قلت: وفي هذا أن الصحابي الذي لم يسم، والصحابي الذي لم يعرف إلا برواية عدل واحد عنه، ليس حديثه مما يصح وصفه بالصحة عند الحاكم.
وهذا ضعيف، بل ما كان عند الحاكم من أعلى درجات الصحيح، وهو ما اتفق عليه الشيخان، فيه الرواية عن جماعة لم يرو عن أحدهم إلا واحد، كما سيأتي في شرط الشيخين في الحديث الصحيح.
كذلك فإن الصحابي الذي لم يسم إذا صح الإسناد إليه فحديثه صحيح، كما بينته في الكلام في (العدالة والجهالة) مما تقدم في هذا الكتاب.
* * *(2/808)
المبحث الرابع:
الحديث الصحيح في اصطلاح الترمذي
يقول الترمذي كثيراً في حكمه على الأحاديث المخرجة في " جامعه ": " حديث حسن صحيح "، في جملة اصطلاحات أخرى، تبيين سائرها في موضعه.
فما مراده هنا بهذه العبارة؟
أوجدنا النظر والتتبع لما حكم عليه من الحديث بذلك، أنه أراد به: الحديث من رواية الثقات العدول المتقنين، المحفوظ غير الشاذ، والذي جاء معناه من غير وجه (1).
فإن زاد: (غريب) فيكون حسناً صحيحاً بذلك اللفظ بذلك الإسناد، ولا يمنع مجيء معناه من وجه آخر، كما هو الشأن في أكثر أحاديث الثقات.
وفرق ما بين وصف الحديث بكونه (صحيحاً) أو (حسناً صحيحاً) أن الوصف بالصحة المجردة غير مشروط أن يكون معناه جاء من وجه آخر، فبهذا الاعتبار يكون قوله: (حسن صحيح) أقوى مرتبة من القول: (صحيح)
_________
(1) وانظر شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 385، 386، 388).(2/809)
فقط؛ من جهة أنه صحيح لذاته، وأن معناه جاء من غير وجه، فله عاضد من غيره (1).
ولكثرة استعمال الترمذي لهذه الصيغة ظن كثير من الناس أنه أقدم من عرف عنه ذلك، وليس كذلك، بل وقع استعماله في كلام شيخه البخاري، كما نقل الترمذي عنه شيئاً من ذلك، وأبي حاتم الرازي، لكن قليلاً.
فمنه قول ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه إبراهيم بن شيبان، عن يونس بن ميسرة بن حلبس، عن أبي إدريس، عن عبد الله بن حوالة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجندون أجناداً؟ قال: " هو صحيح حسن غريب" (2).
وقال: سألت أبي عن حديث رواه يحيى بن حمزة، عن زيد بن واقد، عن مغيث بن سمي، عن عبد الله بن عمرو، قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: " محموم القلب، صدوق اللسان "، قالوا: صدوق اللسان نعرف، فما محموم القلب؟ قال: " هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا غل ولا حسد "، قالوا: من يليه يا رسول الله؟ قال: " الذي يشنأ الدنيا، ويحب الآخرة "، قالوا: ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يليه؟ قال: " مؤمن في خلق حسن "، قال أبي: " هذا حديث صحيح حسن، وزيد محله الصدق، وكان يرى رأي القدر " (3).
* * *
_________
(1) ذكر معنى ذلك ابن رجب في " شرح العلل " (1/ 388).
(2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1001) .......
(3) علل الحديث (رقم: 1873).(2/810)
الفصل الثاني
الحديث الحسن(2/811)
المبحث الأول:
تعريف الحديث الحسن
الحديث الحسن في استعمال المتقدمين له، واقع على صورتين:
الصورة الأولى: ما تقاصر عن درجة الصحيح، من جهة قدر الإتقان في بعض رواته فيما لا يهبط عن درجة القبول غالباً، مع اعتبار سائر شروط الصحة (1).
والطريق إلى إدراكه: أنك تجده في الراوي الموصوف بالصدق، لكنه: إما أن يثبت له من الوهم والغلط ما نزل بحفظه عن درجة أهل الإتقان، غير أنه لم يزل فوق الضعف الذي يسقط بالرواية.
وإما أن يكون لم يرو إلا القليل ولم يتميز من مجموع ما روى أنه يلحق بالثقات، فيبقى دون الثقة.
والتحقيق:
أن الفصل بين مقبول ومردود في هذا المقام في غاية المشقة؛ لذلك كان هذا النمط من الرواة يشترط لقبول حديثه والحكم بحسنه شرطان زائدان على شروط الصحيح:
_________
(1) انظر شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 389 _ 390) .......(2/813)
الأول: زيادة التحري لتحقيق شرط السلامة من العلل المؤثرة.
والثاني: البحث عن وجود ما يوافق روايته، فلو تفرد بمضمونها؛ كأن يأتي بحكم لم يأتي به غيره، ولا يعرف في قرآن أو سنة صحيحة كان الحديث بذلك من (قسم المردود).
ولهذا يعبر بعض أهل الحديث عن الراوي الذي خف ضبطه أو لم يتبين إتقانه بعبارة: (يكتب حديثه وينظر فيه)، وهذا الشرط ليس مطلوباً في حديث الثقة تام الضبط راوي الحديث الصحيح.
والصورة الثانية: الحديث يكون ناقصاً في شرط الاتصال، أو نازلاً في شرط الضبط عن حد من يقبل منفرداً، فيأتي معناه من وجه آخر صالح للاعتبار به، في نفس منزلته أو يقرب منها، بحيث إذا نظرت إلى كل من الوجهين منفرداً رددته، لكنك إذا جمعتهما قوى أحدهما الآخر، حيث سد كل منهما نقص الآخر.
وهذا هو الحديث (الحسن لغيره).
وهو في التحقيق: الضعيف المنجبر.
الترمذي و (الحديث الحسن):
أول من جاء عنه تعريف (الحديث الحسن) هو الإمام الترمذي، ومعلوم أن له في كتابه " الجامع " مصطلحات مبتكرة، اضطرب العلماء بعده في تفسيرها، وهذا محل بيان (الحديث الحسن) عنده (1).
قال الترمذي: " ما ذكرنا في هذا الكتاب (حديث حسن)، فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا. كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم
_________
(1) وسائر استعمالاته في محالِّها من هذا الكتاب، كقوله: (حديث حسنٌ صحيحٌ) و (حديثٌ غريب)، وقد ذكر ابنُ رجب ما تأوَّله المتأولون لتفسير المراد بتلك الاصْطلاحات، انظر: شرح العلل (388 _ 394).(2/814)
بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذاك. فهو عندنا حديث حسن " (1).
وهذا يبينه ابن رجب بقوله: " الحديث الذي يرويه الثقة العدل، ومن كثر غلطه، ومن يغلب على حديثه الوهم، إذا لم يكن أحد منهم متهماً، كله حسن، بشرط أن لا يكون شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة " (2).
وكونه جعل الشرط فيه: رواية معناه من غير وجه، فإذا قال: (حديث حسن غريب) فيعني غرابة لفظه من ذلك الوجه، وحسنه لمجيء معناه من وجه آخر (3).
قلت: وهذا التعريف من الترمذي يمكن إجراء هـ على صورة (الحسن لغيره)، إذ مجيء معنى الحديث من وجه آخر لا يطلب في رواية من ثبت حفظه بثبوت السلامة من الوهم، وإن كان في حفظه لين إنما تُطلب فيه السلامة من التفرد بما لا أصل له، وفرق بين الصورتين لا يخفى.
ولذا كان (الحسن لذاته) مندرجاً عند أكثر الأئمة تحت (الصحيح)؛ لاعتبار النظر عندهم إلى ذات الإسناد وذات المتن، وأنه نفس ما اعتبروه للحديث الصحيح لذاته.
والحديث الحسن بتعريف الترمذي هو الضعيف الصالح عند من تقدمه من أهل العلم.
قال ابن رجب: " كان الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف الذي لم يرد خلافه، ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن " (4).
_________
(1) كتاب (العلل) آخر " الجامع " (6/ 251).
(2) شرح العلل (1/ 384 _ 385).
(3) بيَّنه ابنُ رجب كذلك (1/ 386) .......
(4) شرح علل الترمذي (1/ 344).(2/815)
قلت: وهذا نسبه كذلك ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى طريقة أحمد وغيره من الأئمة المتقدمين:
فقال ابن تيمية: " والترمذي أول من قسم الأحاديث إلى صحيح وحسن وغريب وضعيف، ولم يعرف قبله هذا التقسيم عن أحد، لكن كانوا يقسمون الأحاديث إلى صحيح وضعيف، كما يقسمون الرجال إلى ضعيف وغير ضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف لا يحتج به، وهو الضعيف في اصطلاح الترمذي، والثاني: ضعيف يحتج به، وهو الحسن في اصطلاح الترمذي،. . ولهذا يوجد في كلام أحمد وغيره من الفقهاء أنهم يحتجون بالحديث الضعيف، كحديث عمرو بن شعيب، وإبراهيم الهجري وغيرهما، فإن ذلك الذي سماه أولئك ضعيفاً هو أرفع من كثير من الحسن، بل هو مما يجعله كثير من الناس صحيحاً " (1).
وقال ابن القيم وهو يبين أصول مذهب أحمد: " الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس.
وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس " (2).
_________
(1) مجموع الفتاوى (18/ 140 _ 141 _ وفاء)، ونحوه في: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 163) .......
(2) إعلام الموقعين (1/ 31 _ 32)، معنى هذا أيضاً في كتاب " الفروسية " (ص: 67).(2/816)
قلت: ومن هذا القبيل ما حكاه ابن أبي حاتم الرازي في ترجمة (مخلد بن خفاف الغفاري)، قال: سئل أبي عنه؟ فقال: " لم يرو عنه غير ابن أبي ذئب، وليس هذا إسناد تقوم به الحجة " يعني الحديث الذي يروي مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الخراج بالضمان، " غير أني أقول به؛ لأنه أصلح من آراء الرجال " (1).
وهذا الحديث يتقوى بالطرق عند جماعة من العلماء، والعلة في هذا الإسناد من جهة عدم شهرة مخلد، فمثله يحسن حديثه في غير الأحكام، أما في الأحكام كهذا الحديث فيحتاج إلى عاضد، وقد جاء ما يشده ويدفع عن مخلد فيه التفرد (2).
وهذا النوع من الحديث كان الأئمة من السلف يصيرون إليه عند فقدهم ما هو أولى منه، وبينت في (المرسل) أن احتجاج من احتج به من أكثرهم كان من هذه الجهة، لا من جهة اعتقاد ثبوته في لفظه وروايته.
وحاصل ما تقدم أن (الحسن) يندرج تحته نوعان:
الأول: الحسن بتعريفه الذي صدرت به، وهو ما عاد الفارق بينه وبين (الصحيح) إلى قدر الإتقان فيمن ترجح حفظه ولم يتفرد بأصل.
وهذا هو (الحسن لذاته).
والثاني: المروي من وجه لين أو ضعيف لم يبلغ السقوط، جاء معناه من وجه آخر صالح للاعتبار به، فتقوى به.
وهذا هو (الحسن لغيره)، وهو رواية الضعيف المنجبرة.
وكيف يتقوى الحديث الضعيف بتعدد الطرق حتى يلحق بالمقبول من الحديث؟ بيانه في (الفصل الثالث) من (الباب الثاني).
_________
(1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 347).
(2) بما تحريره في كتابي (نُصوص المعاملات الماليَّة) يسَّر الله إتمامه .......(2/817)
وقد قال السخاوي: " قال النووي رحمه الله في بعض الأحاديث: وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة، فمجموعها يقوي بعضها بعضاً، ويصير الحديث حسناً، ويحتج به، وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة، وظاهر كلام أبي الحسن ابن القطان يرشد إليه، فإنه قال: هذا القسم لا يحتج به كله، بأن يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرقه، أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح، أو ظاهر القرآن، واستحسنه شيخنا " يعني ابن حجر، وأشار إلى أنَّ مذهب ابن دقيق العيد التوقف (1).
قلت: واعلم أنه لم يذهب أحد من متقدمي أئمة الحديث، ولا متأخري المحققين منهم إلى أن قبول مثل هذا الحديث هو من جهة اشتمال الإسناد على شروط القبول، وإنما بإقرار جميع من تعرض إلى هذا النوع: هو حديث ضعيف لذاته، لكنهم وجدوا الضعف مما أشار إليه تعريف الترمذي للحديث الحسن بقوله: " لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً، ويروى من غير وجه نحو ذاك "، فيطلبون فيه وجود ما ذكره الترمذي على التحقيق.
وبعض المتأخرين توسعوا، وأهملوا اعتبار هذه الأوصاف، فقووا أحاديث بممجرد تعدد الطرق، وتسهلوا في درجات الرواة، كما وقع لمثل السيوطي رحمه الله وغيره.
واعلم أنه لا حاجة بك أن تقول فيما يتقوى عندك بهذا الطريق بعد اعتبار شروطه: (حديث حسن لغيره) كما لا حاجة للقول في الصورة الأولى: (حديث حسن لذاته)، وإنما جرى عمل المتقدمين وأكثر المتأخرين على إطلاق القول: (حديث حسن).
* * *
_________
(1) فتح المغيث (1/ 69) .......(2/818)
المبحث الثاني:
تاريخ هذا (المصطلح)
يعزو كثير من المتأخرين استعمال مصطلح (الحديث الحسن) بمعنى: الحديث النازل عن درجة (الصحيح) دون الرد، إلى الإمام الترمذي صاحب " الجامع ".
نعم، تقسيم الحديث المقبول إلى: صحيح، وحسن، لم يكن شائعاً قبل الإمام الترمذي، وكان بعض من تقدم قبله من أئمة الحديث يرون الحديث الحسن درجة من الضعف كما تقدم عن أحمد وغيره فيما كانوا يقدمونه على القياس، ولم يكن مرادهم الضعيف المردود.
فلما جاء الترمذي أظهر الاصطلاح بجعل (الحسن) أحد قسمي المقبول.
والتحقيق: أنه مسبوق إلى استعمال هذا المصطلح بالمعنى الذي قصد إليه، سبقه به أئمة الحديث، لكنه لم يتحرر يومئذ بتعريف، وفضل الترمذي أنه أول من صاغ قانونه، وحرر تعريفه.
فممن استعمله قبله أو من معاصريه من أئمة الحديث:
(1) الإمام مالك بن أنس، وهو أقدم من عرف عنه ذكر (الحديث الحسن).(2/819)
وذلك فيما أخرجه الحافظ ابن أبي حاتم الرازي (1) قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: سمعت عمي (يعني عبد الله بن وهب) يقول: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد، وابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي، قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه ".
فقال: " إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة " ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.
وهذا الحديث لو تتبعته صرت إلى أنه (حسن) بالمعنى الاصطلاحي، مع أن الاصطلاح لم يعرف بعد.
(2) الإمام علي بن المديني.
ومما جاء عنه في ذلك في حديث عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان ذا وجهين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة "، قال ابن المديني: " إسناده حسن , ولا نحفظه عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الطريق " (2).
(3) الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب " الصحيح ".
فقد نقل عنه الترمذي تحسينه لعدة أحاديث، وذلك في كتابي " الجامع " و " العلل الكبير "، جميعها مما يتطابق مع تعريف الحديث الحسن بما تقدم، وعنى به البخاري درجة في الثبوت، منها: حديث عثمان في تخليل اللحية
_________
(1) في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 31 _ 32) .......
(2) نقله المزِّي في " تهذيب الكمال " (29/ 482).(2/820)
في الوضوء، وحديث ابن عباس في تخليل الأصابع، وحديث عائشة في " ويل للأعقاب من النار " في الوضوء كذلك، وغيرها.
(4) أبو حاتم الرازي، فحكم به على الحديث المعين، قوله في ترجمة (عمرو بن محمد) الراوي عن سعيد بن جبير: " هو مجهول، والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير فهو حسن " (1).
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث رواه شعبة والليث عن عبد ربه بن سعيد، واختلفا: فقال الليث: عن عمران بن أبي أنس.
وقال شعبة: عن أنس بن أبي أنس.
واختلفا: فقال الليث: عن ربيعة بن الحارث.
وقال شعبة: عن المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الصلاة مثنى مثنى، تخشع، وتضرع، وتمسكن، وتقنع بيديك _ يقول: يرفعهما _ وتقول: يا رب، يا رب، فمن لم يفعل ذلك لم يفعل ذلك فهيَ خداج ".
قال أبي: " ما يقول الليث أصح؛ لأنه قد تابع الليث عمرو بن الحارث، وابن لهيعة، وعمرو والليث كانا يكتبان، وشعبة صاحب حفظ ".
قلت لأبي: هذا الإسناد عندك صحيح؟ قال: " حسن ".
قلت لأبي: من ربيعة بن الحارث؟ قال: " هو ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ". قلت: سمع من الفضل؟ قال: " أدركه ". قلت: يحتج بحديث ربيعة بن الحارث؟ قال: " حسن ". فكررت عليه مراداً فلم يزدني على قوله: " حسن "، ثم قال: " الحجة سفيان وشعبة ".
قلت: فعبد ربه بن سعيد؟ قال: " لا بأس به ". قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " هو حسن الحديث " (2).
_________
(1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 262) .......
(2) علل الحديث (رقم: 365).(2/821)
قلت: حكم أبي حاتم على راو بكونه (حسن الحديث) كثير، يأتي قريباً بعض مثاله.
قلت: والأشبه أن يكون ما اصطلحه الترمذي في عد الحديث الحسن قسيماً للصحيح في جملة الحديث المقبول، مما أخذه عن شيخه البخاري، وأخذه البخاري عن شيخه علي بن المديني.
ولا نعلم أحداً من أئمة هذا الشأن عاب على الترمذي هذا الاصطلاح عند ظهوره منه، بل إن من جاء من بعد قد تواردوا على متابعة الترمذي في استعماله.
ويعتضد ما بينته عن الترمذي في معنى (الحسن) وعمن سبقه إليه أو وافقه فيه: ما شاع من استعمال إطلاق وصف (حسن الحديث) على الراوي، فمن تأمل أحوال من أطلقت عليه هذه العبارة عند متقدمي العلماء وجدها صفة من يحكم على حديثه بالحسن الاصطلاحي.
فمن ذلك:
(1) قال أحمد بن حنبل في (شهر بن حوشب): " ما أحسن حديثه " ووثقة، قال: " روى عن أسماء بنت يزيد أحاديث حساناً " (1).
(2) وقال أبو داود في (أشعث بن عبد الرحمن): " حسن الحديث " (2).
(3) وقال أبو حاتم الرازي في (عبد الله بن عبد الملك بن أبي عبيدة المسعودي): " حسن الحديث، لا بأس به عنده غرائب عن الأعمش " (3).
(4) وقال أبو حاتم في (محمد بن راشد المكحولي): " كان صدوقاً، حسن الحديث " (4).
_________
(1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 383).
(2) سؤالات الآجرِّي (النص: 312).
(3) الجرح والتعديل (2/ 2 / 105).
(4) الجرح والتعديل (3/ 2 / 253).(2/822)
(5) وقال أبو حاتم في (محمد بن عبد الله المرادي): " شيخ لشريك، حسن الحديث، صدوق " (1).
وعلى نفس المعنى جرى الناقد أبو أحمد بن عدي في تحرير عبارات المتقدمين، وإن كان قد جاء بعد الترمذي لكنه كان على سنن السابقين، ومن أمثلة كلامه في ذلك:
نقل عن يحيى بن معين قوله في (إبراهيم بن سليمان أبي إسماعيل المؤدب): " ضعيف "، ثم قال: " هو عندي حسن الحديث، ليس كما رواه معاوية بن صالح عن يحيى، وله أحاديث كثيرة غرائب حسان، تدل على أن أبا إسماعيل من أهل الصدق، وهو ممن يكتب حديثه " (2).
وقال ابن عدي في (أبان بن يزيد العطار): " هو حسن الحديث متماسك، يكتب حديثه، وله أحاديث صالحة عن قتادة وغيره، وعامتها مستقيمة، وأرجو أنه من أهل الصدق " (3).
وقال ابن عدي في (بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري) وقد ذكر له حديثاً تفرد به: " هذا طريق حسن، ورواة ثقات، وقد أدخله قوم في صحاحهم، وأرجو أن لا يكون ببريد هذا بأس " (4).
ولابن عدي بمثل المعنى في رواة آخرين (5).
قلت: وقول ابن عدي: (يكتب حديثه) ولم يقل: (يحتج به)؛ لأن
_________
(1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 309) .......
(2) الكامل (1/ 404).
(3) الكامل (2/ 73).
(4) الكامل (2/ 247).
(5) انظر مثلاً قوله في: سعيد بن سالم القدَّاح، وعبد الله بن لَهيعة، وعبد الله بن عُثمان بن خثيم، ومُحمد بن دينار الطاحي، ومُحمد بن عيسى بن القاسم بن سُميع (الكامل 4/ 454، و 5/ 253، 268، و 7/ 414، 489) .......(2/823)
من كان (حسن الحديث، صدوقاً) لا يصلح الاحتجاج بخبره ابتداء حتى ينظر فيه، فيعرف أنه محفوظ، وإنما تكون عبارة (يكتب حديثه) جرحاً لو جاءت مفردة، أو مضمونة إلى لفظ جرح.
نعم، ربما قال الناقد في الراوي (حسن الحديث) وهو من الثقات المتقنين، كما قال أحمد بن حنبل في أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج: " شعبة حسن الحديث عن أبي إسحاق، وعن كل من يحدث عنه " (1)، وقال في (عيسى بن يونس بن أبي إسحاق): " حديثه حسن " (2)، وقال العجلي في (سفيان بن عيينة): " كان حسن الحديث " (3)، وقال أحمد بن حنبل في (زيد بن أبي أنيسة): " إن حديثه لحسن مقارب، وإن فيها لبعض النكارة، وهو على ذلك حسن الحديث " (4)، وقال علي بن المديني: " ليس أحد أثبت في سعيد بن أبي سعيد المقبري من ابن أبي ذئب وليث بن سعد ومحمد بن إسحاق، هؤلاء الثلاثة يسندون أحاديث حساناً، ابن عجلان كان يخطئ فيها " (5).
غير أن هذا قليل، فيكون التأصيل: أن من قيلت فيه عبارة (حسن الحديث) فهو صدوق حسن الحديث على المعنى الاصطلاح، حتى تدل قرينة على عدم إرادة ذلك.
ومن دلالة القرينة على عدم إرادة ذلك مثلاً قول ابن عدي في (حسام بن مصك): " عامة أحاديثه إفرادات، وهو مع ضعفه حسن الحديث، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق " (6).
_________
(1) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 176).
(2) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 197).
(3) معرفة الثقات (النص: 631).
(4) الضعفاء، للعقيلي (2/ 74)، قلت: وزيد ثقة، وأحسب النكارة التي عنى أحمد التفرد، فإنه ربما أراد ذلك.
(5) معرفة الرجال، لابن مُحرزٍ (2/ 207).
(6) الكامل (3/ 366).(2/824)
فسائر قول ابن عدي مع النظر في كلام غيره من نقاد الحديث في (حسام) هذا، يتبين أن حسن الحديث هنا لم يرد به المعنى الاصطلاحي له، إنما ما يكون من حديث الراوي صالحاً للاعتبار.
خلاصة ما تقدم:
استعمال مصطلح (الحديث الحسن) قديم لأهل العلم بالحديث، واقع في كلام المتقدمين، يعنون به مرتبة من مراتب القبول والاحتجاج، وإنما كان للترمذي فيه فضل الإبراز والتعريف.
تنبيهان:
الأول: وقع إطلاق لفظ (حديث حسن) في كلام بعض المتقدمين، يعنون به الغريب، وليس هذا من المعنى الاصطلاحي في شيء، والقرينة هي التي أخرجت المراد به عن المعنى المتقدم.
فمن ذلك:
قول وكيع بن الجراح: " كل حديث حسن عبد السلام بن حرب يرويه " (1).
فهو يشير إلى أفراده وروايته الغرائب، وليس هذا من الحسن الاصطلاحي.
ومن هذا ما حدث به أمية بن خالد، قال: قلت لشعبة: ما لك لا تحدث عن عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: " تركت حديثه "، قال: قلت: تحدث عن فلان وتدع عبد الملك بن أبي سليمان؟ قال: " تركته "، قلت: إنه كان حسن الحديث، قال: " من حسنها فررت" (2).
_________
(1) أخرجه العُقيلي (3/ 70) بإسناد صحيح .......
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 146) والعقيلي في " الضعفاء " (3/ 32) وابن عدي في " الكامل " (6/ 525) _ ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (6/ 106) _ والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1296) وإسناده صحيح.(2/825)
والثاني: وقع في كلام بعض العلماء إطلاق وصف (حديث حسن) يريدون به حسن السياقة لا الثبوت، وهذا ليس بجيد ممن فعله؛ لأنه يشكل ويلتبس بالاصطلاح، لكنه قليل نادر.
منه قول الحافظ أبي عمر ابن عبد البر بعد إيراده حديثاً هو عند أهل العلم موضوع من حديث معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا العلم، فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح " في سياق طويل، قال: " هو حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي " (1).
* * *
_________
(1) جامع بيان العلم وفضْله (1/ 55).(2/826)
المبحث الثالث:
تطبيق لتحقيق شروط حسن الحديث
تطبيق للحديث الحسن لذاته:
قال الإمام أبو داود السجستاني (1): حدثنا مؤمل بن الفضل، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من أحب لله، وأبغض لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ".
حال الإسناد من حيث أحوال الرواة واتصاله:
شيخ أبي داود مؤمل وشيخه ابن شابور وشيخه يحيى ثقات، سمع مؤمل من شيخه، وابن شابور لا يعرف بتدليس، ثم هو وشيخه وسائر الإسناد رواة دمشقيون لا ينكر لقاء بعضهم بعضاً وسماع بعضهم من بعض.
وأما القاسم فهو ابن عبد الرحمن تابعي، ويعرف ب " صاحب أبي أمامة " معروف السماع منه، وهو عدل، لكنهم تكلموا في ضبطه وإتقانه، ولينوا روايته، ومنهم من أطلق ضعفه، كما أن منهم من وثقه، وحين تبحث عن
_________
(1) في " سننه " (رقم: 4681) .......(2/827)
سبب التضعيف المطلق تجده أن بعض الرواة الضعفاء رووا عنه أحاديث منكرة، ليس البلاء فيها من جهته، إنما من جهتهم، وأمره في التحقيق كما وصفه البخاري أن أحاديث الثقات عنه كيحيى بن الحارث مقاربة، وهذا وصف يعني القبول بحيطة، إذ هذه درجة من في حديثه لين مع الصدق، وهي درجة من يقال في حديثه: (حسن).
ولنأتِ إلى النظر في الشرطين المذكورين آنفاً لقبول حديث الصدوق، فتأملنا فوجدنا الإسناد سالماً إلى القاسم، وأما هو فوجدناه صاحباً لأبي أمامة لا ينكر أن يسمع من أبي أمامة ما لم يسمعه غيره منه، لكنا نخشى من التفرد بما روى من العلم، فمثله لو استقل بحفظ حكم لا يعرف في كتاب ولا سنة ثابتة من غير طريقة فإنه لا يقبل منه؛ إذ يقال: أين كان حفاظ الأمة لم يعرفوه وعرفه القاسم وحده؟ فبحثنا في متن هذه الرواية فلم نجده روى ما يسنتكر معناه، وهذا مقدار كاف للحكم بحسن حديثه.
لكن البحث أوجدنا غير أبي أمامة روى نحو ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتيقنا حسن حديثه، بل زاده ذلك قوة حتى ارتقى به إلى درجة (الحديث الصحيح لغيره).
وذلك ما أخرجه أحمد وغيره (1) من طريق أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: حدثني سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، عن سهل بن معاذ الجهني، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه ".
_________
(1) هو في " مسند أحمد " (3/ 440)، كما أخرجه الترمذي في " جامعه " (رقم: 2521) وأبو يعلى في " مسنده " (رقم: 1485) والحاكم في " مستدركه " (رقم: 2694) .......(2/828)
المقرئ وشيخه سعيد من ثقات المصريين ومتقنيهم، وقد بينا السماع، على أنهما لم يعرفا بتدليس، وأبو مرحوم هذا مصري لا بأس به، أطلق ابن معين تضعيفه بعبارة مجملة فسرتها عبارة النسائي فيه، قال: " أرجو أنه لا بأس به "، وهذا هو الصدوق الذي في حفظه لين، والذي يحسن حديثه بعد النظر والتحري، وشيخه سهل هذا لا بأس به إذا روى عنه من يعتد به، وأبوه معاذ الجهني صحابي، فحيث أثبت التحري أن هذين الصدوقين أبا مرحوم وسهلاً رويا ما له أصل من حديث غيرهما، فحديثهما حسن.
تطبيق للحديث الحسن لغيره:
أخرج ابن حبان وغيره (1)، من حديث الصلت بن مسعود، قال: حدثنا مسلم بن خالد، قال: حدثنا شريك بن أبي نمر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس للنساء وسط الطريق ".
فهذا الحديث بهذا الإسناد ليس بالقوي، اختل فيه من شروط القبول شرط الضبط في أحد رواته، وهو مسلم بن خالد، وهو المعروف بالزنجي، كان سيء الحفظ، ضعيفاً فيما يتفرد به.
لم نجد بعد النظر في الإسناد علة سوى ذلك، فقلنا: ما نخشاه من سوء حفظ مسلم فجائز أن يندفع بالوقوف على الحديث لفظاً أو معنى من غير طريقه.
فوجدنا الحديث أخرجه الدولابي وغيره (2) من طريق محمد بن يوسف
_________
(1) صحيح ابن حبان (12/ 415 _ 416 رقم: 5601). وأخرجه ابن أبي عاصم في " كتاب الديات " (ص: 190) وابنُ عدي في " الكامل " (5/ 9) ومن طريقه: البيهقي في " الشعب " (6/ 174 رقم: 7823) من طريق الصلْت، به.
(2) أخرجه الدولابي في " الكنى والأسماء " (رقم: 273) والبيهقي في " الشعب " (رقم: 7821) وله عنده متابعة هاشم بن القاسم لسُفيان عن ابن أبي ذئب .......(2/829)
الفريابي، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن الحكم، عن أبي عمرو بن حماس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليس للنساء سراة الطريق ".
والسراة فسرها بعض الرواة: وسط الطريق.
وهذه طريق ثابته إلى ابن أبي ذئب.
لكن أدخل مرة بينه وبين الحارث: ابن شهاب الزهري، كما أخرجه الطبراني بإسناد فيه لين (1)، ولو صحت الزيادة فالزهري هو الحافظ الإمام، والحارث بن الحكم هو الضمري يعتبر بحديثه، صالح للاعتبار، لم يجرح، ووثقه ابن حبان (2)، وإن كان المحفوظ رواية ابن أبي ذئب عنه لا الزهري، فابن أبي ذئب لم يكن يروي إلا عن ثقة سوى رجل واحد، ليس الحارث بن الحكم به، وابن حماس غير مشهور، ففيه لين بهذا الاعتبار، ثم إن شرط الاتصال إلى منتهى الإسناد قد تخلف، فهذا مرسل، ولم يصب من جعل لابن حماس صحبة.
وقد روي من طريق ابن حماس متصلاً بإسناد دون هذا.
أخرجه أبو داود وغيره (3) من طريق عبد العزيز بن محمد الداروردي، عن أبي اليمان الرحال، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو
_________
(1) في " المعجم الأوسط " (4/ 34 رقم: 3042).
(2) الثقات (6/ 172).
(3) هو في " سنن أبي داود " (رقم: 5272)، وأخرجه كذلك: البيهقي في " الآداب " (رقم: 971) و " الشعب " (رقم: 7822) والمزي في " التهذيب " (12/ 401 _ 402) جميعاً من طريق الدراوَرْدي به.
وللمزي أيْضاً من طريق الدراوردي عن أبي اليمان عن شداد عن أبي أسيد، باللفظ المختصر، أسْقط من إسناده السابق رجلين، وهو راجعٌ إلى نفس العلة.(2/830)
خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: " استأخرن، فإنه ليس لكن أن تَحْقُقْنَ (1) الطريق، عليكن بحافات الطريق "، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
قلت: وهذه مخالفة في الإسناد ضعيفة، وسياقٌ مفصل لا يشهد له اللفظ المتقدم لاختصاره، وإن كان معناه متضمن فيه بصيغة أدنى في شدة الحكم.
أما ضعفها فمن جهة أن أبا اليمان هذا غير مشهور، وشداداً شيخه مجهول.
فالعبرة برواية ابن حماس المرسلة، فهي العاضد الذي يدفع عن رواية مسلم بن خالد أثر سوء حفظه، وبها يكون حديث أبي هريرة حسناً.
***
_________
(1) قال ابن الأثير: " هو أن يركبن حُقها، وهو وسَطها " (النهاية 1/ 415) .......(2/831)
الفصل الثالث
مباحث في الصحيح والحسن(2/833)
المبحث الأول:
الكتب في الحديث الصحيح
أصح الكتب المصنفة في الحديث الصحيح: صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، لم يسبقهما في الصحة كتاب له مثل درجتهما، ولا خلفهما كذلك، وهما أول الكتب المجردة في الحديث الصحيح، والبخاري قبل مسلم.
وقد جاء عن الشافعي تقديم (الموطأ) للإمام مالك بن أنس.
فعن يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، قال: " ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك " (1).
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: " ما بعد كتاب الله تعالى كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك " (2).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدِمة " (ص: 12) و " آداب الشافعي " (ص: 195 _ 196) والبيهقي في " مناقب الشافعي " (1/ 507) وابن عساكر في " كشْف المغطى في فضل الموطَّأ " (رقم: 16) وإسناده صحيح. وأخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 77، 79) وابن عساكر كذلك (رقم: 19) نحوه.
(2) أخرجه أبو نُعيم في " الحلية " (6/ 360 رقم: 8932) وابن عساكر في " كشْف المغطى " (رقم: 20) وإسناده صحيح.(2/835)
وقال هارون بن سعيد الأيلي: سمعت الشافعي يقول: "ما كتاب بعد كتاب الله تعالى أنفع [للمسلمين] من كتاب مالك بن أنس " (1).
وقال أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح: سمعت الشافعي يقول: " ما أعلم شيئاً بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك " (2).
قلت: وهذا حكم قبل أن يوجد " الصحيحان "، فإن الناس صنفت الكتب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البخاري ومسلم، فكان " الموطأ " أصح تلك الكتب حديثاً، فهو مقارن بما زامنه إلى عهد الشافعي، فلما ألف " الصحيحان " لم تبق تلك الدعوى صحيحة، خصوصاً وأن مالكاً رحمه الله ضمن كتابه الأحاديث والآثار ورأي نفسه، كما وقع في أسانيد أحاديثه المتصل والمرسل والمنقطع والبلاغات، فلم يجرد للحديث الصحيح المتصل.
نعم، (الموطأ) من كتب الحديث الصحيح، وليس فيه حديث مسند إلا وهو صحيح.
وقد استحق " الصحيحان " التقديم لشدة ما اشترط صاحباهما الإمامان: البخاري ومسلم، ولاجتهادهما في تحقيق شرطهما؛ فإنهما التزما بشروط الحديث الصحيح إلى أقصى حد ممكن، لكن صنيعهما صنيع بشر؛ لذا لم يسلم من مؤاخذات، هي على أحرف يسيرة في " البخاري "، وعلى أحاديث قليلة في " مسلم "، قد ميزت وعرفت.
_________
(1) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 41) وأبو نُعيم في " الحلية " (9/ 79 رقم: 13182) والجوهري في " مُسند الموطأ " (رقم: 77) والبيهقي في " مناقب الشافعي " (1/ 507) والزيادة له، والخطيب في " الجامع " (رقم: 1564) وابن عبد البر (1/ 76، 77) وابن عساكر في " كشف المغطى " (رقم: 22) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه البيهقي في " المناقب " (1/ 507) وإسناده جيد. ورُوي هذا المعنى الذي قاله الشافعي عن عبد الرحمن بن مَهدي، ولم يثبت عنه. أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 42) .......(2/836)
والقاعدة: أن كل ما في الصحيحين متلقى بالقبول، محكوم بصحة، وليس فيهما حديث موضوع، ولا منكر، بل ولا ضعيف، إلا أحاديث معللة معدودة في " صحيح مسلم ".
وقد يزعم بعض أهل البدع وجود موضوع أو منكر ساقط فيهما؛ لمجيء بعض الروايات على غير أهوائهم، أو لآخرون ظنوا في بعض الأحاديث مخالفة لمعقولهم فردوها، وفهم معاني الأحاديث يتفاوت فيه الناس كما يتفاوتون في فهم القرآن العظيم، وفوق كل ذي علم عليم.
ولا يهوَّل بما وقع من انتقادات بعض الحفاظ على " الصحيحين " كالحافظ الكبير أبي الحسن الدراقطني، عاب عليهما في التخريج لبعض الرجال، وعاب بعض الأحاديث بالتعليل الخفي، كما في كتاب " التتبع " له.
وسأل السلمي الدارقطني: لم ترك محمد بن إسماعيل البخاري حديث سهيل بن أبي صالح في الصحيح؟ فقال: " لا أعرف له فيه عذراً، فقد كان أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي إذا مر بحديث لسهيل قال: سهيل _ والله _ خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير، وكتاب البخاري من هؤلاء ملاء " (1).
وقال أبو عثمان سعيد بن عمرو البرذعي: شهدت أبا زرعة ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الفضل الصائغ على مثاله، فقال لي أبو زرعة: " هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئاً يتشوفون به، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه؛ ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها ". وأتاه ذات يوم وأنا شاهد رجل بكتاب (الصحيح) من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة: " ما أبعد هذا من الصحيح ! يدخل في كتابه أسباط بن نصر؟! " ثم رأى في الكتاب قطن بن
_________
(1) سؤالات السلمي (النص: 148) وبنحوه كذلك (النص: 149) .......(2/837)
نسير، فقال لي: " وهذا أطم من الأول، قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت، جعلها عن أنس "، ثم نظر فقال: " يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه (الصحيح)؟!. . ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى " وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه، كأنه يقول: الكذب، ثم قال لي: " يحدث عن أمثال هؤلاء، ويترك عن محمد بن عجلان ونظرائه، ويطرق لأهل البدع علينا؛ فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتج عليهم به: ليس هذا في كتاب (الصحيح) "، ورأيته يذم وضع هذا الكتاب ويؤنبه.
فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه روايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى، فقال لي مسلم: " إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات " .......
وقدم مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحواً مما قاله أبو زرعة: " إن هذا يطرق لأهل البدع علينا "، فاعتذر إليه مسلم، وقال: " إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح؛ ليكون مجموعاً عندي وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف " ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره وحدثه (1).
_________
(1) ساقَ هذه الحكاية بطولها البَرْذعي في " سؤالاته لأبي زُرعة " (2/ 674 _ 677).(2/838)
قلت: فهذا عيب للشيخين في بعض من خرجا لهم، لكن قولهما في ذلك أقوى عند نقاد الحديث، بل مع نقد النسائي والدارقطني للبخاري في بعض من أخرج لهم، وأبي زرعة لمسلم في بعض من أخرج لهم، لم يقع منه شيء على سبيل الطعن عليهما، إنما النقد للبخاري في تركه تخريج الثقة الأولى عند من انتقده، على أن البخاري لم يحتج إلا بما لا ينازع في كونه محفوظاً من الحديث، وإن كان خلاف الأولى عند غيره، ونقد أبي زرعة لمسلم فيه تشديد الشيخ على التلميذ حملاً له على مزيد التحري، وتحذيراً من فتح الطريق لأهل الأهواء.
قال الحازمي: " أما إيداع البخاري ومسلم كتابيهما حديث نفر نسبوا إلى نوع من الضعف فظاهر، غير أنه لم يبلغ ضعفهم حداً يرد به حديثهم، مع أنا لا نقر بأن البخاري كان يرى تخريج حديث من ينسب إلى نوع من أنواع الضعف، ولو كان ضعف هؤلاء قد ثبت عنده لما خرج حديثهم، ثم ينبغي أن يعلم أن جهات الضعف متباينة متعددة، وأهل العلم مختلفون في أسبابه " (1).
قلت: يريد الحازمي أن البخاري لم يخرج لمن يرى تسليم القول بضعفه، وإن خالفه فيه غيره، إذا الاختلاف في جرح الرواة وتعديلهم موجد، لكن ليس كل جرح معتبراً.
ويجب أن تلاحظ في طريقة الشيخين في تخريج حديث من تكلم فيه من الرواة ما يلي:
أولاً: أنهما انتقيا من حديثه ما كان محفوظاً معروفاً، مثلُ: إسماعيل بن أبي أويْسٍ المديني.
ثانياً: غالب ما خرجاه من حديث هذا الصنف فهو في المتابعات، لا في الأصول.
_________
(1) شروط الأئمة الخمسة (ص: 172 _ 173) .......(2/839)
وربما حسب بعض الناس أن المراد ب (المتابعات) هنا أن يأتي الإسناد من طريق المتكلم فيه بعد إسناد الثقة غير المتكلم فيه، وليس ذلك شرطاً، فالتقديم والتأخير هنا لا أثر له، ما دام تخريج صاحب " الصحيح " لذلك الراوي المتكلم فيه لم يكن بما تفرد به.
ثالثاً: أن الصنف من الرواة أقل عنه صاحبا " الصحيح ".
رابعاً: أنهما إذا اعتمداه فخرجا عنه من محفوظ حديثه، فلا يعتمدانه في الأحكام، إنما ذلك في الرقائق وشبهها، مثل فليح بن سليمان.
ومن هنا يتبين خطأ الحاكم في كثير مما استدركه على الشيخين، وأطلق القول أنه (على شرطهما) أو (شرط أحدهما) على ما سيأتي نقده فيه.
وأما النقد ل " الصحيحين " بتعليل بعض أئمة الحديث لبعض الروايات بالعلل الخفية، كما صنع الدارقطني في كتاب " التتبع "، فأكثره على قلته يعود إلى معنى الصناعة الحديثية، لا إلى رد الحديث، على أن مذهب الشيخين فيه أقوى وأرجح.
وفي الجملة: ف " صحيح البخاري " أقوى وأرجح من " صحيح مسلم "، وذلك يعود إلى قوة شرط الاتصال عنده وزيادة تحريه في الرجال، وندرة الحديث المعلل في " كتابه ".
قال النسائي: " ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري " (1).
قال الحافظ أبو علي الحسين بن علي النيسابوري: " ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث " (2).
_________
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (2/ 9) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1563) وإسناده صحيح .......(2/840)
قال ابن تيمية مقارناً بين (الصحيحن): " ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله، مع فقهه فيه ".
قال: " جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه، يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه، بخلاف مسلم بن الحجاج، فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه " (1)، وضرب أمثلة لما انتقد على مسلم وكان النقد صواباً.
وقد امتدح للبخاري جمعه الأبواب وتوزيعه الأحاديث عليها، ولمسلم حسن سياقته للأحاديث مجموعة الطرق والألفاظ في موضع واحد.
وبيان شرط الشيخين يأتي في (المبحث السابع).
* * *
_________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 171).(2/841)
المبحث الثاني:
ذكر المصنفات المسماة بـ (الصحاح)
غير كتابي الشيخين
وصنفت بعد الشيخين كتب لقبها أصحابها ب " الصحاح "، أشهرها مما وصلنا بعضه أو كله:
1 _ صحيح ابن خزيمة.
للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري (المتوفى سنة: 311).
التزم فيه جمع الصحيح والحسن من الحديث على وفق شروط.
وعلم شرطه من تسميته لكتابه: " المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل، من غير قطع في السند، ولا جرح في النقلة " (1).
قال الخطيب: " شرط فيه على نفسه إخراج ما اتصل سنده، بنقل العدل عن العدل، إلى النبي صلى الله عليه وسلم (2).
_________
(1) صحيح ابن خزيمة (1/ 3، و 3/ 186) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 291).
(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 185).(2/842)
كما تبين تحقيق هذا الشرط من دراسة كتابه.
2_ صحيح ابن حبان.
للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي (المتوفى سنة: 354) تلميذ ابن خزيمة.
وكان كشيخه ابن خزيمة لا يفرق في " صحيحه " بين الصحيح والحسن، بل كل ما يصلح للحجة عنده فهو صحيح.
قال الحافظ ابن حجر وقد ذكر ما يتفرد به (محمد بن إسحاق) صاحب " السيرة ": " ما ينفرد به وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو درجة الحسن إذا صرح بالتحديث، وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن، ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحاً، وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكر معه " يعني ابن خزيمة والحاكم (1).
وشرطه في " صحيحه " علم بتصريحه به في أول كتابه، إذ لم يدع منهجه الذي سلك في انتقاء الحديث والحكم عليه بالصحة إلى الظن والتخمين، قال:
" شرطنا فيما أودعناه كتابنا هذا من السنن، فإنا لم نحتج فيه إلا بحديث اجتمع في كل شيخ من رواته خمسة أشياء:
الأول: العدالة في الدين بالستر الجميل.
والثاني: الصدق في الحديث بالشهرة فيه.
والثالث: العقل بما يحدث من الحديث.
والرابع: العلم بما يحيل من معاني ما يروي.
_________
(1) فتح الباري (11/ 163) .......(2/843)
والخامس: المتعري خبره عن التدليس.
فكل من اجتمع فيه هذه الخصال الخمس احتججنا بحديثه، وبنينا الكتاب على روايته، وكل من تعرى عن خصلة من هذه الخصال الخمس لم نحتج به " (1).
وعليه وعلى شيخه ابن خزيمة في " صحيحهما " مآخذ فيهما، وقعت غالباً في ضعف بعض الشروط، وتخريجهما لحديث لطائفة ممن اختلف فيه وراجح القول فيه أنه ضعيف.
لذا رأى جماعة من النقاد عدم الاكتفاء لقبول الحديث بكونهما أو أحدهما خرجه، ورأوا أنه لا بد من إعادة الدراسة لأحاديث هذين الكتابين، على أنك تجد من عمد إلى ذلك ظهر له قلة ما يؤخذ عليهما.
والذي أقول به: أن اعتماد من لا خبرة له بهذا العلم على تصحيحهما جائز، حت يتبين الخطأ، إجراء لما غلب على ما فيهما من الصحة، وبناء على ما يجوز لغير المتخصص من التقليد لأهل الاختصاص.
وسبق إلى ذلك عمل أكثر متأخري العلماء، قال أبو عبد الله بن رشيد الفهري وذكر ابن حبان: " وإن كان من أئمة الحديث، فعنده بعض التساهل في القضاء بالصحيح، فما حكم بصحته مما لم يحكم به غيره، إن لم يكن من قبيل الصحيح يكن من قبيل الحسن، وكلاهما يحتج به ويعمل عليه، إلا أن يظهر فيه ما يوجب ضعفه " (2).
3 _ المستدرك على الصحيحين.
للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم ابن البيع الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة: 405).
_________
(1) الإحسان (1/ 151)، ثم شرح ابنُ حبان ما ذكر من هذه الشروط، وبينتُ شرح صِفة العدْل عنده في القسم الأول من هذا الكتاب.
(2) السنن الأبين (ص: 145) .......(2/844)
قصد في هذا الكتاب أن يجمع الأحاديث التي اشتملت على شرط الصحة، ولم يخرجها البخاري ومسلم أو أحدهما.
لكنه تساهل فيه جداً، وكثرت عليه فيه المآخذ.
قال ابن تيمية بعد أن ذكر عن الحاكم تصحيحه لأحاديث موضوعة: " لهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه، وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه، بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً، وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده، وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم، ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم، ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري " (1).
وقال ابن القيم: " لا يعبأ الحفاظ أطباء الحديث بتصحيح الحاكم شيئاً، ولا يرفعون به رأساً البتة، بل لا يدل تصحيحه على حسن الحديث، بل يصحح أشياء موضوعة بلا شك عند أهل العلم بالحديث، وإن كان من لا علم له بالحديث لا يعرف ذلك فليس بمعيار على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعبأ أهل الحديث به شيئاً، والحاكم نفسه يصحح أحاديث جماعة وقد أخبر في كتاب (المدخل) له أن لا يحتج بهم، وأطلق الكذب على بعضهم " (2).
وقال: " تصحيح الحاكم لا يستفاد منه حسن الحديث البتة فضلاً عن صحته " (3).
_________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 170 _ 171).
(2) الفروسية (ص: 63).
(3) الفروسية (ص: 71).(2/845)
وقال ابن دحية في كتابه (العلم المشهور): " ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه كثير الغلط ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده وقلده في ذلك " (1).
وقال الزيلعي بعد حديث ذكره في الجهر بالبسملة: " رواه الحاكم، وقال: رجاله ثقات، وتوثيق الحاكم لا يعارض ما يثبت في (الصحيح) خلافه؛ لما عرف من تساهله، حتى قيل: إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني، بل تصحيحه كتحسين الترمذي، وأحياناً يكون دونه، وأما ابن خزيمة وابن حبان، فتصحيحهما أرجح من تصحيح الحاكم بلا نزاع " (2).
قلت: ومن أجمع الكلمات في وصفه قول الحافظ أبي عبد الله الذهبي: " في المستدرك شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها كنت قد أفردت منها جزءاً " (3).
وسيأتي ذكر تساهله في الحكم على الحديث بكونه على شرط الشيخين أو أحدهما.
ف " المستدرك " وإن قصد فيه إصابة شرط الصحة على طريقة الشيخين، لكن ليس له نفس منزلة " الصحيحين " أبداً ولا يقاربهما، بل لا يعتمد على حكمه حتى يوافق عليه من عارف بالصناعة، وذلك لضعف تحقيقه فيه.
كما يجدر بالملاحظة أن الحافظ الذهبي اختصر " المستدرك " وتعقب
_________
(1) نقله الزيلعي في " نصب الراية " (1/ 341 _ 342) عن كتاب " العلم المشْهور " لابن دِحية .......
(2) نصب الراية (1/ 352).
(3) سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 175) .......(2/846)
الحاكم في مواضع كثيرة، وأهمل مواضع أخرى، ونشر " مختصر الذهبي " في هامش " المستدرك "، وحين يقول الحاكم مثلاً: " حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " يختصر ذلك الذهبي بقوله مثلاً: " على شرطهما "، فهذا من الذهبي ليس موافقة ولا مخالفة، وإنما هو سكوت، فلا يصلح أن يضاف إليه القول بالموافقة، فيقال في الحديث: " صححه الحاكم ووافقه الذهبي "، إنما الصواب: " صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي "، ولم يبين الذهبي أن سكوته دال على الموافقة.
تنبيهان:
التنبيه الأول: شاع عند بعض المتأخرينَ إطلاق عبارة " الصحاح الستة " ويعنون إضافة للبخاري ومسلم: سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
وهذا إطلاق ليس بصحيح، فإن هؤلاء الأئمة غير الشيخين لم يشترطوا صحة الأحاديث التي في كتبهم، وهي وإن كان أكثر ما فيها من الصحيح الثابت؛ إلا أنها تشتمل على الحديث الحسن، والضعيف بأنواع مختلفة من الضعف، بل وفي بعضها المنكر والموضوع.
وما وقع على أغلفة بعض طبعات " الجامع " للترمذي من تسميته بـ" الجامع الصحيح " فإنه من أغلاط الناشرين، والترمذي مؤلف الكتاب لم يطلق وصفه بالصحة، بل إنه علل في كتابه كثيراً من الأحاديث، وإنما سماه: " الجامع "، وكثير من متأخري العلماء سموه " السنن" وجعلوه أحد كتب السنن التالية لـ" الصحيحين " في الترتيب.
وأما قول الحافظ أبي طاهر السلفي وقد ضم السنن عدا ابن ماجة إلى " الصحيحين ": " اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب " (1)، فهذا في كتب " السنن" على اعتبار الأغلب، وقلة الحديث الضعيف فيها.
_________
(1) نقله ابنُ سيد الناس في " النفح الشذي " (1/ 190).(2/847)
التنبيه الثاني: كتاب " الأحاديث المختارة "، للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (المتوفى سنة: 643)، كتاب متأخر التصنيف لتأخر وفاة مؤلفه، عمدته فيما خرجه فيه على تخريج الحديث بأسانيده إلى أصحاب المصنفات، كـ (مسند أبي يعلي) و (معاجم الطبراني) وغيرها، وخطته فيه بينها في صدره بقوله:
" هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومسلم، إلا أنني ربما ذكرت بعض ما أورده البخاري تعليقاً، وربما ذكرنا أحاديث بأسانيد جياد لها علة، فنذكر بيان علتها حتى يعرف ذلك " (1).
وهذا الكتاب يغلب عليه الحديث الصحيح، لكن فيه ما هو معلل بما يذكره الضياء نفسه في تعليله، كما أشار هنا، وفيه ما يسكت عنه ولا يصح، لكن حرصه على أن يكون منتقى من أجود الحديث ظاهرٌ فيه.
ولا يصلح أن يطلق عليه وصف الصحة، إنما فيه الصحيح الغالب، كما يوجد الصحيح الغالب في كتب السنن المعروفة، غير أنه يمتاز بكون ما فيه من الصحيح فهو مما يزيد على البخاري ومسلم.
وهو فيه أشد احتياطاً من الحاكم، ولذا قدمه طائفة من متأخري العلماء على " المستدرك " للحاكم.
قال ابن تيمية: " هو أصح من صحيح الحاكم " (2)، وكذلك جاء عن الزركشي (3).
وقال تلميذه ابن عبد الهادي المقدسي: " اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو
_________
(1) الأحاديث المختارة (1/ 69 _ 70) .......
(2) الفتاوى الكبرى (3/ 48).
(3) الرسالة المستطرفة، للكتاني (ص: 24).(2/848)
قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي، ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح الحاكم، فإن فيه أحاديث كثيرة يظهر أنها كذب موضوعة، فهذا انحطت درجته عن درجة غيره " (1).
وقال السخاوي: " هي أحسن من المستدرك " (2).
قلت: هو مرتب على مسانيد الصحابة، ولم يكمله.
التنبيه الثالث: كتاب " المنتقى " للحافظ أبي محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري (المتوفى سنة: 306)، كتاب مختصر في أحاديث الأحكام، عامته أحاديث صحيحه إلا شيئاً يسيراً.
التنبيه الرابع: ادعى الإباضية أن أصح كتاب في الحديث بعد كتاب الله تعالى هو " مسند الربيع بن حبيب الأزدي " ويقدمونه على " الصحيحين ".
وهذا " المسند " منسوب إلى الربيع، وهو بصري معروف من أهل المئة الثانية، مقارب في الطبقة للإمام مالك بن أنس، لكنه لم يشتهر عند أهل العلم بالرجال كما اشتهر أعيان طبقته من البصريين أو غيرهم، والأشبه من خلال دراسة ترجمته أنه رجل صدوق له حديث قليل، أما هذا " المسند " الذي سموه بـ " المسند الصحيح " فإنا نقبله لو نقل إلينا من أصل صحيح النسبة إلى الربيع، لكن هذه بغية قصدها بعض معاصري الأباضية منتصراً لثبوت هذا الكتاب، ولم أر عنده غير الدعوى، فليس للكتاب نسخة صحيحة، ولا له إسناد معروف.
* * *
_________
(1) الصارم المنكي (ص: 99).
(2) فتح المغيث (1/ 38) .......(2/849)
المبحث الثالث:
الأحاديث المعلقات في " صحيح البخاري "
الحديث المعلق، هو: الحديث الذي حذف جميع إسناده، أو حذف من أول إسناده راو فأكثر.
مثاله: قول الإمام البخاري: ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الفخذ عورة ".
هكذا ذكره البخاري في " صحيحه " (1) بغير إسناد، ويقال في مثله: (علقه البخاري).
ومثال ما حُذف بعض إسناده: قول البخاري: وقال عفان: حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما " (2).
علقه البخاري فيما بينه وبينه عفان، وهو ابن مسلم الصفار لم يدركه البخاري، إنما يروي عنه بالواسطة.
_________
(1) الصحيح (1/ 145).
(2) صحيح البخاري (رقم: 243).(2/850)
إطلاق مصطلح (المعلق):
وأول من عرف عنه من النقاد إطلاق تسمية (المعلق) هو الحافظ أبو الحسن الدارقطني (1).
سبب تعليق الحديث:
يعلق الحديث لواحد من سببين:
الأول: أن لا يكون على الشرط الذي ارتضاه المعلق لثبوت الحديث.
فالبخاري مثلاً اشترط أن يكون كتابه في الحديث المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيرى فائدة في ذكر بعض الآثار عن الصحابة أو من دونهم في التفسير والأحكام وغير ذلك، فلو أسندها خرج بذلك عن شرطه، فيعلقها وإن كانت صحيحة.
والتزم أن لا يخرج أحاديث جماعة تكلم فيهم بما ينزل بهم عن شرطه في القوة، ورأى لهم بعض الأخبار مما يصح الاستشهاد به، فيعلق عنهم.
والثاني: أن يقصد به مجرد الاختصار.
وذلك كأن يروي البخاري في الباب ما يغني عن الإطالة بتخريج خبر تام إسناداً ومتناً زيادة على ما خرج.
وأحياناً يكون الحديث عنده بإسناد واحد على شرطه، ويحتاجه في بابين، فيسنده في أحدهما ويعلقه في الآخر اتقاء لتكرار الحديث بنفس الإسناد في مكانين؛ ولذا يندر أن يؤخذ على البخاري أنه كرر حديثاً بنفس الإسناد والمتن، إنما ترى في التكرار فائدة جديدة ولا بد.
وقد اشتهر بكثرة الأحاديث المعلقة: صحيح الإمام البخاري.
وإذا كان التعليق عنده مما يندرج تحت السبب الأول، وهو كونه ليس
_________
(1) صيانة صحيح مُسلم من الإخلاط والغلط، لابن الصلاح (ص: 76) .......(2/851)
على شرطه، فذلك لا يعني ضعفه عنده، وإنما القول في معلقات البخاري كما يلي:
أولاً: إذا علق الحديث بصيغة الجزم، بأن قال مثلاً: (قال النبي صلى الله عليه وسلم) أو: (قال ابن عباس) فهو ثابت عنده.
ثانياً: إذا علق الحديث بصيغة الجزم إلى بعض رواة ذلك الحديث كأن يقول: (قال فلان) ويسوق طرفاً من آخر الإسناد؛ فهو صحيح منه إلى من سماه، أما من ذلك المسمى إلى منتهى الإسناد فيحتاج إلى كشف.
وهذا كحديث عفان بن مسلم المتقدم، فهو صحيح عند البخاري إلى عفان، لكنه من عفان إلى ابن عمر يحتاج إلى تحقيق ثبوته.
ثالثاً: إذا علق الحديث بصيغة التمريض، كقوله: (يروى، روي) ونحو ذلك من صيغ المبني للمجهول، فليس فيه حكم منه بثبوت المعلق، بل في إشعار بتعليله، فهو على الضعف حتى يتبين وصله من طريق ثابت.
وأما ما يعلقه البخاري لأجل الاختصار، فإنه يسوقه موصولاً في موضع آخر من " الصحيح "، فهذا ليس من قبيل المعلق الذي يتخلف عن شرطه؛ للعلم بمخرجه في نفس " الصحيح".
تنبيهان:
التنبيه الأول: اعلم أنه ليس في معلقات البخاري ما هو شديد الضعف، إلا نادراً ويبينه، إنما فيها: الصحيح، والحسن، والضعيف المحتمل، وأكثر ذلك آثار عن الصحابة والتابعين أو متابعات وزيادة طرق قد روى ما هو أحسن منها مسنداً.
ومثاله النادر الذي يلحق بمعلقاته ويبينه، قوله: ويذكر عن أبي هريرة رفعه: " لا يتطوع الإمام في مكانه " ولم يصح (1).
_________
(1) صحيح البخاري (1/ 290) .......(2/852)
التنبيه الثاني: قول البخاري: (قال فلان)، وفلان هذا من شيوخه، هل يعد على شرط الصحيح أم لا؟ مسألة اختلف فيه العلماء على قولين:
أولهما: ليست على شرطه، وشأنها شأن سائر المعلقات التي تحتاج إلى النظر في وصلها في موضع آخر غير " الصحيح "، وحجتهم: أن البخاري إذا روى حديثاً عن شيخ له سمعه منه وذلك الحديث على شرطه فإنه لا يقول فيه: (قال فلان) إنما يقول: (حدثنا) أو شبهها من الصيغ الصريحة في الاتصال، قالوا: ووجدنا البخاري روى لبعض شيوخه ما سمعه منهم بالواسطة.
وثانيهما: هو موصول على شرط " الصحيح " فإن البخاري لم يعرف بالتدليس، والراوي إذا قال في بعض حديثه عن شيخه: (قال فلان) أو (عن فلان) ولم يعرف بالتدليس؛ فذلك متصل، قالوا: ووجدنا البخاري في كتابه " التاريخ الكبير " روى عن شيوخه حديثاً كثيراً لا يذكر الصيغة بينه وبين شيخه إلا (قال)، وهو جار عند أهل العلم على الاتصال.
وهذا القول الثاني أصح في الأصول.
ويذكر أهل العلم له شاهداً حديث المعازف المشهور، فهو مخرج في " الصحيح "، قال البخاري: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال: حدثني أبو عامر _ أو أبو مالك _ الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم _ يعني الفقير _ لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " (1).
_________
(1) صحيح البخاري (رقم: 5268) .......(2/853)
فهشام بن عمار من شيوخ البخاري، روى عنه البخاري بالسماع المباشر داخل " الصحيح " وخارجه أحاديث، ومنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل راو قد صرح بسماعه ممن فوقه، فلا شبهة في الاتصال، والبخاري أورد الحديث المذكور تحت باب (ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) وساق هذا الحديث ولم يذكر شيئاً غيره، فهو حجته للباب المذكور، فهذا مما يؤكد اتصاله.
لكن لماذا لم يقل: (حدثني هشام)؟ جوابه: للشك في اسم صحابيه، وهو غير قادح عند جمهور أهل العلم؛ لأنه كان عن أبي عامر أو أبي مالك فكلاهما صحابي سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم، وجهالة الصحابي لا تؤثر لعدالة جميعهم على ما شرحته في (القسم الأول)، فكيف وقد سمي هنا وإنما وقع التردد في تعيينه (1)؟
تتمة في مسائل تتصل بالمعلقات:
1 _ اعتنى الحافظ ابن حجر بذكر وصل المعلقات التي في " صحيح البخاري " في " فتح الباري "، وفي كتاب مفرد سماه: " تغليق التعليق "، وهو نافع مبرر لصحة ما ذكرت آنفاً من قسمة المعلقات في " الصحيح".
2 _ ليس " صحيح مسلم " مظنة للحديث المعلق، وفيه شيء نادر.
ويوجد المعلق في بعض كتب السنن، كأبي داود والترمذي، كما يوجد في غيرها، وينعدم أو لا يكاد يوجد في كتب المسانيد أو المعاجم وشبهها.
والقاعدة فيما يوجد منه عند غير البخاري: أنه حديث ضعيف حتى يعلم وصله من وجه ثابت، وذلك للجهل بدرجة الساقط من الإسناد.
_________
(1) وانظر كتابي " الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام " .......(2/854)
3 _ بلاغات " الموطأ ":
ما يعرف بـ (البلاغات) في (الموطأ) للإمام مالك هي من قبيل المعلقات، فلا يُجزم بثبوتها، بل الأصل فيها الضعف لانقطاع الإسناد، حتى توصل بإسناد ثابت، وقد وجد في " بلاغات " مالك كثير من البلاغات موصولاً بإسناد ضعيف، أو ضعيف جداً، وإن كان كثير منها ثابتاً.
4 _ كل خبر يذكر بغير إسناد، فهو:
[1] إما أن يعلم مخرجه، كأن يقال: (رواه البخاري، رواه أبو داود) مثلاً، وهو موجود في كتابيهما، فليس بمعلق إذا كان إسناده مذكوراً في كتابيهما.
[2] وإما أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو قائله بغير إسناد، ولم يعلم وصله، فهو من قبيل الحديث الضعيف.
وهذا كثير شائع في مختلف الكتب التي تورد الأحاديث من غير عزو إلى مخرج ولا اشتراط صحة، ولا التزام لبيان درجاتها، فيجب ترك الاعتماد على ما كان من ذلك حتى يستثبت منه، ففي الأحاديث المعلقة في كلام كثير من المؤلفين أحاديث كثيرة ليس لها أصل عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل منها ما لا يوجد في كتب الرواية أصلاً، ولا بإسناد موضوع.
* * *(2/855)
المبحث الرابع:
السنن الأربعة والمسند
أعظم دواوين السنة بعد الصحيحين
المعني بـ (السنن الأربعة): سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
وبـ (المسند) مسند أحمد بن حنبل.
وإذا ذكرت (الكتب الستة) فالمراد: (الصحيحان) و (السنن الأربعة).
وأول من عد ابن ماجة سادساً: الحافظ محمد بن طاهر المقدسي، ومن متأخري العلماء من رشح (مسند) الدارمي بدله، ومنهم من عد السادس (الموطأ) لمالك بدله، كما صنع ابن الأثير في " جامع الأصول " (1).
والعلة في التردد في كتاب ابن ماجة ما شانه من تخريج الواهي والموضوع في مواضع، وكثرة الضعيف على ما سيأتي نقده فيه.
وهذه الكتب يغلب عليها الحديث المقبول، بنوعيه: الصحيح، والحسن، ويقل فيها الضعيف وما دونه.
_________
(1) وانظر: " النكت على ابن الصلاح " لابن حجر (1/ 486)، والرسالة المستطرفة، للكتاني (ص: 13).(2/856)
وتبين ذلك بتميز شرط كل منها، وهذا بيانه:
شرط أبي داود في (سننه):
بين أبو داود في " رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه " منهجه وخطته، والذي يعنينا في هذا المبحث معرفة شرطه، وتوضيحه من عباراته كما يلي:
1 _ قال: " ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه " (1).
2 _ لم يتحاش تخريج المراسيل، لكن باحتراز، حيث قال: " إذا لم يكن مسند متصل ضد المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة " (2).
وقال: " وإن من الأحاديث في كتاب السنن ما ليس بمتصل، وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح "، قال: " ما في كتاب السنن من هذا النحو قليل ".
وقال: " وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من المراسيل، منها ما لا يصح، ومنها ما هو مسند عند غيري وهو متصل صحيح ".
3 _ وقال: " ليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك الحديث شيء ".
4 _ وقال: " وإذا كان فيه حديث منكر بينت أنه منكر، وليس على نحوه في الباب غيره ".
_________
(1) نقل هذا النص الحازمي في " شروط الأئمة الخمسة " (ص: 169) من رواية ابن داسة عن أبي داود، وليس في جملة الرسالة المفردة المطبوعة في وَصف السنن .......
(2) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف سننه (ص: 33)، وكذا سائر ما سيأتي ذكْره من النصوص عن أبي داود حتى الفقرة (8) فهو من هذه الرسالة، من (ص: 31) حتى (ص: 51) .......(2/857)
5 _ وقال: " إذا ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته، فاعلم أنه حديث واه، إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لم أخرج الطرق؛ لأنه يكثر على المتعلم ".
قلت: يشير إلى أنه اجتهد في استقصاء أبواب السنن، وحكمه بالوهاء على ما لم يخرجه من الحديث مما يثبت سنة لم يذكرها، لا يسلم له بهذا الإطلاق، وإنما العبرة بثبوت الرواية بتلك السنة، وفوق كل ذي علم عليم، والسنن يومئذ لم ينته من استقصائها في كتاب.
وكان قال قبل ذلك: " لم أكتب في الباب إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح؛ فإنه يكثر، وإنما أردت قرب منفعته ".
6 _ وقال: " وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنه ما لا يصح سنده ".
7 _ وقال: " وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض ".
قول أبي داود في شأن ما سكت عنه فهو صالح، ما معناه؟
الحديث يكون صالحاً للاحتجاج، أو للاعتبار، وكلاهما مراد لأبي داود، فالأحاديث التي سكت عنها في كتابه، هي أكثر ما فيه، وهي منقسمة إلى أقسام:
أولها: الصحيح المحتج به، وهو الأكثر.
وثانيها: الحسن، وهو من مظانه.
وثالثها: ما يتقوى من الروايات اللينة.
ورابعها: ما هو رواية الضعفاء الذين لم يجتمع على ترك حديثهم.(2/858)
8 _ وقال: " الأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير. . فإنه لا يحتج بحديث غريب، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم ".
قلت: هذا الوصف قوة لكتابه، ولكن الغريب الصحيح حجة، وعند أبي داود كثير من أفراد الثقات، بل فيه من أفراد الضعفاء كذلك.
وقارن ابن رجب بين أبي داود والترمذي في التخريج لبعض الرواة المتكلم فيهم، وقال في أبي داود: " هو أشد انتقاداً للرجال منه " (1) أي من الترمذي.
وقال الذهبي بعد ذكره لما بينه أبو داود من شرطه في " سننه ":
" قد وفى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبين ما ضعفه شديد ووهنه غير محتمل، وكاسر عما ضعفه خفيف محتمل، فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسنا عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولد الحادث الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشيه مسلم، وبالعكس، فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحط عن ذلك لخرج عن الاحتجاج، ولبقي متجاذباً بين الضعف والحسن.
فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت: ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب.
ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين، ورغب عنه الآخر.
ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيداً سالماً من علة وشذوذ.
_________
(1) شرح علل الترمذي (1/ 398).(2/859)
ثم يليه ما كان إسناده صالحاً، وقبله العلماء؛ لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً، يعضد كل إسناد منهما الآخر.
ثم يليه ما ضعف إسناده؛ لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يمشيه أبو داود ويسكت عنه غالباً.
ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالباً وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته " (1).
وقال الذهبي: " من أجمع على اطراحه وتركه لعدم فهمه وضبطه، أو لكونه متهماً، فيندر أن يخرج لهم أحمد والنسائي، ويورد لهم أبو عيسى فيبينه بحسب اجتهاده، لكنه قليل ويورد لهم ابن ماجة أحاديث قليلة، ولا يبين، والله أعلم، وقل ما يورد منها أبو داود فإن أورد بينه في غالب الأوقات " (2).
قلت: وبهذا التفصيل الدقيق الحسن من الناقد الذهبي يتبين خطأ من رأى فيما يسكت عنه أبو داود أو يدخله في " سننه " مطلقاً الصحة.
كما قال الساجي في (الوضين بن عطاء): عنده حديث واحد منكر غير محفوظ، عن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ، عن علي، حديث: العينان وكاء السه (3). قال الساجي: " رأيت أبا داود أدخل هذا الحديث في كتاب السنن، ولا أراه ذكره فيه إلا وهو عنده صحيح " (4).
_________
(1) سير أعلام النبلاء (13/ 214 _ 215) .......
(2) سير أعلام النبلاء (12/ 576).
(3) السه، قال ابن الأثير: " حلْقة الدبر .. ومعنى الحديث: أن الإنسان مَهْما كان مستيقظاً كان استه كالمشدودة المَوْكيِّ عليها، فإذا نام انْحلَّ وكاؤُها، كنى بهذا اللفظ عن الحديث وخروج الريح " (النهاية: 2/ 429 _ 430).
(4) نقله ابن حجر في " تهذيب التهذيب " (4/ 310).(2/860)
وأطلق بعض العلماء على كتاب أبي داود اسم (الصحيح)، كالحاكم النيسابوري (1)، وما تقدم بيانه يرد هذا الإطلاق.
شرط الترمذي في " سننه ":
خرج الترمذي في " سننه " التي سماها " الجامع " الحديث بمختلف درجاته، لكنه كان في غاية الاعتناء بتميز درجات الحديث، ونقده.
وفي كتابه: الصحيح، والحسن، والضعيف بأنواع الضعف المختلفة، والمنكر والواهي والموضوع، وإن كان هذا النوع الأخير قليلاً، ويبينه.
قال ابن رجب: " الغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير، ولا سيما في كتاب الفضائل، ولكنه يبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه، ولا أعلمه خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه حديثاً بإسنادٍ منفرد، إلا أنه قد يخرج حديثاً مروياً من طرق، أو مختلفاً في إسناده وفي بعض طرقه متهم، وعلى هذا الوجه خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب الكلبي، نعم قد يخرج عن سيء الحفظ، وعمن غلب على حديثه الوهم، ويبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه " (2).
أي: أنه لم يخرج حديث من هو كهذين المتروكين الهالكين يريد اعتماده، وإنما يخرجه فيبينه، ويبين ما الأصح أو المحفوظ من طريق سواهم (3).
وأكثر ما في (جامع) الترمذي فهو من الصحيح والحسن، وأكثر رواته
_________
(1) النُّكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 481).
(2) شرح علل الترمذي (1/ 395 _ 397) .......
(3) لم يُخرج للمصلوب إلا حديثاً واحداً في كتاب (الدعوات) (رقم: 3549) وبين وهاءَه، كما خرَّج بعده ما هو أصح من حديثه. وكذلك الكلبي، إنما خرَّج له حديثاً واحداً في كتاب (التفسير) (رقم: 3059) وقال: " حديث غريب، وليس إسناده بصحيح "، وذكر وهاء الكلبي.(2/861)
الثقات الضابطون، وفيهم من يهم قليلاً، ومن يهم كثيراً، ومن يغلب على حديثه الوهم، لكنه لا يكاد يخرج حديث هذا الصنف على قلته إلا ويبين ذلك.
والترمذي غير متساهل في التحقيق، خلافاً لما أطلقه بعض متأخري العلماء، وجرى عليه بعض المنتسبين إلى هذا العلم من أهل زماننا.
والعلة عند هؤلاء ما لخصه ابن القيم بقوله: " الترمذي يصحح أحاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها، بل يصحح ما يضعفه غيره أو ينكره، فإنه صحح حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف " وبين كلام الأئمة في شدة ضعفه، وقال: " ويصحح أيضاً حديث محمد بن إسحاق، وهو أعذر من تصحيحه حديث كثير هذا، ويصحح أيضاً للحجاج بن أرطأة مع اشتهار ضعفه، ويصحح حديث عمرو بن شعيب، وأحسن كل الإحسان في ذلك، والمقصود أنه يصحح ما لا يصححه غيره وما يخالف في تصحيحه " (1).
قلت: وهذا يقابله أنه يعلل أحاديث يصححها غيره.
والوجه في ذلك كله أنه إمام مجتهد في هذه الصنعة كغيره من أئمة هذا الشأن، واختلاف الأئمة في التصحيح والتضعيف لحديث هو من نفس باب اختلافهم في التعديل والتخريج لراو، فاحتمال هذا احتمال لذاك.
والترمذي جرى في هذا العلم على خطى شيخه البخاري في منهاجه، كما أظهر ذلك جلياً في كتابه، نعم، كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
والأئمة بعد الترمذي لم يزالوا يعتمدون تصحيحه للحديث أو تحسينه له، حتى يتبين خطأ قوله فيه، وهذا هو الأليق بخريج مدرسة البخاري والدارمي وأبي زرعة الرازي.
_________
(1) الفروسية (ص: 63) .......(2/862)
واعلم أن من العلماء من أطلق على " الجامع " للترمذي اسم (الصحيح)، كذلك فعل الحاكم النيسابوري، والخطيب البغدادي، والحاكم سماه " الجامع الصحيح " (1).
وهذا إطلاق غير صحيح يدل على نقضه طريقة الترمذي نفسه، كما تقدم.
شرط النسائي في " سننه ":
وذلك في الروايتين عنه: " السنن الصغرى "، أو " المجتبى "، وهي رواية أبي بكر أحمد بن محمد بن السني، و " السنن الكبرى " من رواية جماعة آخرين من الحفاظ عن النسائي.
وشرطه فيهما بينه بقوله: " لما عزمت على جمع كتاب السنن، استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء، فوقعت الخيرة على تركهم، فتركت جملة من الحديث كنت أعلو فيه عنهم " (2).
قلت: فمن هؤلاء عبد الله بن لهيعة.
قال الحافظ أبو طالب أحمد بن نصر البغدادي: " من يصبر على ما صبر عليه أبو عبد الرحمن؟! كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة فما حدث بها، وكان لا يرى أن يحدث بحديث ابن لهيعة " (3).
وسئل الدارقطني: إذا حدث أبو عبد الرحمن النسائي وابن خزيمة بحديث، أيما تقدمه؟ فقال: " أبو عبد الرحمن، فإنه لم يكن مثله أقدم عليه
_________
(1) نقله ابنُ سيِّد الناس في " النفح الشذي " (1/ 189)، وانظر: " النُّكت على ابن الصلاح " لابن حجر (1/ 481).
(2) أخرجه ابن طاهر في " شروط الأئمة الستة " (ص: 104) وإسناده صحيح.
(3) سؤالات السلمي (النص: 33).(2/863)
أحداً، ولم يكن في الورع مثله، لم يحدث بما حدث ابن لهيعة وكان عنده عالياً عن قتيبة " (1).
وقال أبو الفضل بن طاهر المقدسي: سألت الإمام أبا القاسم سعد بن علي الزنجاني بمكة عن حال رجل من الرواة، فوثقه، فقلت: إن أبا عبد الرحمن النسائي ضعفه، فقال: " يا بني، إن لأبي عبد الرحمن في الرجال شرطاً أشد من شرط البخاري ومسلم " (2).
وقال ابن رجب مرجحاً له على أبي داود والترمذي فيمن يخرج له: " وأما النسائي فشرطه أشد من ذلك، ولا يكاد يخرج لمن يغلب عليه الوهم، ولا لمن فحش خطؤه وكثر " (3).
وأطلق بعض العلماء على كتاب النسائي اسم (الصحيح)، جاء هذا عن الحفاظ، أبي علي النيسابوري، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وابن منده، وعبد الغني بن سعيد الأزدي، والحاكم، وأبي يعلي الخليلي، والخطيب البغدادي، وأبي طاهر السلفي (4)، وذلك من أجل ما رأوه في كتابه من قوة شرطه وتحريه.
كما ذهب إلى القول بصحة رواية ابن السني والمسماة بـ (المجتبى) أو (المجتنى)، أو (السنن الصغرى) تلميذ النسائي محمد بن معاوية الأحمر (5).
والواقع: أن النسائي أعل في الكتابين (الكبرى) أو (الصغرى) أحاديث كثيرة، وضعفها، وجرح عدداً من الرواة فيهما، والمتحرر لي: أن الاختلاف
_________
(1) سؤالات حمزة السهمي للدارقطني (النص: 111).
(2) شروط الأئمة الستة، لابن طاهر (ص: 104).
(3) شرح علل الترمذي (1/ 398) .......
(4) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 481).
(5) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 484).(2/864)
بينهما طولاً وقصراً إنما هو من جهة الرواة لهما، لا من جهة النسائي نفسه، والله أعلم، والمعنى في الكتابين خطة وشرطاً واحد.
شرط ابن ماجة في " سننه ":
فيه حديث كثير صحيح وحسن، لكنه أيضاً اشتمل على الواهي والموضوع، وهو لا يميز فيه بين ما يثبت وما لا يثبت، فانحطت بذلك رتبة الكتاب.
قال الذهبي: " قد كان ابن ماجة حافظاً ناقداً صادقاً واسع العلم، وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات " (1).
وقال في موضع آخر: " غلاة الرافضة والجهمية الدعاة، وكالكذابين والوضاعين وكالمتروكين المهتوكين، كعمر بن الصبح، ومحمد المصلوب، ونوح بن أبي مريم، وأحمد الجويباري، وأبي حذيفة البخاري، فما لهم في الكتب حرف، ما عدا عمر، فإن ابن ماجة خرج له حديثاً واحداً فلم يصب، وكذا خرج ابن ماجة للواقدي حديثاً واحداً، فدلس اسمه وأبهمه" (2).
وقال ابن حجر: " تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الحديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم " وسمى بعضهم (3).
وقد حكي عن أبي زرعة الرازي أنه نظر في كتاب ابن ماجة، فما عاب عليه إلا نحواً من ثلاثين حديثاً.
لكن قال الذهبي: قول أبي زرعة إن صح فإنما عنى بثلاثين حديثاً:
_________
(1) سير أعلام النبلاء (13/ 278 _ 279).
(2) سير أعلام النبلاء (12/ 576).
(3) النكت على ابنِ الصلاح (1/ 485) .......(2/865)
الأحاديث المطرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة لعلها نحو الألف " (1).
وقال ابن حجر: " هي حكاية لا تصح؛ لانقطاعها، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية، أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءاً منه فيه هذا القدر، وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب (العلل) لابن أبي حاتم " (2).
قلت: فبعد هذا كيف يصلح تسميته (صحيحاً) عند من أطلق عبارة (الصحاح الستة)؟.
شرط أحمد في " المسند ":
قال ابن تيمية: " نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن، كأبي داود والترمذي، مثل نسخة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجود من شرط أبي داود في سننه " (3).
وقال في موضع آخر: " وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة عنده، بل يروي ما رواه أهل العلم، وشرطه في المسند: أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، وشرطه في المسند مثل شرط أبي داود في سننه " (4).
ونقل ابن القيم حكاية حنبل بن إسحاق قال: جمعنا أحمد بن حنبل،
_________
(1) سير أعلام النبلاء (13/ 279).
(2) النكت على ابن الصلاح (1/ 486).
(3) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 162).
(4) منهاج السنة النبوية (7/ 96 _ 97) .......(2/866)
أنا، وصالح، وعبد الله، وقرأ علينا المسند، وما سمعه منه غيرنا، وقال لنا: " هذا كتاب، جمعته من سبع مئة ألف وخمسين ألف حديث، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة "، ثم قال ابن القيم: " هذه الحكاية قد ذكرها حنبل في تاريخه، وهي صحيحة بلا شك، لكن لا تدل على أن كل ما رواه في المسند فهو صحيح عنده، فالفرق بين أن يكون كل حديث لا يوجد له أصل في المسند فليس بحجة، وبين أن يقول: كل حديث فيه حجة، وكلامه يدل على الأول، لا على الثاني.
وقد استشكل بعض الحفاظ هذا من أحمد، وقال: في الصحيحين أحاديث ليست في المسند، وأجيب عن هذا: بأن تلك الألفاظ بعينها وإن خلا المسند عنها، فلها فيه أصول ونظائر وشواهد، وأما أن يكون متن صحيح لا مطعن فيه ليس له في المسند أصل ولا نظير، فلا يكاد يوجد البتة " (1).
قلت: وهذه حقيقة لا يتجاوزها من درس هذا الديوان العظيم وتأمله.
دعوى (ما سكت عنه أحمد في " المسند " فهو صحيح):
قال الحافظ أبو موسى المديني: " ما أودعه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده، قد احتاط فيه إسناداً ومتناً، ولم يورد فيه إلا ما صح عنده " (2).
وهذه الدعوى ردها ابن القيم، فقال: " هذه المقدمة لا مستند لها البتة، بل أهل الحديث كلهم على خلافها، والإمام أحمد لم يشترط في
_________
(1) الفروسية (ص: 69).
(2) خصائص المسند، لأبي موسى المديني (ص: 24) ونقله بمعناه ابن القيم في " الفروسية " (ص: 66 _ 67).(2/867)
مسنده الصحيح ولا التزمه، وفي مسنده عدة أحاديث سئل هو عنها فضعفها بعينها وأنكرها " (1).
وذكر ابن القيم ما زاد على عشرين حديثاً، جميعها مما خرجه في (المسند) وهي عنده إما ضعيفة أو منكرة (2).
ثم قال: " وهذا باب واسع جداً، لو تتبعناه لجاء كتاباً كبيراً، والمقصود أنه ليس كل ما رواه وسكت عنه يكون صحيحاً عنده " (3).
قلت: وهذا هو التحقيق، إنما فيه الصحيح وهو الغالب، وفيه الحسن وهو كثير، وفيه الضعيف وهو أقل بكثير من الصحيح والحسن، وفيه المنكر وهو قليل، وهل فيه موضوع؟.
قال ابن تيمية: " تنازع الحافظ أبو العلاء الهمذاني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع؟ فأنكر الحافظ أبو العلاء أن يكون في المسند حديث موضوع، وأثبت ذلك أبو الفرج، وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة.
ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج: هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب، بل غلط فيه؛ ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع. . وأما الحافظ أبو العلاء وأمثاله، فإنما يريدون بالموضوع: المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب " (4).
_________
(1) الفروسية (ص: 64) وذكر ابن القيم في هذا المعنى حكاية عن أحمد مما أورده أبو موسى المديني في " خصائص المسند " (ص: 27)، هي رواية أبي العز أحمد بن عبيد الله بن كادش العُكْبري، وهو شيخٌ متهم، لم يكن ثقة.
(2) انظر: الفروسية (ص: 64 _ 66).
(3) الفروسية (ص: 66) .......
(4) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 160) .......(2/868)
وأدخل ابن الجوزي في كتاب " الموضوعات " من تلك الأحاديث عدداً، تعقبه فيها الحافظ أبو الفضل العراقي، ثم تلميذه ابن حجر في " القول المسدد في الذب عن المسند "، وبينا أنها لا تبلغ الوضع.
قال ابن حجر: " ادعى قوم فيه الصحة، وكذلك في شيوخه، وصنف الحافظ أبو موسى المديني في ذلك تصنيفاً، والحق أن أحاديثه غالبها جياد، والضعاف منها إنما يوردها للمتابعات، وفيه القليل من الضعاف الغرائب الأفراد، أخرجها، ثم صار يضرب عليها شيئاً فشيئاً، وبقي منها بعده بقية. وقد ادعى قوم أن فيه أحاديث موضوعة، وتتبع شيخنا إمام الحفاظ أبو الفضل (1) من كلام ابن الجوزي في (الموضوعات) تسعة أحاديث أخرجها من المسند، وحكم عليها بالوضع، وكنت قرأت ذلك الجزء عليه، ثم تتبعت بعده من كلام ابن الجوزي في (الموضوعات) ما يلتحق به، فكملت نحو العشرين، ثم تعقبت كلام ابن الجوزي فيها حديثاً حديثاً، وظهر من ذلك أن غالبها جياد، وأنه لا يتأتى القطع بالوضع في شيء منها، بل ولا الحكم بكون واحد منها موضوعاً، إلا الفرد النادر، مع الاحتمال القوي في دفع ذلك، وسميته (القول المسدد في الذب عن مسند أحمد) " (2).
قلت: واعلم أن في ثناياه زيادات كثيرة من رواية ابنه عبد الله عن غير أبيه، هي على القسمة السابقة أيضاً بين الثابت وغيره، وفيه كذلك من زيادات أبي بكر القطيعي راوي " المسند " عن عبد الله.
* * *
_________
(1) يعني العراقي.
(2) تعجيل المنفعة (1/ 240 _ 241).(2/869)
المبحث الخامس:
المستخرجات على " الصحيحين "
المستخرج، هو: أن يعمد المحدث إلى كتاب من كتب الحديث المسندة كـ" صحيح البخاري "، فيروي أحاديث ذلك الكتاب بأسانيده الخاصة بحيث يلتقي مع البخاري في كل حديث في شيخه، أو من فوقه، ولا يتجاوز الشيخ الأقرب إلى البخاري حتى لا يجد في مسموعاته ذلك الحديث عن ذلك الشيخ، ويجب أن يستخرج الحديث من طريق نفس الصحابي الذي أخرج البخاري عنه الحديث.
هذه صفة ما يسمى بـ " المستخرج ".
مثاله: قال الإمام مسلم في " صحيحه " (1): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن نمير، قالوا: حدثنا سفيان، عن زياد بن علاقة، سمع جرير بن عبد الله يقول:
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
هكذا جاء سياق الحديث برواية مسلم، فاستخرجه الحافظ أبو عوانة الإسفراييني في " المستخرج على صحيح مسلم " (2) فقال: حدثنا إسحاق بن
_________
(1) كتاب الإيمان (رقم: 98) .......
(2) مُستخرج أبي عوانة المسمى " مسند أبي عوانة " (1/ 38).(2/870)
سيار، قال: حدثنا عبيد الله (1)، قال: أخبرنا سفيان، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت جريراً يحدث حين مات المغيرة بن شعبة، خطب الناس فقال:
أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، والسكينة والوقار، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هذه على الإسلام، واشترط علي النصح لكل مسلم، فورب الكعبة؛ إني لكم ناصح أجمعين، واستغفر ونزل.
فأنت رأيت مسلماً لم يرو هذا الحديث بهذا التمام، وفي استخراجه عليه فوائد عديدة في الإسناد والمتن، فأبرزها في الإسناد أن مسلماً روى هذا الحديث من حديث سفيان بن عيينة، فجاء في " الاستخراج " من رواية سفيان الثوري متابعة لابن عيينة، كلاهما عن زياد، وفيه أن التخريج للرواية لم يلتق فيه أبو عوانة بمسلم في شيخه، ولا في شيخ شيخه ابن عيينة، إنما في شيخ ابن عيينة، وفي المتن زيادة لا تخفى فائدتها.
واستخرجه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في " المستخرج على صحيح مسلم " (2) من طريق الحافظ الحميدي قال: حدثنا سفيان، حدثنا زياد بن علاقة، سمعت جرير بن عبد الله.
ثم رواه من طريق الحافظ الحسن بن سفيان قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا زياد بن علاقة، سمعت جرير بن عبد الله قال: " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم ".
فاستخراج أبي نعيم لم ترد فيه فائدة في المتن، لكنه جاء على الموافقة لمسلم في رواية هذا الحديث في شيخه ابن أبي شيبة في رواية الحسن بن سفيان عنه، وشيخ شيخه ابن عيينة في رواية الحميدي عنه،
_________
(1) هو ابنُ موسى العبسيُّ، وشيخه فيه هو الثوري بناءً على ما يُراد عند الإطلاق في شيوخ عبيد الله، والحديث مَحفوظ من رواية السفيانين.
(2) المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم (رقم: 195) .......(2/871)
ولك أن تقول: فيه من الفائدة كذلك أنه ميز (سفيان) في رواية مسلم بأنه ابن عيينة، وإن كان مثله لا يخفى في هذا الإسناد على مشتغل بالحديث.
فوائد المستخرجات:
وللمستخرجات فوائد كثيرة، نبه عليها كثير من المتأخرين، أوصلها ابن ناصر الدين الدمشقي إلى عشرة، هي:
أولاً: زيادة ألفاظ، كتتمة محذوف، أو زيادة شرح في حديث، ونحو ذلك، وربما دلت على زيادة حكم.
ثانياً: علو الإسناد.
قلت: وذلك أن المستخرج مع تأخر وفاته أو زمانه عن وفاة البخاري مثلاً، إلا أنه يروي الحديث الذي رواه البخاري بعدد من الرجال يتساوى مع عدد رجال إسناد البخاري، فيكون المستخرج كأنه عاش مع البخاري في زمن واحد (1).
ثالثاً: قوة الحديث بكثرة الطرق؛ للترجيح عند المعارضة.
قلت: ولدفع الغرابة عنه كذلك.
رابعاً: وصل تعليقٍ علقه الشيخان أو أحدهما.
خامساً: بيان من تابع من الرواة الراوي من رجال " الصحيحين " على حديثه.
سادساً: معرفة اتفاقهما أو اختلافهما في الحرف أو الحرفين فصاعداً.
سابعاً: بيان الزيادة التي على لفظ " الصحيحين " أو أحدهما من حديث من وقعت، وهل انفرد بها أم لا؟
_________
(1) وتقدم في (المدخل) لهذا الكتاب، بيان معنى العلو وفائدته.(2/872)
ثامناً: ذكر قصة في الحديث لم تقع للبخاري في " صحيحه " مثلاً، ووقعت في المستخرج.
تاسعاً: رفع إشكال وقع في لفظ من " الصحيحين " أو أحدهما.
عاشراً: من فاته سماع " الصحيحين " أو أحدهما قد يصل إلى ذلك بأحاديثه وتراجمه بسماع أحد الكتب المستخرجة على الكتاب الذي فاته سماعه (1).
قلت: وهذه الفائدة الأخيرة حين كان التلقي للكتب بالسماع، لا يحتاج إليها اليوم في تلقي " الصحيحين "، خصوصاً أن انتشارهما في الناس أكثر من انتشار المتسخرجات عليهما.
من أمثلة المستخرجات على " الصحيحين ":
وأكثر ما صنف من المستخرجات، كان على أحد " الصحيحين ".
فمن المستخرجات على " صحيح البخاري ":
1 _ مستخرج أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي (المتوفى سنة: 371).
2_ مستخرج أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب البرقاني (المتوفى سنة: 425).
3_ مستخرج أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (المتوفى سنة: 430).
وعلى " صحيح مسلم ":
1 _ المتسخرج، لأبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (المتوفى سنة: 316).
_________
(1) ساق هذه الفوائد للمستخرجات: الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في " افتتاح القاري لصحيح البخاري " .......(2/873)
2 _ المتسخرج، لأبي نعيم الأصبهاني.
3_ المستخرج، لأبي سعيد أحمد بن أبي بكر محمد بن أبي عثمان الحيري النيسابوري (المتوفى سنة: 353).
كما صنفت مستخرجات على بعض كتب الأصول غير " الصحيحين "، على نفس المنحى فيهما.
تنبيهان:
التنبيه الأول: قال السخاوي: " وتقع في (صحيح أبي عوانة) الذي عمله مستخرجاً على مسلم أحاديث كثيرة زائدة على أصله، وفيها الصحيح والحسن، بل والضعيف أيضاً، فينبغي التحرز في الحكم عليها " (1).
وقال: " المستخرجون ليس جل قصدهم إلا العلو، يجتهدون أن يكونوا هم والمخرج عليه سواء، فإن فاتهم فأعلى ما يقدرون عليه كما صرح به بعض الحفاظ مما يساعده الوجدان، وقد لا يتهيأ لهم علو فيوردونه نازلاً، وإذا كان القصد إنما هو العلو ووجدوه، فإن اتفق فيه شرط الصحيح فذلك الغاية، وإلا فقد حصلوا على قصدهم، فرب حديث أخرجه البخاري من طريق بعض أصحاب الزهري عنه مثلاً، فأورده المخرج من طريق آخر ممن تكلم فيه عن الزهري بزيادة، فلا يحكم حينئذ فيه بالصحة " (2).
قلت: وهذا تنبيه جدير بالملاحظة في جميع المستخرجات على " الصحيحين "؛ إذ الحاجة إلى تخريج الحديث من غير طريق صاحب الصحيح قد تلجئ إلى تخريجه من طريق مجروح.
_________
(1) فتح المغيث (1/ 38).
(2) فتح المغيث (1/ 40) .......(2/874)
ويؤكد ذلك أنه لم يعرف عن أحمد ممن خرج على الصحيحين أنه اشترط أن لا يخرج إلا عمن يحتج به.
والمطلوب اعتباره من النظر في إسناد المستخرج: البحث في درجة الإسناد من جهة المستخرج حتى يلتقي في إسناده مع صاحب " الصحيح "، لا ما بعده إلى منتهى الإسناد؛ فذلك إسناد " الصحيح " فلا يحتاج إلى النظر.
التنبيه الثاني: وقع الاستخراج على " الصحيحين " للحديث بعد الحديث في بعض مصنفات من جاء بعد الشيخين، وليس على سبيل الاستقلال بالتصنيف في هذا الموضوع، وذلك مثل ما يقع في كتب البيهقي وأبي محمد البغوي وغيرهما، يخرجون الحديث بإسناد ينطبق عليه نعت الاستخراج، ثم يتبع مثلاً بالقول: (متفق عليه) أو (أخرجه البخاري عن فلان) أو (من طريق فلان) وهكذا، فاعلم أن هذا العزو إلى " الصحيحين " أو أحدهما إنما يعني الاتفاق على الإسناد من موضع الالتقاء بين البغوي مثلاً وصاحب الصحيح، والاتفاق على أصل المتن، وقد يتطابق إلى المتن أو يتغاير زيادة واختصاراً، فاحذر أن تأخذ من هذه الكتب ما عزي إلى " الصحيحين " وتقول: (متفق عليه) أو (أخرجه البخاري) أو (مسلم) دون الرجوع إلى " الصحيحين " ذاتهما.
كما عليك أن تحذر من الحكم على لفظ البغوي مثلاً بالصحة، بمجرد عزوه الحديث إلى " الصحيح" وهو قد استخرجه عليه.
* * *(2/875)
المبحث السادس:
أين يوجد الحديث الصحيح في غير
الكتب الموسومة بالصحة؟
لم يحصر الحديث الصحيح في كتابي البخاري ومسلم، وإنما أخرجا أحسن ما في الأبواب من صحيح الحديث، وقصدا إلى الاختصار، كما سيأتي في (المبحث السابع).
ويستفاد الحديث الصحيح الزائد على ما في " الصحيحين " من الأمهات المشهورة، والكتب الحديثية المنثورة .......
وأكثر تلك الكتب تخريجاً للحديث الصحيح السنن الأربعة المتقدم بيانها: لأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
و" مسند " الإمام أحمد بن حنبل أوسع تلك الكتب ومن أشملها على الحديث الصحيح.
وفي " صحيحي " ابن خزيمة وابن حبان زيادات جليلة، وكذا " مستدرك " الحاكم.
هذه الكتب قلما يفوتها من الحديث الصحيح، وما يجتهد المحدثون للوقوف عليه في غيرها هو في الغالب الأسانيد لا المتون، ورب حديث(2/876)
بإسناد ضعيف عند الترمذي يوجد له طريق أخرى صحيحة مروية في كتب الطبراني.
على أن المحدث لا يستغنى عن التتبع للحديث في جميع أصناف الكتب المصنفة فيه:
كسائر كتب السنن غير المذكورة، مثل: سنن سعيد بن منصور، ومسند الدارمي وهو على طريقة السنن في التصنيف، والسنن الكبرى للنسائي وهي غير السابقة الذكر، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي.
وسائر المسانيد غير " مسند أحمد "، مثل: مسند ابن أبي شيبة، ومسند أبي يعلى الموصولي، ومسند البزار المسمى بـ" البحر الزخار ".
والكتب المسماة بـ" المصنف "، وموجود منها بأيدي الناس: " مصنف " عبد الرزاق الصنعاني، و " مصنف " ابن أبي شيبة.
وكذا كتب " المعاجم " وطرق تأليفها مختلفة، ومن أجلها: المعاجم الثلاثة للحافظ الطبراني، وهي: " المعجم الكبير " و " الأوسط " و " الصغير ".
وفي كتب الطحاوي فوائد جمة، وكذا الكتب المصنفة في أبواب من العلم، كالتفسير والتاريخ والزهد والعقائد مما جرى مؤلفوها على الرواية بالإسناد.
كما في الكتب الموسومة بـ" الفوائد " و " الأماني " و " الأجزاء " فوائد لا تحصى كثرة في طرق الحديث والزيادة في متونه.
كل تلك الكتب من مظان الوقوف على الحديث الصحيح أو الإسناد الصحيح، والأصل في جميعها بعد " الصحيحين " وجوب النظر لمعرفة الثبوت من عدمه في أسانيدها ومتونها، ولا يكفي مجرد الأخذ منها، وذلك لاشتمالها على المقبول والمردود .......
وقد قال ابن الجنيد: سمعت يحيى بن معين يقول: " ما أهلك(2/877)
الحديث أحد ما أهلكه أصحاب الإسناد " يعني الذين يجمعون المسند، أي: يغمضون في الأخذ من الرجال (1).
وليس في المسانيد فيما وصلنا منها كتاب له شرط الصحة، لكن (المسند) للإمام أحمد بن حنبل أجلها وأتقاها حديثاً.
وسائر الكتب الممثل بأهمها أو المشار إليها من معاجم وأمالي وفوائد وأجزاء، كذلك تواريخ وتراجم تشتمل على الرواية بالإسناد، وما ذكر ابن معين من عيب المسانيد وارد عليها كذلك.
وإنما يستثنى من الحاجة إلى النظر فيه في حق غير أهل الاختصاص: ما رجحناه من قبل في شأن ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان.
وكذلك حكم بعض مؤلفي تلك الكتب من الحفاظ على الحديث بالصحة أو الحسن، فلك أن تعتمد قولهم ما لم يظهر خلافه بحجة، وذلك مثل أحكام الإمام الترمذي على الأحاديث بالصحة والحسن، وأحكام الدارقطني والبيهقي على كثير من الأحاديث بالثبوت.
وكذا إذا رأيت إماماً عارفاً أو محدثاً بارعاً حكم على شيء من أسانيد وأحاديث تلك الكتب، ولم يعرف ذلك المحدث بالتساهل في الحكم على الروايات بما يخالف طريقة نقاد المحدثين الأقدمين، فلا بأس أن يستفاد منه تمييز الحديث الصحيح الزائد على " الصحيحين "، من أولئك الأئمة من أعيان المتأخرين: المنذري والنووي والذهبي وابن كثير وأبو الفضل العراقي وابن حجر العسقلاني والألباني.
وأما من عرف بتساهله وكثر وهمه في الحكم على الأحاديث بحيث أضعف الثقة بأحكامه فلا يصلح الاعتماد عليه، مثل: نور الدين الهيثمي وجلال الدين السيوطي، ومن المعاصرين الشيخ أحمد محمد شاكر، رحمهم الله.
_________
(1) سؤالات ابن الجنيد (النص: 62) .......(2/878)
تنبيه:
الكتب الحديثية كثيرة للغاية، وما تقدمت تسميته أو الإشارة إليه فهو أعظمها وأوعبها، واستفادة الحديث الصحيح من أي من الكتب التي عني أصحابها بتخريج الحديث فيها بأسانيدهم توجب التحقق من أمور ثلاثة:
الأول: أن يكون الكتاب المستفاد منه صحيح النسبة إلى مؤلفه.
وهذا الشرط يخل به كثير من المتأخرين في شأن كتب لم تعرف صحتها إلى من نسبت إليه، أو عرفت بالضعف، مثل المسند الذي تعتمده الزيدية المعروف بـ " مسند زيد "، والمسند الذي تعتمده الإباضية المعروف بـ" مسند الربيع بن حبيب "، وكتاب " الجهاد " لعبد الله بن المبارك، وغيرها.
وهذا التنبيه مطلوب اعتباره في جميع كتب الحديث، وقد اعتبره أئمة الحديث حتى في روايات " الصحيحين "، وحققوا صحة أسانيدهما ونسخهما إلى الشيخين، وكذلك فعلوا في شأن السنن الأربعة و" المسند " للإمام أحمد، ومعاجم الطبراني، والأمهات الشائعة.
ووقع لهم الكلام في الشيء من ذلك، ككلامهم في روايات كتب عبد الرزاق الصنعاني عنه من طريق إسحاق بن إبراهيم الدبري، وإن كان التحقيق صحة السماع والنسبة.
والثاني: أن يكون المؤلف مخرج ذلك الحديث ممن يحتج به.
والإخلال بترك التحقق من هذا موجود عند بعض المتأخرين أيضاً، ومعلوم أن طائفة ممن صنفوا في الحديث لم يكونوا من الثقات في أنفسهم، بل هم من المجروحين على تفاوت درجات الجرح، مثل: محمد بن عمر الواقدي، ونعيم بن حماد الخزاعي، وأبي بكر أحمد بن مروان الدينوري، وغيرهم.
والثالث: مراعاة جميع شروط صحة الحديث أو حسنه في ذلك الإسناد المخرج من مؤلفه إلى منتهاه.(2/879)
المبحث السابع:
تصحيح الحديث على شرط الصحيح
المراد به: (على شرط البخاري ومسلم) أو (أحدهما).
وتوضيح هذا يوجب تحرير شرط كل من الشيخين فيما خرجاه في (كتابيهما).
شرط البخاري:
شرط البخاري في " صحيحه ": أنه جرد الصحيح المستوفي لشروط الصحة: من اتصال الإسناد، وثقة الرواة، والسلامة من العلل.
وذلك مستفاد من تتبع كتابه.
كذلك يتبين من عنوانه، فإنه سماه: " الجامع المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " .......
وقال البخاري: " ما أدخلت في كتابي (الجامع) إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول " (1).
_________
(1) أخرجه ابن عَدي في " الكامل " (1/ 226) و " أسامي من روى عنهم البخاري ومسلم " (ص: 62) ومن طريقه: الخليلي في " الإرشاد " (3/ 962) والخطيب في " تاريخه " (2/ 8 _ 9) وابن عساكر في تاريخه " (52/ 73) من طريق إبراهيم بن مَعْقل النسفي عن البخاري، به. وعند ابنِ عساكر من وجهين عنه، هو صحيحٌ بهما.(2/880)
قلت: وهذا صريح منه أنه لم يقصد إلى مجرد الجمع، بل جرد الصحيح في كتابه لم يَشُبه بغيره، كذلك يدل هذا على ضعف الاستدراك عليه لما لم يخرجه من الحديث، فإنه قصد إلى الاختصار.
فأما شرطه في الاتصال فشديد، فإنه لم يكتف بمعاصرة الراوي لشيخه، بل اشترط لقاءه له ولو مرة، وقد حررته في الكلام على (الاتصال) في (القسم الأول).
وأما في الرجال، فإنه عمد إلى أحاديث الثقات الذين هم في أعلى درجات الثقة، واحترز من أحاديث من قامت الشبهة أو قويت مظنتها في روايته.
قال الدارقطني: " أخرج البخاري عن بقية بن الوليد وعن بهز بن حكيم اعتباراً؛ لأن بقية يحدث عن الضعفاء، وبهزاً متوسط " (1).
وبين الحاكم شرط البخاري في صفة الثقة الذي خرج له، فقال: " من شرط البخاري في (الصحيح) أن الحديث لا يشتهر عنده إلا بثقتين يتفقان على روايته " (2).
وزاد ذلك بياناً في موضع آخر، وضم إلى البخاري مسلماً، فقال: " الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته " (3).
_________
(1) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 75).
(2) سؤالات مسعود السجزي للحاكم (النص: 267).
(3) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص: 33) .......(2/881)
ومراد الحاكم بهذا أن أحاديث الصحيحين ليس فيها راو خرجا له أو خرج له أحدهما، إلا وهو معروف برواية اثنين فصاعداً عنه، وليس مراده أن ذلك الحديث رواه اثنان، وعن كل واحد منهما اثنان.
والذي يرفع الإشكال عن كلام الحاكم في تفسيره لشرط الشيخين في الرجال، ما بينه بنفسه في كتاب " المدخل إلى كتاب الإكليل " حين قسم الحديث الصحيح المتفق على الاحتجاج به عند فقهاء الحجاز وفقهاء الكوفة، لا المختلف فيه، إلى خمسة أقسام، فذكر أول الأقسام ما اتفق عليه الشيخان، وأتبعه ببيان الشرط المذكور، ثم قال: " القسم الثاني من الصحيح المتفق عليه: الحديث الصحيح بنقل العدل عن العدل، رواه الثقات الحفاظ إلى الصحابي، وليس لهذا الصحابي إلا راو واحد ".
ثم مثل له بحديث عروة بن مضرس الطائي في الحج، ثم قال: " هذا حديث من أصول الشريعة، مقبول متداول بين فقهاء الفريقين، ورواته كلهم ثقات، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم في الصحيحين، إذ ليس له راو عن عروة بن مضرس غير الشعبي. وشواهد هذا كثيرة في الصحابة " فذكر جماعة من الصحابة لم يعرفوا إلا برواية واحد عن كل منهم (1).
ونفى الحاكم أن يكون الشيخان أو أحدهما قد خرجا لراو لم يعرف إلا بروية واحد عنه.
لكن هذا الذي قاله الحاكم لم يقبله النقاد.
قال الحافظ ابن طاهر المقدسي: " إن البخاري ومسلم لم يشترطا هذا الشرط، ولا نقل عن واحد منهما أنه قال ذلك، والحاكم قدر هذا التقدير، وشرط لهما هذا الشرط على ما ظن، ولعمري إنه شرط حسن لو كان
_________
(1) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص: 36 _ 37).(2/882)
موجداً في كتابيهما، إلا أنا وجدنا هذه القاعدة التي أسسها الحاكم منتقضة في الكتابين جميعاً " (1).
فذكر أمثلة لذلك، فمما أخرجه البخاري: مرداس الأسلمي، تفرد عنه قيس بن أبي حازم. وعمرو بن تغلب، تفرد عنه الحسن البصري.
واتفق هو ومسلم على تخريج حديث المسيب بن حزن، وتفرد عنه ابنه سعيد.
ومما أخرجه مسلم: الأغر المزني، تفرد عنه أبو بردة بن أبي موسى. وأبو رفاعة العدوي، تفرد عنه حميد بن هلال. إلى غير ذلك.
ومن الغريب في هذا أن الحاكم قد درس " الصحيحين " دراسة العارف، فعجباً له كيف أطلق تلك المقالة، بل إنه كان يعلم أن الشيخين احتجا بمن لم يرو عنه إلا واحد، فقد قال في " المستدرك ": " وقد أخرجا جميعاً عن جماعة من الثقات لا راوي لهم إلا واحد " (2).
ووجدت البيهقي كذلك جرى على مذهب شيخه الحاكم في تلك الدعوى، فإنه ذكر (عمرو بن بجدان) فقال: " وليس له راو غير أبي قلابة، وهو مقبول عند أكثرهم؛ لأن أبا قلابة ثقة، وإن كان بخلاف شرط الشيخين في خروجه عن حد الجهالة بأن يروي عنه اثنان " (3).
والرد المتقدم لكلام الحاكم رد على البيهقي كذلك.
وأما تحري البخاري في سلامة الحديث من العلل المؤثرة، فغاية في الظهور لمن درس كتابه، ولذا ندر التعقب عليه في ذلك، وكان لفطنته لما قد يتعقب به مما يقع من اختلاف الرواة في حديث، فإنك تراه يسوق
_________
(1) شروط الأئمة الستة (ص: 96) .......
(2) المستدرك (1/ 8 بعد الحديث رقم: 16).
(3) الخِلافيات (2/ 457).(2/883)
الحديث بأحسن إسناد عنده محتجا به، ثم يذكر بعده ما وقع من الاختلاف، كأنه يقول بذلك: قد اطلعت على الاختلاف في الرواية وعلمته، ولكن لا أثر له.
شرط مسلم في كتابه:
أما مسلم فقد اجتهد في استيفاء شروط الصحة فيما خرجه في " صحيحه " كما وقع من شيخه البخاري، وإن كان خالف في شيء غير مؤثر في تقدم كتابه.
وكتابه مختصر أيضاً في الحديث الصحيح، فإنه قال: " صنفت هذا المسند " يعني صحيحه " من ثلاث مئة ألف حديث مسموعة " (1).
وسئل عن حديث أبي هريرة في القراءة وراء الإمام، فقال: " هو عندي صحيح " فقال السائل: لم لم تضعْه هنا (2)؟ فقال: " ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه " (3).
وفسر ابن الصلاح قوله: (ما أجمعوا عليه) من وجهين، فقال: " الأول: أنه أراد أنه لم يضع في كتابه إلا الأحاديث التي وجد عنده فيها شرائط المجتمع عليه، وأنه لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم. والثاني: أنه أراد أنه ما وضع فيه ما اختلفت الثقات فيه في نفس الحديث متناً أو إسناداً، ولم يرد ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته , وهذا هو الظاهر من كلامه " (4).
_________
(1) أخرجه الحاكم في " تاريخه " (كما في " السير " 16/ 288 _ 289) والخطيب في " تاريخه " (13/ 101) وإسناده صحيح.
(2) يعني داخِلَ صحيح.
(3) صحيح مسلم (1/ 304) .......
(4) صيانة صحيح مسلم (ص: 75).(2/884)
وبين مسلم شرطه في " مقدمة صحيحه " فقال: " نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث طبقات من الناس " (1).
قال: " فأما القسم الأول فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى، من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم.
فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخباراً يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدم قبلهم، على أنهم وإن كانوا فيما وصفنا دونهم، فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم يشملهم، كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم، من حمال الآثار ونقال الأخبار، فهم وإن كانوا بما وصفنا من العلم والستر عند أهل العلم معروفين، فغيرهم من أقرانهم ممن عندهم ما ذكرنا من الإتقان والاستقامة في الرواية يفضلونهم في الحال والمرتبة؛ لأن هذا عند أهل العلم درجة رفيعة وخصلة سنية، ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين سميناهم عطاء ويزيد وليثاً، بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد، في إتقان الحديث والاستقامة فيه، وجدتهم مباينين لهم لا يدانونهم، لا شك عند أهل العلم بالحديث في ذلك؛ للذي استفاض عندهم من صحة حفظ منصور والأعمش وإسماعيل وإتقانهم لحديثهم، وأنهم لم يعرفوا مثل ذلك من عطاء ويزيد وليث.
وفي مثل مجرى هؤلاء إذا وازنت بين الأقران كابن عون وأيوب السختياني، مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني، وهما صاحبا الحسن
_________
(1) مُقدمة صحيح مُسلم (ص: 4) .......(2/885)
وابن سيرين، كما أن ابن عون وأيوب صاحباهما، إلا أن البون بينهما وبين هذين بعيد في كمال الفضل وصحة النقل، وإن كان عوف وأشعث غير مدفوعين عن صدق وأمانة عند أهل العلم " (1).
قلت: لم ينص مسلم على سوى القسم الأول من الثلاثة، لكنه في التحقيق ضمن القسمين الثاني والثالث بيانه الذي ذكر لمراتب الرواة، فإن مقتضى بيانه للنقلة الذين خرج لهم في كتابه أنهم على ثلاثة أقسام:
الأول: الحفاظ المتقنون، مثل: الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وإسماعيل بن أبي خالد، وعبد الله بن عون، وأيوب السختياني.
وهذا القسم هو الأصل في التقديم عنده، وهو الذي يقوم عليه بناء (صحيحه).
والثاني: ثقات دونهم، مثل: عوف بن أبي جميلة الأعرابي، وأشعث بن عبد الملك الحمراني.
وهذا القسم يخرج حديثهم في كتابه كما يخرج الأول، ويحتج بهم، وإن كانوا دونهم.
والثالث: صدوقون في الأثل، ليسوا بالمتقنين، من جهة ما عرفوا به من سوء الحفظ، مثل: عطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم.
فهذا القسم قد يخرج لهم في المتابعات، حيث وافقوا فيما رووا أهل القسمين السابقين، وإن كان قد أقل من هذا جداً (2).
_________
(1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 5 _ 6) .......
(2) فهو هنا قد مثل بثلاثة: عطاء بن السائب، ولم يُخرج له شيئا أصلاً، ويزيد بن أبي زياد، وليس له عنده سوى موضع واحد مُتابعةً (3/ 1637) من رواية ابن عيينة عنه، وليثٌ كذلك له في موضع واحد مقروناً بأبي إسحاق الشيباني (3/ 1636).(2/886)
وللحاكم في هذه الأقسام قول لم أجد له فيه مستنداً، قال: " لما فرغ من هذا القسم الأول أدركته المنية رحمه الله وهو في حد الكهولة " (1).
كما نص مسلم أنه لا يخرج في كتابه لصنفين من الرواة:
الأول: المتهمون عند عامة أهل الحديث، أو عند أكثرهم، مثل: عمرو بن خالد، ومحمد بن سعيد المصلوب، وأبي داود النخعي.
والثاني: من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط.، مثل: يحيى بن أبي أنيسة، وعباد بن كثير، وعمر بن صهبان.
قال الحازمي فيما يكون بياناً لشرط الشيخين جميعاً في انتقاء أحاديث الثقات: " مذهب من خرج الصحيح: أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم، وهم ثقات أيضاً، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصلح إخراجه، إلا في الشواهد والمتابعات، وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم " (2).
قلت: ثم مثل بمثال حاصله: تخريج حديث الزهري، فهو على مراتب بحسب طبقات أصحاب الذين حملوا عنه (3):
فالأولى: الثقة المتقن المقدم كمالك وابن عيينة ومعمر، فحديث هذه الطبقة أعلى حديث الزهري وأصحه.
والثانية: طبقة مثل الليث بن سعد والأوزاعي، وحديثهم عنه ليس
_________
(1) المدخل إلى كتاب الإكليل (ص: 34)، وممن ردَّ مقالة الحاكم: القاضي عياض في " إكمال المُعلم " (1/ 86) والذهبي في " السير " (12/ 575).
(2) شروط الأئمة الخمسة (ص: 150).
(3) تقدم أن ذكرتُ هذه الطبقات لأصحاب الزهري بأبْسط مما هنا في (المبحث الثالث) من (الفصل الثالث) من (النقد الخفي) .......(2/887)
بالمردود، ولكنه ليس الأمثل؛ لأنهم لم تكن لهم من الملازمة للزهري ما مكنهم من إتقان حديثه، فيخرج في أدنى درجات الصحيح.
والثالثة: طبقة سفيان بن حسين وجعفر بن برقان، لزموا الزهري لكنهم لم يتقنوا عنه حديثه، فتفردوا وأخطأوا، وحديثهم صالح في الشواهد والمتابعات.
والرابعة: طبقة الضعفاء، كزمعة بن صالح، والمثنى بن الصباح، لزموا، لكنهم عرفوا بالضعف أصلا ً.
والخامسة: طبقة المتروكين، كإسحاق بن أبي فروة، وعبد القدوس بن حبيب.
وقال الحافظ ابن حجر: " وأكثر ما يخرج البخاري حديث الطبقة الثانية تعليقاً، وربما أخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقاً أيضاً، وهذا المثال هو في حق المكثرين، فيقاس على هذا أصحاب نافع وأصحاب الأعمش وأصحاب قتادة وغيرهم.
فأما غير المكثرين، فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطأ، لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرد به، كيحيى بن سعيد الأنصاري، ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره، وهو الأكثر " (1)،
وقال محمد بن طاهر المقدسي: " شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن، وإن لم يكن له إلا راو واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه، إلا أن مسلماً أخرج أحاديث أقوام ترك البخاري
_________
(1) هدي الساري (ص: 10).(2/888)
حديثهم؛ لشبهة وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة، مثل: حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبي الزبير، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم " (1)
وقال الحافظ الزيلعي: " صاحبا الصحيح، رحمهما الله، إذا أخرجا لمن تكلم فيه فإنهم ينتقون من حديثه ما توبع عليه، وظهرت شواهده، وعلم أن له أصلاً، ولا يروون ما تفرد به سيما إذا خالفه الثقات ".
ومثل برواية مسلم حديث أبي أويس: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ".
قال: لأنه لم يتفرد به، بل رواه غيره من الأثبات، كمالك وشعبة وابن عيينة، فصار حديثه متابعة " (2).
فالواجب اعتباره لفهم شرط الشيخين فيما انتقياه أمور أهمها:
أولاً: أن يلاحظ أنهما يخرجان للراوي أصولاً ومتابعات وشواهد، فمن خرجا له في غير الأصول، فليس على شرط الصحيح.
ثانياً: أنهما يخرجان حديث الراوي عن بعض شيوخه، ولا يخرجانه عن شيخ معين مع ثقة ذلك الشيخ؛ لكون الراوي عنه ضعيفاً فيه، وذلك كسفيان بن حسين خرجا له ما لم يكن من حديثه عن الزهري؛ لأنه كان ضعيفاً فيه.
ثالثاً: يخرجان للشيخ في بعض حديثه ضعف، فينتقيان منه ما هو محفوظ دون سائره، كتخريجهما لإسماعيل بن أبي أويس وشبهه.
رابعاً: يخرجان من روايات الثقات الموصوفين بالتدليس ما ثبت أنهم
_________
(1) شروط الأئمة الستة (ص: 86) .......
(2) نصب الراية (1/ 341 _ 342) .......(2/889)
لم يدلسوا فيه، أو الذين اختلطوا في أواخر أعمارهم، ما ثبت أنه ليس مما ضر به الاختلاط.
وهذا مما أغفله المستدركون على الصحيحين ما لم يخرجاه، وأبرزهم الحاكم في كتابه " المستدرك ".
ومن أشد ما عيب على الحاكم الإخلال في تعقبه بسبب تساهله في تخريج أحاديث من أخرج لهم الشيخان من الرواة، دون اعتبار الصفة التي أخرج لهم عليها الشيخان.
وبين الزيلعي أن الشيخين أو أحدهما قد يخرجان حديث الراوي فيه ضعف، انتقاء للمحفوظ من حديثه، ومن ثم فيحتج بعض من بعدهم بكون الراوي خرج له الشيخان دون مراعاة هذا المعنى، فقال: " وهذه العلة راجت على كثير ممن استدرك على (الصحيحين)، فتساهلوا في استدراكهم، ومن أكثرهم تساهلاً الحاكم أبو عبد الله في كتابه (المستدرك)، فإنه يقول: هذا حديث على شرط الشيخين، أو أحدهما، وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون الراوي محتجاً به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث، كان ذلك الحديث على شرطه؛ لما بيناه.
بل الحاكم كثيراً ما يجيء إلى حديث يخرج لغالب رواته في الصحيح، كحديث روي عن عكرمة عن ابن عباس، فيقول فيه: (هذا حديث على شرط البخاري)؛ يعني لكون البخاري أخرج لعكرمة، وهذا أيضاً تساهل.
وكثيراً ما يخرج حديثاً بعض رجاله للبخاري، وبعضهم لمسلم، فيقول: (هذا على شرط الشيخين)، وهذا أيضاً تساهل.
وربما جاء إلى حديث فيه رجل قد أخرج له صاحبا (الصحيح) عن شيخ معين، لضبطه حديثه وخصوصيته به، ولم يخرجا حديثه عن غيره لضعفه فيه، أو ضبطه حديثه، أو لكونه غير مشهور بالرواية عنه،(2/890)
أو لغير ذلك، فيخرجه هو عن غير ذلك الشيخ، ثم يقول: (هذا على شرط الشيخين)، أو: (البخاري)، أو: (مسلم)، وهذا أيضاً تساهل؛ لأن صاحبي (الصحيح) لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره، فلا يكون على شرطهما.
وهذا كما أخرج البخاري ومسلم حديث خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال وغيره، ولم يخرجا حديثه عن عبد الله بن المثنى، فإن خالداً غير معروف بالرواية عن ابن المثنى، فإذا قال قائل في حديث يرويه خالد بن مخلد عن ابن المثنى: (هذا على شرط البخاري ومسلم) كان متساهلاً.
وكثيراً ما يجيء إلى حديث فيه رجل ضعيف أو متهم بالكذب، وغالب رجاله رجال الصحيح، فيقول: (هذا على شرط الشيخين) أو (البخاري) أو (مسلم)، وهذا أيضاً تساهل فاحش.
ومن تأمل كتابه (المستدرك) تبين له ما ذكرناه " (1).
وقال ابن القيم ناقداً صنيع الحاكم وشبهه: " أن يرى. . الرجل قد وثق، وشهد له بالصدق والعدالة، أو خرج حديثه في الصحيح، فيجعل كل ما رواه على شرط الصحيح، وهذا غلط ظاهر، فإنه إنما يكون على شرط الصحيح إذا انتفت عنه العلل والشذوذ والنكارة، وتوبع عليه، فأما مع وجود ذلك أو بعضه فإنه لا يكون صحيحاً، ولا على شرط الصحيح، ومن تأمل كلام البخاري ونظرائه في تعليله أحاديث جماعة أخرج حديثهم في صحيحه، علم إمامته وموقعه من الشأن، وتبين له حقيقة ما ذكرناه " (2).
وقال ابن القيم أيضاً منبهاً على معنى تخريج مسلم حديث (مطر
_________
(1) نصب الراية (1/ 341 _ 342) .......
(2) الفروسية (ص: 62)، وانظر كذلك لهذا المعنى: الصارم المُنكي، لابن عبد الهادي المقدسي (ص: 161 _ 163).(2/891)
الوراق) وشبهه: " ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه؛ لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطرح من أحاديث الثقة ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استردك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيء الحفظ، فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله، والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن " (1).
قلت: فالواجب على من قصد إلى إصابة شرط الشيخين فيما لم يخرجاه أن يسلك طريقهما في الانتقاء.
وخلاصة هذا المبحث:
أن على الباحث أن يجتهد في تحقيق صورة الانتقاء من أحاديث من أخرجهم الشيخان، ولا يبادر إلى الحكم على حديث بأنه على شرط الشيخين أو أحدهما بمجرد تخريجهما لذلك الراوي.
ولما كان تحقيق ذلك مما يشق ويعسر فينبغي أن يستغنى عن القول مثلاً: (حديث على شرط الشيخين) بالقول: (إسناده إسناد الصحيح) وشبه ذلك، مما لا يقع به إيهام استيفاء شروط الشيخين، خصوصاً مع استحضار أن شرط الشيخين غير مقصور على أحوال الرواة، وإنما يطلب فيه سائر شروط الصحة.
* * *
_________
(1) زاد المعاد (1/ 353) .......(2/892)
المبحث الثامن:
مسائل في الحديث الصحيح والحسن
المسألة الأولى: الحديث الصحيح والحسن كلاهما حجة في الدين.
قال الإمام الشافعي: " وإذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه " (1).
قلت: أما الحديث الصحيح فهذا المعنى ظاهر فيه.
وأما الحديث إذا دل التحقيق والنظر على حسنه، فذلك يلحقه بالصحيح في الاحتجاج، من جهة أن حسنه لم يثبت إلا عندما تحققت فيه شروط القبول وانتفت عنه موانعه، وتلك هي صفة الحديث الصحيح، وان افترقا في نوع بعض تلك الشروط وكيفية تحققها، على ما تقدم بنانه.
وكما أن (الحديث الصحيح) تثبت به الأحكام، فذلك الحسن، لكن يجب أن يعلم أن (الصحيح) يستقل بإثبات حكم لا ضد له أقوى منه، أما (الحسن) فإننا اشترطنا أن لا يتفرد راويه بأصله، وهذا يعني أنه لا يثبت حكما لا يعرف إلا من تلك الجهة، ولكنه يستدل به على الإبانة والتفصيل لحكم أصله في الجملة ثابت من وجه آخر.
_________
(1) الرسالة (ص: 330) .............(2/893)
والعلة في هذا الفارق: أن راوي الحديث الحسن إنما قصر عن درجة من يحتج به ابتداء حتى ينظر في روايته، من أجل ما نخشى من خطئه ووهمه، وذلك لما أوردته شبهة خطئه في بعض ما روى، أو قصور درجته في الحفظ عن درجة المتقنين لعدم الشهرة بالعلم والاعتناء به.
وإذا كان هذا ظاهراً في الأحكام، فمن الخطأ البين القول بصحة بناه اعتقاد على (حديث حسن) جرى الحكم بحسنه على ظواهر قواعد المتأخرين في تعريفهم للحسن، دون استقصاء قدر الموافقة للمحفوظ المعروف، أو المخالفة، أو التفرد.
وإذا تحققت هذه المسألة لم تجد لأهل الإسلام عقيدة لم يأت فيها إلا حديث حسن، بل إنك لا تجد عقيدة يقصر العلم بها على حديث صحيح فرد، فإن العقائد أبلغ من الأحكام وآكد، والديانة بها أخطر، فمن أجل ذلك لا يصح تصور أن يكون الشيء منها لم يرد فيه إلا خبر واحد فرد، لا يعلم له أصل من وجه آخر.
نعم، قد تجد في تفاريع بعض ما يتصل بالاعتقاد ما لم يرد فيه إلا الحديث الواحد الصحيح أو الحسن، لكن أصله محفوظ معروف، كتفاصيل سؤال القبر والشفاعة وصفة الميزان يوم القيامة، فإنك لا تجدها إلا مؤيدة لأصل معلوم من دين الإسلام: جاء به الكتاب، أو الصحيح المقطوع به من السنة، والجهل بتلك التفاريع أو عدم اعتقاد ثبوتها لا يقدح في دين الإنسان، ولعذر صاحبها بالتأويل مساغ، بخلاف الإيمان بأصولها في الجملة.
وتقدم أن بعض الحفاظ أدرجوا (الحسن) تحت مسمى (الصحيح) تغليباً، كما وقع الشيء منه في " الصحيحين "، وكما هو صنيع ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما ".
والتمييز بينهما في الإطلاق أدق، إذ فيه إبقاء للإشعار بطريق الوصول(2/894)
به إلى هذه المرتبة، كذلك فيه فائدة تمييز درجات الحفظ للنقلة، فلو أطلقنا عليه وصف (الصحة) فربما أوهم ذلك أن رواته رواة (الحديث الصحيح).
المسألة الثانية: درجات الصحة تتفاوت في القوة بحسب القرائن.
المقصود بهذا ملاحظة أن بعض الصحيح أصح من بعض، فرواية من وصف بأن (ثقة حافظ) فوق رواية من وصف بكونه (ثقة) فقط، والحديث يأتي من طريقين صحيحين أقوى من الحديث لا يأتي إلا من طريق واحدة صحيحة.
كما أن الحديث في الفقه يرويه الثقة الفقيه أعلى من الحديث يرويه ثقة غير فقيه.
وكذلك (الصحيح) فوق (الحسن).
و (الحسن) يرد من وجهين أو أكثر، كل وجه منهما قد اتفقت فيه شروط الحسن، يكون (صحيحاً لغيره)، فهذا فوق (الحسن لذاته).
المسألة الثالثة: هل صحة الإسناد توجب صحة الحديث؟
قلت: إذا قيل: (إسناد صحيح) وقصد القائل أنه استوفى جميع الشروط الأربعة المتقدمة فلا فرق بين ذلك وبين قوله: (حديث صحيح).
وكذلك إذا قيل: (إسناده حسن) بشروطه، فهو كالقول: (حديث حسن) .............
والواجب أن لا يقال لحديث: (إسناده صحيح) أو (حسن) إلا ويراد بذلك استيفاؤه جميع الشروط الموجبة لصحة الحديث، أو حسنه؛ لأن هذا اللفظ ينبغي أن لا يفهم إلا الثبوت.
قال الإمام شعبة بن الحجاج: " إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد " (1).
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 57) وإسناده جيد .......(2/895)
لكن في المتأخرين من لا يراعي ذلك، وكأنه كان يكتفي بتحقق الشروط الثلاثة الأولى فيحكم بصحة الإسناد وحسنه، فترى بعض ما يحكمون عليه بذلك لا يسلم من علة قادحة، كما وقع ذلك في صنيع الحاكم النيسابوري، وكثر مثله بعد الذهبي فالعراقي فابن حجر، وفي زماننا صار هذا النمط لا يحصى كثرة، فيحتاج قبول كثير من تلك الأحكام إلى احتياط شديد.
المسألة الرابعة: قولهم في الحديث: (رجاله ثقات) هل يعني الصحة؟
الجواب: ليست هذه العبارة حكماً من قائلها بصحة الحديث ولا حسنه.
وبين ابن القيم خطأ الحكم بصحة الحديث بناء على مجرد ثقة رواته، وذلك من وجهين، قال:
" أحدهما: أن ثقة الراوي شرط من شروط الصحة، وجزء من المقتضي لها، فلا يلزم من مجرد توثيقه الحكم بصحة الحديث.
يوضحه أن ثقة الراوي هي كونه صادقاً لا يتعمد الكذب، ولا يستحل تدليس ما يعلم أنه كذب باطل.
وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الراوي.
لكن بقي وصف الضبط والتحفظ، بحيث لا يعرف بالتغفيل وكثرة الغلط.
ثانيهما: أن لا يشذ عن الناس، فيروي ما يخالفه فيه من هو أوثق منه وأكبر، أو يروي ما لا يتابع عليه وليس ممن يحتمل ذلك منه، كالزهري، وعمرو بن دينار، وسعيد بن المسيب، ومالك، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، ونحوهم، فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه؛ للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط.(2/896)
فأما مثل سفيان بن حسين، وسعيد بن بشير، وجعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر، ونحوهم، فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه، فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأساً.
وأما إذا روى أحدهم ما يخالف الثقات فيه، فإنه يزداد وهناً على وهن.
فكيف تقدم رواية أمثال هؤلاء على رواية مثل مالك، والليث، ويونس، وعقيل، وشعيب، ومعمر، والأوزاعي، وسفيان، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأضرابهم، هذا مما يستريب من له معرفة بالحديث وعلله في بطلانه " (1).
المسألة الخامسة: عدد الحديث الصحيح.
باعتبار عد الروايات الحديثية في الكتب، فإن هذا ليس مما يمكن المصير إليه؛ وذلك من أجل انتشار طرق الحديث، فالكتب التي تجمع الأسانيد كثيرة جداً.
كذلك لتعذر ضبط قاعدة تنزل عليها جميع روايات الحديث، فيقال: هذا من الأسانيد مقبول فيعد، وهذا ليس بمقبول فلا يعد.
نعم، جاء عن متقدمي الأئمة أنهم كانوا يسمعون الأسانيد المتعددة للمتن الواحد أحاديث، فيما يحفظه أحدهم.
مثل قول البخاري: " أحفظ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح " (2).
وقال ابن حجر العسقلاني: " إذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ
_________
(1) الفروسية (ص: 73 _ 74).
(2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 226) _ ومن طريقه: الخليلي في " الإرشاد " (3/ 962) والخطيب في " تاريخه " (2/ 25) _ وإسناده مُحتمل .......(2/897)
جملة ما في كتابيهما بالمكرر هذا القدر (1)، فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ هذا القدر أيضاً أو يزيد، وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي لم يبلغ شرطهما لعله يبلغ هذا القدر أيضاً أو يقرب منه، فإذا انصاف إلى ذلك ما جاء من الصحابة والتابعين تمت العدة التي ذكر البخاري أنه يحفظها، بل ربما زادت على ذلك، فصحت دعوى ابن الأخرم: إن الذي يفوتهما من الحديث الصحيح قليل، يعني مما يبلغ شرطهما، بالنسبة إلى ما خرجاه " (2).
قلت: وهذا الذي جاء عن حفظ البخاري، ذكر عن غيره ما يشبهه أو يزيد عليه، كالذي قيل في مقدار حفظ أحمد بن حنبل، وأبي زرعة الرازي، لكنه جميعاً إخبار عن حفظ الواحد من هؤلاء الأئمة، لا عن مجموع أسانيد الحديث.
والشأن في كثرة الأحاديث المروية كما قال محمد بن أحمد بن جامع الرازي: سمعت أبا زرعة وقال له رجل: يا أبا زرعة، أليس يقال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال: " ومن قال ذا؟! قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله؟ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مئة ألف وأربعة عشرة ألفاً من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه " (3).
قلت: أما إذا قال القائل: يمكن ضبط السنن الصحيحة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالعدد، فهذا صحيح، فإن ذلك يقل خروجه عن الكتب الستة الأمهات، فإذا ضممت إليها " المسند " لأحمد بن حنبل، ندر من السنن ما يخرج عنها، وذلك النادر يمكن تتبعه من سائر كتب الحديث.
_________
(1) يعني على ما ذكره قبل هذا النص: أن عدة ما في البخاري بالمكرر (7275) حديثاً، وعدة ما في مسلم بالمكرر أيضاً (12000) حديثاً.
(2) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 297 _ 298).
(3) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1894) وتكلمت عن إسناده في (القسم الأول) عند الكلام عن الصحابة .......(2/898)
وما أمكن حصره أمكن عده، وإن لم يقم علماء الشأن بحده بعدد إلى اليوم.
المسألة السادسة: قولهم: (أصح شيء في الباب).
قولهم: (هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب) لا يعني صحة الحديث في نفسه، فيجوز أن يكون ضعيفاً، إنما قالوا: (أصح) مقارنة بغيره مما روى في نفس الباب.
ووقوع هذه العبارة أو معناها كثير في كلام المتقدمين (1).
المسألة السابعة: أصح الأسانيد.
اشتهرت عن بعض أئمة الحديث عبارة: (أصح الأسانيد فلان عن فلان).
وقد اختلفوا فيها اختلافاً واسعاً (2)، ثمرته: الترجيح عند الاختلاف.
والصواب فيه اختيار الحاكم: لا يمكن القطع لإسناد، بأنه أصح الأسانيد مطلقاً، إنما يمكن القول: أصح أسانيد ابن عمر كذا، وأصح أسانيد المدنيين، أو البصريين أو المصريين، كذا وكذا.
وسبب صحة هذا الاختيار: وجود التكافؤ في الصحة بين كثير من الأسانيد.
غير أن ما يوجد من تلك المقالات يفيد كثير منه _ كما تقدم _ للترجيح بين الثقات في حال الاختلاف في سند أو متن.
فلو اختلف مثلاً نافع ومجاهد عن ابن عمر في حديث، فإنا نستفيد
_________
(1) وانظر ما تقدم في (النقد الخفي _ الفصل الثالث _ المبحث الثالث _ المقدمة التاسعة).
(2) انظر معرفة علوم الحديث (ص: 53 _ 56).(2/899)
من قولهم: " أصح الأسانيد: نافع عن ابن عمر " في ترجيح نافع على مجاهد (1).
وتفصيل القول فيه يعرف من أحوال النقلة في كتب الجرح والتعديل.
المسألة الثامنة: قولهم: (حديث جيد) يعنون به الصحة، لكن المتأخرين ربما استعملوا في منزلة تردد بين الصحيح والحسن بعد التفريق الاصطلاحي.
وجرى استعماله في وصف الحديث في كلام المتقدمين قليلاً نادراً.
ومنه قولهم في الراوي: (جيد الحديث)، فهو في التحقيق يساوي قولهم: (صحيح الحديث)، وهذا تكرار في جماعة من الرواة.
وشبيه به قولهم: (هذا حديث قوي) , (إسناد قوي).
وليس في القسمة درجة بين (الصحيح) و (الحسن)؛ فلذا فإن هذين الاستعمالين يلحقان عندهم بـ (الصحيح).
وله أمثلة كثيرة في " الصحيحين " وغيرهما، وهو مثل أحاديث: عبد الملك بن عمير، وحماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وسماك بن حرب، وأبي بكر بن عياش.
المسألة التاسعة: أين يوجد الحديث الحسن؟
الحديث الحسن حيث إن مرجعه إلى رواة من درجة متوسطة في الحفظ، فإنك لا تكاد تجد كتاباً من كتب السنة يخلو منه، والتحقيق أن في " الصحيحين " بعض الأحاديث الحسنة، خصوصاً في أبواب الرقائق وشبهها،
_________
(1) وسبق مزيدٌ في فائدة هذه المسألة في (النقد الخفي _ الفصل الثالث _ المبحث الثالث _ المقدمة الثانية) .......(2/900)
مثل حديث فليح بن سليمان وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وزهير بن محمد التميمي وشبههم، فهؤلاء لا يمكن لحديثهم أن يرقى فوق (الحسن) لذاته، وروايتهم عند البخاري، ولبعضهم عند مسلم، كما روى مسلم لجماعة حديثهم لا يرقى فوق (الحسن) منهم: إبراهيم ين مهاجر البجلي، وأسامة بن زيد الليثي، وهشام بن سعد المدني.
وإطلاق اسم " الصحيح " على كتاب مسلم والبخاري فإنما هو باعتبار غلبة ذلك، أو لاندراج (الحسن) تحت (الصحيح) بجامع القبول وصحة الاحتجاج.
وأما في غير " الصحيحين " فيوجد كثيراً في " سنن أبي داود " و " جامع الترمذي " وفي طريقة الترمذي في الحكم بحسن كثير من الأحاديث ما يساعد في معرفة ذلك.
المسألة العاشرة: أوصاف للحديث تفيد القبول، لكنها ربما اندرجت تحت (الصحيح) أو تحت (الحسن)، وربما دلت على الضعف الصالح للاعتبار.
قولهم: (حديث ثابت " و (إسناد ثابت "، تدل على القبول: وهو إما صحيح وإما حسن.
وقولهم: (حديث معروف) ويقابل عندهم (المنكر)، وقد يعني كون الحديث صحيحاً أو حسناً أو في مرتبة ما يصلح للاعتبار، فلا يلزم منه القبول والاحتجاج .......
ويقولون: (حديث محفوظ) و (إسناد محفوظ) ويقابله (الشاذ)، وهذا لا يعني صحة الحديث أو حسنه، إنما هو حكم للراجح، وقد يكون الراجح ضعيفاً لذاته، كأن يختلف في إسناد وصلاً وإرسالا، فتكون الرواية المرسلة في المحفوظة، والمرسل ضعيفاً.(2/901)
ويقولون: (حديث صالح)، و (إسناد صالح)، وهذا قد يرادف الحسن، وقد يكون أدنى منه، فيكون المراد أنه صالح للاعتبار لا للاحتجاج.
ويقول بعضهم: (إسناده وسط)، فهذا بمنزلة (صالح)، إلا إن دلت قرينة على إرادة الحسن.
ويقول بعض المتأخرين في بعض الأسانيد: (هذا إسناد محتمل للتحسين)، فهذا لا يعني ثبوت الرواية، بل هو بمنزلة القول: (هذا إسناد لين) أو (ليس بالقوي)، أو (ليس بذلك)، وهذه من أوصاف (الحديث الضعيف).
المسألة الحادية عشرة: استدلال العالم بحديث، هل يعني تصحيحه له؟
يفرق بين العلماء في هذا من جهة المعرفة بصحيح الحديث وسقيمه:
فإذا رأيت الفقيه الذي لا خبرة له بذلك يستدل بحديث، فهذا لا يحتج باستدلاله بذلك الحديث على كونه صحيحاً عنده، ولا يقنع حسن الظن في الجملة لتمشية مثل ذلك، فالواقع شاهد أن هذا الصنف من العلماء استدلوا بكثير من الحديث المردود.
أما إذا كان الفقيه محدثاً عارفاً بالصحيح والسقيم، فاستعماله لحديث أو استدلاله به حكم منه بصحته أو حسنه، لكن بشرط أن يكون ذلك الحديث هو الدليل الواحد عنده لتلك المسألة؛ إذ لو ضم إليه سواه فربما كان ذكره له على سبيل الاستشهاد والاستئناس، لا الاحتجاج، فتأمل!
* * *(2/902)
الباب الثاني
الحديث المردود(2/903)
مدخل
الحديث المردود من حيث الجملة، هو الحديث الضعيف.
وتعريفه: من الضعف المقابل للقوة.
والمراد به هنا: الحديث الذي فقد شرطاً فأكثر من شروط الحديث المقبول.
والضعف درجات عديدة: أدناها ما يكون بسبب الانقطاع، أو خطأ الراوي، وأشدها ما كان بكذبه .......
ويقال أيضاً: الضعف نوعان: ضعف يمكن جبره، وضعف لا ينجبر، على ما يأتي بيانه.
وعليه فتندرج تحته ألقاب كثيرة منقسمة في الجملة إلى قسمين بحسب ما يعود إليه سبب الضعف:
الأول: ما يرجع إلى عدم الاتصال، وتندرج تحته ألقاب للحديث الضعيف، هي:
المعلق، المنقطع، المعضل، المرسل، المدلس.
الثاني: ما يرجع إلى الجرح القادح في الراوي، وتندرج تحته عدة ألقاب، هي:
المجهول، اللين، المقلوب، المصحف، المدرج، الشاذ المعلل، المضطرب، المنكر، الموضوع.(2/905)
وليس يخلو حديث ضعيف من أن يكون معللاً بواحد من هذه الأوصاف، وهي منبئة عن تفاوت الضعف، بين الضعف اليسير المحتمل، والشديد الذي لا ينجبر.
وإطلاق لقب (حديث ضعيف) صالح أن يكون لأي من السببين، وإن كان يوهم خفة الضعف أحياناً، فيشكل إطلاقه على (المنكر) و (الموضوع) مثلاً.
وتقدم ذكر (المعلق) ومعناه في شرح (الحديث الصحيح).
وسائر الألقاب يأتي بيانها في الفصلين التاليين.
* * *(2/906)
الفصل الأول
ألقاب الحديث الضعيف
بسبب عدم الاتصال(2/907)
المبحث الأول
الحديث المنقطع
معناه اللغوي يستوعب ما ليس باتصال، في أي محل كان ذلك في الإسناد، لكنه كلقب خاص في هذا العلم، ينبغي حصره في صورتين:
الصورة الأولى: حديث الراوي عمن لم يسمع منه، في أي موضع في الإسناد دون الصحابي، ويقع في محل أو أكثر.
وقال الحاكم: " أن يكون في الإسناد رواية راو لم يسمع من الذي يروي عنه الحديث، قبل الوصول إلى التابعي الذي هو موضع الإرسال " (1).
قلت: ولو قال: (قبل الوصول إلى الصحابي) لكان أصح.
وتعريف الحاكم على أي حال أولى من التعريف الذي ذكره الخطيب فقال: " هذه العبارة تستعمل غالباً في رواية من دون التابعي عن الصحابة " (2).
قلت: وهذا صحيح، لكنه قاصر، فصورة الانقطاع فيما بين تبع أتباع التابعين والتابعين مثلاً لا تندرج في هذا، وكذلك الانقطاع في طبقة دونها.
_________
(1) معرفة علوم الحديث (ص: 28).
(2) الكفاية (ص: 58) .......(2/909)
فإن سقط راو فهو منقطع في موضع، وإن سقط أكثر من راو غير متواليين فهو منقطع في موضعين أو أكثر.
مثال سقط راو واحد من الإسناد:
ما أخرجه الإمام أبو داود (1)، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، قال: حدثني أبو مجلز، عن حذيفة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة.
أبان هو ابن يزيد العطار، ولم ينفرد بهذا الحديث عن قتادة، بل تابعه شعبة بن الحجاج، عند الإمام أحمد (2) وغيره.
وليس في رجال هذا الإسناد أحد غير ثقة، بل كلهم ثقات، والاتصال صريح فيه إلى أبي مجلز، واسمه لاحق بن حميد، أما بينه وبين حذيفة وهو ابن اليمان فليس بمتصل، فإن شعبة قال بعد روايته: " لم يدرك أبو مجلز حذيفة "، وحيث إن أبا مجلز هذا تابعي لقي بعض الصحابة، فإن أقصى ما يتصور من السقط بينه وبين حذيفة لا يعدو أن يكون رجلاً واحداً، هذا على اعتبار الأغلب.
هذه الصورة من الانقطاع كثيرة شائعة، خصوصاً فيما بين التابعين والصحابة الذين لم يسمعوا منهم.
مثال الانقطاع في موضعين:
قال الإمام الترمذي (3): حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الحجاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، قالت:
فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فخرجت فإذا هو بالبقيع، فقال: " أكنت
_________
(1) في " سننه " (رقم: 4826).
(2) في " مسنده " (5/ 384، 398، 401).
(3) في " جامعه " (رقم: 739) .......(2/910)
تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ " قلت: يا رسول الله، إني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: " إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب ".
قال الترمذي: " حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمداً _ يعني البخاري _ يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطاة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير ".
وهذا المثال وهو سقوط ما يزيد على راو سقطاً غير متوال قليل نادر الورود إذا قارنته بسقط واحد.
الصورة الثانية: أن يكون بدل السقط إبهام لراو، كأن يقال: (عن رجل) أو (عن شيخ).
فهذا وإن ذكر كواسطة، إلا أنها لإبهامها أشبهت الانقطاع؛ للتساوي في جهالة الراوي عيناً وحالاً، وصح اندراجها تحت مسمى (المنقطع) في التحقيق (1).
ويشبه هذه الصورة: الانقطاع في قول الراوي: (حدثت عن فلان) و (أخبرت عن فلان) وشبهه.
مثالها: قال أبو داود (2): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، عن سهيل، عن رجل، عن أبي هريرة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته، فقال: " أخذنا فألك من فيك ".
قلت: هذا إسناد منقطع بين سهيل، وهو ابن أبي صالح، وأبي هريرة.
_________
(1) معرفة علوم الحديث (ص: 27).
(2) في " سننه " (رقم " 3917).(2/911)
تنبيه:
تيقظ إلى أنك ربما وجدت في عبارة متقدم إطلاق لقب (المنقطع) يعني به (المقطوع) الذي هو الخبر عن التابعي لا يجاوزه، فقد ذكر ذلك الخطيب عن بعض أهل الحديث (1)، كما وجد في كلام بعضهم إطلاق (المقطوع) على (المنقطع)، وتبينه بالقرينة.
سبب إبهام الراوي:
وهذا المبهم وما في معناه ربما كان ثقة، وربما كان مجروحاً، لكن يقال: لو كان ثقة معلوم القدر والمنزلة مقبول الأمر عند من سمع بذكره لما أبهمه الراوي عنه، ففي تصرفه ما يشعر بكونه ليس بثقة.
قال الخطيب: " قل من يروي عن شيخ فلا يسميه، بل يكني عنه، إلا لضعفه وسوء حاله " (2).
وقال يحيى بن سعيد القطان: سمعت سفيان (يعني الثوري) يقول: حدثني من رأى إبراهيم يرفع يديه تحت الكساء في الصلاة. فجعلت أسأله عن اسم الرجل، فيمطلني به ثم قال لي يوماً حين أضجرته: حدثني أبو الصباح سليمان بن قسيم. قال يحيى: وأخطأ في اسمه، يريد سليمان بن يسير. قال يحيى: وإنما مطلني به؛ لأنه قد علم أني لا أرضاه (3).
قلت: وربما كان المبهم من المتروكين الهلكى.
كما قال علي بن المديني: " كل ما في كتاب ابن جريج: أخبرت عن داود بن الحصين، وأخبرت عن صالح مولى التوأمة، فهو من كتب إبراهيم بن أبي يحيى " (4).
_________
(1) الكفاية (ص: 59).
(2) الكفاية (ص: 532) .......
(3) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل (النص: 4973) وإسناده صحيح إلى يحيى بن سعيد.
(4) أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 107) وإسناده صحيح.(2/912)
قلت: وإبراهيم هذا متروك ليس بثقة.
نعم، ربما أبهم الراوي شيخه لكونه حدث عنه في حياته، أو لكونه من أقرانه أو أصغر منه، كما في أسباب التدليس.
حدث أبو إسحاق الفزاري بحديث فقال فيه: عن رجل من أهل الشام، عن أبي عثمان، عن أبي خداش، فقال أبو حاتم الرازي: " هذا الرجل من أهل الشام هو عندي بقية، وأبو عثمان هو عندي حريز بن عثمان "، وقال في سبب إبهام بقية: " وإنما لم يسمه أبو إسحاق؛ لأنه كان حيا في ذلك الوقت " (1).
قلت: كانا قرينين، ومات أبو إسحاق قبل بقية.
كيف يثبت الانقطاع؟
الصورة الثانية من الانقطاع ظاهرة، فإبهام راو في الإسناد علامة صريحة فيه.
وإنما تحتاج الصورة الأولى إلى طريق تميز بها، وجملة الطرق التي يستعان بها لمعرفة ذلك خمسة:
الأول: التنصيص على عدم السماع.
ويقع:
تارة من الراوي نفسه، وهو قليل، كقول عمرو بن مرة: قلت لأبي عبيدة (يعني ابن عبد الله بن مسعود): تذكر من أبيك شيئاً؟ قال: " لا " (2).
_________
(1) نقله ابنه في " علل الحديث " (رقم: 965).
(2) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 456) وابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 256) وإسناده صحيح.(2/913)
وتارة بتنصيص من روى عنه من الثقات، وهو قليل أيضاً، كقول عبد الملك بن ميسرة: " الضحاك لم يسمع من ابن عباس " (1).
ومثل ما وقع من سليمان التيمي حين حدث عن أبي مجلز، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الركعة الأولى من صلاة الظهر، فرأى أصحابه أنه قد قرأ (تنزيل السجدة)، قال سليمان: " ولم أسمعه من أبي مجلز " (2).
وتارة بتنصيص الناقد العارف، بناء على الاستقراء والنظر، على عدم الإدراك، أو اللقاء، أو السماع، بقوله مثلاً: (فلان لم يدرك فلاناً، لم يلق فلاناً، لم يسمع فلاناً، عن فلان مرسل).
كقول علي بن المديني: " لم يسمع أبو قلابة من هشام بن عامر، وروى عنه، ولم يسمع من سمرة بن جندب " (3).
وهذا كثير، واعتنى به أئمة الجرح والتعديل، وفيه كتب مصنفة، من أنفعها: " المراسيل " لابن أبي حاتم الرازي، و" جامع التحصيل في أحكام المراسيل " للحافظ صلاح الدين العلائي، كما يوجد ذكر ذلك في كتب تراجم الرجال.
وقد يختلف فيه بين النقاد، فيحرر الراجح بأصوله.
والثانية: معرفة التاريخ.
والمقصود تمييز تاريخ وفاة الشيخ، ومولد التلميذ، فإن كان التلميذ لم يولد بعد يوم مات الشيخ، أو كان صغيراً في سن لا يحتمل السماع، فهو انقطاع.
وهذا طريق سلكه النقاد الكبار في معرفة الاتصال والانقطاع في الأسانيد، واستدلوا به كثيرا ً.
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 95) وإسناده صحيح .......
(2) أخرجه أحمد في " مسنده " (رقم: 5556).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 109) وإسناده صحيح.(2/914)
والعلم بالتاريخ قد يكون صريحاً بتحديد السنين، وقد يكون بالقرائن المساعدة على ذلك.
فمثاله فيما هو صريح: عبد الرحمن بن أبي ليلى، من كبار التابعين، وقد روى عن أبي بكر الصديق، ومات أبو بكر سنة (113)، وقال ابن أبي ليلى: " ولدت لست بقين من خلافة عمر " (1). فروايته عنه بهذا الاعتبار منقطعة جزماً.
ومثل رواية محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، عن عمر بن الخطاب، فإن أبا حاتم الرازي قال: " ولد لثلاث بقين من خلافة عمر " (2)، فروايته عنه منقطعة؛ لصغره.
وقد يتحمل الصغير شيئاً عمن أدرك، كأن يذكر أنه رآه، ثم يروي عنه ما لم يكن يحتمله سنه من الحديث، فهذا منقطع فيما رواه عن ذلك الشيخ سوى ما جاء عنه من ذلك اليسير في رؤيته أو شبهه، وأدنى درجاته أنه قامت فيه شبهة الانقطاع.
وذلك مثل رواية إبراهيم النخغي عن عائشة أم المؤمنين فإنه أدخل عليها وهو صبي صغير، كما قاله يحيى بن معين (3) وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي (4) وثبتت الرواية عنه بذلك (5).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل " (ص: 126) وإسناده صحيح.
(2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 26) .......
(3) تاريخ يحيى بن معين (النص: 2373).
(4) المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 9، 10).
(5) فقد أخرج البخاري في " التاريخ " (1/ 1 / 334) وابن حبان في " الثقات (4/ 9) من طريق أبي معشر، أن النخعي حدثهم، أنه دخل على عائشة، فرأى عليها ثوباً أحمر، فقال له أيوب: كيف دخل على عائشة؟ قال: كان يحج مع عمه وخاله وهو غلام، فدخل عليها. قلت: وأبو معشر اسمه زياد بن كليب ثقة، وأيوب المذكور هو السختياني.(2/915)
ومثاله فيما عرفنا فيه الانقطاع بعدم الإدراك بالقرينة، رواية عبدة بن أبي لبابة عن عمر بن الخطاب، فإن أكثر روايته عن التابعين من أصحاب عبد الله بن مسعود، كأبي وائل شقيق بن سلمة، وزر بن حبيش، ومن دونهم كمجاهد بن جبر، والقاسم بن مخيمرة، ورأى عبد الله بن عمر بالشام (1)، وهل يصح سماعه منه؟ أثبته بعض الأئمة كالبخاري (2)، وظاهر عبارة أبي حاتم الرازي أنه لم يكن له نصيب من ابن عمر غير الرؤية، فإنه قال: " رأى ابن عمر رؤية " (3)، فإذا كان هذا شأنه، فأنى له أن يدرك عمر؟
_________
(1) نص على ذلك أحمد بن حنبل في رواية الميموني عنه، نقله ابن عساكر في " تاريخه " (37/ 384) والمزي في " التهذيب " (18/ 543).
(2) التاريخ الكبير (3/ 2 / 114)، ويبدو أنُّ مستند إثبات السماع ما أخرجه الفاكهي في " أخبار مكة " (رقم: 870) من طريق عثمان بن ساج. وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 371) وابن الأعرابي في " معجمه " (رقم: 1498) وابن عساكر في " تاريخه " (7/ 276 و (37/ 381) من طريق سلمة بن عبد الملك العوصي. كلاهما عن إبراهيم بن يزيد، عن عبدة بن أبي لبابة، قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تابعوا بين الحج والعمرة، والذي نفسي بيده إنَّ متابعتهما لتنفي الفقر والذنوب عن العبد كما ينفي الكير خبث الحديد ".
قلت: وإسناده ضعيف جداً، إبراهيم هو ابن يزيد الخوزي، واه متروك الحديث، وليس هو ابن يزيد النصري الشامي، خلافاً لما حسبه ابن عساكر من أجل رواية العوصي عنه وهو شامي، فإنه روى عن العراقيين، وحديث الخوزي أيضا وقع للعراقين، وأما النصري فلا يوجد فيما جاءنا من ترجمته ما يساعد على اعتباره المقصود هنا، بل هو لعدم شهرته كان يحتاج إلى تمييزه بالنسبة، فحيث أُهمل ولم تقو القرائن في ترجيحه فلم يصح أن يحمل الحديث على أنه له، بل قويت وترجحت القرائن في كون المقصود هو الخوزي، فابن ساج هو عثمان بن عمرو بن ساج جزري حديثه عن الحجازيين وأهل بلده، والخوزي مكي، وزاد تأكيداً أنّ للحديث أصلاً من حديث الخوزي، كما أخرجه من طريقه الفاكهي (رقم: 869) وابن عدي، يرويه بإسنادٍ آخر عن ابن عمر.
نعم، له أصل من رواية عبدة بن أبي لبابة، لكن من غير حديث ابن عمر، كما بين قصته الدارقطني في " العلل " (2/ 130 ـ 131).
(3) جامع التحصيل، للعلائي (ص: 282)، والعبارة في " المراسيل " لابن أبي حاتم (ص: 136) لكن سقطت منها كلمة (ابن)، وهو خطأ جزماً.(2/916)
والثالثة: مجيء الرواية بصيغة تدل على وجود واسطة بين الراوي ومن فوقه.
كقول الراوي: (حدثت عن فلان) أو ما في معناها، وهذا بين في الانقطاع من أجل البناء للمجهول، وأمثلته واردة في الأسانيد بنسبة غير قليلة.
كقول يحيى بن أبي كثير: حدثت عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيت قال: " أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار " (1).
والرابعة: أن يقوم دليل على أن رواية فلان عن فلان بواسطة بينهما، فإذا وجدت دون الواسطة فهي منقطعة، وهذه لها صورتان:
أولاهما: أن لا يأتي الإسناد بين الراويين دائماً إلا معنعناً، ويوقف على أن التلميذ ربما أدخل بينه وبين ذلك الشيخ واسطة.
مثل: رواية سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يذكر في شيء من روايته سماعاً من ثوبان، وغالب ما يرويه من حديث ثوبان يدخل بينه وبينه فيه معدان بن أبي طلحة.
ولذا قال أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي: " لم يسمع من ثوبان، بينهما معدان بن أبي طلحة " (2).
وثانيهما: أن يروى الحديث المعين مثلاً عن (زيد عن عمرو)، ويوقف على روايته عن زيد بواسطة عن عمرو، ولا يدل دليل على أن
_________
(1) أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (298) و " الكبرى " (رقم: 6902) من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشام الدستوائي، عن يحيى، به.
وقد رواه بعض أصحاب هشام عنه عن يحيى عن أنس، فبينت هذه الرواية علته .......
(2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 80).(2/917)
الحديث وقع لزيد من الوجهين، فيكون ما بين زيد وعمرو منقطعاً في ذلك الحديث خاصة.
وقد نعت النقاد أحاديث بالانقطاع، لمثل هذه العلة.
مثاله في أسانيد الأحاديث المروية: ما أخرجه البخاري (1)، قال: حدثنا قيس بن حفص، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الحسن بن عمرو، حدثنا مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً ".
عبد الواحد هذا هو ابن زياد، ثقة.
وافقه على رواية الحديث مروان بن معاوية الفزاري، لكنه قال: حدثنا الحسن بن عمرو، عن مجاهد، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبد الله بن عمرو، بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (2).
فتلاحظ أن مروان حفظ واسطة بين مجاهد وعبد الله بن عمرو، ومروان ثقة حافظ، فنظر الحفاظ فوجدوا أن مجاهداً لم يقل: (سمعت عبد الله) وإنما قال: (عن)، ورواية مروان ههنا دلت على الانقطاع بينه وبينه، عرف ذلك بالبحث في طرق الحديث.
وقد رجح الحافظ الدارقطني الانقطاع في رواية البخاري، وأن الصواب كما جاء في رواية النسائي (3).
نعم؛ مجاهد لم يعرف بالتدليس، وقد ثبت أنه سمع غير هذا الحديث
_________
(1) في " صحيحه " (رقم: 2995، 6516).
(2) أخرجه النسائي (رقم: 4750).
(3) ذكر ذلك في كتاب " التتبع " (ص: 213) .......(2/918)
من عبد الله بن عمرو، ولولا ما بدا من علة في إسناده الأول لكان إسناداً صحيحاً، وإن كانت هذه صورة مطابقة لمعنى (التدليس) كما سيأتي.
والخامسة: افتراق بلد الراوي وشيخه بما يكون قرينة على عدم التلاقي.
قال أبو زرعة الدمشقي: سألت أحمد بن حنبل عن حديث سعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة: " كل ما ردت عليك قوسك "، رواه ضمرة عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن أبي ثعلبة؟ فقال: " ما لسعيد بن المسيب وأبي ثعلبة؟ "، قلت له: أتخاف أن لا يكون له أصل؟ قال: " نعم " (1).
قلت: يريد لا تعرف لابن المسيب رواية عن أبي ثعلبة، لا لعدم الإدراك؛ وإنما لافتراق البلد، سعيد مدني، وأبو ثعلبة شامي، وحديثه في الشام.
* * *
_________
(1) تاريخ أبي زرعة (1/ 459). ومن طريق ضمرة وهو ابن ربيعة، أخرجه ابن ماجة (رقم: 3211).
وذكره الدارقطني في " العلل " (6/ 318 ـ 319) وقال: " يرويه الأوزاعي، واختلف عنه، فرواه ضمرة .. " فساق روايته، ثم قال: " وغيره يرويه عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن أبي ثعلبة مرسلاً والمرسل أصح ".
قلت: وهذا في تضعيف هذا الطريق موافق لقول أحمد، وإنما نفيَ أحمد أن يكون له أصل من حديث سعيد عن أبي ثعلبة، لعدم اللقاء، فلا تعرف له عنه رواية، ولم يرد أن ينفي للحديث أصلاً عن أبي ثعلبة، فهو معروف للشاميين بأسانيدهم.(2/919)
المبحث الثاني:
الحديث المعضل
معناه لغة من قولك: (أعضل الأمر) إذا اشتد واستغلق.
وأما في الاصطلاح، فقد أريد به صورة من صور السقط في الإسناد، على ما يأتي تحريره.
ولم يكن إطلاق هذا الوصف (الحديث المعضل) بهذا المعنى شائعاً عند المتقدمين، وإنما كان هذا عندهم مندرجاً تحت المنقطع أو المرسل بعموم معناهما.
وقد استعمل المتقدمون (المعضل) وصفاً للمنكر والموضوع من الحديث، كما بينته في (شرح عبارات الجرح والتعديل).
أما بمعناه المتأخر كصورة من صور السقط في الإسناد، فقد وجدت الحاكم النيسابوري (1) أقدم من أصل لهذا النوع من علوم الحديث، وقسمه إلى قسمين:
الأول: ما أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم من دون التابعي، فيكون قدر السقط منه أكثر من واحد.
_________
(1) في " معرفة علوم الحديث " (ص: 36 ـ 37).(2/920)
ونقل هذا التعريف عن الإمام علي بن المديني، فمن بعده من الأئمة (1).
والثاني: قول الراوي من أتباع التابعين الموقوف عليه، يوجد نفس ذلك القول من غير طريقه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإدراج هذا تحت مسمى (الإعضال) توسعٌ، لم أجد من سبق الحاكم إليه، والعالم قد يحدث بالشيء من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسنده عن أحد، وذلك في مقام الاستشهاد، ولم يزل العلماء يفعلون ذلك.
أما القسم الأول فهو مراد بتعريف هذا اللقب عند بعض السابقين من العلماء.
قال الخطيب: " أما ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمونه: المعضل، وهو أخفض رتبة من المرسل " (2).
وكذلك هو عند المتأخرين، لكن تعريفه عندهم أشمل من هذا، فهو: ما سقط من إسناده راويان فأكثر على سبيل التوالي.
وصورته: أن يروي مالك حديثاً يقول فيه: عن عمر بن الخطاب، وهو إنما وصل إليه بواسطة (نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر)، فأسقط نافعاً وعبد الله، وربما بلغه عن (الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه جده عمر) فأسقط ثلاثة على نسق، وجعله عن عمر.
_________
(1) وجدت فيما ظاهره أنه من كلام أبي داود السجستاني في موضع من " سننه " عقب حديث (رقم: 266) في كفارة من أتى امرأته وهي حائض قوله في رواية: " وهذا مَعضل "، بما يتفق في معناه مع ما ذكره الحاكم هنا عن ابن المديني، لكني لم أتوثَّق من صحة نِسبةِ هذه اللفظة لأبي داود، وانظر تعليق العلامة المحقق محمد عوامة على " السنن " (رقم: 270) .......
(2) الكفاية (ص: 58).(2/921)
ومناسبة هذا الاصطلاح للمعنى اللغوي للإعضال، كما قال العلائي: " يكون الراوي له بإسقاط رجلين منه فأكثر، قد ضيق المجال على من يؤديه إليه، وحال بينه وبين معرفة رواته بالتعديل أو الجرح، وشدد عليه الحال " (1).
ومثاله: ما أخرجه الحافظ أبو محمد الدارمي (2)، قال: أخبرنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ".
إسناد هذا الحديث من الدارمي إلى ابن أبي جعفر ليس له علة، لكن ابن أبي جعفر هذا من طبقة أتباع التابعين، ومن كان كذلك فأدنى ما يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجلان، فأسقط الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط بذلك الحديث.
طريق معرفة المعضل:
يعرف الإعضال في الإسناد بما يلي:
أولاً: التاريخ، وذلك ببعد طبقة الراوي عن طبقة شيخه، بحيث إنه لو روى حديثاً من طريق ذلك الشيخ كان بينهما راويان على أقل تقدير.
ثانياً: دلالة السبر لطرق الحديث، كنحو الذي تقدم في الانقطاع، لكن ثبوت الإعضال بهذا الطريق قليل نادر.
* * *
_________
(1) جامع التحصيل (ص: 16).
(2) في " مُسنده " المسمى بـ " السنن " (رقم: 157) .......(2/922)
المبحث الثالث:
الحديث المرسل
تعريف الحديث المرسل:
لغة: من (أرسلت الشيء) إذا أطلقته.
قال العلائي: " فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف " (1).
واصطلاحاً: هو الحديث الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا يذكر له إسناداً بذلك.
هذا هو المحرر في معناه الاصطلاحي بعد استقراره، ويسمى بـ (الإرسال الظاهر) لظهوره، ويقابله (الخفي) وسيأتي.
والمعتبر في (المرسل) روية التابعي الذي له سماع من صحابي فأكثر، يقول: (قال _ أو: فعل _ النبي صلى الله عليه وسلم).
ويجب التنبه هنا لثلاث صور يقع فيها الالتباس:
الصورة الأولى: تدخل في (المرسل)، وظاهرها الاتصال، وهي رواية من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً.
_________
(1) جامع التحصيل (ص: 14)، وقد ذكروا في المناسبة بين اللغة والاصْطلاح غير هذا الوجْه، لكن هذا أحسنها.(2/923)
فهذا له شرف الصحبة لا حكمها في الرواية، فحديثه من قبيل المرسل، ولا يعد متصلاً، لكنه بمنزلة روايات كبار التابعين.
مثل: جعدة بن هبيرة المخزومي، أمه أم هانئ بنت أبي طالب، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وله رؤية، ثبت له بها شرف الصحبة؛ ولذا حكم بصحبته بعض أهل العلم، وراعى آخرون عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فحكموا بتابعيته، وهذا ينبئك عن سبب اختلافهم.
فالتحقيق أنه صحابي، لكن لحديثه حكم روايات التابعين؛ لأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً.
قال يحيى بن معين: " لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم " (1)، وقال أبو عبيد الآجري لأبي داود: جعدة بن هبيرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم " (2).
والصورة الثانية: ظاهرها الإرسال، وهي معضلة، وهي رواية من له رؤية لبعض الصحابة ولم يسمع من أحد منهم، فهذا يثبت له شرف التابعية لا أحكامها.
وعليه، فروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم معضلة، وروايته عن الصحابة منقطعة.
وذلك كروايات إبراهيم النخغي أو الأعمش عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حاتم الرازي: " لم يلق إبراهيم النخعي أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إلا عائشة، ولم يسمع منها شيئاً، فإنه دخل عليها وهو صغير، وأدرك أنساً ولم يسمع منه " (3).
وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود (يعني السجستاني) يقول:
_________
(1) تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 186).
(2) سؤالات الآجري (النص: 1746) .......
(3) المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 9).(2/924)
" لم يسمع الأعمش من واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أنس؟
قال: " ولا كلمة، إنما رأى أنساً، ولم ير ابن أبي أوفى، ولا سمع منه " (1).
والصورة الثالثة: من يروي من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، على ما بلغه عنه في حياته، ولم تثبت له صحبة.
فهذا وإن أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي، وحديثه مرسل؛ لتعين بلوغ الحديث له بالواسطة، وهي مجهولة.
وليس لدينا مثال في الواقع يصلح للاستدلال به لهذا يسلم من علة، وإنما ذكرته لجوازه على من يقبل بعض ما روي بهذا الطريق.
نقد تعريفات المرسل:
قال الحاكم: " هو قول الإمام التابعي أو تابع التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن أو قرنان، ولا يذكر سماعه فيه من الذي سمعه " (2).
قلت: هذا التعريف ليس اختيار الحاكم، وإنما بين أنه اختيار الفقهاء من أهل الكوفة، أما عنده فالمرسل هو: " الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي، فيقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (3).
وقال الخطيب: " المرسل: ما انقطع إسناده، بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم " (4).
قلت: وعلى هذا يندرج في (المرسل) كذلك (المنقطع) بتعريفه
_________
(1) سؤالات الآجري (النص: 369).
(2) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43).
(3) معرفة علوم الحديث (ص: 25، 26).
(4) الكفاية (ص: 58) .......(2/925)
الاصطلاحي، ولذلك قال الخطيب: " والمنقطع مثل المرسل " (1)، بينما يتميزان باختيار ما جرى عليه الاستعمال في معنى المرسل.
أما التعريف الأول الذي ذكره الحاكم عن فقهاء الكوفة، فإنه دخل فيه ما اصطلح عليه بالإسناد (المعضل)، فليس بحاصر للمعنى الخاص للإرسال.
قال الخطيب: " أما ما رواه تابع التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمونه: المعضل، وهو أخفض رتبة من المرسل " (2).
وعلى حصر (المرسل) فيما يرويه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء تعريف ابن عبد البر عن أهل العلم، وهو الأدق والموافق لما اخترناه، قال: " هذا الاسم أوقعوه لإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم "، ومثَّل بجماعة، ثم قال: " وكذلك من دون هؤلاء " ومثَّل بآخرين، ثم قال: " ومن كان مثلهم من سائر التابعين الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم، فهذا المرسل عند أهل العلم " (3).
أما ما يرسله صغار التابعين، كمن لم يلق من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر رواياتهم عن التابعين، فذكر عن طائفة أنه (منقطع) (4).
مثال المرسل:
قال أبو داود (5): حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا كثير بن هشام، عن عمر بن سليم الباهلي، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
_________
(1) الكفاية (ص: 58).
(2) الكفاية (ص: 58).
(3) التمهيد (1/ 19، 20).
(4) التمهيد (1/ 21).
(5) في كتاب " المراسيل " (رقم: 105) .......(2/926)
" حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع ".
إسناد هذا الحديث حسن إلى الحسن، وهو البصري الإمام من سادة التابعين، لكنه أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عمن حمله، فهو ضعيف من جهة إرساله.
طريق تمييز المرسل:
يثبت كون الحديث مرسلاً بمجرد أن يعلم أن الذي حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم تابعي، وتمييز التابعين من غيرهم يعرف من كتب رجال الحديث.
* * *(2/927)
المبحث الرابع:
مسائل في الانقطاع والإرسال
المسألة الأولى: تداخلُ استعمال مصطلح (المنقطع) في (المرسل) عند السلف:
قبل تميز الاصطلاح الفاصل بين (المنقطع) و (المرسل) في زمن المتقدمين غلب عندهم استعمال لفظ (المرسل) في كل منقطع، مما يوجب التيقظ عند النظر في عباراتهم.
ومثال ذلك: ما أخرجه أبو داود (1) من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة:
أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.
قال أبو داود بعده: " هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة ".
قلت: وهذا في الاصطلاح منقطع.
ومن هذا قولهم: (فلان يرسل)، و: (كثير الإرسال)، يعنون روى عمن لم يسمع منه.
_________
(1) في " سننه " (رقم: 4104) .......(2/928)
المسألة الثانية: المفاضلة بين المراسيل.
مراسيل التابعين متفاوتة في القوة بحسب قدم التابعي المرسل وكبره، أو صغره.
وتصور ذلك بتقسيم التابعين إلى طبقات ثلاث بحسب من لقوا وسمعوا منه من الصحابة:
الطبقة الأولى: كبار التابعين، وهم الذين أدركوا كبار الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود ومعاذ بن جبل، وجُل أو أكثر رواياتهم إذا سموا شيوخهم عن الصحابة.
وهؤلاء مثل: قيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع.
ويندرج في جملتهم من يطلق عليه اسم (المخضرمين)، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة، مثل: سويد بن غفلة، وعمرو بن ميمون الأودي، وأبي رجاء العطاردي، وغيرهم.
فمراسيل هذه الطبقة تقرب من المتصل.
الطبقة الثانية: أوساط التابعين، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب، ومن بقي حيا إلى عهده وبعيده من الصحابة، كحذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري، وأبي أيوب الأنصاري، وعمران بن حصين، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، ووقع سماعهم من بعضهم.
ومثال هؤلاء التابعين: الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس اليماني، والقاسم بن محمد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعامر الشعبي، ومجاهد بن جبر.(2/929)
فمراسيل هذه الطبقة صالحة تكتب ويعتبر بها.
الطبقة الثالثة: صغار التابعين، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة في الأمصار، الواحد والاثنين والعدد اليسير، كمن سمع من أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي أمامة الباهلي.
وهؤلاء مثل: ابن شهاب الزهري، وقتادة بن دعامة السدوسي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وحميد الطويل، وشبههم.
فمراسيل هذه الطبقة ألصق بالمعضل منها بالمراسل، من أجل أن أكثر حديثهم حملوه عن التابعين، فإذا أرسل أحدهم فالمظنة الغالبة أن يكون أسقط من الإسناد رجلين فأكثر.
ولنقاد المحدثين نزاع في تقوية بعض المراسيل وتضعيف بعضها، وذلك تارة من جهة التسهيل في الاعتبار بها، لا من جهة كونها صحيحة صحة المتصل، وتارة: من أجل أن الاستقراء لتلك المراسيل دل على أنها محفوظة من وجوه ثابتة.
وفي الحالتين جميعاً ما يدل على أن المرسل ضعيف لذاته لنقص شرط الاتصال في الرواية، وإنما يكتسب القوة بسبب خارجي.
وهذه أمثلة من أقوالهم في طائفة من أئمة التابعين مختلفي الطبقات، تحرر ذلك إن شاء الله:
القول في مراسيل سعيد بن المسيب:
قال أحمد بن حنبل: " مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات " (1)، وقال: " مرسلات سعيد بن المسيب صحاح، لا نرى أصح من مرسلاته " (2).
_________
(1) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 571) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه البيهقي في " الكبرى " (6/ 42) وإسناده صحيح .......(2/930)
وقال يحيى بن معين: " مرسلات سعيد بن المسيب أحسن من مرسلات الحسن " (1)، وقال: " أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب " (2).
قلت: أحسن المراسيل عندهم مراسيل ابن المسيب، وما ذلك من جهة صحة آحادها لذاتها، وإنما الشأن كما قال الحاكم: " تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله، فوجدوها بإسانيد صحيحة " (3).
وهل اتفقوا على تسليم ما استخلصوه بالاستقراء؟
لا، فهذا علي بن المديني يقول: قلت ليحيى بن سعيد: سعيد بن المسيب عن أبي بكر؟ قال: " ذلك شبه الريح " (4).
فهذا إمام النقاد يحيى بن سعيد القطان يضعف مرسل سعيد عن أبي بكر، فكيف يكون عنده ما يرسله سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
وطائفة نسبت إلى الشافعي أنه صحح مراسيل سعيد مطلقاً، واحتج بها، بل عدَّى بعضهم قوله إلى سائر الطبقة الأولى.
فما حقيقة قول الشافعي في ذلك؟
قال رحمه الله: ليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع ابن المسيب " (5).
وقال بعد أن ذكر من رواية ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وأتبعه بأثر عن أبي بكر، ومذهب جماعة من التابعين في النهي عن ذلك: " إرسال ابن المسيب عندنا حسن " (6).
وأصحاب الشافعي اضطربوا في تفسير مراده في قبول مرسل ابن المسيب، وذكر الخطيب لهم في تفسيره قولين:
أولهما: مرسل سعيد حجة، فإنه استدل به في النهي عن
_________
(1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 957).
(2) أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 26) والخطيب في " الكفاية " (ص: 571) وإسناده صحيح.
(3) معرفة علوم الحديث (ص: 26).
(4) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 243) وإسناده صحيح.
(5) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه " (ص: 232) ومن طريقه: الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (1/ 533) وإسناده صحيح.
(6) مختصر المُزني (ص: 78)، وأخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 571).(2/931)
بيع اللحم بالحيوان، وجعله أصلاً لذاته.
وثانيهما: ليس بحجة، والشافعي لم يقل: هو حجة، وإنما رجح به، والترجيح بالمرسل صحيح، وإن كان لا يثبت به الحكم لذاته.
قال الخطيب: " وهذا هو الصحيح من القولين عندنا؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسنداً بحال من وجه يصح، وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على من دونهم، كما استحسن مرسل سعيد بن المسيب على من سواه " (1).
وقال الخطيب أيضاً: " أما قول الشافعي: وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، فقد ذكر بعض الفقهاء أن الشافعي جعل مرسل ابن المسيب حجة؛ لأن مراسيله كلها اعتبرت فوجدت متصلات من غير حديثه، وهذا القول ليس بشيء؛ لأن من مراسيل سعيد ما لم يوجد متصلاً من وجه بتة، والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه جعل لسعيد مزية في الترجيح بمراسيله خاصة؛ لأن أكثرها وجد متصلاً من غير حديثه، لا أنه جعلها أصلاً يحتج به " (2).
قلت: وهذا الذي رجحه الخطيب ذهب إليه قبيله الحافظ البيهقي ,
_________
(1) الكفاية (ص: 572) .......
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 546).(2/932)
وهو من هو في معرفة أدلة الشافعي ومذهبه، فإنه قال: " الشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكدها،. . وإذا لم ينضم إليها ما يؤكدها لم يقبله، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره، وقد ذكرنا. . مراسيل لابن المسيب لم يقل بها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قد قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها، وزيادة ابن المسيب على غيره في هذا أنه أصح التابعين إرسالاً فيما زعم الحفاظ " (1).
قلت: من ذهب إلى أن الشافعي كان يرى مراسيل ابن المسيب جميعاً حجة، فإنما استفاد ذلك من نص الشافعي حيث قال في جواب من قال له: كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره؟ قال: " قلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده، ولا أثره عن أحد فيما عرفناه عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه، ورأينا غيره يسمي المجهول، ويسمي من يرغب عن الرواية عنه، ويرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن بعض من لم يلحق من أصحابه المستنكر الذي لا يوجد له شيء يسدده، ففرقنا بينهم لافتراق أحاديثهم، ولم نحاب أحداً، ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناه من صحة روايته " (2).
قلت: والتحقيق أن الشافعي يبين في هذا قوة مراسيل سعيد، من جهة أنها جاءت من وجوه صحيحة، فهو لم يقل: مرسل سعيد حجة لذاته، أو صحيح لذاته، إنما هو صحيح من جهة مجيئه من غير ذلك الوجه المرسل متصلاً محفوظاً، فصحته عنده حاصلة بأمر خارج عن نفس روايته المرسلة.
يؤيد ذلك أن هذا النص منه إنما جاء عقب استدلاله بمرسل لسعيد في (الرهن)، ساقه من بعد من طريق موصول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي
_________
(1) مناقب الشافعي، للبيهقي (2/ 32).
(2) الأم (7/ 159) .......(2/933)
عنى بقوله آخر النص المتقدم: " ولكنا قلنا في ذلك بالدلالة البينة على ما وصفناك من صحة روايته " (1).
وتقوية المرسل بالقرائن، كان الشافعي قد أصل له تأصيلاً دقيقاً في " الرسالة "، سيأتي في (الفصل الثالث).
ومما يلحق بهذه المسألة المختصة بأن المسيب، أن أهل العلم قبلوا ما رواه ابن المسيب عن عمر بن الخطاب، وأجروه مجرى المسند، وهو لم يسمع منه أكثر ما حدث به عنه، فقد كان صغيراً يوم قتل عمر، رضي الله عنه.
لكن كما قال مالك بن أنس: " ولد في زمان عمر، فلما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره حتى كأنه رآه " (2) يريد حتى كأنه كان أخذ ذلك عنه؛ لأن رؤيته له صحيحة.
وذكر مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره.
بل قال فيه يحيى بن سعيد الأنصاري وهو تلميذه: " يسمى رواية عمر بن الخطاب؛ لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته " (3).
ومن أجل الإدراك في الجملة، وصحة النقل لمادة ما نقله عن عمر، قال أحمد بن حنبل: " هو عندنا حجة، قد رأى عمر وسمع منه، إذا لم يُقبل سعيد عن عمر فمن يقبل؟ " (4).
والقاعدة أن يكون هذا ضعيفاً لذاته لانقطاعه، لكن قبول السلف له، مع ما ينضم إليه من كونه مذاهب عمر في القضاء وشبهه، ومثله ليس من
_________
(1) انظر: تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقَّن (1/ 137).
(2) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (1/ 468) بإسناد حسن.
(3) أخرجه يعقوب بن سفيان (1/ 470 _ 471) بإسناد صحيح.
(4) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 1 / 61) .......(2/934)
شأنه أن يكون سرًّا، فنقل سعيد للشيء منه دون إنكار أحد لشيء مما نقله، دليل على صحته عن عمر، زد عليه أن سعيداً كان يتتبع أقضية عمر ويعتني بها، وهذا يوجب التحري، كذلك فإن كونه من مذاهب الصحابة مما يجعل مندوحة للتسهل فيه، بخلاف ما يكون عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قولهم في مراسيل عروة بن الزبير:
ومما قواه طائفة من الأئمة من المراسيل: مراسيل عروة بن الزبير، وذلك من أجل أنه قال: " إني لأسمع الحديث فأستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به حدثه عمن لا أثق به " (1).
قال ابن عبد البر: " كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير، وقد صح عنه ما ذكرنا؟ أليس قد كفاك المؤنة؟ " (2).
قلت: لا ريب أن هذا النص عن عروة يفيد شدة تحريه واحتياطه، لكن العلم بتحري التابعي وحده لا يكفي للاحتجاج بمرسله دون عاضد؛ لجواز أن يكون حمله عن غير ثقة عند غيره، وحسن الظن بالمتروك ذكره من الإسناد لا يكفي لصحة النقل ما لم يشهد له شاهد.
قولهم في مراسيل الحسن البصري:
قال يحيى بن سعيد القطان: " ما قال الحسن في حديثه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وجدنا له أصلاً، إلا حديثاً أو حديثين " (3).
_________
(1) أخرجه الشافعي في " الأم " (12/ 368) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 73، 210) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 38، 39) وإسناده صحيح.
(2) التمهيد (1/ 39).
(3) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 247 _ 248) بإسناد صحيح. ورُوي نحوه عن أبي زُرعة الرازي من قوله، لكن قال: " ما خلا أربعة أحاديث ". أخرجه ابنُ عدي (1/ 228) عن شيخه الحسن بن عثمان التستري، وهو واهٍ.(2/935)
قلت: هذه تقوية في الجملة لمراسيل الحسن، وليست تصحيحاً لمفردات رواياتها، ولم تسلم هذه ليحيى القطان:
فعن عبد الله بن عون، وهو من تلامذة الحسن، قال: " كان الحسن يحدثنا بأحاديث، لو كان يسندها كان أحب إلينا " (1).
وقال أحمد بن حنبل: " ليس في المرسلات شيء أضعف من مرسلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنهما يأخذان عن كل أحد " (2).
قلت: ومن هذا جاءت شبهة رد المرسل، وأراد أحمد أن هذه أضعف المرسلات بالنظر إلى أهل هذه الطبقة، وهي الوسطى من التابعين، فما بالك بمن بعدها؟
قولهم في مراسيل جماعة آخرين:
وقوى العجلي مراسيل عامر الشعبي، وهو من أوساط التابعين، فقال: " مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحاً " (3).
قلت: وهذا مفيد في قوة الاعتبار بها لذاتها، ولا يصح أن يكون حكماً بصحة أفراد رواياته المرسلة دون شاهد، وظاهر العبارة أن العجلي تتبع مراسيل الشعبي فوجد أكثرها صحيحاً من وجوه أخرى، فعُلمت صحتها بأمر خارج عن نفس المرسل، ولذا قال: (لا يكاد)، ففيه أن ما لم تشهد له الشواهد أنه صحيح، فهو باق على الضعف.
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 57) وإسناده صالح، وقع في اسم راويه عن ابن عون تحريف، وهو على الصواب: (الحسن بن عبد الرحمن)، وهو ابنُ العريان، بصْري لا بأس به.
(2) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 549، 571) وإسناده صحيح، وأخرجه نَحوه البيهقي في " الكبرى " (6/ 42) بإسناد صحيح .......
(3) معرفة الثقات، للعجلي بترتيب الهيثمي والسبكي (2/ 12).(2/936)
وممن ذهب بعض العلماء إلى تقوية مراسيله ممن جعلنا مراسيلهم في التحقيق معضلة لا مرسلة: إبراهيم بن يزيد النخعي.
قال يحيى بن معين: " مرسلات إبراهيم صحيحة، إلا حديث تاجر البحرين، وحديث الضحك في الصلاة " (1).
قلت: يعني لقيام الحجة على ضعف هذين الحديثين.
وقال أحمد بن حنبل: " مرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها " (2).
قلت: هذا دال على شدة تحري إبراهيم، حيث وجدوا أكثر مراسيله مروية من وجوه صحاح، وليس فيه تصحيح مرسله لذاته، ولذلك استثنوا بعض ما روى، فالصحة لها مكتسبة بأمر خارجي.
ومما استدل به بعض أهل العلم لتقوية مراسيل إبراهيم عن ابن مسعود، ما صح عن الأعمش، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أسند لي عن عبد الله بن مسعود، فقال إبراهيم: " إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله، فهو
_________
(1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 958).
قلت: أماَّ حديث تاجر البحرين، فهو رواه الأعمش، عن إبراهيم، قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجلٌ تاجرٌ أختلف إلى البحرين، فأمره أن يصلي ركعتين.
أخرجه ابن أبي شيبة في " مصنفه " (2/ 448) وأبو داود في " المراسيل " (رقم: 72) من طريق وَكيع بن الجراح، وعباس الدوري في " تاريخ يحيى بن معين " (النص: 960) من طريق أبي يحيى الحِماني، كلاهما عن الأعمش، به.
وأما حديث الضحك في الصلاة، فرواه الأعمش أيْضاً عن إبراهيم، قال: جاء رجلٌ ضرير البَصر، والنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فعثرَ، فتردَّى في بئرٍ، فضحكوا، فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أنْ يعيد الوضوء والصلاة.
أخرجه الدارقطني في " سننه " (1/ 171) ومن طريقه: البيهقي في " الكبرى " (1/ 146) من طريق أبي معاوية الضرير، حدثنا الأعمش، به.
(2) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (3/ 239 _ 240) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 549، 571) وإسناده صحيح، وأخرجه نَحوه البيهقي في " الكبرى " (6/ 42) بإسناد صحيح أيضاً.(2/937)
الذي سميت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله " (1).
قال ابن عبد البر: " في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل إبراهيم النخعي أقوى من مسانيده، وهو لعمري كذلك، إلا أن إبراهيم ليس بعيار على غيره " (2).
قلت: كذا قال، وهذا عجيب أن تكون الرواية فيه عن مجهول من أصحاب عبد الله بن مسعود، ولو كان أكثر من واحد، أقوى من قول إبراهيم: (حدثني علقمة عن ابن مسعود) !
كلا، فمعلوم أن في أصحاب عبد الله من كان مجهولاً لا يعرف، فكيف يجوز تنزيل المجهول منزلة المعروف، فضلاً عن تقديمه عليه؟
والتحقيق الذي فصلت أسبابه في غير هذا الكتاب: أن ما أرسله إبراهيم عن ابن مسعود ضعيف لذاته من أجل الانقطاع، وهو قوي للاعتبار به (3).
وتكلم أئمة الحديث في مراسيل طائفة من التابعين ممن هم أعلى من إبراهيم في القدم، كالذي تقدم في مراسيل الحسن وعطاء.
وقال يحيى بن سعيد القطان: " مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطاء بن أبي رباح بكثير؛ كان عطاء يأخذ عن كل ضرب ".
وقال يحيى القطان: " مرسلات سعيد بن جبير أحب إلي من مرسلات عطاء ".
_________
(1) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 249) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 37 _ 38) وإسناده صحيح. وأخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 609) مختصراً.
(2) التمهيد (1/ 38) .......
(3) شرحت ذلك في كتابي " الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام ".(2/938)
قال علي بن المديني: قلت ليحيى: مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات طاوس؟ قال: " ما أقربهما " (1).
قلت: وقولهم: (مراسيل فلان أحب من مراسيل فلان) ليس تصحيحاً لها، وإنما هو ترجيح في القوة مقارنة بينهما.
وقال أبو عمرو بن العلاء: " كان قتادة لا يغث (2) عليه شيء، يروي عن كل أحد" (3).
وقال أحمد بن سنان الواسطي " كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: " هو بمنزلة الريح ". ويقول: " هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشيء علقوا " (4).
وقال يحيى القطان: " مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يحسن _ أو يستجيز _ أن يسميه " (5).
قلت: ووجدت أبا حاتم الرازي سأله ابنه عن حديث يروى عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن جابر، فحكم بخطأ الرواية، وقال " يروى عن الزهري عن من سمع جابراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسمي أحداً، ولو كان سمع من سعيد لبادر إلى تسميته ولم يكن عنه " (6).
قلت: وتلاحظ من هذا العلة التي لأجلها صار أئمة الحديث إلى رد المرسلات.
_________
(1) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 247)، وابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 243، 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) وإسناده صحيح.
(2) أي لا يرى شيئاً مما يَسمع غثاً لا يستحق أن يُروى، وإنما يروي كلَّ ما وقف عليه: الغث والسمين.
(3) أخرجه الرَّامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 417) وإسناده صحيح.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 246)، وإسناده صحيح.
(5) أخرجه ابن عساكر في " تاريخه " (55/ 368) وإسناده صحيح .......
(6) علل الحديث (رقم: 573).(2/939)
وقال يحيى بن سعيد القطان: " مرسلات أبي إسحاق (1) عندي شبه لا شيء، والأعمش، والتيمي (2)، ويحيى بن أبي كثير، ومرسلات ابن عيينة شبه الريح "، ثم قال: " إي والله، وسفيان بن سعيد ".
قال ابن المديني: قلت ليحيى: فمرسلات مالك؟ قال: هي أحب إلي ".
ثم قال يحيى: " ليس في القوم أحد أصح حديثاً من مالك " (3).
وقال يحيى القطان كذلك: " مرسل مالك أحب إلي من مرسل سفيان " (4).
وسُئل أحمد بن حنبل عن مراسيل يحيى بن أبي كثير؟ قال: " لا تعجبني؛ لأنه روى عن رجال ضعاف صغار " (5).
وقال يحيى بن سعيد القطان: " مرسلات ابن أبي خالد ليس بشيء، ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلي " (6).
وقال يحيى كذلك: " مرسلات معاوية بن قرة أحب إلي من مرسلات زيد بن أسلم " (7).
قلت: وهذه نصوص في مراسيل طائفة من رواة الحديث مختلفي
_________
(1) يعني السبيعي.
(2) يعني سليمان بن طرخان التيمي.
(3) أخرجه الترمذي في (العلل) آخر " الجامع " (6/ 247) وابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) وإسناده صحيح.
(4) أخرجه يعقوب بن سُفيان في " المعرفة " (1/ 686) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 549) وإسناده صحيح.
(5) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 222).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 244) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) بإسناد صحيح.
(7) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 245) وإسناده صحيح .......(2/940)
الطبقات، منهم من حديثه مرسل، ومنهم من حديثه معضل، كما يدخل فيما ذُكر ما يرويه أحدهم عن شيخ لم يسمع منه، وهو المنقطع، وفيه الإبانة أن (المرسل ضعيف) لذاته، إنما قوة بعضه من جهة تحري المرسل وتثبته، ووهاء بعضه من جهة التحديث عن الثقات وغيرهم.
والطريق إلى جواز الاعتبار بهذا المرسل أو ذاك، هو الاستقراء لطُرق وشواهد تلك الرواية.
فمن قوى مراسيل مالك بن أنس، وهي معضلات إذا كانت مما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك من جهة أن التتبع دل على قوتها مع ما عرف عن مالك من التحري، كالشأن في بلاغاته في " الموطأ "، على أنه مع ذلك وجد فيها ما لم يوقف له على أصل.
وحاصل هذه المسألة:
أن المرسل يتفاوت في قوته، والشواهد مع تحري المرسل معيار للترجيح بينها، وللاعتبار بما يعتبر به منها.
المسألة الثالثة: حكم الحديث المرسل:
بالنظر إلى الإسناد، فإن المرسل من جهة الصناعة الحديثية منقطع غير متصل.
والمرسل بمعناه الشائع والمنقطع في المعنى الاصطلاحي والذي يسميه الكثيرون (مرسلاً)، حكمهما فيما يأتي سواء.
وللعلماء في الاحتجاج بذلك وعدمه مذاهب:
المذهب الأول: صحة الاحتجاج به، بشرط أن يكون المرسل ثقة عدلاً، وهؤلاء يكون المرسل عندهم من جملة الحديث الصحيح.
والقول به منقول عن إبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سلمان، وأبي(2/941)
حنيفة وصاحبيه: أبي يوسف ومحمد (1)، وكذلك هو قول مالك وأهل المدينة (2)، وذكر أصحاب أحمد أن الصحيح عنه الاحتجاج بالمرسل (3)، وأبو داود وغيره نقلوا عنه كقول الشافعي الآتي.
قال أبو داود السجستاني: " أما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها " (4).
وقال أبو داود: " إذا لم يكن مسند ضد المراسيل، ولم يوجد المسند، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة " (5).
قال ابن عبد البر: " زعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين. كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى من قبول المرسل " (6).
ورأي ابن عبد البر لخصه قوله: " كل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك، لم يحتج بمرسله، تابعيا كان أو من دونه، وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول " (7). قال الحاكم: " منهم من قال: إنه أصح من المتصل المسند؛ فإن.
_________
(1) فتح الغفار، لابن نُجيم (2/ 96)، المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43)، والتمهيد، لابن عبد البر، (1/ 5)، والبرهان، لإمام الحرمين (1/ 634).
(2) الكفاية، للخطيب (ص: 547)، والتمهيد، لابن عبد البر (1/ 2، 3).
(3) شرح علل الترمذي، لابن رجب (1/ 296)، وعدَّه العلائي إحدى الروايتين عنه (جامع التحصيل، ص: 27)، واعلم أن عامة مطوَّلات كتب الأصول اعتنت بذكر مذاهب الفقهاء هذه، مما لم نرَ ضرورة للإطالة بالعزو إليه.
(4) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصْف سننه (ص: 32).
(5) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصْف سننه (ص: 33).
(6) التمهيد (1/ 4)، والطبري هو أبو جعْفرٍ مُحمد بن جرير .......
(7) التمهيد (1/ 30).(2/942)
التابعي إذا روى الحديث عن الذي سمعه أحال الرواية عليه، وإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقوله إلا بعد اجتهاد في معرفة صحته " (1).
المذهب الثاني: ليس بحجة، وهو من جملة الحديث الضعيف.
وهو قول الأئمة: الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل (2)، وقول أكثر أهل الحديث (3).
قال الشافعي: " الحديث المنقطع لا يكون حجة عندنا " (4)، وقال: " نحن لا نقبل الحديث المنقطع " (5)، وقال: " لا نثبت المنقطع على وجه الانفراد " (6).
وبعد أن ذكر أبو داود السجستاني أن الشافعي تكلم في المراسيل، قال: " وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره " (7).
وكان الإمام أحمد بن حنبل يقدم عليه الحديث الموقوف، فلو كان مما يحتج به عنده لم يقدم عليه قول الصحابي أو فعله.
_________
(1) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43)، وانظره عن الحنفية في " شرح المنار " لابن نجيم (2/ 95)، وحكى معنى ذلك ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 3) عن بعض المالكية.
(2) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 43، 45)، وكلام الشافعي في غير موضعٍ من كُتبه، انظر من ذلك: الأم (12/ 368). وابن المبارك ربما قبلَ مرسل الثقة، كما نقل ذلك عنه أحمد بن حنبل، قال: حدثني الحسن بن عيسى، قال: حدثْتُ ابن المبارك بحديث أبي بكر بن عياش عن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " حسنٌ "، فقلت: له _ يعني ابن المبارك _: إنه ليس فيه إسناد؟ فقال: " إن عاصماً يُحتمل له أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال: فغدوْت إلى أبي بكر، فإذا ابن المبارك قد سبقني إليه، وهو إلى جنبه، فظننته سأله عن هذا الحديث. أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 4874) وهو صحيح، الحسن هذا ثقة.
(3) الكفاية، للخطيب (ص: 547)، والتمهيد، لابن عبد البر (1/ 5).
(4) الأم (12/ 482، و 15/ 265).
(5) الأم (10/ 461).
(6) اختلاف الحديث (ص: 191).
(7) رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصْف سننه (ص: 32).(2/943)
قال ابن هانئ: قلت لأبي عبد الله (يعني أحمد): حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل برجال ثبت، أحب إليك، أو حديث عن الصحابة أو التابعين متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبد الله: " عن الصحابة أعجب إلي " (1).
وقال ابن رجب: " ظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف، ما لم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه خلافه " (2).
وقال مسلم بن الحجاج: " والمرسلمن الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة " (3).
وقال الترمذي: " والحديث إذا كان مرسلاً، فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث، قد ضعفه غير واحد منهم " (4).
قال: " ومن ضعف المرسل فإنه ضعفه من قبل أن هؤلاء الأئمة (يعني أصحاب المراسيل) قد حدثوا عن الثقات وغير الثقات، فإذا روى أحدهم حديثاً وأرسله لعله أخذه عن غير ثقة " (5).
وقال أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي وابنه: " لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة " (6).
وقال ابن حبان: " المرسل والمنقطع من الأخبار لا يقوم بها حجة؛ لأن الله جل وعلا لم يكلف عبده أخذ الدين عمن لا يعرف، والمرسل
_________
(1) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 165) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 557).
(2) شرح العلل (1/ 313)، ونقل عن الأثرم عن أحمد ما يؤيد هذا.
(3) مقدمة صحيح مسلم (ص: 30).
(4) العلل الصغير، في آخر " الجامع " (6/ 247) .......
(5) العلل الصغير، في آخر " الجامع " (6/ 248).
(6) المراسيل (ص: 7).(2/944)
والمنقطع ليس يخلو ممن لا يعرف، وإنما يلزم العباد قبول الدين الذي هو من جنس الأخبار إذا كان من رواية العدول، حتى يرويه عدل عن عدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولاً " (1).
وقال الخطيب: " الذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل، وأن المرسل غير مقبول، والذي يدل على ذلك: أن إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه " (2).
وقال ابن حزم: " هو غير مقبول، ولا تقوم به حجة؛ لأنه عن مجهول " (3).
ورد الخطيب الاعتراض بكون إرسال الثقة تعديل منه لمن أرسل عنه، بسكوت الثقات عمن يروون عنه، وربما لم يكن ذلك الثقة عالماً أصلاً بحال من أسقطه.
قلت: وهذا مصدق بالواقع العملي من حال المرسلين، فإن منهم من كان يروي عن كل أحد، كما تقدم بعض مثاله في المسألة السابقة.
كذلك فليس كل ثقة له أهلية تمييز النقلة، كما بين هذا في محله، وإذا كانت رواية العدل في التحقيق عن مسمى لا تعد بمجردها تعديلاً له، فكيف بمن أسقط أصلاً بما حال دون العلم به؟ ثم لو سلمنا ثقة ذلك الذي أسقط عند من أرسل روايته، فإنه معلوم أن الراوي قد يكون مختلفاً فيه جرحاً وتعديلاً، والجرح فيه أرجح، فكيف السبيل إلى تحرير هذا في حق من لم يذكر في الإسناد أصلاً؟
ثم إن اعتناء الثقات بالأسانيد وإقامتهم لها هو الأصل الذي به عرف
_________
(1) المجروحين (2/ 72).
(2) الكفاية (ص: 550 _ 551)، ومعناه أيضاً في: الفقيه والمتفقه (1/ 292).
(3) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 2) .......(2/945)
ضبطهم وإتقانهم، والعذر لأحدهم أرجى في ذكر من حدثه بالخبر، فعدول أحدهم إلى الإرسال يورد مظنة القدح في ذلك الراوي الذي أسقط من الإسناد.
والشأن أن الثقة المتقن العارف لا يقصر في ذكر من حدثه لو كان ثقة، كما قال يحيى بن سعيد القطان: " سفيان عن إبراهيم شبه لا شيء؛ لأنه لو كان فيه إسناد صاح به " (1).
وهذا قال بعض الأئمة معناه في غير واحد من أعيان الثقات يبهمون شيوخهم أو يسقطونهم، كالزهري كما تقدم عنه، ومن ذلك:
روى زيد بن أسلم حديثاً اختلف عليه فيه: فرواه معمر بن راشد عنه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه سفيان الثوري عن زيد بن أسلم قال: حدثني الثبت قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حاتم الرازي: " فإن قال قائل: الثبت من هو؟ أليس هو عطاء بن يسار؟ قيل له: لو كان عطاء بن يسار لم يكن عنه "، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: أليس الثبت هو عطاء؟ قال: " لا، لو كان عطاء ما كان يكني عنه " (2).
وسأل ابن أبي حاتم أباه عن حديث روي عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن يزيد بن الأصم عن ميمونة؟ فقال: " رواه بعض أصحاب الأوزاعي عن من سمع يزيد بن الأصم عن ميمونة " قال: " والذي يرويه الدمشقيون عن الأوزاعي عن من سمع يزيد بن الأصم أشبه؛ لأن الأوزاعي لو كان سمع من إسماعيل بن عبيد الله لم يكن عنه " (3).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 244) و " المراسيل " (ص: 5) والخطيب في " الكفاية " (ص: 550) وإسناده صحيح.
(2) علل الحديث (رقم: 642).
(3) علل الحديث (رقم: 2450) .......(2/946)
المذهب الثالث: التفريق بين المراسيل، بحسب المرسل.
وهذا عزي للشافعي أنه كان يقبل مراسيل كبار التابعين، كما تقدم بيانه في المسألة السابقة، وتبين أن الشافعي لا يرى قبول مرسل التابعي الكبير لذاته، إنما يقبله بقرائن تقويه.
فهذا مذهب في التحقيق لم يقل به أحد، فعاد الخلاف إلى المذهبين الأولين.
وظاهر ما تقدمت حكاية عن أهل العلم: الاختلاف بين الفقهاء وأهل الحديث في صحة المرسل.
لكن التحقيق كما حررته عبارة الناقد ابن رجب، حيث قال: " اعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ وأعلام الفقهاء في هذا الباب، فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً، وهو ليس بصحيح على طريقهم؛ لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث، فإذا أعضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه، فاحتج به مع ما احتف به من القرائن، وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة " (1).
يؤيد هذه الخلاصة المحققة قول أبي عمر بن عبد البر وهو يبين مذهب أصحابه المالكية ومن وافقهم في قولهم بقبول المرسل: " ثم إني تأملت كتب المناظرين والمختلفين من المتفقهين وأصحاب الأثر من أصحابنا وغيرهم، فلم أر أحداً منهم يقنع من خصمه إذا احتج عليه بمرسل، ولا يقبل منه في ذلك خبراً مقطوعاً (2)، وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الأخبار " (3).
_________
(1) شرح علل الترمذي (1/ 297).
(2) أي: مُنقطعاً.
(3) التمهيد (1/ 7).(2/947)
المسألة الرابعة: رواية الصحابي ما لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ... .
وهذا ما يصطلح عليه بـ (مراسيل الصحابة).
وقد وقع ذلك من كثير من الصحابة، وأكثره في صغارهم مثل: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك.
فما حكم ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكرون فيه السماع؟.
صورة هذه المسألة صورة التدليس، على ما سيأتي بيانه في تعريفه، وذلك أن الصحابي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويروي عنه بالواسطة، وتارة يسقطها، وإسقاط الواسطة بين الراوي وشيخه تدليس.
لكن هل يجوز إطلاق مثل ذلك على ما وقع صنيع الصحابة؟
حُكي عن شعبة بن الحجاج قال: " أبو هريرة كان يدلس " (1).
وهذا خبر واهٍ من جهة الإسناد، والتحقيق: أنه قبيح من جهة اللفظ أن ينسب للصحابة تدليس، فلفظ التدليس وإن كان له معنى اصطلاحي يتناول ما نسميه بمراسيل الصحابة، إلا أن الاصطلاح منشأ من قبلنا، قصدنا به دفع ما وقع من الموصوفين بالتدليس من إسقاط الواسط المجروحة، مما يوهم سلامة الإسناد في الظاهر، وهو أمرٌ حادث بعد الصحابة.
_________
(1) أخرجه ابنُ عدي (1/ 151) _ ومن طريقه: ابنُ عساكر (67/ 359) _ قال: أخبرنا الحسن بن عثمان التُّستري، أخبرنا سلمة بن شبيب، قال: سمعت [يزيد بن هارون، قال: سمعت] شعبة، به.
سقط ما بين المعقوفين من مطبوعةِ ابن عدي ومن مخطوطة أحمد الثالث لكتاب " الكامل "، واستدركتها من ابن عساكر، وهذه الرواية ساقطةٌ بسقوط التستري هذا، فإنه متهم بالكذب.
ووجدت الذهبي ذكر هذا النص في " سير أعلام النبلاء " (2/ 608) وقال بعده: " تدليس الصحابة كثير، ولا عيْب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدولٌ ". قلت: وليته بيَّن وهاء الرواية، ولم يعلق بمثل هذا، فزاد على تلك العبارة القبيحة المنسوبة إلى شُعبة أن عمم إطلاق التدليس على ما يقع من إرْسال سائر الصحابة، وهذا أقبح، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .......(2/948)
وقد صح عن البراء بن عازب، قال: " ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنا أصحابنا، وكانت تشغلنا رعْية الإبل " (1).
وفي رواية، عن البراء، قال: " ما كل ما نُحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه، ولكن سمعناه، وحدثنا أصحابنا، ولكنا لا نكذب (2).
وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصة، فقال له رجل: سمعت هذا من أنس؟ قال: نعم، قال رجل لأنس: أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " نعم، وحدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب " (3).
قلت: فهذا يبطل وصف ما وقع من الصحابة من هذا القبيل بالتدليس.
كذلك، فإن النظر في اتصال الإسناد لصحة الحديث إنما يجب أن
_________
(1) أثرٌ صحيح. أخرجه أحمد في " المسند " (30/ 450، 458 رقم: 18493، 18498) و " العلل " (النص: 3675، 3676) والحاكم في " المستدرك " (1/ 95 رقم 326) و " المعرفة " (ص: 14) وأبو نعيم في " معرفة الصحابة " (رقم: 1165) وابن حزم في " الإحكام " (2/ 12) من طريقين عن سفيان الثوري، عن إسحاق، عن البراء، به.
قال الحاكم: " هذا حديث له طرقٌ عن أبي إسحاق السبيعي، وهو صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه ".
(2) أثرٌ صحيح. أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 2835) ويعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 634) من رواية وكيع، وجعفرٌ الفريابي في " فوائده " (ق: 80 / ب ظاهرية) وابن عدي (1/ 261) من طريق عليِّ بن مسهر، وكذا ابن عَدي من طريق مالك بن سُعير وإسحاق بن الربيع، أربعتهم عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن البراء، به. وإسناده صحيح.
وخرَّجته كذلك من طريق يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، وفيه سماع أبي إسحاق من البراء، وذلك فيما تقدم من هذا الكتاب في (عدالة الصحابة).
(3) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 633 _ 634) وإسناده حسن.(2/949)
يراعى فيما دون الصحابي، أما الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يخلو من أن يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعه من صحابي آخر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يروي الصحابي عن تابعي عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صور نادرة تستطرف، ولعلها لا يثبت منها كبير شيء، فحيث عادت (مراسيل الصحابة) إلى وسائط من الصحابة أنفسهم، وهم جميعاً عدول فليس لهذه الصورة إذاً تأثيرٌ في صحة الإسناد، وإن أطلق عليها لفظ (الإرسال).
قال الخطيب في كلامه عن (المرسل): " إن كان من مراسيل الصحابة قبل ووجب العمل به؛ لأن الصحابة مقطوع بعدالتهم، فإرسال بعضهم عن بعض صحيح " (1).
وصحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة في الواقع التطبيقي العملي، جرى عليه عامة أهل العلم، فلم يرد أحد حديثاً لابن عباس صح الإسناد به إليه، من أجل كونه كان كثير الإرسال عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لقلة ما سمع منه لصغر سنه يومئذ، فكان أكثر حديثه مما أخذه بالواسطة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر تلك الوسائط في كثير مما حدث به.
وهذا القول هو الذي رجحه الحافظ الخطيب (2)، وحكاه ابن رشيد عن جمهور أهل العلم (3).
وذكر الخطيب أن فيمن رد المرسل من العلماء من رد مراسيل الصحابة، ولم يسم أحداً (4).
وذكره بعض من جاء من بعد عن بعض أهل الكلام (5).
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 291) .......
(2) الكفاية (ص: 548).
(3) السنن الأبين (ص: 116).
(4) الكفاية (ص: 547).
(5) انظر: جامع التحصيل، للعلائي (ص: 47).(2/950)
وأن من حجة صاحب هذا المذهب مظنة أن يكون ذلك الصحابي قد سمع ذلك الحديث من تابعي يحتاج أن يميز حاله في النقل، أو أعرابي مجهول.
وهذا القول في التحقيق مهجور لضعف حجته.
* * *(2/951)
المبحث الخامس:
الحديث المدلس
تعريفه:
التدليس لغة: كتمان العيب، ومنه التدليس في البيع، وهو كتمان العيب في السلعة على المشتري، فيوهم السلامة منه.
واصطلاحاً: مأخوذ من هذا المعنى، وهو نوعان في الجملة، أولهما يندرج تحت الانقطاع في الإسناد، أما الثاني فليس انقطاعاً، إنما صلته بعدالة الراوي المدلس وضبطه خاصة، وهذا بيان النوعين:
والنوع الأول: تدليس الوصل.
وهو قسمان:
القسم الأول: تدليس الإسناد.
تعريفه: أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه؛ بصيغة موهمة للاتصال، يقول: (عن فلان) أو (قال فلان) أو شبه ذلك.
وقال الخطيب: " رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه، فيتوهم أنه سمع منه، أو روايته عمن قد لقيه ما لم يسمعه منه، هذا هو التدليس في الإسناد " (1).
_________
(1) الكفاية (ص: 59) .......(2/952)
قلت: وهذا التعريف قد اشتمل على صورتين لعدم السماع جمعهما الإدراك، وافترقا في ثبوت السماع في الجملة:
فالأولى: إدراك مجرد، دون سماع ذلك الراوي ولا في خبر واحد ممن روى عنه.
والثانية: أنه سمع ممن روى عنه غير ذلك الحديث، وإنما حدث عنه بما سمعه من غيره عنه، فأسقط تلك الواسطة، وروى الخبر بالعنعنة عن ذلك الشيخ.
وطائفة من المتأخرين يسمون الصورة الأولى: (الإرسال الخفي)، مع أن معنى الإيهام موجود فيها، من أجل إدراك الراوي في الجملة لمن أرسل عنه.
وعرف ابن عبد البر هذا النوع من التدليس، بعبارة أدق، تخرج منه الصورة الأولى، فقال: " التدليس: أن يحدث الرجل عن الرجل، قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله أو لا ترضى، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد يكون لأنه استصغره. هذا هو التدليس عند جماعتهم، لا اختلاف بينهم في ذلك " (1).
والمقصود: أن يأتي بصيغة الأداء غير صريحة في السماع، وهي (عن) ومعناها (2).
_________
(1) التمهيد (1/ 15) ونحوه كذلك (1/ 27، 28). وقوله: لا اختلاف بينهم في ذلك "، ظاهره: في حصْر التدليس في هذا المعنى، وليس كذلك، بل تقدم عن الخطيب أنه أدْرج فيه المرسل الخفي، كذلك صح وُجود بعض عبارات الأئمة في التدليس قيلت فيما هو من قبيل الإرسال الخفي، كبعض ما قيل في تدليس الحسن البصري.
(2) وكن يَقظاً لِما جرى من بعْض المتأخرين من إطلاق وَصف التدليس على مَن روى بطريق الإجازة فقال: (أخبرنا)، فالتدليس رواية بالواسطة، بخلاف الإجازة فلا واسطة بين المجيز والمُجاز .......(2/953)
والإسناد الذي يقع فيه التدليس إسناد مرسل في ذلك المحل، لكنه صورة خاصة من الإرسال أو الانقطاع، فارقت معنى الإرسال والانقطاع المعروفين فيما يقع فيها من إيهام السماع فذلك بينٌ يسهل إدراكه بخلاف ما يظن أنه مسموع وليس كذلك.
قال الخطيب: " والتدليس يشتمل على ثلاثة أحوال تقتضي ذم المدلس وتوهينه:
فأحدها: إيهامه السماع من لم يسمع منه، وذلك مقارب الإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه.
والثانية: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال، وذلك خلاف موجب الورع والأمانة.
والثالثة: أن المدلس إنما لم يبين من بينه وبين من روى عنه؛ لعلمه بأنه لو ذكره لم يكن مرضيا مقبولاً عند أهل النقل؛ فلذلك عدل عن ذكره.
وفيه: أنه لا يذكر من بينه وبين من دلس عنه؛ طلباً لتوهيم علو الإسناد، والأنفة من الرواية عمن حدثه، وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة، من التواضع في طلب العلم، وترك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه " (1).
ومما يبين كيف يقع التدليس في الإسناد: قول الأعمش: قال لي حبيب بن أبي ثابت: " لو أن رجلاً حدثني عنك بحديث ما باليت أن أرويه عنك " (2). وربما أسقط المدلس أكثر من واسطة بينه وبين شيخه، كما قال أحمد بن حنبل وذكر المبارك بن فضالة: " كان يرسل [عن] الحسن "، قيل:
_________
(1) الكفاية (ص: 510 _ 511).
(2) أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 455 _ 456) بإسناد حَسنٍ.(2/954)
يدلس؟ قال: " نعم "، قال: " وحدث يوماً عن الحسن بحديث، فوقف عليه، قال: حدثنيه بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب عن يونس " (1).
قلت: فأسقط ثلاث وسائط: الراوي الذي لم يسم، وأبا حرب، ويونس بن عبيد.
وقال علي بن المديني: قلت ليحيى (يعني القطان): حديث حماد بن زيد عن أبي عبد الله الشقري، عن إبراهيم، في العبد يتسرى؟ فقال: " بينه وبين إبراهيم ثلاثة " أي لم يسمعه من إبراهيم (2).
وقال الشافعي: حدث شعبة عن حماد عن إبراهيم بحديث، قال شعبة: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن أخبرني مغيرة، قال: فذهبت إلى مغيرة، فقلت: إن حماداً أخبرني عنك بكذا، فقال: صدق، فقلت: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن حدثني منصور، قال: فلقيت منصورا ً، فقلت: حدثني عنك مغيرة بكذا، فقال: صدق، فقلت: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن حدثني الحكم، فجهدت أن أعرف طرقه فلم أعرفه ولم يمكني (3).
واعلم أن من المدلسين من يعرف بالتدليس كجرح نسبي لحقه في كل ما يرويه بالعنعنة عن جميع من روى عنهم، ومنهم من انحصر تدليسه في بعض حديثه، لا مطلقاً، فهذا لا يجوز تعميم رد ما لم يذكر فيه سماعاً عن كل من روى عنه، فتيقظ للتفريق بين الصنفين.
_________
(1) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " (2/ 633) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 235) وإسناده صحيح. اسم الشقري سلمة بن تمَّام، وإبراهيم هو النخعي، والتسري: أن تكون له الأمة يطأها.
(3) أخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار " (1/ 165 _ 166) و " الخلافيات " (رقم " 759، 760) و " مناقب الشافعي " (1/ 527) وإسناده إلى الشافعي صحيح، وهو عند ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص: 218 _ 219) بمعناه. وإبراهيم فيه هو النخعي، وحماد هوَ ابنُ أبي سُليمان، ومغيرة هوَ ابنُ مِقسم الضبي، ومنصور هو ابن المعتمر، والحكم هوَ ابنُ عتيبة .......(2/955)
ومن قبيل تدليس الإسناد:
ما كان يصنعه هشيم بن بشير، فقد قال أحمد بن حنبل: " كان هشيم يوماً يقول: (حدثنا)، و (أخبرنا)، ثم ذكر أنه لم يسمع، فقال: يا صباح، قل لهم: توسعون الطريق حتى يمر الصبي والمرأة، ثم قال: فلان عن يونس، و: فلان عن مغيرة " (1)
القسم الثاني: تدليس التسوية.
وهو: أن يسقط الراوي ممن فوق شيخه في الإسناد، كراو مجروح أو مجهول، أو صغير السن، ويحسن الحديث بذلك ويجوده (2).
وهو شر صور التدليس، وفرع عن (تدليس الإسناد).
سئل يحيى بن معين عن الرجل يلقي الرجل الضعيف من بين ثقتين، يوصل الحديث ثقة عن ثقة، ويقول أنقص من الحديث وأصل ثقة عن ثقة، يحسن الحديث بذلك؟ فقال: " لا يفعل، لعل الحديث عن كذاب ليس بشيء، فإذا هو قد حسنه وثبته، ولكن يحدث به كما روي " (3).
وسمي هذا النوع من التدليس (تسوية)؛ لأن فاعله يسقط المجروح من
_________
(1) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 2152).
قلت: وهذه الصورة أطلق عليها ابنُ حجر من المتأخرين اسم (تدليس القَطع)، وهي نادرةٌ إنما عُرف مثالها من صنيع هُشيم، ولا تخرُج عن تدليس الإسناد، ولم أرَ ما يدعو للتوسُّع في التقسيم لتُعدَّ هذه بمنزلة النوع المستقل للتدليس.
كما أهملت من القِسمة ما سماه بعض المتأخرين (تدليس العَطف) ويذكرون مثاله من صنيع هُشيم في ذلك في حِكاية عنه أراد أن يختبر بها تلاميذه، أوردها الحاكم في " معرفة علوم الحديث " (ص: 105) بدون إسناد، ولا يوجد لها في الواقع صورةٌ حقيقةٌ مؤثرةٌ، والحكاية المذكورة عن هُشيم لو صحَّت فإنها لا تُخرج هذه الصورة عن (تدليس الإسناد).
(2) الكفاية (ص: 518).
(3) تاريخ عثمان الدارمي عن يحيى بن معين (النص: 952) ومن طريقه: ابن عدي (1/ 216) والخطيب في " الكفاية " (ص: 520).(2/956)
الإسناد من بعد شيخه ليستوي حال رجاله في الثقة، وكان بعض المحدثين يسميه (تجويداً) لأن المدلس يبقي جيد رواته.
وكان جماعة من الرواة يعرفون بفعل ذلك، منهم:
سليمان بن مهران الأعمش، قال عثمان الدارمي: كان الأعمش ربما فعل ذلك " (1).
وكذلك جاء عن سفيان الثوري، فعن قبيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان يوماً حديثا ًترك فيه رجلاً، فقيل له: يا أبا عبد الله، فيه رجل؟ قال: " هذا أسهل الطريق " (2).
ومن أفعل الناس له: بقية بن الوليد، والوليد بن مسلم.
قال أبو حاتم ابن حبان: " دخلت حمص وأكثر همي شأن بقية، فتتبعت حديثه وكتبت النسخ على الوجه، وتتبعت ما لم أجد بعلو من رواية القدماء عنه، فرأيته ثقة مأموناً، ولكنه كان مدلساً، سمع من عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك أحاديث يسيرة مستقيمة، ثم سمع عن أقوام كذابين ضعفاء متروكين عن عبيد الله بن عمر وشعبة ومالك، مثل: المجاشع بن عمرو، والسري بن عبد الحميد، وعمر بن موسى الميثمي، وأشباههم، وأقوام لا يعرفون إلا بالكنى، فروى عن أولئك الثقات الذين رآهم بالتدليس ما سمع من هؤلاء الضعفاء، وكان يقول: (قال عبيد الله بن عمر عن نافع) و (قال مالك عن نافع كذا)، فحملوا عن بقية عن عبيد الله، وعن بقية عن مالك، وأسقط الواهي بينهما، فالتزق الموضوع ببقية
_________
(1) تاريخ عثمان الدارمي عن يحيى بن معين (النص: 952) ومن طريقه: ابنُ عدي (1/ 217) والخطيب في " الكفاية " (ص: 520).
وتعقب هذا منه الحافظ ابن حجر، فقال في مقدمة " لسان الميزان " (1/ 105): " ما علمت أحداً ذكرَ الأعمش بذلك ".
(2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 518 _ 519) وإسناده صحيح .......(2/957)
وتخلص الواضع من الواسط " ثم اعتذر له (1).
وقال الدارقطني: " الوليد بن مسلم يرسل في أحاديث الأوزاعي، عند الأوزاعي أحاديث عن شيوخ ضعفاء عن شيوخهم أدركهم الأوزاعي، مثل نافع والزهري وعطاء، فيسقط الضعفاء، ويجعلها عن الأوزاعي عن نافع والزهري وعطاء " (2).
وقال أبو زرعة الدمشقي: " كان صفوان بن صالح ومحمد بن المصفى يسويان الحديث " (3).
قلت: لم يذكر أحد من الرجلين بتدليس التسوية إلا في هذا النص، وعليه بنى من ذكرهما في المدلسين، فهل تسلم دلالة هذا اللفظ على المعنى الاصطلاحي لهذا التدليس؟ في هذا تردد؛ لاحتمال إرادة غير معنى التدليس، والله أعلم.
مثال الحديث يعل بتدليس التسوية:
قال ابن أبي حاتم الرازي: سمعت أبي روى عن هشام بن خالد الأزرق، قال " حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصيب بمصيبة من سقم أو ذهاب مال فاحتسب ولم يشك إلى الناس؛ كان حقا على الله أن يغفر له " قال أبي: هذا حديث موضوع لا أصل له، وكان بقية يدلس، فظنوا هؤلاء أنه يقول في كل حديث: (حدثنا) ولا يفتقدون الخبر منه (4).
يعني يغرهم قوله: (حدثنا فلان)، وهو لا يسقط لهم واسطة بينه وبين شيخه، إنما يسقط من المجروحين من بعد شيخه.
_________
(1) المجروحين (1/ 200).
(2) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 359).
(3) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 94) بإسناد صحيح .......
(4) علل الحديث، لابن أبي حاتم (2/ 126)، وانظرْه كذلك (2/ 178، 295).(2/958)
سبب وقوع التدليس في الإسناد:
نقل الذهبي قول أبي الحسن بن القطان في (بقية بن الوليد): " بقية يدلس عن الضعفاء، ويستبيح ذلك، وهذا إن صح مفسد لعدالته " (1)، ثم تعقبه بقوله: " نعم، والله! صح هذا عنه أنه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم، بل وعن جماعة كبار فعله، وهذه بلية منهم، ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد، وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنه تعمد الكذب، هذا أمثل ما يعتذر به عنهم " (2).
ومن اجتهادهم: إحسان الظن بمن أسقطوه، وإن كان مجروحاً عند غيرهم، وأسقطوه تمشية لروايته.
ومن ذلك: صغر سن الشيخ المدلس عن سن المدلس.
ومن ذلك: كراهة ذكره، لسوء حاله من جهة أمر لا يعود إلى نفس حديثه.
مثل ما وقع للوليد بن مسلم، حدث بحديث عن شيبان بن عبد الرحمن، عن علي بن عبد الله بن عباس، فبين أبو حاتم الرازي أن الوليد ترك من الإسناد (سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس)، بين ذلك وعلله فقال: " الذي أرى أن الوليد بن مسلم ترك (سليمان) من الإسناد على العمد؛ لأن سليمان أسرف في القتل والنكاية فيهم، فكان يكره أن يكون ذكره في الحديث " (3).
النوع الثاني: تدليس الأسماء.
ويقال: تدليس الشيوخ.
_________
(1) انظر: بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام، لابن القطان (النص: 1633).
(2) ميزان الاعتدال (1/ 339).
(3) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 978) .......(2/959)
تعريفه: " أن يروي المحدث عن شيخ سمع منه حديثاً، فغير اسمه، أو كنيته، أو نسبه، أو حاله المشهور من أمره؛ لئلا يعرف " (1).
وذلك يفعل لأسباب، منها:
1 _ كون الشيخ مجروحاً.
2 _ كون المدلس قد شورك في الرواية عن ذلك الشيخ من قبل من هم دونه في السن أو العلم أو غير ذلك.
3 _ كون ذلك الشيخ أصغر سنا من الراوي عنه.
كما وقع لسفيان بن عيينة، فيما أخبر به أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة يوما ً عن زيد بن أسلم، عن علي بن الحسين، قال: " يجزئ الجنب أن ينغمس في الماء "، قلنا: من دون زيد بن أسلم؟ قال: معمر، قلنا: من دون معمر؟ قال: ذاك الصنعاني عبد الرزاق (2).
4 _ كثرة ما عند ذلك الراوي عن الشيخ، فيغير في اسمه دفعاً للتكرار (3).
ومن أمثلة هذا النوع من التدليس:
عطية بن سعد العوفي، كان روى عن أبي سعيد الخدري، روى التفسير عن محمد بن السائب الكلبي، فكنى هذا الأخبار (أبا سعيد) (4)،
_________
(1) الكفاية (ص: 520) ونحوه (ص: 59).
(2) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 31) وإسناده صحيح. وفي " مصنف عبد الرزاق " (1/ 264 رقم: 1014) عن معمر، عن زيد بن أسلم في الرجل يغسل رأسه بالخِطْمي وهو جنب ثم يتركه حتى يجف، قال: سمعت علي بن الحسين يقول: ما مَسَّ الماءَ منك وأنت جُنبٌ فقد طهر ذلك المكان.
(3) ذكر هذه الأسباب الأربعة الخطيب في " الكفاية " (ص: 520).
(4) العلل، للإمام أحمد (النص: 1306، 1307)، المجروحين، لابن حبان (2/ 253)، الكفاية، للخطيب (ص: 512).(2/960)
والكلبي متهم بالكذب، فما يرويه في التفسير عن أبي سعيد فالمظنة أن يكون الكلبي، ما لم يقل: (الخدري).
ومنهم زهير بن معاوية، فقد روى عن أبي يحيى القتات، أحد الضعفاء، وكان يقول: (أبو يحيى الكناسي) ينسبه إلى كناسة الكوفة (1)، وهو غير مشهور بذلك.
ومنهم: الوليد بن مسلم الدمشقي، ومن أمثلة فعله ذلك، أنه كان يروي عن (عبد الرحمن بن يزيد بن تميم) فيقول: " قال أبو عمرو "، و " حدثنا أبو عمرو عن الزهري " يوهم أنه الأوزاعي، وإنما ابن تميم، وكلاهما رويا عن الزهري (2)، وابن تميم هذا منكر الحديث ليس بثقة.
ومنهم: بقية بن الوليد الشامي، ومن أمثلة صنيعه: أنه كان يقول: " حدثنا الزبيدي "، فيذهب الظن إلى أنه عنى (محمد بن الوليد الزبيدي)، الثقة، وإنما هو (زرعة بن عبد الله، أو عمرو الزبيدي) (3) أحد المجهولين الضعفاء.
بل ذكر بهذا التدليس سفيان الثوري على جلالته، فقد كان يروي عن الكلبي، فيقول: " حدثنا أبو النضر " فيظن أنه أراد به (سعيد بن أبي عروبة) أو (جرير بن حازم) (4)، فالجميع يكنون بهذه الكنية، وكلهم يروي عنهم الثوري، والكلبي متهم بالكذب، والآخران ثقتان.
وكان يحدث عن عبيدة بن معتب الضبي، قال يعقوب بن سفيان: " حديثه لا يسوى شيئاً، وكان الثوري إذا حدث عنه كناه، قال: أبو عبد الكريم، ولا يكاد سفيان يكني رجلاً إلا وفيه ضعف، يكره أن يظهر اسمه فينفر منه الناس " (5).
_________
(1) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد (النص: 1523).
(2) المجروحين (1/ 91، و 2/ 55).
(3) المجروحين (1/ 91) .......
(4) المجروحين (1/ 91).
(5) المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سُفيان الفسوي (3/ 145 _ 146).(2/961)
وذكر ابن حبان في ترجمة (محمد بن سالم الكوفي) أن الثوري كان يحدث عنه ويكنيه، يقول: (حدثني أبو سهل)، قال ابن حبان: " كان هذا مذهباً للثوري: إذا حدث عن الضعفاء كناهم حتى لا يعرفوا، كان إذا حدث عن عبيدة بن معتب قال: حدثنا أبو عبد الكريم، وإذا حدث عن سليمان بن أرقم قال: حدثنا أبو معاذ، وإذا حدث عن بحر السقاء قال: حدثنا أبو الفضل، وإذا حدث عن الكلبي قال: حدثنا أبو النظر، وإذا حدث عن الصلت بن دينار قال: حدثنا أبو شعيب، ومن يشبه هؤلاء من الضعفاء ممن يكثر عددهم " (1).
ومنهم: قيس بن الربيع، فقد روى عن عمرو بن خالد الواسطي أحد المتروكين، فسماه مرة: (عمرو بن عبد الله مولى عنبسة)، ومرة: (عميراً مولى عنبسة) (2).
ومنهم: مروان بن معاوية الفزاري، قال يحيى بن معين: " كان مروان بن معاوية يغير الأسماء؛ يعمي على الناس، كان يحدثنا عن الحكم بن أبي خالد، وهو الحكم بن ظهير، ويروي عن علي بن أبي الوليد، وهو علي بن غراب " (3).
وقال يحيى بن معين وسئل عن مروان الفزاري: " كان ثقة فيما يروي عمن يعرف، وذاك أنه كان يروي عن أقوام لا يدري من هم، ويغير أسماهم، وكان يحدث عن محمد بن سعيد المصلوب، وكان يغير اسمه يقول: حدثنا محمد بن أبي قيس؛ لئلا يعرف " (4).
_________
(1) المجروحين (2/ 262 _ 263)، وقال نحوه الحاكم النيسابوري في " سؤالات مَسعود السجزي له " (النص: 51).
(2) انظر: الموضع لأوهام الجمع والتفريق، للخطيب (2/ 289).
(3) المجروحين (1/ 91 _ 92) والخطيب في " الكفاية " (ص: 521 _ 522) وابنُ عساكر في " تاريخه " (57/ 355) من رواية ابن أبي خيثمة، عنه، وروى نحو ذلك غيره عن يحيى بن معين، منهم: الدوري في " تاريخ يحيى " (النص: 2611 _ 2612).
(4) الضعفاء، للعقيلي (4/ 203)، ومن طريقه: ابنُ عساكر في " تاريخه " (57/ 354)، وضبطُ السياق منه، وهو من رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن ابن معين .......(2/962)
قلت: والمصلوب هذا كان يدلس اسمه على نحو من مئة اسم (1).
ومنهم: هشيم بن بشير الواسطي، فقد كان يروي عن (عبد الله بن ميسرة السجستاني) أحد الضعفاء، ويكنيه بكنى مختلفة، قال يحيى بن معين: " كان يكنيه بثلاث كنى: أبو إسحاق الكوفي، وأبو ليلى، وأبو جرير " (2) , وزاد ابن عدي كنية رابعاً (أبا عبد الجليل) (3).
ومن غريب ما وقفت عليه من أمثلة تدليس هذا النوع ما حكاه الدارقطني عن (سليمان بن الربيع النهدي)، قال: " يقال: كادح بن رحمة له اسم كان يعرف به، فغيره سليمان بن الربيع فسماه كادحاً، ذهب إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] "، قال " وقد روى سليمان بن الربيع هذا أحاديث مناكير عن شيخ آخر، فغير اسمه سماه همام بن مسلم، وأظنه ذهب إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم همام " (4)، قال الدارقطني: " أراد: منهم من يهم بالخير، ومنهم من يهم بالشر، وذهب إلى أن أباه كان مسلماً، فقال: همام بن مسلم " (5).
ومن كان يفعله لا لجرح في الراوي، وإنما للسبب الرابع المتقدم، وهو دفع الملالة بالتكرار، جماعة من المتأخرين، منهم الخطيب البغدادي، كقوله: (أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي)، ويقول أحياناً: (أخبرنا أحمد بن
_________
(1) الضعفاء، للعقيلي (4/ 72)، والكفاية، للخطيب (ص: 522).
(2) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (5/ 282) وإسناده صحيح.
(3) الكامل (5/ 281).
(4) لم أقف عليه بهذا اللفظ من وَجهٍ يثبت، ورُوي من حديث أنس، وذكره ابن أبي حاتم في " العلل " (رقم: 2413) من حديث جابر بن عبد الله، لكن بيَّن أبو حاتم أنها لفظة أدرجت في الحديث.
ويُروى من غير وجْه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أحب الأسماء إلى الله: عبْد الله وعبْد الرحمن، وأصْدقها حارثٌ وهمام، وأقبحها حرْبٌ ومُرة "، فقد جاء من وُجوه مُرْسَلة ثلاثة عن أهل الشام، لتفصيلها مَقام آخر.
(5) تاريخ بغداد (9/ 55).(2/963)
محمد بن أحمد الروياني)، وهو شيخه الثقة الحافظ أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي، نسبه إلى (القطيعة) محلة ببغداد نزلها لا يعرف بالنسبة إليها، ونسبته (الروياني) صحيحة لكنه غير مشهور بها كذلك (1).
ومن مظان كشف هذا النوع من التدليس، كتاب " الموضح لأوهام الجمع والتفريق " للحافظ الناقد أبي بكر الخطيب البغدادي.
واعلم أن تدليس الأسماء يصير إلى الجهالة بها، والجهالة سبب لرد الحديث أصلاً، فإذا لم تتبين حقيقة ذلك الراوي فهو مجهول، لكن تكمن الخطورة في إيهام هذا التدليس أن الراوي ثقة إذا التبس باسم أو كنية شيخ له من الثقات، لذا يوجب تيقظاً زائداً.
وكذلك ينبغي الاعتناء بمعرفة أسماء من كان يفعل هذا من الشيوخ، فإنه يورد ريبة في كل شيخ لأحدهم غير معروف.
تحرير الفرق بين (التدليس) و (الإرسال الخفي):
تقدم تعريف (تدليس الإسناد) عن أبي بكر الخطيب، وأنه شامل لما يرويه الراوي عمن لم يلقه ولم يسمع منه، وقد أدرك زمانه.
وأشرت إلى أن هذه صورة (الإرسال الخفي) لا التدليس.
وذكر ابن عبد البر عن طائفة تسميتها لرواية الرجل عمن لم يدركه تدليساً أيضاً، لكن تعقبه بقوله: " إن كان هذا تدليساً، فما أعلم أحداً من العلماء سلم منه، في قديم الدهر ولا في حديثه، اللهم إلا شعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان " (2).
قلت: وهذه الصورة إنما هي انقطاع ظاهر، وليست تدليساً، ولا إرسالاً خفيا.
_________
(1) وانظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي (17/ 603) .......
(2) التمهيد (1/ 15).(2/964)
وتحرير القول في الإرسال الخفي، أنه: رواية الراوي عمن أدركه بصيغة العنعنة، وثبت أنه لم يسمع منه البتة، أو سمع منه شيئاً معيناً ولم يسمع منه غيره.
وهذا يعود إلى أسباب:
أولها: صغر الراوي، فلم يتهيأ له السماع من الشيخ البتة، أو سمع منه أو رأى شيئاً معيناً فبقي يذكره، فرواه.
مثل جماعة من التابعين رأوا بعض الصحابة ولم يسمعوا منهم، كالأعمش، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عون، رأوا أنس بن مالك ولم يسمعوا منه.
وممن سمع لهذه العلة حرفاً أو شيئاً يسيراً ولم يسمع غيره، ما رواه الحسن البصري عن عثمان أنه رآه يصنع أشياء، أو يأمر بأشياء فمن ذلك: قوله: رأيت عثمان يخطب وأنا ابن خمس عشرة سنة قائماً وقاعداً (1).
وعنه: أنه رأى عثمان بن عفان يصب عليه من إبريق (2).
وعنه قال: شهدت عثمان يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام (3).
_________
(1) أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات " (7/ 157) وإسناده حسن.
(2) أخرجه ابن سعد (7/ 157) وإسناده صحيح .......
(3) أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 1301) وابنُ أبي الدنيا في " ذمِّ الملاهي " (رقم: 138) _ ومن طريقه: البيهقي في " الشعب " (5/ 245 رقم: 6536) _ وعبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (رقم: 521) والذهبي في " السير " (10/ 317) من طرق عن المبارك بن فَضالة، عن الحسن، به، وبيَّن مُبارك سماعه من الحسن، وإسناده صحيح.
وتابعه عليه: يونس بن عبيدٍ عن الحسن أن عثمان، ولم يقل: شَهدت، أخرجه عبد الرزاق (11/ 3 رقم: 19734) وإسناده صحيح.
كما تابعه: يوسف بن عبدة قال: حدثنا الحسن، قال: كان عثمان لا يخطب جُمعة إلا أمرَ .. الأثر. أخرجه البخاري في " الأدب " (رقم: 1301) وإسناده حسن، يوسف صالح الحديث.
كما ذكره الذهبي في " السير " (4/ 568) من طريق قتادة وشعيب بن الحبحاب عن الحسن، قال في رواية قتادة: سمعت عثمان، وفي رواية شُعيب: شَهدت عُثمان.
فالخبر بهذه الطرق صحيح بلا ريبة عن الحسن عن عثمان.
تنبيه: من غريب ما وقفت عليه من التحريف: أن البيهقي أخرج هذه الرواية في " السنن " (2/ 413) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يونس، عن الحسن، أن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، كان يأمر بغسل الكلاب في الحمام. كذا وقعَ في المطبوعة، وفي هامشها تنبيه على الرواية الصحيحة عن أكثر من نسخة: (يأمر بقتل الكلاب والحمام)، لكن يبدو أن الناشر أبقى على هذه الرواية في أصل الكتاب من أجل الباب الذي أوردها البيهقي تحته، حيث قال: " باب نجاسة الأبوال والأرواث وما خرج من مخرج حي " مع ما ذكره تحته من الرواية فإنه لا يُناسبه إلا هذه الرواية المحرَّفة.(2/965)
وثانيها: أن يكونا تعاصرا لكن لا يثبت اللقاء من أجل اختلاف البلد، وعدم قيام الدليل على اجتماعهما في محل.
ومن أمثلته:
قال علي بن المديني: " الحسن لم يسمع من الضحاك (يعني ابن سفيان)؛ فكان الضحاك يكون بالبوادي ولم يسمع منه " (1).
وقال الدارقطني: " لا يثبت سماع سعيد (يعني ابن المسيب) من أبي الدرداء؛ لأنهما لم يلتقيا " (2).
قلت: فكأنه يقول: لأن أبا الدرداء سكن الشام وأقام بها، وسعيداً كان بالمدينة.
وفي معناه، ما نقله ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: سئل أبي عن ابن سيرين: سمع من أبي الدرداء؟ قال: " قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة " (3).
_________
(1) العلل، لابن المديني (ص: 55)، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص: 42).
(2) العلل، للدارقطني (6/ 204).
(3) المراسيل (ص: 187).(2/966)
وعن أحمد بن حنبل، قال: " لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري، تميم بالشام، وزرارة بصريٌّ " (1).
قلت: وهذا من هذا القبيل، لكن صح عن زرارة قال: " حدثني تميم الداري " (2)، وهذا نص لا يقبل التأويل في عدم ثبوت السماع، بل فيه دليل على أن عدم اللقاء في رأي أحمد كان مبنيا على مجرد المظنة، فحيث ثبت سماعه منه فقد اندفعت بذلك تلك المظنة.
ثالثها: أن يكون اللقاء ممكناً، ولكن الراوي عن ذلك الشيخ لا يذكر في شيء من حديثه عنه ما يدل على السماع، وثبت أنه أحياناً يروي عنه بعض حديثه بالوسائط.
وهذا مثل سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حدث عنه بأحاديث، وعامة النقاد كأحمد بن حنبل والبخاري على أنه لم يسمع منه، وأن روايته عنه في مواضع جاءت بواسطة معدان بن أبي طلحة.
نعم، قال أبو حاتم الرازي مرة: " لم يسمع من ثوبان شيئاً، يدخل بينهما معدان "، وهو كقول أحمد بن حنبل والبخاري وغيرهما، وقال مرة: " لم يدرك ثوبان " (3)، واللفظ الأول في نفي السماع أولى، من أجل قوة مظنة الإدراك في الجملة، ولذا قال يعقوب بن سفيان: " لم يسمع سالم من ثوبان، إنما هو تدليس " (4).
واستُعمل هذا الطريق في التعليل نقاد الحديث، وهو من خفيه ومشكله، ويحتاج إلى فطنة وبحث، وتقدم في (النقد الخفي).
وأعل الدارقطني بمثله ما يرويه الحسن البصري عن أبي بكرة، من
_________
(1) نقله ابن رجب في " شرح العلل " (1/ 368).
(2) أخرج ذلك البُخاري في " التاريخ الكبير " (2/ 1 / 439) بإسناد صحيح إلى زُرارة .......
(3) المراسيل (ص: 80).
(4) المعرفة والتاريخ (3/ 236).(2/967)
أجل أنه وجد أحاديث الحسن عن أبي بكرة تأتي تارة بواسطة الأحنف بن قيس، وبه أعل أربعة أحاديث في " صحيح البخاري " (1).
غير أن قوله مرجوح، لثبوت الرواية عن الحسن صريحة بسماعه من أبي بكرة، وثبوت السماع مرة يخرج روايته عن شمولها بمبحث (الإرسال الخفي).
والعلم بوقوع الإرسال الخفي حاصل إما بتنصيص النقاد كالذي ذكرت بعض مثاله عنهم، أو أن يتبين باستقراء وسبر طرق الحديث، وهي الطريق لتمييز علل الحديث.
تاريخ التدليس:
وقوع التدليس قديم في الأسانيد، بدأ في عصر التابعين (2).
_________
(1) قال في " التتبع " (ص: 323): " أخرج البخاري أحاديث الحسن عن أبي بكرة، منها: الكسوف، ومنها: زادك الله حرْصاً ولا تَعد، ومنها: لا يُفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة، ومنها: ابني هذا سيد. والحسن لا يَروي إلا عن الأحنف عن أبي بكرة ".
قلت: وهو مُتعقب بما وَقع عند البخاري في رواية حديث: " ابني هذا سيد "، فإن الحسن قال فيه: " ولقد سمعْت أبا بكرة "، كما أخرجه البخاري في (كتاب الصلح) (رقم: 2557) و (كتاب الفتن) (رقم: 6692)، ومُختصراً في (كتاب فضائل الصحابة) (رقم: 3536)، قال البخاري في الموضع الأول: قال لي عليُّ بن عبْد الله (يعني ابن المديني): " إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث "، ومعنى ذلك في " التاريخ الكبير " (1/ 2 / 56).
وفسَّر أبو الوليد الباجي في " التعديل والتجريح " (2/ 486) (الحسن) قائل تلك العبارة: " سمعت أبا بكْرة " بأنه (الحسن بن علي) من أجل سياق القصة بذكْره، فجعل هذا الحديث من رواية الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبي بكرة، وهو قولٌ ظاهر الضعف، ومُخالفٌ للظاهر، ولم يروَ الحسن بن علي عن أبي بكرة.
وأثبت سماع الحسن البصري من أبي بكرة بهْز بن أسد، فقال: " سمع من أبي بكْرة شيئا " (المراسيل، لابن أبي حاتم، ص: 45).
(2) أما ما حُكي عن شُعبة، أنه قال: " أبو هريرة كان يدلس ". فهذا بينت وهاءه سنداً، وقُبحه إطلاقاً في (المبحث السابق).(2/968)
قال يعقوب بن سفيان: " أبو إسحاق رجل من التابعين، وهو ممن يعتمد عليه الناس في الحديث، هو والأعمش، إلا أنهما وسفيان يدلسون، والتدليس من قديم " (1).
وهؤلاء الثلاثة من أئمة الأمة: أبو إسحاق السبيعي، وسليمان بن مهران الأعمش، وسفيان بن سعيد الثوري، ومع ذلك كانوا يفعلونه، بل ربما سوغ صنيعهم ذلك أن يترخص فيه بعض من بعدهم.
كما قال عبيد الله بن عمر القواريري: " كتب وكيع إلى هُشيم: بلغني أنك تفسد أحاديثك بهذا الذي تدلسها. فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، كان أستاذاك يفعلانه: الأعمش وسفيان " (2).
وقال عبد الله بن المبارك: قلت لهشيم: ما لك تدلس وقد سمعت؟ قال: " كان كبيراك يدلسان " وذكر الأعمش والثوري (3).
وهذا الذي حمل مغيرة بن مقسم الضبي، وكان من أصحاب إبراهيم النخعي، على أن يقول: " ما أفسد حديث أهل الكوفة غير أبي إسحاق والأعمش، أتيا بأحاديث لا يدرك ما وجوهها ولا معانيها " (4).
قلت: هذا مع أن مغيرة نفسه واقع ذلك.
وكان التدليس في الكوفيين كثيراً، مع ما كان فيهم من حفظ السنن والعلم بها.
_________
(1) المعرفة والتاريخ (2/ 633).
(2) نقله عبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال " (النص: 2190) .......
(3) أخرجه الترمذي في " العلل الكبير " (2/ 966) وابن عدي في " الكامل " (2/ 520، و 8/ 452) وإسناده صحيح.
(4) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 322، 990) وابنُ عدي (1/ 242) واللفظ له، وإسناده صحيح. كما أخرج طرفاً منه معناه الجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 81).(2/969)
ومن أجله قال عبد الرحمن بن مهدي: " حديث أهل الكوفة مدخول " (1).
مذاهب أهل العلم في خبر المدلس:
ذهب بعض السلف مذهباً شديداً في التدليس، حتى عده بعضهم بمنزلة الكذب، مع أن الواقع العلمي أننا رأيناهم جميعاً لا يجعلون التدليس جرحاً يرد به حديث الراوي مطلقاً، وإنما يرد ما عرف أنه دلس فيه، أو ما ظن أنه دلس فيه بمجرد عنعنته على قول آخرين.
فلم يكن وقوع التدليس من الراوي قادحاً عندهم في عدالته، مع ما جاء عن طائفة من عيبه وإنكاره.
قال حماد بن زيد وعوف الأعرابي: " التدليس كذب " (2).
وقال شعبة بن الحجاج: " التدليس أخو الكذب " (3).
وقال: " لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أدلس " (4).
وقال أبو عاصم النبيل: " أقل حالات المدلس عندي، أن يدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " (5).
_________
(1) أخرجه ابن عدي (1/ 242) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1879) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه ابن عدي (1/ 106 _ 107) بإسناد حسن عن حماد، وصحيح عن عوْف.
(3) أخرجه ابن عدي (1/ 107) والخطيب في " الكفاية " (ص: 508) من طريق الشافعي، قال: قال شُعبة، به. وإسناده صحيح.
(4) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 92) وإسناده صحيح. ورُوي عن عبد الله بن المبارك معناه. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 509) وفي إسناده أحمد بن محمد بن عمران الجندي وهو ضعيف، ومنهم من اتهمه.
(5) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 107 _ 108) وإسناده صحيح. ورُوي قبله عن حماد بن زيد أيضاً، أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 508 _ 509).
وأما حديث الذي استدلَّ به أبو عاصم، فهو مُتفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر: أخرجه البُخاري (رقم: 4921) ومُسلم (رقم: 2130).(2/970)
فهؤلاء شددوا في إنكار التدليس، لكن ليس فيهم من جرح راوياً بالتدليس، فرد حديثه بذلك مطلقاً.
وبين الشافعي فيما سيأتي من عبارته أن التدليس ليس كذباً يرد به كل حديث الراوي، وقال ابن رجب: " هذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة " (1).
قلت: التهمة بالتدليس جرح، لكنه نسبي، فهو لا ينافي الثقة، وما من أحد شدد في التدليس إلا روى عمن ذكر به، وشعبة من أظهرهم في ذلك روى عن جماعة من شيوخه من المعروفين بالتدليس، كأبي إسحاق السبيعي والأعمش من أئمة زمانه، فما منعه وقوع ذلك منهم من الرواية عنهم، ولا دعاه إلى الطعن عليهم.
والمذاهب المعتبرة لأهل العلم في حديث المدلس الذي لا يذكر فيه السماع تحصر في الأربعة التالية:
المذهب الأول: قبول روايته مطلقاً ما دام ثقة، ولم يتبين فيها علة قادحة، وإن لم يبين سماعه.
وهذا يمكن أن تنزل عليه مذاهب من رأى قبول المراسيل؛ لأنه في التحقيق أولى بالقبول من المرسل فالمرسلُ قد عمل في الانقطاع جزماً، والمدلس انقطاعه على سبيل المظنة الواردة بسبب العنعنة.
وممن ذهب إلى هذا أبو محمد ابن حزم، فقال: " نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله، وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك، وسواء قال: (أخبرنا فلان)،
_________
(1) شرح علل الترمذي (1/ 356) .......(2/971)
أو قال: (عن فلان)، أو قال: (فلان عن فلان)، كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند، فإن أيقنا ذلك تركنا الحديث وحده فقط، وأخذنا سائر رواياته " (1).
والمذهب الثاني: منع قبول رواية من عرف بالتدليس ولو مرة واحدة، إلا فيما بين فيه سماعه صريحاً، وردّ ما رواه بصيغة احتمال السماع واحتمال التدليس، كالعنعنة.
وهذا هو مذهب الشافعي، فإنه قال: " ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في رواياته، وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه: حدثني، أو: سمعت " (2).
وقال ابن حبان: " المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه، لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر؛ لأنه لا يدري لعله سمعه من إنسان ضعيف يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه وعرف الخبر به، فما لم يقل المدلس في خبره وإن كان ثقة: (سمعت) أو: (حدثني)، فلا يجوز الاحتجاج بخبره " (3).
وقال: " وهذا أصل أبي عبد الله الشافعي، رحمه الله، ومن تبعه من شيوخنا " (4).
قال الخطيب: " وهذا هو الصحيح عندنا " (5).
وقال الخطيب: " فإن قيل: لم إذا عرف تدليسه في بعض حديثه وجب حمل جميع حديثه على ذلك، مع جواز أن لا يكون كذلك؟
_________
(1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 142).
(2) الرسالة (الفقرات: 1033 _ 1035) .......
(3) الثقات (1/ 12)، معنى ذلك له أيضاً في " المجروحين " (1/ 92) و " صحيحه " (1/ 161).
(4) المجروحين (1/ 92).
(5) الكفاية (ص: 515).(2/972)
قلنا: لأن تدليسه الذي بان لنا صير ذلك هو الظاهر من حاله، كما أن من عرف بالكذب في حديث واحد صار الكذب هو الظاهر من حاله، وسقط العمل بجميع أحاديثه، مع جواز كونه صادقاً في بعضها، فكذلك حال من عرف بالتدليس، ولو بحديث واحد، فإن وافقه ثقة على روايته وجب العمل به؛ لأجل رواية الثقة له خاصة دون غيره " (1).
والمذهب الثالث: رد رواية من شاع عنه التدليس واشتهر به وكثر منه، حتى يبين سماعه صريحاً. دون من ذكر به، ولم يعرف له كبير أثر على صحة حديثه وروايته في الجملة، فهذا يقبل حديثه وإن عنعن فيه، من أجل ضعف مظنة التدليس، خصوصاً وأن حديث الراوي معروض في العادة على المعروف من حديث الثقات المتقنين، فلدينا بهذا الاعتبار ميزان لكشف أثر تدليسه إن وجد.
كذلك يقال كما سبق: التدليس قدح نسبي في الراوي، مظنته فيمن استقرت ثقة ولم يكثر منه شبيهة بمظنة خطئه، فمع احتمال وقوع ذلك منه، إلا أن روايته مقبولة ما لم يثبت خطؤه فيها.
وعلى هذا المذهب في التحقيق عمل الشيخين، وعليه دلت عبارات كبار أئمة الحديث:
قال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى من معين عن التدليس؟ فكرهه وعابه، قلت له: أفيكون المدلس حجة فيما روى؟ أو حتى يقول: (حدثنا) و (أخبرنا)؟ فقال: " لا يكون حجة فيما دلس " (2).
قلت: فابن معين هنا لا يشترط بيان السماع لقبول حديث المدلس، وإنما هو لديه مقبول، إلا فيما ثبت أنه دلس فيه.
_________
(1) الكفاية (518) .......
(2) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 107) والخطيب في " الكفاية " (ص: 516) وإسناده صحيح.(2/973)
وقال يعقوب بن شيبة: سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يقل: (حدثنا)؟ قال: " إن كان الغالب عليه التدليس فلا، حتى يقول: حدثنا " (1).
قلت: فجعل غلبة التدليس على الراوي هي السبب في رد ما لم يبين فيه السماع، دون من لم يغلب عليه وكان يذكر به نادراً.
وكأن من هذا صنيع أحمد بن حنبل في توقفه في قبول رواية لهشيم بن بشير، وهو معروف بالتدليس مشهور به، فقد قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: " حديث ابن شبرمة: قال رجل للشعبي: نذرت أن أطلق امرأتي، لم يقل فيه هشيم: أخبرنا، فلا أدري سمعه أم لا " (2).
كذلك قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل (سمعت)؟ قال: " لا أدري "، فقلت: الأعمش، متى تصاد له الألفاظ؟ قال: " يضيق هذا، أي: أنك تحتج به " (3).
قلت: فهذا د ل على توقف أحمد في قبول عنعنة المدلس في حال، وقبولها دون توقف في حال أخرى، فحال التوقف ينبغي أن تحمل على عنعنة من اشتهر أمره بالتدليس وكثر ذلك منه كهشيم، أما من ذكر به وكان كثير الحديث الصحيح المتصل، وشق تتبع ذكره للسماع في كثرة ما روى وندرة أثر ما ذكر به من التدليس، كالأعمش، فهذا يحتج به.
لكن يجب أن يقيد بالقول: ما لم يثبت أنه دلس فيه.
ومن ذلك قول البخاري: " لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي
_________
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 516 _ 517) وإسناده صحيح.
(2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 322).
(3) سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل (النص: 138).(2/974)
ثابت، ولا عن سلمة بن سهيل، ولا عن منصور _ وذكر مشايخ كثيرة _ لا أعرف لسفيان هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه " (1).
وقال مسلم بن الحجاج: " وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه حتى تنزاح عنهم علة التدليس " (2).
وقال يعقوب بن سفيان: " حديث سفيان وأبي إسحاق، والأعمش، ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة " (3).
قلت: وقد جهدت لأقف لأبي حاتم الرازي أو صاحبه أبي زرعة على حديث أعلاه بمجرد العنعنة من موصوف بالتدليس، فلم أجد، وإنما وجدتهما في شيء قليل يحيلان التهمة بنكارة الحديث على عنعنة المدلس، حيث لم يبين السماع، ولا ريب أن هذا أولى من تخطئة الثقة أو الصدوق أو حمل النكارة في الرواية عليه. وتارة لثبوت التدليس في الحديث المعين (4)، كما رأيت أبا حاتم توقف في بعض الأسانيد خشية التدليس لغلبة المظنة (5).
وجائز حمل عبارة ابن عبد البر على هذا المذهب، حين قال بعد أن ذكر الاتفاق على الإسناد المعنعن: " إلا أن يكون الرجل معروفاً بالتدليس، فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا، أو سمعت، فهذا ما لا أعلم فيه خلافاً " (6).
_________
(1) العلل الكبير، للترمذي (2/ 966) .......
(2) مقدمة صحيح مسلم (ص: 33).
(3) المعرفة والتاريخ (2/ 637).
(4) انظر إن شئت: علل الحديث، لابن أبي حاتم (الأرقام: 60، 109، 474، 725، 1221، 2078، 2308، 2579).
(5) علل الحديث (رقم: 2119، 2463).
(6) التمهيد (1/ 13).(2/975)
ولما ذكر ابن رجب مذهب الشافعي في رد خبر المدلس بوقوعه في التدليس مرة، قال: " واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل " وذكره عن علي بن المديني (1).
والمذهب الرابع: التفريق بين أصناف المدلسين من الثقات، بين من عرف أنه لم يدلس إلا عن ثقة معروف عند أهل العلم بالحديث، وبين من عرف بالتدليس عن المجروحين والضعفاء والمجهولين (2).
وهذا المذهب يجب اعتباره على تفصيل:
فمن قالوا فيه: (لا يدلس إلا عن ثقة) فيجب أن يكون ذلك الثقة معروفاً لأهل العلم، لا بناء على قول الناقد: (فلان لا يدلس إلا عن ثقة)، فذلك الثقة عنده ربما كان مجروحاً عند غيره لو سمي.
ولو قيل: بل نقبل ذلك بإطلاق، ما دام قائله في الراوي من النقاد العارفين.
قلنا: إذا يلزم أن نقبل بإطلاق كذلك خبر الحافظ الناقد المدلس إذا روى لنا عن شيخ له بالعنعنة، من أجل ما أحسناه فيه من الظن: أنه دلسه وهو عنده ثقة، لأنه لو كان يعده مجروحاً فدلسه كان ذلك مما يقدح فيه؛ لما فيه من ضد الأمانة في الدين، والصواب أن حسن الظن هنا لا يغني شيئاً.
وقد بينا في (مباحث التعديل) أن قول الناقد: (حدثني الثقة) ولا يسميه، لا يعتمد عليه، بل هو منزل منزلة المجهول، وفي التدليس لم يقل شيئاً من ذلك، بل أسقطه جملة، فزاد في الريبة، خصوصاً مع استحضار أن المدلس قد يسقط واسطتين أو أكثر.
_________
(1) شرح علل الترمذي (1/ 353 _ 354).
(2) نقل ابن رجب هذا المذهب في " شرح العلل " (1/ 354) عن الكرابيسي وأبي الفتح الأزدي وبعض فُقهاء الحنابلة، وقال: " هذا بناء على قولهم في قبول المرسل " .......(2/976)
والواجب تقسيم هذه المسألة إلى صورتين:
الأولى: من عرف بالتدليس عن الثقات في الجملة، كالذي ذكر به سفيان بن عيينة، فهذا إن احتملنا تدليسه عن شيخ في موضع العنعنة، وقلنا: لا يدلس إلا عن ثقة، فحيث جهلنا من يكون ذلك الثقة فهو بمنزلة تصريحه بمن دلسه بصيغة الإبهام فقال: (حدثني ثقة عن ذلك الشيخ)، والراوي إذا أبهم شيخه، فإنه لا يغني في قبول روايته أن يطلق توثيقه دون تسميته، من أجل أنه لو سماه فجائز أن يكون مجروحاً عند غيره، كما تقدم.
فهذه الصورة لا تكاد تختلف عن صورة التدليس عن مجهول، فلا يصح إطلاق القبول فيها.
وقد شبهها ابن حبان بمراسيل الصحابة في القبول (1)، وليس كذلك فإن جهالة الصحابي لا تضر على التحقيق؛ لعدالتهم جميعاً، بخلاف جهالة غيره.
والثانية: أن نكون قد عرفنا من دلسه الراوي إن كان دلس، وكان المدلس ثقة، فهذا لا يقدح في ثبوت الرواية بين المدلس ومن روى عنه.
ومن أمثلة من كانوا يدلسون عن الثقات جماعة، منهم:
1 _ حميد الطويل عن أنس بن مالك.
قال ابن عدي: " الذي رواه عن أنس البعض مما يدلسه عن أنس، وقد سمعه من ثابت " (2).
2 _ يونس بن عبيد وهو من أصحاب الحسن البصري.
_________
(1) في " صحيحه " (1/ 161).
(2) الكامل (3/ 67) .......(2/977)
قال شعبة: " عامة تلك الدقائق التي حدث بها يونس عن الحسن، إنما كانت عن أشعث " يعني ابن عبد الملك. قال ابن أبي حاتم: " يعني أن يونس أخذها من أشعث عن الحسن، ودلسها عن الحسن، ولم يذكر الخبر " (1).
3 _ عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد في رواية التفسير:
ذكر ابن أبي خيثمة عن علي بن المديني، أنه سمع يحيى بن سعيد، وذكر تفسير مجاهد، فقال: " لم يسمعه ابن أبي نجيح عن مجاهد، كله يدور على القاسم بن أبي بزة " (2).
4 _ وذكر الحاكم قتادة وأبا سفيان طلحة بن نافع فيمن يدلس عن الثقات (3).
وفي هذه الأمثلة رد على ما ادعاه ابن حبان بقبوله: " هذا ليس في الدنيا إلا سفيان بن عيينة وحده
فإه كان يُدلس، ولا يُدلَّسُ إلا عن ثقة مُتقن، ولا يكادُ يوجد لسفيان بن عيينة خبرٌ دلس فيه إلا وجد ذلك الخبر بعينه قد بين سماعه عن ثقة مثل نفسه " (4).
قلت: تبين أن ذلك غير محصور في سفيان بن عيينة.
وهؤلاء لا يضر تدليسهم لمن دلسوه، ولا يقدح في صحة رواياتهم بذلك التدليس، فحيث علم طريق الاتصال فقد زال الإشكال.
الترجيح:
من خلال ما تقدم عرضه من مذاهب أهل العلم فإنه لا ينبغي العدول عن المذهب الثالث، الذي جرى عليه عمل الشيخين.
_________
(1) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 134 _ 135) بإسناد صحيح إلى شُعبة.
(2) أخرجه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " في (أخبار المكيين) (ص: 321).
(3) معرفة علوم الحديث (ص: 103).
(4) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 161) .......(2/978)
كذلك يستفاد من المذهب الرابع أيضاً قبول حديث من ذكر بالتدليس، غير أنه كان يدلس ثقة معروفاً.
والحديث إذا ثبت تدليس الراوي فيه فهو منقطع ضعيف.
وإن لم يثبت، ولكنه كان محتملاً، من أجل ما اشتهر به بالراوي وعرف عنه، وكان تدليسه عن غير الثقات، فهذا يحكم على ما عنعنه عن شيخه بالضعف؛ من أجل مظنة التدليس، ما لم ينف أثرها متابعة أو شاهد.
وإن كان ممن عرف بتدليس التسوية فإنه لا يقبل حديثه حتى يحفظ السماع فيمن فوقه إلى أن يبلغ الصحابي؛ لأن محذور تدليسه محتمل في أي موضع عنعنة.
لكن يستثنى من هذا الصورة الأخيرة أن يكون سائر الإسناد سلسلة معروفة، كمالك عن نافع عن ابن عمر، فلو أن من يدلس التسوية روى عن مالك حديثاً فقال: (حدثنا)، ثم ذكره بالعنعنة بين مالك ونافع، وبين نافع وابن عمر، لم يضره ذلك؛ لأنها سلسلة قد عرف اتصالها.
واعلم أن بعض العلماء التزموا مذهب الشافعي، وهو الذي جرى عليه عمل المنتسبين إلى هذا العلم من المتأخرين، خصوصاً من أهل زماننا، فلما وجدوا أحاديث لجماعة من الموصوفين بالتدليس مخرجة في " الصحيحين " بالعنعنة، لا يوقف في شيء من طرقها على ذكر السماع، تحيروا في الجواب، إذ مقتضى أصلهم رد مثل تلك الأحاديث.
قال ابن حجر: " في الصحيحين جملة كثيرة من أحاديث المدلسين بالعنعنة " (1).
فأجابت طائفة بأجوبة ضعيفة عن ذلك تحسيناً للظن بالشيخين، وهذا مما لا يصلح في العلم.
_________
(1) النكت على ابن الصلاح (2/ 635).(2/979)
ونقل ابن حجر عن الفقيه صدر الدين ابن المرحل قوله: " إن في النفس من هذا الاستثناء غصة؛ لأنها دعوى لا دليل عليها، ولا سيما أنا وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها " (1).
قلت: وهذا كله إنما نتج من إجراء أحاديث الصحيحين على قول الشافعي، واعتبار ظاهر المصطلحات، وقد علمت أن منهج الشيخين وكبار أهل التحقيق قبلهما وبعيدهما قبول الحديث المعنعن لموصوف بالتدليس على معنى غير قادح، على ما تقدم بيانه.
تنبيه:
التهمة للثقة بالتدليس دون دليل من قبيل الجرح المبهم، فيعتبر لقبوله ما يعتبر لقبول الجرح.
تسليم وصف الراوي بالثقة موجب لقبول ما يخبر به، لا يستثنى من خبره إلا ما قام دليل على رده، ولا يقبل فيه الجرح إلا أن يكون مفسراً.
ومن هذا الجرح بوصف الراوي بالتدليس، فإن إثباته في حق راو معين يجب أن يكون ببرهان، فإذا وقع من إمام من أئمة الجرح والتعديل أن أطلق كون فلان مدلساً، فهذا لا عبرة به حتى يثبت أنه دلس، فإن ثبت في خبر معين رد ذلك بما تبين من تدليسه فيه إن كان دلسه من غير ثقة.
وإنما يستثنى منه من كان التدليس شعاراً له، حتى كثُر فأحدث الريبة في جميع ما يقول فيه (عن)، فهذا يرد حديثه المعنعن من أجل الريبة الغالبة لا من أجل التدليس، فإن العنعنة بمجردها لا توجبه.
_________
(1) النكت (2/ 635) .......(2/980)
والعلة في تنزيل مجرد الوصف بالتدليس منزلة الجرح المجمل تعود إلى أسباب، أظهرها:
أولاً: أننا وجدنا إطلاق اسم التدليس على صور ليست منه، فأطلق على الإرسال الظاهر، وعلى الإرسال الخفي، كما أطلق على أعيان، شهد بعض النقاد ببراءتهم منه.
ومما يبين ذلك _ مثلاً _ أن الحسن البصري أطلق عليه وصف التدليس، لكن الدليل عليه أنه روى عن جماعة لم يسمع منهم، أو سمع منهم شيئاً معيناً دون سائر ما يروي عنهم، وهذا لاحق بالإرسال أو الإرسال الخفي.
كذلك قال أبو حاتم الرازي في (أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي): " لا يعرف له تدلس " (1).
بينما قال الذهبي: " يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم، وكان له صحف يحدث منها ويدلس " (2).
قلت: فكانوا يطلقون على الإرسال اسم التدليس، وأبو قلابة لم يكن يدلس بمعنى التدليس الاصطلاحي، إنما كان يرسل، وذلك منصوص عليه في رواةٍ أدركهم ولم يسمع منهم.
وقول أبي حاتم أولى بالاعتبار والتقديم؛ لموافقته المعنى الاصطلاحي المتميز للتدليس.
قال ابن حجر بعد ذكر عبارة أبي حاتم في نفي تدليس أبي قلابة: " وهذا يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء في التدليس، لا الاكتفاء بالمعاصرة " (3).
_________
(1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 58).
(2) ميزان الاعتدال (2/ 426).
(3) تهذيب التهذيب (2/ 340) .......(2/981)
ثانياً: وجدنا من الرواة من يتنازع في إطلاق وصف التدليس عليه، بمنزلة اختلافهم في جرح الراوي وتعديله.
قال أبو داود السجستاني في (مغيرة بن مقسم الضبي): " مغيرة لا يدلس، سمع مغيرة من إبراهيم مئة وثمانين حديثاً " (1).
وقال العجلي: " كان (يعني مغيرة) يرسل الحديث عن إبراهيم، وإذا أوقف أخبرهم عمن سمعه " (2).
قلت: وهذا من قول العجلي يثبت تدليسه عن إبراهيم، فكأن أبا داود أراد غالب أمره.
ثالثاً: وجدنا بعض من أطلق عليه وصف التدليس استفيد ذلك فيه من جهة وقوعه منه في روايته عن بعض شيوخه دون سائرهم، فإطلاق العبارة يوهم اندراج جميعهم.
وذلك مثل رواية أبي حرة واصل بن عبد الرحمن البصري عن الحسن البصري، فإنه كان يدلس عنه، وضُعف فيه من أجل أنه لم يسمع منه إلا شيئاً يسيراً، وكان يقول في سائر روايته عنه: (عن الحسن)، فكلامهم فيه بالتدليس محصور في الحسن خاصة، لا في سائر شيوخه أو حديثه.
فهذه الأسباب موجبة لتمييز معنى لفظ التدليس وصحته ووجهه، فأما اللفظ المجمل فلا يصح اعتماده لرد الحديث المعنعن للراوي الثقة يرويه عن شيوخه.
كيف يعرف التدليس؟
يعرف التدليس في الراوية بطرق:
الأولى: تفقد السماع من فم الراوي نفسه.
_________
(1) سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 166).
(2) ترتيب ثقات العجلي (النص: 1777).(2/982)
وذلك كثير الأمثلة من صنيع الأئمة في توقيف الراوي على ما سمع وما لم يسمع، يستكشفون به وقوع التدليس أو عدم السماع.
كما كان يصنع شعبة بن الحجاج في حق من ذكر من شيوخه بالتدليس، كقتادة وأبي إسحاق السبيعي، وهو أبرز من شاع عنه ذلك من الأقدمين في تتبع السماع، والحكايات الصحيحة عنه في ذلك كثيرة جداً، وكان لا يدلس أبداً، وكان شديداً جداً في إنكار التدليس.
فكان يقول مثلاً: " كنت أتفقد فم قتادة، فإذا قال: سمعت، أو: حدثنا، حفظت، وإذا قال: حدث فلان، تركته " (1).
وكذلك ربما فعل سفيان الثوري، وإن كان ربما وقع منه التدليس في الشيء النادر.
قال عبد الرحمن بن مهدي: " كنت مع سفيان عند عكرمة (يعني ابن عمار)، فجعل يوقفه على كل حديث على السماع " (2).
وفي رواية، قال ابن مهدي: " قال لي سفيان الثوري بمنى: مر بنا إلى عكرمة بن عمار اليمامي، قال: فجعل يملي على سفيان، ويوقفه عند كل حديث: قل حدثني، سمعت " (3).
_________
(1) أخرجه عُثمان الدارمي في " تاريخه " (النص: 703) وابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 161، 169) والبغوي في " الجعديات " (رقم: 1074) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 5077) والخطيب في " الكفاية " (ص: 517) بإسناد صحيح. وروى ابنُ أبي حاتم كذلك في " التقدمة " (ص: 169 _ 170) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 34، و 2/ 1 / 370) والبغوي أيضاً (رقم: 1073، 1075) وعبد الله في " العلل " (النص: 5068) والرامهرمزي (ص: 522) وابنُ عدي (1/ 151) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 43) والخليلي في " الإرشاد " (2/ 487) والخطيب في " الكفاية " وابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 35) معناه من غير وجه .......
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 68) بإسناد صحيح.
(3) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح " (ص: 117) وإسناده صحيح.(2/983)
وقال يحيى القطان: " شهدت سفيان يقول لأبي الأشهب: قل سمعت، قل سمعت " (1).
وقد جرى يحيى القطان على منهاج شيخه شعبة في التشديد في التدليس، والتنقيب والبحث عن السماع، حتى جاء عن أحمد بن حنبل: لم لا تقول ليحيى بن سعيد: قل حدثنا؟ فقال: " مثل يحيى يقال له: قل حدثنا؟! " (2).
قلت: يعني أن مثله لا يتفقد منه السماع؛ لأنه لا يروي إلا متصلاً.
وعن مالك بن أنس قال: " كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر، فيقول الزهري: قال ابن عمر كذا كذا، فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه، فقلنا له: الذي ذكرت عن ابن عمر من أخبرك به؟ قال: ابنه سالم " (3).
الثانية: مقارنة الأسانيد، فيكشف بذلك من أسقط في موضع العنعنة للشيخ المعين، مع إدراك ذلك الشيخ وسماعه في الأصل ممن عنعن عنه.
وذلك مثل: حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر ".
هذا الحديث رواه سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبو خالد سليمان بن حيان الأحمر ويحيى بن سعيد القطان، وهؤلاء كلهم ثقات، عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع، به.
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح " (ص: 82) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 233 _ 234) وإسناده جيد.
(3) أخرجه أحمد في " العلل " (النص: 476) _ ومن طريقه: ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 37) _ وابن سعد في " الطبقات " (ص: 179 _ القسم المتمم) وإسناده صحيح .......(2/984)
ورواه جماعة عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة، عن عاصم بن عمر، ولم يقل في شيء من الروايات: (حدثني عاصم).
وهذه متابعة لابن عجلان، هكذا أوهم ابن إسحاق بتدليسه، وكشفت رواية أخرجها الإمام أحمد (1) عن حقيقة ذلك قال فيها: حدثنا يزيد (وهو ابن هارون)، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: أنبأنا ابن عجلان، عن عاصم، بباقي الإسناد به.
فعاد الحديث لابن عجلان، فتأمل كيف أوهم التدليس طريقاً جديداً للحديث، ولو كان ابن عجلان ضعيفاً وأسقط، وبقي في السند الثقات لأوهم القبول، وقد عهد ابن إسحاق بكثرة التدليس، وهو يدلس عن مجروحين.
الثالثة: معرفة قدر ما روى الراوي عن شيخه متصلاً، فإذا روى عنه غير ذلك علمنا أنه إنما تلقاه عنه بواسطة، فأسقطها.
لكن هذا الطريق يوجب تحريا ًشديداً قبل الجزم به.
فلو اعتمدت مثلاً قول يحيى بن سعيد القطان: " كان ابن جريج لا يصحح أنه سمع من الزهري شيئاً "، قال: " فجهدت به في حديث: إن ناساً من اليهود غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم. فلم يصحح أنه سمع من الزهري. ولم يسمع ابن جريج من مجاهد إلا حديثاً واحداً " (فطلقوهن في قبل عدتهن). ولم يسمع ابن جريج من ابن طاوس إلا حديثاً في محرم أصاب ذرات، قال: فيها قبضات من طعام. ولم يسمع الحجاج بن أرطاة من الشعبي إلا حديثاً: لا تجوز صدقة حتى تقبض " (2).
فهذا لا يسلم على إطلاقه فيمن ذكر، ولا يصلح أن يبنى عليه بمجرده
_________
(1) في " مُسنده " (3/ 465).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 245) بإسناد صحيح إلى يحيى.(2/985)
مثلاً أن يكون جميع ما يرويه ابن جريج عن الزهري غير هذا الحديث مما لم يسمعه منه، فيحمل على أن ابن جريج دلس فيه؛ وذلك لأننا وجدنا في أحاديث كثيرة يقول فيها ابن جريج: (أخبرني الزهري) وغير ذلك من صيغ التحمل المباشر.
وقد قال سفيان بن عيينة: " ابن جريج جاء إلى الزهري بأحاديث، فقال: أريد أن أعرضها عليك، فقال: كيف أصنع بشغلي؟ قال: فأرويها عنك؟ قال: نعم " (1).
وقال أحمد بن حنبل: " ابن جريج عرض، وهو يقول: سألت ابن شهاب " (2).
وقال علي بن المديني: " ابن جريج لم يسمع من ابن شهاب شيئاً، إنما عرض له عليه "، قال: " وقال يحيى (يعني القطان): قال لي سفيان بن حبيب: بلى قد سمع منه كذا كذا، قال: فأتيته، فسألته عنه؟ فقال: ما أدري، سمعته أو قرأته " (3).
قلت: عرض على الزهري، وطائفة من الأئمة منهم الزهري نفسه يرون العرض كالسماع.
إذاً، فلا تحمل روايته عنه لغير الحديث المذكور لو ذكر السماع على
_________
(1) أثر صحيح. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 457) من طريق مُحمد بن عباد، عن سُفيان به، وإسناده جيد.
ورَوى ابن عيينة عنه معنى ذلك كذلك في قصة ابن جريج من غير هذا الوجه، أخرجه الرامهرمزي (ص: 436) والخطيب في " الكفاية " (ص: 457).
(2) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 2962) عن مُحمد بن علي الجوزجاني المعروف بحمدان الوراق عن أحمد، وإسناده صحيح، الجوزجاني من أصحاب أحمد بغدادي ثقة .......
(3) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة " (2/ 139) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 388) بأوله _ وإسناده صحيح.(2/986)
الخطأ، بل هي أخبار متصلة، إلا أن تكون معنعنة، فتحمل على مظنة التدليس.
وكذلك، ثبت سماع ابن جريج من عبد الله بن طاوس لغير الحديث المذكور (1).
وأما مجاهد، فقد روى ابن جريج عنه كثيراً في التفسير، لكنها مدلسة عن ثقة معروف، كما قال ابن حبان: " ما سمع التفسير عن مجاهد غير القاسم بن أبي بزة. نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم، ونسخوه، ثم دلسوه عن مجاهد " (2).
طبقات المدلسين:
وباعتبار ما تقدم بيانه وترجيحه من مذاهب أهل العلم في رواية من ذكر أو اشتهر بالتدليس، فإن مما يساعد لمعرفة المدلسين اعتبار تقسيمهم إلى طبقات، بحسب من يقدح وصفه به في رواياته ومن لا بقدح.
وقد ذهب جماعة من متأخرين الحفاظ إلى تقسيمهم إلى خمس طبقات:
الأولى: من لم يوصف به إلا نادراً، بحيث إنه لا ينبغي عده فيهم، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة.
_________
(1) ووجدت النص عن يحيى القطان قد حدَّث به يحيى بن مَعين عنه في " تاريخه " (النص: 543) وفيه: (طاوس) لا (ابن طاوس)، وكذلك في نسخه من " التقدمة " لابن أبي حاتم، كما في الهامش، فإن كان كذلك فإن ابن جريج روى عن طاوس شيئاً معنعناً.
(2) مشاهير علماء الأمصار (ص: 146)، ونحوه في " الثقات " (7/ 331). وعدم سماع ابن جريج التفسير من مجاهد هو قول يحيى القطان، كما نقله عنه يحيى بن معين في " تاريخه " (النص: 4499) .......(2/987)
والثانية: من احتمل الأئمة تدليسه، واحتج به أصحاب الصحيح وإن لم يبين السماع، لإمامته، أو قلة تدليسه، أو لكونه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل: الزهري، والأعمش، وسفيان الثوري.
قلت: الإمامة ليست معياراً لقبول حديثه لو كان كثير التدليس، فابن جريج إمام، لكن لا تقبل عنعنته لكثرة تدليسه، سوى ما يرويه عن عطاء والتفسير عن مجاهد.
والثالثة: من توقف فيهم جماعة من العلماء، فلم يحتجوا إلا بما بينوا فيه السماع، مثل: أبي إسحاق السبيعي، وأبي الزبير المكي.
والرابعة: من اتفقوا على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم، إلا بما بينوا فيه السماع، لغلبة ذلك منهم، وكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين، مثل: محمد بن إسحاق، وبقية بن الوليد.
والخامسة: من ضعفوا بأمر آخر مع جرحهم بالتدليس، مثل: أبي سعد البقال.
هذه القسمة والتمثيل للحفاظ العلائي بتصرف، وهي أدق وألصق بالمذاهب المنقولة عن السلف من قسمة من جاء بعده (1).
لكن محاكمة من أطلقت فيه العبارة من أولئك الرواة يحتاج إلى تحرير في حق كل راو مذكور به على سبيل الاستقلال، بمنزلة تحرير ألفاظ الجرح والتعديل فيه، لما تقدم بيانه من كون إطلاق اسم التدليس على الراوي إنما هو من قبيل الجرح المجمل.
وكثير من المتأخرين من العلماء وطلبة هذا العلم صاروا إلى تقليد ابن حجر فيمن سماهم في " طبقات المدلسين " من تأليفه، وسلموا له بمجرد إيراده للراوي فيما اصطلحه (الطبقة الثالثة) وما بعدها لرد حديثه بمجرد
_________
(1) جامع التحصيل (ص: 130 _ 131).(2/988)
العنعنة، وفي ذلك قصور ظاهر، والتقليد في هذا لا يجوز، فهذا علم بناؤه على البحث والنظر، فلا يسوغ لمنتصب له أن يقلد فيه، فيصير إلى الطعن في الحديث الصحيح بمجرد كون ابن حجر أورد هذا الراوي أو ذاك في كتابه، علماً بأن ابن حجر أورد الأسماء في غاية من الاختصار، والمتتبع لكلامه نفسه في تقوية الأحاديث يجده لا يلتزم ما التزمه هؤلاء المقلدون.
فائدة في الرواة الوارد عليهم مظنة التدليس:
قال الحاكم: " أهل الكوفة منهم من دلَّس، ومنهم من لم يدلس، وقد دلس أكثرهم، والمدلسون منهم: حماد بن أبي سليمان، وإسماعيل بن أبي خالد، وغيرهما، فأما الطبقة الثانية، فمثل أبي أسامة حماد بن أسامة، وأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وغيرهما، فإن أكثرهم لم يدلسوا " (1).
وقال: أهل الحجاز والحرمين ومصر والعوالي ليس التدليس من مذهبهم، وكذلك أهل خرسان والجبال وأصبهان وبلاد فارس وخوزستان وما وراء النهر لا يعلم أحد من أئمتهم دلس، وأكثر المحدثين تدليساً أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة " وذكر أهل بغداد، ونفى أن يكون التدليس فيهم موجداً إلى زمان أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، فهو الذي أظهر فيها التدليس (2).
وقد صح عن شعبة بن الحجاج قال: " ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلا يدلس، إلا ابن عون وعمرو بن مرة " (3).
قلت: وهذا عام فيمن رآه شعبة من المعروفين بالاعتناء بالحديث، وحمله على العراقيين أهل بلده أظهر، من أجل قلة ذلك في غيرهم.
_________
(1) المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم (ص: 46) .......
(2) معرفة علوم الحديث (ص: 111، 112).
(3) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 52) وإسناده جيد.(2/989)
وأما ما رُوي عن يزيد بن هارون أنه قال: " قدمت الكوفة، فما رأيت بها أحداً لا يدلس، إلا ما خلا مسعراً وشريكاً "، فهذا لا يثبت عنه (1).
الصيغة التي يندفع بها التدليس عن الموصوف به:
كل صيغة أداء صريحة في عدم احتمال الواسطة بين الراوي وشيخه فهي دافعة لمظنة التدليس ما دامت محفوظة عنه.
مثل: (سمعت) و (حدثني) و (حدثنا) و (أخبرني) و (أخبرني) و (أنبأني) و (أنبأنا) و (قال لي) و (قال لنا) و (ذكر لي) و (ذكر لنا) , وما في معنى ذلك.
ولا يقدح في هذا استعمال بعض الرواة صيغة (أخبرنا) مثلاً فيما تحملوه بالإجازة والمكاتبة والمناولة، فإن التحمل بتلك الطرق اتصال؛ لانعدام الواسطة، كما بينته في موضعه.
والمعتبر في التدليس إسقاط الواسطة بين الراوي وشيخه، فكل ما لم يكن للواسطة فيه وجود فلا يقحم في التدليس، وإن لم يكن تلقيه بطريق السماع.
ومن ذلك الراوي من كتاب الشيخ الصحيح النسبة إليه.
تتمة في مسائل في التدليس:
المسألة الأولى: الراوي إذا لم يكن مدلساً وقال فيما يرويه عن شيوخه: (عن) فهو اتصال، ولا يطلب ذكر السماع إلا زيادة في التوثق، لا شرطاً في الاتصال.
وهذا الأصل تقدم شرحه في بيان ركن الاتصال في (القسم الأول).
_________
(1) أخرجه أبو نُعيم في " الحلية " (7/ 250 رقم: 10390) والخطيب في " الكفاية " (ص: 515) وإسناده واهٍ بمرة، فيه الحسن بن علي بن زكريا العدوي البصري كان معروفاً بوضْع الحديث .......(2/990)
قيل لسعيد بن سليمان الواسطي سعدويه: لم لا تقول: (حدثنا)؟ فقال: " كل شيء حدثتكم به فقد سمعته، ما دلست حديثاً قط، ليتني أحدث بما قد سمعت " (1).
فالثقات الذين لا يعرفون بالتدليس إذا حدثوا عن شيوخهم فقالوا فيما يروونه عنهم: (عن فلان)، فالأصل أنه مسموع لهم من أولئك الشيوخ.
المسألة الثانية: تمييز من عرف بالتدليس، لكنه لا يدلس عن بعض الرواة خاصة.
وهذا مراد به الراوي يرد ما لم يبين في السماع من حديثه، حتى يوقف على ما يدفع مظنة تدليسه، لكنه استثني مما يدلس فيه روايته عن بعض شيوخه بالعنعنة.
منهم: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، فهو مدلس مشهور بذلك يدلس عن المجروحين؛ لكنه لم يكن يدلس عن عطاء بن أبي رباح، وهو كثير الحديث عنه.
فقد صح عنه قال: " إذا قلت: قال عطاء، فأنا سمعته منه، وإن لم أقل: سمعت " (2).
وكذلك فيما يرويه عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي ملكية، فقد قال عمرو بن علي الفلاس، سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: " أحاديث ابن جريج عن ابن أبي ملكية كلها صحاح "، وجعل يحدثني بها، ويقول: "
_________
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (9/ 85 _ 86) بإسناد صحيح.
(2) أخرجه ابن أبي خيثمة في " تاريخه " (ص: 356، 369 _ أخبار المكيين) وإسناده صحيح.
قلت: وهذا نصٌّ من ابن جريج عن نفسه، مُقدم على ماجاء عن أحمد بن حنبل قال: " كلُّ شيء قال ابن جريج: قال عطاء، أو عن عطاء فإنه لم يسمعه من عطاء " (شرح علل الترمذي 1/ 376).(2/991)
حدثنا ابن جريج، قال: حدثني ابن أبي ملكية "، فقال في واحد منها: " عن ابن أبي مليكة "، فقلت: قل حدثي، قال: " كلها صحاح " (1).
وقال أحمد بن حنبل: سألت يحيى بن سعيد، قلت: هذه الأحاديث كلها صحاح _ يعني أحاديث ابن أبي خالد عن عامر _ ما لم يقل فيها: حدثنا عامر؟ فكأنه قال: " نعم "، وقال يحيى: " إذا كان _ يريد أنه _ لم يسمع أخبرتك " (2).
ولك أن تعد من هذا قول الذهبي في (سليمان بن مهران الأعمش): " يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال (حدثنا) فلا كلام، ومتى قال: (عن) تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال " (3).
قلت: أراد بهذا الصنف سوى من ذكر من شيوخ الأعمش الذين اعتنى بالرواية عنهم، والتحقيق: أن رواية الأعمش على القبول في الجملة، وما أورده الذهبي من احتمال التدليس نادر لا أثر له في كثرة حديث الأعمش، غير أن التحري لدفع العلة مطلوب لتحقيق صحة الحديث.
المسألة الثالثة: من عرف بالتشديد في الأخذ عمن عرف بالتدليس، فكان يوقفهم على السماع، فهذا يقبل حديث هؤلاء المدلسين من روايته عنهم.
ورأس من يذكر مثالاً لهؤلاء المشددين شعبة بن الحجاج، فجميع من يروي عنه من المدلسين فحديثهم عمن حدثوا عنه سماع.
_________
(1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 241) وإسناده صحيح.
(2) العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 1218، 3567، 4320)، وابنُ أبي خالد هوَ إسماعيل، وعامرٌ هو الشعبي .......
(3) ميزان الاعتدال (2/ 224) وإبراهيم هو ابنُ يزيد النخعي، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو صالح هو ذكوان.(2/992)
قال يحيى بن سعيد القطان: " كل ما حدث به شعبة عن رجل، فقد كفاك أمره، فلا تحتاج أن يقول لذلك الرجل: سمع ممن حدث عنه؟ " (1).
وعرف هذا التحري عن يحيى بن سعيد القطان نفسه.
المسألة الرابعة: الراوي المعروف بالثقة والإتقان، يوجد له الحديث أو الأحاديث المنكرة يأتي بها معنعنة، فوجهه أن يحمل منه ذلك على التدليس، وإن لم ينص على نعته بالتدليس أحد.
مثل ما حكاه الحافظ صالح بن محمد الأسدي المعروف بـ (جزرة) قال: أنكروا على الخفاف (يعني عبد الوهاب) حديثاً رواه لثور بن يزيد عن مكحول عن كريب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديثا في فضل العباس، وما أنكروا عليه غيره، فكان يحيى بن معين يقول: " هذا موضوع وعبد الوهاب لم يقل فيه: حدثنا ثور، ولعله دلس فيه، وهو ثقة " (2).
وقال البخاري: " يكتب حديثه "، قيل له: يحتج به؟ قال: " أرجو، إلا أنه كان يدلس عن ثور وأقوام أحاديث مناكير " (3).
المسألة الخامسة: الراوي يروي الحديث عن ثقة ومجروح أو مجهول، فيسقط غير الثقة، فهذا ليس من التدليس.
كحديث يرويه الراوي عن الليث بن سعد وابن لهيعة عن شيخ لهما، فيسقط الراوي ذكر ابن لهيعة لما فيه من الجرح، ويقتصر على الليث لثقته.
فهذه الصورة لأهل العلم بالحديث فيها قولان:
أولهما: لا يحسن فعل ذلك، قال الخطيب: " خوفاً من أن يكون في
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 35) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (11/ 23 _ 24) بإسناد صحيح إلى صالح .......
(3) تهذيب التهذيب، لابن حجر (2/ 640).(2/993)
حديث المجروح ما ليس في حديث الثقة، وربما كان الراوي قد أدخل أحد اللفظين في الآخر وحمله عليه " (1).
وهذا قول الإمام أحمد بن حنبل، فقد روى حرب بن إسماعيل، أن أبا عبد الله قيل له: فإذا كان الحديث عن ثابت وأبان عن أنس، يجوز أن أسمي ثابتاً وأترك أباناً؟ قال: " لا، لعل في حديث أبان شيئاً ليس في حديث ثابت "، وقال: " إن كان هكذا فأحب أن يسميهما " (2).
وثانيهما: جواز ذلك.
وفعله البخاري ومسلم في " صحيحيهما ".
فمثاله عند البخاري، قوله: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود، قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس، أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وذكر الحديث) (3).
ومثاله عند مسلم، قوله: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، عن الليث وغيره، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة، أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، حتى يذر " (4).
_________
(1) الكفاية (ص: 537).
(2) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 537) وإسناده صحيح.
(3) صحيح البخاري (رقم: 4320).
(4) صحيح مسلم (رقم: 1414) .......(2/994)
قلت: فهذا (الغير) في الموضعين هو عبد الله بن لهيعة، وليس على شرطهما، فكنيا عنه.
بين ذلك في حديث البخاري أن ابن أبي حاتم الرازي أخرجه في " تفسيره " (1) وغير من رواية ابن لهيعة.
والحديث معروف من روايته ورواية حيوة بن شريح والليث بن سعد، فأما رواية حيوة فهي التي احتج بها البخاري، وأما رواية الليث فعلقها بعدها، فدل على أن ذلك (الغير) ليس سوى ابن لهيعة.
وأما حديث مسلم، فإن أبا نعيم في " المستخرج " أخرجه من طريق الحسن بن سفيان، قال: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، عن الليث وابن لهيعة، عن يزيد، به (2).
فدل صنيع الشيخين أن الحديث إذا رواه الراوي عن رجلين عن شيخ لهما، فأسقط أحدهما لكونه مجروحاً، أو أبهمه، فلا أثر لذلك، بناء على اعتبار أصل ما تفيده المتابعة من الاتفاق في اللفظ، أو في المعنى، وكون من جمع بينهما من الثقات، فالأصل أنه يعلم اتفاقهما، ولو اختلفا لوجب عليه البيان.
وكذلك فإنه لو سماهما جميعاً: الثقة والمجروح، فإن الحديث ثابت صحيح، اعتماداً على الثقة منهما، وأن رواية المجروح جاءت على وفاقه.
وبهذا يتضح رجحان طريقة الشيخين، وضعف المظنة التي ذكرها الخطيب وسبقه إلى معناها الإمام أحمد بن حنبل، وأن الأمر على أي حال كان فليس هو من باب التدليس.
* * *
_________
(1) تفسير ابن أبي حاتم (3/ 1045).
(2) المستخرج على صحيح مسلم (رقم: 3295) .......(2/995)
الفصل الثاني
ألقاب الحديث الضعيف
بسبب جرح الراوي(2/997)
المبحث الأول:
حديث المجهول
تعريفه:
هو الحديث الذي يروى بإسناد فيه راو مجهول.
ويقع في كلام أئمة الحديث قولهم: (إسناده مجهول)، ويريدون هذا المعنى.
والجهالة وإن لم تكن جرحاً حقيقيا للراوي، غير أنها اعتبرت سبباً لرد حديث الموصوف بها، إذ كون قبول الرواية يقتضي عدالة الرواة، وهي لم تثبت للمجهول، فكان القدح فيها من أجله، فصح أن تكون بمنزلة الجرح.
قال الشافعي: " لا يقبل إلا حديث ثابت، كما لا يقبل من الشهود إلا من عرفنا عدله، فإذا كان الحديث مجهولاً أو مرغوباً عمن حمله كان كما لم يأت؛ لأنه ليس بثابت " (1).
وقال ابن عدي: " إذا لم يعرف الرجل وكان مجهولاً، كان حديثه مثله " (2).
_________
(1) أخرجه الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (رقم: 286).
(2) الكامل (3/ 535).(2/999)
وتفسير الجهالة وبيان رد حديث بتفصيله في (القسم الأول).
واستعمال أهل العلم بالحديث للقب (الحديث المجهول)، معروف عند المتقدمين، فمن أمثلته:
أخرج ابن عدي (1) من طريق ابن أبي فديك، عن بريه بن عمر بن سفينة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم فقال له: " خذ هذا الدم فادفنه من السباع والدواب "، قال: فتغيبت فشربته، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك.
وقد قال البخاري في (عمر بن سفينة): " عن أبيه، روى عنه ابنه بريه، إسناده مجهول " (2).
وقال الترمذي (3): حدثنا القاسم بن دينار الكوفي، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي الكوفي، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن أبي خالد الدالاني، عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة، عن أمه، عن أبيها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يشمت العاطس ثلاثاً، فإن زاد فإن شئت فشمته، وإن شئت فلا ".
قال الترمذي: " هذا حديث غريب، وإسناده مجهول ".
قلت: قال ذلك لأن عمر وأمه وجده مجهولون.
* * *
_________
(1) في " الكامل " (6/ 109).
(2) التاريخ الكبير (3/ 2 / 160).
(3) في " جامعه " (رقم: 2745) .......(2/1000)
المبحث الثاني:
الحديث اللين
تعريفه:
هو الحديث الذي يروى بإسناد فيه راو لين الحفظ، كالموصوف بسوء الحفظ وكثرة الأوهام والخطأ أو الغفلة مع صدقه في الجملة، ولم يبلغ به خطؤه درجة الفحش إلى حد الترك.
والواقع في كلام أهل الحديث وصفهم لهذا النوع من الأحاديث بقولهم: (حديث ضعيف)، فمع أن كل أنواع الحديث المردود موصوفة بالضعف إلا أنهم يستعملون وصف (الضعيف) لهذا النوع كالاسم العلم له، كما تجد قولهم: (إسناد لين) و (إسناد ليس بالقوي) وشبه ذلك.
وأمثلته كثير شائعة، كروايات خصيف بن عبد الرحمن، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وعلي بن زيد بن جدعان، وأمثالهم ممن ثبت صدقه، لكن كثر غلطه ووهمه واضطرابه في رواياته، فصار دون من تقبل رواياته عند انفراده، ولا يخلو حديث هذا الصنف من وقوع المنكرات فيه، لكنهم لا يطرحون طرحاً تاماً.
ومن العبارة المفسرة المبينة لهذا المعنى قول ابن حبان في تحرير حال (أبي هلال محمد بن سليم الراسبي): " والذي أميل إليه في أبي هلال(2/1001)
الراسبي: ترك ما انفرد من الأخبار التي خالف فيها الثقات، والاحتجاج بما وافق الثقات، وقبول ما انفرد من الروايات التي لم يخالف فيها الأثبات التي ليس فيها مناكير؛ لأن الشيخ إذا عرف بالصدق والسماع، ثم تبين منه الوهم ولم يفحش ذلك منه لم يستحق أن يعدل به عن العدول إلى المجروحين، إلا بعد أن يكون وهمه فاحشاً وغالباً، فإذا كان كذلك استحق الترك، فأما من كان يخطئ في الشيء اليسير فهو عدل، وهذا مما لا ينفك عنه البشر، إلا أن الحكم في مثل هذا إذا علم خطؤه تجنبه واتباع ما لم يخطئ فيه، هذا حكم جماعة من المحدثين العارفين الذين كانوا يخطئون، وقد فصلناهم في الكتاب (1) على أجناس ثلاثة:
فمنهم من لا يحتج بما انفرد من حديثه ذلك، ويقبل غير ذلك من روايته.
ومنهم من يحتج بما وافق الثقات فقط من روايته.
ومنهم من يقبل ما لم يخالف الأثبات، ويحتج بما وافق الثقات " (2).
قلت: هذا المعنى الذي بينه ابن حبان هو من أحسن التفصيل لحال المراد بلين الحديث، أو سيء الحفظ، ممن لا يسقط حديثهم، ولا يحتج به لذاته، وفي كلامه ما يبين أنهم درجات تعود إلى قدر اللين في حفظهم من جهة خطئهم كما وكيفاً، مما بينته مفصلاً في محله من هذا الكتاب.
ويلخص القول في علة إلحاق هذا النوع بالحديث الضعيف: هو رجحان جانب الخطأ من قبل الراوي الموصوف بسوء الحفظ، وإن لم نجزم به أنه وقع في الحديث الذي ضعفناه لأجله، فحيث علمنا ضعف حفظه، فمجرد نزول ضبطه عن درجة من غلب عليه الحفظ، جعل ذلك كافياً في رد حديثه.
_________
(1) يعني كتابه: المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين.
(2) المجروحين (2/ 283 _ 284)(2/1002)
ولك أن تقول: رددنا حديثه من أجل الشك الراجح في ثبوته.
فأما إذا تبين أن الحديث المعين مما خالف فيه، أو أخطأ، فهو محكوم عليه بلقب آخر، وهو (المنكر)، وما في معناه.
وهذا النوع من الحديث المردود لعلة سوء حفظ راويه، مما يتنازعه علماء الحديث، فمنهم من يجعله حسناً؛ وذلك من أجل صدق راويه في الجملة، وعدم القطع بخطئه في الحديث المعين، ومنهم من يضعفه؛ لما تقدم من غلبة الظن أن التفرد من مثله محل شك.
والتحقيق: أنه حديث ضعيف؛ من أجل أن الحسن مطلوب فيه رجحان الراوي إلى جانب صحة حديثه، لسلامته في غالب أمره من الوهم والخطأ، بحيث غلب وصفه بالحفظ على وصفه بسوء الحفظ، بخلاف راوي هذا النوع من الحديث فإن اختبار أمره أوجدنا وهماً وخطأً ومخالفات إسنادية ومتنية وقعت منه أورثت الريبة في سائر أفراده التي لا نقطع بخطئه فيها، إلا أن يندفع ذلك عنه بطريق صالح، فيرقى حديثه إلى القبول، وهو (الحسن لغيره) على ما تقدم ذكره في محله.
واعلم أنه يلحق بهذا النوع من الحديث: رواية الراوي المختلط الواقعة بعد اختلاطه المؤثر، فإنه باختلاطه صار سيء الحفظ لما حدث به بعد الاختلاط، على ما بينته في (المبحث الخامس) من مباحث (تفسير الجرح).
* * *(2/1003)
المبحث الثالث:
الحديث المقلوب
وهو ثلاث صور بحسب القلب، منها يتبين معناه:
الصورة الأولى: قلب في الإسناد.
وهو أن يقلب الراوي اسم راو في الإسناد فيقول مثلاً: (معاذ بن سعد) بدل (سعد بن معاذ)، أو (مرة بن كعب) بدل (كعب بن مرة) .......
فإن كان الاسم لواحد لم يؤثر ويكون خطأ ممن قلبه، أما إن كان صيره بالقلب رجلاً آخر، فلا يشكل على صحة الرواية إذا كانا ثقتين أو ضعفها إذا كانا ضعيفين، إنما يقدح فيها لو كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً، ويعل بذلك الإسناد، فيكون الوصف بالقلب بسبب خطأ الراوي حكماً على الحديث بالضعف.
كما وقع لعبد العزيز بن محمد الدراوردي، قال أحمد بن حنبل: " ما حدث عن عبيد الله بن عمر، فهو عن عبد الله بن عمر "، وفي رواية: " ربما قلب حديث عبد الله العمري، يرويه عن عبيد الله بن عمر " (1).
قلت: الدراوردي سمع من عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة، وسمع
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (2/ 2 / 395، 396).(2/1004)
من عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف، فكان ربما قلب أحاديث عبد الله فجعلها عن عبيد الله، مما أوقعه في رواية المنكرات عن عبيد الله، والتي أصلها أحاديث عبد الله، فصار حديثه ضعيفاً عن عبيد الله، وإن كان الدراوردي ثقة في غيره.
ومن مثال وقوع ذلك من الراوي دون أن يقدح في نفس حديثه وإن كان خطأ منه، من أجل قلبه من ثقة إلى ثقة، قول الحافظ يحيى بن محمد بن صاعد: " انقلبت على إبراهيم بن صرمة نسخة ابن الهاد، فجعلها عن يحيى بن سعيد في الأحاديث كلها "، قال: " انقلبت عليه وكان عنده عن ابن الهاد عن عبد الله بن دينار، فقال: عن يحيى بن سعيد عن ابن دينار، في الأحاديث كلها " (1).
قلت: فلو سلم ابن صرمة من جرح سوى وقوع هذا منه، لما أضر في روايته؛ من أجل العلم بكونها في الأصل عن ثقة، وهو قد انتقل بها من ثقة إلى ثقة، لكن الرجل ضعيف.
ومن أسوأ أمثلة القلب: ما نقله ابن أبي حاتم، قال: سئل أبو زرعة عن حديث رواه ابن المبارك، عن عنبسة بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ "؟ قال أبو زرعة: " هو مرسل مقلوب " (2).
يعني أبو زرعة أن صوابه: (ابن المبارك عن عنبسة بن سعيد عن جابر عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم).
فهذا قلب مفسد جداً، ليس في تصيير المرسل موصولاً فقط؛ إذ الشعبي تابعي، بل جابر هذا في حال الوصل هو جابر بن عبد الله الأنصاري
_________
(1) نقله ابن عدي في " الكامل " (1/ 408).
(2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1371) .......(2/1005)
الصحابي، وفي حال كونه الراوي عن الشعبي فهو جابر بن يزيد الجعفي أحد المتهمين بالكذب في الحديث، فتأمل !
الصورة الثانية: قلب في المتن.
وهو كما وقع في " صحيح مسلم " في سياقه للفظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "، فساق الحديث، وفيه: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ".
فعكس لفظ الحديث، والرواية المحفوظة: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "، كما هي عند البخاري (1) وغيره.
فهذا وقع الخطأ في رواية مسلم؟ فيه اختلاف، يرجع فيه إلى مظانه، إذ ليس للإطالة به هنا ضرورة (2).
فهذا إذا قام عليه دليل بأنه مقلوب، كما هو الشأن في هذا المثال، فالمقلوب خطأ، وهو لاحق بقسم المردود، ولا يعتبر به ولا يتكلف له التأويل.
الصورة الثالثة: التحول من حديث إلى حديث.
ويفسر هذه الصورة قول ابن عدي في (ثابت بن حماد أبي زيد البصري): " له أحاديث يخالف فيها وفي أسانيدها الثقات، وأحاديثه مناكير ومقلوبات "، فلما جئنا لتبين معنى القلب فيها وجدنا مثاله، ما أخرجه ابن عدي من طريقه، قال: عن سعيد (3)، عن قتادة عن أنس، قال: قال
_________
(1) في " صحيحه " (رقم: 629، 1357، 6421).
(2) انظر لذلك: إكمال المعلم بفوائد مُسلم، للقاضي عِياض (3/ 563) وفتح الباري، لابن حجر (2/ 146).
(3) هو ابن أبي عروبة.(2/1006)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الناس ما في الصف المقدم، لكانت قرعة "، قال ابن عدي: " وهذا الحديث وهم فهي ثابت بن حماد، وإنما يرويه قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة " (1).
قلت: يعني ابن عدي أنه قلبه، فركّب إسناداً على غير متنه.
وعبارات النقاد في المجروحين من الرواة لهذه العلة كثيرة، فمن ذلك:
قال عمرو بن علي الفلاس: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة، ويقول: " حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة " (2).
وقال أحمد بن حنبل في (عبد الرحمن بن يزيد بن تميم): " قلب أحاديث شهر بن حوشب وصيرها حديث الزهري " وجعل يضعفه (3).
وقال في (مصعب بن سلام): " انقلبت عليه أحاديث يوسف بن صهيب، جعلها عن الزبرقان السراج، وقدم بن أبي شيبة مرة فجعل يذاكر عنه أحاديث عن شعبة، هي أحاديث الحسن بن عمارة، انقلبت عليه أيضاً (4).
وقال أبو زرعة الرازي في (معاوية بن يحيى الصدفي): " ليس بقوي، أحاديث كله مقلوبة ما حدث بالري، والذي حدث بالشام أحسن حالاً " (5).
هؤلاء كان القلب يقع لأحدهم دون تعمد، إنما هو لسوء الحفظ.
_________
(1) الكامل (2/ 303) .......
(2) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (3/ 2 / 86).
(3) العلل، لأحمد (النص: 4390).
(4) العلل (النص: 5317)، وانظر: التاريخ الكبير، للبخاري (4/ 1 / 354) والجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 1 / 308).
(5) الجرح والتعديل (4/ 1 / 384).(2/1007)
وممن كان يتعمد القلب من المتروكين الهلكى: صالح بن أحمد القيراطي، قال ابن حبان: " يسرق الحديث، ولعه قد قلب أكثر من عشرة آلاف حديث " (1).
وقال ابن عدي: " يسرق الأحاديث، ويلزق أحاديث تعرف بقوم لم يرهم على قوم آخرين لم يكن عندهم وقد رآهم " (2).
قلت: وهذا هو وجه إطلاقهم: (يسرق الحديث) على الراوي (3)، لكن لا يصح تسليم العبارة لقائلها في حق من أوقعه في القلب سوء الحفظ وضعف التيقظ، إنما هي في المتعمدين من جهة ادعاء أحدهم سماع ما لم يسمع.
ومما يستدل به تارة لهذه الصورة عند النقاد شبه حديث الراوي بحديث راو آخر، فيستدلون بذلك الشبه على كون أحدهما سرقه من الآخر.
هذه هي صور الحديث المقلوب، وما ثبت أنه كذلك فهو ضعيف خطأ، حتى ما ذكرته في الصورة الأولى من وقوع القلب بالتحول من ثقة إلى ثقة في الإسناد، فالحديث في هذه الحالة وإن كان محفوظاً في أصله، إلا أن ذلك الإسناد الذي وقع فيه القلب خطأ ضعيف، لا يعتبر به.
* * *
_________
(1) المجروحين (1/ 373).
(2) الكامل (5/ 112).
(3) وانظر: الاقتراح، لابن دقيق العيد (ص: 236) والموقظة للذهبي (ص: 60). وانظر تفسير هذه العبارة في (المبحث الثاني) من مباحث (تفسير الجرح) .......(2/1008)
المبحث الرابع:
الحديث المصحف
تعريفه:
هو الحديث يقع فيه تغيير في نقط الكلمة في إسناد أو متن، مع بقاء صورة الخط.
مثل تصحيف: (جمرة) إلى (حمزة) في الأسماء، و (الحر) إلى (الخز) في المتون.
ويعدون تغيير (عبيد الله) إلى (عبد الله) تصحيفاً لقرب الرسم.
فإن وقع التغيير في حروف الكلمة مما تختلف به صور الخط، سمي (المحرف).
مثل تحريف: (وكيع بن حدس) وهو الصواب، إلى: (وكيع بن عباس).
وعند تحريف كثير من العلماء جواز إطلاق أحد اللفظين على الآخر، ومن اعتنى بهذا الباب سماه جميعاً (التصحيف).
طريق معرفة التصحيف أو التحريف في الرواية:
إن كان في أسماء الرواة فبمراجعة كتب التراجم، خصوصاً كتب(2/1009)
المتاشبه والمؤتلف والمختلف، وإن كان في المتون فبتتبع لفظ الحديث في كتب الرواية، وبمراجعة كتب اللغة، وغريب الحديث.
وفي هذا الباب كتب خاصة مفيدة، منها: " إصلاح غلط المحدثين " للخطابي، و" تصحيفات المحدثين " لأبي أحمد العسكري.
وأهمية معرفة هذا النوع من علوم الحديث لا تخفى؛ لما يقع بالتصحيف من الإحالة، فربما صيرت الراوي المجروح ثقة أو العكس، وما يقع في ألفاظ المتون من إفساد المعنى والخروج به عن جادته.
والقدر المتميز تحريفه أو تصحيفه من الحديث ضعيف، وهو خطأ لا يعتبر به وسببه: وهم الراوي وخطؤه، فهو نتيجة لعدم إتقانه لما أخطأ فيه من ذلك.
ومن مثاله: ما رواه قبيصة بن عقبة، قال: حدثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عياض (1)، عن أبي سعيد، قال:
كنا نورثه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني الجد.
فبين مسلم بن الحجاج أن قبيصة لم يحسن قراءته فصحف فيه، قال مسلم: " وإنما كان الحديث بهذا الإسناد عن عياض، قال: كنا نؤديه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في الطعام وغيره في زكاة الفطر "، قال مسلم: " فقلب قوله إلى أن قال: نورثه، ثم قلب له معنى فقال: يعني الجد " (2).
وتكلم النقاد في طائفة من الرواة، بسبب ما عرفوا به من التصحيف في الأسماء والمتون، كما بينت في أسباب الجرح في باب (تمييز النقلة).
* * *
_________
(1) هو عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرْح العامرِي .......
(2) التمييز، لمسلم بن الحجاج (ص: 189 _ 190).(2/1010)
المبحث الخامس:
الحديث المدرج
المدرج قسمان (1)، ببيانهما يتضح معناه الاصطلاحي:
القسم الأول: مدرج الإسناد
وهو أربع صور:
الصورة الأولى: أن يقع الحديث للراوي عن جماعة يحمله عنهم فيجمع الكل بإسناد واحد، ولا يبين الاختلاف.
وصورته: أن يروي الثقة الحديث عن رجلين، يجمع بينهما، رواية أحدهما مرسلة، ورواية الآخر متصلة، فيسوقه متصلاً، ومثل هذا الصنيع قيل: فعله سفيان بن عيينة مع حفظه، كما ذكره بعض الحفاظ (2)، ولم أقف له على مثال صالح من فعل سفيان، أو من فعل غيره من الثقات المتقنين.
وكذلك سأل أيوب بن إسحاق بن سافري أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)، قال: يا أبا عبد الله، ابن إسحاق إذا تفرد بحديث
_________
(1) تقدم ذكْر ما يقع الإدراج فيه من روايات الثقات في مباحث (النقد الخفي).
(2) نقله ابن رجب في " شرح العلل " (2/ 765) عن يعقوب بن شيبة.(2/1011)
تقبله؟ قال: " لا، والله، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا " (1).
قلت: فأحمد لينه لهذا الصنيع.
وكذلك كان من أسباب الطعن على (محمد بن عمر الواقدي)، حيث قال أحمد بن حنبل: " كنا نرى أن عنده كتباً من كتب الزهري أو كتب ابن أخي الزهري، فكان يحيل، وربما يجمع، يقول: فلان وفلان عن الزهري إخال حديث نبهان عن معمر. والحديث لم يروه معمر أيضاً، هو حديث يونس، حدثناه عبد الرزاق عن ابن المبارك عن يونس، كان يحيل الحديث ليس هذا من حديث معمر " (2).
الصورة الثانية: أن يكون المتن عند راو بإسناد، إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه راو عنه تاما بالإسناد الأول.
ومن هذا ما رأيته وقع من بعض أهل الحديث، يجد خبراً ساقه محمد بن إسحاق في السير والمغازي، ذكر طرفاً منه مسنداً، ثم أدرج فيه شيئاً في ذلك الخبر ليس مما وقع له بنفس ذلك الإسناد، فيخرجه الراوي من طريق ابن إسحاق بالإدراج كالجزء من ذلك الحديث المسند، بل ربما فصل المدرج عن سياق الخبر المسند مركباً له على إسناده (3).
_________
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (1/ 230) بإسناد لا بأس به، وابن سافري صدوق.
(2) العلل (النص: 5139) .......
(3) كما يصلح له مثالاً الحديث الذي تعلق به طائفة من الفقهاء في مسألة مترتبةٍ على إسلام المرأة قبل زوجها، وهو ما جاء في قصة زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها مع زوجها أبي العاص بن الربيع فقال: " أي بُنية، أكرمي مثواه، ولا يخلصنَّ إليك، فإنك لا تحلين له "، وسياقه وعلته في كتابي " إسلام أحد الزوجين ومدى تأثيره على عقد النكاح ".
ومن مثاله أيضاً ما وقعَ لسعيد بن أبي مرْيم في روايته لحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تَباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تَدابروا .. " الحديث، فأدرج فيه: " ولا تنافسوا "، وكان قد رواه كذلك بالإدراج عن مالك، وأخطأ فيه، دخلت عليه هذه اللفظة من حديث أبي هريرة، انظر بيانه في تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقن (1/ 230 _ 231).(2/1012)
الصورة الثالثة: أن يكون عند الراوي متنان مختلفان كل منهما بإسناد يخصه، فيرويهما راو عنه بأحد الإسنادين، أي يدخل متن أحدهما على إسناد الآخر.
وهذه من صور دخول حديث في حديث، وشرحت مثالها في (النقد الخفي)، وهي غير الصور المتقدمة في (القلب).
الصورة الرابعة: أن يسوق الراوي الإسناد فيعرض له عارض، فيقول كلاماً من قبل نفسه فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن الحديث فيرويه بذلك الإسناد.
ومثال هذا ما وقع لثابت بن موسى الزاهد، قال ابن حبان: " روى عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار "، وهذا قول شريك، قاله في عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد)، فأدرج ثابت بن موسى في الخبر، وجعل قول شريك كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سرق هذا من ثابت بن موسى جماعة ضعفاء وحدثوا به عن شريك " (1).
قلت: وهذا ضعف بين وغفلة ظاهرة، كانت من أسباب ضعف ثابت هذا في الحديث.
قال أبو الأصبغ محمد بن عبد الرحمن بن كامل (وكان ثقة): قلت لمحمد بن عبد الله بن نمير: ما تقول في ثابت بن موسى؟ قال: " شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة "، قلت: ما تقول في حديث جابر: " من كثر صلاته بالليل؟ " فقال: " غلط من الشيخ، وأما غير ذلك فلا يتوهم عليه " (2).
_________
(1) المجروحين (1/ 207)، وانظر: الإرشاد، للخليلي (1/ 171)، انظر كذلك قصة ثابت هذا في " المدخل إلى الإكليل " للحاكم (ص: 63) .......
(2) أخرجه الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 63) بإسناد صحيح.(2/1013)
القسم الثاني: مدرج المتن
قال الذهبي: " هي ألفاظ تقع من بعض الرواة متصلة بالمتن، لا يبين للسامع إلا أنه من صلب الحديث، ويدل دليل على أنها من لفظ راو، بأن يأتي الحديث من بعض الطرق بعبارة لا تفصل هذا من هذا " (1).
طريق معرفة الإدراج:
يعرف الإدراج في المتن بأمور:
أولها: وجود قرينة في السياق تدل على أن الجملة مدرجة، كاستحالة إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
مثل ما وقع في رواية البخاري (2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك الصالح أجران. والذي نفسي بيده، لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك ".
فقوله: " والذي نفسي بيده " إلى آخره، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينة قوله: " وبر أمي "، فإن أمَّه صلى الله عليه وسلم ماتت عنه وهو صغير.
وهذه الصورة من الإدراج متميزة دون حاجة إلى دليل خارجي، مع أن مسلماً حين أخرج الحديث (3) قال في روايته: " والذي نفس أبي هريرة بيده. . " فذكره.
وثانيها: تصريح الصحابي راوي الحديث بأن تلك الجملة من كلامه.
وذلك كحديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار "، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة (4).
_________
(1) الموقظة (ص: 53 _ 54).
(2) في " صحيحه " (رقم: 2410).
(3) في " صحيحه " (رقم: 1665).
(4) أخرجه البخاري (رقم: 1181، 4227، 6305) .......(2/1014)
قلت: وهذا الإدراج لا يخفى.
وثالثها: تصريح بعض رواة الحديث بفصلها عن أصل الحديث.
ومثاله ما وقع من بعض الرواة لحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعة وتسعين اسماً، مئة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة ".
فأدرج فيه بعضهم سياق الأسماء، كما أخرجه الترمذي (1) وغيره، من طريق الوليد بن مسلم، قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعاً، زاد بعد قوله صلى الله عليه وسلم: " دخل الجنة ": " هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك. . " إلى آخرها، لم تفصل فيه هذه الزيادة عن الحديث، مما ظنه بعض الناس في جملة الحديث.
وهو عند البخاري (2) وغيره، عن أبي اليمان عن شعيب، دون ذكرها، وكذلك رواه سفيان بن عيينة عن أبي الزناد، دونها (3)، ومن غير وجه عن أبي هريرة بدونها أيضاً.
ولك أن تقول: زادها ثقة، والزيادة وغير المخالفة من الثقة مقبولة.
ونقول: نعم، على التحقيق، هي كذلك، لو كان بعض الرواة لم يذكرها وبعضهم ذكرها، وليس في مجرد ذلك دليل على الإدراج، ولكنا وجدنا ما بين أنها مدرجة:
فأخرج الحديث عثمان بن سعيد الدارمي بإسناد آخر للوليد بن مسلم،
_________
(1) في " جامعه " (رقم: 3507)، وقال: " غريب "، وقال: " لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذِكر الأسماء إلا في هذا الحديث ".
(2) في " الصحيح " (رقم: 2585، 6957).
(3) مُتفق عليه: أخرجه البُخاري (رقم: 6047) ومسلم (رقم: 2677).(2/1015)
قال عثمان: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: حدثنا خليد بن دعلج، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لله تسعة وتسعين (1) اسماً، من أحصاها كلها دخل الجنة ".
زاد بعده: قال هشام (يعني ابن عمار): وحدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، مثل ذلك، وقال: كلها في القرآن، هو الله الذي لا إله إلا هو، فساق الأسماء (2).
فدل هذا على أن الوليد كان يحدث بالحديث المرفوع بإسنادين، وكان يدرج فيه الأسماء مما أخذه عن سعيد بن عبد العزيز قوله.
لكن يجب أن تعلم أن كشف مثل هذه العلة ليس مما يتهيأ بيسر، بل هو صورة من الصور الخفية لعلل الحديث.
قال الذهبي: " هذا طريق ظني، فإن ضعف توقفنا، أو رجحنا أنها من المتن " (3).
واعلم أن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري كان ممن عرف بالإدراج في المتون، يدرج اللفظ يفسر فيه اللفظ، ونحو ذلك، وليس بالكثير في حديثه.
والتأصيل في الجملة: أنه لا يصح ادعاء الإدراج في إسناد أو متن إلا إذا قام برهان بين على وجوده، وإذا ثبت فإن كان من مدرج المتن حكم لذلك القدر المدرج بكونه ليس من الخبر، ولا يقدح هذا في سائر الخبر ويكون ذلك القدر من الجملة الحديث الضعيف رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
(1) كذا، والجادة: (وتسمعون).
(2) انظر: النقض على المريسي، لعُثمان الدارمي (1/ 180 _ 183) .......
(3) الموقظة (ص: 54).(2/1016)
وإن كان من مدرج الإسناد فإنه قد يستدل به على لين الرواي أو ضعفه، وإن كان من الثقات المتقنين فبيان إدراجه فيها مزيل لأثر محذورها، ولا يقدح صنيع ذلك فيه، إنما يقدح فيما نتج عن إدراجه من أثر، وحديثه دون الإدراج صحيح.
وللحافظ أبي بكر الخطيب كتاب " الفصل للوصل المدرج في النقل "، وهو كتاب ثري نافع في بابه.
* * *(2/1017)
المبحث السادس:
الحديث الشاذ
الشذوذ هو: مخالفة الثقة في روايته لمن هو أقوى منه، وقعت المخالفة في المتن أو السند.
والأقوى منه قد يكون ثقة آخر، وقد يكون عدداً حاصلاً بمجموعهم رجحان إتقانهم على إتقانه.
كما أنه إذا وقع فقد يكون في سند أو بعض سند، ومتن أو بعض متن.
وقد عرفه الشافعي بقوله: " ليس الشاذ من الحديث: أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره، إنما الشاذ من الحديث: أن يروي الثقات حديثاً، فيشذ عنهم واحد، فيخالفهم " (1).
وعرفه الحاكم بقوله: " حديث يتفرد به ثقة من الثقات، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة " (2).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه " (ص: 233) بإسناد صحيح , ونحوه (ص: 234).
(2) معرفة علوم الحديث (ص: 119)، وفي سؤالات مسعود السجزي له (النص: 150) قال: " بهْز بن حكيم بن معاوية بن حيْدة القشيري من ثقات البصريين ممن يُجمع حديثه، وإنما أسقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده؛ لأنها شاذةٌ لا مُتابع لها في الصحيح ". قلت: بل لم يُخرجاها لأنها دون شرطهما في القوة، وإلا فهي جيدة قوية .......(2/1018)
ثم استدل بتعريف الشافعي للشاذ، وبين التعريفين مفارقة، وهي أن الشافعي اشترط لصحة الوصف بالشذوذ المخالفة من قبل الثقة، واقتصر الحاكم على مجرد تفرد الثقة بما لم يأت عن غيره.
والتحقيق أن تعريف الشافعي يبطل تعريف الحاكم الذي استشهد به، فإنه نفى أن يكون الشذوذ تفرد الثقة، والحاكم يجعله تفرد الثقة، وأكده بالمثال الذي مثل به، وهو حديث معاذ بن جبل في جمع الصلاتين في غزوة تبوك، وهو حديث لم تأت في إسناده ولا في متنه مخالفة من ثقة، ولكنه حديث فرد.
والحاكم حكم عليه بالشذوذ، بل زعم أن الحديث موضوع، مع أنه قال: " لا نعرف له علة نعلله بها " (1).
والتحقيق: أن تفرد الثقة بحديث من غير مخالفة لا يعد من الشذوذ، بل وقوع المخالفة شرط في الشذوذ، أو ما ينزل منزلة المخالفة، كزيادة الثقة المتوسط الرفع أو الوصل وليس محله في الإتقان محل من تسلم زيادته على من لم يأت بها، هذه هي القاعدة (2).
مثال الشذوذ في الإسناد:
حديث حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد الخطمي، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " (3).
_________
(1) معرفة علوم الحديث (ص: 120).
(2) انظر الكلام حول التفرد في (النقد الخفي).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 386) وأحمد (6/ 144) والدارمي (رقم 2127) وأبو داود (رقم: 2134) والترمذي في " الجامع " (رقم: 1140) و " العلل " (1/ 448) والنسائي (رقم: 3943) وابن ماجة (رقم: 1971) وابن أبي حاتم في " العلل " (رقم: 1279) والطحاوي في " شرح المشْكل " (رقم: 232، 233) وابن حبان (رقم: 4205) والحاكم (2/ 187 رقم: 2761) والبيهقي في " الكبرى " (7/ 298) والخطيب في " الموضع لأوهام الجمع والتفريق " (2/ 107) من طرق عن حماد بن سلمة، بإسناده به.(2/1019)
حماد بن سلمة ثقة، لكنه تفرد بوصل هذا الحديث.
قال أبو زرعة الراوي: " لا أعلم أحداً تابع حماداً على هذا " (1).
قلت: خالفه حماد بن زيد وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي، فقالوا: عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث (2).
وهذه رواية مرسلة، وحماد بن زيد وابن علية وعبد الوهاب كل واحد منهم أوثق من حماد بن سلمة، فكيف بهم مجتمعين؟.
فلذا حكم جماعة من الحفاظ بترجيح روايتهم المرسلة.
فرجح أبو زرعة الرازي الإرسال.
وقال الترمذي بعد ذكر مخالفة حماد بن زيد وغير واحد لابن سلمة: " وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة "، وكان في " العلل " سأل البخاري عنه؟ فأشار إلى تعليله بإرسال حماد بن زيد له.
وكذلك أعقبه النسائي بذكر إرسال ابن زيد له، مشيراً إلى علته.
_________
(1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 1279).
(2) أخرجه ابن جرير في " تفسيره " (5/ 315) من طريق حماد بن زيد. وابن أبي شيبة (4/ 386) وابنُ سعد في " الطبقات " (8/ 168) عن ابنِ عُلية. وابن جرير أيضاً (5/ 314) من طريق ابنِ عُلية وعبد الوهاب.
وكان قد أخرجه عن عبد الوهاب بواسطة مُحمد بن بشار عنه، بالرواية المرسلة، وأخرجه (5/ 315) عن سُفيان بن وكيع، عن عبد الوهاب، بمثل رواية حماد بن سلمة موصولة، لكن هذه رواية ضعيفة، ابنُ وكيع ضعيف، وخالف ابن بشار الثقة الحافظ عن عبد الوهاب .......(2/1020)
وحاصله: أن رواية الجماعة (محفوظة) ورواية ابن سلمة (شاذة).
وهذا مثال للشذوذ مع أن وجه المخالفة فيه ليس على معنى المعارضة للرواية الأخرى، وإنما جاء من جهة أن حماد بن سلمة ليس في الإتقان في درجة من يستقل عن الجماعة بزيادة، لما له من الأوهام مع ثقته.
مثال الشذوذ في المتن:
ما رواه همام بن يحيى، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أنس بن مالك، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ".
قال فيه أبو داود: " هذا حديث منكر، وإنما يعرف عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق، ثم ألقاه، والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام " (1).
قلت: أراد أبو داود بالمنكر الشاذ؛ لأن مخالفة الثقة شذوذ لا نكارة، وهمام ثقة، لكن هذا معنى اصطلاحي واسع، وإنما ذكرت هذا الحديث مثالاً للتنبيه أيضاً على إطلاقهم النكارة على الشذوذ، بجامع الوهم والخطأ في كلٍّ.
وما ذكره من تفرد همام به بهذا اللفظ صحيح بالنظر إلى وروده من طريق ثقة، وإلا فقد جاء من وجه آخر ضعيف لا يعتبر به.
وقد قال النسائي: " هذا الحديث غير محفوظ " (2)، وهذه العبارة ألصق بالاصطلاح من عبارة أبي داود.
والحديث شاذ لمخالفة سياق متنه لما هو المحفوظ من رواية أصحاب الزهري كيونس بن يزيد الأيلي وشعيب بن أبي حمزة وإبراهيم بن سعد
_________
(1) سنن أبي داود (رقم: 19).
(2) السنن الكبرى (رقم: 9542).(2/1021)
وزياد بن سعد وغيرهم، والحكم بالوهم فيه من قبل همام مظنة لا قطع، إذ يحتمل أن يكون ابن جريج دلس فيه (1).
والحكم بشذوذ هذا اللفظ إدراك من الناقد لما وراء ظاهر الإسناد، وإبانة لوهم الثقة بالبرهان، إذ أتى بما هو على خلاف المحفوظ عن الزهري من رواية متقني أصحابه.
وتلاحظ من هذا أن اعتبار درجات الثقات هو المقياس لتمييز الحفظ من الشذوذ.
ويتفرع عن الكلام في (الشذوذ) مسألتان:
المسألة الأولى: زيادات الثقات.
الثقة يزيد أحاديث يحفظها لا يرويها غيره، أو يشارك غيره في رواية حديث، لكنه يزيد فيه ما لم يأت به غيره في إسناده أو متنه.
فهذان نوعان، فأما الأول فليس مراداً هنا، إذ هو في أفراد الثقات التي يتميز بها الراوي عن غيره، وهي الأكثر في روايات الأحاديث الصحيحة، لا يكاد ثقة يخلو من أن يأتي بالشيء الذي لا يرويه غيره، خصوصاً أولئك الحفاظ الذين أكثروا رواية الحديث والاعتناء به.
كما قال علي بن المديني: " نظرنا فإذا يحيى بن سعيد يروي عن سعيد بن المسيب ما ليس يروي أحد مثلها، ونظرنا فإذا الزهري يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد، ونظرنا فإذا قتادة يروي عن سعيد بن المسيب شيئاً لم يروه أحد " (2).
وأما النوع الثاني فهو المراد بهذه المسألة.
_________
(1) وانظر الحديث بتخريجه والكلام في علته في تعليقي على كتاب " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقن (1/ 182 _ 184) .......
(2) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 76).(2/1022)
وجملة ما يحتاج إليه في هذا المقام هو أن الزيادة كانت في الإسناد أو المتن، لا تخلو من أن تكون مخالفة لرواية من لم يأت بها أو غير مخالفة:
فإن كانت مخالفة لرواية الأقوى ضبطاً، حكمنا بكونها (شاذة).
وإن كانت غير مخالفة نظرنا اعتبار أمرين لقبولها: أن تكون من ثقة متقن، وأن لا يقوم دليل على خطئه فيها، فإن كانت بهذه كانت المثابة حكمنا بكونها (محفوظة).
وإن لم يكن من أتى بها في إتقانه في المنزلة التي ترجح معها زيادته، للين في حفظه، كحماد بن سلمة في المثال المتقدم، حكمنا بكونها (شاذة) (1).
وما حكمنا بشذوذه فهو (ضعيف).
المسألة الثانية: المزيد في متصل الأسانيد.
هذا مبحث يراد به الإسناد الذي يأتي صريحاً بذكر السماع بين ثقتين، فيقول الراوي الثقة المسمى (خالد) مثلاً: (حدثني زيد) ثم يوجد عن خالد هذا قوله: (حدثني بكر عن زيد)، ويبحث في كل من الإسنادين إلى (خالد) فلا يوجد فيهما علة تدل على وهم أو خطأ، وخالد نفسه لا يعاب في حفظه وصدقه، بل هو ثقة، فيقال: (هذا من المزيد في متصل الأسانيد) حملاً على كون (خالد) سمع الحديث أولا بواسطة، ثم لقي (زيداً) فحدثه به، وهذا واقع في الأسانيد غير مستنكر.
فالقول: هو من المزيد في متصل الأسانيد أولى من تخطئة الثقة بغير حجة بينة، إلا أن يوجد أن خالداً لم يدرك زيداً، فيكون بعض الرواة أخطأ فيه، أو وقع في الإسناد سقط من نسخة أو كتاب.
_________
(1) وراجع القول في (زيادات الثقات) فيما تقدَّم في (النقد الخفي) .......(2/1023)
مثاله: ما رواه حجاج بن أبي عثمان الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى ".
قال (أي عكرمة): فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة، فقالا: صدق.
فهذا إسناد صحيح متصل، جاء بيان سماع رواته بعضهم من بعض من وجوه عن حجاج الصواف، وهو ثقة.
وروى الحديث معمر بن راشد ومعاوية بن سلام، وهما ثقتان، وسعيد بن يوسف، وهو ضعيف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري.
فزادوا عن ابن كثير رجلاً بين عكرمة والحجاج.
وهذه رواية صحيحة كذلك، لكنها لا تقدح في اتصال الأولى، لثقة حجاج الصواف وإتقانه عن يحيى بن أبي كثير.
فهذه صورة للمزيد في متصل الأسانيد، بنيت على اعتبار انتفاء المسوغ لتخطئة الثقة، فيكون الجمع: أن عكرمة سمعه بواسطة عن الحجاج، ثم لقي الحجاج فسمعه منه دون واسطة (1).
أما إن جاء الإسناد معنعناً في موضع، وجاء من جهة أخرى صحيحة بزيادة راو في محل العنعنة، فليس من المزيد في متصل الأسانيد، بل الرواية الناقصة ضعيفة للانقطاع، لا للشذوذ، والمزيدة هي المحفوظة.
وذلك مثل: ما رواه أبان بن يزيد العطار وحرب بن شداد،
_________
(1) شرحت الاختلاف في هذا الحديث في كتاب " علل الحديث "، وهناك تخريجه .......(2/1024)
ومحمد بن المثنى، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:
أنه دخل على عائشة، وهو يخاصم في أرض، فقالت عائشة: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ظلم قيد شبر من الأرض، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين " (1).
ولا إشكال في صحته على هذا الظاهر، لكن رواه أصحاب ابن أبي كثير مرة أخرى: علي بن المبارك، وحسين المعلم، وأبان العطار، وحرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة، به (2).
فزادوا واسطة بين يحيى وأبي سلمة، ولم نجد في شيء من الطرق أن يحيى سمعه من أبي سلمة، فدل على أنه تلقاه عنه بالواسطة، وروايته بدونها منقطعة.
أما مجيء الزيادة وهي مرجوحة شاذة، فمثل ما رواه زهير بن معاوية، عن حميد الطويل، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة والحج معاً، فقال: " لبيك بعمرة وحجة ".
قال البخاري: " هذا خطأ، أصحاب حميد يقولون: عن حميد سمع أنساً " (3).
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 64، 259) من طريق أبان بن يزيد العطار، والطحاوي في " شرح المشْكل " (رقم: 6145، 6146) من طريق حرْب بن شداد، ومُحمد بن المثنى، جميعاً، عن يحيى بن أبي كثير، به، واللفظ لأبان.
(2) أخرجه أحمد (6/ 78) والبخاري (رقم: 2321) من طريق حسين المعلم، والبخاري (رقم: 3023) من طريق علي بن المبارك، وأحمد (6/ 252) ومسلم (رقم: 1612) من طريق حرْبٍ، ومسلم من طريق أبان، وفي رواية حُسين وأبان قال يحيى: " حدثني مُحمد بن إبراهيم، أن أبا سلمة حدثه ".
(3) العلل الكبير، للترمذي (1/ 375).(2/1025)
قلت: كذلك قال هشيم بن بشير (1)، ويحيى بن سعيد القطان (2)، وسفيان بن عيينة (3)، ذكروا جميعاً عن حميد سمع أنساً.
كما رواه غيرهم ما يزيد على ستة عشر نفساً من أصحاب حميد، عنه، لم يذكروا واسطة بينه وبين أنس، بما يأتي على تأييد رواية من ذكر السماع.
فهذه الصورة أيضاً ليست من المزيد في متصل الأسانيد.
* * *
_________
(1) أخرجه أحمد (19/ 22 رقم: 11958) ومسلم (رقم: 1251) وأبو داود (رقم: 1795) والنسائي (رقم: 2729) وابنُ خزيمة (رقم: 2619) والطبراني في " الصغير " (رقم: 968) والبيهقي في " الكبرى " (5/ 9).
(2) أخرجه أحمد (20/ 236 رقم: 12870).
(3) أخرجه الحميدي (رقم: 1215) وأبو يعلى (6/ 325، 391 رقم: 3648، 3737 _ وسقط منه ذكر سفيان في الموضع الأول) .......(2/1026)
المبحث السابع:
الحديث المعلل
تعريفه:
هو الحديث الذي يُطلع فيه على علة قادحة في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الجامع شروط الصحة في الظاهر.
ويندرج فيه مما تقدم: صور من المعلل بالقلب، والتصحيف، والإدراج، كما يندرج تحته: الشذوذ، والاضطراب.
فهذه وإن كانت لها ألقابها في الضعف، لكن يصلح تسميتها عند اكتشاف الضعف بسببها: (المعلل).
ويدخل في المعلل ما هو أوسع من ذلك، إذ تارة تكون العلة من جهة تفرد الراوي، وتارة من جهة المخالفة، وتارة من جهة الاختلاف.
وشرح هذا النوع بعمومه، وأمثلته، وصوره، وطرق كشفها في (النقد الخفي).
كما يجب ملاحظة أن من الصور ما يدرج تحت العلة، لكنه لا يقدح في ثبوت الحديث، كشك الراوي وتردده بين ثقتين، يقول: (حدثني فلان(2/1027)
أو فلان)، فهذا وشبهه لا يقدح؛ لأن الحديث كيفما كان فهو عن ثقة (1).
ومن هذا: " الحديث الذي يرويه العدل الضابط عن تابعي مثلاً عن صحابي، ويرويه آخر مثله سواء عن ذلك التابعي بعينه، لكن عن صحابي آخر، فإن الفقهاء وأكثر المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معاً إن لم يمنع منه مانع " (2).
قال السخاوي: " وفي الصحيحين الكثير من هذا، وبعض المحدثين يعلون بها، متمسكين بأن الاضطراب دليل على عدم الضبط في الجملة ".
قال: " والكل متفقون على التعليل بما إذا كان أحد المتردد فيهما ضعيفاً " (3).
والأصل أن طريق معرفة علة الحديث جمع طرقه، ثم النظر في اختلاف رواته، ومراعاة مكانهم في الحفظ والضبط.
* * *
_________
(1) انظر معنى ذلك في " الكفاية " للخطيب (ص: 534).
(2) فتح المغيث، للسخاوي (1/ 20).
(3) فتح المغيث، للسخاوي (1/ 20) .......(2/1028)
المبحث الثامن:
الحديث المضطرب
تحرير معنى الاضطراب يتبين من حصره في الصورتين التاليتين:
الصورة الأولى: أن يروى الحديث على أوجه مختلفة متساوية في القوة، بحيث يتعذر الترجيح.
فهذا وإن لم نجزم بخطأ أحد من رواته، لكن الخطأ موجود من راو أو أكثر من غير تعيين.
وتصح دعوى الاضطراب حين يتعذر الجمع بين الوجوه المختلفة، فإذا أمكن الجمع فلا اضطراب.
وهذه الصورة واردة في السند والمتن.
فمثالها في السند: ما وقع من الاضطراب الشديد في إسناد حديث جرهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الفخذ عورة ".
فهذا الحديث اضطرب فيه الرواة على نحو من عشرين وجهاً مختلفاً، قد يمكن إرجاع بعض منها إلى بعضها الآخر، لكن لا انفكاك عن بقاء الاختلاف المؤثر، الذي يتعذر معه ترجيح بعضها على بعض (1).
_________
(1) شرحت علته في كتابي " أحكام العورات ".(2/1029)
كما يصلح له مثالاً حديث: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث "، فإن التحقيق أنه مضطرب سنداً ومتناً (1).
والصورة الثانية: التردد في الإسناد أو المتن من الراوي المعين، فيقال: (كان فلان يضطرب فيه فتارة يقول كذا، وتارة يقول كذا).
مثاله: ما أخرجه الترمذي (2) من طريق شعبة بن الحجاج، قال: أخبرني ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي أيوب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل الذي يرد عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم ".
قال الترمذي: " كان ابن أبي ليلى يضطرب في هذا الحديث، يقول أحياناً: عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول أحياناً: عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم ".
قلت: وابن ليلى هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كان ضعيفاً لسوء حفظه.
وفي هذا أن اضطراب الراوي المعين في أحاديثه من أسباب ضعفه في حفظه، والحديث الذي اضطرب فيه يعل من جهة لين ذلك الراوي في حفظه، ومن جهة اضطرابه في تلك الرواية.
وربما وقع الاضطراب من الثقة، لكن يكون قليلاً إلى جنب ما روى، فمثله يوجب احتياطاً ومزيد تحر قبل تسليم قبول روايته، وذلك بتتبع طرق حديثه المعين، فإن سلم من الاختلاف المؤثر فهو صحيح الحديث؛ إعمالاً لما ترجح من الثقة المقتضية لضبطه.
_________
(1) كما بينته في كتابي " علل الحديث "، وتقدم لهذه الصورة مَزيد تمثيل في (النقد الخفي).
(2) في " جامعه " (رقم: 2742) .......(2/1030)
مثال هؤلاء (عبد الملك بن عمير)، فهو ثقة، وقد ذكر بذلك، قال أحمد بن حنبل: " مضطرب الحديث جدا مع قلة حديثه، ما أرى له خمس مئة حديث، وقد غلط في كثير منها "، وقال يحيى بن معين: " مخلط " (1) وهو يريد هذا المعنى.
واضطرابه بينه أحمد بن حنبل في رواية أخرى عنه، فقال: " يختلف عليه الحفاظ " (2).
قلت: وهذا يعني أن ما لم يختلف عليه فيه فهو من صحيح حديثه، وما اختلف عليه فيه اختلافاً غير قادح على أي وجوهه كان، فهو كذلك من صحيح حديثه، وما كان منه غير ذلك فهو مما يعل باضطرابه فيه، ويضعف لذلك.
وقد يقع الاضطراب للرواي الثقة في روايته عن شيخ معين لا مطلقاً.
وذلك كقول أحمد بن حنبل في (محمد بن عجلان): " ثقة "، فقيل له: إن يحيى (يعني القطان) قد ضعفه؟ قال: " كان ثقة، إنما اضطرب عليه حديث المقبري، كان عن رجل، جعل يصيره عن أبي هريرة " (3).
قلت: فمثل هذا إن قدح في حديث الراوي، فإنه لا يقدح إلا فيما رواه عن ذلك الشيخ، على أن ابن عجلان لم يضر حديثه عن المقبري أنه اضطرب فيه خلافاً لما قد يفهم من جرح يحيى القطان؛ لأن اضطرابه من جهة أن سعيداً المقبري كان يروي عن أبيه عن أبي هريرة، وسمع كذلك من أبي هريرة، فذكر ابن عجلان عن نفسه أنها اختلطت عليه، فجعلها جميعاً عن سعيد عن أبي هريرة، فما ذكر فيه من روايته عن سعيد: (عن
_________
(1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 2 / 361).
(2) الجرح والتعديل (2/ 2 / 360 _ 361)، أي: أنَّ الرواة الثقات المتقنين إذا رووا عنه يذْكرون في رواياته اختلافاً، وذلك من جهته لا من جهتهم؛ لحفظهم.
(3) العلل، رواية أبي بكر المروذي وغيره (النص: 162) .......(2/1031)
أبيه) فهو متصل صحيح، وما لم يذكر (عن أبيه) فإما أن يكون سعيد بين سماعه من أبي هريرة، وإما أن يكون رواه بالعنعنة، فإن كان مبين السماع فهو كذلك متصل، وما لم يبين فإن وافق ابن عجلان عليه غيره، فهو متصل، وإلا وردت عليه مظنة الانقطاع بين سعيد وأبي هريرة، وإذا احتملنا فيه سقوط الواسطة فهو منقطع مظنة، لكن حيث علمنا الواسطة المظنون سقوطها وهي (أبو سعيد المقبري) وهو ثقة، فلك أن تقول: عاد الإسناد إلى أن يكون صحيحاً للعلم بالساقط المتعين كونه ثقة.
* * *(2/1032)
المبحث التاسع:
الحديث المنكر
هو ضد (المعروف).
وله بعد الاصطلاح صورتان:
الصورة الأولى: الحديث الفرد المخالف الذي يرويه المستور، أو الموصوف بسوء الحفظ، أو المضعف في بعض شيوخه دون بعض، أو بعض حديثه دون بعض.
مثل ما رواه مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء ".
قال مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
قلت: خالف مصعب سليمان التيمي وأبو بشر جعفر بن إياس، فقالا: عن طلق، قال: فذكراه من قوله.(2/1033)
وهذان ثقتان، ومصعب ضعيف، ولا متابع له (1).
الصورة الثانية: الحديث الذي يتفرد به الراوي الضعيف ولا يوجد له أصل من غير طريقه.
فهذا منكر لمجرد تفرد الضعيف وإن لم يخالف.
مثل ما رواه محمد بن عمر بن الرومي، قال: حدثنا شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحي، عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا دار الحكمة، وعلي بابها " (2).
فهذا تفرد به ابن الرومي هذا عن شريك، وهو ضعيف، قال أبو حاتم الرازي: " روى عن شريك حديثاً منكراً " (3).
قلت: يعني هذا الحديث.
وقال الترمذي: " هذا حديث غريب منكر "، وقال ابن حبان: " هذا خبر لا أصل له عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شريك حدث به، ولا سلمة بن كهيل رواه، ولا الصنابحي أسنده " (4).
قلت: والرومي هذا لين الحديث ليس بالقوي.
واعلم أن النكارة تقع في الإسناد وتقع في المتن، إذ التفرد أو المخالفة واردة فيهما.
ومظنة وجوده: كتب الضعفاء التي عنيت بذكر ما يؤخذ على الراوي أو بعض ما يؤخذ عليه، مما يندرج تحت أسباب ضعفه، مثل: " الكامل "
_________
(1) خرجت هذا الحديث وبينت علته بتفصيل في كتابي " إعفاء اللحية، دراسة حديثية فقهية " .......
(2) أخرجه الترمذي (رقم: 3723).
(3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 22).
(4) المجروحين (2/ 94).(2/1034)
لابن عدي، و" الضعفاء " للعقيلي، و" المجروحين " لابن حبان، وهي أنفع الكتب في هذا الباب.
تفسير مصطلح (المنكر) في كلام المتقدمين:
وقع في كلام متقدمي أئمة الحديث إطلاق وصف (المنكر) على ما يأتي:
أولاً: تفرد الثقة، وقع هذا في بعض كلام أحمد بن حنبل، وقاله أبو بكر البرديجي (1).
وكان يحيى القطان يتشدد في تفرد الثقة، حتى ربما عد ذلك من وهمه.
قال أحمد بن حنبل: قال لي يحيى بن سعيد: " لا أعلم عبيد الله (يعني ابن عمر) أخطأ إلا في حديث واحد لنافع، حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام "، قال أحمد: فأنكره يحيى بن سعيد عليه، فقال لي يحيى بن سعيد: " فوجدته، فوجدت به العمري الصغير (2) عن نافع عن ابن عمر، مثله "، قال أحمد: لم يسمعه إلا من عبيد الله، فلما بلغه عن العمري صححه (3).
قلت: حكم بالنكارة للغرابة، فلما زالت بالمتابعة حكم بصحته، مع أنها متابعة من لين، إذ العمري الصغير ضعيف ليس بالقوي في الحديث، لكنه صالح في المتابعات.
وهذا مما لم تجر عليه طريقة الشيخين ولا غيرهما، بل الثقة مقبول التفرد، ما لم يأت بما يخالف فيه.
_________
(1) انظر: شرح علل الترمذي (1/ 450 _ 452) .......
(2) يعني عبد الله بن عمر العمري.
(3) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 216) .......(2/1035)
ثانياً: أنواع من الحديث الضعيف لأسباب أخرى، كالحديث الشاذ، أو الحديث الفرد الذي قام الدليل على أنه قد وهم فيه الثقة، والمدرج، والمنقطع، وحديث المجهول، وقع ذلك في كلام غير واحد من الأئمة المتقدمين، كيحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم، يطلقون لقب (المنكر) على هذه الأنواع.
ثالثاً: الحديث الفرد الذي يرويه الصدوق النازل عن درجة أهل الإتقان، وليس له عاضد يصحح به، ترى هذا في كلام أحمد بن حنبل وأبي داود والنسائي والعقيلي وابن عدي وغيرهم.
وهذا هو (الحديث الحسن) وهو أحد قسمي (الحديث المقبول).
فالنكارة هنا لا يراد بها غير معنى التفرد، ويزول أثرها إذا استقصينا تحقيق شروط حسن الحديث.
رابعاً: الحديث الفرد الذي يرويه المستور، أو الموصوف بسوء الحفظ، أوالمضعف في بعض شيوخه دون بعض، أو بعض حديثه دون بعض، وليس له عاضد يقوي به.
وهذا يوجد في كلام كثير من أئمة الحديث.
مثل ما رواه جعفر بن سلميان الضبعي، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، ويقال له: يرحمكم الله، وإذا قيل له: يرحمكم الله، فليقل: يغفر الله لكم " (1).
_________
(1) أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة " (رقم: 224) وعنه: ابن السني في " اليوم والليلة " له (رقم: 259). وأخرجه الهيثم الشاشي في " مسنده " (رقم: 751) والحاكم (2/ 266 رقم: 7694) وابن عبد البر في " التمهيد " (17/ 331) من طريق مُحمد بن عبد الله الرقاشي، عن جعفر، به.
تابع جعفراً عليه: أبيض بن أبان. أخرجه الطبراني في " الكبير " (10/ 200 رقم: 10326) و " الأوسط " (6/ 320 رقم: 5681) و " كتاب الدعاء " (رقم: 1983) والحاكم، والبيهقي في " الشعب " (7/ 30 رقم: 9347، 9348).
وذكر الطبراني كذلك أن المغيرة بن مسلم رواهُ عن عطاء كما رواهُ أبيض.
وقال الحاكم: " هذا حديث لم يرفعه عن أبي عبد الرحمن عن عبْد الله بن مسعود غيرُ عطاء بن السائب، تفرد بروايته عنه جعفر بن سليمان الضُّبعي وأبيض بن أبان القُرشي، والصحيح فيه رواية الإمام الحافظ المتقن سُفيان بن سعيد الثوري عن عطاء بن السائب " يعني موقوفاً من قوْل ابن مسعود.
وكذلك قال البيهقي في الموقوف: " وهو الصحيح ".
والرواية الموقوفة أخرجها البُخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 934) والحاكم (رقم: 7695) والبيهقي في " الشعب " (7/ 30 رقم: 9346) من طرق عن سفيان، به.
وأخرجها ابن أبي شيبة (8/ 690) قال: حدثنا ابنُ فضيل، عن عطاء، بإسناد به موقوفاً كذلك.
كذلك ذكر الدارقطني أن جرير بن عبد الحميد وعلي بن عاصم روياه عن عطاء موقوفاً أيْضاً، وقال: " والموقوف أشهر " (العلل 5/ 334) .......(2/1036)
قال النسائي: " هذا حديث منكر، ولا أرى جعفر بن سليمان إلا سمعه من عطاء بن السائب بعد الاختلاط، ودخل عطاء بن السائب البصرة مرتين، فمن سمع منه أول مرة فحديثه صحيح، ومن سمع منه آخر مرة ففي حديثه شيء ".
وهذه الصورة يمكن إدراجها تحت السادسة الآتية؛ من أجل أنها جاءت عن الراوي في حال الضعف، وإن كان ذلك الراوي قد يقبل في حال أخرى.
خامساً: الحديث الفرد المخالف الذي يرويه من سبق وصفه في الصورة الثانية، ويوصف الراوي بالضعف بحسب كثرة ذلك منه أو قلته، وربما كثر منه حتى يصير متروكاً، كما شرحته في (تفسير الجرح).
وعلى هذه الصورة أكثر ما يقع إطلاق وصف (المنكر).
سادساً: الحديث الذي يتفرد به الضعيف بما لا يعرف من غير طريقه، ولا يحتمل منه.(2/1037)
وهذه الصورة مع التي قبلها ينبغي أن يجري عليهما الاصطلاح على ما تقدم اختياره.
سابعاً: حديث المتروكين والكذابين.
وتسميته بـ (المنكر) أولى من غيره، وهو غني عن التمثيل؛ لكثرة وقوعه في كلام علماء الحديث.
وحديث هؤلاء كذلك يطلق عليه وصف: (الحديث الواهي)، وذلك لأجل شدة ضعف راويه، وسقوط الاعتبار به بمرة، يقولون في ذلك: (حديث واه)، و (إسناده واه).
تنبيه:
قد يوصف (الحديث المنكر) عندهم بـ (الحديث الباطل)، ويكثر مثله في كلام الإمام أبي حاتم الرازي، وربما أطلق هذا الوصف على أي من درجات النكارة المتقدمة، وفيما تقدم بعض مثاله.
ومن ذلك قول ابن عدي في (إبراهيم بن البراء الأنصاري): " ضعيف جداً، حدث عن شعبة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم من الثقات بالبواطيل "، وساق بعض حديثه، ثم قال: " أحاديثه التي ذكرتها وما لم أذكرها، كلها مناكير موضوعة، ومن اعتبر حديثه علم أنه ضعيف جداً، وهو متروك الحديث " (1).
قلت: بل فيه تسوية بين (المنكر) و (الباطل) و (الموضوع)، ولا يخفى إمكان التناسب بينها، وإن تفاوتت عند التفريق بينها دلالاتها.
* * *
_________
(1) الكامل (1/ 411 _ 412).(2/1038)
المبحث العاشر:
الحديث الموضوع
تعريفه:
هو الحديث المختلق المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، ركب له إسناد أو جاء بغير إسناد.
وهذا النوع يدرج في ألقاب الحديث الناتجة عن جرح الراوي، ويذكر في أنواع الحديث الضعيف، وإن كان الضعف فيه ليس حقيقيا؛ فإن الضعف لا يمنع الاحتمال المرجوح، بخلاف (الموضوع)، فإنه المقطوع بكذبه.
والكذب في الحديث من جهة التعمد وعدمه، يعود إلى سببين:
الأول: التعمد والقصد.
وهذا ظاهر، وعرفت به طائفة من الهلكى، لأغراض سيأتي التنبيه عليها.
مثل: محمد بن سعيد الشامي المصلوب، وكان من أجرأ الناس على وضع الحديث، حتى جاء عنه أنه يسمع الكلام يستحسنه فيضع له إسناداً (1).
_________
(1) سيأتي تخريجه عنه.(2/1039)
مثل: أبي البختري وهب بن وهب القاضي، فقد كان يكذب يضع الحديث بلا حياء، اتفقت على ذلك عبارات جميع النقاد، وأمثلة ما وضعه أسانيد ومتوناً كثيرة في كتب المجروحين.
ومثل: جعفر بن الزبير، قال محمد بن جعفر غندر: رأيت شعبة (يعني ابن الحجاج) راكباً على حمار، فقيل له: أين تريد يا أبا بسطام؟ قال: أذهب فأستعدي (1) على هذا (يعني جعفر بن الزبير)؛ وضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مئة حديث كذباً " (2).
ومثل: محمد بن أحمد بن عيسى الوراق، قال ابن عدي: (يضع الحديث، ويلزق أحاديث قوم لم يرهم، يتفرد بها، على قوم يحدث عنهم ليس عندهم "، قال: " عندي عنه آلاف الحديث، ولو ذكرت مناكيره لطال به الكتاب " (3).
وهذا الصنف نفوسهم مريضة عرية من الورع، رخيصة، يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغاية من الوقاحة وسوء الأدب ورقة الدين.
وفيهم طائفة ربما تذرعوا بجهل أنهم قصدوا نصر الدين، فقالوا: نكذب له صلى الله عليه وسلم لا عليه، ونكذب لمصلحة لا لمفسدة، والكذب المحرم إنما هو في حق من كذب عليه يريد بذلك شينه وشين الإسلام، كما يتنزل على هذا حال نوح بن أبي مريم وشبهه.
وهذا الصنف من الرواة هم المعنيون بالوعيد الشديد الوارد في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كالحديث الصحيح المتواتر: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (4).
_________
(1) أسْتنْصر عليه، كأنه يعني يَشكو أمره إلى السلطان ليَدفع سوءَه.
(2) أخرجه ابن عدي في الكامل " (1/ 182) وإسناده صحيح .......
(3) الكامل (7/ 559، 562).
(4) جمع طرقه الحافظ الطبراني في " جزء "، وابن الجوزي في صدْر كتاب " الموضوعات ".(2/1040)
والثاني: الغفلة والخطأ.
كمن لا يفهم الحديث، فيحدث فيشبه له، أو يكون أتي من تغير حفظه واختلاطه، أو من قبوله التلقين، أو أن يدس في كتبه وهو لا يعلم.
وهذا مما يصاب به كثير من الرواة ليسوا متهمين، لكن الحديث يكون موضوعاً.
كقصة ثابت الزاهد (1)، وكمن جعل الأثر عن بني إسرائيل حديثاً، وهماً منه، كحديث: " الربا سبعون باباً "، والذي صوابه مما حدث به عبد الله بن سلام، وابن سلام كان من أحبار أهل الكتاب فأسلم (2).
وفي الرواة عدد ذكروا في الكذابين، وعلتهم من جهة الغفلة.
مثل: عباد بن كثير الثقفي، فقد قال أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: " عباد بن كثير أسوأهم حالاً "، قلت: كان له هوى؟ قال: " لا، ولكن روى أحاديث كذب لم يسمعها، وكان من أهل مكة، وكان رجلاً صالحاً "، قلت: كيف كان يروي ما لم يسمع؟ قال: " البلاء والغفلة " (3).
ومثل: عطاء بن عجلان العطار، قال يحيى بن معين: " لم يكن بشيء، وكان يوضع له الحديث: حديث الأعمش، عن أبي معاوية الضريرة غيره، فيحدث بها " (4).
وبسبب الغفلة ربما وضع للراوي الحديث، فحدث به على أنه من حديثه وهو لا يعلم، مثل (محمد بن ميمون الخياط المكي)، قال أبو حاتم الرازي: " كان أميا مغفلاً، ذكر لي أنه روى عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن شعبة حديثاً باطلاً، وما أبعد أن يكون وضع للشيخ؛ فإنه كان أميا " (5).
_________
(1) وذكرتها في (الحديث المدرَج).
(2) شرحت علل هذا الحديث في كتابي " علل الحديث ".
(3) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5/ 538) وإسناده جيد .......
(4) تاريخ يحيى بن معين (النص: 5270).
(5) الجرح والتعديل (4/ 1 / 82). قلت: علل بالأمية وأراد الجهْل؛ لأنه المعنى المناسب للغفلة.(2/1041)
بداية ظهور الكذب في الحديث:
عن طاوس بن كيسان، قال: " جاء هذا إلى ابن عباس (يعني بشير بن كعب) فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، ثم حدثه، فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: ما أدري، أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه " (1).
وعن محمود بن لبيد، قال أمرني يحيى بن الحكم على جرش، فقدمتها، فحدثوني أن عبد الله بن جعفر حدثهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا صاحب هذا الداء _ يعني الجذام _ كما يتقى السبع، إذا هبط وادياً فاهبطوا غيره "، فقلت: والله، لئن كان ابن جعفر حدثكم هذا ما كذبكم، قال: فلما عزلني عن جرش قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن جعفر فقلت له: يا أبا جعفر، ما حديث حدثه عنك أهل جرش؟ ثم حدثته الحديث فقال: كذبوا، والله ما حدثتهم (2).
قلت: هذا يدل على أن الكذب بدأ ظهوره في عصر التابعين، ثم صار يزيد مع الإقبال على الحديث والإسناد والاشتغال بذلك.
_________
(1) أثرٌ حسن. أخرجه الدارمي (رقم: 432) ومُسلم في " مقدمته " (ص: 12 _ 13) وعبد الله بن أحمد في " العلل " (النص: 4069) وابن عدي (1/ 120) وابنُ حبان في " المجروحين " (1/ 38) والحاكم في " المستدرك " (1/ 112 _ 113 رقم: 384) و " المدخل إلى الإكليل " (ص: 52) وأبو نعيم في " المستخرج على مسلم " (رقم: 72) وابنُ عبد البر في " التمهيد " (1/ 43) من طرق عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوُس، به.
قلت: إسناده حسنٌ، ابن جحير صدوق فيه ضعْفٌ، وقد خرَّج له الشيخان حديثاً اتفقا عليه هوَ مروي عندهما أيضاً من غير طريقه، وتفرَّد عنه مسلم بحديث أيضاً لم ينفرد به كذلك. ولخبره هذا عن طاوس أصْل من رواية ابن طاوُس عن أبيه، ومن رواية مُجاهد أيضاً عن ابن عباس، بمعناه.
(2) أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 52 _ 53) وإسناده حسنٌ، وبعد هذا ساق ابنُ جعفر قصة عن عمر .......(2/1042)
أسباب تعمد وضع الحديث:
الحامل للكذابين على وضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، يرجع إلى أسباب عدة، تعود جملتها إلى ما يلي:
السبب الأول: الطعن على الإسلام، والتشكيك فيه.
قال حماد بن زيد: " وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث " (1).
وهذا سبب ظن بعض الطاعنين على السنة أن أئمة الحديث غفلوا عنه.
وواقع الأمر أن حقيقة هؤلاء كانت مشهورة، وأباطيلهم كانت مكشوفة، ومن عرف مبلغ التثبت الذي أصلت عليه قوانين النقد في الحديث، والتي لا تمرر يسير الوهم من الثقة الحافظ؛ علم أن أمثال هؤلاء المغرضين لم يكونوا ليقدروا على إفساد سنة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة دون أن يقيض الله لهم من أنصار دينه من يظهر حقيقة أمرهم.
كما قيل لعبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: " يعيش لها الجهابذة " (2).
من هؤلاء المفضوحين: محمد بن سعيد المصلوب، ومغيرة بن سعيد البجلي، وبيان بن سمعان، وعبد الكريم بن أبي العوجاء.
ومن مثاله في الحديث: ما رواه محمد بن سعيد المصلوب، عن
_________
(1) أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (1/ 14) والخطيب في " الكفاية " (ص: 604) وابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 6) وإسناده صحيح لكن عند ابن الجوزي: (أربعة عشر ألف حديث).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة " (ص: 3) و " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 18) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 80) _ وابنُ عدي في " الكامل " (1/ 192) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 60) وإسناده صحيح.(2/1043)
حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله " (1).
فهذا من كذب هذا المصلوب الذي فضحه الله به.
السبب الثاني: نصرة الأهواء:
ومن سلك هذا أصناف بحسب الأهواء:
1 _ فمنهم من يضع للسلاطين تزلفاً لهم، في فضائلهم أو مثالب خصومهم، كالذي وضع في بني أمية وبني العباس.
ومنه التقرب إلى السلطان بوضع الحديث في فضل ما يحب.
قال داود بن رشيد: دخل غياث بن إبراهيم على المهدي، وكان يعجبه الحمام الطيارة التي تجيء من البعد، فروى حديثاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو جناح " قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما قام وخرج قال: " أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جناح، ولكن هذا أراد أن يتقرب إلينا، يا غلام، اذبح الحمام "، قال: فذبح الحمام في الحال (2).
2 _ ومنهم من يضع نصرة للمذهب العقدي، كالأحاديث التي وضعت لنصرة عقائد أهل الإثبات في أبواب الصفات، كبعض المنتسبين إلى طريقة الإمام أحمد، وأكثر منهم مقابلوهم كالمنتصرين لمذهب جهم، والأحاديث التي وضعها سني لنصرة مذهبه في الصحابة، فقابله شيعي فوضع في فضائل أهل البيت وفي مثالب الصحابة.
_________
(1) ذكره الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 51 _ 52). وأخرجه الجُورْقاني في " الأباطيل " (رقم: 116). والحكم بوضْعه مما لا يختلف فيه .......
(2) قصة صحيحة. أخرجها الحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 55) والخطيب في " تاريخه " (12/ 324) وإسنادها لا بأس به. ولها إسنادٌ آخر عند الحاكم، وثالثٌ عند الخطيب.(2/1044)
ومن أمثلة هؤلاء:
عمرو بن عبد الغفار الفقيمي، قال ابن عدي: " كان السلف يتهمونه بأنه يضع الحديث في فضائل أهل البيت، وفي مثالب غيرهم " (1).
ومحمد بن شجاع ابن الثلجي، قال ابن عدي: " كان يضع أحاديث في التشبيه ينسبه إلى أصحاب الحديث ليثلبهم به "، فذكر منها حديثاً، ثم قال: " مع أحاديث كثيرة وضعها من هذا النحو، فلا يجب أن يشتغل به؛ لأنه ليس من أهل الرواية، حمله التعصب على أنه وضع أحاديث يثلب أهل الأثر بذلك " (2).
ومن أكثر ما يوجد من هذا ما شحنت به كتب الأصول والفروع العتيقة عند الشيعة، فإن فيها الكثير من الأحاديث والأخبار مما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وغيره من سادة أهل البيت، بأسانيد واهية.
قال عبد الرحمن بن أبي ليلي: " صحبت عليا، رضي الله عنه، في الحضر والسفر، وأكثر ما يحدثون عنه باطل" (3).
وكان عامر الشعبي يقول: " ما كذب على أحد من هذه الأمة ما كذب على علي بن أبي طالب " (4).
3 _ ومنهم من يضع للمذهب الفقهي، كمن وضع في فضل أبي حنيفة وذم الشافعي، ومنه الحكايات الكثيرة المتضمنة للمبالغات في الفضائل، والتي تنسب إلى الأئمة الفقهاء؛ وذلك بغرض تنفيق مذاهبهم عن طريق نسبة تلك الفضائل لهم.
_________
(1) الكامل (6/ 253).
(2) الكامل (7/ 551).
(3) أخرجه الجوزجاني في " أحوال الرجال " (ص: 40) والبيهقي في " المدخل " (رقم: 84) واللفظ له، وإسناده صحيح.
(4) أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 2556) وإسناده جيد .......(2/1045)
4 _ ومنهم من يضع انتصاراً للأوطان، كمن وضع في فضائل بلد، ومثالب آخر.
السبب الثالث: الترغيب في الأعمال الصالحة.
وهذا يوجد في طائفة تبيح الكذب في الحديث لمصلحة الدين، وربما احتسب بعضهم الأجر في ذلك، يرغب في طاعة أو ينفر من معصية.
ويكثر مثل هذا عند الوعاظ.
قال أبو عمار الحسين بن حريث المروزي (وكان ثقة): قيل لأبي عصمة (يعني نوح بن أبي مريم): من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: " إني قد رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة " (1).
وممن كان يفعل ذلك من أولئك الكذابين: ميسرة بن عبد ربه، وأحمد بن محمد بن غالب الباهلي المعروف بغلام خليل (2).
قال أبو زرعة الراوي وسئل عن ميسرة بن عبد ربه: " كان يضع الحديث وضعاً، قد وضع في فضائل قزوين نحواً من أربعين حديثاً، كان يقول: إني أحتسب في ذلك " (3).
ومن هذا ما ذهب إليه بعض أهل الضلالة من جواز وضع الحديث في الترغيب والترهيب، والثواب والعقاب؛ لأنه ليس كذباً عليه صلى الله عليه وسلم، إنما هو كذب لمصلحة الإسلام (4)، زعموا!
_________
(1) أخرجه الحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 54) ومن طريقه: ابنُ الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 16) وإسناده صحيح.
(2) انظر قصته في " الكامل " لابن عدي (1/ 322).
(3) الجرح والتعديل (4/ 1 / 254)، قلت: فكأنه وضعها للترغيب في الرباط هناك.
(4) وانظر: الموضوعات، لابن الجوزي (1/ 134 _ 139).(2/1046)
السبب الرابع: الرغبة في استمالة السامعين، وصرف وجوه الناس إليه.
كشأن أحاديث القصاص.
قال ابن الجوزي في تعليل صنيع هؤلاء: " يريدون أحاديث تنفق وترقق، والصحاح يقل فيها هذا، ثم إن الحفظ يشق عليهم، ويتفق عدم الدين، ومن يحضرهم جهال " (1).
ومن مثال هذا صنيع (محمد بن أبان ابن عائشة القصراني)، قال أبو زرعة الرازي: " أول ما قدم الري قال للناس: أي شيء يشتهي أهل الري من الحديث؟ فقيل له: أحاديث في الإرجاء، فافتعل لهم جزءاً في الإرجاء " (2).
قلت: فهذا لم يفعل ذلك ينتصر به إلى مذهب، إنما قصد به استمالة وجوه العامة إليه.
كذلك الإغراب بالروايات؛ لما يحصل به من الإعجاب.
وذكر ابن عدي (جعفر بن أحمد بن علي الغافقي المصري المعروف بابن أبي العلاء) وكان قد أدركه، وكتب عنه، لكنه اتهمه بوضع الحديث وذلك أنه كان مغرماً بأبواب اعتنى بوضع الحديث فيها عن المصريين وغيرهم، وضع في فضل النخلة والتمر، وفي الفراعنة، والسرقة، وأكل الطين، أحاديث بألفاظ ركيكة واضحة في الوضع (3).
ومن هذا: العمد إلى وضع أسانيد لأحاديث صحيحة مشهورة مروية بغير تلك الأسانيد، كما كان يصنع إبراهيم بن اليسع، وحماد بن عمرو النصيبي، وغيرهما من المذكورين بالكذب.
_________
(1) الموضوعات (1/ 29) .......
(2) الجرح والتعديل (3/ 2 / 200).
(3) انظر ترجمته في " الكامل " (2/ 400 _ 405).(2/1047)
مصادر المتون الموضوعة:
متون الأحاديث الموضوعة ترجع إلى واحد من مصادر ثلاثة:
الأول: من ذات واضعه، وذلك بأن يصنعه بألفاظ نفسه.
والثاني: أن يكون مأثورا عن صحابي أو تابعي قولهما، أو قولا من الحكمة أو أمثال الناس السارية، إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أن يكون من الأخبار المستوردة من بني إسرائيل، والتي تسمى (الإسرائيليات)، فتضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الأسانيد لتلك المتون، فإن من وضع المتن فلا يعجزه أن يركب له الإسناد، وقد يكون إسناداً لا يعرف إلا لذلك الخير، يكون الواضع قد صنعه كما صنع المتن، وهذا قليل (1)، وقد يكون إسناداً معروفاً نظيفاً، ركب عليه الواضع ذلك المتن، وهذا هو الأكثر، ويفعلون لما يقع من الإغراء به لنظافة الإسناد في الظاهر.
فإن كان الواضع صير ما ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم عنه كالآثار والإسرائيليات، فتلك ربما مروية بإسناد، فيزيد فيه الواضع النسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يصله إليه بزيادة ما يقتضيه الوصل، وربما وضع لتلك الآثار الإسناد أيضاً وركبها عليه.
ومن تلك المتون ما لا سند له، وشاع بين الناس منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(1) مثل ما قاله ابنُ عدي في (الحسن بن علي بن صالح العدوي): " يضع الحديث، ويسرق الحديث، ويُلزقه على قوم آخرين، ويُحدث عن قوم لا يُعرفون، وهو متهم فيهم، فإن الله لم يخلقهم "، قلت: ومن أمثلة هؤلاء ممن ذكر ابنُ عدي رجلٌ يُقال له: (خِراشُ بن عبد الله) اصْطنعه العَدوي هذا وزَعم أنه خادِم أنس بن مالك، وبعد أن ساق ابن عدي له أحاديث عنه قال: " وهذه الأحاديث أربعة عشر حديثاً، وخِراش هذا لا يُعرف، ولم أسْمع أحداً يذْكر خراشاً غير العدوي " (الكامل 3/ 195، 204 _ 205) .......(2/1048)
وهذا أظهر في الوضع مما صيغت له الأسانيد؛ لأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل بدون الإسناد.
والكذب في الحديث يعلم بطرق، تعود جملتها إلى ما يلي:
الأولى: أن يقر واضعه بأنه وضعه.
ووقع من بعض من عرفوا بالكذب اعترافهم بذلك، كنوح بن أبي مريم، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وزياد بن ميمون، وغيرهم.
قال أبو داود الطيالسي: " أتينا زياد بن ميمون، فسمعته يقول: أستغفر الله، وضعت هذه الأحاديث " (1).
قلت: لكن كشف الحديث الموضوع المعين بهذا الطريق فيما في أيدي الناس من الحديث المروي لا يكاد يوجد، إنما كان طريقاً تكشف به حال أولئك المخذولين.
الثانية: أن يكون ظاهراً منه بحيث كأنه ينزل منزل إقراره بوضعه.
وذلك كما قال يحيى بن معين في (أبي داود النخعي): " رجل سوء كذاب، يضع الأحاديث، انصرفنا من عند هشيم في أبواب من الطلاق، فقال: ليس منها شيء إلا وعندي بإسناد، كان يدخل فيضع الحديث ثم يخرج "، قال يحيى " سمعت أبا داود يقول: حدثني خصيف وخصاف ومخصف، كذب كله " (2).
قلت: كأن ابن معين يقول: كان الكذب ظاهراً في وجهه.
وانكشف لكثير من النقاد حال طائفة من هؤلاء الكذابين، فقضوا بأنهم وضعوا الحديث المعين أو الأحاديث، مثل قطعهم بوضع ميسرة بن عبد ربه
_________
(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل " لأبيه (النص: 2997) بإسناد صحيح.
(2) من كلام أبي زكريا يحيى بن مَعين (النص: 218) .......(2/1049)
كتاباً في أحاديث في فضل العقل، سرقه منه داود بن المحبر وغيره، وحكمهم على نسخ مجموعة من قبل بعض الكذابين بكونها موضوعة، كنسخة أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط، وغيره.
الثالثة: أن يظهر من حال الراوي عند تحديثه به ما يدل على أنه وضعه.
كالذي وقع من غياث بن إبراهيم حين دخل على الخليفة المهدي في زيادته في حديث: " لا سبق إلا في خف " ذكر الجناح، حين علم أن المهدي يحب الحماح، فأراد التزلف له، فكشف المهدي حقيقة أمره من ساعته (1).
وهذا طريق كان معتبراً في كشف روايات الكذابين لمن كان يقظاً عند مباشرة السماع منهم.
الرابعة: أن يستدل بما عرف عن الراوي من أنه كان يكذب، بكون حديثه موضوعاً، وذلك حين تثبت نكارته، ولا يعرف له ما يدل على أن له أصلاً من غير طريقه.
وهذا طريق يستعمله عامة النقاد في الحكم على كثير من الأحاديث الموضوعة، وهو الطريق الواجب اعتباره فيما لم تقم قرينة أخرى على اعتباره كذباً؛ وذلك لإمكان إجرائه في الواقع.
وبيانه: أنك تجد الحديث يرويه رجل من المعروفين بالكذب بإسناد له، لا يوجد له أصل من وجه آخر بحيث لا تبرأ عهدة ذلك الكذاب منه، فتقول: هذا حديث موضوع، آفته من جهة هذا الكذاب.
مثل: ما رواه أحمد بن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق
_________
(1) وتقدم في هذا المبحث سِياق قصته.(2/1050)
المروزي، قال: حدثنا الحسين بن عيسى، قال: أنبانا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
" من سقى مسلماً شربة من ماء في موضع يوجد فيه الماء فكأنما أعتق رقبة، فإن سقاه في موضع لا يوجد فيه الماء فكأنما أحيا نسمة مؤمنة ".
قال ابن عدي: " هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وحكم على (أحمد بن علي) رواية بقوله: " يضع الحديث عن الثقات " (1).
وهكذا ترى أحكامه وأحكام ابن حبان وابن الجوزي وغيرهم على الأحاديث الكثيرة بالوضع، فإنما هو لكونها لم تعرف إلا من طريق من هو مذكور بالكذب، وربما يكون كذب ذلك الراوي لهم قد انكشف بالمجيء بمثل تلك الأحاديث، فصح لهم أن يستدلوا على كذبه بها، وعلى كذبها به.
الخامسة: أن يكون الحديث شبيهاً بحديث الكذابين، وإن كان لا يتهم بوضعه معين في إسناده، بل ربما كان من رواية مجهول، أو مما أدخل على بعض الرواة الضعفاء، أو دلس اسم الكذاب الذي تلصق به التهمة.
وقد ذكرت في (تفسير الجرح) من نماذج الرواة من لزمه الجرح بسبب إدخال الموضوعات عليه وهو لا يعلم، ومن أجله رد من المدلس المعروف بالتدليس عن المجروحين ما لم يبين فيه السماع لو كان ثقة.
ومن مثال هذه الصورة ما ذكره عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثت أبي بحديث حدثنا خالد بن إبراهيم أبو محمد المؤذن، قال: حدثنا
_________
(1) الكامل (1/ 338) .......(2/1051)
سلام بن رزين قاضي أنطاكية، قال: حدثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود، قال:
بينما أنا والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرقات المدينة، إذا أنا برجل قد صرع، فدنوت فقرأت في أذنيه، فاستوى جالساً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ماذا قرأت في أذنه يا ابن أم عبد؟ "، قلت: فداك أبي وأني، قرأت: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي بعثني بالحق، لو قرأها موقن على جبل لزال "؟ أحمد من جهة
قال أحمد بن حنبل: " هذا الحديث موضوع، هذا حديث الكذابين، منكر الإسناد " (1).
قلت: هو حديث لم يتعين واضعه، أو واضع إسناده، وجائز أن تكون حجة أحمد من جهة أن الأعمش معروف الحديث، وليس هذا عند أحد من أصحابه، فكيف صار مثله إلى رجل مجهول كسلام هذا، وجائز أن تكون الحجة أن الحديث معروف من حديث عبد الله بن لهيعة، رواه عن عبد الله بن هبيرة، عن حنش الصنعاني، عن عبد الله بن مسعود (2).
ولم يأت من ابن لهيعة ذكره السماع في روايته، ومعروف أنه وقعت في روايته المنكرات، تارة من جهة حفظه، وتارة من مظنة التدليس.
ومن أثبت الروايات عنه رواية عبد الله بن وهب، وقد رواه عنه بإسناده إلى حنش، مرسلاً (3).
_________
(1) العلل (النص: 5979) وعنه: العقيلي في " الضعفاء " (2/ 163) وابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 498).
(2) أخرجه أبو يعلى (رقم: 5045) وابن السني في " اليوم والليلة " (رقم: 631) والحكيم: الترمذي في " نوادر الأصول " (رقم: 847 _ تنقيح) والطبراني في " الدعاء " (رقم: 1081) وأبو نُعيم في " الحلية " (1/ 38 رقم: 11) من طريقين عن ابن لهيعة به .......
(3) كذلك أخرجه ابنُ أبي حاتم في " تفسيره " (8/ 2513)، وأيضاً هوَ مرسلٌ عند الخطيب في " تاريخه " (12/ 312) من طريق عفيف بن سالم الموصلي عن ابن لهيعة.(2/1052)
السادسة: أن يدل جمع الطرق وتتبع الروايات على عورة الكذاب فيه.
وهذا طريق كشف عن حال كثير من الموصوفين بالكذب، وخصوصاً أولئك الذين عرفوا بالكذب في الأسانيد، كتوصيل منقطع يضع له أحدهم الإسناد يوصله به أو وضع إسناد مختلف لحديث صحيح معروف مروي بإسناد آخر صحيح.
ومثل هذا لا يقدح في متن الحديث، ولا يحكم بسببه بكونه موضوعاً، وإنما الموضوع هو الإسناد.
وذلك كحال (خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني)، قال يحيى بن معين: " كان يزيد في الأحاديث الرجال، يوصلها لتصير مسندة "، ويفسر ذلك أبو زرعة الرازي فيقول: " هو كذاب، كان يحدث الكتب عن الليث عن الزهري، فكل ما كان: الزهري عن أبي هريرة، جعله: عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وكل ما كان: الزهري عن عائشة، جعله: عن عروة عن عائشة، متصلاً " (1).
وترى الحكم بالوضع بهذا الطريق وقع من طائفة من متقدمي الحفاظ، كأبي حاتم الرازي في " علل الحديث ".
السابعة: أن يعرف بالتاريخ، كأن يوجد من الراوي ذكر السماع من قوم لم يدركهم، فيكون قرينة على كون ما حدث به عنهم كذباً، وهو معدود فيمن يسرق الحديث.
ولا يلزم منه أن يكون المتن أو حتى سائر الإسناد موضوعاً، إنما قد يكون الكل موضوعاً، وقد يكون حكم الوضع مقصوراً على رواية ذلك الكذاب عن ذلك الشيخ الذي لم يلقه، فتكون روايته تلك من طريقه ساقطة لا اعتداد بها؛ لأجله.
_________
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 347، 348).(2/1053)
والتاريخ من أبرز طرق كشف الكذب والكذابين في الحديث: يحدث الراوي عمن مات قبله، أو كان يوم مات الشيخ في سن لا يحتمل السماع منه.
قال حفص بن غياث: " إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين " يعني: احسبوا سنه وسن من كتب عنه (1).
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين وذكر المعلى بن عرفان: " قال: حدثنا أبو وائل قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين " فقال أبو نعيم: " أتراه بعث بعد الموت؟ " (2).
قال البخاري: " وهذا لا أصل له؛ لأن عبد الله مات قبل عثمان، رضي الله عنه، وقبل صفين بسنين " (3).
وقال إسماعيل بن عياش: " كنت بالعراق، فأتاني أهل الحديث، فقالوا: هذا رجل يحدث عن خالد بن معدان، قال: فأتيته، فقلت: أي سنة كتبت عن خالد بن معدان؟ قال: سنة ثلاث عشرة، فقلت: أنت تزعم أنك سمعت من خالد بعد موته بسبع "، قال إسماعيل: " مات خالد سنة ست ومئة " (4).
_________
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 193) ومن طريقه: ابن عساكر في " تاريخه " (1/ 54) وإسناده لا بأس به.
وروُي في هذا المعنى عن سفيان الثوري قال: " لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ " أخرجه ابنُ عدي في " الكامل " (1/ 169 _ 170) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 193) وابنُ عساكر (1/ 54) وفي إسناده من لم أقف عليه .......
(2) أخرجه مسلم في " مقدمته " (ص: 26) وعنه: ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (4/ 1 / 330) وإسناده صحيح إلى أبي نعيم.
(3) التايخ الأوسط (2/ 78).
(4) أخرجه ابن حبان في " المجروحين " (1/ 71) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 60 _ 61) والخطيب في " الجامع " (رقم: 145) وإسناده جيد.(2/1054)
وقال صالح بن محمد الأسدي المعروف بـ (جزرة) في (محمد بن مهاجر الطالقاني أخي حنيف): " أكذب خلق الله، يحدث عن قوم ماتوا قبل أن يولد هو بثلاثين سنة، وأعرفه بالكذب منذ خمسين سنة " (1).
وقال ابن أبي حاتم الرازي في (محمد بن منده الأصبهاني): " لم يكن عندي بصدوق، أخرج أولاً عن محمد بن بكير الحضرمي، فلما كتب عنه استحلى الحديث، ثم أخرج عن بكر بن بكار، والحسين بن حفص، ولم يكن سنه سن من يلحقها " (2).
وقال ابن عدي في (أحمد بن محمد بن الصلت أبي العباس): " رأيته في سنة سبع وتسعين ومئتين يحدث عن ثابت الزاهد وعبد الصمد بن النعمان وغيرهما من قدماء الشيوخ، قوم قد ماتوا قبل أن يولد بدهر، وما رأيت في الكذابين أقل حياء منه، وكان ينزل عند أصحاب الكتب يحمل من عندهم رزماً، فيحدث بما فيها، وباسم من كتب الكتاب باسمه، فيحدث عن الرجل الذي اسمه في الكتاب، ولا يبالي ذلك الرجل متى مات، ولعله قد مات قبل أن يولد " (3).
ومثاله أيضاً: محمد بن عبدة بن حرب العباداني، أدركه ابن عدي وكتب عنه، وقال: " قوله: كتبت عن بكر بن عيسى كذب عظيم، وذاك أنه كان يقول: ولد سنة ثماني عشرة، وبكر مات أربع ومئتين، فكيف يكتب عنه؟ " (4).
وقال ابن حبان في (أبي العباس أحمد بن محمد بن الأزهر) وقد أدركه: " قد روى عن محمد بن المصفى أكثر من خمس مئة حديث، فقلت
_________
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (3/ 303) وإسناده صحيح.
(2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 107).
(3) الكامل (1/ 327 _ 328).
(4) الكامل (7/ 565) .......(2/1055)
له: يا أبا العباس، أين رأيت محمد بن المصفى؟ فقال: بمكة، فقلت: في أي سنة؟ قال: سنة ست وأربعين ومئتين، قلت: وسمعت هذه الأحاديث منه في تلك السنة بمكة؟ قال: نعم، فقلت: يا أبا العباس، سمعت محمد بن عبيد الله بن الفضيل الكلاعي عابد الشام بحمص يقول: عادلت محمد بن المصفى من حمص إلى مكة سنة ست وأربعين، فاعتل بالجحفة علة صعبة، ودخلنا مكة، فطيف به راكباً، وخرجنا في يومنا إلى منى، واشتدت به العلة، فاجتمع علي أصحاب الحديث، وقالوا: أتأذن لنا حتى ندخل عليه؟ قلت: هو لما به، فأذنت لهم، فدخلوا عليه، وهو لما به لا يعقل شيئاً، فقرأوا عليه حديث ابن جرير عن مالك في المغفر، وحديث محمد بن حرب عن عبيد الله بن عمر: ليس من البر الصيام في السفر، وخرجوا من عنده، ومات فدفناه. فبقي أبو العباس ينظر إلي " (1).
قلت: فرواية الواحد من هؤلاء شيئاً عمن لم يدركوه يدعون السماع منه، كذب، وإسناد ذلك الراوي عن ذلك الشيخ موضوع.
الثامنة: أن يختبر الراوي بسؤاله عن المكان الذي سمع فيه من شيخ معين، أو عن صفة ذلك الشيخ، فيذكر ما يخالف الحقيقة، فيكون تحديثه بما حدث به عن ذلك الشيخ كذباً.
مثل: سهيل بن ذكوان، فقد ادعى أنه سمع من أم المؤمنين عائشة، فسئل: أين لقيت عائشة؟ قال: بواسط، وعائشة ما دخلت واسط (2).
كما قيل له: صف عائشة، فقال: كانت أدماء، أو: سوداء (3)، وكذب في ذلك.
_________
(1) المجروحين من المحدثين (1/ 164).
(2) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب (رقم: 151).
(3) التاريخ الكبير، للبخاري (2/ 2 / 104)، العلل، لأحمد بن حنبل (النص: 988)، تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 2486) .......(2/1056)
التاسعة: أن يكون معلوماً أن زيداً من الرواة غير معروف بالرواية عن فلان، فيروي رجل حديثاً يذكر فيه رواية لزيد عن فلان هذا، فيستدل به على تركيبه الأسانيد، وأن ذلك الإسناد موضوع مركب.
مثل: (عبد الله بن حفص الوكيل) روى بإسناده عن سليمان التيمي عن حميد عن أنس حديثاً منكراً، فقال ابن عدي: " هذا موضوع المتن والإسناد، وذاك أن سليمان التيمي لا يحفظ له عن حميد شيء " (1).
والوكيل هذا متهم بالكذب ووضع الحديث، ومثل هذه العلة دليل على أنه كان يركب الأسانيد.
العاشرة: أن يستدل بطراوة الخط في الكتاب العتيق أو بلون الحبر مثلاً على أن الراوي أضاف اسمه في طباق السماع، فادعى لنفسه السماع واتصال ما بينه وبين من روى عنه ذلك الحديث أو الكتاب، وإنما هو يكذب.
وصنيع هذا وقع من طائفة من المتأخرين بعدما صارت الرواية إلى الكتب، ولذا يلزم تتبع ذلك من النقلة لكشف صحة السماع أو عدمه، قال الحاكم: " يتأمل أصوله: أعتيقة هي أم جديدة، فقد نبغ في عصرنا هذا جماعة يشترون الكتب فيحدثون بها، وجماعة يكتبون سماعاتهم بخطوطهم في كتب عتيقة في الوقت فيحدثون بها " (2).
قلت: ومن أمثلة من فضحه الله بتزوير السماع: محمد بن عبد الخالق اليوسفي (3)، وأبو البقاء محمد بن محمد بن معمر بن طبرزد (4).
_________
(1) الكامل (5/ 435).
(2) معرفة علوم الحديث (ص: 16).
(3) انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال (3/ 613) ولسان الميزان (5/ 246) وتكملة الإكمال لابن نُقطة (4/ 486).
(4) انظر ترجمته في: ميزان الاعتدال (4/ 30 _ 31) ولسان الميزان (5/ 365) .......(2/1057)
ومنهم: محمد بن أيوب بن سويد الرملي، قال أبو زرعة الرازي: " أتيناه، فأخرج إلينا كتب أبيه أبواباً مصنفة بخط أيوب بن سويد، وقد بيض أبوه كل باب، وقد زيد في البياض أحاديث بغير الخط الأول، فنظرت فيها، فإذا الذي بخط الأول أحاديث صحاح، وإذا الزيادات أحاديث موضوعة ليست من حديث أيوب بن سويد، قلت: هذا الخط الأول خط من هو؟ فقال: خط أبي، فقلت: هذه الزيادات، خط من هو؟ قال: خطي، قلت: فهذه الأحاديث من أين جئت بها؟ قال: أخرجتها من كتب أبي، قلت: لا ضير، أخرج إلي كتب أبيك التي أخرجت هذه الأحاديث منها "، قال أبو زرعة: " فاصفار لونه وبقي (1)، وقال: الكتب ببيت المقدس، فقلت: لا ضير، أنا أكتري فيجاء بها إلي. . " قال: " فبقي ولم يكن له جواب، فقلت له: ويحك ! أما تتقي الله؟ ما وجدت لأبيك ما تفقه به سوى هذا؟ أبوك عند الناس مستور وتكذب عليه؟ أما تتقي الله؟ فلم أزل أكلمه بكلام من نحو هذا ولا يقدر لي على جواب " (2).
واعلم أنه ليس كل من ادُّعي عليه أنه يفعل ذلك يكون مما يقدح فيه، فقد تكلم الحافظ ابن النجار، في شيخه (عبد الرحيم بن الحافظ أبي سعد عبد الكريم السمعاني) فقال: " كانت سماعاته التي بخط والده وخطوط المعروفين من المحدثين صحيحة، فأما ما كان بخطه فلا يعتمد عليه، فإنه كان يلحق اسمه في طباق لم يكن اسمه فيها إلحاقاً ظاهراً، ويدعي سماع أشياء لم يوجد سماعه منها، وكان متسامحاً " (3).
فاعتذر عنه ابن حجر، فقال: " هذا الذي قاله ابن النجار فيه لا يقدح بعد ثبوت عدالته وصدقه، أما كونه كان يلحق اسمه في الطباق، فيجوز أنه
_________
(1) أي أفحِم وسكت.
(2) سؤالات البرذعي (2/ 390 _ 391).
(3) المستفاد من ذيْل تاريخ بغداد، لابن النجار، انتقاء: الدمياطي (ص: 289).(2/1058)
كان يحقق سماعه، وأما كونه ادعى سماع أشياء لم توجد، فهذا إنما يتم به القدح فيه لو وجد الأصل الذي ادعى أنه سمع فيه، ولم يوجد اسمه فيه، أما فقدان الأصول فلا ذنب للشيوخ فيه " (1).
الحادية عشرة: أن يكون في نفس المروي قرينة تدل على كونه كذباً.
كالأحاديث الطويلة التي يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها، أو تخالف البراهين الصريحة ولا تقبل تأويلاً بحال.
قال الشافعي: " لا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أنه يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالات بالصدق منه " (2).
وذكر ابن القيم (3) لتمييز الحديث الموضوع بهذا الطريق علامات، إليكها ملخصة مقربة مع زيادة فائدة يقتضيها المقام:
[1] اشتمال الحديث على المجازفات في ترتيب الجزاء المبالغ في وصفه على العمل اليسير.
مثل: " من صلى الضحى كذا وكذا ركعة، أعطي ثواب سبعين نبيا " (4).
[2] مخالفة الواقع المحسوس.
مثل: " الباذنجان شفاء من كل داء " (5).
_________
(1) لِسان الميزان (4/ 7) .......
(2) الرسالة (الفقرة: 1099).
(3) في كتابه: " المنار المنيف في الصحيح والضعيف ".
(4) وانظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 992).
(5) وانظر: المقاصد الحسنة، للسخاوي (رقم: 279).(2/1059)
قلت: كالذي روى العلاء بن زيدل، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال " العالم لا يخرف ".
سئل أبو حاتم الرازي عن هذا الحديث فقال: " العلاء ضعيف الحديث، متروك الحديث، قد وجدنا من ينسب إلى العلم: المسعودي، والجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وعطاء بن السائب، وغيرهم " (1).
قلت: يعني أنه كبروا فخرفوا.
[3] مناقضة السنن الإلهية في التشريع والتكليف.
مثل ما يروى في حرمة النار على من اسمه (محمد) أو (أحمد) (2).
[4] أن يشمل على تحديد تاريخ مستقبل، تقع فيه حوادث، فيقال: " إذا كانت سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت " (3).
ومن هذا ما يذكر في عمر الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة (4).
والمبين لكذب هذا النوع من الأخبار: خلو أخبار الوحي المعروفة من ذلك بالاستقراء، مع ظهور كذب تلك الأخبار في الواقع المشاهد.
[5] أن تقوم الشواهد الصحيحة، والعلم القاطع، للدلالة على بطلانه.
مثل: " إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة ".
[6] أن يشمل على خلاف الصحيح الثابت.
مثل حديث وضع الجزية على يهود خيبر، فهو باطل لأن فيه شهادة
_________
(1) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2821).
(2) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 326).
(3) انظر من ذلك ما في " الموضوعات " لابن الجوزي (رقم: 1688 _ 1698).
(4) انظر الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 1791) .......(2/1060)
سعد بن معاذ، ولم يكن حيا يومئذ، ولم يكن أسلم يومئذ والجزية لم تكن شرعت يومئذ، إلى قرائن أخرى.
[7] أن يكون سمج اللفظ، أو يكون كلاماً تقبح إضافة مثله إلى نبي.
مثل: " لا تسبوا الديك، فإنه صديقي، ولو يعلم بنو آدم ما في صورته لاشتروا ريشه ولحمه بالذهب " (1).
ومثل: " أربع لا تشيع من أربع: انثى من ذكر، وأرض من مطر، وعين من نظر، وأذن من خبر " (2).
ومن قبيح كذبهم: " عليكم بالوجوه الملاح، والحدق السود، فإن الله يستحيي أن يعذب وجهاً مليحاً بالنار " (3).
[8] أن يشتمل على ما يوجب اتفاق الأمة في زمن على الضلالة.
كادعاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم فعل أمراً ظاهراً بمحضر من جميع الصحابة، ثم اتفقوا على كتمانه، مثل الذي تدعيه الرافضة في شأن الوصي.
[9] أن يكون كلاماً هو ألصق بكلام الأطباء أو أصحاب المهن أو الحكماء، منه بكلام الأنبياء.
مثل: " كلوا التمر على الريق، فأنه يقتل الدود " (4).
قلت: ومما يشكل على هذا الطريق: أن من الكذابين من كان يحاكي الكلمات النبوية، ويأتي بالعبارات البليغة، والحق من القول، مركباً على الأسانيد التي ظاهرها السلامة، فيحسبه بعض الناس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
_________
(1) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 1347).
(2) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 462 _ 464).
(3) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 333 _ 334).
(4) انظر: الموضوعات، لابن الجوزي (رقم: 1392) .......(2/1061)
وهذا من أغمض ما يكون، إذ لا يتبينه إلا حاذق عارف، يقارن بين المتون والأسانيد فيقيس على المحفوظ المعروف.
ومثال ذلك من هؤلاء الكذابين (أبو جعفر عبد الله بن المسور الهاشمي)، فقد صح عن الثقة رقبة بن مصقلة العبدي قوله: " كان يضع أحاديث، كلام حق، وليست من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرويها عن النبي صلى الله عليه وسلم " (1).
وثبت عن محمد بن سعيد الشامي المصلوب قوله: " إني لأسمع الكلمة الحسنة، فلا أرى بأساً أن أنشئ لها إسناداً " (2).
قلت: ووجود مثل هذا يبطل عبارة يدعيها بعض الناس في بعض أحاديث الضعفاء المتهمين والمجهولين: (هذه الكلمات حق، لا بد أن تكون خارجة من مشكاة النبوة)، كذلك يبطل قبول خبر المجهول الذي لا يعرف له على خبره متابع معتبر على ما روى؛ لجواز أن يكون على نفس صفة هذا الهالك، حتى يتبين أمره في الثقة والأمانة.
مسائل في الموضوع:
المسألة الأولى: مصطلح (حديث لا أصل له).
كان يستعمل في عرف السلف في الحديث يروى بإسناد، لكنه خطأ أو باطل لا حقيقة له ولم يوجد أصلاً.
_________
(1) أخرجه مسلم في " مقدمته " (1/ 22) وأبو أحمد الحاكم في " الكنى " (3/ 46) والخطيب في " تاريخه " (10/ 172) بإسناد صحيح.
(2) أخرجه أبوزرعه الدمشقي في " تاريخه " (1/ 454) ومن طريقه: ابن حبان في " المجروحين " (2/ 248) وابن الجوزي في " الموضوعات " (رقم: 19) وابن عساكر في " تاريخه " (53/ 77)، وبنحوه أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفه والتاريخ " (1/ 700) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (3/ 1 / 263) والبرذعي في " أسئلته لأبي زرعه " (2/ 726) وابن عدي (7/ 317) وابن عساكر، وإسناده جيد .......(2/1062)
وإذا حكموا بذلك على الحديث أرادوا: لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا حكموا على الإسناد أرادوا: لا أصل له عمن أضيف إليه في ذلك الطريق ممن لم يعرف من حديثه من الثقات، وجائز أن يكون له أصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذلك الوجه.
والعبارة تساوي: ما هو كذب في نفسه متناً أو سنداً، أو في كليهما، ولذلك كثيراً ما تقترن بلفظ (موضوع) أو (كذب).
وكثيراً ما يستعمل هذه العبارة أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان والعقيلي وابن عدي وابن حبان، وغيرهم من السالفين في الخبر له إسناد، لكنه باطل أو كذب.
ومن أمثلته:
مثال ما ليس له أصل بإسناد معين، ومتنه محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه آخر:
سئل أبو حاتم الرازي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " (1)؟
فقال أبو حاتم: " هذا حديث باطل، لا أصل له، إنما هو: مالك،
_________
(1) أخرجه من هذا الوجه: أبو نعيم في " الحلية " (6/ 374 رقم: 8984) والخليلي في " الإرشاد " (1/ 233) والقضاعي في " مسند الشهاب " (رقم " 1173) من طرق عن نوح به.
كما أخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " (كما في " تخريج أحاديث المختصر " لابن حجر 2/ 274) وابن حجر نفسه في الكتاب المذكور، من طريق إبراهيم بن محمد العتيق، عن ابن أبي رواد، به، كما ذكر ابن حجر (2/ 248) تخريج الحاكم له في " تاريخ نيسابور " من وجه ثالث عن ابن أبي رواد.(2/1063)
عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) " (2).
ومثال ما روي بإسناد، ولا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه:
ما رواه العلاء بن عمرو الحنفي، قال: حدثنا يحيى بن بريد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي " (3).
فهذا قال فيه العقيلي: " منكر، لا أصل له " (4).
وسبقه أبو حاتم الرازي فقال: " هذا حديث كذب " (5).
والمتأخرون استعملوا العبارة أيضاً فيما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المتون
_________
(1) كذلك هو مخرج في " الصحيحين " من طريق مالك: أخرجه البخاري (رقم: 54، 4783) ومسلم (رقم: 1907)، وهو في " الموطأ " من رواية محمد بن الحسن (رقم: 983).
ورواته عن يحيى بن سعيد الأنصاري خلق كثير، مخرجة رواياتهم في أكثر الأصول.
(2) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 362).
وقال الخليلي في " الإرشاد " (1/ 167): " عبد المجيد صالح، محدث ابن محدث .. لكنه يخطئ، ولم يخرج في الصحيح، وقد أخطأ في الحديث الذي يرويه مالك والخلق عن يحيى بن سعيد الأنصاري " فذكره بإسناده المعروف إلى عمر بن الخطاب، ثم قال: " وهذا أصل من أصول الدين، ومداره على يحيى بن سعيد، فقال عبد المجيد وأخطأ فيه: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم .. " فذكر هذا الإسناد، وقال: " غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه، فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة ".
(3) أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (3/ 348) والطبراني في " الكبير " (11/ 185 رقم: 11441) و " الأوسط " (6/ 271 رقم: 5579) وابن الأنباري في " الوقف والابتداء " (رقم: 19) والحاكم في " المستدرك " (4/ 87 رقم: 6999) و " معرفة علوم الحديث " (ص: 161 _ 162) والبيهقي في " الشعب " (2/ 159، 230 رقم: 1433، 1610) وأبو زكريا ابن مندة في " ذكر أبي القاسم الطبراني " (ص: 357 - 359) من طريق العلاء المذكور، به.
(4) الضعفاء (3/ 349).
(5) علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 2641).(2/1064)
الموضوعة، ولا تروى عنه بإسناد، ولا ريب أنه استعمال صحيح أيضاً ليس بخارج عما استعمله فيه السلف، بل إطلاقه على هذه الصورة أولى.
وذلك كحكم ابن حجر العسقلاني وغيره على حديث: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " بقوله: لا أصل له " (1).
ويشبه هذه العبارة في المعنى قول الناقد في حديث ما: " ليس له إسناد "، فإنه حكم بكونه لا أصل له.
ومن ذلك ما حكاه أبو داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: " يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، وليس له إسناد "، قال أبو داود: " يعني حديث عبد الله بن جعفر المخرمي من ولد مسور بن مخرمة، عن عثمان الأخنسي، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يريد بقوله: ليس له إسناد؛ لحال عثمان الأخنسي؛ لأن في حديثه نكارة " (2).
المسألة الثانية: الحديث الذي لا أصل له يكثر في أبواب الفضائل، والترغيب والترهيب، والقصص، والتفسير، والفتن والملاحم، والسير والمغازي.
قال أحمد بن حنبل: " ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير " (3).
قال الخطيب: " وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أن المراد به كتب
_________
(1) المقاصد الحسنة، للسخاوي (رقم: 702) .......
(2) مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 300 _ 301).
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 362) والترمذي (رقم: 344) والطبراني في " الأوسط " (رقم: 794 _ 9136) من طرق عن المخرمي، به. وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح "، كذا قال، وقول أحمد في تعليله أرجح، وفصلت القول فيه في كتاب " علل الحديث ".
(3) أخرجه ابن عدي في " الكامل " (1/ 212) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1493) وإسناده صحيح.(2/1065)
مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها؛ لسوء أحوال مصنفيها، وعدم عدالة ناقليها، وزيادات القصاص فيها " (1).
قال: " أما كتب الملاحم فجميعها بهذه الصفة، وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضية، وطرق واضحة جلية " (2).
قلت: ومن تأمل الكتب العتيقة المدونة في هذه الأبواب وجد الوهاء سمة مؤلفيها، ككتب محمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الضبي في السير والمغازي، وتفيسر الكلبي ومقاتل بن سليمان.
وإن كان المؤلف موصوفاً بالسلامة كمحمد بن إسحاق، كان تصنيفه كثير الغث قليل الصواب.
نعم، ربما يسهل في قبول بعض ما جمعه هذا الصنف، مما استفادوه من كلام العرب ولغتها، لا الرواية.
قال يحيى بن سعيد القطان: " تساهلوا في التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث " ثم ذكر ليث بن أبي سليم، وجرير بن سعيد، والضحاك، ومحمد بن السائب يعنى الكلبي، وقال " هؤلاء لا يحمد حديثهم، ويكتب التفيسر عنهم " (3).
ويبين البيهقي وجه هذا الترخص فيقول: " وإنما تساهلوا في أخذ التفسير عنهم؛ لأن ما فسروا به ألفاظه تشهد به لغات العرب، وإنما عملهم في ذلك الجمع والتقريب فقط " (4).
_________
(1) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 162).
(2) الجامع لأخلاق الراوي (2/ 162 _ 163) .......
(3) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 35 _ 37) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1588) وإسناده صحيح.
(4) دلائل النبوة (1/ 37).(2/1066)
المسألة الثالثة: الكتب المؤلفة في تمييز الأحاديث الموضوعة.
اعلم أن الأحاديث الموضوعة في أزمان أولئك الكذابين كانت كثيرة، ولكن الله نفى أكثرها بأئمة الهدى الذين سخرهم للذب عن دينه، ففضح بهم أمر الكذابين، وكشفوا عن حقيقة أمرهم، وأبطلوا ما جاءوا به، ثم صنفت التصانيف الموثقة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد أصحابها إلى انتقاء الحديث فيها، متقين ما انكشف وظهر بطلانه ووضعه، وأكثروا تخريج أحاديث الثقات، وانعدم تارة وندر أخرى فيما خرجوه أحاديث الكذابين، خصوصاً تلك الكتب الأمهات المحتوية على تفاصيل السنن، والتي لا يكاد يخرج عنها من الحديث الصحيح إلا ما ندر.
فحين ترى مثلاً ما جاء عن الرجل الواحد من رءوس الكذب أنه وضع الآلاف من الحديث، فلا يغرنك هذا فتحسب له أثراً في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك كقول الحاكم النيسابوري: " مُحمد بن تميم الفاريابي، قد وضَعَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشْرة آلافِ حديث، وهُو قريبٌ من الجوباري " (1).
قول ابن حبان في (محمد بن يونس الكديمي): " يضع على الثقات الحديث وضعاً، ولعله قد وضع أكثر من ألف حديث " (2).
فهذا وشبهه جميعاً مما لم يبق له وجود من رواية هؤلاء وأمثالهم إلا الشيء اليسير المتميز الذي تسلم منه أمهات السنة بفضل الله ونعمته، فله الحمد.
ولعل من حكمة بقاء ذلك اليسير أن يستدل به على كذب هؤلاء وفضيحتهم، وقد اعتنى ببيانه علماء الأمة، ولا يزالون.
_________
(1) سؤالات مسعود السجزي (النص: 137).
(2) المجروحين (2/ 313) .......(2/1067)
ومن أشهر المؤلفات فيه كتاب " الموضوعات " لأبي الفرج ابن الجوزي.
وهو كتاب نافع، غير أنه انتقد في مواطن منه، وعيب عليه فيه أمران أساسيان:
الأول: أنه أدخل فيه أحاديث لا تبلغ الوضع، بل الضعف، إنما هي من الحديث المقبول، وبعض ذلك في كتب " السنن" و " مسند أحمد "، بل فيه حديث هو في " صحيح مسلم " (1).
وأكثر من اجتهد في تعقبه في ذلك: جلال الدين السيوطي في كتاب " اللآلئ المصنوعة "، وكان قبله قد تعقبه العراقي وابن حجر فيما أورده في " الموضوعات " من أحاديث " المسند ".
والتحقيق: أن زعم أن يكون شيء مما أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " مما هو من قسم المقبول، محل بحث في أكثره، فقد يسلم فيه الحديث بعد الحديث، لكن أغلب ذلك مما اجتهد في دفع الضعف عنه بتكلف لا يخفى على من تأمله.
وإنما يصدق النقد لابن الجوزي في أنه حكم على ما ضمنه كتابه بالوضع، وفيه أحاديث كثيرة لا تهبط إلى ذلك القدر، بل هي من قسم الضعيف.
وعلة أوهام ابن الجوزي في كثير منها ناتجة عن التقليد لمن تقدمه كابن عدي والعقيلي وابن حبان، حيث يتابعهم في إيراد أحاديث انتقدوها
_________
(1) وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك إن طالت بك مدة، أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر، يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله ". أخرجه مسلم (رقم: 2857)، وهو في " الموضوعات " لابن الجوزي (رقم: 1544)، وابن الجوزي قلد في إيراده ابن حبان في " المجروحين " (1/ 176)، فإنه قال: " خبر بهذا اللفظ باطل " .......(2/1068)
على بعض الرواة، ربما لم يحكموا عليها بأكثر من النكارة، فيوردها ابن الجوزي على أنها موضوعة.
والثاني: أنه بنى في نقده على إعماله الجرح غير المحرر في الراوي المختلف فيه، وأوهامه في هذا كثيرة في جميع كتبه التي تعرض فيها لنقد الأحاديث أو الرجال، فإنه يذكر الجرح ويقصر في التعديل، أو يغفله جملة، وغاية أمر الراوي أن يكون ضعيفاً لا يتهم.
قال الذهبي وذكر قدر معرفة ابن الجوزي بنقد الحديث: " أما الكلام على صحيحه وسقيمه، فما له فيه ذوق المحدثين، ولا نقد الحفاظ المبرزين، فإنه كثير الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة، مع كونه كثير السياق لتلك الأحاديث في الموضوعات، والتحقيق أنه لا ينبغي الاحتجاج بها، ولا ذكرها في الموضوعات وربما ذكر في الموضوعات أحاديث حساناً قوية، ونقلت من خط السيف أحمد بن المجد (1) قال: صنف ابن الجوزي كتاب " الموضوعات "، فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل. ومما لم يصب فيه إطلاقه الوضع على أحاديث بكلام بعض الناس في أحد رواتها، كقوله: فلان ضعيف، أو: ليس بالقوي، أو: لين، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا حجة بأنه موضوع، سوى كلام ذلك الرجل في راويه، وهذا عدوان ومجازفة " (2).
قلت: نعم، أكثر ما في كتاب " الموضوعات " من الحديث الأحاديث الموضوعة.
قال ابن تيمية: " الموضوع في اصطلاح أبي الفرج: هو الذي قام دليل على أنه باطل، وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب، بل غلط فيه؛ ولهذا
_________
(1) هو الحافظ سيف الدين أبو العباس أحمد بن مجد الدين عيسى بن موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (المتوفى سنة: 643).
(2) تاريخ الإسلام (حوادث وفيات 591 _ 600) (ص: 300).(2/1069)
روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع، وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره، وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء " (1).
وقبل ابن الجوزي وبعده كتب مفيدة في معرفة الأحاديث الموضوعة، لكن ليس فيها ما استقصى، وكأن هذا مطمع غير ممكن من أجل حظ الاجتهاد، إذ ما يدخله التردد: هل هو موضوع، أم شديد الضعف واه، أم منكر، في هذا الباب كثير.
وابن الجوزي ممن حاول الفصل بين الموضوع والواهي في كتابين منفصلين، لكن عند غيره أشياء كثيرة مما يخالفه فيها في أي القسمين تكون، أو هي خارجهما أصلاً.
كما أن من مظان معرفة الموضوعات أيضاً كتب الأحاديث المشتهرة على الألسنة، ككتاب " المقاصد الحسنة " للسخاوي، لكن تنبه إلى كون هذه لم تقصد إلى الحديث الموضوع ومما لا أصل له، وإنما عنيت بالأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس، وفيها الصحيح والحسن والضعف والموضوع.
المسألة الرابعة: مما يساعد على تمييز الموضوع في الحديث: معرفة أبواب مخصوصة، عامة ما يروى فيها من الحديث موضوع.
وذلك كالأحاديث في فضل العقل، والأحاديث في حياة الخضر، وأحاديث صلوات الأيام والليالي، كصلوات أيام الأسبوع، وما جاء في صوم رجب والصلاة المسماه بصلاة الرغائب فيه، وصلاة النصف من شعبان، والأحاديث في ذم الحبشة والسودان والترك والمماليك، وغير ذلك (2).
_________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 160) .......
(2) ولهذه المسألة مزيد بيان يستفاد مما تقدم في (النقد الخفي) من (القسم الأول) .......(2/1070)
الفصل الثالث
حكم الاعتبار
بالحديث الضعيف(2/1071)
المبحث الأول:
تفسير الاعتبار
يستعمل أهل الحديث مصطلح (الاعتبار) و (يعتبر به)، وما في معناها في معنيين:
المعنى الأول: أن الراوي أو الحديث ضعيف ضعفاً يرجى برؤه، ولا يسقط به.
وقد يعبر عنه بالقول: (صالح)، وفي الراوي تارة: (يكتب حديثه)، و (يخرج حديثه اعتباراً).
وتدل عليه جميع عبارات الجرح التي لا يطرح بها الراوي أو حديثه.
فيجمع ما كان ضمن هذا النوع من الحديث، أو الرواة، ويكتب، أو يخرج في الكتب، رجاء أن يوجد له في الروايات سواه مما يشاكله في القوة أو يرقى فوقه، من متابعات في الأسانيد أو شواهد، فيزول به أثر الضعف وينتقل به الحديث إلى درجة القبول.
فإن فقد ذلك فهي أفراد الضعفاء.
وسيأتي بيان ما يعتبر به على هذا المعنى من الروايات.(2/1073)
والمعنى الثاني: أن يميز حديث الراوي ويعرف، لا على معنى جواز تقويته أو التقوية به، فكأنه من معنى: أتخذه عبرة خشية الضرر به.
كقول أبي حاتم الرازي في (عبد العزيز بن عمران): " متروك الحديث ضعيف الحديث، منكر الحديث جداً "، قال ابنه: قلت: يكتب حديثه؟ قال: " على الاعتبار " (1).
وكقول أبي زرعة أيضاً في (محمد بن عمر الواقدي): " ضعيف "، قال ابن أبي حاتم: قلت: يكتب حديثه؟ قال: " ما يعجبني إلا على الاعتبار، ترك الناس حديثه " (2).
قلت: وتأمل قوله: " على الاعتبار "، ولم نقل: " للاعتبار "، وهذا فرق ما بين هذا الاستعمال ومصطلح (الاعتبار) بالمعنى الأول.
يؤيد هذا ما قاله أبو نعيم الأصبهاني عقب الفصل الذي ذكر فيه الضعفاء والمتروكين: " كل واحد من المذكورين في هذا الفصل بنوع من الأنواع، إذا نظرت في حديثه وتميزته، ارتفع الريب في أمره، وظهر لك حقيقة ما نسبته إليه، وأكثرهم عندي لا تجوز الرواية عنهم ولا الاحتجاج بحديثهم، وإنما يكتب حديث أمثالهم للاعتبار والمعرفة، إذ لا سبيل إلى معرفتهم في حديثهم، وإذا احتاج الراوي إلى ذكرهم عرف لهم من الوضع والكذب والوهم والخطأ والإنكار وغير ذلك، ما يذكرهم به ويضيفه إليهم؛ ليكون ما كتب من حديثه شاهداً له على جرحه لهم " (3).
والمعنى المقصود هنا لهذا المبحث هو الأول.
* * *
_________
(1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 391).
(2) الجرح والتعديل (4/ 1 / 21).
(3) الضعفاء، لأبي نعيم (ص: 170) .......(2/1074)
المبحث الثاني:
تمييز ما يصلح للاعتبار
عماد مسألة ما يصلح للاعتبار وما لا يصلح يقوم على أساسين:
الأول: صلاحية الراوي.
وذلك أن يكون الراوي محل الاعتبار لم يبلغ حديثه في الضعف درجة السقوط.
وللناقد الخبير أبي عبد الله الذهبي تصوير دقيق لمنازل الرواة يقرب فهم هذه المسألة، قال: " منهم هو العدل الحجة، كالشاب القوي المعافى.
ومنهم من هو ثقة صدوق، كالشاب الصحيح المتوسط في القوة.
ومنهم من هو صدوق، أو لا بأس به، كالكهل المعافى.
ومنهم الصدوق الذي فيه لين، كمن هو في عافية، لكن يوجعه رأسه أو به دمل.
ومنهم الضعيف الذي تحامل، ويشهد الجماعة محموماً، ولا يرمي جنبه.
ومنهم الضعيف الواهي، كالرجل المريض في الفراش، وبالتطبيب ترجى عافيته.(2/1075)
ومنهم الساقط المتروك، كصاحب المرض الحاد الخطر.
وآخر، حاله كحال من سقطت قوته، وأشرف على التلف.
وآخر، من الهالكين، كالممحتضر الذي ينازع.
وآخر، من الكذابين الدجالين " (1).
قلت: فهذا توضيح لصفة أحوال الرواة، فإذا استثنيت الصدوق ومن فوقه، وجدت سائر الأوصاف تعود في جملتها إلى قسمين:
الأول: من يمكن أن يعالج حديثه من الرواة تبعاً لحاله في المرض.
والثاني: ما لا سبيل إلى علاجه؛ لتمكن المرض، أو لبلوغه مبلغ الهلاك.
والصالح للاعتبار من هؤلاء: من أمكن علاج علته، وهذا ما كان ضعفه ناتجاً عن سوء حفظه، وكثرة خطئه، أو ورود مظنة ذلك عليه كالمجهول.
فبالنظر للأنواع المتقدمة للحديث الضعيف، نجد ما يمكن علاجه مما يعود ضعفه إلى ضعف راويه، ما يلي:
أولاً: حديث المجهول والمستور.
وينبغي أن يلاحظ فيه التسهيل في الاعتبار بمجاهيل التابعين، ومزيد الاحتياط فيمن بعدهم.
وذلك أن الكذب في التابعين كان قليلاً نادراً؛ لقرب العهد من نور النبوة، ولعدم ظهور الشره في الحديث الذي أصاب من بعدهم مما حمل كثيرين على الكذب ووضع الحديث.
_________
(1) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص: 171).(2/1076)
قيل لزيد بن أسلم (وهو من صغار التابعين): عمن يا أبا أسامة؟ قال: " ما كنا نجالس السفهاء، ولا نحمل عنهم " (1).
كذلك مما يوجب التشديد في الاعتبار بحديث المجهول في الطبقات المتأخرة، خصوصاً مجهول العين: ما عرف من طائفة من الرواة من تدليس الأسماء، فربما كان ذلك المجهول شيخاً واهياً لم يتعين أمره للتدليس.
ولا شك أن تمييز من يفعل ذلك من المدلسين طريق لتوقي حديث مثل هؤلاء المجهولين.
غير أن الشأن في الجملة: صحة الاعتبار برواية المجهول، وإن كان مجهول العين، كشأن الاعتبار بالحديث المنقطع، من جهة الجهالة بعين الساقط.
قال الدارقطني: " من لم يرو عنه إلا رجل واحد، انفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره " (2).
وإذا صح الاعتبار برواية مجهول العين، صح بالأولى الاعتبار برواية مجهول الحال والمستور، خصوصاً أن الأخيرين ربما صرنا إلى الحكم بقبول حديثهما لذاته، وذلك عند استيفاء شروط الحسن.
ثانياً: حديث سيء الحفظ، وهو راوي الحديث الذي يضعف بسبب لينه، لا من يبلغ الترك لغلبة خطئه.
وهذا من أكثر ما اعتنى أئمة الحديث بالاعتبار به، وأكثر ما جرى عليه الترمذي فيما حسنه من الحديث لغيره إنما كان من روايات هذا الصنف، والمعنى فيه ظاهر فإن الصدق في الجملة ثابت للراوي، وسوء حفظه لم يغلب الخطأ على حديثه، فحيث نجد ما يشده فإن قبول حديثه متعين؛ لزوال الشبهة.
_________
(1) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (1/ 441) وإسناده حسن .......
(2) سنن الدارقطني (3/ 174) .......(2/1077)
ويندرج في جملته: حديث الثقة المختلط الذي عرف أنه حدث به بعد اختلاطه، وحديث من عرف بقبول التلقين.
ثالثاً: من وقع الاضطراب في حديثه؛ لكون ذلك واقعاً بسبب سوء الحفظ، والاضطراب تكافؤ في الوجوه، فإذا وجد المرجح تعين المصير إليه، والمرجح قد يكون إلى جانب القبول.
رابعاً: من وقع في حديثه الاختلاف، فرد لأجله، فإن لم يتعين في ذلك الاختلاف الخطأ، ووجد المرجح إلى جهة القبول وجب المصير إليه والاعتداد بذلك الراوي، إذ ما خشيناه من مظنة خطئه قد زال.
وما لا يمكن علاجه منها، ما يلي:
أولاً: الراوي الموصوف بكونه (منكر الحديث)، أو (متروك الحديث)، أو (شديد الضعف)، أو بأي عبارة تقتضي الوهاء.
ثانياً: الراوي المتهم بالكذب، أو سرقة الحديث، وأولى منه من يثبت ذلك عليه.
فإن قلت: ربما روى الواحد من هذا الصنف أو الذي قبله ما يرويه الثقات، فهل يعتبر بما يوافق فيه الثقات أم لا؟
قلت: وجدنا من الناس من المتأخرين من يغتر بتلك الموافقات، والتحقيق: منع الاعتبار بروايات هذين الصنفين، وإن وقعت موافقة لروايات الثقات، والعلة في ذلك: ما يقع في رواياتهم من التحديث بما ليس من حديثهم المسموع لهم، سرقة، أو تشبيهاً عليهم، أو تلقيناً لهم، أو دسا في كتبهم.
فالواجب النظر إلى روايات هؤلاء بمنزلة المعدوم في هذا الباب.
ومن كلام الأئمة في توكيد هذا الأصل في التمييز بين من يعتبر به ومن لا يعتبر به، ما يلي:
قال الترمذي بعد ذكر (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى)(2/1078)
و (مجالد بن سعيد): " إذا تفرد أحد من هؤلاء بحديث ولم يتابع عليه، لم يحتج به، كما قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج به، إنما عنى إذا تفرد بالشيء " (1).
قلت: فهذا دال على أن حديث هذا الصنف صالح عند عدم التفرد.
وقال أحمد بن حنبل: " ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، ويقوي بعضه بعضاً " (2).
فإن كان من أحاديث متهم أو متروك أو منكر الحديث، ممن هو شديد الضعف، فهذا لا يعتبر بحديثه عندهم.
قال أحمد بن حنبل في الفرق بين النوعين: " الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر " (3).
وبين ذلك بأكثر من هذا في روية أخرى، قيل له: فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال: " المنكر أبداً منكر "، قيل له: فالضعفاء؟ قال: " قد يحتاج إليهم في وقت " كأنه لم ير بالكتاب عنهم بأساً (4).
قلت: وجه ترك كتبة المنكرات، عدم صحة الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار لا يكون بما ليس له أصل، والمنكرات لا أصول لها.
أما أحاديث الضعفاء التي يوجد ما يشدها فهذه تكتب؛ لأن لها أصلاً.
وكذلك صنع أحمد في " مسنده " فإن أكثره من رواية الثقات المتقنين، وفيه روايات الضعفاء الذين تعرف أحاديثهم أو معانيها من وجوه أخرى، إلا
_________
(1) كتاب (العلل) في آخر " الجامع " (6/ 239).
(2) أخرجه الخطيب في " الجامع " (رقم: 1583) وإسناده صحيح.
(3) العلل، رواية أبي بكر المروذي (النص: 287).
(4) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 167) .......(2/1079)
قليلاً جداً مما يمكن وصفه بالنكارة، ولم يجر من أحمد على سبيل القصد مع تبينه لنكارته.
قال الجوزجاني في (سعيد بن سنان أبي مهدي الحمصي): " كان أبو اليمان يثني عليه في فضله وعبادته، قال: كنا نستمطر به. فنظرت في حديثه فإذا أحاديثه معضلة، فأخبرت أبا اليمان بذلك، فقال: أما إن يحيى بن معين لم يكتب منها شيئاً، فلما رجعت إلى العراق ذكرت أبا المهدي ليحيى بن معين، وقلت: ما منعك يا أبا زكريا أن تكتبها؟ قال: من يكتب تلك الأحاديث؟ من أين وقع عليها؟ لعلك كتبت منها يا أبا إسحاق؟ قلت: كتبت منها شيئاً يسيراً لأعتبر به، قال: تلك لا يعتبر بها، هي بواطيل " (1).
قلت: وعند بعض النقاد لا يترك حديث الراوي حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، وعلى هذا فمن لم يتفق على ترك حديثه فهو عند هذه الطائفة صالح للاعتبار.
وهذه طريقة أحمد بن صالح المصري.
قال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح، وذكر مسلمة بن علي، قال: " لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، قد يقال: (فلان ضعيف)، فأما أن يقال: (فلان متروك) فلا، إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه " (2).
وكذلك جاء عن أحمد بن شعيب النسائي، أنه لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه (3).
لكن هذا يجب أن يكون مشروطاً بعدم ظهور وجه الجرح الذي يسقط
_________
(1) أحوال الرجال، للجوزجاني (النص: 301) والكامل، لابن عدي (4/ 399). واسم أبي اليمان: الحكم بن نافع.
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 191) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 181).
(3) النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 482) .......(2/1080)
به حديث الراوي، وإلا فإطلاقه لا بجري على الأصول، فإن الجماعة قد تعدل الراوي، ويطلع واحد من أهل الاختصاص على كذبه، فهذا عندهم في التحقيق كاف لإسقاط جميع روايته.
والثاني: صلاحية نفس الحديث.
فيعتبر بكل ما لم يثبت أنه: كذب، أو منكر، أو خطأ.
فيصح الاعتبار بما يلي:
أولاً: المنقطع.
ثانياً: المرسل.
ثالثاً: المعضل بسقط اثنين، وذلك فيما يرفعه صغار التابعين أو كبار أتباع التابعين (1)، فإن طال السقط، أو كان في الطبقات المتأخرة فلا ينبغي الاعتداد به؛ لقوة مظنة الوهاء بتتابع العلل، أو من أجل تساهل متأخري الرواة فيمن يحملون عنهم.
رابعاً: حديث المدلس الذي عنعن فيه، أو ثبت تدليسه فيه، ما لم يرجع تدليسه فيه إلى متروك الحديث أو متهم بالكذب.
خامساً: المرسل إرسالاً خفياً.
ولا يصح الاعتبار بما يلي:
أولاً: المعلق حتى يوقف على إسناده، إذ المعلقات ترجع في الأصل إلى الأسانيد، فإن لم يوقف له على إسناد نزل منزلة ما لا أصل له.
ثانياً: المقلوب.
_________
(1) قال الخطيب: " حكم المعضل مثل حكم المرسل في الاعتبار به فقط " (الجامع لأخلاق الراوي 2/ 191).(2/1081)
ثالثاً: المصحف.
رابعاً: المدرج.
خامساً: الشاذ.
سادساً: المعلل المتعين خطؤه.
وهذه لا يعتبر بها من أجل كون الراجح فيها الخطأ، والحديث إذا تبين أنه خطأ فإنه لا يصلح الاعتداد به، إذ الخطأ لن يكون صواباً.
سابعاً: المنكر.
ووجه سقوط الاعتبار به أنه لا يخلو من أن تكون نكارته بسبب المخالفة من الراوي الضعيف، وهذه مرجوحة خطأ، ولا يعتبر بالخطأ.
أو أن تكون نكارته بسبب التفرد، فيخرج عن هذه المسألة؛ لأن الاعتبار إنما يكون بما يوجد له الموافق.
وربما جاءت النكارة بسبب التدليس عن متروك أو متهم.
ثامناً: الموضوع (1).
وعدم الاعتبار بما ثبت أنه كذب أو منكر، ظاهر، وإن تعددت له
_________
(1) قال ابن الصلاح في توكيد طرفٍ مما بينته هنا: " ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك، بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا مارواه قد جاء من وجهٍ آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختلَّ فيه ضبطه له.
وكذلك إذا كان ضعْفه من حيث الإرسال، زال بنَحو ذلك، كما في المرسل الذي يُرسله إمامٌ حافظٌ، إذْ فيه ضعْفٌ قليلٌ يزول بروايته من وجهٍ آخر.
ومن ذلك ضعْفٌ لا يزول بنحو ذلك؛ لقوَّة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبْره ومُقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي مُتهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذًّا ". (علوم الحديث، ص: 34) .......(2/1082)
الطرق وكثرت، فلا تعني كثرتها في التحقيق شيئاً؛ لجواز التواطؤ من قبل الكذابين والمتهمين على تنويع الأسانيد للحديث الواحد، فربما نتج تعدد الطرق عن رواية رجل من الضعفاء، عرف بذلك الحديث، فسرقه المتهمون وتداولوه بينهم، يسرقه بعضهم من بعض.
وجائز أن يكون الضعيف الذي ترجع إليه جميع الطرق ممن يعتبر به، ولكن ليس في تلك الطرق ما يشده؛ لوهائها.
وهذا لا يتقى إلا بتمييز ما كان يصلح للاعتبار بحسب رواته من جهة حفظهم وأنهم لم يبلغوا الترك، والسلامة من العلة القادحة في الإسناد أو المتن.
وأمثلة ما لا تعتد به من تعدد الطرق كثيرة.
مثل حديث: " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر ديناه، بعثه الله يوم القيامة فقيهاً "، فهذا روي من حديث ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة، بأسانيد كثيرة كلها واهية ساقطة (1).
وحديث " زر غبا تزدد حبا "، روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر وحبيب بن سلمة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وعائشة أم المؤمنين، وكلها واهية الأسانيد، وما كان فيه بعض النفس فإنه يفتقر إلى ما يشده.
وقال الزيلعي في شأن أحاديث الجهر بالبسملة في الصلاة: " وأحاديث الجهر وإن كثرت رواتها، لكنها كلها ضعيفه، وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف، كحديث الطير (2)، وحديث الحاجم
_________
(1) شَرحت علله في جزء " التبيين لطُرق حديث الأربعين ".
(2) هوَ ما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطيْرٍ، فقال: " اللهم ائْتني بأحبِّ خلْقك إليْك يأكل معي من هذا الطير "، فجاء عليٌّ، فأكل معه. الحديث. انظر طُرقه في " العلل المتناهية " لابن الجوزي (1/ 225 _ 234).(2/1083)
والمحجوم، وحديث " من كنت مولاه فعلي مولاه "، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً (1).
تنبيه:
الاعتبار بالطرق المرجوحة التي دل النظر على أنها خطأ، لا يصح كما تقدم، وهو مما يغفل عنه كثير من المشتغلين بهذا العلم، يغر أحدهم ظاهر ورود طريق أخرى للحديث، فيقوي بها، دون ملاحظة شذوذها في الإسناد مثلاً، أو رجوعها إلى نفس طريق الحديث الأولى التي أراد تقويتها.
وإليك مثالين توضيحاً لذلك:
المثال الأول: روى منصور بن المعتمر، عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصل أو مسافر ".
هذا الحديث رواه عن منصور الثقات من أصحابه: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وجرير بن عبد الحميد، وأبو عوانة الوضاح اليشكري، وعمرو بن أبي قيس، جميعاً هكذا، لكن منهم من يذكر واسطة مبهمة بين خيثمة وابن مسعود، ومنهم من لا يذكر وعلى كلا الحالين فإنه منقطع، خيثمة لم يدرك ابن مسعود، والواسطة مبهمة.
خالف الجماعة عن منصور: إبراهيم بن يوسف الصيرفي، فرواه عن سفيان بن عيينة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زياد بن حدير، عن ابن مسعود.
فحسب بعض الناس هذه طريقاً أخرى للحديث، وما فطنوا إلى أن
_________
(1) نصب الراية (1/ 359 _ 360) .......(2/1084)
الصيرفي هذا وهم في إسناده على ابن عيينة، من أجل المحفوظ عن منصور، فمن يعتمد قوله في النقلة كالنسائي قال في (الصيرفي): " ليس بالقوي " وهو من شيوخه، والرجل حسن الحديث ما أتى بما هو موافق لرواية الثقات، أما أن يأتي بمثل هذا الإسناد فهذا مقام إعمال قول الناقد (ليس بالقوي).
فإذا تبين أن رواية الصيرفي وهم، والحديث كما رواه جماعة الثقات عن منصور، فيسقط الاعتداد بطريق الصيرفي لتقويته؛ لأنه رواية خطأ (1).
والمثال الثاني: ما رواه الضحاك بن نبراس، عن ثابت البناني، عن أنس من مالك، عن زيد بن ثابت، قال:
أقيمت الصلاة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا معه، فقارب في الخطا، ثم قال لي: " أتدري لم فعلت هذا؟ لتكثر عدد خطانا في طلب الصلاة " (2).
_________
(1) خرَّجت الحديث وبيَّنتُ علَّته في تعليقي على كتاب " تَسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن أبي نعيم الفضْل بن دُكين " لأبي نعيم الأصبهاني (رقم: 55).
كذلك انْظر ما بيَّنته لتطبيق ما يُشبه هذه الصورة في مثالٍ آخر، وهو بياني لعلَّة حديث " من حسْن إسلام المرءِ ترْكه ما لا يعنيه "، في تعليقي على كتاب " الرسالة المغنية في السكوت ولُزوم البيوت " لابن البنَّاء الحنبلي (رقم: 35).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في " مُسنده " (كما في " المطالب العالية " 2/ 390 رقم: 566، و " إتحاف الخيرة " رقم: 1419) وعبْد بن حميد (رقم: 256) وأبو يعلى (كما في " المطالب " رقم: 567) والطبراني في " الكبير " (5/ 126 رقم: 4798) وابنُ عدي في " الكامل " (5/ 153) من طريق عبيْد الله بنُ موسى. والبخاري في " الأدب المفرد " (رقم: 458) حدثنا موسى (وهوَ ابن إسماعيل). والطبراني أيضاً (رقم: 4799) من طريق حرَمي بن عمارة، والعُقيلي في " الضعفاء " (2/ 219) من طريق مُسلم بن إبراهيم، أربعتهم قالوا: حدثنا الضَّحَّاك، به، ولفظ حرمَي مَعناه.
وأخرجه الطبراني (رقم: 4797) من طريق مُسلمِ بن إبراهيم، أيضاً لكن من مُسند أنسٍ، لم يذْكر زيْداً.(2/1085)
فهذا تابع الضحاك عليه: محمد بن ثابت البناني، عن أبيه، به مرفوعاً (1).
والضحاك لين الحديث، ومحمد بن ثابت ليس بالقوي، وكلاهما يعتبر به، ولو سلم حديثهما هذا من المخالفة لكان حديثاً حسناً، غير أن حماد بن سلمة والسري بن يحيى وجعفر بن سليمان الضبعي رووه عن ثابت البناني عن أنس عن زيد موقوفاً من فعل زيد وقوله (2).
وقال العقيلي: " حديث حماد أولى "
قلت: كيف لا، وأثبت الناس في ثابت حماد بن سلمة؟ ومتابعة السري ثقة، وجعفر صدوق، ولا يقاوم الضحاك ومحمد بن ثابت مجتمعين جعفراً وحده فكيف بمن فوقه، كحماد؟ بل كيف بهم مجتمعين؟
لذا قال أبو حاتم الرازي: " روى هذا الحديث جماعة عن ثابت البناني، فلم يوصله أحد إلا الضحاك بن نبراس، والضحاك لين الحديث، وهو ذا يتابعه محمد بن ثابت، ومحمد أيضاً ليس بقوي، والصحيح موقوف " (3).
فهذا مما يبين لك أن ما يعتبر به من طرق الحديث: ما سلم من المعارض الراجح، إذ قيام المعارض الراجح خطأ، فيتعذر حينئذ دفع الضر عنه.
_________
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي في " مُسنده " (كما في " إتحاف الخِيرة " رقم: 1418) ومن طريقه: الطبراني في " الكبير " (5/ 127 رقم: 4800) والبيهقي في " الشعب " (3/ 60 رقم: 2868) قال: حدثنا مُحمد بن ثابت، به.
ووقعَ في رواية البيهقي فيما يَبدوا اختِصارٌ أوْهم أنَّ الرواية من هذا الوَجهِ موقوفةٌ.
(2) أخرجه العُقيلي (2/ 219) والبيهقي في " الشعب " (3/ 60 رقم: 2869) من طريق حماد، والطبراني في " الكبير " (5/ 126 رقم: 4796) من طريق السري. وعبد الرزاق في " المصنف " (1/ 517 رقم: 1983) ولم يذكر البيهقي في روايته زيْداً .......
(3) علل الحديث (رقم: 548) .......(2/1086)
المبحث الثالث:
تقوية الحديث بتعدد الطرق
تقدم في (الحديث الحسن) ذكر (الحسن لغيره)، وأنه الحديث الضعيف الذي لم يبلغ ضعفه السقوط لاتهام راويه بالكذب أو غلبة الخطأ، ينجبر بممجيئه من وجه آخر يعتبر به.
وبينت في المبحث السابق ما يعتبر به وما لا يعتبر به من الحديث، والذي هو مقدمة ضرورية لفهم هذا المبحث.
ومحل الحديث منه هنا مقصور على المنهاج الذي يصح به تقوية حديث ضعيف يعتبر به في الأصل لخفة ضعفه، بغيره، إذ أسقطنا فيما تقدم ما لا يعتبر به.
وبيان هذا الأصل أن نقول:
اعلم أن تقوية الحديث الضعيف الصالح بغيره يشترط لها في الجابر أربعة شروط:
الشرط الأول: أن يكون حديثاً له نفس درجة المجبور به من جهة من يضاف إليه.
أي: إن كان الضعيف المراد تقويته حديثاً مرفوعاً، وجب في جابره(2/1087)
أن يكون مرفوعاً، صراحة أو حكماً؛ لأن المراد تقوية أحد الطريقين بالآخر لتصحيح نسبتهما إلى نفس القائل أوالفاعل.
ويخرج منه: تقوية الحديث بما ليس بحديث، أو بما نسبته إلى من هو دون درجة من ينسب له ذلك الحديث.
ولذلك طرق لا يصلح اتباع شيء منها لتقوية نسبة الحديث الضعيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أولها: تقويته بموافقة ظاهر القرآن، زعمه بعضهم.
وهذا يكون صحيحاً أن يقال: المعنى الذي جاء به الحديث الضعيف موجود في كتاب الله، لكن يبقي للحديث وصف الضعف في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً.
وليس اشتمال الحديث على الحق، مما يجيز بمجرده نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا أسقطنا الاعتداد بقوانين هذا العلم، ولقال من شاء ما شاء.
ومن مثال هذا: تقوية ما رواه دراج أبو السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] " (1).
فهذا معناه في كتاب الله صحيح، لكن الحديث لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو إسناد ضعيف، دراج ضعيف الحديث عن أبي الهيثم، وقد جاء بالأمر بالشهادة بالإيمان لمرتاد المسجد، وهو مما لا شاهد له من القرآن.
_________
(1) أخرجه الترمذي (رقم: 2617، 3092) وغيره.(2/1088)
ثانيها: تقويته بالموقوفات على الصحابة.
الحديث الموقوف لا يقوي المرفوع إلا إذا كان مما لا مجال للرأي فيه، ولم يكن من أحاديث بني إسرائيل.
فإن قلت: وجدنا في كلام الشافعي ما نعتبر فيه تقوية المرسل بالمنقول عن الصحابة (1).
قلت: ليس لهذا مثال يقول فيه الشافعي بتصحيح نسبة حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم علته الإرسال، بقول صحابي أو فعله، وإنما وجد في كلامه تعضيد الحكم المستفاد من المرسل، بجريان عمل بعض الصحابة به، كما وقع منه في بعض مراسيل سعيد بن المسيب.
وثبوت الحكم بهذا الطريق غير ثبوت نسبة الحديث.
وجاء عن أحمد بن حنبل في هذا ما قد يتعلق به، وذلك ما حكاه أبو زرعة الدمشقي، قال: سألت يحيى بن معين عن حديث أبي سلمة عن جابر في الشفعة، قلت له، ما تقول فيه؟ قال: " منكر "، ورأيته ينكر رفعه عن جابر، ويعجبه وقوفه عن سعيد وأبي سلمة. قال أبو زرعة: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول فيه؟ قال: " هو ثبت "، ورفع منه، واعتد برواية معمر له، واحتج له برواية مالك وإن كانت موقوفة. قلت لأحمد: ومن أي شيء ثبت؟ قال: " رواه صالح بن أبي الأخضر " يعني مثل رواية معمر، قلت: صالح يحتج به؟ قال: " يستدل به، يعتبر به " (2).
قلت: فظاهر هذا أن أحمد قوى المرفوع بالموقوف، وليس كذلك وإنما أطلق لفظ (الموقوف) هنا على المرسل، وذلك أن الحديث رواه معمر بن راشد وصالح بن أبي الأخضر وغيرهما، عن ابن شهاب الزهري
_________
(1) وسيأتي ذِكر نصِّه فيه .......
(2) تاريخ أبي زُرعة (1/ 463 _ 464).(2/1089)
عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مال لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
ورواه مالك في " الموطأ " (1) فقال: عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة، الحديث معناه.
وهذا مرسل، وليس بموقوف.
ورجح أحمد والبخاري (2) وغيرهما وصله، وهو الصواب، إذ معمر من حفاظ أصحاب الزهري، وزاده رجحاناً في حفظ الوصل متابعة من تابعه ممن يعتبر به (3).
ثالثها: تقوية الحديث بجريان العمل أو الفتوى به.
يستأنس بالضعيف الذي لا معارض له، إذا جرى عليه عمل أهل العلم، من الصحابة فمن بعدهم في عصر النقل والرواية.
أما عد ذلك العمل منهم دليلاً على ثبوت الحديث، فلا، إذ العمل قد يجري بالشيء بناء على أصل آخر، من دلالة كتاب أو سنة صحيحة غير هذا الحديث.
_________
(1) هوَ في رواية يحيى الليثي (رقم: 2079).
(2) فقد أخرجه في " صحيحه " (رقم: 2099، 2100، 2101، 2138، 2363، 2364، 6575) من طُرقٍ عن معمرٍ، به.
(3) بل اختلف الرُّواة على مالك فيه، فأرسله عنه أكثر رُواة " الموطَّأ "، ورواه بَعض أصْحابه عنه موصولاً.
قال ابن حبان في " صحيحه " (11/ 591 _ 592) بعْد أن أخرجه من طريق عبْد الملك بن عبد العزيز الماجشون، عن مالك موصولاً: " رفع هذا الخبر عن مالك أربع أربعة أنفس: الماجشون، وأبو عاصم، ويحيى بن أبي قُتيْلة، وأشْهَب بن عبد العزيز، وأرْسله عن مالكٍ سائر أصْحابه، وهذا كانت عادةً لمالك، يرْفع في الأحايين الأخبار، ويوقفها مِراراً، ويُرسلها مرَّة، ويُسندها أخرى، على حسَب نشاطه، فالحكم أبداً لمن رفَع عنه وأسْند، بعدَ أن يكون ثقةً حافظاً مُتقناً " .......(2/1090)
على أنه لا يوجد لهذا مثال صالح، أن حديثاً ضعيفاً تقوى بالعمل، وإنما يوجد العمل بما هو ضعيف، وله أمثلة كثيرة.
كالذي روي عن سعيد بن عبد الله الأودي، قال:
شهدت أبا أمامة وهو في النزع، فقال: إذا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصنع بموتانا، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إذا مات أحد من إخوانكم، فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانه، فإنه يسمعه ولا يجيب، ثم يقول: يا فلان بن فلانه، فإن يستوي قاعداً، ثم يقول: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يأخذ واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا، ما نقعد عند من قد لقن حجته، فيكون الله حجيجه دونهما "، فقال رجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف أمه؟ قال: " فينسبه إلى حواء: يا فلان بن حواء " (1).
ذكره ابن القيم، وقال: " فهذا الحديث وإن لم يثبت، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار، كاف في العمل به " (2).
قلت: فجعل العمل به مع ضعفه عنده سائغاً، من أجل ما جرت به العادة، وكان ذكر عن الإمام أحمد بن حنبل أنه استحسن تلقين الميت في قبره واحتج عليه بالعمل، ولم يذكر عن أحمد غير ذلك.
_________
(1) أخرجه الطبراني في " الكبير " (8/ 298 _ 299 رقم: 7979) وابنُ عساكر في " تاريخه " (24/ 73) من طريقين عن إسماعيل بن عياش، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سعيد، به، في رواية ابن عساكر: سعيد الأزدي.
قلت: وإسناده واهٍ، والتبعة فيه على القرشي هذا، فهو مجهولٌ منكر الحديث.
(2) الروح، لابن القيم الجوزية (ص: 17).(2/1091)
وابن القيم قد طعن على هذا الحديث ورده في غير هذا الموضع من كتبه (1)، وليس هو من قسم الحديث الصالح للاعتبار أصلاً، بل هو منكر باطل.
ومحاكمة هذا الاستعمال للحديث الضعيف، تتصل بأصل (منع الاحتجاج بالحديث الضعيف) وسيأتي بيانه.
رابعها: تقوية الحديث باستدلال المجتهد به.
وهذا أضعف مما تقدم، فإن الواقع أن الاستدلال بالحديث الضعيف، بل بما هو شديد الضعف أحياناً كثيرة، هو مما وقع لكثير من المجتهدين، خصوصاً من برز في الفقه منهم دون الحديث.
ومنهم، وفيهم العارفون بالحديث، من يستدل بالحديث الضعيف في الباب لا يوجد فيه ما هو ثابت، كما لا يوجد لدلالة ذلك الضعيف معارض، كاستدلالهم بالمرسل وحديث المستور والمجهول وسيء الحفظ، وإن تحققت هذا منهم وجدتهم يصيرون إليه لاحتمال الثبوت لا لترجيحه، تقديماً له على محض النظر، كالذي بينت وجهه عنهم في (المرسل).
على أنك يجب أن تذكر أن لقب (الضعيف) كان في كلام بعض السلف، كأحمد بن حنبل، ربما أطلق على (الحديث الحسن)، كما بينته في محله.
خامستها: تقوية الحديث عن طريق الكشف.
وهذا يذكر عن بعض متأخري الصوفية، كما زعمه الشعراني في
_________
(1) قال في " زاد المعاد " (1/ 503 _ 504) " ولم يكُن يجلس (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) على القبر، ولا يُلقِّنُ الميت كما يفعله الناس اليوم، وأمَّا الحديث الذي .. " وساقه، ثم قال: " فهذا حديث لا يصحُّ رفعه "، وقال في " تهذيب السنن " (7/ 250): " مُتفق على ضعفه، فلا تقوم به حُجةٌ "، فتقوية بعض العلماء له لا تَجري على الأصول .......(2/1092)
حديث " أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، حيث حكم بصحته عند أهل الكشف، مع إقراره بعدم ثبوته عند المحدثين (1).
وليس هذا بطريق من طرق العلم، فالكشف هذا إن كان من صالح صاحب سنة فغايته أن يكون فتحاً في الفهم وتوفيقاً وتسديداً فيه، والفهم رأي، والرأي يخطئ ويصيب، ومن دليل خطئه مخالفة الدليل، فإذا قام الدليل على علة الحديث، فكيف يرد بظن مجرد؟
ولو ساغ اتباع هذا الطريق في أي أمر من العلم لفسدت الأصول، بل لاستغني به عن النقول.
ومن بابه تصحيح النبي صلى الله عليه وسلم للحديث في النوم، وهذا وإن كان مثاله نادراً، لكنه وقع لبعضهم، وقد يكون المنام حقا، والرائي صالحاً صادقاً، لكن المنامات لا تجري على الظواهر، إنما تقبل التأويل لو كانت حقا، كما أنها لا تكون طرقاً للمعارف، وإن كانت ربما دلت على الشيء منها لشخص الرائي.
سادسها: تقوية الحديث بمطابقته للواقع.
وهذا طريق لم يسلكه المتقدمون، وقل من سلكه من المتأخرين، كمن نظر إلى أحاديث الفتن وتغير الزمان، وما يطرأ من الحوادث، فوجد لها ذكراً في بعض الأحاديث التي لا يثبت نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وقوع الشيء مما ورد ذكره في الحديث الضعيف دليلاً على صحة ذلك الحديث، وصدوره من (مشكاة النبوة) كما يعبر به بعضهم.
كما قال التويجري في صدر كتاهبه الذي جمعه في الفتن: " بعض الأمور التي ورد الإخبار بوقوعها لم ترو إلا من طرق ضعيفة، وقد ظهر مصداق كثير منها، ولا سيما في زماننا، وذلك مما يدل على صحتها في
_________
(1) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، للألباني (1/ 145) .......(2/1093)
نفس الأمر، وكفى بالواقع شاهداً بثبوتها وخروجها من مشكاة النبوة " (1).
قلت: أصَّل بهذا، وجرى على ذكر الضعيف والمنكر والواهي الساقط من روايات المتروكين والمتهمين، ويقويه بهذا الطريق.
وهذا منهج يضرب عن قوانين الحديث صفحاً، ويسقط الاعتداد بالقواعد، ومما ينقض صحة اختياره طريقاً لتقوية الحديث أن المتأمل للمنقول من أخبار الفتن وتغير الزمان، يجد الكثير من تلك الأخبار جاء من روايات كعب الأحبار، ووهب بن منبه وغيرهما ممن عرف بالتحديث بالإسرائيليات، ومثل هذا كان زاداً للضعفاء والمتروكين والكذابين، فركبت الأسانيد لكثير منه وأسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم عن أحمد بن حنبل الإشارة إلى الموضوع في هذا الباب، حين ذكر الملاحم مما ليس له أصول.
وما ينقل عن أهل الكتاب قد يكون فيه الحق، كما يكون فيه الباطل، فكيف يسوغ بعد ذلك غيور على سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من الخبر يروى على هذا النحو، يصحح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتحقق مضمونه في الواقع المشاهد، دون اعتبار شروط ثبوت الحديث؟ على أن واقع صنيع من ذهب إلى هذا المذهب تكلف تفسير كثير من تلك الروايات لربطها بالواقع المشاهد.
الشرط الثاني: أن يكون في أدنى درجاته مما يصلح الاعتبار به.
فيتقوى الضعف بما يماثله في الضعف، أو يقرب منه وإن كان دونه ما لم يكن من الأنواع السابقة التي لا يعتبر بها، كما يتقوى بما هو في فوقه في القوة، بل ذلك أولى.
وتقدم بيان ما يعتبر به من أنواع الضعيف.
_________
(1) إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة، للشيخ حمود بن عبد الله التويجري (1/ 12) .......(2/1094)
الشرط الثالث: إن كان ضعيفاً صالحاً، وجب أن يغاير الطريق الآخر المجبور به في محل الضعف؛ خشية مردهما إلى علة واحدة، فإن ضعف هذا الاحتمال تقويا.
وبيانه: لو كان الضعف في الطريق المراد جبره من جهة الانقطاع، وجب في جابره لو كان كذلك منقطعاً أن لا يكون انقطاعه في نفس موضع انقطاع الآخر، لمظنة أن يرجعا إلى علة واحدة.
فإن قلت: فماذا لو كان الإسناد فيما فوق محل الانقطاع فيهما مختلفاً؟
قلت: لا يدفع ذلك تلك المظنة، من أجل أن الضعفاء لسوء الحفظ قد يأتي أحدهم بالأسانيد للحديث الواحد على ألوان، فإذا كان الساقط من هؤلاء احتملنا أن يكون غير في أحد الإسنادين لسوء حفظه.
فإذا كانت العلة في كل من الطريقين عائدة إلى راو ضعيف مسمى، وجب أن يكون ذلك الضعيف في كل من الإسنادين غير الضعيف في الآخر منهما، ليعضد أحدهما الآخر، فإن كان الضعيف ذاته هو الذي روى الحديث بالإسنادين، لم يجز تقوية أحدهما بالآخر، بل كان هذا الاختلاف في الأسانيد دليلاً مؤكداً لسوء حفظه ذلك الراوي، كما كان يقع مثله لليث بن أبي سليم، وهو ممن يعتبر بحديثه في الجملة.
فإن قلت: فالمرسل، هل يقوي المرسل؟
قلت: هذا الشرط يرد القول بصحة تقوية المرسل بالمرسل، للاتفاق بين المرسلين في محل الضعف، ما لم تقم قرينة تدل على افتراق المرسلين في مصادر التلقي لذلك الحديث، وهذا دل عليه كلام الشافعي، كما سيأتي.
ووجدت له من المثال: ما اتفق على روايته فقيس بن أبي حازم، وعامر الشعبي، وإبراهيم النخعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع النساء وعلى يده ثوب .......(2/1095)
فهذا مما رواه كل منهم بسياق غبر سياق الآخر، لكن اتفقوا فيه على المعنى، فكانت قرينة على المفارقة، كذلك معلوم أن الثلاثة من التابعين تفاوتوا تفواتاً بيناً في تباعد الطبقات، فقيس من كبار التابعين كاد أن يكون صحابياً، أدرك وروى عمن لم يدركه عامر وإبراهيم، إذ عامر من أوساط التابعين، وإبراهيم له شرف التابعية وأكثر روايته عن أصحاب ابن مسعود وعلي، وهذا التفاوت بين الثلاثة مفارقة أخرى (1).
مناقشة قول الشافعي فيما يتقوى به المرسل:
قال الشافعي: " من شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور:
منها: أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث، فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده، قبل ما ينفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر:
هل يوافقه مرسل غيره ممن قُبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟
فإن وجد ذلك كانت دلالة يقوى له مرسله، وهي أضعف من الأولى.
وإن لم يوجد ذلك، نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله.
_________
(1) خرَّجت الحديث في كتابي " أحكام العورات "، وذكرْتُ فيه أنَّ إسحاق بن راهويه ممن احتجَّ به.(2/1096)
وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه " (1).
قلت: وهذا عند الشافعي في تقوية مرسل التابعي الذي له قدم في التابعية، من أجل استثنائه مراسيل الصغار منهم، فإنه قال بعد:
" فأما من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم منهم واحداً يقبل مرسله؛ لأمور:
أحدها: أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه.
والآخر: أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.
والآخر: كثرة الإحالة.
كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه " (2).
وذكر من حجته: الزهري وما له من المنزلة في الإتقان والحمل عن الثقات، ومع ذلك فربما أحال على غير مليء ودلسه، مثل سليمان بن أرقم.
وبين الشافعي عذره بقوله: " رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فقبل عنه وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه، إما لأنه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه عنه، فأسنده له، فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروى عن سليمان مع ما وصفت به ابن شهاب، لم يؤمن مثل هذا على غيره " (3).
_________
(1) الرسالة (ص: 461 _ 463) .......
(2) الرسالة (ص: 465 الفقرة: 1277).
(3) الرسالة (ص: 470 الفقرتان: 1304، 1305) .......(2/1097)
قلت: هذا نص الشافعي في تقوية المرسل، قد صار فيه إلى التفريق بن مراسيل الكبار والصغار، فمنعه في مراسيل صغار التابعين، وقواه في مراسيل الكبار بقرائن، حاصلها:
1 _ تقوية المرسل بالمتصل المحفوظ من طريق أخرى، وهذا ظاهر.
2 _ تقوية المرسل بمرسل مثله بشرط أن لا يكون شيوخ أحدهما شيوخ الآخر.
3 _ تقوية المرسل بالمنقول عن آحاد الصحابة قوله.
4 _ تقوية المرسل بجريان الفتوى عند أهل العلم على وفقه.
وظاهر كلامه أن تكون تقويته بالقرائن الثلاثة الأخرى مشروطة كذلك بأن لا يعرف عن ذلك التابعي عادة أنه يروي عمن يرغب عن الرواية عنه من المجهولين والضعفاء، والذي من أجله منع القول بتقوية مراسيل صغار التابعين.
وقبل نقد التقوية بالطرق الثلاثة الأخريرة، يجب أن تلاحظ أن الشافعي لم يقل في شيء من عبارته: هذه القرائن تصحح نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما بين أنها تثبت لما دل عليه المرسل أصلاً فلا يقال فيه: منكر، أو العمل به مردود، مع الميل بما دل عليه إلى جانب القبول، من أجل القرينة.
وهذا المعنى في الواقع حاصل في شأن أكثر أحاديث الضعفاء، فإنك تجدها تفيد أحكاماً هي معلومة من غير ذلك الوجه، لكن لا تجد من القرائن ما يجعلك تصحح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه قال أو فعل، إنما تتبع ما هو معلوم الثبوت بغير هذا الطريق الضعيف، وقد تذكر الضعيف استئناساً.
فإذا تبين هذا، فاعلم أن ما جعله الشافعي قرائن مقويات للمرسل لا يخلو منه شيء من الاحتمالات المضعفة:
فما ذهب إليه في تقوية المرسل بالمرسل، واشتراط التغاير في(2/1098)
الشيوخ مما يعسر تحققه في الواقع إلا على سبيل الظن الغالب؛ لأن احتمال أن يكون مرجع المرسلين إلى أصل واحد باق وإن تغايرا في الشيوخ، فلا ينفك مثلاً سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير من الرواية عن شيخ من الصحابة، لكن حيث إن محل اتفاقهما يغلب أن يكون فيمن يسقط ذكره من الصحابة، فإن مظنة التلقي لذلك الحديث عن واسطة مجروحة تصبح في غاية الضعف.
فيتجه ما ذكره الشافعي في هذا، لغلبة مظنة التغاير في الواسطة، أو لغلبة أن تكون هي الصحابي، ولا يضر عود الحديث إليه من طريقيه وإن كان واحداً؛ إذ ليس الصحابي محلاً للضعف.
وأما التقوية بما جاء عن الصحابة موافقاً له، فإن الصحابي قد يقول الشيء بمجرد رأيه، ويكون المرسل بلغه ذلك القول عن الصحابي فظنه حديثاً فأرسله، وهذا قد يدفع أثره قليلاً كون المرسل من الثقات الحفاظ كسعيد بن المسيب، فيكون الشافعي قد اعتبر وفاق رأي الصحابي علامة على أن لرأيه أصلاً من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .......
وهذا أمر يجب تحريره في نماذج حقيقية جاءت على هذه الصفة، فإن من قال من أهل الفقه والأصول بصحة الاحتجاج بمذهب الصحابي، كان هذا مما اعتمدوا عليه، أن الصحابي لا يمكن أن يقول بالشيء دون أصل، لكن هذا الظن الحسن لا يصلح أن يكون مستنداً في تصحيح نسبه قول إلى النبي صلى الله عليه وسلم نقصت فيه بعض صفات القبول، ولم يأت له من درجته ما يشده، إنما يقع به تعضيد الحكم المستفاد من ذلك الحديث، وقد لا يبلغ بتلك القوة الثبوت.
والتقوية بموافقة قول الفقهاء أضعف من التقوية بالموقوف (1).
_________
(1) وانظر معنى هذا النقد في كلام ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (1/ 305).(2/1099)
ولا نزاع في الجملة أن المرسل إذا جاء له ما يعضده يتقوى، كما قال الزيلعي: " المرسل إذا وجد له ما يوافقه فهو حجة باتفاق " (1)، وإنما الخلاف فيما يتقوى به المرسل.
الشرط الرابع: أن يوجد فيه معنى المجبور به إن لم يطابقه في لفظه.
وبيانه: أن اتفاق الشاهد والمشهود له يجب أن يقع إما لفظاً وإما معنى، فأما اللفظ فظاهر، وأما المعنى فالواجب أن ما يدعى تقويته من هذا الحديث بالآخر يجب أن يكون موجوداً فيهما جميعاً، فإن وجد قدر من الحديث في معنى الآخر، فذلك القدر هو الذي ينجبر لا سائر الحديث، فلا يقال: صار جميعه بذلك حسناً لغيره.
والمعتبر في المعنى في الشواهد هو نفس المعتبر في المعنى في رواية الحديث إذا روي بالمعنى، وهذا يستلزم أن يكون الباحث في درجة الحديث عارفاً بدلالات الألفاظ وما تفيده من المعاني.
ويجب أن تراعي المعاني دون تكلف، فلو جاءك حديثان كلاهما في النهي عن أمر متحد، لكن أحدهما قول للنبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا كذا)، والآخر بلفظ الصحابي: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا)، صح أن يتقوى أحدهما بالآخر مع وجود الفارق بين القول النبوي الصريح وبين حكاية الصحابي بلفظه مقتضى القول النبوي، لكن مراعاة هذا الفارق هنا تكلف، وإنما قد يحتاج إلى مراعاة مثله في مقام تعارض الأدلة لا توافقها، وهنا قد توافق الدليلان، بل لك أن تقول: أفاد مجيء اللفظ النبوي في أحد الحديثين تفسيراً للصفة التي استفاد منها الصحابي النهي.
* * *
_________
(1) نصب الراية (1/ 353) .......(2/1100)
الفصل الرابع
استعمال
الحديث الضعيف(2/1101)
المبحث الأول:
حكم الاحتجاج بالحديث الضعيف
فيما تقدم علمت أن الحديث الضعيف هو الحديث المردود، وذلك إما من جهة رجحان عدم الثبوت، أو القطع بعدم الثبوت، وبين الدرجتين درجات متفاوتة في الضعف، وبناء على تفاوت تلك الدرجات علمت أن منه الضعيف الذي يصلح الاعتبار به، والضعيف الذي لا يصلح الاعتبار به، كما علمت أن المعتبر به منه، هو ما فيه القدرة على النهوض لو وجد مساعداً، وما دون ذلك فهو ساقط.
وعليه فهذا التأصيل يوجب أن لا يتردد في منع الاحتجاج بالقسمين جميعاً، فأما غير الصالح للاعتبار، فظاهر، حيث لا يرجى برؤه، وأما الصالح للاعتبار فلتوقف قبوله على الجابر، فما لم يوجد فهو على الأصل في رجحان الرد .......
قال أحمد بن الحسن الترمذي: كنا عند أحمد بن حنبل، فذكروا على من تجب الجمعة، فلم يذكر أحمد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال أحمد بن الحسن: فقلت لأحمد بن حنبل: فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أحمد: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم. قال أحمد بن الحسن: حدثنا حجاج بن نصير، قال: حدثنا معارك بن عباد، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ".(2/1103)
قال: فغضب علي أحمد، وقال لي: " استغفر ربك، استغفر ربك ".
قال الترمذي صاحب " الجامع " بعد تخريجه: " وإنما فعل هذا أحمد بن حنبل؛ لأنه لم يصدق هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف إسناده؛ لأنه لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحجاج بن نصير يضعف في الحديث، وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جداً في الحديث " (1).
من أجل ذلك اتفق أهل العلم بالحديث على منع الاحتجاج بالحديث الضعيف، وبناء الأحكام عليه بمجرده.
قال ابن تيمية: " لم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع " (2).
قلت: نعم، قد تجد في كلامهم في الأحكام ذكر الضعيف، بل في كلام الفقهاء ما هو واه شديد الضعف، أو ساقط موضوع، وهذا في التحقيق يعود إلى أحد سببين:
الأول: أن يكون الحكم ثابتاً بدليل غير ذلك الضعيف، فيأتي ذكره على سبيل الاستئناس، وهذا قد يتساهل فيه فيما يكون ضعفه غير مسقط.
والثاني: أن يكون المستدل به ممن لا شأن له في تمييز المقبول من المردود، على ما عليه الحال الذي صار إليه أكثر الفقهاء، خصوصاً المتأخرين، فكم تراهم يتداولون الحديث يأخذه اللاحق عن السابق وهو لا أصل له، بل لا يوجد مسنداً في شيء من الكتب البتة، لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا موضوع، وكم من حديث لا يروى إلا موقوفاً أو مقطوعاً عدوه مرفوعاً، وهذا ترى أمثلته واضحة في الكتب التي اعتنت بتخريج أحاديث كتب الفقه، كتخاريج النووي والزيلعي وابن الملقن وابن
_________
(1) أخرجه الترمذي في " الجامع " (رقم: 502) وفي (العلل) منه (6/ 233 _ 234).
(2) قاعدة جليلة في التوسَّل والوسيلة (ص: 162) .......(2/1104)
حجر والألباني، وغيرهم، كذلك الكتب التي اعتنت بتخريج الأحاديث المشتهرة على الألسنة.
ومن عجيب ما تراه في طريقة بعض الفقهاء في شأن هذا النوع من الحديث، أنهم إذا أرادوا الرد على استدلال المخالف لهم في المذهب بالحديث الضعيف اجتهدوا في إبراز ضعف ذلك الحديث، وعملوا على إسقاطه عليه من جهة الضعف، مما يدلك على أن الضعيف عندهم جميعاً مما لا تثبت به الحجاج، ولا يصح به الاحتجاج.
والخطورة في الاحتجاج بالحديث الضعيف تأتي من جهة بناء شيء من الشرائع على الظن المرجوح، كما فيه نسبة تشريع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه جزماً، أو غالباً، ونسبة قول أو فعل لم يثبت عنه جزماً أو غالباً، وهذا لا يسلم صاحبه من الدخول في الوعيد الوارد في القول عليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
فعن أبي قتادة الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: " يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولن إلا حقا أو صدقاً، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " (1).
_________
(1) حديث صحيح.
أخرجه أحمد (5/ 297) وابن أبي شيبة (8/ 761) وابن ماجة (رقم: 35) والدارمي (رقم: 241) والطحاوي في " شرح المشْكل " (رقم: 414) والحاكم (1/ 111 رقم: 379) من طُرق عن محمد بن إسحاق، عن مَعبد بن كعب بن مالك، قال سمعت أبا قِلابة، به.
بيَّن ابن إسحاق سماعه من ابن كعب عند أحمد والحاكم.
قلت: وإسناده جيد وقال الحاكم: " حديث على شرْط مُسلم ".
وله طريق أخرى صالحة عن معْبد بن كعْب مُتابعة لابن إسحاق، عند الطحاوي في " شرح المشكل " (رقم: 413)، وثانيةٌ يعتبر بها من طريق عبد الرحمن بن كعْبٍ بن مالك، متابعة لمعبد عن أبي قتادة بمعناه، عند الحاكم (1/ 112 رقم: 380).(2/1105)
وعن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من حدث عني حديثاً، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين " (1).
قال الشافعي في تفسيره: " إذا حدثت بالحديث، فيكون عندك كذباً ثم تحدث به، فأنت أحد الكاذبين في المأثم " (2).
وسأل الترمذي شيخه الإمام أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن هذا الحديث، قال: قلت له: من روى حديثاً وهو يعلم أن إسناده خطأ، أيخاف أن يكون قد دخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو إذا روى الناس حديثاً مرسلاً، فأسنده بعضهم، أو قلب إسناده، يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال: " لا، إنما معنى هذا الحديث: إذا روى الرجل حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل، فحدث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث " (3).
وقال ابن حبان: " إني خائف على من روى ما سمع من الصحيح والسقيم
_________
(1) حديث صحيح.
أخرجه الطيالسي في " مُسنده " (رقم: 895) وابنُ أبي شيبة (8/ 595) وأحمد (33/ 333، 374، 376، رقم: 20163، 20221، 20224) ومسلم في " مقدمة الصحيح " (1/ 9) وابنُ أبي الدنيا في " الصمت " (رقم: 537) وأبو القاسم البغوي في " الجعديات (رقم: 144) وابن القطان في " زوائده " على ابن ماجة (بعد رقم: 40) والطحاوي في " شرح المشكل " (رقم: 422) والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " (رقم: 166) وابن أبي حاتم في " العلل " (2/ 287) والطبراني في " الكبير " (7/ 215 رقم: 6757) وابن عدي في " الكامل " (1/ 92) والقطيعي في " الفوائد " (رقم: 316) وابن حبان في " صحيحه " (رقم: 29) و " المجروحين من المحدثين " (1/ 7) وابن قانع في " معجمه " (1/ 306) وأبو نعيم في " مستخرجه " (رقم: 28، 62، 63) والبيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 33) والخطيب في " تاريخه " (4/ 161) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 40 _ 41) من طرٍق كثيرة عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة، به.
قلت وإسناده صحيح. وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب، وثانٍ من حديث المغيرة بن شعبة. بينت ذلك في كتاب " علل الحديث " .......
(2) أسنده ابن عدي في " الكامل " (1/ 207).
(3) جامع الترمذي (عقب رقم: 2662).(2/1106)
أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان عالماً بما يروي " (1).
وقال أيضاً: " المحدث إذا روى ما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما تقول عليه، وهو يعلم ذلك، يكون كأحد الكاذبين، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد من هذا، وذاك أنه قال صلى الله عليه وسلم: من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب، ولم يقل: إنه تيقن أنه كذب، فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح، داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر " (2).
وقال الترمذي: " كل من روي عنه حديث، ممن يتهم، أو يضعف لغفلته وكثرة خطئه، ولا يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه، فلا يحتج به " (3).
قلت: وفي المنقطع والمرسل بينت اختلافهم في الاحتجاج بهما في محله عند بيانهما، وبينت أن الراجح من مذاهبهم فيهما منع الاحتجاج بما كان كذلك، وكذلك في روايات المجهولين.
لكن لم يقع الخلاف منهم في منع الاحتجاج بما اشتد ضعفه، بل هم متفقون عليه، وظهور ذلك من صنيع أهل العلم من السلف الأولين، ومن جرى على طريقهم من أئمة هذا العلم والعارفين به، في ترك الاحتجاج بالضعيف في الأحكام، حتى ما خف ضعفه، ظاهر مشهور، تغني شهرته عن سياق العبارات فيه، حيث لم يضع هذا العلم بقوانينه الدقيقة إلا لتحاشي مالا تثبت نسبته إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم.
ولم يترخصوا في الحديث الضعيف احتجاجاً به وإن خف ضعفه، ما لم يبلغ القبول، ولكن منهم من ترخص في الاستئناس بالحديث الضعيف غير الساقط في فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب، فيما له أصل معروف، وهو الآتي تحريه في المبحث التالي.
_________
(1) المجروحين من المحدثين (1/ 6).
(2) المجروحين (1/ 7 _ 8).
(3) كتاب (العلل) من آخر " الجامع " (6/ 234) .......(2/1107)
المبحث الثاني:
الحديث الضعيف في فضائل الأعمال
شاع عند أكثر المتأخرين التساهل في الأحاديث الضعيف في فضائل الأعمال، وأطلق بعضهم عده مذبها ًلأهل العلم من أئمة الحديث، وتحرير القول في صحة هذا المذهب لا بد له من سياق المنقول عن أهل العلم من أئمة الحديث ممن يتعلق بنسبة ذلك إليهم، وتبيين مرادهم به.
فأما النصوص المروية عنهم، فجاءت عن: سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبي زكريا العنبري، فإليكها:
1 _ روي عن سفيان الثوري لإسناد ضعيف، قال: " لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ " (1).
2 _ وصح عن عبدة بن سليمان، قال: قيل لابن المبارك، وروى عن
_________
(1) أخرجه ابن عدي (1/ 257) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 212) _ والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 406، 417 _ 418) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي " (رقم: 1266) من طرقٍ عن رواد بن الجراح، عن سفيان، به.
قلت: وإسناده ضعيف، رواد ضعيف الحديث، والأسانيد بهذا الخبر إليه غير نقية.(2/1108)
رجل حديثاً، فقيل: هذا رجل ضعيف، فقال: " يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء ".
قال أبو حاتم الرازي: قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: " في أدب، في موعظة، في زهد، أو نحو هذا " (1).
3 _ وصح عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: " إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال. وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات، تساهلنا في الأسانيد " (2).
وروي عن أحمد بن حنبل نحوه، ولا بثبت عنه (3).
4 _ وروي عن أحمد بن حنبل، قال: " أحاديث الرقاق يحتمل أن يتساهل فيها، حتى يجيء شيء فيه حكم" (4).
5 _ وقال أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري (أحد الثقات): " الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ,لوم يحل حراماً، ولم يوجب حكماً، وكان في ترغيب أو ترهيب، أو تشديد أو ترخيص، وجب الإغماض عنه والتساهل في رواته " (5).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 30 _ 31) وإسناده صحيح .......
(2) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (1/ 490 بعد رقم: 1801) وفي " المدخل إلى كتاب الإكليل " (ص: 29) والبيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 34) والخطيب في " الجامع " (رقم: 1267) وإسناده صحيح.
(3) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 213) بإسناده إلى أحمد أنه قال: " إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يَضع حُكماً ولا يَرفعه تساهلنا في الأسانيد "، وفي إسناده أحمد بن مُحمد بن الأزهر السجزي مُتهم بالكذب.
(4) أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 213) عن كتاب " العلل " لأبي بكر الخلال، وهو كتاب لا يرويه الخطيب بسندٍ مُتصل، بل يقول فيه: " حُدثت عن عبد العزيز بن جعفر، أخبرنا الخلال "، ولولا ذاك فهو خبرٌ صحيح عن أحمد.
(5) أخرجه الخطيبب في " الكفاية " (ص: 213) بإسناد صحيح.(2/1109)
قلت: هذه النصوص عن هؤلاء الأئمة دلت جميعاً على أن الأحاديث التي تروى في غير إثبات الشرائع والأحكام، كانوا يتساهلون في روايتها وكتابتها عن الضعفاء؛ وذلك لثبوت أصولها في الجملة، ولكونها لم تأت بحكم ليس في المحفوظ المعلوم.
وليس في شيء من قولهم جواز الحكم بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما غايته جواز ذكرها وكتابتها في الكتب، وإن لم يوجد ما يشدها لذاتها.
ومن هذا أيضاً قولهم في بعض الرواة: يقبل في الرقائق وشبهها، لا في الأحكام، ومن أمثلته:
1 _ قال سفيان بن عيينة: " لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره " (1).
2 _ وقال أحمد بن حنبل في (رشدين بن سعد): " رشدين ليس به بأس في أحاديث الرقاق " (2).
3 _ وسئل أحمد بن حنبل عن (النظر بن إسماعيل أبي المغيرة)؟ فقال: " قد كتبنا عنه، ليس هو بقوي، يعتبر بحديثه، ولكن ما كان من رقائق " (3).
4 _ ونقل أبو الفضل عباس بن محمد الدوري عن أحمد بن حنبل قال: " أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث " كأنه يعني المغازي ونحوها " فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا " ,
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل " (ص: 41) وفي " الجرح والتعديل " (1/ 1 / 435) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية " (ص: 212) _ من طريق يحيى بن المغيرة، قال: سمعْت ابن عيينة، به. وإسناده صحيح.
(2) هوَ من رواية الميموني عن أحمد في " العلل " رواية المروذي وغيره (النص: 481)، وكذلك أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (2/ 67).
(3) العلل، رواية أبي بكر المروذي (النص: 218) .......(2/1110)
وقبض أبو الفضل أصابع يده الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام (1).
وسئل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)؟ فقال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيراً بالعلو والنزول، ويخرجه في (المسند)، وما رأيته اتقى حديثه قط، قيل له: يحتج به؟ قال: " لم يكن يحتج به في السنن" (2).
قلت: وهذه العبارات وشبهها في الرواة، صريحة في منع قبول الحديث في إثبات حكم شرعي إلا من طريق الثقات المتقنين، إنما يتسهل عمن دونهم في نقل ما ليس بشرائع، وهذا لا يتعدى كتابة حديث هؤلاء، وجواز إيراده في الكتب في غير أبواب الشرائع، تارة لاعتنائهم به، كابن
_________
(1) أخرجه الدوري في " تاريخ يحيى بن مَعين " (النص: 231) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 37 _ 38).
(2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " (1/ 230) وإسناده جيد.
قلت: وقد عابَ ابنُ حزم على من ذهب هذا المذهب في الرجال، فقال: " مما غلطَ فيه بعْضُ أصْحاب الحديث أن قال: فلانٌ يُحتمل في الرقائق، ولا يُحتمل في الأحكام "، قال: " وهذا باطل؛ لأنه تقسيم فاسدٌ لا برْهان عليه، بل البرهان يُبطله، وذلك أنه لا يخلو كلُّ أحد في الأرض من أن يكون فاسقاً أو غير فاسق، فإن كان غير فاسق كان عدْلاً، ولا سبيل إلى مرْتبةٍ ثالثة، فالعدل ينْقسم إلى قسميْن: فقيه، وغير فقيه، فالفقيه العدْل مقبولٌ في كل شيء، والفاسق لا يُحتمل في شيء، والعدْل غير الحافظ لا تُقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء؛ لأنَّ شرْط القبول الذي نصَّ الله تعالى عليه ليس موجوداً فيه، ومنْ كان عدْلاً في بعْض نقْله فهو عدْلٌ في سائره، ومن المحالِ أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره، إلا بنصٍّ من الله تعالى، أو إجماع في التفريق بين ذلك، وإلا فهو تحكُّم بلا برْهانٍ، وقوْلٌ بلا علم، وذلك لا يحلُّ ". (الإحكام في أصول الأحكام 1/ 143).
قلت: وهذا استدْراك ضعيف، فإنَّ الحفْظ يتفاوت، والخطأ فيه واردٌ، والواقع مثْبتٌ أن الراوي يعتني بحديث بعْض شيوخه فيكون له مُتقناً، دون حديثه عن غيرهم، فلا يأتي بالحديث على وجهه، وهذا مُتميزٌ في عدد من الرواة، فإن رددْنا جميع حديثه، أنْكرنا ما هو صحيح محفوظ منه مما أمكننا معرفته وتمييزه، وإن قبلْنا جميع حديثه، قبلْنا منه الخطأ وما لم يحْفظه من الحديث، كذلك هنا جهةُ التفريق حاصلةٌ فيما يرويه الراوي الصدوق الذي لم يرْق صدْقه إلى درجةِ الاحتجاج؛ لسوءِ حفظه، يروي ما له أصْلٌ معروف من الأحكام من غير طريقه، ولا يأتي في حديثه إلا بترغيب أو ترهيب مثلاً، فهذا لا يثْبت بما نقله شريعةٌ، وإنما قصد من ذهب إلى التسهيل فيه أن الرقائق لا يُطلب فيها التشديد لعدم إضافتها إلى الدين ما ليس منه.(2/1111)
إسحاق في " السير والمغازي "، وتارة لخفة أمر ما ينقلونه ورجوعه في الجملة إلى فضيلة عمل معلوم الثبوت في نفسه من غير طريق الضعيف.
ويبين ابن تيمية الوجه في ترخيص من رخص من العلماء بالضعيف في الفضائل، فيقول: " أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب، وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله، حديث لا يعلم أنه كذب، جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع. وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا علم تحريمه، وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب، جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله " (1).
قلت: فهذا وجه هذه المسألة عند من قال بها من الأئمة، دون تعرض منهم إلى صيغة الأداء لمثل هذا الحديث.
وعلمنا من النظر في صنيعهم أنهم تركوا من المجروحين خلائق ومنعوا من الحديث عنهم بشيء، وعلمنا أن منهم من كانوا يستعملون (الحديث الحسن) بالمعنى الاصطلاحي فيسمونه (الضعيف)، كما وقع من أحمد بن حنبل، وعلمنا منهم من يعتبر قلة ما أتى به الراوي من المنكرات في الأصول، ويحترز عما تبين فيه خطؤه في غير الأصول، ويخرج ما لا ينبني عليه عمل، إعمالاً لصدق ذلك الراوي في الجملة، كما وقع للبخاري حين جرح في " الصحيح " أحاديث لجماعة في الرقائق وتحاشاهم في الأحكام.
_________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 162 _ 163) .......(2/1112)
فاعتبار ذلك منهم واجب لفهم طبيعة ما قصدوه من التسهيل في هذه المسألة.
كذلك، فإن أولئك المرخصين فيه من السلف، معلوم عنهم سياق الإسناد، كما يدل عليه المعهود من صنيعهم، وما تشير إليه عباراتهم المتقدمة من تعيين التساهل في الأسانيد، فيحدثون بالشيء من تلك الأخبار بأسانيدها، ومن أسند فقد أحال، والإسناد لمن يفهمه، لا لمن لا يفهمه.
وهذا المعنى بهذا القدر لم يجر عليه حال المتساهلين من المتأخرين في هذه المسألة، بل إنهم جاوزوا طريقة أولئك العلماء من السلف في ثلاثة أمور ضرورية:
أولها: أنهم حذفوا الإسناد غالباً، وكان السلف يسوقون الأسانيد.
وثانيها: أنهم ترخصوا في التحديث به للعامة منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دون بيان، والعامة ربما اعتقدوا بسماعه أو قراءته في الكتب صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: أنهم جاوزوا فيه الضعيف الصالح للاعتبار، إلى الواهي والمنكر والموضوع.
فمن فعل هذا لم يصح له دعوى الاقتداء بترخيص من ترخص بذلك من السلف، لتجاوزه الصفة التي قصدوا .......
فلما رأى بعض أعيان الأئمة المتأخرين ذلك التوسع عمدوا إلى ضبط التسهيل في هذه المسألة بشروط، هي ضوابط لازمة للتحديث بالحديث الضعيف في الفضائل لمن رأى اختيار هذا المذهب، فإليكها محررة من عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني، قال رحمه الله:
" إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
الأول: متفق عليه، أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.(2/1113)
الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً.
الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
قال: الأخيران عن ابن عبد السلام، وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه " (1).
قلت: وهذه قيود لا يفهمها إلا من له بالحديث عناية، يميز شديد الضعف من خفيفه، أما أن يسترسل في ذلك من ليس الحديث مهنته فهذا يخشى عليه الوقوع في جملة القائلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
* * *
_________
(1) نقل هذا النص عن ابن حَجر تلميذه: الحافظ السخاوي في " القول البديع " (ص: 363 _ 364) عن خطِّ ابنِ حجرٍ كتبَ له به .......(2/1114)