيم بن خبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب: روى عنه مروان بن جعفر، لا يعتبر بما انفرد به من الإسناد، اهـ (9/ 58).
هذا ما تيسر ذكره في طريقة ابن حبان – يرحمه الله – في كتاب «الثقات»، وبقيت أمور سأذكرها – إن شاء الله تعالى – في «شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل» قسم التراجم والقواعد.
وخلاصة ما تقدم:
1 – أن مَنْ ذَكرهم في كتابه «الثقات» ووصفهم بالحفظ أو الضبط والإتقان، ونحو ذلك كما مر في المسألة (1) فكلامه معتَمَد لا غبار عليه، ويعتبر الراوي من رجال الحديث الصحيح، فإن وافق ابنُ حبان غيره؛ فلا إشكال، وإن خالفه غيرُه؛ جمعنا بين كلامه وكلام غيره، أو رجَّحنا القول الراجح حَسْب ما يظهر من دلائل؛ وإن انفرد بالتوثيق، فكلامه معتمد.
2 – إنَّ من ذكره في كتابه «الثقات» ووصفه بأنَّه مستقيم الحديث، ونحو ذلك مما مر في المسألة (2)، فكلامه أيضاً معتمد على النحو السابق، إلا أنَّ من وصفه بالاستقامة يتردد حديثه بين الصحة والحسن، ولعله إلى الصحيح أقرب.(1/21)
3 – من ذكرهم بالخطأ، فينظر: هل تكلم غيره فيهم أم لا؟ فإن كان لغيره من المعتدلين كلام؛ فقد نرجح كلام غيره، لأنَّ ابن حبان يتكلم في الراوي، ويذكره بالخطأ، لوجود أدنى خطأ في روايته، وصنيع الأئمة أنَّ من كان كثير الحديث، وله أخطاء تنغمر في سعة ما روى؛ فإنهم يطلقون فيه التوثيق، دون التفات إلى ذكر الخطأ في روايته، مع علمهم بأنّه قد يخطئ، وإن لم يكن لغيره كلام، فيعتمد كلام ابن حبان، ولا يحتج بحديث الراوي إذا انفرد به؛ لأنَّ الراوي في هذه الحالة يكون مقلاًّ، إذ لو كان مكثراً، لعلمه غير ابن حبان، وكشف لنا عن أمره، ولو لم يكن إلا بذكر أنه طلابة، أو رحّالة، أو محدّث، أو نحو ذلك، فإذا لم يكن شيء من ذلك؛ فالراوي مقل، وإذا كان ممن يخطئ أو يغرب – مع قلة حديثه -؛ فلا يُحتج به، والله أعلم.
لكن إذا وصفه بالخطأ في كتابه «الثقات» ثم ذكره بالجرح الشديد في «المجروحين»، ولم نجد لغيره فيه كلاماً؛ فإنَّ حديث الرجل يُترك، والله أعلم.
4 – وكذلك فلا يحتج برواية من روى عنْهُ راو فقط، وضعفه ابن حبان، أو ضعف السند إلى المترجم له، وكذلك الذين لا يعرفهم ابن حبان، فلا يحتج بهم لمجرد ذكره إياهم في «الثقات».
5 – ومن ذكرهم ولم يصفهم بشيء – وهم كثير جداً -: فإن كان لغيره كلام اعتمدناه، وإلا نظرنا في عدد تلاميذ الراوي، وشهرتهم في هذا الفن، ونظرنا: هل الراوي مكثر أو مقل؟ فإن كان مكثراً – وهذا نادر – احتججنا به، وإن كان مقلاً فلا نحتج به، والله أعلم.
••بقي الكلام على شيوخ ابن حبان في «الصحيح»:
فقد ذكر الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليمني – يرحمه الله – تقسيماً لمراتب توثيق ابن حبان، في كتابه القيّم «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل»، فقال في (ص:669):
والتحقيق أن توثيق ابن حبان على درجات:
الأولى: أن يصرح به، كأنْ يقول: «كان متقناً»، أو «مستقيم الحديث»، أو نحو ذلك.(1/22)
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخَبَرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث، بحيث يُعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
قال: فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل، والله أعلم، اهـ.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله – معلِّقاً على ذلك في حاشية «التنكيل».
قلت: هذا تفصيل دقيق، يدل على معرفة المؤلف – يرحمه الله تعالى -، وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو مما لم أره لغيره، فجزاه الله خيراً، غير أنَّه قد ثبت لديّ بالممارسة: أن من كان منهم من الدرجة الخامسة، فهو على الغالب مجهول لا يُعرف، ويشهد بذلك صنيع الحفاظ؛ كالذهبي، والعسقلاني، وغيرهما من المحققين؛ فإنَّهم نادراً ما يعتمدون على توثيق ابن حبان وحده ممن كان في هذه الدرجة، بل والتي قبلها – أحياناً - ... ، اهـ، ففي كلام المعلمي – يرحمه الله – قبول توثيقه لشيوخه، وهذا محمول على ما إذا لم يعارضه غيره.
وقال ابن حبان: ولعلنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ من اسبيجاب إلى الإسكندرية، ولم نرو في كتابنا هذا إلا عن مئة وخمسين شيخاً أقل أو أكثر، ولعل مُعَوَّل كتابنا هذا يكون على نحو من عشرين شيخاً؛ ممن أدرنا السنن عليهم، واقتنعنا برواياتهم عن رواية غيرهم، على الشرائط التي وصفناها.
وربّما أروي في هذا الكتاب وأحتج بمشايخ قد قدح فيهم بعض أئمتنا مثل: سماك بن حرب، وداود بن أبي هند، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وحماد بن سلمة، وأبي بكر بن عياش، وأضرابهم، ممن تنكب عن رواياتهم بعض أئمتنا، واحتج بهم البعض، فمن صحّ عندي منهم بالبراهين الواضحة، وصحة الاعتبار على سبيل الدين أنَّه ثقة، احتججت به، ولم أعرَّج على قول من قدح فيه.(1/23)
قال: ومن صحَّ – عندي – بالدلائل النيرة والاعتبار الواضح على سبيل الدين، أنه غير عدل؛ لم أحتجَّ به، وإن وثقه بعض أئمتنا ... ، اهـ من «الإحسان» (1/ 152 - 153).
فيظهر من ذلك أن مشايخه في «الصحيح» قد انتقاهم من جملة مشايخه، ويظهر أيضاً أنَّه قد عَرفهم معرفة جيدة، مما يقوي في النفس الاحتجاج بهم؛ لتصحيحه حديثهم، وهو فرع عن توثيقه إياهم، إلا أنّه إذا عارضه غيره، وقدح في أحد شيوخه، رجعنا للقرائن، ورجَّحنا الراجح، والله أعلم.
وقد ذكر شعيب – محقق «صحيح ابن حبان» – أنَّ عدد شيوخ ابن حبان (217) شيخاً، وأنّه أكثر عن (21) شيخاً منهم، انظر مقدمة التحقيق لـ «الإحسان» (1/ 11)، (1/ 12 - 16) وبعد هذا كلِّه؛ فتوثيق ابن حبان في كتابه «الثقات»: منه المعتمد، وكثير منه لا يخلو من تساهل، والله أعلم.
(تنبيه):
ذكر شيخنا الألباني – حفظه الله – أنّه لم ير في «المجروحين» راوياً واحداً جرحه ابن حبان بالجهالة؛ قال: فهذا يؤكد أنَّ الجهالة عنده ليست جرحاً، اهـ من «الضعيفة» (2/ 328 - 329/ 929).
قلت: المجهول عند ابن حبان: هو الراوي الذي لا يعرف إلا بنقل راوٍ واحد ضعيف عنه، انظر «الثقات» (5/ 560) وحكم روايته الترك على الأحوال كلِّها، انظر «لسان الميزان» (1/ 14)، و «المجروحين» (2/ 193) ترجمة: عائذ الله المجاشعي، والله أعلم.
س 202: إسناد فيه رجل ممن وُصف بأنه يدلس تدليس التسوية، فهل نكتفي بتصريحه بالسماع من شيخه، أو لا بد أن يصرح بالسماع في جميع الإسناد؟
ج 202: سبق أن كتبتُ جواباً على مثل هذا السؤال، ورجَّحتُ – آنذاك – اشتراط التصريح بالسماع في كل الإسناد، تبعاً لما حرَّره شيخنا الألباني – حفظه الله تعالى -، وظناً مني أنَّ مدلسي تدليس التسوية؛ يدلسون في جميع طبقات السند.(1/24)
لكنّي أعدت النظر، فترجح عندي: أنَّه يلزم من عُرف بذلك أن يصرح بالسماع عن شيخه، وأن يصرح بسماع شيخه من شيخه، ويُكتفَى من المدلس بذلك، ولا يُشترط تسلسل التصريح بالسماع – على تفاصيل سأذكرها، إن شاء الله تعالى، في نهاية الجواب -.
والذي دفعني لتغيير الجواب أمور:
الأول: أنّني نظرت في تعريف العلماء التدليس التسوية، فرأيت أكثرهم يعرفونه بما يدل على أن العلة في هاتين الطبقتين:
الأولى: لتدليس المدلس، وقد لا يدلس في هذه الطبقة.
والثانية: لتسوية المدلس.
وأيضاً يعرِّفونه بما يدل على حصرِهِم العلَّة فيما بين شيخ المدلس وشيخ شيخه، وإليك أقوال جماعة من العلماء في ذلك.
- الإمام أبو سعيد العلائي، المتوفى سنة، (761) هـ:
قال – رحمه الله -: النوع الثاني من تدليس السماع: أن يسمع الراوي من شيخه حديثاً، قد سمعه من رجل ضعيف، عن شيخ سمع منه ذلك الشيخ هذا الحديث، فيسقط الراوي عنه الرَّجلَ الضعيف من بينهما، ويروي الحديث عن شيخه عن الأعلى، لكونه سمع منه، أو أدركه، ويسمى هذا النوع – أيضاً -: «التسوية» ... ، اهـ من «جامع التحصيل» (ص:102).
- الإمام ابن رجب الحنبلي، المتوفى سنة: (795) هـ:
قال – رحمه الله -: وأما من روى عن ضعيف فأسقطه من الإسناد بالكلية؛ فهو نوع تدليس، ومنه ما يسمى «التسوية»، وهو أن يروي عن شيخ له ثقة، عن رجل ضعيف، عن ثقة، فيسقط الضعيف من الوسط. اهـ، من «شرح علل الترمذي» (2/ 825).
- الإمام سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري – المشهور بـ «ابن الملقِّن» -، المتوفى سنة: (804) هـ:(1/25)
قال – رحمه الله -: الوليد – يعني: ابن مسلم – لا ينفعه تصريحه بالتحديث؛ فإنه اشتهر بتدليس التسوية، وهو أن لا يدلّس شيخ نفسه، ولكن شيخ شيخه، اهـ من «المقنع في علوم الحديث» (1/ 218). وقال في (1/ 163): وينبغي أن يُتنبه بعد ذلك لأمر مهم؛ وهو أنْ ثمّ تدليس لهم خاص، يُعرف بـ «تدليس التسوية»، وهو لا يختص بشيخ المدلس، بل بشيخ شيخه. اهـ.
- الحافظ زين الدين عبدالرحيم بن الحسين العراقي، المتوفى سنة: (806) هـ:
قال – رحمه الله -: ترك المصنف – يعني: ابن الصلاح – قسماً ثالثاً من أنواع التدليس، وهو شر الأقسام، وهو الذي يسمونه تدليس التسوية، وقد سماه بذلك أبو الحسن بن القطان وغيره من أهل هذا الشأن.
وصورة هذا القسم من التدليس: أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة، وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمل المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط منه شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة، عن الثقة الثاني بلفظ محتمل – كالنعنعة ونحوها -، فيصير الإسناد كلّه ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه؛ لأنَّه قد سمعه منه، فلا يظهر – حينئذ – في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله، إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل ... ، اهـ من «التقيد والإيضاح» (ص:95 - 96).
وقال في (ص:121): الوليد بن مسلم مدلس، وإن كان قد صرح بسماعه من الأوزاعي؛ فإنَّه يدلس تدليس التسوية، - أي: يسقط شيخ شيخه الضعيف، كما تقدم نقله عنه -، اهـ.
- برهان الدين الابناسي، المتوفى سنة (802) هـ:(1/26)
قال في «الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح» (1/ 174): وقد ترك المصنف – يعني: ابن الصلاح – قسماً ثالثاً، وهو أشر الأقسام، يسمونه «تدليس التسوية»، سماه بذلك ابن القطان وغيره، وهو أن يسمع المدلِّس حديثاً من شيخ ثقة، والثقة سمعه من شيخ ضعيف، وذلك الضعيف يرويه عن ثقة، فيسقط المدلس شيخ شيخه الضعيف، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، - كالنعنعة ونحوها -، فيصير الإسناد كلّه ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه؛ لأنَّه قد سمعه منه، فلا يظهر – حينئذٍ – في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله، إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل، اهـ.
- الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم – المعروف بـ «ابن الوزير» المتوفى سنة (840) هـ:
قال – رحمه الله -: (القسم الثالث) من التدليس (وهو شر أقسام التدليس، وهو تدليس التسوية.
وصورته: أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف غير ثقة، عن ثقة، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط الضعيف من السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيستوي الإسناد كله ثقات، ولهذا سمي تدليس التسوية)، اهـ من «توضيح الأفكار» (1/ 373).
ولا ينبغي أن يقال إنَّ ابن الوزير – رحمه الله – يرى أن عمل المدلس يقع في كل طبقات السند؛ لقوله: «فيستوي الإسناد كله ثقات»؛ لأنَّه صرح بصورة هذا النوع من التدليس، وحصر عمل المدلَّس في موضع معين، وأيضاً فإن إسقاط الضعيف، الذي هو العلة الوحيدة في السند، يظهر منه بعد ذلك استواء السند كله بالثقات، وعلى هذا يُحمل كلام ابن الوزير، والله أعلم.
- الإمام برهان الدين الحلبي سبط ابن العجمي، - المتوفى سنة (841) هـ:(1/27)
قال – رحمه الله -: وهو – أي تدليس التسوية – أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة غير مدلس، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف، فيأتي المدلس الذي سمع من الثقة الأول غير المدلس، فيسقط الضعيف الذي في السند، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة، عن الثقة الثاني، بلفظ محتمل، فيستوي الإسناد كله ثقات ... ، اهـ من «التبيين لأسماء المدلسين» (ص:33 - 34).
وما قيل في كلام ابن الوزير، يقال في كلام برهان الدين الحلبي – رحمهما الله تعالى.
- الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المتوفى سنة (852) هـ:
قال – رحمه الله -، بعد أن ذكر تعريف شيخه العراقي السابق:
قول شيخنا في تعريف التسوية؛ تعريف غير جامع، بل حق العبارة أن يقول: أن يجيء الراوي – ليشمل المدلس وغيره – إلى حديث قد سمعه من شيخ، وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر، فيسقط الواسطة بصيغة محتملة، فيصير الإسناد عالياً، وهو في الحقيقة نازل ... ، ثم ذكر ما يدل على أنَّ هذا التعريف لا تقييد فيه بالضعيف، اهـ من «النكت على ابن الصلاح» (2/ 620 - 621).
وقال في مقدمة «تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس» (ص:25):
وتدليس التسوية: وهو أن يصنع ذلك لشيخه، اهـ، أي: يسقط شيخ شيخه، كما يدل عليه السياق، والله أعلم.
فائدة:
ويظهر من كلام ابن حبان في مقدمة «المجروحين» (1/ 94) في الكلام على الجنس السادس من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها، أنّه يراعي أن تدليس التسوية يكون بإسقاط شيخ شيخ المدلس، وهذا يظهر لمن تأمّل كلامه في هذا الموضع، وكذلك إذا تأمل ترجمة بقية بن الوليد (1/ 200 - 201) حيث عدّ تلامذة بقية من أهل التسوية، لإسقاطهم شيوخ بقية الضعفاء.
وبقية ممن يفعل ذلك، وابْتُلي بتلاميذ يفعلون ذلك في حديثه! والله المستعان.(1/28)
فائدة أُخرى: قال ابن دقيق العيد في «شرح الإلمام» (2/ 16) – الحديث الثالث -: والتسوية تستعمل فيما بين الراوي وشيخ شيخه، بأن يذكر الراوي شيخه، ويسقط شيخ شيخه، ويذكر شيخ شيخ شيخه، اهـ.
فائدة أُخرى: قال ابن المواق في «بغية النقاد»: وصورته عند أئمة هذا الشأن: أن يعمد الراوي إلى إسقاط راو من بين شيخه، وبين من رواه عنه شيخه، أو من بين شيخه، ومن رواه عن شيخ شيخه، ليقرب بذلك الإسناد ... ، اهـ من «النكتب» للزركشي (2/ 105) وفي عبارته تشويش، والله أعلم.
هذا، ولم أقف على أحد صرح بأن المدلس تدليس التسوية، يدلس في الطبقات العليا، إلا قول السيوطي في «التدريب» (1/ 257): قال النووي: (وربما لم يسقط شيخه، وأسقط غيره) فقال السيوطي: أي: شيخ شيخه، أو أعلى منه، اهـ.
أما عبارة النووي فمحتملة، وليست صريحة في ذلك، وكذلك عبارة الخطيب في «الكفاية» (ص:518)؛ لقوله: وربما لم يسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه، لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلاً ضعيفاً في الراوية ... إلخ، وأما ما قاله السيوطي فمدفوع بقول من قبله من أهل العلم، والله أعلم.
••الثاني – من الأمور التي حملتني على تغيير الجواب الأول -:
أنَّ من مثَّل به العلماء في تسويته، كان عمله في شيخ شيخه، ولم أقف على عمل لهم في أعلى من ذلك.
قال العلائي في «جامع التحصيل» (ص:103 - 104): وقال صالح جزرة: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدت حديث الأوزاعي، قال: وكيف؟ قلت: تروي عنه عن نافع، وعنه عن الزهري، وعنه عن يحيى – يعني: ابن أبي كثير – وغيرك يُدْخل بين الأوزاعي ونافع عبدَالله بن عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري قرة، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي؛ بأن يروي عن مثل هؤلاء؟ قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء المناكير، وهم ضعفاء؛ فأسقطتهم، أنت، وصيَّرْتَها من رواية الأوزاعي عن الأثبات، ضعف الأوزاعي، فلم يلتفت إلى قولي، اهـ.(1/29)
فأنت ترى أنَّ عمل الوليد لم يتجاوز إسقاط شيخ الأوزاعي.
••الثالث من الأمور التي حملتني على تغيير الجواب الأول -:
أن الأمثلة التي مثل بها أهل العلم في تدليس التسوية – حسب علمي – لا تخرج عن ذلك، فمن ذلك ما جاء في «العلل» لابن أبي حاتم الرازي (2/ 154 - 155) برقم (1957)، قال: سمعت أبي وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهوية عن بقية – قال: حدثني أبو وهب الأسدي، قال: حدثنا نافع عن ابن عمر، قال: «لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه»، قال أبي: هذا الحديث له علَّة، قلَّ من يفهمها، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن أبي فروة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعبيدالله بن عمرو كنيته «أبو وهب»، وهو أسدي، فكأنّ بقية بن الوليد كنّى عبيدالله بن عمرو، ونسبه إلى بني أسد؛ لكيلا يفطن به، حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط، لا يهتدي له، قال: وكان بقية من أفعل الناس لهذا، وأما ما قال إسحاق في روايته عن بقية عن أبي وهب: حدثنا نافع؛ فهو وهم.
غير أن وجهه عندي: أن إسحاق لعله حفظ عن بقية هذا الحديث، ولما يفطن لما عمل بقية من تركه إسحاق من الوسط، وتكنيته عبيدالله بن عمرو، فلم يفتقد (لفظ) بقية في قوله: حدثنا نافع أو عن نافع، اهـ.
وقد ساق الخطيب كلام أبي حاتم – هذا – بالإسناد إليه، ثم قال: وقول أبي حاتم كلُّه في هذا الحديث صحيح، وقد روى الحديث عن بقية كما شرح، قبل أن يغيره ويدلسه لإسحاق ... ، ثم ساق سنده إلى موسى بن سليمان، قال: ثنا بقية، قال: ثنا عبيدالله بن عمرو، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، عن نافع عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا تعجبوا لإسلام امرئ حتى تعرفوا عقدة عقله». اهـ من «الكفاية» (ص:519 - 520).(1/30)
وقد ذكر الإمام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – عدة أحاديث يمثِّل بها على تدليس التسوية؛ لم يتجاوز فيها عمل المدلسين طبقة شيوخ شيوخهم، انظر «شرح علل الترمذي» (2/ 825 - 828).
وكذلك ذكر الحافظ ابن حجر – رحمه الله – أمثلة تدل على ذلك، انظر «النكت على ابن الصلاح» (2/ 618 - 620).
••الرابع: من الأمور التي حملتني على تغيير الجواب الأول -:
صنيع الحافظ ابن حجر رحمه الله، يدل على أنه يُكتفى من مدلس تدليس التسوية؛ أن يصرح بالسماع من شيخه، وأن يصرح شيخُه بالسماع من شيخه:
- جاء في «النكت على ابن الصلاح» (1/ 293): الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزهري، قال الحافظ: واشتمل حديث الأوزاعي على زيادة على حديث ابن عيينة، توقف الحكم بصحتها على تصريح الوليد بسماعه من الأوزاعي، وسماع الأوزاعي من الزهري؛ لأنَّ الوليد بن مسلم من المدلسين على شيوخه، وعلى شيوخ شيوخه، اهـ.
- وفي (455 - 458) ما حاصله: أن الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ... ، فذكر الحديث في النهي عن التسمية بـ «الوليد»، قال الحافظ: وقد صرحت رواية بشر بن بكر بسماع الأوزاعي له من الزهري فأُمن ما يُخشى من أن الوليد بن مسلم دلس فيه تدليس التسوية، اهـ.
- وفي «نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار» (2/ 357 - 358).
من رواية بقية بن الوليد بن مسلم بن زياد، قال: سمعت أنس بن مالك ... فذكر حديثاً، قال الحافظ: وبقية صدوق، أخرج له مسلم، وإنما عابوا عليه التدليس والتسوية، وقد صرح بتحديث شيخه له، وبسماع شيخه، فانتفت الريبة، اهـ، وانظر أيضاً (1/ 117 - 118).(1/31)
- وفي «التلخيص الحبير» (2/ 86) برقم (594) رواية بقية: ثني يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه – رفعه -: «من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أو غيرها؛ فليضف إليها أُخرى، وقد تمت صلاته ... »، قال الحافظ: إن سلم من وهم بقية؛ ففيه تدليس التسوية؛ لأنَّه عنعن لشيخه ... ، اهـ مع أن بقية الإسناد بالعنعنة أيضاً، ولم يعرج على ذلك.
- وفي «موافقة الخُبر الخَبر من تخريج أحاديث المختصر» (1/ 98 - 99) رواية الوليد بن مسلم: ثنا الأوزاعي: ثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة ... ؛ فذكر حديثاً.
قال الحافظ: وإسناده على شرط الصحيح، فقد صرح الوليد فيه بالتحديث له ولشيخه؛ فأُمن التدليس والتسوية ... ، اهـ مع أن بقية الإسناد بالعنعنة.
- وفي (1/ 276) رواية بقية: عن مسلم بن خالد الزنجي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر ... ؛ فذكر حديثاً.
قال الحافظ: هذا حديث غريب، تفرد به بقية عن مسلم – وهو ابن خالد الزنجي الفقيه المكي -، وهو صدوق؛ في حفظه مقال، وبقية صدوق، لكن يدلس ويسوي، وقد عنعنه عن شيخه وعن شيخ شيخه، اهـ، هذا مع أنَّ السند مسلسل بالعنعنة من بقية إلى ابن عمر – رضي الله عنهما -.
- وفي (1/ 400) رواية بقية: ثنى الزبيدي: ثنى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... ؛ فذكر حديثاً، قال الحافظ: وأخرجه أحمد عن عبدالجبار بن محمد عن بقية، فوقع لنا بدلاً عالياً، ووقع عنده معنعناً، فتوقف فيه بعضهم لذلك، وقد زال بهذه الرواية من تدليس بقية وتسويته، اهـ.
- وفي «الفتح» (2/ 463) الحديث رقم (973) ك/ العيدين، ب/ حمل العنزة ... رواية الوليد: ثنا أبو عمرو – هو الأوزاعي – قال: أخبرني نافع عن ابن عمر ... فذكر حديثاً، قال الحافظ: والوليد – المذكور هنا – هو ابن مسلم، وقد صرح بتحديث الأوزاعي له، وبتحديث نافع للأوزاعي، فأمن تدليس الوليد وتسويته، اهـ مع أن نافعاً عنعن عن ابن عمر، ولم يُعلَّه بذلك.(1/32)
- وفي «النكت الظراف على الأطراف» (7/ 420) رواية بقية عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبدالرحمن بن عائذ الأزدي الشامي، عن علي؛ بحديث: «العينان وكاء السَّه، فمن نام؛ فليتوضأ»، وهذه الرواية أخرجها أبو داود وابن ماجه، كما ذكر المزي في «تحفة الأشراف».
قال الحافظ في حاشية «التحفة»: حديث: «العينان وكاء السَّه؛ قلت: أخرجه إسحاق في «مسنده» عن بقية: ثنا الوضين: ثني محفوظ، فأُمن تدليسه وتسويته، ا هـ.
فهذه عدة مواضع من صنيع الحافظ ابن حجر – يرحمه الله -؛ تدل على أن مدلس تدليس التسوية، إذا صرح بالسماع من شيخه، وذكر سماع شيخه من شيخه، فإن هذا يجزئ، وتزول بذلك الريبة، ولو اعتنى باحث بجمع مثل هذه المواضع من كتب الحافظ – يرحمه الله -؛ فأرجو أن يظفر بشيء كثير.
إلا أن هناك مواضع توهم اشتراط التصريح في جميع الطبقات، وهي:
- ما جاء في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 293) من رواية الوليد: ثنا الأوزاعي، قال: كتب إليّ قتادة عن أنس ... فذكر حديثاً، قال الحافظ: وأعله بعضهم بعلتين: الأولى تدليس الوليد وتسويته، وليست بواردة؛ لأنه صرح بالتحديث، فانتفى التدليس، وبيّن أن رواية الأوزاعي عن قتادة مكاتبة، فانتفت تسويته، وقد صرح قتادة بالتحديث عن أنس لهذا الحديث وسماعه له منه – كما سيأتي -، فانتفت التسوية ... ثم ذكر العلة الثانية.(1/33)
وقول الحافظ – بعد ذكره تصريح قتادة بالتحديث عن أنس -: «فانتفت التسوية» مشكل؛ لأنه يدل بظاهره على اشتراط التصريح بالسماع أو نحوه إلى الصحابي، والمواضع السابقة عن الحافظ صريحة في عدم اعتبار ذلك؛ فلعل الحافظ قال ذلك لأن قتادة نفسه مدلّس، فلا بد أن يصرح بالسماع من شيخه، سواء كان في الإسناد إليه مدلس تدليس التسوية، أم لا، فلو كان قتادة غير مدلس لكان الإشكال معضلاً، ولو كان هذا الموضع مما يُحذر فيه من الوليد بن مسلم؛ فلماذا قال قبل ذلك: فانتفت تسويته؟ يعني الوليد، فهذا يدل على أن نهاية ما فعله الوليد في هذه الطبقة، بين الأوزاعي وقتادة فقط، يدلُّك على ذلك أن الحافظ قد مشَّى العنعنة في المواضع السابقة، لما كانت من غير المدلسين، وبهذا يلتئم كلام الحافظ – يرحمه الله -، - أو يقال: يحمل المبهم على المفصل المفسر الصريح -، والله أعلم.
- وفي (1/ 136 - 137) رواية الوليد بن مسلم: ثنا ثور بن يزيد: ثنا خالد بن معدان: ثنا عبدالرحمن بن عمرو، وحجر بن حجر قالا: أتينا العرباض بن سارية ... فذكر حديثاً.
قال الحافظ: وهذا حديث صحيح رجاله ثقات، قد جود الوليد بن مسلم إسناده، فصرح بالتحديث في جميعه، ولم ينفرد به مع ذلك، اهـ.
فقوله: «فصرح بالتحديث في جميعه» يوهم أن هذا لازم للوليد في كل حديث يرويه، وإلا توقفنا فيه، ولكن هذا النص ليس صريحاً في اشتراط ذلك، فيحمل على ما سبق التصريح به من الحافظ نفسه، وأيضاً فلا شك أن التصريح بالسماع من التجويد للسند – في الجملة – ولا يلزم من عدمه العلة مطلقاً، والله أعلم.(1/34)
- وبنحو ما في الموضع الثاني من «موافقة الخبر الخبر» جاء في «فتح الباري» (2/ 318) رواية للوليد بن مسلم، وهي موجودة في «صحيح مسلم» (1/ 412) برقم (588) ك/ المساجد ومواضع الصلاة، ب/ ما يستعاذ منه في الصلاة، قال الوليد بن مسلم: ثني الأوزاعي: ثنا حسان بن عطية: ثنا محمد بن أبي عائشة، أنَّه سمع أبا هريرة ... ؛ فذكر حديثاً، قال الحافظ في «الفتح» – بعد عزوه الحديث لمسلم -: وصرح بالتحديث في جميع الإسناد، اهـ وقد سبق الجواب على نحو ذلك.
هذا مع أن بعض العلماء قد يكتفي بمجرد تصريح الوليد بالسماع من شيخه؛ دون النظر إلى تسويته، وكذا في بقية، وقد فعل ذلك الحافظ ابن حجر نفسه، كما في «نتائج الأفكار» (1/ 483) وفي «معرفة الخصال المكفِّرة للذنوب المقدمة والمؤخرة» (ص:64)، وكذا في «بذل الماعون» (ص:197) الفصل السادس، ذكر الدليل على أن شهيد الطاعون ملتحق بشهيد المعركة. وخالف ذلك فاشترط السلامة من التسوية مع تصريح بقية بتحديث شيخه له، انظر «اللآلئ المصنوعة» (2/ 170) للسُّيوطي.
وممن اعتمد الوليدَ إذا صرح عن شيخه: الحافظُ الذهبي؛ كما في «الميزان» (4/ 348) قال يرحمه الله: إذا قال الوليد: عن ابن جريج، أو عن الأوزاعي، فليس بمعتمد، لأنّه يدلس عن كذّابين، فإذا قال: «حدثنا»؛ فهو حجة، اهـ، وقد تعقبه، ابن الوزير في «تنقيح الأنظار»؛ فقال: قلت: ما تغني عنك «حدثنا الأوزاعي» إذا جاء بلفظ محتمل بعد الأوزاعي ... ، اهـ من «توضيح الأفكار» (1/ 375)، وممن يُمشيّ الحديث للوليد إذا صرح بسماعه من الأوزاعي: الإمام البيهقيُّ، انظر «السنن الكبرى» (4/ 354).
فهذه المواضع: إما أن تحمل على تساهل من هؤلاء الأئمة، وإما أن تحمل على أنَّهم ما كانوا يعلمون بتسوية الوليد وبقية، فلما علم بعضهم بذلك؛ توقف عن الحكم بصحة روايتهما؛ إلا بما يزيل الريبة، والله – تعالى – أعلم.(1/35)
وقد صرح شيخنا الألباني – حفظه الله – بأنّه لا بد من تسلسل الإسناد كلّه بالتصريح بالسماع، إذا كان فيه مدلس تدليس التسوية، انظر «الصحيحة» (6/ القسم الأول/ ص332) برقم (2656)، ويُفهم هذا – أيضاً – من كلامه – حفظه الله – في «الصحيحة» (4/ 615 - 616) برقم (1969)، وانظر تصريحه – أيضاً – في «الضعيفة» (3/ 409 - 410/ 1253)، (4/ 312/1830).
إلا أنَّ شيخنا – حفظه الله – لعله تراجع عن اشتراط التصريح في الطبقات العليا، التي فوق شيخ شيخ المدلس؛ لأنني وجهت له سؤالاً – لَمَّا متعني الله بالجلوس معه في عمان سنة 1416هـ - حول ذلك، فأجاب بما حاصله: أن التصريح بالسماع في الطبقتين – السابق ذكرهما – لازم، وما فوق ذلك على سبيل الاحتياط لا الإلزام، ارجع إلى الأشرطة المسجلة بيني وبين شيخنا – حفظه الله -.
والذي تطمئن إليه نفسي في نهاية الجواب: أنَّه يكتفي بتصريح المدلس عن شيخه، وبتصريح شيخه عن شيخه، ولا نتوقف في صحة السند من أجل العنعنة فيما فوق ذلك؛ إلا إذا علمنا عن رجل بعينه أنه يُسقط في الطبقات العليا، أو كان في السند أو المتن نكارة، فالعلماء – أحياناً – يُعلَّون بعلل غير مطردة، بل ومستبعدة، كما ذكر العلامة المعلِّمي – يرحمه الله – في مقدمة تعليقه على «الفوائد المجموعة» (ص:8 - 9)؛ فالإعلال – هنا – بعلة محتملة من باب أولى، والعلم عند الله – تعالى -.
س 203: من هم الرواة الموصوفون بتدليس التسوية؛ من أجل أن نحذر من تدليسهم وتسويتهم؟
ج 203: الجواب الدقيق الشامل على ذلك يحتاج إلى استقراء تام لكتب الجرح والتعديل، ثم بعد حَصْر أسماء من وُصف بذلك، تناقش أقوال أهل العلم والأدلة التي استدلُّوا بها على كون الراوي يدلس ويسوي – لا سيما عند اختلاف أهل العلم في ذلك -، ثم يُرجَّح الراجح – حَسْب قواعد هذا العلم الشريف -.(1/36)
ولما لم يتيسّر ليّ ذلك – الآن -؛ فحسبي أن أنظر فيما كتبه الدكتور مسفر بن عزم الله الدميني مؤلِّف كتاب: «التدليس في الحديث»، وكذا ما ذكره أخونا الفاضل الشيخ/ أبو عمير مجدي بن محمد بن عرفات – حفظه الله، وبارك في علمه – في رسالة له خاصة بتدليس التسوية، وقد أرسل ليّ – جزاه الله خيراً – نسخة مخطوطة منها.
فإن رأيت ما ذكراه أو أحدهما صواباً أثبته هنا، وإلا فلا، وقد أزيد عليهما بعض من لم يذكراه، ولا أذكر هنا من كان كذاباً أو مردود الرواية، وأما من كان ضعيف الحفظ؛ ورأيناه يسقط شيخ شيخه، فإن مجرد ذلك ليس كافياً في الحكم عليه بتدليس التسوية، لاحتمال أن ذلك وقع منه عن غفلة لا عن عمد، لكن لو رأيناه لا يسقط في هذه الطبقة إلا الضعفاء، وكثر ذلك منه، علمنا أنه فعّال لذلك عن عمد، والله أعلم. أرجع للجواب على السؤال، فأقول – وبالله التوفيق -:
الرواة الذين وُصفوا بتدليس التسوية هم:
- بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو يُحْمِد:
وصفه أبو حاتم الرازي بأنَّه كان فعَّالاً لذلك، وكذا وصفه بذلك الخطيب، انظر «الكفاية» (ص: 518) وسيأتي النص عنه في ترجمة سفيان الثوري. وقد ذكر أخونا – أبو عمير – جماعة وصفوه بذلك، ولعل عمدتهم ما ذكره أبو حاتم – كما في «العلل» للرازي (2/ 154 - 155) برقم (1957) -، وقد سبق ذكر النص بتمامه في السؤال الذي قبل هذا، فأرجع إليه – إن شئت -.
- جرير بن حازم
ذكر ابن المواق تدليس التسوية، فقال: ومثاله: حديث علي ... جرير سمع من أبي إسحاق، عن الحسن بن عمارة؛ فإسقاط الحسن بن عمارة لكون ضعيفاً تسوية، اهـ، ملخصاً من «النكت» للزركشي (2/ 106).
وفي النفس شيء من الجزم بكون جرير ممن يسوي، بمجرد هذا النص، لما فيه من تشويش واضطراب، والله أعلم.
- حجاج بن محمد الأعور المصيصي:(1/37)
جاء في «تهذيب التهذيب» (4/ 244): قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: رأيت سنيداً – هو ابن داود المصيصي، واسمه حسين – عند حجاج بن محمد، وهو يسمع منه كتاب «الجامع» لابن جريج: أُخبرتُ عن الزهري: أُخبرْتُ عن صفوان بن سليم، وغير ذلك، قال: فجعل سنيد يقول للحجاج: يا أبا محمد! قل: ابن جُريج عن الزهري، وابن جريج عن صفوان بن سليم، قال: فكان يقول له هكذا، قال: ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج، وذمَّه على ذلك، قال أبي: وبعض تلك الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج، أحاديث موضوعة، كان ابن جريح لا يبالي عمن أخذها، وحكى الخلال عن الأثرم نحو ذلك. اهـ.
فهذا النص يدل على أن سنيداً كان يلقن حجاجاً كيف يدلس تدليس التسوية، حيث أسقط شيخ شيخه، وأتى بالعنعنة بين ابن جريج ومن فوقه.
وعلى ذلك: فإذا وقفنا على روايةمن طريق سنيد، عن حجاج، عن ابن جريج؛ اشترطنا التصريح بالسماع أو نحوه بين ابن جريج وشيخه، مع أن ابن جريج مدلس بدون رواية حجاج عنه، إنما استفدنا من هذا النص إدخال حجاج فيمن دلس تدليس التسوية، وإن كان ذلك مقيداً برواية سنيد عنه، وبروايته عن ابن جريج.
وقد دافع العلامة المعلِّمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:435 - 438) عن حجاج، ودفع قول من ضعفه، وقال (ص: 438): وما وقع من سنيد ليس بتلقين الكذب، وإنما غايته أن يكون تلقينا لتدليس التسوية، ... وهذا تدليس قبيح، لكنه في قصة سنيد، وحجاج لا محذور فيه؛ لاشتهار ابن جريج بالتدليس ... ، قال: وبذلك يتبين أن حجاجاً لم يتلقن غفلة ولا خيانة، وإنّما أجاب سنيداً إلى ما التمسه، لعلمه أنَّه لا محذور فيه، قال: وكره أحمد ذلك لما تقدم – يعني: قوله: لأنّه رآه خلاف الكمال في الأمانة -، اهـ.
- سفيان بن سعيد الثوري:(1/38)
قال الخطيب في «الكفاية» (ص:518): وربما لم يُسقط المدلس اسم شيخه الذي حدثه، لكنه يسقط ممن بعده في الإسناد رجلاً يكون ضعيفاً في الرواية، أو صغير السن، ويُحسِّن الحديث بذلك، وكان سليمان الأعمش وسفيان الثوري وبقية بن الوليد يفعلون مثل هذا، اهـ، وذكر العلائي في «جامع التحصيل» (ص:103) أنَّ تدليس التسوية قد وقع فيه جماعة من الأئمة الكبار، لكن يسيراً؛ كالأعمش وسفيان الثوري، حكاه عنهما الخطيب، اهـ.
وسفيان – يرحمه الله – مقلٌّ في التدليس – أصلاً -، وقد صرح بذلك البخاري – يرحمه الله -، كما نقله عنه الترمذي في «العلل الكبير» أن سفيان ما أقل تدليسه، اهمن «شرح علل الترمذي» (2/ 751)، وقد ذكر هذا النص أيضاً ابن عبدالبر في «التمهيد» (1/ 35) في باب بيان التدليس ...
وقد ذكر الحافظ ابنُ حجر سفيان الثوري في المرتبة الثانية من «طبقات المدلسين»، وقد قال في مقدمة كتابه:
المرتبة الثانية: من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في «الصحيح»؛ لإمامته، وقلّة تدليسه في جانب ما روى؛ كالثورى، أو كان لا يدلس إلا عن ثقة، كابن عيينة، اهـ (ص:23)، وقد سبقه إلى ذلك العلائي، كما في «جامع التحصيل» (ص:113)، فهذا كله يدل على قلة تدليس الثوري في الإسناد فضلاً عن التسوية.
فالأصل أنّنا نحتج بحديث الثوري – وإن عنعن – إلا أن تظهر نكارة في الحديث؛ سنداً أو متناً، أو يُعِلًّ حديثه إمامٌ من الأئمة، والله أعلم.
- سليمان بن مهران الأعمش:
سبق أن الخطيب ذكره بذلك، كما في ترجمة سفيان، وقد جاء في «لسان الميزان» (1/ 12): قال عثمان بن سعير الدارمي: وسئل يحيى بن معين عن الرجل يُلْقي الرجلَ الضعيف بين ثقتين، ويصل الحديث ثقةً عن ثقة، ويقول: انقص من الإسناد، وأصل ثقة عن ثقة؟ قال: لا تفعل، لعل الحديث عن كذّاب ليس بشيء، فإذا أحسنه، إذا هو أفسده، ولكن يحدث بما روى.(1/39)
قال عثمان: كان الأعمش ربما فعل هذا، قال الحافظ: قلت: ظاهر هذا تدليس التسوية، وما علمت أحداً ذكر الأعمش بذلك، اهـ.
وكلام عثمان ويحيى قد أسنده الخطيب في «الكفاية» (ص:520) في باب: ذكر شيء من أخبار بعض المدلسين، وقد ذكر الخطيبُ الأعمشَ بتدليس التسوية، وكذا وصفه بذلك العلائي – وإن كان قد ذكر أن ذلك منه يسير، كما سبق -؛ فكل هذا يردُّ على إطلاق الحافظ، وقد ذكر الحافظ الأعمش في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين -، أي: الذين قلّ تدليسهم -، مع أنه قدْ عدّه في الطبقة الثالثة من المدلسين، عندما ذكرهم في «النكت على ابن الصلاح» (2/ 640).
وقد قال: الثالثة: مَنْ أكثروا من التدليس، وعُرِفوا به، وهم ... ؛ فذكرهم، وعدَّ الأعمشَ منهم، وقد عدَّه العلائي في الطبقة الثانية؛ التي احتمل الأئمة تدليسهم، انظر «جامع التحصيل» (ص:113).
وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 224): قلت: وهو يدلّس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يُدرى به، فمتى قال: «حدثنا»؛ فلا كلام، ومتى قال: (عن)؛ تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان؛ فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال، اهـ.
وأكثر ما سبق عن الأئمة في الأعمش إنما هو في تدليس الإسناد، وأما التسوية؛ فهو مقل، كما سبق عن العلائي في ترجمة سفيان.
والذي يظهر أنَّ الأعمش يُعامل معاملة سفيان في التسوية، أما في تدليسه عن شيوخه؛ فيتطرق إليه الاحتمال – كما قال الحافظ الذهبي، يرحمه الله تعالى -، والله أعلم.
- سُنيد بن داود المصيصي، واسمه حسين، أما «سُنيد»؛ فلقب:(1/40)
سبق في ترجمة حجاج بن محمد ذكر حكاية الإمام أحمد، وفيها: أنَّ سنيداً كان يلقن حجاجاً تدليس التسوية، وإني لأستبعد أن سنيداً يحمل حجاجاً على تدليس التسوية، ثم يتورع هو عن فعل ذلك! ولعله لذلك صرح الحافظ ابن رجب – يرحمه الله – بأنَّه ممن يفعل ذلك، فقد قال في «شرح علل الترمذي» (2/ 825) – بعد تعريفه للتسوية -: وكان الوليد بن مسلم وسُنيد بن داود وغيرهما يفعلون ذلك، اهـ.
- شعيب بن أيوب بن زريق أبوبكر الصريفيني:
قال ابن حبان في «الثقات» (8/ 309): يخطئ ويدلس، كل ما في حديثه من المناكير مُدّلَّسة، اهـ.
وقد ذكر أخونا أبو عمير – حفظه الله – أنَّه وقف على حديث برقم (59) عند الآجِّري في «أخلاق أهل القرآن» وعزا أطراف الحديث إلى ابن ماجة وابن عبدالبر في «جامعة» (1/ 187) وفهم أخونا أبو عمير – سلمه الله – أنَّ هذا يُعد تدليس تسوية، والأمر عندي محتمل، وشعيب يدلس تدليس الإسناد، ويخطئ أيضاً، فمحتمل أن إسقاط واسطة ضعيفة لأوهامه، أو لأنه تحمّل الحديث بدون هذه الواسطة.
نعم، قد يقال: لماذا أسقط الواسطة المتهمة؟ لا يكون ذلك إلا عن قصد، وهذا هو تدليس التسوية، والجواب: أنَّ الأمر محتمل، والواسطة ليست في طبقة شيخ شيخ المدلس، بل هي أعلى طبقةّ، وقد سبق أن تدليس التسوية – في الأصل – في طبقة شيخ شيخ المدلس، مما يجعل النفس تميل إلى عدم القول بأن شعيباً يدلس تدليس التسوية، والعلم عند الله – تعالى -.
- صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي:
جاء في مقدمة «المجروحين» (1/ 94) – الجنس السادس من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها؛ قال ابن حبان -: سمعت ابن جوصاء يقول: سمعت أبا زرعة الدمشقي يقول: كان صفوان بن صالح ومحمد بن المصفى يسويان الحديث، اهـ.
ونقل الحافظ هذا في «تهذيب التهذيب» (4/ 426 - 427)، وقال: يعني: يدلسان تدليس التسوية، اهـ.(1/41)
وأدخل الحافظُ صفوان بن صالح في طبقات المدلسين برقم (74) (ص:87)، وقال: ونُسب إلى التسوية، اهـ.
وفي ترجمة محمد بن مصفى برقم (103) (ص:109)، قال: قال أبو حاتم ابن حبان: سمعت ابن جوصاء يقول: سمعت أبا زرعة الدمشقي يقول: كان صفوان بن صالح ومحمد بن مصفى يسويان الحديث؛ كبقية بن الوليد، اهـ.
والذي وقفت عليه في مقدمة «المجروحين» ليس فيه قوله: كبقية بن الوليد – كما سبق – والله أعلم.
- عبدالرحمن بن زياد الإفريقي:
جاء في «شرح علل الترمذي» لابن رجب – يرحمه الله – (2/ 828)، - في معرض كلامه على من كان يُدلس، فيسقط الضعيف -:
ومنها: أحاديث يرويها عبدالرحمن بن زياد الإفريقي، عن عتبة بن حميد، عن عبادة بن نُسَيّ، عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قد قيل: إنها مأخوذة عن محمد بن سعيد المصلوب في الزندقة، المشهور بالكذب والوضع، وأنه أسقط اسمه من الإسناد بين عتبة وعبادة، ومن جملتها حديث: المنديل بعد الوضوء ... ، اهـ.
وقد كان في النفس شيء من قول ابن رجب: «قد قيل»؛ لأني لم أدرِ من هذا القائل؟ وما هي منزلته في هذا الفن؟ لا سيما وأنَّ الحافظ لما ذكر الإفريقي في طبقات المدلسين، لم يصفه بالتسوية.
إلا أنني لما وقفت على قول ابن حبان – كان يروي الموضوعات عن الثقات، ويأتي عن الأثبات ما ليس من أحاديثهم، وكان يدلس على محمد بن سعيد بن أبي قيس المصلوب، اهـ من «المجروحين» (2/ 50) -؛ بدا ليّ شيء آخر:
فقوله: «وكان يدلس ... » إلخ، محتمل: هل هو تدليس إسناد أو تسوية، فنظرت، فلم أقف على تصريح أحد بأن المصلوب شيخ للإفريقي، مع قرب الطبقة، فالإفريقي من السابعة – كما في «التقريب» -، والمصلوب من السادسة.
وقد وقفت على التصريح بأن المصلوب ممن روى عن عبادة بن نُسَيِّ.(1/42)
فإن قيل: إنَّ الذهبي عَدَّ ذلك إسرافاً من ابن حبان – كما في «الميزان» (2/ 562) -؛ قلت: كلام الذهبي محمول على قول ابن حبان: كان يروي الموضوعات عن الثقات؛ لأن الرجل وإن كان ضعيفاً، إلا أنه لا يصل إلى هذا الحد، لا سيما لو أتممنا كلام ابن حبان. أما وصف الإفريقي بالتدليس، فلا يظهر أن الذهبي يعيب به ابن حبان، لا سيما وقد وصفه الدارقطني أيضاً بالتدليس، كما في طبقات المدلسين، برقم (143) ص (143).
ثم وقفت في «تاريخ دمشق» (53/ 79) على حكاية عن أحمد تشير إلى أن الإفريقي كان يسقط المصلوب، فقد ساق ابن عساكر سنده إلى علي بْنِ سعيد النسوي، قال: سئل أحمد بْنُ حنبل عن الوضوء مرة مرة، فقال: لا بأس به إذا أسبغ، فقلت له: حديث معاذ في تعيين الوضوء مرة مرة، فلم يعرفه، قال: من رواه؟ فقلت: ابن لهيعة عن عبدالرحمن بن زياد عن (عتبة) بن حميد الضبي، فجعل يتعجب، ويقول: أخاف أن يكون هذا مثل محمد بن سعيد الذي روى قصة المنديل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... اهـ.
فهذه الحكاية تدل على أنه كان من المشهور عند أحمد أن هذه الأحاديث من طريق المصلوب، لا سيما والسند واحد، ولعل أحمد لم يصبر حتى يسمع من النسوي بقية الإسناد، - والذي كان من المحتمل أن يذكر فيه عبادةَ بن نسي – وتعجل فأظهر العجب من الإفريقي، وقال: أخاف أن يكون هذا مثل محمد بن سعيد ... إلخ أي أخاف أن يكون الإفريقي فعل في حديث معاذ في تعيين الوضوء مرة مرة، كما فعل في حديث المنديل، فهذا كله يقوي ما ذهب إليه ابن رجب يرحمه الله، ولا يضر ذلك أن ابن رجب صدّر الكلام بصيغة التمريض، وإن كنت بالاستقراء قد وقفت على كثير من المواضع، لا يتحرى فيها كثير من الأئمة هذا الاصطلاح المفرِّق بين صيغة الجزم وصيغة التمريض.(1/43)
وعلى ذلك فالإفريقي ممن يُحْتَرَز من تسويته، لا سيما في روايته عن عتبة عن عبادة، ولا يُستبعد أن يفعل ذلك في غير عتبة عن عبادة، فالاحتمال يتطرق إلى كل رواياته، والله أعلم.
- مالك بن أنس الإمام:
ذكر الحافظ في «النكت» (2/ 618 - 620) عدة أمثلة تدل على أن مالكاً يرحمه الله كان يسقط بعض الرواة من الأسانيد، وقد يأتي عنه بعض تلامذته بالرواية تامة، دون إسقاط، وسمى الحافظ هذا تسوية، لكن بدون تدليس، حتى قال: فلو كانت التسوية تدليساً، لَعُدَّ مالك في المدلسين، وقد أنكروا على من عدّه فيهم.
قال ابن القطان: ولقد ظُن بمالك – على بُعْدِه عنه – عمله، وقال الدارقطني: إن مالكاً ممن عمل به، وليس عيباً عندهم ... ، اهـ، وانظر «طبقات المدلسين»، (ص:43) برقم (22) و «التمهيد» (2/ 26 وما بعدها)، لابن عبدالبر.
ويحمل كلام الدارقطني عندما نَسب مالكاً إلى التدليس أن مالكاً عمل عَمَل المدلسين، ولم يقصد الإيهام، كما هو الحال في المدلسين، والله أعلم.
- مبارك بن فضالة أبو فضالة البصري:
قال الحافظ في «التقريب»: صدوق يدلس ويسوّي، اهـ، مع أنَّه لم يصفه بالتسوية في «طبقات المدلسين»، انظر رقم (93) (ص:104).
ولم أرَ أحداً صرح بأنه يسوّي غير الحافظ – يرحمه الله -، ومن تأمل ترجمة المبارك في «تهذيب التهذيب» (10/ 29 - 31) لا يجد فيها إلا أنَّ الرجل يخطئ ويدلس، وقد صرح غير واحد بأنه إذا قال: حدثنا؛ فهو ثبت، أو يعتد به، وهذا دليل على أنَّه عيب عليه تدليس الإسناد، لا تدليس التسوية.(1/44)
لكن قد يستدل البعض بقول أبي داود: كان شديد التدليس فيظن أنَّ هذا يدل على أن المبارك يسوي؛ لأنَّ تدليس التسوية من أقبح أنواع التدليس، إن لم يكن أقبحها، وعندي أنَّ هذا القول من أبي داود لا يُراد به التسوية، بل يُرد به أن المبارك مكثر في التدليس، كما قال أبو داود – نفسُه -: إذا قال: «حدثنا»؛ فهو ثبت، وقد قال أبو زرعة: يدلس كثيراً، فإذا قال: «حدثنا»؛ فهو ثقة، اهـ. من «تهذيب التهذيب» (10/ 30).
وقد يستدل البعض بقول أحمد: كان مبارك بن فضالة يرفع حديثاً كثيراً، ويقول في غير حديث عن الحسن، قال: ثنا عمران، وقال: حدثنا ابن معقل، وأصحاب الحسن لا يقولون ذلك، يعني: أنَّه يصرح بسماع الحسن من هؤلاء، وأصحاب الحسن يذكرونه عندهم بالعنعنة، اهـ. من «تهذيب التهذيب» (10/ 29).
وهذا القول من أحمد لا يدل على أن مبارك بن فضالة كان يدلس أو يسوي، فالتسوية أن يسقط الواسطة، ويأتي بصيغة محتملة، وهذا قد أتى بصيغة صريحة، فإن كان ذلك عن عمد؛ فهو الكذب – غالباً -، وإن كان ذلك عن وهم؛ فهو الخطأ، وهذا هو الظاهر في المبارك، فإنَّه كان يخطئ، فيجوِّد الإسناد، أي: يرويه سالماًمن العلة؛ عن وهم، لا عن عمد، ومن أجل ذلك مشَّى العلماء روايته، ولم يتهموه، فالذي يظهر أنَّ المبارك مدلس، فإذا صرح عن شيخه بالسماع أو نحوه، أجزأه ذلك؛ إن سلم من الضعف في حفظه، والله أعلم.
- محمد بن عجلان المدني:
جاء في «الميزان» (3/ 645) ترجمة محمد بن عجلان:(1/45)
وقال البخاري: قال يحيى القطان: لا أعلم إلا أني سمعت ابن عجلان يقول: كان سعيد المقبري يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، وعن رجل، عن أبي هريرة، فاختلط، فجعلهما عن أبي هريرة، قال الذهبي: كذا في نُسختِي لـ «الضعفاء» – للبخاري، وعندي في مكان آخر -، أن ابن عجلان كان يحدث عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وعن رجل، عن أبي هريرة، فاختلط عليه، فجعلهما عن أبي هريرة ... ، اهـ، وذكر أن الضعف من ابن عجلان لا من سعيد، وبنحو ذلك في «تهذيب التهذيب» (9/ 342).
وفي «شرح الإلمام» (2/ 16 - 17)، قال ابن دقيق العيد: وأما حديث روايته – أي: رواية محمد بن عجلان – عن سعيد المقبري واختلاطها وفعله فيها؛ فهذا قد عُدَّ في النوع المسمى بالتسوية، وهو قريب من التدليس في المعنى ...
ثم ذكر ما سبق من اختلاط الأحاديث على ابن عجلان، ثم قال: وكان ابن القطان لما ذكر أحاديث ابن عجلان عن المقبري، ذكر أنه قد اعترف على نفسه بأنه سواها – يعني: أنَّ ابن عجلان اعترف -، اهـ.
واعتبر ابن حبان أن هذه القصة لا توهن ابن عجلان؛ لأنَّ الصحيفة كلها في نفسها صحيحة، كما في «الثقات» (7/ 387)، وانظره في «تهذيب التهذيب» (9/ 342).
لكن لا يخفى عليك: أنَّه من جملة هذه الأحاديث رواية رجل لا نعرفه عن أبي هريرة، وهذا يقدح في دعوى ابن حبان أن الصحيفة كلَّها صحيحة.
فالذي يظهر أنَّ التسوية – إن سلمنا بذلك – فيما إذا رواه ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة، أما إذا صرح سعيد بالسماع من أبي هريرة، أو بذكر الواسطة؛ فلا إشكال، وكذلك إذا روى ابن عجلان، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذلك قبل اختلاط الأحاديث عليه – كما صرح بذلك ابن حبان في «الثقات» (7/ 387) -، وانظره في «تهذيب التهذيب» (9/ 342).
والذي يظهر أن هذامن ابن عجلان لا يسمى تدليساً، لأنَّه لم يقصدِ الإيهام، إنّما حمله على ذلك الاختلاطُ، والله أعلم.
- محمد بن عيسى بن القاسم بن سُمَيْع الأُموي:(1/46)
جاء في «تهذيب التهذيب» (9/ 391): وقال صالح بن محمد: ثنا هشام بن عمار: ثنا محمد بن عيسى بن القاسم، عن أبن أبي ذئب، عن الزهري، حديث مقتل عثمان، قال – أي: هشام بن عمار -: فجهدت به كلّ الجهد أن يقول: «حدثنا ابن أبي ذئب» فأبى، قال صالح: قال ليّ محمود ابن بنت محمد بن عيسى: هو في كتاب جدي: عن إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله عن ابن أبي ذئب، قال صالح: وإسماعيل بن يحيى هذا يضع الحديث، قال (صالح): فحدثتُ بهذه القصة محمد بن يحيى الذهلي، فقال: الله المستعان، اهـ.
قال الحاكم (أبو أحمد): مستقيم الحديث، إلا أنَّه روى عن ابن أبي ذئب حديثاً منكراً، وهو حديث مقتل عثمان، أنَّه لم يسمعه من ابن أبي ذئب، فأسقطه، وإسماعيلُ ذاهب الحديث ... قال الحافظ: وجزم ابن حبان بأنَّه دلس حديث ابن أبي ذئب، وفيه نظر، والظاهر أنَّه دلس عليه تدلس التسوية، كما تقدم في خبر صالح جزرة، اهـ (10/ 392).
فأنت ترى أنَّ أبا أحمد الحاكم صرح بأنَّ الذي أسقط إسماعيل هو محمد بن عيسى، وكذا جزم ابن حبان، والذهبي في «الميزان» (3/ 678)، وغير واحد.
وقد حاول بعض طلبة العلم أن يوجَّه عبارة الحافظ فقال: قول الحافظ: والظاهر أ، ه دُلِّس علين تدليس التسوية؛ أي: أنَّ هشام بن عمار هو الذي دلس عليه تدليس التسوية، وهذا كلام يأباه تصريح العلماء الذي حمّلوا محمداً عهدة النكارة في هذا الحديث.
وكذلك فإنَّ ظاهر حكاية جزرة، يدل على أنَّ الذي امتنع من قول: «حدثنا ابن أبي ذئب» هو محمد بن عيسى – تلميذ ابن أبي ذئب في الإسناد -، لا هشام بن عمار، وانظر «تاريخ الإسلام» وفيات (201 - 210) ص (370).
أضف إلى ذلك أنني لم أقف على أحد رمى هشام بن عمار بأي تدليس؛ فضلاً عن التسوية، حتى الحافظ نفسه، لم يرم هشاماً بتدليس.(1/47)
وبناءً على هذا فمحمد بن عيسى لا يليق حشره فيمن يسوي، لكنه مدلس تدليس السماع، ولو كان يسوّي؛ لارتقى إلى الطبقة الثانية، أي بين ابن أبي ذئب والزهري، لكن يُشكل على هذا تصريح الحافظ بأنه دلس تدليس التسوية، ولا أدري ما وجهه؟ والله أعلم.
- محمد بن مُصَفَّى بن بُهلول القرشي:
سبق في ترجمة صفوان بن صالح، أنه يدلس تدليس التسوية، وانظر «تهذيب التهذيب» (9/ 461).
- مروان بن معاوية الفزاري:
كان مشهوراً بتدليس الشيوخ، قال ابن معين: كان مروان يحدث عن أبي بكر بن عياش، ولا يُسمّيه، يقول: حدثنا أبوبكر عن أبي صالح، ويَدَعُ الكلبي، يوهمهم أنه أبوبكر آخر، اهـ من «تاريخ الدوري» (2/ 556/2241).
وقد استدل الدميني في كتابه: «التدليس في الحديث» (ص:350) بكلام ابن معين – هذا – على أن مروان يدلس تدليس التسوية أيضاً.
وما قاله ابن معين غايته أنَّه تسوية بدون تدليس؛ لأنَّ أبا بكر بن عياش لم يُذكر في تلامذة أبي صالح باذام ولا السمان، ولا ذُكر أبو صالح باذام أو السمان من شيوخه – فيما علمتُ -، وأبوبكر من السابعة، كما في «التقريب»، وأبو صالح باذام والسمان كلاهما من الثالثة، فالمسافة بينه وبين أحدهما واسعة، وهذا يُسَمى تسوية بدون تدليس على المذهب الراجح، وإلا فبعضهم يطلق التدليس على الراوي الذي يحدث عمن لم يدركه، والأمر في ذلك سهل، فلا بد من التصريح بالسماع، سواء اعتبرناه تدليس تسوية، أو تسويةً بلا تدليس.
إلا أنَّ في ذهني وجهاً آخر قد يحتمله كلام ابن معين، وهو:
أنَّ قوله: «ويدع الكلبي» يحتمل أن مروان أسقط ذكر الكلبي – وهو محمد بن السائب أحد المتروكين – ما بين أبي بكر وأبي صالح السمان أو باذام، كما قال الدميني.(1/48)
وقد يحتمل أن الكلبي له كنية أُخرى، وأنَّه يكنى بأبي صالح، والمشهور أنه أبو النضر، فيحتمل أنَّ مروان لم ينسب أبا صالح بالكلبي، كي لا يُعرف، وليوهم السامع أنَّ أبا بكر هو أبوبكر آخر؛ لأنَّ أبا بكر بن عياش لا يروي عن أبي صالح السمان أو باذام.
إلا أنني بحثت في ترجمة الكلبي، فلم أقف على من كنّاه بأبي صالح؛ فإنْ ظفر أحد بذلك، ضَعُف القول بأنَّ مروان يدلس تدليس التسوية، لا سيما والعلماء لم يصفوه بذلك، وإلا فالأصل من خلال نص ابن معين أنه يُسوِّي فقط، والتسوية نوع من الإرسال، لكن لما كان خاصاً بإسقاط ضعيف أو صغير؛ سُمِّي تسوية، ومن كان كذلك؛ فلا يُشترط في حقه التصريح بالسماع بين شيخه وشيخ شيخه، لأن التسوية وقعت بين فاعلها وشيخه، لا فوق ذلك، والله أعلم.
- مصعب بن سعيد المصيصي:
ويظهرمن ترجمته في «لسان الميزان» (6/ 43 - 44) أنَّه واهٍ، فقد قال ابن عدي: والضعف على حديثه بيّن، اهـ وهي عبارة يطلقها غالباً في المتروكين.
وذكر له الذهبي حديثاً، وقال: ما هذه إلا مناكير وبلايا، اهـ والبلايا لا تُذكر إلا في حديث المتروكين.
وقال صالح جزرة: شيخ ضرير لا يدري ما يقول، اهـ وهذا يدل على شدة ضعفه.
ولم يُلَيِّن فيه القولَ إلا ابن حبان.
وقد ذكر الدميني في كتابه (ص:443) حديثاً؛ أسقط من إسناده مصعبٌ رجلاً ليس في طبقة شيخ شيخه، بل هو أعلى من ذلك، كما أنه صحف شيخ شيخه، واعتبره مدلساً تدليس التسوية لذلك.
وعندي: أنَّ هذا قد يكون لتسويته، وقد يكون لوهائه وغفلته؛ فإنَّه لا يدري ما يقول، والرجل – على كل حال – يظهر أنَّه شديد الضعف، والله أعلم.
- هُشيم بن بشير بن القاسم السلمي أبو معاوية:(1/49)
قال الحافظ في «النكت» (2/ 621): ومما يدل على أنَّ هذا التعريف – أي: تعريف التسوية – لا تقييد فيه بالضعيف، أنهم ذكروا في أمثلة التسوية: ما رواه هشيم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن عبدالله بن الحنفية، عن أبيه، عن علي – رضي الله عنه – في تحريم لحوم الحُمُر.
قال: قالوا: ويحيى بن سعيد لم يسمعه من الزهري، إنما أخذه عن مالك عن الزهري، هكذا حدث به عبدالوهاب الثقفي، وحماد بن زيد، وغير واحد، عن يحيى بن سعيد، عن مالك، فأسقط هشيم ذكر مالك منه، وجعله عن يحيى بن سعيد عن الزهري، ويحيى؛ فقد سمع من الزهري، فلا إنكار في روايته عنه، إلا أنَّ هشيماً قد سوّى هذا الإسناد، وقد جزم بذلك ابن عبدالبر وغيره ... ، اهـ.
وذكر أخونا أبو عمير كلاماً لابن معين يدل على أنَّ هشيماً أسقط شيخ شيخه في حديث: «مطل الغنى ظلم»، وانظر كلام ابن معين في «الكامل»، لابن عدي (7/ 2595) ترجمة هشيم بن بشير السلمي، وهذا يؤكد ما قاله الحافظ في هشيم، وأنَّه ممن يدلس تدليس التسوية، والله أعلم.
- الوليد بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي:
قال صالح جزرة: سمعت الهيثم بن خارجة يقول: قلت للوليد بن مسلم: قد أفسدتَ حديث الأوزاعي، قال: وكيف؟ قلت: تروي عنه عن نافع، وعنه عن الزهري، وعنه عن يحيى، وغيرك يُدخل بين الأوزاعي وبين نافع: عبدَالله بنَ عامر الأسلمي، وبينه وبين الزهري: قرّة، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء، قلت: فإذا روى الأوزاعي عن هؤلاء – وهم ضعفاء – مناكير، فأسقطتهم أنت، وصيَّرتها من رواية الأوزاعي عن الأثبات، ضعُف الأوزاعي؛ فلم يلتفت إلى قولي، اهـ، انظر «الميزان» (4/ 347) و «جامع التحصيل» (ص: 103 - 104).(1/50)
وبنحو ذلك قال الدارقطني، انظر «النبلاء» (9/ 216 - 217) فقد قال: الوليد يروي عن الأوزاعي أحاديث، هي عند الأوزاعي عن ضعفاء، عن شيوخ أدركهم الأوزاعي، كنافع وعطاء، والزهري، فيسقط أسماء الضعفاء؛ مثل: عبدالله بن عامر الأسلمي، وإسماعيل بن مسلم، اهـ.
وقد وصفه الحافظ ابن حجر بأنَّه كثير التدليس والتسوية – كما في «التقريب» -.
وقد ذكر أخونا أبو عمير – سلمه الله – جماعة وصفوه بذلك؛ منهم: ابن الجوزي في «الموضوعات»، والذهبي في «منظومته»، والعلائي، والعراقي، وابن رجب والسخاوي، وابن الوزير، في آخرين.
- يونس بن أبي إسحاق السبيعي:
قال الحافظ في «طبقات المدلسين»، (ص:79) برقم (66): يقال: إنّه روى عن الشعبي حديثاً، وهو حديثه عن الحارث عن علي – رضي الله عنه -، حديث: «أبوبكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة»؛ فأسقط الحارث، اهـ.
وفي «تهذيب الكمال» (32/ 490 - 491): وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: كان يونس بن أبي إسحاق، يقول: حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اتقوا النار، ولو بشق تمرة»، وحدثنا سفيان، وشعبة، عن أبي إسحاق، عن عبدالله بن معقل، عن عدي بن حاتم – يعني: بهذا الحديث – اهـ.
وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن علي بن المديني: سمعت يحيى وذُكِر يونس بن أبي إسحاق، فقال: كانت فيه غفلة، وكان فيه – أو منه – سجيّة، كان يقول: حدثني أبي، قال: سمعت عدي بن حاتم: «اتقوا النار، ولو بشق تمرة»، قال يحيى: وهذا حدثنا سفيان وشعبة، عن أبي إسحاق، عن ابن معقل، عن عدي بن حاتم، قال يحيى: وكانت فيه غفلة، اهـ، وانظره مختصراً في «تهذيب التهذيب» (11/ 433)، فهذا يدل على أن إسقاطه الحارث الذي أشار إليه الحافظ: أن ذلك منه عن غفلة، لا عن تدليس وقصد للإيهام.(1/51)
واعلم أنَّ الراوي إذا كان صاحب أوهام وغفلة؛ فإنَّه يدَّعي سماع ما لم يسمع، وهذا شأن الكذابين، إلا أنَّ الأئمة لم يحطوا عليه؛ لأنهم يعلمون أنَّ ذلك صدر منه على سبيل الوهم لا العمد، فإذا كان صاحب الغفلة يعمل عمل الكذابين، فما ظنك بعمل المدلسين؟! فمن كان صاحب غفلة، وأسقط الضعفاء من السند؛ فليس هذا صريحاً في تسويته، والله أعلم.
هذا ما يسّر الله به من الكلام عمن وُصف بتدليس التسوية، ولعل مَنِ استقرأ كتب الجرح والتعديل والعلل والتخريج؛ يظفر بآخرين، والله – تعالى – أعلم.
س 204: أحياناً نقف على أسانيد ظاهرها الصحة، ثم نتوسع في البحث، فلا نقف على علة للحديث، إلاَّ أننا قد نقف على قول لأبي حاتم الرازي – مثلاً – كأن يقول: حديث منكر، فهل نحكم على الحديث بالنكارة، لقول أبي حاتم هذا، أم نحكم على الحديث بالصحة، لظاهر إسناده؟
ج 204: مما لا شك فيه أنَّ الأئمة المتقدمين لهم فهم ثاقب، ومعرفة تامة بالحديث النبوي، وقد قال الحافظ في «النكت» (2/ 711) – أثناء كلامه على معرفة علل الحديث -: وهذا الفن أغمض أنواع الحديث، وأدقُها مسلكاً، ولا يقوم به إلامن منحه الله – تعالى – فهماً غايصاً، واطِّلاعاً حاوياً، وإدراكاً لمراتب الرواة، ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذّاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لِما جعل الله فيهم من معرفة ذلك؛ والاطلاع على غوامضه، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك.
قال: وقد تقصر عبارة المعلِّل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأُخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، قال: فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم – بتعليله -؛ فالأولى اتباعه في ذلك، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه.
قال: وهذا الشافعي – مع إمامته – يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه، فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث.(1/52)
قال الحافظ: وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلِّل، وحيث يصرح بإثبات العلة، فأما إن وجد غيره صححه، فينبغي – حينئذٍ – توجه النظر إلى الترجيح بين كلامهما، وكذلك إذا أشار المعلّل إلى العلة إشارة، ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح، والله أعلم، اهـ.
وذكر الحافظ ما يدل على قوة نظر أئمة النقد، ثم قال: وبهذا التقرير يتبيّن عِظَمُ موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه ... ، اهـ (2/ 726).
ومن نظر في أحكام الأئمة المتقدمين على الأحاديث، علم صحة ما قال الحافظ ابن حجر – يرحمه الله تعالى -، وها أنذا أسوق بعض الأمثلة من أنواع العلل التي تدل على ذلك؛ ليعرف من وقف على ذلك مكانتهم في هذا الفن وأن لديهم من الآلات التي تؤهلهم لذلك ما ليس عند غيرهم، كل هذا لتطمئن نفسه إن أخذ بقولهم؛ فمن ذلك:
1 – ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 32/60): سألت أبي عن حديث رواه ابن عيينة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن حسان بن بلال، عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تخليل اللحية، قال أبي: لم يحدث بهذا أحد سوى ابن عيينة، عن ابن أبي عروبة، قلت: صحيح؟ قال: لو كان صحيحاً لكان في مصنفات ابن أبي عروبة، ولم يذكر ابن عيينة في هذا الحديث، وهذا أيضاً مما يوهَّنه، اهـ.
والذي يظهر أن في الكلام سقطاً، وصوابه: «ولم يذكر ابن عيينة الخبر في هذا الحديث»، أي: لم يقل: «أخبرنا»، وابن عيينة قد يدلس، والله أعلم.
وإعلال الأئمة بعض الأحاديث عن بعض الرواة؛ لعدم وجودها في مصنفات هؤلاء الرواة؛ أمر مشهور، كما في «العلل» أيضاً (1/ 170/487)، (1/ 408/1224)، (1/ 420/1264)، والإعلال بذلك يتم إذا نظر الإمام في جميع كتب الراوي، أما مجرد النظر في بعضها؛ فلا يكفي.(1/53)
ويدل على ذلك ما جاء في «العلل» (1/ 136 - 137/ 378): سمعت أبي يقول: سألت يحيى بن معين، وقلت له: حدثنا أحمد بن حنبل بحديث إسحاق الأزرق عن شريك، عن بيان، عن قيس، عن المغيرة بن شعبة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «أبردوا بالظهر» وذكرته للحسن بن شاذان الواسطي، فحدثنا به، وحدثنا أيضاً، عن إسحاق، عن شريك، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثله، قال يحيى: ليس له أصل، إنّما نظرت في كتاب إسحاق، فليس فيه هذا، قلت لأبي: فما قولك في حديث عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي أنكره يحيى؟ قال: هو عندي صحيح، وحدثنا به أحمد بن حنبل – يرحمه الله – بالحديثين – جميعاً – عن إسحاق الأزرق، قلت لأبي: فما بال يحيى نظر في كتاب إسحاق فلم يجده؟ قال: كيف؟! نظر في كتابه كله؟! إنما نظر في بعض، وربما كان في موضع آخر، اهـ.
وقد يستشكل البعضُ هذا النوع من الإعلال، ويقول: الحديث وإن لم يكن في كتاب الراوي؛ فلعله قد حدَّث به تلميذَه من حفظه، وليس كل حديث الراوي يكون في كتبه!.
فالجواب: أن الأئمة وقفوا على ما لم نقف عليه، وهم أهل الشأن الذين عليهم المعوَّل في ذلك، أضف إلى ذلك أن الراوي إذا صنف كتاباً في الصلاة – مثلاً -، ثم بوَّب باباً، واحتج لهذا الباب بآثار موقوفة على صحابي أو تابعي، ثم جاء أحد الرواة وروى عن هذا المصنَّف حديثًا مرفوعًا؛ ظاهر الدلالة على ما بوَّب له المصنف؛ ففي هذه الحالة يتجه أن يُقال: لو كان هذا الحديث عند فلان لأدخله في كتابه، أو بادر بالاحتجاج به، ولم يحتجْ إلى ما ذكر من آثار.(1/54)
وقد يُقال: لعل العلماء قد اشتهر عندهم أن فلاناً قد جمع كل حديثه في كتابه، وما ليس في كتابه؛ فليس من حديثه، كلّ هذه الوجوه تجعلنا نسلِّم بكلام الإمام منهم؛ لأنَّ مثل هذا الاعتراض السابق؛ لا يخفى على الأئمة، وإذا كان لا يخفى على الطالب؛ أنَّ حديث بعض الرواة: منه ما هو في صدره، ومنه ما هو في كتابه، فكيف يخفى ذلك على جهابذة هذا الفن، وفرسان هذا العلم؟!.
ولما رأيناهم لا يرد بعضهم على بعض بهذا الاعتراض، تعيّن الوقوف عند قولهم، والله أعلم.
2 – إعلالهم بعض الأحاديث، باحتمال دخول حديث في حديث على بعض الرواة، أو أن الراوي نقل إسناداً لحديث، ثم انتقل بصره إلى متن الحديث الذي يليه، وكل هذا فرع عن وقوف الأئمة على أصول الرواة وكتبهم، ومن أين للمتأخر مثل ذلك؟!
فمن ذلك:
- ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 77/207): سألت أبي، عن حديث رواه هشام بن إسماعيل، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن عبدالله بن العلاء بن (زبْر)، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنَّه صلى فترك آية، فلما انصرف؛ قال: «أفيكم أُبيّ؟» – وذكر الحديث -.
- قال أبي: هذا وهم، دخل لهشام بن إسماعيل حديث في حديث، نظرت في بعض أصناف محمد بن شعيب، فوجدت هذا الحديث رواه محمد بن شعيب، عن محمد بن يزيد البصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: صلّى فترك آية، هكذا مرسل، ورأيت بجنبه حديث عبدالله بن العلاء، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه سئل عن صلاة الليل، فقال: «مثنى ثمنى، فإذا خشيت الصبح ... »، فعلمت أنه سقط على هشام بن إسماعيل متن حديث عبدالله بن العلاء، وبقي إسناده، وسقط إسناد حديث محمد بن يزيد البصري، فصار متن حديث محمد بن يزيد البصري بإسناد حديث عبدالله بن العلاء بن (زَبْر)، وهذا حديث مشهور يرويه الناس عن هشام بن عروة.(1/55)
فلما قدمْتُ السفرة الثانية، رأيت هشام بن عمار يحدث به عن محمد بن شعيب، فظننت أن بعض البغداديين أدخلوه عليه، فقلت له: يا أبا الوليد! ليس هذا من حديثك، فقال: أنت كتبت حديثي؟ فقلت: أما حديث محمد بن شعيب؛ فإنّي قدمت عليك سنة بضعة عشر، فسألتني أن أخرج لك مسند محمد بن شعيب، فأخرجتَ إليّ حديث محمد بن شعيب، فكتبتُ لك مسنده، فقال: نعم، هي عندي بخطك، قد أعلمت الناس أنَّ هذا بخط أبي حاتم، فسكت. اهـ، ولا يسلم هذا النص من تصحيف، والله أعلم، وبنحو ذلك انظر (2/ 226/2165).
فتأمل كيف عرف أبو حاتم هذه العلة، وهل يستطيع باحث اليوم – مهما كان واسع الاطلاع – أن يعرف مثل هذه العلة، ولم يقف على أصول الرواة؟
3 – وقد يشعر أحدهم بنكارة الحديث، وليس معه دليل على النكارة، فيبقى حريصاً على معرفة ذلك، وقد يقف على دليل هذه النكارة، وقد لا يتيسر له ذلك، لكن الإمام منهم؛ لطول اشتغاله بالحديث النبوي، وكثرة ملازمته ومذاكرته للأئمة، أصبح قادراً على معرفة كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كلام غيره، فمن ذلك:
- ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 89/239): سألت أبي عن حديث رواه أبو غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من صلى الصلوات الخمسَ، فأتمَّ ركوعها، كان له عند الله عهدٌ أن لا يعذِّبه»، قال أبي: سمعت هذا الحديث عن عبادة منذ حين، وكنتُ أُنكره، ولم أفهم عورته، حتى رأيته الآن: أخبرنا أبو محمد بن أبي حاتم قال: حدثنا أبو صالح، عن الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن عبادة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول ... فعلمت أن الصحيح هذا، وأن محمد بن مطرف لم يضبط هذا الحديث، وكان محمد بن مطرف ثقة، اهـ.(1/56)
- وفي (1/ 164/466): قال أبي: ذاكرت أبا زرعة بحديث رواه عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن المغيرة بن شعبة أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا سلّم من الصلاة؛ قال: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» قال: فقلت: قد رابني أمر هذا الحديث؛ لأنَّ الناس يروونه عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن المغيرة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسح على الخفين، فتابعني – أي: أبو زرعة – على ما رابني، ورابه نحو ذلك، حتى ذاكرني بعض أصحابنا عن بعض المدنيّين، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن المغيرة – كما رواه عبدة – غير أن ذلك لم يستقر بعد عندي، اهـ.
- وفي (2/ 129/1879) ذكر حديثاً، ثم قال ابن أبي الثلج: كنا نذكر هذا الحديث ليحيى بن معين سنتين – أو ثلاثة -، فيقول: هو باطل، ولا يدفعه بشيء، حتى قدم علينا زكريا بن عدي، فحدثنا بهذا الحديث عن عبيدالله بن عمرو عن إسحاق بن أبي فروة، فأتيناه، فأخبَرَناه، فقال: هذا بابن أبي فروة أشبه منه بعبيدالله بن عمرو، اهـ.
فتأمل كيف أنَّ يحيى كان يحكم عليه بالبطلان سنتين – أو ثلاثاً -، ولا يذكر دليلاعلى قوله، ثم ظهر الدليل مؤيِّداً ما قاله ابن معين، مما يدلك على صحة نقد هؤلاء الأئمة.
- وفي (2/ 270/2307): سألت أبي عن حديث رواه ابن أبي عمر العدني، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المملوكين -: « ... أطعموهم مما تأكلون ... »؛ الحديث، قال أبي: لم يكن هذا الحديث عند الحميديُ، ولا عند علي بن المدينيِّ، ولم نجدْه عن أحد من أصحاب ابن عُيينة، قال أبي: ولم أزل أفتش عن هذا الحديث – وهمني جداً -، حتى رأيته في موضع، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن إبي خداش عن ابن عباس – موقوفاً -، فقلت: إنَّ رفعه ليس له معنى، والصحيح موقوف.(1/57)
وقد كان رواه ابن جريح، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: «نعم المقبرة؛ هذه» يعني: مقبرة مكة، قال أبي: فلم يُعرف بذا الإسناد إلا هذا وحده، حتى كتبت عن ابن أبي عمر ذلك الحديث، اهـ.
- وفي (2/ 312/2451) ذكر حديثاً، ثم قال أبو حاتم: هذا الحديث من فضل الأعرج، وفاتني من أحمد، وأنكرته في نفسي، وكان يقع في قلبي أنَّه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول – أي: ليس أبا وهب الجشمي الصحابي؛ المذكور في الحديث -، وكان أصحابنا يستغربون – أي: يعدونه غريباً ويستحسنونه -، فلا يمكنني أن أقول شيئاً، لما رواه أحمد.
ثم قدمت حمص، فإذا قد حدثنا ابن المصفى عن أبي المغيرة، قال: حدثني محمد بن مهاجر، قال: حدثني عقيل بن سعيد، عن أبي وهب الكلاعي، قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... ، قال أبو حاتم: فعلمت أنَّ ذلك باطل، وعلمت أنَّ إنكاري كان صحيحاً.
وأبو وهب الكلاعي هو صاحب مكحول الذي يروي عن مكحول، واسمه عبيدالله بن عبيد، وهو دون التابعين، يروي عن التابعين، وضرْبه مثل الأوزاعي ونحوه، فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل، كيف خفي عليه؟ فإني أنكرته حين سمعت به، قبل أن أقف عليه ... اهـ.
فتأمل هذا الإمام الهمام، الذي أصبح قلبه ميزاناً للسُّنَّة، فإذا أنكر قلبه حديثاً، بقي مهموماً حتى يعرف علته، فيُفَرَّج عنه! فهل نستطيع اليوم أن نكون كذلك؟!.(1/58)
4 – وأحياناً يُعِلُّون الحديث؛ لأنّه خلاف المشهور عندهم، وإن كان السند كالشمس وضوحاً؛ كما في «العلل» للرازي (1/ 274/808): سألت أبي عن حديث رواه أبو عامر العقدي، عن حماد بن سلمة، عن منصور بن شيبة، عن أُمه، عن عائشة، قالت: «كان لا يوضع حَجَر على حجر بمنى، إلا أ، يتخذ الرجل كنيفاً»، قال أبي، حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا حماد عن منصور عن أمّه، قالت: كان (قولها) بلا عائشة، قال أبي: هذا الحديث عن منصور عن أمه أشبه عندي، ومتن الكلام مشهور عن عائشة، اهـ.
فالإمام قد يحكم على إسناد – ما – بالنكارة لمخالفته المشهور عندهم، وقد يشتهر عندهم ما لا يشتهر عندنا، فإذا تعقَّبْنا كلامهم بمجرد ظاهر الإسناد، كان تعقبنا في غير محله، فإن قيل: يلزم من ذلك ضياع بعض الدين، والله – عزّ وجلّ – قد تكفل لنا بحفظ الدين، فقال: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِكَر وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ)!.
قلت: قد – حفظ الله – لنا ما فاتنا من الأسانيد؛ بحكم هؤلاء العلماء على السند بالنكارة؛ لمخالفته المشهور عندهم، فلم يفُتْنا شيء من ديننا الذي نحتاج إليه، والحمدلله رب العالمين.
5 – وكذلك فالأئمة المتقدمون قد ينظرون إلى مذهب الراوي وروايته، وقد يُعلُّون بعض الروايات إذا كانت خلاف ما يفتي به الراوي، وهذا محمول على أن الحديث لا يصح إلى ذلك الراوي، أو أنهم تأكدوا من دخول الحديث على الراوي، كما في «العلل» للرازي (1/ 422/1271): سألت أبي عن حديث رواه حماد بن خالد الخياط، عن هشام بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «لا طلاق إلا بعد نكاح»، قال أبي: هذا حديث منكر، وإنما يروى عن الزهري أنّه قال: ما بلغني في هذا رواية عن أحد من السلف، ولو كان عنده عن عروة عن عائشة، كان لا يقول ذلك، اهـ. وانظر «العلل» (2/ 30/1566).(1/59)
6 – وقد يستنكرون الحديث عن أحد الرواة؛ لعلمهم أن هذا الراوي لا يروي شيئاً في هذا الباب، كما جاء في «العلل» (1/ 370/1097): سألت أبي عن حديث رواه المحاربي، عن إبراهيم بن الفضل، عن سالم الأفطس، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من قال لا إله إلا الله؛ فصلّوا عليه، وصلوا وراءه»، قال أبي: هذا حديث منكر، لا أعلم لسالم حديثاً مسنداً – يعني: في هذا الباب -، اهـ.
7 – معرفة الأئمة للراوي كيف وأين أخذ الحديث من شيخه، فمن ذلك:
ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 317/951): سألت أبي عن حديث رواه سعدان، عن يونس، عن الزهري، عن قبيصة، عن ذؤيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «يوشك أقصى مسالح المسلمين بسلاح ... »، قال أبي: الموقوف أشبه، قلت: وما تنكر أن يكون سمع منهما، قال: أنكر، فإن لا يحتمل أن يكون هذا من حديث قبيصة وسعدان، أرى أنه سمع من يونس بمكة أو المدينة، ويونس لم يكن معه كتبه، قال وكيع: رأيت يونس بن يزيد بمكة، فجهدتُ أن يقيم لي إسناد حديث لم يقمه، فترى أن سعدان سمع منه بمكة؛ لأنَّ حديثه وحديث أبي ضمرة وسليمان بن بلال وطلحة بن يحيى متقارب، اهـ، فتأمل هذا الفهم العجيب، وسل الله – عزّ وجلّ – أن يقسم لك من هذا بنصيب، ومن ذلك إعلال البخاري حديث الجمع بين الصلاتين، لأَن قتيبة كتبه في حضور المدائني، وكان ممن يدخل على الشيوخ، وانظر رقم (9) الآتي بعد قليل.
8 – وقولهم: هذا الحديث يشبه كلام الحسن البصري – مثلاً – وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، انظر «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/ 861) وما بعدها. وعمدتهم في ذلك سعة الاطلاع، وتتبع مراحل الحديث، وأنَّ الراوي قديماً كان يرويه على الوجه الفلاني، ثم رواه على وجه آخر، كما في «العلل» (2/ 99/1791).(1/60)
9 – ومن ذلك ما قاله العلامة المعلمي – يرحمه الله -: إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة؛ فإنهم يتطلبون له علة، فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقاً حيث وقعت، أعلّوه بعلة ليست بقادحة مطلقاً، ولكنهم، يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر، فمن ذلك: إعلاله بأنَّ راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس، أعل البخاري بذلك خبراً رواه عمرو بن أبي عمرو – مولى المطلب -، عن عكرمة، تراه في ترجمة عمرو من «التهذيب»، ونحو ذلك كلامه في حديث عمرو بن دينار، في القضاء بالشاهد واليمين، ونحوه أيضاً كلام شيخه علي بن المديني في حديث: «خلق الله التربة يوم السبت ... إلخ»، كما تراه في «الأسماء والصفات» للبيهقي، وكذلك أعل أبو حاتم خبراً رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري، كما تراه في «علل ابن أبي حاتم» (2/ 353) – برقم (2579) – ومن ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين، بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني، وكان خالد يُدخل على الشيوخ، يُراجع «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص:120).
قال: ومن ذلك الإعلال بالحَمْل على الخطأ، وإن لم يتبين وجهه، كإعلالهم حديث عبدالملك بن أبي سليمان في الشفعة، ومن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أُدخل على الشيخ، كما ترى في «لسان الميزان» في ترجمة الفضل بن الحباب وغيرها.(1/61)
وحجتهم في هذا أنَّ عدم القدح بتلك العلة مطلقاً، إنّما بُني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً، يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذْ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة، فالظاهر أنها هي السبب، وأنَّ هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبيّن أنَّ ما يقع ممن دونهم من التعقب، بأنَّ تلك العلة غير قادحة، وأنَّهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث، مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يُثْبِتَ المتعقِّب أنَّ الخبر غير منكر. اهـ.
فمما سبق يتضح أهمية الرجوع لكلام العلماء في هذا العلم، وقد قال ابن رجب – يرحمه الله – في «شرح علل الترمذي» (2/ 861): حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث، ومعرفتهم بالرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص، يفهمون به أنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك، وهذا مما لا يُعبَّر عنه بعبارة تحصرهُ، وإنّما يُرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خُصّوا بها عن سائر أهل العلم ... أهـ.
فإذا رأينا إسناداً مسلسلاً بالثقات، ورأينا العلماء يطعنون في هذا السند، فإن صرحوا بالعلة؛ فذاك، وإن لم يصرحوا بالعلة؛ فإعمال قولهم مقدم على مجرد ظاهر الإسناد، إلا أن يكون المقصود من كلام أحدهم تضعيف أحد رواة السند، ووقفنا على من وثقه، فنرجح بين كلام الأئمة حسب قواعد هذا الفن، فإن رجحنا عدالة الراوي؛ احتججنا بحديثه، وإلا فلا.(1/62)
إلا أنني أريد أن أكشف النقاب عن مسألة طالما زلّت فيها أقدام بعض طلبة العلم، وذلك أن كلام الأئمة المتقدمين في إعلال كثير من الأحاديث، قد يكون مقيداً بإسناد بعينه، مع أن عبارة الإمام منهم قد تكون مطلقة، فيظن من وقف على ذلك، أنهم يُعلّون الحديث من جميع طرقه، ثم يتعقب من صحح الحديث – لوقوفه على أسانيد تقوي الحديث -؛ مستدلاً بأن فلاناً من الأئمة قد ضعّف هذا الحديث.
والصواب في ذلك: أن ننظر في كلام الأئمة المتقدمين، فإن اتفقوا على ضعف الحديث وعدم الاحتجاج به، تركناه، وإن اختلفوا في تصحيحه وإعلاله، رجحنا بينهم حسب قواعدهم – كما سبق -، من كلام الحافظ وإن تكلم أحدهم في الحديث وطعن فيه، وأمكن حمل كلامه على سند بعينه؛ فذاك، وإن لم يمكن حمل كلامه على سند معين، وظهرت قرينة تدل على أنه يحكم بالنكارة أو البطلان على الحديث كله؛ فلا نستطيع أن نخالفه في ذلك، والسلامة في لزوم غرز العلماء، والله أعلم.
فإن قيل: إن العلماء إذا أطلقوا النكارة، فإنهم يقصدون بذلك الحديث كلّه، لا مجرد السند.
فالجواب: أنَّ هذا الإطلاق من قائله، كلام من لا يعرف صنيع أهل العلم, والأمثلة في رد هذا الإطلاق كثيرة، فمن ذلك: ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 131/362): سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنما الأعمال بالنيات»، قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ.
فأنت تراه قال: «هذا حديث باطل لا أصل لهُ» وهو يعني الإسناد الذي جعل الحديث من مسند أبي سعيد، وصحح الحديث من مسند عمر -.(1/63)
وكما حكم أبو حاتم على حديث «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن؛ فهي خداج غير تمام»؛ بأنّه حديث منكر جداً، انظر «العلل» (1/ 155/437)، مع أن الحديث صحيح من غير الطريق التي في «العلل»، وكما في (1/ 313/940): سئل أبو حاتم على حديث: إن الله – عزّ وجلّ – كتب الغيرة على النساء، والجهادَ على الرجال ... ؛ الحديث في قصته، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، وقال مرة أُخرى: هذا حديث موضوع بهذا الإسناد، اهـ.
وفي (1/ 359/1063) قال أبو حاتم في حديث النياحة: هذا حديث منكر، قال ابنه: يعني: بهذا الإسناد، اهـ.
وفي (1/ 362/1071) قال أبو حاتم في حديث: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تجاوزكم أو توضع»: هذا حديث باطل، قال ابنه: يعني: هذا الإسناد، اهـ.
وفي (1/ 366/1081) قال في حديث: «أ: ثر عذاب القبر من البول»: هذا حديث باطل، قال ابنه: يعني: (مرفوعاً)، اهـ.
وهناك أمثلة كثيرة للعلماء يطلق أحدهم الإعلال، وهو يريد سنداً بعينه، أو كلمة في المتن دون بقية المتن، فلا يتجه – مع هذا – أن يقال: لا نلتفت إلى الأسانيد الصحيحة السالمة من العلة؛ لمجرد استنكار أحد الأئمة، لاحتمال أنَّ إطلاقهُ النكارةمن العام الذي يراد به الخاص، والله أعلم.
(تنبيه):
شاع عند كثير من طلبة العلم أن مثل الحافظ ابن حجر – يرحمه الله -، أو ما يسمونهم بـ «المتأخرين» – لا يتقيدون بقواعد الأئمة المتقدمين في إعلال الروايات، وهذا الإطلاق في غير محله، فالمتأخرون يخدمون مذاهب المتقدمين، ولا يهدمونها، ومن الأدلة على ذلك، أنهم يرد بعضهم على بعض مستدلين بصنيع المتقدمين، ومن الأمثلة الدالة على وقوفهم عند كلام المتقدمين، ما جاء في «التلخيص الحبير» للحافظ (2/ 264) برقم (789) قال:
وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حثى من قبل الرأس ثلاثاً»، وقال أبو حاتم في «العلل»: هذا حديث باطل، قال الحافظ: قلت: إسناده ظاهره الصحة:(1/64)
قال ابن ماجه: حدثنا العباس بن الوليد: ثنا يحيى بن صالح: ثنا سلمة بن كلثوم: ثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى على جنازة، ثم أتى قبر الميت، فحثى عليه – من قبل رأسه – ثلاثاً، ليس لسلمة بن كلثوم في «سنن ابن ماجه» وغيرها إلا هذا الحديث الواحد، ورجاله ثقات، وقد رواه ابن أبي داود (1) في كتاب «التفرد» له من هذا الوجه، وزاد في المتن، أنَّه كبّر أربعاً، وقال بعده: ليس يروي في حديث صحيح، أنّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كبر على جنازة أربعاً إلا هذا، فهذا حكم منه بالصحة على هذا الحديث، لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان، إلا بعد أن تبين له، وأظن: العلّة فيه عنعنة الأوزاعي، وعنعنة شيخه، وهذا كله إن كان يحيى بن صالح هو الوحاطي شيخ البخاري، والله أعلم، اهـ، فتأمل إجلاله لقول أبي حاتم، والتماس المخرج له، مع أنَّه قد خولف.
فهل يقال بعد ذلك: إن المتأخرين لا يرفعون رأساً بإعلال المتقدمين؟ ولو ذهبتُ ألتمس أدلة لذلك لظفرت بأدلة كثيرة من كلام المتأخرين، ويكفي ما سبق من كلام الحافظ في أول هذا الجواب، ولكن المتعقِّب عليهم قد يفوته ما سبق التنبيه عليه؛ أنَّ من كلام العلماء ما هو عام أريد به الخصوص، أو يكون في المسألة خلاف بين المتقدمين، اطلع عليه مثل الذهبي وابن حجر – لسعة اطلاعهما – فاحتاجا إلى الترجيح، ولم نطلع عليه نحن، فتعجلنا برمي العلماء بمخالفة مذهب المتقدمين، وأوغرنا صدور الأحداث على الأئمة الحفاظ، وقد يجتهد المتأخر فيخطئ، وكفى المرء نبلاً أن تعدَّ معايبه.
أما أن نُوهم طلبة العلم: أنَّنا أعرف وأفهم بصنيع المتقدمين من الذهبي وابن حجر ومن جرى مجراهما؛ فإنّها – وربِّي – آبدة من الأوابد، والله المستعان.
__________
(1) كذا، والمعروف أن كتاب «التفرد» لأبي داود، والله أعلم.(1/65)
س 205: هل يصح للباحث – اليوم – في الأحاديث، أ، يحكم على الحديث بالصحة، إذا تأكد من الاتصال وثقة الرواة، أم لا بد من التأكد من السلامة من الشذوذ والعلة؟
ج 205: من نظر في تعريفهم للحديث الصحيح، وأنَّه الحديث الذي يتصل سنده، بنقل عدل تام الضبط، عن مثله، إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً، وقد عزا ابن الصلاح – يرحمه الله – هذا التعريف لأهل الحديث، فقال – بعد تعريفه للحديث الصحيح -: فهذا هو الحديث الذي يُحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث ... ، اهـ (ص:8) من «علوم الحديث» لابن الصلاح.
من نظر في ذلك علم أنَّهم يشترطون في الحديث الصحيح خمسة شروط:
1 – الاتصال. 2 – عدالة الرواة.
3 – تمام ضبطهم. 4 – السلامة من الشذوذ.
5 – السلامة من العلة.
فعلى ذلك لا يسمى الحديث صحيحاً، إلا إذا توفرت فيه الشروط الثلاثة الأولى، وغلب على ظن الباحث – بعد البحث – السلامة من الشذوذ والعلة.
ومن حكم على الحديث بالصحة، بمجرد ثبوت الشروط الثلاثة الأولى؛ فقد أهدر كلام المحدثين.
وقد قال السخاوي – يرحمه الله – في «فتح المغيث» (1/ 17 - 18): وأما من لم يتوقف من المحدّثين والفقهاء، في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة صحيحاً، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ، وهو استرواح، حيث يحكم على الحديث بالصحة، قبل الإمعان في الفحص عن تتبع طرقه، التي يُعلم بها الشذوذ والعلة، نفياً وإثباتاً، فضلاً عن أحاديث الباب كله، التي ربّما احتيج إليها في ذلك.
قال: وربّما تطرق إلى التصحيح متمسكاً بذلك – أي: تصحيح الحديث لقولهم: صحيح الإسناد – من لا يحسن، فالأحسن سدَُ هذا الباب، وإن أشعر تعليل ابن الصلاح ظهور الحكم بصحة المتن من إطلاق الإمام المعتمد صحةَ الإسناد، بجواز الحكم قبل التفتيش، حيث قال: لأنَّ عدم العلة والقادح هو الأصل الظاهر.(1/66)
قال السخاوي: فتصريحه بالاشتراط يدفعه، مع أن قصر الحكم على الإسناد – وإن كان أخف – لا يسلم من انتقاد، اهـ.
ثم ذكر عن الحافظ أنَّه مال إلى تسمية الشاذ صحيحاً، والمحفوظ أصح، وانتهى إلى عدم العمل به مع صحته، كالمنسوخ، وبنحو ذلك نقل السيوطي في «التدريب» (1/ 65).
والأصح: ما تقدم عن السخاوي – يرحمه الله -؛ لما سبق، ولأنَّ الحافظ – نفسه – قال بغير هذا؛ كما في «النكت» (1/ 474)، عند قول ابن الصلاح: لأنَّ عدم العلة والقادح هو الأصل؛ قال الحافظ -: لا نسلم أنَّ عدم العلة هو الأصل، إذ لو كان هو الأصل؛ ما اشتُرط عدمه في شرِط الصحيح، فإذا كان قولهم: «صحيح الإسناد»، يحتمل أن يكون مع وجود العلة، لم يتحقق عدم العلة، فكيف يحكم له بالصحة؟ ... ، اهـ من كلامه على التفريع السابع بعد نوع الحسن.
- وقد يقول قائل: لو نظرنا في صنيع الأئمة المتقدمين، لرأيناهم يصححون الحديث، إذا كان ظاهر إسناده السلامة من العلة، فإذا وقفوا على علة بعد ذلك أعلوه، ويلزمنا اتباعهم في ذلك، كما جاء في «العلل» للرازي (1/ 377/1122): سألت أبي عن حديث رواه قتادة وحماد بن سلمة عن عكرمة بن خالد بن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من باع نخلاً قد أبِّرت؛ فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع»، قال أبي: كنت أستحسن هذا الحديث من ذا الطريق، حتى رأيت من حديث بعض الثقات عن عكرمة بن خالد عن الزهري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال أبي: فإذا الحديث قد عاد إلى الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اهـ. وبنحوه في (1/ 107/288)، (1/ 428/1287)، (2/ 238/2205).(1/67)
فالجواب: أن الحفاظ لهم اطلاع واسع، ودراية فائقة بالروايات، فإذا سمع أحدهم حديثاً، نظر في إسناده، وقارنه بما يحفظ من روايات في هذا الباب، واعتبره بما يعلم من روايات التلاميذ الآخرين عن ذلك الشيخ، فإذا لم يجد فيه ما يعلّه، استحسنهُ، وقد يقف بعد ذلك على رواية لم يكن قد وقف عليهامن قبل، فتُفْسِد هذه الرواية الجديدةُ ما كان يعلمه عن الحديث من قبل، فيغيَّر الإمام منهم عند ذاك اجتهاده.
فأنت ترى أنَّ الإمام إذا سمع بسند بحث عن علته، ولم يقبله حتى يعرضه على ما عنده من روايات، وهذا بعينه هو البحث عن علة الحديث، حتى يغلب على الظن السلامة منها.
أما نحن – معشّرَ الباحثين اليوم -؛ فليس لنا سبيل إلا جمع طرق الحديث، وسبر الروايات، وعرض الرواية على غيرها، لنقف على العلة، أو على السلامة منها، وكل هذا يعتبر أقل مما في صدر الحافظ من الحفاظ، والله أعلم.
س 206: إذا خالف الثقة من هو أوثق منه، فروى الحديث مرفوعاً – مثلاً – وأوقفهُ الثقة الحافظ أو ثقات فأكثر، فهل ترد رواية الثقة مطلقاً، أم تقبل مطلقاً؟
ج 206: من المعلوم أنَّ الحديث الشاذ: هو الحديث الذي يخالفُ فيه المقبول من هو أوثق منه، والمقبول يشمل راوي الصحيح وراوي الحسن، وقولهم: «من هو أوثق منه» أي: لمزيد ضبط وإتقان، أو لكثرة عدد في الرواة.
فإذا خالف المقبول من هو أوثق منه، يُرَدُّ حديثه – في غالب الأحيان -؛ لأنَّ قول الأحفظ أو الأكثر؛ مقدم على من هو دونه في الحفظ أو العدد.(1/68)
لكن بالاستقراء ظهرت لي حالات يَقْبل فيها العلماءُ قول الثقة، وقول من هو أوثق منه حفظاً أو عدداً، ويحملون الحديث فيها على الوجهين، ومعرفة هذه الحالات ما لا يخفى نفعه، والأصل في ذلك أنَّ العلماء لا يحكمون بحكم واحد على كل الأحاديث، بل كل حديث له دراسة تليق به، فهم يعلُّون رواية الضعيف إذا زاد رجلاً – مثلاً – ويُحمل ذلك على أنَّه وَهِمَ؛ فأسند ما أرسله غيره، ومع ذلك فقد يقبلون الزيادة من الضعيف، ويستدلون بوجود الزيادة على أنّه حفظ وأتقن؛ لأنَّ النقص كان أسهل عليه، كما جاء في «العلل» للرازي (1/ 171/488): سألت أبي عن حديث رواه النعمان بن المنذر، عن مكحول، عن عنبسة عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من حافظ على ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بُني له بيت في الجنة»؛ فقال أبي: لهذا الحديث علة: رواه ابن لهيعة عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن مولى لعنبسة بن أبي سفيان، عن عنبسة، عن أم حبيبة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, قال أبي: هذا دليل (على أن مكحولاً) لم يلْق عنبسة، وقد أفسده رواية ابن لهيعة، قلت لأبي، لمَ حكمت برواية ابن لهيعة؟ فقال: لأنَّ في رواية ابن لهيعة زيادة رجل، ولو كان نقصان رجل كان أسهل على ابن لهيعة حفظه، اهـ.
فالعلماء لهم في كل حديث قرائن، تحملهم على القول بقبوله أو إعلاله، ومن الخطأ الجسيم أن يُفْهَم أن هذا تناقض واضطراب، أو اتباع لهوى، ومن ظن بالعلماء كذلك فهو أعمى، وقد ضلّ من كانت العميان تهديه.
وهذه الحالات التي يُقبل فيها قول المقبول مع قول من هو أوثق منه:(1/69)
1 – إذا كان المخالِفُ أحد الأئمة المشاهير، فلا يردُّون قوله – في مواضع كثيرة – مثال ذلك: ما جاء في «العلل» للدارقطني (5/ 251 - 252/ 861): وسئل عن حديث مسروق عن عبدالله: سأل قوم من اليهود رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح، فسكت، فظننا أنّه يُوحى إليه، ثم قال: (وَيَسئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ من أمرِ رَبِي) الآية.
فقال: يرويه عبدالله بن إدريس عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق عن عبدالله، وخالفه وكيع وعيسى بن يونس وعلي بن مسهر، فرووه عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله، وهو المشهور، ولعلهما صحيحان وابن إدريس من الأثبات، ولم يتابَع على هذا القول، اهـ.
وقد يقفون في الجميع، فلا يرجحون شيئاً كما في «العلل» للدارقطني (4/ 393 - 394/ 652).
2 – إذا كان المخالف له مزية في الشيخ المختلف عليه، قُبل قولُهُ أيضاً، كما في «العلل» للدارقطني (7/ 206 - 211/ 1295) ذكر حديث أبي موسى: «لا نكاح إلا بولي» وذكر أنَّ شعبة والثوري أرسلاه، عن أبي إسحاق السَّبيعي، وأسنده إسرائيل عن أبي إسحاق، ثم قال: وإسرائيل من الحفاظ عن أبي إسحاق، قال عبدالرحمن بن مهدي: كان إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق، كما يحفظ سورة الحمد، قال: ويشبه أن يكون القولُ قوله، وأنَّ أبا إسحاق كان ربما أرسله، فإذا سئل عنه وصله، اهـ.
وفي (5/ 335/929) قال: وسئل عن حديث أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»؛ فقال: يرويه سليمان التيمي عن أبي عمرو، ورفعه عنه ابنهُ معتمر، ووقفه يحيى القطان وحماد بن سلمة، ورفعه صحيح، اهـ.
ولعل ذلك لما لمعتمر من مزية في أبيه؛ لأنَّه من أهل بيته، والله أعلم.(1/70)
وبنحوه في «العلل للدارقطني» (2/ 187 - 188/ 209) وبنحو ذلك حكم أبو حاتم على رواية همام عن قتادة، مخالفاً لشعبة عن قتادة، وحمل الحديث على الوجهين، وقال: همام أعلم بحديث قتادة من شعبة، انظر «العلل للرازي» (1/ 482 - 483/ 1445).
والراوي إذا كان له مزية في شيخ بعينه؛ فهو بمنزلة الثقة الحافظ إذا روى عن ذلك الشيخ، وإن لم يكن كذلك في غيره.
وفي «العلل» للرازي (2/ 54/1647) رجح أبو زرعة رواية محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه، على رواية وكيع عن يزيد، فقال: حديث محمد بن يزيد أشبه عن أبيه؛ لأنّه أفهم لحديث أبيه، أن كان كتب أبيه عنده، اهـ.
فأنت تراه رجح رواية محمد على وكيع الإمام المشهور، وهذا أقوى في الدلالة من قبول القولين.
3 – إذا كان الراوي المخالف روى نفس رواية من هو أوثق منه، ثم انفرد برواية أُخرى، دل ذلك على أنه حفظ ما حفظ غيره، وزاد عليهم، فروى ما لم يروه غيره، وذلك كله بشرط أن يكون الوجهان محفوظين عنه.
مثال ذلك:
- ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 133/367): سألت أبي عن حديث رواه ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار – من بني بياضة -: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مجاور في المسجد، فوعظ الناس وحذّرهم، وقال: «المصلي يناجي ربّه لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» وروى ابن الهاد – أيضاً على إثر ذلك – عن محمد بن إبراهيم عن أبي حازم – مولى الغفاري -، أنَّه حدثه هذا الحديث البياضيُّ عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال أبو محمد: قال أبي: لولا أن ابن الهاد جمع الحديثين، لكنا نحكم لهؤلاء الذين يروونه، اهـ - أي: يروونه بخلاف روايته -، اهـ، وانظر (1/ 263/776)، وانظر «العلل» للدارقطني (6/ 40 - 43/ 965).(1/71)
وقد قال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/ 838) بعد أن ذكر حديث عبدالله بن إدريس في الروح؛ قال: ومما يشهد لصحة ذلك: أن ابن إدريس روى الحديث بالإسناد الأول أيضاً، وهذا مما يستدل به الأئمة كثيراً على صحة رواية من انفرد بالإسناد، إذا روى الحديث بالإسناد الذي روى به الجماعة ... ، اهـ وانظر (2/ 840)، وانظر «الموقظة» (ص:53) للذهبي تحقيق أبي غدة في الكلام على المضطرب والمعلل.
4 – إذا روى الثقة الحديث بوجه، ورواه الثقات بوجه آخر، فجاء ثقة آخر وروى الحديث بالوجهين، دلّ ذلك على صحة الوجهين، مثال ذلك:
ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 165/469): سألت أبي عن حديث رواه مالك وابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه سئل عن الصلاة في الثوب الواحد؟ فقال: «أوكلكم يجد ثوبين»، ورواه سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: كلاهما صحيح، قد روى عُقيل عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جميعهما، اهـ.
وفي «العلل» للدارقطني (6/ 73 - 79/ 988) ذكر حديثاً ... وفيه: واختلف عن الأعمش: فرواه عبيدة بن حميد عن الأعمش عن الحكم – وحده -، عن ميمون عن معاذ، وخالفه عبدالله بن إدريس، وأبو إسحاق الفزاري، فروياه عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، ورواه جرير بن عبدالحميد، عن الأعمش، عن الحكم وحبيب، عن ميمون، عن معاذ فصحّ القولان، عن الأعمش، اهـ.(1/72)
وفي (6/ 112 - 114/ 1012) ذكر حديثاً ... وفيه: حدث به شعبة، واختلف عنه: فرواه محمد بن كثير وغير واحد عن شعبة عن عثمان بن عبدالله بن موهب عن موسى بن طلحة، ورواه غندر وبدل بن المحبر وأبو الوليد وعبدالصمد، عن شعبة عن محمد بن عثمان بن عبدالله بن موهب عن موسى، ورواه بهز بن أسد عن شعبة بتصحيح الوجهين جميعاً، فقال: عن محمد بن عثمان وأبيه عثمان (عن) موسى ... ، اهـ.
5 – إذا كان الراوي المختلف عليه واسع الحديث، فتحمل رواية الثقة عنه، ورواية من هو أوثق منه على الصحة؛ لأنَّ الشيخ المكثر؛ يُتَوقَّع في حقّه أن يكون قد حفظ الحديث على أكثر من وجه، وحدث بعض تلاميذه بهذا، والبعض الآخر بذاك، وليس ذلك لكل ثقة، إنّما هذا في حق المشاهير الأثبات.
وبنحو ذلك قال ابن رجب، في «شرح علل الترمذي» (2/ 838).
قلت:
ومن الأمثلة على ذلك:
- ما جاء في «العلل» للرازي (2/ 50/1634): سألت أبي عن حديث اختلف على أبي إسحاق الهمداني: رواه زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود، وروى الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله أنّه قال: «من قرأ القرآن؛ فليتعلم الفرائض ... »؛ وذكر الحديث، فسمعت أبي يقول: كلاهما صحيح، كان أبو إسحاق واسع الحديث، اهـ.(1/73)
وجاء في «فتح الباري» (13/ 15) الحديث (7061) ذكر الحافظ أنَّ يونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة والليث وابن أخي الزهري رووا الحديث عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أبي هريرة، وخالفهم معمر، فرواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، وصنيع البخاري يقتضي أنَّ الطريقين صحيحان؛ فإنَّه وصل طريق معمر هنا، ووصل طريق شعيب في كتاب «الأدب»، وكأنَّه رأى أنَّ ذلك لا يقدح؛ لأنَّ الزهري صاحب حديث، فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطراده في كل من اخُتِلف عليه في شيخه، إلا أن يكون مثل الزهري في كثرة الحديث والشيوخ، ولولا ذلك لكانت رواية يونس ومن تابعه أرجح، وليست رواية معمر مدفوعة عن الصحة لما ذكرته اهـ وانظر (هدي الساري» (ص:381) الفصل الثامن ك/ الفتن، الحديث الثاني بعد المائة.
6 – إذا احتف حديث الثقة بقرائن خارجية تدل على أنَّه محفوظ، وإن خالف من هو أوثق منه، ومن هذه القرائن أن يذكر أحد الرواة في رواية الثقة المخالف قصة، فمن ذلك ما جاء في «العلل» للرازي (1/ 402/1203): سألت أبي عن حديث رواه أشعث بن عبدالملك عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة، «أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن التبتل» ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة «أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن التبتل» قلت: أيّهما أصح؟ قال أبي: قتادة أحفظ من أشعث، وأحسب الحديثين صحيحين؛ لأنَّ لسعد بن هشام قصة في سؤاله عائشة عن ترك النكاح – يعني: التبتل -، اهـ.
فلولا أن لسعد بن هشام قصة في هذا الباب مع عائشة، لرُجّحت رواية قتادة، وكان الحديث من مسند سمرة، لا من مسند عائشة، والله أعلم.(1/74)
وذِكْر القصة في الحديث يدل على ضبط الراوي، ففي «هدي الساري» (ص: 363) الحديث الثاني والأربعون ... وفيه: وفي السياق قصة تدل على أن العوام – أي ابن حوشب – حفظه، فإن فيه: اصطحب يزيد بن أبي كبشة وأبو بردة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: أفطر، فإني سمعت أبا موسى مراراً يقول ... ؛ فذكره – أي: ذكر حديث: «إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» – وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة، دل على أنَّ راويه حفظه، والله أعلم، اهـ.
(تنبيه):
لا يلزم مما ذكرتُ أن تكون هذه الحالات مطردة في قبولها والاعتماد عليها، فما من حالة إلا وقد تخلَّف الحكم بالصحة مع وجود نحوها؛ وذلك لأنَّ الأئمة لهم فهم ثاقب ودراية تامة، وينظرون لكل حديث حسب ما يحتف به من قرائن، ولا يلزم من قبولهم لحديث ما، لأمر ما، أنَّهم يقبلون كل حديث توفر فيه هذا الأمر، كما لا يخفى على المشتغلين بهذا العلم الشريف، والله أعلم.
(تنبيه آخر): سيأتي – إن شاء الله تعالى – تفصيل القول في حكم زيادة الثقة في السؤال (217).
س 207: الراوي إذا ذكروا في ترجمته أنَّه لا يروي إلاَّ عن ثقة، ورأينا أنه التلميذ الوحيد عن أحد المشايخ، أو شاركه غيره في الرواية عنه، ولم نجد في هذا الشيخ جرحاً ولا تعديلاً، فهل نحكم عليه بأنَّه ثقة، لأنَّ تلميذه لا يروي إلاَّ عن ثقة، أم لا؟
ج 207: لا يلزم من ذلك أن يكون الشيخ ثقة عند هذا التلميذ، فضلاً عن غيره؛ وذلك لأسباب:(1/75)
1 – الغالب على الأئمة الذين وُصفوا بهذا الوصف، أنهم ما التزموا الرواية عن الثقات إلا مؤخراً، فالإمام منهم في بداية أمره، يطلب الحديث عند مشايخ بلده، ثم يرحل للمشايخ الآخرين، وهو في أثناء ذلك: يجالس العلماء، ويستفيد منهم، ثم إذا اتّسعت حصيلتهُ في الرواية، واشتهر بالطلب، وقف على الغرائب والفوائد، وذاكر أهل العلم بالرواية، وعرف مصدر الأحاديث التي ليست عنده، فيرحل إلى أهلها، ويأخذ عنهم هذه الروايات، وهو في أثناء ذلك؛ يحدِّث بما عنده من الروايات، فإذا رسخ قدمه، وعرف العالي والنازل، والعزيز والغريب والمشهور، وعرف أحوال الرواة ومراتبهم، وعرف الراوي وعدد أحاديثه، وأن هذا الحديث حديث فلان، دون فلان، أو حديث البلد الفلاني، دون الآخر، وسئل عن الرواة والأحاديث: جرَّح وعدّل، وصحح وأعلَّ، ثم بعد ذلك؛ إذا أراد الإمام أن ينتقي في مشايخه انتقى، فتكون روايته عن الرجل تعديلاً له عنده – في الغالب – ويكون تركه الرواية عن الراوي طعناً فيه، وهذا كله لا يتيسر للإمام منهم في أول الطلب، إنّما يكون ذلك في نهاية المطاف، لأنَّه لو ترك الرواية عن أشخاص في بداية الطلب، لا بد أن تفوته روايات عن ثقات مشاهير، لم يتثبت هو من معرفتهم، ومن المعلوم أنَّ المحدثين في رحلتهم، أو في أثناء انتظارهم لمجلس أحد المشايخ، يحدث بعضهم بعضاً بما عنده، وليس معنا دليل – من صنيعهم – على أن المحدث يكتب فترة من الزمن، ولا يروي رواية واحدة أثناء كتابته الحديث، فإذا كان ذلك كذلك، ورأينا أحد المشاهير بالانتقاء يروي عن رجل، وليس فيه جرح ولا تعديل؛ فنحن لا نجزم بأنَّ رواية هذا الإمام عن ذلك الشيخ؛ كانت بعد رسوخ قدم التلميذ في هذا الشأن، أو بعد بلوغه مرتبة التمييز بين الرواة، أو أنها كانت قبل ذلك.
2 – وقد يروي الإمام منهم عن أحد الرواة بعد اشتهاره بالانتقاء، لكنه عندما روى عنه؛ ذهل عن هذا الشرط الذي التزمه مؤخراً.(1/76)
وقد ذكر السخاوي في «فتح المغيث» (2/ 35 - 36) هذين السببين، فذكر احتمال ذهول الإمام عن قاعدته، أو كونه لم يسلك ذلك إلا في آخر أمره، قال: كما روي أنَّ ابن مهدي كان يتساهل أولاً في الرواية عن غير واحد، بحيث كان يروي عن جابر الجعفي، ثم شدد، اهـ.
وفي «الكفاية» (ص:154) نقل هذا الخطيب عن أحمد، فقال: قال أبو عبدالله: كان عبدالرحمن أولاً يتسهّل في الرواية عن غير واحد، ثم تشدد بعد، كان يروي عن جابر: قال – يعني: الجعفي -، ثم تركه، اهـ.
وما ذهب إليه السخاوي أدق مما ذهب إليه الخطيب، حيث اعتبر هذا الشرط من الإمام؛ مع تسمية شيخه تزكية منه له.
3 – يحتمل أن الإمام الذي اشترط الانتقاء رأى حديثاً غريباً أو فائدة عن أحد الشيوخ الذين ليسوا على شرطه، فلا يصبر على ترك هذا الحديث، فيرويه عن ذلك الشيخ الضعيف إما للمعرفة والتحذير منه، وإما لاشتهار الشيخ بالضعف، وإما للأصل، وهو جواز الرواية عن الضعفاء والمجهولين، ومن أراد العمل بالحديث لزمه التفتيش عن حال رجاله، وانظر قصة حول هذا في «المجروحين» لابن حبان (1/ 209) ترجمة جابر بن يزيد الجعفي، وفي سند القصة نعيم بن حماد، وفيه كلام، والاعتماد في الجواب مع السبب الأول أكثرمن الاعتماد على السبب الثاني والثالث، كما لا يخفى.
4 – لو نظرنا إلى كل من وُصف بأنَّه ينتقي، رأينا منهم من يروي عن المتروكين أو الضعفاء والمجهولين، أو عن أصحاب الوهم الخفيف، مما يدلنا على أن قولهم: «فلان لا يروي إلا عن ثقة» – على أحسن أحواله – أنَّ المراد بالثقة ما هو أعم من رجال الصحيح والحسن، وهو كل من يصلح أنْ يُحتج به، أو يستشهد به – وإن لم يُحتج بما تفرد به – وانظر «شرح علل الترمذي» (1/ 376).(1/77)
وقد قال ابن رجب في (1/ 386 - 387): والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه، أنّه يترك الرواية عن المتهمين، والذين كثر خطؤهم للغفلة وسوء الحفظ، ويحدث عمن دونهم في الضعف، مثل من في حفظه شيء، ويختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه، وكذلك كان أبو زرعة الرازي يفعل. اهـ.
وعلى ذلك فلا تطمئن النفس إلى نسبة التزكية للشيخ من تلميذه، فضلاً عن الاعتداد بها، ولكن لا يلزم من ذلك أيضاً أن يُهدر قول الإمام منهم: «لا أروي إلا عن ثقة»، وتكون روايته بمنزلة رواية غيره؛ الذي لم يُعرف بالنقاوة في شيوخه، أو الذي عُرف بأنَّه يروي عن كل أحد.
والدليل على هذه التفرقة صنيع العلماء؛ فإنَّ رواية الثقات بصفة عامة عن الراوي يَنْفع، فما ظنك برواية الأئمة الذي عُرفوا بالانتقاء؟!
وقد قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 36):
(باب في رواية الثقة عن غير المطعون عليه، أنَّها تُقَوِّيه، وعن المطعون عليه أنَّها لا تُقَوِّيه).
قال عبدالرحمن: سألت أبي عن رواية الثقات عن رجل غير ثقة، مما يقويه؟ قال: إذا كان معروفاً بالضعف، لم تقوه روايتهم عنه، وإذا كان مجهولاً نفعه رواية الثقة عنه.
قال عبدالرحمن: سألت أبا زرعة عن رواية الثقات عن رجل مما يقوي حديثه؟ قال: إي لعمري، قلت: الكلبي روى عنه الثوري، قال: إنما ذلك إذا لم يتكلّم فيه العلماء، وكان الكلبي يُتكلّم فيه ...
قال أبو محمد: قلت لأبي: ما معنى رواية الثوري عن الكلبي، وهو غير ثقة عنده؟ فقال: كان الثوري يذكر الرواية عن الكلبي على الإنكار والتعجب، فتعلقوا عنه روايته عنه، وإن لم تكن روايته عن الكلبي قبوله، اهـ.(1/78)
قلت: وقد تأملت صنيع الحافظ في «التقريب» فرأيته أحياناً إذا انفرد من ينتقي بالرواية عن شيخ، دون جرح أو تعديل في الشيخ، يقول: ثقة، وأحياناً يقول: صدوق، وأكثر المواضع يقول: مقبول، وهذا هو الأولى، فيكون الشيخ سالماً من جهالة العين، ومع ذلك لا يُحتج بحديثه، إلا إذا حفّته قرائن أخرى، والله أعلم.
ولما سألت شيخنا الألباني – حفظه الله – عن ذلك، ذكر أنَّه ليس عنده جواب قاطع في ذلك، إلا أنّه مال إلى الاعتداد بالراوي، ما لم يكن فيه مخالف. اهـ. وفيما سبق كفاية والله أعلم.
وقد صرَّح الحافظ ابن كثير في «مختصر علوم الحديث» بأن رواية من ينتقي لا تكون توثيقاً، انظر الباعث» (ص: 290)، وفي «تهذيب التهذيب» (1/ 89) ترجمة أحمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني روى عنه النسائي وقال: ثقة، وقال الذهبي: لا يعرف، فتعقبه الحافظ فقال: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه، وفي التعريف بحاله توثيقه له.
(تنبيه):
يُعرف الراوي بالانتقاء: إذا صرح بذلك إمام، أو صرح هو عن نفسه بذلك، كأن يقول: لا أروي إلا عن ثقة، أو في صدري لفلان كذا وكذا من الحديث، ولا أحدث به، أو لا أستجيز الرواية عنه، أو كتبت عنه كذا وكذا، فما رويت عنه شيئاً، أو لو كان فلان ثقة لوجدته في كتبي، أو نحو ذلك، والله أعلم.
س 208:منهم الرواة الذين وصفوا بالانتقاء في مشايخهم؟
ج 208: السبيل إلى معرفة ذلك سعة الاطلاع في كتب الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل، وقد يسّر الله ليّ بالوقوف على عدد من هؤلاء الرواة، ولا شك أنَّ من توسع في الاطلاع، فقد يقف على من لم أقف عليه، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.(1/79)
وها أنذا أذكر هؤلاء الرواة، مرتِّباً لهم على حروف المعجم، ليسهل الرجوع إليهم على طالب العلم، وسأذكر – إن شاء الله عزّ وجلّ – عند كل راوٍ من وصفه بذلك، ومصدر هذا الوصف، ولا أشترط الاستيعاب، مع بيان من اختلف فيه منهم، وترجيح ما أمكن ترجيحه، والعلم عند الله تعالى:
- إبراهيم بن الحسين بن علي الهمذاني الكسائي – المعروف بابن ديزيل، ويلقب بـ (دابة عفان» -:
قال صالح بن أحمد الحافظ: سمعت أبي، سمعت علي بن عيسى يقول: إنَّ الإسناد الذي يأتي به إبراهيم، لو كان فيه أن لا يُؤكل الخبز، لوجب أن لا يؤكل، لصحة إسناده، اهـ من «النبلاء» (13/ 188) و «تذكرة الحفاظ» (2/ 609).
وهذا معناه أن ابن ديزيل ينتقي في الإسناد كله، فضلاً عن مشايخه، والله أعلم.
- إبراهيم بن يزيد النخعي:
قال ابن عبدالبر في «التمهيد» (1/ 30): وأما الإرسال: فكل من عُرف بالأخذ عن الضعفاء، والمسامحة في ذلك، لم يُحتج بما أرسله، تابعياً كان أو من دونه، وكل من عُرف أنّه لا يأخذ إلا عن ثقة، فتدليسه ومرسله مقبول، فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح، اهـ، وانظر كلام ابن التركماني في «الجوهر النقي» (5/ 109) من «سنن البيهقي»، و «قواعد في علوم الحديث» للتهانوي (ص:217 - 218).
وقد قال الشافعي: وكان ابن سيرين وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين يذهب هذا المذهب، في أن لا يقبل إلا ممن عرف، قال: وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب اهـ من «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 81) وانظر «الكفاية» (ص:21).
- أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي – أبوبكر: صاحب «المستخرج» و «المعجم» -:(1/80)
قال الإسماعيلي في خطبة «المعجم» (1/ 309).فإني استخرت الله – عزّ وجلّ – في حصر أسامي شيوخي الذين سمعت منهم، وكتبت عنهم، وقرأت عليهم الحديث، وتخريجها على حروف المعجم، ليسهل على الطالب تناوله، وليُرجع إليه في اسم إن التبس أو أُشكل، والاقتصار منهم لكل واحد على حديث واحد يُستّغرب، أو يُستفاد، أو يُستحسن، فينضاف إلى ما أردته من ذلك جمع أحاديث؛ تكون فوائد في نفسها.
وأبيّن حال من ذممتُ طريقه في الحديث، بظهور كذبه فيه، أو اتهامه به، أو خروجه عن جملة أهل الحديث، للجهل به، والذهاب عنه، فمن كان عندي ظاهر الأمر؛ منهم لم أخرجه فيما صنفت من حديثي، وإن أثبتُّ أسامي من كتبت عنه في صغري إملاءً بخطي في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، فأنا يومئذ ابن ست سنين، فضبطته ضبط مثلي، من حيث يدركه المتأمل له من خطي، وذلك على أني لم أخرِّج من هذه البابة شيئاً فيما صنفت من السنين (1) وأحاديث الشيوخ.
والله أسأل التوفيق لاستتمامه في خير وعافية، وأن ينفعني وغيري به ... ، اهـ.
قلت: فهذا يدل على أنَّ من سكت عنه الإسماعيلي من مشايخه في كتابه «المعجم»، أنَّه مقارب الحال، وقد يصرح بالتعديل، وقد يصرح بالتجريح، كما هو ظاهر لمن نظر في كتابه، والله أعلم.
- أحمد بن الحسين أبوبكر البيهقي صاحب «السنن الكبرى».
__________
(1) ينظر هل الصواب: «السنن» أم لا؟(1/81)
قال في مقدمة «دلائل النبوة» (1/ 46 - 47): ويُعلم أنَّ كل حديث أ, ردته فيه – أي: في «دلائل النبوة» – قد أردفته بما يشير إلى صحته، أو تركته مبهماً، وهو مقبول في مثل ما أخرجته، وما عسى أوردته بإسناد فيه ضعف أشرت إلى ضعفه، وجعلت الاعتماد على غيره ... إلى أن قال: وعادتي في كتبي المصنفة في الأصول والفروع الاقتصار من الأخبار على ما يصح منها، دون ما لا يصح، أو التمييز بين ما يصح منها وما لا يصح، ليكون الناظر فيها من أهل السنة على بصيرة مما يقع الاعتماد عليه، لا يجد من زاغ قلبه من أهل البدع عن قبول الأخبار مغمزاً فيما اعتمد عليه أهل السنة من الآثار.
هذا ومن أنعم النظر في اجتهاد أهل الحفظ في معرفة أحوال الرواة وما يُقبل من الأخبار وما يُرد، علم أنهم لم يألوا جهداً في ذلك، حتى إذا كان الابن يقدح في أبيه، إذا عثر منه على ما يوجب ردَّ خبره، والأب في ولده، والأخ في أخيه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تمنعه من ذلك شجنة رحم ولا صلة مال، والحكايات عنهم في ذلك كثيرة، وهي في كتبي المصنفة في ذلك مكتوبة، ومن وقف على تمييزي في كتبي بين صحيح الأخبار وسقيهما، وساعده التوفيق؛ علم صدقي فيما ذكرته.
ومن لم ينعم النظر في ذلك، ولم يساعده التوفيق، فلا يغنيه شرحي لذلك وإن أكثرت، ولا إيضاحي له وإن بلغت، كما قال الله – عزّ وجلّ-: [وَمَا تُغْنِي الآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ] اهـ.
فهذا يدل على أن البيهقي ما لم يضعف حديثاً فهو عنده مما يحتج به، وكون غيره لا يُسلم له نقده، فهذا أمر آخر، فلو عزا أحد توثيق البيهقي – في الجملة – لراو أخرج له في مصنفاته، ولم يتعقب روايته بشيء فلا غبار عليه، والله أعلم (1).
__________
(1) انظر لاستزادة في هذا الموضوع قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص111 وحاشيته.(1/82)
(تنبيه): الذي حملني على احترازي بقولي: «- في الجملة -» خشية أن يكون البيهقي قد صحح الحديث بشواهده، وإن كان راوية لا يحتج به، لكن لو كان عنده متروكاً؛ لما استشهد به، ففي صنيعه هذا مدح للراوي في الجملة، والله أعلم.
- أحمد بن شعيب النسائي صاحب «السنن»:
جاء في «الميزان» (1/ 115) ترجمة أحمد بن عبدالرحمن البُسْري، قال الذهبي: حدث عنه النسائي، وحسبك به، اهـ.
وفي «تهذيب التهذيب» (1/ 88) ترجمة أحمد بن نفيل السَّكوني الكوفي، روى عنه النسائي، وقال: لا بأس به، قال الذهبي، مجهول، فتعقبه الحافظ وقال: قلت: بل هو معروف، يكفيه رواية النسائي عنه، اهـ.
وقد قال الذهبي – نفسه – في «المغني» (1/ 106 - 107) برقم (478): شيخ للنسائي لا يُعرف، لكن النسائي نظيف الشيوخ، وقد قال فيه: لا بأس به اهـ.
وفي «تهذيب التهذيب» (1/ 89) ترجمة أحمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني، روى عنه النسائي، وقال: ثقة، وقال الذهبي في الطبقات: لا يُعرف، فتعقبه الحافظ، فقال: بل يكفي في رفع جهالة عينه رواية النسائي عنه، وفي التعريف بحاله توثيقه له، وانظر «تهذيب التهذيب» (1/ 179). اهـ.
لكن جاء في «تهذيب التهذيب» (9/ 315) ترجمة محمد بن عبدالكريم بن محمد بن عبدالرحمن بن حويطب الحراني: قال حمزة الكناني: سألت النسائي عنه، فقال: كتبت عنه شيئاً يسيراً، ولم أخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الصلاة، قلت: ما حاله، قال: لا أدري، اهـ، فهذا يدل على أن بعض شيوخه لا يعرف حالهم، بل قد ذكر العلامة المعلمي – يرحمه الله – أنه قد يوثق المجاهيل من القدماء، انظر «التنكيل» (ص:255) في باب كيف البحث عن أحوال الرواة، والله أعلم.
وقد يُحْتَجُّ على تساهل النسائي بقوله: لا يُتْرك الرجل عندي، حتى يُجمع الجميع على تركه، إلا أن الحافظ بيّن أن هذا إجماع خاص، أي إجماع المتشدد والمعتدل في الطبقة الواحدة، انظر «النكت» (1/ 482/484).(1/83)
- أحمد بن محمد بن حنبل إمام أهل السنة:
ذكر التهانوي في «قواعد في علوم الحديث» (ص:218) أ، الحافظ الهيثمي قال في «مجمع الزوائد»: ثابت بن عبدالله بن جُميع، روى عنه أحمد وشيوخه ثقات، اهـ وعزاه المحقق في الحاشية إلى (1/ 80) من «مجمع الزوائد»، ولم أقف عليه.
وفي «تهذيب التهذيب» (11/ 94) ترجمة الهيثم بن خارجة الخراساني، قال عبدالله بن أحمد: كان أبي إذا رضي عن إنسان، وكان عنده ثقة، حدث عنه وهو حي، فحدثنا عن الهيثم بن خارجة وهو حي، اهـ.
وفي «تهذيب التهذيب» (9/ 114) ترجمة محمد بن الحسن بن آتش، قال الحافظ: وكلام النسائي فيه غير مقبول لأن أحمد وعلي بن المديني لا يرويان إلا عن مقبول ... اهـ.
وذكر السخاوي في «فتح المغيث» (2/ 42) أن أحمد ممن كان لا يروي إلا عن ثقة، إلا في النادر اهـ.
ومعلوم أن أحمد روى عن البعض المتكلم فيهم كما في «تهذيب التهذيب» (9/ 458) ترجمة محمد بن مصعب بن صدقة القرقساني، قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: حديث القرقساني عن الأوزاعي مقارب، (وما) له عن حماد بن سلمة ففيه تخليط، قلت لأحمد: تحدث عنه؟ قال: نعم اهـ.
بل قد روى عن عامر بن صالح بن عبدالله بن عروة بن الزبير بن العوام، الذي كذبه يحيى بن معين، ودهّاه آخرون، حتى قال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يقول: جُنَّ أحمد، يحدث عن عامر بن صالح اهـ وهذا النص يدل على أن يحيى بن معين يرى رواية أحمد عن عامر خلاف ما اشتهر عن أحمد من الانتقاء، وانظر ما قاله التهانوي حول رواية أحمد عن المتكلم فيهم (ص:219).(1/84)
قد كان الإمام أحمد يشير على ولده عبدالله بالكتابة عمن يرضاهم أحمد من أهل السنة الثقات، انظر «تعجيل المنفعة» (ص:15) ترجمة إبراهيم بن الحسن الباهلي العلاف المقرئ، وانظر (ص:19) ترجمة إبراهيم بن عبدالله بن بشار الواسطي، فما كان أحمد ليضيق على ولده في الرواية عن الضعفاء، ويوسِّع لنفسه في ذلك، وانظر ذلك في «التنكيل» (ص:282) ترجمة إبراهيم بن شماس، (ص:658 - 660) ترجمة محمد بن أعين أبي الوزير، وانظر ما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة عبدالله بن أحمد بن حنبل والله أعلم.
- إسماعيل بن علية هو ابن إبراهيم بن مقسم الأسدي – مولاهم أبو بشر البصري -:
جاء في «الميزان» (4/ 411) ترجمة يحيى بن ميمون أبي معلى العطار: بصري واهٍ عن سعيد بن جبير، كذبه الفلاس وغيره، قال الذهبي، قلت: بل صدوق حدث عنه مثل شعبة وابن علية، واحتج به النسائي، اهـ.
فهذا القول بظاهره يدل على انتقاء ابن علية، مع أنه ليس ظاهراً في ذلك، لاحتمال أن الذهبي مدحه لاحتجاج النسائي به، وهذا فرع عن توثيقه، وإن كان ظاهر سياق كلام الذهبي، يشير إلى ما حررته أولاً، والله أعلم.
- إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي – مولاهم -:
جاء في «تهذيب التهذيب» (1/ 292) ترجمة إسماعيل، قال العجلي: وكان ربما أرسل الشيء عن الشعبي، فإذا وقف أخبر، وكان صاحب سنة، وكان حديثه نحواً من خمسمائة حديث، وكان لا يروي إلا عن ثقة، اهـ.
قلت: ولم أجد الوصف بأنه لا يروي إلا عن ثقة في «معرفة الثقات» للعجلي، ولا في «تاريخ الثقات» للعجلي، ولا في «تهذيب الكمال»، فلعل الحافظ وقف على نسخة فيها ذلك.
مع أن يحيى بن سعيد قال: مرسلات ابن أبي خالد ليست بشيء، اهـ من «تهذيب التهذيب» فهذا يدل على أنه لا ينتقي، والله أعلم.
- أيوب بن أبي تميمة السختياني:(1/85)
جاء في «تهذيب التهذيب» (7/ 266): قال أيوب: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة؛ فإني لفي سوق البصرة، إذ قيل: هذا عكرمة، قال: فقمت إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه، وأنا أحفظ، وقال حماد بن زيد عن أيوب: لو لم يكن عندي ثقة، لم أكتب عنه، اهـ ترجمة عكرمة البربري أبي عبدالله المدني – مولى ابن عباس – إلا أنَّ ابن أبي حاتم ساق سنده إلى ابن معين، قال: حدّثني من سمع حماد بن زيد، يقول: سمعت أيوب وسئل عن عكرمة: كيف هو؟ قال: لو لم يكن عندي ثقة لم أكتب عنه اهـ. فإن كان ما في «تهذيب التهذيب» من طريق هذا المبهم، فالعمدة على ما في ترجمة أبي يزيد الآتية، وإن كان للحافظ طريق أخرى، فذاك.
وقد نقل ابن شاهين كلام أيوب في عكرمة، انظر «تاريخ الثقات» لابن شاهين (ص:254) برقم (1019) ترجمة عكرمة بن عمار، مع أن قول أيوب في عكرمة مولى ابن عباس، والله أعلم.
وفي «تهذيب التهذيب» (12/ 208) ترجمة أبي يزيد المدني في أهل البصرة، قال الآجري عن أبي داود: سألت أحمد عنه، فقال: تسألني عن رجل روى عنه أيوب؟! اهـ وانظر «سؤالات أبي داود لأحمد» (ص:210) برقم (163)، وانظر «شرح علل الترمذي» (1/ 355).
- بشر بن الحارث بن عبدالرحمن – المشهور بالحافي -، - يرحمه الله -:
قال السلمي: وسألته – أي: الدارقطني – عن بشر بن الحارث الحافي؟ فقال: زاهد، جبل، ثقة، ليس يروي إلا حديثاً صحيحاً، ورعاً، تكون البلية ممن يروي عنه، اهـ من «سؤالات أبي عبدالرحمن السلمي للدارقطني» (ص:68) برقم (79) وانظر «النبلاء» (10/ 474 - 475).(1/86)
وقد يقول قائل: قول الدارقطني: ليس يروي إلا حديثاً صحيحاً، ظاهره أنَّ بشر بن الحارث ممن ينتقي في الرواة، لكن هذه الكلمة بالاستقراء لا يلزم منها الانتقاء الذي نحن بصدده، فالراوي إذا روى عن ضعيف، وذكر اسمه، ولم يسقطه، فالعهدة في النكارة على الضعيف، لا على الثقة الذي روى عنه، وإذا كان الثقة إذا سمي سمي ثقة، وكان من دونه ثقة – أيضاً- فحديثه يكون صحيحاً، بمعنى: أنَّه لم يهم على الثقات، لا أنَّه لا يروي إلا عن ثقة، يدلُّك على ما ذكرت؛ بقية كلام الدارقطني: «تكون البلية ممن يروي عنه» أي: إن رأيت المناكير في حديثه، فمن تلامذته، لا منه، والله أعلم.
والأمر كما قال القائل، إلا أن قول الدارقطني هذا في تلامذة الحارث، يشير إلى أن مشايخه ليسوا كذلك، وإلا لقال: إذا روى عن ثقة، وروى عنه ثقة؛ فحديثه صحيح، ولما لم يتكلم على مشايخه؛ دل هذا – والله أعلم – على الانتقاء، ولأن الثقات الذين لا ينتقون، ويروون عن كل ضرب، لا يتحملون عهدة نكارة أحاديث شيوخهم هؤلاء، إذا صرحوا بأسمائهم، فلماذا لا يقال في أحدهم: «لا يروي إلا حديثاً صحيحاً، كما قال الدارقطني في بشر الحافي؟ ّ فلما لم يقولوا فيهم هذه المقالة، دلّ ذلك على أن قول الدارقطني بشير إلى ما فهمته منه، والله أعلم.
- بقي بن مخلد بن يزيد – أبو عبدالرحمن الأندلسي القرطبي -:
جاء في «تهذيب التهذيب» (1/ 22) ترجمة أحمد بن جوّاس: قال الحافظ: وروى عنه بقي بن مخلد، وقد قال: إنه لم يحدث إلا عن ثقة، اهـ.
وفي (1/ 30) ترجمة أحمد بن سعد بن الحكم، قال الحافظ: وروى عنه بقي بن مخلد، وكان لا يحدث إلا عن ثقة، اهـ وانظر «التنكيل» (ص:305)، وفي (1/ 410) من «تهذيب التهذيب» ترجمة أيوب بن محمد بن أيوب الهاشمي: قال الحافظ: وروى عنه بقي بن مخلد، ومن شأنه أن لا يروي إلا عن ثقة، اهـ.(1/87)
وفي (6/ 391) ترجمة عبدالملك بن حبيب بن سليمان: قال الحافظ: روى عنه ابن وضاح وبقي بن مخلد، ولا يرويان إلا عن ثقة عندهما، اهـ.
وقد قال محقق «تهذيب الكمال» (1/ 286) ترجمة أحمد بن جواس، الحاشية (2): وفي «تاريخ قرطبة» قال بقي: كل من رويت عنه فهو ثقة، اهـ.
- بكير بن عبدالله بن الأشج القرشي – مولاهم -؛ -نزيل مصر -:
قال أحمد بن صالح المصري: إذا رأيت بكير بن عبدالله روى عن رجل؛ فلا تسأل عنه؛ فهو الثقة الذي لا شك فيه، اهـ من «تهذيب التهذيب» (1/ 492 - 493) ترجمة بكير بن عبدالله.
- جعفر بن محمد بن أبي عثمان أبو الفضل الطيالسي:
قال الخطيب: وكان ثقة ثبتاً، صعب الأخذ ... وساق الخطيب سنده إلى يحيى بن معين، قال لجعفر: لو أدركت أنت زيد بن الحُباب وأبا أحمد الزبيري لم تكتب (عنهما) – قال: يعني: في شدة أخذه عن الشيوخ – قلنا لجعفر: لِمَ؟ قال: إنما كانوا شيوخاً. اهـ من «تاريخ بغداد» (7/ 188 - 189) ترجمة جعفر الطيالسي.
- حبيب بن صالح الطائي:
في «تهذيب التهذيب» (2/ 186) عبارة لأبي زرعة الدمشقي، اعتراها تصحيف، فيظن من وقف عليها أن حبيباً ممن ينتقي، وليس كذلك، بل المراد أنّ شعبة هو الذي ينتقي، انظر «تهذيب الكمال» (5/ 382).
- حبيب بن الشهيد الأزدي أبو محمد:
جاء في «تاريخ الثقات» لابن شاهين (ص:98) برقم (217): أخبرنا يحيى بن محمد بن صاعد: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: حدثني أبي، قال: لقيت شعبة في الطريق، فقال: ما كان أبوك بأقلهم حديثاً، ولكن كان شديد الاتقاء، اهـ، وسنده صحيح.
وهذا يدل على أنه ما كان يروي عن كل أحد، وإلا لكثر حديثه، وانظر «تهذيب التهذيب» (2/ 186) ترجمة حبيب بن الشهيد، والله أعلم.
- حريز بن عثمان الرحبي:
جاء في «سؤالات الآجري» (2/ 248/1741): قال الآجري: سألت أبا داود عن سعيد بن مرثد الرحبي، فقال: من التابعين؛ ثقة، قلت: حدث عنه حريز، قال: شيوخ حريز كلُّهم ثقات، اهـ.(1/88)
وقال فيه دحيم: حمصي، جيد الإسناد، صحيح الحديث، وقال أحمد: صحيح الحديث.
وقال ابن عدي: وحريز من الأثبات في الشاميين، ويحدث عن الثقات ... ، اهـ. من «تهذيب التهذيب» (2/ 237 - 240) ترجمة حريز.
ونقل الحافظ كلام أبي داود – مستدلاً به – في «اللسان» (2/ 360 - 361) ترجمة حمزة بن هانئ عن أبي أمامة الباهلي، وقال الذهبي في ابن هانئ: ... لا يعرف، وعنه حريز بن عثمان لكن شيوخ حريز وُثقوا. اهـ «الميزان» (4/ 597).
- حسان بن عطية المحاربي – مولاهم؛ أبوبكر الدمشقي -:
قال خالد بن نزار: قلت للأوزاعي: حسان بن عطية عن من؟ قال: فقال لي: مثل حسان كنا نقول له عن من؟!، اهـ من «تهذيب التهذيب» (2/ 251).
وقد ساق ابن عساكر سنده إلى خالد بن نزار بهذه القصة – كما في «تاريخ دمشق» (12/ 440) -، وهذا معناه: أن حسان كان رجلاً مهيباً لجلالته وعلو قدره، وقد يكون بمعنى أنه ينتقي في الرواية، ويتحفظ في روايته عن الضعفاء والمجهولين، ولا يروي إلا عن ثقة، فلا يحتاج إلى سؤال، ولعل ذلك من أسباب علو قدره وجلالته عند تلامذته، وهذا بخلاف ما فهمه مُخْتصر «تاريخ دمشق» (4/ 145) لثناء الأوزاعي على حسان، وقد تكلمت على ذلك في «شفاء العليل» (1/ 72 - 73)، فارجع إليه.
ومما يدل على ذلك قول ابن سيرين: كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم، اهـ من «مقدمة مسلم» (1/ 44)، فترك السؤال عن الإسناد، سببه الثقة في الواسطة، وذلك بالثقة في نقد الناقل، والله أعلم.
- زائدة بن قدامة الثقفي أبو الصلت:
قال العجلي في «تاريخ الثقات» (ص: 163) برقم (452): ثقة لا يحدث أحداً حتى يسأل عنه، فإن كان صاحب سنة حدثه، وإلا لم يحدثه، اهـ.(1/89)
فإذا كان لا يحدث إلا سُنِّياً، فمن باب أولى أن لا يحدث إلا عن سني مرضي عنده؛ لأنَّ المشهور: أنَّ الذين ينتقون، إنّما ينتقون في المشايخ والانتقاء في التلاميذ – قليل – جداً -، فيستبعد أن يلتزم زائدة بذلك في التلاميذ – مع أنَّه لا يلحقه من رواية غير المرضي عنه عيب – ويسهّل في روايته عن غير المرضيين، وهذا مما يلحقه به عيب، وانظر «النبلاء» (7/ 377)؛ ولذلك قال الحاكم في «المستدرك» (1/ 211): وقد عُرف من مذهب زائدة أنَّه لا يحدَّث إلا عن الثقات، اهـ - ك/ الصلاة، ب/ من كتاب الإمامة وصلاة الجماعة، وانظر «تهذيب التهذيب» (3/ 306 - 307)، و «النبلاء» (13/ 189).
- زيد بن أسلم العدوي – أبو أسامة المدني -:
قال العطاف بن خالد: حدث زيد بن أسلم بحديث، فقال له الرجل: يا أبا أسامة! عمن هذا؟ فقال: يا ابن أخي! ما كنا نجالس السفهاء، اهـ، من «تهذيب التهذيب» (3/ 396) لكن العطاف صدوق يهم، ففي النفس من هذا شيء، لا سيما وزيد قد ذكر عنه ابن عبدالبر في «التمهيد» (1/ 36 - 37) ما يدل على التدليس، وانظر «تهذيب التهذيب» (3/ 397)، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الأولى؛ الذين يدلسون نادراً، ولكن قد يقال: الضعيف إذا حكى قصة، دل على أنه قد ضبطها، فالله أعلم.
- سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي – أبو محمد -:
وصفه بذلك ابن عبدالبر في «التمهيد» (1/ 30) وقد سبق في ترجمة إبراهيم بن يزيد النخعي، وانظر هناك المصادر الأخرى.
- سفيان بن عيينة الهلالي أبو محمد:(1/90)
قال ابن حبان في مقدمة «صحيح ابن حبان» (1/ 161) – أثناء كلامه على ردّ رواية المدلس -: اللهم إلا أن يكون المدلِّس يُعلم أنه ما دلس – قط – إلا عن ثقة، فإذا كان كذلك قُبلت روايته، وإن لم يُبيّن السماع، وهذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده؛ فإنه كان يدلس، ولا يدلس إلا عن ثقة متقن، ولا يكاد يوجد لسفيان بن عيينة خبر دلس فيه؛ إلا وُجد ذلك الخبر بعينه قد بيَّن سماعه عن ثقة مثل نفسه، والحكم في قبول روايته لهذه العلة، وإن لم يبين السماع فيها، كالحكم في رواية ابن عباس إذا روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لم يسمع منه، اهـ.
وفي «التبيين لأسماء المدلسين» لبرهان الدين الحلبي (ص:94) برقم (29) ترجمة سفيان بن عيينة: لكنه لم يدلس إلا عن ثقة كثقته.
وحكى ابن عبدالبر عن أئمة الحديث أنهم قالوا: يُقبل تدليس ابن عيينة؛ لأنه إذا وقف أحال على ابن جريح ومعمر ونظرائهما، وهذا ما رجحه ابن حبان ... ، اهـ.
وكلام ابن عبدالبر موجود في «التمهيد» (1/ 31)، قال برهان الدين الحلبي: وقد سبق ابنَ عبدالبر أبوبكر البزار وأبو الفتح الأزدي – أي إلى هذه الدعوى -، اهـ.
وفي الحاشية (ص:96) برقم (7): في هامش (س) لفظ ابن الملقِّن: وصرح بذلك أبو الفتح الأزدي والبزار، وإن كانت هذه صفته، وجب قبول حديثه، وكذا قال أبوبكر الصيرفي في «دلائله»: كل من ظهر تدليسه عن غير الثقات، لم يُقبل خبره حتى يقول: حدثني أو سمعت، انتهى لفظ ابن الملقن - رحمة الله عليه -، وفي «النبلاء» (8/ 462): قال ذؤيب بن عمامة السهمي: سمعت ابن عيينة يقول: سمعت من صالح مولى التوأمة هكذا وهكذا، وأشار بيديه – يعني: كثرةّ – سمعت منه ولعابه يسيل، فقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: فلا نعلمه روى عنه شيئاً، كان منتقداً للرواة. اهـ.(1/91)
وفي «مقدمة مسلم» (1/ 62 - 63) من طريق الحميدي قال: حدّثنا سفيان، قال: سمعت جابراً يحدث بنحومن ثلاثين ألف حديث، ما أستحل أن أذكر منها شيئاً، وأن لي كذا، وكذا. اهـ.
وهذا كله يدل على ورع سفيان في الرواية، وتحاشيه من رواية المناكير، لأنّ استكثار المحدثين أمر مشهور، ولا يصبر على ترك هذا القدر من الحديث، إلا إمام ورع ناقد بصير، والله أعلم.
وقال الدارقطني: ... وأما ابن عيينة فكان يدلس عن الثقات. اهـ من «تهذيب التهذيب» (6/ 405) ترجمة عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج المكي، وانظر كلام الدارقطني في «سؤالات الحاكم» (ص:175) برقم (265)، اهـ.
وهنا كم نذكر أن ابن عيينة دلس عن الحسن بن عمارة أحد المتروكين، وقد أفادني بعض طلبة العلم، أن قد بحث هذا السند؛ فرأى أن ابن عيينة روى الحديث بذِكْر الحسن بن عمارة، وبدون ذكره، وأن من رواه عنه بذكر الحسن بن عمارة، أرجح ممن رواه عنه بإسقاط الحسن، وانظر «فضائل الصاحبة» لأحمد (1/ 71/34) برقم (3029) و «العلل» لأحمد برقم (2532) و «العلل» للدارقطني (3/ 144) السؤال (323) مع الحاشية، وترجمة أبي بكر في «تاريخ دمشق»، فإ، كان ما أفادني به ذاك الأخ صحيحاً؛ فذاك، وإلا فيحمل على أ، تدليس ابن عيينة عن الثقات، إلا في النادر، والله أعلم.
بقي أن يقال: هذا نص العلماء فيما دلس فيه ابن عيينة، لكن: هل يكون كذلك فيما صرح بالسماع؟ وأنه إن صرح بالسماع سمي شيخاً ثقة كذلك، أم لا؟
وجه من يراه كذلك: أنه إذا كان يدلس – والتدليس مظنة الريبة – لا يدلس إلا عن ثقة، فكيف إذا صرح بالسماع؟ ووجه من لا يراه كذلك، قول من قال: من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد كفاك، أي: أنه لدينه وأمانته إذا أسقط شيخه؛ تحرى ثقته؛ لأنه يعلم أن من سمع منه، فسيعمل بخبره، كي لا يدخل في الدين ما ليس منه، أما إذا أظهر شيخه، فمن احتاج للعمل بخبره فتّش عن حاله، وعهدة الراوي تبرأ بذكره اسم من حدثه.(1/92)
هذا وجه القولين، ولكني لم أقف على من توقف في مشايخ ابن عيينة إذا صرح بالسماع؛ ولذا فالراجح عندي أنه يُذكر في جملة من ينتقي – في الجملة – والله أعلم.
- سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني:
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 12): ومن كا من مشايخ الطبراني في «الميزان» نبهت على ضعفه، ومن لم يكن في «الميزان» ألحقته بالثقات الذين بعده ... اهـ.
وهذا من تساهل الهيثمي – يرحمه الله -، لأنَّ الشيخ قد يكون مجهولاً وليس في «الميزان» بل قد يكون شديد الضعف، ومع ذلك لا يوجد في «الميزان» وفي «اللسان» زوائد لم توجد في أصله، كما هو ظاهر.
- سليمان بن حرب الأزدي الواشحي:
جاء في «الجرح والتعديل» (7/ 255) ترجمة محمد بن أبي رزين: قال أبو محمد: سئل أبي عنه، فقال: شيخ بصري، لا أعرفه، لا أعلم روى عنه غير سليمان بن حرب، وكان سليمان قلَّ من يرضى من المشايخ، فإذا رأيته قد روى عن شيخ، فاعلم أنه ثقة، اهـ، وانظر «الميزان» (3/ 545) ترجمة محمد بن أبي رزين.
وقد قال أبو حاتم – كما في «الجرح والتعديل» (4/ 108) في ترجمة سليمان بن حرب -: إمام من الأئمة، كان لا يدلِّس، ويتكلم في الرجال وفي الفقه، اهـ وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 179) ترجمة سليمان، وانظر «فتح المغيث» (2/ 42) فقد ذكره مع جماعة.
وقول أبي حاتم «كان لا يدلس»، يحتمل أمرين لا ثالث لهما عندي:
الأول: أن يكون هناك من أنهم سليمان بالتدليس، وأراد أبو حاتم أن يدافع عن سليمان، فقال ما قال، ولم أقف على أحد قد رماه بالتدليس.
الثاني: أن يكون المراد من هذا أن سليمان ينتقي في المشايخ، ولا يحدث عن المجهول أو الضعيف؛ لأن الحامل للمدلسين – غالباً – على التدليس ضعفُ شيوخهم، أما سليمان فإنه يفاخر بشيوخه، فيذكرهم ويسميهم.
ومما يدل على تعيُّن هذا الوجه: ما قاله أبو حاتم من قبل، وما اشتهر عن سليمان من التحري والتحفظ فيمن يحدث عنهم.
فإن قيل: وهل كل من لا يدلس كذلك؟(1/93)
قلت: الرواة على أقسام:
منهم من صرح بعض الأئمة بأنه يدلس، ومنهم من صرح بعض الأئمة بأنه لا يدلس – كما في سليمان بن حرب – ومنهم من لم يُذْكَر بهذا ولا ذاك.
والذي يصح أن يقال: إنه ينتقي، من كان من القسم الثاني فقط.
فإن قيل: قولهم: فلان لا يدلس، يُراد منه – فقط – نفقي تدليس الراوي.
قلت: ولماذا لم يقولوا هذا في كل من لا يدلس، أو في كثير منهم؟! وهذا مما يُدلك عن أن قولهم: «فلان لا يدلس» مدح رفيع، وليس مجرد الدفاع عن الراوي، والله أعلم.
- شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي – أبو سطام الواسطي -:
جاء في «الميزان» ترجمة توبة بن عبدالله – أبي صدقة – (1/ 361):
قال الأزدي: لا يحتج به، قال الذهبي: قلت: ثقة روى عنه شعبة، اهـ.
وفي (1/ 399) ترجمة جعدة عن أم هانئ، قال الذهبي: روى عنه شعبة: لا يُدرى من هو، لكن شيوخ شعبة عامتهم جياد، اهـ.
وفي (2/ 532) ترجمة عبدالأكرم بن أبي حنيفة عن أبيه، وعنه شعبة، لا يُعْرف، لكن شيوخ شعبة جياد، وقال أبو حاتم: شيخ، اهـ.
وفي «فتح المغيث» (2/ 42) ذكره السخاوي فيمن كان لا يروي إلا عن ثقة، إلا في النادر، وذكر أن ذلك في شعبة على المشهور؛ فإنه كان يتعنت في الرجال، ولا يروي إلا عن ثبت، وإلا فقد قال عاصم بن علي: سمعت شعبة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة، لم أحدثكم إلا عن ثلاثة، وذلك اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره، فينظر، وعلى كل حال فهو لا يروي عن متروك، ولا عمن أُجمع على ضعفه، اهـ.
قلت: والذي يظهر لي من قول شعبة: « ...... لم أحدثكم (إلا) عن ثلاثة»، أنه يقصد نوعاً معيناً من الثقات، وهم الأئمة المشاهير، وإلا ففي مشايخ شعبة من يوصف بكونه: «ثقة» عدد كثير، والله أعلم.
وفي «الكامل» لابن عدي (1/ 83) قول لحمزة بن زياد الطوسي نحو قول عاصم بن علي السابق، والله أعلم.
وذكر في (1/ 84) قولاً مقيداً، مع التصريح بثلاثة مشاهير، فارجع إليه إن شئت.(1/94)
وفي «الضعفاء الكبير» للعقيلي (3/ 43) قال شعبة: نعم الشيخ عبدالحميد بن بهرام، ولكن لا تكتبوا عنه، فإنه يروي عن شهر بن حوشب، اهـ فإذا كان يُنكر على غيره، فإنه لا يقع فيما أنكر، وفي «المجروحين» لابن حبان (1/ 209) ترجمة جابر بن يزيد الجعفي، قال ابن حبان: فإن احتج محتج بأنه شعبة والثوري رويا عنه؛ فإن الثوري ليس من مذهبه ترك الرواية عن الضعفاء، بل كان يؤدي الحديث على ما سمع، لأنْ يرغِّب الناس في كتابة الأخبار، ويطلبوها في المدن والأمصار.
وأما شعبة وغيره من شيوخنا؛ فإنَّهم رأوا عنده أشياء لم يصبروا عنها، وكتبوها ليعرفوها، فربّما ذكر أحدهم عنهُ الشيء بعد الشيء على جهة التعجب، فتداوله الناس بينهم.
قال: والدليل على صحة ما قلنا: أنَّ محمد بن المنذر قال: حدثنا أحمد بن منصور: حدثنا نعيم بن حماد، قال: سمعت وكيعاً يقول: قلت لشعبة: ما لك تركت فلاناً وفلاناً، ورويت عن جابر الجعفي؟ قال: روى أشياء لم نصبر عنها ... ، اهـ ونعيم بن حماد فيه مقال، والله أعلم.
وذكر الحافظ في مقدمة «تهذيب التهذيب» (1/ 4 - 5) أن شعبة قد عُرف من حاله أنَّه لا يروي إلا عن ثقة، اهـ، وانظر ترجمة حبيب بن صالح الطائي في «تهذيب التهذيب» (2/ 186) وقد وقع فيه تصحيف فاحش، فارجع إلى أصله «تهذيب الكمال» (5/ 382).
وانظر كلام النسائي في مدح شعبة بالانتقاء في «التمهيد» (1/ 63)، وقد مدحه بذلك القطان، انظر «الميزان» (3/ 376) ترجمة القاسم بن عوف الشيباني، وانظر (3/ 613) ترجمة محمد بن عبدالجبار عن محمد بن كعب.
وأنكر الذهبي على شعبة روايته عن شرقي بن قطامي، مع قوله: حماري وردائي للمساكين، إن لم يكن شرقي كذب على عمر، فقال الذهبي: قلت: فلمَ تروي عنه؟ اهـ.
وهذا يدل على أن روايته عن شرقي خلاف المعروف عنه.
وكلام أحمد يدل على انتقاء شعبة، انظر «الميزان» (2/ 591) ترجمة عبدالرحمن بن معاوية أبي الحويرث.(1/95)
وفي ترجمة أبي الحسن عن طاوس، قال الذهبي: وعنه شعبة، مجهول، قلت: لكن شعبة منقِّ للرجال، اهـ من «الميزان» (4/ 514).
ولا يفهم من كون الحاكم عدّ شعبة – في «المعرفة» (ص:106) – في النوع السادس والعشرين فيمن روى عن قوم من المجهولين، أن شعبة لا ينتقي؛ لأنه ما من إمام انتقى، إلا ووجد في مشايخه من لا يصح الاحتجاج به، إلا أن ذلك في الغالب، ولو قصد الحاكم أن شعبة لا ينتقي – كما يظهر من سياق كلامه، حيث عده في جماعة لا ينتقون -؛ فهو متعقَّب بالنصوص السابقة عن الأئمة، والله أعلم.
- طاوس بن كيسان الأبناوي الحميري – مولاهم؛ أبو عبدالرحمن -:
جاء في «مقدمة صحيح مسلم» (1/ 44 - 45): قال سليمان بن موسى: لقيت طاوساً فقلت: حدثني فلان: كيْت وكيْت، قال: إن كان ملياً فخذْ عنه – وفي رواية: إن كان صاحبك ملياً فخُذْ عنه – اهـ، أي: إن كان صاحبك ثقة حافظاً فخذْ عنه.
وانظر كلام البيهقي في «المعرفة» (1/ 81) وكلام النووي (1/ 44 - 45).
وما كان طاوس ليأمر صاحبه بذلك، ثم يترخص لنفسه في الرواية عن الضعفاء، والله أعلم.
- طلحة بن نافع أبو سفيان الإسكاف، نزل مكة:
ذكر الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص:103) في النوع السادس والعشرين، في معرفة المدلسين، أنه ممن لا يدلس إلا عن الثقات، الذين هم في الثقة مثله، أو فوقه، أو دونه، إلا أنهم لم يخرجوا من عداد الذين يقبل أخبارهم ... ، اهـ بمعناه.
إلا أن في النفس شيئاً من ذلك؛ لأنه ضم إليه قتادة، وقتادة معروف أنه حاطب ليل، كما قال الشعبي، فينظر، والله أعلم.
- عامر بن شراحيل الشعبي الحميري – أبو عمرو الكوفي -:(1/96)
قال ابن معين: إذا حدث عن رجل فسماه، فهو ثقة يحتج بحديثه، وقال العجلي: لا يكاد الشعبي يرسل إلا صحيحاً، اهـ من «تهذيب التهذيب» (5/ 67) وفي حاشية «تهذيب الكمال» (8/ 13) الحاشية رقم (4): وقال ابن خُلفون في كتاب «الثقات»: قال ابن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين يقول: إذا روى الحسن والشعبي عن رجل، فسمياه، فهو ثقة يحتج بحديثه.
قال: نقله مغلطاي، واختصره ابن حجر، اهـ.
وفي «فتح المغيث» (2/ 42) ذكر في «الحاشية» رقم (4) أن السخاوي زاد في جملة من يروون عن ثقة إلا في النادر: الشعبي، وقال: هذا في بقية النسخ، اهـ.
وليس للشعبي ذكر في أصل الكتاب المطبوع الذي وقفت عليه.
وفي «شرح علل الترمذي» (1/ 377) قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: متى يكون الرجل معروفاً؟ إذا روى عنه كم؟ قال: إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي، - وهؤلاء أهل العلم – فهو غير مجهول، قلت: فإذا روى عن الرجل مثل سماك ابن حرب وأبي إسحاق؟ قال: هؤلاء يروون عن مجهولين، قال ابن رجب: وهذا تفصيلٌ حسن ... اهـ. فهذا يدل على أن الشعبي ممن ينتقي، والله أعلم.
- عبدالله بن أحمد بن حنبل – يرحمهما الله -:
قد سبق الكلام على ذلك في ترجمة أبيه – أحمد بن محمد بن حنبل – يرحمه الله تعالى.
وزد على ذلك ما جاء في «تعجيل المنفعة» (ص:258) ترجمة عبدالرحمن بن المعلم – أبي مسلم -: قال الحسيني: روى عنه عبدالله بن أحمد حديثاً واحداً، لا يُدري من هو.
قال الحافظ: قلت: ما كان عبدالله يكتب إلا عمن أذن له أبوه في الكتابة عنه، فهذا القدر يكفي في التعريف به، اهـ.
وفي (ص:355) ترجمة الليث بن خالد البلخي – أبي بكر -: عنه عبدالله بن أحمد وأبو حاتم، قال الحسيني: فيه نظر، قال الحافظ: وقال في «الإكمال»: لا يكاد يُعرف، قلت: وقد كان عبدالله بن أحمد لا يكتب إلا عمن يأذن له أبوه بالكتابة عنه، ولهذا كان معظم شيوخه ثقات، وإني لأعجب من إغفال ابن حبان ذكر هذا في ثقاته، اهـ.(1/97)
وقد ذكر ابن عدي في «الكامل» (1/ 145) أنه لم يكتب عن أحد إلا من أمره أبوه أن يكتب عنه، اهـ.
- عبدالله بن ذكوان القرشي أبو عبدالرحمن المدني، المعروف بأبي الزناد:
جاء في مقدمة «صحيح مسلم» (1/ 46) قال أبو الزناد: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله اهـ.
وفي هذا دليل على أنّ أبا الزناد ينتقي في الجملة، ولا يلزم من هذا القول أنَّ مشايخه نقاوة، لأنَّ الرجل قد لا يكون مخلطاً، ومع ذلك فلا يُحتجّ به، إلا أنَّ هذا القول يقوي في النفس أنَّ أبا الزناد عنده أصل الانتقاء، والله أعلم.
- عبدالله بن سعيد بن أبي هند، قال أحمد:
ما أحسن حديثه وأصحه اهـ من «سؤالات أبي داود لأحمد» (ص:213) برقم (175).
- عبدالله بن عون بن أرطبان – أبو عون البصري -:
جاء في «شرح علل الترمذي» (1/ 355) قال ابن رجب: قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداًمن التابعين كان ينتقي الرجال، كما كان ابن سيرين ينتقيهم؟ فقال برأسه – أي: لا -.
قال يعقوب: سمعت علي بن المديني يقول: كان ممن ينظر في الحديث، ويفتش عن الإسناد، ولا نعرف أحداً أول منه: محمد بن سيرين، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد، وعبدالرحمن، قلت لعلي: فمالك بن أنس؟ فقال: أخبرني سفيان بن عيينة، قال: ما كان أشد انتقاء مالك للرجال، اهـ.
فهذا يدل على انتقاء ابن عون، حيث عده في جملة جماعة عُرفوا بذلك، والله أعلم.
- عبدالله بن المبارك بن واضح أبو عبدالرحمن الحنظلي – مولاهم -، - رحمة الله -:
قال المسيب بن واضح: سمعت ابن المبارك، وقيل له: الرجل يطلب الحديث لله، يشتد في سنده؟ قال: إذا كان لله؛ فهو أولى أن يشتد في سنده، اهـ من «النبلاء» (8/ 399).
وفي (8/ 403) قال الذهبي: وعن ابن المبارك قال: في صحيح الحديث. شغل عن سقيمه، اهـ.(1/98)
وفي (8/ 404) قال: روى المسيب بن واضح أنه سمع ابن المبارك، وسأله رجل عمن يأخذ؟ فقال: قد يلقى الرجل ثقةً، وهو يحدث عن غير ثقة وقد يلقى الرجل غير ثقة، يحدث عن ثقة، ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة اهـ، فهذا كله يدل على تحريه – يرحمه الله -، إلا أن المسيب لا يحتج به.
ومن نظر في شيوخه علم أن منهم عدداً كبيراً من الأئمة المشاهير والثقات، وإن وُجد فيهم من يتكلم فيه، فلم يسلم من ذلك غيره، ولم أجد من صرح بأنه ممن يروي عن كل واحد، إلا ما جاء في «الجرح والتعديل» (1/ 270) قال أبو حاتم: سمعت نعيم بن حماد يقول: كان ابن المبارك لا يترك حديث الرجل، حتى يبلغه عنه الشيء الذي لا يستطيع أن يدفعه، اهـ.
فهذا بظاهره يدل على أنّه يروي عن الضعفاء، إنّما يتجنب من اشتهر ضعفه أو جرحه، وهذا خلاف التحري، إلا أنَّ نعيماً نفسه فيه كلام، فهل يُقبل منه هذا النقد؟ ولو قبلنا كلامه، فلعله محمول على أنَّ ابن المبارك كان يقبل حديث الضعيف المختلف فيه، أمّا إذاظهر ضعفه ترك حديثه، سواء كان الضعف خفيفاً أو شديداً.
وإذا كان كذلك احتمل قول نعيم أن يكون مدحاً؛ لأنّه ما من إمام وُصف بالتحري، إلا وقد روى عمَّن اشتهر ضعفه، فضلاً عن الذين اختلف فيهم، وهذا الذي يتفق مع النصوص السابقة ومع مكانة ابن المبارك، الذي لُقِّب بأمير المؤمنين في الحديث، ولُقِّب بالطبيب، وكان المحدثون إذا اختلفوا في حديث رجعوا إليه، ومع ما اشتهر به ابن المبارك من الورع في الرواية، والله – تعالى – أعلم.
وقد جاء في «مقدمة صحيح مسلم» (1/ 57) ب/ الكشف عن معايب رواة الحديث ....
قال عبدالله بن المبارك: بقية صدوق اللسان، لكنّه يأخذ عمن أقبل وأدبر. اهـ.
وكونه ينكر على بقية ذلك، دلّ على أنّه لم يقع فيما وقع فيه بقية، وفي الباب أقوال أخرى تدل على تحاشيه مجالس المطعون فيهم، والله أعلم.(1/99)
وعلى ذلك فقول النسائي في «التمهيد» (1/ 63): وكذلك ابن المبارك من أجلّ أهل زمانه، إلا أنّه يروي عن الضعفاء – يُحمل على أنّه مع انتقائه، فقد روى عن ضعفاء، إمّا لأنّ ذلك في أول أمره، أو لأسباب أخرى سبقت في السؤال السابق، لأنَّ ابن المبارك جاء أنّه قال: يكتب الحديث إلا عن أربعة: غلاط لا يرجع، وكذّاب، وصاحب بدعة (هوى)، يدعو إلى بدعته، ورجل لا يحفظ، فيحدث من حفظه اهـ. من «الكفاية» (ص:227) فهذا يدل على انتقائه، والله أعلم.
- عبدالرحمن بن مهدي بن حسان العنبري – أبو سعيد البصري -:
قال الخطيب في «الكفاية» (ص:154): إذا قال العالم: كل من أروي لكم عنه، وأسميه، فهو عدل رضا مقبول الحديث، كان هذا القول تعديلاً منه لكل من روى عنه وسماه، وقد كان ممن سلك هذه الطريقة عبدالرحمن بن مهدي، اهـ ووصفه بتنقي الرجال الذهبيُّ في «الميزان» (2/ 549) ترجمة عبدالرحمن بن بديل.
وقد جاء في «النبلاء» (7/ 162) خلاف ذلك، كما في ترجمة معاوية بن صالح بن حُدير الأندلسي، فقد قال الليث بن عبدة: قال يحيى بن معين: كان عبدالرحمن بن مهدي إذا حدث بحديث معاوية بن صالح زَبَره يحيى بن سعيد، وقال: أيْش هذه الأحاديث؟! وكان عبدالرحمن لا يبالي عمن روى، ويحيى ثقة في حديثه، اهـ، قلت: وما قاله ابن معين – إن صح إليه – فمحمول على ما كان من ابن مهدي في أول امره، فقد قال أحمد: كان عبدالرحمن أولاً يتسهل في الرواية، ثم تشدد – بعدُ -، كان يروي عن جابر – يعني: الجعفي – ثم تركه، اهـ من «الكفاية» (ص:154)، وانظر «فتح المغيث» (2/ 36)، و «التدريب» (1/ 373).(1/100)
وفي «شروط الأئمة» لابن منده (ص:82): قال أبو موسى محمد بن المثنى: قال لي أبن مهدي: يا أبا موسى! أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد، قلت: يا أبا سعيد! هم يقولون: أنك تحدث عن كل أحد، قال: عمن أحدث؟ فذكرت له محمد بن راشد، فقال: احفظ عني؛ الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يُختلف فيه، وآخر يهم، والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك؛ لأنَّه لو ترك حديث هذا لذهب حديث الناس، وآخر يهم، والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك، اهـ.
وفي «سؤلات أبي داود لأحمد» (ص:198) برقم (137): قال أبو داود: قلت لأحمد: إذا روى يحيى – أو عبدالرحمن بن مهدي – عن رجل مجهول يحتج بحديثه؟ قال: يحتج بحديثه، اهـ.
- علي بن عبدالله بن جعفر بن نجيح السعدي – مولاهم أبو الحسن بن المديني بصري:
جاء في «الجرح والتعديل» (7/ 73) ترجمة فضيل بن سليمان النميري: سئل أبو زرعة عن فضيل بن سليمان؟ فقال: لين الحديث، روى عنه عليّ بن المديني، وكان من المتشددين، اهـ - أي: من المتشددين في الرواية عن الشيوخ، فلا يروى إلا عمن يرضاه -، وانظر ما قاله أبو زرعة أيضاً، في «تهذيب التهذيب» (8/ 292) ترجمة فضيل بن سليمان.
وفي «تهذيب التهذيب» (9/ 114) ترجمة محمد بن الحسن بن آتش:
قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد بن صالح: هو ثقة، قال الحافظ: وكلام النسائي فيه غير مقبول؛ لأن أحمد وعليّ بن المديني لا يرويان إلا عن مقبول، مع قول أحمد بن صالح فيه، اهـ، وكلام القطان في «الجرح والتعديل» (8/ 31) ترجمة محمد بن عمرو بن علقمة، يدل على انتقاء علي بن المديني.
- القاسم بن عبيدالله بن عبدالله بن عمر – أبو محمد المدني -:(1/101)
جاء في «سنن الدارمي» (1/ 48) ب/ التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة: أخبرنا محمد بن كثير عن سفيان بن عيينة عن يحيى، قال: قلت للقاسم: ما أشدّ عَلَيَّ أن تُسأل عن الشيء ولا يكون عندك، وقد كان أبوك إماماً، قال: إنّ أشدّ من ذلك عند الله وعند من عقل عن الله: أن أُفتي بغير علم، وأروي عن غير ثقة. اهـ.
وانظره في «مقدمة صحيح مسلم» (1/ 50 - 51) ب/ الكشف عن معايب رواة الحديث ... ، ولفظ مسلم أتم وأوضح، والله أعلم.
- الليث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي – أبو الحارث المصري -:
ذكر الحاكم في «المستدرك» (4/ 250 - 251) حديثاً في ك/ التوبة والإنابة، من رواية الليث بن سعد عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر؛ مرفوعاً ... ، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هرم العابد من زهّاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين، اهـ.
وقد ذكر ذلك الحافظ في «لسان الميزان» (3/ 109) ترجمة سليمان بن هرم.
- مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي – أبو عبدالله المدني، إمام دار الهجرة-:
قال ابن عدي في «الكامل» (5/ 1769) ترجمة عمرو بن أبي عمرو – مولى المطلب: وروى عنه مالك، وهو عندي لا بأس به؛ لأن مالكاً لا يروي إلا عن ثقة أو صدوق، اهـ.
وفي (نصب الراية» للزيلعي (2/ 459) ك/ الصوم: وقال النسائي: لا نعلم مالكاً روى عن إنسان ضعيف مشهور بالضعف، إلا عاصم بن عبيدالله؛ فإنه يروي عنه حديثاً، وعن عمرو بن أبي عمرو، وهو أصلح من عاصم، وعن شريك بن أبي نمر، وهو أصلح من عمرو، ولا نعلم أن مالكاً حدث عن أحد يُترك حديثه إلا عبدالكريم بن أبي المخارق البصري، اهـ.
وفي «شرح علل الترمذي» (1/ 377) قال أحمد – في رواية أبي زرعة -: مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يُعْرف، فهو حجة.(1/102)
وقال في رواية ابن هانئ: ما روى مالك عن أحد، إلا هو ثقة، كل من روى عن مالك فهو ثقة، وقال الميموني: سمعت أحمد – غير مرة – يقول: كان مالك من أثبت الناس، ولا تبال أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولا سيما مدني، قال الميموني: وقال لي يحيى بن معين: لا تريد أن تسأل عن رجال مالك، كل من حدث عنه ثقة، إلا رجلاً أو رجلين، اهـ.
وفي «مقدمة صحيح مسلم» (1/ 79) – بشرح النووي – ب/ الكشف عن معايب رواة الحديث ونقلة الأخبار: قال بشر بن عمر: .... وسألته – يعني: مالكاً – عن رجل آخر، نسيت اسمه، فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي، اهـ.
قال النووي: هذا تصريح من مالك – يرحمه الله -، بأن من أدخله في كتابه، فهو ثقة، فمن وجدناه في كتابه حكمنا بأنه ثقة عند مالك، وقد لا يكون ثقة عند غيره، اهـ - قلت: وكذلك مشايخ مالك الذين لم نجدهم في كتابه، فنصوص الأئمة تدل على مدحهم، والله أعلم، وانظر سؤال بشر بن عمر لمالك في «التمهيد» (1/ 68) وقد صرح الحافظ في مقدمة «تهذيب التهذيب» (1/ 4 - 5) أنَّ مالكاً ممن عُرف من حاله أنَّه لا يروي إلا عن ثقة، اهـ، وانظر ترجمة عمرو بن أبي عمر – مولى المطلب -، من «تهذيب التهذيب» (8/ 83).
وفي (9/ 304) ترجمة محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب: قال أحمد: ابن أبي ذئب كان يُعدّ صدوقاً أفضل من مالك، إلا أن مالكاً أشد تنقية للرجال منه، كان ابن أبي ذئب لا يبالي عمن يحدث، اهـ.
وقال يحيى بن معين: وكل من روى عنه مالك ثقة، إلا عبدالكريم – أبا أمية -، اهـ من «تهذيب التهذيب» (9/ 304).
وفي «التمهيد» (1/ 60): قال ابن عبدالبر: ومن اقتصر على حديث مالك – يرحمه الله -، فقد كُفي تعب التفتيش والبحث، ووضع يده من ذلك على عروة وثقى لا تنفصم؛ لأنَّ مالكاً قد انتقد وانتقى، وخلص، ولم يروِ إلا عن ثقة حجة ... ، اهـ. وانظر ما قاله – أيضاً – في (1/ 65).(1/103)
وقد قال النسائي: وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك بن أنس، ولا أجل ولا آمن على الحديث منه، ثم شعبة في الحديث، ثم يحيى بن سعيد القطان، وليس بعد التابعين آمن من هؤلاء الثلاثة، ولا أقل رواة عن الضعفاء، اهمن «التمهيد» (1/ 63).
وقال ابن مهدي: ما أقدَِّم على مالك في صحة الحديث أحداً، اهـ من «التمهيد» (1/ 65)، وانظر (1/ 65 - 69).
لكن قال القطان: مالك عن سعيد بن المسيب، أحب إليّ من الثوري عن إبراهيم؛ لأنَّه لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح، وقال مرة أخرى: كلاهما عندي شبه الريح، اهـ.
فقول القطان: كلاهما عندي شبه الريح، إمّا أنَّه مقيد بحديث ما، وإلا فما سبق يرد عليه، والله – تعالى – أعلم.
- محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع المطلبي المكي – أبو عبدالله الشافعي – الإمام:
جاء في «معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 81):
قال الشافعي: وكان ابن سيرين وإبراهيم النخعي وغير واحدمن التابعين يذهب هذا المذهب، في أن لا يقبل إلا ممن عرف.
قال: وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب، اهـ.
قالت: وما كان الشافعي – يرحمه الله – على مكانته العلية، ورتبته المنيفة – لِيُخالف مذهب العلماء في زمانه وقبل زمانه، لكن يرد عليه أن هناك من وُصف بعد الانتقاء، وهم في طبقة شيوخ أو شيوخ شيوخ الشافعي، والله أعلم.
فإن قيل: إنه روى عن الأسلمي، قلت: غالب من وُصِفوا بالانتقاء يروون عن غير مرضي، والشافعي له تأويل في روايته عن الأسلمي، والله أعلم.
(تنبيه): سيأتي – إن شاء الله تعالى – في ترجمة محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب الزهري، كلام للشافعي يدل على انتقاء الشافعي، والله أعلم.
- محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة – أبوبكر السلمي النيسابوري الشافعي -:
قال العلامة المعلمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:415) ترجمة إسماعيل بن بشر بن منصور: وكذلك روى عنه ابن خزيمة مع تثبته، اهـ.(1/104)
وفي (ص:697) ترجمة محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: (وروى عنه) ابن خزيمة، وهو لا يروي في «صحيحه» إلا عن ثقة، اهـ.
قلت: وقد صرح ابن خزيمة في «كتاب التوحيد» (1/ 11) في مقدمة كتابه، بأنه سيذكر ما صح وثبت عن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأسانيد الثابتة الصحيحة، بنقل أهل العدالة؛ موصولاً إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... ، اهـ.
قال الذهبي في «النبلاء» (14/ 373): وابن خزيمة – يرحمه الله – كان جهبذاً بصيراً بالرجال ... فذكر رجالاً لم يحتج بهم ابن خزيمة، وإن كان قد احتج ببعضهم في «كتاب التوحيد».
وعلى كل حال فابن خزيمة ممن له معرفة بالرجال، فإذا اشترط إخراج الصحيح من الحديث؛ فإنه سيعتني بذلك – على حسب فهمه لشروط الصحة – وقد قال السلمي: سألت الدارقطني عن الأزهري؛ فقال: هو أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث، سجستاني، منكر الحديث، لكنه بلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه، وكفى بهذا فخراً اهـ من «الميزان» (1/ 131 - 132) ترجمة أحمد بن محمد بن الأزهر، والله أعلم.
- محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة – أبو عبدالله البخاري صاحب «الصحيح»:
قال الترمذي في «الجامع» (2/ 199): ب/ ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسياً: وقال محمد بن إسماعيل: ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه؛ لأنَّه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا، فلا أروي عنه شيئاً، اهـ.
وقد نقل العلامة المعلمي – يرحمه الله – هذا في «التنكيل» ترجمة أحمد بن عبدالله أبي عبدالرحمن العكي، ثم قال: وقوله: كل من كان مثل هذا، فلا أروي عنه شيئاً، يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة، وإذا لم يروِ عمن كان كذلك بواسطة، فلأن لا يروي عنه بلا واسطة أولى؛ لأنَّ المعروف عن أكثر المتحفظين؛ أنَّهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيراً مما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة.(1/105)
قال: وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد؛ إلا وهو يرى أنَّه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه، وهذا يقتضي أن يكون الراوي – على الأقل – صدوقاً في الأصل، فإنَّ الكذاب لا يمكن أن يَعْرِف صحيح حديثه، فإن قيل: قد يُعْرَف بموافقته الثقات.
قلت: قد لا يكون سمع، وإنّما سرق من بعض أولئك الثقات، ولو اعتد البخاري بموافقة الثقات؛ لروى عن ابن أبي ليلى، ولم يقل فيه تلك الكلمة، فإنَّ ابن أبي ليلى – عند البخاري وغيره – صدوق، وقد وافق الثقات؛ في كثير من أحاديثه، ولكنّه عند البخاري كثير الغلط، بحيث لا يؤمن غلطه، حتى فيما وافق عليه الثقات، وقريب منه مَنْ عُرف بقبول التلقين؛ فإنَّه قد يُلقّن من حديث شيوخه ما حدثوا به، ولكنّه لم يسمعه منهم، وهكذا من يحدث على التوهم؛ فإنَّه قد يسمع من أقرانه عن شيوخه، ثم يتوهم أنَّه سمعها من شيوخه، فيرويها عنهم، قال: فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الراوي من شيوخه، لا تحصل بمجرد موافقة الثقات؛ وإنّما يحصل بأحد أمرين:
إمّا أن يكون الراوي ثقة ثبتاً، فيعرف صحيح حديثه بتحديثه، وإمّا أن يكون صدوقاً يغلط، ولكن يمكن معرفة ما لم يضبط فيه بطريق أُخرى، كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة، كيحيى بن عبدالله بن بكير، روى عنه البخاري، وقال في «التاريخ»: ما روى يحيى بن عبدالله بن بكير في التاريخ، فإني أتقيه، ونحو ذلك.
فإن قيل: قضية الحكاية المذكورة، أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح؛ فإنَّه إن كان يروي ما لا يرى صحته، فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه؟ لكن كيف تصح هذه القضية، مع أنَّ في كتب البخاري – غير «الصحيح» – أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها؟.(1/106)
قلت: أما ما نبَّه على عدم صحته، فالخطب فيه سهل، وذلك بأن يُحمل كونه لا يروي ما لا يصح، على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج، فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبيِّن عدم صحته، ويبقى النظر فيما عدا ذلك.
وقد يقال: إنَّه إذا رأى أنَّ الراوي لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه، تركه البتة، ليعرف الناس ضعفه مطلقاً، وإذا رأى أنَّه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب، ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه، كما في يحيى بن بكير، وأما غير ذلك؛ فإنّه يروي ما عرف صحته، وما قاربه أو أشبهه، مبيَّناً الواقع بالقول أو الحال، والله أعلم، اهـ (ص:320 - 322)، وانظر خلاف عن المعلمي في تحقيقه لـ «الفوائد المجموعة» (ص: 354) ط/ السنة المحمدية سنة 1978م عن الحديث رقم (53).
وفي «هدي الساري» (ص:479): قال الحافظ: ذِكْرُ مراتب مشايخه – أي البخاري – الذي كتب عنهم، وحدث عنهم: قد تقدم التنبيه على كثرتهم، وعن محمد بن أبي حاتم عنه قال: كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس فيهم إلا صاحب حديث، وقال – أيضاً -: لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، اهـ.(1/107)
فهذا القول من البخاري – يرحمه الله -، يدل على أنَّ مشايخه جياد عنده، ولا يليق حصر ذلك بمشايخه في «الصحيح»؛ لأن عدة مشايخه في «الصحيح» (322) شيخ، كما ذكره أخونا الفاضل أبو عمير مجدي بن محمد بن عرفات – سلمه الله من كل سوء – في رسالته: «إسعاف القاري بمعجم شيوخ الإمام البخاري» فأين هذا العدد من ألف وثمانين شيخاً؟! وقد قال أبو عمرو الخفاف: حدثنا التقِيُّ النقِيُّ العالم الذي لم أرَ مثله: محمد بن إسماعيل ... ، اهـ من «تهذيب التهذيب» (9/ 54) وقد قال التهانوي في «قواعد في علوم الحديث» (ص:223): وكذا كل من ذكره البخاري في «تواريخه»؛ ولم يطعن فيه، فهو ثقة، فإن عادته ذكر الجرح والمجروحين، قاله ابن تيمة، اهـ قال المحقق: إذا أُطلق ابن تيمة؛ فيراد به شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبدالحليم – يرحمه الله تعالى -، وقائل هذا الكلام هو: أبو البركات مجد الدين عبدالسلام بن عبدالله بن تيمية، المتوفَّى سنة (652) هـ، وهو جد شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال: ونص عبارة الشوكاني: قال ابن القيم في «الهدى» (1/ 269): وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم، وقد أعله البيهقي بانقطاعه عنه، وتضعيفه عكرمة، قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإنَّ البخاري ذكره في «تاريخه» ولم يطعن فيه، وعادته ذِكر الجرح والمجروحين، انتهى.
قال: وهذا التوثيق ضمنيٌّ لا صريح، كما هو ظاهر وقد مشى على هذا أيضاً الحافظ ابن حجر في «تعجيل المنفعة»؛ فتراه يقول في كثير من المواضع: ذكره البخاري، ولم يذكر فيه جرحاً، انظر منه (ص:219، 223، 225، 254) ... ، اهـ.(1/108)
قلت: الذي يظهر لي أنَّ في هذا توسعاً، وأنَّه لا يلزم من سكوت البخاري وغيره عن الراوي؛ عدم الطعن فيه، لاحتمال أنَّهم لم يقفوا فيه على شيء، وانظر ما كتبه عداب الحمش في «رواة الحديث الذي سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل»، فقد جعل لذلك فصلاً مستقلاً، وأشار إلى أنَّ سكوت البخاري عن بعض الرواة: إما لاشتهار ثقتهم، أو لاشتهار ضعفهم، أو لعدم معرفته بهم، وذكر أمثلة لكل نوع من ذلك، وذكر هذا عن الأئمة لا عن البخاري فقط، انظر (ص: 35 - 38) والفصل الثالث (ص:171 - 250).
ومما يدل على انتقاء البخاري، قول أبي عمرو الخفاف: حدثنا التقيّ النقيّ العالم الذي لم أرَ مثله: محمد بن إسماعيل ... ، اهـ من «تهذيب التهذيب» (9/ 54).
وفي «الميزان» (1/ 106) ترجمة أحمد بن عاصم البلخي: ذكره ابن أبي حاتم، وبيض له، مجهول.
قلت: بل هو مشهور، روى عنه البخاري في «الأدب»، اهـ.
- محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر صاحب «التفسير»:
له كتاب «تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأخبار» وفي الجزء الخاص بمسند علي – رضي الله عنه – (ص:271) قال:
فإن قال قائل: ما أنت قائل في هذه الأخبار التي رويتها لنا؟ فإن قلت: إنها صحاح، قلنا لك: فما وجه اختلاف رواتها ... ؟
وإن قلت: إنها غير صحاح، قيل: فما وجه ذكرك لها، وقد شرطت لنا في أول كتابك – هذا – أنّك لا ترسم لنا فيه إلا ما كان عندك صحيحاً؟
قال: قيل: أما الأخبار التي ذكرناها؛ فإنَّ منها عندنا صحاحاً، ومنها غير صحاح، ولم نذكر ما كان منها عندنا غير صحاح استشهاداً به على دين، ولا على الوجه الذي شرطنا في أول كتابنا هذا أنا لا نذكره إذا كان الذي شرطنا في أول كتابنا هذا ترك ذكره فيه، هو ما لا نراه في الدين حجة، إلا الحكاية عمن احتج به في توهين خبر، أو تأييد مقالة، هو بها قائل عند ذكرنا مقالته، وما اعتُل به لها ... ، اهـ.(1/109)
وفي الجزء الخاص بمسند ابن عباس (1/ 531) بنحو هذا، إلى أن قال: وأما إحضارنا ذكره في كتابنا هذا، فلشرطنا في كتابنا هذا؛ أنّا إذا ذكرنا خبراً من أخبار رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبنَّا عن حاله: أهو مما انفرد به، أم هو مما وافقه عليه غيره، ولم نشترط في سند الموافق أو المخالف ما شرطناه في خبر الذي نذكر خبره عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أصحابه، من أن لا نحضر كتابنا هذا منه إلا ما صح عندنا، اهـ.
فهذا يدل على أنه ينتقي في رجال أحاديثه التي يوردها على وجه الاحتجاج في هذا الكتاب، كأن يذكر حديث ابن عباس في مسنده، ويذكر شواهد له من حديث صحابة آخرين، فإنَّه ينتقي في رجال حديث ابن عباس، دون رجال أحاديث الصحابة الآخرين، على أنه لا يلزم من الانتقاء في الحديث الانتقاء في الرجال، كما لا يخفى، لكنه فيه انتقاء في الجملة والله أعلم.
- محمد بن حبان بن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي السجستاني صاحب «صحيح ابن حبان»:
شيوخه في «الصحيح» جياد، فقد قال في مقدمة «صحيحه»: ولعلّنا قد كتبنا عن أكثر من ألفي شيخ، من إسبيجاب إلى الإسكندرية، ولم نروِ في كتابنا هذا إلا عن مائة وخمسين شيخاً، أقل أو أكثر، ولعل معوَّل كتابنا هذا يكون على نحو عشرين شيخاً ممن أدرنا السنن عليهم، واقتنعنا برواياتهم عن رواية غيرهم، على الشرائط التي وصفناها ... ، اهـ (1/ 152).
وقد سبق تفصيل ذلك في نهاية السؤال (201) فارجع إليه.
- محمد بن داود بن صُبيح أبو جعفر المصيصي:
قال الآجري: سمعت أبا داود يقول: كان محمد بن داود بن صُبيح يتفقد الرجال، ولم يكتب عن أبي كريب لحال المحنة، ولم يحدث عن سعدويه ولا عن أبي نصر التمار، وما رأيت رجلاً قط أعقل من محمد بن داود، اهـ من «سؤالات الآجري» (2/ 253 - 254) برقم (1758).
- محمد بن سيرين أبوبكر الأنصاري البصري:(1/110)
سبق في ترجمة إبراهيم بن يزيد النخعي، وترجمة سعيد بن المسيب، قول ابن عبدالبر: فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح ... اهـ. من «التمهيد» (1/ 30)، وهذا معناه أنَّهم لما أُوقفِوا ذكروا ثقات، أو أنها فُتِّشَت فَوُجدت أنَّها جاءت عن ثقات.
وقد قال ابن معين عندما سأله يعقوب بن شيبة: متى يكون الرجل معروفاً، إذا روى عنه كم؟ قال: إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي وهؤلاء أهل العلم، فهو غير مجهول ... ، اهـ من شرح علل الترمذي» (1/ 377).
وقد صرح الشافعي بأنه لا يروى إلا عمن عرف، انظر «المعرفة» للبيهقي (1/ 81) والكفاية للخطيب (ص:210).
وهو القائل يرحمه الله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى أهل السنة، فيُؤْخَذ حديثهم، ويُنْظَر إلى أهل البدع، فلا يُؤْخَذ حديثهم، اهـ، من «مقدمة مسلم» (1/ 44).
وهو القائل: إنّ هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، وقد عدّه غير واحد بأنّه أول من انتقى وانتقد، انظر «شرح علل الترمذي» (1/ 355).
- محمد بن عبدالرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشي العامري أبو الحارث المدني:
جاء في «تهذيب التهذيب» (9/ 304 - 305) قال ابن معين: ابن أبي ذئب ثقة، وكل من روى عنه ابن أبي ذئب ثقة، إلا أبا جابر البياضي، وكل من روى عنه مالك ثقة، إلا عبدالكريم أبا أمية، وقال أبو داود: سمعت أحمد بن صالح يقول: شيوخ ابن أبي ذئب كلهم ثقات، إلا البياضي، اهـ.(1/111)
إلا أنّهما خولفا في ذلك، فقد قال أحمد: ابن أبي ذئب كان يُعدّ صدوقاً أفضل من مالك، إلا أنَّ مالكاً أشد تنقية للرجال منه، كان أبن أبي ذئب لا يبالي عمن يحدث، اهـ. من «تهذيب التهذيب» (9/ 304) وانظره في «سؤالات أبي داود لأحمد» (ص:218 - 219)، وفي «تهذيب التهذيب» (9/ 307) قال الخليلي: ثقة أثنى عليه مالك، فقيه من أئمة أهل المدينة، حديثه مخرج في الصحيح، إذا روى عن الثقات، فشيوخه شيوخ مالك، لكنّه قد يروي عن الضعفاء، اهـ.
وقول الخليلي: فشيوخه شيوخ مالك ... إلخ يدل على أنّ ابن أبي ذئب كان أحياناً يحدث عن الضعفاء، وهذا قريب من قول يحيى وأحمد بن صالح، فإن أنكر شيخ عنده هو البياضي، ولا يمنع أن يكون عنده آخرون متكلَّم فيهم، شأنه في ذلك شأن غيره، وعلى هذا فإدخاله هنا عندي أولى من إدخاله فيمن لا ينتقون، ويُحمل قول أحمد على ما قال الخليلي، أو لعل أحمد رأى روايته عن البياضي، فقال ما قال، والله أعلم.
- محمد بن المنكدر بن عبدالله بن الهدير أبو عبدالله التيمي:
جاء في «تهذيب التهذيب» (9/ 474 - 475): قال ابن عيينة: ما رأيت أحداً أجدر أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يُسأل عمن هو، من ابن المنكدر، قال الحافظ: يعني لتحريه، اهـ.
يعني أن طلب الإسناد من الدين، لكن إذا كان الشيخ الذي يحدث ناقداً بصيراً، وعُلم من حاله الانتقاء، فإنه يكفي السامع مؤنة النظر فيمن فوقه، والله تعالى أعلم.
- محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب الزهري أبوبكر المدني:
جاء في «تهذيب التهذيب» (12/ 5) ترجمة أبي الأحوص مولى بني ليث:
روى عنه الزهري وحده، وقال الدوري عن ابن معين: ليس بشيء، قال الحافظ: قلت: قال ابن عبدالبر: قد تناقض ابن معين في هذا، فإنَّه سئل عن ابن أكيمة، وقيل له: إنَّه لم يرو عنه غير ابن شهاب، فقال: يكفيه قول ابن شهاب: حدثني ابن أكيمة، فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص، اهـ.(1/112)
وفي «تهذيب التهذيب» (7/ 411) ترجمة عمارة بن أكيمة الليثي، قال ابن عبدالبر في باب: من لم تشتهر عنه الرواية، واحتُملت روايته لرواية الثقات عنه، ولم يغمز: ابن أكيمة الليثي، قال يحيى بن معين: كفاك قول الزهري: سمعت ابن أكيمة يحدث عن سعيد بن المسيب ... ، اهـ.
وفي «الرسالة» للشافعي (ص:469 - 470) قال: وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير (1) وثقة الرجال، إنما يُسمّي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم خيار التابعين، ولا نعلم محدثاً يُسمِّي أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه ابن شهاب، فأنَّى تُراه أُتِي في قبوله عن سليمان بن أرقم؟ رآه رجلاًمن أهل المروءة والعقل، فقبل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه: إما لأنَّه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه عنه، فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان، مع ما وصف به ابن شهاب، لم يُؤمن مثل هذا على غيره، اهـ.
وقال ابن المبارك: حديث الزهري عندنا كأخذ باليد، اهـ من «الجرح والتعديل» (1/ 274) فهذا يدل على انتقاء الزهري، لكن يرد على ذلك أن البيهقي ذكر في «المعرفة» (1/ 81) أن الشافعي قال: قال سفيان: فقال سعد بن إبراهيم للزهري: من أبو الأحوص – أي: الذي يروي عنه الزهري حديثاً في الصلاة – كالمغضب حين حدث الزهري عن رجل مجهول لا يعرفه، فقال له الزهري: أما رأيت الشيخ الذي كان يصلي في الروضة مولى بني غفار، فجعل الزهري ينعته له، وسعد لا يعرفه.
قال البيهقي: وإنّما أراد الشافعي من هذا الحديث: مسألة سعد بن إبراهيم عن أبي الأحوص، وأنَّه لم يكتفِ في معرفته برواية الزهري عنه، اهـ.
__________
(1) وفي حاشية (3): «التخيير» بالخاء المعجمة، واضحة النقط، في الأصل ومسخة ابن جماعة، يعني: في اختيار الثقات الذين يروي عنهم ... اهـ.(1/113)
وفي «مناقب الشافعي» لابن أبي حاتم (ص:82) ساق سنده إلى أحمد بن أبي سريج، قال: سمعت الشافعي يقول: يقولون: يُحابي، فلو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء، وذلك أنّا نجده روى عن سليمان بن أرقم، اهـ.
وقد عُدَّ الزهري من المدلسين، والمدلسون في الغالب لا ينتقون، ويروون عن كل أحد، كما قال ابن حبان في «المجروحين» (1/ 92) في الجنس الثالث من أحاديث الثقات التي لا يجوز الاحتجاج بها.
وفي «تهذيب التهذيب» (9/ 451) ترجمة الزهري: وقال أحمد بن سنان: كان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح، ويقول: هؤلاء قوم حفاظ، كانوا إذا سمعوا الشيء علقوه، اهـ أي يعلق بذهنهم، ثم لا يذكرون من حدثهم بذلك، ويظنونه من حديثهم، فيرسلونه، وهذا لا يلزم منه ضعف الشيخ الذي ذاكرهم بهذا الحديث، وجاء في «المعرفة والتاريخ» للفسوي (1/ 686): سمعت جعفر بن عبدالواحد الهاشمي، يقول لأحمد بن صالح: قال يحيى بن سعيد، مرسل الزهري شبه لا شيء، فغضب أحمد، وقال: ما ليحيى ومعرفة علم الزهري، ليس كما قال يحيى، اهـ.
فالذي يظهر من مجموع هذا أن الزهري ينتقي فيمن يُظهر من المشايخ – غالباً – لا فيمن يُسقطهم إرسالاً أو تدليساً، وقد يسقط غير الضعيف – أيضاً -، والله أعلم.
- محمد بن الوليد بن عامر الزُّبَيْدي أو الهُدْيْل الحمصي:
قال أحمد: كان لا يأخذ إلا عن الثقات، اهـ من «تهذيب التهذيب» (9/ 503).
- محمد بن يحيى بن عبدالله بن خالد بن فارس الذهلي النيسابوري:
قال أبو قريش محمد بن جمعة: كنت في مجلس الصاغاني فحدث عن ابن حميد، فقلت: تحدث عن ابن حميد، فقال: وما لي لا أحدث عنه، وقد حدث عنه أحمد ويحيى، قال: وقلت لمحمد بن يحيى الذهلي: ما تقول في محمد بن حميد؟ قال: ألا تراني هوذا أحدث عنه؟! اهـ من «تهذيب التهذيب» (9/ 128) ترجمة محمد بن حميد الرازي.(1/114)
فهذا يدل على أنَّ الذهلي ينتقي، وأنَّه لو كان الرازي عنده ليس أهلاً للرواية عنه، لما روى عنه، هذا مع أن الرازي فيه كلام شديد، والله أعلم.
- مسلم بن الحجاج القشيري أبو الحسين النيسابوري:
أما عن انتقائه في «الصحيح» فمشهور، وقد ترجم الذهبي لسعيد بن عبدالجبار القرشي الكرابيسي في «الميزان» (2/ 147) فقال: شيخُ مسلمٍ، فثقة، اهـ.
وأما بقية كتبه ورواياته؛ فالظن بمسلم أنه ينتقي لشهرته في باب النقد، وسرده في مقدمة «الصحيح» روايات عن العلماء في ذم الرواية عن الضعفاء، وما كان لِيَذْكر ذلك ثم يخالفه، وإن كان في شيوخه من لا يُرْتَضَى، فله أسباب في الرواية عنه كغيره، والله أعلم.
- منصور بن المعتمر بن عبدالله السلمي أبو عتَّاب الكوفي:
جاء في «سؤالات الآجري لأبي داود» (1/ 185) برقم (131): سئل أبو داود عن جَهْم أي ابن دينار عن إبراهيم، فقال: روى منصور عن جهم، وروى عنه أشعث بن سوار، فقلت: هو من أصحاب إبراهيم؟ فقال: لا أدري، منصور لا يروي إلا عن ثقة، اهـ، وانظر «تهذيب التهذيب» (10/ 313) ترجمة منصور.
- موسى بن هارون الحمال:
قال ابن عدي: كان عالماً بعالي الحديث، متوقِّ، ولم يحدث إلا عن ثقة، اهـ. من «الكامل» (1/ 146).
- هشيم بن بشير السلمي:
ذكره قلعجي في مقدمة «الضعفاء الكبير» للعقيلي (1/ 28) فقال: هشيم بن بشير الذي كان متثبتاً، لا يروي إلا عمن ثبتت لديه عدالته، اهـ، ولم أقف على من صرح بذلك قبله، فينظر.
أضف إلى ذلك أن هشيماً مدلس، والمدلسون غالباً لا ينتقون، والله أعلم.
- الهيثم بن جميل البغدادي أبو سهل:(1/115)
قال عبدالله بن أحمد عن أبيه: كان أصحاب الحديث ببغداد: أبو كامل وأبو سلمة الخزاعي والهيثم بن جميل، وكان الهيثم أحفظهم، وأبو كامل أتقنهم، وحكى أبو طالب عن أحمد نحوه، وزاد: لم يكونوا يحملون عن كل واحد، ولم يكتبوا إلا عن الثقات ... ، اهـ من «تهذيب التهذيب» (10/ 184) ترجمة مظفر بن مدرك الخراساني أبي كامل الحافظ.
- وهيب بن خالد بن عجلان البصري أبوبكر:
قال معاوية بن صالح بن أبي عبيدالله الدمشقي: قلت ليحيى بن معين: من أثبت شيوخ البصريين؟ قال: وهيب بن خالد، مع جماعة سماهم، وقال أبو حاتم: ما أنقى حديث وهيب، لا تكاد تجده يحدث عن الضعفاء، وهو الرابع من حفاظ البصرة، وهو ثقة، ويقال: إنَّه لم يكن بعد شعبة أعلم بالرجال منه، اهـ من «الجرح والتعديل» (9/ 35) ترجمة وهيب بن خالد.
ومما يدل على تحريه: ما جاء في «الكامل) (7/ 2570) ترجمة هشام بن حسان القردوسي: قال وهيب: قال لي سفيان الثوري: أفِدْني عن هشام بن حسان، فقلت: لا أستحل ذاك، ولكن أحدثك عن أيوب، فجعلت أحدثه عن أيوب، وهو يسأل عن هشام، اهـ، وانظر «تهذيب التهذيب» (3611).
- يحيى بن سعيد بن فروخ القطان البصري أبو سعيد الإمام الحافظ:
قال سفيان: يحيى بن سعيد يريد شقيقاً عن عبدالله، قال أبو محمد – وهو ابن أبي حاتم – يعني: أنَّه لا يرضى إلا برواية الحفاظ المتقنين، اهـ من «الجرح والتعديل» (1/ 233).
وقال البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 202): ويحيى بن سعيد لا يحدث إلا عن الثقات عنده، اهـ ك/ الصلاة، ب/ الدليل على أنَّه لم يترك أصل القنوت في صلاة الصبح ...
وظاهر كلام النسائي الذي ذكره ابن عبدالبر في «التمهيد» (1/ 62 - 63) أنَّ يحيى بن سعيد ممن ينتقي، والله أعلم.
وقد قال الفلاس: قال لي يحيى بن سعيد: لا تكتب عن معتمر إلا عمن تعرف، فإنَّه يحدث عن كل، اهـ من «فتح المغيث» (2/ 43).(1/116)
وقال العجلي: بصري ثقة، نقي الحديث، كان لا يحدث إلا عن ثقة، اهـ من «تاريخ الثقات» (ص:472) برقم (1807) ترجمة يحيى بن سعيد، وانظره في «تهذيب التهذيب» (11/ 219) بلفظ، بصري ثقة في الحديث، كان لا يحدث إلا عن ثقة، اهـ، وفي «الميزان) (2/ 674) ترجمة عبدالواحد بن صفوان: حدث عنه يحيى القطان، ولولا أنّه عنده صالح الحال، لما روى. عنه. اهـ.
وقال أحمد: رحمه الله يحيى القطان، ما كان أضبطه، وأشد تفقده، كان محدثا. اهـ، من «تاريخ بغداد» (14/ 140)، وفي «سؤالات أبي داود لأحمد» (ص:198) برقم (137) قال: قلت لأحمد: إذا روى يحيى وعبدالرحمن بن مهدي عن رجل مجهول، يحتج بحديثه؟ قال: يحتج بحديثه. اهـ.
إلا أنَّ هناك من صرح بخلاف هذا في يحيى، ففي «تاريخ الدوري» (2/ 342/331): كان يحيى بن سعيد يضعف عبدالحميد بن جعفر، قال الدوري: قلت ليحيى – أي: ابن معين – قد روى عنه يحيى بن سعيد، قال: روى عنه، ويضعفه، قال يحيى: وقد كان يحيى بن سعيد يروي عن قوم ما كانوا يساوون عنده شيئاً، اهـ وانظره في «الضعفاء الكبير» للعقيلي (3/ 44) ترجمة عبدالحميد بن جعفر الأنصاري برقم (1000)، وكذا في «الكامل» لابن عدي (5/ 1955).
إلا أنَّ المشهور عن يحيى بن سعيد الانتقاء، فيحمل ذلك على الغالب، كما في حق غيره، والله أعلم.
- يحيى بن أبي كثير اليمامي الطائي مولاهم أبو نصر:
قال أبو حاتم: يحيى بن أبي كثير إمام لا يحدث إلا عن ثقة، اهـ من «الجرح والتعديل» (9/ 142)، وانظر «تهذيب التهذيب» (11/ 269) ترجمة يحيى بن أبي كثير، و «تذكرة الحفاظ» (1/ 128)، إلا أن يحيى قد عُرف بالتدليس، والمدلسون غالباً لا يدلسون إلا لشيء في مشايخهم، وقد قال أبوبكر بن أبي الأسود عن يحيى بن سعيد: مرسلات يحيى بن أبي كثير شبه الريح، اهـ. من «تهذيب التهذيب» (11/ 269).(1/117)
فهذا يدل على عدم تحريه، غير أنّ حسيناً المعلم قال: وقلنا ليحيى بن أبي كثير: هذه المرسلات عمن هي؟ قال: أترى رجلاً أخذ مداداً وصحيفة يكتب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الكذب؟ قال: فقلت له: فإذا جاء مثل هذا؛ فأخبرنا، قال: إذا قلت: بلغني فإنه من كتاب، اهـ. من «تهذيب التهذيب» (11/ 269)، فهذا يدل على أن عنده أصل التحري، ولا يمنع أن يكون ممن ينتقي – في الجملة – على ما قيل فيه، والله أعلم.
- يحيى بن معين بن عون الغَطَفاني مولاهم أبو زكريا البغدادي الإمام البارع:
في «تهذيب التهذيب» (11/ 286): قال أحمد بن علي الأبار عن ابن معين: كتبنا عن الكذابين، ثم سجّرنا بها التنور، اهـ.
وهذا معناه أنَّه لم يرو عنهم، ولا يلزم من ذلك ترك الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، لكن جاء في «اللسان» (3/ 15) ترجمة سعدان بن سعد الليثي: ... روى عنه يحيى بن معين، قال الحافظ: ويكفيه رواية ابن معين عنه، اهـ.
وهذا الأمر هو الذي يليق بمكانة هذا الإمام، ومنزلته العالية في هذا الشأن، وقد قال أبو قريش محمد بن جمعة: كنت في مجلس الصاغاني، فحدث عن ابن حميد، فقلت: تحدث عن ابن حميد؟ فقال: وما لي لا أحدث عنه، وقد حدث عنه أحمد ويحيى، اهـ من «تهذيب التهذيب» (9/ 128) ترجمة محمد بن حميد.
وهذا معناه: أنَّ من رويا عنه، فهو أهل للرواية عنه، لأنّهما لا يرويان عن ضعيف، أما محمد بن حميد؛ فحاله نسأل الله العافية.
وهذا يدل على انتقاء الصاغاني – أيضاً -، لأنَّه لم يقل لأبي قريش: الرواية عن المتكلم فيهم لا بأس بها.
- يعقوب بن سفيان الفسوي أبو يوسف:
قال عن نفسه: كتبت عن ألف شيخ وكسْر، كلّهم ثقات، ما أحد منهم اتخذه عند الله حجة إلا أحمد بن صالح بمصر، وأحمد بن حنبل بالعراق. اهـ، «تهذيب التهذيب» (1/ 40) ترجمة أحمد بن صالح المصري.(1/118)
وقوله: «حجة» أعلى من مجرد كون الراوي ثقة، أي: أنَّ الأحمدين حجة في دينهما وسمتهما، وهما كذلك في السنة والحديث وغير ذلك، إلا أنَّ ابن حنبل أجل كما لا يخفى، وانظر كلام الفسوي في «ميزان الاعتدال» (1/ 103 - 104) ترجمة أحمد بن صالح.
- أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني:
جاء في «تهذيب التهذيب» (9/ 366) ترجمة محمد بن عمر بن واقد الواقدي: قال إبراهيم بن جابر الفقيه: سمعت الصاغاني يقول: لولا أنَّه عندي ثقة ما حدثت عنه، اهـ.
وفي ترجمة محمد بن حميد في «تهذيب التهذيب» (9/ 128) ما يدل على أنَّ الصاغاني ينتقي، وقد ذكرت النص ووجهه في ترجمة يحيى بن معين، لكن يظهر أنَّ الصاغاني عنده تساهل في التوثيق، لأنَّ توثيقه لمثل الواقدي وابن حميد الرازي، في النفس منه شيء، والله أعلم.
- أبو حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي:
جاء في «الميزان» (3/ 366) ترجمة الفيض بن وثيق: قال ابن معين: كذاب خبيث، قال الذهبي: قلت: قد روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم، وهو مقارب الحال إن شاء الله، اهـ.
وأبو حاتم – يرحمه الله – قد مدح سليمان بن حرب ويحيى بن أبي كثير وغيرهما بالانتقاء، والظاهر أنَّه لا يخالف أهل العلم – الذين مدحهم بذلك – في ذلك، والله أعلم.
- أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب «السنن»:
سئل أبو داود عن سوار بن سهل، فقال: لو لم أثق به ما رويت عنه. اهـ «سؤالات الآجري» (2/ 80/1189).
وفي «تهذيب التهذيب» (2/ 344) ترجمة الحسين بن علي بن الأسود العجلي:
قال الآجري عن أبي داود: لا ألتفت إلى حكاية أراها أوهاماً. انتهى.
قال الحافظ: وهذا مما يدل على أنَّ أبا داود لم يرو عنه، فإنَّه لا يروي إلا عن ثقة عنده، اهـ، وفي (3/ 180) ترجمة داود بن أمية الأزدي، قال الحافظ: وقد تقدم أنَّ أبا داود لا يروي إلا عن ثقة، اهـ.(1/119)
وفي «نصب الراية» (1/ 199) ك/ الطهارات، ذكر الزيلعي عن ابن القطان في «الوهم والإيهام»: إسحاق بن إسماعيل، وقال: وهو شيخ لأبي داود، وأبو داود إنّما يروي عن ثقة عنده، اهـ.
وقال الذهبي في «الميزان» (1/ 35) ترجمة إبراهيم بن سعيد المدني: قلت: وله حديث واحد في الإحرام، أخرجه أبو داود، وسكت عنه، فهو مقارب الحال، اهـ.
وهذا القول من الإمام الذهبي – يرحمه الله -، أصله ما قاله أبو داود في «رسالته لأهل مكة» (ص:27 - 28) حيث قال: وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد؛ فقد بيّنته، ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض، اهـ.
وهذا لا يلزم منه ما ذهب إليه الحافظ الذهبي – يرحمه الله -، وقد فصّل الحافظ في «النكت» (1/ 440 - 441) الكلام على ما سكت عليه أبو داود، وبيَّن أنَّه قد يسكت اكتفاءً بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه، وتارة يكون لذهول منه، وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي، واتفاق الأئمة على طرح روايته ... وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه، وهو الأكثر ... اهـ.
وفي «شرح مسلم» للنووي (1/ 25) كلام بشير إلى المعنى الذي ذكره الإمام الذهبي، وقد سبق ما فيه، والله أعلم.
- أبو زرعة عبيدالله بن عبدالكريم بن يزيد بن فروخ الرازي:
ففي «لسان الميزان» (2/ 416) ترجمة داود بن حماد بن فرافصة البلخي: وعنه أبو زرعة. قال ابن القطان: حاله مجهول، قال الحافظ: قلت: بل هو ثقة، فمِنْ عادة أبي زرعة: أن لا يحدث إلا عن ثقة، اهـ.
وفي (6/ 116) ترجمة موسى بن الحكم الجرجاني: وعنه أبو زرعة الرازي، قال ابن السكن: لا يُعْرف هو ولا شيخه، ولولا أن أبا زرعة حدث عنه، لم أذكر حديثه، اهـ، وانظر «التنكيل» (ص:282، 697).
- أبو سفيان طلحة بن نافع: سبق في طلحة.
- أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة بن عبدالعزيز البغدادي:(1/120)
جاء في «تهذيب التهذيب» (10/ 184) نص عن أحمد بأنه كان لا يكتب إلا عن ثقة، وقد ذكرت النص بتمامه، في ترجمة الهيثم بن جميل البغدادي.
- أبو كامل الجحدري مظفر بن مدرك الخراساني:
سبق في ترجمة الهيثم بن جميل نص أحمد على أنَّه ممن لا يكتب إلا عن ثقة، انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 184).
- ابن حبان: سبق في محمد بن حبان.
- ابن خزيمة: سبق في محمد بن إسحاق.
- ابن ديزيل: سبق في إبراهيم بن الحسين.
- ابن أبي ذئب: سبق في محمد بن عبدالرحمن.
- ابن الشرقي: واسمه أحمد بن محمد بن الحسن أبو حامد النيسابوري:
جاء في «سؤالات السلمي للدارقطني» (ص:53) برقم (18): وسألته عن أبي حامد بن الشرقي؟ فقال: ثقة مأمون إمام، فقلت: فما تكلم فيه ابن عقدة؟ فقال: سبحانه الله، وترى يُؤثر فيه مثل كلامه، ولو كان بدل ابن عقدة يحيى بن معين؟!
قلت: وأبو علي الحافظ، كان يقول من ذلك؟ فقال: وما كان محل أبي علي – وإن كان مقدماً في الصنعة – أن يُسمع كلامه في أبي حامد رحم الله أبا حامد، فإنَّه كان صحيح الدين، صحيح الرواية، اهـ.
فقوله: «صحيح الرواية» يشير إلى الانتقاء، وإن كان ليس بلازم، إلا أن الخطيب ساق سنده في «تاريخ بغداد» (4/ 247) إلى ابن خزيمة أنَّه نظر إلى أبي حامد بن الشرقي، فقال: حياة أبي حامد تحجز بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ وهذا بنحو ما قيل في ابن معين، ورجل هذا محله يُستبعد في حقه أن يروي الكذب عن المجاهيل والهلكى، وكلام ابن خزيمة هذا يقوي أن المراد بكلام الدارقطني انتقاء ابن الشرقي، والله أعلم.
- ابن وضاح، واسمه محمد بن وضاح القرطبي:
جاء في «تهذيب التهذيب» (6/ 391) ترجمة عبدالملك بن حبيب بن سليمان الأندلس، قال الحافظ: روى عنه ابن وضاح وبقي بن مخلد، ولا يرويان إلا عن ثقة عندهما، اهـ.
- البيهقي: سبق في أحمد بن الحسين.(1/121)
- الحاكم صاحب «المستدرك» واسمه: محمد بن عبدالله أبو عبدالله النيسابوري:
قال في خطبة كتابه «المستدرك» (1/ 42) ط/ دار الكتب العلمية:
وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها، أنْ أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها، إذا لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له، فإنّهما يرحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما، ... وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات، قد احتج بمثلها الشيخان، - رضي الله عنهما – أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام: أنَّ الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة ... اهـ.
فهذا يدل على انتقاء الحاكم في رجال أسانيده في «المستدرك»، نعم لم يُوَفِّ بذلك، وقد اشتهر بتساهله في هذا الأمر، لكن لا يمنع ذلك من إدراجه فيمن ينتقي، وأن يعامل بما يعاملون به، والله أعلم.
- الزبيدي: سبق في محمد بن الوليد.
- الزهري: سبق في محمد بن مسلم.
- الشعبي: سبق في عامر بن شراحبيل.
- الصاغاني: سبق في أبي بكر محمد بن إسحاق.
- الطبري: سبق في محمد بن جرير.
- النسائي: سبق في أحمد بن شعيب.
س 209: كيف نعرف أن الراوي من الذين ينتقون في مشايخهم؟
ج 209: السبيل إلى ذلك بأمور، منها:
1 – أن ينص أحد العلماء على ذلك، أو أن الراوي يصرح بذلك.
2 – أن يوصف بعبارة تدل على ذلك، كأن يقال فيه:
نظيف الإسناد، أو نفي الإسناد والرواية، أو جيد الإسناد وصحيحه، وهذا اللفظ فيه احتمال، لأنَّه قد يُطلق على من يتحرى في التحمل، ويُعبَّر عنه أحياناً بأنَّه جيد الأخذ، وكذلك قولهم: فلان إسناد، أو ما كنا نقول له: عمن؟ أو فلان كفاك مؤنة من فوقه، أو كان لا يدلس، إذا لم يكن المقصود بذلك رد تهمة التدليس عنه فقط. ومن نظر في كتب الجرح والتعديل، وفي التراجم التي ذكرتها في السؤال السابق؛ ظهرت له عبارات كثيرة تدل على ذلك.(1/122)
3 – قد يُسَأل أحدُهم عن راوٍ، فيجيب المسئول بأنَّه ليس على شرطك، أن ليس من بابتك، أو ليس ممن تريد – أي لضعفه – فهذا يدل على أن السائل ممن ينتقي، كما جاء في «الجرح والتعديل» (8/ 31) ترجمة محمد بن عمرو بن علقمة، قال علي بن المديني: قلت ليحيى: محمد بن عمرو كيف هو؟ قال: ليس ممن تريد، كان يقول: أشياخنا أبو سلمة ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب ... ، اهـ. فإذا كان ينتقي في الطبقات العليا، فمن باب أولى أنَّه ينتقي في مشايخه.
4 – إذا كان أحدهم يذم الراوي لروايته عن كل أحد، أو يمدح الراوي لتحريه في الرواية عن الثقات، فإن هذا يشير إلى انتقاء المتكلم، ما لم نقف على خلاف ذلك.
وعلى كل حال فمن تأمل في بعض كلام أهل العلم؛ ظهر له ما يدل على ذلك، والله – تعالى – أعلم.
س 210: في بعض التراجم نرى الأئمة يمدحون بعض الرواة بأنهم لا يروون إلا عن الثقات، فما هو وجه المدح بذلك؟
ج 210: الراوي إذا وصِف بأنَّه ينتقي في مشايخه، أو أنَّه لا يروي إلا عن ثقة، دل ذلك على أمرين:
الأول: أنَّ الموصوف بذلك من أئمة الجرح والتعديل، وأنَّه ممن يعرف مراتب الرواة ومنازلهم، فيعرف الثقة المقبول، من الضعيف أو المجهول، ولا شك أن هذه منزلة رفيعة، لا ينالها إلا من لازم الطلب، وكان حِلْساً من أحلاس الحديث، ورحل وجمع وجرّح وعدّل، وصحح وعلل، ولو أنَّه جرّح وعدَّل قبل أن يتأهل لذلك؛ لأنكروا عليه ذلك.
الثاني: أنَّ هذا الوصف يدل على أن الراوي ورع في الحديث، لأنَّ الغالب على المحدثين أنَّهم يحبون العلو في الإسناد – مثلاً – فلو كان عند الموصوف بذلك حديث عالٍ، لكنّه عن شيخ ضعيف، فإن أراد الالتزام بشرطه، لزمه أن ينزل في الإسناد، ويسمعه من شيخ ثقة عن ذاك الضعيف، ليسْلم له شرطُه، كما كان مالك يفعل ذلك.(1/123)
وأيضاً فالمحدثون يحبون الاستكثار في الروايات، وإذا جَمَعَتْهم مجالس المذاكرة؛ أحب الواحد منهم أن يأتي بغرائب في الأبواب وعن الشيوخ، لا يعرفها من يذاكره، فإذا كانت هذه الفوائد عنده عن قوم ضعاف، حملَ المحدثَ ورعُه على عدم المذاكرة بتلك الأحاديث.
وكذلك إذا صنف الإمام منهم كتاباً، واحتاج أن يذكر الأحاديث في الأبواب، وكان عنده حديث من طريق رجل ضعيف، فإنه ينظر، فإن وجد ما يسد مسدّه من غير طريق الضعيف، وإلا ترك الباب، فهذا يدل على الورع والسماحة في الحديث، وقد كان عند النسائي من حديث ابن لهيعة حديث كثير، إلا أنه لم يحتج إليه في التصنيف، وذلك لورع النسائي وسعة علمه، وقد جاء في «النكت على ابن الصلاح» (1/ 483): قال الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر شيخ الدارقطني: من يصبر على ما يصبر عليه النسائي، كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة، فما حدث منها بشيء، قال الحافظ: قلت: وكان عنده عالياً عن قتيبة، ولم يحدث به لا في «السنن» ولا في غيرها، اهـ.
وانظر ما قاله أبو طالب – بالسند إليه – في «شروط الأئمة الستة» للمقدسي (ص23).
س 211: من هم الرواة الذين وُصفوا بأنهم يروون عن كل أحد، ولا يتحرزون من الرواية عن الضعفاء والمجهولين؟
ج 211: لا شك أن السبيل إلى استيعاب هؤلاء، هو سعة الاطلاع في كتب التراجم والعلل والتخاريج، وقد يسّر الله بجمع عدد من هذا الصنف، ومن زاد اطلاعه، زاد له عددهم، والله أعلم.
وهاك أسماءهم مرتبة على حروف المعجم، ليسهل الرجوع إليها، مع ذكر الدليل على إدخال الراوي في هؤلاء، وقد أحتاجُ إلى الترجيح في بعض الرواة عند الاختلاف، والله الكريم أسألُ العون على السداد.
- أحمد بن صالح السواق المكي:
جاء في «الجرح والتعديل» (2/ 56) و «تهذيب التهذيب» (1/ 43):
قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه، فقال: هو صدوق، ولكن يحدث عن المجهولين، ويحدث عن الضعفاء، اهـ.(1/124)
- أحمد بن محمد بن سعيد، المعروف بابن عقدة، أبو العباس الكوفي:
قال الحافظ الذهبي في «النبلاء» (15/ 142) وكتب عمن دب ودرج من الكبار والصغار والمجاهيل، وجمع الغث إلى السمين، والخرز إلى الدُّر الثمين ... ، اهـ، وأمْرُ ابن عقيدة في تلقينه الشيوخ، وروايته عنهم ما يعلم أنَّه ليس من حديثهم، أمْرٌ مشهور عند أهل العلم، وكان على سعة حفظه، لا يتدين بحديثه، والله المستعان.
- إسماعيل بن عيّاش بن سُليم العنسي أبو عتبة الحمصي:
قال أحمد: سمعت إسماعيل بن عياش يروي عن كل ضرب، اهـ من «المجروحين» (1/ 125) ترجمة إسماعيل بن عياش، وفي «الكامل» (2/ 506) ترجمة بقية بن الوليد، قال ابن معين: علي بن ثابت وإسماعيل بن عياش وبقية ومروان بن معاوية وزيد بن حُباب ثقات في أنفسهم، إلا أنَّهم يحدثون عن الكل، ويأتون بالعجائب، أو كما قال، اهـ.
وسيأتي كلام أبي مسهر في ترجمة بقية – إن شاء الله تعالى -.
- بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي أبو يُحْمِد:
سبق قول ابن معين في ترجمة إسماعيل بن عياش، فارجع إليه، وقال ابن عدي: وسمعت أبا عروبة يقول: عثمان فينا كبقية في أهل الشام، بقية يروي عن المجهولين، وكذلك عثمان يروي عن المجهولين، وتميم – أي المترجم له في «الكامل» – مجهول، اهـ من «الكامل» (2/ 515) ترجمة تميم بن خرشف، وانظر (5/ 1821) ترجمة عثمان بن عبدالرحمن الطرائفي، وقال عبدالله بن المبارك: بقية صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر، اهـ. من «مقدمة صحيح مسلم» (1/ 57) ب/ الكشف عن معايب رواة الحديث ...
وقد قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (1/ 38) ك/ الطهارة، ب/ بيان النجاسات والماء النجس: واتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين واهية اهـ وقال الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص:173) برقم (311):(1/125)
سألت أبا مسهر عن إسماعيل بن عياش وبقية، فقال: كلٌّ كان يأخذ عن غير ثقة، فإذا أخذت حديثه عن الثقات، فهو ثقة، أما إسماعيل بين عياش: فقلت لأبي اليمان: ما أشبه حديثه بثياب سابور، يرقم على الثوب المائة، ولعل شراءه دون عشرة، قال: كان من أروى الناس عن الكذابين، وهو في حديث الثقات من الشاميين أحمدُ منه في حديث غيرهم، وأما أبو يُحْمِد: فرحمه الله وغفر له، ما كان يبالي إذا وجد خرافة عمن يأخذه، فأما حديثه عن الثقات، فلا بأس به، اهـ.
وقال: مضر بن محمد الأسدي: سألت يحيى بن معين عن بقية؟ فقال: ثقة إذا حدث عن المعروفين، ولكن له مشايخ لا يُدرى من هم، اهـ. من «الميزان» (1/ 333) ترجمة بقية.
وقال يعقوب الفسوي: وبقية يُذْكر بحفظ، إلا أنَّه يشتهي المُلَح والطرائف من الحديث، فيروي عن الضعفاء، اهـ من «الميزان» (1/ 338) ترجمة بقية.
وقال الذهبي في «الميزان» (1/ 322) ترجمة ضبارة بن مالك: شيخ لبقية، وإلى جهالة شيوخه المنتهى، اهـ، وقال في (3/ 127) ترجمة علي بن زُبَيْد: شيخ لبقية، لا يُدرى من هو، كَدَأْب بقية في الأخذ عمن دب ودرج، اهـ.
وفي (4/ 436) ترجمة يزيد بن عوف: من أشياخ بقية الذي لا يدري من هم، اهـ، وفي «تاريخ دمشق» (10/ 338) قال أبو زرعة: بقية عجب، ثم قال: إذا روى عن الثقات فهو ثقة ... ثم قال: فأمّا في المجهولين؛ فيحدث عن قوم لا يُعرفون ولا يُضبطون، اهـ.
وفي (10/ 339) قال ابن معين: كان يحدث عن الضعفاء، بمائة حديث، قبل أن يحدث عن أُحد من الثقات ... ، اهـ، وانظر ترجمة بقية في «تاريخ دمشق» و «الجرح والتعديل» وغيرهما، وانظر «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص:106) النوع السادس والعشرين في معرفة التدليس، وعلى كل حال: فأمر بقية في التدليس وعدم التحري أشهر من نار على علم.
- بكر بن خنيس الكوفي العابد: قال الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص:108) برقم (168) كان يروي كلَّ منكر عن كل منكر اهـ.(1/126)
وهذا يدل على روايته عن المجاهيل والهلكى، حتى تكلم عنه ابن حبان – فأفرط كما قال الحافظ ابن حجر – فقال: يروي عن البصريين والكوفيين أشياء موضوعة، يسبق إلى القلب أنّه المتعمد لها اهـ. والرجل له أوهام، والله أعلم.
ومما يدل على عدم انتقاء بكر بن خنيس؛ قول أبي حاتم: كان رجلاً صالحاً غِرّاً، وليس هو بقوي في الحديث اهـ. «الجرح والتعديل» (2/ 384).
- الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري الإمام الزاهد:
جاء في «سنن الدارقطني» (1/ 171 - 172): عن محمد بن سيرين – وكان عالماً بأبي العالية وبالحسن – فقال: لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن أخذا ... وعن المديني قال: سمعت جريراً، وذكر عن رجل عن عاصم، قال لي ابن سيرين، ما حدثتني؛ فلا تحدثني عن رجلين من أهل البصرة: عن أبي العالية والحسن؛ فإنَّهما كانا لا يباليان عمن أخذا حديثهما ... وساق سنده عن ابن عون عن محمد بن سيرين، قال: كان أربعة يُصَدِّقون من نحدثهم، ولا يبالون ممن يسمعون الحديث: الحسن وأبو العالية وحميد بن هلال وداود بن أبي هند ... اهـ.
وفي «تهذيب التهذيب» (1/ 347) ترجمة أسيد بن المشمس بن معاوية التميمي: ذكره ابن المديني في المجهولين الذين روى عنهم الحسن البصري، اهـ.
إلا أنَّ ابن معين ذكره بخلاف ذلك، فقال: إذا روى الحسن البصري عن رحل فسماه، فهو ثقة يُحتج بحديثه، اهمن «تهذيب التهذيب» (1/ 347).
ووصفه أحمد بأنَّه يأخذ عن كل أحد، كما سيأتي – إن شاء الله تعالى – في ترجمة عطاء بن أبي رباح، وهذا هو المعتمد في أمره، والله أعلم.
- حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي أبو عمر الكوفي:
جاء في «تهذيب التهذيب» (1/ 491) ترجمة بكير ن عامر البجلي:
قيل ليحيى بن سعيد: ما تقول في بكير بن عامر؟ فقال: حفص بن غياث تركه، وحسْبه إذا تركه حفص، كان حفص يروي عن كل أحد اهـ.
- حميد بن هلال الأودي أبو نصر البصري:(1/127)
وصفه بذلك ابن سيرين، وقد مضى قوله في ترجمة الحسن بن أبي الحسن البصري.
- داود بن أبي هند القشيري مولاهم أبو بكر – أو أبو محمد- البصري:
وصفه بذلك ابن سيرين وقد مضى قوله في ترجمة الحسن بن أبي الحسن البصري، لكن جاء عن العجلي خلاف هذا، ففي «تاريخ الثقات» (ص:148) برقم (400): ثقة جيد الإسناد، رفيع، وكان خياطاً، وكان رجلاً صالحاً، ثقة حسن الإسناد اهـ.
فإن كان المرادُ بجودة الإسناد وحسنه عُلُوَّهُ، فليس في هذا ما يعارض قول ابن سيرين، وإن كان المراد بذلك أنَّه نظيف الإسناد من الرواية عن الضعفاء، أو رواية الشواذ والمناكير، ففي هذا معارضة لما قال ابن سيرين، وإن كان ولا بد من ترجيح؛ فقول ابن سيرين أولى؛ لأنَّ المعاصر أولى في النقد من المتأخر، وناهيك بابن سيرين جلالة في نقاوة رجاله، وسبقه للتفتيش على الرواة، والله أعلم.
- رشدين بن سعد بن مفلح المهري أبو الحجاج المصري:
قال العقيلي: حدثني محمد بن عبدالرحمن: أنا المهري البصري عبدالملك بن عبدالحميد الميموني قال: سمعت (أبا) عبدالله يقول: رشدين ليس يبالي عمن روى، ولكنه رجل صالح، يوثقه هيثم بن خارجة، وكان في المجلس، فتبسم من ذلك أبو عبدالله اهمن «الضعفاء الكبير» (2/ 67) ترجمة رشدين.
- رفيع بن مهران: يأتي في أبي العالية.
- الزبير بن بكار بن عبدالله بن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير العوام الأسدي المدني أبو عبدالله قاضي مكة:
قال أحمد بن علي السليماني في «كتاب الضعفاء» – له -: كان منكر الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا جرح مردود، ولعله استنكر إكثاره عن الضعفاء: مثل محمد بن الحسن بن زبالة وعمر بن أبي بكر المؤملي وعامر بن صالح الزبيري وغيرهم، فإن في كتاب النسب عن هؤلاء أشياء كثيرة منكرة اهـ من «تهذيب التهذيب» (3/ 313) ترجمة الزبير بن بكار.
- زيد بن الحباب أبو الحسين العكلي، أصله من خراسان، وكان بالكوفة:(1/128)
وصفه بذلك ابن معين، وقد مضى قوله في ترجمة إسماعيل بن عياش.
- سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبدالله الكوفي – يرحمه الله:
وصفه بذلك ابن حبان في «المجروحين» (1/ 209) ترجمة جابر الجعفي، وقد مضى النص بتمامه في السؤال (208) عند الكلام على ترجمة شعبة بن الحجاج، فارجع إليه.
وقال الجوزجاني في «أحوال الرجال» (ص:100) برقم (150) ترجمة عثمان البُرِّي:
كذاب، كذبه الثوري على سهولته اهـ.
فإن أراد بذلك سهولة الثوري في الرواية فذاك، وإن أراد سهولته في النقد والكلام على الرواة – ولعله الأظهر – فليس فيه دلالة كافية على المراد.
وقال شعبة: سفيان ثقة، يروي عن الكذابين اهـ من «الكفاية» (ص:154) ب/ ذكر الحجة على أن رواية الثقة عن غيره ليست تعديلاً له، وانظر «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص:106) النوع السادس والعشرون في معرفة التدليس.
وقال النسائي: .... والثوري إمام، إلا أنه يروي عن الضعفاء اهـ من «التمهيد» (1/ 62 - 63).
- سليمان بن بنت شرحبيل، وهو ابن عبدالرحمن بن عيسى بن ميمون التميمي الدمشقي أبو أيوب.
قال أبو حاتم: سليمان بن بنت شرحبيل: صدوق مستقيم الحديث، ولكنه أروى الناس عن الضعفاء، والمجهولين، وكان عندي في حد لو أنّ رجلاً وضع له حديثاً لم يفهم، كان لا يميز اهـ. من «الجرح والتعديل» (4/ 129) ترجمة سليمان بن بنت شرحبيل.
وقال ابن حبان في «الثقات» (8/ 278): يعتبر حديثه إذا روى عن الثقات المشاهير، فأمّا روايته عن الضعفاء والمجاهيل، ففيها مناكير كثيرة، لا اعتبار بها .... اهـ.
وفي «سؤالات الحاكم للدارقطني» (ص:217 - 218) برقم (339): قلت: فسليمان بن بنت شرحبيل؟ قال: ثقة، قلت: أليس عنده مناكير؟ قال: يحدث بها عن قوم ضعفاء، فأمّا هو فهو ثقة اهـ.(1/129)
وقد ذكر ذلك الحافظ الذهبي في «النبلاء» (11/ 138) ثم قال: قال ابن جوصاء: سمعت إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، يقول، كنّا عند سليمان بن عبدالرحمن الدمشقي، فلم يأذن للناس ثلاثة أيام، فلما دخلنا عليه، واستزدناه، قال: بلغني ورود هذا الغلام الرازي – يعني: أبا زرعة – فدرست للالتقاء به ثلاثمائة ألف حديث.
قال الذهبي: هو في نفسه صدوق، لكنّه لهج برواية الغرائب عن المجاهيل والضعفاء اهـ. وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 207 - 208) ترجمة سليمان هذا.
- سماك بن حرب بن أوس بن خالد الذهلي البكري الكوفي أبو المغيرة.
جاء في «شرح علل الترمذي» (1/ 377 - 378): وقال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: متى يكون الرجل معروفاً؛ إذا روى عن كم؟ قال: إذا روى عن الرجل مثل ابن سيرين والشعبي وهؤلاء أهل العلم، فهو غير مجهول، قلت: فإذا روى عن الرجل مثل سماك بن حرب وأبي إسحاق؟ قال: هؤلاء يروون عن مجهولين اهـ.
- عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي: يأتي في أبي القاسم البغوي.
- عبدالله بن محمد بن عبيد: يأتي في ابن أبي الدنيا.
- عبدالله بن مسلمة بن قعنب القعنبي أبو عبدالرحمن البصري:
جاء في «الكامل» لابن عدي (2/ 499) ترجمة بهلول بن راشد: قال ابن عدي: وبهلول بن راشد هذا، قد روى عنه القعنبي غير حديث، عن يونس عن الزهري، وليس بذلك المعروف، والقعنبي مديني الأصل، سكن البصرة روى عن قوم من أهل المدينة ليسوا هم بمعروفين، والقعنبي يحدث عن جماعة مثل بهلول، مجهولين من أهل المدينة، ولا يحدث عنهم غيره اهـ وفي (3/ 1306) ترجمة سليط بن مسلم، ساق سنده إلى أحمد: أنه سئل عن سليط بن مسلم، روى عنه القعنبي؟ قال: لا أعرفه، وهذا الذي قال أحمد: أن سليطاً لا يعرفه، وأنا – أيضاً – لا أعرفه، والقعنبي روى عن جماعة من أهل المدينة وغيرهم ممن لا يعرفون، .... اهـ.
- عبدالله بن يزيد القرشي العدوي أبو عبدالرحمن المقريُ:(1/130)
جاء في «الكامل» لابن عدي (7/ 2475) ترجمة أبي حنيفة النعمان بن ثابت، قال ابن عدي: حدثنا عبدالملك ثنا يحيى بن عبدك، قال: سمعت المقرئ يقول: حدثنا أبو حنيفة، وكان مرجئياً؟ يمد بها صوته صوتاً عالياً، قيل للمقرئ: وأنت لِم تروى عنه، وكان مرجئاً؟ قال: إني أبيع اللحم مع العظام. اهـ.
وهذا يدل على أنه يروى عمن يرضاه ومن لا يرضاه، والله أعلم.
- عبدالرحمن بن محمد بن زياد المحاربي أبو محمد الكوفي:
قال أبو حاتم: صدوق إذا حدث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة، فيفسد حديثه بروايته عن المجهولين اهـ من «الجرح والتعديل» (5/ 282).
- عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد المكي:
جاء في سؤالات أبي داود لأحمد (ص:236) برقم (237): قال: سمعت أحمد قيل له: عبدالمجيد بن عبدالعزيز، قال: كان عالماً بابن جريح، ولم يكن يبالي عمن حدّث، وله عند أهل مكة قدْر، فقيل لأحمد: هو موضع للرواية؟ قال: لا أدري، قال: وسمعت أحمد حدث عنه اهـ.
- عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح:
يأتي في ابن جريج.
- عبدالملك بن محمد:
سيأتي الكلام عليه من أبي القاسم البغوي عبدالله بن محمد.
- عثمان بن عبدالرحمن بن مسلم الحراني الطرائفي:
وصفة بذلك أبو عروبة، كما في «الكامل» (2/ 515) ترجمة تميم بن خرشق، وقد مضى في ترجمة بقية بن الوليد، فارجع إليها.
وقال الحافظ في ترجمته في «التقريب»: صدوق أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضُعِّف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نمير إلى الكذب اهـ - وقال ابن عدي: وصورة عثمان بن عبدالرحمن أنه لا بأس به، كما قال أبو عروبة، إلا أنه يحدث عن قوم مجهولين بعجائب، وتلك العجائب من جهة المجهولين ... ، اهـ من «الكامل» (5/ 1821) ترجمة عثمان هذا، وانظر كلام الذهبي في «الميزان» (3/ 45 - 46) ترجمة عثمان.
- عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم المكي:(1/131)
ساق ابن أبي حاتم سنده إلى يحيى بن سعيد القطان، قال: مرسلات مجاهد أحبُّ إليّ من مرسلات عطاء، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب اهـ من «الجرح والتعديل» (1/ 243)، وكذا أخرجه الترمذي في «العلل» انظر «شرح علل الترمذي» (1/ 274) في الكلام على الحديث المرسل. وفي «تهذيب التهذيب» (7/ 202) ترجمة عطاء، قال علي بن المديني: مرسلات مجاهد أحب إليّ من مرسلات عطاء بكثير، كان عطاء يأخذ عن كل ضرب اهـ.
وقال أحمد: مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات، ومرسلات إبراهيم لا بأس بها، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنّهما كانا يأخذان عن كل أحد. اهـ من «تهذيب التهذيب» (7/ 202).
- علي بن ثابت الجزري أبو أحمد:
وصفه بذلك ابن معين، وقد مضى في ترجمة إسماعيل بن عياش الحمصي، فارجع إليه، ومما يدل على أن المقصود من قول ابن معين هو الجزري لا الدهان: أنَّ ابن معين قال: ثقة إذا حدث عن ثقة، كما في «تهذيب التهذيب» (7/ 288)، وهذا معناه أنَّه يروى عن غير الثقات، والله أعلم.
- عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي أبو عبدالله المدني:
جاء في «تهذيب التهذيب» (8/ 49) ترجمة عمرو بن شعيب: قال أبو عمرو بن العلاء: كان يعاب على قتادة وعمرو بن شعيب: أنَّهما كانا لا يسمعان شيئاً إلا حدثا به، اهـ.
وفي (8/ 353) ترجمة قتادة: قال أبو عمرو بن العلاء: كان قتادة وعمرو بن شعيب لا يُغَثّ عليهما شيء، يأخذان عن كل أحد اهـ والغَثُّ الرديء من كل شيء كما في «اللسان» (2/ 171).
وانظر كلام أبي عمرو بن العلاء في «الضعفاء الكبير» للعقيلي (3/ 274) ترجمة عمرو بن شعيب.
- عمرو بن عبدالله السبيعي، يأتي في أبي إسحاق.
- عيسى بن موسى التميمي أبو أحمد البخاري الأزرق، المعروف بـ «غنجار»:(1/132)
قال ابن حبان في «الثقات» (8/ 492 - 493): ربّما خالف، اعتبرت حديثه بحديث الثقات، وروايته عن الأثبات مع رواية الثقات، فلم أر فيما يروي عن المتقنين شيئاً يوجب تركه، إذا بيّن السماع في خبره، لأنه كان يدلس عن الثقات ما سمع من الضعفاء عنهم، وترك الاحتجاج بما يروي عن الثقات إذا بين السماع عنهم، وأما ما روى عن المجاهيل والضعفاء والمتروكين، فإن تلك الأخبار تلزق بأولئك دونه، لا يجوز الاحتجاج بشيء منها، اهـ.
وفي «تهذيب التهذيب» (8/ 233) ذكر عنه أنه قال: ويروي عن المجاهيل والكذابين أشياء كثيرة حتى غلب على حديثه المناكير لكثرة روايته عن الضعفاء والمتروكين ... ، اهـ.
وقد نبه العلامة المعلمي في تعليقه على «الثقات» لابن حبان (8/ 493) (1) أن هذا الذي ذكره الحافظ في نسخة أُخرى «للثقات».
وقد قال الحاكم في «معرفة علوم الحديث» (ص: 106) النوع السادس والعشرين في معرفة التدليس: وعيسى بن موسى التيمي البخاري، الملقب بـ «غنجار) شيخ في نفسه ثقة مقبول، قد احتج به محمد بن إسماعيل البخاري في «الجامع الصحيح»، غير أنَّه يحدث عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين، لا يعرفون، بأحاديث مناكير، وربما توهم طالب العلم أن هذا الجرح فيه، وليس كذلك، اهـ.
- قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي أبو الخطاب البصري: سبق في ترجمة عمرو بن شعيب أن أبا عمرو بن العلاء وصفه بذلك، وفي «تهذيب التهذيب» (8/ 353) ترجمة قتادة: قال الشعبي: قتادة حاطب ليل اهـ - وانظر كلام الشعبي بنحوه في «المحدث الفاصل» (ص:417) ب/من تَجَوّز في الأخذ، وهذا هو المعتبر في حال قتادة، بخلاف ما ذهب إليه الحاكم في «المعرفة» (ص:103) من أنَّ قتادة لا يدلس إلا عمن يحتج به، ذكر ذلك في النوع السادس والعشرين، في معرفة المدلسين.
- ليث بن أبي سليم بن زُنُيم أبوبكر الأموتي الكوفي:
__________
(1) كذا ولعل الصواب: إذا لم يبين السماع عنهم، كما في «تهذيب التهذيب» (8/ 233).(1/133)
قال أبوبكر بن عياش: كان من أكثر الناس صلاة وصياماً، فإذا وقع على شيء لم يَرُدَّه اهـ من «النبلاء» (6/ 182) ترجمة الليث بن أبي سليم، وقال أبوداود: سألت يحيى عن ليث: فقال ليس به بأس، وقال: عامة شيوخه لا يعرفون، اهـ من «النبلاء» (6/ 181).
- محمد بن الأزهر الجوزجاني:
جاء في «الميزان» (3/ 467): نهى أحمد عن الكتابة عنه، لكونه يروى عن الكذابين: محمد بن مروان الكلبي وغيره اهـ.
- محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلي مولاهم المدني أبو إسماعيل:
جاء في سؤالات أبي داود لأحمد (ص:226) برقم (210) قال: سمعت أحمد قال: ابن أبي فديك لا يبالي أي شيء روى، اهـ.
- مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري أبو عبدالله الكوفي:
وصفه بذلك ابن معين، كما سبق في ترجمة إسماعيل بن عياش، وقال ابن نمير: كان مروان بن معاوية يتلقط الشيوخ من السكك، اهـ من «الجرح والتعديل» (1/ 324).
وفي «الضعفاء الكبير» للعقيلي (4/ 203) ترجمة مروان بن معاوية، قال العقيلي: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: سئل يحيى بن معين – وأنا أسمع: كيف كان مروان بن معاوية في الحديث؟ فقال: كان ثقة فيما يروى عمن يعرف، وذاك أنه كان يروى عن أقوام لا يُدْرى من هم، ويُغيِّر أسماءهم ... اهـ.
وقال الذهبي في «الميزان» (4/ 93): ثقة عالم صاحب حديث، لكن يروى عمن دب ودرج، فيُسْتأنَى في شيوخه، اهـ.
قال ابن المديني: ثقة فيما روى عن المعروفين اهـ من «الميزان» (4/ 93 - 94).
وهذا يدل على أنَّ المناكير التي توجد في حديثه من قِبَلِ مشايخه المتكلم فيهم، أو المجاهيل، لا من قبله والله أعلم.
- معتمر بن سليمان بن طرخان التميمي أبو محمد البصري:(1/134)
جاء في «الكفاية» (ص:154) ب/ ذكر الحجة على أن رواية الثقة عن غيره ليست تعديلاً له: قال عمرو بن علي: قال يحيى: لا تكتب عن معتمر، إلا عمن تعرف، فإنَّه يحدث عن كلِّ اهـ وذكر ذلك السخاوي في «فتح المغيث» (2/ 43)، إلا أن في «المحدث الفاصل» (ص:418) ب/ من تجوَّز في الأخذ، ذكر هذا النص، وجعله في «معمر) لا «معتمر»، فلا أدري أهو تصحيف، أم هو نص من يحيى في معمر أيضاً؟ ولم أر هذا النص في «تهذيب التهذيب» لا في ترجمة معتمر، ولا في ترجمة معمر، فالله أعلم.
- معمر بن راشد الأزدي أبو عروة البصري:
سكن اليمن: وأمره في هذا الباب متحمل، انظر ترجمة معتمر بن سليمان، والله أعلم.
- وثيمة بن موسى، أصله فارسي، سكن مصر:
جاء في «الضعفاء» للعقيلي: صاحب أغاليط ورواية عن كل، اهـ من كلام العقيلي (4/ 332).
- يحيى بن محمد بن صاعد: يأتي في ابن صاعد.
- يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد الليثي أبو عبدالله المدني:
في «الميزان» (4/ 430) قال الذهبي: من ثقات التابعين وعلمائهم، لم أذكره إلا لأن، أبا عبدالله بن الحذاء أورده في باب من ذُكر بجرح من رجال «الموطأ»، فلم يأتي بشيء أكثرمن قول ابن معين: يروى عن كل أحد، وما هذا بجرح، فإن الثوري كذلك يفعل، وهو حجة. اهـ.
قلت: ومراده أنه ليس بجرح في الثقات الذين يُمَيِّزون بين الرواة، وإنما يروون عن كل أحد، لنشر الأخبار في الأمصار، ومن احتاج للعمل بحديث ما فتّش في رجاله، أما من روى عن كل أحد دون تمييز، فلا شك أن هذا مما يقدح فيه، والله تعالى أعلم.
- يزيد بن هارون بن زاذان السّلمي مولاهم أبو خالد الواسطي:
قال زهير بن حرب: سمعت يحيى بن معين يقول: يزيد ليس من أصحاب الحديث، لأنَّه لا يميز، ولا يبالي عمن روى اهـ من «تهذيب التهذيب» (11/ 368) ترجمة يزيد بن هارون.(1/135)
إلا أنَّ في «اللسان» (6/ 301) ترجمة يعقوب بن إبراهيم القاضي المشهور بأبي يوسف، ما يشير إلى انتقائه، فقد قال محمود بن غيلان: قلت ليزيد بن هارون: ما تقول في أبي يوسف؟ فقال: أنا أروي عنه اهـ.
وهذا اللفظ محتمل: هل هو على سبيل الإنكار، بمعنى: وهل أنا أروي عن مثل هذا؟! أم أنَّه على سبيل الإقرار، بمعنى: ها أنذا أروي عنه، فلو لم يكن ثقة لما رويتُ عنه، والظاهر عندي المعنى الأول، فقد جاء في «اللسان» (6/ 301): وعن يزيد بن هارون: لا تحل الرواية عنه – يعني أبا يوسف ... اهـ.
وعلى كل حال فهذا يدل على انتقاء يزيد، لكن لو جمعنا بين هذا وبين كلام ابن معين: فيحمل هذا على ترك يزيد الرواية عمن اشتهر الطعن فيهم، وأنَّ يزيد لم يتحر كتحرّي غيره في الانتقاء، والله أعلم.
- يعقوب بن إبراهيم القاضي أبو يوسف:
قال ابن عدي في «الكامل» (7/ 2604): .... وليس في أصحاب الرأي أكثر حديثاً منه، إلا أنَّه يروى عن الضعفاء الكثير، مثل الحسن بن عمارة وغيره، وهو كثيراً ما يخالف أصحابه، ويتبع أهل الأثر، إذا وجد فيه خبراً مسنداً، وإذا روى عنه ثقة، ويروي هو عن ثقة، فلا بأس به وبرواياته اهـ.
وقوله الأخير يدل – أيضاً – على عدم انتقاء أبي يوسف، وانظر كلام ابن عدي في «الميزان» (4/ 447)، و «اللسان» (6/ 301).
- يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبدالملك أبو يوسف الزهري المدني:
جاء في تاريخ بغداد – (14/ 270) ترجمة يعقوب هذا، قال الدقيقي: سألت يحيى بن معين عن يعقوب بن محمد، فقال: إذا حدث عن الثقات، فهو صحيح، بخلاف ما إذا حدث عن غيرهم، وهذا يدل على عدم انتقاء يعقوب، وقد ساق الخطيب، سنده إلى أبي زكريا، قال: يعقوب بن محمد الزهري صدوق، ولكن لا يبالي عمن حدث، اهـ.
- أبو إسحاق السبيعي، واسمه عمرو بن عبدالله بن عبيد الهمداني الكوفي:
وصفه بذلك ابن معين، وقد سبق قوله في ترجمة سماك بن حرب.
- أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي:(1/136)
وصفه بذلك ابن سيرين، كما سبق في ترجمة الحسن بن أبي الحسن يسار البصري.
- أبو القاسم البغوي واسمه عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز بن المرزبان بن سابور البغدادي:
قال ابن عدي في محمد بن يونس الكديمي: وكان ابن صاعد وعبدالله بن محمد لا يمتنعان من الرواية عن كل ضعيف كتبا عنه، إلا عن الكديمي، فإنَّهما كانا لا يرويان عنه لكثرة مناكيره، ولو ذكرتُ كل ما أُنكر عليه، وادعاءه ووضعه لطال ذلك ... اهـ. من «تهذيب التهذيب» (9/ 543) إلا أنَّ العبارة في «الكامل» (6/ 2296) قد وقع فيها تصحيف، وأبدل عبدالله بن محمد، بعبدالملك بن محمد، ووصفه بأنّه شيخه، وفي علماء جرجان أبو نعيم عبدالملك بن محمد بن عدي الجرجاني، ترجمةُ الذهبي في «النبلاء» (14/ 541 - 547).
ولم يذكر أبا أحمد بن عدي من تلامذته، وذكر أبا أحمد من تلامذة أبي القاسم عبدالله بن محمد البغوي، مع أنّ ابن عدي يروي كثيراً عن عبدالملك بن محمد، فالأمر مشتبه بين عبدالله بن محمد وعبدالملك بن محمد، وعلى كل حال فكلام ابن عدي هذا يدل على أنَّ البغوي أو عبدالملك وابن صاعد – على تساهلهما في الرواية – تركا الرواية عن الكديمي، لاشتهاره في الجرح، والله أعلم.
- أبو يوسف القاضي، سبق في يعقوب بن إبراهيم.
- ابن جريج: عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح الأموي مولاهم المكي أبو الوليد:
قال مالك بن أنس: كان ابن جريج حاطب ليل ... وقال يزيد بن زريع: كان ابن جريج صاحب غثاء اهـ من «تاريخ بغداد» (10/ 404) ترجمة ابن جريج، وقد كان ابن جريج معروفاً بالتدليس، بل والتدليس عن المجروحين، فقد قال الدارقطني: تَجَنَّبْ تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة، وغيرهما، وأما ابن عيينة فكان يدلس عن الثقات، اهـ من «تهذيب التهذيب» (6/ 405) ترجمة ابن جريج، وكلام الدارقطني في سؤالات الحاكم (ص:174 - 175) برقم (265).(1/137)
- ابن أبي الدنيا: واسمه عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان أبو بكر القرشي البغدادي.
قال الذهبي في «النبلاء» (13/ 399) ترجمة ابن أبي الدنيا: وروى عن خلق كثير لا يعرفون ... وذكر أنّه لم يرحل، ثم قال: فيتعذر عليه رواية الشيء فيكتبه نازلاً وكيف اتّفق. اهـ.
- ابن صاعد: واسمه يحيى بن محمد بن صاعد بن كاتب الهاشمي البغدادي أبو محمد.
وصفه بذلك ابن عدي، وقد سبق قوله في ترجمة أبي القاسم البغوي عبدالله بن محمد.
- ابن عقدة: سبق في أحمد بن محمد بن سعيد.
- ابن أبي فديك: سبق في محمد بن إسماعيل بن مسلم.
- المقرئ: سبق في عبدالله بن يزيد.
س 212: كيف نعرف أن الراوي من الذين لا ينتقون في مشايخهم؟
ج 212: السبيل إلى ذلك بأمور، منها:
1 – أن ينص على ذلك إمام من الأئمة، أو يصرح الراوي بذلك عن نفسه، كما فعل عبدالله بن يزيد المقرئ، الذي طعن في أبي حنيفة، فلما قيل له: لم تروى عنه، وهو مرجئ قال: إني أبيع اللحم مع العظام، وقد مضى هذا في ترجمته في السؤال (211).
2 – أن يوصف الراوي بعبارات تدل على هذا المعنى، ومن نظر في كتب الجرح والتعديل، ونظر في التراجم التي ذكرتها في السؤال السابق؛ وقف على كثير من ذلك.
3 – وصف الراوي بأنه مدلس، يشير – في الغالب – إلى أنه لا ينتقي، لأن الذي يحمل المدلسين على التدليس – في غالب الأحوال – ضعف مشايخهم، وإن كان الحاكم رحمه الله قسّم المدلسين في «المعرفة» (ص: 103 - 104) وذكر أن التابعين لا يدلسون إلا عن ثقة مثلهم أو أكبر، كأبي سفيان طلحة بن نافع، وقتادة وقال: ففي هؤلاء الأئمة المذكورين بالتدليس من التابعين جماعة وأتباعهم، غير أني لم أذكرهم، فإن غرضهم من ذكر الرواية أن يدعوا إلى الله – عزّ وجلّ -، فكانوا يقولون: قال فلان، لبعض الصحابة، فأما غير التابعين فأغراضهم فيه مختلفة. اهـ.
وقد تعقبه العلائي في «جامع التحصيل» (ص:102) بالأعمش، فارجع إليه.(1/138)
4 – وصف الراوي بالشره في الرواية، وتتبع الغرائب، والاستكثار من الروايات – في الغالب – يشير إلى عدم انتقائه، لأن الشره يحمله على الرواية عن كل ضرب، بل ربما لقَّن الضعفاء أحاديث، ثم رواها عنهم، كما كان ابن عقدة يفعل.
5 – وصف الراوي بالغفلة وعدم التمييز، يشير – في الغالب – إلى عدم الانتقاء.
6 – الكذابون لا ينتقون، لأنهم يكذبون فيما ليس من حديثهم، فيدعون لقاء من لم يلقوا، وسماع ما لم يسمعوا، فكيف يُظن بهم بعد ذلك أنهم يتحرون في الرواية عن الضعفاء الذين سمعوا منهم؟! وهؤلاء لا فائدة من الاعتناء بذكرهم.
7 – وصف الراوي بأنه سليم الناحية، أو فيه سلامة أو سليم الصدر، أو أنَّه رجل صالح غِر، هذا يشير – في الغالب – إلى عدم انتقائه، وقد يُراد به قبول التلقين، أو أنَّ بعض الكذابين يُدخل عليه أحاديث، ولا يميزها.
8 – غالب من وصفوا بالعبادة – دون أن يكونوا من أهل المعرفة والعلم بالحديث – لا يُؤْمَن أمرهم من الرواية عن الضعفاء والمجاهيل وغيرهم – والله تعالى أعلم.
س 213: ماذا نستفيد من كون الراوي لم يرو عنه إلا أحد الذين عرفوا بالرواية عن كل أحد؟
ج 213: الراوي إذا روى عنه رجل ينتقي، يرفع ذلك من جهالة عينه، ويخفف أمر جهالته، كما مر ذلك، وإذا روى عنه راوٍ واحد، لم يُذكر بالانتقاء أو عدمه، فهو مجهول العين – في الغالب – وإذا انفرد بالرواية عنه من وصف بعدم التحري ازداد توغلاً في الجهالة، وعند الترجيح نقدم عليه من سبق ذكرهم، ومن نظر في كلام العلماء في شيوخ من ينتقون ومن لا ينتقون، عَلِم هذا الفارق، والله أعلم.
س 214: الموصوفون بالانتقاء وعدمه، هل هم على درجة واحدة في ذلك؟
ج 214: ليسوا سواءً، فمنهم من هو المشهور في ذلك، أي وصفه بذلك جماعة من العلماء، وحال مشايخه يدل على ذلك.
ومنهم من لم يصفه بذلك إلا النادر من العلماء.(1/139)
ومنهم من هو مختلف فيه – وإن ترجح أحد الجانبين في أمره – ولا شك أن بين هذه الأصناف فرقاً في التعامل مع شيوخهم، والله أعلم.
س 215: رجل من التابعين، روى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يسمه، مع أن التابعي قد سمع من بعض الصحابة، ولم يسمع من بعضهم، فما حكم هذه الرواية؟
ج 215: إذا روى التابعي حديثاً عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإما أن يقول: «حدثني رجل من الصحابة، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... ونحو ذلك»، وإما أن يقول: «عن رجل من الصحابة، أو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... ونحو ذلك».(1/140)
فإن صرح بالسماع – وصح السند إلى التابعي – فالسند صحيح، وإبهام الصحابي لا يضر، لأنَّ الصحابة كلهم عدول، - وإن أرغمت أنوف بعض أهل البدع المخالفين في ذلك– ولا أعرف بين أهل العلم خلافاً في ذلك، إلا في قول من يسمى هذا مرسلاً، وإن كان بعضهم يسميه مرسلاً، ثم يحتج به، وبعضهم لا يحتج به، كما في «النكت» (2/ 548، 571) لكن إذا لم يصرح التابعي باسم الصحابي، فهنا إشكال: وهو أنّنا لم نعرف عين الصحابي، لنعرف هل هو من الصحابة الذين سمع منهم التابعي، أو من الصحابة الذين لم يسمع منهم التابعي؟ وقد قال الحافظ العراقي في «التقييد والإيضاح» (ص:74) نعم، فرّق أبوبكر الصيرفي من الشافعية، في كتاب «الدلائل» بين أن يرويه التابعي عن الصحابي معنعناً، أو مع التصريح بالسماع، فقال: وإذا قال في الحديث بعض التابعين: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا يُقْبَل، لأني لا أعلم سمع التابعي من ذلك الرجل، إذ قد يحدث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل، أم لا؟ فلو علمتُ إمكانه منه، لجعلته كمدرك العصر، قال وإذا قال: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قُبِل، لأنَّ الكل عدول، قال الحافظ العراقي: انتهى كلام الصيرفي، وهو حسن متجه، وكلام من أطلق قبوله؛ محمول على هذا التفصيل، والله أعلم، اهـ ومال إلى هذا السيوطي في «ألفيّته» حيث قال:
ورجلُ من الصِّحاب وأبَى الصيرفي معنعناً ولْيُجتبى
انظر شرح «ألفية السيوطي» للشيخ علي بن آدم – حفظه الله – (1/ 141) – وقد قال بهذا التفصيل، برهان الدين الأبناسي – وهو والحافظ العراقي وُلدا في سنة واحدة، ومات قبل العراقي بأربع سنوات – في كتابه «الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح» – (1/ 151).(1/141)
وقد رد الحافظ ابن حجر ما استحسنه شيخه العراقي، كما في «النكت على ابن الصلاح» (2/ 562 - 563) فقال: فقد حكى شيخنا كلام أبي بكر الصيرفي في ذلك، وأقره، وفيه نظر، لأن التابعي إذا كان سالماً من التدليس؛ حملت عنعنته على السماع، وإن قلت: هذا إنّما يتأتى في حق كبار التابعين الذين جُل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين، فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنَّه لم يسمه، حتى يُعلم هل أدركه أم لا؟
فينقدح صحة ما قال الصيرفي.
قال الحافظ: قلت: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن به، وهي حاصلة في هذا المقام، والله أعلم، اهـ.
وقد انتصر المباركفوري في كتابه «تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام» (ص:178 - 187) لما ذهب إليه الحافظ، وحكم بصحة رواية التابعي – سواء كان صغيراً أو كبيراً – إذا روى عن أحد الصحابة، سواء بالعنعنة أو بالتصريح بالسماع، وسواء كان هذا التابعي ممن يرسل عن بعض الصحابة، أم لا، كما يظهر من الأمثلة التي ذكرها، ومن تصريحه ببعض ذلك، بشرط أن يكون التابعي غير مدلس.
والأمثلة التي ذكرها في ذلك:
1 – قول محمد بن أبي عائشة – وهو من الطبقة الرابعة في «التقريب» – عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لعلكم تقرأون والإمام يقرأ؟» ... الحديث، أخرجه أحمد (4/ 236)، (5/ 60، 81، 410)، والبيهقي في «الكبرى» (2/ 166) وفي الجزء القراءة (ص:61).
وقد صحح سنده البيهقي في «المعرفة» (2/ 54)، وحسنه الحافظ في «التلخيص» (1/ 231).
2 – ومنها ما رواه أبو داود (1/ 143/519) من طريق عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار، قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر ... الحديث.
وقد حسن سنده الحافظ في «الفتح»، وعروة من الثالثة، وممن يرسل.(1/142)
3 – ومنها ما رواه النسائي (5/ 225) وأحمد (3/ 414) عن طاوس عن رجل أدرك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الطواف صلاة» وقال الحافظ في «التلخيص» (1/ 130) هذه الرواية صحيحة ... اهـ.
4 – ومنها ما رواه الترمذي (5/ 536) من طريق جُرَيّ بن كليب النهدي عن رجل من بني سليم، فقال: عدَّهن رسول الله في يدي ... الحديث، وقال: هذا حديث حسن اهـ.
5 – ومنها ما روى مسلم (3/ 1295/1670) من طريق ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية:
قال: وإخراج مسلم لهذه الرواية؛ يكفي دليلاً على اتصال سندها اهـ.
قلت: ولم أقف على من أعلَّ هذه الرواية من الحفاظ، والله أعلم.
وزاد ابن التركماني في «الجوهر النقي» في ذيل «الكبرى» للبيهقي (1/ 83) أنَّ البخاري أخرج في «صحيحه» (7/ 421) ك/ المغازي، باب/ غزوة ذات الرقاع، من طريق صالح بن خوّات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم ذات الرقاع – وصالح بن خوات من الرابعة.
ثم قال المباركفوري: فهذه عدة روايات، رَوَى في كل منها التابعي مُعَنْعِناً عن صحابي مبهم، ولم يصرح فيها بالسماع، ومع ذلك صرح أئمة الحديث بحسنها وصحتها، وتوجد من هذا القبيل روايات كثيرة، لا نطيل بذكرها، فقد ثبت أن التابعي صغيراً كان أو كبيراً، إذا روى عن صحابي مبهم معنعناً، فتكون روايته متصلة، مثلما إذا صرح بالسماع سواء، وقول المحدثين: «جهالة اسم الصحابي لا تضر» يشمل العنعنة والتصريح.(1/143)
قال: وما ذكر من تنصيص العراقي بالفرق بين أن يصرح بالتحديث والسماع، فهو متصل، وبين أن يعنعن، فهو غير متصل، وحَمْلُه قول المحدثين على تصريح السماع والتحديث، فهذا التفريق سبق به الصيرفيُّ الشافعيُّ، وأورده العراقي، وقال: هو حسن متجه؛ ولكن لم يذهب إلى هذا التفريق أحدمنأئمة الحديث غير الصيرفي، ولا حسّنه أحد غير العراقي، ويكفي الوجهان المذكوران لإثبات عموم المحدثين لكلا النوعين، وإبطال هذا التفريق، وعدم اعتباره ... إلى أن قال:
ويظهر بطلان هذا التفريق من قول الحميدي – أيضاً -: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة، فهو حجةٌ، فإنَّه يشمل بعمومه رواية التابعي عن الصحابي معنعناً. اهـ.
وقد ذكر الزيلعي حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي أنَّه عليه السلام رأى رجلاً يصلي، وفي قدمه لمعة لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة ... أخرجه أبو داود.
قال: ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن، وقال: إنَّه مرسل، قال في «الإمام» عدم ذكر اسم الصحابي لا يجعل الحديث مرسلاً، فقد قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: إسناده جيد، قلت له: إذا قال التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آسه وسلم، ولم يسمه، أيكون الحديص صحيحاً؟ قال: نعم اهـ. من «نصب الراية» (1/ 35 - 36). وانظره في «التلخيص الحبير» (1/ 167).
فهذا الإمام أحمد صحح حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع أنَّ خالد بن معدان مشهور بالإرسال، وهو من الثالثة.
وعندما سأله الأثرم، سأله عن التابعي الذي يصرح بالسماع عن صحابي مبهم، وليس هذا محل إشكال، إنّما الإشكال إذا عنعن التابعي، إلا أنَّ تصحيحه لحديث خالد هذا – مع العنعنة – يدل على أنَّه لا يحترز بالتصريح بالسماع من العنعنة.(1/144)
وقد ذهب إلى ذلك المباركفوري في «تحقيق الكلام» (ص:185 - 186) واستدل بأنَّ أحمد يتساهل في رواية الفضائل بخلاف الأحكام والحلال والحرام، وأنَّ رواية أحمد في «المسند» لحديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يدل على تحريه فيه، وإلا لو كانت هذه الصيغة عنده لا يحتج بها، لما أخرجه في «المسند» وإلا كان متساهلاً – أيضاً – في الأحكام والحلال والحرام ... هذا ملخص ما استدل به، ولا يخلو من بحث، والله أعلم.
ومع أن كلام الصيرفي من جهة النظر له وجه، إلا أن صنيع هؤلاء العلماء الذين أخرجوا نحو هذه الأحاديث في الصحاح، أو صححوها، لا يجوز إهداره أو تجاهله، وقد وقفت على كلام للعلامة النقادة المعلمي يرحمه الله، أزال الله به كثيراً من الإشكال الذي كان في نفسي، فقد قال – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:271):(1/145)
المبحث الثالث: - أي من مباحث في الاتصال والانقطاع – لا يكفي احتمال المعاصرة، لكن إذا كان الشيخ غير مسمى، ففي كلامهم ما يدل على أنه يُحكم بالاتصال، وذلك فيما إذا جاءت الرواية عن فلان التابعي عن رجلمنأصحاب النبي، ونحو ذلك ... والفرق بين التسمية والإبهام، أن ظاهر الصيغة السماع – يعني أن قول التابعي «عن» ظاهره أنه سمع ممن فوقه، وإن لم يسمه -، والثقة إذا استعملها – أي: كلمة: «عن» -، في غير السماع؛ ينصب قرينة – أي: لتدل على عدم سماعه، كأن يقول: بلغني عن فلان مثلاً -، قال: فالمدلِّس يعتد بأنه قد عُرف منه التدليس قرينة – أي: أنَّه لا يحتاج إلى نصب قرينة حال الرواية، لعلم سامعه بأنَّه يدلس -، وأما غيره – أي: غير المدلس -، إذا سمى شيخاً، ولم يثبت عندنا معاصرته له، فمن المحتمل أنه كان معروفاً عند أصحابه، أنَّه لم يدركه، فاعتد بعلمهم بذلك قرينة، وأهل العلم كثيراً ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان من حدَّث عنهم ولم يلقهم، بل أفردوا ذلك بالتصنيف، كـ «مراسيل ابن أبي حاتم» وغيره، ولم يعتنوا بنقل عدم الإدراك؛ لكثرته، فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة، فأما إذا أبهم فلم يسم، فهذا الاحتمال منتف، لأنَّ أصحاب ذلك التابعي، لم يعرفوا عين ذلك الصحابي، فكيف يعرفون أنَّه لم يدركه، أو أنَّه لم يلقه؟ ففي هذا تنتفي القرينة، وإذا انتفت ظهر السماع، وإلا لزم التدليس، والفرضُ عدمُهُ.
ثم قال: هذا ما ظهر ليّ، وعندي فيه توقف، اهـ.(1/146)
فأنت ترى أنَّ العلامة المعلمي يرحمه الله بنى كلامه على أن الأصل في كلمة «عن» السماع، وأنَّ من ادعى أنًّ التابعي لم يسمع من هذا الصحابي المبهم؛ فعليه الدليل، حيث لم يقم التابعي دليلاً على عدم السماع لهذا الحديث، من هذا الصحابي المبهم، ولو كان التابعي لم يسمع هذا الحديث ممن أبهم من الصحابة، وأوقع غيره في ظن السماع، لكان مدلساً، والمسألة محلها فيما إذا كان التابعي ليس مدلساً، أما لو كان مدلساً، لما قبلنا منه العنعنة، وإن صرح باسم الصحابي، فكيف إذا أبهمه؟!.
وبما قرره الإمام المعلمي – يرحمه الله – يترجح ليّ أن قول التابعي – غير المدلس -: «عن رجل من الصحابة»، أنَّه لا غبار عليه، وإنّما الشأن في ثبوت ذلك إلى التابعي، وهذا مذهب أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، لما سبق من أمثلة، وبعد هذا؛ فلعل توقف المعلمي – مع ما جاء في كلامه بما يزيل كثيراً من الإشكال – من أجل ما يتمتع به تفصيلُ الصيرفي من وجاهة في النظر، لكن صنيع المحدثين مقدم على مجرد نظر غيرهم.
وقد كنت في أول بحثي لهذه المسألة، استحسنت التفرقة بين التابعي الذي عُرف بالإرسال عن الصحابة، لا سيما الصغار منهم، وبين كبار التابعين الذين جُل روايتهم عن الصحابة، فاستحسنت تصحيح رواية الكبار دون الصغار، الذين يرسلون كثيراً، حتى رأيت العلماء يصححون لمن اشتهر بالإرسال، كخالد بن معدان وغيره، ولما وقفت على كلام المعلمي انشرح صدري إلى حد كبير – لما ذهب إليه الحافظ ابن حجر وغيره من العلماء، والله أعلم.
س 216: هل وقع من الصحابة رضي الله عنهم تدليس في الرواية؟ أو هل يصح أن يُطلق ذلك على الصحابة – رضي الله عنهم -؟
ج 216: للجواب عن ذلك ينبغي معرفة التدليس عند العلماء، وكذلك معرفة أسباب التدليس، التي تحمل المدلسين على التدليس، ليُنظر هل وقع ذلك من الصحابة – رضي الله عنهم – أم لا؟(1/147)
وقد عرف البزار (ت292هـ) التدليس بقوله: أن يروى عمن قد سمع منه، ما لم يسمعه منه، من غير أن يبين أنَّه قد سمعه منه اهـ.
وكذا عرفه ابن القطان (ت628هـ) انظر «التقييد» (ص:97 - 98) و «الشذا الفياح» (ص: 172) وقد تعقبهما العراقي، بل وأنكر عليهما.
وعرفه ابن عبدالبر (ت463) بقوله: هو أن يحدث الرجل عن الرجل قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمعه منه، وإنّما سمعه من غيره عنه، ممن تُرضى حاله أو لا ترضى، ... ثم قال: هذا هو التدليس عند جماعتهم، لا اختلاف بينهم في ذلك اهـ. من «التمهيد» (1/ 15، 27) وفي (1/ 28) قال: فيوهم أنَّه سمعه من شيخه ذلك. اهـ.
وقال الخطيب (ت463هـ) في «الكفاية (ص:510، 511 - 515): تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه، بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه، ويعدل عن البيان بذلك ... ثم ذكر أن الإرسال ليس فيه إيهام بخلاف التدليس.
وقال ابن الصلاح (ت/642هـ): تدليس الإسناد: هو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، موهماً أنه سمعه منه، أو عمن عاصره، ولم يلقه، موهماً أنه قد لقيه، وسمعه منه اهـ وقد ذكر ذلك الأبناسي (ت802هـ) في «الشذا الفياح» وقال: هذا هو الحد المشهور عندهم اهـ.
وقال: التدليس ليس كذباً، إنما هو ضرب من الإبهام بلفظ محتمل، اهـ (ص:177) من «الشذا الفياح» وقال النووي (ت676هـ): أن يروى عمن عاصره، ما لم يسمعه منه، موهماً سماعه، قائلاً: قال، أو: عن ... اهـ. من «التدريب» (1/ 223 - 224) وفسّر ذلك السيوطي (ت911هـ) فقال: حديث أورده بلفظ يوهم الاتصال، ولا يقتضيه ... اهـ.
وقال ابن دقيق العيد (ت702هـ) في «الاقتراح» (ص:217): هو أن يروي الراوي حديثاً عمن لم يسمعه منه اهـ قلت: وعلى هذا يدخل الإرسال في التدليس، وفيه ما فيه.(1/148)
وقال الذهبي (ت748هـ) في «الموقظة» (ص:39): المدلَّس ما رواه الرجل عن آخر، لم يسمعه منه، أو لم يدركه اهـ. وفيه ما سبق في كلام ابن دقيق العيد.
وقال العلائي (ت761هـ): أن يروي الراوي عن شيخه حديثاً لم يسمعه منه، بلفظ: «عن» أو «قال» أو «ذكر» ونحو ذلك مما يوهم الاتصال، ولا يصرح بـ «حدثنا» ولا «أخبرنا» ولا «سمعت»، اهـ من «جامع التحصيل» (ص:97).
وقال ابن الملقِّن (ت804هـ): أن يروي عمن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه، موهماً سماعه ... اهـ من «المقنع» (1/ 154) وقال: التدليس ليس كذباً، وإنّما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل. اهـ.
وقال العراقي (ت806هـ) في «منظومته»: .... يوهم اتصالاً ..... اهـ. من «فتح المغيث» (1/ 207).
وقال الجرجاني (ت816هـ) في «مختصره»: أن يروي عمن لقيه أو عاصره، ما لم يسمعه منه، على سبيل يوهم أنه سمعه منه، اهـ. من «ظفر الأماني في مختصر الجرجاني» للكنوي (ص374).
وقال ابن الوزير (ت840هـ): أن يروي عن شيخ شيخه موهماً أنَّه سمعه منه ... ثم ذكر أن المدلس قصد الإيهام، انظر «توضيح الأفكار» (1/ 347 - 348) وما قاله الصنعاني وذكره سبط ابن العجمي (ت841هـ) في «التبيين» (ص:32) ولم يذكر الإيهام.
وقال الحافظ (ت852هـ) في «طبقات المدلسين» (ص:25): تدليس الإسناد أن يروي عمن لقيه أو عاصره، ما لم يسمعه منه، بصيغة محتملة اهـ وفي «النزهة» (ص:87) قال: سمي بذلك؛ لكون الراوي لم يسم من حدثه، وأوهم سماعه للحديث ممن لم يحدثه به. اهـ.
فأنت ترى أنَّ أكثر هؤلاء الأئمة ذكروا أنَّ قصد المدلِّس: إيهام السامع بأنَّه قد سمع هذا الحديث من شيخه، وهذا الأمر لم يقع من الصحابة – رضي الله عنهم، ولذلك عاب الأئمة التدليس، ولم يعييوا الإرسال، ومع أنَّ التدليس فيه شبهة الانقطاع؛ إلا أنَّ جمهور من احتجّ بالمرسل – وهو انقطاع جلي – لم يحتجّ بالمدلَّس، من أجل تهمة الإيهام، انظر «الشذا الفياح» (ص:178).(1/149)
ولو نظرنا إلى الأسباب التي حملت المدلسين على التدليس، ما وجدنا واحداً منها يصح أن يُطْلَق في حق الصحابة – رضي الله عنهم -.
وهاك الأغراض التي حملت المدلسين على التدليس:
1 – ضعف الشيخ الذي حدثه بذلك.
2 – كثرة روايته عن شيخه، فيحتاج إلى إسقاطه، كي لا يُظن به أنه ليس له إلا هذا الشيخ، أو يعرِّفه بغير ما هو مشهور به، ليوهم كثرة المشايخ.
3 – تأخر وفاة شيخه، فيأنف من شاركة الصغار معه في السماع منه، فيدلسه.
4 – صغر شيخه.
5 – إيهام الرحلة، وذلك في تدليس البلدان.
6 – الإغراب في الرواية.
7 – العداوة التي بين التلميذ والشيخ، وقد ذكر ذلك العلائي؛ مستدلاً بما جرى بين البخاري والذهلي، وفيه بحث.
8 – طلب العلو.
9 – تحسين الحديث، وإظهاره مستوياً بالثقات، كما في تدليس التسوية.
10 – التفنن في العبارة، وتنويع صيغ الرواية، كما كان الخطيب لهجاً بذلك.
11 – قصد الدفاع عن الشيخ، كما جرى من الوليد بن مسلم في حق الأوزاعي.
12 – الخوف من رد الحديث، إذا كان المستمع لا يحب راويه، كالرواية عند النواصب عن رجل من أهل البيت.
ومصادر أكثر هذه المواضع: «جامع التحصيل» (ص:104) و «الشذا الفياح» (ص:177) و «الموقظة» (ص:39 - 40) و «الكفاية» (ص:511، 518)، «الاقتراح» (ص:218 - 219) و «التمهيد» (1/ 15) و «التدليس» للدميني (ص:83 - 93).
وقد عاب الأئمة التدليس بخلاف الإرسال، فقال حماد بن زيد وأحمد: لا أعلم المدلس إلا متشبعاً بما لم يُعط اهـ من «جامع التحصيل» (ص:98) وانظر قول حماد في «المعرفة» للحاكم (ص:103)، و «الكفاية» (ص:509) وقال يزيد بن هارون: هو من التزين، اهـ من «التمهيد» (1/ 27).(1/150)
وقال المعافى بن عمران بنحوه، انظر «الكفاية» (ص:508) و «المقنع» (1/ 163) وقال جرير بن حازم: أدنى ما يكون فيه أن يُرِيَ الناس أنه سمع ما لم يسمع اهـ من «الكفاية» (ص:508) وانظر (ص:510 - 511، 515) وقال عبدالوارث بن سعيد: التدليس ذل، كما في «المعرفة» للحاكم (ص:103).
وكل هذه الأوصاف لا توجد في واحد من الصحابة، وحاشاهم من ذلك – رضي الله عنهم-.
لكن في «النبلاء» (2/ 608) ترجمة أبي هريرة – رضي الله عنه -: قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلس.
قال الذهبي: قلت: تدليس الصحابة كثير، ولا عيب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول، اهـ.
قلت: قول شعبة أسنده ابن عدي في «الكامل» (1/ 81) في الكلام على شعبة، قال ابن عدي: أخبرنا الحسن بن عثمان التستر ي نا سلمة بن شبيب، قال: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس اهـ. والتستري كذاب وضاع، والله أعلم.
وقال الحافظ في «النكت» (2/ 623 - 624): واعلم أن التعريف الذي ذكرناه للمرسل (1)، ينطبق على ما يرويه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما لم يسمعوه منه، وإنّما لم يطلقوا عليه اسم التدليس أدباً، على أن بعضهم أطلق ذلك ... ثم ذكر ما في «الكامل»، ثم قال: والصواب ما عليه الجمهور من الأدب في عدم إطلاق ذلك، والله الموفق، اهـ.
قلت: والذي يترجح عندي عدم إطلاق ذلك في حق الصحابة من الأصل، لأنَّهم لم يقصدوا الإيهام بذلك، وهذا القيد مذكور في تعريف أكثر العلماء، كما سبق، وكل ما ذُكر من أسباب التدليس لا يوجد فيهم، والعلة التي من أجلها عاب الأئمة التدليس، لا توجد فيهم، ولم أقف إلا على قول الذهبي بذلك، وكلام شعبة لا يصح إليه، ومما يدل على اعتبار قصد من يُرمى بالتدليس، ما جاء في «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص: 103 - 104) حيث قسم أجناس المدلسين إلى ستة أجناس.
__________
(1) كذا، ولعل الصواب: «للتدليس» أو «للمدلس» كما يدل عليه السياق.(1/151)
فقال: فمن المدلسين؛ من دلس عن الثقات الذين هم في الثقة مثل المحدث، أو فوقه، أو دونه؛ إلا أنَّهم لم يخرجوا من عداد الذين يقبل أخبارهم، فمنهم من التابعين أبو سفيان طلحة بن نافع وقتادة وغيرهما ..... ، ثم قال: ففي هؤلاء الأئمة المذكورين بالتدليس من التابعين جماعة وأتباعهم، غير أني لم أذكرهم، فإنَّ غرضهم من ذكر الرواية أن يدعوا إلى الله – عزّ وجلّ -، فكانوا يقولون، قال فلان، لبعض الصحابة، فأما غير التابعين فأغراضهم فيه مختلفة، اهـ.
فتأمل قوله: غير أني لم أذكرهم ... إلخ يظهر لك أ، الحاكم اعتبر قصد الراوي في التدليس، - وإن كان فيما قرره نظر، فإنهم قد ذكروا في جملة المدلسين بعض التابعين وأتباعهم – والله أعلم.
س 217: كثر الكلام حول زيادة الثقة في الروايات، ونريد تفصيل مذاهب العلماء في ذلك، مع ترجيح الراجح منها، نظراً لمسيس الحاجة لذلك، ولكثرة ورود هذا في الروايات، ورجوع كثير من الأحكام الفقهية لمثل هذه الزيادات
ج 217: سبق في هذا الكتاب عند السؤال 93، 94، 206 ذِكْر شيء من ذلك على سبيل الإجمال، وها أنذا أفضّل القول في ذلك في هذا الموضع – إن شاء الله تعالى – وأسأل الله العون والسداد، فأقول:
اعلم – علمني الله وإياك – أن هذه المسألة مما اشتهر فيها الخلاف بين المحدثين وبين الفقهاء والأصوليين، ولا شك أن مذهب حذاق المحدثين وفرسان الحديث أولى من مذهب غيرهم، من الذين لم يسبروا غور الروايات، ولم يلازموا الرواة ومجالسهم، ولم يطيلوا النظر في أصول الرواة ورواياتهم، حتى إن المحدثين كانوا يعدون الحروف التي عند الرواة، سواء كان ذلك عن شيخ معين، أو على سبيل الإطلاق، بل بلغ بهم الأمر أنهم يعرفون أن هذه الرواية أشبه بفلان دون فلان، وكان أحدهم يسمع الحديث فيستنكره عند سماعه، وليس معه دليل على نكارته، ثم يتضح له صحة ما ذهب إليه – أحياناً – بعد سنوات.(1/152)
وقد سلّم القاصي والداني من المحدثين والفقهاء والأصوليين بأنَّ معرفة العلل إلهام، وأنَّ العالم بالعلل كالصيرفي الذي يعرف صحيح النقد من مزيّفه، وفي كثير من الأحيان لا يذكر دليله على ذلك، فلماذا – بعد هذا كله – ينفرد جمهور الفقهاء والأصوليين والمتكلمين بمذهب يخالف ما عليه هؤلاء الأئمة الجهابذة؟ ثم لماذا يجد هذا التفرد وجاهة عند البعض؟ وكل عِلْم يؤخذ عن أهله وعلمائه؟
هذا جواب مجمل، وسأسرد المذاهب – بمشيئة الله، عزّ وجلّ – مع أدلتها، والقائلين بها، وسيظهر لك من الجواب المفصل – إن شاء الله، عزّ وجلّ – صحة مذهب المحدثين.
فاعلم أن مذهب أئمة الحديث أنهم لا يقبلون الزيادة من الثقة مطلقاً، ولا يردونها مطلقاً، بل يدورون مع القرائن التي تحف كل حديث، فتارة يقبلونها، وأُخرى يردونها، وأُخرى يتوقفون فيها، وإليك أقوال أهل العلم في ذلك – دون التزام بالترتيب الزمني:
قال الإمام مسلم – يرحمه الله – في «مقدمة التمييز» (ص:172) أثناء كلامه حول خطأ الرواة:
والجهة الأخرى أن يروى نفر من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة، بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن، يجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذٍ أن الصحيح من الروايتين: ما حدث الجماعة من الحفاظ، دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظاً، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث، يحكمون في الحديث، مثل شعبة وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد وعبدالرحمن بن مهدي وغيرهم من أئمة أهل الحديث، وسنذكر من مذاهبهم وأقوالهم في حفظ الحفاظ وخطأ المحدثين في الروايات، ما يستدل به على تحقيق ما فسرت لك، إن شاء الله اهـ - ثم ذكر في كتابه أمثلة تدل على ما قال – يرحمه الله -.(1/153)
- وقد نقل الحافظ في «النكت» (2/ 604 - 605) كلام ابن دقيق العيد في مقدمة «شرح الإلمام» فقال: من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض روايةُ مُرسِل ومُسْنِد، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد، أن الحكم للزائد؛ فلم يُصِب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية؛ يُعرف صواب ما نقول، اهـ.
قال الحافظ: وبهذا جزم الحافظ العلائي، فقال:
كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم، يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي، بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح، بالنسبة إلى ما يَقْوَى عند أحدهم في كل حديث حديث، اهـ.
قال الحافظ: وهذا العمل الذي حكاه عنهم؛ إنّما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح، وأما ما لا يظهر فيه الترجيح، فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة ... اهـ.
- وذكر الحافظ استدلال من استدل على قبول الزيادة مطلقاً، بقول البخاري في حديث: «لا نكاح إلا بِوَلي»: والزيادة من الثقة مقبولة، يعني رواية إسرائيل الذي اسندها، خلافاً لمن أرسلها، ثم قال الحافظ:
لكن الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم من صنيع البخاري في هذا الحديث الخاص: ليس بمستقيم، لأن البخاري لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة، وإنّما حكم له بالاتصال لمعان أُخرى رَجَّحَتْ عنده حكم الموصول ... ثم ذكرها ... ثم قال: فتبين أن ترجيح البخاري لوصل هذا الحديث على إرساله، لم يكن لمجرد أن الواصل معه زيادة ليست مع المرسِل، بل بما يظهر من قرائن الترجيح، ويزيد ذلك ظهوراً: تقديمه الإرسال في مواضع أخر ... ثم ذكر أمثلة قدم فيها البخاري المرسَل، ثم قال: فتبين أنه ليس له عمل مطرد في ذلك، والله أعلم اهـ من «النكت» (2/ 605 - 609).(1/154)
- وفي «جزء القراءة خلف الإمام» للبيهقي (ص:138) قال البيهقي: وذكر محمدُ بن إسحاق بن خزيمة يرحمه الله فصلاً في زيادة من زاد في هذه الأخبار: «وإذا قرأ فأنصتوا» قال: لسنا ندفع أن تكون الزيادة في الأخبار مقبولة من الحفاظ، ولكنّا إنّما نقول: إذا تكافأت الرواة في الحفظ والإتقان والمعرفة بالأخبار، فزاد حافظ متقن عالم بالأخبار كلمةً قُبلت زيادته، لا أنَّ الأخبار إذا تواترت بنقل أهل العدالة والحفظ بخبر، فزاد راوٍ ليس مثلهم في الحفظ والإتقان زيادة، أن تلك الزيادة تكون مقبولة. اهـ.
ثم ذكر البيهقي أن الشافعي – يرحمه الله – رجح رواية الأحفظ والأكثر، وذكر أمثلة لذلك.
وقد نقل الحافظ كلام ابن خزيمة – مختصراً – في «النكت» (2/ 688 - 689) وعزاه لابن خزيمة في «صحيحة» فالله أعلم -.
- قال الحافظ: وقال الترمذي في «أواخر الجامع»: وإنما تقبل الزيادة ممن يُعتمد على حفظه، قال: وفي «سؤالات السهمي للدارقطني»: سئل عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات؟ قال: يُنظر ما اجتمع عليه ثقتان، فيُحكم بصحته، أو ما جاء بلفظة زائدة، فتقبل تلك الزيادة من متقن، ويُحكم لأكثرهم حفظاً وثبتاً على من دونه.
قال الحافظ: قلت: وقد استعمل الدارقطني ذلك في «العلل»، و «السنن» كثيراً ... ثم ذكر مثالاً لذلك، ثم قال: وقال ابن عبدالبر في «التمهيد»: إنما تقبل الزيادة من الحافظ، إذا (ثبتت) عنه، وكان أحفظ وأتقن ممن قصر، أو مثله في الحفظ، لأنه كأنه حديث آخر مستأنف، وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ ولا متقن، فإنها لا يلتفت إليها.
قال: فحاصل كلام هؤلاء الأئمة: أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً، حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عدداً منه، أو كان فيهم من هو أحفظ منه، أو كان غير حافظ، ولو كان في الأصل صدوقاً، فإن زيادته لا تقبل، وهذا مغاير لقول من قال: زيادة الثقة مقبولة، وأطلق، والله أعلم اهـ من «النكت» (2/ 689 - 690).(1/155)
- وقد ذكر ابن رجب يرحمه الله فصلاً في زيادة الثقة، في كتابه القيم: «شرح علل الترمذي» فقال: قال أبو عيسى – يرحمه الله -:
ورُبَّ حديث استُغْرِب لزيادة تكون في الحديث، وإنّما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه، مثل ما روى مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر، قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زكاة الفطر في رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فزاد مالك في هذا الحديث: «من المسلمين» .... ثم ذكر من لم يزدها، ومن تابع مالكاً عليها، قال الترمذي: وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك، واحتجوا به: منهم الشافعي وأحمد بن حنبل، قالا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين، لم يؤد زكاة الفطر عنهم واحتجا بحديث مالك.
قال: فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قُبل ذلك (منه) اهـ. كلام الترمذي – قال ابن رجب: هذا – أيضاً – نوع من الغريب، وهو أن يكون الحديث في نفسه مشهوراً، لكن يزيد بعض الرواة في متنه زيادة تستغرب، وقد ذكر الترمذي أنَّ الزيادة إن كانت من حافظ يعتمد على حفظه؛ فإنها تقبل، يعني: وإن كان الذي زاد ثقة، لا يعتمد على حفظه لا تقبل.
قال: وهذا – أيضاً – ظاهر كلام الإمام أحمد، قال في رواية صالح: قد أنكر على مالك هذا الحديث يعني زيادته: «من المسلمين»، ومالك إذا انفرد بحديث هو ثقة، وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه، يعني في الحديث، وقال: قد رواه العمري الصغير والجمحي ومالك – قال ابن رجب: فذكر أحمد أن مالكاً يُقبل تفرده، وعلل بزيادته في التثبيت على غيره، وبأنَّه قد توبع على هذه الزيادة.
قال: وقد ذكرنا هذه الزيادة، ومن تابع مالكاً عليها في كتاب الزكاة، ولا تخرج بالمتابعة عن أن تكون زيادة من بعض الرواة، لأنَّ عامة أصحاب نافع لم يذكروها.(1/156)
وقد قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيّب حديث مالك: «من المسلمين» يعني: حتى وجده من حديث العمريَّيْن، قيل له: أمحفوظ هو عندك «من المسلمين»؟ قال: نعم.
قال: وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات، ولو كان مثل مالك، حتى يتابع على تلك الزيادة، وتدل على أن متابعة مثل العمري لمالك؛ مما يقوي رواية مالك، ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار.
قال: وسيأتي فيما بعد – إن شاء الله – عن يحيى القطان نحو ذلك – أيضاً -.
وكلام الترمذي ههنا يدل على خلاف ذلك، وأن العبرة برواية مالك، وأنَّه لا عبرة بمن تابعه ممن لا يعتمد على حفظه.
ثم ذكر أمثلة، ثم قال: فالذي يدل عليه كلام الإمام أحمد في هذا الباب: أنَّ زيادة الثقة للفظة في حديث من بين الثقات، إن لم يكن مبرزاً في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة، ولم يتابع عليها، فلا يُقبل تفرده، وإن كان ثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها: ففيه عنه روايتان، لأنه قال مرة في زيادة مالك: «من المسلمين» كنت أتهيبه، حتى وجدته من حديث العمريَّيْن، وقال مرة: إذا انفرد مالك بحديث: هو ثقة، وما قال أحد بالرأي أثبت منه ...(1/157)
قال: وأما أصحابنا الفقهاء، فذكروا في كتب أصول الفقه في هذه المسألة روايتين عن أحمد: بالقبول مطلقاً، وعدمه مطلقاً، ولم يذكروا نصاً له بالقبول مطلقاً، مع أنهم رجحوا هذا القول، ولم يذكروا به نصاً عن أحمد، وإنما اعتمدوا على كلامٍ له، لا يدل على ذلك، مثل قوله في فوات الحج: جاء فيه روايتان: إحداهما في زيادة دم، قال: والزائد أولى أن يُؤخذ، وهذا ليس مما نحن فيه، فإن مراده: أن الصحابة رَوى بعضهم فيمن يفوته الحج أن عليه القضاء، وعن بعضهم عليه القضاء مع الدم، فأخذ بقول من زاد الدم، فإذا رُوي حديثان مستقلان في حادثة، وفي أحدهما زيادة، فإنَّها تُقبل من الثقة، كما لو انفرد الثقة بأصل الحديث، وليس هذا من باب زيادة الثقة، ولا سيما إذا كان الحديثان موقوفين على صحابيين وإنّما قد يكون أحياناً من باب المطلق والمقيد.
قال: وأما مسألة زيادة الثقة التي نتكلم فيها ههنا، فصورتها: أن يروي جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد، ومتن واحد، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة، لم يذكرها بقية الرواة.
قال: ومن الأصحاب من قال في هذه المسألة: إنْ تَعَدَّدَ المجلس الذي نُقل فيه الحديث: قُبلت الزيادة، وإن كان المجلس واحداً، وكان الذي ترك الزيادة جماعة لا يجوز عليهم الوهم: لم تقبل الزيادة، وإن كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة قُبلت، وإن كان راوي الزيادة واحداً، والنقصان واحداً، قُدم أشهرهما وأوثقهما في الحفظ والضبط.
قالوا: وإن خالفت الزيادة ظاهر المزيد عليه، لم تقبل، وحملوا كلام أحمد في حديث السعاية على ذلك.
قال: وليس في كلام أحمد تعرض لشيء من هذا التفصيل، وإنما يدل كلامه على ما ذكرناه أولاً.
ثم ذكر من نسب قبول الزيادة للشافعي؛ ما لم تخالف المزيد، وكان راويها ثقة، ثم قال:(1/158)
وفي حكاية ذلك عن الشافعي نظر، فإنه قال في الشاذ: هو أن يروى ما يخالف الثقات، وهذا يدل على أن الثقة إذا انفرد عن الثقات بشيء، أنه يكون ما انفرد به عنهم شاذاً غير مقبول، والله أعلم – اهـ كلام الشافعي.
وسيأتي نحوه من كلام الحافظ ابن حجر، ورده على الشافعية المخالفين لهذا – قال ابن رجب: ولا فرق في الزيادة بين الإسناد والمتن، كما ذكرنا في حديث النكاح بلا ولي، وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال، والوقف والرفع، وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على اعتبار قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً.
قال: وقد قال أحمد في حديث أسنده حماد بن سلمة: أي شيء ينفع وغيره يرسله؟
قال: وذكر الحاكم أن أئمة الحديث على أن القول قول الأكثرين، الذين أرسلوا الحديث، وهذا يخالف تصرفه في «المستدرك».
قلت: وصنيع الحاكم في «معرفة علوم الحديث» في النوع السابع والعشرين من علوم الحديث (ص:112) وما بعدها يدل على ذلك – وكذا ما صرّح في النوع الثالث من أقسام الصحيح المختلف فيه، في كتابه: «المدخل إلى معرفة الإكليل» حيث جعل مذهب المحدثين تقديم الأكثر، خلافاً للفقهاء، انظر مقدمة «جامع الأصول» لابن الأثير (1/ 170) و «توضيح الأفكار» (1/ 91) و «النكت» للحافظ (1/ 367) مختصراً.
وانظر صنيع الحاكم في النوع الثامن عشر في معرفة الشاذ من الحديث (ص:119) وما بعدها من «معرفة علوم الحديث».
قال ابن رجب يرحمه الله: وقد صنَّف في ذلك الحافظ أبوبكر الخطيب مصنفاً حسناً سماه: «تمييز المزيد في متصل الأسانيد» وقسمه قسمين:
أحدهما: ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد وتركها.
والثاني: ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها.(1/159)
قال: ثم إن الخطيب تناقض، فذكر في كتاب «الكفاية» للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله، كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين) (1)، ثم إنَّه اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً، كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء، وهذا يخالف تصرفه في كتاب «تمييز المزيد».
قال: وقد عاب تصرفه في كتاب «تمييز المزيد» بعض محدثي الفقهاء، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب «الكفاية» ...
ثم ذكر كلام البخاري في حديث: «لا نكاح إلا بِوَلي»، ثم قال:
وهذه الحكاية إن صحت، فإنّما مراده الزيادة في هذا الحديث، وإلا فمن تأمل كتاب «تاريخ البخاري» تبيّن له قطعاً أنَّه لم يكن يرى أنَّ زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة.
قال: وهكذا الدارقطني يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة، ثم يردُّ في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات، ويرجح الإرسال على الإسناد، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع الخاصة، وهي إذا كان الثقة مبرزاً في الحفظ.
وقال الدارقطني في حديث زاد في إسناده رجلان ثقتان رجلاً، وخالفهما الثوري فلم يذكره، قال: لولا أنَّ الثوري خالف؛ لكان القول قول من زاد فيه، لأنَّ زيادة الثقة مقبولة، وهذا تصريح بأنَّه إنما يقبل زيادة الثقة؛ إذا لم يخالفه من هو أحفظ منه -، اهـ من «شرح علل الترمذي» (2/ 630 - 639).
__________
(1) قلت: قد نقل قول الحذاق من الحفّاظ في جملة المذاهب التي ذكرها – كما سيأتي – لكنه رجح مذهب الفقهاء إلا أن يكون مراد ابن رجب – يرحمه الله – أنَّ الخطيب لم يذكر مذهب الحفاظ في الرجوع للقرائن إنّما أطلق عنهم رد الزيادة، فنعم، والله أعلم.(1/160)
- وقال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 336 - 337) أثناء كلامه على الإسرار بالبسملة في الصلاة الجهرية: فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتُقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة حافظاً ثبتاً، والذي لم يذكرها مثله، أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس، قوله: «من المسلمين» في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصها، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها ... وفي موضع يغلب على الظن صحتها ... وفي موضع يجزم بخطأ الزيادة ... وفي موضع يغلب على الظن خطأها ... وفي موضع يتوقف عن الزيادة ... اهـ، وقد ذكر أمثلة لكل نوع ينازع في بعضها، والله أعلم.
وذكر الحافظ في «النكت»: أن ابن الصلاح قسم الزيادات إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقع منافياً لما رواه الثقات، وهذا حكمه الرد – يعني: لأنَّه يصير شاذاً.
والثاني: أنَّ لا يكون فيه منافاة، فحكمه القبول، لأنَّه جازم بما رواه، وهو ثقة، ولا معارض لروايته، لأن الساكت عنها لم ينفها لفظاً ولا معنى، لأنَّ مجرد سكوته عنها؛ لا يدل على أنَّ راويها وهم فيها.
والثالث: ما يقع بين هاتين المرتبتين، مثل زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث.
قال الحافظ: يعني وتلك اللفظة توجب قيداً في إطلاق، أو تخصيصاً لعموم، ففيه مغايرة في الصفة، ونوع مخالفة يختلف الحكم بها.
ثم نقل قول ابن الصلاح على القسم الأخير حيث قال: فهو يشبه القسم الأول من هذه الحيثية، ويشبه القسم الثاني من حيث أنه لا منافاة في الصورة، اهـ.(1/161)
قال الحافظ: قلت: لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشيء، والذي يجري على قواعد المحدثين، أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن، كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال، يعني: ما سبق في «النكت» (2/ 603).
قال: على أن القسم الأول الذي حكم عليه المصنف – يعني: ابن الصلاح – بالرد مطلقاً، قد نوزع فيه، وجزم ابن حبان والحاكم وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقاً في سائر الأحوال، سواء اتحد المجلس أو تعدد، سواء أكثر الساكتون أو تساووا.
قال: وهذا قول جماعة من أئمة الفقه والأصول، وجرى على هذا الشيخ محيي الدين النووي في مصنفاته.
قال: وفيه نظر كثير، لأنَّه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه، فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه، (ويرويه) ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه، ويشتمل على زيادة تخالف ما رووه، إمّا في المتن، وإمّا في الإسناد، فكيف تقبل زيادته، وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها، لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيّما إن كان شيخهم ممن يُجمع حديثه، وتُعتني بمروياته، كالزهري وأضرابه، بحيث يقال: إنَّه لو رواها، لسمعها منه حفاظ أصحابه، ولو سمعوها لرووها، ولَمَا تطابقوا على تركها، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة، وقد نص الشافعي في «الأم» على نحو هذا، فقال في زيادة مالك ومن تابعه في حديث «فقد عتق منه ما عتق»: إنّما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه، أو بأنَّ يأتي بشيء يشركه فيه من لم يحفظه عنه، وهم عدد، وهو منفرد، اهـ.
قال: فأشار إلى أنَّ الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عدداً، أنّها تكون مردودة.
وهذه الزيادة التي زادها مالك؛ لم يخالف فيها من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً فتقبل، وقد ذكر الشافعي – رضي الله عنه – هذا في مواضع، وكثيراً ما يقول: العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ... اهـ.(1/162)
وذكر الحافظ كلام ابن خزيمة والترمذي والدارقطني وغيرهم، وقد سبق ذكره، والله أعلم.
هذا، وللحافظ كلام آخر في «نزهة النظر» (ص:70) حيث ذكر معنى ما ذهب إليه ابن الصلاح في التقسيم السابق مختصَراً، ثم قال بعد ذلك (ص:71 - 74): واشتهر عند جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم، مع اعترافه باشتراط انتقاء الشذوذ في حد الصحيح، وكذا الحسن.
قال: والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين: كعبدالرحمن بن مهدي ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم: اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يُعْرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة.
قال: وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة، مع أنَّ نص الشافعي يدل على غير ذلك، فإنَّه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه: ويكون إذا شارك أحداً من الحفاظ لم يخالفه، فإن خالفه، فوُجِد حديثه أنقص، كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت؛ أضر ذلك بحديثه. انتهى كلامه.
قال الحافظ: ومقتضاه أنَّه إذا خالف فوُجد حديثه أزيد؛ أضر ذلك بحديثه، فدل على أنَّ زيادة العدل عنده؛ لا يلزم قبولها مطلقاً، وإنّما تُقْبل من الحافظ، فإنَّه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه من الحفاظ، وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلاً على صحته، لأنَّه يدل على تحريه، وجعل ما عدا ذلك مضراً بحديثه، فدخلت فيه الزيادة، فلو كانت عنده مقبولة مطلقاً؛ لم تكن مضرة بحديث صاحبها، والله أعلم اهـ.(1/163)
هذا، وللحافظ كلام في «هدى الساري» – سيأتي إن شاء الله تعالى، ولكنه يخالف هذا، والحق فيما حرره هنا، وله قول آخر في «النكت» (2/ 654) فيه أنَّ الشذوذ يقدح في الاحتجاج لا في التسمية، أي: أنه يسمى الشاذ صحيحاً، ولا يعمل به، وانظر «التدريب» (1/ 65 - 66).
- وذكر شيخنا أبوعبدالرحمن – سلمه الله – في مقدمة «الإلزامات والتتبع» (ص:21) أنَّ الحافظ قال في «الفتح» (12/ 312): والتحقيق أنَّهما – أي: الشيخان – ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد، بل هو دائر مع القرينة، مهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله. اهـ. وانظر أقوال جماعة من أهل العلم في «فتح المغيث» للسخاوي (1/ 245 - 252) في نوع زيادات الثقات.
- وقال البيهقي في «المدخل إلى السنن الكبرى» (ص:92): وترجيح الأخبار إذا اختلفت بكثرة الرواة، وزيادة الحفظ والمعرفة، وتقدم الصحبة، من الأمور المعروفة فيما بين أهل المعرفة بالحديث، وقد أخبر ذو اليدين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسهوه، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على القوم، فقال: «أصدق ذو اليدين؟» فقال: نعم، وفي رواية أُخرى: فأومئوا: أي نعم، اهـ.
وقال ابن دقيق العيد في «الاقتراح في بيان الاصطلاح» (1/ 186 - 187) في تعريف الصحيح: وزاد أصحاب الحديث: أن لا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى مذهب الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون الحديث، لا تجري على أصول الفقهاء، قال: ومن شرط الحد أن يكون جامعاً مانعاً، اهـ.(1/164)
قال العراقي – مجيباً على ذلك – في «التقييد والإيضاح» (ص:20) والجواب أنَّ من يصنف في علم الحديث، إنّما يذكر الحد عند أهله، لا من عند غيرهم من أهل علم آخر ... وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما، على أنَّ المصنف – يعني: ابن الصلاح – قد احترز عن خلافهم، وقال بعد أن فرغ من الحد وما يحترز به عنه: فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث ... اهـ.
- وقد قال البقاعي: إنَّ ابن الصلاح خلط هنا طريقة المحدثين بطريقة الأصوليين، فإنَّ للحذاق من المحدثين في هذه المسألة نظراً لم يحكه، وهو الذي لا ينبغي أن يُعدل عنه، وذلك أنَّهم لا يحكمون فيها بحكم مطرد، وإنّما يديرون ذلك على القرائن اهـ. من «توضيح الأفكار» (1/ 339 - 340).
- وقال الذهبي في «الموقظة» (ص:52 - 53) في المضطرب والمعلل:
وإن كان الحديث قد رواه الثبت بإسناد، أ, قفه أ, أرسله، ورفقاؤه الأثبات يخالفونه، فالعبرة بما اجتمع عليه الثقات، فإن الواحد قد يغلط، وهنا قد ترجح ظهور غلطه، فلا تعليل، - أي فلا تُعِلُّ روايتُه روايتهم – والعبرة بالجماعة، وإن تساوى العدد، واختلف الحافظان، ولم يترجح الحكم لأحدهما على الآخر، فهذا الضرب يسوق البخاري ومسلم الوجهين منه في كتابيهما، وبالأوْلى سُوقُهما لما اختلفا في لفظه، إذا أمكن جمع معناه.
قال: ومن أمثلة اختلاف الحافظين: أن يُسمى أحدهما في الإسناد ثقة، ويبدله الآخر بثقة آخر، أو يقول أحدهما: عن رجل، ويقول الآخر عن فلان، فيسمى ذلك المبهم، فهذا لا يضر في الصحة، فأما إذا اختلف جماعة فيه، وأتوا به على أقوال عدة، فهذا يوهن الحديث، ويدل على أن راويه لم يتقنه ... اهـ.(1/165)
- وقد استدل ابن الوزير بقصة ذي اليدين على التوقف في قبول خبر الثقة عند الريبة، لسكوت الجماعة، واختصاص ذي اليدين بالخبر ... وذهب ابن الوزير إلى التفصيل السابق، لا الحكم بالقبول المطلق. انظر «توضيح الأفكار» (1/ 345 - 346)، فقد قال: وأما إذا رواه ثقتان على سواء، أو قريب من السواء، فالحكم لمن زاد، وكذلك إذا كان أحدهما مثبتاً، والآخر نافياً، مع تساويهما أو تقاربهما، فالحكم للمثبت، وبين ذلك مراتب في القوة والضعف لا يمكن حصرها، بل ينظر الناظر في كل ما وقع فيه هذا التعارض، ويعمل بحسب قوة ظنه اهـ.
- وقد نقل الحافظ في «النكت» (2/ 693 - 694) عن ابن الصباغ في «العدة» وفخر الدين الرازي قريباً من مذهب المحدثين، هذا ما يسر الله جمعه من أقوال المحدثين في هذه المسألة.
وهناك من ذهب إلى قبول الزيادة مطلقاً، وهم جمهور الفقهاء والأصوليين والمتكلمين، وهو صريح كلام الخطيب في «الكفاية» وابن القطان والبزار وابن الصلاح – في بعض المواضع – وابن حبان والحاكم في «المستدرك» والنووي وآخرين.
وهاك الأقوال في ذلك:
- قال الخطيب في «الكفاية»:
قال الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث: زيادة الثقة مقبولة، إذا انفرد بها، ولم يفرقوا بين زيادة يتعلق بها حكم شرعي، أو لا يتعلق بها حكم، وبين زيادة توجب نقصاناً، من أحكام تثبت بخبر ليست فيه تلك الزيادة، وبين زيادة توجب تغيير الحكم الثابت، أو زيادة لا توجب ذلك، وسواء كانت الزيادة في خبر رواه راويه مرة ناقصاً، ثم رواه بعد وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة قد رواها غيره، ولم يروها هو.
قال: وقال فريق ممن قبل زيادة العدل الذي ينفرد بها: إنما يجب قبولها إذا أفادت حكماً يتعلق بها، وأما إذا لم يتعلق بها حكم فلا.
وقال آخرون: يجب قبول الزيادة من جهة اللفظ دون المعنى.(1/166)
قال: وحُكي عن فرقة ممن ينتحل مذهب الشافعي، أنَّها قالت: تقبل الزيادة من الثقة إذا كانت من جهة غير الراوي، فأما إن كان هو الذي روى الناقص، ثم روى الزيادة بعد، فإنَّها لا تقبل.
قال: وقال قوم من أصحاب الحديث: زيادة الثقة إذا انفرد بها غير مقبولة، ما لم يروها معه الحفاظ، وترك الحفاظ لنقلها، وذهابهم عن معرفتهم، يوهنها ويضعف أمرها، ويكون معارضاً لها.
قال: والذي نختاره من هذه الأقوال: إن الزيادة الواردة مقبولة على كل الوجوه، ومعمول بها إذا كان راويها عدلاً حافظاً، ومتقناً ضابطاً.
والدليل على ذلك عدة أمور:
أحدها: اتفاق جميع أهل العلم على أنه لو انفرد الثقة بنقل حديث لم ينقله غيره، لوجب قبوله، ولم يكن ترك الرواة لنقله، إن كانوا عرفوه، وذهابهم عن العلم به: معارضاً له، ولا قادحاً في عدالة راويه، ولا مبطلاً له، وكذلك سبيل الانفراد بالزيادة، فإن قيل: ما أنكرت أن يكون الفرق بين الأمرين؛ أنَّه غير ممتنع سماع الواحد الحديث من الراوي وحده وانفراده به، ويمتنع في العادة سماع الجماعة لحديث واحد، وذهاب زيادة فيه عليهم، ونسيانها إلا الواحد، بل هو أقرب إلى الغلط والسهو منهم، فافترق الأمران؟
قال: قلت: هذا باطل من وجوه غير ممتنعة:
أحدها: أن يكون الراوي حدث بالحديث، في وقتين، وكانت الزيادة في أحدهما دون الوقت الآخر.
ويحتمل أيضاً، أن يكون قد كرر الراوي الحديث، فرواه أولاً بالزيادة، وسمعه الواحد، ثم أعاده بغير زيادة، اقتصاراً على أنَّه قد كان أتمه من قبل، وضبطه عند من يجب العمل بخبره، إذا رواه عنه، وذلك غير ممتنع.
وربما كان الراوي قَدْسَها عن ذكر تلك الزيادة لما كرر الحديث، وتركها غير متعمد لحذفها.(1/167)
ويجوز أن يكون ابتدأ بذكر ذلك الحديث، وفي أوله الزيادة، ثم دخل داخل فأدرك بقية الحديث، ولم يسمع الزيادة، فنقل ما سمعه، فيكون السامع الأول قد وعاه بتمامه، وقد رُوِيَ مثل هذا في خبر جرى الكلام فيه بين الزبير بن العوام وبين بعض الصحابة، ... وساق قصة، وأُخرى في ذلك.
ثم قال: ويجوز أن يسمع من الراوي الاثنان والثلاثة، (فينسى) اثنان منهما الزيادة، ويحفظها الواحد ويرويها، ويجوز أن يحضر الجماعة سماع الحديث، فيتطاول حتى يغشى النومُ بعضَهم، أو يشغله خاطر نفس وفِكْر قلب في أمر آخر، فيقتطعه عما سمعه غيره، وربما عرض لبعض سامعي الحديث أمر يوجب القيام، ويضطره إلى ترك استتمام الحديث، وإذا كان ما ذكرناه جائزاً فَسَدَ ما قاله المخالف ... ثم ساق قصة في ذلك.
ثم قال: ويدل أيضاً على صحة ما ذكرناه: أنَّ الثقة العدل يقول: سمعت وحفظت ما لم يسمعه الباقون، وهم يقولون: ما سمعنا ولا حفظنا، وليس ذلك تكذيباً له، وإنّما هو إخبار عن عدم علمهم بما علمه، وذلك لا يمنع علمه به، ولهذا المعنى وجب قبول الخبر إذا انفرد به دونهم، ولأجله – أيضاً – قُبلت الزيادة في الشهادة، إذا شهدوا جميعاً بثبوت الحق، وشهد بعضهم بزيادة حق آخر، وبالبراءة منه، ولم يشهد الآخرون.
قال: وأما علة من اعتل في ترك قبولها؛ ببُعْد ذهابها عن الجماعة، وحِفْظِ الواحد لها، فقد بيَّنا فسادها فيما تقدم، وجواز ذلك من غير وجه.
وأما فَضْل من فَصَّل بين أن تكون الزيادة موجبة لحكم، أو غير موجبة له، فلا وجه له، لأنَّه إذا وجب قبولها مع إيجابها حكماً زائداً، فبِأنْ تُقبل إذا لم توجب زيادة حكم أوْلى؛ لأنَّ ما يثبت به الحكم أشد في هذا الباب.
ثم ذكر أحاديث فيها زيادة توجب حكماً.(1/168)
قال: وأما فصْل من فصَّل بين أن تكون الزيادة في الخبر من رواية راويه بغير زيادة، وبين أن تكون من رواية غيره، فإنه لا وجه له، لأنه قد يسمع الحديث متكرراً، تارة بزيادة، وتارة بغير زيادة، كما يسمعه على الوجهين من راويين، وقد ينسى الزيادة تارة، فيرويه بحذفها مع النسيان لها والشك فيها، ويذكرها فيرويها مع الذكر واليقين، وكما أنه لو روى الحديث ونسيه، فقال: لا أذكر أني رويته، وقد حَفِظ عنه ثقة، وجب قبوله برواية الثقة عنه، فكذلك هذا، وكما لو روى حديثاً مثبتاً لحكم، وحديثاً ناسخاً له، وجب قبولهما، فكذلك حكم خبره إذا رواه تارة زائداً، وتارة ناقصاً، وهذه جملة كافية اهـ (ص: 597 - 602) من «الكفاية» باب القبول في حكم خبر العدل إذا انفرد برواية زيادة فيه لم يروها غيره.
قلت: فهذه الأدلة التي استدل بها الخطيب – يرحمه الله – على قبول زيادة الثقة مطلقاً، هي غاية ما عند القوم، والجواب عليها يعتبر جواباً على كل من أطلق قبول زيادة الثقة، فأقول، وبالله التوفيق:
ما ذكره الخطيب – يرحمه الله – من الاحتمالات وارد وليس بمتعذر، لكن مع ورود هذه الاحتمالات؛ فلا يلتفت إلى ذلك لأمور:
الأول: لو نظرنا في قصة ذي اليدين، وهي متفق عليها من حديث أبي هريرة، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين، ثم سلّم، ثم انطلق إلى خشبة معروضة في مقدم المسجد، فقال بيديه عليها هكذا، كأنه غضبان، وخرج سَرَعانُ الناس (1) من باب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يسألاه، وفي القوم رجل في يديه طول، كان يُسمى ذا اليدين، فقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: «لم أنْس، ولم تقصر الصلاة»، فقال: صليت ركعتين، فقال: «أكما يقول ذو اليدين»، فقالوا: نعم ... الحديث.
__________
(1) سَرَعان الناس وسَرْعانهم: أوائلهم المستبقون إلى الأمر اهـ من «اللسان» (8/ 152).(1/169)
فلو كان ما قال الخطيب – يرحمه الله – صواباً، لما رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الجماعة، ليتثبت منهم فيها قاله ذو اليدين دونهم، ولماذا لم يعمل رسول الله بخبر ذي اليدين دون رجوع إلى جماعة المصلين، مستدلاً بأنه حفظ، وغيره لم يحفظ، أو أتقن وغيره شُغل أو ذهل بأمر آخر ... ؟ إلى آخر ما قاله الخطيب – يرحمه الله -.
فلما توقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خبر ذي اليدين لانفراده عن الجماعة، توقفنا في خبر من انفرد بزيادة لم يروها من هو أحفظ منه أو أكثر، حتى يشهد لها ما يقويها، كما أقر الجماعةُ ذا اليدين على ما قال، والله أعلم.
الثاني: الأصل أنّنا لا نضيف خبراً إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا إذا تيقّنا ثبوته إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو غلب على ظنّنا ذلك، لكن إذا تردد في النفس قبوله أو عدمه؛ فالأحوط للدين أنّنا لا تضيفه إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وما قاله أبوبكر الخطيب – يرحمه الله – من احتمال أن يحفظ الواحد، وينسى العدد الكثير ... إلخ.
فقد يُقْلَبُ عليه، فيقال: ومن المحتمل أن يهم الواحد، فيضيف إلى شيخه ما سمعه من شيخ آخر، حيث قد ظن أن هذا من حديث هذا الشيخ، فرواه عنه، فلما لم يروه الجماعة، دل ذلك على وهم الواحد، وهذا الاحتمال وارد، وله أمثله كثيرة في كتب العلل، وكم من إمام – فضلاً عمن دونه – يسمع الحديث في المذاكرة عن شيخ: فيعْلَق في ذهنه، فيرويه مرسلاً أو مدلّساً أو غير ذلك، فيظن من وقف على حديثه، أنه سمعه من الشيخ الذي سماه، وليس كذلك.
وكم من ثقة يقول فيه العلماء: دخل عليه حديث في حديث، أو حديثه هذا يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان – أي الذي سماه الراوي – وإذا كان هذا محتملاً، وما ذكره الخطيب أيضاً محتمل، فما تطرق إليه الاحتمال سقط به تعين الاستدلال:(1/170)
والأصل أنّنا لا نضيف إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا ما تيقّنا ثبوته إليه، أو على الأقل ما غلب على ظنّنا ثبوته إليه، ومع هذه الاحتمالات؛ فلا يحصل شيء من ذلك.
- فإن قيل: الاحتمال الذي ذكرته بعيد، لأننا لو أخذنا بذلك لزم التوقف في جميع أخبار الثقات، واللازم باطل، فكذا الملزوم.
فالجواب: أنَّ اللازم باطل إذا نحن أطلقنا الوقف في خبر الثقات، أما إذا قيّدنا ذلك بظهور قرينة تدل على وهم الواحد المخالف للجماعة فلا بأس، والقرينة هنا عدم نقل الجماعة لهذه الزيادة، والدواعي متوفرة لنقلها، لو حدث بها شيخهم.
- وقد يجاب على الخطيب أيضاً باحتمال آخر: وهو أن الشيخ الذي حدث الواحد بالزيادة، ولم يحدث بها الجماعة، لعله قد ظهر له أن هذه الزيادة ليست من حديثه، فكف عن روايتها، لا سيما إذا كان الجماعة قد أخذوها في عدة مجالس، وما حدث به المحدث في عدة مجالس على وتيرة واحدة – بدون زيادة – مقدم على ما حدث به مرة واحدة لشخص واحد في مجلس واحد مع الزيادة.
- وما ذكره الخطيب – يرحمه الله - من كون الراوي قد يدخل متأخراً، فلا يسمع الحديث بتمامه، فإن كان هذا راوي الناقصة فلا إشكال، وليس هذا موضع البحث، إنّما حَرْف النزاع فيما إذا زاد الواحد ونقص الباقون، أما ما ذكره الخطيب فغايته أن يكون: راوي الزائدة مثل راوي الناقصة.
وفي هذه الحالة فالزيادة من الثقة مقبولة، والمتوقع في مثل هذا أن يكون الجماعة قد افتتحوا مجلسهم مع الشيخ، ثم دخل الواحد بعد ذلك، فهذا الداخل تكون روايته ناقصة، ورواية الجماعة تامة، فأين هذا مما نحن فيه؟، ولم تجر العادة بأن يُفتتح المجلس بواحد فقط، ثم يأتي بقية المحدثين.
- وما ذكره – يرحمه الله – من تطاول المجلس حتى يغشى النومُ بعض الجالسين، فالعادة في مثل هذا: أن يقع ذلك للعدد القليل، لا أن الجماعة يغشاهم النوم، ويبقى الواحد مستيقظاً، فيعي ما فاتهم فالأمر على عكس ما نحن فيه.(1/171)
- وكذا من ذهل عن بعض كلام الشيخ، أو من عرض له عارض، فقطع عليه المجلس، فالغالب أنَّ هذا يقع للواحد فيقوم، فيكون حديثه ناقصاً، بخلاف الجماعة الذين بقوا بعده، فأتموا سماع الحديث من الشيخ، ومستبعد أن يعرض عارض للجماعة، فيقوموا جميعاً، إلا الواحد فيبقى خلفهم، فيكون حديثه أتم من حديث الجماعة.
فكُلُّ الاحتمالات التي ذكرها الخطيب – يرحمه الله – ورودها على الواحد، أكثر من ورودها على الجماعة، وكذلك ورودها على الأقل في الحفظ والإتقان؛ أكثر من ورودها على الأعلى في الحفظ والإتقان، والذي قد عُرِف من شأنه التحري والتيقظ في مجالس الحديث، فلو قبلنا الزيادة مع هذه الاحتمالات، نكون قد عملنا بالزيادة مع الشك، أو مع غلبة الظن بعدم الثبوت، وفي هذا ما لا يخفى من الضعف.
الثالث: أن صنيع العلماء أهل الفهم والدراية بالحديث النبوي؛ على خلاف ما قال الخطيب – يرحمه الله -، وهذه مئات بل ألوف الأسئلة التي وجهت للأئمة، فكانت أجوبتهم تتضمن إعلال بعض الروايات، لكون فلان زاد هذه الكلمة، أو زاد في الإسناد زيادة، وغيره من الثقات لا يروونها.
وما كنا لنرضى بمذهب الفقهاء والأصوليين والمتكلمين مذهباً، ونترك مذهب هؤلاء الجهابذة الأفذاذ، وصدق من قال:
فأما ما علَمتُ فقد كفاني ... وأما ما جهلتُ فجنِّبوني
الرابع: لو أخذنا بهذا القول المرجوح، فمتى يكون الحديث شاذا؟ فإن قيل: إذا خالفت الزيادةُ الأصلَ، مخالفة يتعذر الجمع بينها وبين الأصل، فحينذاك تكون شاذة، وقد قال بذلك الحافظ في «هدي الساري» (ص:347) في الفصل الثامن، حيث قال في أثناء كلامه على أقسام الأحاديث المنتقدة في «صحيح البخاري».(1/172)
(القسم الثالث منها): ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه، دون من هو أكثر عدداً أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به، إلا إن كانت الزيادة منافية، بحيث يتعذر الجمع، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها، بحيث تكون كالحديث المستقل، فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته، فما كان من هذا القسم فهو مؤثر، كما في الحديث الرابع والثلاثين، اهـ.
وهذا الكلام يجاب عليه من وجوه:
1 – أن الحافظ نفسه قد صرح بخلاف هذا في «النزهة»، و «الفتح»، و «النكت» وقد سبق ذكر ذلك عنه، بل قد رد على من خالف ذلك.
2 – أن الحافظ نسب القول السابق إلى أئمة الحديث، بخلاف قوله هذا.
3 – لا نسلم أنَّ الجمع يكون متعذراً بين الزيادة والأصل، إلا في الحديث المضطرب الذي يختلف فيه الرواة اختلافاً كثيراً، لا يمكن الجمع فيه بين الروايات، لكننا في هذه الحالة، لا نستطيع أن نقول: إنَّ الرواية الفلانية هي الأصل، والأخرى هي المزيدة؛ لأنَّ من شرط الاضطراب الموجب للاطرح: أن يتعذر الجمع، مع تكافؤ الطرق، فلا ترجيح مع الاضطراب، إذاً فما نحن بصدده لا نسلم فيه أن الجمع متعذر، وما من زيادة إلا ويمكن أن يخصص بها عموم، أو يقيد به مطلق، أو يفسر بها مجمل، أو يُعين بها مبهم، فأين تعذر الجمع إذاً؟ ولْيُكَذَّبنا المخالفون في ذلك بمثال واحد غير الحديث المضطرب، لأنَّ المضطرب لا ترجيح فيه، ومسألتنا في ترجيح رواية الجماعة على رواية الواحد عند تعذر الجمع بينهما على حد قولهم، وكتب العلل والتخاريج مليئة بشواهد لا تُحصى كثرة على صحة ما قررناه، بخلاف قول المخالف.
4 – لو سلمنا للحافظ بإمكان تعذر الجمع بين الزيادة والأصل في المتون، فكيف نتصور هذا التعذر في زيادات الأسانيد؟!(1/173)
فمن المعلوم أنَّ الزيادة في الإسناد تكون برفع موقوف، أو إسناد مرسل، أو تسمية مبهم، أو تعيين مهمل، أو تصريح مدلس بالسماع، أو قَرْن ضعيف بآخر يقويه، أو نحو ذلك، ويمكن الجمع بين كل هذا الاختلاف، بأن نقول في الرواية الزائدة: نشط الشيخ فزاد، أو كسل فنقص، فأين تعذر الجمع الذي يجعلنا نأخذ برواية الجماعة دون الواحد إذا؟
أم أنَّ أصحاب هذا المذهب يفرقون بين الزيادة في الأسانيد، وبين الزيادة في المتون؟ وهذا ما لا أعلمه عن أحد من القائلين بذلك، والله أعلم.
الخامس: -من وجوه الرد على ما ذكره الإمام أبوبكر الخطيب يرحمه الله -:
ما ادعاه بعض أهل العلم من التفرقة بين الزيادة التي تكون في مجلس واحد فترد، وبين الزيادة التي تكون في مجالس متعددة فتقبل، هذا التفصيل كما قال ابن رجب – يرحمه الله – لم يلتفت إليه الإمام أحمد ومن جرى مجراه في الإمامه والتقدم في هذا الفن.
أضف إلى ذلك – من باب البيان – أنَّ آلاف الأسئلة في العلل توجه للأئمة، فيطلق الإمام منهم القول برد رواية فلان، لمخالفته من أولى منه، دون أن يعرج على نوع المجلس الذي جرى فيه التحديث، هل كان متحداً أو متعدداً؟.
ويزيد ذلك وضوحاً، أن الشيخ إذا روى حديثاً، ورواه عن سبعة من الرواة مثلاً، فرواه ستة على وجه، ورواه واحد فزاد فيه زيادة، فإن لم نعلم تعدد المجلس أو اتحاده – وهذا حال أكثر الروايات -.
فالأصل في ذلك أن نقف في رواية الواحد، ونأخذ رواية الجماعة، لما سبق من أدلّة، وإن علمنا اتحاد المجلس، فالمخالفون مسلّمون بشذوذ الواحد هنا.
وإن علمنا بتعدد المجالس فلنعتبر كل راوٍ أخذه في مجلس، لأنّنا ليس عندنا دليل باجتماع بعضهم في مجلس واحد، وعلى ذلك فرواية الجماعة أيضاً أرجح، لأن الشيخ حدث كل واحد منهم على حدة، فما حدث به في ستة مجالس على وجه واحد، مقدم على ما حدث به على وجه آخر في مجلس واحد.(1/174)
ولا يَرِدُ على ذلك أنَّه يلزم مما حررته توهيم الشيخ لا التلميذ المخالف للستة، والذي نراه من كلامهم توهيم التلميذ لا الشيخ؛ لأنَّ الذي نراه من كلامهم في توهيم التلميذ؛ عندما لا يُذكر تعدد المجلس، أمّا إذا ذُكر تعددالمجلس؛ فإنهم يوهمون الشيخ، أو يحمِّلونه العهدة، أو يقولون: الحديث عند الشيخ بالوجهين، وحدث كلاً بوجه، كما لا يخفى على من يطالع في أحكام العلماء على الأحاديث، والله أعلم.
السادس: ما ذكره الخطيب – يرحمه الله – من قياس قبول الزيادة على قبول الحديث المستقل: مردود، لما هو معلوم من الفرق بين تفرد الراوي بحديث لم يروه غيره، وبين تفرد الراوي بزيادة، شاركه من هو أحفظ منه، أو أكثر، على رواية الحديث بدونها، وقد قال الحافظ في «النكت» (2/ 690 - 691):
واحتج من قبل الزيادة من الثقة مطلقاً: بأنَّ الراوي إذا كان ثقة، وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً، فكذلك انفراده بالزيادة.
قال الحافظ: وهو احتجاج مردود، لأنَّه ليس كل حديث تفرد به أي ثقة، كان يكون مقبولاً، كما سبق بيانه في نوع الشاذ.
قال: ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله، وبين تفرده بالزيادة: ظاهر؛ لأنَّ تفرده بالحديث؛ لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات، إذ لا مخالفة في روايته لهم، بخلاف تفرده بالزيادة، إذا لم يروها من هو أتقن منه حفظاً، وأكثر عدداً، فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته، ومبنى هذا الأمر على غلبة الظن ... ثم ذكر الاحتمالات السابقة التي ذكرها الخطيب ثم قال:
والجواب عن ذلك: أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة، إنّما هو في زيادة بعض الرواة من التابعين فمن بعدهم، أمّا الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر، إذا صح السند إليه، فلا يختلفون في قبولها ... ثم ذكر أمثلة، ولعله أجاب بذلك؛ لأنَّ الأمثلة التي مثل بها الخطيب وقعت للصحابة – رضي الله عنهم -.(1/175)
ثم قال: وإنّما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ، حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه، كمالك عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما -، إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ، وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة، فإنَّها لو كانت محفوظة، لما غفل الجمهور من رواته عنها، فتفرد واحد عنه بها دونهم، مع توفر دواعيهم على الأخذ عنه، وجمع حديثه؛ يقتضي ريبة توجب التوقف عنها اهـ.
والعجب من الخطيب – يرحمه الله – الذي عزا لأهل الحديث هذا القول الذي ارتضاه، مع أنَّ صنيع حذاقهم وأهل الشأن فيهم ليس كذلك، بل قد ذكر ابن رجب أن المذاهب التي ذكرها الخطيب في «الكفاية» لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ، إنّما هي مأخوذة من كتب المتكلمين ... إلى آخر ما قد سبق ذكره عن ابن رجب – يرحمه الله -.
وقد سبق أنَّ صنيع الخطيب في كتابه: «تمييز المزيد» يوافق ما عليه المحدثون، وكذلك صنيعه في الأحاديث التي ينتقدها في «تاريخ بغداد» تراه يسلك فيها مسلك حذاق المحدثين، فالله أعلم.
فإن قيل: إنَّ المباركفوري قد نصر القول بقبول زيادة الثقة، كما في «تحفة الأحوذي» (2/ 92 - 95) في ك/ الصلاة ب/ ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
قلت: المباركفوري – يرحمه الله – يرد على النيموي صاحب «آثار السنن» عندما أعل زيادة: «على صدره» بالشذوذ، وعرَّف الحديث الشاذ بأنَّه: «ما رواه الثقة مخالفاً في نوع من الصفات، لما رواه جماعة من الثقات، أو من هو أوثق منه وأحفظ، وأعم من أن تكون المخالفة منافية للرواية الأُخرى أم لا؟
قال المباركفوري بعد نقله لهذا: وادعى – أي: النيموي – أن هذا هو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وابن معين والبخاري وغيرهم من المحدثين المتقدمين ... ثم ذكر أمثلة استدل بها على ذلك.(1/176)
وقد اعترض عليه المباركفوري بأنَّ تعريفه للشاذ ليس بصحيح، وليس هو مذهب المحدثين المتقدمين البتة، قال: وجه عدم صحته، أنَّ يلزم منه أن يكون كل زيادة زادها ثقة، ولم يزدها جماعة من الثقات، أو لم يزدها من هو أوثق منه، وليست منافية لأصل الحديث؛ شاذة غير مقبولة، واللازم باطل، فالملزوم مثله، والدليل على بطلان اللازم: أن كل زيادة هذا شأنها قبلها المحدثون المتقدمون، كالشافعي والبخاري وغيرهما، وكذا قبلها المتأخرون، إلا إن ظهرت لهم قرينة تدل على أنها وهم من بعض الرواة، فحينئذٍ، لا يقبلونها.
قال: ألا ترى أن الإمام البخاري يرحمه الله، قد أدخل في «صحيحه» من الأحاديث ما تفرد به بعض الرواة بزيادة فيه غير منافية، ولم يزدها جماعة من الثقات، أو من هو أوثق منه وأحفظ، وقد طعن بعض المحدثين بإدخال مثل هذه الأحاديث في «صحيحه» ظناً منهم أن مثل هذه الزيادات ليست بصحيحة، وقد أجاب المحققون عن هذا الطعن: بأن مثل هذه الزيادات صحيحة ... ثم ذكر ما سبق ذكره عن الحافظ من «هدي الساري» (ص:347) من الفصل الثامن واستدل بكلام الحافظ في تعذر الجمع ...(1/177)
هذا حاصل ما استدل به المباركفوري يرحمه الله، وقد سبق نقض هذه الأدلة التي استدل بها على وجه التفصيل، بما يغني عن إعادته، والذي يظهر لي أن كلام النيموي في هذا الموضع أدق من كلام المباركفوري، وأما كون البخاري يخرج بعض هذه الزيادات، فنحن لا نمنع ذلك، إذا كانت هناك قرينة تدل على أن الراوي حفظ ما زاد، ولا شك أن للأئمة معرفة بالغة بهذه القرائن، الأمر الذي لا يتوفر لنا الآن، فموقفنا من هذه الزيادات: إذا صححها الأئمة صححناها، وإذا اختلفوا فيها رجحنا حسب القواعد، وإذا لم يتكلموا عنها أصلاً، وظهرت لنا قرينة أو أكثر – على حسب – قواعد أهل العلم في ذلك، تدل على أن راوي الزيادة ضبطها: صححناها، وإلا حكمنا عليه بالشذوذ، وأجرينا القاعدة التي عليها صنيع أكثر العلماء، والتي صرحوا بها في مواضع أكثر من أن تحصر، وذلك أنهم قد عللوا الحكم بالشذوذ لمخالفة من رواها لمن لم يروها، وهم أوثق منه إما عدداً أو وصفاً، والذي يتأمل في صنيعهم يجدهم لا يخرجون عن ذلك إلا لقرينة فأكثر، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، والله تعالى أعلم.
(تنبيه):
انظر كلام ابن القطان والبزار في «النكت» للحافظ (2/ 603 - 604) وكذلك كلام ابن حبان والحاكم في «النكت» (2/ 687) وانظر مذاهب العلماء في «توضيح الأفكار» (1/ 339 - 343) وفي «المقنع» (1/ 191 - 208) وفي «الغاية» للسخاوي – مختصراً – (1/ 298).
تنبيه آخر: واعلم أن كثيراً ممن أطلق القول بقبول زيادة الثقة، لم يطرد ذلك في بعض المواضع، فالنووي – يرحمه الله – وهو ممن يطلق القبول، سلَّم بإعلال زيادة «وإذا قرأ فأنصتوا» وهكذا غيره.
تنبيه آخر: يظهر ليّ من صنيع حذاق المحدثين أنهم يعدون مجرد زيادة المرجوح مخالفة للأرجح – إذا كانت تحمل زيادة في المعنى -، وإذا لم تكن منافية، خلافاً لما ذهب إليه من سبق ذكرهم، والله تعالى أعلم.(1/178)
س 218: هل هناك فرق في الاتصال بين قول الراوي: «عن فلان أنه قال كذا، أو فعل كذا» وبين قوله: (أن فلاناً قال كذا، أو فعل كذا»؟
ج 218: هذه مسألة الحديث المعنعن والمؤنّن: والكلام فيها على جهتين:
الجهة الأولى: قول الراوي: «عن فلان»، يعني شيخه الذي سمع منه في الجملة، فلا فرق بين هذا، وبين قوله: «أن فلاناً قال»، بشرط أن يكون الراوي عدلاً غير مدلس، وقد ثبت سماعه من هذا الشيخ في الجملة – على تفاصيل في هذا الشرط الأخير -، والإسناد المعنعن الذي يقال فيه: فلان عن فلان عن فلان، فهو بهذه الشروط محمول أيضاً على الاتصال عند جماهير العلماء، فقد قال ابن الصلاح في «مقدمته»: عَدَّهُ بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع، حتى يتبين اتصاله بغيره.
ثم قال: والصحيح والذي عليه العمل: أنَّه من قبيل الإسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم، وقبلوه، وكاد أبو عمر بن عبدالبر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك، وادعى أبو عمرو الداني المقرئ الحافظ إجماع أهل النقل على ذلك، وهذا بشرط أن يكون الذي أضيفت العنعنة إليهم؛ قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضاً، مع براءتهم من وصمة التدليس، فحينئذٍ يُحمل على ظاهر الاتصال، إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك ... ، اهـ من «التقييد» (ص:83 - 84).
وقد تعقب العراقيُّ ابنَ الصلاح كما في «التقييد» (ص:83 - 84) في قوله: «وكاد أبو عمر بن عبدالبر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث، على ذلك» فقال: ولا حاجة إلى قوله: «كاد»، فقد ادعاه، ثم نقل ما في مقدمة «التمهيد» (1/ 12) وفيه: اعلم – وفقك الله – أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه.
فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطاً ثلاثة، وهي:(1/179)
عدالة المحدثين في أحوالهم، ولقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة، وأن يكونوا برآء من التدليس ... ثم ساق سنده إلى شعبة أنه قال: فلان عن فلان ليس بحديث، قال وكيع: وقال سفيان: هو حديث.
قال أبو عمر: ثم إن شعبة انصرف عن هذا إلى قول سفيان، وقد أعلمتك أن المتأخرين من أئمة الحديث، والمشترطين في تصنيفهم الصحيح، قد أجمعوا على ما ذكرتُ لك، وهو قول مالك وعامة أهل العلم والحمدلله، إلا أن يكون الرجل معروفاً بالتدليس، فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا أو سمعت.
فهذا ما لا أعلم فيه خلافاً ... ثم ذكر مثالاً عاب فيه أحمدُ بن حنبل على الوليد بن مسلم قوله: «عن» في منقطع، ليدخله في الاتصال، ثم قال: فهذا بيان أن «عن» ظاهرها الاتصال، حتى يثبت فيها غير ذلك، ومثل هذا عن العلماء كثير اهـ (1/ 12 - 14).
وقد تعقب الحافظ في «النكت» (2/ 583) على ابن الصلاح نقله عن أبي عمرو الداني، وقد أخذ الدانيُّ ما قال عن الحاكم، وكان الأوْلى أن ينقل ابنُ الصلاح عنه، لأنه من أئمة الحديث، وقد صنف في علومه، قال: وابن الصلاح كثير النقل من كتابه، قال: فالعجب كيف نزل عنه إلى النقل عن الداني، وقد قال الحاكم – أي في «المعرفة» -: الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أهل النقل، ثم تعجب الحافظ أيضاً من عدم نقل ابن الصلاح عن الخطيب، وقد ادعى الإجماع أيضاً في «الكفاية» التي هي معول المصنف في هذا المختصر، ثم تعقب الحافظ الخطيب في دعواه الإجماع، لقول الحارث المحاسبي، ونقله عن غيره الاختلاف في ذلك، ورجح في النهاية أن «عن» محمولة على الاتصال، وحمل الخلاف بين العلماء على ما كان قبل الوفاق ... ، اهـ من «النكت» (2/ 583 - 585) وقد قال ابن عبدالبر في مقدمة «التمهيد» (1/ 26): واختلفوا في معنى «أن» هل هي بمعنى «عن» محمولة على الاتصال بالشرائط التي ذكرنا، حتى يتبين انقطاعها، أو هي محمولة على الانقطاع، حتى يعرف صحة اتصالها؟(1/180)
قال: وذلك مثل: مالك عن أن ابن شهاب أن سعيد بن المسيب قال كذا.
ومثل: مالك عن هشام بن عروة أن أباه قال كذا.
ومثل: حماد بن زيد عن أيوب أن الحسن قال كذا.
ثم قال: فجمهور أهل العلم على أن «عن» و «أن» سواء، وأن الاعتبار ليس بالحروف، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحاً، كان حديث بعضهم عن بعض أبداً بأي لفظ ورد محمولاً على الاتصال، حتى تتبين فيه علة الانقطاع.
قال: وقال البرديجي: «أن» محمولة على الانقطاع، حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر، أو يأتي ما يدل على أنه قد شهده وسمعه.
قال أبوعمر: هذا عندي لا معنى له، لإجماعهم على أن الإسناد المتصل بالصحابي، سواء قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أو أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال أو: عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كل ذلك سواء عند العلماء، والله أعلم، اهـ وعندي أن في الاعتراض على كلام البرديجي بما ذكر عن الصحابة؛ نظراً، لأن غايته أن يكون مرسل صحابي، والأصل روايتهم عن الصحابة، وهم عدول، بخلاف من دونهم، ففيهم العدل وغيره، لكن يجاب على كلام البرديجي بما سبق من صنيع العلماء، وإن كانت «عن» ليست صريحة في السماع، لكنّها هي محمولة على ذلك، والله أعلم.
فإذا علمت أنّ «عَنْ» محمولة على الاتصال، فكذلك: «أن» بالشروط السابقة. ويضاف إلى ذلك في «أن» أن يكون الراوي يحكي شيئاً – قولاً أو فعلاً – يمكن أن يكون قد شهده وسمعه من شيخه.(1/181)
الجهة الثانية: وذلك إذا قال الراوي: «إن فلاناً قال أو فعل»، مما لا يمكن أن يكون قد شهده الراوي، مثل أن لا يكون قد أدرك زمانه، كقول عروة: إن عائشة قالت للنبي: كذا وكذا، فهل هو مرسل، لعدم الإتيان بما يبين أنه رواه عن عائشة، أم هو متصل، لأن عروة قد عُرف بالرواية عن عائشة؟ فالظاهر أنه سمع ذلك منها؟
قال ابن رجب يرحمه الله بعد ذكره صورة المسألة: هذا فيه خلاف.
ثم قال: قال أبو داود: سمعت أبا عبدالله – يعني أحمد – قال: كان مالك – زعموا أنه يرى – «عن فلان» و «أن فلاناً» سواء، وذكر أحمد مثل حديث جابر: أن سُليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب، وعن جابر عن سُليك أنه جاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب قال: وسمعت أحمد، قيل له: إن رجلاً قال: عن عروة، قالت عائشة: يا رسول الله، وعن عروة عن عائشة سواء؟ قال: كيف هذا سواء؟ ليس هذا بسواء ... ثم ذكر أمثلة، وبيَّن أن أحمد لا يخالف مالكاً فيما إذا كانت «أنّ» فيما يمكن مشاهدته، وحمل تفرقة أحمد على ما إذا كان الراوي لا يمكن أن يدرك أو يشاهد ما حكى، بل تَرَجَّى حَمْل كلام البرديجي على هذا القسم.
قال: وأما رواية عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعروة أنَّ عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا القسم الثاني، هو الذي أنكر أحمد التسوية بينهما.
قال: والحفاظ كثيراً ما يذكرون مثل هذا، ويعدونه اختلافاً في إرسال الحديث واتصاله، وهو موجود كثيراً في كلام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والدارقطني وغيرهم من الأئمة.
قال ابن رجب: ومن الناس من يقول: هما سواء، كما ذُكر ذلك لأحمد، وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكي قصته، كعروة عن عائشة، أما من لم يعرف له سماع منه، فلا ينبغي أن يحمل على الاتصال، ولا عند من يكتفي بإمكان اللُّقيّ.(1/182)
قال: والبخاري قد يخرج من هذا القسم في «صحيحه»: كحديث عكرمة أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قصته امرأة رفاعة، وقد ذكرناه في كتاب النكاح، هذا على تقدير أن يكون عكرمة سمع من عائشة.
قال: وقد ذكر الإسماعيلي في «صحيحه»: أن المتقدمين كانوا لا يفرقون بين هاتين العبارتين، وكذلك ذكر أحمد أيضاً، أنهم كانوا يتساهلون في ذلك مع قوله: إنهما ليسا سواء، وأن حكمهما مختلف، لكن كان يقع ذلك منهم أحياناً على وجه التسامح وعدم التحرير.
قال: قال أحمد في رواية الأثرم في حديث سفيان عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن عبدالله بن حذافة في النهي عن صيام أيام التشريق: ومالك قال فيه: عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عبدالله بن حذافة.
قال أحمد: هو مرسل، سليمان بن يسار لم يدرك عبدالله بن حذافة، قال: وهم كانوا يتساهلون بين «عن عبدالله بن حذافة» وبين «أنَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عبدالله بن حذافة».
قيل له: وحديث أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه يخطب ميمونة، وقال مطر عن أبي رافع؟ قال: نعم، وذاك أيضاً، اهـ من «شرح علل الترمذي» (2/ 601 - 605).
فالحاصل من كلام أهل العلم الذي تعرض له ابن رجب:
أن الراوي إذا قال: «إنّ فلان قال» وحكى روايةً يمكن أن يشهدها، فـ «أنّ» كـ «عن» فيهذه الحالة، وإن حكى رواية لا يمكن أن يشهدها، فالذي رجّحه أحمد أن الرواية لا تكون متصلة، وبعضهم لا يرى التفرقة، وحمل ابن رجب تسوية هؤلاء على الراوي المشهور بالرواية عن شيخه، أي أن الراجح أنه سمع ذلك منه، وإن كان الظاهر في الرواية الإرسال، لا سيما وقد عُرف عن المتقدمين التسامح وعدم تحرير العبارة في ذلك، كما قال أحمد والإسماعيلي، والله أعلم.(1/183)
وقد تكلم الحافظ في «النكت» (2/ 590 - 592) على هذه المسألة، وجعل كلام مالك في التسوية، وكلام أحمد في التفرقة، أن ذلك كله ليس على إطلاقه، قال: وذلك يتبين من نص سؤال كل منهما عن ذلك.
أما مالك، فإنه سئل عن قول الراوي: «عن فلان أنه قال كذا» و «أن فلاناً قال كذا» فقال: هما سواء، وهذا واضح.
وأما أحمد، فإنه قيل له: إن رجلاً قال: عن عروة عن عائشة، وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هل هما سواء؟ فقال: كيف يكونان سواء؟ ليسا سواء.
قال الحافظ: فقد ظهر الفرق بين مراد مالك وأحمد.
قال: وحاصله أن الراوي إذا قال: «عن فلان»، فلا فرق أن يضيف إليه القول أو الفعل في اتصال ذلك عند الجمهور، بشرطه السابق، وإذا قال: «إن فلاناً» ففيه فرق: وذلك أن يُنظر: فإن كان خبرها – أي خبر إنّ – قولاً لم يتعد لمن لم يدركه، وذلك بأن يقول: إنَّ فلاناً قال، فـ «قال» هي الخبر، التحقت بحكم «عن» بلا خلاف، كأن يقول التابعي: إن أبا هريرة رضي الله عنه قال كذا، فهذا نظير ما لو قال: عن أبي هريرة أنه قال: سمعت كذا.
وإن كان خبرها – أي خبر إنّ – فعلاً، نُظِر: إن كان الراوي أدرك ذلك؛ التحقت بحكم «عن»، وإن كان لم يدركه؛ لم تلتحق بحكمها.
قال: فكون يعقوب بن شيبة قال في رواية عطاء عن أبن الحنفية: إن عماراً مرّ بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هذا مرسل، إنما هو من جهة كونه أضاف إلى الصيغة الفعل الذي لم يدركه ابن الحنفية، وهو مرور عمار، إذ لا فرق بين أن يقول ابن الحنفية: إن عماراً مرّ بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرّ بعمار؛ فكلاهما سواء في ظهور الإرسال ولو كان أضاف إليها – أي إلى الصيغة – القول، كأن يقول: عن ابن الحنفية أن عماراً قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكان ظاهر الاتصال، اهـ.(1/184)
وقد صرح بذلك العراقي في «التقييد» (ص:86) مقوياً لقول من حكم بالإرسال في مثل قول عروة: إن عائشة قالت: يا رسول الله! أو سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وإنّما الفرق بين اللفظين، لأن عروة في اللفظ الأول – يعني أن عائشة قالت يا رسول الله!، أو سألَتْ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – لم يسند ذلك إلى عائشة ولا أدرك القصة، وإلا فلو قال عروة: إنَّ عائشة قالت: قلت: يا رسول الله! لكان ذلك متصلاً، لأنَّه أسند ذلك إليها.
قال: وأما اللفظ الثاني، وهو قوله: عروة عن عائشة، فأسنده عروة إليها بالعنعنة، فكان ذلك متصلاً، فما فعله أحمد ويعقوب بن شيبة صواب، ليس مخالفاً لقول مالك، ولا لقول غيره، وليس في ذلك خلاف بين أهل النقل.
قال: وجملة القول فيه أن الراوي إذا روى قصة أو واقعة: فإن كان أدرك ما رواه، بأن حكى قصة وقعت بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبين بعض أصحابه، والراوي لذلك صحابي قد أدرك تلك الواقعة، حكمنا لها بالاتصال، وإن لم نعلم أنَّ الصحابي شهد تلك القصة – وإن علمنا أنه لم يدرك الواقعة، فهو مرسلُ صحابيِّ، وإن كان الراوي كذلك تابعياً، كمحمد بن الحنفية مثلاً، فهي منقطعة، وإن روى التابعي عن الصحابي قصة أدرك وقوعها، كان متصلاً، ولو لم يصرح بما يقتضي الاتصال، وأسندها إلى الصحابي بلفظ: «أن فلاناً قال» أو بلفظ «قال: قال فلان» فهي متصلة أيضاً، كرواية ابن الحنفية الأولى – يعني قوله: عن عمار قال – بشرط سلامة التابعي من التدليس، كما تقدم، وإن لم يدركها ولا أسند حكايتها إلى الصحابي؛ فهي منقطعة، كرواية ابن الحنفية الثانية – يعني قوله: إن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(1/185)
قال: فهذا تحقيق القول فيه، وممن حكى اتفاق أهل النقل على ذلك الحافظ أبو عبدالله بن المواق في كتاب «بغية النقاد»، فذكر مِنْ عند أبي داود حديث عبدالرحمن بن طرفة أن جده عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب ... الحديث، وقال: إنه عند أبي داود هكذا مرسل، قال: وقد نبّه ابن السكن على إرساله، فقال ... فذكر الحديث مرسلاً، قال ابن المواق: وهو أمر بيّن لا خلاف بين أهل التمييز من أهل الشأن في انقطاع ما يروي كذلك، إذا عُلم أن الراوي لم يدرك زمان القصة، كما في هذا الحديث، قال: وذكر نحو ذلك أيضاً في حديث أبي قيس: أن عمرو بن العاص كان على سرية ... الحديث في التيمّم من عند أبي داود أيضاً، وكذلك فعل ذلك غيره، وهو أمر واضح بيّن، والله أعلم، اهـ.
وبنحو كلام العراقي هذا، انظر «الشذا الفياح» (1/ 160 - 164) و «التدريب» (1/ 214) وما بعدها. وقد ذكر الحافظ في «النكت» (2/ 591 - 593) أن شيخه – أي العراقي -، نقل عن ابن المواق تحرير ذلك، واتفاق المحدثين على الحكم بانقطاع ما هذا سبيله، قال: وهو كما قال، لكن في نقل الاتفاق نظر، ونقل كلاماً لابن عبدالبر يشير إلى الاختلاف في ذلك، ثم قال: قلت: وهذا – وإن كنا لا نسلمه لأبي عمر -، فإنه يخدش في نقل الاتفاق. (1)
ثم نقل الحافظ عن ابن خزيمة ما يدل على انقطاع ما كان من هذا الباب، اهـ ملخصاً.
وخلاصة القول في هذه المسألة الثانية: أن الراوي غير الصحابي إذا قال: إنَّ فلاناً قال كذا، وكان ما حكاه لم يشهده، فالراجح في ذلك الحكم بعدم الاتصال، وإن لم يكن الراوي مدلساً، لأنَّه لم يُسند ذلك إلى من فوقه، ولم يشهد وقوع ما حكى عن شيخه، كما قال الحافظ العراقي – يرحمه الله -.
__________
(1) وأشار المعلمي – يرحمه الله – إلى الخلاف في ذلك، كما في «التنكيل» (ص:274) في نهاية القسم الأول في القواعد.(1/186)
إلا إذا ظهرت قرينة تدل على الاتصال، كأن يأتي الحديث من طريق أُخرى محفوظة، بإسناد ذلك إلى الشيخ أو ما يدل على أنَّ الراوي تسامح في التعبير عند روايته، ولم يحرر عبارته، كما قال أحمد والإسماعيلي، أو يكون الراوي مشهوراً بالرواية عن شيخه، كما قال ابن رجب يرحمه الله – مع الحاجة لمزيد تحرير له -، أو يخرج الحديث كذلك البخاري أو مسلم، ولم ينتقد عليهما أو أحدهما في ذلك، فإنه يُحمل في هذه الحالة على ظهور قرينة لهما أو أحدهما تدل على الاتصال، أما هذه الصيغة المجردة – بالشرط السابق – فلا تدل على الاتصال والله أعلم.
(تنبيه):
قد ترد صيغة «عن» في غير السماع، بل وفي غير الاتصال أو الرواية أصلاً، انظر «شرح علل الترمذي» لابن رجب (2/ 603)، و «التبصرة والتذكرة» للعراقي (1/ 165 - 167) (172 - 173)، و «النكت» (2/ 586) وما بعدها، و «توضيح الأفكار» (1/ 336 - 337).
تنبيه آخر: ذكر العلامة المعلمي رحمه الله في «التنكيل» (ص: 273 - 274) أن كلمة «عن» ليست من لفظ الرواي الذي يُذكر اسمه قبلها، بل هي من لفظ من دونه، وذلك كما لو قال همام: حدثنا قتادة عن أنس، فكلمة «عن» من لفظ همام؛ لأنها متعلقة بكلمة: «حدثنا» وهي من قول همام ... إلى آخر ما قال – رحمه الله- فارجع إليه لنفاسته في هذا الباب، والله أعلم.
س 219: هل يُقبل بعض حديث الكذابين والمتروكين، أم يُردُّ مطلقاً؟
ج 219: يُفَرّق بين الكذاب الذي تاب، وبين الذي لم يتب، ويفرق بين الكذاب في حديث الناس، وبين الكذاب في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويُلْحَق به من كان متروكاً، لا عن كذب في الرواية، ويفرق بين من تعمد الكذب، ومن لم يتعمده، وكذا من كذب في الأحكام، ومن كذب في الرقاق.
فهذه المواضع قد فرق بعض أهل العلم بينها:
- فأما الكذاب في الرواية – غير التائب -، فلا تقبل روايته، ولا كرامة.(1/187)
- وأما الكذاب في الرواية، لكنه قد تاب، فقد اختلف فيه أهل العلم: وأكثر أهل العلم على أنه لا تقبل روايته، وإن تاب.
قال الخطيب في «الكفاية» (ص:190 - 192):
فأما الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوضع الحديث وادعاء السماع، فقد ذكر غير واحد من أهل العلم، أنَّه يوجب رد الحديث أبداً، وإن تاب فاعله، ثم قال: حدّثت عن عبدالعزيز بن جعفر الحنبلي ثنا أحمد بن محمد بن هارون الخلال، قال: أخبرني موسى بن محمد الوراق، قال: حدثنا أبو عبدالرحمن عبيدالله بن أحمد الحلبي، قال: سألت أحمد بن حنبل عن محدث كذب في حديث واحد، ثم تاب ورجع؟ قال: توبته فيما بينه وبين الله – تعالى -، ولا يُكتب حديثه أبداً.
قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن حسون النرسي قال: ثنا أحمد بن منصور النوشري، قال: ثنا محمد بن مخلد بن حفص، قال: ثنا أحمد بن يحيى بن أبي العباس الخوارزمي، قال: ثنا ابن قهزاذ، قال سمعت عبدالعزيز بن أبي رزمة يقول: قال عبدالله بن المبارك: من عقوبة الكذب (1) أن يُرد عليه صدقه.
__________
(1) كذا، ولعله الكذاب، كما عند ابن أبي الدنيا.(1/188)
قال: أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبدالله المعدل، قال: أنا أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي، قال: ثنا أبوبكر عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا، قال حدثني أبو صالح المروزي، قال رافع بن أشرس: كان يقال: «إن من عقوبة الكذاب: أن لا يُقبل صدقه»، قال: وأنا أقول: ومن عقوبة المبتدع: أن لا تذكر محاسنه ... ثم قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: ثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسين (1)، قال: ثنا بشر بن موسى، قال: قال عبدالله بن الزبير الحميدي: فإن قال قائل: فما الذي لا يُقبل به حديث الرجل أبداً؟ قلت: هو إن يُحدِّث عن رجل أنه سمعه، ولم يدركه، أو عن رجل أدركه، ثم وجد عليه أنه لمن يسمع منه، أو بأمر يتبين عليه في ذلك كذب، فلا يجوز حديثه أبداً، لما أدرك عليه من الكذب فيما حدث به ... ، اهـ.
قلت: أما أثر الإمام أحمد فسنده ضعيف، لأن الخطيب أبهم شيخه، فقال: حُدِّثْت عن عبدالعزيز بن جعفر الحنبلي.
وأثر ابن المبارك فيه أحمد بن يحيى بن أبي العباس الخوارزمي، قال الدارقطني: لا يحتج به، اهـ من «تاريخ بغداد» (5/ 204)، لكن له طريق أخرى جيدة عند ابن أبي الدنيا في «الصمت» كما في «مجموعة رسائل ابن أبي الدنيا» (5/ 310) برقم (550). وليس فيه تصريح بموضع النزاع، في حق التائب، والله أعلم.
وأثر الحميدي صحيح، لكنه ليس بصريح في حق من تاب من الكذب، والله أعلم.
قال الخطيب – يرحمه الله – بعد ذكره ما سبق من آثار.
__________
(1) كذا، ولعله: الحسن.(1/189)
قلت: هذا الحكم فيه إذا تعمد الكذب، وأقرّبه، كما أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: أنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: ثنا حنبل بن إسحاق، قال: ثنا علي – يعني ابن المديني – قال سمعت يحيى – وهو ابن سعيد القطان – يحدث عن سفيان قال، قال ليّ الكلبي؛ قال ليّ أبو صالح: كل ما حدثتك به كذب- قلت: كذا، والصواب: قال لنا الكلبي: ما حدثت عن أبي صالح ... فهو كذب لا ترووه – قال: فأما إذا قال: كنت أخطأت فيما رويته، ولم أتعمد الكذب، فإن ذلك يُقبل منه، وتجوز روايته بعد توبته، سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبدالله الطبري يقول: إذا روى المحدث خبراً، ثم رجع عنه، وقال: كنت أخطأت فيه، وجب قبول قوله: لأن الظاهر من حال العدل الثقة الصدق في خبره، فوجب أن يُقبل رجوعه عنه، كما تقبل روايته، وإن قال: كنت تعمدت الكذب فيه، فقد ذكر أبو بكر الصيرفي في كتاب الأصول: أنه لا يُعْمَل بذلك الخبر ولا بغيره من روايته، ... ثم ساق سنده إلى حسين بن حبان، قال: قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة، فردها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع عنها، وقال: ظننتها، فأما إذا أنكرتموها ورددتموها عليَّ، فقد رجعت عنها؟
فقال: لا يكون صدوقاً أبداً، إنما ذلك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشيء، فيرجع عنه، فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا، فقلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: يُخرج كتاباً عتيقاً فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق، فهو صدق، فيكون شُبِّه له فيها، وأخطأ كما يخطئ الناس، فيرجع عنها، قلت: فإن قال: قد ذهب الأصل، وهي في النسخ؟ قال: لا يقبل ذلك عنه، قلت له: فإن قال: هي عندي في نسخة عتيقة، وليس أجدها؟ قال: هو كذاب أبداً، حتى يجيء بكتابه العتيق، ثم قال: هذا دين لا يحل فيه غير هذا، اهـ.
وملخص أدلة من يرى رد رواية الكذاب في الرواية – وإن تاب -:
أ – أن هذا من باب التغليظ في زجره وردع أمثاله.(1/190)
ب – سد الباب أمام من يريد أن يتوصل بإظهار توبته إلى قبول باطلة، قاله ابن الوزير في «التنقيح»، وانظر «توضيح الأفكار» (2/ 149).
ج – أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس كالكذب على غيره، فإن الكذب عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تشريع دين للناس، ما أنزل الله به من سلطان.
د – عدم اطمئنان النفس إلى صحة توبته، لاحتمال أن يكون كاذباً في ذلك، لا سيما إذا تعلق ذلك بمصلحة له، وكما لا يُقبل قوله بإقراره بوضع بعض الحديث، لأنه فاسق بذلك، فكذلك لا يقبل قوله بتوبته، بل منهم من قال: لا تصح توبته – أصلاً، وإن أظهرها – لأنَّ ما وضعه من الحديث سيعمل به الناس الذين لم يبلغهم تراجعه عنه، فكيف يقال بتوبته، وفي هذا الدليل كله بحث يطول، والله أعلم.
هـ - أن هناك من كفّر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو راجع إلى الدليل السابق في (ج)، ولو سُلِّم ففي ردّ روايته بحث.
وقد ذهب الإمام النووي إلى قبول رواية من كذب في الرواية، إن صحت توبته، فقال في مقدمة صحيح مسلم (1/ 29) في باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم إن من كذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عمداً في حديث واحد، فسق ورُدَّت رواياته كلّها، وبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب وحسُنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء، منهم أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري وصاحبُ الشافعي أبوبكر الصيرفي من فقهاء أصحابنا الشافعيين وأصحاب الوجوه منهم ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك، ولا تقبل روايته أبداً، بل (يتحتم) جرحه دائماً، وأطلق الصيرفي، وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نَعُدْ لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعَّفنا نَقْله، لم نجعله قوياً بعد ذلك.
قال: وذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة.(1/191)
قال النووي: ولم أر دليلاً لمذهب هؤلاء، ويجوز أن يُوجَّه بأن ذلك جُعل تغليظاً وزجراً بليغاً عن الكذب عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإنَّ مفسدتهما قاصرة ليست عامة.
قال النووي: قلت: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار: القطع بصحّة توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها المعروفة، وهي الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا، والله أعلم، اهـ.
وذهب إلى ذلك – أيضاً – الصنعاني في «توضيح الأفكار» (2/ 148 - 149).
والظاهر ليّ صحة ما ذهب إليه النووي، للدليل الذي استدل به، ولضعف أكثر الآثار المعزوة للأئمة بخلاف ذلك، ولصنيع بعض العلماء على هذا.
فمن ذلك:
(أ) ما جاء في تاريخ بغداد (11/ 333) ترجمة علي بن أحمد بن الحسن محمد بن نعيم أبي الحسن البصري، المعروف بالنعيمي، قال الخطيب: حدثني الأزهري، قال: وضع النعيمي عَلَى أبي الحسين بن المظفر حديثاً لشعبة، ثم تنبّه أصحاب الحديث على ذلك، فخرج النعيمي عن بغداد لهذا السبب، وأقام حتى مات ابن المظفر، ومات من عرف قصته في وضعه الحديث، ثم عاد إلى بغداد، اهـ.
قال الذهبي في «الميزان» (3/ 114) ترجمة النعيمي هذا: قد بدت منه هفوة في صباه، واتُّهم بوضع الحديث، ثم تاب إلى الله، واستمر على الثقة، اهـ.
(ب) وفي «تهذيب التهذيب» (1/ 312) ترجمة إسماعيل بن عبدالله بن أويس:(1/192)
من طريق البرقاني قال: ثنا أبو الحسن الدارقطني، قال ذكر محمد بن موسى الهاشمي وهو أحد الأئمة، وكان النسائي يخصه بما لم يخص به ولده، فذكر عن أبي عبدالرحمن قال: حكى ليّ سلمة بن شبيب قال: بم توقف أبو عبدالرحمن؟ قال: فما زلت بعد ذلك أداريه أن يحكي ليّ الحكاية، حتى قال: قال ليّ سلمة بن شبيب: سمعت إسماعيل بن أبي أويس يقول: ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة، إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، قال البرقاني: قلت للدارقطني: من حكى لك هذا عن محمد بن موسى؟ قال: الوزير، كتبتها من كتابه، وقرأتها عليه – يعني بالوزير الحافظ الجليل جعفر بن خنزابة – قال الحافظ: قلت: وهذا هو الذي بَانَ للنسائي منه، حتى تجنب حديثه، وأطلق القول فيه بأنه ليس بثقة، ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته، ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه، الذي شارك فيه الثقات، وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري، والله أعلم اهـ.
وهذه الحكاية موجودة في «سؤالات أبي بكر البرقاني في الجرح والتعديل» (ص:46 - 48) برقم (9) قال البرقاني: قلت لأبي الحسن: لم ضَعَّف أبو عبدالرحمن النسائي إسماعيل بن أبي أويس؟ فذكر الحكاية.
ووجه الاستدلال بذلك صنيع الحافظ ابن حجر، وقد يقال: ومع ما حكى إسماعيل عن نفسه في شبيبته، فلم يتأخر صاحبا «الصحيح» عن إخراج روايته، ولم يُتعقب عليهما ذلك من جهة ما وقع من إسماعيل في شبيبته، مما يدل على قبول توبة من كذب في الرواية، بشرط أن تكون توبته صحيحة، وليست من جملة أكاذيبه، وهذا الحكم بشرط أن يصرح بأنه وضع كذا وكذا، من الحديث، وأن كذا وكذا من الحديث قد سمعه من فلان، لأنَّ عموم الأدلة يدل على قبول توبة التائب، والعمل بقوله فيما أخبر به بعد توبته، سواء كان سابقاً أو لاحقاً، والله أعلم.(1/193)
وقد ألحق السخاوي في «فتح المغيث» (2/ 71) بالعمد من أخطأ، وصمم بعد بيان ذلك له ممن يثق بعلمه مجرد عناد، قال: كما سيأتي في الفصل الثاني عشر. اهـ.
وانظر الأقوال والمذاهب في مسألة توبة الكاذب في الرواية «شروط الأئمة الخمسة للحازمي» (ص:54) و «المسودة» (ص:261) وما بعدها. وفي «التقييد» (ص:150 - 151)، و «المقنع» (1/ 271) وما بعدها، و «فتح المغيث» (2/ 71) وما بعدها و «الغاية» (1/ 210 - 211)، و «التدريب» (1/ 390) وما بعدها و «التوضيح» (2/ 148 - 149)، (2/ 237) وما بعدها.
وأمّا من تاب من الكذب في حديث الناس ومعاملاته، ويلتحق به الفاسق بغير الكذب: فمن باب أولى أن يُقبل حديثه، والجمهور على ذلك، خلافاً للصيرفي، كما سبق، وهو خلاف الصواب، وقد قال الخطيب في «الكفاية» (ص:190): قد ذكرنا آنفاً قول مالك بن أنس في ذلك – أي في رد رواية الكاذب في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم – ويجب أن يُقبل حديثه إذا ثبتت توبته، والله أعلم اهـ وقد سبق الكلام على التفرقة بين من كذب في الرواية خطأ، ومن كذب فيها عمداً.
وأمّا التفرقة بين كذب في الرقاق والأحكام: فقد قال السخاوي في «فتح المغيث» (2/ 71 - 72): وأما من كذب عليه في فضائل الأعمال، معتقداً أن هذا لا يضر، ثم عرف ضرره، فتاب، فالظاهر – كما قال بعض المتأخرين – قبول رواياته، وكذا من كذب دفعاً لضرر يلحقه من عدو، ورجع عنه، اهـ وإذا كنا قد قبلنا التائب من الكذب في الرواية بعد تعمده، فكيف لا يُقبل في هذا الموضع؟!
(تنبيه):
رُوي أثر عن الثوري يدل على قبوله رواية الكذاب – وإن لم يتب -:
قال الترمذي – يرحمه الله -: حدثنا إبراهيم بن عبدالله بن المنذر الباهلي ثنا يعلى بن عبيد، قال: قال لنا سفيان الثوري: اتقوا الكلبي، قال: فقيل له: فإنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه، اهـ من «شرح علل الترمذي» (1/ 77).
وهذا أثر ضعيف: شيخ الترمذي مستور، وهو باهلي صنعاني.(1/194)
ويعلى بن عبيد في حديثه عن الثوري لين، وهو ثقة في غيره، فلا يحتج بهذا الأثر، وقد أخرجه بهذا السند من طريق الترمذي ابن عدي في «الكامل» (6/ 2127) وابن حبان في «المجروحين» (2/ 256) ترجمة الكلبي.
ومما يدل على أن الثوري لم يرو عنه احتجاجاً بما صدق فيه، ما جاء في «الجرح والتعديل» (7/ 270/1478) ترجمة محمد بن السائب الكلبي: قال الثوري: عجباً لمن يروي عن الكلبي. قال عبدالرحمن: فذكرته لأبي، وقلت له: إن الثوري يروي عن الكلبي؟ قال كان لا يقصد الرواية عنه، ويحكي حكاية تعجبا، فيعلقه من حضره، ويجعلونه رواية عنه، اهـ.
(تنبيه آخر): قد يكون الرجل متروكاً في عِلْم، حجةً في علم آخر، أو يستشهد به في علم آخر، كما في حفص بن سليمان الأسدي أبي عمر البزار الكوفي المقرئ، فإنَّه متروك في الحديث، مع إمامته في القراءات. وكما في محمد بن عمر الواقدي، فإنَّه متروك في الحديث، ويروون كلامه في التاريخ والمغازي.
وقد ذكر ابنُ حبان أحمدَ بن طاهر بن حرملة بن يحيى المصري في المجروحين (1/ 151 - 152) وذكر من كذبه القبيح، ثم قال: فأما كتاب السنن التي رواها عن الشافعي، فهي كلها صحيحة في نفسها، من كتب حرملة – يعني جده، وهو يروي عن جده – من المبسوط أو سمع من جده تلك، اهـ.
وفي «الأنساب» للسمعاني (ت:562هـ) (3/ 324 - 325):
قال ابن أبي معدان – وهو محمد بن أحمد بن راشد بن معدان الأصبهاني – في محمد بن عبدالله بن موسى السني: كان ثقة في الحديث، كذوب اللّهجة في حديث الناس وفي المعاملات، اهـ.
وانظر «اللسان» (5/ 240) وفي «الميزان» (4/ 386) ترجمة يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزبرقان، قال: محدث مشهور، وذكر أن الدارقطني وثقه، وقال: قال موسى بن هارون: أشهد أنه يكذب.(1/195)
قال الذهبي: عنى في كلامه، ولم يعن في الحديث، فالله أعلم، والدارقطني من أخبر الناس به، اهـ وانظر «اللسان» (4/ 386)، و «النبلاء» (12/ 620)، وليس في هذه الترجمة دلالة ظاهرة على المراد، كما لا يخفي وانظر «تهذيب التهذيب» (2/ 124) ترجمة جويبر بن سعيد، و «تذكرة الحفاظ» (3/ 1031) ترجمة الحليمي الحسين بن الحسن.
والخلاصة: أنَّ من كان كذاباً أو متروكاً؛ فالأصل رد حديثه كله، إلا ما صرح إمام بقبوله: إمّا مطلقاً أو مقيداً، فيُعمل به، وإلا فلا، والله أعلم.
س 220: هل رواية الرجل – الذي في حفظه ضعف – للحديث، مصحوباً بقصة، تُقبل منه أم لا؟
ج 220: سبق الكلام – مختصراً – على ذلك في السؤال رقم (35) وأفضِّل الكلام في هذا المقام، فأقول:
جاء في «هدي الساري» (ص:363) في الفصل الثامن، الحديث الثاني والأربعين: قال الدارقطني: وأخرج البخاري حديث العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً» قال: وهذا لم يسنده غير العوام، وخالفه مسعر، فقال: عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة قوله، لم يذكر أبا موسى، ولا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الحافظ: قلت: مسعر أحفظ من العوام بلا شك، إلا أنّ مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة تدل على أن العوام حفظه، فإنَّ فيه: اصطحب يزيد بن أبي كبشة وأبو بردة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بردة: أفطر، فإني سمعت أبا موسى مراراً يقول ... فذكره.
قال الحافظ: وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة، دل على أن راويه حفظه، والله أعلم، اهـ.
قلت: الحديث أخرجه البخاري في ك/ الجهاد، ب/ يُكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، برقم (2996) (6/ 136) من «الفتح».(1/196)
والعوام ثقة ثبت، إلا أن مخالفته لمسعر هنا؛ تزعزعه في هذا الموضع.
وقد قوّى الحافظ روايته بحكايته القصة عن السكسكي بها، ونقل كلام أحمد في ذلك. وشبيه بهذا أن يروي المتكلَّم في حفظه حديثاً أو أثراً حسن السياق، كما جاء في «سنن البيهقي» (2/ 210 - 211): ك/ الصلاة، ب/ دعاء القنوت، وقد ساق سنده إلى أسيد بن عاصم ثنا الحسين بن حفص عن سفيان، قال: حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير أن عمر – رضي الله عنه – قنت بعد الركوع، فقال: اللّهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، والِّفْ بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللّهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذِّبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللّهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، بسم الله الرحمن الرحيم، اللّهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك، ولا نكْفُرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إيّاك نعبد، ولك نصلي ونسجد، ولك نسعى ونحفد، ونخشى عذابك الجد، ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق.
قال البيهقي: رواه سعيد بن عبدالرحمن بن أبزي، عن أبيه، عن عمر، فخالف هذا في بعضه ..... ، ثم ساقه مختصراً مع ذكر القنوت قبل الركوع، ثم قال: وهو وإن كان إسناداً صحيحاً، فمن روى عن عمر قنوته بعد الركوع أكثر، فقد رواه أبو رافع وعبيد بن عمير وأبو عثمان الهندي وزيد بن وهب، والعدد أولى بالحفظ من الواحد، وفي حسن سياق عبيد بن عمير للحديث دلالة على حفظه، وحفظ من حفظ عنه، اهـ.
وسند حديث عبيد بن عمير حسن، كله ثقات إلا الحسين بن حفص، فإنه صدوق، وعنعنة ابن جريج فيه لا تضر – إن شاء الله – كما في موضعه، وقد صرح البيهقي بأن حسن السياقة يدل على الحفظ من رواة السند، والله أعلم.(1/197)
وفي «الإرواء» (1/ 242/225) قال الحسن العبدي: رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يؤذِّن قاعداً، وكانت رجله أصيبت في سبيل الله.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله – بعد ذكره سند البيهقي للحسن بن محمد، وهو العبدي: قلت: وهذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى، رجاله كلهم ثقات معروفون غير الحسن بن محمد هذا، وهو العبدي، كما في رواية الأثرم، وقد أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/ 2/35) فقال: روى عن أبي زيد الأنصاري، وروى عنه علي بن المبارك الهنائي، اهـ.
قال: قلت: فقد روى عنه إسماعيل بن مسلم أيضاً كما ترى – يعني في رواية البيهقي – وهو العبدي القاضي وبذلك ارتفعت جهالة عينه، وقد ذكره ابن حبان في الثقات (1/ 15) ثم هو تابعي، وقد روى أمراً شاهده، فالنفس تطمئن إلى مثل هذه الرواية والله أعلم، اهـ.
وقد يستدل البعض بما جاء في «العلل» للرازي (1/ 402/1203) قال: سألت أبي عن حديث رواه أشعث بن عبدالملك عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن التبتل، ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن التبتل.
قال: قلت أيهما أصح؟ قال أبي: قتادة أحفظ من أشعث، وأحسب الحديثين صحيحين، لأن لسعد بن هشام قصة في سؤاله عائشة عن ترك النكاح يعني التبتل، اهـ.
فقد يقول قائل: هذا دليل على أن الحديث لو كان فيه قصة، دلّ على حفظ راويه.(1/198)
والجواب: أنَّ مراد أبي حاتم، أنَّ النهي عن التبتل محفوظ من حديث عائشة؛ لأن عائشة قد سألها عن ذلك سعد بن هشام في رواية أُخرى، مما يدل على أن أشعث لم يخطئ في روايته عن الحسن، وجعله الحديث من مسند عائشة، مخالفاً في ذلك لقتادة الذي رواه عن الحسن، فجعله من مسند سمرة، فاستدل أبو حاتم على حفظ أشعث بدليل خارجي، يقوي أنَّ لذكر عائشة في الحديث أصلاً، لا لأنَّ في الحديث قصة، فإن أشعث لم يرو القصة أصلاً، والله أعلم.
والخلاصة:
أنَّ ذكر القصة في الحديث مع حُسن سياقها – السالم من النكارة – يقوي في النفس ثبوتها، وإن كان الراوي لذلك فيه لين – فضلاً عن أن يكون ثقة، قد خالف من هو أولى منه، كما في الأمثلة السابقة، وكذا لو حكى الضعيف شيئاً وقع له، فهذا ونحوه يقوي في النفس ثبوت الحديث، وقد يستدل بعض العلماء بطول الحديث عن نكارة سياقه ووهم راويه، كما استنكر صالح بن عبدالله على أبي مقاتل السمرقندي روايته عن عون بن أبي شداد الأحاديث الطوال، التي كانت تروى في قصة لقمان، وقتل سعيد بن جبير، انظر «شرح علل الترمذي» (1/ 78 - 79) تحقيق عتر، وهذا بخلاف تقويتهم الحديث لحسن سياقه، والله أعلم.
س 221: معلوم أن عطية بن سعد العوفي يروي عن الكلبي، والكلبي متروك، ويُكنِّى الكلبي بأبي سعيد، موهماً أنه الخدري، فهل يُستشهد به إذا رَوَى عن أبي سعيد، أم لا؟ وماذا إذا صرح بأنه الخدري؟ هل يعتمد قوله في ذلك؟ أم يقال: هذه النسبة من تصرُّف من بعده من الرواة، ويحتمل أنه الكلبي أيضاً؟(1/199)
ج 221: عطية العوفي ضعيف من قبل حفظه، ومدلس، ويتشيّع، وقد روى عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -، وروى عن محمد بن السائب الكلبي وغيرهما، وقد ذكره أحمد فضعفه، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي، ويسأله عن التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد، اهـ من «الجرح والتعديل» (6/ 383) بدون ذكر التكنية، و «الضعفاء الكبير» للعقيلي (3/ 359) و «المجروحين) (2/ 176) و «الكامل» (5/ 2007) و «الكفاية» (ص:521) و «تهذيب التهذيب» (7/ 225).
وقول أحمد: «بلغني» يدل على ضعف السند.
وقال الكبي: كنّاني عطية أبا سعيد، اهـ من «الضعفاء الكبير» للعقيلي (3/ 359) و «المجروحين» (2/ 177) و «الكامل» (5/ 2007) و «تهذيب التهذيب» (7/ 225).
والكلبي متهم متروك، فلا يعتمد على قوله هذا.
ولم أجد ما يدل على صحة ما قيل في حق عطية العوفي، ومع هذا فكثير من العلماء يحكى هذا عن عطية، وقد قال ابن حبان في المجروحين (2/ 176): سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث، فلما مات أبو سعيد، جعل يجالس الكلبي، ويحضر قصصه، فإذا قال الكلبي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكذا، فيحفظه، وكنّاه أبا سعيد، ويروى عنه، فإذا قيل له: من حدّثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنّه يريد أبا سعيد الخدري، وإنّما أراد به الكلبي، فلا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه، إلا على جهة التعجب ... اهـ.
فإن كان دليل ابن حبان وغيره ما قد سبق، ففيه ما قد سبق، وإن كان هناك دليل آخر، فلا أعلمه، ولذلك فقد قال ابن رجب يرحمه الله في «شرح علل الترمذي» (2/ 823) بعد ذكره قول أحمد والكلبي: ولكن الكلبي لا يعتمد على ما يرويه، وإن صحت هذه الحكاية عن عطية، فإنما يقتضي التوقف فيما يحكيه عن أبي سعيد من التفسير خاصة، فأما الأحاديث المرفوعة التي يرويها عن أبي سعيد، فإنما يريد أبا سعيد الخدري، ويصرح في بعضها بنسبته، اهـ.(1/200)
فهذا ابن رجب – يرحمه الله – قد توقف في صحة هذه الحكاية – وحُقَّ له ذلك بعد بيان ما سبق.
ولو فرضنا صحة هذه الحكاية، فالأمر كما قال ابن رجب – يرحمه الله -، أنّنا نقف في روايته التفسير إذا روى عن أبي سعيد، أمّا إذا قال: عن أبي سعيد الخدري، وصرّح بنسبته، فيعتمد على قوله، ودعوى أن هذا من تصرف أصحابه؛ خلاف الظاهر، وفيها بحث واحتمال، وقد ذهب شيخنا الألباني – حفظه الله – إلى الوقف في كل روايات عطية عن أبي سعيد، وإن قال: عن أبي سعيد الخدري، في التفسير أو غيره، لاحتمال أن يكون ذلك مما توهمه تلامذته، ودليل شيخنا – حفظه الله تعالى – الاحتياط والتحرز في باب الرواية، وهذا كلام له وجهه، لكن ذلك خاص بالتفسير كما قال ابن رجب – يرحمه الله -، وهذا كله بعد افتراض صحة الحكاية السابقة. والذي تطمئن إليه النفس بعد عدم ثبوت تلك الحكاية عن عطية، أنَّه يستشهد بروايات عطية عن أبي سعيد في التفسير وغيره، والله أعلم.
وقد ذكر الحافظ أن الترمذي يحسن لعطية إذا توبع على روايته، انظر «التلخيص الحبير» (2/ 29) و «نتائج الأفكار» (1/ 115) حديث: «ما من عبد يقول حين يتنبه من نومه .... » الحديث، اهـ.
وفي «موافقة الخُبر الخَبر» (1/ 245) في المجلس الحادي والستين، قال الحافظ: ... وأشدهم ضعفاً عظيت، ولو توبع لحكمت بحسنه، اهـ وهو من رواية العوفي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – والعلم عند الله – تعالى -.
س 222: الراوي إذا كان مدلساً، وروى عن شيخ قد لازمه، وأكثر عنه، هل يزيل ذلك علة تدليسه – وإن عنعن – أم لا؟
ج 222: سبق شيء من هذا في السؤال (179) وهذا موضع التفصيل.
فأقول: المدلس إذا لازم الشيخ وأكثر عنه – مع ثقته وتيقظه – فالفرض أنَّ قد استوعب حديث شيخه وعرفه وميزه من حديث غيره، فإذا سمع أحداً يحدث عن شيخه حديثاً لا يعرفه؛ استنكره، بل وربّما كذَّب راويه.
فإذا روى الحديث عن شيخه بصيغة محتملة، فهو أحد أمرين:(1/201)
أمّا أن يكون قد سمعه من شيخه، وفي هذه الحالة فلا إشكال.
وإمّا أن يكون قد سمعه من غيره عن شيخه، وهو يعلم أنه من حديث شيخه؛ لأنَّ الفرض معرفته لحديث شيخه؛ فإن حدث به عن شيخه بدون واسطة، فلا يضر الحديث؛ لأنَّ القصد من معرفة ثقة الواسطة؛ ثبوت الحديث للشيخ، وقد كفانا ذلك تلميذه بنسبته الحديث إلى شيخه، فدينه ومعرفته يمنعانه من نسبة الحديث المكذوب على شيخه إلى شيخه.
وقد قال العلامة المعلمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:865) في المسألة الرابعة عشر من المسائل الفقهية: وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء، وألزمهم له، جاء عنه أنه قال: لزمت عطاء سبع عشرة سنة، وقال: جالست عمرو بن دينار بعدما فرغت من عطاء، وكان يدلس عن غير عطاء، فأما من عطاء لا، قال: إذا قلت: «قال عطاء»، فأنا سمعته منه، وإن لم أقل: «سمعت».
قال: وإنما هذا لأنه كان يرى أنه قد استوعب ما عند عطاء، فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه، رأى أنه كذب، فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء، وهذا كما قال أبو إسحاق: قال أبو صالح ذكوان وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج: ليس أحد يحدث عن أبي هريرة، إلا علمنا أصادق هو أم كاذب، يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه عنه، علما أنه كاذب، لإحاطتهما بحديث أبي هريرة، وقال الإمام أحمد، ابن جريج أثبت الناس في عطاء ... ، اهـ.
وقد جاء في «تهذيب التهذيب» (6/ 406) ترجمة عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج، أن أبا بكر بن أبي خيثمة قال: حدثنا إبراهيم بن عرعرة عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال: إذا قلت: «قال عطاء»، فأنا سمعته منه، وإن لم أقل: «سمعت».(1/202)
وقد صحح شيخنا الألباني – حفظه الله – هذا السند في «الإرواء» (3/ 97/629)، ثم قال: فهذا نص منه: أن عدم تصريحه بالسماع من عطاء، ليس معناه أنَّه قد دلسه عنه، ولكن هل ذلك خاص بقوله: «قال عطاء»، أم لا فرق بينه وبين ما لو قال: «عن عطاء»؟ ثم قال: الذي يظهر لي الثاني، وعلى هذا: فكل روايات ابن جريج عن عطاء محمولة على السماع، إلا ما تبين تدليسه فيه، والله أعلم، اهـ.
وبنحو ذلك قال – حفظه الله – في «الصحيحة» (1/ 52/36) في حديث: «الأذنان من الرأس».
قلت: النفس إلى ما ذكره المعلمي – يرحمه الله – تميل، وإن كان هناك احتمال: أن المكثر عن شيخ وإن طالت ملازمته إياه، قد يفوته بعض الحديث من حديث شيخه، لكنه احتمال نادر، والنادر لا يُعَوَّل عليه، إلا إذا ظهرت قرينة تدل على النكارة في الحديث.
وقد أشار الحافظ الذهبي إلى هذا المعنى الذي دندن حوله العلامة المعلمي – يرحمه الله -، فقال في «الميزان» (2/ 224) ترجمة سليمان بن مهران الأعمش: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: «حدثنا» فلا كلام، ومتى قال: «عن» تطرّق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان، فإنَّ روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال، اهـ.
وقد صحح الحافظ لابن جريج عن عطاء، كما في «نتائج الأفكار» (2/ 149 - 150) في المجلس، (150) مع أن ابن جريج قال: «عن عطاء».
وذهب أخونا الفاضل الشيخ أبو إسحاق الحويني في «النافلة» (ص:29 - 30) برقم (108) إلى أن ابن جريج يُمَشَّى قولُه: إذا قال: قال عطاء، أما إذا أتى بصيغة محتملة أُخرى فلا، واستدل بأن المدلس إنما توزن أقواله وألفاظه – أي ولا يقاس على أقواله.(1/203)
والراجح عندي ما تقدم، لما قاله الذهبي والمعلمي – يرحمهما الله تعالى -، ولأن الظاهر من كلام ابن جريج أنه يريد أن يقول: لا يلزمني أن أقوال: سمعت عطاءً، بل لو قلت لكم: «قال عطاء» – وهذا على سبيل المثال لا الحصر – فهو مما سمعته منه، إذ لو كان قد كتم نية أُخرى، وهي التفرقة بين «قال» وغيرها من الصيغ المحتملة، لكان مدلساً موهماً أيضاً في هذا القول، وهو خلاف الظاهر لمن تأمل.
ولو لم يقل ابن جريج ما قال؛ لكان في كلام الذهبي والمعلمي كفاية في قبول رواية ابن جريج عن عطاء مطلقاً، ما لم تظهر نكارة في الحديث، والله أعلم.
وقد يُستدل لأخينا الحويني – سلمه الله – بما قال الخطيب – يرحمه الله – في تفرقة الأئمة بين «عن» و «قال» عن المدلسين، فجعلوا «عن» أكثر في استعمال المدلسين من «قال» انظر «تغليق التعليق» (2/ 9) و «النكت» (2/ 601 - 602) و «هدى الساري» (ص:17) الفصل الرابع – إلا أن الراجح ما قد تقدم، والعلم عند الله – تعالى -.
س 223: الرواة الذين وصفت مراسيلهم بأنها أضعف المراسيل، هل يستشهد بمراسيلهم أم لا؟
ج 223: معلوم أن جمهور الأئمة على عدم الاحتجاج بالمرسل، وقد أطال الخطيب النفس في «الكفاية» في ذكر أدلة ذلك، والرد على مخالفيه.
وبعض هؤلاء التابعين الذين يروون عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دون ذكر من حدثهم بذلك، قد تتبع الأئمة أحاديثهم، وفتشوا عنها، فمنهم من قوَّوْا مراسيله، لتحريه في شيوخه، ومنهم من وهَّوْا مراسيله، لأخذه عن كل ضرب، وقد نظرت في كلام العلماء في ذلك، فظهرت ليّ عدة أسباب، جعلت الأئمة يطلقون القول بوهاء بعض المراسيل، فقد ذكر ابن رجب – يرحمه الله – أقوال القطان في مراسيل بعض العلماء، وذكر أنها تتفاوت في الرتبة قوة وضعفاً، ثم قال:
وكلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض، يدور على أربعة أسباب:(1/204)
أحدها: ما سبق من أن من عُرف بروايته عن الضعفاء، ضُعِّف مرسله بخلاف غيره.
والثاني: أن من عُرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه، فإرساله خير ممن لم يُعرف له ذلك، وهذا معنى قوله: مجاهد عن علي ليس به بأس، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي.
والثالث: أن من قَوِىَ حفظه، يحفظ كل ما يسمعه، ويثبت في قلبه، ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه، بخلاف من لم يكن له قوة الحفظ، ولهذا كان سفيان إذا مَرّ بأحد يتغنى يسد أذنيه، حتى لا يدخل إلى قلبه ما يسمعه منه، فيقرّ فيه.
وقد أنكر مرة يحيى بن معين علَى عليِّ بن عاصم حديثاً، وقال: ليس هو من حديثك، إنّما ذُوكِرْت به، فوقع في قلبك، فظننت أنك سمعته، ولم تسمعه، وليس هو من حديثك.
وقال الحسين بن حريث: سمعت وكيعاً يقول: لا ينظر رجل في كتاب لم يسمعه، لا يأمن أن يعلق قلبه منه، وقال الحسين بن الحسن المروزي: سمعت عبدالرحمن بن مهدي يقول: كنت عند أبي عوانة فحدث بحديث عن الأعمش، فقلت: ليس هذا من حديثك، قال: بلى، قلت: لا، قال: بلى قلت: لا، قال: يا سلامة! هات الدرج، فأخرجته، فنظر فيه، فإذا ليس الحديث فيه، فقال: صدقت يا أبا سعيد، فمن أين أُتِيتُ؟ قلت: ذُوكِرْت به وأنت شاب، فظننت أنك سمعته.
الرابع: أنَّ الحافظ إذا روى عن ثقة لا يكاد يترك اسمه، بل يسميه، فإذا ترك اسم الراوي، دلّ إبهامه على أنَّه غير مرضي، وقد كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيراً، يكنّون عن الضعيف، ولا يسمونه؛ بل يقولون: عن رجل، وهذا معنى قول القطان: لو كان فيه إسناد لصاح به، يعني: لو كان أخذه عن ثقة؛ لسماه وأعلن باسمه.
وخرج البيهقي من طريق أبي قدامة السرخسي، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما يقدر أن يسمى سمى، وإنّما يترك من لا يستجيز أن يسميه.(1/205)
قال يحيى بن معين: مراسيل الزهري ليست بشيء، وقال الشافعي: إرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم ... اهـ من «شرح علل الترمذي» (1/ 283 - 284).
وقد جاء عن الشافعي مدح مشايخ الزهري، فقال: وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير – أي اختيار الرجال الذي يروي عنهم – وثقة الرجال، إنّما يسمي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم خيار التابعين، ولا نعلم محدثاً يُسمي أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه ابن شهاب، قال الشافعي: قال – أي السائل -: فأنى تُراه أُتي في قبوله عن سليمان بن أرقم؟.
(قلت): رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فقبل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه، إمّا لأنَّه أصغر منه، وإمّا لغير ذلك، وسأله معمّر عن حديثه عنه، فأسنده له، فلّما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروى عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب، لم يُؤْمَن مثل هذا على غيره، اهـ.
فأنت ترى الأسباب التي ذكرها ابن رجب – يرحمه الله – تدور على تصرف المرسِل، وقد ذكر الذهبي سبباً آخر يرجع إلى طبقة المرسِل، فقال في «الموقظة» (ص:38 - 40):
المرسل: عَلَمٌ على ما سقط ذِكر الصحابي من إسناده، فيقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال: ويقع في المراسيل الأنواع الخمسة الماضية – أي الصحيح والحسن والضعيف والمطروح والموضوع – فمن صحاح المراسيل: مرسل سعيد بن المسيب ومرسل مسروق، ومرسل الصنابحي، ومرسل قيس بن أبي حازم، ونحو ذلك.
فإنَّ المرسَل إذا صح إلى تابعي كبير، فهو حجة عند خلق من الفقهاء، فإن كان في الرواة ضعيف إلى مثل ابن المسيب، ضُعِّف الحديث من قبل ذلك الرجل، وإن كان متروكاً أو ساقطاً: وَهَنَ الحديث وطُرح.(1/206)
قال: ويوجد في المراسيل موضوعات، نعم، وإن صح الإسناد إلى تابعي متوسط الطبقة، كمراسيل مجاهد وإبراهيم والشعبي، فهو مرسل جيد لا بأس به، يقبله قوم، ويرده آخرون – ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن، وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري وقتادة.
وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير عن صحابي، فالظن بمرسَله أنه أَسْقَط من إسناده اثنين، اهـ وبعد ذكر الأسباب التي جعلت الأئمة يصفون بعض المراسيل بالوهاء، أعود إلى الجواب على السؤال:
فأقول، وبالله التوفيق:
كثير من الرواة الذين وصفت مراسيلهم بذلك، لم يُسَلَّم للقائل قوله، فالزهري والحسن البصري وغيرهما فيهم اختلاف، فمِنَ العلماء مَنْ قَوَّي مراسيلهم، ومنهم من ضعف مراسيلهم، وانظر «شرح علل الترمذي» (1/ 284) وما بعدها.
ومجرد وجود روايات عن ضعفاء أو متروكين؛ لا يلزم منه أن يكون الراوي ممن لا يبالي عمن يأخذ.
فلو سلمنا بأن عامة شيوخ الراوي متروكون، لقلنا بعدم الاستشهاد بمرسله، وكذلك إذا صرحوا بأن غالب مشايخه كذلك، بل لو صرحوا بكثرة هذا الصنف في مشايخه، وإن لم يكونوا أكثر من غيرهم، وكذلك إذا كان هناك من لا يرسل إلا عن مجروح، أما مجرد وجود من اشتد ضعفهم في مشايخه، فلا يلزم من ذلك رد كل مراسيله، وعدم الاعتبار بها.
والذي تطمئن إليه النفس في ذلك: الاستشهاد بمراسيل من وصفوا بذلك، ما لم تكن روايتهم منكرة سنداً أو متناً – على التفصيل السابق – مع الأخذ في الاعتبار تفاوت درجة هذه المراسيل، كما سبق، وإذا كان الشاهد والمشهود له ممن وصف بوهاء مرسله، ففي النفس من الاستشهاد بهما شيء، هذا إذا كان القول بوهاء المرسل مقبولاً لا مرجوحاً، والله أعلم.
وقد ذكر صاحب «مناهج المحدثين» (ص:150) أن الاستشهاد بمن وصف بوهاء مرسله صنيع الشافعي والبيهقي وابن الملقِّين وابن حجر.(1/207)
وقد أحال إلى عدة مواضع في الحاشية فانظر «الجوهر النقي» مع السنن الكبرى للبيهقي (10/ 305) ك/ الولاء ب/ من قال: من أحرز الميراث احرز الولاء، وانظر «شرح علل الترمذي» (1/ 307) في الكلام على مذهب الشافعي وأحمد في المرسل، وانظر «السنن الكبرى» للبيهقي (1/ 178) ك/ الطهارة ب/ فرض الغسل، و (3/ 397) ك/ بالجنائز ب/ غسل المرأة زوجها، (4/ 9) ك/ الجنائز ب/ السقط يُغَسَّل ويُكَفَّن ... وانظر «البدر المنير» (ص:628) رسالة ماجستير، و «فتح الباري» (1/ 293)، (8/ 439)، و «نتائج الأفكار» (1/ 345)، (1/ 392) المجلس (80)، (1/ 506) المجلس (106)، (2/ 61 - 62)، المجلس (126)، و «نصب الراية» (2/ 196 - 197)، اهـ مع تصرف وزيادة – والله تعالى أعلم.
س 224: الحديث المرسَل هل يتقوى بمرسل آخر، ويُحتج بهما، أم يبقى على الضعف أبداً؟
ج 224: قد تكلم الإمام الشافعي – يرحمه الله – في هذا الأمر، وأسهب في ذلك، ويليق بي في هذا الموضع أن أذكر كلامه هنا، وأن أذكر كلام الأئمة حول كلام الإمام الشافعي، وأبين ما ترجح عندي في ذلك.
قال الإمام الشافعي – يرحمه الله -: .... فقال – أي: السائل – فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه؟ وهل يختلف المنقطع؟ أو هو وغيره سواء؟
قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف:
فمَنْ شَاهَدَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اعتُبر عليه بأمور:
منها: أن يُنظر إلى ما أرْسل من الحديث: فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قَبِل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث، لم يَشرَكه فيه من يُسنده؛ قُبِلَ ما ينفرد به من ذلك.(1/208)
ويعتبر عليه بأن يُنظر: هل يوافقه مرسِلٌ غيرُه، ممن قُبل العلمُ عنه، من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجد ذلك، كانت دلالة يَقْوَى له مرسله، وهي أضعف من الأولى، وإن لم يوجد ذلك، نُظِر إلى بعض ما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح، إن شاء الله.
وكذلك إن وُجد عوامٌّ من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الشافعي: ثم يُعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم (يسم) مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما روى عنه.
قال: ويكون إذا شَرَك أحداً من الحفاظ في حديث؛ لم يخالفه، فإن خالفه (ووجد) حديثه أنقص: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه.
قال: ومتى خالف ما وصفتُ أضرَّ بحديثه، حتى لا يَسَعَ أحداً منهم قبولُ مرسَلِه.
قال: وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفتُ، أحببنا أن نقبل مرسَلَه، ولا نستطيع أن نزعُم أن الحجة تثبت به ثبوتها بـ (المتصل).
قال: وذلك أن معنى المنقطع مُغيَّب، يحتمل أن يكون حُمل عمن يُرغب عن الرواية عنه إذا سُمِّي، وأنَّ بعض المنقطعات – وإن وافقه مرسل مثله – فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً، من حيث لو سُمِّي لم يقبل، وأنَّ قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قال برأيه لو وافقه، يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نُظِر فيها، ويمكن أن يكون إنّما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
قال الشافعي – يرحمه الله -: فأمّا من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فلا أعلم منهم واحداً يُقبل مرسله، لأمور:(1/209)
أحدها: أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه.
والآخر: أنَّهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.
والآخر: كثرة الإحالة (في الأخبار، وإذا كثرت الإحالة) (1) كان أمكن للوهم وضعف من يُقبل عنه .....
قال: ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة فيها.
قال – أي: السائل -: فلِمَ فرَّقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟
فقلت: لِبُعْدِ إحالة من لم يشاهد أكثرهم.
قال: فلِمَ لا تَقْبَل المرسَل منهم، ومِنْ كل فقيه دونهم؟ قلت: لما وصفتُ ... ثم قال الشافعي: وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثقة الرجال، إنما يُسميِّ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم خيار التابعين، ولا نعلم محدثاً يُسمِّى أفضلَ ولا أشهر ممن يحدِّث عنه ابنُ شهاب.
قال – أي: السائل -: فأنى تُراه أُتي في قبوله عن سليمان بن أرقم؟.
قال الشافعي: رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فقبِل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه، إمَّا لأنَّه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه، فأسنده له.
قال الشافعي: فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان – مع ما وصفتُ به ابن شهاب – لم يُؤْمَن مثل هذا على غيره ... اهـ، من «الرسالة» (ص:461 - 470) من رقم: (1262 - 1305).
قال ابن رجب – يرحمه الله تعالى – بعد ذكره لكلام الشافعي – يرحمه الله -:
وهو كلام حسن جداً، ومضمونه أنَّ الحديث المرسل يكون صحيحاً، ويُقبل بشروط، منها: في نفس المرسِل:
وهي ثلاثة:
أحدها: أن لا يُعرف له رواية عن غير مقبول الرواية، من مجهول، أو مجروح.
ثانيها: أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسندوه، فإن كان مِمّن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يُقبل مرسله.
__________
(1) انظر هذه الزيادة في جامع التحصيل للعلائي (ص: 37).(1/210)
ثالثها: أن يكون من كبار التابعين، فإنَّهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي، أو تابعي كبير، وأمّا غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم؛ فيتوسعون في الرواية عمّن لا تقبل روايته، - وأيضاً – فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة، وأما من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة، وهي الباطلة الموضوعة، وكثر الكذب – حينئذ.
قال: فهذه شرائط من يُقبل مرسَلُه.
وأمّا الخبر الذي يرسله: فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته، وأن له أصلاً.
والعاضد له أشياء:
أحدها: - وهو أقواها – أن يسنده الحفاظ المأمونون من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ بمعنى ذلك المرسَل، فيكون دليلاً على صحة المرسَل، وأن الذي أرسل عنه كان ثقة.
والثاني: أن يوجد مرسَل آخر موافق له عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المرسِل الأول، فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه، وأنَّ له أصلاً؛ بخلاف ما إذا كان المرسِل الثاني لا يروى إلا عمّن يروي عنه الأوّل، فإن الظاهر أنَّ مخرجهما واحد، لا تعدد فيه، وهذا الثاني أضعف من الأول.
والثالث: أن لا يوجد شيء مرفوع يوافقه لا مسند ولا مرسَل، لكن يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة، فيُستدل به على أن للمرسَل أصلاً صحيحاً أيضاً، لأن الظاهر أ، الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(1/211)
والرابع: أن لا يوجد للمرسَل ما يوافقه، لا مسند ولا مرسل، ولا قول صحابي، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به، فإنه يدل على أن له أصلاً، وأنهم مستندون في قولهم إلى ذلك الأصل (قال ابن رجب – يرحمه الله -: فإذا وجدت هذه الشرائط، دلت على صحة المرسل، وأن له أصلاً، وقُبِلَ واحتُجَّ به، ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة ... ثم ذكر ما ذكره الشافعي – يرحمه الله – من احتمالات ضعف هذه الشواهد، ثم قال: لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً، اهـ. من «شرح علل الترمذي» (1/ 545 - 550).
فقد ذكر ابن رجب – يرحمه الله – كلام الشافعي مستحسناً له جداً، وكذا ذكره غير واحد. ولم يتعرضوا لمناقشة بعض المواضع من كلامه – يرحمه الله -، وقد تكلم في كثير من هذه المواضع الحافظ العلائي – يرحمه الله -، في «جامع التحصيل»، وسأضمن كلامه في موضعه من مناقشتي لكلام الشافعي – رحمة الله عليه، - إن شاء الله تعالى -.
فأقول:
قد بيَّن الإمام الشافعي – يرحمه الله – المواضع التي يُقبل فيها المرسَل – على ما في المرسَل من عدم العلم بحال من سقط من السند – وذكر يرحمه الله شروط ذلك، وفيما ذكره مواضع تستحق البحث، فمن ذلك:
(أ) اشتراطه في المرسِل أن يكون إذا سمى من روى عنه، لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فهذا الشرط لو تأكدنا من تحققه؛ لقبلنا المرسَل ممن هذا وصفه دون توقف لشاهد، والمقام مقام اعتبار المرسَل إذا كان له شاهد، لا أنه يحتج بالمرسَل بمفرده.(1/212)
وقد لاحظ هذا المعنى العلائي – يرحمه الله -، فقال في «جامع التحصيل» (ص:42 - 43) بعد ذكره شرط الشافعي – يرحمه الله -: وقد قال أبو عمر بن عبدالبر وأبو الوليد الباجي: لا خلاف أنَّه لا يجوز العمل بالمرسل، إذا كان مرسِلُه غير متحرز يرسل عن غير الثقات. قال العلائي: وهذا الشرط وحده كاف في اعتبار المرسَل وقبوله، كما تقدم في احتجاج الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب. يعني أن الشافعي عرف ثقة الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اهـ ومما يؤكد أن الشافعي – يرحمه الله – أراد ثقة الرجال بين المرسِل والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنَّه لم يقبل مرسل الزهري لمجرد أنَّه روى عن سليمان بن أرقم في حديث واحد، مع أنَّه وصفه بقوله: ولا نعلم محدثاً يسمى أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه ابن شهاب، اهـ من الرسالة (ص:469) ومع ذلك فقد قال: وإرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم، اهـ من «جامع التحصيل» (ص:43) فلو كان الشافعي – يرحمه الله – يريد أن يكون مشايخ المرسِل في الغالب ثقات – لا جميعهم – لقبل مرسل الزهري، فإذا كان الشافعي يريد ثقة جميع رجال المرسِل بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الشرط وحده كافٍ في الاحتجاج بالمرسل بدون شواهد. ومما يدل على أن الراوي إذا كان شيوخه ثقات؛ فلا يضر إرساله، ما ذكروا في إرسال النخعي عن ابن مسعود، وكذا راوية أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود، وكذلك ما قاله العلائي في «جامع التحصيل (ص:168) في رواية حميد عن أنس التي ثبته فيها ثابت.
وكذلك فقد ذكر ابن القيم هذا الشرط لمن يُعْتدّ بمرسله، فقال في «زاد المعاد» (1/ 379) في فصل في تعظيم يوم الجمعة وتشريفه:(1/213)
وحديث أبي قتادة هذا، قال أبوداود: هو مرسل، لأنَّ أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسلُه معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحن ذلك مما يقتضي قوته، عُمِل به، اهـ. والله أعلم.
(ب) اشتراط الشافعي أن يكون المرسِل إذا، شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه «ووُجد) حديثه أنقص؛ قال: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه، اهـ.
فهذا الشرط هو شرط الثقات عموماً، فلا يحكم على راوٍ بأنه ثقة إلا إذا كان ممن يوافق الثقات، وغلب ذلك على حديثه، وإذا خالفهم بالنقص فهو دليل على تحريه، بخلاف ما إذا خالفهم بالزيادة، ولا خصوصية للمرسِل بهذا الشرط.
وقد قال العلائي – يرحمه الله – كما في (ص:44):
وهذا المعنى لا ينفرد به قبول المرسل، بل هذا الاعتبار جارٍ في كل راوٍ، سواء روى مرسلاً أو مسنداً، بخلاف الأمور المتقدمة، فإنَّها معتبرة في المرسل تقويةً له حتى يفيد الظن، إذا انضم إليه شيء مما تقدم، وإنما ذكر الشافعي هذا الشرط هنا، وهو جارٍ في كل راوٍ، كما صرح به في موضع آخر في الراوي مطلقاً، بقوله: إذا شرك أهل الحفظ في حديثهم وافقهم، لئلا يُظن أن الأمور المتقدمة وحدها كافية في قبول المرسل، إذا انضم بعضها إليه، فبيّن الشافعي – يرحمه الله – أنَّه لا بد مع ذلك من هذا الشرط في الراوي له، كما هو شرْط في راوي المسند، اهـ.
فتحصل من ذلك أن الشافعي – يرحمه الله – أراد أن يقول: أن يكون التابعي المرسِل ثقةً.
وإذا كان ذلك كذلك، فهو داخل في شرط كبار التابعين، وفي شرط من لا يروي إلا عن ثقة، لأنه إذا كان كذلك فكيف يكون ضعيفاً؟ فما فائدة التنصيص إذاً على هذا الشرط؟.(1/214)
وإن كان المقصود أنَّه يُستدل بكثرة موافقته، وكون مخالفته بالنقص؛ على صحة حديثه لذاته، كما يشير إلى ذلك قوله: «كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه» إذا كان هذا هو المراد من كلام الشافعي يرحمه الله، فيرد عليه ما ورد في المسألة (أ) وهو أن المقام مقام تقوية المرسَل بالشواهد، لا مقام الاحتجاج به.
(ج) وقول الشافعي – يرحمه الله -: ويعتبر عليه بأن يُنظر: هل يوافقه مُرسِلٌ غيرُه ممن قُبِل العلم عنه من رجاله الذين قُبل عنهم اهـ من «الرسالة» ص (462) هذا القول مما يُشكل فهمه وتطبيقه عملياً:
فظاهر كلام الشافعي يرحمه الله أنَّه يشترط أن يكون كل من التابعيَّين له شيوخ غير شيوخ الآخر، وهذا الذي صرح به جماعة من العلماء الذين شرحوا كلام الشافعي يرحمه الله.
ووجه الإشكال هنا من جهات:
الأولى: هل يتصور تابعي – وكبير على قول الشافعي يرحمه الله – لم يشارك نظيره في أي شيخ من شيوخه؟ هذا ما استبعده جداً، فإن المعلوم من حال الطلاب الجادين في الطلب، لا سيما كبار التابعين، أنهم يتتبعون ثقات المشايخ حيثما كانوا، فلا بد من اجتماع الطالبين ولو في شيخ واحد، وإن اتفقا – ولو في شيخ واحد – انخرم ما قال الشافعي يرحمه الله -.
الثانية: لو سلمنا بوجود تابعي كبير لم يشترك مع نظيره في شيخ من المشايخ، فما الفائدة من ذلك؟ فإن قيل: الفائدة من ذلك تعدد المخارج، الذي يورث في النفس ظناً قوياً بصحّة المرسَل، فالجواب: أن هذا الظن حاصل إذا اشتركا في جميع الشيوخ، وكان الشيوخ ثقات، ليس فيهم ضعيف، لأنَّ الحديث في هذه الحالة يكون حيثما دار دار على ثقة، فشرْطٌ تخلّفُه لا يضر لا يُسمَّى شرطاً، وإذا كان الشافعي يرحمه الله، قد اشترط في المرسل أن لا يكون إذا سمى شيخه يسمى مرغوباً عن الرواية عنه، فما حاجتنا إلى اشتراط تعدد المخرج بعد ذلك؟.(1/215)
الثالثة: لازم هذا الشرط ترك الاستشهاد بالمرسَل مع المرسَل بالكلية، لعدم وقوع ذلك عملياً، وهذا الشرط قد حمل شيخنا الألباني حفظه الله تعالى على القول بذلك – وإن كان هذا خلاف صنيعه في كُتبه – فقد قال حفظه الله – في «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» (ص:23 - 24):
قلت: فإذا عُرف أن الحديث المرسَل لا يُقْبل، وأنَّ السبب هو الجهل بحال المحذوف، فيرد عليه بأنَّ القول: بأنه يقْوى بمرسَل آخر، غير قوي، لاحتمال أن يكون كل من أرسله إنَّما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذٍ ترد الاحتمالات التي ذكرها الحافظ – يعني الحافظ ابن حجر في كلامه في «النزهة» في أدلّة رد المرسَل – وكأن الإمام الشافعي يرحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسَل الآخر أن يكون مرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح (ص:35)، وكأن ذلك ليغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر، قال: وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي يرحمه الله، فاحفظها وراعها فيما يمر بك من المرسلات التي يذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسليْن، دون أن يراعوا هذا الشرط المهم.
قال: ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – قد نص أيضاً على هذا الشرط، في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبدالهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة (حديث 405/ 221) فقال ابن تيمية يرحمه الله تعالى: وأما أسباب النزول فغالبها مرسل، ليس بمسند، ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها، وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم – يعني أن أحاديثها مرسلة ليست مسندة – والمراسل قد تنازع الناس في قبولها وردها.(1/216)
وأصح الأقوال: أن منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلِم من حاله أنَّه لا يرسل إلا عن ثقة؛ قُبِل مرسله، ومن عُرِفَ أنَّه يرسل عن الثقة وغير الثقة؛ كان إرساله رواية عمَن لا يُعرف حاله، فهو موقوف، وما كان من المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات؛ كان مردوداً، وإن جاء المرسَل من وجهين كل من الراويين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يُتَصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله -: قلت: ومع أن التحقيق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع ليس بالأمر الهين، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يرد إشكال آخر: وهو أنَّه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفاً، وعليه يُحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويُحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوي الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه.
قال: وهذا التحقيق مما لم أجد من سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى، وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، واستغفر الله من ذنبي، وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسَل الذي تعدد مرسِلوه أحدُ الاحتمالين:
الأول: أن يكون مصدر المرسَلين واحداً.
الثاني: أن يكونوا جميعاً، ولكنهم ضعفاء ضعفاً شديداً ... ، اهـ.(1/217)
قلت: احتمال أن يكونوا ضعفاء يرده شرط الشافعي الذي تكلمت عليه في المسألة (أ)، هذا إذا سلمنا بشرط الشافعي، وإذا لم نسلِّ به؛ فاحتمال ثقة الساقط في هذه الطبقة أكثر من احتمال ضعفه، لشيوع العدالة وكثرتها في ذلك العصر، وإن وُجد فيهم من يُعَكِّر هذا الصفو، لكن لقلة ذلك، مع رواية تابعي آخر لنفس الحديث، يَقْوى في النفس ثبوتُ الخبر، واحتمال ثبوته أرجح من احتمال ضعفه؛ إلا إذا ظهرت نكارة في الحديث، أو ظهر لنا أن الحديث يدور على ضعيف، كما في حديث القهقهة، وانظره في «جامع التحصيل» (ص:45)، فإذا ظهر شيء من ذلك؛ فلا يُلتفت إلى المرسَل، وإن تعددت طرقه، وإلا فلا بأس بالاحتجاج بالمرسلَيْن في هذه الحالة، والله أعلم وعلى كل حال فشرط الإمام الشافعي – يرحمه الله -، إن حملناه على شيوخ التابعيَّيْن ففيه الاشكالات السابقة، وإن حملناه على اختلاف الطرق إلى التابعيَّيْن كما هو ظاهر كلام العلائي في «جامع التحصيل» (ص:41)، فلا بأس بذلك، إلا أن ظاهر الكلام لا يساعد هذا الاحتمال، والله أعلم.
(د) واشترط الشافعي – يرحمه الله – في قبول المرسَل بشواهده: أن يكون المرسِل من كبار التابعين، وذكر العلائي يرحمه الله أن اشتراط الشافعي في المرسِل أن يكون مشايخه ثقات، يفيد أنَّه لا يخص المرسَل بما سقط منه صحابي فقط، فقال – يرحمه الله -:(1/218)
ثم إن هذا القول من الإمام الشافعي يقتضي أن المرسَل عنده ليس مختصاً بما روى التابعي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بحيث يكون قد أسقط منه الصحابي فقط، إذ لو كان كذلك؛ لما احتاج إلى هذا الاعتبار في شيوخ المرسِل الذين يرسل عنهم، بل يطلق المرسل على كل ما سقط منه رجل أو أكثر، كما تقدم عن اختيار الخطيب، وأنه اصطلاح جمهور الفقهاء، وحينئذٍ فيشكل على ذلك قول الشافعي في آخر كلامه: «فأما من بعد كبار التابعين، فلا أعلم من يقبل مرسله»، وأراد بذلك رد مراسيل صغار التابعين كالزهري، ونحوه فمن بعدهم بطريق الأوْلى.
قال العلائي: ويمكن الجمع بين الكلامين، بأن الإمام الشافعي يرحمه الله لم يقل برد مراسيل صغار التابعين مطلقاً بالنسبة إليه وإلى غيره، بل أشار إلى علمه وما يترتب على سبره – وفي نسخة: شهرة – أحوالهم، ومقتضى ذلك أن من سبر أحوال الراوي، وعرف منه أنَّه لا يرسل إلا عن عدل ثقة يحتج بمرسله، لكن الإمام الشافعي لم يعرف هذه الحالة من أحد بعد كبار التابعين ... ، اهـ «جامع التحصيل» (ص:43).
ولما ذكر العلائي المذاهب في قبول المرسل ورده، قال: ... وعاشرها: أنَّه لا فرق في هذا الحكم بين كبار التابعين وصغارهم، فكل من اعتضد مرسله بشيء من ذلك كان مقبولاً، وهو محتمل أن يكون مراد الشافعي بقوله، كما تقدم في الجمع بين كلاميه، ويُحتمل أنَّه أراد الوجه الذي قبله – يعني التاسع وهو خاص بكبار التابعين -، اهـ (ص:49).
والذي يظهر من كلام الشافعي أنَّه خص قبول المرسل بشواهده إذا كان المرسِل من كبار التابعين، لكن محاولة العلائي التخفيف من شأن هذا الشرط، تَدل على أن صنيع من بعد الشافعي لم يقف عند هذا الشرط، أو لم يأخذ بكلام الشافعي فيه، لذا احتاج العلائي إلى تأويل كلام الشافعي.(1/219)
ومما يدل على أن الشافعي يرحمه الله قد خولف في ذلك، ما قاله اللكنوي كما في «ظفر الأماني» (ص:349) في الكلام على قبول المرسل ..... وثالثها: أن يكون من كبار التابعين، وهذا الشرط وإن كان منصوصاً في كلام الشافعي، لكن عامة أصحابه لم يأخذوا به، بل أطلقوا القول بقبول مراسيل التابعين، إذا وُجدت فيها الشروط الباقية، اهـ.
ويدل على ذلك أيضاً صنيع الإمام البيهقي في «سننه الكبرى» مع أنَّه نص على اعتماده الكلام الذي قال به الشافعي، كما في «دلائل النبوة» (1/ 39 - 40)، إلا أنَّه في «السنن الكبرى» استشهد بالمرسل مطلقاً، كما في: (4/ 129) ك/ صدقة الزرع، ب/ الصدقة فيما يزرعه الآدميون، فقد استشهد بمراسيل غير كبار التابعين، كالحسن ومجاهد والشعبي، وفي (8/ 134) ك/ القسامة، ب/ لا يرث القاتل، قوى مرسل ابن المسيب بمرسل الزهري وعمرو بن شعيب وعبدالرحمن بن حرملة الأسلمي، وفي مواضع كثيرة وقف في مرسل ابن المسيب، وقواه هنا في الجملة، فقال: هذه مراسيل يؤكد بعضها بعضاً، وهناك أمثلة كثيرة يستشهد فيها بالمنقطع والمبهم، وقوي بها المراسيل ولا شك أن المرسل – وإن كان من غير كبار التابعين – أولى من سند فيه مبهم غير مسمى.
وكذا صنيع الحافظ ابن حجر في كتبه، فإنه يقوي المراسيل ببعضها دون حصر ذلك في كبار التابعين، يعرف ذلك من نظر في «التلخيص الحبير» و «الفتح» و «نتائج الأفكار» وغيرها، ومن تتبع ذلك ظفر بأمثلة كثيرة، وانظر مثالاً لذلك في نتائج الأفكار (2/ 152) المجلس (151) وقد أطلق شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – كما في «مجموع الفتاوى» (13/ 347) قبول المراسيل إذا تعددت طرقها، فقال: والمراسيل إذا تعددت طرقها، وخلت عن المواطأة قصداً، أو الاتفاق بغير قصد، كانت صحيحة قطعاً ..... ، اهـ وكلامه هذا قد يحتمل التأويل، والله أعلم.(1/220)
وفي العلل للرازي (1/ 100/270) اعتمد أبو زرعة مرسل سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن وعمر مولى غُفْرة عمن حدثه، كلهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكروا بلالاً في الحديث، بخلاف من جعله عماراً، فسئل أبو زرعة: فما الصحيح عندك بلال أو عمار؟.
فقال أبو زرعة: رواه المدنيون على أنَّه بلال، وهم أعلم، وإن (كانت روايتهم مرسلة) فلولا أنهم سمعوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم، ما كانوا يقولونه، اهـ.
مع أنَّه قد يقال: لو سمعوه من الصحابة؛ لصرحوا بأسمائهم، فلما لم يصرحوا دلَّ ذلك على أن من حدثهم من التابعين، ومع هذا الاحتمال، وكون أبي سلمة تابعياً متوسطاً، وعمر مولى غفرة – على ضعفه – من الصغار، فهو من الخامسة، ومع ذلك اعتمد مرسلهم هذا، وإن كان كلام أبي زرعة قد يتطرق إليه تأويل وبحث.
وقد أطلق ابن الصلاح الاعتضاد بالمرسل، ولم يفصل بين كبار التابعين وصغارهم، وتبعه في الإطلاق النووي في عامة كتبه، قاله السخاوي في «فتح المغيث» (1/ 169) وبين أن النووي تنبه لتقييد الشافعي في شرحه «للوسيط»، وهو من أواخر تصنيفه.
وفي الحاشية (5) اعتراض على السخاوي في دعواه: أن النووي تنبه لذلك القيد في شرحه «للوسيط» فقط، وذكر صاحب الحاشية أن السخاوي تبع فيه العراقي، وإلا فقد نبه النووي على هذا القيد في المجموع (1/ 103 - 104)، و «تهذيب الأسماء» 1/ 1/221).(1/221)
وانظر المصادر المشار إليها في نهاية السؤال (223) لعله يصفو منها شيء، وعلى كل حال: فالظاهر أن المرسل يتقوى بمثله وبغيره من المعضدات السابقة، وإن رواه صغار التابعين، ما لم تظهر نكارة في الحديث سنداً أو متناً، وما لم يظهر أن الحديث يدور على ضعيف أو من لا يحتج به، أقول هذا وفاقاً لصنيع العلماء والحفاظ المتأخرين، مع علمي بالاحتمالات التي ذكرها الشافعي – يرحمه الله – لأنها احتمالات نادرة، ومعلوم أن كثيراً من الأحكام في هذا العلم مبناها على غلبة الظن، ولو أن كل احتمال عملنا بموجبه، لتعطل علينا كثير من الأحكام، والله المستعان؟.
(تنبيه):
سيأتي – إن شاء الله تعالى – في الكلام على الاستشهاد بالمنقطع في السؤال الآتي (225) أن جماعة من أهل العلم يقوون المنقطع إذا شهد له أحد المعضدات السابقة، فإذا كان هذا حالهم في المنقطع، فما ظنك بمرسل من دون كبار التابعين؟.
(تنبيه آخر):
الظاهر صحة الاستشهاد بمرسل في سنده إلى التابعي ضعيف خفيف، كوهم راوٍ أو عنعنة مدلس، بل استشهد شيخنا الألباني – حفظه الله – بما هو دون ذلك، انظر «الصحيحة» (2/ 228 - 635)، (4/ 55/1540)، والله أعلم.
س 225: هل يُستشهد برواية المجهول والمبهم أم لا؟
ج 225: المجهول: هو الذي لم يُجرَّح ولم يُعدَّل، وله أقسام: فمنه مجهول العين، ومنه مجهول الحال، والمستور.
وتقوية كثير من العلماء لحديث مجهول الحال والمستور مشهورة، وأما مجهول العين، الذي ما روى عنه إلا راوٍ واحدٌ ليس بشديد الجرح – على المشهور – فقد صرح الدارقطني يرحمه الله بأ، ه يعتبر به، فقال في «سننه» (3/ 174) عند الحديث (226):(1/222)
وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم بالخبر إذا كان (راويه) عدلاً مشهوراً، أو رجل قد ارتفع، اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه: أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذه صفته؛ ارتفع عنه اسم الجهالة، وصار حينئذ معروفاً، فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد، وانفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك، حتى يوافقه غيره، والله أعلم، اهـ، وقد ذكر – يرحمه الله – ذلك في رجل في طبقة التابعين.
وما ذكره الإمام الدارقطني – يرحمه الله – من كون الراوي يكون معروفاً برواية رجلين عنه، ويرتفع عنه اسم الجهالة: فيه تفصيل، قد بيَّنه الإمام ابن رجب – يرحمه تعالى – في «شرح علل الترمذي» (1/ 81 - 85)، فارجع إليه، وأما اعتماده على رواية من هذه صفته، فقد خالف فيه كثيراً من أهل العلم، فإن مجرد رواية العدلين فأكثر عن أحد الرواة؛ لا يلزم منها قبول روايته، واعتباره عدلاً – وإن عُرفت عينه -، والشاهد من كلامه – يرحمه الله – قوله: «فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد ..... » إلخ.
لكن إذا عُلم أن تلميذ المجهول ممن يروي عن التالفين الساقطين، ففي النفس شيء من الاستشهاد به، لا سيما إذا كان الشاهد له مجهول عين، انفرد بالرواية عنه من يروي عن المتروكين أيضاً، لأنَّ الراوي إذا انفرد بالرواية عنه من يأخذ عن كل أحد، ازداد توغلاً في الجهالة، فإذا انضم إلى ذلك نكارة في السند أو المتن، ترجح الظن بعدم الاستشهاد بما كان هذا سبيله، والله أعلم.
والمبهم: هو الذي لم يُسَمَّ، كقول الراوي: حدثني رجل، أو حدثني شيخ، أو نحو ذلك.
وقد استشهد الحافظ بالمجهول والمبهم، في مواضع كثيرة من كتبه، انظر: «نتائج الأفكار» (1/ 137) المجلس رقم (26)، (1/ 142 - 146 - 27،28) (1/ 179/34)، (2/ 48 - 49/ 123)، (2/ 112/139) وانظر «الإرواء» (2/ 55/342) و «الصحيحة» (2/ 228/635)، (2/ 384/748).(1/223)
وقد قيَّد الشيخ بكر أبو زيد – حفظه الله وسلمه – الاستشهاد بالمبهم بكونه من القرون المشهود لها بالخير، قال: هذا عند بعضهم، وهو وجيه، اهـ من «التأصيل» (1/ 186). وهو كذلك، إلا إذا عُلم من حال من أبْهم أنَّه مشهور بالرواية عن المجروحين المتروكين، فذلك مما لا تطمئن معه النفس للاعتضاد به، وكذلك تقبل رواية المبهم إذا شهد له مبهم آخر، وظهر من السياق اختلاف المخرج، كأن يروي التابعي عن رجل عن صحابي، ويروي تابعي آخر، عن رجل عن صحابي آخر.
فالنفس تميل إلى الاستشهاد بما هذا سبيله، وإن كان من الممكن أن يكون المبهم عندهما واحداً، وهذه الصورة أقوى في النفس من رواية تابعين؛ كل منهما عن رجل عن صحابي واحد، فإن اختلفت طبقة المبهم أو المجهول فهو أولى بالقبول، وليس ذلك بشرط، حسب ما رأيت من صنيع العلماء الذين عزوت إلى مواضع من كتبهم بذلك.
هذا ما ترجح لي – على ما في النفس من حرج – والله أعلم -.
س 226: هل يصح الاستشهاد بالحديث الذي في سنده انقطاع، أم لا؟
ج 226: الانقطاع منه جلي ومنه خفي.
فالجلي: كالمعلَّق والمعضل والمنقطع والمرسل.
والخفي: كالتدليس والإرسال الخفي.
فأما الانقطاع الخفي: فيصلح أن يستشهد به، سواء كان بعنعنة مدلِّس، وما كان في معنى العنعنة، أو رواية مَنْ إرسالُه خفي غير جلي.
وأما الانقطاع الجلي ففيه تفصيل:
فالمرسل: قد سبق أنَّه يصلح أن يُعتضد به – على تفاصيل قد سبقت -.
وأما المعلق: وهو ما سقط في أول إسناده من جهة المصنِّف راو فأكثر: فلا يستشهد به في الغالب، وفيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى من آخر الجواب.(1/224)
ولم أقف على التصريح بالاستشهاد بالمعلَّق في صورة قول أحد المصنفين: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا، أو قال ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا، كما لم أقف على التصريح بالاعتضاد بمطلق المعلَّق إلا في كلام الشيخ بكر بن عبدالله أبي زيد، - حفظه الله – كما في «التأصيل» (1/ 183، 184) وكذلك يظهر من صنيع شيخنا الألباني – حفظه الله – في «الإرواء» (5/ 120) برقم (1278)، والنفس إلى غير ذلك أمْيل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما المعضل: وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر على التوالي، سواء في أثناء السند أو في آخره، فقد صرح الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد – حفظه الله – كما في الموضع السابق بالاستشهاد به، وكذلك استشهد به شيخنا الألباني – حفظه الله -، كما في «الصحيحة» (2/ 432، 433/ 790) والبيهقي في «الكبرى» (5/ 73) ورأيت صاحب «مناهج المحدثين» (ص:249) قد نقل كلاماً للخطيب – يرحمه الله -، وهو موجود في «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» (2/ 281) في باب القول في كَتب الحديث على وجهه وعمومه .. ، قال – يرحمه الله – وحكم المعضل مثل حكم المرسل في الاعتبار به فقط، اهـ.
فظن المؤلف وغيره – حفظ الله الجميع – أن الخطيب يرى الاعتضاد بالمعضل كالاعتضاد بالمرسل، لقوله السابق.
وعندي أن كلام الخطيب في باب آخر، فإنه ذكر أثراً عن أحمد في كتابة الحديث المرسل، لتُعرف به علة الحديث المسند، ثم ذكر قول ابن مهدي: لأن أعرف علة حديث، أحب إليّ من أن أستفيد عشرة أحاديث.
ثم قال الخطيب عقب ذلك: وحكم المعضل مثل حكم المرسل في الاعتبار به فقط، اهـ.(1/225)
فلم يقصد الخطيب – يرحمه الله – بذلك باب الشواهد والمتابعات، إنَّما قصد باب السبْر والاعتبار، لمعرفة علة الحديث المسند بالحديث المعضل، كما تُعرف علة الحديث المسند بالحديث المرسل، فقد يُروى الحديث مسنداً، ويكون المحفوظ فيه أنَّه مرسل أو معضل، هذا هو المراد هنا بالاعتبار، والعلماء يستعملون كلمة الاعتبار في باب الشواهد، وفي باب الإعلال أيضاً، وهذا هو المناسب للباب الذي ذكر تحته الخطيب – يرحمه الله – هذه الآثار وهذه المقالة، والله أعلم.
لكن لعل دليل من استشهد بالمعضل: الاستشهاد بالمنقطع، ووجهه أننا إذا استشهدنا بالمنقطع، فكذلك يلزمنا الاستشهاد بالمنقطع في موضعين، لأننا نستشهد بالحديث الذي فيه ضعيف وضعيفان، أو فيه أكثر من علة ليست بالشديدة، والمنقطع في موضعين يساوي المعضل، كما صرح بذلك الحافظ في «النكت» (2/ 581 - 582) وقد نقل عن (الجوزقاني) أنَّه قال في مقدمة كتابه في الموضوعات: المعضل أسوأ حالاً من المنقطع، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل، والمرسل لا تقوم به حجة.
قال الحافظ: قلت: وإنما يكون المعضل أسوأ حالاً من المنقطع، إذا كان الانقطاع في موضع واحد من الإسناد، وأما إذا كان في موضعين أو أكثر، فإنه يساوي المعضل في سوء الحال، والله – تعالى – أعلم، اهـ.
وإذا كان المعضل يساوي المنقطع في موضعين، ونحن نستشهد بالمنقطع في موضعين، لزمنا الاستشهاد بالمعضل، فلعل هذا وجه من استشهد بالمعضل.(1/226)
وعندي أن في ذلك توسعاً غير مرضي، فأصل الاستشهاد بالمنقطع، هو الاستشهاد بالمرسل، ولا شك أن المرسل أحسن حالاً من المنقطع، لأن المرسل في طبقة عالية، وقد كان الكذب فيها أخف مما بعدها الطبقات، كما مرّت الإشارة إليه من كلام الجوزقاني، وكما قال ابن السمعاني عندما تحدث عن حكم الحديث المنقطع: مَنْ منع قبول المرسل، فهو أشد منعاً لقبول المنقطعات، ومن قَبِلَ المراسيل اختلفوا، اهـ نقلاً عن «الصناعة الحديثية في السنن الكبرى» للبيهقي (ص:208).
والاستشهاد بالمرسل فيه نزاع قد سبق بيانه، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل، أعني المرسل بالمعنى الاصطلاحي المشهور، لا كل من سقط منه راو، لأنَّ الساقط في المرسل غالباً ما يكون من الطبقات التي لم يشتهر فيها الخلل، بخلاف الطبقات النازلة، ففي النفس غضاضة من الاستشهاد بالمنقطع، ولولا تصريح جماعة من المحدثين، أو اشتهاد صنيعهم بذلك، لما قبلنا الاستشهاد بالمنقطع – وسيأتي إن شاء الله مفصلاً – ومع هذا كله: فهل يليق أن نقيس المعضل على المنقطع؟ فيكون قياساً على قياس على أصل فيه نزاع؟! حيث قسنا المعضل على المنقطع – مع الفارق -، والمنقطع على المرسل – مع الفارق – وفي الاستشهاد بالمرسل نزاع وقيود، قد سبق بيانها، ثم لو سلمنا بذلك؛ فقد يقول قائل: إذا أجزتم الاستشهاد بمنقطع في موضعين، فكذلك يلزم الاستشهاد بمنقطع في ثلاثة مواضع أو أكثر، فإن سلمنا بذلك؛ سقط معنى تشديد العلماء في الرواية بالأسانيد، ولزمنا أ، نقبل في الشواهد قول أحد المصنفين: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا، وإذا كان ذلك كذلك – لا سيّما إذا كان الشاهد والمشهود له من هذا الصنف – فعلى الأسانيد السلام، وانقطع الكلام، ومن شاء أن يقول قولاً فلْيَقُلْه!!! وإذا رفضنا الاستشهاد بمنقطع في ثلاثة مواضع فأكثر، لزم التحكُّم بلا دليل ولا برهان.(1/227)
فإن قيل: إن الأمر يرجع إلى غلبة الظن، قلت: وغلبة الظن أنَّه لا فائدة في المعضلات والمنقطعات المتكررة في السند الواحد، ولا أعرف ذلك عن السلف، إلا من كلام البيهقي، وإن وجد فنادر جداً لا يُقعَّد عليه، لاحتمال أنَّهم قبلوه لقرائن أخرى، لا تطَّرِد في بقية الأحاديث، والله أعلم.
نعم، إذا كان هناك من الأسانيد ما يعتمد عليه لذاته أو لغيره، وانضم إليه شيء من ذلك، فإن نفعه وإلا ما ضره، والله أعلم.
وأما المنقطع: وهو ما سقط من أثناء سنده راو واحد، في موضع واحد أو أكثر، فما كان منه في أكثر من موضع فلا تطمئن إليه النفس، كما سبق.
وما كان منه في موضع واحد، فإن كان من أسقط شيخه معروفاً بالرواية عن المتروكين، فيخشى أن يكون إسقاطه لشيخه لأنه متروك، وقد سبق شيء من ذلك، والله أعلم.
وما كان منه من رواية من لم يُعرف بالأخذ عن كل ضرب، فقد صرح ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 379) بأن عواضد المنقطع هي عواضد المرسل، انظر كلامه على حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: «إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة» في كلامه على تعظيمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وتشريفه ليوم الجمعة).
وقد ذكر الحافظ في «النكت» (1/ 387) أن الترمذي يستشهد بالانقطاع الخفيف، إلا أنَّه عندما مثَّل لذلك، ذكر أمثلة فيها الانقطاع الجلي، وقد حسن الترمذي تلك الأحاديث، مع تصريحه بعدم اتصال السند، أو بأن فلاناً لم يسمع من فلان، وإن كان في نسخ «السنن» اختلاف في الأحكام على الأحاديث بينه المحقق في الحاشية – انظر «النكت» (1/ 396 - 399، 402) – كما يظهر من تعريف الترمذي للحسن، كما في العلل في آخر «الجامع» أنَّه لم يشترط الاتصال، وعزا الحافظ هذا المذهب للنسائي أيضاً، انظر «النكت» (1/ 398) وفي المثال الذي ذكره بحث، ليس هذا موضعه.(1/228)
وكذلك صنيع البيهقي – يرحمه الله – بقبول المنقطع، انظر «السنن الكبرى» (2/ 226)، (5/ 184)، (7/ 127) وقد قال في «معرفة السنن والآثار»: ونحن إنَّما لا نقول بالمنقطع، إذا كان منفرداً، فإذا انضم إليه غيره، وانضم إليه قول بعض الصحابة، أو ما يتأكد به المراسيل، ولم يعارضه ما هو أقوى منه، فإنّا نقول به، اهـ نقلاً من «الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للبيهقي» (ص:207 - 208).
وقد استشهد الحافظ ابن حجر يرحمه الله بالمنقطع في عدة مواضع من كتبه، كما في «نتائج الأفكار» (1/ 137/26)، (1/ 258/51)، (2/ 146/149) و «التلخيص» (3/ 353 - 354/ 1642، 1643)، (3/ 358/1649)، (4/ 34/1878)، وانظر كلام الحافظ الذي نقله شيخنا الألباني – حفظه الله – في «الإرواء» (2/ 51/341).
وقد استشهد شيخنا الألباني – حفظه الله – بالمنقطع في مواضع عدة من كتبه، كما في «الصحيحة» (2/ 341/716)، (2/ 384/748) والله أعلم.
(تنبيه):
الاستشهاد بالمنقطع يترجح عندي إذا كان في طبقة التابعين وأتباعهم، كما سبق في المجهول والمبهم، وذلك لأن الطبقات العليا قد استفاضت فيها العدالة، بخلاف ما بعد ذلك من طبقات، ويدل على ذلك أيضاً صنيع الأئمة الذين عزوتُ إليهم في المواضع السابقة، وإذا لم نقبل رواية المجهول أو المبهم إلا في الطبقات العليا، فمن باب أولى أنْ نشترط ذلك في المنقطع، لأنَّ الرواية التي فيها مبهم أو مجهول – مع اتصال السند – أولى من المنقطعة التي يحتمل أن يكون الساقط فيها أكثر من واحد، والله أعلم.
(فائدة):(1/229)
الاستشهاد بالمبهم والمجهول والأنواع السابقة في الانقطاع أضعف من الاستشهاد بمن فيه ضعف خفيف أو مرسل تابعي، وإذا ظهر للناقد نكارة في السند أو في المتن، فلا عبرة بهذه الشواهد، وقد قيّدت الاستشهاد بما سبق، بعدة قيود مستفادة من كلام أهل العلم في عدة مواضع، كما هو معروف من كلام العلماء الذين شرحوا كلام الإمام الشافعي – يرحمه الله – في الاستشهاد بالمرسل، والله أعلم.
(فائدة أخرى):
فإن قيل: لماذا لم تستشهد بالمعلَّق، وهو مما سقط منه راو فأكثر في أول السند، كالمنقطع أو المعضل؟ فالجواب: أن نفسي لا تميل إلى الاستشهاد بالمعضل، فما كان من المعلقات قد سقط فيه راويان فأكثر على التوالي: فلا يستشهد به، وما كان من المعلقات مما سقط من راو واحد في أول السند، أي سقط منه شيخ المصنِّف فإن كان المصنف ممن ينتقى في شيوخه: فيستشهد بالمعلق، وإن كان ممن لا ينتقى في شيوخه: فلا يستشهد به، لأن صنيع الأئمة في الاستشهاد بالمنقطع؛ إنما كان في الطبقات العالية، والانقطاع هنا نازل؛ فافترقا.
فإن قيل: فلماذا تستشهد بالمعلِّق، إذا كان المعلَّق ممن ينتقي، مع أن شيخه نازل الطبقة؟ فالجواب: أن العلة التي من أجلها قبلنا الاستشهاد في الطبقات العالية، وهي فيوض العدالة، وقلة الكذب في الرواية، موجودة فيما نحن بصدده، حيث أن المصنِّف الذي ينتقى في شيوخه، قد كفانا التخوّف من وجود هالك في شيوخه – غالباً – فيقوى الظن في هذه الحالة بقبوله في الشواهد. والله أعلم.
(تنبيه):
لقد استفدت في بعض الإحالات السابقة من كتاب «مناهج المحدثين في تقوية الأحاديث الحسنة والضعيفة» للمرتضى الزين أحمد، وكتاب «الصناعة الحديثية في السنن الكبرى للإمام البيهقي» لنجم عبدالرحمن خلف – جزاهما الله خيراً – وفي الكتابين فوائد لا تخفى على من له صلة بهذا الفن، والله أعلم.(1/230)
س 227: حديث في سنده رجل، قال: حدثني جماعة، أو عدة من أشياخنا، فهل يُحتج بهذا السند، أو يُضعّف لجهالتهم؟
ج 227: سبق في السؤال (225) أن المجهول والمبهم يصلحان في الشواهد والمتابعات، على تفاصيل في ذلك.
فإذا أُبْهم جماعةٌ في السند – كما ورد في السؤال – فلا بأس باعتماد حديثهم، فإن الجمع يجبر الجهالة، إذا كان في طبقة التابعين وأتباعهم، وقد مشى على ذلك جماعة من أهل العلم – وإن خالف في ذلك بعضهم – وهاك أقوال أهل العلم وصنيعهم في ذلك:
1 – أخرج الإمام البخاري في «صحيحه» (6/ 632/3642) – مع «الفتح» – قال: حدثنا علي بن عبدالله أخبرنا سفيان حدثنا شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يتحدثون عن عروة – وهو البارقي – أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فجاء بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه ..
فإخراج الإمام البخاري – يرحمه الله – لهذا الحديث – مع الجهالة – يدل على اعتماده ما كان هذا سبيله، لكن الحافظ يرحمه الله قد قال في (6/ 635): فالحديث بهذا ضعيف للجهل بحالهم، لكن وجد له متابع ... ، اهـ وكذا قال الحافظ في «التلخيص» (3/ 10 - 11/ 1128)، ونقل عن البيهقي أن الشافعي ضعفه، لأنَّ الحي غير معروفين، اهـ. وكذا قال الخطابي في «معالم السنن» (5/ 49 - 51) مع «مختصر سنن أبي داود» – برقم (3244) فقال: وفي خبر عروة: «أن الحي حدثوه» وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة ... ، اهـ.
وقد ذهب شيخنا الألباني – حفظه الله – إلى الاستدلال بصنيع الإمام البخاري في ذلك، انظر «الإرواء» (5/ 128/1287)، إلا أن كلام الأئمة السابقين، يشق عليَّ تجاوزه، فلعل البخاري رحمه الله صحح الحديث للمتابع الذي أشار إليه الحافظ، أو لغير ذلك، والله أعلم.(1/231)
2 – وذكر ابن القيم – يرحمه الله – في «إعلام الموقعين» (1/ 202) حديث إرسال معاذ إلى اليمن، وفيه: قال شعبة: حدثني أبوعون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وعلى أله وسلم لما بعثه إلى اليمن ... الحديث، قال ابن القيم:
فهذا حديث – وإن كان عن غير مُسمَّيْن فهم أصحاب معاذ – فلا يضره ذلك، لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمِّي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يُعرف في أصحابه متهم، ولا كذاب، ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ... ، اهـ ولقائل أن يقول: تقوية ابن القيم للحديث ليس لمجرد الجمع الذي يجبر الجهالة، بل لما عُلِم من حال أصحاب معاذ – رضي الله عنه – وبين هذا وما نحن فيه فرق، قلت: وهذا كلام له حظ من الوجاهة، والله أعلم.(1/232)
3 – قال الحافظ العراقي في «التقييد» (ص:264) في النوع الموفي ثلاثين: معرفة المشهور من الحديث: .. وكذلك حديث: «من آذى ذمياً .. » هو معروف أيضاً بنحوه، رواه أبو داود من رواية صفوان بن مسلم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن آبائهم .. عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: «إلا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» قال: سكت عليه أبو داود – أيضاً -، فهو عنده صالح، وهو كذلك إسناده جيد، وهو إن كان فيه من لم يُسم، فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة، فقد رويناه في «سنن البيهقي الكبرى» فقال في روايته: عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ قلت: وهذا أيضاً ليس صريحاً في موضع النزاع، للقرينة التي ذكرها.
4 – وقال الزركشي في «التذكرة في الأحاديث المشتهرة» (ص:33) بعد ذكره الحديث السابق: وإسناده لا بأس به، ولا يضره جهالة من لم يُسم من أبناء الصحابة، فإنهم عدد كثير، وقد رواه البيهقي في «سننه» وقال فيه: عن ثلاثين من أبناء الصحابة، اهـ. قلت: قد سبق ما فيه.
5 – وكذا قال السخاوي في هذا الحديث، انظر «المقاصد الحسنة» (ص:392) برقم (1044)، وزاد: فإنهم عدد ينجبر به جهالتهم، اهـ. قلت: انظر ما سبق.(1/233)
وفي «فتح المغيث» (1/ 321) في نوع المقلوب، ذكر السخاوي قصة امتحان المحدثين ببغداد للإمام البخاري – يرحمه الله -، وقد أخرجها ابن عدي في «مشايخ البخاري» قال ابن عدي: سمعت عدة مشايخ يحكون ... وذكرها، قلت: قد ذكر ابن عدي هذه القصة في «أسامى من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري من مشايخه الذين ذكرهم في جامعه» (ص62 - 63) بتحقيق بدر بن محمد العماش، وقد ذكر من أخرجها أو ذكرها وهم: الخطيب في «تاريخ بغداد» (2/ 20)، والباجي في «التعديل» (1/ 308)، وابن الجوزي في «الحث على حفظ العلم» (56)، وابن خلفون في «المعلم» (1/ل2/ب)، والعراقي في «شرح الألفية» (1/ 284)، وابن حجر في «هدي الساري» (ص486)، و «النكت» (2/ 867) وغيرهم، كلهم من طريق ابن عدي به.
قال السخاوي: ومن طريق ابن عدي رواه الخطيب في «تاريخه» وغيره، ولا يضر جهالة شيوخ ابن عدي فيها، فإنهم عدد ينجبر به جهالتهم ... ، اهـ.
وتناقُلُ المصنفين لهذه القصة يشير إلى عدم تعويلهم على علة الجهالة، ولعل ذلك للجمع الذي يجبر الجهالة، أو لأن باب القصص يُتساهل فيه، لا سيّما في أمر مشهور، وهو اشتهار قوة حفظ الإمام البخاري – يرحمه الله -. وقد ضعف الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد هذه القصة للجهالة، كما في «التأصيل» (1/ 79) في كلامه على القضايا التي اشتهرت ولم تثبت، وأنت ترى أن السخاوي – يرحمه الله – قد صرح بقبول رواية الجمع المبهم – وإن لم يكونوا في طبقة التابعين وأتباعهم – وفي النفس من ذلك شيء.
6 – ومن نظر في كتب شيخنا الألباني – حفظه الله – علم أنَّه قد اعتمد ذلك في عدة مواضع، انظر: «الصحيحة» (1/ 135/89)، (3/ 361/1373)، (4/ 610/1967)، و «الضعيفة» (2/ 276/881) و «الإرواء» (5/ 128/1287)، (6/ 17/1562)، (8/ 54/2393)، وهذه المواضع كلها في طبقة التابعين أو أتباعهم.(1/234)
7 – ثم تذكرت ما جاء عن إبراهيم النخعي في روايته عن ابن مسعود – رضي الله عنه -، فقد قال المعلمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:899 - 899) في المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً، قال – يرحمه الله -: وإبراهيم عن عبدالله منقطع، وما روى عنه أنَّه قال: إذا قلت: قال عبدالله، فهو من غير واحد عن عبدالله، لا يدفع الانقطاع، لاحتمال أن يسمع إبراهيم عن غير واحد ممن لم يلق عبدالله، أو ممن لقيه، وليس بثقة، واحتمال أن يغفل إبراهيم عن قاعدته، واحتمال أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ: «قال عبدالله»، ثم يحكى عن عبدالله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف، فلا يتنبه مَنْ بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ: «قال عبدالله» .... ، اهـ.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله – متعقباً عليه ما ذهب إليه في الحاشية (1):
قلت: تصدير المصنف – يرحمه الله – لقول إبراهيم المذكور بقوله: «روي» مما يشعر اصطلاحاً. بأنه لم يثبت عنده، ولعل عذره في ذلك أنَّه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6/ 190) أخبرنا عمرو بن الهيثم أبو قطن، قال: حدثنا شعبة عن الأعمش، قال: قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبدالله فأسنِدْ، قال: إذا قلت: قال عبدالله: فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخ دمشق» (ق131/ 2): حدثنا أحمد بن سبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به، إلا أنَّه قال: «فحدثني وحده».(1/235)
قال شيخنا – حفظه الله -: أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم: من غير واحد من أصحابه، يتبين له ضعف بعض الاحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: «قال ابن مسعود» فإن قول: «من أصحابه» يبطل قول المصنف: أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبدالله، كما هو ظاهر، وعذره في ذلك: أنَّه نقل قول إبراهيم هذا من «التهذيب»، ولم يقع فيه قوله: «من أصحابه» الذي هو نص في الاتصال، اهـ.
ثم قال في الحاشية رقم (2) تعقيباً على قول المعلمي – يرحمه الله -: «أو ممن لقيه وليس بثقة»: قلت: هذا فيه بُعْد، فإننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين من ليس بثقة، ثم إن عبارته المتقدمة منه آنفاً صريحة منه أنَّه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا إذا كان الذي حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه، فكون الأكثر منهم – لا الواحد – غير ثقة بعيد جداً، لا سيما وإبراهيم إنَّما يروي كذلك مشيراً إلى صحة الرواية عن ابن مسعود، والله أعلم، اهـ.
والأمر كما قال شيخنا – حفظه الله -، فإن الأعمش لما سمع ما سمع من إبراهيم، قنع بذلك، لما فهم صحة الواسطة بين إبراهيم وابن مسعود، ولو أخذنا ببعض ما قاله الشيخ المعلمي – يرحمه الله -، لكان إبراهيم مدلساً بقوله هذا على الأعمش تدليساً قبيحاً، وحاشاه من ذلك.
وقد صحح جماعة من الأئمة مراسيل النخعي، وخصه البيهقي بمراسيله عن ابن مسعود، قاله العلائي في «جامع التحصيل» (ص:141 - 142) وقد صحح العلائي أثر الأعمش عن إبراهيم، وذكر كلام أحمد في تمشية مراسيل إبراهيم، وذكر كلام البيهقي السابق، انظر (ص: 79 - 80، 89)، وقد قال الدارقطني – يرحمه الله – في «السنن» (3/ 174) برقم (266):(1/236)
فهذه الرواية – يعني رواية إبراهيم عن عبدالله – وإن كان فيها إرسال فإبراهيم النخعي هو أعلم الناس بعبدالله. برأيه وبفتياه، وقد أخذ ذلك عن أخواله علقمة والأسود وعبدالرحمن ابني يزيد، وغيرهم من كبراء أصحاب عبدالله، وهو القائل:
إذا قلت لكم: قال عبدالله بن مسعود، فهو عن جماعة من أصحابه عنه، وإذا سمعته من رجل واحد سميته لكم، اهـ.
فمن تأمل ما سبق علم أن غالب صنيع من ذكرت الاعتداد بالجمع المبهم إذا كان في الطبقات العالية، كطبقة التابعين وأتباعهم، أما من دون ذلك فلم أقف على تصريح أحد به، إلا كلام السخاوي في قصة امتحان محدثي بغداد للإمام البخاري يرحمه الله، ولعل ذلك لأنَّ الطبقات العليا يكثر فيها الخير، وقد فاضت فيها العدالة، وقل فيها الكذب بالنسبة فغيرها مما بعدها من الطبقات، وقد سألت شيخنا الألباني – حفظه الله – عن هذه المسألة في رحلتي إليه بـ «عمان»، فأجاب بنحو مما ذكرت، وأشار إلى تضعيف قصة امتحان الإمام البخاري، وهذا ما تطمئن إليه النفس، والله تعالى أعلم.
(تنبيه): إذا كان العلماء قد قبلوا رواية مجهول العين والمبهم في الشواهد، إذا كان في الطبقات العالية، فالجميع من المجهولين أو المبهمين أولى بالقبول، والله أعلم.
(تنبيه آخر): إذا روى الحديث جمع مبهم وهم عدد كثير تطمئن النفس مع كثرة عددهم إلى ثبوته، ولم يكن هناك، ما يدل على النكارة، أو يعارضه ما هو أقوى منه، أو كانت هناك قرائن تقوي ثبوته، قُبلت رواية الجمع، وإن كانت في طبقة نازلة، وهذا أمر لا يستطيع ناقد أن يضع له حداً، فكل حديث له دراسة حديثية تليق به، والله أعلم.
س 228: حديث سنده ضعيف، لكن وصفه بعض العلماء بأنه تُلُقِّي بالقبول، فهل يُعمل به، أم لا؟(1/237)
ج 228: صرح جماعة من العلماء بالاحتجاج بما كان هذا سبيله، وذلك لأنَّ عمل العلماء بالحديث أو بمعنى الحديث يجبر الضعف في سنده، بل هو أقوى من مجرد متابعة ضعيف آخر، فإن العمل بالحديث مما يؤكده ويقويه، وهاك أقوال أهل العلم في ذلك:
1 – الإمام الشافعي – يرحمه الله -:
فقد سبق في السؤال (224) كلامه في الاستشهاد بالمرسل، فقال: وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ من «الرسالة» (ص:463) برقم (1270).
وقال ابن برهان في «الوجيز»: مذهب الشافعي: أن المراسيل لا يجوز الاحتجاج بها، إلا مراسيل الصحابة – رضي الله عنهم – ومراسيل سيعد بن المسيب، وما انعقد الإجماع على العمل به، اهـ نقلاً من «النكت» (2/ 547) وفي «التلخيص» (3/ 199/1421) قال الشافعي في حديث: «لا وصية لوارث»:
وروى بعض الشاميين حديثاً ليس مما يثبته أهل الحديث، فإن بعض رجاله مجهولون، فاعتمدنا على المنقطع مع ما انضم إليه من حديث المغازي وإجماع العلماء على القول به، اهـ.
2 – الإمام البيهقي يرحمه الله: قال في «السنن الكبرى» (3/ 282) ك/ صلاة العيدين، ب/ الغدو إلى العيدين: وهذا أيضاً مرسل، وشاهده عمل المسلمين بذلك، أو بما يقرب منه ... ، اهـ وقال في (9/ 285) ك/ الضحايا ب/ ما جاء في ذبيحة المجوس: هذا مرسل، وإجماع أكثر الأمة عليه يؤكده، اهـ وانظره في «التلخيص» (3/ 353 - 354/ 1643).
وفي (3/ 222) ك/ الجمعة، ب/ من زعم أن الإنصات للإمام اختيار ... قال: وهذا وإن كان مرسلاً، فهومرسل جيد، وهذه قصة مشهورة فيما بين أرباب المغازي ... ، اهـ.(1/238)
3 ـ وقال ابن عبدالبر في «الاستذكار» (2/ 98) برقم (1569): وهذا إسناد وإن لم يخرجه أصحاب الصحاح، فإن فقهاء الأمصار وجماعة من أهل الحديث متفقون على أن ماء البحر طهور، بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها، وهذا يدل على أنَّه حديث صحيح المعنى، يُتَلقى بالقبول والعمل، والذي هو أقوى من الإسناد المنفرد، اهـ.
4 – وفي «التلخيص» (4/ 36/1879) قال الحافظ: وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور – يعني حديث عمرو بن حزم في كتاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل اليمن – جماعةٌ من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة، فقال الشافعي في «رسالته»: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنَّه كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال ابن عبدالبر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم، معروفة يُستغنى بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، قال: ويدل على شهرته: ما روى ابن وهب عن مالك عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب، قال: وُجِدَ كتابٌ عند آل حزم يذكرون أنَّه كتاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال العقيلي: هذا حديث ثابت محفوظ، إلا أنا نرى أنَّه كتاب غير مسموح عمن فوق الزهري، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتاباً أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتابعين يرجعون إليه، ويَدَعُون رأيهم، وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبدالعزيز وإمام عصره الزهريُّ لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق ذلك بسنده إليهما، اهـ.(1/239)
5 – وفي «التلخيص» (4/ 121/2074) ذكر حديث: «لا قطع في ثمر ولا كثَر» ثم قال الحافظ: اختلف في وصله وإرساله، وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول، اهـ. والكثر هو الجمار، وفي «الإرواء» (6/ 95 - 96/ 1655). قال شيخنا الألباني – حفظه الله -: ومن ذلك تعلم أن قول الإمام الطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 136) في أحاديث ذكرها، هذا أحدها: وجدنا أهل العلم احتجوا بهذا الحديث، فوقفنا بذلك على صحته عندهم ... وإن كان ذلك كله لا يقوم من جهة الإسناد. اهـ.
6 - وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى- في «أعلام الموقعين» (1/ 202 - 203) وقد ذكر حديث إرسال معاذ إلى اليمن: قال أبوبكر الخطيب: وقد قيل: إن عبادة بن نسي رواه عن عبدد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه واحجوا به، فوقفنا بذلك على صحة عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله ص - لا وصية لوارث وقوله في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وقوله إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع وقوله الدية على العاقلة وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن ما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له انتهى كلامه، اهـ. والمقصود بيان مذهب الخطيب وإقرار ابن القيم له في ذلك، وإلا ففي دعوى عدم صحة ذلك من جهة السند بحث، ليس هذا محله، وكذلك يُنظر في دعوى التلقي لبعض هذه الأحاديث، والله أعلم.
7 – وفي «النكت» (1/ 340) ذكر الحافظ حديثاً من رواية الحارث عن علي، وقال: والحارث ضعيف جداً، وقد استغربه الترمذي، ثم حكى إجماع أهل العلم على القول بذلك، فاعتضد الحديث بالإجماع، والله أعلم، اهـ وفي «التلخيص» (3/ 206/1440) قال: والحارث وإن كان ضعيفاً، فإن الإجماع منعقد على وفق ما روى، اهـ.(1/240)
8 – وفي «التدريب» (1/ 66) ذكر كلام ابن عبدالبر في حديث ماء البحر، ثم قال: وقال في «التمهيد»: روى جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم: «الدينار أربعة وعشرون قيراطاً» قال: وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: تُعرف صحة الحديث إذا اشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم.
وقال نحوه ابن فُورك، وزاد بأن مثّل ذلك بحديث: «في الرقة ربع العشر، وفي مائتي درهم خمسة دراهم».
وقال أبو الحسن بن الحصار في «تقريب المدارك على موطأ مالك»: قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب، بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به ..... ، اهـ.
9 – وقد ذكر التهانوي – يرحمه الله – هذه المسألة في كتابه: «قواعد في علوم الحديث» (ص:60 - 62) وذكر المعلِّق فوائد متمّمة لذلك، وسأذكر كلاهمهما – إن شاء الله تعالى – وقد يتداخل في مواضع، مكتفياً بهذه الإشارة، قال يرحمه الله بعد ذكره الكلام السابق في حديث ماء البحر: قلت: والقبول يكون تارة بالقول، وتارة بالعمل عليه، ولذا قال المحقق في «الفتح» (1/ 217): وقل الترمذي: «العمل عليه عند أهل العلم» يقتضي قوة أصله، وإن ضَعِّف خصوصَ هذا الطريق.
وفي الحاشية:
قال المحقق ابن الهمام أيضاً في «الفتح» في آخر الفصل الأول من فصول كتاب الطلاق (3/ 143): ومما يصحح الحديث أيضاً عمل العلماء على وفقه، وقال الترمذي عقيب روايته حديث (طلاق الأمة ثنتان»: حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيرهم. وفي «سنن الدارقطني» (4/ 40) قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده.(1/241)
قال التهانوي – يرحمه الله -: قال السيوطي في «التعقيبات» (ص: 12): الحديث أخرجه الترمذي (1/ 303) – أي حديث ابن عباس: «من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى باباً من الكبائر» – وقال: حسين ضعفه أحمد وغيره، والعمل عليه عند أهل العلم، اهـ قال: فأشار بذلك أن الحديث اعتضد عند أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث: قولَ أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله، اهـ.
قال: وفيه أيضاً (ص:13): وقال الترمذي: وقد رأى ابن المبارك وغيره صلاة التسبيح، وذكروا الفضل فيه، وقال البيهقي: كان عبدالله بن المبارك يصليها، وتداوله الصالحون بعضهم عن بعض، وفي ذلك تقوية للحديث المرفوع، اهـ.
ثم قال التهانوي: بل الحديث إذا تلقته الأمة بالقبول فهو عندنا في معنى المتواتر، قال الجصاص في «أحكام القرآن» له (1/ 386): وقد استعملت الأمة هذين الحديثين – يعني حديث ابن عمر وعائشة في طلاق الأمة وعدتها – وإن كان وروده: يعني لفظ: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» – من طريق الآحاد، فصار في حيِّز التواتر، لأنَّ ما تلقاه الناس من أخبار الأحاد بالقبول، فهو عندنا في معنى المتواتر، لما بيّناه في مواضع، اهـ.
فهذه المواضع من كلام أهل العلم تدل على أن الحديث، وإن كان ضعيف السند، فإنَّ عَمَلَ العلماءِ به، أو احتجاجهم به فيما بينهم دون نكير من بعضهم، أو نحو ذلك، يجبر الضعف، بل لو صح أن علماء الأمة تلقوه بالقبول، لكان في معنى المتواتر في إفادة العلم، أعني العلم النظري، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ، لكن ينبغي التيقظ، فإن بعض أهل العلم يدعي الإجماع، أو تلقى الأمة بالقبول، في مواضع شاع فيها النزاع، والله أعلم.
(تنبيه):
ولأبي غدّة جمع موسع في ذلك، انظره في نهاية «الأجوبة الفاضلة) (ص:228 - 238) وبه ينتهي الكتاب.
س 229: كيف يعرف أهل العلم أن رواية فلان عن شيخه المختلط أو الذي تغير: مستقيمة أو غير مستقيمة؟(1/242)
ج 229: سبق بعض ذلك في السؤال رقم (10) وهذا مقام تفصيل ذلك، فأقول:
الراوي الثقة إذا اختلط فلا تطمئن النفس إلى قبول حديثه بعد الاختلاط، لأننا لو قبلنا حديثه في هذا الحال، فقد قبلناه مع الشك في ضبطه لحديثه، ويشترط في الحديث الذي يعمل به ضبط راويه.
وهناك عدة طرق يعرف بها أهل العلم استقامة حديث التلميذ عن شيخه الموصوف بالاختلاط أو التغير فمن ذلك:
1 – تصريح أهل العلم السابقين بذلك، كأن يقول أحدهم: فلان المختلط روى عنه فلان وفلان وفلان قبل اختلاطه، وروى عنه فلان وفلان وفلان بعد اختلاطه، وهذه الطريقة هي أكثر ما يُعرف به حال رواية التلاميذ عن مشايخهم المختلطين، وقد أُلِّفت في ذلك كتب ورسائل، وبنحو ذلك تصريح التلميذ نفسه بذلك.
2 – وأيضاً يُعرف ذلكِ بالنظر في تاريخ اختلاط الشيخ، وتاريخ وفاة التلميذ، فإذا كان التلميذ قد مات قبل اختلاط شيخه، فهذا يدل على أن أخذه عن شيخه كان في زمن استقامته، لكن قد يقع اختلاف بين العلماء في تحديد سنة اختلاط الشيخ، فالأحوط في ذلك أن نأخذ بقول من ادعى تقدم الاختلاط، مثال ذلك سعيد بن أبي عروبة: فقد اختلف في سنة اختلاطه على أقوال كثيرة، منها أنَّه اختلط سنة (143) وقيل: (145) وقيل (148) وهناك أقوال أُخرى، فإذا وجدنا في تلامذته من مات قبل سنة (143) فروايته عنه مستقيمة، فإن قيل: لماذا نبني على الأقل ولانبني على الأكثر؟
فالجواب من وجوه:
أ – أن هذا هو الأحوط للرواية، لأنَّ الأصل في صحة الرواية السلامة من العلة، فإذا عملنا بقول الأكثر، فقد عملنا بالرواية مع الشك.
ب – أن المثبت مقدم على النافي، فمن أثبت الاختلاط سنة (143) مقدم على من ادعى السلامة حتى سنة (145) أو (148).(1/243)
ج – أن المختلطين في الغالب يبدأ اختلاطهم خفيفاً، ثم يفحش بعد ذلك نسأل الله العافية (فيحتمل أن من نفى الاختلاط سنة (143) إنَّما نفاه أو لم يعرفه لعدم ظهوره وفحشه بخلاف من أثبته، وهذا الوجه بيان للوجه السابق فإن قيل: فإن اختلفوا في سنة وفاة التلميذ، فهل نبني على الأقل – كما سبق في اختلاط الشيخ – أم نبني على الأكثر؟ الجواب: بل نبني على الأكثر خلافاً لما سبق، فإن هذا هو اللائق بالاحتياط في الرواية، فلو فرضنا أن أحد تلامذة سعيد بن أبي عروبة – مثلاً – قيل: أنَّه مات سنة (142) وقيل: (144) ولم يترجح لنا أي القولين لنبني عليه، اعتبرنا هذا التلميذ مات سنة (144) وبهذا يكون – من باب الاحتياط – قد أدرك سعيداً حال اختلاطه، فنقف في روايته.
ومن هذا الباب ما إذا علمنا أن الراوي رحل إلى بلد الشيخ قبل اختلاطه، ولم يلقه بعد ذلك، أو أن التلميذ ما رحل للشيخ إلا بعد اختلاطه، فيدل على أ، روايته عنه غير مستقيمة.
3 – إذا كان الراوي الموصوف بالاختلاط أو التغير قد حدث من كتابه الصحيح فإن علة اختلاطه لا تضر هنا، لأنَّ علة الاختلاط أو التغير أو سوء الحفظ تتصل بضبط الصدر لا بضبط الكتاب، وقد جاء في «فتح المغيث» (4/ 382) في نوع معرفة من اختلط من الثقات، قال الأثرم عن أحمد: من سمع منه – يعني عبدالرزاق – بعد ما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنَّه كان يُلقن فيتلقن.
وقال الحاكم: قلت للدارقطني: أيدخل في الصحيح؟ قال: إي والله قال العراقي: وكأنهم لم يبالوا بتغيّر عبدالرزاق لكونه إنَّما حدثه من كتبه لا من حفظه .... ، اهـ. وانظر ما قاله الحافظ الذهبي في «الموقظة» (ص54) في قبول إجازة من تغير حفظه، إذا كانت أصوله مضبوطة.
4 – ومن ذلك ما إذا اختلط الراوي لكن تلميذه الذي أخذ منه قبل الاختلاط تنبه لذلك فلم يأخذ عنه بعد الاختلاط، وهذا قريب من الحالة الأولى.(1/244)
5 – ومن ذلك، إذا اختلط الراوي فمنعه أهله من التحديث بعد اختلاطه، أو منعوا الناس من الدخول عليه، أو الأخذ عنه بعد اختلاطه، كما جرى لعبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي، فقد قال الذهبي في «الميزان» (2/ 681): قلت: لكن ما ضرَّ تغيُّره حديثَه، فإنه ما حدث بحديث في زمن التغير ... وقال أبو داود: تغير جرير بن حازم وعبدالوهاب الثقفي، فحجب الناس عنهم، اهـ. لكن في «فتح المغيث» (4/ 381) أن الفلاس أخذ عنه وهو مختلط، ثم قال: ولعل هذا كان قبل حجبه، اهـ.
وفي «الميزان» (1/ 39) ترجمة إبراهيم بن العباس: قال محمد بن سعد: إبراهيم بن العباس اختلط في آخر عمره، فحجبه أهله حتى مات.
قال الذهبي: قلت: فما ضره الاختلاط، وعامّة من يموت يختلط قبل موته، وإنما المضعِّف للشيخ أن يروى شيئاً زمن اختلاطه، اهـ.
6 – ومن ذلك أن يروى عن المختلط جماعة رووا عنه الحديث على نسق واحد، وإن كانوا جميعاً ممن روى عنه بعد الاختلاط، وقد ذكر الحافظ في «هدي الساري» (ص:406) الفصل التاسع، ترجمة سعيد بن أبي عروبة، ذكر أنَّه اختلط، ثم قال: وأما ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثره من رواية من سمع منه قبل الاختلاط وأخرج عمن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً كمحمد بن عبدالله الأنصاري وروح بن عبادة وابن أبي عدي، فإذا أخرج من حديث هؤلاء، انتقى منه ما توافقوا عليه ..... ، اهـ.
وذلك لأن الرواة إذا اتفقوا في رواية لهم عن شيخ بعينه دل ذلك على أن الشيخ حفظ تلك الرواية، ولو كان مخلطاً مضطرباً لحدث كلا منهم بوجه خلاف الوجه الذي حدث به الآخر، وبنحو ذلك قال الإمام المعلمي – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:787) في القسم الثالث في المسألة الثانية، رفع اليدين، قال يرحمه الله:(1/245)
وقد دل كلام الإمام أحمد أن التلقين إنَّما أوقعه – يعني عبدالرحمن بن أبي الزناد – في الاضطراب، فعلى هذا إذا جاء الحديث من غير وجه عنه على وتيرة واحدة، دل ذلك على أنه من صحيح حديثه ... ، اهـ.
7 – ومن ذلك ما إذا روى عن المختلط من هو أكبر منه أو قرينه، فالراجح في مثل ذلك أنَّه أخذ عنه حال استقامته، وقد قال الحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» (1/ 87) المجلس (16): .. إلا أن عطاء بن السائب اختلط، ورواية الأعمش عنه قديمة، فإنه من أقرانه، اهـ. وفي (2/ 268) المجلس (179) ساق حديثاً بسنده إلى حماد بن زيد، قال: كان أيوب حدثنا بهذا الحديث عن عطاء بن السائب، فذكره بطوله، قال: فلما قدم عطاء بن السائب البصرة، قال لنا أيوب: اذهبوا فاسمعوه من عطاء.
قال الحافظ: قلت: فدل هذا على أن عطاء حدث به قديماً، بحيث حدث به عنه أيوب في حياته، وهو من أقرانه أو أكبر منه، لكن في كون هذا حُكم من أيوب بصحة هذا الحديث نظر، لأنَّ الظاهر أنَّه قصد لهم على علو الإسناد، اهـ أي أرشدهم إلى الأخذ عن عطاء عالياً.
8 – ومن ذلك ما إذا انتقى التلميذ من حديث شيخه بعد اختلاطه.
جاء في «تهذيب الكمال» (11/ 10) ترجمة سعيد بن أبي عروبة: قال أبو داود: سمعت صالحاً الخنْدقي، قال: سمعت وكيعاً قال: كنا ندخل على سعيد بن أبي عروبة، فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحاً طرحناه، اهـ.
وقد قال ابن الصلاح في «مقدمته»: وقد رُوِّينا عن يحيى بن معين أنَّه قال لوكيع: تحدث عن سعيد بن أبي عروبة، وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ فقال: رأيتني حدثْتُ عنه إلا بحديث مُستوٍ؟، اهـ.(1/246)
9 – وقد يكون التلميذ نفسه مختلطاً أو متغيراً لكنه من المثبتين في حديث أحد المشايخ، فتقبل روايته – مع تغيره أو اختلاطه – عن ذلك الشيخ، قال السخاوي في «فتح المغيث» (4/ 393) في آخر الكلام على معرفة من اختلط من الثقات: وقد يتغير الحافظ لكبره، ويكون مقبولاً في بعض شيوخه، لكثرة ملازمته له، وطول صحبته إياه، بحيث يصير حديثه على ذِكْره وحٍفْظه بعد الاختلاط والتغير، كما كان قبله، كحماد بن سلمة أحد أئمة المسلمين في ثابت البناني، ولذا خرج له مسلم، كما قدمته في مراتب الصحيح، على أن البيهقي قال: إن مسلماً اجتهد وأخرج من حديثه عن ثابت بخصوصه ما سمع منه قبل تغيره، فالله أعلم، اهـ. وقال الحافظ الذهبي في «الموقظة» (ص54): فمن تغير بسوء حفظ، وله أحاديث معدودة قد أتقن روايتها، فلا بأس بتحديثه بها زمن تغيره اهـ.
وذكر صاحب الحاشية أن البيهقي ذكر ما سبق في «الخلافيات» والراجح عندي ما قال السخاوي، ما لم تظهر نكارة في الرواية، والله أعلم.
10 – وذكر التهانوي – يرحمه الله – في «قواعد في علوم الحديث» (ص:280) أن إخراج البخاري ومسلم لراو اختلط أن ذلك من روايته قبل الاختلاط، وليس ما قاله بلازم، والله أعلم.
11 – إذا وافقت رواية التلميذ عن شيخه المختلط رواية من روى عنه قبل الاختلاط، دل على أن التلميذ أخذ ذلك عنه قبل اختلاطه، أو أن ذلك مما ضبطه الشيخ، وإن كان قد حدث به بعد اختلاطه.
س 230: إذا قال الحافظ ابن حجر في «التقريب» في أحد الرواة: (0صدوق يهم» أو «صدوق يخطئ» فهل نحتج بروايته، أم نتوقف فيها، حتى نرى لها متابعاً؟
ج 230: معلوم أن الحافظ يرحمه الله يُلخِّص في «تقريبه» أقوال أئمة الجرح والتعديل التي يذكرها في كتابه: «تهذيب التهذيب».
والأصل في أحكام الحافظ في «التقريب» أنَّه متبع لاصطلاح أهل العلم في وضع كل لفظة في مرتبتها التي تليق بها.(1/247)
وقد نظرت في أقوال الحافظ وصنيعه، فرأيت أن قوله: «صدوق يهم أو يخطئ»، وما في معنى ذلك، يكون في الرواة الذين لا يُحتج بهم بمفردهم.
فإذا سلمنا للحافظ حكمه على الراوي، فالراوي ممن لا يحتج به، لكن إذا نازعنا الحافظ في حكمه على الراوي، وظهر لنا أنَّه قد تسامح مع الراوي، أو أنَّه قد بخس الراوي حقه، فهذا أمر آخر.
ومن الأدلة على ما قررته هنا ما يلي:
أولاً: أن الحافظ – يرحمه الله – قسم مراتب الرواة إلى اثنتي عشرة مرتبة: أولها الصحابة – رضي الله عنهم -.
والثانية: من أُكّد مدحه بأفعل: كأوثق الناس أو بتكرير الصفة لفظاً: كثقة ثقة، أو معنى: كثقة حافظ، وهؤلاء هم أهل الدرجة العليا في الحديث الصحيح.
الثالثة: من أفراد بصفة كثقة ... وهؤلاء هم أهل الدرجة الدنيا في الحديث الصحيح.
الرابعة: من قصر عن درجة الثالثة قليلاً، وإليه الإشارة بصدوق، أو لا بأس به ... وهؤلاء هم أهل الحديث الحسن.
الخامسة: من قصر عن الرابعة قليلاً، وإليه الإشارة بصدوق سيء الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بآخره، قال: ويلتحق بذلك من رمي بنوع من البدعة، كالتشيع والقدر والنصب والإرجاء والتجهم، مع بيان الداعية من غيره، ثم ذكر السادسة وما بعدها حتى نهاية المراتب.
فتأمل تقسيمة لمرتبة الصحيح إلى مرتبتين، وهما الثانية والثالثة، ولم يقل في الثالثة: «من قصر عن الثانية قليلاً»، كما قال في الرابعة: «من قصر عن الثالثة قليلاً» ولا يقصر عن درجة الصحيح إلا الحسن لذاته، والحافظ يرحمه الله ممن يقول بالحسن لذاته والحسن لغيره، وبعد ما ذكر مرتبة الحسن لذاته، وهي الرابعة، قال: الخامسة، من قصر عن الرابعة قليلاً، ولا يقصر الراوي عن مرتبة الحسن لذاته، ومع ذلك يبقى حديثه من قسم الحسن لذاته محتجاً به.
فتأمل قوله: «من قصر عن ... » في المرتبة الرابعة والخامسة، تعلم صحة ما قررته.(1/248)
ثانياً: وتأمل – أيضاً – جميع الألفاظ التي عدها الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، وهي: «صدوق سيء الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بآخره» فأقول لمن يحتج بمن قال فيه الحافظ: «صدوق بهم أو يخطئ»: الحافظ جعل جميع الألفاظ السابقة، ألفاظَ المرتبة الخامسة، فهل أنت تحتج بمن قال فيه الحافظ: «صدوق سيء الحفظ أو تغير بأخره»؟ كما تحتج بمن قال فيه: «صدوق يهم»؟ فإن قال: نعم، خالف السابق واللاحق، وإن قال: لا، قلت: بأي شيء فرقت بين ألفاظ المرتبة الواحدة؟ فجعلت بعضها لا يُحتج بأهلها، والبعض الآخر يحتج به؟ فصنيعك هذا معناه: أن الحافظ قد جمع بين ألفاظ الاحتجاج وألفاظ الشواهد في مرتبة واحدة، وأن هذه المرتبة تقسم مرتبتين، وهذا كله تعقب على الحافظ في صنيعه، ومع ذلك فأنت تدعى أنّ قولك موافق لقصد الحافظ وصنيعه!!
ثالثاً: قد صرح الحافظ بأن أهل المرتبة الخامسة في «التقريب» من أهل الشواهد لا الاحتجاج عن البخاري يرحمه الله، فقال في «هدي الساري» (ص:384) الفصل التاسع: في سياق أسماء من طُعِنَ فيه من رجال هذا الكتاب ... فقال: وأما الغلط: فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل، فحيث يُوصف بكونه كثير الغلط، يُنظر فيما أخرج – يعني: البخاري – له، إن وُجد مروياً عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، عُلِم أن المُعْتَمَد أصلُ الحديث، لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه، فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في «الصحيح» بحمد الله من ذلك شيء، وحيث يُوصف بقلة الغلط، كما يقال: «سيء الحفظ»، أو «له أوهام»، أو (له مناكير»، وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله، إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك ... ، اهـ.(1/249)
فتأمل حكمه على من كان كثير الغلط، وأنَّه لا يُحتج بما تفرد به، ثم تأمل قوله في قليلي الغلط – وهم المقصودون عنهم في هذا السؤال – حيث قال: «فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله» أي أنَّه لا يُحتج بما تفردوا به، لا عند البخاري، ولا عند الحافظ نفسه، والله أعلم.
رابعاً: وفي «هدي الساري» (ص:391) الفصل التاسع، ترجمة إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أويس، قال الحافظ: قلت: وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأن يُعلْم له على ما يحدث به، ليحدث به، ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه، لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في «الصحيح»، من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا إن شاركه فيه غيره، فيعتبر فيه، اهـ.
ومع تصريح الحافظ بعدم الاعتماد على رواية إسماعيل خارج «الصحيح» فقد ترجمه في «التقريب» بقوله: «صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه» ... ، اهـ.
ومعلوم أن قولهم: «صدوق يخطئ» أكثر ضعفاً من قولهم: «صدوق أخطأ في أحاديث» لما هو معلوم من أن صيغة المضارعة تقتضي التكثير، ومع ذلك فلم يحتج بمن قال فيه اللفظَ الأدنى، فكيف بمن قال فيه اللفظ الأعلى في الجرح؟!.
خامساً: وفي «التقريب» ترجمة هشام بن سعد المدني أبي عباد، قال الحافظ: «صدوق له أوهام»، ومع ذلك فقد ذكره في «الفتح» (1/ 241) ك/ الوضوء ب/ غسل الوجه باليدين تحت الحديث رقم (140) فقال: وهشام بن سعد لا يحتج بما تفرد به، فكيف إذا خالف، اهـ.
سادساً: سبق أن الحافظ تابع للعلماء في اصطلاحهم، وقد أكثر الساجي من قوله: «صدوق يهم»، فيمن لا يحتج به، مثال ذلك قوله في صالح بن أبي الأخضر، كما في «تهذيب التهذيب» (4/ 381) ترجمة صالح.(1/250)
وكذلك فقد قال الإمام أحمد في عمرو بن شعيب: له أشياء مناكير، إنّما نكتب حديثه نعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا، اهـ من «النبلاء» (5/ 166 - 167) و «تهذيب التهذيب» (8/ 149) ترجمة عمرو.
سابعاً: سأذكر عدة تراجم حكم عليها الحافظ بقوله: «صدوق يهم» أو «صدوق يخطئ» أو «صدوق له أوهام» أو «صدوق له مناكير أو أغلاط» ونحو ذلك، وأريد من المخالف أن يرجع إليها في «تهذيب التهذيب»، فسينظر أن أقوال الأئمة فيها واضحة بالجرح، وأنه لا يُحتج بأهل هذه التراجم، لظهور الجرح في حفظ أهلها، مع أنني لم أقصد استيعاب هذا الصنف.
وهذه أسماؤهم:
1 – إبراهيم بن عيينة بن أبي عمران الهلالي.
2 – إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي.
3 – أسامة بن زيد الليثي.
4 – إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أويس – مع ما سبق من تصريح الحافظ نفسه -.
5 – إسماعيل بن محمد بن جُحادة.
6 – أشعث بن عبدالرحمن بن زبيد اليامي.
7 – أشهل بن حاتم الجمحي.
8 – أيوب بن سويد الرملي.
9 – بكار بن عبدالعزيز بن أبي بكرة الثقفي.
10 – بكرة بن خنيس الكوفي العابد.
11 – الجراح بن مليح الرؤاسي والد وكيع.
12 – جعفر بن بُرقان في حديثه عن الزهري.
13 – جعفر بن ميمون الأنماطي.
14 – جُميْع بن عمير التميمي الكوفي.
15 – جُنادة بن سلم بن خالد السوائي.
16 – الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي.
17 – الحارث بن منصور أبو منصور الواسطي.
18 – حبة بن جُوين بن علي العُرني البجلي.
19 – حبيب بن أبي حبيب يزيد الجرمي.
20 – حُديج بن معاوية بن حُديج أخو زهير.
21 – الحسن بن ذكوان أبو سلمة البصري.
22 – الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري.
23 – الحكم بن عطية العيشي.
24 – حنش بن المعتمر، ويقال ابن ربيعة الكناني.
25 – رباح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي.
26 – ربيعة بن سيف بن ماتع المعافري.
27 – زكريا بن يحيى بن عمر بن حصن الطائي، قال فيه: صدوق له أوهام، ليّنه بسببها الدارقطني.(1/251)
28 – زياد بن الحسن بن الفرات القزاز.
29 – زيد بن الحباب في حديثه عن الثوري.
30 – سعيد بن داود بن سعيد بن أبي زنبر الزنبري.
31 – سعيد بن سفيان الجحدري.
32 – سهل بن تمام بن بزيع الطّفاوي السعدي.
33 – سويد بن إبراهيم الجحدري الحناط، قال فيه: صدوق سيء الحفظ له أغلاط، اهـ.
34 – سلامة بن روح بن خالد الأيلي.
35 – سيار بن حاتم العنزي.
36 – شبيب بن شيبة بن عبدالله التميمي المنقري.
37 – صدقة بن موسى الدقيقي.
38 – ضِرار بن صُرَد التيمي أبو نعيم الطحان.
39 – طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري.
40 – عاصم بن بهدلة أبي النجود الأسدي مولاهم.
41 – عاصم بن عبدالعزيز بن عاصم الأشجعي.
42 – عباد بن ليث الكرابيسي القيسي.
43 – عبدالله بن الحسين الأزدي أبو حريز.
44 – عبدالله بن دكين الكوفي.
45 – عبدالله بن عياش بن عباس القِتْباني.
46 – عبدالله بن مسلم السلمي أبو طيْبة.
47 – عبدالأعلى بن عامر الثعلبي.
48 – عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار العدوي.
49 – محمد بن سليمان بن عبدالله الأصبهاني أبو علي.
50 – هشام بن سعد المدني أبو عباد، مع ما قد سبق عنه في «الفتح» (1/ 241).
فهذه خمسون ترجمة؛ الجرح فيها ظاهر، ومع ذلك ترجمها الحافظ بأحد ألفاظ المرتبة الخامسة، فهل يستطيع المخالف أن يأتي بمثلها أو بنحوها من تراجم «التقريب» ويكون التعديل فيها ظاهراً، وليس هناك تأويل سائغ للحافظ في تليينها، من أجل أن نسلَّم له ما يقول؟
فإن قيل: إن بعض الحفاظ قد يحتج ببعض من قال فيهم الحافظ: صدوق يهم، أو نحو هذا القول، بل الحافظ ابن حجر نفسه قد يفعل ذلك.(1/252)
فالجواب: أن هذا ليس بظاهر في الدلالة على الاحتجاج مطلقاً بأهل المرتبة الخامسة من «التقريب»، لاحتمال أن الاحتجاج ببعضهم لقرائن تقوي من أمره، أو لأنَّ الحافظ من الحفاظ لا يرى في الراوي ما يراه ابن حجر، أو لأنَّ ابن حجر نفسه ما استحضر جميع نصوص الأئمة في الراوي، أو رأى في حديث بعينه شيئاً ليس مطرداً في بقية أحاديث الراوي، وهذا راجع للقرائن المذكورة آنفاً، ولو سلمنا بنفي هذه الاحتمالات، فالأدلة السابقة أظهر في الدلالة من مجرد تقوية بعض العلماء لبعض أهل المرتبة الخامسة من «التقريب»، وأيضاً فهل اطرد صنيع عالم فضلاً عن العلماء لبعض أهل المرتبة الخامسة من «التقريب»، وأيضاً فهل اطرد صنيع عالم فضلاً عن العلماء على الاحتجاج بهؤلاء البعض، أو ورد عنه الاحتجاج والاستشهاد؟ الراجح الثاني، كما في غير ترجمة – وقفتُ عليها – مما يستدل بها المخالفون على قولهم، والله أعلم.
(تنبيه):
سبق في السؤال (13) الكلام على هذه المسألة بشيء من الاختصار، وما ههنا أبسط وأوسع، والله أعلم.
س 231: التابعي إذا قال: من السنة كذا، أو قيل عن التابعي: يرفعه، أو يبلغ به، أو يمنيه، أو نحو هذا، أو قال قولاً مثله لا يقال بالرأي، فهل هذا كله يعتبر مرفوعاً مرسلاً، أم يعتبر موقوفاً على بعض الصحابة؟
ج 231: سبق في السؤال (36) أنني رجحت في المسألة الأولى: أنَّ له حكم الوقف، والمعتمد ما سأحرره هنا – إن شاء الله تعالى – فأقول:
قول التابعي: «من السنة كذا»، اختلف فيه العلماء، فصحح الوقف النووي كما في «شرح مسلم» (1/ 30 - 31) في فصول له قبل مقدمة «صحيح مسلم»، وكذا في «المجموع» (1/ 60) في فصول له في مقدمة الكتاب.(1/253)
وذكر النووي أن بعض الشافعية خالفوا في ذلك، فذهبوا إلى أنَّه في حكم المرفوع المرسل، وجزم ابن الصباغ في «العدة» بأنه مرسل، انظر «التدريب» (1/ 211 - 212)، وصرح الحافظ ابن كثير بأنه مرسل، فقال في إرشاد الفقيه (1/ 207) في باب صلاة العيدين:
وقول التابعي: «من السنة كذا» أن يُنزل منزلة إرساله، إن قلنا: إن ذلك من الصحابي مرفوع، كذا صرح به بعض العلماء، اهـ.
وفي «النكت» (2/ 524 - 525) نقل عن الشافعي: رَوَىَ في «الأم» عن سفيان عن أبي الزناد قال: سئل سعيد بن المسيب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما، قال أبو الزناد: فقلت: سنة؟ فقال سعيد: سنة، قال الشافعي الذي يشبه قول سعيد: «سنة»، أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اهـ.
وذكر الحافظ أثناء كلامه على قول الصحابي: «من السنة كذا»، أنّ إسناد ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو المتبادر إلى الفهم، فكان الحمل عليه أولى، وأنَّ سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصل، وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته، وأنَّ مقصود الصحابي بيان الشريعة ونقلها، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع اهـ ملخصاً.
وكل هذا يصح أن يقال في التابعي – على الراجح – مع وجود بعض الفرق في ذلك بين الصحابي والتابعي.(1/254)
ثم قال الحافظ: ومما يؤيد مذهب الجمهور – أي: فيجعل قول الصحابي من السنة كذا مرفوعاً – ما رواه البخاري في صحيحه – وهو في ك/ الحج، ب/ الجمع بين الصلاتين بعرفة برقم (1662) (3/ 513) مع «الفتح» – وفيه: وقال الليث: حدثني عقيل: عن ابن شهاب قال أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير – رضي الله عنهما -، سأل عبدالله – أي: ابن عمر رضي الله عنه -،: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنتَ تريد السنة فهجِّر بالصلاة يوم عرفة، قال عبدالله بن عمر: صَدَق، إنَّهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة فقلت – أي: الزهري -، لسالم: أفَعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل يتّبعون – وفي رواية: يبتغون – بذلك إلا سنته؟ اهـ. وقد نقلت السند واللفظ من «الصحيح».
وقد ذكر الحافظ من أسند هذا الأثر، فانظر «الفتح».
فهذا سالم – وهو تابعي – أطلق السنة، وأراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل صرح بأنَّهم لا يبتغون بذلك إلا سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وذهب الجد ابن تيمية إلى أن هذا القول من التابعي بمنزلة المرسل، ثم قال: وقد نقل أبو النضر العجلي عن أحمد في جراحات النساء مثل جراحات الرجال حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجال، قال: وهو قول زيد بن ثابت، وقول عليِّ كله على النصف، قيل له: كيف لم تذهب إلى قول عليّ؟ قال لأنَّ هذا – يعني قول زيد – ليس بقياس، قال: قال سعيد بن المسيب: هو السنة، قال القاضي: وهذا يقتضي أن قول التابعي: من السنة، أنها سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنَّه قدّم قول زيد على قول عليّ، لأنه وافق قول سعيد: إنّما هي السنة، وبيّن أنَّه ليس بقياس، قال: وقد رأيت هذا لبعض أصحابنا ...(1/255)
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: قلت: ويغلب على ظني أن هذا الضرب – يعني قول الصحابي: من السنة ومن باب أولى قول التابعي – لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعاً، اهـ من المسودة (ص: 294 - 295).
ثم ذكر جامع «المسودة» مسألة في قول التابعي: «من السنة»، فقال
فإن قال التابعي ذلك، فكذلك – أي: أن حكمه حكم الصحابي – إلا أنه يكون بمنزلة المرسل، وقد أومأ أحمد إلى ذلك، ثم نقل والد شيخ الإسلام، فقال: قال المقدسي: وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء، إلا أن الاحتمال في قول الصحابي أظهر ... ، اهـ. (ص:295).
فالذي يظهر لي: أنَّ قول التابعي: «من السنة»، أن له حكم المرفوع المرسل، واحتمال أنَّه أراد بذلك سنة أحد الخلفاء، أو سنة أهل بلد معين، أو نحو ذلك، خلاف الظاهر المتبادر إلى الفهم، كما قال الحافظ – يرحمه الله -.
ومع ذلك فالمسألة تحتاج إلى مزيد استقراء، فتجمع المواضع التي ذُكر فيها هذا القول، ويُعرف الأشهر في الاستعمال، فتطمئن النفس إليه، وسواء قلنا بالرفع مع الإرسال أو بالوقف، فكلاهما يصلح أن يستشهد به، أما المرسل فقد سبق الكلام عليه، وأما الموقوف فيستشهد به ما لم يكن هناك من بخالفهمنالصحابة، وقد صرح الشافعي رحمه الله بالاستشهاد بالموقوف، وهو محمول على هذا القيد، ولم أذكر الآن أحداً قال بهذا القيد، لكن هو الذي تميل إليه نفسي، ومع ذلك فهذا الشرط عندي محل استقراء وتوسع، والله أعلم.
- وأما قول من بعد التابعي حاكياً صنيع التابعي: (ينميه) أو «يرفعه» أو «يبلغ به» أو «رواية» أو نحو ذلك، فله حكم الرفع مع الإرسال، قاله السخاوي، كما في الغاية (1/ 265)، بل قد قال في «فتح المغيث» (1/ 146): فمرسل مرفوع بلا خلاف، اهـ وهذا هو الراجح، والله أعلم.
- وإذا قال التابعي: «أمرنا بكذا» فالاحتمال في حقه أكبر من الصحابي إذا قال هذا القول، والنفس لا تطمئن إلى رفعه.(1/256)
- وإذا قال التابعي قولاً ليس للاجتهاد فيه مدخل، ومثله لا يقال بالرأي، فقد صرح الحافظ بأن له حكم المرسل:
- ففي «نتائج الأفكار» (1/ 392/80) ذكر الحافظ ابن حجر قول عطاء بن أبي رياح: تفتح أبواب السماء عند ثلاث خلال، فتحرروا فيهن الدعاء ... الأثر.
- ثم قال الحافظ: وهو مقطوع جيد، له حكم المرسل، لأنَّ مثله لا يقال من قبل الرأي، اهـ.
- وذكر السخاوي في «فتح المغيث» (1/ 152):
أنَّ ابن العربي ألحق بالصحابة التابعيين، فيما لا مجال فيه للرأي، على أن يكون في حكم المرفوع، وادعى أن مذهب مالك، قال: قال: ولهذا أدخل عن سعيد بن المسيب: صلاة الملائكة خلف المصلي، انتهى.
قال السخاوي: وقد يكون ابن المسيب اختص بذلك عن التابعين، كما اختص دونهم بالحكم في قوله: «من السنة»، «وأمرنا»، والاحتجاج بمراسيله، كما تقرر في أماكنه، ولكن الظاهر أنَّ مذهب مالك – هنا – التعميم، قال وبهذا الحكم أجيب من أعترض في إدخال المقطوع والموقوف في علوم الحديث، كما أشرت إليه في المقطوع، اهـ.
ومعلوم أن ذِكر القول الذي لا يقال بالرأي، إن كان من صحابي، فيشترط فيه أن يكون الصحابي متحرزاً عن الأخذ عن أهل الكتاب، فليكن ذلك في حق التابعي من باب أولى.
على أن السخاوي – يرحمه الله – نازع كثيراً في «فتح المغيث» (1/ 148 - 152) في الفرع السادس بعد المرفوع والمقطوع، وما ذكره يحتاج إلى بحث في الأسانيد التي نقل بها أقوال الصحابة وغيرهم، والله تعالى أعلم.
هذا ما تيسر ذِكْره في قول التابعي ما لا مجال للاجتهاد فيه، والمقام يحتاج إلى مزيد توسع واستقراء، والعلم عند الله تعالى.(1/257)
وبهذا انتهت أسئلة الجزء الثاني من هذا الكتاب المبارك، وأسأل الله العون على مواصلة السير، والانتفاع به في الدارين، وأن يباعد به بيني وبين عذابه وسخطه، وأن ينفع به والديّ وأهلي وذريتي وإخواني الذين ساعدوني في جمعه ومراجعته، إنّه جواد كريم بر رحيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه
أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل السليماني
دار الحديث – مأرب فليفل –
ديرة آل هادي بن وهيط – رحمه الله تعالى، وحفظ ذريته –
ويليه الجزء الثالث – إن شاء الله تعالى – مبتدئاً بالسؤال (232).(1/258)