مائتي حديث أصاب منها في أربعة أحاديث، والباقية إما قلب إسنادها أو غير متنها» . أجاب الأستاذ بوجهين:
الأول: حاصله أم أبا حنيفة مشهور بالحفظ والفهم، واشتهر عنه أنه لا يبيح الرواية إلا لمن استمر حفظه من الأخذ إلى الأداء، ولا يبيح الرواية مما يجده الراوي بخط يده ما لم يذكر أخذه له، وتواتر (؟) عنه ختمه القرآن في ركعة - ونحو هذا.
الثاني: التنديد بابن حبان.
أقول: أما الوجه الأول فلم ينفرد ابن حبان بنسبة الخطأ والغلط في الرواية إلى أبي حنيفة بل وافقه على ذلك كثيرون حتى من المائلين إلى أبي حنيفة، نعم انفرد بذاك التحديد، لأنه اعتنى بذلك والف كتابين: أحدهما كتاب (علل ما استند إليه أبو حنيفة) ، والثاني كتاب (علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه) . واشتهار ابي حنيفة بالحفظ غير مسلم، وحفظ القرآن لا يستلزم حفظ الأحاديث، والفهم لا يستلزم الحفظ، وفهم المعاني والعلل غير فهم وجوه الرواية. وقد اشتهر ابن أبي ليلى بالفقه حتى كان الثوري إذا سئل قيل: فقهاؤنا ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى رديء الحفظ للروايات كثير الغلط. وما اشتهر عن أبي حنيفة من اشتراط استمرار الحفظ إن صح فمراده التذكر في الجملة وإلا لزام ما هو أشد، والتذكر في الجملة لا يدفع احتمال التوهم والخطأ، وكان على الأستاذ أن ينقل نصوصا صحيحة صريحة عن الأئمة المعتمد عليهم ترد قول ابن حبان كما جاء في الشافعي قول أبي زرعة الرازي «ما عند الشافعي حديث غلط فيه» وقول أبي داود: «ليس للشافعي حديث أخطأ فيه» ، أو يتجشم جمع الأحاديث التي يثبت أن ابا حنيفة رواها وبيان ما يثبت من موافقة الثقات له ومخالفتهم.
وأما التنديد بابن حبان فذكر الأستاذ أمورا:
منها أن ابن الصلاح وصفه بأنه غلط الغلط الفاحش في تصرفه.
أقول: ابن الصلاح ليس منزلته أن يقبل كلامه في مثل ابن حبان بلا تفسير،(2/666)
والمعروف مما ينسب ابن حبان فيه إلى الغلط أنه يذكر بعض الرواة في (الثقات) ثم يذكرهم في (الضعفاء) ، أو يذكر الرجل مرتين أو يذكره في طبقتين ونحو ذلك. وليس بالكثير وهو معذور في عامة ذلك وكثير من ذلك أو ما يشبهه قد وقع لغيره كابن معين والبخاري.
ومنها أن الذهبي وصفه بالتشغيب والتشنيج.
أقول: إنما ذلك في مواضع غير كثيرة يرى ما يستنكره للراوي فيبالغ في الحط عليه ن وهذا أمر هين، لأنه إن كان فيمن قد جرحه غيره فكما يقول العامة «لا يضر المقتول طعنه» وإن كان فيمن وثقه غيره لم يلتفت إلى تشنيعه وإنما ينظر في تفسيره وما يحتج به.
ومنها أنه يةثق المجاهيل الذين لم يسير أحوالهم.
أقول: قد بين ابن حبان اصطلاحه وهو أنه يذكر في (الثقات) كل من روى عنه ثقة ولم يرومنكرا، وأن المسلمين على الدالة حتى يثبت الجرح، وقد ذهب غيره من الأكابر إلى قريب من هذا كما قدمته في (قسم القواعد) في القاعدة السادسة. نعم إنه ينى على رأيه أن المسلمين على العدالة واستأنس بصنيع بعض من تقدمه من الأئمة من ذكر ذلك الرجل بدون إشارة ضعف فيه، وأهل العلم من الحنفية وغيرهم كثيرا ما يقوون الراوي بقولهم: «ذكره البخاري وابن ابن حاتم ولم يذكرا فيه جرحا» (1) ومع ذلك يبين ابن حبان بعدم ذكر شيخ للرجل ولا راو عنه أنه لم
__________
(1) قلت: وقد جرى على هذا بعض المحققين من أهل الحديث المعاصرين، وكنت استنكر ذلك في نفسي دون أن يكون لدي نقل يؤيدني، حتى رأيت ابن أبي حاتم يقول في كتابه 1 / 38: «على أنا قد ذكرنا اسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل، كتبناها ليشمل الكتاب على كل من روى عنه العلم ن رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم. فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى» .
قلت: فرايت أن اثبت هذا تنبيها وتذكيرا. ن.(2/667)
يعرفه (1) .
ومنها أنه عريق في التعصب.
أقول: أئمة الحديث كلهم في رأي الأستاذ متعصبون ولا أعرف ابن حبان بتعصب.
ومنها أنه حكي عنه أنه قال في النبوة أنها العلم والعمل.
أقول: إن صح هذا عنه فهو قول مجمل وابن حبان معروف عنه في جميع تصانيفه أنه يعظم أنه يعظم النبوة حق تعظيمها ولعله أراد أن المقصود من أيجاد الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم هو ويعمل، ثم يبين للناس فيعلموا ويعلموا. وقد نسب إليه أنه أنكر الحد لله، ولعله امتنع من التصريح بإثبات الحد باللفظ الذي اقترح عليه، أو آتى بعبارة حملها المشنعون على إنكار الحد كما اتفق للبخاري في القرآن، وغير ذلك، وكتب ابن حبان من أو لها إلى آخرها جارية على التمسك بالسنة والثناء على أصحابها وذم من يخالفها ن وهو من أخص أصحاب ابن خزيمة أحد ائمة السنة. ثم أحال الأستاذ على ما في (معجم البلدان) : (بست) .
وأقول: هناك عبارة طويلة زعم ياقوت انه نقلها من خط ابن النفيس أنه نقلها من خط السليماني في (معجم شيوخه) ، وياقوت ليس بعمدة والأئمة الذين ذكروا ترجمة ابن حبان قد وقفوا على كتب السليماني ونقلوا عنها ثم لم يحكوا في ترجمة ابن حبان حرفا من تلك العبارة، وفيها ذكر أحوال لابن حبان تتعلق بسمرقند ونيسابور وبخاري، ولكل من هذه البلدان (تاريخ) ذكر فيه ابن حبان، ونقل ياقوت وغيره من تلك التواريخ فلم يقع في ذلك شيء مما في تلك العبارة وإنما نقلوا عن تلك التواريخ تعظيمه والثناء البالغ عليه ن على أن ما وصف به في تلك العبارة منه ما ليس
__________
(1) قلت: بل إنه ليقول أحيانا في بعض ثقاته «لا أعرفه» ، أو «لا أعرفه ولا اعرف آباه» ، كما أثبتناه بالقول عنه في غير هذا الموضع، وسبقت الإشارة إلى هذا في التعليق على الصفحة (67) .(2/668)
بجرح، ومنه ما هو جرح غير مفسر أو مفسر بما لا يقدح، أو غير مثبت، ضرورة أن قائل ذلك لم يكن ملازما لابن حبان في جميع تنقلاته في تلك البلدان، وإنما لفقت إن صحت عن السليماني من قيل، وقالوا، وزعموا، فعلى كل حال لا وجه للتعويل عليها، ولا الإلتفات إليها. والله المستعان.
هذا وقد أكثر الأستاذ من رد توثيق ابن حبان، والتحقيق أن توثيقه على درجات،
الأولى: أن يصرح به كأن يقول «كان متقنا» أو «مستقيم الحديث» أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذاك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل. والله أعلم. (1)
__________
(1) قلت: هذا تفصيل دقيق، يدل على معرفة المؤلف رحمه الله تعالى، وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو مما لم أره لغيره ن فجزاء الله خيرا، غير أنه قد ثبت لدي بالممارسة أن من كان منهم من الدرجة الخامسة فهو على الغالب مجهول لا يعرف، ويشهد بذلك صنيع الحفاظ كالذهبي والعسقلاني وغيرهما من المحققين، فإنهم نادرا ما يعتمدون على توثيق ابن حبان وحده ممن كان في هذه الدرجة، بل والتي قبلها أحيانا. ولقد أجريت لطلاب الجامعة افسلامية في المدينة المنورة يوم كنت أستاذ الحديث فيها سنة (1382) تجربة عملية في هذا الشأن في بعض دروس (الأسانيد) ، فقلت =(2/669)
201- محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش. في (تاريخ بغداد) 13 / 386 حكاية من طريقه. قال الأستاذ ص 74: «كذاب زائغ من اسقط خلق الله، ولولا أن الداني المقرىء بعيد الدار عن الشرق لما خفيت عليه مخازيه» .
أقول: كان هذا الرجل مقرئا مفسرا تعب في الطلب وجمع فأكثر لكنهم نقموا عليه في أحاديث، فأما الدارقطني فكان يجمل القول فيه ويحمله على الهم والتساهل في الأخذ، وأما البرقاني وغيره فحطوا عليه وتبعهم الخطيب، وإنما روى عنه لأنه لم ينفرد بمعنى ما روى، وكان الأولى به ترك الرواية عنه. والله المستعان.
202- محمد بن الحسن بن حميد بن الربيع. ساق الخطيب في (التاريخ) 13 / 403 عدة روايات جيدة في تشديد ابن المبارك في شأن كتاب أطلق عليه (كتاب الحيل لأبي حنيفة) وروايته عن النضر بن شميل ليس فيها ذكر أبي حنيفة، وأشار الأستاذ إلى ما ذكره الذهبي في جزء (مناقب أبي حنيفة وصاحبه) ، ولفظ الذهبي في ذاك الجزء ص 52 - 53: «الطحاوي سمعت محمد بن أبي عمران يقول: قال محمد بن سماعة: سمعت محمد بن الحسين يقول: هذا الكتاب - يعني كتاب (الحيل) - ليس من كتبنا إنما ألقي فيها. قال ابن أبي عمران: إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة» . وقال الأستاذ ص 122 في الحاشية: «قال أبوسليمان
__________
= لهم: لنفتح على أي راوفي كتاب «خلاصة تذهيب الكمال» تفرد بتوثيقه ابن حبان، ثم لنفتح عليه في «الميزان» للذهبي، و «التقريب» للعسقلاني، فسنجدهمت يقولان فيه «مجهول» أو «لا يعرف» ، وقد يقول العسقلاني فيه «مقبول» يعني لين الحديث، ففتحنا على بضعة من الرواة تفرد بتوثيقهم ابن حبان فوجدناهم عندهما كما قلت: أما مجهول، أو لا يعرف، أو مقبول.
إلا أن ما ذكر المؤلف من رد الكوثري لتوثيق ابن حبان ن فإنما ذلك حين يكون هو اء في ذلك، وإلا فهو يعتمد عليه ويتقلبه حين يكون الحديث الذي فيه راووثقه ابن حبان، ويوافق هواه، كبعض الأحاديث التي رويت في «التوسل» وقد كشفت عن صنيعه هذا في كتابي (الأحاديث الضعيفة) رقم (23) .(2/670)
الجوزجاني: من قال إن محمدا رحمه الله صنف كتابا سماه: (الحيل) فلا تصدقه، وما في أيدي الناس إنما جمعه وراقوبغداد كما في (مبسوط السرخسي) ... » وفي (فتح الباري) ذكر لكتاب (الحيل) لبي يوسف، وأطال الأستاذ في دفع نسبة ذاك الكتاب إلى أبي حنيفة، وأصحابه.
والذي تضافرت عليه الروايات الجيدة أنه كان في عصر ابن المبارك فما بعده كتاب يسمى (كتاب الحيل لبي حنيفة) أو (كتاب حيل أبي حنيفة) ن وهناك قرائن تدفع أن يكون من تصنيف أبي حنيفة نفسه؛ وهذه القرائن لا تقع التسمية فقد يكون مصنفه نسبة إليه أو يكون الناس لما رأو هـ مبنيا على قواعد أبي حنيفة أطلقوا عليه هذا الاسم، فأطلق عليه ابن المبارك اسمه المعروف به بين الناس غير قاصد الجزم بأنه تصنيف ابي نفسه، ولا ريب أنه لا يستنبط الحيل من قواعد أبي حنيفة إلا رجل عارف بتلك القواعد له يد في الاستنباط وليس هو بابي يوسف، ولا بمحمد بن الحسن، وقد مر عن ابن ابي عمران وهو من أجلتهم قوله: «إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة» .
والمقصود هنا أنه من المقطوع به وجود ذلك الكتاب وانه كان متداولا بين الناس في تلك الأزمنة، وتضافرت الروايات على أنه كان معروفا بذاك الاسم.
ثم قال الأستاذ ص 122 وقد حاول: بعض الكذابين رواية كتاب في الحيل عن أبي حنيفة في زمن التأخر بسند مركب فافتضح وهو أبو الطيب محمد بن الحسين بن حميد بن الربيع الكذاب ابن الكذاب حيث زعم بعد سنة ثلاثمائة أنه كان سمع كتاب (الحيل) سنة 258 ب (سر من رأى) من أبي عبد الله محمد بن بشر الرقي عن خلف بن بيان وقد قال مطين: أن محمد بن الحسين هذا كذاب ابن كذاب، وأقره ابن عقدة، ثم أقر ابن عدي وأبو أحمد الحاكم ابن عقدة في ذلك. وقد قوى ابن عدي أمر ابن عقدة. ورد على الذين تكلموا فيه بل قال السيوطي في «التعقبات» ص 57: ابن عقدة من كبار الحفاظ وثقه الناس، وما ضعفه إلا عصري متعصب. اهـ، ثم شيخ محمد بن الحسين مجهول الصفة، بل مجهول العين، وشيخ شيخه مجهول أيضا بل لا(2/671)
وجود له» .
أقول: أما رواية أبي الطيب هذا الكتاب فليس فيها ما يريب في صدقه، فقد تحقق أن الكتاب كان موجودا بأيدي ناس يسمى ذاك الاسم، فأي ريبة أم أي بعد في أن يجده أبو الطيب عند بعض الوراقين فيزعم الوراق أنه يروي بالسماع فيسموه منه أبو الطيب، وقد يكون ذاك الوراق كذابا زعم ما زعم يروج له الكتاب، ولم يفتش أبو الطيب عن حاله على عادتهم في ذاك العصر من الأخذ عن كل أحد وترك التحقيق لأهله أو لنقته. ثم أن صح قول الأستاذ «بعد سنة ثلاثمائة» فليس يلزم من ذلك أن لا يكون أبو الطيب ذكر قبل ذلك أن الكتاب عنده يروي، وكثيرا ما يروي الرجل بعد أن يسمع بستين أو سبعين سنة أو أكثر وقد كان للأستاذ في نهالة الشيخ أبو الطيب وشيخ شيخهم ما يكفيه في دفع النسبة إلى أبي حنيفة المحاولة الطعن في أبي الطيب الموثق كما يأتي، ومحاولة الدفاع عن أبي عقدة المجروح كما تقدم في ترجمته وهو أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة مع دعوى تقوية ابن عدي له، وفي ذلك ما فيه. فأما ما نسب إلى مطين فدون الشارحة:
زعم ابن عقدة أنه كان عن مطين فمر أبو الطيب فقال المطين هذا كذاب ابن كذاب. وفي بعض المواضع الزيادة (أبن كذاب) أخرى، فحكى ابن عدي عن أبي عقدة هذا وقواه بالنسبة إلى حسين بن حميد والده أبو الطيب كما تقدم في ترجمته مع النظر فيه، فأما أبو أحمد الحاكم فإنما قال في ابي الطيب: «كان أبن عقدة سيئ الرأي فيه» ، وهذا يشعر بأنه لن يعتمد على رواية ابن عقدة عن مطين وإلا بقال: «كان مطين سيئ الرأي فيه» ، وابن عقدة يس بعمده كما تقدم في ترجمته. وقد تعقب الخطيب حكايته هذا في «التاريخ» ج 2 ص 237 وقال: «في الجرح بما يحكيه أبو العباس بن سعيد «ابن عقدة» نظر، حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة السهمي يقول: سالت أبا بكر ابن الدان عن ابن عقدة إذا حكى حكاية عن غيره من الشيوخ في جرح فهل يقبل قوله أم لا؟ قال: لا يقبل «وهذه الروية مأخوذة عن كتاب معروف لحمزة. ثم روى الخطيب عن أبي يعلى الطوسي توثيق أبي الطيب قال:(2/672)
«كان ثقة صاحب مذهب حسن وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وكان ممن يطلب للشهادة فيابا «وقال ابن الجوزى في «المنتظم» ج 6 ص 235: «كان ثقة يفهم، وقد روى ابن عقدة عن الحضرمي «مطين» أنه قال: هو كذاب - وهذا ليس صحيح «وقال ابن حجر في» (اللسان) : «الظاهر أن جرح ابن عقدة لا يؤثر فيه بينهما من المتباينة في الاعتقاد» .
أقول: أما جرحه من قبل نفسه بلى حجة فنعم، وأما روايته عن غيره فلو كان ثقة لم ترد بالمباينة في الاعتقاد ولكنه في نفسه على يدي عدل، فألمبتينة في الاعتقاد تزيده وهنا على وهن. والله الموفق 0
203- محمد بن حماد. في (تاريخ بغداد) 13 / 402 من طريق «عبد الله بن أبي القاضي يقول: سمعت محمد بن حماد يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ... » قال الأستاذ: ص 141 «وضاع معروف من أصحاب مقاتل» .
أقول: صاحب مقاتل قديم ففي ترجمته من «اللسان» أنه قال: «اشخصني هشام بن عبد الملك من الحجاز إلى الشام ... » وقد مر في ترجمته عبد الله بن أبي القاضي أن أعلى شيخ له أحمد بن عبد الله بن يونس المتوفى سنة 227، وهشام مات سنة 125 فأني يدرك عبد الله أبن ابي من كان في زمن هشام رجلا؟ فهذا رجل أخر. والله المستعان.
204- محمد بن حمدويه أبو رجاء المروزي. ذكروا أنه ذكر في «تاريخ مرو» وأن محمود بن غيلان توفى سنة 229 وأن البخاري وغيره قالوا: أن محمودا توفى سنة 239 فذكر الأستاذ هذا ص 64 وأطلق على أبي رجاء «رواية الغرائب» .
ولا يخفى أن هذا الخطأ الواحد لا يبرر هذه الكلمة وراجع «الطليعة» ص 22- 29 لتعرف حال الكوثري في تلك القضية.
205- محمد بن روح. في «تاريخ بغداد» 13 / 412 من طريق «زكريا بن(2/673)
يحيى الساجي حدثني محمد بن روح قال: سمعت أحمد بن حنبل ... » قال الأستاذ ص 143: «مجهول»
أقول: في «تاريخ بغداد» ج 5 ص 277 «محمد بن روح العكبري ... » ثم روى من طريق «عثمان بن إسماعيل بن بكر السكري ثنا محمد بن روح العكبري بعكبرا وكان صديقا لأحمد بن حنبل وكان أحمد بن حنبل إذا خرج الى عكبرا ينزل عليه «وعثمان هذا توفى سنة 323 كمكا في «التاريخ» ج 11 ص 296 والسياجي توفى سنة 307 ولم يكن أحمد ليصادق رجلا وينزل عليه إلا وهو خير فاضل.
206- محمد بن سعد العوفي. في ترجمة الحسن بن زياد اللؤلوي من (لسان الميزان) تكذيب الأئمة له وطعنهم فيه، ساق كثبرا من ذلك ثم قال: «ومع ذلك كله أخرج له أبو عوانة في (صحيحه) والحاكم في (مستدركه) وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة» ذكر هذا استنكارا له، فجاء الكوثري فقال ص 187 في ترجمة اللؤلؤي: «مجتهد عظيم القدر ومحدث جليل الشأن ... أخرج عنه الحافظ أبو عوانة ... في (الصحيح المسند المستخرج) وهذا توثيق منه، والحاكم في (المستدركه) ... وهذا أيضا توثيق منه ووثقه مسلمة بن قاسم ... وكان يأبى الخرض في القياس في مورد النص كما فعل مع بعض المشاغبين في مسألة القهقهة في الصلاة. كما ذكره ابن حزم ... ومع هذا كله تجد ترجمته عند الخطيب من أسوأ التراجم ... » وهكذا قدم الكوثري المؤخر وعرف المنكر واحتج ببعض الروايات الزائفة ورد بعض الروايات الثابتة التي تقدمت الإشارة إلى بعضها في ترجمة الخطيب وفي ترجمة صالح بن محمد الحافظ، وحاول هدم أركان الإسلام لينصب هذا التالف. ثم قال «وقد روى - يعني الخطيب - في كتابه أيضا عن الساجي وابن معين وابن المديني ويعقوب بن سفيان وغيرهم تضعيف الحسن ابن زياد أو تكذيبه إلا أن في أسانيد تلك الروايات أمثال محمد بن «عثمان بن» أبي شيبة ومحمد بن سعد العوفي، والأدمي، وعبد الله «بن محمد بن عبد العزيز» البغوي، ودعلج، والآجري، والعقيلي وأضرابهم، وأمرهم يدور بين كذاب، وضعيف،(2/674)
ومتعصب مردود القول، ومغفل، ومجسم متعصب، لا يقبل قوله في أهل السنة» .
ترى الأستاذ يطعن في بضعة عشر رجلا شرهم خير من ألف مثل اللؤلؤي، وأنا أسوق أسماءهم ليقابل العاقل تراجمهم في هذا الكتاب وغيره بترجمة اللؤلؤي في (لسان الميزان) وغيره، الحافظ أحمد علي الأبار، وإدريس بن عبد الكريم، وإسحاق بن إسماعيل، والحافظ الحسن ابن علي الحلواني، والحافظ دعلج بن السجزي، الحافظ صالح بن محمد جزرة، عبد الله ابن جعفر بن درستويه، الحافظ عبد الله بن سليمان أبو بكر ابن أبي داود، الحافظ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي،
الحافظ عبد الله عبد المؤمن بن خلف، محمد بن رزق، محمد ابن جعفر الأدمي، محمد بن سعد العوفي، محمد بن العباس الخزار، الحافظ محمد بن عثمان بن ابي شيبة، الحافظ محمد بن علي بن عثمان الآجري، الحافظ محمد بم عمروالعقيلي.
ولم أطلق كلمة «الحافظ» إلا على من أطلقها عليه أهل العلم - لا كالكوثري يطلقها على من دب ودرج من أصحابه!
ولا بأس بأن نناقش الكوثري هنا فأقول: أما أبو عوانة فقد ذكر الأستاذ ص 17 عبد الله بن محمد البلوي فقال فيه وفي آخر: «كذابان معروفان» . وقد قرأ الأستاذ في (الميزان) و «اللسان» في ترجمة البلوي «روى عنه أبو عوانة في (صحيحه) في الإستسقاء خبرا موضوعا» وروى أبو عوانة في (صحيحه) ج 1 ص 236 - 237 حديثا في سنده عبد الله بن عمروالواقفي وجابر بن يزيد الجعفي وكلاهما متهم. وفي (فتح الباري) في شرح «باب القصد والمدارمة على العمل» من كتاب «الرقاق» « ... وهذا من الأمثلة لما تعقبه على ابن الصلاح في جزمه بأن الزيادات التي تقع في المستخرجات يحكم بصحتها ... ووجهه التعقب أن الذين استخرجوا لم يصرحوا بالتزام ذلك، سلمنا أنهم التزموا ذلك، لكن لم يفوا به» .(2/675)
«أقول: أصحاب المستخرجات يلتزمون إخراج كل حديث من الكتب التي يستخرجون عليها» فأبو عوانة جعل كتابه مستخرجا على «صحيح مسلم» ومعنى ذلك أنه ألتزم أن يخرج بسند نفسه كل حديث أخرجه مسلم، فقد لا يقع له بسند نفسه الحديث إلا من طريق رجل ضعيف فيتساهل في ذلك، لأن أصل الحديث صحيح من غيره طريقه، ومع ذلك زاد أبو عوانة حديث ضعيفا لن يحكم هو بصحته فأنما يسمى كتابه «صحيحا» لأنه مستخرج على «الصحيح» ولأنه معظم أحاديثه وهي مستخرجة الصحاح، فأخرجه لرجل لا يلتزم توثيق ولا تصديق بل صحاب «الصحيح» نفسه قد يخرج في المتابعات والشواهد لمن لا يوثق وهذا أمر معروف عند أهل الفن لا يخفى على الكوثري! فأما «مستدرك الحاكم» فحدثه عنه ولا حرج، فأن في «مستردكا» كثيرا الرواة التالفين، وجماعه منهم قد قطع هو نفسه بضعفهم الشديد، ويأتي بسيط ذلك في ترجمته فأن الأستاذ حط عليه حيث خالفه، ثم عاد يحتج به هنا. وأما مسلمة بن قاسم وقد جعل الله بكل شيئا. قدرا. حده أن يقبل منه توثيق من لم يجرحه من هو وأجل منه ونحو ذلك، فأما آن يعارض بقوله نصوص جمهور الأئمة فهذا يقوله عاقل.
وأما قضية القهقهة فتراها في ترجمته اللؤلؤي من «لسان الميزان» ولا يرتاب مطلع أن اللؤلؤي إنما ولي دبره خشية أن يريد عليه ما لا قبل له به (1) إذ قد كان يمكنه أن
__________
(1) يشير المصنف رحمه الله تعالى إلا القصة التي وقعت اللؤلؤي مع بعض أصحاب الشافعي في مسائل القهقهة في الصلاة التي أشار إليها الكوثري الذي حاول ستر انهزام اللؤلؤي أمام الحجة القاطعة بما سمعت من التأويل الباطل، وأليك القصة كما في «اللسان» : «البويطي» : سمعت الشافعي يقول: قال لي الفضل بن الربيع: أنا اشهي مناظرتك واللؤلؤي، فقلت: إنه ليس هناك، فقال: أنا أشتهي ذلك، قال: فأحضرنا وأتينا بطعام فأكلنا ن فقال رجل معي له: ما تقول في رجل قهقه في الصلاة؟ قال ك بطلت صلاته، قال: طهارته؟ قال: فطهارته ن قال: فما تقول في رجل قذف محصنة في الصلاة؟ قال: بطلت صلاته، ثقال: فطهارته؟ قال: فطهارته، قال: مجالها! فقال له: قذف المحصنات اشد من الضحك في الصلاة! قال: فأخذ اللؤلؤي نعليه، وقام، فقلت للفضل: قد قلت لك: إنه ليس هناك» .(2/676)
يجيب بهذا العذر الذي ذكره الكوثري ثم ينظر ما يرد عليه، على أنه يعلم أن هذا العذر باطل فإن أهل الرأي يردون بالقياس النصوص الصحيحة الثابتة فكيف يتقون أن يخوضوا فيه في مقابل مثل هذا الحديث؟! وجاء أن اللؤلؤي لما ولي القضاء لم يدر كيف يقضي! وذكر الحنفية أنه كان يثقل على أبي يوسف بالمناظرو، فقال ابويوسف لصحابه إذا جاء فابدروه بالمسالة فجاء فلم يستتم السلام حتى قال: ما تقول في كذا؟ خاف أن يبدروه بتلمسالة فبدرهم؟ يؤخذ من هذا أنه كان ضعيف البديهة، بطيء الإدراك، فكان يطيل الفكر في بيته في بعض المسائل وما يمكن آن يقال فيها أو يورد عليها وما يمكن أن يدفع به ذلك الإيراد ويمعن في ذلك ويتحفظ، ثم يجيء إلى أبي يوسف أو غيره ويناظر في تلك المسالة، وعرف أبو يوسف هذا فأمر أصحابه أن يبدروه فيسألوه عن مسألة لأنه يغلب أنه لم يكن استعد لها فينقطع، وعرف هو من نفسه هذا فبدرهم ن فكأنه لما سأله رفيق الشافعي عن مسالة القهقهة وأورد عليه ما أورد أجتمع عليه حرج الموقف وعدم استعداده فاعتصم بالفرار.
وأما من يحتج بالمرسل فذلك إذا كان الإرسال ممن لا يرسل إلا عن ثقة ن وليس حديث القهقهة من ذاك فقد وصف الذي أرسله بأنه كان ممن يصدق كل أحد.
وأما الجماعة الذين طعن فيهم الأستاذ فتراجمهم في مواضعها، فأما محمد بن سعد العوفي فقد ذكروا أن الحاكم حكى عن الدارقطني أنه لا باس به. وقال الخطيب: «كان لينا في الحديث» وعلق الأستاذ على مناقب أبي حنيفة) للذهبي ص 28 - 29 «قال الخطيب أخبرنا أبن رزق حدثنا أحمد بن علي بن عمرو بن حبيش الرازي سمعت محمد بن أحمد بن عصام يقول: سمعت محمد بن سعد ولا يحدث بما لا يحفظه» قال الأستاذ: «وهذا يقضي على من يرميه بقلة الضبط» وقد تكلم الأستاذ في الراوية الخطيب عن محمد بن أحمد بن رزق. وأشار إلى ذلك هنا كما مر ن ولا أدري ما يقول في محمد بن عصام ن فجعل الأستاذ هذه الرواية مع إنها من طريق محمد بن سعد العوفي وقد انفرد بها هذا الأستاذ قاضية على إجماع الأئمة ومعهم ابن(2/677)
معين من عدة أوجه عنه ثم تراه هنا يرد رواية محمد بن سعد ومعه جماعة عن ابن معين ومعه جميع الأئمة إلا ما شذ! أما الحسن بن زياد فقد روى تكذيبه ثلاثة عن ابن معين وقال ابن أبي حاتم في كتابه «قريء على العباس بن محمد الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: حسن اللؤلؤي كذاب» ولعل الأستاذ قد وقف على ذلك في (تاريخ عباس) . ثم قال ابن أبي حاتم «سألت ابي عنه فقال: ضعيف الحديث ليس بثقة ولا مأمون» وفي كتاب (الضعفاء والمتروكين) للنسائي المطبوع في الهند «حسن بن زياد اللؤلؤي ليس بثقة ولا مأمون» وفي الجزء الملحق به وهو روايته، والضعفاء من أصحابه يوسف بن خالد السمتي، كذاب، والحسن ابن زياد اللؤلؤي، كذاب خبيث، ومحمد بن الحسن ن ضعيف، والثقات من أصحابه أبو يوسف القاضي ثقة ... » وفي ترجمة اللؤلؤي من (لسان الميزان) : «قال محمد بن عبد الله بن نمير: يكذب على ابن جريج، وكذا كذبه أبو داود فقال ك كذاب غير ثقة، وقال ابن المديني ك لا يكتب حديثه ... وقال أبوثور: ما رأيت اكذب من اللؤلؤي وقيل ليزيد بن هارون: ما تقول في اللؤلؤي قال: أو مسلم هو؟ وقال يعلي بن عبيد: اتق اللؤلؤي، وقال ابن أبي شيبة: كان أبو أسامة يسميه الخبيث ن وقال يعقوب بن سفيان والعقلي والساجي: كذاب ... » .
فأما قضية التقبل وقرص الخد في الصلاة فقد تقدمت الإشارة إليها في ترجمة الخطيب ثم في ترجمة صالح بن محمد وهي بغاية الثبوت. فهذا هو الذي يصفه الكوثري بأنه «مجتهد عظيم القدر ومحدث جليل الشان ... » استخفافا بالدين وأهله وسخرية من عقول الناس وعقله! (1)
207- محمد بن سعيد البورقي. في (تاريخ بغداد) 13 / 335 من
__________
(1) محمد بن سعيد الباهلي راجع (الطليعة) ص 37 - 39 وانظر ما يأتي في ترجمة الهيثم بن خلف.(2/678)
طريقه (1) : «حدثنا سليمان بن جابر بن سليمان بن ياسر بن جابر حدثنا بشر بن يحيى قال: أخبرنا الفضل بن موسى السيناني عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي رجلا اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي ن هو سراج أمتي ن هو سراج أمتي» قال الخطيب:
«قلت: وهو حديث موضوع تفرد بروايته البورقي وقد شرحنا فيما تقدم أمره وبينا حاله» يعني في ترجمة وهي في (التاريخ) ج 5 ص 308 - 309 وفيها عن حمزة السهمي «محمد بن سعيد البورقي كذاب حدث بغير حديث وضعه» وعن الحاكم «هذا البورقي قد وضع من المناكير على الثقات ما لا يحصى وأفحشها روايته ... سيكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة هو سراج أمتي. هكذا حدث به في بلاد خرسان ثم حدث به بالعراق بإسناده وزاد فيه انه قال: سيكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس فتنته على أمتي أضر من إبليس» وذكر الخطيب غير هذا من مناكيره. قال الأستاذ ص 30: «استوفى طرقه البدر العيني في (تاريخه الكبير) واستصعب الحكم عليه بالوضع مع وروده بتلك الطرق الكثيرة وقد قال: « ... فهذا الحديث كما ترى قد روى بطرق مختلفة ومتون متباينة ورواة متعددة عن النبي عليه الصلاة والسلام فهذا يدل على أنه له أصلا، وإن كان بعض المحدثين بل أكثرهم ينكرونه وبعضهم يدعون أنه موضوع وربما كان هذا من أثر التعصب، ورواة الحديث أكثرهم علماء وهم من خير الأمم فلا يليق بحالهم الاختلاق على النبي عليه الصلاة والسلام متعمدا» ! ذيل عليه الكوثري بقوله: «وعالم مضطهد طول حياته يموت وهو محبوس ثم يعم علمه البلاد من أقصاها إلى أقصاها شرقا وغربا ويتابعه في فقهه شطر الأمة المحمدية بل ثلثلها على توالي القرون، رغم مواصلة الخصوم من فقيه ومحدث ومؤرخ مناصبة العداء له، نبأ جلل لا يستبعد أن يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ... » !
__________
(1) وقع هناك «الدورقي» خطأ.(2/679)
أقول: لا أدري أعلم هؤلاء القوم أحرى أن يؤسف عليه أم دينهم أن عقولهم؟! قد تأملت روايات هذا الحديث في (مناقب أبي حنيفة) وغيرها فرأيته يدور على جماعة:
أولهم البورقي وقد عرفت حاله رواه عن مجهول عن مثله عن السيناني بذاك السند، وقد صح عن السيناني أنه قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: من أصحابي من يبول قلتين. يرد على النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجس» ذكره الأستاذ ص 83.
الثاني: أبو علي أحمد بن عبد الله بن خالد الجويباري الهروي وهو مشهور بالوضع مكشوف الأمر حدا وله فيه أربع طرق:
الأولى: عن السيناني بذاك السند.
الثانية: عن أبي يحيى المعلم عن حميد عن أنس.
الثالثة: عن أبي يحيى عن أبان عن أنس.
الرابعة: عن عبد الله بن معدان عن أنس، والراوي عنه في بعض هذه مأمون بن أحمد السليمي وهو شبيهه في الشهرة بالوضع الفاحش.
الثالث: أبو المعلى بن مهاجر، أن كان له ذنب، وهو مجهول رواه محمد بن يزيد المستملي وهو متهم عن مجهول عن مثله عن أبي المعلى عن أبان عن أنس. ورواه النظري بثلاثة أسانيد أخرى كلهم مجاهيل عن أبي المعلى عن أبان عن أنس.
الرابعة: أبو علي الحسن بن محمد الرازي، وهو متهم قد تقدم بعض ما يتعلق به في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت رقم «64» رواه النظري من طريقه بسند كلهم مجاهيل إلا عبد الله بن مغفل «؟» عن علي بن أبي طالب قوله.
الخامسة: النضري قال فيه ابن السمعاني في «الأنساب» «الخيوي» باسم «أبي(2/680)
القاسم يونس بن طاهر بن محمد بن يونس بن خيو النضري الخيوي من أهل بلخ الملقب شيخ الإسلام ... » ولم يذكر فيه توثيقا ولا جرحا والله أعلم به وبعض الطرق المتقدمة من طريق وزاد بسند كلهم مجاهيل عن أبان عن أنس، وبسند كلهم مجاهيل عن أبي هُدبه عن أنس، وبسند كلهم مجاهيل عن موسى الطويل عن ثابت عن انس، وبسند كلهم مجاهيل عن حماد عن الرجل عن نافع عن ابن عمر، وبسند كلهم مجاهيل عن أبي قتادة الحراني عن جعفر بن محمد عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. هذا ما وقفت عليه، في الأربعة الأولون قد عرفتهم، وأما الخامس وهو النضري فالله أعلم به، وعلى كل حال فكان بين قوم أعاجم جهال متعصبين لا بدع أن يتقربوا إلى الله عز وجل بتكثير الطرق وكلهم مجاهيل، وأبان وأبو هدبة وموسى الطويل ثلاثتهم هلكى، ومع ذلك لا أراهم إلا أبرياء من هذا الحديث، وإلا لاشتهر في زمانهم. فما باله لم يعرف له أثر إلا بعد أن وضعه الجوبياري في القرن الثالث؟ وأبو قتادة الحراني فسد بآخره ومع ذلك لأراه إلا بريئا من هذا وحماد الذي روى عنه عن رجل عن نافع عن أبي عمر لا أدري من هو وربما يكون المقصود حماد بن أبي حنيفة فإنه قد قيل أنه يروي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، فكأن بعض المجاهيل سمع بذلك فركب السند إليه بهذا الحديث فاستحيا النضري عن أن يقول عن مالك عن نافع عن ابن عمر فيكون أشنع للفضيحة فكنا عن مالك برجل!
وهذا ومن شأن الدجالين أن يركب أحدهما الحديث الواحد عدة أسانيد تغريرا للجهال وأن يضع أحدهم فيسرق الأخر وليركب سند من عنده، ومن شأن الجهال المتعصبين أن يتقربوا بالوضع والسرقة وتركيب الأسانيد وقد قال أبو العباس القرطبي: «استجاز بعض فقهاء أهل الرأي نسبة الحكم الذي يدل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعه لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ... ولأنهم لا يقيمون لها سندا صحيحا» . وقد أشار إلى هذا ابن الصلاح بقوله: «وكذا المتفقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه(2/681)
القياس الى النبي صلى الله عليه وسلم» .
فتدبر ما شرحناه ثم تأمل ما تقدم عن العيني، ثم راجع الطرق الكثيرة بالأسانيد الصحيحة لقصة استتابة أبي حنيفة من الكفر مرتين وأكثر تلك الطرق مسلسلة بالرجال المعروفين ما بين محدث ثقة وحافظ ثقة وإمام شهير، وانظر ما يقول فيها العيني والكوثري حتى كان أئمة الحديث ورجاله وفقهاء المذاهب الأخرى أهل عند العيني والكوثري لكل كذب، وإن اشتهروا بالإمامة والثقة والصدق والتقوى بخلاف أصحابها أهل الرأي كأنه لا يكون منهم ولا من حمرهم وكلابهم إلا الصدق.
ومع ذلك يرمي هؤلاء القوم مخالفهم بالتعصب وإتباع الهوى ويكثر الأستاذ من قوله: «وقانا الله إتباع الهوى. نسأل الله الصون. نسأل الله السلامة» وأشباه ذلك ويتحرى بهذه الكلمات مواضع ارتكابه الموبقات! والله المستعان (1)
208- محمد بن الصقر بن عبد الرحمن. مرت روايته في ترجمته عبد الله بن صالح.
قال الأستاذ ص 29: «فالصقر وعبد الرحمن من الكاذبين والمعروفين» .
أقول: لا أدري أوهم الأستاذ؟ «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (2) .؟!
209- محمد بن العباس بن حيوية أبو عمر الخزاز. راجع «الطليعة» ص 40 - 41.
حاول الأستاذ في «الترحيب» ص 38 - 40 أن يجيب فتغافل عن الدليل الواضح وهو أن الذي في الحكاية «أبو الحسن أبو الرزاز» وصاحب هذا الاسم موجود وهو علي بن موسى فكيف يعدل عنه إلى من لم يذكر بهذا الاسم أصلا وهو علي بن أحمد فإنه وإن كان يكنى أبا الحسن فإنما تكرر وصفه في ترجمته وغيرها مرارا كثيرة بأنه «الرزاز» وذكروا أنه كان له دكان يبيع فيه الأرز ولم
__________
(1) محمد بن سليمان الباغندي - يأتي في ترجمته ابنه محمد بن محمد. محمد بن شجاع ابن الثلجي - تقدم بعض ما يتعلق به في ترجمته حماد بن سلمة.
(2) النجم: 37(2/682)
يوصف قط بأنه «ابن الرزاز» . وذهب الأستاذ يصارع ما ذكرت من أن علي بن أحمد أصغر من ابن حيويه بأربعين سنة ولا تعرف بأنهما علاقة، فذكر «أنهما من أهل بغداد وعاشا هناك متعاصرين سبعا وأربعين سنة فماذا كان يمنع هذا من الاجتماع بذاك؟» .
أقول: أنا لم أدع امتناع الاجتماع وإنما بينت أن مما يرجح أن المراد في الحكاية ابن الرزاز وهو علي بن موسى أنه من شيوخ ابن حيويه بخلاف الرزاز وهو علي بن أحمد فإنه أصغر منه ولا تعرف له به علاقة. وأزيد الأمر إيضاحا فأقول:
عبارة الأزهري: «كان أبو عمر بن حيوي مكثرا، وكان فيه تسامح، لربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن ابن الرزاز لثقته بذلك الكتاب، وإن لم يكن فيه سماعا، وكان مع ذلك ثقة» . ويأخذ منها مع ما تقدم أمور:
الأول: أنها تقتضي أن ذاك الكتاب كان في متناول ابن حيويه في كثير من الأوقات واحتمال أن يكون كتاب علي بن موسى أبي الحسن بن الرزاز صار بعد وفاته إلى تلاميذه ابن حيويه فكان متناوله ن أقرب من احتمال أن يكون الكتاب علي بن أحمد الرزاز الذي ولد بعد ابن حيويه بأربعين سنة ولا تعرف بأنهما علاقة كان يكون في متناول ابن حيوي. وهذه الأقربية لا يدفعها احتمال اجتماع ابن حيويه بعلي أحمد الرزاز.
الأمر الثاني: أن في عبارة الأزهري: «لثقته بذلك الكتاب» وابن حيويه يصفه الأزهري في العبارة نفسها بأنه ثقة. ويصفه العتيقي بأنه «كان ثقة صالحا دينا» وبأنه «كان ثقة متيقظا» ويصفه بأنه البرقاني بأنه «ثقة ثبت حجة» ومن كانت هذه صفته فاحتمال أن يثق بكتاب أستاذه الذي كان فاضلا أديبا ثقة ولعله قد قابل بأصله أقرب من احتمال أن يثق بكتاب من ولد بعده بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة.(2/683)
الأمر الثالث: عبارة الأزهري تقتضي أنه لم يتفق لابن حيويه القراءة من غير أصله إلا من ذاك الكتاب، واقتصاره الوثوق بغير أصله على كتاب لأستاذه معقول بخلاف اقتصاره على كتاب لإنسان أصغر منه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة، فلو كان ابن حيويه يتساهل بالقراءة من كتاب لعلي بن أحمد لتساهل بالقراءة من كتب جماعة أكبر من علي بن أحمد
وأوثق وعلاقتهم بابن حيويه معروفة.
الأمر الرابع: إطلاق البرقاني مع إمامته وجلالته والعتيقي مع ثقته وتيقظه ذاك الثناء البالغ على ابن حيويه يدل على أنه لم يكن منه تساهل يخدش فيما أثنيا عليه به، والأزهري وإن ذكر التساهل فقد عقب بقوله: «وكان من ذلك ثقة» وهذا يقضي أنه أن ساغ أن يسمى ما وقع منه تساهلا فهو تساهل عرفي لا يخدش في الثقة والتيقظ والحجة، وهذا إنما يكون بفرض أن ذاك الكتاب الذي قرأ منه كان موثوقا به وبمطابقته لأصل ابن حيويه، وإنما فيه أنه ليس هو أصله الذي كتب عليه سماعه وقد كانوا يكرهون مثل هذا وذلك من باب سد الذريعة، فأما أن يثق بكتاب لأصغر منه بأربعين سنة ولا تعرف بينهما علاقة ولا يوثق بمطابقته لأصله فعباراتهم تدفع هذا أشد الدفع.
قال الأستاذ: «رواية الخزاز لو كانت عن كتاب أحد شيوخه لكانت رواياته من أصل شيخه ولما كان يرمي بالتسامح» .
أقول: علي بن موسى أبو الحسن ابن الرزاز شيخ الخزاز حتماً، ثم هناك احتمالان:
الأول: أن يكون شيخه في ذاك الكتاب.
الثاني: أن لا يكون شيخه فيه وإنما سمعه الخزاز من رجل آخر.
فعلى الأول وهو الذي بنى عليه الأستاذ فصورة التساهل موجودة فإنه من المقرر عندهم أن التلميذ إذا سمع وضبط أصله ثم بعد مدة وجد في أصل شيخه زيادة أو(2/684)
مخالفة لما في أصله لم يكن له أن يروي إلا ما في أصله، وقد قال حمزة السهمي في «تاريخ جر جان» ص 122 - 123 «أخبرنا أبو أحمد بن عدي ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. - في كتابي بخطي: عثراتهم. - ورأيت في كتاب ابن عدي بخطه: عقوبتهم» فلو أن حمزة أنه روى ذاك الحديث وقال: «عقوبتهم 99 ثم رأى أهل العلم أصله وفيه «عثراتهم» فراجعه في ذلك فقال: نعم، ولكن بعد سماعي بمدة رأيت في أصل شيخي «عقوبتهم» لعدوا هذا تساهلا. ومن روى من أصل شيخه لا يؤمن أن يقع في نحو هذا إلا إذا كان قد كرر مقابلا حتى وثق كل الوثوق بالمطابقة، وأولى به وإن وثق كل الوثوق أن لا يروي إلا من أصله نفسه فإن كان الخزاز سمع ذاك الكتاب ومن أبي الحسن ابن الرزاز فتساهله هو ترك الأولى كما عرفت. وعلى الاحتمال الثاني لا يكون للخزاز أن يروي من كتاب ليس هو أصله ولا أصل شيخه إلا أن يقابله بأصله مقابلة دقيقة فيثق بمطابقته لأصله، ومع ذلك فالأولى به أن لا يروي إلا من أصله، وعلى هذا فتساهل الخزاز هو في ترك الأولى كما اقتضته عباراتهم في الثناء عليه كما مر.
قال الأستاذ: «وكان ينبغي أن يذكر في السند اسم شيخه الذي ناوله أصله، وليس بمعقول أن يهمل التلميذ ذكر شيخه في سند ما حمله وتلقاه بطريقه» .
أقول: هذا مبني على الاحتمال الأول وأن لا يكون الخزاز سمع الكتاب أصلا وإنما ناوله إياه ابن الرزاز، والذي نقوله إنه كان على الاحتمال الأول فالخزاز سمع ذاك الكتاب سماعا من ابن الرزاز، وإلا لغمزوه بأنه يعتمد على الإجازة بل عبارة الأزهري نفسه تصرح بهذا فإن فيها «ربما أراد أن يقرأ شيئا ولا يقرب أصله منه فيقرؤه من كتاب أبي الحسن بن الرزاز» وهذا يدل أن له أصلا بذاك المصنف غير ذاك الكتاب، إلا أنه لم يقرب منه ولو كان إنما يرويه بمناولة الشيخ ذاك الكتاب لما كان له أصل آخر. ثم إن كان سمع ذاك المصنف من ابن الرزاز فقد كان إذا قرأ منه قال: «أخبرنا أبو الحسن ابن الرزاز» ثم يقرأ من الكتاب، وإن كان إنما سمعه من غير ابن الرزاز فإنما كان يذكر اسم شيخه في ذاك المصنف(2/685)
ولا معنى لذكر ابن الرزاز. فإن بنى الأستاذ على الاحتمال الأول وقال: لكني لم أر في (تاريخ الخطيب) شيئا رواه الخطيب من طريق الخزاز عن ابن الرزاز. قلت: أما كونه شيخه، فقد صرح به الخطيب؛ وأما اجتناب الخطيب أن يروي من طريق الخزاز عن ابن الرزاز فذلك من كمال احتياط الخطيب وتثبته البارع لم تطب نفسه أن يروي من ذاك الوجه الذي قد قيل فيه، وإن كان ذاك القيل لا يضر. والله أعلم.
210- محمد بن عبد الله بن أبان أبو بكر الهيتي. في (تاريخ بغداد) 13 / 382 «أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبان الهيتي حدثنا أحمد بن سلمان النجاد حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: قلت لأبي: كان أبو حنيفة استتيب؟ قال: نعم» . قال الأستاذ ص 65 «كان مغفلا مع خلوه من علم الحديث كما يقول الخطيب» .
أقول: أول عبارة الخطيب: «كانت أصول أبي بكر الهيتي سقيمة كثيرة الخطأ أي أنه كان شيخا مستورا صالحا فقيرا مقلا معروفا بالخير وكان مغفلا ... » والخطيب معروف بالتيقظ والتثبت فلم يكن ليروي عن هذا الرجل إلا ما يثق بصحته، وقضية الاستتابة متواترة.
211- محمد بن عبد الله بن إبراهيم أبو بكر الشافعي. قال الأستاذ ص 111 «يكثر المصنف عنه جدا في مثالب أبي حنيفة وكان كلفا بأن يدعى بالشافعي وليس له عمل في مذهب الشافعي غير النيل من فقيه الملة بالرواية عن مجاهيل وكذابين في مثالبه ... وأنت تعلم أن كثيرا من النقاد لا يقبل كلام الناس بعضهم في بعض عند اختلاف مذاهبهم ... حتى أن الإمام الشافعي لا يقبل شهادة المتعصب» .(2/686)
أقول: قد تتبعت تلك الروايات فلم أر في شيوخه فيها كذابين ولا مجاهيل إنما له رواية واحدة عن الكديمي، والكديمي قد وثقه بعضهم، وأطلق بعضهم تكذبيه، وروايتان أخريان عن رجل لم أظفر بترجمته، وآخر لم أظفر بترجمته، وسائر رواياته عن الثقات المعروفين، ولم يعرف هذا الرجل بتعصب، وأما قضية اختلاف المذاهب وزعم أن الشافعي يرد شهادة المتعصب فقد مر تحقيقه في القواعد. وأبو بكر ثقة حافظ متفق على توثيقه وتثبيته راجع ترجمته في (تاريخ بغداد) و (تذكرة الحفاظ) .
212- محمد بن عبد الله سليمان الحضرمي الحافظ، لقبه «مُطين» تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة عامر بن إسماعيل. قال الأستاذ ص 38: «تكلم فيه بن أبي شيبة» .
يعني محمد بن عثمان بن أبي شيبة وستأتي ترجمته وقول الأستاذ فيه: «الكذاب كذبه غير واحد» ! وقوله: «الكذاب مكشوف الأمر» فإن كانت هذه أو نصفها حاله عنده فكيف يعتد بكلامه في هذا الحافظ الجليل الذي قال فيه الدارقطني: «ثقة جبل» والأستاذ يعلم أنه كانت بين الرجلين ثغرة شديدة وهو يكرر الرواية بما دونها، فكيف لا يرد بها قول أحدهما في الآخر! على أن ذاك الكلام ليس فيه بحمد الله ما يقدح، لكن غير الأستاذ يلام على تشبته بما يعلم بطلانه!!
213- محمد بن عبد الله بن الحكم. مرت روايته في ترجمة الشافعي. قال الأستاذ ص 137: «لا أتكلم ... ولا بنقل ما قاله الحميدي والربيع المؤذن في ابن عبد الحكيم ... » .
أقول: أما كلمة الحميدي في ابن عبد الحكم فهي ككلمة ابن عبد الحكم في الحميدي، فلتة لسان عند استحقاق غضب كما سبق في ترجمة الحميدي فلا تضر ذا ولا ذاك كما سبق في القواعد. وأما مقالة الربيع فقد أجاب عنها أهل العلم كما في(2/687)
(التهذيب) وغيره. ووثقوا ابن عبد الحكم.
214- محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي الحافظ. في (تاريخ بغداد) 13 / 407 من طريق «الحسين بن إدريس قال ابن عمار: إذا شككت في شيء نظرت إلى ما قال أبو حنيفة ... » قال الأستاذ ص 133: «قال ابن عدي: رأيت أبا يعلي سيئ القول فيه ويقول شهد على خالي بالزور عن أهل الموصل أفراد وغرائب. اهـ وأبو يعلي الموصلي من أعرف الناس به، وكلامه قاض على كلام الآخرين» .
أقول: آخر ما حكاه ابن عدي عن أبي يعلي قوله «بالزور» ، ثم قال ابن عدي: «وابن عمار ثقة حسن الحديث عن أهل الموصل معافى بن عمران وغيره وعنده عنهم أفراد وغرائب وقد شهد أحمد بن حنبل أنه رآه عند يحيى القطان ولم أر أحدا من مشايخنا يذكره بغير الجميل، وهو عندهم ثقة» ووثقه وأثنى عليه جماعة كثيرة، فأما أبو يعلي فكانت بينه وبين ابن عمار مباعدة ما في المذهب كما يدل عليه عكوف أبي يعلي على سماع كتب أهل الرأي من بشر بن الوليد، وردفتها كدورة عائلية كما يدل عليه قول أبي يعلي: «شهد خالي بالزور» وهذه كلمة مرسلة لم يبين ما هو الزور؟ ومن أين عرف أبو يعلي أنه زور؟ وعلى فرض تحققه ذلك فهل تعمد ابن عمار الشهادة بالباطل أو أخطأ؟ وإعراض الناس - ومنهم ابن عدي حاكي الكلمة عن أبي يعلي - عن كلمته يبين أنها كلمة طائشة لا تستحق أن يلتفت إليها. وابن عمار أكبر من أبي يعلي بنحو خمسين سنة فلعل أبا يعلي سمع خاله - ومن خاله؟ - يقول: شهد على ابن عمار بالزور فأخذها أبو يعلي ولم يحققها، وقدمنا في القواعد في القواعد أنه إذا ظهر أن بين الرجلين ثغرة لم يقبل ما يقوله أحدهما في الآخر إلا مفسرا محققا مثبتا، ويتأكد ذلك بإعراض الناس عن كلمة أبي يعلي وإجماعهم على توثيق ابن عمار. فأما الغرائب فقد دلت كلمة ابن عدي على أنها غرائب صحاح ولهذا ذكرها في صدد المدح، فحوله الكوثري إلى القدح. والله المستعان.
215- محمد بن عبد الله بن محمد بن حموديه أبو عبد الله الضبي الحاكم(2/688)
النيسابوري.
قال الأستاذ ص 70: «اختلط في آخره اختلاطا شنيعا على تعصبه البالغ» وقال ص 149: «شديد التعصب اختلط في آخره، ويقال عنه أنه كان رافضيا خبيثا» .
أقول: أما التعصب فإن كان للحاكم طرف منه ففي تشيعه الخفيف، وأما على أهل الرأي فلم يعرف بتعصب وقد سبق حكم التعصب في المقدمة، وأما قول بعضهم «إمام في الحديث رافضي خبيث» فقد أجاب عنهما الذهبي في (الميزان) قال: «إن الله يحب الإنصاف ما الرجل برافضي، بل شيعي فقط» . وتذكرني هذه الكلمة ما حكوه أن الصاحب ابن عباد كتب إلى قاضي قم:
أيها القاضي بقم ... قد عزلناك فقم
فقال القاضي: ما عزلتني إلا هذه السجعة. وأما قول الكوثري «اختلط ... اختلاطا شنيعا فمجازفة، بل لم يختلط، وإنما قال ابن حجر في (اللسان) بعد أن ذكر ما في (المستدرك) من التساهل: «قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه (المستدرك) كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب (الضعفاء) له وقطع بترك الرواية عنهم ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في (مستدركه) وصححها» ولعل المراد بقوله «ذكر بعضهم» ما في «تذكرة الحفاظ» وهذا لا يستلزم الغفلة، ومع ذلك قوله «تغيير وغفلة» لا يؤدي معنى الاختلاط، فكيف الاختلاط الشنيع؟ وقد رأيت في (المستدرك) المطبوع إثبات تواريخ السماع على الحاكم في أوله أي ج 1 ص 2 ثم ص 36، ص 69 فـ ص 94 فـ ص 129 فص 163، وتاريخ الأول سابع المحرم سنة 393 (1) ، والثاني بعد ثلاثة أشهر
__________
(1) وقع في موضعين من المواضع المشار إليها من «المستدرك» وهما ص 2 و94 سنة ثلاث وسبعين، وهذا خطأ مطبعي، ولذلك لم يعرج عليه مؤلف رحمه الله تعالى. ن.(2/689)
تقريبا، وهكذا بعد كل ثلاثة أشهر يملي جزءا في نيف وثلاثين صفحة من مطبوع، ولم يستمر إثبات ذلك في جميع الكتب، وآخر ما وجدته فيه ج 3 ص 156 في غرة ذي القعدة سنة 402 وهذا يدل أن تلك الطريقة استمرت منتظمة إلى ذاك الموضع، فأما بعد ذلك فلا أعلم، فإنه لو بقي ذاك الانتظام لم يتم الكتاب ألا سنة 410 لكن الحاكم توفي سنة 405 وفي المجلد الرابع ص 249 ذكر الحاكم أول سند «أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ... » لكنه بلا تاريخ. هذا واقتصاره في كل ثلاثة أشهر على مجلس واحد يملي فيه جزء بذاك القدر يدل أنه أنما ألف الكتاب في تلك المدة، فكان الحكام مع اشتغاله بمؤلفات أخرى يشتغل بتأليف «المستدرك» والتزام أن يحضر في كل ثلاثة أشهر جزء ويخرجه للناس فيسمعونه إذا لو كان قد ألف الكتاب قبل ذلك وبيضه فلماذا يقتصر في أسماع الناس على يوم في كل ثلاثة أشهر؟ فأما إسراعه في أواخر فلعله فرغ من مصنفاته الأخرى التي كان يشتغل بها مع «المستدرك» فتفرغ لـ «المستدرك» وفي «فتح المغيث» ص 13 عند ذكر تساهل الحاكم في المستدرك «فيه عدة موضوعات حمله على تصحيحها إما التعصب لما رمي به من التشيع، وإما غيره فضلا عن الضعيف وغيره، بل يقال: أن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد حصلت له غفلة وتغير وأنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جدا لما فيه فأنه وجد عنده: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم» .
أقول: لا أرى الذنب للتشيع فإنه يتساهل في فضائل بقية الصحابة كالشيخين وغيرهم (1) وفي المطبوع ج 3 ص 156 «حدثنا الحاكم ... أمل غرة ذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة» وعادته كما تقدم أن يملي في المجلس جزء في بضع وثلاثين صفحه من المطبوع فقد أملى إلى نحو صفحة 190 من المجلد الثالث المطبوع وذلك أكثر من نصف الكتاب فأما الموضع الذي فيه ج 4 ص 349 فإنما فيه «أخبرنا ... » وليس فيه لفظ «إملاء» ولا ذكر التاريخ.
__________
(1) قلت: وفي غير الفضائل أيضا، مما يؤكد إن السبب ليس هو التعصب. ن.(2/690)
والذي يظهر لي في ما وقع في «المستدرك» من الخلل أن له عدة أسباب:
الأول: حرص الحاكم على الإكثار وقد قال في خطبة «المستدرك» : «قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على الألف جزء أو أقل أو أكثر كلها سقيمة غير صحيحة» فكان له هوى في الإكثار للرد على هؤلاء.
والثاني: أنه قد يقع حديث بسند عال أو يكون غريبا مما يتنافس فيه المحدثين فيحرص على إثباته وفي «تذكرة الحفاظ» ج 2 ص 270 «قال الحافظ أبو عبد الله الأخرم استعان بي السراج في تخريجه على «صحيح مسلم» أتحير من كثرة حديثه وحسن أصوله، وكان إذا وجد الخبر عاليا يقول: لا بد أن يكتبه «يعني في المستخرج» فأقول: ليس من شروط صاحبنا «يعني مسلما فشفعني فيه» . فعرض للحاكم نحو هذا كلما وجد عنده حديثنا يفرح بعلوه أو غرابته اشتهى أن يثبته في «المستدرك» .
الثالث: أنه لأجل السببين الأولين ولكي يخفف عن نفسه من التعب في البحث والنظر لم يلتزم أن لا يخرج ما له علة وأشار إلى ذلك، قال في الخطبة: «سألني جماعة ... أن أجمع كتابا: يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها إذ لا سبيل إلى إخراج مالا علة له فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما» ولم يصب في هذا فإن الشيخين ملتزمان أن لا يخرجا إلا ما غلب على ظنهما بعد النظر والبحث والتدبر أنه ليس له علة قادحة، وظاهر كلامه أنه لم يلتفت إلى العلل البتة وأنه يخرج ما كان رجاله مثل وإن لم يغلب على ظنه أنه ليس علة قادحة.
الرابع: أنه لأجل السببين الأولين توسع في معنى قوله: «بأسانيد يحتج ... بمثلها» ، فبنى على أن في رجال الصحيحين من فيه كلام فأخرج عن جماعة يعلم أن(2/691)
فيهم كلاما. ومحل التوسع أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة.
أحدها: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام لا يضره في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة.
الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقرونا أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك.
ثالثها: أن يريا أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما يسمع منه غير كتابه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس. فيخرجان للرجل حيث يصلح ولا يخرجان له حيث لا يصلح. وقصر الحاكم في مراعاة هذا وزاد فأخرج في مواضع لمن لم يخرجا ولا أحدهما له بناء على أنه نظير من قد أخرجا له، فلو قيل له: كيف أخرجت لهذا وهو متكلم فيه؟ لعله يجيب بأنهما قد أخرجا لفلان وفيه كلام قريب من الكلام في هذا ولو وفى بهذا لهان الخطب، لكنه لم يف به بل أخرج لجماعة هلكى.
الخامس: أنه شرع في تأليف (المستدرك) بعد أن بلغ عمره اثنتين وسبعين سنة وقد ضعفت ذاكرته كما تقدم عنه وكان فيما يظهر تحت يده كتب أخرى يصنفها مع (المستدرك) وقد استشعر قرب أجله فهو حريص على إتمام (المستدرك) وتلك المصنفات قبل موته، فقد يتوهم في الرجل يقع في السند أنهما أخرجا له، أو أنه فلان الذي أخرجا له، والواقع أنه رجل آخر، أو أنه لم يخرج أو نحو ذلك، وقد رأيت له في (المستدرك) عدة أوهام من هذا القبيل يجزم بها فيقول في الرجل: قد أخرج له مسلم، مثلا، مع أن مسلما إنما أخرج لرجل آخر شبيه اسمه، يقول في الرجل: فلان الواقع في السند هو فلان بن فلان. والصواب أنه غيره.
لكنه مع هذا كله لم يقع خلل ما في روايته لأنه إنما كان ينقل من أصوله المضبوطة، وإنما وقع الخلل في أحكامه ن فكل حديث في (المستدرك) فقد سمعه(2/692)
الحاكم كما هو، هذا هو القدر الذي تحصل به الثقة، فأما حكمه بأنه على شرط الشيخين، أو أنه صحيح، أو أن فلانا المذكور فيه صحابي، أو أنه هو فلان بن فلان، ونحو ذلك، فهذا قد وقع فيه (1) كثير من الخلل.
هذا وذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بـ (المستدرك) فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء مما فيها أعلم، وبهذا يتبين أن التشبث بما وقع له في (المستدرك) وبكلامهم فيه لأجله إن كان لإيجاب التروي في أحكامه التي في (المستدرك) فهو وجيه، وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير (المستدرك) في الجرح والتعديل ونحوه فلا وجه لذلك، بل حاله في ذلك إطراح ما قام الدليل على أنه أخطا فيه، وقبول ما عداه. والله الموفق.
216- محمد بن عبد الله بت محمد بن عبد الله أبو الفضل الشيباني. في (تاريخ بغداد) 13 / 396: «أخبرني الأزهري حدثنا أبو الفضل الشيباني حدثنا عبد الله بن أحمد الجصاص ... » . قال الأستاذ ص 107: «كتبوا عنه ثم بان كذبه فتركوا حديثه كما في (تاريخ الخطيب) ج 5 ص 467» .
أقول: ذكروا أنه كان ذا هيئة وسمت حسن يحفظ فانتخب عليه الدارقطني سبعة عشر جزءا وسمعها الناس منه وقال الدارقطني: «يشبه الشيوخ» ثم روى عن ابن المراد شيئا، فقيل له: الأكبر أم الأصغر؟ فقال: الأكبر. فقيل له: متى سمعت منه؟ فقال: سنة 310. فبلغ ذلك الدارقطني، فكذبه في ذلك وتركوا السماع منه، ثم فسد بعد ذلك فانضم إلى الرافضة، وصار يضع لهم على ما قال الخطيب. والأزهري الذي روى الخطيب هنا عنه من هذا الرجل هو ممن حكى القصة، فإنما روى عنه من تلك الأجزاء التي انتخبها الدارقطني. والله المستعان (2) .
__________
(1) الأصل «في» ن.
(2) محمد بن عبد الوهاب الفراء. راجع (الطليعة) ص 46 - 48(2/693)
217- محمد بن عبيد الطنافسي. قال الأستاذ في (الترحيب) ص 37: «يقول فيه أحمد: يخطئ. ولا يرجع عن خطئه» .
أقول: الظاهر أن خطأه إنما كان في اللحن فقد وصف بأنه يلحن، فأما الثقة، فقد وثقه أحمد نفسه، وابن معين وابن عمار والنسائي والعجلي وابن سعد والدارقطني وغيرهم، وقال ابن المديني: «كان كيسا» ، واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وبقية الأئمة. وانظر ما يأتي في ترجمة المسيب بن واضح.
218- محمد بن أبي عتاب أبو بكر الأعين. مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمد بن إبراهيم بن جناد. قال الأستاذ ص 158: «لم يكن من أهل الحديث، كما قال ابن معين» .
أقول: هذه كلمة مجملة، وقد فسرها الخطيب بقوله: «يعني لم يكن بالحافظ للطرق والعلل، وأما الصدق فلم يكن مدفوعا عنه» . وقال الأمام أحمد: «رحمه الله تعالى، مات ولا يعرف إلا الحديث، ولم يكن صاحب كلام، وإني لأغبطه» ، وذكره ابن حبان في (الثقات) وأخرج له مسلم في مقدمة (صحيحه) ولروايته المشار إليها شواهد كثيرة.
219- محمد بن عثمان بن أبي شيبة. جاءت عنه كلمة مرت الإشارة إلى موضعها في ترجمة راويها عنه طريف بن عبيد الله، وفي (تاريخ بغداد) 13 / 420: «أخبرنا ابن رزق معين وسئل عن أبي حنيفة فقال: كان يضعف في الحديث» . قال الأستاذ ص 147: «المجسم الكذاب كذبه غير واحد» وقال ص 168: «كذاب مكشوف الأمر» .
أقول: أما ما يسميه الأستاذ تجسيما مما يجرح به كما مر في القواعد، وقد بسطت الكلام في قسم الاعتقاديات من هذا الكتاب. وأما التكذيب فإنه تفرد بنقله أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة وليس بعمدة(2/694)
كما تقدم في ترجمته، وتقدم في ترجمة محمد بن الحسين أنه لا يقبل من ابن عقدة ما ينقله من الجرح، ولا سيما إذا كان في مخالفة في المذهب كما هنا. ويؤكد ذلك هنا أن ابن عقدة نقل التكذيب عن عشرة مشهورين من أهل الحديث وتفرد بذلك كله فيما اعلم فلم يرو غيره عن أحد منهم تكذيب محمد بن عثمان ن وقد كان محمد ببغداد وبغاية الشهرة كثير الخصوم فتفرد ابن عقدة عن أولئك العشرة كاف لتوهين نقله. وقد كانت بين محمد بن عثمان ومحمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي مطين مشاقة ساق الخطيب بعض خبرها عن الحافظ أبي نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني الذي توسط بينهما، ثم قال أبو نعيم: «طهر لي أن الصواب الإمساك عن قبول كل واحد منهما في صاحبه» . وليس في القصة ما هو بين في التكذيب. وذكر الخطيب عن حمزة السهمي أنه سأل الدارقطني عن محمد بن عثمان؟ فقال: «كان يقال: أخذ كتاب ابن أبي أنس وكتب غير محدث» وليس في هذا ما هو بين في الجرح لأنه لا يدري من القائل؟ ولا أن محمدا أخذ الكتب بغير حق، أو روى منها بغير حق، والحافظ العرف قد يشتري كتب غيره ليطالعها، كما كان الإمام أحمد يطلب كتب الواقدي وينظر فيها. وقال الخطيب: «سألت البرقاني عن ابن أبي شيبة فقال: لم أزل اسمع الشيوخ يذكرون أنه مقدوح فيه» . وليس في هذا ما يوجب الجرح، غذ لم يبين من هو القادح وما هو قدحه؟ وكأن ذلك إشارة إلى كلام مطين ونقل ابن عقدة، وقد مر ما في ذلك. وروى الخطيب عن ابن المنادي قال: «أكثر الناس عنه على اضطراب فيه ... كنا نسمع شيوخ أهل الحديث وكهولهم يقولون: مات حديث الكوفة بموت موسى بن إسحاق ومحمد بن عثمان واني جعفر الحضرمي وعبيد بن غنام» واضطرابه في بعض حديثه ليس بموجب جرحا.
وقال الخطيب أول الترجمة: «كان كثير الحديث واسع الرواية له معرفة وفهم ... سئل أبو علي صالح بن محمد عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة؟ فقال: ثقة. سئل عبدان عن ابن عثمان بن أبي شيبة فقال: ما علمنا إلا خيرا» وفي (الميزان) و (اللسان) : «قال ابن عدي: لم أر له حديثا منكرا وهو على ما وصف لي عبدان(2/695)
لا بأس به» . وفي (اللسان) (ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال كتب عنه أصحابنا ... وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به كتب الناس عنه ولا أعلم أحدا تركه» . وذكر الأستاذ ص 63 حكاية من (شرح السنة) جاءت من طريق محمد بن عثمان وفيها زيادة هن خالد بن نافع، وراح الأستاذ يتكلم فيها ويحمل على محمد بن عثمان. فأما زيادة خالد بن نافع إن قام الدليل على بطلان ما فيها فالذنب لخالد وأما بقية الحكاية فإنما الإيهام في سياقها، فإنه يوهم أن حمادا شهد عند ابن أبي ليلى بعد ولايته القضاء، والذي تبينه الروايات الأخرى أن حمادا كان يذكر ذلك ثم بعد موت حماد رفعت القضية إلى ابن أبي ليلى وشهد ناس بمثل ما يذكره حماد، وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يهم، فما من ثقة إلا وقد أخطأ، وإنما شرط الثقة أن يكون صدوقا الغالب عليه الصواب، فإذا كان فما تبين أنه أخطأ فيه اطرح، وقبل ما عداه. والله الموفق.
220- محمد بن علي أبو جعفر الوراق، لقبه حمدان. في (تاريخ بغداد) 13 / 393 من طريق أبي بكر الشافعي «حدثنا محمد بن علي أبو جعفر حدثنا أبو سلمة ... » قال الأستاذ ص 96: «هو حمدان الوراق حنبلي جلد من أصحاب أحمد» .
أقول: بحسب حمدان من الفضل أن لا يجد هذا الطعان ما يذمه به إلا نسبته إلى السنة وإمامها. والحمد لله الذي أنطق الكوثري بتلك الكلمة فإنها مما يكشف تمويه الجهمية، ويهتك الحجب التي سدلوها بين المسلمين وكتاب ربهم وسنة نبيهم وإمامهم الحق.
ولحمدان ترجمة في (تذكرة الحفاظ) ج 2 ص 152 قال: «الحافظ المتقن ... قال الخطيب: كان فاضلا حافظا عارفا ثقة، روى ابن شاهين عن أبيه قال: كان من نبلاء أصحاب أحمد، وقال ابن المنادي: حمدان بن علي مشهود له الفضل والصلاح والصدق ... وقال الدارقطني: ثقة» .(2/696)
221- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق. راجع (الطليعة) ص 108 قال الأستاذ في (الترحيب) ص 50: «أما قولي في محمد بن علي بن الحسن بن شقيق: ليس بالقوي فيكفي في إثباته إعراض الشيخين عن إخراج حديثه في (الصحيح) مع روايتهما عنه خارج (الصحيح) » .
أقول: ليس هذا بشيء، من شأنهما في (الصحيح) أن يتطلبا العلو ما وجدوا إليه سبيلا، ولا يرضيان بالنزول إلا أن يتفق لهما حديث صحيح تشتد الحاجة إلى ذكره في (الصحيح) ولا يقع لهما إلا بنزول. فلم يتفق لهما ذلك هنا، وهذا الرجل سنه قريب من سنهما فروايتهما عنه نزول، وهناك وجوه أخر لعدم إخراجها للرجل في الصحيح، راجع ترجمة إبراهيم بن شماس ولهذا لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجها للرجل في الصحيح، راجع ترجمة إبراهيم بن شماس ولهذا لم يلتفت المحققون إلى عدم إخراجها فلم يعدوا عدم إخراجهما الحديث دليلا على عدم صحته، ولا عدم إخراجها للرجل دليلا على لينه. ومحمد هذا وثقه النسائي، والنسائي ممن قد يفوق الشيخين في التشدد كما نبهوا عليه في ترجمته، ووثقه غيره أيضا، وروى عنه أبو حاتم وقال: «صدوق» وأبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في لسان الميزان (ج 2 ص 416) ، وبقي بن مخلد وهو لا يروي إلا عن ثقة كما مر في ترجمة أحمد بن سعد، وابن خزيمة وهو لا يروي في (صحيحه) إلا عن ثقة. والله الموفق.
222- محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي. في (تاريخ بغداد) 13 / 413 حكاية من طريقة. قال الأستاذ ص 147: «أحد السالمية ويقول عنه الخطيب: إن له أشياء منكرة في الصفات. ثم روى عنه» .
أقول: عبارة الخطيب ج 3 ص 89: «صنف كتابا سماه (قوت القلوب) على لسان الصوفية ذكر فيه أشياء منكرة مستشنعة في الصفات ... قال العتيقي: وكان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة» .
أقول: يراجع كتابه فقد يكون المستنكر إنما هو من رأيه، لا روايته، فإذا كان(2/697)
كذلك فقد مر تحقيقه في القواعد.
223- محمد بن علي البلخي. في (تاريخ بغداد) 13 / 409: أخبرنا أبو حازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي الحافظ بنيسابور أخبرنا محمد بن أحمد بن الغطريف بجرجان حدثنا محمد بن علي البلخي حدثني محمد بن أحمد التميمي بمصر حدثني محمد بن جعفر الأسامي قال: كان أبو حنيفة يتهم شيطان الطاق ... » .
حكى الأستاذ هذه العبارة ص 135 وزاد فيها قبل بن محمد بن جعفر «عبد الله بن» بين قوسين يعني أن الصواب « ... بمصر حدثني عبد الله بن محمد بن جعفر الأسامي ... » ثم قال: «محمد بن علي بن الحسن البلخي الهروي يغلب على رواياته المناكير ومحمد بن أحمد التميمي العامري المصري كان كذابا يروي نسخة موضوعة كما قال ابن يونس وبالنظر إلى أن وفاته سنة 343 لا يكون شيخه ولد إلا في النصف الأخير من المائة الثالثة فيكون بين محمد ابن جعفر الأسامي شيخه وبين شيطان الطاق المعاصر لأبي حنيفة زمان» .
أقول: البلخي الذي ذكره الأستاذ يقال له: «الجباخاني» توفي سنة 357 فكأنه أصغر من الغطريفي فإن مولد الغطريفي قديم فقد سمع من الحسن بن سفيان المتوفى 303 ونحوه. ومحمد بن أحمد الذي تكلم فيه ابن يونس هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الجبار بن هاشم بن عبد الجبار ابن عبد الرحمن بن عيسى بن وردان الورداني العامري المصري، لم يذكروا أنه يقال له: «التميمي» والذي في سند الخطيب «التميمي» وليس فيه «العامري» والتميمي والعامري لا يجتمعان في حاق النسب، زد على هذا أن العامري توفى سنة 343 فسنه قريب من سن الغطريفي والجباخاني - هذا وفي السند قول التميمي: «حدثني محمد بن جعفر الأسامي» .
فإن كان الأستاذ أومأ بزيادته إلى أنه عبد الله بن محمد بن أسامة الأسامي المذكور في (الميزان) و (اللسان) فلا أرى العامري أدركه لأن عبد الله يروي عن الليث بن سعد المتوفى سنة 175 وابن لهيعة المتوفى قبل ذلك، وإن أراد أن شيخ العامري هو والد عبد الله هذا فذلك أبعده مع أنه محمد بن أسامة، لا محمد بن جعفر.(2/698)
فالحاصل أننا لم نعرف التميمي ولا الأسامي ولم نتحقق من هو البلخي؟ والله اعلم.
224- محمد بن علي أبو العلاء الواسطي القاضي. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمد بن عثمان بن أبي شيبة. قال الأستاذ ص 147: «وهذا أيضا في عداد المحفوظ عند النقلة في النظر الخطيب نع أنه هو الذي يقول عن أبي العلاء الواسطي: رأيت له أصولا مضطربة وأشياء سماعه فيها مفسود إما مصلح بالقلم وإما مكشوط بالسكين، وقد انفرد برواية المسلسل بأخذ اليد» .
أقول: أما القضية المحفوظ فقد أجبنا عنها في ترجمة الخطيب، وأما ما وقع في أصول أبي العلاء فالخطيب هو الذي حقق ذلك، فالظن به أنه انتقى من مرويات أبي العلاء ما تبين له صحة سماعه فذاك هو الذي يرويه عنه، وأما المسلسل فقد بين أبو العلاء وهمه فيه ورجع عنه كما ذكره الخطيب. وقال ابن حجر في (اللسان) : «الذي يظهر لي ... أنه وهم في أشياء بين الخطيب بعضها، وأما كونه اتهم بها أو ببعضها فليس هذا مذكورا في تاريخ الخطيب ولا غيره ... وفي الجملة فأبو العلاء لا يعتمد على حفظه فأما كونه متهماً فلا» .
أقول: قد يقال: إنه اتهم في دعوى السماع، وإن لم يتهم بالوضع. والله أعلم.
225- محمد بن عمر بن محمد بن بهتة. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة ابن عقدة. قال الأستاذ ص 78: «شيعي لا يرضاه الخطيب» .
أقول: إنما قال الخطيب «سألت البرقاني عن ابن بهتة فقال: لا بأس: لا بأس به إلا أنه كان يذكر أن في مذهبه شيئا، ويقولون: هو طالبي. قلت للبرقاني تعني بذلك أنه شيعي، قال نعم. أخبرنا أحمد بن محمد بن محمد العتيقي قال سنة 274 فيها توفي أبو الحسن محمد بن عمر بهتة في رجب وكان ثقة» . فقد ثبت التوثيق ولم يثبت ما ينافيه. (1)
__________
(1) محمد بن عمر بن وليد راجع (الطليعة) ص 35 - 37.(2/699)
226- محمد بن عمرو العقيلي الحافظ. قال الأستاذ ص 150: «ذلك المتعصب الخاسر» وقال ص 163: «لا نستطيع أن نثق بمثل الخطيب ولا بمثل العقيلي بعد أن شاهدنا منهما ما شاهدناه» .
أقول: لا حرج أن نتسامح مع الأستاذ فنقول: قد كان في العقيلي تشدد ما فينبغي التثبيت فيما يقول من عند نفسه في مظان تشدده، فأما روايته فهي مقبولة على كل حال وقد تقدم إيضاح ذلك في القواعد، فأما الخسران فالعقيلي بعيد عنه بحمد الله، وأما قوله: «لا نستطيع أن نثق» فليس الأستاذ بأول من غلبه هواه!
227- محمد بن عوف. تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة إسماعيل بن عياش قال الأستاذ ص 100 «مجهول لأنه ليس أبا جعفر الطائي الحمصي الحافظ لتأخر ميلاده عن وفاة إسماعيل بن عياش» .
أقول: لم يتضح لي أمره ولعله وقع في السند سقط والحكاية ثابتة من وجوه أخرى.
228- محمد بن الفضل السدوسي المشهور بعارم. في (تاريخ بغداد) 13 / 392 من طريق الآبار وحدثنا عن الحسن بن علي الحلواني «حدثنا يزيد بن هارون عن حماد ... ح ... الآبار وحدثنا أبو موسى عيسى بن عامر حدثنا عارم عن حماد ... » ثم ساق الخطيب نحو ذلك من طريق إبراهيم بن الحجاج عن حماد بن زيد. قال الأستاذ ص 94: «عارم - محمد ابن الفضل اختلط اختلاطا شديدا بعد سنة 220 وعيسى بن عامر ممن سمع منه بعد ذلك» .
أقول: أما هذه الحكاية فقد تابع عارما عليها ثقتان كما رأيت، وأما سماع عيسى من عارم بعد اختلاطه فلم يثبته الأستاذ، وقد قال الدارقطني في عارم: «تغير بأخرة وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر وهو ثقة» وخالفه ابن حبان فرد عليه(2/700)
الذهبي كما في (الميزان) (1) .
229- محمد بن فليح بن سليمان. مرت الإشارة إلى حكايته في ترجمة سليمان بن فليح قال الأستاذ ص 62: «يقول عنه ابن معين: إنه ليس بثقة» .
أقول: روى أبو حاتم عن معاوية بن صالح عن ابن معين: «فليح بن سليمان ليس بثقة، ولا ابنه» . فسئل أبو حاتم فقال: «ما به بأس، ليس بذاك القوى» وقد اختلفت كلمات ابن معين في فليح قال مرة: «ليس بالقوي ولا يحتج بحديثه، هو دون الدراوردي» وقال مرة: «ضعيف ما أقربه من أبي أويس» وقال مرة: «أبو أويس مثل فليح: صدوق وليس بحجة» . فهذا كله يدل أن قوله في الرواية الأولى: «ليس بثقة» ، إنما أراد أنه ليس بحيث يقال له ثقة وترداد الوطأة خفة في قوله: «ولا ابنه» فإنها أخف من أن يقال في الابن: «ليس بثقة» ويتأكد ذلك بأن محمد بن فليح روى عنه البخاري في (الصحيح) والنسائي في (السنن) وقال الدارقطني: «ثقة» وذكره ابن حبان في (الثقات) .
230- محمد بن كثير العبدي. في (تاريخ بغداد) 13 / 417 من طريق ابن أبي حاتم «حدثني أبي قال سمعت محمد بن كثير العبدي يقول: كنت عند سفيان الثوري فذكر حديثا فقال رجل حدثني فلان بغير هذا، فقال: من هو؟ قال: أبو حنيفة. قال: أحلتني على غير مليء» قال الأستاذ ص 161: «فيه يقول ابن معين: لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة» .
أقول: قال الإمام أحمد: «ثقة، لقد مات على سنة» وقال أبو حاتم مع تشدده:
__________
(1) محمد بن فضيل بن غزوان راجع (الطليعة) ص 76 - 77 وأبو هشام الرفاعي من رجال مسلم في (صحيحه) . المؤلف.
قلت: الرفاعي ليس له علاقة بما هنا، وإنما ب (الطليعة) . ن(2/701)
«صدوق» وأخرج له الشيخان في (الصحيحين) وبقية الستة روى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة كما تقدم في ترجمة أحمد بن سعد بن أبي مريم، وروى عنه أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما في (لسان الميزان) ج 2 ص 416 وقال ابن حبان في (الثقات) : «كان تقيا فاضلا» وهذا كله يدل أن ابن معين إنما أراد بقوله: «ليس بثقة» أنه ليس بالكامل في الثقة، فأما كلمة «لا تكتبوا عنه» فلم أجدها، نعم قال ابن الجنيد عن ابن معين: «كان في حديثه ألفاظ، كأنه ضعفه» قال: «ثم سألته عنه فقال: لم يكن لسائل أن يكتب عنه» وابن معين كغيره إذا لم يفسر الجرح وخالفه الأكثرون يرجح قولهم. ولهذه الحكاية عدة شواهد عند الخطيب وغيره.
231- محمد بن كثير المصيصي. تقدمت روايته في ترجمة علي بن زيد الفرائضي.
قال الأستاذ ص 111: «ضعفه أحمد عندي ثقة» هو أحمد أيضا لا أبو حاتم وقال أحمد عقبها: «بلغني أنه قيل له كيف سمعت من معمر؟ قال: سمعت منه باليمن، بعث بها إلي إنسان من اليمن» . فهذه حجة أحمد، حمل الحكاية على أن محمد بن كثير لم يسمع من معمر، وإنما بعث إليه أنسأن بصحيفة من اليمن فيها أحاديث عن معمر فظن محمد بن كثير أن ذلك يقوم مقام السماع من معمر. وليس هذا بالبين غذ قد يكون مراده «سمعت منه باليمن وتركت أصلي باليمن ثم بعث إلي» فأما أبو حاتم فإنما قال: «كان رجلا صالحا سكن المصيصة، وأصله من صنعاء اليمن، كان في حديثه بعض الإنكار» وقال أيضا: «سمعت الحسن بن الربيع يقول: محمد بن كثير اليوم أوثق الناس، وينبغي لمن يطلب الحديث لله تعالى أن يخرج إليه، كان يكتب عنه وأبو إسحاق الفزاري حي، وكان يعرف بالخير مذ كان» وقال ابن الجنيد عن ابن معين: «كان صدوقا» وقال عبيد بن محمد الكشوري عن ابن معين: «ثقة» وقال ابن سعد: «كان ثقة ويذكرون أنه اختلط في أواخر عمره» وقال ابن حبان في(2/702)
(الثقات) : «يخطئ ويغرب» وقال أبو داود: «لم يكن يفهم الحديث» . وقال أبو حاتم: «دفع إلى محمد بن كثير كتاب من حديثه عن الأوزاعي فكان يقول في كل حديث منها: ثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي» ! وقال الذهبي: «هذا تغفيل يسقط الراوي به» .
أقول: أما السقوط فلا، وقد انتقدوا عليه أحاديث ذكرها الذهبي في (الميزان) .
الأول: روى عن الثوري عن إسماعيل عن قيس عن جرير: أظنه - شك ابن كثير - فذكر حديثا. قالوا: الصواب بالسند عن قيس عن دكين. وقد شك محمد بن كثير وبين شكه وليس من شرط الثقة أن لا يشك.
الثاني: حديث في قراءة (يس) رفعه محمد بن كثير وصوبوا أنه مرسل، وهذا خطأ هين يحتمل للمكثر.
الثالث: حديث رواه عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن آبى هريرة مرفوعا: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه ... » رواه هكذا أبو داود من طريق محمد بن كثير، ورواه آخرون عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيد المقبري حدث عن أبيه ... » وليس في هذا ما يقطع به بالوهم، فإن كان وهم فمثله يحتمل للمكثر لأن الأوزاعي مما يروي عن ابن هذا ما عجلان عن سعيد المقبري.
الرابع: أخرج الترمذي عن الحسن بن الصباح عن محمد بن كثير - زاد في بعض النسخ: العبدي (؟) - عن الأوزاعي عن قتادة عن أنس قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فقال: هذان سيدا كهو ل الجنة ... » قال الترمذي: «حسن غريب من هذا الوجه» ثم أخرجه من حديث علي. وهذا الحديث ذكر في (الميزان) و (التهذيب) في ترجمة محمد بن كثير المصيصي وأنه أنكر عليه ن ذكر لابن المديني فقال: «كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ، فالآن لا أحب أن أراه» وأحسب أبا(2/703)
حاتم وابن حبان إنما أشارا إلى هذا الحديث إذ قال الأول: «في حديثه بعض الإنكار» وقال الثاني: «يغرب» والحديث مذكور من حديث علي رضي الله عنه، ووهم محمد بن كثير في إسناده لا يسقطه بل حقه أن يتقى ما يظهر أنه وهم فيه ن ويحتج به فيما توبع عليه، وينظر فيما تفرد به، وليس بمنكر. والله أعلم.
232- محمد بن محمد بن سليمان الباغندي وأبوه. تاريخ بغداد 13 / 371: «أخبرني الحسن بن محمد الخلال حدثنا محمد بن العباس الخزاز- وأخبرنا محمد بن أحمد بن حسنون الترسي أخبرنا موسى بن عيسى بن عبد الله السراج - قالا حدثنا محمد بن الباغندي حدثنا أبي قال: كنت عند عبد الله بن الزبير فأتاه كتاب أحمد بن حنبل: اكتب إلي بأشنع مسألة عن أبي حنيفة فكتب إليه: حدثني الحارث بن عميد قال: سمعت أبا حنيفة يقول ... » .
قال الأستاذ ص 37: « ... قال الدارقطني: كان كثير التدليس يحدث بما لم يسمع وربما سرق اهـ ... وكان إبراهيم بن الأصبهاني يكذبه، وكان الأب يكذب الابن، والابن الأب، وكثير من أهل النقد يصدقهما في تكذيب أحدهما الآخر ... ومن الدليل على بطلان الخبر من أسامة أن الحميدي مكي لم يجالس أصحاب أبي حنيفة ولا درس فقهه، وأحمد عراقي تفقه على أصحاب أبي حنيفة فمثل أحمد العراقي لا يسأل الحميدي المكي ... » .
أقول: أما خبر تكذيب كل منهما الآخر، فرواه الخطيب عن أبي العلاء محمد بن علي الواسطي وقد تقدمت ترجمته عن عبد الله بن إبراهيم الزبيبي (1) قال: قال أبو بكر أحمد بن أبي الطيب المؤدب ... وأبو بكر هذا لم أظفر بترجمته، فإن صحت الحكاية فالظاهر أن الأب إنما أنكر على الابن شدة التدليس الذي صورته كذب كما يأتي، فأما كلمة الابن ففلتة لسان عند سورة غضب فلا يعتد بها، والأب ذكره ابن حبان في (الثقات) وحكى السلمي عن الدارقطني أنه قال: «لا بأس به» ، وقال الخطيب: «مذكور بالضعف، ولا أعلم لأية علة ضعف فإن رواياته كلها مستقيمة
__________
(1) وقع في (التاريخ) «الزينبي» وهو تصحيف.(2/704)
ولا أعلم في حديثه منكرا» .
أقول: لعل ابن أبي الفوارس إنما ضعفه لأنه قد يخطئ كما وقع في هذه الحكاية جعلها من رواية الحميدي عن الحارث بن عمير والصواب: الحميدي عن حمزة بن الحارث بن عمير عن أبيه كما قاله حنبل بن إسحاق.
وأما الابن فقال الإسماعيلي: «لا أتهمه ولكنه خبيث التدليس» وقال ابن مظاهر: «هذا رجل لا يكذب ولكن يحمله الشره على أن يقول حدثنا» .
وروى الخطيب من طريق عمر بن الحسن بن علي وقد تقدمت ترجمته قال: «سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد بن أبي خيثمة وذكر عنده أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي فقال: ثقة كثير الحديث لو كان بالموصل لخرجتم إليه ولكنه منطرح إليكم ولا تريدونه» جزم الذهبي في (التذكرة) و (الميزان) وتبعه ابن حجر في (اللسان) بنسبة هذه الكلمة إلى محمد بن أحمد أبي خيثمة بناء على الوثوق بعمر بن الحسن وقد مرت ترجمته.
وقال الحاكم عن ابن المظفر: «الباغندي ثقة إمام لا ينكر منه إلا التدليس والأئمة دلسوا» وقال الخطيب: «لم يثبت من أمر ابن الباغندي ما يعاب به سوى التدليس ورأيت كافة شيوخنا يحتجون بحديثه ويخرجونه في الصحيح» وقال الذهبي بعد أن حكى كلمة ابن الأصبهاني: «بل هو صدوق من بحور الحديث» وقال ابن حجر في (طبقات المدلسين) ص 15: «مشهور بالتدليس مع الصدق والأمانة» .
أقول: هي قضية واحدة أطلق بعضهم أنها كذب وبعضهم أنها تحديث بما لم يسمع وبعضهم أنها تدليس خبيث. وهو أنه كان يطلق فيما أخذه من ثقة عن أبي بكر بن أبي شيبة مثلا «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة» ! وإذا قد عرف اصطلاحه في هذا فليس بكذب.
وفي (فتح المغيث) ص 75 نظائر قال: «كقول الحسن البصري خطبنا ابن عباس، و: خطبنا عتبة بن غزوان. وأراد أهل البصرة بلده فإنه لم يكن بها حين خطبتهما ونحوه في قوله: ثنا أبو هريرة. وقول طاوس: قدم علينا معاذ اليمن. وأراد أهل بلده فإنه لم يدركه» وقال: قبل ذلك: «بل وصف به من(2/705)
صرح بالإخبار في الإجازة كأبي نعيم والتحديث في الوجادة كإسحاق بن راشد الجزري وكذا فيما لم يسمعه كفطر بن خلفية ... وقال ابن عمار عن القطان: كان فطر صاحب ذي: سمعت، سمعت. يعني أنه يدلس فيما عداها» ولا شبهة في جواز مثل هذا لغة إذا كانت هناك قرينة، وقد خاطب الله تعالى اليهود في عصر محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» الآيات وفيها: «وإذ قلتم يا موسى» وفي (الصحيح) عن السائب بن يزيد: «كنا نؤتي بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... » . قال ابن حجر في (الفتح) : «وفيه إسناد القائل الفعل بصيغة الجمع التي هو فيها مجازا ... لأن السائب كان صغيرا جدا ... فكأن مراده بقول: كنا، أي الصحابة» . وكثيرا ما يقع في أشعار العرب: «قتلنا فلانا» وفعلنا وفعلنا، والفاعل غيره من قومه، فإذا كانت هناك قرينة تنقي الحقيقة أو تدافع ظهور الكلمة فيها خرجت عن الكذاب، ومن القرينة أن يعرف عن الرجل أنه مما يستعمل هذا وإن لم تكن هناك قرينة خاصة، اتكالا على هذه القرينة العامة وهي أنه مما يستعمل ذلك.
وأما قول الدارقطني: «ربما سرق» فكأنه أراد بها أنه قد يقول: «حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة» مثلا فيما لم يسمعه من أبي بكر ولا ممن سمعه من أبي بكر وإنما وجده في كتاب رجل سمعه من أبي يكر، كأن الدارقطني أخذ هذا من قصة حكاها عن ابن حنزابة وليست بالبينة في ذلك، وهب أن ذلك صح فالوجادة صحيحة من طرق التحمل فآل الأمر إلى التدليس، وقد دلت استقامة حديث الباغندي وخلوه عن المناكير على أنه كان لا يدلس إلا فيما لا شبهة في صحته عمن يسميه فلا يقول مثلا: «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة» إلا فيما يستيقن أن أبا بكر بن أبي شبيه حدث به فهذا تحقيق حاله.
أما قول الأستاذ: «ومن الدليل على بطلان الخبر ... » فليس بشيء لأن غالب(2/706)
الكلمات المستشنعة من أبي حنيفة كانت منه إذ كان بمكة في أوائل أمره كما يعلم من تتبع الحكايات، وكان الحميدي تتبع ذلك وأصحاب أبي حنيفة الذين سمع منهم أحمد شيئا في بدء أمره، وقد تقدم النظر في ذلك في ترجمته - كان أدبهم يمنعهم من الأخبار عن شيخهم بما يستشنع، ولا سيما إذا علموا أن ذلك كان في أول أمره، ثم رجع أو كف عنه. والله المستعان. (1)
233- محمد بن المظفر بن إبراهيم أبو المفتوح الخياط. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة محمد بن علي بن عطية. قال الأستاذ ص 148: «لا يعرفه أحد سوى الخطيب ولا روى عنه أحد سواه» .
أقول: بنى هذه المجازفة على قول الخطيب في ترجمة هذا الرجل: «كتبت عنه في سنة 413 وهو شيخ صدوق كان يسكن دار إسحاق، ولا أعلم كتب عنه أحد غيري» .
ويكفي هذا الرجل رواية الخطيب وتصديقه.
234- محمد بن معاوية الزيادي. تقدمت الإشارة إلى روايته في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي. قال الأستاذ ص 18: «والزيادي ممن أعرض عنهم الأئمة الستة في أصولهم، وعادة ابن حبان في التوثيق معروفة» .
أقول: قد قدمنا مرارا أن كونهم لم يخرجوا للرجل ليس بدليل على وهنه عندهم ولا سيما من كان سنة قريبا من سنهم وكان مقلا كهذا الرجل فإنهم كغيرهم من أهل الحديث إنما يُعنون بعلو الإسناد ولا ينزلون إلا لضرورة، وقد روى النسائي عن هذا الرجل في (عمل اليوم والليلة) وقال في مشيخته: «أرجو أن يكون صدوقا، كتبت عنه شيئا يسيرا» وإنما قال «أرجو ... » لأنه إنما سمع منه شيئا يسيرا ولم يتفرغ لاختباره لاشتغاله بالسعي وراء من هم أعلى منه إسنادا ممن هم
__________
(1) محمد بن مسلمة. راجع «الطليعة» ص 87 - 89.(2/707)
في طبقة شيوخ هذا الرجل، وقد قال مسلمة بن قاسم: «ثقة صدوق» وقال ابن حبان في (الثقات) : «كان صاحب حديث» . فدل هذا أنه قد عرفه حق معرفته وقد قدمنا في ترجمة ابن حبان أن مثل هذا من توثيقه توثيق مقبول، بل قد يكون أثبت من توثيق كثير من الأئمة، لأن ابن حبان كثيرا ما يتعنت في الذين يعرفهم، ولم يغمزه أحد.
235- محمد بن موسى البربري. في (تاريخ بغداد) 13 / 374 من طريق يعقوب ابن سفيان قال: «حدثنا سليمان بن حرب» ثم من طريق البربري هذا «حدثنا ابن الغلابي عن سليمان في ترجمة طلق بن حبيب. قال الأستاذ ص 43: «قال عنه الدارقطني إنه لم يكن بالقوي. ولم يكن يحفظ غير حديثين أحدهما موضوع عند الأكثرين» .
أقول: كلمة الدارقطني تعطي أنه في الجملة كما مر في ترجمة الحسن بن الصباح، وأما الحفظ فليس بشرط، كان علم الرجل في كتبه ومنها يروي، وذلك أثبت من الحفظ، والحديث الذي زعم الكوثري أنه موضوع، هو حديث الطير، وقد تقدمت الإشارة إليه في ترجمة عبد الله بن محمد بن عثمان ابن السقاء، وأهل الحديث يروونه قبل أن يخلق البربري بزمان طويل، فأي شيء عليه إذا رواه؟ فأما حفظة له فكأنه لأن الناس كانوا يكثرون من السؤال عنه. ومع هذا فقد توبع البربري في هذه الحكاية كما رأيت.
236- محمد بن ميمون أبو حمزة السكري. في (تاريخ بغداد) 13 / 394 من طريق «إسحاق بن راهويه حدثني أحمد بن النضر قال: سمعت أبا حمزة السكري يقول: سمعت أبا حنيفة ... » قال الأستاذ ص 97: «مختلط وإنما روى عنه من روى من أصحاب الصحاح قبل الاختلاط» .
أقول: لم يختلط، وإنما قال النسائي: «ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب(2/708)
عنه قبل ذلك فحديثه جيد» وإنما يخشى منه بعد عماه أن يحدث من حفظه بالأحاديث التي تطول أسانيدها وتشتبه فيخطئ، وليس ما هنا كذلك، فأما ذكر ابن القطان الفاسي له فيمن اختلط فلم يعرف له مستند غير كلام النسائي، وقد علمت أن ذلك ليس بالاختلاط الاصطلاحي.
237- نصر بن محمد بن مالك. (تاريخ بغداد) 13 / 412: «أخبرني الحسن بن أبي طالب أخبرنا محمد بن نصر بن مالك حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم النجاد ... » قال الأستاذ ص 144: «ذلك الكذاب صاحب التسميع الطري ... » .
أقول: قال الأزهري: «حضرت عند محمد بن نصر بن مالك فوجدته على حاله عظيمة من الفقر والفاقة وعرض على شيئا من كتبه لأشتريه، ثم انصرفت من عنده وحضرت عند أبي الحسن ابن رزقويه فقال لي: ألا ترى ابن مالك؟ جاءني بقطعة من كتب أبي الدنيا قال اشترها مني فإن فيها سماعك معي ... قال الأزهري: فنظرت في تلك الكتب وقد سمع فيها ابن مالك بخطه لبن رزقويه تسميعا طريا» فهذا الرجل أنما خلط بأخرة لعظم ما نزل به، والحكاية التي رواها الخطيب من طريقه راويها عنه من المتثبتين الذين كانت عادتهم أن لا يسمعوا من الرجل إلا من أصوله الموثوق بها. (1)
238- محمد بن يعلي زنبور. في (تاريخ بغداد) 13 / 375 من طريقة: «سمعت أبا حنيفة يقول: قدمت علينا امرأة جهم بن صفوان فأدبت نسائنا» . قال الأستاذ ص 48: «قال البخاري عنه: ذاهب الحديث. و «قال» النسائي: ليس بثقة - و «قال» أبو حاتم: متروك و «قال» أحمد بن سنان: كان جهميا. ومن المقرر عند أهل النقد أن رواية المبتدع لا تقبل فيما يؤيد به بدعته ... على أنه مات سنة 204 فيصغر عن إدراك ما يمكن أن يتصور حدوثه في أواخر الدولة الأموية» .
__________
(1) محمد بن يحيى ابن أبي العدني. راجع «الطليعة» ص 72 - 73.(2/709)
أقول: قد وثقه أبو كريب وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «لا يجوز الاحتجاج به فيما خالف فيه الثقات» والظاهر أنهم شددوا عليه لبدعته ورواية المبتدع قد تقدم النظر فيها في القواعد ن وروايته هذه لها شوهد تدل أن للقصة أصلا، والمنقول أنه توفي سنة 205 ولم يحك أنه شاهد القصة: إنه يصغر عن إدراكها، إنما حكى قول أبي حنيفة وقد أدركه وسمع منه وروى عنه.
239- محمد بن يوسف الفريابي. في (تاريخ بغداد) 13 / 412 من طريقه «كنا في مجلس سعيد بن عبد العزيز بدمشق ... » قال الأستاذ ص 146: «ذلك الرجل الصالح الذي سكن عسقلان مرابطا ... وكان يأمر أهل الثغر بالاستثناء في كل شيء ... وكان بالغ العداء للمرجئة الذين لا يستثنون في الإيمان ... »
أقول: الإرجاء والاستثناء قد تعرضت لهما في قسم الاعتقاديات. والمخالفة في المذهب قد تقدم النظر فيها في القواعد واتضح أنها لا تقدح في الرواية كما لا ترد بها الشهادة، والفريابي ثقة ثبت فاضل لا يتهمه إلا مخذول.
240- محمد بن يونس الجمال. في (تاريخ بغداد) 13 / 416 من طريقة «سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت شعبة يقول: كيف من تراب خير من أبي حنيفة» . قال الأستاذ ص 159: «قال محمد بن الجهم هو عندي متهم، قالوا: كان له ابن يدخل عليه الأحاديث، وقال ابن عدي: ممن يسرق الناس ... »
أقول: محمد بن الجهم هو السمري صدوق وليس من رجال هذا الشأن وقوله: «قالوا كان له ابن ... » لم يبين من القائل، وابن عدي إنما رماه بالسرقة لحديث واحد رواه عن ابن عيينة فذكر ابن عدي أنه حديث حسين الجعفي ثقة ثبت فالحديث ثابت عن ابن عيينة وقد سمع الجمال من ابن عيينة فالحكم على الجمال بأنه لم يسمعه وإنما سرقه ليس بالبين، لكن لم أر من وثق الجمال فهو ممن يستشهد به في الجملة. والله أعلم.
241- محمد بن يونس الكديمي مرت الإشارة إلى روايته في ترجمة ضرار بن صرد قال الأستاذ ص 60: «متكلم فيه راجع (ميزان الاعتدال) » .(2/710)
أقول: الكديمي ليس بعمدة وقد توبع على روايته المذكورة كما تقدم، ومر له ذكر في ترجمة سفيان الثوري.
242- محمود بن إسحاق بن محمود القواس. في (تاريخ بغداد) 13 / 411 «أخبرني محمد بن عبد الملك القرشي أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين الرازي حدثنا محمود بن إسحاق بن محمود القواس بخاري قال: سمعت أبا عمرو وحريث بن عبد الرحمن ... » قال الأستاذ ص 42: «لا نثق بالقواس وصاحبه» .
أقول إذا كان أهل العلم قد وثقوهما وثبتوهما ولم يتكلم أحد منهم فيهما فماذا ينفعك أن تقول: لا تثق بهما؟ ومحمود هو صاحب الأنام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري روى عنه (جزء رفع اليدين) و (جزء القراءة خلف الأمام) وهو آخر من روى عنه ببخاري كما في (مقدمة الفتح) والراوي عنه هو الحافظ البصير ترجمته في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 218 والحكاية تتعلق بالطلاق قبل النكاح وقد نظرت فيها في قسم الفقهيات.
243- مسدد بن قطن. في (تاريخ بغداد) 13 / 413 من طريق الحاكم «سمعت أبا جعفر محمد بن هانئ يقول: حدثنا مسدد بن قطن حدثنا محمد بن أبي عتاب الأعين حدثنا علي بن جرير الأبيوردي ... قال الأستاذ ص 149: «ليس بأحسن حالا من أبيه السابق ذكره» .
أقول: قد تقدمت ترجمة أبيه، والنظر فيما قيل فيه ولا شأن له بهذه الرواية، فأما مسدد فترجمته في (تاريخ نيسابور) وفيها كما في (مرءاة الجنان) و (الشذرات) : «كان مربي عصره والمقدم في الزهد والورع» ولم يتكلم فيه أحد، وروايته هذه قد صحت عن علي ابن جرير من أوجه كما تقدم في ترجمته علي بن جرير، وما فيها من ترك ابن المبارك الرواية عن أبي حنيفة بأخرة، قد ثبت من عدة وجوه أخرى (1) .
__________
(1) مسعود بن شيبة راجع (الطليعة) ص 94. وتقدم له ذكر في ترجمة الإمام محمد بن إدريس الشافعي.(2/711)
244- مسلم بن أبي مسلم. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 من طريق «الحسن بن الوضاح المؤدب حدثنا مسلم بن أبي مسلم الحرفي (؟) حدثنا أبو إسحاق الفزاري ... » قال الأستاذ ص 72: «مسلم بن أبي مسلم عبد الرحمن الجرمي وثقه الخطيب الفزاري ... » قال الأستاذ ص 72: «مسلم بن آبى عبد الرحمن الجرمي وثقة الخطيب لكن في (اللسان) أنه ربما يخطئ، وقال البيهقي غير قوي. وقال أبو الفتح الأزدي: حدث بأحاديث لا يتابع عليها» .
أقول: ذكره ابن حبان في (الثقات) : «مسلم بن أبي مسلم الجرمي سكن بغداد يروي عن يزيد بن هارون ومخلد بن الحسين ثنا عنه الحسن بن سفيان وأبو يعلى، ربما أخطأ، مات سنة أربعين ومائتين» . وقد قدمنا في ترجمة ابن حبان أن توثيقه، لمن قد عرفه من أثبت التوثيق، وقوله «ربما أخطأ» لا ينافي التوثيق، وإنما يظهر اثر ذلك إذا خالف من هو أثبت منه، فآما أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي، فليس في نفسه كل ما حدث به، وإنما شرطه أن لا يتفرد بالمناكير عن المشاهير فيكثر، والظاهر أن الأزدي إنما عني الحديث الذي ذكره البيهقي وهو ما رواه مسلم هذا عن مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا: لا يقل أحدكم زرعته، ولكن ليقل حرثته، قال أبو هريرة: ألم تسمع إلى قول الله «أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة:64) » . وهذا الحديث أخرجه ابن جرير في تفسير سورة الواقعة عن أحمد بن الوليد القرشي عن مسلم وفي (اللسان) أن البيهقي أخرجه في (شعب الأيمان) من وجهين «عنه» وقال إن مسلما غير قوي (1) . ولعل ابن حبان إنما أشار بقوله «ربما أخطأ» إلى هذا الحديث حمله
__________
(1) قلت: وكذلك قال في «السنن الكبرى» (6 / 138) ، ومن طريق مسلم هذا أخرجه ابن حبان في «صحيحه» (رقم 1135 - موارد) والطبراني في «الأوسط» (1 / 149 / 1 - زوائده) وقال / «تفرد به مسلم» . قلت: وقد حسن له الحافظ في «الفتح» (3 / 279) حديثا آخر. ن.(2/712)
على أن الصواب موقوف وأخطأ مسلم في رفعه، ومسلم مكثر في التفسير كما يعلم من (تفسير ابن جرير) فإن ترجح خطاؤه في هذا الحديث الواحد لم يضره ذلك إن شاء الله. وابن حبان والخطيب أعرف بالفن ودقائقه من البيهقي.
245- المسيب بن واضح. ذكر الأستاذ ص 75 رواية محبوب بن موسى عن يوسف بن أسباط «قال أبو حنيفة: لو أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو أدركته لأخذ بكثير من قولي: «وفي الطبعة الهندية والمخطوطة بدار الكتب المصرية زيادة سوق الخبر بسند آخر ... عن المسيب بن واضح عن يوسف بن أسباط إلى آخره» ثم قال: «يقول أبو حاتم عن المسيب: صدوق يخطئ كثيرا، فإذا قيل له لم يقبل اهـ. ومثله يكون مردود الرواية، وقد ضعفه الدارقطني وابن الجوزي» .
أقول: ذكر الخطيب في (الكفاية) ص 143 - 147 ما يتعلق بخطأ الراوي وبعدم رجوعه، فذكروا أنه يرد رواية من كان الغالب عليه الغلط، ومن يغلط في حديث مجتمع عليه فينكر عليه فلا يرجع. ومعلوم من تصرفاتهم ومن مقتضى أدلتهم أن هذا حكم الغلط الفاحش الذي تعظم مفسدته فلا يدخل ما كان من قبيل اللحن الذي لا يفسد المعنى، ومن قبيل ما كان يقع من شعبة من الخطأ في الأسماء وما كان يقع من وكيع وأشباه ذلك، وكما وقع من مالك كان يقول في عمرو بن عثمان: «عمر بن عثمان» وفي معاوية بن الحكم «عمر بن الحكم» وفي أبي عبد الله الصنابجي «عبد الله الصنابجي» وقد جاء عن معن بن عيسى أنه ذكر ذلك لمالك فقال مالك: «هكذا حفظنا وهكذا وقع في كتأبي، ونحن نخطئ، ومن يسلم من الخطأ» فلم يرجع مالك مع اعترافه باحتمال الخطأ، فكلمة أبي حاتم في المسيب لا تدل على أنه كان الغالب عليه، ولا أن خطأه كان فاحشا، ولا أنه بين له في حديث اتفاق أهل على تخطئته فلم يرجع. وقد قال أبو عروبة في المسيب: «كان لا يحدث إلا بشيء يعرفه يقف عليه» وهذا يشعر بأن غالب ما وقع منه من الخطأ ليس منه بل ممن فوقه، وفكان يثبت على ما سمع قائلا في نفسه: إن كان خطأ فهو ممن فوقي لا(2/713)
مني. وفي (الميزان) و (اللسان) عن ابن عدي أنه ساق الأحاديث التي تنتقد على المسيب ثم قال: «أرجو أن باقي حديثه مستقيم وهو ممن يكتب حديثه» وذكر في (الميزان) أربعة أحاديث، إما أن تكون هي جميع ما ذكره ابن عدي (1) ، وإما أن يكون الذهبي رأى الأمر فيما عداها محتملا.
الأول: رواه المسيب عن يوسف بن أسباط، ويوسف ربما أخطأ في الأسانيد.
الثاني: حديث رواه ابن عدي عن الحسين بن إبراهيم السكوني - لم أقف على ترجمته - عن المسيب بسنده عن ابن عمر مرفوعا أنه كره شم الطعام، وقال: إنما تشم السباع. وقد روى الطبراني في (الكبير) والبيهقي في (الشعب) كما في (الجامع الصغير) من حديث أم سلمة مرفوعا: «لا تشموا الطعام كما تشمه السباع» . فلينظر في سنده ويقارن بسند حديث المسيب لعله يتبين وجه الغلط. (2) .
والثالث: ليس بالمنكر أراه، فإن كان فيه خطأ فيحتمل أن يكون من فوق.
__________
(1) قلت: بل جميع ما ذكره له ابن عدي في «الكامل» (ق 392 / 1 - 2) عشرة أحاديث، ليس فيها الحديث الخامس الذي نقله المصنف رحمه الله عن «اللسان» وقال ابن عدي عقبها: «وللمسيب حديث كثير عن شيوخه، وعامة ما خالفه فيه الناس هو ما ذكرته، وأرجو أن باقي حديثه مستقيم صالح، وهو ممن يكتب حديثه، وهذا الذي ذكرته لا يعتمده. بل كان يشبه عليه، وهو لا بأس به» .ن
(2) قلت: هذا لم يذكر له ابن عدي علة سوى التفرد، فقال عقبه: «لا أعلم يرويه غير المسيب» . وقد يخطر في بال البعض أن حديث أم سلمة قد يشهد له، والجواب: أنه لا يصلح للشهادة لشدة ضعفه، قال المناوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» : «قال البيهقي عقب تخريجه: إسناده ضعيف. اهـ فحذف المصنف ذلك من كلامه غير صواب. وقال الهيثمي عقب عزوه للطبراني: فيه عباد بن كثير الثقفي وكان كذابا متعمدا. هكذا جزم به» .(2/714)
والله أعلم. (1)
الرابع: قالوا: صوابه موقوف. وعلى هذا فإنما أخطأ في رفعه. وزاد في (اللسان) خامسا: وهو من رواية المسيب عن يوسف بن أسباط. وقال ابن عدي: «كان النسائي حسن الرأي فيه ويقول: الناس يؤذوننا فيه» . وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «وكان يخطئ» . وقال الدارقطني: «فيه ضعف» وسئل عبدان عن عبد الوهاب بن الضحاك والمسيب فقال: كلاهما سواء» وهذا إسراف، عبد الوهاب كذابل، والمسيب صدوق، هذه أن لا يحتج بما ينفرد به، والحكاية التي تكلم فيه الأستاذ من أجلها قد توبع عليها وليست من مظان الغلط. والله أعلم.
وللمسيب رواية في ترجمة أبي يوسف وقع فيها أن رجلا قال لابن المبارك: «مات أبو يوسف» فقال ابن المبارك: «مسكين ... » قال الأستاذ ص 187: «ابن المبارك مات قبل أبي يوسف بسنة كاملة اتفاقا ... هكذا يفضح الله البهاتين» .
أقول: كثيرا ما يشاع موت الرجل خطأ، وقد كان ابن المبارك شديدا على أبي يوسف لولايته القضاء، ومجالسته الخلفاء، وقد غضب ابن المبارك على إسماعيل بن إبراهيم ابن علية لولايته شيئا خفيفا وقال فيه تلك الأبيات السائرة، وإذا كان أبو حنيفة يفتي بالخروج على المنصور العباسي ويرى أنه أفضل من الرباط في قتال الروم
__________
(1) قلت: ما ذكره المؤلف من الاحتمال بعيد بل خطأ، لأنه ليس فوقه غير أبي إسحاق الفزاري عن حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة. ومرة قال: ثنا أبو إسحاق الفزاري ثنا سفيان الثوري عن عاصم به ولذلك قال ابن عدي عقبه:
«فسواء قال: عن الثوري، أو عن حماد، كلاهما غير محفوظ» .
قلت: ومتن هذا الإسناد: «الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة» .(2/715)
كما تقدم في ترجمة إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري، فليت شعري ماذا كان يقول في أبي يوسف لو أدرك ولايته القضاء ومجالسته الرشيد؟.
246- مصعب بن خارجة بن مصعب. تقدمت روايته في ترجمة أحمد بن عبد الله أبو عبد الرحمن وفيها قوله: «سمعت حمادا ... » . قال الأستاذ ص 127: «مجهول الصفة كما يقول أبو حاتم» .
أقول: قد عرفه ابن حبان فقال في (الثقات) : «مصعب بن خارجة بن مصعب من أهل سرخس يروي عن حماد بن زيد وأبيه روى عنه أهل بلدة مات سنة إحدى أو اثنتين ومائتين وكان على قضاء سرخس» ونقل ابن حجر في (اللسان) بعض هذه العبارة وفيه العبارة وفيه أيضا «حماد ابن زيد» فقول الأستاذ: إن حماد في الحكاية هو ابن سلمة فيه ما فيه (1) .
247- مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار أبو مصعب اليساري الأصم. في (تاريخ بغداد) 13 / 399 من طريق «القاسم بن المغيرة الجوهري حدثنا كطرف أبو مصعب الأصم قال: سئل مالك بن انس عن قول عمر في العراق: بها الداء العضال. قال الهلكة في الدين، ومنهم أبو حنيفة» . ذكر الأستاذ ص 113 أن الصواب «عن قول كعب لعمر» لأنه كذلك في (الموطأ) . ثم قال ص 114: «قال ابن عدي يروي المناكير عن ابن أبي ذئب ومالك، ولذا فند هذه الرواية أبو الوليد الباجي ... » .
أقول: فسر ابن عدي كلمته بأن ذكر أحاديث مناكير رواها ابن عدي عن أحمد بن داود بن عبد الغفار عن أبي مصعب فرد الذهبي وغيره على ابن عدي بأن الحمل في تلك الأحاديث على أحمد بن داود، وأحمد بن داود كذبه الدارقطني، ورماه العقيلي وابن طاهر بالوضع.
__________
(1) مضر بن محمد البغدادي - انظر «نصر بن محمد البغدادي» .(2/716)
أقول: قد وقع لابن عدي شبيه بهذا في غالب القطان قال ابن حجر في (مقدمة الفتح) : «وأما ابن عدي فذكره في (الضعفاء) وأورد له أحاديث الحمل فيها على الراوي عنه عمر بن مختار البصري وهو من عجيب ما وقع لابن عدي، والكمال لله» .
ويظهر لي أن لابن عدي هنا عذراً ما، ففي ترجمة أحمد بن داود من (اللسان) : قال أبو سعيد بن يونس: حدث عن أبي مصعب بحديث منكر، فسألته عنه فأخرجه من كتابه كما حدث به» وفيه بعد ذلك، ذكر حديثه عن أبي مصعب عن عبد الله بن عمر عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: من رأى مبتلى فقال: الحمد لله، إلخ، قال: «قال ابن عدي لما حدث أحمد بهذا الحديث عن مطرف: كانوا يتهمونه ... فظلموه لأنه قد رواه عن مطرف علي بن عمر وعباس الدوري والربيع ... » فقد يكون الحديث في أصل أحمد بن داود وعرف أن غيره قد رواه عن مطرف ورأى أن الحمل فيه على مطرف البتة فقاس بقية الأحاديث عليه، وقد يكون الحديث الذي ذكره ابن يونس غير هذا الحديث، ويكون ابن عدي رأى الأحاديث في اصل أحمد بن داود فاعتقد براءته منها للدليل الظاهر وهو ثبوتها في أصله فحملها كلها على مطرف، فإن كان الأمر على هذا الوجه الثاني فذاك الدليل وهو ثبوت الأحاديث في أصله يحتمل الخلل، ففي (لسان الميزان) ج 1 ص 253: «أحمد بن محمد بن الأزهر ... قال ابن حبان: كان ممن يتعاطى حفظ الحديث ويجري مع أهل الصناعة فيه ولا يكاد يذكر له باب إلا وأغرب فيه عن الثقات ويأتي فيه عن الإثبات بما لا يتابع عليه، ذاكرته بأشياء كثيرة فأغرب علي فيها، فطاولته على الانبساط، فأخرج إلي أصول أحاديث ... فأخرج إلي كتابه بأصل عتيق ... قال ابن حبان: فكأنه كان يعملها في صباه ... » . فهذا رجل روى أحاديث باطلة وأبرز أصله العتيق بها فإما أن يكون كان معه وقت طلبه، كان يسمع شيئاً ويكتب في أصله معه أشياء يعملها، وإما أن يكون كان دجالاً من وقت طلبه، كان يسمع شيئاً ويكتب في أصله معه أشياء يعملها، وإما أن يكون كان معه وقت(2/717)
طلبه بعض الدجالين، فكان يدخل عليه ما لم يسمع كما وقع لبعض المصريين مع خالد بن نجيح كما تراه في ترجمة عثمان بن صالح السهمي من (مقدمة الفتح) . وفي ترجمة محمد بن غالب تمتام من (الميزان) أنه أنكر عليه حديث فجاء بأصله إلى إسماعيل: «ربما وقع الخطأ للناس في الحداثة» . وفي (الكفاية) ص 118 - 119 عن حسين ابن حبان:
«قلت ليحيى بن معين: ما تقول في رجل حدث بأحاديث منكرة فردها عليه أصحاب الحديث، إن هو رجع وقال: ظننتها، فأما إذ أنكرتموها علي فقد رجعت عنها؟ فقال: لا يكون صدوقا أبدا، ... فقفلت ليحيى: ما يبرئه؟ قال: يخرج كتاباً عتيقا فيه هذه الأحاديث، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق، فيكون شبه له وأخطأ كما يخطئ الناس فيرجع عنها» . فأنت ترى ابن معين لم يجعل ثبوتها في الأصل العتيق دليلاً على ثبوتها عمن رواها صاحب الأصل عنهم، بل حمله على أنه شبه له وأخطأ في أيام طلبه. إذا تقرر هذا فلعل الأحاديث التي ذكرها ابن عدي عن أحمد بن داود عن أبي مصعب رآها ابن عدي في أصل عتيق لأحمد بن داود فبنى على ذلك دليل ثبوتها عن أبي مصعب، وهذا الدليل لا يوثق به كما رأيت لكن في البناء عليه عذر ما لابن عدي يخف به تعجب الذهبي إذ يقول: «هذه أباطيل حاشا مطرفاً من روايتها، وإنما البلاء من أحمد بن داود فكيف خفي هذا على ابن عدي؟ !» .
بقي حديث مطرف عن عبد الله عمر العمري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رفعه «من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، لم يصبه ذلك البلاء» فهذا رواه جماعة عن أبي مصعب وأخرجه الترمذي وقال: «غريب من هذا الوجه» وزاد في بعض النسخ «حسن» وأخرج قبل ذلك من طريق عمروابن دينار مولى آل الزبير عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عمر - نحوه» وعمرو بن دينار هذا متكلم فيه وعدوا هذا الحديث فيما أنكر عليه، وأحسب أن بعض الرواة سمع هذا وسمع حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: «من قال إذا أمسى ثلاث مرات: أعوذ بكلمات(2/718)
الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة» فاشتبه عليه الحديثان فحسب الأول بسند الثاني فرواه كذلك، وقد يكون هذا الخطأ من مطرف وقد يكون من شيخه عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم فإنه لين حتى قال البخاري: «ذاهب لا أروي عنه شيئا» فإن كان الخطأ من أبي مصعب فقد يخطئ على عبد الله بن عمر ما لا يخطئ على مالك لمزيد اختصاصه به.
والأثر: «إن بالعراق الداء العضال» ثابت في (الموطأ) عن مالك، ومطرف يقول: «سئل مالك» فليس هنا مظنة الخطأ، ومطرف قال فيه أبو حاتم: «مضطرب الحديث صدوق» ورجحه على إسماعيل بن أبي أويس، وقال ابن سعد والدارقطني: «ثقة» وروى أبو زرعة ومن عادته أن لا يروي إلا عن ثقة كما مر مرارا، وروى عنه البخاري في (صحيحه) .
248- معبد بن أبو شافع. تقدمت روايته في ترجمة القاسم بن عثمان، وتقدم هناك قول الأستاذ: «كذبه أبو زرعة الكشي» .
أقول: هكذا وقع في (الميزان) و (اللسان) ، وأبو زرعة الكشي هو محمد بن يوسف الجنيدي. قال حمزة السمي في (تاريخ جرجان) في ترجمة معبد «حدثنا عنه جماعة سمعت أبا زرعة محمد بن يوسف الجنيدي يقول: كان أبو شافع اسمه واسم أبيه واسم جده غير ما ذكر، هو غير أسماءهم وكان ثقة في الحديث إلا أنه كان يشرب المسكر» . فكأن بعضهم استروح إلى قوله: «هو غير أسماءهم» فعدها تكذيباً، وتبعه غيره بدون تحقيق، وتغيير الاسم ليس بكذب وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة (1) وغير في بعضهم اسمه واسم أبيه، اللهم أن يدعي الرجل أن اسمه لم يزل كذلك، وهذا يدفعه قول الكشي «وكان ثقة في الحديث» . فأما شرب المسكر فقد تأول جماعة في ما عدا الخمر المتفق عليها فيشربون القدر الذي لا يسكرهم، ولم يعد أهل العلم ذلك قادحاً في العدالة، وإن ذم أكثرهم
__________
(1) انظر الأحاديث الصحيحة» (205 - 212) . ن(2/719)
ذلك (1) . فهذا هو الذي وقع من أبي شافع بدليل قول الكشي «وكان ثقة في الحديث» . والله المستعان.
249- المفضل بن غسان الغلابي. في (تاريخ بغداد) 13 / 420 عنه قال «أبو حنيفة ضعيف» قال الأستاذ ص 169: «من المنحرفين عن أهل الكوفة مثل عمرو ابن علي الفلاس البصري وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني الناصبي وحالهم يغني عن التعرض للأسانيد، على أن الجرح غير المفسر لا يؤثر في أي راو فضلا عمن ثبتت إمامته، وتواترت أمانته» .
أقول: تقدمت ترجمة الجوزجاني وترجمة عمرو بن علي وبينا أن الجوزجاني شديد على الشيعة ولم تبلغ شدته بحمد الله عز وجل أن يخرج عن الحد، إنما يقول في الشيعي «زائغ» أو «رديء المذهب» أو نحو ذلك، وأبو حنيفة لم يشتهر بالتشيع، وعمرو بن علي والغلابي لا أعرفهما بانحراف، نعم هؤلاء كلهم مخالفون لأبي حنيفة في المذهب، والمخالفة لا تقتضي اطراح جرح المخالف البتة وقد قبل الناس من يحيى بن معين وغيره من الأئمة جرحهم لكثير من الرواة المخالفين لهم في المذهب، والجرح غير المفسر هو الخطأ، فمتى تبين أو ترجح أنه خطأ لم يؤخذ به، والإمامة في الفقه لا تستلزم الثقة في الحديث، ولا يضر الحنفية أن يثبت أن أبا حنيفة ممن لا تقوم الحجة بما ينفرد بروايته، ولا تكاد توجد لهم مسألة يمكن أن يستدلوا عليها بشيء تفرد أبو حنيفة بروايته إلا وهم يستدلون عليها بأشياء أخرى، وقد استدل بعضهم على الشافعي بحديث أبي حنيفة عن عاصم في المرتدة، فلما رد عليه ذلك لم يكابر بل قال: «إني إنما ذهبت في ترك قتل النساء إلى القياس ... » كما تقدم في ترجمة الشافعي. وكما أن الإنصاف يقضي أن لا يتخذ ما ثبت عن
__________
(1) انظر الترجمة (73) وتعليقنا عليها ص 230. ن(2/720)
الأئمة كسفيان الثوري وغيره من قولهم في أبي حنيفة ما يقتضي أنها لا تقوم الحجة [بما ينفرد بروايته، ذريعة إلى الطعن في فقهه جملة وفي مذهبه، فكذلك يقضي أن لا يتخذ] (*) ما يستدل به على فقهه جملة ذريعة إلى رد كلام أئمة الفن في روايته (1) . وأقتصر هنا على هذا القدر. وأسأل الله تعالى التوفيق.
250- منصور بن أبي مزاحم. في (تاريخ بغداد) 13 / 400 من طريقين عنه أنه سمع مالك بن أنس يقول في أبي حنيفة «كاد الدين ... » قال الأستاذ ص 116: «ليس منصور بن أبي مزاحم التركي البطل المغوار من رجال هذا الميدان» .
أقول: ذكروا أن هذا التركي كان كاتبا في الديوان، ثم ترك ذلك وتجرد للحديث، وهو عندهم ثقة، قال أبو زرعة عن ابن معين: «تركي ثبت» وقال أبو حاتم: «صدوق» وذكر أنه سأل ابن معين عنه فأثنى عليه وقال: «كتبت عنه» وقال الدارقطني: «ثقة»
وأخرج له مسلم في (صحيحه) وأبو داود والنسائي وخطأه أحمد في حديث، ولا يضره ذلك. وقد غلبت الأستاذ هنا نزعته الجنسية فلم يقل في هذا التركي إلا أنه ليس من رجال الميدان ولا أدري ما عنى بذلك؟ وفي مقابل ذلك خلع عليه لقب «البطل المغوار» جزافاً وإنما كان كاتبا ثم صار محدثاً.
251- موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي. في (تاريخ بغداد) 13 / 393 من طريقة «حدثنا أبو عوانة قال سمعت أبا حنيفة ... » قال الأستاذ: «رواية تلك الطامات عن حماد بن سلمة» .
أقول: يعني ما رواه من أحاديث الصفات وقد تقدم النظر في ذلك في ترجمة حماد بن سلمة وتلك الأحاديث ما بين حق قد وكل الله به قوما يؤمنون به وبين حق محمول على معنى يليق به، فإن كان في شيء خطأ فلا شأن لأبي سلمة به وهو مجمع على ثقته والاحتجاج به.
__________
(1) راجع التعليق على الصفحة 585.
[التعليق]
(*) ما بين معقوفتين سقط من هذه الطبعة، وهو في طبعة دار المعارف (2/484) .
أسامة بن الزهراء - فريق عمل الموسوعة الشاملة(2/721)
252- موسى بن المساور أبو الهيثم الضبي. تقدمت روايته في ترجمة عبد الرحمن بن عمر. قال الأستاذ ص 136: «من رجال (الحلية) مجهول الحال ولم أر من وثقه» .
أقول: قال أبو الشيخ في (طبقات الأصبهانيين) : «روى عن سفيان بن عيينة وعبيد الله ابن معاذ ووكيع والناس وكان خيراً فاضلاً ترك ما ورثه من أبيه لأخوته ولم يأخذ منه شيئاً لأن أباه كان يتولى للسلطان ... » (ونحو ذلك في (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم. وبذا يثبت أن الرجل عدل صدوق ويبقى النظر في ضبطه، وسكوت هذين الحافظين وغيرهما من حفاظ أصبهان وغيرهم عن الكلام في روايته يدل أنه لم يكن به بأس.
253- مؤمل بن إسماعيل. تقدمت روايته في ترجمة عامر بن إسماعيل. قال الأستاذ ص 38: «يقول فيه البخاري: إنه منكر الحديث. ويقول أبو زرعة: «في حديثه خطأ كثير» .
أقول: وثقه إسحاق بن راهويه ويحيى بن معين، ووثقه أيضاً ابن سعد والدارقطني ووصفاه بكثرة الخطأ، ولخص محمد بن نصر المروزي حاله فقال: «إذا انفرد بحديث وجب أن يتوقف فيه ويتثبت، لأنه كان سيئ الحفظ كثير الغلط» .
فحده أن لا يحتج به إلا فيما توبع فيه، وفيما ليس من مظان الخطأ.
254- مؤمل بن إهاب. راجع (الطليعة) ص 68. وحاصل ذلك أن الأستاذ قال في (التأنيب) ص 65: «ضعفه ابن معين على ما حكاه الخطيب» فبينت أن الخطيب إنما حكى عن ابن الجنيد قال: «سئل يحيى بن معين وأنا أسمع عن مؤمل بن إهاب فكأنه ضعفه» وقد وثقه جماعة فقال الأستاذ في (الترحيب) ص 45: «فقول القائل - كأنه ضعفه - لا يفرق كثيراً من قوله: ضعفه لكون الحكم على الأحاديث بالصحة والضعف، وعلى الرجال بالثقة والضعف، في أخبار الآحاد مبنيا على ما يبدو للناظر، لا على ما في نفس الأمر، فظهر أن ذلك(2/722)
عبارة عن غلبة الظن فيما لا يقين فيه، وسبق أن نقلنا عن أحمد في الرمادي: كأنه يغير الألفاظ - وقد بني الذم الشديد باعتبار أن ظن الناظر ملزم» .
أقول: ابن الجنيد هنا راو لا ناظر وباب الرواية اليقين، فإن كان قد يكفي الظن فذاك الظن الجازم وآيته أن يجزم الراوي الثقة. فأما قوله: «أظن» مثلا، فإنه يصدق بظن ما وقد قال الله تعالى: «إن بعض الظن إثم» فما بالك بقوله: «فكأنه ضعفه» وأصل كلمة «كأن» للتشبيه، والتشبيه يستلزم كون المشبه غير المشبه به. فأما معناها الثاني فعبر عنه في مغنى اللبيب بقوله: «الشك والظن» فدل ذلك على أنها دون «أظنه» . وفي ترجمة الحسن بن موسى الأشيب من (مقدمة الفتح) مثل هذه الكلمة «كأنه ضعيف» فدفعها الحافظ ابن حجر بقوله: «هذا ظن لا تقوم به حجة» .
هذا وتردد ابن الجنيد يحتمل وجهين أظهرهما: أن يكون جرى من ابن معين عندما سئل عن مؤمل ما يشعر بأنه لم يعجبه مؤمل. ولا ندري ما الذي جرى منه وما قدر دلالته؟ على أنهم مما يقولون: «ضعفه فلان» مع أن الواقع من فلان تليين يسير كما تقدمت الإشارة إليه في القاعدة السادسة من قسم القواعد، فما بالك بقوله: «فكأنه ضعفه» ؟ وإنما ينقل أهل العلم أمثال هذه الكلمة لاحتمال أن يوجد تضعيف صريح فيكون مما يعتضد به. فأما هنا فلا يوجد إلا التوثيق، نعم الثقات يتفاوتون في درجات التثبيت ويظهر أن مؤملاً لم يكن في أعالي الدرجات ففي الرواة من هو أثبت منه، وإنما يظهر أمر ذلك عند التحالف والتعارض عند الأولين.
فأما كلمة الإمام أحمد في إبراهيم بن بشار الرمادي فقد تقدم لفظها في ترجمة إبراهيم فراجعها يتبين لك أن أحمد كان جازماً بأن إبراهيم كان يملي علي الناس على خلاف ما سمعوا، وأنه إنما لامه وذمه على ذلك، وإنما قال: «كأنه يغير الألفاظ» لأحد أمرين:
الأول: أن يكون أحمد جوز أن تكون العبارة التي ساقها إبراهيم هي(2/723)
عبارة ابن عيينة نفسه قبل ذلك المجلس وأن تكون عبارة إبراهيم نفسه بأن غير ألفاظ ابن عيينة وعبر عن المعنى، وكانت نفس أحمد مائلة إلى هذا الاحتمال الثاني: «كأنه يغير الألفاظ» أي من عنده.
الأمر الثاني: أن يكون أحمد قد علم جملة حين سمع في ذاك المجلس عبارة سفيان ثم عبارة إبراهيم اختلاف العبارتين، ولم يحقق حينئذ وجه الاختلاف، ثم لما اخبر بذلك مال إلى أن الوجه هو تغيير الألفاظ، وعلى كلا الأمرين فأحمد محقق لاختلاف العبارتين جازم به، وعلى ذلك بنى اللوم والذم، لا على مجرد احتمال أن إبراهيم يغير الألفاظ، فإن قيل: اختلاف العبارتين مستلزم لتغيير الألفاظ؟ قلت: إن صح هذا استعمل أحمد «كأن» في التحقيق بدليل ما قبلها، وذلك خلاف المعنى المتبادر منها، وليس في نقل الجنيد ما يوجب صرفها عن أصل معناها الذي تقدم بيانه. وإذا اشتبه الأمر في المنقول عن إمام، وجب الرجوع إلى المنقول عن غيره، وقد ذكرت في (الطليعة) توثيق الأئمة لمؤمل، وبذلك يرجح رجحاناً ظاهراً أن ابن معين لم يضعفه. والله المستعان.
255- مهنأ بن يحيى. في (تاريخ بغداد) 13 / 411 من طريق «عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا مهنأ بن يحيى قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول ... » قال الأستاذ ص 143: «قال أبو الفتح الأزدي ... : منكر الحديث، وتابعه الخطيب» .
أقول: الأزدي نفسه متكلم فيه حتى رمي بالوضع، وقد رد ابن حجر في مواضع من (مقدمة الفتح) جرحه وبين أنه لا يعتد به، (1) وقول الكوثري: «وتابعه الخطيب» باطل فقد روى ابن الآبنوسي عن الخطيب: «كل من ذكرت فيه أقاويل الناس من جرح أو تعديل فالتعويل على ما أخرت» كما في (تذكرة الحفاظ) ج 3 ص 315، وههنا بدأ الخطيب في ترجمة منها بحكاية قول الأزدي
__________
(1) قلت: راجع ص 221 تجد فيها مثالا على ذلك. ن(2/724)
ثم أتبعا برواية السلمي عن الدارقطني: «ثقة نبيل» ، ثم ذكر مكانة مهنأ عند أحمد وثناء أصحابه عليه، فعلم بذلك أن التعويل عنده على التوثيق.
وبهذا يعلم ما في عبارة ابن الجوزي في (المنتظم) ج 8 ص 368 في تجنياته على الخطيب: «ذكر مهنأ بن يحيى وكان من كبار أصحاب أحمد وذكر عن الدارقطني أنه قال: مهنأ ثقة نبيل، وحكى بعد (!) ذلك عن أبي الفتح الأزدي ... وهو يعلم أن الأزدي مطعون فيه عند الكل ... فلا يستحي الخطيب أن يقابل قول الدارقطني في مهنأ بقول هذا ثم لا يتكلم عليه؟ هذا ينبئ عن عصيبة وقلة دين» .
أقول: عفا الله عنك يا أبا الفرج، ما أرى الباعث لك على التجني على الخطيب إلا ما قدمته في ترجمته، وعليك في كلامك هذا مؤاخذات:
الأولى: أن الموجود في (تاريخ الخطيب) تعقيب كلمة الأزدي بحكاية السلمي عن الدارقطني كما مر.
الثانية: أن هذا مع ذكر مكانة مهنأ عند أحمد وثناء أصحابه عليه في قوة الرد على كلمة الأزدي كما مر.
الثالثة: أنك إذ ذكرت ما قيل في الأزدي كان ينبغي أن تذكر ما قيل في السلمي حاكي التوثيق عن الدارقطني وقد ذكر ترجمته في (المنتظم) ج 8 ص 6 وفيها قول محمد ابن يوسف القطان: «كان أبو عبد الرحمن غير ثقة ولم يكن سمع من الأصم شيئا يسيرا فلما مات الحاكم أبو عبد الله ابن البيع حدث عن الأصم بـ «تاريخ يحيى بن معين» وبأشياء كثيرة سواها، وكان يضع للصوفية الأحاديث» . ولم تتعقب هذا ولا ذكرت ما يخالفه.
الرابعة: أن الأزدي ذكر متمسكه، فلا يسوغ رد قوله إلا ببيان سقوط حجته.
الخامسة: أنك بعد التسامح بما تقدم لم يكن ينبغي لك «أن» تقول: «عصبية وقلة دين» محاذرة على الأقل أن يشاحك مشاح فيرد ذلك عليك.
أما متمسك الأزدي فهو أن مهنأ روى عن زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان الثوري عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن جابر حديثا في(2/725)
الجمعة، ولا يعلم رواه أحد غيره عن زيد بن أبي الزرقاء، ولا عن غيره عن سفيان الثوري؛ فلا يعرف عن الثوري إلا بهذا الإسناد. وإنما يعرف من رواية عبد الله بن محمد العدوي التميمي رواه عن علي بن زيد، والعدوي طعنوا فيه، وقال وكيع: «يضع الحديث» وحكى ابن عبد البر عن جماعة أهل العلم بالحديث أنهم يقولون: إن هذا الحديث من وضعه؟ كذا في ترجمة العدوي من (التهذيب) وفي ترجمة مهنأ من (اللسان) عن ابن عبد البر: «لهذا الحديث طرق ليس فيها ما يقوم به حجة إلا أن مجموعها يدل على بطلان قول من حمل على العدوي أو على مهنأ بن يحيى» فلو كان ابن الجوزي نظر في هذا الحديث وحقق لكان أولى به مما صنع، وعلى كل حال فغاية ما في الباب أن يكون مهنأ أخطأ في سند هذا الحديث، فكان ماذا؟ ! وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: «كان من خيار الناس في حديث أحمد بن حنبل وبشر الحافي مستقيم الحديث» . ويكفيه مكانته عند أحمد وثناء أصحابه عليه. والله أعلم.
256- نصر بن محمد البغدادي. في (تاريخ بغداد) 13 / 419 من طريق أبي الميمون عبد الرحمن بن عبد الله البجلي: «سمعت نصر بن محمد البغدادي يقول سمعت يحيى ابن معين يقول: كان محمد بن الحسن كذابا وكان جهميا، وكان أبو حنيفة جهميا ولم يكن كذابا» .
قال الأستاذ ص 164: «كانا والله بريئان (؟) من الكذاب والتجهم، وقد احتج الشافعي إمام الخطيب بمحمد بن الحسن. ووثقه علي ابن المديني أيضا كما جزم بذلك ابن الجوزي في (المنتظم) وابن حجر في (تعجيل المنفعة) مع أن ابن المديني أقرب من ابن معين إلى النيل من أصحاب أبي حنيفة، والدارقطني على تعصبه البالغ يقول في (غرائب مالك) ... وابن معين من أبرأ الناس من أن يكذب عليهما وهو الذي يقول: إني سمعت (الجامع الصغير) من محمد بن الحسن، وليس هو ممن يتفقه على الكذابين في نظره ... نعم لو كان ... أو كل من ينزه الله سبحانه عن مشابهة المخلوق وعن حلول الحوادث فيه، أو حلوله في الحوادث(2/726)
جهميا كما هو مصطلح الحشوية، لكان كذابا وجهميا كل من يفهم ما يقول وينزه الله سبحانه عن لوازم الجسيمة ... فلا يكون الخبر إلا مكذوبا على ابن معين ولو رواه ألف شخص من أمثال نصر بن محمد البغدادي. ومن الغريب أنه إذا روى ألف راو عن ابن معين أن الشافعي ليس بثقة مثلاً تعد هذه الرواية عنه كاذبة بخلاف ما إذا كانت الرواية عنه في أبي حنيفة أو أحد أصحابه ... نعم سبق أن كذب أبو يوسف محمداً في مسائل عزاها إليه، ولما بلغ الخبر محمدا قال: كلا ولكن الشيخ نسي. ثم تبين أن قول محمد هو الصواب ... قاتل الله التعصب ما أفضحه لصاحبه» .
أقول: لا توجد في (تاريخ بغداد) ولا غيره ترجمة باسم «نصر بن محمد البغدادي» وإعراض الأستاذ عن أن يشير إلى هذا فيقول «مجهول» أو نحوه إلى الطريق التي سلكها بدل أنه قد عرف أن لفظ «نصر» تحريف وأن الصواب «مضر» ولمضر بن محمد البغدادي ترجمة في (تاريخ بغداد) ج 13 ص 261 وفيها أنه يروي عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأن الدارقطني قال فيه: «ثقة» .
فأما الشافعي فلا نعلمه احتج بشيء ينفرد به محمد بن الحسن حتى أن يقال: إنه احتج به، ومع ذلك فلو وثق الشافعي محمدا لما دل ذلك على بطلان النقل عن ابن معين فقد كان الشافعي يوثق إبراهيم بن أبي يحيى الذي كذبه الجمهور، ثم استقر الاتفاق على قولهم.
وأما توثيق ابن المديني فإنما ذلك حكاية حكاها ابنه عبد الله عنه أنه قال: «صدوق» وقد طعن الأستاذ في رواية عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه مطلقا كما تقدم في ترجمته، واستهان بقولهم «صدوق» وكذب من قيلت فيه كما تقدم في ترجمة علي بن جرير البار ودي.
وأما زعم الأستاذ أن أبن المديني أقرب من ابن معين إلى النيل من أصحاب أبي حنيفة ففيه نظر غذ قد يكون ثناؤه أمام مسايرته للجهمية(2/727)
الحنفية كما تقدم في ترجمته، وقد يستدل على ذلك أن نيل ابن ثابت وابن المديني أقرب إلى ذلك كما قال الأستاذ فكيف ثبت عنه خلافه؟ والتحقيق أنه لا منافاة والاختلاف في مثل هذا كثير.
وأما كلمة الدارقطني فقد مر البحث فيها في ترجمته، ثم الكلام في ذلك كالكلام في كلمة ابن المديني، وأما ما ذكره الأستاذ أن ابن معين قال: «سمعت (الجامع الصغير) من محمد بن الحسن» فلا منافاة بل قد يكون سماعه (للجامع) في مبتدأ أمره ثم تبين له ما تبين وفي ترجمة محمد بن كثير القرشي من (التهذيب) : «قال رأيت حديث الشيخ مستقيما» . وقد ذكر الأستاذ تكذيب أبي يوسف لمحمد، والظاهر أنه كان فبل ذلك عنده حسن الحال ثم طرأ ما اقتضى أن يكذبه، ومع هذا كله فلم ينفرد هذا الرجل بما رواه عن ابن معين فقد قال العقيلي «حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة قال: سمعت العباس الدوري يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: جهمي كذاب «هكذا في ترجمة محمد بن الحسن من (لسان الميزان) (1) وروى محمد بن سعيد العوفي عن ابن معين أنه رمى محمدا بالكذب وقد تقدمت ترجمة العوفي، وفيها ابن أبي مريم عن ابن معين في محمد بن الحسن «ليس بسيئ، ولا يكتب حديثه» . وقال المفضل الغلابي ومعاوية بن صالح عن ابن معين «حسن اللؤلؤي ومحمد بن الحسن ضعيفان» ولم يأت عن ابن معين ما يخالف نقل هؤلاء الجماعة، فأما قضية (الجامع الصغير) فقد مر ما فيها.
وأمنا قضية التجهم فقد اعترف الأستاذ باصطلاح أهل السنة سماهم «الحشوية» وهو وجميع أهل العلم يعلمون أن يحيى بن معين كان من أهل ذاك الاصطلاح، واعترف الأستاذ بأن أبا حنيفة ومحمد بن الحسن جهميان بذاك المعنى،
__________
(1) قلت: وكذا هو في «الضعفاء» للعقيلي (ص 276) ، والسند صحيح، وابن صدقة حافظ متقن له ترجمة في «التاريخ» (5 / 40 - 41) و «تذكرة الحفاظ» (2 / 280 - 281) . ن(2/728)
وبذلك ثبتت رواية مضر بن محمد البغدادي، أما ما فيها من نسبة الجهمية فباعتراف الأستاذ، وأما ما فيها من التكذيب فبالحجة الواضحة، فبقي قوله: «فلا يكون الخبر إلا مكذوبا على ابن معين ولو رواه ألف شخص من أمثال نصر بن محمد البغدادي» ! من باب قول العامة «عنز ولو طارت» .
وقوله: «ومن الغريب أنه لو روى ألف راو ... » تقدم النظر فيه في ترجمة الشافعي فليراجعها القارئ وليوازن بينها وبين رواية مضر ليتبين له أن الكوثري لا ينتفع بأن يساوي الذرة بالجبل، بل يحاول أن يجعل ذرة في عظم جبل ويجعل جبلاً في ذرة! ولعل الأستاذ يضج من قضية نصر ومضر. فأقول: هو ن عليك يا أستاذ وخذ اعترافي أو شهادتي بأن نصراً غير مضر، فهل ينفعك ذلك شيئاً؟
هذا كله مناقشة للأستاذ في تكذيبه الرواة عن ابن معين، وما تشبت به في ذلك.
فأما محمد بن الحسن فهو أجل وأفضل مما يتراءى هنا، ولتحقيق ذلك موضع آخر.
257- النضر بن محمد المروزي. في (تاريخ بغداد) 13 / 401 من طريق عبد الرحيم بن منيب «حدثنا النضر بن محمد قال: كنا نختلف إلى أبي حنيفة وشامي معنا، فلما أراد الخروج جاء ليودعه فقال: يا شامي، تحمل هذا الكلام إلى الشام؟ فقال: نعم، قال: تحمل سراً» . قال الأستاذ ص 118: «ضعفه البخاري في (كتابه الصغير) لكن وثقه النسائي، وهو من فقهاء أصحاب أبي حنيفة ومن المكثرين عنه، فبالنظر إلى حاله يريد بقوله هذا على تقدير ثبوته عنه التنكيت على أهل الشام» .
أقول: إنما قال البخاري: «فيه ضعف» ، وكذا قال الساجي، وقال الحاكم أبو أحمد: «ليس بالقوي» ، وقال النسائي والدارقطني: «ثقة» ، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال ابن سعد: «كان مقدما في العلم والفقه والعقل والفضل، وكان صديقاً لابن المبارك، وكان من أصحاب أبي حنيفة» ، وهذا يقتضي أنه لم يكن(2/729)
يتابع أبا حنيفة في كل شيء، فهم مقبول. وليس هو المخاطب للشامي كما قد يوهمه كلام الأستاذ، وإنما المخاطب للشامي بما ذكر أبو حنيفة نفسه كما صريح الرواية، واحتمال أن يكون أبو حنيفة إنما أراد التنكيت لا يخفى حاله.
258- نعيم بن حماد. ذكر الأستاذ ص 49 عن (الأسماء والصفات) للبيهقي رواية من طريقة: «سمعت نوح بن أبي مريم أبا عصمة يقول: كنا عند أبي حنيفة أول ما ظهر جهم وجاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهماً ... » وفي (تاريخ بغداد) 13 / 396 من طريقة. «قال سفيان: ما وضع في الإسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة إلا فلان - لرجل صلب» . قال الأستاذ ص 49: «معروف باختلاق مثالب ضد أبي حنيفة، وكلام أهل الجرح فيه واسع الذيل، وذكره غير واحد من كبار علماء أصول الدين في عداد المجسمة بل القائلين باللحم والدم. وقال الأستاذ ص 107: «له ثلاثة عشر كتاباً في الرد على من يسميهم: الجهمية، ودعا إليها العجلي فاعرض عنها ... ولا شك أنه كان وضاع مثالب كما يقول أبو الفتح الأزدي وأبو بشر الدولابي وغيرهما، وكم أتعب أهل النقد بمناكيره، ويوجد من روى عنه من الأجلة رغبة في علو السند، ولا يرفع ذلك من شأنه إن لم يضع من شأن الراوي، ومن حاول الدفاع عنه يتسع عليه الخرق» .
أقول: نعيم من أخيار الأمة وأعلام الأئمة وشهداء السنة ما كفى الجهمية الحنفية أن اضطهدوه في حياته إذ حاولوا إكراهه على أن يعترف بخلق القرآن فأبى فخلدوه في السجن مثقلاً بالحديد حتى مات، فجر بحديده فألقي في حفرة ولم يكفن ولم يصل عليه - صلت عليه الملائكة - حتى تتبعوه بعد موته بالتضليل والتكذيب على أنه لم يجرؤ منهم على تكذيبه أحد قبل الأستاذ، إلا أن أحدهم وهو الدولابي ركب لذلك مطية الكذب فقال: «وقال غيره ... » .
أما عقيدته أئمة السنة المخلدة في كتاب الله عز وجل، وأما الذين كان يسميهم «الجهمية» فكان أئمة المسلمين في زمانه وقبله وبعده يسمونهم هذا الاسم،(2/730)
وأما إعراض العجلي عن كتبه فلم يعرض عنها مخالفة لنعيم ولا رغبة عن الأخذ عنه وهو ممن وثق نعيماً كما يأتي، وإنما كان العجلي مستغرقاً في الحديث فلم يحب أن يتشاغل بالنظر في أقوال المبتدعة والرد عليها إشفاقاً على نفسه من أن يعلق به بعض أو ضارها.
وأما كلام أئمة الجرح والتعديل فيه بين موثق له مطلقا، ومثن عليه ملين، لما ينفرد به مما هو مظنة الخطأ، بحجة أنه كان لكثرة ما سمع من الحديث ربما يشبه عليه فيخطئ» وقد روى عنه البخاري في (صحيحه) وروى له بقية الستة بواسطة إلا النسائي (1) لا رغبة في علو السند كما يزعم الأستاذ فقد أدركوا كثيراً من أقرانه وممن هو أكبر منه، ولكن علماً بصدقه وأمانته، وأن ما نسب إلى الوهم فيه ليس بكثير في كثرة ما روى.
فأما الدولابي فهو محمد بن أحمد بن حماد له ترجمة في (الميزان) و (اللسان) قال ابن يونس: «من أهل الصنعة حسن التضعيف وكان يضعف» وقال الدارقطني: «تكلموا فيه لما تبين من أمره الأخير» وذكر ابن عدي قول الدولابي في معبد الجهني الذي روى أبو حنيفة عن منصور بن زازان عن الحسن عنه، أنه معبد بن هو ذة الذي ذكره البخاري في (تاريخه) .
قال ابن عدي: «هذا الذي قاله غير صحيح، وذلك أن معبد بن هو ذة أنصاري فكيف يكون جهنيا؟ «ومعبد الجهني معروف ليس بصحابي، وما حمل الدولابي على ذلك إلا ميله لمذهبه» . وقال ابن عدي أيضاً: «ابن حماد متهم فيما قاله في نعيم بن حماد لصلابته في أهل الرأي» . وفي ترجمة نعيم من (مقدمة الفتح) بعد الإشارة إلى حكاية الدولابي «وتعقب ذلك ابن عدي بأن الدولابي كان متعصباً عليه لأنه كان شديداً على أهل الرأي. وهذا هو
__________
(1) قلت: لم يحتج به الشيخان، أما البخاري فأخرج له مقروناً كما في خاتمة «الترغيب» للمنذري، وترجمة نعيم من «التهذيب» . وأما مسلم، فأخرج له في مقدمة «صحيحه» كما يشعر بذلك رمزهم له ب «مق» . ن.(2/731)
الصواب» وقال في (التهذيب) : «حاشى الدولابي أن يتهم، وإنما الشأن في شيخه الذي نقل ذلك عنه فإنه مجهول متهم» .
أقول: لا أرى الدولابي يبرأ من عهدة ذاك النقل المريب فإن ابن عدي قال كما في (التهذيب) : «قال لنا ابن حماد - يعني الدولابي - نعيم يروي عن ابن المبارك قال النسائي: ضعيف، وقال غيره: كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات في ثلب حنيفة كلها كذب. قال ابن عدي وابن حماد متهم ... » فلا يحتمل أن يكون الدولابي سمع تلك الكلمة ممن يعتد بقوله وإلا لصرح به وصرخ به صراخاً. فإن كان سمعها ممن لا يعتد به فلم يكن له أن يحكيها على هذا الوجه بل كان عليه أن يعرض عنها لعدم الاعتداد بقائلها، أو على الأقل أن يصرح باسمه. وإن كان يسمعها من أحد وإنما اختلق ذلك فأمره أسوأ، وإن كان كنى بقوله: «غيره» عن نفسه كأنه أراد «وقلت أنا» فالأمر في هذا أخف، وقد عرف تعصب الدولابي على نعيم، فلا يقبل قوله فيه بلا حجة مع شذوذه عن أئمة الحديث الذين لا يكاد هو يذكر معهم.
وأما أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي فهو نفسه على يدي عدل! وترجمته في (تاريخ بغداد) و (الميزان) و (اللسان) تبين ذلك، مع أنه إنما نقل كلام الدولابي وإن لم يصرح باسمه، والدليل على ذلك توافق العبارتين، أما عبارة الدولابي فقد مرت، وأما عبارة الأزدي فقال: «قالوا كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات مزورة قي صلب أبي حنيفة كلها كذب» .
أما كلام الأئمة فقال الإمام أحمد: «لقد كان من الثقات» وقال العجلي:: «ثقة» ، وقال أبو حاتم مع تشدده: «صدوق» وروى عنه البخاري في (صحيحه) كما مر وأخرج له بقية الستة إلا النسائي، وصح عن ابن معين من أوجه أنه قال: «ثقة» وروى عنه، وجاء عنه أنه مع ثنائه عليه لينه في الرواية، وأتم ذلك رواية علي بن حسين بن حبان وفيها عن ابن معين «نعيم بن حماد صدوق ثقة رجل صالح،(2/732)
أنا أعرف الناس به، كان رفيقي بالبصرة ... إلا أنه كان يتوهم الشيء فيخطئ فيه، وأما هو فكان من أهل الصدق» . وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حماد وتقدمه في العلم والمعرفة والسنن، ثم قيل له في قبول حديثه؟ فقال: قد كثر تفرده عن الأئمة المعروفين بأحاديث كثيرة فصار في حد من لا يحتج به» . وهذا يدل أن ما روي عن النسائي أنه قال مرة: «ليس بثقة» إنما أراد بها أنه ليس في أن يحتج به، وهب أن النسائي شدد فكلام الأكثر أرجح ولا سيما ابن معين، لكمال معرفته ولكونه رافق نعيماً وجالسه انتقدت عليه ثم قال: «وعامة ما أنكر عليه هو الذي ذكرته وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيماً» . وقال ابن حجر في (التهذيب) : «أما نعيم فقد ثبتت عدالته وصدقه ولكن في حديثه أو هام معروفة وقد قال فيه الدارقطني: إمام في السنة كثرة الوهم. وقال أبو أحمد الحاكم: ربما يخالف في بعض حديثه. وقد مضى أن ابن عدي تتبع ما وهم فيه، فهذا فصل القول فيه» .
وإنما أوقع نعيماً فيما وقع فيه من الأوهام أنه سمع فأكثر جداً من الثقات ومن الضعفاء، قال أحمد بن ثابت أبو يحيى «سمعت أحمد ويحيى بن معين يقولان: نعيم معروف بالطلب» ثم ذمه بأنه يروي عن غير الثقات. وفي (الميزان) عن ابن معين يقولان: نعيم معروف بالطلب» ثم ذمه بأنه يروي عن غير الثقات. وفي (الميزان) عن ابن معين: «نعيم بن حماد ... كتب عن روح بن عبادة خمسين ألف حديث» . هذا ما سمعه من رجل واحد ليس هو بأشهر شيوخه فما ظنك بمجموع ما عنده على شيوخه؟ وقال صالح بن محمد «كان نعيم يحدث من حفظه وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها» فلكثرة حديث نعيم عن الثقات وعن الضعفاء واعتماده على حفظه كان ربما اشتبه عليه ما سمعه من بعض الضعفاء بما سمع من بعض الثقات فيظن أنه سمع الأول بسند الثاني فيرويه كذلك. ولو لم يخطئ وروى كما سمع أتبين أنه إن كان هناك نكارة فالحمل فيها على من فوقه.
وقد تقدم أن ابن عدي تتبع ما انتقد على نعيم، وذكر الذهبي في (الميزان)(2/733)
ثمانية أحاديث وكأنها أشد ما انتقد على نعيم، وما عداها فالأمر فيه قريب، ولا بأس أن أسوقها هنا وأنظر فيها على مقدار فهمي. وأسأل الله التوفيق.
الحديث الأول: أخرجه الحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 430 « ... نعيم بن حماد ثنا عيسى بن يونس عن حرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحرمون الحلال، ويحللون الحرام» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين» .
أقول: هذا الحديث أشد ما أنكر على نعيم. أنكره ابن معين ووثق نعيما وقال: «شُبِّه له» وقال دحيم: «هذا حديث صفوان بن عمرو، حديث معاوية» يعني أن إسناده مقلوب، لهذا الحديث شواهد مرفوعة وموقوفة في (المستدرك) ج 1 ص 128 و (سنن الدارمي) ج 1 ص 65 وغيرهما (1) . وقد تابع نعيماً على روايته عن عيسى بن يونس جماعة منهم ثلاثة أقوياء سويد بن سعيد الحدثاني، وعبد الله بن جعفر الرقي، والحكم بن المبارك الخواستي، وسويد من رجال مسلم إلا أنه كان في آخر عمره يقبل التلقين لكن في ترجمته ما يدل أنه كان إذا نبه على خطئه رجع، وقد روجع في هذا الحديث فثبت على أنه سمعه من عيسى بن يونس. والرقي موثق إلا أنه نسب إلى الاختلاط بأخرة، لكن ذكر ابن حبان أن اختلاطه لم يكن فاحشاً، وراوي هذا الحديث عنه ثقة وهو الذي أخبر بأنه اختلط، فقد يقال لو علم أنه اختلط اختلاطاً شديداً وكان إنما سمع منه هذا الحديث عند
__________
(1) قلت: فيما أشار إليه المؤلف رحمه الله نظر، فإن الذي في «المستدرك» عدة أحاديث في تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، وهي صحيحة كما بينته في غير هذا الموضع، لكن ليس في شيء منها ذكر القياس والتحريم والتحليل، وهو بيت القصيد - كما يقال - في حديث نعيم: والذي عند الدارمي أثر عن ابن مسعود، وعن غيره من التابعين في ذم قوم يقيسون الأمر برأيهم. وفي اعتبار مثل هذا مع وقفه وقصوره عن الشهادة الكاملة شاهداً لحديث نعيم المرفوع نظر ظاهر عندي. فيتأمل.(2/734)
اختلاطه، لكن الظاهر أن لا يرويه عنه إلا مقرونا ببيان أنه إنما سمع منه هذا الحديث عند اختلاطه، لكن الظاهر أن لا يرويه عنه إلا مقرونا ببيان أنه إنما سمعه منه بعد الاختلاط. والخواستي وثقه ابن حبان وابن منده وابن السمعاني، وقال ابن عدي في ترجمة سويد «يقال أنه لا بأس به» لكنه عده عند هذا الحديث في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن بن وهب فيمن سرق هذا الحديث من نعيم. وذكر الذهبي في (الميزان) متابعة هؤلاء الثلاثة لنعيم ثم قال: «قلت هؤلاء الأربعة لا يجوز في العادة أن يتفقوا على باطل، فإن كان خطأ، فمن عيسى بن يونس» . والله أعلم. (1)
الحديث الثاني: قال ابن جرير في تفسير سورة «سبأ» : «حدثني زكريا بن أبان المصري قال: ثنا نعيم قال: ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله أن يوحي بالأمر أخذت السموات منه رجفة - أو قال: رعدة - شديدة خوف أمر الله، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم جبرائيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير، قال: فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمره الله» .
سئل عنه دحيم فقال: لا أصل له.
أقول: المتن غير منكر، وله شواهد، ففي (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة مرفوعاً «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة علة صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الذي قال: قال: الحق وهو العلي الكبير ... » هكذا في تفسير سورة «سبأ» ، وأخرجه البخاري أيضاً في «التوحيد» وذكر معه «قال مسروق عن ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئاً فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا
__________
(1) أنظر «الأحكام الكبرى» بتحقيقي رقم (144) .(2/735)
أنه الحق من ربكم ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق» وذكر ابن حجر في (الفتح) طرق حديث ابن مسعود وأنه جاء من عدة أوجه مرفوعاً وفي بعض طرق « ... فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم، قال ويقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ قال: فيقول الحق، قال: فينادون الحق الحق» وراجع تفسيره سورة «سبأ» من (تفسير ابن جرير) ، وراجع (الفتح) في تفسيره سورة (سبأ» وفي «التوحيد» فالنكارة في السند فقط، وقد يقال: نعيم مكثر جداً، وكان يتتبع هذا الضرب من الأحاديث، والوليد مكثر جداً تفرد بأحاديث كثيرة فيحتمل هذا الحديث لنعيم، فإن كان هناك خطأ فقد مر وجهه. والله اعلم.
الحديث الثالث: في (تاريخ بغداد) ج 13 ص 311 من طريق محمد بن إسماعيل الترمذي «حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن إسماعيل الترمذي «حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه تعالى في المنام في أحسن صورة شاباً موفراً رجلاه في خف عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب» . أقول في (اللآلئ المصنوعة) ج 1 ص 16 بعد ذكر حديث نعيم هذا: «ولم ينفرد بهذا الحديث فقد رواه جماعة عن ابن وهب قال الطبراني: حدثنا روح بن الفرج حدثنا يحيى ابن بكير ح وحدثنا أحمد بن رشدين حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي وأحمد بن صالح قالوا: حدثنا عبد الله بن وهب - فذكره بسنده ومتنه سواء» ثم ذكر حديث حماد بن سلمة بسنده إلى ابن عباس مرفوعاً: «رأيت ربي في صورة شاب له وفرة» وتصحيح أبي زرعه له وعدة متابعات وشواهد له. والطبراني وروح ابن الفرج ويحيى بن بكير من الثقات، وفي يحيى كلام يسير لا يضره، وهو من رجال (الصحيحين) . ويحيى بن سليمان وأحمد بن صالح ثقتان لكن الراوي عنهما أحمد ابن الحداد الفقيه أنه سمع النسائي يقول: «ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله عز وجل؟!» وهذا يشعر بأن النسائي عرف ثبوت الحديث عن بن عثمان حتى يصدق على الله عز وجل؟!» وهذا يشعر بأن النسائي عرف ثبوت الحديث عن ابن وهب(2/736)
بسنده فلم يحمل على نعيم ولا يحيى بن بكير وإنما ترقى إلى مروان بن عثمان ومروان ضعفه أبو حاتم، وقال ابن حبان في ترجمة عمارة بن عامر: «حدثنا منكراً، لم يسمع عمارة من أم الطفيل» فأعلمه بالانقطاع. وعلى كل حال فقد ظهرت براءة نعيم من عهدة هذا الحديث.
الحديث الرابع: قال الترمذي في أواخر «كتاب الفتن» من _ جامعه) : «حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني حدثنا بن حماد الترمذي نعيم حماد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ك إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمكر به هلك، ثم يأتي زمان من عمل منكم بعشر ما أمر به نجا. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد بعشر ما أمر به نجا. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث نعيم بن حماد عن سفيان بن عيينة، قال: وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد» .
أقول: حديث أبي ذر في (مسند أحمد) ج 5 ص 155 و (التاريخ الكبير) للبخاري ج 1 قسم 2 ص 371.
فكأنه وقع لنعيم حديث أبي ذر أو أبي سعيد بسند، وحديث آخر عن سفيان بن عيينة بسنده فاشتبه عليه الحديثان، فظن أنه سمع ذاك سمع ذاك المتن بهذا السند. والله أعلم.
الحديث الخامس والسادس: في (الميزان) : «ومنها حديثه عن ابن المبارك وعبدة عن عبيد الله عن نافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، والمحفوظ أنه موقوف» وفيه «نعيم عن الدر أوردي عن سيهل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، قال: لا تقل أهر يق الماء ولكن قل أبول. والصواب أنه موقوف» .
أقول: إن ثبت رجحان الوقف فيهما فالأمر هين ومثل هذا الخطأ لم يكد يسلم منه أحد كما ترى في كتب العلل. وقد اغتفر أكثر من ذلك لمن لا يساوي نعيما في كثرة الحديث ولا ينصفه.(2/737)
الحديث السابع والثامن: في (الميزان) : «بقية عن ثور عن خالد بن معدان عن واثلة بن الأسقع مرفوعا: المتعبد بلا فقه كالحمار في الطاحونة. وبه قال: تغطية الرأس بالنهار فقه، وبالليل ريبة. لم يروهما عن بقية سواء» .
أقول: بقية بن الوليد بحر لا ساحل له يأخذ عن كل من دب ودرج ويدلس فالتفرد عنه ليس بالمنكر ولا سيما لمثل نعيم.
فهذه هي الأحاديث التي ذكرت في (الميزان) في ترجمة نعيم وقضية ذلك أنها أشد ما انتقد عليه، ومن تدبر ذلك وعلم كثرة حديث نعيم وشيوخه، وأنه كان يحدث من حفظه، وكان قد طالع كتب العلل جزم بأن نعيماً مظلوم، وأن حقه أن يحتج به ولو انفرد، إلا أنه يجب التوقف عما ينكر مما ينفرد به، فإن غيره من الثقات المتفق عليهم قد تفردوا وغلطوا، هذا التوقف عما ينكر مما ينفرد به، فإن غيره من الثقات المتفق عليهم قد تفردوا وغلطوا، هذا الوليد بن مسلم يقول أبو داود: «روى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، منها أربعة عن نافع» ، ولذلك نظائر. أما الاحتجاج به فيما توبع عليه فواضح جداً، وكذلك ما يرويه من كلام مشايخه أنفسهم، إلا أنه قد يحتمل أن يروي بعض ذلك بالمعنى فيتفق أن يقع فيما رواه لفظ أبلغ مما سمعه وكلمة أشد، فإذا كان للفظ الذي حكاه متابعة أو شاهد اندفع هذا الاحتمال. والله أعلم. (1)
259- الوضاح بن عبد الله أبو عوانة أحد الأئمة. راجع (الطليعة) ص 43 و46 و53 و106 و108 والعبارة التي نقلتها ص 57 عن (الثقات) وجدتها كذلك في نسخة أخرى من (الثقات) جيدة في المكتبة السعيدية بحيدر آباد، وما ذكرته في الموضع الأخير رأيت ما يتعلق به في ترجمة أبي عوانة من (تاريخ جرجان) لحمزة بن يوسف السهمي قال «سمعت أبا بكر الإسماعيلي
__________
(1) نوح بن أبي مريم. تقدم له ذكر في ترجمة نعيم لما رواه البيهقي عن نعيم عنه وكما قال الأستاذ «كلام أهل الجرح فيه معلوم» .(2/738)
وعبد الله بن الحافظ يقولان: أبو عوانة اسمه الوضاح وهو من سبي جرجان سكن البصرة وهو مولى يزيد بن عطاء الواسطي مات سنة سبعين ومائة» .
وتعقب الأستاذ في (الترحيب) ص 41 ما ذكرته في (الطليعة) ص 53 - 55 أن علي ابن عاصم إنما قال: «وضاح» لا «وضاع» فذكر الأستاذ أن قولي في دائرة الاحتمال، قال: «لكن قول علي بن عاصم في جرير بن عبد الحميد: ذاك الصبي - وفي شعبة: ذاك المسكين - يبعد احتمال ذكر اسم أبي عوانة على أن الغالب في اسمه: الوضاح - باللام، بل يكون علي ابن عاصم أسرف في رميه أبا عوانة بالوضع والكذب» .
أقول: ليس في هذا ما يدفع الحق فقد ذكرت في (الطليعة) من القرائن ما هو أقوى من هذا بكثير، بل ليس لهذا قوة البتة، فإن من المعروف أن ذكر الرجل بكنيته إكرام له، وكان أبو عوانة مشهوراً بكنيته لا يكاد يذكر إلا بها فنص علي بن عاصم على اسمه تأكيداً لاحتقاره، رداً على مخاطبة الذي ذكره بلفظ «أبو عوانة» كأنه قال: «ليس بأهل أن يذكر بكنيته وإنما ينبغي أن يذكر اسمه» ولهذا الغرض نفسه قال: «ليس بأهل أن يذكر بكنيته وإنما ينبغي أن يذكر اسمه» ولهذا الغرض نفسه قال: «وضاح» بترك اللام، لأن في الإتيان باللام تفخيماً للاسم ينافي غرضه، ولم يتفق له مثل هذا في شعبة وجرير لأنهما معروفان باسميهما، ولا تدخل عليهما اللام فاعتاض عن ذلك بأن ترك التلفظ باسميهما، على أن في ترجمة أبي عوانة من (تاريخ البخاري) «وضاع» بدون لام، وأكثر ما يذكر أبو عوانة بكنيته، فالغلبة التي زعمها الأستاذ ليست بحيث يسوغ الاعتداد بها، ولا أرى الأمر إلا أو ضح من هذا، ولولا غلبة الهوى على الأستاذ الكوثري لما كابر، والذي أو قع مصحح (تهذيب التهذيب) في الغلط مع قرب الشكل أنه لم يكن ممارساً للفن، وترجمة أبي عوانة متأخرة عن ترجمة علي بن عاصم التي ذكرت فيها تلك العبارة، وذكر أبي عوانة فيما قبل ذلك يقع بكنيته، وقد عرف ذاك المصحح أن من ألفاظ المحدثين «وضاع» فمشى عليه الخطأ كما مشى عليه مثله وأبعد منه في مواضع كثيرة من الكتاب يعرفها الأستاذ وغيره.(2/739)
260- الوليد بن مسلم. في (تاريخ بغداد) 13 / 400 من طريق آبى معمر «حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن انس: أيتكلم برأي أبي حنيفة عندكم؟ قلت: نعم، قال: ما ينبغي لبلدكم أن تسكن» ومن وجه آخر عن أبي معمر: «عن الوليد بن مسلم قال: قال لي مالك بن انس: أيذكر أبو حنيفة ببلدكم؟ قلت: نعم، قال: ما ينبغي لبلدكم أن تسكن» .
قال الأستاذ ص 114: «ينسبه ابن عدي إلى التدليس الفاحش» .
أقول: قد علم الأستاذ أن التدليس ليس بجرح، وإنما يذكر صاحبه به ليعرف فلا يقضي على ما جاء عنه بالعنعنة أنه متصل ما لم يتبين ذلك من وجه آخر، وقد صرح الوليد هنا بالسماع غاية التصريح فلا مدخل للتدليس هنا البتة.
261- هشام بن عروة بن الزبير بن العوام. تقدم ما يتعلق به في الفصل الثالث أوائل الكتاب. وقال الأستاذ في حاشية ص 98 من (التأنيب) : « ... على أن ما يؤخذ به هشام بعد رحيله إلى العراق أمور تتعلق بالضبط في التحقيق وإلا فمالك أخرج عنه في (الموطأ) » .
أقول: في (تهذيب التهذيب) : «قال أبو الحسن بن القطان: تغير قبل موته، ولم نر له في ذلك سلفاً» . وقال الذهبي في (الميزان) : «هشام بن عروة أحد الأعلام، حجة، إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه أو وهم ... ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم في غضون ذلك يسيراً أحاديث لم يجودها، ومثل ذلك يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط، وذر خلط الأئمة الثقات بالضعفاء والمختلطين فهو شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان!» .
أقول: أما النسيان فلا يلزم منه خلل في الضبط لأن غايته أنه كان أولاً يحفظ أحاديث فحدث بها ثم نسيها فلم يحدث بها.(2/740)
وأما الوهم، فإذا كان يسيراً يقع مثله لمالك وشعبة وكبار الثقات فلا يستحق أن يسمى خللاً في الضبط، ولا ينبغي أن يسمى تغيراً، غاية الأمر أنه رجع عن الكمال الفائق المعروف لمالك وشعبة وكبار الثقات، ولم يذكروا في ترجمته شيئاً نسب فيه إلى الوهم إلا ما وقع له مرة في حديث أم زرع، والحديث في (الصحيحين) وغيرهما عنه عن أبيه عن عائشة قالت: «جلس إحدى عشرة امرأة ... » فساقت القصة بطولها وفيها ذكر أم زرع، وفي آخره: «قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كأبي زرع لأم زرع» .
وهذا السياق صحيح اتفاقاً ولكن رواه هشام مرة أخرى فرفع القصة كلها، وقد توبع على ذلك كما في (الفتح) ولكن الأول أرجح، وأستدل بعضهم على رفع القصة كلها بأن المرفوع اتفاقاً وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كنت لك كأبي زرع لأم زرع» مبنى على القصة فلا بد أن يكون صلى الله عليه وسلم بدأ فذكر القصة ثم بنى عليها تلك الكلمة أو بدأ بتلك الكلمة فسألته عائشة فذكر القصة. وأجيب باحتمال أن تكون القصة كانت مما يحكيه العرب وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد سمعهم يحكونها وعلم أن عائشة قد سمعنها فبنى عليها تلك الكلمة. وعلى كل حال فهذا وهم يسير قد رجع عنه هشام. يقي ما قيل: إن هشاماً كان يدلس ن قال يعقوب بن سفيان: «ثقة ثبت لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إلى العراق فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي نرى أن هشاما تسهل لأهل العراق، إنه كان لا يحدث عن أبيه آبى بما سمعه منه، فكن تسهله أنه أرسل عن أبيه عما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه» وجاء عن ابن خراش ما يفهم منه هذا المعنى وقد تفهم منه زيادة لا دليل عليها فلا تقبل من ابن خراش، وعدة ابن حجر في الطبقة الأول من المدلسين، وهو طبقة من لم يوصف بذلك إلا نادراً.
والتحقيق أنه لم يدلس قط ولكن كان ربما يحدث بالحديث عن فلان عن أبيه فيسمع الناس منه ذلك ويعرفونه ثم ربما ذكر ذلك الحديث بلفظ «قال أبي» أو نحوه(2/741)
اتكالاً على أنه قد سبق بيان أنه إنما سمعه من فلان عن أبيه، فيغتنم بعض الناس حكايته الثانية فيروي ذاك الحديث عنه عن أبيه لما فيه صورة العلو، مع الاتكال على أن الناس قد سمعوا روايته الأولى وحفظوها. وفي مقدمة (صحيح مسلم) ما يصرح بأن هشاماً غير مدلس، وفيه أن غير المدلس قد يرسل وذكر لذلك أمثلة منها حديث رواه جماعة عن هشام «أخبرني أخي عثمان بن عروة عن عروة» . ورواه آخرون عن هشام عن أبيه، ومع هذا فإنما اتفق لهشام مثل ذلك نادراً، ولم يتفق إلا حيث يكون الذي بينه وبين أبيه ثقة لا شك فيه كأخيه عثمان ومحمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة. والله الموفق.
262- هشام بن محمد بن السائب الكلبي. من عادة الخطيب أن يذكر آخر ترجمة الرجل تاريخ وفاته ورؤيا رئيت له بعد موته وأبياتاً قيلي في رثائه حيث يتيسر ذلك، فذكر في آخر ترجمة محمد بت الحسن تاريخ وفاته، واتصل بذلك أبيات رثى بها ذكر ما روي أنه رئي في المنام فقال: «قال لي إني لم أجعلك وعاء للعلم وأنا أريد أن أعذبك - قيل له فما فعل أبو يوسف؟ قال: فوقي - قيل فما فعل أبو حنيفة؟ قال: فوق أبي يوسف بطبقات» . وربما اتفق أن يكون فيما يختم به الترجمة من الشعر غضاضة ما على صاحب الترجمة فيغتفرها الخطيب في سبيل تزيينه (التاريخ) كما فعل في ترجمة الأصمعي حيث ذكر البيتين المعروفين:
لعن الله أعظماً حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظماً تبغض النبي وأهل الـ ... بيت والطيبين والطيبات
وهذا مع تبجيل الخطيب للأصمعي وأنه لا غرض له في ذمة، فاتفق له ما هو دون هذا بكثير في ترجمة أبي يوسف، ذكر ما روي عن معروف الكرخي أنه قال: «رأيت كأني دخلت الجنة فإذا قصر قد بني وثم شرفه ... فقلت لمن هذا؟ فقالوا: لأبي يوسف القاضي ... بتعليمه الناس الخير ... » ثم ذكر تاريخ وفاته وذكر من طريق هشام ابن الكلبي أبياتاً ذكر أنها أنشدت على قبر أبي يوسف عقب وفاته أولها:(2/742)
سقى جدثاً به يعقوب أمسى ... من الوسمى منبجس ركام (1)
وفيها تنكيت شعري خفيف بلا سبب ولا لعن، فجاء الكوثري فذكر الأصمعي وغضب عليه لروايته ما سمع، وتجني عليه وذكر بدون أدنى مناسبة بيتي اللعن تشفياً من الأصمعي فقط، ثم في ترجمة محمد بن الحسن ضج وعج وهاج وماج وطول ينقم على الخطيب إيراد الإثبات المذكورة، والوقت أعز من أن نضيعه في تعقب تهويل الكوثري فأما ابن الكلبي فكما قال.
263- الهيثم بن جميل. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 من طريق عبد الله بن خبيق قال: سمعت الهيثم بن جميل يقول: سمعت أبا عوانة يقول: كان أبو حنيفة مرجئا يرى السيف ... ، قال الأستاذ ص 71: «قال ابن عدي: لم يكن بالحافظ يغلط على الثقات» .
أقول: روى عبد الله بن أحمد عن أبيه: «كان أصحاب الحديث ببغداد أبو كامل وأبو مسلمة الخز الخزاعي والهيثم، وكان الهيثم أحفظهم وأبو كامل أتقنهم» . ذكر هذا في (التهذيب) في ترجمة أبي كامل مظفر بن مدرك ثم قال: «وحكى أبو طالب عن أحمد نحوه وزاد: لم يكونوا يحملون عن كل أحد، ولم يكتبوا إلا عن الثقات» وذكر في ترجمة الهيثم قول أحمد: «ثقة» قال: «وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. وقال إبراهيم الحربي: أما الصدق فلا يدفع عنه، وهو ثقة. وقال الدارقطني: ثقة حافظ» . وذكر قبل ذلك قول ابن سعد « ... وكان ثقة» أما الغلط فذكر له الذهبي في (الميزان) حديثاً واحداً، فإن كان هو الذي أشار إليه ابن عدي، فابن عدي هو الغالط، والحديث هو ما رواه الهيثم عن أبي عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد
__________
(1) كذا هو بخط المصنف رحمه الله تعالى، والذي في «التاريخ» في المكان الذي أشار إليه (14 / 262) : « ... أضحى رهيناً لليل هزج ركام» . وكذا هو في «التأنيب» (ص 177) ، فالظاهر أن المؤلف كتب البيت من حفظه، لا نقلا عن «التاريخ» ، ويؤيد ذلك أنه ليس فيه قول المؤلف: «على قبر أبي يوسف عقب وفاته» . ن.(2/743)
بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. كأن المغلط بنى على أن هذا المتن معروف من رواية سفيان الثوري عن عبد الأعلى، فأما أبو عوانة فالمعروف من روايته عن عبد الأعلى بهذا السند حديث «لتقوا الحديث عني إلا ما علمتم من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» ويجاب عن هذا بأن في (مسند أحمد) ج 1 ص 323. حدثنا أبو الوليد ثنا أبو عوانة عن عبد الأعلى ... اتقوا الحديث عني ... ومن كذب في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» فجمع بين الجملتين، وأخرج الترمذي عن سفيان بن وكيع عن سويد عمرو الكلبي عن أبي عوانة نحوه وقال في الجملة الثانية «ومن قال في القرى، ... » فتبين أن المتنين حديث واحد اقتصر الثوري في روايته عن عبد الأعلى أحدهما، واقتصر أبو عوانة في روايته الهيثم على الآخر، وجمعهما في رواية أبي الوليد وسويد بن عمرو.
وفي (سنن البيهقي) ج 7 ص 462 من طريق ابن عدي بسنده إلى الهيثم «نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحرم الرضاع إلا ما كان في الحولين» ثم حكى عن ابن عدي قال: «غير الهيثم يوفقه علي ابن عباس» وذكره الدارقطني في (السنن) ص 498 ثم قال: «لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ «.
أقول: فإن حكم للهيثم كما قد يشعر به كلام الدارقطني فذاك، وإن ترجح خطؤه حكما يشير إليه كلام ابن عدي فمثل هذا الخطأ اليسير لم يسلم منه كبار الأئمة كما يعلم من كتب العلل. ومع ذلك فحكاية الهيثم عن أبي عوانة في شان أبي حنيفة بمظنة للخطأ. والله المستعان. (1)
264- يحيى بن حمزة بن واقد الحضرمي الأصل الدمشقي. في (تاريخ بغداد)
__________
(1) الهيثم بن خلف الدوري راجع (الطليعة) ص 51- 52 وراجع ما مر في ترجمة المسيب بن واضح وراجع (تاريخ جرجان) ترجمة سعيد بن سلم.(2/744)
13 / 372 من طريق «يعقوب بن سفيان حدثني علي بن عثمان بن نفيل حدثنا أبو مسهر حدثنا يحيى بن حمزة وسعيد يسمع أن أبا حنيفة قال: لو أن رجلاً عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأساً. فقال سعيد: هذا الكفر صراحاً» . قال الأستاذ ص 39 «يحيى بن حمزة قدري لا يتخذ قوله ضد أئمة السنة حجة» .
أقول: أما قوله من رأيه فربما، وأما روايته فلا وجه لردها كما مر تحقيقه في القواعد، وقد وثقه ابن معين ودحيم وأبو داود والنسائي ويعقوب بن شيبة وغيرهم، واحتج به الشيخان في (الصحيحين) وسائر الأئمة ولم يغمز بشيء سوى القدر، ولم يكن داعية، وقد توبع في هذه الحكاية كما مر في ترجمة القاسم بن حبيب - والله أعلم.
265- يحيى بن عبد الحميد الحماني. في (تاريخ بغداد) 13 / 379 من طرق مسدد بن قطن سمعت أبي يقول: سمعت يحيى بن عبد الحميد يقول: سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول: القرآن مخلوق» قال الأستاذ ص 56: «متكلم فيه إلى أن قيل فيه: كذاب» .
أقول: أما يحيى بن معين فكان يوثقه ويدافع عنه، وقد تضافرت الروايات على أن يحيى بن عبد الحميد كان يأخذ أحاديث الناس فيرويها عن شيوخهم، فإن كان يصرح في ذلك بالسماع فهذا هو المعروف بسرقة الحديث، وهو كذاب، وإلا فهو تدليس، وعلى كل حال فلم يتهم بوضع حديث أو حكاية، والأستاذ يعترف بأن أبا حنيفة كان يرى أن القرآن مخلوق ويعد ذلك من مناقبه. (1)
266- يزيد بن يوسف الشامي. في (تاريخ بغداد) 13 / 385 من طريقة «قال لي أبو إسحاق الفزاري جاءني نعي أخي من العراق ... » قال الأستاذ ص 70: «يقول عنه ابن معين: ليس بثقة. والنسائي: متروك» .
أقول: عبارة النسائي «متروك الحديث» وقال أبو داود: «ضعيف» وقال صالح بن
__________
(1) قلت: ومن ارتاب في ذلك فليراجع «التأنيب» (ص 53) . ن.(2/745)
محمد: «تركوا حديثه» وحكى ابن شاهين في (الضعفاء) أن ابن معين قال: «كان كذاباً» وقد أجمل بعضهم القول فيه، وتوبع على أصل القصة لكن في روايته زيادة أن أبا حنيفة هو الذي أفتى أخا أبي إسحاق بالخروج فتشبث الأستاذ في كلامه في أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري بهذه الزيادة كما مر في ترجمة أبي إسحاق، وتغافل عن تفرد يزيد هذا بتلك الزيادة. والله المستعان.
267- يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي أبو يوسف الفسوي. قال الأستاذ ص 100: «يقال: إنه كان يتكلم في عثمان» .
أقول: يعقوب إمام جليل علماً وحفظاً وإتباعا للسنة عنها، وهذه الساقطة التي لقطها الأستاذ أشار إليها الذهبي في ترجمة يعقوب من (تذكرة الحفاظ) ج 2 ص 146 قال «قيل إنه كان يتكلم في عثمان رضي الله عنه، ولم يصح» !
268- يوسف بن أسباط. في (تاريخ بغداد) 13 / 324 من طريق «محبوب بن موسى يقول: سمعت ابن أسباط يقول: ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني» قال الأستاذ ص 17 «من مغفلي الزهاد، دفن كتبه واختلط، واستقر الأمر على أنه لا يحتج به، وأين هذا السند من سند الخبر الذي يليه في (تاريخ الخطيب) نفسه وفيه: وولد ثابت على الإسلام ... وجد أبي حنيفة النعمان بن قيس المرزبان بن زوطى بن ماه كان حامل راية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوم النهر - كما ذكره ... السمناني في كتاب (روضة الفضلاء) ... ودعاء علي كرم الله وجهه لوالد أبي حنيفة في عهد جده مما ساقه الخطيب بسنده ... بل لم يكن بين أجداده نصراني أصلاً لأنه منحدر النسب من دم فارسي» .
أقول: أما التغفيل والاختلاط فمن مفتريات الكوثري، وأما دفن كتبه فصحيح، وكذلك فعل آخرون من أهل الورع، (1) كانوا يرون أن حفظ الحديث
__________
(1) هذا من قبيل إضافة المال، والعلم أعز منه، فأين هو من الورع؟! وبيانه في «تلبيس إبليس» 377.ن(2/746)
وروايته فرض كفاية، وأن في غيرهم من أهل العلم من يقوم بالكفاية وزيادة، ويرون أن التصدي للرواية مع قيام الكفاية بغيرهم لا يخلو من حظ النفس بطلب المنزلة بين الناس. ثم لم يتصد يوسف للرواية بعد أن دفن كتبه ولكن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرغب في الطاعة ويحذر من المعصية، ويحض علي أتباع السنة / وينفر عن البدعة، فربما احتاج لآي أثناء ذلك؟ قال ابن معين: «ثقة» وقال ابن حبان في (الثقات) : «كان من عباد أهل الشام وقرائهم، سكن إنطاكية وكان لا يأكل إلا الحلال، فإن لم يجده استف التراب، وكان من خيار أهل زمانه، مستقيم الحديث، ربما أخطأ مات سنة 195» فعبارة ابن حبان تعطي أن خطأه كان يسيراً لا يمنع من الاحتجاج حيث لم يتبين خطؤه، ويشهد لذلك إطلاق ابن معين أنه ثقة. وقال البخاري: «كان قد دفن كتبه فصار لا يجيء بالحديث كما ينبغي» .
وهذا يشعر بأنه كان يكثر منه الخطأ في مظانه، وقريب من ذلك قول ابن عدي: «من أهل الصدق إلا أنه لما عدم كتبه صار يحمل على حفظه فيغلظ ويشتبه عليه ولا يعتمد الكذب وبالغ الخطيب فقال: «يغلط في الحديث كثيراً» .
فأما قول الأستاذ: «وأين هذا من سند الخبر الذي يليه» فذاك الخبر من طريق عمر ابن حماد بن أبي حنيفة قال: أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى فأما زوطى فإنه من أهل كابل، وولد ثابت على الإسلام وكان زوطى مملوكاً لبني تيم الله ثعلبة فأعتق ... » فهذا الخبر وإن خالف ما مر عن يوسف بن أسباط، فهو مخالف لما زاده السمناني عصري الخطيب كما يقوله الأستاذ ولم يذكر السمناني سنداً فيما يظهر وبينه وبين النهروان نحو أربعمائة سنة، ومخالف أيضاً لما يروي عن إسماعيل بن حماد من إنكار أن يكونوا مولى عتاقة» وما ذكر من دعاء علي رضي الله عنه لا يصح(2/747)
سنده إلى إسماعيل بن حماد كما أشار إليه في (تهذيب التهذيب) ، وإسماعيل إسماعيل! وفي الحكاية ما ينكره الأستاذ وهو قوله: «ولد جدي النعمان سنة ثمانين» وإن صح أنه من أبناء فارس لم يمنع ذلك أن يكون تنصر أحد آبائه، وقد كان سلمان الفارسي نصرانياً، وفي قصته أنه كان في بلاد فارس دعاة إلى النصرانية، وأيا ما كان فالحرص على إثبات شيء مما يتعلق بذاك الاختلاف لا يليق بأهل العلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى. وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى» .
269- أبو الأخنس الكناني. في (تاريخ بغداد) 13 / 375 من طريق «أحمد بن على الأبار حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثني أبو الأخنس الكناني قال: رأيت أبا حنيفة - أو حدثني الثقة أنه رأى أبا حنيفة - آخذا بزمام بعير مولاة للجهم قدمت «من» خراسان يقود جملها بظهر الكوفة» قال الأستاذ ص 50: «الراوي عن أبي حنيفة في هذه الحكاية مغفل لا يدري هل رأى أبا حنيفة أو سمع من رآه» . أقول: الظاهر أن الشك ممن بعده، وأبو الأخنس هذا اسمه بكير كما ذكره الدولابي الحنفي في (الكنى) ج 1 ص 117 وساق إلى «معاوية بن صالح قال: ثنا منصور بن أبي مزاحم قال: ثنا أبو الأخنس بكير الكناني ... » وقد تعددت الحكايات في شأن أبي حنيفة وامرأة جهمية، واختلفت في نسبتها إلى جهم، ففي بعضها أنها امرأة جهم، وفي بعضها أنها مولاته، وفي بعضها أنها امرأة كانت تجالسه. والله أعلم.(2/748)
270- أبو جزي بن عمرو بن سعيد بن سلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي. في «تاريخ بغداد» 13 / 375 من طريق يعقوب بن سفيان: «حدثنا أبو جزي (بن) عمرو بن سعيد ابن سالم «صوابه سلم» قال: سمعت جدي قال: قلت: لأبي يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئاً؟ قال: نعم قلت: أكان جهمياً؟ قال: نعم «قلت» (1) : فأين أنت منه قال: أنما كان أبو حنيفة مدرساً فما كان من قوله حسناً قبلنها وما كان قبيحاً تركنها ذكر الأستاذ ص 46 أن في الطبعة الهندية والنسخة الخطية من «التاريخ» : «أبو جزي ابن عمرو» وهو الصواب ثم شكك في سعيد ابن سالم ومال إلى أنه سعيد بن سلم ثم قال: «على أنه لا يعرف له ابن يسمى عمراً ولا أبن ابن يكنى أبا جزي» أقول: بل ذلك معروف ففي الباب 41 من الجزء الرابع من «خصائص ابن حني» «أنشد الأصمعي آبا توبة ميمون بن حفص مؤدب عمرو بن سعيد بن سلم بحضره سعيد» وفي «الكامل» للمبرد ص 716: «حدثني علي بن القاسم قال: حدثني أبو هلابة الجرمي قال: حججنا مرة مع أبي جزي بن عمرو بن سعيد قال: وكنا في ذراه وهو إذ ذاك بهي وضي فجلسنا في المسجد الحرام: هذا أبو جزء أمير ابن عمرو وكان أميراً ابن سعيد وكان أميراً ابن سلم وكان أميرا ابن قتيبة وكان أميراً» وراجع ترجمة أحمد ابن الخليل.
271- أبو جعفر تقدمت الإشارة إلى حكايته في ترجمة زكريا يحيى الساجي قال الأستاذ ص 18: «مجهول» .
__________
(1) كذا الأصل، ولا داعي لوضع المعكوفتين، فان لفظه (قلت) ثابتة في «التاريخ» ، وكأن المصنف رحمه الله كان قد نقل هذه الحكاية من «التاريخ» إلى مسودته، فسقطت هذه اللفظة من قلمه، فلما كتب الحكاية هنا، ولم ير اللفظة تنبه لها، وأن السياق يقتضيها فاستدركها مشيراً إلى ذلك بوضعها بين المعكوفتين ظاناً أنها سقطت من الأصل لا من قلمه، ولم يتنبه لها فيما سبق فاستدركتها أنا هناك. ن.(2/749)
أقول: لم يتبين لي من هو؟ (1)
272- أبو محمد. في (تاريخ بغداد 13 / 379) من طريق «العباس بن عبد العظيم حدثنا أحمد بن يونس ... » ومن طريق «محمد بن العباس - يعني المؤدب - حدثنا أبو محمد - شيخ له - أخبرني أحمد بن يونس ... قال الأستاذ ص 57: «شيخ مجهول» .
أقول: إنما هي متابعة.
273- ابن سختويه بن مازيار. في (تاريخ بغداد) 13 / 375 من طريق أبي حامد ابن بلال «حدثنا ابن سختويه بن مازيار حدثنا علي بن عثمان ... » قال الأستاذ ص 48: «ليس محمد بن عمرو الشيرازي لتقدم وفاته، ولا هو إبراهيم بن محمد المزكي النيسابوري لتأخر وفاته عن وفاة أبي حامد بن بلال بدهر، ولا هو أحد أجداد المزكي لأن جد هذا البيت سختويه بن مازيار كما هنا وعلى وعلى فرض أنه أقيم عبد الله مقام مازيار يكون غير معلوم الصفة» .
أقول: ينبغي أن يراجع (تاريخ نيسابور) للحاكم ولم أقف عليه.
«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (2) .
__________
(1) أبو عاصم راجع (الطليعة) ص 29 - 30 ولا تلتفت إلى حركة المذبوح.
(2) الحشر (10) .(2/750)
القسم الثالث: البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضية(2/751)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الذي من يرد به خيراً يفقه في الدين، وأشهد وألا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمد وعلى آله، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل ابراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد: فهذه بضع عشرة مسألة وردت فيها أحاديث ذكر الخطيب في ترجمة أبي حنيفة من (تاريخ بغداد) إنكار بعض المتقدمين على أبي حنيفة ردها، فتعرض لها الأستاذ محمد زاهد الكوثري في كتابه (تأنيب الخطيب) فتعقبه في ذلك كما تعقبه في غيره وسأذكر في كل مسألة كلامه، وماله، وما عليه. وأسأل الله التوفيق.(2/753)
المسألة الأولى: إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس
في (تاريخ بغداد) 13/389 من طريق «الفضل بن موسى السيناني يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: من أصحابي من يبول قلتين. يرد على النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين لم ينجس» .
قال الأستاذ ص83: «وحديث القلتين (1) لم يأخذ به أحد من الفقهاء قبل المائتين (2) لأن في ذلك اضطراباً عظيماً (3) ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون (4) ولم ينفع تصحيح من صححه في الأخذ به لعدم تعين المراد بالقلتين (5) حتى أن ابن دقيق العيد يعترف في شرح (عمدة الأحكام) بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم في (الصحيح) (6) فدعونا معاشر الحنفية نتوضأ من الحنفيات ولا نغطس في المستنقعات» .
أقول: في هذه العبارة ستة أمور كما أشرت إليه بالأرقام.
فأما الأمر الأول فالمنقول عن السلف قبل أبي حنيفة وفي عصرها مذهبان:
الأول: أن الماء سواء أكان قليلاً أم كثيراً لا ينجس إلا أن تخالطه النجاسة فتغير لونه أو ريحه أو طعمه، وإليه ذهب المالك، وكذلك أحمد في رواية وهو أيسر المذاهب علماً وعملاً، وقد جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث(2/754)
أن الماء طهوراً لا ينجسه شيء (1) وجاء في الروايات استثناء ما غيرت النجاسة أحد أوصافه، وهي ضعيفة من جهة الاسناد، ولكن حكوا الاجماع على ذلك.
المذهب الثاني: أن هذا حكم الماء الكثير بحسب مقداره في نفسه فأما القليل فينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يغير أحد أوصافه، والقائلون بهذا يستثنون بعض النجاسات كالتي لا يدركها الطرف، والتي تعم بها البلوى وميتة ما لا دم له سائل، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. ثم المشهور في التقدير أن ما بلغ قلتين فهو كثير وما دون ذلك فهو قليل جاء في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث القلتين، وروي من قول عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبي هريرة، ومن قول مجاهد وغيره من التابعين، وأخذ به نصاً عبيد الله بن عبد الله بن عمر وبعض فقهاء مكة، والظاهر أن كل من روى الحديث من الصحابة فمن بعدهم يأخذ به، ولا يُعدل عن هذا الظاهر إلا بإثبات خلافة، ولم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدير آخر، فأما من بعده فرويت أقوال:
أولها عن ابن عباس ذكر ذنوبين (2) ، وفي سنده ضعف، ولو صح لما تحتمت مخالفته للقلتين فإن ابن عباس معروف بالميل إلى التيسير والتوسعة فلعله حمل القلتين على الإطلاق فرأى أنه يصدق بالقلتين الصغيرتين اللتين تسع كل منها ذنوباً (3) فقط.
ثانيها: عن سعيد بن جبير ذكر ثلاث قلال، وسعيد كان بالعراق فكأنه رأى قلال العراق صغيرة، كما أشار الشافعي القرب إلى ذلك في القرب، فحرز سعيد أن
__________
(1) - انظر تخريج الحديث طرقه ومن صححه من الأئمة في كتابنا «إرواء الغليل» رقم (12) ، وقد قاربنا الفراغ منه، ويسر الله طبعه بمنه وكرمه، وفي (صحيح أبي داود) رقم 59.ن
(2) و (3) الذنوب: الدلو، والقرب مثله.(2/755)
ثلاثا من قلال العراق تعادل القلتين اللتين يحمل عليهما الحديث.
ثالثها: عن مسروق قال: «إذا بلغ الماء كذا لم ينجسه شيء» ونحوه عن ابن سيرين وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وهؤلاء عراقيون فإما أن يكونوا لم يحققوا مقدار القلتين في الحديث بقلال العراق فأجملوا، وإما أن يكون كل منهم أشار إلى ماء معّين فأراد بقوله: «كذا» أي بمقدار هذا الماء المشار إليه، وقد ثبت بقولهم أنهم يرون التقدير، ولأن يحمل ذلك على التقدير المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من أن يحمل على تقدير لا يعلم له مستند من الشرع.
رابعها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص ذكر أربعين قلة، وروي مثله من وجه ضعيف عن أبي هريرة، وقيل عنه أربعين غرباً (1) ، وقيل، أربعين دلواً. وهذا القول يحتمل معنيين، الأول: المعنى المعروف لحديث القلتين، والمعنى الثاني أن ما بلغ الأربعين لا ينجس البتة، إلا مخالطة نجاسة لا تغير أحد أوصافه، لأنه قلتان وأكثر، ولا بمخالطة نجاسة تغير أحد أوصافه لأن ذلك لا يقع عادة، إذ لا يعرف ذاك العصر ببلاد العرب ماء يبلغ أربعين أو أزيد تقع فيه نجاسة تغيره. والمعنى الأول يحتاج إلى الاستثناء من منطوقه فيقال: إلا أن يتغير، ومن مفهومه فيقال: إلا بعض النجاسات كميتة ما لا دم له سائل، مع ذلك لا يكون لمفهومه مستند معروف من الشرع بل المنقول عن الشرع خلافه.
وأيضاً فلم يذهب إليه أحد من الفقهاء. فأما أن يترجح المعنى الثاني وتكون فائدة ذاك القول أن من ورد ماء فوجده متغيراً فإن كان من الكثرة بحيث لا يعرف عادة أن تقع فيه نجاسة تغيره فله استعماله بدون بحث، وإن كان دون ذلك فعليه أن يتروى ويبحث، وإما أن يحمل على المعنى الأول ويطرح مفهومه ويقال: لعل ذاك القول كان عند سؤال عن ماء بذاك المقدر وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، فذكر الأربعين لموافقة الواقع لا للتقيد.
__________
(1) الغرب: هو إناء من جلد البقر يستخرج به الماء من الآبار.(2/756)
هذا، ولم أجد عن المتقدمين من الفقهاء، وغيرهم حرفا واحداً فيه التفات إلى ما اعتمده الحنفية من اعتبار مساحة وجه الماء دون مقداره وكان الأستاذ شعر بهذا فحاول عبثاً أن يشرك مع مذهبه في ذلك مذهب القلتين، إذ قال: «لم يأخذ به أحد الفقهاء قبل المائتين» وقد علم أن القول بالقلتين مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم.
فأما الحنفية فذهبوا في الجملة إلى الفرق بين القليل والكثير لكنهم لم يعتبروا مقدار الماء في نفسه، وإنما نظروا إلى مساحة وجهه وعندهم في ذلك روايات:
الأولى: أن الماء راكد الذي تقع فيه نجاسة لا تغير أحد أوصافه، إذا كانت مساحة وجهه بحيث يظن المحتاج خلوص النجاسة من أحد طرفية إلى الآخر بنجس وإلا فلا.
الثانية: أنه إذا كانت بحيث ذا حرك أدناه اضطرب شديد جداً كما تراه في كتبهم المطولة.
واستبعد بعضهم عدم اعتبار العمق، فاشترطوا عمقاً! واختلفوا في قدره! فقيل أن يكون بحيث لا ينحسر بالاغتراف، وقيل: أربع أصابع، وقيل: ما بلغ الكعبين، وقيل: شبر، وقيل: ذراع، وقيل: ذراعان!!!
واختلف على الرواية الثانية في الحركة فقيل: حركة المغتسل، وقيل المتوضئ، وقيل اليد، ولم يعتبروا وقوع الحركة إنما ذكروها لمعرفة قدر المساحة، سواء في الحكم عندهم أكان الماء عند وقوع النجاسة وبعدها ساكناً أم تحرك، وقالوا: إذا كان بالمساحة المشروطة فللمحتاج أن يغتسل النجاسة وإن لم يكن قد تحرك! وقالوا: إذا كانت مساحة وجه الماء تساوى القدر المشروط كفى وإن كان دقيقاً كأن يكون طوله مائة ذراع وعرضه ذراعاً! وقال محققهم ابن الهمام في ترجيح الرواية الأولى: «هو الأليق بأصل أبي حنيفة أعني عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير شرعي» .
أقول: والرواية الأولى فيها تحكم، والبول مثلاً إذا وقع في الماء ثم تحرك الماء خلصت ذرات البول إلى جميع الماء كما تشاهد إذا صببت قارورة مداد في حوض فقد(2/757)
يظهر لون مداد في الماء واضحاً، وقد يظهر بتأمل، وقد لا يظهر ذلك بسب اختلاف قدر الماء وقدر المداد وقدر لونه، وعلى كل حال فالخلوص محقق، وإنما لا يظهر اللون لتفرق الذرات، وظنون الناس لا ترجع غالباً إلى دلالة وإنما ترجع إلى طبائعهم، فمنهم متقزز ينفر عن حوض كبير إذا رأى إنساناً واحداً بال فيه وآخر لا ينفر، ولكن لوا رأى ثلاثة بالوا فيه لنفر، وثالث لا ينفر ولو رأى عشرة بالوا فيه. وإذا جردت الرواية الأولى عن التحكم، لم يكد يتحصل منها إلا أن قائلها وَكَّل الناس إلى طباعهم، وفي عد هذا قولاً ومذهباً نظر. وقد حكى الحنفية أن محمد بن الحسن كان يقول: بعشر في عشر، ثم رجع وقال: «لا أوقت شيئاً» وعقد الشافعي لهذه المسألة باباً طويلاً تراه في الكتاب (اختلاف الحديث) بهامش (الأم) ج7ص105-125 وذكر أنه أنه ناظر بعضهم، والظاهر أنه محمد بن الحسن، وفي المناظرة: «قال قد سمعت قولك في الماء» فلو قلت لا ينجس الماء بحال للقياس على ما وصفت أن الماء يزيل الأنجاس كان قولاً لا يستطيع أحدُ رده ...
قلت: ولا يجوز إلا أن ينجس شيء من الماء إلا بأن يتغير ... أو ينجس كله بكل ما خالطه؟ قال: ما يستقيم في القياس إلا هذا، ولكن لا قياس مع خلاف خبر لازم. قلت: فقد خالفت الخبر اللازم ولم تقل معقولاً ولم تقس» وقال في موضع آخر: «فقال: لقد سمعت أبا يوسف يقول: قول الحجازيين في الماء أحسن من قولنا، وقولنا فيه خطأ» . وقال في موضع آخر: «ما أحسن قولكم في الماء» .
أقول: فانحصر الحق في المذهبين الأولين وسقط ما يخالفهما.
وأما الأمر الثاني: وهو الاضطراب في روايات ذاك الحديث فالاضطراب الضار أن يكون الحديث حجة على أحد الوجهين مثلاًَ دون الأخر ولا يتجه الجمع ولا الترجيح، أو يكثر الاضطراب ويشتد بحيث يدل إن الراوي المضطرب الذي مدار الحديث عليه لم يضبط. وليس الأمر في هذا الحديث كذلك كما يعلم من مراجعة (سنن الدارقطني) و (المستدرك) و (سنن البيهقي (1)) .
__________
(1) قلت: وقد بينت ذلك في «صحيح سنن أبي داود» رقم (58) .ن(2/758)
وأما الأمر الثالث وهو قول الأستاذ «ولم يقل بتصحيحه إلا المتساهلون» ففيه مجازفة فقد صححه الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام، وحكى الشافعي عن مناظرة من الحنفية ويظهر أنه محمد بن الحسن أنه اعترف بثبوته، كما في كتاب (اختلاف الحديث) بهامش (الأم) ج7ص 115ولفظة «فقلت: أليس تثبيت الأحاديث التي وصفت. فقال: أما حديث الوليد بن كثير «وهو حديث القلتين» ، وحديث ولوغ الكلب في الماء، وحديث موسى بن أبي عثمان فتثبت بإسنادها، وحديث بئر بضاعة فيثبت بشهرته وأنه معروف» ؛ واعترف الطحاوي بصحته كما يأتي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، قال الحاكم في (المستدرك) ج1ص132: «حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا جميعاً بجمع رواته ولم يخرجاه، وأظنهما والله أعلم لم يخرجاه لخلاف فيه ... » ثم ذكر الخلاف وأثبت أن ما هو متابعة تزيد الحديث قوة.
وأما الأمر الرابع وهو قول الأستاذ: «ولم ينفع تصحيح صححه لعدم تعين المراد بالقلتين» ففي (فتح الباري) : «واعترف الطحاوي من الحنفية بذلك (يعنى بصحة الحديث) لكنه اعتذر عن القول به بأن القلة في العرب تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة ولم يثبت في الحديث تقديرهما فيكون مجملاً فلا يعمل به وقواه ابن دقيق العيد ... .»
أقول: قال الله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ومن المساكين الصغير والكبير والطويل الجسيم والقصير القضيف، ومن المماليك الصغير والكبير وقد يقال نحو ذلك في الإطعام والكسوة إذ يصدقان بتمرة تمرة وقلنسوة، وأمثال هذا في النصوص كثير، وفيها ذكر المقادير كالصاع والرطل والمثقال والميل والفرسخ وغير ذلك مما(2/759)
وقع فيه الاشتباه والاختلاف، ولم يقل أحد في شيء من ذلك أنه مجمل، بل منهم من يقول بمقتضى الإطلاق، ومنهم من يذهب إلى الغالب أو الأوسط، ومنهم من يختار الأكمل فيمكن الأخذ بمعنى الإطلاق في القلتين فيؤول ذلك إلى تحقيق المقدار بما يملأ قلتين أصغر ما يكون من القلال ولا يخدش في ذلك أنه قد يكون مقدار قلة كبيرة أو نصفها مثلاً كما قد يأتي نحو ذلك في كسوة المساكين على القول بأنه يكفى ما يسمى كسوة المساكين. ويمكن الأخذ بالأحوط كما فعل الشافعي وغيره، ولا ريب أن ما بلغ قلتين من أكبر القلال المعهودة حينئذ وزاد على ذلك داخل في الحكم منطوق الحديث حتماً على كل تقدير، وهو أنه لا ينجس، وأن ما لم يبلغ قلتين من أصغر القلال المعهود حينئذ داخل في الحكم مفهوم الحديث حتماً، وهو أنه ينجس، فلا يتوهم في الحديث إجمال بالنظر إلى هذين المقدارين وإنما يبقى الشك في ما بينهما فيؤخذ فيه بالاحتياط.
وقال ابن التركماني في (الجوهر النقي) : «وقد اختلف في تفسير القلتين اختلافاً شديداً كما ترى، ففسرتا بخمس قرب، وبأربع، وبأربعة وستين رطلا، وباثنين وثلاثين رطلا، وبالجرتين مطلقا، وبالجرتين بقيد الكبر وبالخابيتين، والخابية: الحُبَّ، فظهر بهذا جهالة مقدار القلتين فتعذر العمل بها» .
أقول: أما الاختلاف في تفسير القلة بمقتضى اللغة فمن تأمل كلام أهل اللغة وموارد الاستعمال وتفسير المحدثين السابقين ظهر له أن القلة هي الجرة، وإنما جاء قيد الكبر من جهتين: الأولى: تفسير أهل الغريب لما ورد في الحديث في ذكر سدرة المنتهى «فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة» وقلال هجر مشهورة بالكبر، وتفخم شأن السدرة يقتضي الكبر.
الثانية: تفسير المحتاطين لحديث القلتين، وفي (سنن البيهقي) ج1ص264 عن مجاهد تفسير القلتين بالجرتين ونحوه عن وكيع ويحيى بن آدم، وعن ابن إسحاق: «هذه الجرار التي يستقى فيها الماء والدواريق» وعن هشيم: «الجرتين الكبار» وعن(2/760)
عاصم بن منذر: «الخوابي العظام» .
وأكثر الآخذين بحديث القلتين أخذوا بالاحتياط فاشترطوا الكبر والخابية هي الحب والحب هو الجرة أو الجرة الكبيرة، وعلى كل حال فما بلغ جرتين من أكبر ما يعهد من الجرار داخل في الحكم منطوق الحديث حتماً وما لم يبلغ الجرتين من اصغر ما يعهد من الجرار داخل في حكم مفهومه حتماً كما سلف.
وأما الاختلاف في مقدار ما تسع فأكثر الأوجه التي ذكرها ابن التركماني جاءت في خبر رواه ابن جريج عن محمد بن يحيى عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً ولا بأساً» رواه أبو قرة عن ابن جريج وقال فيه: «قال محمد فرأيت قلال هجر فأظن كل قلة تأخذ قربتين» ورواه الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري عن أبي حميد المصّيِصي عن حجاج عن ابن جريج وقال فيه: «قال فأظن أن كل قلة تأخذ الفَرَقَيْن» رواه البيهقي عن أبي حامد أحمد بن على الرازي عن زاهر بن طاهر عن أبي بكر النيسابوري بإسناده مثله وزاد «والفرق ستة عشر رطلاً» ورواه الشافعي ثنا مسلم بن خالد عن ابن جريج لا يحضرني ذكره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثاً. وقال في الحديث بقلال هجر. قال ابن جريج: وقد رأيت قلال هجر فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً.
قال الشافعي: كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة أو نصف القربة فيقول: خمس قرب هو أكثر ما يسع قلتين، وقد تكون القلتان أقل من خمس قرب. قال الشافعي فالاحتياط أن تكون القلة فربتين ونصف ... وقرب الحجاز كبار ... » ومسلم بن خالد وإن ضعفه الأكثر ونسبوه إلى كثرة الغلط فقد وثقة ابن معين وغيره وقالوا: كان فقيه أهل مكة وكانت له حلقة في حياة ابن جريج، وهذا الخبر مما يحتاج إليه الفقيه فلا يظن به الغلط فيه (1) وقد تابعه في الجملة أبو قرة
__________
(1) قلت هذا غير مسلم، فإن لازمه قبول أحاديث الأحكام والزيادات التي تفرد بها بعض =(2/761)
وهو ثقة فلفظ «القربتين» ثابت عن ابن جريج، فأما لفظ «الفرقين» فإن كان بفتح الراء فيدفعه أن قلال هجر معروفة بالكبر بحيث يضرب بها المثل كما مر، وقد قال الأزهري بعد إن عاش في هجر معروفة بالكبر بحيث ونواحيها سنين «قلال هجر والإحساء ونواحيها معروفة تأخذ القلة منها مزادة كبيرة من الماء وتملأ الرواية قلتين» والقربة تكون من الجلد واحد والمزادة من جلدين ونصف أو ثلاثة والرواية هو البعير الذي يحمل مزادتي الماء فالمراد هنا أن المزادتين اللتين يستقي فيهما على البعير تملآن قلتين،
__________
= الفقهاء المتكلم فيهم أمثال أبي حنيفة وابن أبي ليلى وغيرها، وهو مما لا يقوله المؤلف ولا غيره من أهل العلم، ثم لو سلمنا بذلك هنا فإسناد الزيادة من فوق مسلم بن خالد ضعيف لجهالة من فوق ابن جريج، فإن حمل على رواية أبي قرة عنه، فهي ضعيفة أيضاً لأن يحيى بن يعمر تابعي، ومحمد بن يحيى مجهول. وأما متابعة أبي قرة، له في الجملة، فلا تفيد هنا لأن البحث خاص بزيادة «بقلال هجر» وهى مما لم يتابعه عليها أبو قرة، وهب أنه قد توبع فهي لا تثبت لما عرفت من الضعف. على أن قوله «وقال في الحديث: بقلال هجر» ليس صريح في الوقف. فيسقط الاستدلال بها جملة.
ثم كيف يمكن أن تكون زيادة محفوظة، ولم ترد في شيء من طرق الحديث المحفوظة التي بها ثبتت أصل حديث القلتين لا برواية مسلم بن خالد له، بل القواعد الحديثية تعطى أن هذه الزيادة منكرة لتفرد ابن خالد بها وقد ضعفه الأكثرون.
والحق أن حديث القلتين مع صحته، فالاستدلال به على ما ذهب إليه الشافعية صعب إثباته، وعليه اعتراضات كثيرة لا قبل لهم بردها، ولقد جهد المؤلف رحمه الله لتقرير الاستدلال به وتمكينه من بعض الوجوه من حيث منطوقة ومفهومه، ولم يتعرض للإجابة عن الاعتراضات المشار إليها، فمن شاء الوقوف عليها فليرجع إلى تحقيق ابن القيم في «تهذيب السنن» (1/56-74) .
والمختار في هذه المسألة إنما هو المذهب الأول الذي قرره المؤلف رحمه الله تعالى، لأن حديثه مع ثبوته فالاستدلال به سالم من أي اعتراض علمي، بل هو الموافق لسماحة الشريعة ويسرها. ن(2/762)
فكيف يعقل أن يكون ما تسعه القلتان من قلال هجر من الماء أربعة وستين رطلاً فقط؟ فإما أن يكون لفظ «الفرقين» تصحيفاً من بعض الرواة والصواب «القربتين» وإما أن يكون «الفرقين» بسكون الراء، والفرق بسكون الراء مائة وعشرون رطلاً وما وقع في رواية البيهقي عن الرازي عن زاهر «الفرق ستة عشر رطلاً» تقدير من بعض الرواة ظن الفرقين بفتح الراء، وزاهر فيه كلام.
وأما ما ذكره ابن التركماني من تفسير القلتين معاً باثنتين وثلاثين رطلاً فإنما أخذه من قوله «وقد جاء ذكر الفرق من طريق آخر أخرجه ابن عدي من جهة المغيرة بن سقلاب عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان الماء قلتين من قلال هجر لم ينجسه شيء وذكر أنهما فرقان» قال ابن تركماني: وهذا يقتضي أن تكون قلتان اثنين وثلاثين رطلاً. والمغيرة هذا ضعفه ابن عدي، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه صالح، وعن أبي زرعة: جزري لا بأس به»
أقول: الرواي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعناً شديداً لا يزيده ثناء بعض الغرباء عليه إلا وهناً، لأن ذلك يشعر بأنه كان يتعمد التخطيط فتزين لبعض الغرباء واستقبله بأحاديث مستقيمة فظن أن ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه، وعرف أهل بلده حقيقة حله. وهذه حال المغيرة هذا فإنه جزري أسقطه محدثو الجزيرة فقال أبو جعفر النفيلي: لم يكن مؤتمناً. وقال علي بن ميمون الرقي: كان لا يسوى بعرة. وأبو حاتم وأبو زرعة رازيان كأنهما لقياه في رحلتهما فسمعا منه فتزين لهما كما تقدم فأحسنا به الظن. وقد ضعفه ممن جاء بعد ذلك الدارقطني وابن عدي لأنهما اعتبرا أحاديثه، وحسبك دليلاً على تخليطه هذا الحديث فإن الناس رووه عن ابن إسحاق عن ابن عبد الله بن عمر عن أبيه ولا ذكر فيه لقلال هجر ولا للتقدير فخلط فيه المغيرة ما شاء. وهذا والذي في (الميزان) في ترجمة المغيرة هذا « ... عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، والقلة أربعة آصع»(2/763)
ففي هذا أن القلة الواحدة اثنان وثلاثون رطلاً لا القلتان معاً، والصاع عند العراقيين ثمانية أرطال، وقد يكون المغيرة رأى في بعض الروايات التقدير بالفرقين بتقدير الراء كما تقدم، وهو تالف على كل حال.
هذا والفرقان بسكون الراء قريب من قربتين وشيء من قرب الحجاز فإنها كبار كما ذكره الشافعي فالفرقان مائتان وأربعون رطلاً، ومر عن الشافعي وشيخه مسلم بن خالد صاحب ابن جريج جعل شيء نصفاً وحررّ بعض أصحاب الشافعي القربة مائة رطل فتكون قلة مائتين وخمسين رطلا فتقاربت روايتا الفرقين والقربتين وشيء. فأما ما روى عن الإمام أحمد أن القلتين أربع قرب فكأنه رجح رواية أبي قرة عن ابن جريج ورأى أن قلتين في أصل الحديث مطلقتان، وأن قلال هجراً أكبر من قلال المدينة فرأى أن الزيادة على أربع قرب غلو في الاحتياط لا حاجة إليه. وأما قول إسحاق بن راهويه أن القلتين ست قرب فكأنه أخذه من قول الشافعي خمس قرب مع قوله أن قرب الحجاز كبار فاحتط إسحاق فجعلها ست قرب بقرب العراق.
وعلى كل حال فذاك المقدار أعنى خمس قرب من قرب الحجاز داخل هو وما زاد عليه في حكم منطوق الحديث حتماً أعني أنه لا ينجس، لأنه يشتمل على قلتين أو قلتين وزيادة على جميع التفاسير، فدلالة الحديث على أنه لا ينجس حتمية ... وكذلك دلالة الحديث على أن الماء القليل الذي لا يبلغ أن يكون قلتين في تفسير من التفاسير ينجس واضحة، فبطلت دعوى تعذر العمل بالحديث، وتحتم على من يعترف بصحته أن يعمل به فيما ذكر.
وأما الأمر الخامس وهر الاحتجاج بحديث الماء الدائم فإنه صح في ذلك حديثان:
الأول: في النهى عن البول فيه. ففي (صحيح مسلم) من حديث جابر «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يبال في الماء الراكد» ومن حديث أبي هريرة «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه» وفي رواية «لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه»(2/764)
وحديث أبي هريرة في (صحيح البخاري) وفيه: «ثم يغتسل فيه» فقد يقال من جانب الحنفية: ها هنا ثلاث قضايا:
الأولى: فرق الحديث بين الراكد وغيره وهو قولنا.
الثانية: دلّ على البول في الماء الراكد ينجسه، ولم يشترط التغير فهو حجة لنا على من يشترطه.
الثالثة: قال في رواية البخاري: «ثم يغتسل فيه» وهو ظاهر في شمول الحكم للماء الذي يمكن الإنسان أن يغتسل فيه، ولابد أن يكون أكثر من قلتين فهو حجة لنا على من يقول بالقلتين.
أقول: أما القضية الأولى فدلالة الحديث على التفرقة إنما هي بمفهوم المخالفة، والحنفية لا يقولون بها فيلزمهم إلحاق الجاري بالراكد قياسياً أو يقيموا على مخالفته دليلاً آخر. أما نحن فنقول بدلالة مفهوم المخالفة ولكننا نقول ليس وجه المخالفة ما توهمه الحنفية أو بعضهم حتى قال بعضهم «إناءان ماء أحدهما طاهر، والآخر نجس فصبا من مكان عال فاختلطا في الهواء ثم نزلا طهر كله! ولو أجرى ماء الإناءين في الأرض صار بمنزله ماء جار» وقال بعضهم «لو حفر نهراً من حوض صغير أو صب رفيقه الماء في ميزاب وتوضأ فيه وعند طرفة الآخر إنا يجتمع فيه الماء جاز توضؤه به ثانياً وثم وثم» وذكروا أن هذا معتبر حتى على القول بنجاسة الماء المستعمل، وقضية هذا أنه لو عمد إلى جرة يصب الماء منها في ميزاب وقعد آخر على وسط الميزاب يبول يبول فيه ويسيل بوله مع الماء وعلى طرف الميزاب إناء يجتمع فيه ذاك الماء كان ذاك الماء الذي خالطه البول واجتمع في ذاك البول الإناء طاهراً مطهراً مع أنه لو وضع في الجرة ابتداء. شيء يسير من ذاك البول لصار ماؤها نجساً! ولا يخفى أن مثل هذا الفرق لا يعقل له وجه، وإنما الماء الجاري الخارج بمفهوم المخالفة في الحديث هو بمقتضى التبادر والنظر ما كان جارياً بطبعه كالأنهار والعيون مما ليس مفسدة البول فيه كمفسدة البول في الراكد فإن الراكد(2/765)
يختلط به البول ويبقى بحاله فإن اغتسل منه البائل وغيره كان مغتسلاً بماء مخالطه البل من أول اغتساله إلى آخره. وأما الجاري كماء النهر فإن الدافعة التي وقع فيها البول تذهب فوراً ولا تعود فلا يمكن البائل أن يعود فيغتسل فيها وإنما يمكنه أن يعود فيغتسل في تلك البقعة ولا صغير، فان الماء الذي يكون فيها ماء جديد لم يخالطه بوله، ومن شأن الماء الجاري أن يتلاحق فلا تكاد تمر الدافعة التي وقع فيها البول مسافة لهم قدر حتى يتلاحق بها الماء المتجدد فيتغلب عليها وعلى أنها حفظت بعض حالها حتى مرت بإنسان يغتسل فسرعان ما تجاوزه ويعقبها الماء الجديد بل المتجدد فيذهب بأثرها فهذا هو المعنى المعقول الذي به خالف الجاري الراكد فوجب البناء عليه وبذلك على الجواب.
وأما القضية الثانية فلو دل الحديث الجابر على تنجس الراكد بالبولة الواحدة لدل على تنجس كل ماء راكد قل أو كثر حتى البحر الأعظم فالصواب أن هناك عدة علل إذا خشيت واحدة منها تحقق النهي:
الأولى: التنجيس حالاً إما بأن يكون الماء قليلاً جداً تغيره البولة الواحدة، وإما بأن يكون دون المقدار الشرعي وقد تقدم الكلام فيه.
الثانية: التنجيس مآلاً وذلك أنه لو لم ينه عن البول في الماء الراكد لأوشك أن يبول هذا ثم يعود فيبول ويتكرر ذلك وكذلك يصنع غيره فقد يكثر البول حتى يغير الماء فينجسه.
الثالثة: التقدير حالاً، قال الشافعي كما في هامش (الأم) ج7ص111 «ومن رأى رجلاً يبول في ماء نافع قذر الشرب منه والوضوء به» وقال قبل ذلك: «كما ينهى أن يتغوط على ظهر الطريق والظل والمواضع التي يأوي الناس إليها لما يتأذى به الناس من ذلك»
الرابعة: التقذير مآلاً؛ قد يكون الغدير أو المصنعة كبيراً جداً لا يقذره الإنسان لبولة واحدة لكن إذا علم أن الناس يعتادون البول فيه قذره.(2/766)
الخامسة: فشّو الأمراض، فقد تحقق في الطب أن كثيراً من الأمراض إذا بال المبتلى بأحدها خرجت الجراثيم المرض مع البول فإن كان البول في ماء راكد بقيت تلك الجراثيم حتى تدخل في أجسام الناس الذين يستعملون ذاك الماء فيصابون بتلك الأمراض والإصابة بذلك أكثر جداً من الإصابة بالجذام للقرب من المجذوم وقد ثبت في الصحيح (فر من المجذوم كما تفر من الأسد) وكثير منها أشد ضرراً من جرب الإبل وقد ثبت في (الصحيح) «لا يردون ممرض على مصلح» ، وبهذا يبقى الحديث على عمومة ولا يحتاج الى إخراج عن ظاهرة بمجرد الاستنباط فأما حال الضرورة فمستثنى من اكثر النواهي. ثم إن تحقق بعض هذه العلل في ماء يصدق علية انه ليس براكد وجب أن يشمله الحكم، أما على قول من لا يعتد بمفهوم المخالفة كالحنفية فواضح، وأما على قول من يعتد به فيخص عمومه بالقياس الواضح ولا ريب إن الشرع لا يبيح إن يلقى في الماء الجاري ما يضر بالناس أو يؤذيهم، وعلى هذا قيل لو اعتبرنا العلل المذكورة واعتبرنا القياس لزم شمول المنع لكل ماء جار فيلزم اطراح المفهوم رأساً؛ قلت: بل تبقى مياه السيول ونحوها التي تمر بنفسها على مواضع النجاسة فلا يبقى وجهه لمنع الإنسان عن البول فيها على إن الذين يعتقدون بمفهوم المخالفة يشترطون ما لعلنا لو دققنا لَلَاح لنا أنه غير متحقق هنا، وفي القرآن عدة آيات لا يأخذون فيها بمفهوم المخالفة ويعتلون بوجوه إذا تدبرت وجدت بعضها وارداً هنا.
وأما حديث أبي هريرة فإن كان قوله: «ثم يغتسل منه» على معنى الخبر كما قدرة القرطبي قال: «كحديث لا يضرب أحدكم امرأته ثم يضاجعها» فالكلام فيه كما مر إلا أنه زاد بقولة: «ثم يغتسل منه» التنبيه على بعض العلل كأنه قال: كيف يبول فيه ثم لعله يحتاج إليه فيغتسل منه فيتنجس أو يتقذر أو يدع الاغتسال مع حاجته إليه؟ وإذا كان هو يستقذره لبوله فيه فغيره أولى بالاستقذار، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ولا يدفع هذا أن تكون هناك علة أخرى فإن النهي عام وقد(2/767)
جاء مثله بدون هذا التنبيه وهو حديث جابر؛ وإن كان المعنى على النهي عن الجمع بين البول والاغتسال انصب النهي على الاغتسال بعد البول كأنه قيل: لا يغتسل في ماء دائم قد بال فيه؛ ويحتمل هذا النهي عللا إحداها التنجس، ثانيتها التقذر، ثالثتها إن يكون عقوبة للبائل لان الإنسان إذا علم أنه إن بال في الماء حضر علية الاغتسال منه كان مما يمنعه عن البول، وقريب منه حديث المرأة التي لعنت ناقتها فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخلية الناقة كأنة جعل عقوبة المرأة على لعنها الناقة أن لا تنتفع بها لكي تزجر هي وغيرها عن اللعن، فأي واحدة من هذه العلل وجدت النهي وبذلك يساوق التعليل عموم النص؛ وإن كان المعنى: لا يبل في الماء الدائم فإن عصى فبال فلا يغتسل منه فآخره كما ذكر، وأوله كما مر في حديث جابر.
وأما القضية الثالثة فقد مر ما يعلم بها الجواب عنها، على أن الماء إذا كان دون القلتين بقليل وكان في حفرة ضيقة أو حوض بقدر قعدة الإنسان إلا أنه عميق أمكن الانغماس فيه لأنه إذا قعد ارتفع الماء من جوانب فيغمره، ومع ذلك فالاغتسال في الماء يصدق بأن يقعد وسطه ويغرف على نفسه، وفوق هذا كلمة «فيه» كأنها شاذة، والغالب في الروايات من ذلك الوجه وغيرة كلمة «منه» .
الحديث الثاني: النهى عن اغتسال الجنب فيه، وهو في (الصحيحين) عن أبي السائب «أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقال كيف يفعل يا أبا هريرة. قال: يتناوله تناولاً» .
قد يستدل به على أن الماء يصير باغتسال الجنب فيه نجساً أو غير مطهر، فأما النجاسة فرويت عن أبي حنيفة ثم رغب عن ذلك الحنفية أنفسهم وأما سلب التطهير فوافقهم عليه فيما دون القلتين الشافعية والحنابلة. ومن يأبي ذلك يقول إن علة النهى هي التقذير، وقد يحتمل غير ذلك من العلل تظهر بالتأمل فيساوق التعليل عموم النص. وأما التفرقة بين دائم والجاري فقد مر ما فيها، وكذا إن قيل: إن الحديث(2/768)
يدل على حصول المفسدة في لماء الذي يمكن أن يغتسل فيه الجنب ولا يكون إلا فوق القلتين فقد مر مثله والجواب عنه. وأما الأمر السادس وهو قول الأستاذ «فدعونا معاشر لحنيفة نتوضأ من الحنيفات ولا نغطس في المستنقعات» فأبى الأستاذ إلا التقليد حتى في السخرية. (1)
__________
(1) أقول: لقد فات المصنف رحمه الله تعالى النظر فيما ادعاه الأستاذ من اعتراف ابن دقيق العيد بقوة احتجاج الحنفية بحديث الماء الدائم. فإن الواقع خلافة، فهاك نص كلامه في الشرح المذكور (1/121-1215- بحاشية «العدة» ) .
«وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد وإن كان أكثر من قلتين، هذا الحديث العالم في النهى على ما دون القلتين، جمعاً بين الحديثين، فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقها، وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه، والخاص مقدم على العام» . فليتأمل القاري في كلا ما ابن دقيق هذا أهو اعترف أم اعتراض؟!(2/769)
المسألة الثانية: رفع اليدين
في (تاريخ بغداد) 13/389 من طريق وكيع: «سأل ابن المبارك أبا حنيفة عن رفع اليدين في الركوع فقال أبو حنيفة: يريد أن يطير فيرفع يديه؟ قال وكيع: وكان ابن المبارك رجلاً عاقلاً فقال: إن كان طار في الأولى فإنه يطير في الثانية. فسكت أبو حنيفة ولم يقل شيئاً» .
قال الأستاذ ص 83: « ... (1) مع ظهور الحجة في حديث ابن مسعود ... (2) لم يسلم سند من أسانيد الرفع عند الركوع من علة (3) بل لم يصح حديث في الرفع غير حديث ابن عمر (4) وهو لم يأخذ به في رواية أبي بكر بن عياش ... (5) ودعوى أحد الفرقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة (6) وإنما المتواتر أن جماعة من الصحابة كانوا لا يرفعون، وجماعة منهم كانوا يرفعون (7) فيدل ذلك على التخيير الأصلي (8) وإنما خلافهم فيما هو الأفضل» .
أقول: أما الأمر الأول فحديث ابن مسعود كما قال الدارقطني: «تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفاً عن حماد عن إبراهيم، وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصواب» ومحمد بن جابر ذكره الأستاذ ص 116 بمناسبة ما جاء عنه أنه قال: «سرق مني أبو حنيفة كتاب حماد» فقال الأستاذ: «الأعمى قال فيه أحمد لا يحدث عنه إلا من هو شر منه» .(2/770)
وترى ترجمته في قسم التراجم والحاصل أنه ليس بعمده. وحماد بن سليمان سيء الحفظ حتى قال حبيب بن أبي ثابت: «كان حماد يقول: قال ابراهيم: فقلت له والله إنك لتكذب على ابراهيم أو إن إبراهيم ليخطئ» وقال شعبة: «قال لي حماد بن سليمان يا شعبة لا توقفني على إبراهيم فإن العهد قد طال، وأخاف أن أنسي أو أكون قد نسيت» أنظر (تقدمه الجرح والتعديل) ص 165 وقوله: «لا توقفني إلخ» معناه إذا قلت: «قال إبراهيم» أو نحو ذلك فلا تسألني أسمعته من إبراهيم لا؟ فيتبين بهذا أنه قد كان يقال ك «قال إبراهيم» ونحوه فيما لا يتحقق أنه سمعه من إبراهيم. وقد أجاب ابن التركماني عن الكلام الدارقطني فدافع عن محمد بن جابر بما لا يجدي وقال: «إذا تعارض الوصل مع الإرسال، والرفع مع الوقف، فالحكم عند أكثرهم للرافع والواصل، لأنهما زادا وزيادة الثقة مقبولة» . كذا قال وقد علم أن محمد بن جابر ليس بثقة وحماداً سيء الحفظ، فالحديث ضعيف من أصله فكيف مع الخلاف؟ وقد قال الأستاذ ص153: «من أصوله - يعنى أبا حنيفة - أيضاً رد الزائد متنا كان أو سنداً إلى الناقص ... » والذي عليه جهابذة الحديث الترجيح، هذا في اختلاف الثقات وليس هذا منه كما مر.
وروى النسائي من طريق ابن المبارك عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن ابن الأسود عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: ألا أخبركم بصلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فقام فرفع يديه أول مرة ثم لم يعد. وقد روى الترمذي عن ابن المبارك قال: «لم يثبت حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا أول مرة» وفي (سنن الدارقطني) ص 110 و (سنن البيهقي) ج 2ص79 عن ابن المبارك قال: «لم يثبت عندي ... » نحوه.
قد يقال: لعل ابن المبارك عنى حديث محمد بن جابر. لكن قد دل جزمه بعدم الثبوت ومحافظته على رفع اليدين على أنه لا يرى فيما رواه عن سفيان ما يشد حديث محمد بن جابر ولو من جهة المعنى، وحديث سفيان رجاله ثقات وعاصم وإن قال ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد، فقد وثقه جماعة وأخرج له مسلم في (الصحيح) ، لكن هناك علل:(2/771)
الأولى: أن سفيان يدلس ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث عنه تصريحه بالسماع.
الثانية: أنه قد اختلف عليه قال أبو داود عقب روايته عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع وستأتي: «ثنا الحسن بن على ثنا معاوية وخالد بن عمرو وأبو حذيفة قالوا نا سفيان بإسناده هذا قال: رفع يديه في أول مرة، وقال بعضهم: مرة واحدة» وفي (مسند أحمد) ج 1 ص 442 «ثنا وكيع عن سفيان عن عاصم ... قال عبد الله: أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع يديه في أول» وأخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع وفيه «فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة» .
الثالثة: قال أحمد في (المسند) ج1ص 418: «ثنا يحيى بن آدم ثنا عبد الله بن إدريس من كتابه عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود نا علقمة عن عبد الله قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، فكبر ورفع يديه ثم ركع وطبق بين يديه وجعلها بين ركبتيه، فبلغ سعداً فقال، صدق أخي قد كنا نفعل كذلك ثم أمرنا بهذا - وأخذ بركبتيه - حدثني عاصم بن كليب بهذا» فأعل البخاري في (جزء رفع اليدين) حديث سفيان بحديث ابن إدريس وقال «ليس فيه: ثم لم يعد، فهذا أصح لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم» يشير البخاري إلى بعض الرواة لما لم ير في القصة ذكر الرفع عند الركوع وكان المشهور عن أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة فهم أن الواقع في القصة كذلك، ثم لما روى من حفظه بحسب ما كان فهم، وممن أعل حديث سفيان من الأئمة أحمد وأبو داود ,ابوحاتم ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم، فمنهم من حمل الوهم على وكيع ومنهم من حمله على سفيان، وزعم بعض الناس أن اختلافهم في هذا يقتضي ردّ قولهم جملة، وليس هذا بشيء والذي يظهر أنه كان سفيان دلسه فالحمل على شيخه الذي سمعه منه، وإلا فالوهم. وراجع (نصب الراية) (ج1 ص 395) .(2/772)
الرابعة: أنه ليس في القصة تصريح من ابن مسعود بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا في أول الصلاة، وغاية الأمر أنه ذكر أنه سيخبرهم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام فصلى بهم، فإن بنينا على رواية ابن إدريس عن عاصم فليس فيها ذكر أن عبد الله لم يرفع في غير أول الصلاة. فقد يكون رفع ولم يذكر الرواي ذلك كما لم يذكر وضع اليدين على الصدر والقراءة والتكبير للركوع، وكأنه إنما كان يهمه من ذكر القصة شأن التطبيق، وفي (مسند أحمد) ج 1ص 413 من طريق «أبي إسحاق عن أبي الأسود عن علقمة والأسود أنهما كانا مع ابن مسعود، فحضرت الصلاة فتأخر علقمة والأسود، فأخذ ابن مسعود بأيديهما فأقام أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، ثم ركعا فوضعا أيديهما على ركبهما، وضرب أيديهما ثم طبق بين يديه وشبك وجعلها بين فخذيه، وقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله» وبنحوه رواه منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود كما في (صحيح مسلم) . وفيه من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة نحوه وزاد قال: فلما صلى قال ... وإذا كنتم ثلاثة فصلوا جميعاً، وإذا كنتم أكثر من ذلك فليؤمكم أحدكم، وإذا ركع أحدكم فليفرش ذراعيه على فخذيه وليجنأ وليطبق بين كفيه فلكأني أنظر إلى اختلاف أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأراهم» ؛ فأكثر الروايات لا تذكر عدم الرفع كما ترى وكثير منها لا تذكر حتى الرفع أول الصلاة فيظهر من هذا أن الذي كان يهم ابن مسعود من تعليمهم في تلك الصلاة ويهمهم من رواية القصة إنما هو مقام الثلاثة والتطبيق ولذلك لم يذكر عقب الصلاة إلا هذين إذ قال: «إذا كنتم ثلاثة ... » كما مر.
فإن قيل: فقد اشتهر عن علقمة والأسود وغيرهما من أصحاب ابن مسعود أنهم كانوا لا يرفعون إلا في أول الصلاة، ولو رأياه رفع في غير ذلك ولاسيما في تلك الصلاة لكان الظاهر أن يأخذوا ذلك عنه، فقد أخذوا عنه التطبيق وغيره؟
قلت: فقد أشار بعض أهل العلم إلى احتمال أن تكونا غفلا عن رفعه يديه في غير أول الصلاة، وأشار بعهم إلى احتمال أن يكون ابن مسعود ذهل عن الرفع(2/773)
كبعض ما يسهو الرجل لأن المهم في تلك الصلاة كان بيان الموقف والتطبيق كما مر.
فإن قيل هذه احتمالات بعيدة، قلت هي على كل حال أقرب من دفع ما ثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع، وما تواتر عنهم أنهم كانوا يرفعون.
فإن قيل فقد ذهب بعضهم إلى احتمال النسخ، قلت: من الممتنع جداً أن يقع نسخ في مثل هذا الحكم ولا يطلع عليه جمهور الصحابة ويختص به ابن مسعود ثم يكتفي من تبليغه مع اشتهار الرفع والإطباق عليه بما وقع في القصة على فرض ثبوتها.
فإن قيل فهل من شيء غير هذا؟ قلت: ذكر بعض أهل العلم أنه كما أن ابن مسعود طبق وأخبر بالتطبيق وأمر به، وقد تبين أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ، واتفق الناس على ترك التطبيق، وكما قال إن موقف إمام الاثنين بينهما وخالفه الناس في ذلك واعتذروا باحتمال أن يكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في بيت ضيق، فكذلك حاله في عدم الرفع إن ثبت عنه، قد يكون الرفع في غير أول الصلاة لم يشرع منذ شرعت الصلاة، فرأى ابن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام يصلى ولا يرفع إلا في أول الصلاة فأخذ ابن مسعود بذلك كما أخذ بالتطبيق والموقف، وإن كان كل ذلك كان أولاً ثم ترك، وقد يكون رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع في بعض الصلوات لبيان أنه ليس بواجب فأخذ ابن مسعود بذلك.
فإن قيل: قضية الموقف قريبة لأن غالب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجماعة بأكثر من اثنين فأما قضيتا التطبيق والرفع ففيما ذكر بعد.
قلت: قد فتح الله تعالى وله الحمد بوجه يقرب الأمر في الثلاث كلها وهو أن يقال كأنه كان من رأي ابن مسعود أن النسخ لا يثبت بالترك وحده بل يبقى الأول(2/774)
مشروعاً في الجملة على ما يقتضيه حاله، ويرى أن على العالم إذا خشي أن ينسى الناس الأمر الأول أن يسعى في إحيائه، فأما التطبيق فقد علم ابن مسعود أنه كان مشروعاً ثم ترك العمل به ورأى هو أن تركه ليس نسخاً له، بل إما أن يكون تركه رخصة لأنه فيما يظهر أشق من الأخذ بالركب وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما يدع الأمر المستحب كراهية المشقة كما كان يعجل صلاة العشاء إذا جمعوا وأبطأ بها ليلة ثم خرج فصلى وقال: «إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي» وإما أن يكونا سواء والمصلى مخير بينهما، وإما أن يكون التطبيق مندوباً أيضاً وإن كان الأخذ بالركب أفضل، وقد علم ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ربما يدع ما هو في الأصل مندوب ليبين للناس أنه ليس بواجب وربما يفعل ما هو في الأصل مكروه ليبين للناس أنه ليس بحرام، وكان أبو بكر وابن عباس لا يضحون، كانوا يدعون التضحية ليبينوا للناس أنها ليست بواجبة، فلما رأى ابن مسعود أن الناس قد أطبقوا على ترك التطبيق رأى أنه سنة قد أميتت فأحب إحياءها ففعله، وأمر أصحابه بفعله ولم يخش أن يؤدي ذلك إلى إماتة الأخذ بالركب، لعلمه أن مشروعية ذلك معلومة بين الناس، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قصد بيان الجواز فترك ما هو في الأصل مكروه لا يخبر بقصده بل يكل الناس إلى ما قد عرفوه من الدليل على ما هو الأصل في ذلك، وكذلك لم ينقل أن أبا بكر وعمر وابن عباس كانوا حين يتركون التضحية يبينون قصدهم بل كانوا يتكلون على ما قد عرفه الناس من مشروعيتها.
وأما وقوف إمام الاثنين بينهما، فعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مرة ثم تقدم فعلهم ابن مسعود الأمرين ولكنه رأى أن الأول لم ينسخ وأن كلا الأمرين مشروع وإن كان التقدم أفضل، ثم لما رأى الناس أطبقوا على التقدم أحب إحياء تلك السنة. وأما ترك الرفع في غير أول الصلاة فإن ثبت عن ابن مسعود فالظاهر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه، إما في أول الإسلام بأن يكون كان أولاً(2/775)
يقتصر على الرفع أول الصلاة، ثم رفع في بقية المواضع، وأما بعد ذلك بأن يكون ربما ترك الرفع في غير الموضع مواظبتهم على الرفع أول الصلاة تركه لمصلحة البيان، وحال ذلك عنده دون حال التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما بدليل أنه عقب تلك الصلاة أمر بهذين ولم يعرض للرفع كما مر في حديث مسلم وربما يقال قد يكون ابن مسعود علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولا يطبق ولا يرفع عند الركوع والرجوع منه، ثم ترك التطبيق ورفع، فرأى ابن مسعود أن الرفع بدل من التطبيق، فأما الأخذ بالركب فقد يكون رخصة فقط فلما بدا لابن مسعود إحياء التطبيق طبق ولم يرفع لئلا يجمع بين البدل والمبدل. والله اعلم.
فهذا غاية ما يقتضيه حسن الظن بابن مسعود وهو أهل أن يحسن الظن به. وعلى كل حال فقد ثبت الرفع قطعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو فعل عبادي متعلق بالصلاة ولا يعقل أن يكون الفعل مندوباً مطلقاً، ويكون الترك أيضاً مندوباً مطلقاً فما بقا الاحتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بمثل ما روي عن ابن مسعود مع ما فيه من الكلام وما يطرقه من الاحتمال، وقد ترك الصحابة في عهد عثمان تكبيرات الانتقال أو الجهر بها واستمر ذلك حتى ظن بعض التابعين أن ذلك غير مشروع كما يأتي، ولا يظهر للترك سبب إلا الترخص في ترك المندوب، ونحن لم نظن بابن مسعود في ترك الرفع ذلك ولا ما هو أبعد عن الملامة كالنسيان والذهو ل، وإنما ظننا به قصد البيان وتثبيت الحق. فإن قيل يظهر إن ابن مسعود واظب على الترك ورضي لأصحابه المواظبة عليه، قلت فكذلك في التطبيق ووقوف إمام الاثنين بينهما بل هو في هذين آكد فإنه عَقِب تلك الصلاة أمرهم بهما ولم يعرض لترك الرفع كما مر في حديث مسلم والحق أن غاية ما في الأمر أن يكون رضي لهم المواظبة مدة ليكون ذلك أوفى بما قصده من البيان، كما واظب أبو بكر وعُمر وابن عباس على ترك التضحية، ورأى ابن مسعود أنه إن خفي على أصحابه حقيقة الخال فسيعلمونها عندما يرون غيره من الصحابة وكبار التابعين(2/776)
ويسمعون منهم ويتدبرون فما اتفق مما يخالف ذلك فابن مسعود غير مسؤول عنه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قصد البيان فترك ما هو في الأصل مندوب أو فعل ما هو في الأصل مكروه، ربما يراه من لم يعرف الدليل السابق فيفهم خلاف المقصود، وربما توهم بعضهم النسخ، وربما يقع هذا التوهم لبعض فقهاء الأمة ويبقى ذلك في اتباعه، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة حتى في نصوص القرآن مما يقع بسببه بعض الناس في الخطأ ويبقى ذلك في أتباعه كما ترى ذلك واضحاً في اختلاف المذاهب، ولله تعالى في ذلك الحكمة البالغة يستيقنها المؤمن , إن لم يحط بها علماً، وليس هذا موضع النظر في ذلك (1) .
وأما الأمر الثاني والثالث، وهما قول الأستاذ: «لم يسلم سند للرفع من علة ولم يصح فيه إلا حديث ابن عمر» فمجازفة، وقال البخاري كما يأتي: «لا أسانيد أصح من أسانيد الرفع» وحديث ابن عمر قطعي الثبوت عنه وصح معه عدة أحاديث منها في (الصحيحين) حديث مالك بن الحويرث، وفي (صحيح مسلم) حديث وائل بن حجر، وأشار البخاري في (الصحيح) إلى حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة، وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان وصححا حديث علي في ذلك، وفي (الفتح) : «قال البخاري في (جزء رفع اليدين) : من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه، ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع، ... وذكر البخاري أيضاً أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم ابن منده ممن رواه العشرة المبشرة، وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً» وتواتر باعتراف الكوثري الرفع عن جماعة من الصحابة بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقاً، وتواتره عنهم يستلزم تواتره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي في الأمر الخامس.
__________
(1) علما أن الإمام معذور، ولكن ليس للمقلدة وقد عرفوا الوهم أي عذر. وانظر رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية، طبع المكتب الإسلامي. زهير(2/777)
وأما الأمر الرابع، وهو قول الكوثري أن ابن عمر «لم يأخذ به في رواية أبي بكر ابن عياش» ففيه مجازفة أيضاً، فإن المراد رواية أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: «ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح» . ولو صح هذا عن مجاهد لما دل على أن ابن عمر لم يرفع، فكيف أن يدل على انه لم يأخذ بالحديث؟ وأنا أذكر جماعة من العلماء وغيرهم صحبتهم مدة وصليت معهم وأتذكر الآن هل أذكر رفعهم عند الركوع أو ولكني تحريت ذلك في جماعة، فأنا الآن أذكر بعد طول العهد. ومجاهد لم يقل: رأيت ابن عمر لا يرفع، وإنما قال - إن صحت الحكاية عنه: «ما رأيت ابن عمر يرفع ... » وهذا يشعر بأنه لا ينفي أن يكون ابن عمر ورفع ولم يروه مجاهد، ومذهب مجاهد الرفع كما ذكر البخاري وغيره، فإن صح عنه ذاك القول فكأنه لم يتفق له أن يتحرى تفقد ابن عمر في رفعه، ,وإنما اتفق أنه شاهده رفع في أول الصلاة، ثم اشتعل مجاهد بصلاة نفسه. وقد صح عن ابن عمر أنه كان ربما يرفع رفعاً تاماً وربما يتجوز، ذكر مالك في (الموطأ) عن نافع «أن ابن عمر كان إذا ابتداء الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذ رفع رأسه من الركوع رفعها دون ذلك» وفي (سنن أبي داود) عن ابن جريج قال: «قلت نافع: أكان ابن عمر وصح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه الرفع حذو المنكبين في الأولى وغيرها، قال الباجي في (المنتقى) : «ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمر كان يفعل الأمرين جميعاً ويرى ذلك واسعاً فيهما» .
أقول: يدل مجموع الروايات عن ابن عمر أنه كان يرى أن أكمل الرفع أن تحاذي يداه منكبيه، وأن أصل السنة يحصل بما دون ذلك ولا سيما إذا كان هناك عذر، فكأن ابن عمر لما كبر وضعف كان ربما يتجوز في الرفع فيرفع إلى الثديين أو نحو ذلك، وربما يرفع في الأولى رفعاً تاماً لأنها آكد ويتجوز في الباقي. وكان ابن جريج جوزّ أن يكون المشروع التفرقة بأن يكون الرفع في الأولى أعلى، وسأل عن فعل ابن عمر ليستدل به على ذلك وفهم نافع هذا فأجابه بحسبه، فمحصل(2/778)
الجواب أن ابن عمر لم يكن يتحرى التفرقة تحرياً يشعر بأنها مشروعة، بل كان ربما كان ربما يتجوز في الأولى أيضاً. فمن الجائر في الحكاية عن مجاهد أنه كان وراء ابن عمر غير قريب منه فاتفق أن ابن عمر رفع في الأولى رفعاً تاماً رآه مجاهد، وتجوز في الباقي فلم يره. ومن الجائز أن يكون ابن عمر سها في تلك الصلاة التي رقبه فيها مجاهد إن كان رقبه، وقد قال البخاري في (جزء الرفع اليدين) في الجواب عن تلك الحكاية: «قال ابن معين: إنما هو توهم لا أصل له، أو هو محمول على السهو كبعض ما يسهو الرجل في صلاته ولم يكن ابن عمر ليدع ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما رواه عن ابن عمر مثل طاوس وسالم ونافع ومحارب بن دثار وأبي الزبير أنه كان يرفع يديه ... » وروي البخاري في (جزء رفع اليدين) عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه إذا ركع وإذا رفع رماه بالحصى.
وإذا ترك ابن عمر الرفع في بعض صلاته سهواً أو ضعفاً لم يصدق عليه مع ما تواتر عنه من الرفع أنه لم يأخذ بالحديث، فكيف والذي في تلك الحكاية إنما هو نفي الرؤية لا نفي الرفع ولا تلازم بين النفيين كما سلف. ومع هذا كله فأبو بكر بن عياش عندهم شيء الحفظ كثير الغلط، ولم يخرج له البخاري في (الصحيح) إلا أحاديث ثبتت صحتها برواية غيره كما تراه في (مقدمة الفتح) ولم يخرج له مسلم شيئاً إلا أنه ذكر في (المقدمة) عنه عن مغيره ابن مقسم قال: «لم يكن يصدق على على رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود» ، فلو كانت روايته هذه مخالفة لما ثبت برواية الجماعة عن ابن عمر لوجب ردها كما لا يخفى.
وأما الأمر الخامس وهو قول الأستاذ: «ودعوى أحد الفريقين التواتر في موضع الخلاف المتوارث غير مسموعة» .
فكأن الأستاذ انتقل ذهنه من التواتر إلى الإجماع، فإن الإجماع هو الذي يسوغ أن يقال: لا تسمع دعواه في مواضع الخلاف للإجماع. فأما التواتر فلا منافاة بينه وبين الخلاف المتوارث كما ستراه، بل إن الخلاف المتوارث إذا لم يثبت أن ابتداءه(2/779)
كان عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فوراً لم يمنع من دعوى إجماع سابق، فلنا أن ندعي في قضيتنا هذه إجماع الصحابة، لأن جماعة منهم رووا الرفع وتواتر العمل به عن كثير منهم كما اعترف به الكوثري، بل نسبه غير واحد من التابعين كالحسن البصري وسعيد بن جبير إلى الصحابة مطلقاً فاشتهر ذلك وانتشر ولا يعرف عن أحد منهم ما يدل على أنه غير مشروع، فأما ما روي عن بعضهم أنه تركه فلم يثبت، وقد مر الكلام على ما روي عن ابن مسعود ويأتي الكلام على غيره، ولوثبت بعض ذلك فإنما هو ترك جزئي، أي في ركعة واحدة أو صلاة واحدة، وذلك لا يدل على أن التارك يراه غير مشروع، وإذ قد يكون ترخص لعذر أو لغير عذر في ترك ما يعلمه مندوباً. بل لوثبت أن بعضهم تركه مدة طويلة لما دل ذلك على أنه يراه غير مشروع، فقد جاء عن أبي بكر وعمر وابن عباس أنهم كانوا لا يضحون. بل قد ثبت أن الصحابة تركوا في عهد عثمان تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها، واستمر ذلك حتى أن علياً لما قدم العراق وصلى بهم وأتى بالتكبيرات الخفض والرفع أو الجهر قال عمران بن حصين كما في (الصحيحين) وغيرهما «ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وقال أبو موسى الأشعري فيما رواه أحمد وغيره بسند صحيح في (الفتح) «ذكرنا الصلاة كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما نسيناها وإما تركناها عمداً» واستمر الترك بالحجاز حتى أن أبا هريرة حين استخلفه مروان على إمارة المدينة في عهد معاوية صلى بهم فأتى بالتكبيرات وجهر بها فأنكروا ذلك، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف كما في (صحيح مسلم) : «قلنا يا أبي هريرة ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» وصلى بهم بمكة فأتى بالتكبيرات وجهر بها فأنكروا ذلك، وقال عكرمة كما في (صحيح البخاري) وغيره «فقلت لابن عباس إنه أحمق، قال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم محمد - صلى الله عليه وسلم -» .
فأما التواتر فأمره واضح، فإنه قد يحصل لشخص دون آخر، وقد جاء عن ابن مسعود أنه كان يقول أن المعوذتين ليستا من القرآن واعتذر أهل(2/780)
العلم عنه بأنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصرح بقرآنيتهما ولا تواتر ذلك عنده مع أن من المقطوع به تواتر ذلك عند غيره، فلا يخدش في تواتر الرفع مخالفة بعض التابعين من الكوفيين إذ لا يلزم من تواتر عند غيرهم تواتره عندهم بل عرضت لأولهم شبهة الترك فتوهموا أو بعضهم أنه غير مشروع، كما توهم غيرهم من ترك عثمان وغيره تكبيرات الخفض والرفع أو الجهر بها أن ذلك غير مشروع حتى أنكروا على أبي هريرة كما تقدم، ثم جاء بعدهم من الكوفيين من بلغته الأحاديث والآثار ولعلمها تواترت عنده فلم تطب نفسه بترك ما ألفه واعتاده وفر إلى احتمال النسخ ورأى أن الترك أحوط له وأطيب لنفسه. وقد اعترف الكوثري بتواتر الرفع عن جماعة من الصحابة وذلك لا يستلزم تواتره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه فعل تعبدي في الصلاة، لو لم يعلموا أنه مشروع وفعلوه، فإن فعلوه لا على وجه التعبد كان تلاعباً بالصلاة وإيهاماً لمشروعية ما لم يشرعه الله وذلك كذب على الله ورسوله ودينه، وإن فعلوه على وجه التعبد فذلك صريح البدعة الضلالة والكذب على الله والتكذيب بآياته. فهذا يثبت قطعاً أنهم كانوا يعتقدون أنه مشروع ويمتنع اعتقادهم ذلك من جهة الرأي إذ لا مجال للرأي فيه، على أن الرأي إنما يصار إليه في إثبات الفعل إذا لم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تركه تركاً مستمراً مع قيام السبب وانتفاء المانع، ويمتنع على الذين تواتر عنهم الرفع أن يجهلوا جميعاً أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع أم لا بعد أن طالت صحبتهم له ومراقبتهم لصلاته كما أمروا به.
وأما الأمر السادس وهو قول الأستاذ «المتواتر أن جماعة من لصحابة كانوا لا يرفعون وجماعة منهم كانوا يرفعون» فالشطر الثاني وهو تواتر الرفع حق، وأما الشطر الأول فلا، وهذا إمام النقل أبو عبد الله البخاري يقول كما تقدم «لم يثبت عن أحد منهم تركه وإنما نقل الترك فيه قوة ما عن ابن مسعود وقد مر النظر(2/781)
فيه؛ وروي أيضاً عن عمر وعلي، فأما عمر فقد جاء عنه الرفع من روايته ومن فعله، وروي حسن بن عياش عن عبد الملك بن أبحر عن الزبير بن عدي عن إبراهيم عن الأسود قال «صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا في افتتاح الصلاة» وأُعِلّ هذا بثلاثة أوجه.
الأول: أن حسن بن عياش لينه بعضهم، قال عثمان الدارمي عن ابن معين: «ثقة وأخوه أبو بكر ثقة» قال عثمان «ليستا بذاك وهما من أهل الصدق والأمانة» واتفقوا على تليين أبي بكر في حفظه حتى قال يحيى القطان: «لو كان أبو بكر بن عياش حاضراً ما سألته عن شيء» وكان إذا ذكر عنده كلح وجهه، وقال أبو نعيم الفضل بن دكين «لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطاً منه» وقد روى الثوري عن الزبير بن عدى عن إبراهيم عن الأسود «أن عمر كان يرفع يديه في الصلاة حذو منكبيه» لم يذكر ما في رواية الحسن أبن عياش عن ابن أبجر عن الزبير بن عدي، وكان الثوري لا يرفع، فلو كان في قصة ما ذكره الحسن لما أغفله الثوري، والخطأ في مثل هذا قريب فإنه كان عند إبراهيم حكايات عن أهل الكوفة في عدم الرفع فيقوى احتمال دخول الاشتباه على الحسن.
الوجه الثاني: أن إبراهيم ربما دلس. وفي (معرفة علوم الحديث) للحاكم ص 108 من طريق «خلف بن سالم قال: سمعت عدة من مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين فأخذنا في تمييز أخبارهم فاشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي ... وإبراهيم أيضاً يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة وسهم بن منجاب وخزامة الطائي وربما دلس عنهم» .
الثالث: أنه قد روي عن عمر الرفع من روايته ومن فعله، ويكفي في ذلك ما تواتر عن ابنه عبد الله مع أنه كان ملازماً لأبيه متحرياً الافتداء به قال زيد بن اسلم عن أبيه: «ما وجد قاصد لباب المسجد داخل أو خارج بأقصد من عبد الله لعمل أبيه» رواه ابن سعد، وقد جاء عن إبراهيم أنه ذكر له الحديث ابن وائل بن حجر عن أبيه في الرفع فقال إبراهيم: «ما أرى أباه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ذاك اليوم(2/782)
الواحد (1) . فحفظ ذلك وعبد الله «بن مسعود» لم يحفظ عنه؟ !» فيقال لإبراهيم: إن صح عنه ما رواه الحسن بن عياش: ما نرى الأسود رأى عمر إلا ذاك اليوم الواحد أفيكون أعلم به من ابنه عبد الله بن عمر؟ ورواية وائل مثبتة محققة تثبت رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الواضع، ومعلوم أن الرفع لا يكون إلا تعبداً إذ ليس هنا داع طبيعي إلا فعله مكررا في المواضع، وإذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة واحد ثبتت مشروعيته في الصلاة مطلقاً كما هو الشأن في غيره من أعمال الصلاة، إلا ما يثبت اختصاصه، وقد قدمنا ما يثبت أو يقوى عن أن مسعود لا يتحقق فيه منافاة لذلك، فأما في الرواية عن الأسود إن صحت إليه فمن الجائز أن يكون عمر كان إمام الأسود غير قريب منه فرفع عمر أول الصلاة رفعاً تاماً رآه الأسود ثم رفع عمر عند الركوع وما بعده رفعاً تجوز فيه كما تقدم عن ابن عمر -فلم يره الأسود فظن أنه لم يرفع أصلاً.
وأما على فروى أبو بكر النهشلي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن على رضي الله عنه «أنه كان يرفع يديه في التكبيرة الأولى من الصلاة ثم لا يرفع في شيء منها» وروى ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن على عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذ قام إلى الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ويصنع ذلك أيضاً إذا قضى قراءته وأراد أن يركع، ويصنعا إذا رفع رأسه من الركوع ... وإذا قام من سجدتين
__________
(1) قلت: هذا مجرد رأي، ومع ذلك فقد صح ما يبطله، وهو ما أخرجه أبو داود وغيره عن كليب وائل أنه قال «لأنظرن إلى الصلاة رسول - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلى ... » قلت: فذكر الحديث وفيه رفع اليدين عند الركوع والرفع منه وقال فيه: «ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه برد شديد فرأيت الناس عليهم جل الثياب تحرك أيديهم تحت الثياب» . وأخرجه أحمد (4/318) وله عنده (4/319) طريق أخرى عن عبد الجبار عن بعض أهله أن وائلاً قال: «أتيته مرة أخرى وعلى الناس ثياب فيها البرانس وفيها الأكيسة فرأيتهم يقولون هكذا تحت الثياب» .(2/783)
رفع يديه كذلك ... » في «نصب الرواية» وغيرها عن امام أحمد بن حنبل أنه سئل عن حديث ابن أبي الزناد هذا وقال؟ فقال «صحيح وذكر البخاري في (جزء القراءة) أثر النهشلي ثم ذكر حديث حديث ابن أبي الزناد وقال «وهذا اصح» أخرج الترمذي حديث ابن أبي الزناد في «كتاب الدعوات» من (جامعه) وقال: «هذا حديث حسن صحيح» وصححه أيضاً ابن حزيمة وابن حبان، وفي (سنن البيهقي) ج2ص80 عن عثمان بن سعيد الدارمي ذكر أثر النهشلي وقال: «فهذا قد روى من هذا الطريق الواهي عن علي، وقد روى عبد الرحمن عن هرمز الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفعها عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع، فليس الظن بعلي رضي الله عنه أن يختار فعله على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ليس أبو بكر النهشلي ممن يحتج بروايته أو يثبت به سنة لم يأت بها غيره» ، اعترضه ابن التركماني فقال: «بل الذي روي من الطريق الواهي هو ما رواه ابن أبي رافع عن علي لأن في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد» ، ثم ذكر قول الدارمي: فليس الظن.. الخ.
فقال: «لخصمه أن يعكسه فيجعله بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على نسخ ما تقدم» .
أقول: إذا صرفنا النظر عن النهشلي وابن أبي الزناد فسند المرفوع أثبت لأن رجاله كلهم ثقات أثبات احتج بهم احتج بهم الجماعة. وسند الموقوف فيه مقال، عاصم وإن أخرج له مسلم ووثقه جماعة فلم يخرج له البخاري، وقال بن المديني «لا يحتج به إذا انفرد» وأبوه وإن وثقه ابن سعد وأبو زرعة فلم يخرج له البخاري ولا مسلم، وقال النسائي: «لا نعلم أحداً روى عنه غير ابنه وغير ابراهيم بن مهاجر، وإبراهيم مهاجر، وإبراهيم ليس بقوي في الحديث» فأما النهشلي وابن أبي الزناد فلا شك أننا إذا وازنا بينهما إجمالاً فالنهشلي أثبت أخرج له مسلم ووثقه ابن مهدي وأحمد وابن معين وأبو داود والعجلي وقال أبو حاتم: «شيخ صالح يكتب حديثه وهو عندي خير من أبي بكر الهذلي» والهذلي ضعيف جداً، وقال ابن سعد في النهشلي: «كان مرجئاً، وكان عابداً ناسكاً وله أحاديث ومنهم من يستضعفه» وأما ابن أبي الزناد فلم يحتج به(2/784)
صاحبا (الصحيح) وإنما علق عنه البخاري وأخرج له مسلم في المقدمة، ووثقه جماعة وضعفه بعضهم وفصل الأكثرون. وههنا أمران الأول أن أئمة الحديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم، وأولى من ذلك إذا كان الراوي وسطاً كالنهشلي وابن أبي الزناد. وقد صحح الأئمة حديث ابن أبي الزناد المذكور ولين البخاري والدرامي آثر النهشلي كما مر.
والأمر الثاني: إذا اختلفوا في راوٍ فوثقه بعضهم ولينة بعضهم ولم يأت في حقه تفصيل فالظاهر أنه وسط فيه لين مطلقاً وهذه حال النهشلي، وإذا فصلوا، أو أكثرهم، الكلام في راو فثبتوه في حال وضعفوه في أخرى فالواجب أن لا يؤخذ حكم ذاك الراوي إجمالاً إلا في حديث لم يتبين من أي الضربين هو، فأما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله، فمن كان ثقة ثبتا ثم اختلط فهو غاية في الصحة، أو بعده فضعيف، وابن أبي لزناد من هذا القبيل فإن أكثر الأئمة فصلوا الكلام فيه، قال موسى بن سلمة «قدمت المدينة فأتيت مالك بن أنس فقلت له إني قدمت إليك لأسمع العلم وأسمع ممن تأمرني به. فقال: عليك بابن أبي الزناد» ومالك مشهور بالتحري لا يرضي هذا الرضا إلا عن ثقة لا شك فيه، ولذلك عد الذهبي هذا توثيقاً، بل قال في (لميزان) : «وثقة مالك قال سعيد بن أبي مريم قال لي خالي موسى بن سلمة: قلت لمالك: دلني على رجل ثقة، قال: عليك بعبد الرحمن بن أبي الزناد» وقال صالح بن محمد: «تكلم فيه مالك لروايته عن أبيه كتاب السبعة - يعنى الفقهاء - وقال أين كنا عن هذا؟» وإنما روي هذا بعد أن انتقل إلى العراق كما يأتي عن ابن المديني. وقال عبد الله بن علي ابن المدني عن أبيه «ما حدث بالمدينة فهو صحيح، وما حدث في بغداد أفسده البغداديون، ورأيت عبد الرحمن بن مهدي يخط على أحاديثه، وكان يقول في حديثه عن مشيختهم فلان وفلان وفلان، قال ولقنه البغداديون عن فقهائهم» يعني الرواية عن أبيه عن المشيخة بالمدينة أو الفقهاء بها، وهذا هو الذي حكى صالح بن محمد أن مالكاً أنكره، تبين أن ابن أبي(2/785)
الزناد إنما وقع منه ذلك بالعراق، وابن مهدي إنما كان عنده عن ابن أبي الزناد مما حدث به العراق كما يدل عليه كلام ابن المديني، ويأتي نحوه عن عمرو بن علي. وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة صدوق وفي حديثه ضعف، سمعت على ابن المديني يقول: حديثه بالمدينة مقارب وما حدث به العراق فهو مضطرب. قال علي: وقد نظرت فيما روى عنه سليمان بن داود الهاشمي فرأيتها مقاربة» وقال عمر بن علي: «فيه ضعف فما حدث بالمدينة أصح مما حدث ببغداد» . وقال أبو داود عن ابن معين «أثبت الناس في هشام بن عروة عبد الرحمن بن أبي الزناد» هذا مع أنه قد روى عن هشام مالك والكبار» .
وفيما حكاه الساجي عن ابن معين «عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج 'ن أبي هريرة حجة» . وقال معاوية بن صالح وغيره عن ابن معين «ضعيف» وفيما حكاه الساجي عن أحمد: «أحاديثه صحاح» وقال أبو طالب عن أحمد «يروى عنه» قال أبو طالب: «قلت يُحمل؟ قال نعم» وقال صالح بن أحمد عن أبيه: «مضطرب الحديث» وقال العجلي: «ثقة» . وقال الترمذي في «اللباس» من (جامعه) «ثقة حافظ» ، وصحح عدة من أحاديثه. وأخرج له في «المسح على الخفين» حديثه عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين على ظاهرهما. ثم قال: «حديث المغيرة حديث حسن صحيح وهو حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد ... . ولا نعلم أحداً يذكر عن عروة عن المغيرة «على ظاهرهما» - غيره ... قال محمد يعني البخاري - وكأن مالك يشير بعبد الرحمن بن أبي الزناد» .
فإذا تدبرنا ما تقدم تبين لنا أن لابن أبي الزناد أحوالاً:
الأولى: حاله فيما يرويه عن هشام بن عروة، قال ابن معين إنه أثبت الناس فيه، فهو في هذه الحال في الدرجة العليا من الثقة.(2/786)
الحال الثانية: حاله فيما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة، ذكر الساجي عن ابن معين أنه حجة. وهذا قريب من الأول. وظاهر الاطلاق أنه سواء في هاتين الحالتين ما حدث به المدينة وما حدث به ببغداد، وهذا ممكن بأن يكون أتقن ما يرويه من هذين الوجهين حفظاً فلم يؤثر فيه تلقين البغداديين، وإنما أثر فيه فيما لم يكن يتقن حفظه فاضطرب فيه واشتبه عليه.
الثالثة: حاله فيما رواه من غير لوجهين المذكورين بالمدينة فهو في قول عمرو بن علي والساجي أصح مما حدث به ببغداد، ونحو ذلك قول على ابن أبن المديني على ماحكاه يعقوب وصرح ابن المدني في حكاية ابنه أنه صحيح. ويوافقه ما روي عن مالك من يوثقه إذ كان بالمدينة والإرشاد إلى السماع منه مخصصاً له من بين محدثي المدينة، ويلتحق بذلك ما رواه بالعراق قبل أن يلقنوه ويشبهو اعليه، أو بعد ذلك ولكنت من أصل كتابة، وعلى ذلك تحميل أحاديث الهاشمي عنه لثناء إن المديني عليها، بل الأقرب أن سماع الهاشمي منه أصل كتابه، فعلى هذا تكون أحاديثة عنه أصح مما حدث به بالمدينة من حفظه.
الرابعة: بقية حديثة ببغداد ففيه ضعف، إلا أن يعلم في حديث منذلك أنهكان يتقن حفظه مثل اتقانه لما يرويه عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة، فإنه يكون صحيحاً وعلى هذا يدل صنيع الترمذي في انتقائه من حديثه وتصحيحه لعدة أحاديث منه، وقد دل كلام الإمام أحمد أن القلتين إنما أو قعة انتقائه في لاضطراب. فعلى هذا إذا جاء الحديث من غير وجه عنه على وتيرة واحدة دل ذلك على أنه من صحيح حديثه. فابن أبي الزناد الحالين الأولين وما يلتحق بهما أثبت من النهشلي بكثير، وفي الحال الثالثة إن لم يكن فوقهفليس بدونه، وفي الرابعة دونه. وهذا الحديث مما حدث به بالمدينة فان ممن وراه عنه عبد الله بن وهب كما في (سنن البيهقي) ج2ص33 بسند صحيح، وهو من أحاديث الهاشمي عنه كما في (سنن أبي داود) و (الترمذي) وغيرهما وجاء من غير وجه وتيرة واحدة وصححه من تقدم من الأئمة، فحاله فيه فوق حال النهشلي، وتأكد ذلك برجحان(2/787)
سنده على سند النهشلي كما مر، وبموافقة للأحاديث الثابتة عن جماعة من الصحابة ومخالفة أثر النهشلي لمقتضى تلك الأحاديث ومقتضى الآثار المتواترة من الصحابة. على أني أقول: لا مانع من صحة أثر النهشلي في الجملة وبيان ذلك أننا إذا علمنا الاختلاف في مسألة الرفع ثم رأينا عالماً لم نعرف مذهبه في ذلك، وأردنا أن نعرفه فرقبناه في بعض صلاته فلم نره رفع فإنه يقع قي ظننا أن مذهبه عدم الرفع وأن ذلك شأنه، فإذا مضت على ذلك مدة ومات ذاك العالم ثم بدا لنا أن نذكر حاله في الرفع فقد نبني. على ما تقدم فنقول: لم يكن يرفع. فمن الجائز أن يكون اتفق لكليب أنه رقب علياً في بعض صلاته ليرى أمن مذهبه الرفع أم لا؟ فاتفق أن رفع على عند الإفتتاح رفعاً تاماً رآه كليب، ثم تجوزعلى في الرفع عند الركوع فما بعده فلم يره كليب، فظن أنه لم يرفع، وأن مذهبه عدم الرفع، فذهب يحكي عنه بحسب ذلك.
فإن قيل: لكن هذا الاحتمال لا يخلوعن بعد.
قلت: لكنه أقرب الاحتمال. فإن قيل: قدّ روي عن إبن إسحاق السبيعي انه قال: «كان أصحاب عبد الله وأصحاب على لا يرفعون ايديهم إلا في افتتاح الصلاة» .
قلت: إنما أراد الذين صبحوا عبد الله ثم صبحوا علياً ولذلك قدم ذكر عبد الله مع أن علياً أفضل، وكان أبو إسحاق يتشيع وأصحاب عبد الله هم كانوا بعده المقتدي بهم من أصحاب على، وفي مقدمة (صحيح مسلم) عن المغيرة بن مقسم قال: «لميكن يصدق على عليّ في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود» . وكان أصحاب عبد الله يلزمون ما أخذوه عنه، وإن رأوا علياً يخالفه كما لزموا التطبيق وغيره. وقد تقدم الكلام على أخذهم عن عبد الله ترك الرفع فلا تفغل فإن قيل: ولماذا لم ينكر عليهم على؟ قلت: لعله لم يقف على ذلك من خالهم، أو أنكر عليهم فلم ينعوا كما يحتمل ذلك في قضية التطبيق.
بقي قول ابن تركماني: «لخصمه أن يعكسه فيجعل فعل علي بعد النبي عليه(2/788)
السلام دليلاً على نسخ ما تقدم» .
فأقول: ليس هذا بشيء فقد تقرر في الأصول أن الحكم إذا ثبت فادعي بعض الصحابة نسخة وخالفه غيره منهم، لم يثبت النسخ بتلك الدعوى إذ قد يكون استند صاحبها إلى مالا يوافقه غيره على أنه دليل يوجب النسخ. وقد اختلف الصحابة في عدة أحكام ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة، وخالفه غيره، ولم يرا المخالف في قول صاحبه: هذامنسوخ حجة، ولا رأى القائل قوله ذلك كافيا في إثبانت النسخ، فكيف يظن بعلي أن يكون يرى أن الرفع منسوخ ثم يخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع، ويعلم أن غيره من الصحابة يخبرون بذلك ويعلمون به عملاً شائعاً ذائعاً ثم لا يتبع على إخباره بذلك ببيان الحجة على نسخة ويعلن ذلك؟
بل يقتصر على ماليس بدليل على النسخ ولا صريح في دعواه ولا ظاهر فيها وهو الترك، إذ قد لا يرقبه الناس في صلاته، فإن رقبة بعضهم فقد يقول لعله ترك لبيان ألجواز، أو لعذر، أو سها، أو ترخص كما ترخص عثمان وغيره في ترك التكبيرات أوجهر بها كما تقدم. هذا ما لا يكون فالحق ماتقدم من وهم أثر النهشلي أو وهم كليب، وتحقق ما قاله البخاري إنه لا يثبت عن أحد من الصحابة ترك الرفع إلى ان يكون بعضهم تركه في وقت ما لبيان الجواز أو غيره مما تقدم. والله أعلم.
وأما الامر السابع وهو قول الكوثري: «فيدل ذلك على التخيير الأصلي» فإن أراد بالتخيير الأصلي إن احد الأمرين مندوب والأخر جائز فهذا وجه ويتعين أن يكون المندوب هو الرفع فيكون تركه تركاً لمندوب وهو جاء في الجملة ولا يصح عكسه فإن من يرفع على وجه التعبد كما لا يخفى ولو كان الرفع غير مشروع فكان فعله على وجه التعبد بدعة وكذباً على الله تعالى وتكذيباً بآياته فيكيف يقال أنه جائز؟ وإن أريد ان كلا الامرين مندوب، فندب الرفع حق ثابت معقول ولا دليل على ندب الترك مطلقاً، ولا هو مع ندب الفعل بمعقول، فإن ترك المندوب حيث ندب إنما يكون مكروهاً أو خلاف الأولى والتخيير بين(2/789)
المندوبين إنما يكون بين فعلين كالا اذكار المأثورة في إفتتحاح الصلاة، إذا ثبت منها إثنان مثلا فيقال أيهما أتنى به المصلي فقد احسن، وإذا اتى بها بأحدهما لم يكن تركه للأخر مكروهاً ولا خلاف الاولى، لأنه إا تركه إلى أخر يقوم مقامه.
فإن قيل: فههنا أيضاً امران: الرفع والسكون، فمن رفع الترك فقد أتى بالسكون وهو مندوب.
(1) قلت: السكون ترك وإنما شرع السكون في الصلاة عن الحركات التي لم تشرع فيها كما في (صحيح مسلم) وغيره من حديث جابر بن سمرة قال (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم، فنظر إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما شأنكم تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل الشمس؟ إذا سلم أحدكم فيلتفت الى صاحبه ولا يويء بيده) فأمرهم بالسكون عن تلك الحركة وهيه رفع أيدي عند السلام، ولإشارة بها يمنى ويسرى وأمرهم بالالتفات وهو حركة أيضاً وإنما الفرق إن الحركة الاولى غير مشروعه، فعلى هذا يجري الأمر في سائر الحركات في الصلاة فما كان واجباً لم يعقل أن يكون السكون عنه جائزاً، وما كان مندوباً لم يعقل أن يكون السكون عنه الى مكروهاً أو خلاف الاولى، وما كان مباحاً فالسكون عنه مباحاً والله الموفق (1) .
__________
(1) ومما يؤكد ما قاله المصنف رحمه الله على مذهب الحنفية، أنهم يرون مشروعية الرفع اليدين تكبيرات الزوائد في صلات العيدين، وكذا في تكبيرات الجنازه في إختيار المشايخ بلخ كما في (شرح الكنز) وغيره من كتبهم. فله كان الحديث المذكور (أُسكنوا في لصلاة) يشمل الرفع في التكبير، لكان مذهبهم هذا مخالفاً له، مع العلم بأن الرفع في الزوائد لا يصح حديثه الذي استدل به ورفع في الجنازه لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما عدا الرفع في تكبيرة الإحرام، كما كنت بنيته في كتاب (احكام الجنائز وبدعها) يسر الله تمام طبعه بمنه وكرمه. فأعجب لقوم هذا مذهبهم، يستدلون بالحديث على كراهة رفع اليدين في تكبيرات الانتقال مع تواتره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يستدلون به على كراهة الرفع في الجنازه والعيدين مع عدم ثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - زد على ذلك أن هو اللاايق والمناسب اتم من مناسبة لقول أبي حنيفة (يريد أن يطير فيرفع يديه) لأن الرفع في الصلاتين المذكورتين اوخصوصاً صلاة العيد أقرب إلى هذا القول لتتابع الرفع فيه،، وقد سلم الكوثري بصحتهم عنه بسكوته عنه وتأويله إياه بأن أبا حنيفة قال لإبن المبارك ممازحة وهل ممازحة جائزة إلىة هذا الحد في مذهب الكوثري،،
فاللهم هداك(2/790)
وأما الأمر الثامن وهو قول الكوثري: (وإنما خلافهم فيما هو الأفضل) فوجيه في الجملة فإن منهم من عرف أن الرفع سنة باقية، وفعل السنة افضل من تركها، ومن تابعين فمن بعدهم من لم تبلغه هذه السنة منوجه يثبت أو بلغته ولكن غلبت عليه شبهه ترجح بها عنده أنها منسوخة فيكون عنده أم الرفع بدعة، وترك البدعة أفضل من فعلها، وكذلك من التبس عليه الحال فإن نا يحتمل أن يكون سنة ةإن يكون بدعة فتر كه أفضل، فأما من أعرض عن الحجج واسترسل مع الشهاب إيثار لهواه، فله حكم آخر. والله المستعان.(2/791)
المسألة الثالثة: أفظر الحاجم والمحجوم
في (تاريخ بغداد) 13/388 من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه: «قال: ذكر لأبي حنيفة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفطر الحاجم والمحجوم. فقال: هذا سجع» . قال لاأستاذ ص 81: «حديث: أفطر أفطر لحاجم والمحجوم لم يثبته كثير من أهل الحديث منهم ابن معين بمعنى أنهما عرضه للأفطار ... » .
قلت: ممن صحح الحديث من وجه أو أكثر الإمام أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهو ية والبخاري وأبو زرعة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن خزيمة وغيرهم. فأما ابن معين ففي (الفتح) : قال المروذي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت. فقال: هذا مجازفة» . وزعم الأستاذ أن من أثبته يراه منسوخاً أو مؤولاً، ليس كما قال، فإنه ترك القسم الثالث، قال ابن حجر في (فتح الباري) : «وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء، وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضاً، وقال بقول أحمد من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وأبو الوليد النيسابورى وابن حبان ... وبذلك قال الداودي من المالكية» .
فأما دعوى النسخ بحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم. فالحديث رواه عبد الوارث عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: «احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم» ،(2/792)
ورواه وهيب عن أيوب بسنده: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم» . وفي (الفتح) «ورواه ابن علية معمر عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، واختلف على حماد بن زيد في وصلة وإرساله» . وجاء عن مقسم عن ابن عباس:: «احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة وهو صائم محرم» . وذكر البيهقي ج4 ص 263 وقال: «وراه أيضاً ميمون بن مهران عن ابن عباس» ، وكذلك في رواية لابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كما في (الفتح) عن عكرمة عن ابن عباس عند أحمد ج1 ص305 ذكر قصة اليهودية التي وضعت السم في الطعام النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد من ذلك شيئاً احتجم، قال: فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئاً فاحتجم» . وقد أجاب ابن خزيمة عن هذا الحديث بأن للمسافر إذا أصبح صائماً ثم بدا له أثناء النهار أن يفطر، وحاصل الجواب انه - صلى الله عليه وسلم - أصبح في سفرة صائماً ثم لما هاج به الوجع احتجم فأفطر، وكأن ابن عباس لم يكن قد بلغه أن الحجامة تفطر الصائم احتج بالقصة على حسب ظنه. وهذا كما سمع أسامة يحدث بحديث: «لا ربا إلا في النسيئة» ولم يثبت عنده حديث:
«لا تبيعوا الذهب مع بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزناً بوزن مثلاً يداً بيد» فكان يفتي بحل ذهب بالذهب مع التفاصيل نقداً وكذا الفضة بالفضة، ثم جاء أن بعض الصحابة أخبره بالحديث الاخر فرجع (1) .
وكما أخبره أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة فلم يصلي فيها، فكان يفتي بذلك، وقد صح عن بلال أنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة، وأنه صلى بين العمودين المقدمين، وكما كان يرى أن لا قراءة في السرية، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقرأ فيها، فقيل له: لعله كان يقرأ في نفسه، فغضب. وقد أثبت غيره القراءة بما لا تبقى معه شبهة. وأمثال هذا كثير ممال يحتج به الصحابي على
__________
(1) ثبت ذلك عن ابن عباس من طريق، وقد خرجتها في «إرواء الغليل» (1326) . ن(2/793)
حسب ظنه ويتبين أن ظنه كان خطأ. وقد روى عطاء ذاك الحديث عن ابن عباس ثم ذهب إلى الافطار كما مر.
فإن قيل: لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أفطر بالحجامة لكان الظاهر أن يبين ذلك للناس؟
قلت: يجاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بما سبق منه من بيان أنه يفطر الحاجم والمحجوم، ومن بيان أن الصائم في السفر يحل له الافطار.
فإن قيل: فقد جاء عن أبي سعيد الخدري وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في الحجامة للصائم.
(1) قلت: في صحة ذلك عنهما كما ترى في (فتح الباري) ، ولوصح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس من احتجامه - صلى الله عليه وسلم - وهو وهو صائم في سفره، وقد مر ما فيه. وأما التأويل بصرف النص عن ظاهره فلا مسوغ له. والله أعلم (1) .
__________
(1) قلت: لاشك أن التاويل المذكور لا مسوغ له، ولكنى أرى ان الجواب الصحيح هو أن الحديث منسوخ بنص حديثي أبي سعيد وأنس المذكورين، فإنهما حديثان صحيحان، له عن أبي سعيد طريقان، أحدهما صحيح، وعن أنس ثلاث طرق أحدهما صحيح أيضا، وأما الكلام الذي أحال المصنف فيه على «الفتح» فليس فيه ما يمكن أن يكون علة في الحديث لا سيما إذا نظر إليه من جميع طرقه، فإن كثرة الطرق الحديث تدل أن له أصلا. فكيف إذا كان بعض مفرداتها صحيحاً في نفسه، وليس هذا مجال شرح ذلك، ومحله في «إرواء التغليل» (913) ، ولكن لابأس من الإشارة إلى شيء من كلام الحافظ رحمه الله مع التعليق الموجز عليه قال في بعض طرق أنس:
«ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكرلأن فيهأن ذلك كان في الفتح، وجعفر قتل قبل ذلك» . =(2/794)
المسألة الرابعة: إشعار الهدى
في (تاريخ بغداد) 13/390 عن يوسف بن أسباط: « ... وأشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقال أبو حنيفة: الإشعار مثلة» قال الأستاذ ص87: «ليس من قوله فقط، بل أثر يرويه عن حماد عن إبراهيم النخعي كما يشتر إلى ذلك الترمذي ... .، يريدان إشعار أهل زمانها المبالغ فيه ولام التعريف تحمل على المعهود في زمانهما ... على أن الأعمش يقول: لم نسمع إبراهيم النخعي يقول شيئاً إلا وهو مروي، كما تجد ما بمعناه في (الحلية) لأبي نعيم، فيكون قول النخعي هذا أثراً يحتج به، وأنت عرفت قيمة مراسيل النخعي عند ابن عبد البر وغيره» .
__________
= قلت: وهذا سهو من الحافظ رحمه الله، فإنه ليس في الحديث ذكر للفتح أصلاً، وعليه فالحديث صحيح لا نكارة فيه، والعجيب أن الحافظ ادعى ما سبق بعد أن ذكر الحديث بدون ذكرالفتح وهذا لفظه: «أخرجه الدارقطني ولفظه «أول ما كرهت الحجامة للصائم، إن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد في لحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. رواته كلهم ثقات ... » وهكذا هو عند الدارقطني في «سننه» (ص239) .
وإذا عرفت هذا اللفظ الصريح في النسخ يتبين لك أن قول المؤلف رحمه الله: «ولو صح أمكن أن يكون مرادهما بالترخيص ما ذكره ابن عباس ... » أنه غير ممكن، فتأمل. ن(2/795)
أقول أما الترمذي فروى من طريق وكيع حديث إشعار النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال: «سمعت يوسف بن عيسى (وهو ثقة) يقول: «سمعت وكيعاً يقول حين روى هذا الحديث قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرأى في هذا فإن الاشعار سنة وقولهم بدعة» قال الترمذي: سمعت أبا السائب (سلم بن جنادة وهو ثقة) يقول: كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأى: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول أبو حنيفة: هو مثلة؟ قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعاً غضب غضباً شديداً، وقال:: أقول لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: قال إبراهيم؟ ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا» .
القائل: «فإنه قد روي عن إبراهيم» لا يدري من هو وممن سمعه وكيف إسناده، ولكن الأستاذ بنى على دعاوى:
الأولى: أن ذاك الرجل ثقة.
الثانية: أن قوله: «فإنه قد روي» معناه فإن أبا حنيفة روي.
الثالثة: أنه سمع ذلك من أبي من أبي حنيفة.
الرابعة: أن أباحنيفة روي ذلك عن حماد، مع أنه لا ذكر لحماد في الحكاية.
الخامسة: أن ذلك أثر، مع أن الأستاذ نقم نحو ذلك في (الترحيب) ص 28 فقال: «وإطلاق الأثر على مالم يؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم في دين الله شيء مبتكر في سبيل تقوية الخبر الزائف من هذا الناقد الصالح!» . السادسة: أن 'براهيم النخعي لم يكن يستنبط ولا يقيس وإنما كان يقول ما يرويه بنصه، والأستاذ يعلم أن المتواتر عن إبراهيم خلاف ذلك، غاية الأمر أنه يسوغ أن يقال: إنه لم يكن يفتي برأيه المحض، وإنما كان يستنبط من المرويات ويقيس عليها فيكون عرضة للخطأ كغيره.(2/796)
السابعة: أن تلك المرويات التي كان إبراهيم لا يتعدي منصوصهاً لا تشمل أقول من قلبه من التعابعين ولا الصحابة وإنما هي النصوص النبوية فتكون أقول إبراهيم وفتاواه كلها كلها مراسيل أرسلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثامنة: أن ذلك حجة. ولا أطيل بمناقشة الأستاذ في هذه المزاعم، وقد رجع هو عن الثلاث الأخير بقوله: «يريدان إشعار أهل زمانهما المبالغ فيه ... » ومع ذلك فهذه دعوى جديدة، والظاهر الواضح من قول القائل: «الإشعار مثله» الحكم على الإشعار مطلقاً ولوأراد ما زعمه الأستاذ لقال: «لمبالغة في الأشعار مثلة» أو نحو ذلك. فأما إبراهيم فلم يثبت ذاك القول عنه، فلا ضرورة إلى الاعتذار عنه بعذر، إن دفع الملامة من جهة، أو قع فيها من جهتين:
الأولى: الاطلاق الموهم للباطل.
الثانية: أتهامه جميح أهل زمانه وفيهم بقايا الصحابة والتابعون بالاطباق على مالا يجوز حتى استساغ أن يطلق ولا بفصل. وأما أبو حنيفة فقد اعتذر عنه الطحاوي بقوله: «إنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن ... فأرادسد هذا الباب عن العامة لأنهم لا يراعون لاحدّ في ذلك، وأما من كان عارفاً بالسنة فى ذلك فلا» .
والمقصود هنا إثبات أن الأشعار سنة وذلك حاصل على كل حال.(2/797)
المسألة الخامسة: المحرم لا يجد إزارا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه
في (تاريخ بغداد) 13/392 من طريق حماد بن زيد قال: «شهدت أبا حنيفة رسئل عن محرم لم يجد إزاراً فلبس سراويل، قال: عليه الفدية، قلت: سبحان الله ... ...» قال الأستاذ ص 94: «فهذان إنما أبيحا لعذر كمن به أذى في رأسه فلا تحول هذه الإباحة دون وجوب الفدية كمن في رأسه أذي فلَبس، على ما في القرآن الكريم، وليس في الأحاديث ما يصرح بسقوط الفدية عن المعذور.
أقول: الذي في القرآن هو قول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) .
فالذي في الآية الحلق، فقول الأستاذ «فلبس، على ما في القران الكريم» لا وجه له اللهم إلا أن يريد: قياساً على ما في القرآن ففي عبارته تلبيس ومع ذلك ففي صحة القياس نظر لتوقفها على عدم الاحرام - أعني التحلل - كما جعل السلام علماً على الخروج من الصلاة، والسلام من خطاب الناس وهو أشد
__________
(1) البقرة: 196(2/798)
منافاة للصلاة من غيره بدليل أنه لا يجوز منه في الصلاة قليل ولا كثير حتى في حال القتال، وإن احتاج إليه لاستغاثة مثلاً بخلاف الحركة مثلاً فإنها وإن كانت منافية للصلاة أيضاً إلا أنه لا يجوز القليل منها مطلقاً ويجوز الكثير في صلاة الخوف، فالتشديد في الحلق لايستلزم التشديد فيما هو أخف منه. فإن كان هناك إجماع على وجوب الفدية على من احتاج إلى لبس عمامة لمرض مثلاً فلا يقاس عليه لبس فاقد الإزار للسراويل، وفاقد النعلين للخفين، لأن ستر الرأس غير المطلوب شرعاً كطلب ستر العورة ووقاية الرجلين مما قد يمنع من استطاعة المشيء إلى الحج وأداء أعماله، والتشديد في الأول لا يستلزم التشديد في الثاني. فأما قياس لبس السراويل والخفين على الحلق المنصوص في القرآن فأبعد عن الصحة لاجتماع الفارقين معاً، فإن قيل: أرأيت إذا تمكن فاقد الازار من فتق السراويل وتلفيقه بالخياطة حتى يكون إزار كافياً له، وتمكن فاقد النعلين من تقطيع الخفين حتى يصيرا نعلين؟ قلت: لا يتجه إلزامه ذلك لأنه يكثر أن لا يتمكن الانسان من ذلك، وإذا تمكن ففيه إفساد للمال ينقص قيمته ومنفعته. هذا وقد صح في الباب حديثان:
الأول حديث ابن عمر في (الصحيحين) وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم فقال: «لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ... ...» ويؤخذ منه من باب أولى الإذن في السراويل لمن لم يجد إزاراً لان الحاجة الى ستر أسفل البدن أشد وكونه مطلوباً شرعاً أظهر ويبقى النظر في القطع فقد يقال كما أمر بقطع أعلى الخفين فكذلك ينبغي قطع ما تحت الركبتين من السراويل وقد يقال إنما يقطع ما تحت أنصاف الساقين لأنما فوق ذلك إلى الركب مشروع ستره أيضاً وان لم يجب بخلاف ستر الكعبين وما فوقهما وقد يقال لا يتعين القطع بل الأولى العطف والثبيت بالخياطة لأن ذلك محصل للمقصود بدون إفساد، وله كان يتاتى بنحو ذلك في الخفين لقلنا به فيهما أيضاً فأما فتق السراويل ثم تلفيقه بالخياطة حتى يكون ازاراً فقد دل على عدم لزومه إكتفاء الحديث بما اكتفى به في الخفين ولم(2/799)
يشترط تقطيعهما حتى يصيرا نعلين.
الحديث الثاني: الحديث ابن عباس في (الصحيحين) وغيرهما «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بعرفات: من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين» ففي هذا الحديث النص على السراويل والخفين معاً ولم يذكر القطع، فمن أهل العلم من أخذ به على اطلاقه وقال إنه نسخ للأمر بقطع الخفين لأن حديث أبن عباس، متأخر ومنهم من حمل المطلق على المقيد فقال بقطع الخفين، فعلى الأول يكون عدم وجوب قطع السراويل أولى، أما على الثاني فقد يتمسك فيه بالاطلاق، وقد يقال بل يكون حكمه ما تقدم في الكلام على الحديث الأول. وعلى كل حال فسكوت الحديثين عن ذكر الفدية يدل أنها لا تجب، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والبيان المتقدم في القرآن لم يتعرض لقضية السراويل والخفين لا نصاً ولا تنبيهاً كما تقدم. والله أعلم.
المسألة السادسة: درهم وجوزة بدرهمين
في (تاريخ بغداد) 13/412 عن خالد بن يزيد بن أبي مالك قال: «أحل أبوحنيفة الزنا والربا ... أما تحليل الربا فقال: درهم وجوزة بدرهمين نسيئة لا بأس به ... » قال الأستاذ ص 145: «فرية بلا مرية لأنها على خلاف المدون في مذهبه، وأبو حنيفة من أشد الفقهاء في النسيئة» .
أقول: إن صح الكلام الأستاذ فقد يكون أبو حنيفة قال قولاً ثم رجع عنه، وقد يكون خالد رأى إجازة ذلك نقداً تستلزم إجازة نحوه نسيئة كما يأتي، وبيان(2/800)
أن ذلك من مرفوع تلك القاعدة: صاع تمر ودجرهم نقد بخمسة آصع من تمر نقداً، يعتل الحنفية في إجازة ذلك بأنه في معنى بيعتين جائزتين صاع بصاع نقداً وأربعة آصع بدرهم نقداً فيقال لهم: فكذلك صاع تمر ودرهم نقداً بخمسة آصع نسيئة أحدها نقداً والباقي نسيئة، إذيمكن أن يقال هو في امعنى بيعتين جائزتين صاع بصاع نقداً أربعة آصع نسيئة بدرهم نقداً. فإن التزموا ذلك جاء ربا النسيئة، وإن قالوا لا ننجيزه إذ قد يقصدان الربا كأن يكون عند رجل تمر جيد وعند آخر صاع تمر ردى لا يسد حاجته فيحتالان بتلك البيعة قاصدين صاعاً بدرهم نقداً وصاعاً نقداً بأربعة آصع نسيئة. قلنا فكذلك النقد قد يقصدان صاعاً بدرهم نقداً وصاعاً بأربعة آصع نقداً، فالأستاذ تبرأ من ربا فوقع فى ربا. والحاصل ان هناك معنيين أحدهما ربا قصداه وقام الدليل على قصدهما إياه، والآخر جائز حاولا أن يوهماه / أفلا يعاب من أعرض عن الأول وينى الحكم على الثاني؟ نعم إذا لم يراع سد الذريعة أن يصحح العقد إحساناً للظن بالمسلمين، ويكره لهم هذه المعاملة مطلقاً لأنها متهمة وذريعة إلى الربا / وربما يمكن الحنفية تنزيل قول أبي الحنفية على هذا، وبذلك يدفعون المعرة عن إمامهم وأنفسهم. والله الموفق.(2/801)
المسألة السابعة: خيارالمجلس
في (تاريخ بغداد) 13/387 عن بشير بن المفضل قال: «قلت لأبي حنيفة: نافع عن أبن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. قال: هذا رجز» . قال الأستاذ ص 87: «إذا حمل - يعنى الحديث - على خيار المجلس يكون مخالفاً لنص كتاب الله الذى يبيح التصرف لكل من المتعاقدين فيما يخصه بمجرد تحقق ما يدل على التراضي قال الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» .
أقول: في (روح المعاني) ج 2 ص 77 «المعنى: لا يأكل بعضهم أموال بعض، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم، قاله السدي وهو المروى عن الباقر ري الله عنه. وعن الحسن: هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعوض. وأخرج عنه وعن عكرمة ابن جرير أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في سورة النور «وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» الآية، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكرن أكلاً بالباطل، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نسخت(2/802)
ولاتنسخ إلى يوم القيامة» .
أقول: المعنى الأول مبني على أن الباء في قوله «بالباطل» للسبية، وأن الباطل ما لا يعتد به الشرع سبباً للحل. والمعنى الثاني مبني على أن الباء للمقابلة وأن الباطل ما لا تحقق له ونسبة المعنى الأول إلى السّدي لا أراها تصح، وإنما قال السدي كما في (تفسير ابن جرير) ج5ص19 «بالباطل: الربا والقمار والبخس والظلم. إلا أن تكون تجارة: ليربح في الدرهم ألفا إن استطاع» فأول عبارته يصلح للمعنيين، وبيان صلاحيتها للثاني في القمار والبخس والظلم ظاهر، فأما الربا فإن من أقرض مائة ليقتضي مائة وعشرة يأكل العشرة بما لا تحقق له فإن غايته أن يقول: لو لم أقرض المائة لعلي كنت اتجرت فيها فربحت، ولعل المستقرض اتجر فيها فربح. فيقال له هذا لا تحقق له لعلك لو لم تقرضها لسرقت منك، ولعلك لو اتجرت فيها لخسرت مع ما يلحقك والعناء، ولعل المستقرض لم يتجر فيها، ولعله اتجر فخسر أو ذهب منه رأس المال، فإن ربح فيتبعه. ولتمام هذا موضع آخر، وإنما المقصود هنا أن ذكر السدي للربا لا يحتم أنه قائل بالمعنى الأول. وآخر عبارة السدي ظاهر في معنى الثاني وأنه رأى أن الغبن في البيع من الأخذ بالباطل المراد في الاية ولكنه مستثنى استثناء متصلاً على ما هنوالأصل في الاستثناء، ولنفرض مثالاً يبين ذلك: ثوبان قيمة كل منهما بخسب الزمان والمكان عشرة، فقد يجهل البائع ذلك ويظن قيمة كل منهما خمسة فقد فيبيعها بعشرة، وقد يجهل المشترى فيظن قيمة كل منها عشرين فيشتريها بأربعين فمن أخذهما بقيمة أحدهما فقد أخذ أحدهما أو نصفيهما بما لاتحقق له، ومن باعهما بمثلي قيمتها فقد أخذ نصف الثمن بما لا يحقق له، هذا باعتبار قيمة الزمان والمكان، وهو المتعارف بين الناس، فإن من باع أو اشترى بقيمة الزمان والمكان لا يعده الناس غابناً أو مغبوناً البتة، ولكنك إذا تعمقت قد تقول: إنما القيمة الحقيقة مقدار ما غرمه البائع على السلعة، أو مقدار ما ينقصه فقدها، فيقال لك: هذا بالنظر إلى البائع، فأما بالنظر إلى المشترى فقيمتهما مقدار ماتنفقه، وقد يتعارضان، كمن عنده ماء كثير فباع منه شربة(2/803)
لمضطر، ويبقى النظر في الثمن ويخفى الأمر ويضطرب وتضيق المعاملة جداً. لا جرم عدل الشرع إلى اعتبار ما تراضي به المتبايعان، فما تراضيا به فهو القيمة التي يعتد بها الشرع في التجارة، لكن هذا لا يمنع أن يسمى الغبن أكلاً بالباطل بالنظر إلى التحقق، وليس من لازم الباطل بهذا المعنى أن يكون محرماً في الشرع، وفي الحديث: «كل شيء يلهو به الرجل باطل غلا رمية بقوسة وتأديبة فرسه وملاعبته امراته فإنهن من الحق (1) » ومعلوم أن فيما يلهو به الرجل غير هذه الثلاث ما هو مباح إجماعاً.
فأما ما أكل على وجه مكارم الأخلاق فإنه إذا عمل فيه بالمشروع لم يكن على كلا المعنيين من الأكل بالباطل، وذلك أن الباذل قد يقصد مكافأة المبذول له على إحسان سابق، وقد يرجوعوضاً مستقبلاً، إما مالاً وإما منفعة، وأقل ذلك الثناء، والأكل في مقابل غحسان سابق أكل بأمر متحقق، والمشروع للمبذول له على رجاء مستقبل أن يقبل عازماً غعلى المكافأة فيكون بمنزله من يفترض عازماً على لأن يقضى، وإنما كان بعض الصحابة أولاً يتورعون عن الأكل في بيوت أقاربهم وأصدقائهم خشية أن لا يتيسر لهم المكافأة المرضية. فبين الله تعالى لهم في آية النور أنه لا حرج في الأكل، يريد والله أعلم مادام ذلك جارياً على المعروف، والمعروف أن الناس يكرم بعضهم بعضا ويكافئ بعضهم بعضا بالمعروف، فمن أكل عازماً على المكافأة بحسب ما هو معروف بين أهل المروءات فلم يأكل بما لا تحقق له، نعم لو فرضنا أن رجلاً غنياً لئيماً اعتاد أن يتردد على بيوت أقاربه وأصدقائه ليأكل عندهم غير عازم على المكافأة المعروفة كان هذا والله أعلم داخلاً في الباطل على كلا المعنيين.
وإذا تدبرت علمت أنه على المعنى الثاني ليس هناك نسخ، وإنما هو بيان لدفع ما توهمه أولئك المتحرجون، وقد عرف عن السلف أنهم ربما يطلقون النسخ على
__________
(1) حديث صحيح، خرجته في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» رقم (310) . ن(2/804)
مطلق البيان، فهذا والله أعلم من ذاك. وبهذا كله اندفع مارجح به المعنى الأول وترجح المعنى الثاني فيكون الاستثناء متصلاً كما هو الأصل. والله أعلم.
وقوله تعالى: «عن تراض» نص في اشتراط رضا كلٍ من المتبايعين، والرضا معنى خفي، وسنة الشارع في مثله أن يضبطه بأمر ظاهر منضبط يشتمل على المعنى الذي عليه مدار الحكمة كالرضا ههنا، فيكون مدار الحكم على ذاك الضابط ههنا؟
بنى الأستاذ على أنه الصيغة أي الإيجاب والقبول كما في النكاح. وذلك مدفوع بوجهين:
الأول: أن الصيغة قد علمت بقوله: «تجارة» .
الثاني: أنها ليست بواضحه الدلالة على الرضا إذ تكون عن هزل أو سبق لسان أو استعجال قبل تمكن الرضا من النفس، ويكثر وقوعه ويتكرر، ويكثر التغابن لكثرة الجهل بقيمة المثل بخلاف النكاح فإنه قد لا يقع في العمر إلا مرة، ويحتاط الناس له ما لا يحتاطون للبيع، والشارع يتشوف إلى تثبيت النكاح ما لا يتشوف إلى تثبيت البيع، جاء في الحديث: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق (1) » وجاء فيه: «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» ومبنى البيع على المشاحة ومبنى النكاح على مكارمه، وأوضح من هذا كله أن في الحديث: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة (2) ففرق هذا ثلاثة وبين غيرها كالبيع، على أن تعين الضابط غنما هو للشارع، فإذا لم يظهر من الكتاب وجب الرجوع إلى السنة، فنجدها قد تعيين الضابط التراضي بحصول أحد أمرين بعد الإيجاب والقبول، وأما احتيار اللزوم، وأما أن يستمرا على ظاهر حالهما من التراضي مدة اجتماعهما ويتفرقا على ذلك، ولا يخفى على المتدبر أن هذا بغاية المطابقة
__________
(1) في إسناده مقال ذكرته في «الارواء» . والحديث الذي بعده صحيح مخرج هناك. ن
(2) حديث حسن بمجموع طرقه، وقد خرجتها في المصدر السابق. ن(2/805)
للحكمة، أما اختيار اللزوم فواضح أنه بين في استحكام التراضي، وأما الاستمرار على ظاهر الحال من التراضي والتفرق على ذلك فلأن الغالب أنه إذا كان هناك هزل أو سبق لسان أو استعجال أن يتدار كه صاحبه قبل التفرق ولا سيما إا علم أن التفرق يقطع الخيار. فبان بهذا أن الحديث مفسر للآية التفسير الواضح المطابق للحكمة، لا مخالف لها كما زعم الكوثري، وراجع (تفسير أبن جرير) . ويؤكد هذا المعنى مافي (سنن أبي داود) وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عت أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون الصفقة خيار ولا يحل له ان يفارق5 صاحبه خشية أن يستقيله» .
والمراد والله أعلم انه لا يحل لأحد هما أن يستغفل صاحبه فبفارقه وهو لا يشعر إذ قد لا يكون استحكم رضاه وكان يريد الفسخ إلا أنه أمهل اعتماداً على أن ذلك لا يفوت، حتى لورآه يريد المفارقة لبادر بالفسخ. فأما ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاًُ يعجبه فارق صاحبه، فمحمول على مبادرته بالمفارق وصاحبه يراه، أو لا يكون وقف على هذه الزيادة، وقوله: «حتى يستقله» ، لا يدل على الزوم العقد، فإن الاستقاله بعد الزوم العقد لا تمنع فيها المفارقة. إذا قد يستقله بعد أن يفارقه ويمضي زمان، وإنما المراد والله أعلم أن صاحبه قد يندم في المجلس فلا يبادر إلى الفسخ ويرى من حسن الأدب والعشرة أن يقول له: «أقلني» ليكون الفسخ برضاهما فإنه أطيب للنفوس.
قال الكوثري: «على أن لحديث إذا حمل على الخيار الرجوع بمعنى ان البائع والمشترى إذا أو جب فله حق الرجوع قبل قبول الآخر في المجلس فيزول خيار الرجوع من الموجب بائعاً كان أو مشترياً بقبول الآخر قبل انقطاع المجلس، فهذا المعنى يكون غير مخالف لكتاب الله تعالى» .
أقول: قد علمت أن الحديث بالمعنى الواضح من إثبات خيار المجلس لكل من المتبايعينبعد تبايعهما غير مخالف لكتاب الله تعالى، وأما هذا المعنى الذي ذكره الكوثري فالحديث غير محتمل له كما يأتي، ولو احتمله وحمل عليه لبقي ما في(2/806)
القرآن في معنى المجمل لأن أحدهما «بعت» وقول الآخر فوراً: «اشتريت» لا يتضح به التراضي المشروط في القرآن لاحتمال الهزل وسبق اللسان والاستعجال كما مر.
ثم حاول الأستاذ تقريب احتمال الحديث للمعنى الذي زعمه فقال: «وعلى هذا التقدير يكون لفظ «المتبايعين» حقيقة، إذ هذا اللفظ محمول على حال العقد في تقديرنا، وحمله على مابعد صدور كلمتي المتعاقدين يجعله مجازاً كونياً. وفائدة الحديث أن خيار الرجوع ثابت لهما مادام أحدهما أو جب ولم يقبل الآخر في المجلس لاكا لخلع على مال والعتق على مال، لأنه ليس المزوج ولا المولى الرجوع فيهما قبل قبول المرأة والعبد» .
أقول: فللمجيء إلى الفرارإلى هذا القول أن تأويل قدماء الحنفية «المتبايعان» بالمتساومين والتفرق بالايجاب والقبول أبطل بوجوه، منها أنه أخرج للَّفظ عن حقيقة بلا حجة، ومنها أن الحديث يبقى بلا فائدة إذ لا يجهل أحد أن التساوم لا يلزم به شيء. وستعلم أن هذا الفار كالمستجير من الرمضاء بالنار.
قوله: «يجعله مجازاً كونياً تفسيره أن من الأصول المقررة أن المشتق يصدق على المةصوف حقيقة حين وجود المعنى المشتق منه، فإن لم يكن فىخر جزء منه، فأما قبل حصوله فمجاز كوني أي باعتبار ما سيكون، واختلف فيما بعد زواله فقيل حقيقة، وقيل مجاز كوني أي باعتبار ما كان. فأقول الأصل يقضي بأنه لا يصدق حقيقة على الإنسان لفظ «بائع» إلا حين وجود البيع حقيقة، وإنما يكون ذلك عند آخر حرف من الصغة المتأخر، والحديث يثبت أن لكل منهما حينئذ الخيار ويستمر إلى أن يتفرقا، وهذا قولنا. وأو ضح من ذلك أن الذي الحديث «المتبايعان» والتفاعل إنما يوجد عند وجود فعل الثاني، ألا تراك إذا ضربت رجلاً أنه لا يصدق أنه لا يصدق عليكما «متضاربان» ولا عليك أنك احد الضاربين، وإنما يصدق ذلك إذا عقب ذلك ضربه لك فحينما تصيبك ضربته يوجد التضارب حقيقة فيصدق عليكما أنمكما متضاربان وأنك أحد المتضاربين. فإن قلت: كيف وقد زال(2/807)
فعلي؟ قلت: الزائل هو ضربك والفعل المشتق منه هنا هو التضارب وهو الفعل واحد ضربك جزء منه والجزء لا يشترط بقاؤه ولا يضر زواله، ألا ترى أنه لا يصدق حقيقة على من يتكلم أنه «متكلم» عند آخر حرف من كلامه مع أن كثير الحروف قد زالت؟ فإنما يصدق حقيقة على المتبايعين أنهما «متبايعان» عند آخر حرف من صيغة المتأخر منهما وحينئذ يثبت لهما بحكم الحديث الخيار مستمراً أن يتفرقا، وهذا قولنا.
ووجه ثالث وهو أن الحديث كما في (الموطأ) و (الصحيحين) يثبت أن «لكل واحد منهما الخيار حتى يتفرقا» فهو ثابت للمتأخر قطعاً يثبت له آخر حرف من صيغته مستمراً إلى أن يتفرقا، ولا قائل بأنه يثبت للمتأخر دون المتقدم فثبت له عند آخر حرف من صيغة الثاني مستمراً إلى أن يتفرقاً، وهو قولنا. ولوقال المحتسب للعون وهو يرى رجلاً يضرب آخر: أمسك الضارب حتى تحضره عند الحاكم لكانت كلمة «الضارب» حقيقة لحكم بالإمساك مستمراً إلى غايته، وإن كانت الضرب ينقطع قلبها، وهكذا في السارق والزاني وغير ذلك، فقد اتضح أن قولنا مبني على حقيقة، وضل سعي الأستاذ في زعمك أنه يكون مجازاً، فأما القولالذى اختاره فلا يحتمله الحديث حقيقة ولا مجازاً. فأما قولهخ: «وفائدة الحديث ... .» فمبنى على القول الذي قد فرغنا منه، ومع ذلك فالحديث أثبت الخيار لكل واحدٍ من المتبايعين، وصيغة الموجب للبيع لا يتضمنمالا يحتاج إلى قبول بخلاف موجب الخلع أو العتق على مال فإن اجابه يتضمن الطلاق أو العتق، فإيجابه في معنى تعليق الطلاق أو العتق ولا رجوع في ذلك، فثبت أنه لا يتوهم في البادي بالصيغة من المتساومين أنه لا رجوع له، فحمل الحديث على هذا المعنى الذي اختاره الأستاذ مثل حمله على المتساومين في أنه لا يكون له فائدة.
هذا ولم يظفر الأستاذ بعد الجهد بشهبه ما تجرئه على زعم كلمة «يتفرقا» في الحديث إن حملت إلى قولنا كانت مجازاً، وإن حملت على قولهم كانت حقيقة،، فعدل إلى قوله: «والتفرق بالأقوال شائع في الكتاب والسنة نحوقوله تعالى:(2/808)
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» وقوله تعالى وقوله تعالى «وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ» وقوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ (1) اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» وفي الحديث (افترقت اليهود - الحديث) (2) بل التفرق بالأبدان خروج من شأنه لإفساد العقود في الشرع لا إتمامها كعقد الصرف قبل القبض، وعقد السلم قبل القبض لرأس المال، والدين بالدين قبل تعيين أحدهما وفي حمل الحديث على التفرق بالأبد ان خروج عن الأصول، ومخالفة لكتاب الله تعالى وأما حملة على التفرق بالأقوال فليس فيه خروج عن الأصول ولا مخالفة لكتاب الله تعالى مع كونه أشهر في الكتاب والسنة» .
__________
(1) وقع في (التأنيب) ص 79 «إن يتفرقا يغنى» واقتصر في إصلاح الأغلاط ص 190 على إصلاح «يغن» !
(2) قلت: وتمامة «على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى علىاثنين وسبعين فرقة، وتفترق امتى على ثلاث وسبعين فرقة» هذا هو تمامن الحديث اختصره الكوثري عمداً ظنا منه في آخر: «كلها في النار» وهو يذهب ضعيفة بدعوى أنها منة ورواية محمد بن عمروولا يحتج به عنده! والحقيقة أن الحديث المذكور وهو من حديث أبي هريرة -هو ابن عمر المذكور، وهو مع كونه حسن الحديث عند المحقيقين، فليس في حديثه هذا الزيادة المذكورة خلافاً لدعوى الكوثري، ولكن الزيادة صحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق خرجتها في «الأحاديث الصحيحة» رقم (203) ، ومن عجيب هوى الكوثري أنه في الوقت الذي يذهب إلى تضعيف هذه الزيادة يميل إلى تقوية الحديث بزيادة «كلها في الجنة إلا واحدة» وهي باطلة كما حققته في «الأحاديث الضعيفة» (1035) ، وكلام الكوثري فيما ذكرنا تراه في مقدمته على «التبصير في لدين» لأبي المظفر الأسفرايني ص 5-9، وردنا عليه في المصدرين السابقين. ن(2/809)
أقول: التفرق فك الاجتماع، وهو حقيقة في التفرق بالأبدان بلا شبهة، وكثيراً ما يأتي الإجتماع والتفرق مجازاً في الأمور المعنوية بحسب ما تدل عليه القرائن، ومن ذلك الشواهد التي ساقها الأستاذ، ومجيء الكلمة في موضع أو أكثر مجازاً بقرينته لا يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذه كلمة «أسد» كثر جدا استعمالها في الرجل الشجاع مع القرينة حتى لقد يكون ذلك أكثر من استعمالها في معناها الحقيقي، ومع ذلك لا يقول عاقل أنه يسوغ حملها على المجاز حيث لا قرينة، وهذا أصل قطعي ينبغي استحضاره فقد كثر تغافل المتأو لين عنه تلبيساً على الناس. نعم إذا ثبت ان الشارع نقض الكلمة الى معنى الآخر صارت حقيقة شرعيه في معنى الذي نقلة اليه وهذا هنا، إذ لا يدعي أحد أن الشارع نقض كلمة «التفرق» الى معنى غير معناها اللغوي. وأما كثرة مجيئها في القران في الأمور المعنوية فانما ذلك لأن تلك الامور مهمة في نظر الشارع فكثر ذكرها دون افتراق الابدان، ولها في ذلك اسوة بكلمات كثيرة كرقبه والكظم والزيغ والخيف واللين والغلظ وغير ذلك. ولا اختصاص للشواهد التى ذكرها الأستاذ بالقول بل كلها في تفرق معنوى قد يقع بالقول وقد يقع بغيره، فالتفرق عن الإعتصام بحبل الله يحصل بأن يكفر بعض، ويبتدع ويجاهر بالعصيان بعض، وكل من كفر والابتداع والعصيان قد يقع بالإعتقاد وبالفعل، وبالقول وتفرق اهل الكتاب بعد مجيء الرسول هو بإيمان بعضهم، وإشتداد كفر بعضهم ولا اختصاص لذلك بالقول، وتفرق الزوجين قد يكون بالفعل كارضاعها ضرة لها صغيرة، وبالقول من الجانبين، وبنية الزواج القاطعة على قول مالك، وافتراق اليهود باختلاف اعتقاداتهم وما يبني عليها من الأفعال والأقوال.
ومع هذا فالتفرق في هذه الأمثلة إنما هو عن اجتماع سابق، وتعاقد متساومين اجدر بأن يسمى اجتماعاً بعد تفرق كما لا يخفى. لكننى أرفد الأستاذ فأقول: إن المتساومين يجتمعان بأبدانهما وتحملهما الرغبة في لبيع على أن يبقيا مجتمعين ساعة، ثم إذا تعاقد زال سبب الأجتماع فيتفرقان بأبدانهما، فالتعاقد كأنه سبب للتفرق فقد(2/810)
يسوغ إطلاق التفرق على التعاقد لذلك، لكن قد يقال: ليس التعاقد سبباً مباشراً، ومثله في ذلك عدم الاتفاق على الثمن فإنهما إذا يئسا من الاتفاق زال سبب الاجتماع، ثم إن ساغ ذاك الاطلاق فمجاز ضعيف لا دليل عليه ولا ملجيء إليه، بل الحديث نص صريح في قولنا، فقفي (الصحيحين) من حديث الإمام الليث بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً ... وإن تفرقا بعد أن يتبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» .
قوله «بل التفرق بالأبدان من شأنه افساد العقود ... » .
أقول: فساد العقد في هذه المسائل ليس للتفرق من حيث هو تفرق بل من جهة أخرى حصلت بالتفرق وهي صيرورته رباً في الأولى، وبيع في بدين في الأخريين، وتفرق المتعاقدين في شراء دارٍ أو فرس معينة بذهب أو فضة مثلاً لا يحصل به شيء من ذلك ولا ما يشبهه، بل يحصل به ما يثبت العقد ويؤكده وهو تبين صحة التراضي المشروط في كتاب الله عز وجل واستحكامه كما تقدم إيضاحه. وكثيراً ما يناط بالأمر الواحد حكمان مختلفتان من جهتين مختلفيتين كإسلام أحد الزوجين ينافي النكاح، إذا كان الآخر كافراً، ويثبة إذا أسلم الآخر أيضاً، أو كان قد أسلم قبل ذلك على خلاف، وكإسلام المرأة الأيم يُحل نكاحها للمسلم ويحرمه للكافر، ويمنع إرثها من أرقابها الكفار، ويثبته لها من أرقابها المسلمين. وأمثال ذلك لا تحصى.
على أن الأثر الحاصل بالتفرق في مسألتنا ليس هو تصحيح العقد حتى تظهر مخالفته لتلك الصور فإن العقد قد صح بالإيجاب والقبول وإنما أثر التفرق قطع الخيار، وإن شيءت فقل إفساد الخيار.
قوله «خروج عن الأصول ومخالفة لكتاب الله تعالى» .
أقول: أما الخروج عن الأصول فالمراد به مخالفة القياس يسمونه خروجاً عن(2/811)
الأصول تمويهاً وتهويلاً وتستراً وقد تقدم الجواب الواضح عماد ذكره الأستاذ من القياس. وبينما الأستاذ يتبجح في آخر ص 161 بقوله: «أجمع فقهاء العراق على ان الحديث الضعيف «يرجح على القياس» ويقول ص 181 في الحسن بن زياد «كأن يأبي الخوض في القياس في مورد النص كما فعل مع بعض المشاغبين في المسألة القهقهة في الصلاة» يعنى ببعض المشاغبين الإمام الشافعي ورفيقاً له أورد على الحسن بن زياد أنه يرى أن قذف المحصنات في الصلاة لا يبطل الوضوء فكيف يرى أن القهقهة تبطله؟ فقام الحسن وذهب، (1) إذا بالأستاذ يرد أحاديث خيار المجلس زاعماً أنها مخالفة للقياس، هذا مع ضعف حديثه القهقهة ورضوح القياس المخالف له وثبوت أحاديث الخيار ووهن القياس المخالف لها.
وأما المخالفة للكتاب فقد تقدم تفنيد زعمها، وبينما ترى الأستاذ يحاول التشبت بدعوى مخالفة الكتاب هنا، إذا به يعرض في مسألة القصاص في القتال بالمثل ومسألة مقدار ما يقطع سارقه عن الدلالات القرآنية الواضحة مع ما يوافقها من الأحاديث الصحيحة وموافقة القياس الجلي في مسألة القصاص. إلى غير ذلك من التناقض الذي يؤلف بينه أمر واحد هو الذب عن المذهب، والغلو في ذلك إلى الحد الذي يصعب معه تبرئة صاحبه من أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه، واتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله؛ والله المستعان.
قال الأستاذ «ولا نص فيما يروى عن ابن عمر من القيام من مجلس العقد على أن خيار المجلس من مذهبه، بل قد يكون هذا منه لأجل أن يقطع على من بايعه حق الرجوع لاحتمال أنه ممن يرى خيار المجلس، وقد خوصم ابن عمر إلى عثمان في البراءة من العيوب فحمله عثمان على خلاف رأيه فيها فأصبح يرعى الآراء في عقوده» .
أقول: قد روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث صريحاً في
__________
(1) تقدمت القصة بتمامها في التعليق على الصفحة (444) . ن(2/812)
إثبات خيار المجلس كما تقدم، وفي (صحيح البخاري) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً ... الحديث، ثم قال نافع: «وكان ابن عمر إذا اشترى شيئاً يعجبه فارق صاحبه» وفي (صحيح البخاري) من طريق الزهرى عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه «بعت من أمير المؤمنين عثمان ... فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادّني البيع، وكانت السنة المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا ... فلما وجب بيعي رأيت أني قد غبنته» .
فصراحة الحديث نفسه ثم جعله سبباً لمفارقة ابن عمر من يشتري منه ما يعجبه وقوله: «وكانت السنة ... » وقوله: «فلما وجب بيعي وبيعه ... » بغاية الوضوح في بطلان قول الأستاذ «قد يكون هذا منه ... » .
قال الأستاذ: «ولأصحابنا حجج ناهضة» .
أقول: بل شبه داحضة. قال: «وعالم دار الهجرة مع أبي حنفية وأصحابه في هذه المسألة، ومن ظن وهناً بما انفق عليه إمام أهل العراق وإمام أهل الحجاز فقد ظن سواء» .
أقول: أما من اعتقد وهن قولهما المخالف لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية جماعة من الصحابة وعمل به وقضى به جماعة منهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم لهم مخالفة من الصحابة فإنما اعتقد ما يحب على كل مسلم أن يعتقده، فمن زعم أن هذا المعتقد قد ظن سواء فقد شارف الخطر الأكبر أو وقع فيه.
ثم ذكر الأستاذ كلمة ابن أبي ذئب وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، وقد ذكرتها في ترجمتة في قسم التراجم.
وفي (تاريخ بغداد) 13/389 عن ابن عينية قال: «ما رأيت أجراً على الله من أبي حنيفة كان يضرب الأمثال لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرده. بلغه أني أروي(2/813)
«البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فجعل يقول: أريت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في السجن، أرأيت إن كانا في سفر كيف يتفرقان؟ قال الأستاذ ص 82: «هكذا كان غوص أبي حنيفة على المعنى حتى اهتدى إلى أن المراد بالافتراق الافتراق بالأقوال لا الأبدان» .
أقول: مغزى تلك العبارة أننا إذا قلبنا الحديث ورد علينا أنه قد يتفق أن لا يتمكن المتأبيعان من التفرق. والجواب أن الحديث قد فتح لهما باباً آخر يتمكنان به من إبرام العقد وهو أن يختارا اللزوم فيلزم من غير تفرق، وإن أرادا أو أحدهها الفسخ فظاهر. وكان أبا حنيفة لم تبلغه رواية مصرحة بذلك. فإن قيل قد يبادر أحدهما فيختار اللزوم ويأبي الآخر أن يختار اللزوم أو يفسخ فيتضرر والمبادر لأنه لا يمكنه إبرام العقد ولا فسخه.
قلت: هو المضيق على نفسه بمبادرته فلينتظر التمكن من المفارقة بأن تصل السفينة إلى مرفأ، أو يطلقا أو أحدهما من السجن، أو ينقل أحدهما إلى سجن آخر، أو يبلغ المسافران حيث لا يخاف من الانفراد والتباعد عن الرفقة. فإن قيل لكن المدة قد تطول مع جهالتها. قلت اتفاق أن يجتمع أن يبادر أحدهما ويمتنع التفرق وتطول المدة وتفحش الجهالة، نادر جداً، ويقع مثل ذلك كثيراً في خيار الرؤية، وكذلك في الصرف والسلم وغيرها مما لا يستقر فيه العقد إلا بالقبض قبل التفرق، فمثل ذلك الاستبعاد إن ساغ أن يعتد به ففى التوفيق عن الأخذ بدليل في ثبوته أو في دلالته نظر، وليس الأمر ههنا كذلك، فإن الحديث بغاية الصحة والشهرة ووضوح الدلالة، فهو في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن ابن عمر، وصح عنه من قوله وفعله ما يوافقه، وهو في (الصحيحين) غيرهما من حديث حكيم بن حزام، وصح عن أبي برزة أنه رواه وقضى به، جاء من حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة وسمرة ةغيرهم، وجاء عن أمير المؤمنين على القضاء به، ولا مخالف من الصحابة، وإنما جاء الخلاف فيه من التابعين عن ربيعة بالمدينة وإبراهيم النخعي بالكوفة، واشتد نكير ابن أبي ذئب إذ قيل له: إن مالكاً لا يأخذ بهذا الحديث، فقال: «يستتاب فإن تاب وإلا يقتل»(2/814)
ومالك إنما اعتذر في (الموطأ) بقوله بعد أن روى الحديث «ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه» ؛ وتعقبه الشافعي وغيره بأن الحد معروف نقلا ونظراً، فإنه معلوم أن التفرق حقيقة في التفرق بالأبدان، وحده معروف في العرب، وقد اتفقوا على نظيرة في الصرف والسلم، والعمل ثابت عن الصحابة وكثير من أئمة التابعين بالمدينة وغيرهما. وراجع كتاب (الأم) للشافعي أوائل المجلد الثالث (1) .
__________
(1) الجزء الثالث الصفحة الرابعة، تحقيق الأخ الفاضل محمد زهري، طبع شركة الطباعة الفنية - زهير(2/815)
المسألة الثامنة: رجل خلا خلوة مريبة بامراة أجنبية يحل له أن يتزوجها فعثر عليها فقال: نحن زوجان
تقدم في المسألة السادسة قول خالد بن يزيد بن أبي مالك: «أحل أبو حنيفة الزنا ... » .
قال: «وأما تحليل الزنا فقال: لوأن رجلاً وامراة اجتمعا في بيت وهما معروفا الأبوين فقالت المرأة: هو زوجي. وقال هو: هي امرأتي لم عرض لهما» قال الأستاذ ص145: «قال الملك المعظم في (السهم المصيب) : إذا جاء واحد من امراة ورجل فقالا له: نحن زوجان، فبأي طريقة يفرق بينهما أو يتعرض عليها لأن كل واحد منهما يدعى أمراً حلالاً، ولوفتح هذا الباب لكان الإنسان كل يوم بل ساعة يشهد على نفسهو على زوجه أنهما زوجان وهذا لم يقل به أحد منالائمة، وفيه من الحرج مالايخفى على أحد» .
أقول: على كتب الحنفية: «إن إقرار الرجل أنه زوجها وهي أنها زوجته يكون إنكاحاً ويتضمن إقرارهما «الانشاء» فهذه هي مسألة ابن أبي مالك استشهاد الاسناذ نفسه وكذالك ملكه المعظم عنده ولذلك لجأ إلى المغالطة. وحاصلها أننا إذا عرفنا رجلاً وامرأة نعلم أنهما ليسا بزوجين ثم وجدناهما في خلوة مريبة فقال: هي زوجتى، وقالنت: هو زوجى، فأبو حنيفة يقول يقول: يكون اعترافهما عقداً ينقد به النكاح فيصيران زوجين من حينئذ ولا يعرض لهما! ففى هذا ثلاثة أمور.
الأولى: أنه بلا ولي.
الثاني: أنه كيف يكون إنشاء وإن لم يقصداه.(2/816)
الثالث: أنه كيف لا يعرض لهما بإنكار وتعزير على الأقل لأنهما قد ارتكبا الحرام قطعاً وهو خلوة لأنهما إن كانا تلفظا بزواج قبل العثور عليهما فذاك باطل إذ لا ولي ولا شهود وإن لم يتلفظا إلا بدعواهما الزوجية، أو اعترافهما بها عند العثور عليهما فالأمر أوضح، وأيضاً فالتعزيز متجه من وجه آخر وذلك لئلا يكون هذا تسهيلاً للفجور، يخلو الفاجر بالفاجرة آمنين مطمئنين قائلين: إن لم يطلع علينا فذاك المقصود، وإن اطلع علينا قلنا: نحن زوجان! .(2/817)
المسألة التاسعة: الطلاق قبل النكاح (1)
في (تاريخ بغداد) 13/411: عن أحمد بن حنبل أنه قيل له: قول أبي حنيفة: الطلاق قبل النكاح؟ فقال: «مسكين أبو حنيفة، كأنه لم يكن من العراق، وكأنه لم يكن من العلم بشيء، قد جاء فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة، وعن نيف وعشرين من التابعين مثل سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، عطاء، وطاوس، وعكرمة كيف يجترى أن يقول: تطلق؟» .
قال الأستاذ ص 142: « ... على أن مذهب أبي حنيفة أنه لا طلاق إلا في ملك أو مضافاً إلى ملك أو علقة من علائق الملك، ... وقد أجمعت الأمة أنه لا يقع طلاق قبل النكاح لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنّ» الآية، فمن علق الطلاق بالنكاح وقال: إن نكحت فلانة فهي طالق. لا يعد هذا المعلق مطلقاً قبل النكاح ولا طلاق واقعاً قبل النكاح، وإنما يعد مطلقاً بعده حيث يقع الطلاق بعد عقد النكاح فيكون هذا خارجاً من متناول الآية ومن متناول حديث: لا طلاق قبل النكاح، لأن الطلاق في تلك المسألة بعد النكاح لا قبله، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابة الثلاثة وعثمان البتي. وهو قول الثوري ومالك والنخعي ومجاهد والشعبي وعمر بن عبد العزيز فيما إذا خص. والأحاديث في هذا الباب لا تخلو عن اضطراب، والخلاف طويل الذيل بين السلف
__________
(1) الأصل: نكاح وهو خطأ مطبعي (صفحة 988)(2/818)
فيما إذا عم أو خص. وقول عمر بن الخطاب صريح فيما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابة، وتابع الشافعي ابن المسيب سواء عم أو خص، وإليه ذهب أحمد.
أقول: قال البخاري في (الصحيح) : «باب لا طلاق قبل النكاح وقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً» . وقال ابن عباس: جعل الله الطلاق بعد النكاح، ويروى في ذلك عن علي وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبان بن عثمان وعلي بن حسين وشريح وسعيد بن جبير والقاسم وسالم وطاوس والحسن وعكرمة وعطاء وعامر بن سعيد وجابر بن زيد ونافع بن جبير ومحمد بن كعب وسليمان بن يسار ومجاهد والقاسم بن عبد الرحمن وعمرو بن هرم والشعبي أنها لا تطلق» .
والآثار عن جماعة من هؤلاء صحيحه كما في (الفتح) ولم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب، وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقاً، وروي عن ابن مسعود إنه إذا خص وقع وإذا عم كأن قال: «كل أمرأة ... » لم يقع، وعن ابن عباس انه انكر هذا فقال: «ما قالها زلم يصح عن عمر بن الخطاب شيء في الباب، وجمهور السلف على عدم الوقوع مطلقاً، وروى عن ابن مسعود أنه إذا خص وقع، وإذا عم كأن قال: «كل امرأة ... » لم يقع، وعن ابن عباس أنه أنكر هذا فقال: «ما قالها ابن مسعود، وإن يكن قالها فزلة من عالم ... قال الله تعالى ... » فتلا الآية وممن نقل عنه هذا القول الشعبي وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وهو مشهور عن مالك، وقيل عنه كالجمهور أنه لا يقع مطلقاً وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع مطلقاً. ولا يعلم له سلف في ذلك.
فأما الآية فاحتج بها حبر الأمة وترجمان القران عبد الله بن عباس ثم زين العابدين على بن الحسين ثم البخاري على عدم الوقوع مطلقاً، وزعم بعضهم كالأستاذ أنها لا تدل على أنه لا يقع الطلاق على المرأة قبل نكاحها فأما من قال: «إن تزوجت فلانة فهي طالق» فلا تدل الآية على عدم وقوعه لأنه إذا وقع فإنما يقع(2/819)
بعد النكاح، وأقول: يقال: «طلقت (بفتح اللام مخففة) فلانة أي انحلت عقدة نكاحها بقول من الزوج، ويقال: «طلق فلان امرأته» أي جعلها تطلق كما يقال سرّحها أي جعلها تسرح، وسيّرها جعلها تسير، وغير ذلك. فطلاق الرجل يتضمن أمرين: الأول: قوله الخاص. والثاني: وقوع الأثر على المرأة فتنحل به عقدة نكاحها. وإذا قيل: «طلق فلان امرأته اليوم» فالمتبادر أن قوله وانحلال العقدة وقعا ذاك اليوم فهذا هو الحقيقة فمن قال لإمراته يوم السبت: إذا جاء يوم الجمعة فأنت طالق لم يصدق على وجه الحقيقة أن يقال قبل يوم الجمعة: إنه طلق. ولا أن يقال: طلق يوم السبت، ولا طلق قبل يوم الجمعة ولكنه يقال بعد مجيء يوم الجمعة: إنه طلق. فإذا أُريد التفضيل قيل: علق طلاقها يوم السبت وطلقت يوم الجمعة. ونظير ذلك، إذا جرح رجل آخر يوم السبت جراحة مات منها يوم الجمعة فلا يقال حقيقة قبل الموت أنه قتل، ولكن يقال بعد الموت أنه قتله، ولا يقال قتله يوم السبت ولا يوم الجمعة بل يقال جرحه يوم السبت فمات يوم الجمعة. فقوله تعالى في الآية: «ثم طلقتموهن» يقتضي تأخير الأمرين معاً: قول الرجل وانحلال العقدة. ويؤيده أمرين:
الأول: قوله: «ثم طلقتموهن» وكلمة «ثم» تقتضي المهلة، وإذا كان الطلاق معلقاً بالنكاح، وقلنا إنه يقع وقع بلا مهلة.
الثاني: قوله: «وسرحوهن سراحاً جميلاً» والتسريح هنا إرجاعها إلى أهلها وإنما يكون ذلك إذا كانت قد زفت إليه، ومن كان معلوماً أنه بنكاحه يقع طلاقه فمتى تزف إليه المرأة حتى يقال له: سرحها سراحاً جميلاً؟
وأما الحديث فاحتج به جماعة من المتقدمين على عدم الوقوع، وتأوله بعضهم بما ذكر الأستاذ، وأقول: إن كان لفظ «طلاق» فيه اسماً من التطليق كالكلام من التكلم سقط التأويل كما يعلم مما مر، وإن كان مصدر قولنا «طَلَقَتِ المرأةُ» كان للتأويل مساغ، والأول هو الأكثر والأشهر في الاستعمال، وقد دفع التأويل بأنه لا(2/820)
يجهل أحد أن المرأة لا تطلق ممن ليس لها بزوج فحمل الحديث على هذا النفي يجعله خلوا عن الفائدة.
وأما النظر فلا ريب أن الله تبارك وتعالى وإنما شرع النكاح والطلاق لمقاصد عظيمة، وأن مثل ذلك الطلاق لا يحتمل أن يحصل به مقصد شرعي، وهو مضاد لشرع النكاح.
وبعد فإذا لم يثبت عن السلف قبل أبي حنيفة إلا قولان، وأحدهما تدفعه الأدلة المذكورة وهو ضعيف في القياس، تعين القول الآخر وهو مذهب علي وابن عباس ثم مذهب الشافعي وأحمد. والله الموفق (1) .
__________
(1) قلت: بقى على المؤلف رحمه الله شيء مما زعمه الكوثري لم يتعقبه، وهو حقيق بذلك وهو قوله: «إن الأحاديث في الباب لا تخلو عن اضطراب» . فهذا القول على إطلاقه باطل، ما أظن يخفى بطلانه حتى على الكوثري نفسه! فإن في الباب أحاديث كثيرة منها خالية عن أي اضطرب أو علة قادحة، وأحدها: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن طريق عنه عند أبي داود والترمذي وحسنه. والثاني: عن جابرعند الطيالسي والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
والثالث: عن المسور بن مخزمة، أخرجه ابن ماجه بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر، والحافظ البوصيرى. وهذه الأحاديث وغيرها مخرجة في «إرواء الغليل» رقم (2068) .ن(2/821)
المسألة العاشرة: العقيقة مشروعة
في (تاريخ بغداد) 13/411 عن أحمد بن حنبل «في العقيقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث مسندة وعن أصحابه وعن التابعين، وقال أبو حنيفة: هو من عمل الجاهلية» . قال الأستاذ ص 142: «نعم كان أهل الجاهلية يرون وجوب العقيقة وأبيحت في الإسلام من غير وجوب في رأي أبي حنيفة وأصحابه قال الإمام محمد ابن الحسن الشيباني في (الآثار) : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم قال: كانت العقيقة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام رفضت. قال محمد: وأخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا رجل عن محمد ابن الحنفية أن العقيقة: كانت في الجاهلية فلماء جاء الإسلام رفضت» . ثم قال الأستاذ: «يرى أبو حنيفة أن ما كان من عمل أهل الجاهلية معتبرين وجوبه عليهم إذا عمل به في الإسلام لا يدل هذا العمل إلا الإباحة لا على إبقاء الوجوب المعتبر في الجاهلية ... » .
أقول: قول القائل: «من عمل الجاهلية» ظاهر في أنها محظورة، وكلمة «عمل» تدل أن كلامه في العقيقة نفسها لا في اعتقاد وجوبها فقط، وقول القائل «فلما جاء الإسلام رفضت» ظاهر في أنها غير مشروعة البتة فيكون اعتقاد مشروعيتها ضلالاً كبيراً وتديناً بما لم ينزل الله به سلطاناً، فأما محمد بن الحنفية فلا يصح الأثر عنه، إذ لا يدرى من شيخ أبي حنيفة أثقة أم لا؟ وأما ابراهيم فناف، والمثبت مقدم عليه.
وقد ورد في مشروعيتها أحاديث قولية منها حديثان في (صحيح البخاري) ذكرهما البيهقي في (السنن) ج9 ص 298 فاعترضه ابن التركماني قائلاً:(2/822)
«ظاهرهما دليل على وجوبها فهما غير مطابقين لمدعاه» . والقول بالوجوب منقول عن الظاهرية، واحتج من يقول بالندب بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: «من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فلينسك، عن الغلام شاتان..» وهذا الحديث أيضاً يدل على مشروعيتها فإن النسك عبادة إذا لم تكن واجبة كانت مندوبة ولابد، وسواء أكان أهل الجاهلية يعتقدون وجوبها أم لا، فإنها لم ترفض في الإسلام بل هي مشروعة فيه. (1)
__________
(1) قلت: ليس في السنة ما يشهد لقوله الكوثري أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون وجوبها، فهذه كتب السنة ليس فيها شيء من ذاك، وإنما هي مجرد دعوى منه، ليبنى عليها ذلك التأويل الذي بين المؤلف رحمه الله بطلانه بالدليل القاطع. ومما يؤكد بطلان ذلك التأويل ويدل أن أبا حنيفة نفسه كان لا يقول به قول الإمام محمد في «الموطأ هـ» (ص 286) : «أما العقيقة فبلغنا أنها كانت في الجاهلية وقد فعلت في أول الإسلام، ثم نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله ... » قلت: هذتا نص منه بنسخ مشروعية العقيقة، فهل يجوز العمل بالمنسوخ؟! ولو كان عند الكوثري شيء من الإنصاف لاعتذر عن أبي حنيفة بأي عذر مقبول، ولانتصر للسنة على الأقل مثلها ينتصر لإمامه، ولغار عليها أن تعطل عن العمل بها يجعلها أمراً مباحاً فحسب كأي ذبيحة يذبحها الإنسان ليأكل من لحمها في غير مناسبة مشروعة، لو كان الكوثري منصفاً لقال العلامة أبو الحسنات اللكنوى -وهو حنفي مثله، ولكن شتان ما بينهما! - قال في تعليقه على كلمة الامام محمد المتقدمة: «وإن أريد أنها كانت في الجاهلية مستحبة أو مشروعة، فلما جاء الإسلام رفض استحبابها وشرعيتها فهو غير مسلم، فهذه كتب الحديث المعتبرة مملوءة من أحاديث شرعية العقيقة واستحبابها ... » .
قلت: ثم إن حديث عمر بن شعيب ... «فأجب أن ينسك ... » لا يصلح دليلاً على صرف الأمر إلى الندب فإنه كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد الحج فليتعجل» ، فهل يدل على ان الأمر بالحج ليس للوجوب؟ ولذلك فالقواعد الأصولية توجب إبقاء الأمر على ظاهره، وذلك يقتضي وجوب العقيقة وبه قال الحسن البصري والامام الليث بن سعد كما في «الفتح» (9/582) قال: «وقد جاء الوجوب أيضاً عن أبي الزناد، وهي رواية عن أحمد» .(2/823)
المسألة الحادي عشرة: للراجل سهم من الغنيمة وللفارس ثلاثة، سهم له وسهمان لفرسه
في (تاريخ بغداد) 13/390 عن يوسف بن أسباط « ... قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفرس سهمان وللرجل سهم. قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن» قال الأستاذ ص86: فقوله (للفر سهمان وللرجل سهم) هكذا في بعض الروايات وفي بعضها (للفارس سهم وللرجل سهمان) وهو الذى اختاره أبو حنيفة وهو الذى وقع في الفظ مجمع بن جارية المخرج في (سنن أبي داود) ... فأبو حنيفة لما رأى اختلاف ألفاظ الرواة ... نظر فوجد أن الشرع لا يرى تمليك البهائم فحكم على أن رواية (للفرس سهمان) المفيدة بظاهرها تمليك بهيمة ضعف مايملك الرجل من غلط الرواى حيث كانت الألف تحذف من الوسط في خط الأقدمين في غير الاعلام أيضاً فقرأهذاالغالط (فرساً) و (رجلاً) ماتحب قرأءته (فارساً) و (راجلاً) فتتابعت رواة على الغلط قاصدين باللفظين المذكورين الخيل والإنسان مع إمكان إرادتهم الفارس من الفرس كما يراد بالخيلالخالية عند قيام القرينة جمعاً بين الروايتين، ومضى آخرون علىرواية الحديث على الصحة. فرد أبو حنيفة على الغالطين بقوله: لأني لا أفضل بهيمة على مؤمن. ليفهمهم أنه لا تمليك في الشرع للبهائم، والمجاز خلاف الأصل، وإنما تكلم عن التفضيل مع أنه ايضاً لا يقول بمساوة البهيمة لمؤمن لأن كلام في الحديث المغلوط فيه ... وقول أبي يوسف في الخراج بعد وفاة أبي حنيفة ومتابعة الشافعي له في (الأم) مع زيادة تشنيع بعيدان عن مغزى فقيه الملة ... وأما ما ورد في مضاعفة سهم الفارس في بعض الحروب فقد حمله أبو حنيفة على التنفيل جمعا بين الأدلة، لأن الحاجة إلى(2/824)
الفرسان تختلف باختلاف الحروب. أبهذا يكون أبو حنيفة رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. حاشاه» .
أقول: لايخفى ما في هذا التوجيه من التعسف. وقد كثرت الحكايات عن أبي حنيفة في مجابهة من يعترض عليه بالكلماتالموحشة، فقد يقال: أنه كان يتبرم بالمعرضين، ولا يراهم أهلاً للمناظرة، فكانيدفعهم بتلك الكلمات لئلا يعودوإلى التعرض، غير مبال بما يترتب على ذلك من اعتقادهم. فهل جرى على هذه الطريقة مع أصحابة حتى أن أخصهم به وآثرهم عنده وأعلمهم بمقاصده -وهو أبو يوسف -لم يتفطن له الأستاذ؟
فأما حذف الألف في كتاب المتقدمين فيقع في ثلاثة مواضع الأول: حيث يؤمن اللبس إما لعدم ما يلتبس به مثل: القاسم بن فلان سليمان بن فلان. وإسحاق بن فلان. فإن هذه الأعلام إذا كتبت بلا ألف لا يوجد ما يلتبس بها. وأما في متابة القرآن الذي من شأنه أن يؤخذ بالتلقي والتلقين وتعم معرفته بحيث إذا أخطاء مخطئ لم يلبث أن ينبه. وأما فيما يصح على كلا الوجهين مثل جبريل و «ملك يوم الدين» وليس قوله في الحديث «للفرس للرجل» . في شيء من هذا. اللهم إلا أن يخطيء الكاتب يسمع «للفارس للرجل» فيحسب ذلك مما يجوز تخفيفه في الكتابة فيكتب «للفرس. للرجل» لكنه كما قد يحتمل هذا فكذلك قد يحتمل أن يخطئ القارى بأن يكون الكاتب سمع «للفرس. للرجل» فكتبها كذلك، ثم توهم القارئ أن الأصل «للفارس. للرجل» وإنما حذف الألف تخفيفاً في الكتابة فيقرؤها «للفارس. للرجل» ويريها كذلك.
وأما تقديم الحقيقة على المجاز، فالذي في الرواية «جعل للفرس همين وللرجل سهماً» ولا يتجه في قوله: «للفرس» مجاز، بل اللام لام التعليل، أي جعل لأجل الفرس. فغن قيل: بل اللام لشبه التمليك، قلنا فما الحجة على أن لام شبه التمليك مجاز؟ فإن كانت هناك حجة فجعلهاللتعليل اولى تقديماً للحقيقة على المجاز وكذلك لوساغ أن يطلق «الفرس» ويراد «الفارس» كما زعم الأستاذ.(2/825)
على أن سواغ ذلك غير مسلم فإنه غير معروف ولا قرينة عليه، فأما إطلاق «الخيل» وإرادة «الفرسان» فمستفيض، وإنما يسوغ بقرينة، وإنما جاء حيث يكون المقام ذكر الجيش حيث لا تكون الخيل إلا مع فرسانها فيكون بينهماضرب من التلازم.
هب أنه اتجه المجداز فتقدم علىالمجاز محله في الكلمة الواحدة يجب حملها على معناها الحقيقي ولا يجوز حملها علىمعنى مجازى بلاحجة كما ارتبكه الأستاذ في غير موضوع. فأما روايتان مختلفتان متنافيتان والكلام في إحد اهما حقيقة وفي الأخرى مجاز صحيح بقرينته فلا يتجه تقديم الأولى للان المتكلم كما يتكلم بالحقيقة فكذلك يتكلم بالمجاز، والمخطئ كما يخطئ من الحقيقة إلى المجاز، فكذلك عكسه، بل احتمله أقرب، لأن أغلب ما يكون الخطأ بالحمل على المألوف، وغالب كا يقع من التصحيف كذلك، فقد رأيت مالا أحصيه اسم «زَبر» مصحفاً إلى «أنس» واسم «سعر» مصحفاً إلى «سعد» ولا أذكر أننى رأيت عكس هذا. قال الشاعر:
فمن يك سائلا عني فإني ... من الفتيان أيام الخُنان
وقال الآخر:
كساك ولم تستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وياصر
فصحف الناس قافيتى هذين البيتين إلى «الختان. ناصر» وأمثال هذا كثيرة لا يخفى على من له إلمام.
وهكذا الخطاء في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة، فهشام بن عروة غالب روايته عن أبيه عن عائيشة، وقد يروى عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير فقد يسمع رجل من هشام خبراً بالسند الثاني ثم مضي على السامع زمان فيشبه عليه فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو الغالب المألوف، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبراً واحداً جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد، وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن(2/826)
عائشة، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطؤوا الثاني، هذا مثال ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا مالا يحصى.
هب أن الحقيقة تقدم على المجاز في الروايتين المتنافيتين فإنما لا يبعدذلك جداً حيث لا يوجد للرواية الأخرى مرجح قوي، ليس الأمر ها هنا كذلك بل من تتبع الروايات وجد الأمر بغاية الوضوح. وشرح ذلك أن الحنفية يتشبثون بأربعة أشياء:
أولها: حديث مجمع، والجوابعنه أنه من رواية مجمع بن يعقوب بن مجمع عن أبيه بسنده وفي (سنن لبيهقي) ج6ص325 ان الشافعي قال: «مجمع بن يعقوب شيخ لا يعرف» . أقول: أما مجمع فمعروف لا بأس به، فلعل الشافعي أر اد أباه يعقوب بن مجمع ففي (نصب الراية عن ابن القطان «علة هذا الحديث الجهل بحال يعقوب بن مجمع ولا يعرفروى عنه غير ابنه. وذكر المزي راويين آخرين ولكنهما ضعيفان، ولم يوثق يعقوب أحد فأما ذكر ابن حبان له في (التقات) فلا يجدى شيئاً لما عرف من قاعدة ابن حبان من ذكر المجاهيل في (الثقاب) فقد ذكر الأستاذ ذلك في غير موضع، وشرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد، وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم. وفي الحديث وهم آخر فإن فيه أن فرسان المسلمين يوم خبير كانوا ثلثمائة، والمعروف أنهم كانوا مائتين، وأبو داود وإن أخرج الحديث في (سننه) فقد تعقبه كما في (نصب الراية) بقوله: «هذا وهم إنما كانواغ مائتي فارس فأعطى الفرس سهمين وأعطى صاحبه سهما» وأخرج جماعة منهم الحاكم في (المستدرك ج2326عن ابن عباس: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسم المائتي فرس يوم خبير سهمين سهمين» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عن أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد الأنصارى عن صالح بن كيسان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم يوم خيبر لمائتي فرس لكل منهم سهمين.
وهو لاء كلهم ثقات متفق عليهم وصالح من أفاضل التابعين. وفي (سنن البيهقي)
ج ص 326 بسند (السيرة) عن ابن إسحاق(2/827)
«حدثني ابن محمد بن مسلمة عمن أدركه من أهله وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: كانت المقاسم على اموال خيبر على الف وثمان مائة سهم الرجال الف واربع مائة والخيل مأتين فرس، فكان للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللرجال سهم وأكثر الروايات وأثبتها في عدد الجيش انه الف واربع مائة وفي بعض الرواياتن الف وخمس مائة وجمع اهل العلم بين ذذلك بأن عدد مقاتل المستحقين للسهم كانوا الفاً واربع مائة ومعهم نحومائة ممن لا يستحق سهماً من العبيد والنساء وصبيان وجاء عن بشير بن يسار قال: شهيدها مائة فرس وجعل للفرس سهمين وهذا محمول على خيل الأنصار فأما مجموع الخيل فكانت مائتين.
الثاني: حديث عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري عن نافع عن بن عمر: «أن رسول اللله - صلى الله عليه وسلم - كان يسهم للفارس سهمين وللراجل سهما» اخرجه الدارقطني ثم قال: «ورواه القعنبي عن العمري بالشك في الفارس والفرس ثنا أبو بكر ثناء محمد بن على الوراق نا القعنبي عنه» فقد شك العمرى وهو مع ذلك كثير الخطأ حتى قال البخاري «ذاهب لا أروي عنه شيئاً» ومن أثنى عليه فلصلاحه وصدقه، وأنه ليس بالساقط.
الثالث: ما وقع في رواية بعضهم عن عبيد الله بن عمنر بن حفص بن عاصم رسيأتي ذلك في الكلام على حديثه.
الرابع: قال ابن أبي سيبة في (المصنف) : «غنذر عن شعبة عن أبي إسحاق عن هانئ عن على قال: للفارس سهمان قال شعبة: وجدته مكتوباً عند (بياض) » وقال قبل ذلك: «معاذ ثنا حبيب بن شهاب عن أبيه عن أبي موسى أنه أنه أسهم للفارس سهمين وللرجل سهماً» .
أما الأثر عن على فقول شعبة: «وجدته ... .» عبارة مشككة. وقد روى الشافعي كما في (سننالبيهقي) ج6ص327 «عن شاذان (الأسود بن عامر) عن زهير عن أبي إسحاق قال: غزوت مع سعيد بن عثمان فأسهم لفرسي سهمين ولي(2/828)
سهما. قال أبو إسحاق: وكذلك حدثني هانئ بن بن هانئ عن على، وكذلك حدثني حارثة بن مضرب عن عمر» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «وكيع ثنا سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق قال: شهدنا غزوة مع سعيد بنم عثمان، ومعى عثمان بن هانئ ومعي فرسان ومع هانئ فرسان، فأسهم لي ولفرسي خمسة اسهم، وأسهم لهانئ ولفرسية خمسة أسهم» وهذا غير مخالف لرواية زهير لأنه إذا أسهم للفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهما فقد أسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهما. وهذا بلا شك أثبت مما ذكره شعبة. ومع هذا فهانئ بن هانئ لم يرو عنه إلا أبو إسحاق وحده قال ابن المدينى. «مجهول» وقال النسائي: «ليس به بأس» . ومن عادة النسائي توثيق بعض المجاهيل كما شرحته في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد.
وأما الأثر عن أبي موسى فسنده جيد وقد تأوله بعضهم بأن معناه للفارس من حيث هو ذوفرس وذلك لا ينافي أن يكون له سهم ثابت من حيث هو رجل وفي هذا تعسف. وقد ذكر أبن التركماني أن أبن جرير ذكر في (تهذيبه) أن هذا كان في واقعه (تستر) فكأن هذا رأى لأبي موسى فيما إذا كانت الواقعة قتال حصين يضعف غناء الخيل فيه، وقد جاء عن جماعة من التابعين أنهم كانوا ينقصون سهام الخيل في قتال الحصون أو لا يسهمون لها شيئاً، ذكر ذلك ابن أبي شيبة وغيره، وذكره إنكار عمنر بن عبد العزيز ذلك، وإنكار مكحول له واحتجاجه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم في غنائم خبير للفرس سهمين ولصاحبه سهما مع أن خيبر كانت حصناً. ولعل ابن جرير قد ذكر هذا المعنى في (التهذيب) فليراجعه من تيسر له ذلك.
حديث عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
عبيد الله هذا ثقة جليل أثبت من أخيه عبد الله بما لا يحصى بل جاء عن يحيى بن(2/829)
سعيد القطان والإمام أحمد وأحمد بن صالح أن عبيد الله أثبت أصحابه نافع، وفيهم مالك وغيره.
وقد وقعت على الجماعة الحديث.
الأول: الإمام المضروب به المثل في الحفظ والإتقان والفقه والزهد والعبادة والسنة أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثورى، قال الإمام أحمد في (المسند) ج2ص152: «ثنا عبد الرزاق أنا سفيان بن عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمران أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً» ورواه الدارقطني في (تالسنن) ص467 ن طريق عبد الله بن الوليد العدتي عن سفيان -بسنده - (1) «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم للرجل سهم ولفرسه سهمان» . ورواه البيهقي في (السنن) ج6ص325 من طريق أبي حذيفة عن سفيان -بسنده - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ثلاثة أسهم للرجل سهم وللفرس سهمان» .
الثاني: الحافظ المقدم هشيم بن بشير الواسطي رواه عنه الامام أحمد في (المسند) ج2ص2 وهو أول حديث في (مسند ابن عمر) ولفظه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يوم خيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً» . الثالث: أبومعاوية محمد بن خازم الضرير رواه عنه الامام أحمد في (المسند) ج2ص2 ولفظه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهماً له، وسهمين لفرسه» ، وراه ابودالود في (السنن) عن أحمد، وقد رواه عن أبي معاوية أيضاً على بن محمد بن أبي الشوارب عند ابن ماجه، والحسن بن محمد الزعفراني عند الذار قطني ص 467، وسعدان بن نصر عند البيهقي ج6 ص325.
الرابع: إسحاق الأزرق عند الشافعي كما في (مسنده) بهامش «الأم» ج6ص250 « ... . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب للفرس بسهم» ؟
الخامس: سليم بن أخضر رواه مسلم في (صحيحه) عن يحيى بن يحيى وأبي كامل عنه « ... .أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم في النفل للفرس سهمين، وللرجل سهماً» وقع
__________
(1) وقع في النسخة «عن عبد الله» والصواب «عن عبيد الله» .(2/830)
عند بعض رواة الصحيح «للراجل» وقد رواه عن سليم أيضاً عبد الرحمن بن مهدى (مسند أحمد) ج2 ص62، وعفان (مسند أحمد) ج2ص72، وأحمد بن عبده وحميد بن مسعدة عند الترمذى وفي روايتهم جميعاً: «للرجل» .
السادس: أبو أسامة رواه عنه عبيد ابن إسماعيل عند البخاري في (صححه) في «كتاب الجهاد» : « ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهماً» وكذلك رواه عن أبي أسامة محمد بن عثمان بن كرامة عند الدارقطني ص 467، وأبوالأزهر عند البيهقي ج 6 ص 324، ورواه ابن أبي شيبة في (المصنف) عن أبي أسامة وعبد الله ابن نمير وسيأتي.
السابع: عبد الله بن نمير رواه عنه الإمام أحمد في (المسند) ج 2 ص143: « ... أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم للفرس سهمين وللرجل سهما» وكذلك رواه الدارقطني ص467 من طريق أحمد، رواه مسلم في (الصحيح) عن محمد بن نمير عن أبيه، وأحال على متن سليم بن أخضر قال: «مثله ولم يذكر: في النفل» ورواه الدارقطني أيضاً من طريق عبد الرحمن بن بشير بن الحكم عن عبد الله بن نمير. وفي (مصنف أبن أبي شيبة) باب «في الفارس كم يقسم له؟ من قال: ثلاثة أسهم» . حدثنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير قالا: ثنا عبيد الله بن عمر ... أن رسول ألله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً» وذكره ابن حجر في (الفتح) عن (مصنف ابن أبي شيبة) وذكر أن أبي عاصم رواه في «كتاب الجهاد» له عن ابن أبي شيبة كذلك. وقال الدارقطني ص 469: «حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد بن منصور (الرمادي) نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة وابن زيد نمير ... أن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للفارس سهمين , وللراجل سهماً. قال
الرمادي: كذا يقول ابن غير. قال لنا النيسابوري: هذا عندي وهم من ابن أبي شيبة أو الرمادي لأن أحمد ابن حنبل وعبد الرحمن بن بشر وغيرهما رووه عن ابن غير خلاف هذا, وقد تقدم ذكره عنهما , ورواه ابن كرامة وغير عن أبي أسامة خلاف هذا أيضاً وقد تقدم.(2/831)
أقول: الوهم من الرمادي فقد تقدم عن (مصنف ابن أبي شيبة) : للفرس. للرجل وكذلك نقله ابن حجر عن (المصنف) وكذلك رواه ابن أبي عاصم عن ابن أبي شيبه كما مر , ويؤكد ذلك أن ابن أبي شيبه صدر بهذا الحديث الباب الذي قال في عنوانه: «من قال ثلاثة أسهم» كما مر , ثمذكر باباً آخر عنوانه: «من قال للفارس سهمان؟» فذكر فيه حديث مجمع وأثري علي وأبي موسى فلو كان عنده أن لفظ ابن غير كما زعم الرمادي أو لفظ أبي أسامة أو كليهما «للفارس. للرجل» لوضع الحديث في الباب الثاني.
فإن قيل: لعله تأول التأويل الذي تقدمت الإشارة إليه في الكلام على أثر أبي موسى.
قلت: يمنع من ذلك التأويل.
الثاني: تصديره باب «من قال: ثلاثة أسهم» بهذا الحديث.
الثالث: أن ذاك التأويل يحتمله أثرا عل وأبي موسى ولم يدرجهما في هذا الباب، بل جعلهما في باب «من قال: للفارس سهمان» .
فإن قيل: فقد قال ابن تركماني في (الجوهر النقي) : «وفي «الأحكام» لعبد الحق: وقد روي عن أبن عمر أنه عليه السلام جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً. وذكره أبو بكر ابن أبي شيبة وغيره» ونقل الزيلعي في (نصب الراية) ج3ص حديث ابن أبي شيبة وفيه: «للفارس. للرجل» ثم قال: «ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الدارقطني في
(سننه) وقال أبو بكر النيسابورى ... » .
أقول: أما عبد الحق فلا أراه إلا اعتمد على رواية الرمادي، وأما ابن التركماني فالمعتبة عليه فإنه ينقل كثيراً عن (مصنف ابن أبي شيبة) نفسه، بل نقل عنه بعد أسطر أثر علي، فما باله أعرض هنا عن النقل عنه، وتناوله من بعيد من (أحكام(2/832)
عبد الحق) ؟! وأمات الزيلعي فلا أراه إلا اعتمد على رواية الدارقطني عن النيسابوري عن الرمادي، فإما أن لا يكون راجع (المصنف) لظنه موافقته لما الرمادي، وإما أن يكون حمل الخطأ على النسخة التي وقف عليها من (المصنف) خطأ كما قاله الرمادي. والله المستعان.
الثامن: زائدة بن قدامة عند البخاري في (صحيحه) في «غزوة خيبر» رواه البخاري عن الحسن بن إسحاق عن محمد بن سابق عن زائدة « ... قسم الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخيبر للفرس سهمين وللرجل سهماً. فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم فإن لم يكن له فرس فله سهم» وهذا التفسير يدل أن الصواب في المتن «للرجل» لكن وقع في نسخ (الصحيح) كما رأيت، وزائدة متقن لكن شيخ البخاري ليس بالمشهور، ومحمد بن سابق، قال ابن حجر في ترجمته من الفصل التاسع من (مقدمة الفتح) : «وثقة العجلي وقواه أحمد بن حنبل وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة وليس ممن يوصف بالضبط. وقال النسائي: لا بأس به، وقال أبن أبي خيثمة عن ابن معين: ضعيف. قلت ليس له في البخاري سوى حديث واحد في «الوصايا» ... وقد تابعه عليه عبيد الله بن موسى» . كذا قال وفاته هذا الحديث، وعذر البخاري أنه رأى أن الوهم في هذا الحديث يسير يجبره التفسير. ومع ذلك فلم يذكره في «باب سهمان الخيل» وإنما ذكره في «غزوة خيبر» .
التاسع: ابن المبارك رواه عته علي بن الحسن بن شقيق كما في (فتح الباري) ، ذكر روايوالرمادي عن نعيم عن ابن المبارك الآيتة ولفظها « ... عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اسهم للفارس سهممين وللرجل سهماًَ، ثم قال: «وقدجرواه على ابن الحسن ابن شقيق - هو أثبت من نعيم - عن ابن المبارك بلفظ: أسهم للفرس» ولم يذكره بقية لأنه إنما اعتنى بلفظ الفارس والفرس وقد قال قبل ذلك: « ... فيما رواه أحمد ابن منصور الرمادي عن أبي بكر بن أبي شيبة ... بلفظ: أسهم للفارس سهمين(2/833)
قال الدارقطني ... » . فأما ما رواه الدارقطني ص 469 «حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد بن منصور (الرمادي) نا نعيم بن حماد نا ابن المبارك ... عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم للفارس سهمين وللرجل سهماً. قال أحمد كذا لفظ نعيم عن ابن المبارك، والناس يخالفونه. قال النيسابوري: ولعل الوهم من نعيم لان ابن المبارك من اثبت الناس» .
أقول: نعيم كثير الوهم، وكلام الحنفية فيه شديد جذاً كما في ترجمته من قسم التراجم، ولكني أخشى أن يكون الوهم من الرمادي كما وهم على أبي بكر بن أبي شيبة. ولا أدرى ما بليته في هذا الحديث مع انهم وثقوه. وقال ابن تركماني: «رواه ابن تركمانى عن عبيد الله بإسناده فقال فيه: للفارس سهمين وللرجل سهماً ذكره صاحب (التمهيد) » .
أقول: وهذه معقبة أخرى على ابن التركمانى، إذا لم يذكر أن صاحب (التمهيد) إنما رواه من طريق الرمادي عن نعيم! والله المستعان.
العاشر: حماد بن سلمة. قال الدار قطنى ص 468 «حدثنا أبو بكر النيسابوري نا أحمد ابن يوسف السلمي نا النضر بن محمد بن موسى اليمامى نا حماد بن سلمة ... أن الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للفارس سهماً وللفرس سه. خالفه حجاج بن المنهال عن حماد فقال: للفارس سهمين وللرجل سهماً» .
أقول: حماد كثير الخطأ إنما ثبتوه فيما يرويه عن ثابت وحميد، وكلام الحنفية فيه الشديد كما تراه في ترجمته من قسم التراجم، وأولى روايتيه بالصحة ما وافق فيه الثقات الأثبات.
وفي الباب مما يدل على ان للفرس سهمين ولصاحبه سهماً
في (نصب الراية) ج 3 ص 416 عن الطبراني (الأو سط) : «ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا هشام بن يونس عن أبي معاوية عن عبيد الله بن عمر عن نافع(2/834)
عن ابن عمر عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم له يوم خيبر ثلاثة أسهم سهما له. وسهمين لفرسه» ، قال الطبراني: «ورواه الناس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تفرد به هشام ابن يونس عن أبي معاوية» .
أقول: وقد رواه جماعة عن أبي معاوية فلم يقولوا فلم يقولوا «عن عمر» وقالوا: «أسهم للرجل» نعم وقع في (سنن أبي داود) عن أحمد عن أبي معاوية «أسهم لرجل» وهذا كأنه يشد من رواية هشام، وهشام ثقة، ولا يبعد أن يكون الحديث عند عبيد الله عن نافع من الوجهين، ولكن الناس أعرضوا عن هذا لخصوصة بعمر، وعنوا بالآخر لعمومه.
وروى عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عند النسائي، ومحاضر بن المورع عند الدارقطني ص 471 «عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده أنه كان يقول: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر للزبير بن العوام أربعة أسهم سهماً للزبير وسهماً لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير وسهمين للفرس» سعيد ومحاضر من الرجال مسلم وفي كل منهما مقال، واقتصر النسائي في «باب سهمان الخيل» على هذا الحديث، ولم يتعقبه بشيء، وذاك يشعر بأنه صحيح عنده لا يضره الخلاف. وقد رواه عيسى بن يونس عند ابن أبي شيبة، ومحمد بن بشر العبدي عند الدارقطني ص 417، واتبن غيينة عند الشافعي كما في (مسند) بهامش (الأم) ج 6 ص 250 ثلاثتهم عن هشام عن يحيى مرسلاً، ولفظ ابن عيينه «أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم، سهم له، وسهمين لفرسه، وسهم في ذوي القربى» وعند الدارقطني ص 417 عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن عروة روايتان إحداهما عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن الزبير قال «أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر أربعة أسهم ... » والأخرى: عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن الزبير..» بمعناه، وإسماعيل يخلط فيما يرويه من غير الشاميين. وفي (مسند أحمد) ج 1 ص 166 «ثنا عتاب ثنا عبد الله ثنا فليح بن محمد عن المنذرين الزبير عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الزبير(2/835)
سهماً وأمه سهماً وفرسه سهمين ى ذكره9 أحمد في (مسند الزبير» وليس من عادة أحمد في (المسند) إخراج المراسيل. وعتاب هو ابن زياد المروزي وثقة أبو حاتم وغيره ولم يغمزه أحد، وعبد الله هو ابن المبارك وقد تصفحت على بعضهم كلمة «بن» بين محمد والمنذر، فجرى البخاري في تاريخه ومن تبعه على ذلك كما في ترجمة فليح في (تعجيل المنفعة) . ولم يذكر البخاري من رواه كذلك عن ابن المبارك، فالصواب إن شاء الله رواية أحمد. أما فليح فغير مشهور لكن رواية ابن المبارك عنه تقوية.
وفي الباب من حديث أبي عمرة عند أحمد في (المسند) ج 4 ص 138، أبي داود في (السنن) ، والدارقطني ص 468، وابن منده كما في ترجمة أبي عمرة (من الإصابة) .
ومن الحديث ابن عباس والمقداد وأبي رهم وأبي رهم وأبي كبشة وجابر وأبي هريرة، تراها عند الدارقطني وغيره، كاها متفقة على أن للفرس سهمين ولصاحبه سهماً. وفي (مصنف ابن أبي شيبة) مراسيل عن مجاهد وخالد بن معدوان ومكحول وغيرهم وقد تقدم بعضها، كمرسل صالح بن كيسان ومرسل بشير بن يسار. وفي (المصنف) : «ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث بن سوار عن الحسن وابن سيرين قالات: كانوا إذا غزوا فأصابوا الغنائم قسموا للفارس من الغنيمة حين تقسم ثلاثة أسهم سهمين له، وسهماً لفرسه وسهماً للراجل» وفيه «حدثنا جعفر بن عون عن سفيان عن سلمة بن كهيل: ثنا أصحابنا عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: للفرس سهمان وللرجل سهم» وفيه حدثنا محاضر قال: ثنا مجالد عن عامر (الشعبي) قال: لما فتح سعد عن أبي وقاص (جلولا) أصابة المسلمون ثلاثين ألف ألف مثقال فقسم(2/836)
للفارس ثلاثة آلاف، وللرجل ألف مثقال» وفيه «حدثنا وكيع قال: ثنا سفيان عن هشام عن الحسين قال: لا يسهم لأكثر من فرسين فإن كان مع الرجل فرسان أسهم له خمسة أسهم أربعة لفرسيه وسهم له» وفي (نصبالراية) ج3ص419 «قال سعيد ابن منصور ثنا فرج بن فضالة ثنا محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري أن عمر ابن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبها سهماً فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهو جنائب» .
وفي (سنن الدارقطني) ص 470 عن خالد الحذاء (وقد رأى أنساً) قال: «لا يختلف فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: للفارس ثلاثة وللرجل سهم» . وذكر الأستاذ ص 87 عن كتاب (اختلاف الفقهاء) لابن جرير عن مالك قال: «إني لم أزل أسمع أن للفرس سهمين وللرجل سهماً» .(2/837)
المسألة الثانية عشرة: أما على القاتل بالمثقل قصاص؟
في (تاريخ بغداد) 13 / 332 عن غبراهيم الحربي قال: «كان أبوالحنفية طلب النحو.. فتركه ووقع في الفقه فكان يقيس ولم يكن له علم بالنحوفسأله رجل بمكة فقال له: رجل شجّ رجلاً بحجر. فقال: هذا خطأ ليس عليه شيء لوأنه حتى يرميه بأبا قبيس لم يكن عليه شيء» قال الأستاذ ص23: «وأدلة أبي حنيفة في حكم القتل بالمثقل مبسوطة في كتب المذهب ... وقد صحت أحاديث وآثار عند النسائي ,أبي داود وابن ماجه وابت حبان وأحمد وابن راهو ية وابن أبي شيبة وغيرهم يؤيد ظاهرها هذا المذهب، وقد صحت احاديث ... » قوله: منها حديث عبد الله بن عمروعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن دية الخطأ شبه العمد، وما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل. أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان بسند صحيح. ومنها حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شبه العمد قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة. أخرجه ابن راهو ية. ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح - وهو عود من أعواد الخباء - أخرجه عبد الرزاق. إلى غير ذلك من الأحاديث» .
أقول: في هذه القضية آيات من كتاب الله عز وجل أعرض عنها الأستاذ!
الآية الأولى: قوله تعالى: «وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا خطأً ومن قتلَ مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله» إلى قوله: «ومن يقتل(2/838)
مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم» الآية -سورة النساء: 92-93.
من المعلوم في العربية أن عمد القتل وتعمده هو قصده، وأن وقوعه خطأ هو أن يقع بلا قصد. ولا ريب أنه إذا كان هناك قتل يوصف بأنه خطأ شبيه بالعمد فإنما هو أن يتعمد سبب القتل كالضرب مثلاً ولا يقصد القتل، وإنما يقصد الإيلام بلا قتل، فهذا القتل خطأ لأنه لم يقصد ولكنه شبيه بالعمد من جهة أن سببه متعمدة. ولا يشك عاقل أن من عمد إلى طفل أو أو ضعيف فوضع رأسه على صخرة وجاء بأخرى فضرب بها رأسه حتى فضحه حبلاً في عنقه ثم شد طرفه بشجرة ثم جذب طرفه الآخر جذباً شديداً راسه وعنقه وصدره وظهره حتى مات فقد قتله عمداً فقد خرج عن لغة العرب.
ألاية الثانية: قوله تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى» الآية –البقرة 178 نصت ألاية على وجوب القصاص في كل قتيل يتأتي فيه، القصاص يدل على المماثلة، والمقصود المماثلة في المعاني التي يعقل لها دخل في الحكم، فلا تتناول القتيل بحق لأن قتل قاتلة يكون بغير حق، ولا القتيل خطأ محضاً لأن قتل قاتلة إنما يكون عمداً، ولا القتيل الذي دلت شواهد الحال على أنه إنما قصد إيلامه لا قتله كالمضروب ضربات يسيره بسوط أو عصا خفيفة لأن قتل قاتلة يكون مقصوداً. وتتنازل الآية القتلى في الصور المتقدمة سابقاً وهي فضح الرأس وما معه ونحوها إذا كان بغير حق، لأنه قصد فيها سبب القتل وقصد فيها القتل، وقتل القاتل يقتضي مثل ذلك بدون زيادة فهو قصاص، فالآية تنص على وجوب القصاص في تلك الصور ونحوها حتماً.(2/839)
الآية الثالثة: قوله عز وجل «ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً» الإسراء -33والإسراف هو تعدي المماثلة التي تقدم بيانها، أو قل: تعدي القصاص، فمن قُتل بحق فلم يقتل مظلوماً، ولا يكون قتل قاتلة إلا إسرافاً، وبقية الكلام كما في الآية السابقة، وقتل القاتل في تلك الصور التي منها فضخ الرأس وما معه وما في معناها لا يتعدي المما ثلة المعتبرة فلا إسراف فيه فقد جعل الله تعالى للولي سلطاناً عليه، وذلك شرع القصاص.
الآية الرابعة: قوله سبحانه «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون» البقرة -179
ولا ريب أنه إذا لم يكن في القتل قصاص لم يتقه الناس، فيتحرون القتل بالمثقل عدواناً وانتقاماً فيفوت المقصود من شرع القصاص.
الآية الخامسة قوله تعالى: «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به»
النحل - 126.الآية السابعة: قوله تعالى «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدي عليكم واتقوا الله» البقرة -194.
الآية الثامنة: قوله تبارك وتعالى «وجزاء سيئة سيئة مثلها» الشورى - 40
وأما الأحاديث التي ذكرها الأستاذ فحديث «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ... » مختلف في إستاده فقيل عن القاسم بن ربيعة مرسلاً، وقيل عنه عن عبد الله بن عمرومرفوعاً. وقيل عنه من عقبة بن أو س مرسلاً، وقيل عنه عن عقبة عن رجل من الصحابة، وقيل غير ذلك، وقد ساق النسائي أكثرتلك الوجوه. وذلك الاختلاف والاضطراب قد يتسامح فيه إذا لم يكن المتن منكراً، ومن قواه من المحدثين لا(2/840)
يرى معناه ما يزعمه الحنفية مما يخالف الكتاب والسنة الصحيحة، ولورأى أن ذلك معناه لأنكره فرده بذلك وبذاك الاختلاف والاضطراب (1) مع ذلك فعقبة بن أوس المتفرد به غير مشهور، وإنما وثقه من من عادته توثيق المجاهيل وإن كانوا مقلين إذا لم ير في حديثهم ما ينكره، وقد شرحت ذلك في الأمر الثامن من القاعدة السادسة من قسم القواعد. ولورأوا أن معنى هذا الحديث ما يزعمه الحنفية لما أثنوا على عقبة، بل لعلهم يجرحونه بمقتضى قاعدتهم في جرح المتفرد بالمنكر، ولا سيما إذا كان مقلاً غير مشهور. والحنفية يردون الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن في أسانيدها البتة بدعوى مخالفتها للقرآن حيث لا مخالفة كما مر في المسألة السابعة، وكما يأتي في مسألة الخامسة عشرة، فكيف يسوغ لهم أن يتشبثوا بهذا الحديث مع ما في سنده من الاختلال ومع وضوح مخالفة معناه الذي يعتمدونه للقرآن. فإن قيل: وهل يحتمل معنى آخر؟ قلت نعم، وبيان ذلك أن من القتل ما يتبين فيه أن القاتل قصد القتل، كالصور التي تقدم التمثيل بها من فضح الرأس وما معه ونحو ذلك وما يقرب منه. ومنه ما يتردد فيه أقصد أم لم يقصد كمن أغضبه رفيقه وكان
__________
(1) قلت: بل الحديث صحيح السند كما قال الكوثري، والاضطراب الذي ذكره المصنف رحمه الله هو من الاضطراب الذي لا يؤثر في صحة الحديث، فقد ذكرت في «الارواء» رقم (2259) أشهر وجوه الاضطراب فيه، ثم قابلت بينها على ما يقتضيه علم المصطلح والجرح والتعديل، فتبين لي أنها غير متماثلة في القوة وعدد رواة كل وجه، وأن أرجحها رواية من رواه عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أو س عن عبد الله بن عمرو، وعلى ذلك حكمت عليه بالصحة، لأن رجاله كلهم ثقات، وعقبة بن أو س قد وثقه ابن سعدوالعجلي وابن حبان، وهؤلاء وإن كانوا متساهلين في التوثيق كما أشار إليه المصنف، فاتفاقهم عليه، مع عدم توجه أي انتقاد عليه، بل قبله الحفاظ من بعدهم ولم يردوه، مثل الحافظ ابن حجر فقال في «التقريب» : «صدوق» . زد على ذلك أن من جملة من خرج الحديث ابن الجارود في كتابه «المنتقى» رقم (773) ، وذلك منه توثيق لرجاله كما لا يخفى. ولذلك فالاعتماد في الرد على الحنفية في استدلا لهم بهذا الحديث على ما زعموا، إنما هو على المعنى الآخر الذي أوضحه المؤلف جزاه الله خيراً.(2/841)
بيده فأس أو عصا كبيرة فضرب رأسه فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد كمن ضرب رجلاً ضربات يسيره بسوط أو عصا كبيرة فضرب رأسه فقتله. ومنه ما يتبين أنه لم يقصد كمن ضرب رجلاً ضربات يسيره بسوط أو عصا خفيفة فمات فهذه ثلاثة أضرب وقوله في أول الحديث: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد» مُخْرجٌ للضرب الأول حتماً لأنه عمد محض لا يعقل أن يسمى خطأ شبه عمد، فبقى الأ خيران والظاهر أنه شامل لهما. أما الثالث فواضح وأما الثاني فلأنه إذا لم يتبين قصد القتل فالأصل عدمه. فقوله بعد ذلك: «ما كان بالسوط والعصا» حقه أن يكون تقيداً ليخرج من الضرب الثاني ما كان بسلاح لأن استعمال السلاح يدل على قصد القتل، وإن كانت قد تدافعه قرينة أخرى فيقع التردد، ومن الحكمة في ذلك زجر الناس عن استعمال السلاح حيث لا يحل لهم القتل، وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يشتر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» . وفيه من حديثه أيضاً «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأُمه» . وفي (المستدرك) ج4 ص290 من حديث جابر قال: «نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتعاطى السيف مسلولاً» ومن الحديث أبي بكرة قال: «مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يتعاطون سيفاً مسلولاً، فقال رسول ألله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله من فعل هذا، أو ليس قد نهيت عن هذا؟ إذا سل أحدكم سيفاً ينظر إليه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده ثم ليناوله إياه» وعلى ذاك المعنى فكلمة «ما» من قوله: «ما كان بالسوط والعصا» إما موصولة بدل بعض من «الخطأ شبه العمد» وإما مصدرية زمانية، أي: وقت كونه بالسيف والعصا، كما قيل بكل من الوجهين فيما قصة الله تعالى عن شعيب: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت» . هو د: 88.
ويؤيد ذلك أن في بعض الروايات عند النسائي وغيره منها رواية أيوب عن القاسم ورواية هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم « ... الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ... » ليس فيه «ما كان» والتقييد في هذا ظاهر. على أن الشارع وإن قضى بأنه إذا كان القتل بسلاح ونحوه عمد حيث يتردد في القصد فإنه يبالغ في حض ولي الدم على أن لا يقتص. أخرج أبو داود في (السنن) من حديث أبي(2/842)
هريرة قال: «قتل الرجل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله والله ما أردت قتله، قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للولي: أما إنه إن كان صادقاً ثم قتلته لتدخلن النار. قال: فخلى سبيله» ثم أخرجه من حديث وائل بن حجر وفيه «قال كيف قتلته؟ قال ضربت رأسه بالفأس ولم أرد قتله ... قال للرجل: خذه فخرج به ليقتله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه إن قتله كان مثله ... » وحديث وائل في (صحيح مسلم) وفيه «كيف قتلته. قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته ... » وفي رواية «فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاتل والمقتول في النار ... » وتأوله بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سأل الولي أن يعفوفأبى. وهذا ضعيف من وجهين: الأول: انه ليس في القصة من الأمر بالعفوإلا بالعفوإلا ماوقع من بيان الإثم أو ما بعده. الثاني: أنه ليس من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أحداً بترك حقه أمراً جازماً يأثم المأمور إن لم يمتثله وقد رغب - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بريرة لما عتق أن لا تفسح نكاح زوجها فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا، وإنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه. ولم يعقب هو بأبي وأُمي ولا أحد من أصحابه على بريرة. فالصواب ما دل عليه حديث أبي هريرة أن إثم الولي إن قتل إنما هو مبني على قول القاتل: لم أرد قتله. مع قوة احتمال صدقه. وقد ذكر الطحاوي في، مشكل الآثار) ج 1ص 409 الحديث ثم قال: «فكان معنى ذلك والله أعلم أن البينة التي كانت شهدت عليه بقتله لأخي خصمة شهدت بظاهر فعله الذي كان عندنا أنه عمد له لا شك عندنا فيه، وكان المدعى عليه أعلم بنفسه وأيما كان منه من ذلك فادعى باطناً كان منه في ذلك لا بحجة معه ... » .
أقول: لم أر في شيء من الروايات لإقامة بينة أي شهود بل في بعض الروايات(2/843)
أن الولي قال: «أما إنه لو لم يعترف لأقمت عليه البينة» فإنما كان في الواقعة اعترف الرجل بالضرب وبتعمده وبآلته وصفته، وضرب الرأس بالفأس يقتضى قصد القتل، إلا أن هناك ما عارضه وهو وبتعمده وبآلته وصفته، وضرب الرأس بالفأس يقتضي قصد القتل، إلا أن هناك ما علرضه وهو أنه لم يسبق بينهما عداوة وكانت الفأس بيد الجاني يختبط بها فثار غضبه بسبب السب فضرب بما كان في يده وادعى أنه لم يرد القتل وأقسم على ذلك. فالحديث يدل أنه في مثل هذه الحال يقضى بأن القتل عمدٌ تأكيد للزجر عن القتل والتنفير عنه، ولا يمنع الولي من الاقتصاص ولكنه يحرم عليه فإن قيل: وكيف لا يمنع مما يحرم عليه؟ وقلت: لأنه لومنع منه حكماً لفات المقصود من تأكيد الزجر عن القتل. ويشبه هذا ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كا يعطى الملحف في السؤال وإن كان غير مستحق، وفي (مسند أحمد) و (المستدرك) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: «أما والله إن أحدكم ليخرج بمسألته من عندي يتأبطها وما هي إلا نار. قال عمر: لم تعطيها إياهم؟ قال: ما أصنع؟ يأبون إلا ذلك ويأبى الله لي البخل» . وفي (صحيح مسلم) من حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني، فلست بباخل» (1) .
فإذا حمل ذاك الحديث على معنى الذي ذكرنا لم يكن مخالفاً لكتاب الله عز وجل ولا للسنة الصحيحة ولا للنظر المعقول، فلا يكون منكراً، وعلى هذا بنى من قواه من المحدثين ووثق راويه المتفرد به مع ما فيه من الخلل. فإن أبى الحنفية إلا المعنى الذي يتشبثون به قلنا فعلى ذلك يكون الحديث منكراً فيرد ويضعف راوية اتفاقاً.
خذ أنف هرشى أو قفاها فإنما كلا جانبي هرشى لهن طريق
علىانه سيأتي في الحديث الثاني التقييد بأن يكون القتل في مناوشة بين عشيرتين بدون ضغينة ولا حمل سلاح فيقتل رجل لا يدرى من قاتله. وعلى هذا فلوصح هذا الحديث وكان مطلقاً لوجب حمله على ذاك المقيد. ومقتضى الحديث أنه في
__________
(1) وأخرجه أبن حبان في «صحيحة» نبحوحديث أبي سعيد كما في «الترغيب» (2/15) ، وهو في «موارد الظمآن» رقم (2074) مختصراً، وإسناده حسن.(2/844)
تلك الصورة يقضى بأن القتا شبه عمد فينظر في العشيرتين المتناوشتين فأيتهما كان المقتول منها كانت ديته مغلظة على الأخرى، لأن الظاهر أن القاتل منها وأنها عاقلته، فأما إذا كان هناك ضغينة وحمل سلاح فإنه يقضى بأن القتل عمد فيجعل قسامة، وأماإذا عرف القاتل فله حكمه. والله أعلم.
قول الأستاذ: «منها حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: شبه قتيل الحجر والعصا فيه الدية مغلظة. أخرجه أبن راهو ية» .
أقول: ذكرناه الزيلعي في (نصب الراية) ج4ص332 وذكر أن ابن راهو ية رواه عن عيسى بن يونس عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبن عباس، وأنه مختصر، وأحال يتمامه على ما تقدم له يعني ج4ص327 الحديث هناك: «العمد قود إلا أن يعفوولي المقتول، والخطأ عقل لا قود فيه، وشبه العمد قتيل العصا والحجر ورمي السهم فيه الدية مغلظة من اسنان الابل» نسبه إلى ابن راهو ية بالسند نفسه. والحديث في (سنن الدارقطني) ص328 من طريق: «يزيد بن هارون نا إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن أبن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو بسوط فهو دية المغلظة في أسنان الإبل» . وإسماعيل بن أمية ضعيف وقد اضطرب كما رأيت وجعل فيه في رواية ابن راهو ية رمي السهم وهو عمد عند الحنفية. ورواه أبو داود وغيره من طريق سليمان بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبن عباس يرفعه «من قتل في عميا أو رمياً تكون بينهم بحجر أو سوط فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمداً فقود يده» . سليمان متكلم فيه. ورواه الدارقطني ص 328 من طريق الحسن بن عمارة عن عمروعن طاوس عن أبن عباس مرفوعاً. والحسن بن عمارة ضعيف جداً. ورواه الدارقطني ص 327 من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار بسنده. والصحيح عن حماد أنه رواه مرسلاً، قال أبو داود في باب «عفوالنساء عن الدم» : «حدثنا محمد بن عبيد نا حماد، ح ونا ابن السرح نا سفيان وهذا حديثه عن عمروعن طاوس قال: من قتل. وقال ابن عبيد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل عنداً في عميا في رمي يكون بينهم بحجارة أو(2/845)
بالسياط أر ضرب بعصا فهو خطأ وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمداً فهو قود، وقال ابن عبيد: قود يد ... وحديث سفيان أتم» . ورواه ابن السرح عن سفيان بن عيينة عن عمروعن طاوس قوله كما مر عن أبي داود، ولكن رواه الشافعي كما في (سنن البيهقي) ج8ص45 عن سفيان عن عمروعن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم عن أبن جريج عن طاوس عن أبن عباس مرفوعاً، والوليد شديد التدليس يدلس التسوية. وقد رواه الدارقطني ص 328 من طريق: «عبد الرزاق أنا ابن جريح أخبر عمرو بن دينار أنه سمع طاوس يقول: أرجا يصاب في الرمي في القتال بالعصا أو بالسياط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يعلم من قاتله؟» قال ابن جريج: «وأقول: ألا ترى إلى قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهذليتين: ضربت إحدهما الأخرى بعمود فقتلها، إذ لم يقتلها بها ووداها وجنينها. أخبرناه ابن طاوس عن أبيه لم يجاوز طاوس» .
أقول: قصة الهذليتين ستأتي.
وأخرج أيضاً من طريق: «عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني أبن طاوس عن أبيه، قال (1) عند أبي كتاب فيه ذكر العقول جاء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ففي ذلك الكتاب وهو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قتل العمية ديته دية الخطأ، الحجر والعصا والسوط ما لم يحمل سلاحاً» ومن طريق «عبد الرزاق عن معمر عن طاوس عن أبيه أنه قال: من قتل في عمية رمياً بحجر أو عصا أو سوط ففيه دية المغلظة» .
فالروايات الصحيحة تجعله عن طاوس من قوله أو عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وتفسيره بما سمعت، وقد مر توجيه ذلك في آخر الكلام على الحديث السابق فلا متشبث فيه للحنفية.
و (العميا) فسرها أهل الغريب كما في (النهاية) بقولهم: «أن يوجد بينهم قتيل يعمي أمر، ولا يتبين قاتله» .
__________
(1) يعني ابن طاوس واسمه عبد الله. ن(2/846)
وأخرجه الدارقطني من طريق إدريس بن يحيى الخولاني: «حدثني بكر بن مضر حدثني حمزة النصيبي عن عمر بن دينار حدثني طاوس عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قتل في عميا رمياً تكون بينهم ... » ثم أخرجه من طريق عثمان بن صالح: «نا بكر بن مضر عن عمرو بن دينار ... » ومن وجه آخر عن عثمان بن صالح: «نا بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن عمرو بن دينار» .
حمزة النصيبي هالك، وعثمان بن صالح صالح في نفسه لكنة من الذين ابتلوا بخالد بن نجيح، كانوا يسمعون معه فيملي عليهم ويخلط. وخالد هالك.
قول الأستاذ: «ومنها حديث ابن عباس في دية القاتلة بمسطح - وهو عود من أعواد الخباء - أخرجه عبد الرزاق» .
أقول: جاءت القصة من رواية جماعة من الصحابة:
الأول: زوج المرأتين حمل بن مالك بن النابعة ومنه سمعة ابن عباس، ففي (مسند أحمد) ج 4 ص 80 «ثنا عبد الرزاق قال: أنا ابن جريح قال: أنا عمرو بن دينار أنه سمع طاوساً يخبر عن ابن عن عمر رضي الله عنه أنه نشد قضاء. رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فجاء حمل ابن مالك بن النابغ فقال: كنت بين بيتي امرأتي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغرة وأن تقتل بها. قلت لعمرو: لا، أخبرني عن أبيه بكذا وكذا قال: لقد شككتني» . ورواه أبي داود عن أبي عاصم عن أبن جريج بمعناه إلى قوله: «أن تقتل» وبعده: «قال أبو داود قال النضر بن شميل: المسطح وهو الصوبج. قال أبو عبيد: السطح عود الخباء» .
ورواه البيهقي ج8ص43 من طريق عبد الرزاق بنحوه وفيه من قول ابن جريج: «فقلت لعمرو: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه قضاء بديتها وبغرة عن جنبيها. قال: لقد شككتني: ورواه النسائي من طريق عكرمة عن أبن عباس وفيه: «فرمت إحداهما الأخرى بحجر» . وروى الطبراني من طريق أبي المليح ابن أسامة(2/847)
الهذلي عن حمل بن مالك: «أنه كان له امرأتان لحيانية ومعاوية ... فرفعت المعاوية حجراً فرمت به اللحيانية وهي حبلى فألقت جنيناً، فقال حمل لعمران بن عويمر: (أخي القاتلة) أدّ إلى عقل امرأتي، فأبى فترافعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: العقل على العصبة» . وذكره ابن حجر في ترجمة عمران من (الإصابة) .
الثاني: أخوالمقتولة عويم، ويقال: عويمر الهذلي. في ترجمته من (الإصابة) : «أخرج ابن أ «ي خثيمة والهيثم بن كليب والطبراني وغيرهم من طريق محمد بن سليمان بن سموأل أحد الضعفاء عن عمرو بن تميم بن عويم الهذلي عن أبيه عن جده قال: كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها: أم عفيف ... تحت رجل منا يقال له: حمل بن مالك ... فضربت أم عفيف أختي بمسطح بيتها ... » ) .
الثالث: أسامة بن عمير الهذلي روى الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة الهذلي عن أبيه قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأتين كانتا عند رجل من هذيل يقال له: عمران بن عويم ... فقال عمران: يا نبي الله إن لها ابنين هما سادة الحي وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم. قال: أنت أحق أن تعقل عن أختك ... » ذكره ابن حجر في ترجمة عمران من (الإصابة) وذكر في (الفتح) أن الحارث بن أبي أسامة أخرجه من طريق أبي المليح وفيه «فخذفت إحداهما الأخرى بحجر» .
الرابع: المغيرة بن شعبة وحديثه في (صحيح مسلم) وغيره من طرق عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضلة عن المغيرة وفيه «بعمود فسطاط» وفي رواية للترمذي «بحجر أو ع ود فسطاط ... » .
الخامس: أبو هريرة وحديثه في (الصحيحين) وغيرهما من طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي سامة عن أبي هريرة «أن إمراتين من الهذيل رمت إحداهما الأخرى(2/848)
فطرحت جنينها ... » وفي رواية أخرى في (الصحيحين) من طريق يونس عن أبن سهاب بسنده وفيه «فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها، وما في بطنها ... » وفي (صحيح البخاري) في «باب الكهانة» من «كتاب الطب» من طريق عبد الرحمن بن خالد عن أبن شهاب « ... فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الذي في بطنها ... » وفيه «ثنا قتيبة عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن امرأتين رمت إحداهما الأخرى بحجر فطرحت جنينها ... » .
السادس: يزيدة الأسلمي أخرج أبوداوود والنسائي من طريق عبد الله بن يزيدة عن أبيه أن امراة حذفت (أو خذفث) امراة فأسقطت ... ونهى يومئذ عن الحذف» .
هذا ماتيسر الإشارة إليه من طريق القصة، وقد رأيت الاختلاف في الفعل أضرب هو أم رمي أم حذف أم حذف. وفي الآلة: مسطح -حجر- عمود فسطاط. والطريق العلمية في مثل هذا أن يجمع فإن لم يمكن فالترجيح. فقد بقال أما الفعل فحذف لأن الحذف هو الرمي عن جانب فكل حذف رمي، ولا عكس، وإنما كان ذلك سبباً للنهي عن الحذف لأن كلاً منهما رمي بحجر ولتقاربهما لفظاً. وقد يطلق على الرمي ضرب كما مر في بعض الروايات «ضربت امراة ضربتها بحجر» أما الآلة فقد يقال إنها حجر كان صوبجاً وذلك أن في رواية زوج المراة «بمسطح» وفي رواية عنه «بحجر» وفي رواية أخي المفتولة «بمسطح» والمسطح كلمة مشتركة يطلق على الصوبيج وهو ما يرقق به العجين ويخبز وقد يكون عند أهل البادية حجراً، ويطلق على عمود الخباء والفساط، فجاء في رواية منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن المغيرة «بعمود فسطاط» وفي رواية «بحجر أو عمود فسطاط» وفي رواية الأعمش عن ابراهيم «بحجر» فكأنه كان في أصل الرواية «بمسطح» . فحمله بعضهم على احد معنييه وبعضهم على الآخر، وشك بعضهم. وفي رواية أبي المليح عن أبيه «بعمود خباء» وفي الأخرى منه «بحجر» فكأنه كان في(2/849)
الأصل «بمسطح» وفي رواية أبي هريرة في (الصحيحين) «بحجر» ولم يختلف عليه، فإن اتجه ذاك التوجية وإلا فما اتفق عليه الشيخان أرجح. إذا تقرر هذا فنقول: إن حذف المراة صاحبتها بحجر ليس مما يتبين به مطلقاً لا قصد القتل. ^ 87^
فإن قيل عدم استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن القتل بمثل ذلك شبه عمد على كل حال، قلت: لم يذكر في شيء من الروايات اختلاف من الخصمين في القتل أعمد أم شبه العمد؟ ولا فغي موجبة بل تقدم في رواية أبي المليح عن حمل «فقال حمل لعمران بن عويمر (أخي القاتلة) أد إلى عقل أمرأتي فأبى فترافعا» في روايته عن أبيه «فقال عمران يانبي الله لها ابنين هما سادة الحي وهم احق أن أن يعقل عن أمهم» . فقد اتفق الخصمان فبل الترافع وبعده على أن في القتل دية على العاقلة، وإنما اختلفا في العاقلة التي تلزمها الدية في الواقعة الأخ أم الا بنان؟ ومعنى ذلك اتفاقهما على أن القتل شبه عمد. وافرض أن خصمين ترافعا إلى قاض فقال أحدهما إن اخت هذا قتلتن أختي شبه عمد وهو عاقلتها فأطالبه بالدية، فقال الآخر: قد صدق ولكن للقاتلة بنون وهم أحق أن يفعلوا عن أمهم. ألا ترى أنه لا حاجة بالقاضي إلى السؤال عن صفة القتل، لتصادق الخصمين على أنه شبه عمد، وإنما اختلفا في غيره؟
قول الأستاذ: «وقد أعل أبو حنيفة حديث الرضخ كما سيأتي» .
أقول في (تاريخ بغداد) 13/387 من طريق «بشر بن مفضل قال: قلت لأبي حنيفة ... قتادة عن أنس أن يهودياً رضخ رأس جارية بين حجرين فرضخ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه بين حجرين. قال هذيان» . فهل هذا إعلال؟ ! قال الأستاذ ص 80: وأما حديث الرضخ فمروي عن أنس بطرلايق هشام بن زيد، وأبي قلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بينة، وهذا غير معروف في الشرع، وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل لكن عنعنة قتادة متكلم فيها (1) . ثم راح يتكلم
__________
(1) قلت: قد صرح قتادة بالتحديث كما بينه المؤلف فيما يأتي، فهل ذلك الكوثري أم تجاهل؟ أغلب الظن الثاني، وعلى كل حال، فهو كما قال الشاعر:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. ن(2/850)
في أنس رضي الله عنه.
أقول: أما هشام فهو هشام بن زيد بن أنس بن مالك وحديثه هذا عن جده في (الصحيحين) وغيرهما، وهشام غير مدلس وسماعة من جده أنس ثابت، ومع ذلك فالراوي عنه شعبة ومن عادته التحفظ من رواية ما يخشى فيه التدليس، وحديثه في (الصحيحين) .
ومن عادتهما التحرز عما يخشى فيه التدليس فسماع هشام لهذا الحديث من جده أنس بن مالك ثابت على كل حال. وأما أبو قلابة فهو عبد الله بن زيد الجرمي وقد قال فيه أبو حاتم: «لا يعرف له التدليس» وذكر ابن حجر في ترجمة من (التهذيب) ما يعلم منه أن معنى ذلك أن أبا قلابة لا يروى عمن قد سمع منه إلا ما سمعه منه. وقد ثبت سماعه من أنس كما في قصة العرنيين وغيرهما وحديثه في (الصحيح) أيضا، فالحكم في حديثه هذا أنه سمعه من أنس.
أما قتادة فمدلس لكنه قد صرح بالسماع. قال البخاري في (الصحيح) في «باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به» : حدثني إسحاق أخبرنا حيان حدثنا همام حدثنا قتادة حدثنا أنس أبن مالك أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين ... فجئ باليهودي فأعترف، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بالحجارة» . وقد قال همام: - «بحجرين» وفي «مسند أحمد» 36 ص269: «ثنا عفان قال ثنا همام قال: أنا قتادة أن أنساً أخبره ... فأخذ اليهودي فجيء به فاعترف» وتمام الكلام في (الطليعة) ص 101-103 وترجمة أنس من قسم التراجم، وفي مقدمة (التنكيل) أوائل الفصل الثالث وفي أثناء الفصل الخامس.
قال الأستاذ: «ومن رأية (يعني أبا حنيفة) أيضاً أن القود بالسيف فقط تحقيقاً لعدم الخروج عن المماثلة المنصوص عليها في الكتاب» !
أقول: الخروج عن المماثلة كمل يكون بالعدوان، فكذلك يكون بالنقصان، وكما(2/851)
أن العدل يقتضي منع الولي من الاعتداء فكذلك يقتضي تمكينه من الاستيفاء، ومن قتل إنساناً ظلماً برضخ رأسه بالحجارة فالقصاص أن يقتل مثل تلك القتلة، فإن قيل: ربما يقع في هذا زيادة فخفيفة غير مقصودة ولا محققة ولا مانعة من أن يقال: إنه قتل مثل قتلته، وفي تمكين الولي من ذلك شفاء لغيظة، وتطييب لنفسه، وزجر للناس، وردع عم الجمع بين القتل ظلماً وإساءة القتلة، وقد شرع الله تبارك وتعالى رجم الزاني المحصن إبلاغاً في الزجر، والقتل ظلماً أشد من الزنا. نعم قال الله تبارك وتعالى «وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله» وكما أن العفوقد يكون بترك المجازاة البتة فقد يكون بتخفيفها فغاية الأمر أن يكون الاقتصاص بضرب العنق أولى، وعلى هذا يحمل ما ورد في ذلك على ذلك على ضعفه ومعارضة غيره له. والله الموفق.(2/852)
المسألة الثالثة عشرة: لا تعقل العاقلة عبداً
قال الأستاذ ص 24: «قول صاحب القاموس (ع ق ل) : وقول الشعبي لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ... معناه أن يجني على عبد ... قال الأصمعي: كامت أبا يوسف بحضرة الرشيد فلم يفرق بين عقلته وعقلت عنه حتى فهمته» قال الأستاذ: «وعقلته يستعمل في معنى غقلت عنه، قال الأكمل في (العناية) : وسباق الحديث وهو: لا تعقل العاقلة عمداً. وسياقه وهو: «ولا صلحاً ولا اعترافاً» يدلان على ذلك لأن معناه: عمن عمد وعمن اعترف اه ويؤيده ما أخرجه أبو يوسف في (الآثار) عن أبي حنيفة عن حماد بن غبراهيم أنه قال: لا تعقل العاقلة العبد إذا قتل خطأ. وما أخرجه محمد بن الحسن في (الموطأ) عن عبد الرحمن بقن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد اله بن عتبة بن مسعود عن أبن عباس قال: لا تعقل العاقلة عمداً ولا صلحا ولا أعترافاً ولا ما جنى المملوك ... اه وما جنى المملوك نص على أن المراد بقوله: لا تعقل العاقلة عبداً أن العاقلة لا تعقل عن العبد الجاني رغم كل متقول. وأخرج البيهقي بطريق الشعبي عن عمر: العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة. ثم قال: هذا منقطع، والمحفوظ أنه من قول الشعبي» ثم حكى عبارة أبي عبيد وفي آخرها «قال أبو عبيد فذا كرت الأصمعي فقال: القول عندي ما قال ابن أبي ليلى وعليه كلام عرب، ولو كان المعنى على ما قال أبو حنيفة لكان: لا تعقل العاقلة عن عبد» ثم قال الأستاذ: « ... ولا منافاة بين هذا وبين أن يأتي في لسان العرب: عقل عنه. بمعنى: ودى. بل:(2/853)
عقله. في هذا الباب بمعنى: عقل عنه. على الحذف والإيصال لأأن أصل الكلام: عقل فلان قولئم الجمال ليدفعها دية عن فلان. فاستغني عن المفعول الصريح وأو صل إلى المدفوع عنه بحذف -عن- وهذا من أسرار العربية، والقصد من الآثار المروية عن عمر وابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي واحد ... »
أقول: عاقلة الانسان عصبته على تفصيل معروف في كتب العلم، فإذا قتل حرّ حراً خطأ محظاً أو شبه عمد وثبت ببينة فالدية على عاقلة القاتلا، ومن الحكمة في ذلك أن أولياء المقتول يطلبون بثأره، ومن شأن عصبة القاتل أن تقوم دونه وهم محقون في ذلك فيقال لهم: من شأنكم أن تقدموا دونه فاغرموا مالزم بفعله. وإن كان القتل عمداً أو لم يثبت إلا باعتراف القاتل لم يلزم العاقلة شيء لأنهم قد يقولون في العمد: لوطلب دمه لم نقم دونه ولا يحل لنا ذلك وهو أو قع نفسه باختياره. ويقولون في الاعتراف: هو جر البلاء باختياره وهكذا إذا لم يلزم شيء إلا بمصالحته لأن ذلك كاعترافه.
وبقيت مسألتان:
الأولى: أن يقتل عبد حراً فليس في هذا شيء على عاقلة العبد ولا على عاقلة سيده. أما عاقلة العبد فلأنه مادام عبداً في معنى الأجنبي عنهم، وأما عاقلة سيده فلأنهم يقولون: القاتل المطالب هو العبد ولا شأن لنا به ولا نقوم دونه.
الثانية: أن بقتل حر عبداً فقيل: إذا كان عمداً ثبت القود، وقيل: لا قود بحال، لأن هذا ليس من مظنة الفتنة، فإن سيد العبد لا يهمه أن يأخذ بثأر عبده وإنما يهمه أن يأخذ مالاً يستعيض به منه. فأما إذا كان خطأ محضاً أو شبه عمد فلا قود اتفاقاً وإنما يجب المال، واختلفوا في الواجب فقال قوم: الواجب قيمة العبد بالغة ما بلغت، لأن سيده يستحق ما يعادل ما فاته ومقدار ذلك معروف وهو القيمة كما لو كان المقتول فرساً، وإلى هذا رجع أبو يوسف وهو قول الشافعي وغيره. وقيل: الواجب دية لكن مقدارها هو القيمة بشرط أن لا تساوي دية الحر ولا تزيد عليها فإن ساوت أو زادت لم يجب إلا دون دية الحر بعشرة، وهذا قول أبي حنيفة ولا(2/854)
يخفى ما فيه. ثم اختلفوا في تعزيم العاقلة، فقال قوم: ليس عليها شيء لأنه إن كان الواجب قيمة فكما لو كان المقتول فرساً، وإن كان دية فليس من شأن سيد العبد أن يطلب دم القاتل فيكون ذلك من مثار تعصب عاقلته. وقال أبو حنيفة: تلزم العاقلة. احتج مخالفوه بما روي عن الشعبي: لا تعقل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً. فقال أبو حنيفة: إنما معنى هذا وارد في المسألة الأولى، وهي أن يكون العبد هو القاتل فرده الأصمعي بما مر وأجاب الأستاذ بما سمعت.
وأقول: أما ما ذكر عن إبراهيم، فقوله: «قتل» لا أدري أبا لبناء للفاعل أم المفعول، فإن كان للمفعول وهو الظاهر فهو نص في خلاف قول أبي حنيفة. فإن قيل: رواية أبي حنيفة له تدل على أنه عنده بالبناء للفاعل، قلنا: بل رواية أبي يوسف له تدل أنه عنده بالبناء للمفعول، والحق اطراح هذين فإن إبراهيم تابعي، والعالم كأبي حنيفة وأبي يوسف قد يروي من أقوال التابعين ما لا يقول به، لكن إذا ثبت أن المعروف في اللغة عقلت القتيل. دون: عقلت القائل. تبين أن الفعل في قول إبراهيم مبني للمفعول وهو الظاهر.
وأما الأثر عن أبن عباس فليس من الواجب مطابقته لما روي عن غيره، بل هي خمس مسائل اتفق القولان على ثلاث، وانفرد كل منها بواحدة، ويتعين الجزم بهذا إذا كان المعروف في اللغة: عقلت القتيل، لا عقلت القائل. فتبين أن المدار على اللغة.
فأما ما ذكره صاحب (العناية) فليس بشيء، بل المعنى لا تعقل العاقلة دية عمد ولا قيمة عبد ولا واجب صلح ولا واجب اعتراف. وأما تحقيق الأستاذ فيقال له: العبارة التي زعمت أنها الأصل وهي «عقل فلان قوائم الإبل ليدفعها دية عن فلان» إنما تعطي بمقتضى العربية أن فلاناً الثاني هو القاتل فإننا نقول: «دفعت عن فلان الدين الذي عليه، وأديت عنه الدية التي لزمته» ويصح أن يقال بهذا المعنى: «وديت عنه» أي: أديت عنه الدية التي لزمته، فأما المقتول فإنما يقال: «وديته» وقد يقال: هذه دية من القتيل أي بدل عنه قال الشاعر:(2/855)
عقلنا لها من زوجها عدد الحصى
قال ابن قتيببة في (كتاب المعاني) : «يقول قتلنا زوجها فلم تجعل عقلة إلا همها ... والمفعول يولع بلقط الحصى وعدة» و «من» هذه هي البدلية متلها في قةله تعالى: «ٌ أرضيتم بالحياة الدينا من الآخرة» وفي صغار كتب العربية أن «عن» للمجاوزة، وإذا أديت الدية فإنما جعلتهال تجاوز ذمة القاتل كما تقول: اديت عن فلان الدين الذي كان عليه، ولا معنى لمجاوزنها المقتول.
وبعد فلا ريب أن الأصل «عقلت قوائم الإبل، لكن استغنوا عن القوائم على كل حال فقالوا: «اعقل ناقتك» ثم كثر عقل الإبل في الدية فاستغنوا في ذكر الدية عنلفظ الإبل، يقول ولي المقتول أو المصلح: اعقلوا. ويقول أولياء القايل سنعقل. وكثر ذلك حتى صار المتبادر من العقل في قضايا القتل معنى الدية فاستعمل في معناها حتى جمع جمعها فقيل: «عقول» بمعنى «ديات» فإذا قيل في قضايا القتل: عقلته. فمعناه: وديته. أي أديت ديته. وإذا قيل: عقلت عنه. فالمعنى: وديت عنه. أي أديت عنه الدية التي كانت مستقرة عليه فجعلتها تجاوزه. هذا هو المعروف في العربية.(2/856)
المسألة الرابعة عشرة: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً
في (تاريخ بغداد) 13/391 حكايتان عن أبي عوانة «كنت عند أبي حنيفة جالساً فأتاه رسول من قبل السلطان ... فقال يقول الأمير: رجل سرق ودياً فما ترى؟ فقال غير متعتع: ان كانت قيمته عشرة دراهم فاقطعوه ... » قال الأستاذ ص92: «قال الامام محمد بن الحسن الشيباني في (الآثار) : أخبرنا أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم: لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمنة يومئذ عشرة دراهم ولا يقطع بأقل من ذلك ... قال الإمام محمد في (الموطأ) : قد اختلف الناس فيما تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم ورووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمروعن عثمان وعن على وعن عبد الله بن مسعود وعن غير واحد فإذا جاء الاختلاف في الحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعنى أن ربع الدينار نحوثلاثة دراهم والحدود أخذ فيها بالثقة وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. يعنى أم ربع الدينار نحوثلاثة دراهم والحدود مما يدراً بالشبهات فالأ خذ برواية عشرة دراهم في القطع أحوط فيؤخذ بها حيث لم يعلم الناسخ من المنسوخ من تلك الآثار المختلفة» .
أقول: رأيت للحنفية مسالك في محاولة التخلص من الأحاديث الصحيحة في هذه المسألة نشطت للنظر فيها هنا.
المسلك الأول هذا الذي تقدم، وحاصله أن الدليلين إذا تعارضا عمل بالناسخ،(2/857)
فإن لم يعلم فبالراجح. تعارضت الأدلة هنا ولم يعلم الناسخ فتعين العمل بالراجح. ومن المرجحات نفي الحد , أي أنه كان أحد الدليلين المتعارضين مثبتاً لحد والآخر نافياً له , كان ذلك مما يقتضي ترجيح الثاني. فالأحاديث الموجبة للقطع في ربع دينار مثبتة للحد في ما ساوى ذلك وما زاد عليه. والأحاديث الدالة على أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم نافية للحد فيما ذلك , فجاء التعارض فيما يساوى ربع دينار أو يزيد عله ولكنه لا يبلغ العشرة , ولم يعلم الناسخ فترجح النافي.
والجواب عن هذا أن ما يذكر في أنه لا قطع فيما دون العشرة لا يثبت كما ستراه مفصلاً فليس بدليل أصلاً. هبه ثبت فعد نفي الحد من المرجحان فيه نظر , وما يذكر فيه من السنة لا يثبت. هبه ثبت فلا حجه فيه للاتفاق على أن الحد يثبت بخير الواحد ونحوه مما يقول الحنفية أنه دليل فيه شبهة , وإنما الشبهة التي يدراً بها الحد ما يقتضي عذراً ما للفاعل كمن أخذ ماله فيه حق , فإن له أن يقول: لم أسرق وإنما توصلت إلى أخذ حقي, وكالواطئ في نكاح بلا ولي فإن له أن يقول لم أزن وإنما أتيت امرأتي. فأما من يقول سرقت عالماً بأن السرقة حرام , لكن قد تعارضت الأدلة في أن سرقتي هذا توجب الحد. فلا عذر له , ولا يدرأ عنه الحد , كما لا يدرأ عمن قال: «سرقت عالماً» بأن السرقة حرام , ولكن لم أعلم بأن حكم الإسلام قطع يد السارق. بل ذاك أولى فإنه إذا لم يعذر بجهل وجوب الحد من أصله فكيف يعذر بالتردد ? هبه ثبت أن نفي الحد من مقتضيات الترجيح. فللمثبت مرجحات أقوى من ذلك كما ستراه إن شاء الله.
المسلك الثاني للطحاوي. بدأ في كتاب (معاني الآثار) بذكر حديث ابن عمر «أ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنة ثلاثة دراهم» وهو في (الموطأ) و (الصحيحين) وغيرها، رواه مالك وجماعة عن نافع عن أبن عمر فهو في أعلى درجات الصحة.
ثم ذكر الطحاوي أنه لا حجة فيه على أنه لا يقطع فيما دون ذلك. ثم روي من طريق أبي واقد صالح بن محمد بن زائدة عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رفعه «لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن» قال الطحاوي: «فعلمنا(2/858)
بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقفهم عند قطعة في المجن على أنه لا يقطع فيما قيمته أقل من قيمة المجن» .
أقول: أبوواقد هذا ذكر بصلاح في نفسه وغزو، قال أحمد: «ما رأى به بأساً» لكنهم ضعفوه في روايته، قال ابن معين: «ضعيف الحديث» وضعفه أيضاً على أبن المديني والعجلي وأبو زرعة وأبو داود والنسائي وأبو أحمد والحاكم وابن عدي، وقال البخاري وأبو حاتم والساجي: «منكر الحديث» . وقال ابن حبان: «كان ممن يقلب الأخبار والأسانيد ولا يعلم، ويسند المرسل ولا يفهم، فلما كثر ذلك في حديثه وفحش استحق الترك» ومما أنكروه عليه حديثه عم سالم عن أبيه عن عمرورفعه: «من وجدتموه قد غل فأحرقوا متاعه» قال البخاري: «وحديث الباطل ليس له أصل» وقد ذكر الطحاوي حديثه هذا عن سالم في (مشكل الآثار) على ما في (المعتصر) ج2ص238، (1) وفي (المعتصر) عن الطحاوي: «وكتاب الله يخالف ذلك، قال الله تعالى: «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا» فإذا لم يكن في سرقة مال ليس للسارق فيه شركة سوى قطع اليد لا جزاء له غير ذلك فأحرى أن لا يجب عليه في غلول مال له فيه حظ إحراق رحله» .
أقول: دلالة الآية على أنه لا جزاء غير ذلك دلالة لا يقول بها الجمهور. وعلى القول بها فإنما يتجه ما بناه الطحاوي عليها لو كان على الغال قطع إذ يقال ليس على السارق إلا القطع مع أنه لا شبهة له فكيف يزاد الغال على مع أن له شبهة؟ . فإما أن يكون على السارق الذي لا شبهة له القطع وليس على الغال على لشبهته قطع ولكن عليه عقوبة دون ذلك. فليس في هذا ما ينكر، كما أن الزاني المحصن الرجم فقط وليس على غير المحصن رجم ولكن عليه الجلد. وكما أن من ارتكب موجب الحد يحد ولا يعزر ومن ارتكب ما دون ذلك لم يحد ولكنه يعزر.
رد الطحاوي حديث أبي واقد في الغال بدعوى مخالفة لا حقيقة لها , لدلالة لا
__________
(1) الطبعة الثانية.(2/859)
يقول بها الجمهور، ثم احتج بحديث أبي واقد نفسه هنا مع مخالفة محققة لدلالة متفق عليها من الآية نفسها , فإن حديثه هنا ينفي القطع عن عدد كثير يحق على كل منهم اسم «السارق» وهم كل من كان مسروقة أقل من قسمة المجن والآية توجب بعمومها قطع كل من يحق عليه - 95-
اسم «السارق» ودلالة العموم متفق عليها بل يقول الحنفية أنها قطعية. ثم يبالغ الطحاوي فيقول «فعلمنا بهذا ... » كأنه يرى أبا واقد معصومها يوجب حديثه العلم. ويجعل ذلك أمراً مفروغاً منه , وإنما الشأن في معرفه قيمة المجن؟
ومع ذلك نجاري الطحاوي في النظر في القيمة المجن. ذكر الطحاوي أن بعض أهل العلم يقول إنها ثلاثة دراهم بحديث ابن عمر السابق. قال: «وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لايقطع السارق إلا فيما يساوي عشرة دراهم فصاعداً , واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود (وهو إبراهيم بن سامان داود الأ سدي البرلسي) و (أبو زرعة) عبد الرحمن بن عمروالدمشقي قالا: ثنا أحمد بن خالد الوهبي قال. ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال كان قيمه المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم»
أقول: ابن إسحاق متكلم فيه وفي حفظه شيء كما في (الميزان) ، وقد اضطرب في الخبر كما يأتي فخبره هذا غير صالح للحجة أصلا فكيف يعارض به حديث (الموطأ) و (الصحيحين) وغيرهما المتواتر عن نافع عن ابن عمر؟ ومع هذا فالظاهر أن هذا لفظ ابن أبي داود كما يشير إلى ذلك تقديم الطحاوي له، فأما، فأما الدمشقي فقال الحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 378: «حدثنا أبو العباس محمد يعقوب (الأصم) ثنا أبو زرعة الدمشقي ثنا أحمد ابن خالد الوهبي ثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم عشرة دراهم» . وهذا هو الصواب من حديث الوهبي كذلك أخرجه الدارقطني في (السنن) ص 369: «نا محمد بن إسماعيل الفارسي نا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة نا أحمد بن خالد الوهبي» وكذلك أخرجه البيهقي في (السنن)(2/860)
ج8 ص 257: «ثنا أبوطاهر الفقيه أنبأ ابوبكر القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا أحمد بن خالد الوهبي ... » كلاهما بلفظ الأصم عن الدمشقي إلا أن ابن نجدة قدم كلمة «يقوم» ذكرها بعد كلمة «المجن» فإن قيل فالمعنى واحد. قلت: كلاّ، لفظ الطحاوي يجعل العشرة قيمة «المجن الذي قطع
فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -» والمحفوظ وهو لفظ الدمشقي وأبن نجدة والسلمي يجعلها قيمة المجن مطلقاً كما تقوم: كانت الغنم رخيصة في عهد فلان، كان ثمن الشاة يقوم درهمين. فإن قيل وكيف يستقيم ذلك والمجان تختلف جودة ورداءة، وجدة وبلى، وسلامة وعيباً، وترخص في وقت وتغلوفي آخر؟ قلت: كأن قائل ذلك بلغه أن أقل ما قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مجن ورأى أنه لا ينبغي القطع في أقل من ذلك، وأعوزه أن يعرف ذاك المجن أو يعرف قيمته على التعين أو يجد دليلاً يغنيه عن ذلك، ففزع إلى اعتبار جنسه ليحمله على أقصى المحتملات احتياطاً، أو على أولاها في نظره، فرأى أن العشرة أقصى القيم أو أو سطها أو غالبها أو أقصى الغالب أو أو سطه. فإن قيل فهلا تحمل كلمة «المجن» في لفظ الجماعة على ذلك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوافق لفظ الطحاوي؟ قلت: يمنع من ذلك أمور.
الأول: أن الظاهر إرادة الجنس.
الثاني: قوله «كان ... يقوم» وهذا يقتضي تكرار التقويم ولا يكون ذلك في ذاك المجن المعين.
الثالث: أنه لا داعي إلى حمل المحفوظ على الشاذ بما يخالف الحديث الثابت المحقق وهو حديث ابن عمر. فإن قيل قد يكون ابن عمر قوم باجتهاده فقال: عشرة. قلت: هذا باطل من أوجه.
الأول: أن الواجب في التقويم أنه إذا رفعت إلى الحاكم سرقة فكان المسروق مما لا يعلم لأول وهلة أنه بالقدر الذي يقطع فيه أو لا أن يبدأ الحاكم فيأمر العدول(2/861)
العارفين بتقويم المسروق، وابن عمر في دينه وتقواه وورعه وعلمه بأنه سيبنى على خبره قطع أيد كثيرة لا يظن به أن يجزم إلا مستنداً إلى ما جرى به التقويم بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن أثبت الرويات وأكثرها عن ابن عمر بلفظ: «ثمنه» كما تراه في (صحيح البخاري) مع (فتح الباري) وأصل الفرق بين الثمن والقيمة أن الثمن هو ما يقع عوضاً عن السلعة، والقيمة ما تقوم به السلعة فمن اشترى سلعة بثلاثة دراهم، وكانت تساوي أكثر أو أقل فالثلاثة ثمنها، والذي تساويه هو قيمتها، فإذا أتلف رجل سلعة الآخر فقومت بثلاثة دراهم فقضى بها الحاكم فقد لزمت الثلاثة عوضاً عن السلعة، فصح أن تسمى ثمناً لها فهكذا السلعة المسروقة لا يحسن أن يقال: «ثمنها ثلاثة دراهم» إلا إذا كانت قومت بأمر الحاكم بثلاثة دراهم فقضى بحسب ذلك. وكأن هذا هو السر في اعتناء البخاري باختلاف الرواة في قول بعضهم «ثمنه» وبعضهم «قيمته» مع أن قول بعضهم «قيمته» لا يخالف ما تقدم، لأن ما وقع به التقويم فالقضاء يصح أن يسمى «قيمته» لكن مالم يعلم أنه وقع به التقويم فالقضاء، فإنه لا يصح أن يسمى ثمناً فتدبر.
الثالث: أن ابن عمر لوبنى على حدسه لكان الغالب أن تتردد.
الرابع: أن الاختلاف في تقويم السلعة بين عارفيها وعارفي قيم جنسها في المكان والزمان الواحد لا يكون بهذا القدر، يقول هذا: ثلاثة. ويقول الآخر: عشرة. قال ابن حجر في (الفتح) : «محال في العادة أن يتفاوت هذا فقد جاء في بعض الروايات عن أبن عمر كما في (سنن أبي داود) والنسائي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد السارق سرق ترساً صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم (1) وهذا يدل على إتقان ابن عمر للواقعة ومعرفة بها فهو المقدم على غيره.
هذا كله على فرض صحة خبر ابن
__________
(1) د قلت: وإسناد هذه الرواية صحيح عل شرط الشيخين. ن(2/862)
إسحاق، وقد علمت أنه لا يصح، وسيأتي تمام ذلك والصواب مع صرف النظر عن الصحة أن القائل عشرة دراهم إنما نظر إلى الجنس على ما تقدم بيانه.
فإن قيل فقد قال أبو داود في (السنن) : «حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم» .
قلت: هذا لفظ ابن أبي السري كما صرح به أبو داود، وابن أبي السري وإن حكى أبن الجنيد أن ابن معين وثقة فقال قال أبو حاتم «لين الحديث» وقال مسلمة: «كان كثير الوهم وكان لا بأس به» وقال ابن وضاح: «كان كثير الغلط» ، وقال ابن عدي «كثير الغلط» . والمحفوظ عن ابنن نمير كما تقدم نا شعيب بن أيوب نا عبد الله بن نمير ... » والظاهر أن لفظ عثمان بن أبي شيبة هكذا.
فإن قيل: فقد قال ابن أبي شيبة في (المصنف 9: «حدثنا عبد الأعلى عن محمد عن محمد بن إسحاق قال: حدثني أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس: لا يقطع السارق في دون ثمن المجن، وثمن المجن عشرة دراهم» وذكره البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص 27 عن عياش عن عبد الأعلى نحوه. فكلمة «المجن» الأولى للعهد فكذلك الثانية.
قلت: ليس هذا بلازم با الثانية للجنس كما في غالب الروايات، على انه يمكن أن تكون الأولى للجنس أيضاً، ويمكن أن تكونا معاً للعهد، ولكن التقويم استنباطي على ما تقدم لا تحقيقي.
فإن قيل: فقد قال ابن التر كماني «قال صاحب (التمهيد) : ثنا عبد الوارث ثنا قاسم ثنا محمد يوسف ثنا ابن إدريس ثنا محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قاتل: «قوم المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» .
قلت: المحفوظ عن ابن إدريس ما قاله الدارقطني ص 368: «ثنا ابن صاعد(2/863)
ثنا ابن خلاد بن أسلم ثنا عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عطاء عن ابن عباس قال: «كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» سند الدارقطني أقصر وأثبت فإن محمد بن وضاح كان ممن يخطئ وقاسم بن أصبغ اختلط باخرة» .
هذا وقد اضطرب ابن إسحاق في هذا فرواه مرة عن عطاء عن ابن س كما هنا، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء كما مر، وقال مرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كما يأتي، ومرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء أن ابن عباس كان يقول: «ثمنه يؤمئذ عشرة دراهم» أخرجه النسائي وذكره البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص 27، ورواه مرة عن عمرو بن شعيب عن عطاء مرسلاً كما في (الفتح) ، ومرة عن أيوب بن موسى عن عطاء مرسلاً، لم يذكر فيهما ابن عباس رجعله من كلام عطاء، ذكر النسائي الثانية قال: «أخبرني محمد بن وهب قال: حدثنا محمد بن سلمة قال: حدثني ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء، مرسل» .
فإن قيل فقد قال أبو داود: «ورواه محمد بن سلمة وسعدان بن يحيى عن ابن إسحاق بإسناده» ظاهر هذا الوصل.
قلت: لم يذكر أبو داود من حدثه عن محمد بن سلمة، والنسائي ذكر ذلك وحققه فهو أولى. وفي كلام النسائي ما يدل على ترجيح الإرسال فإنه فإنه قال عقب ذلك: «أخبرني حميد بن مسعدة عن سفيان –هو ابن حبيب –عن العرزمى –هو عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن. قال: وثمن المجن يؤمئذ عشرة دراهم» وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. وكان يقوم المجن في زمانهم ديناراً أو عشرة دراهم» . وقال ابن التركماني: «في (كتاب الحجج) لعيسى بن أبان ... » ثم قال: «وفي (كتاب الحجج) عن(2/864)
مصعب بن سلام ويعلى بن عبيد قلا: ثنا عبد الملك عن عطاء أنه سئل ما يقطع فيه السارق؟ قال ثمن المجن. وكان في زمانهم يقوم ديناراً أو عشرة درهم» .
وهذا الحديث في حكم مختلف فيه تعم به البلوى، وعطاء إمام جليل فقيه معمر، كان بمكة حيث ينتابها أهل العلم من جميع الأقطار، وله أصحاب أئمة حفاظ فقهاء كانوا أعلم به وألزم له ايوب بن موسى وعمرو بنشعيب، فلو كان عنده هذا الحديث عن ابن عباس لما فاتهم.
وهذا عبد الكلك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه إلا قوله كما تقدم. وهذا عبد الملك بن أبي سليمان وهو من أثبت أصحاب عطاء لم يكن عنده عنه إلا قوله كما تقدم. وهذا ابن جريج أعلم أصحاب عطاء وألزمهم له جاء عنه أنه قال: «لزمت عطاء سبع عشرة سنة) 9 وقال: «جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء» زكان يدلس عن غير عطاء فأما عن عطاء فلا، قال: «إذا قلت: قال: عطاء فأنا سمعه منه وإن لم أقل سمعت» ، وإنما هذا لإنه كان يرى أنه قد استوعب ماعند عطاء فإذا سمع رجلاً يخبر عن عطاء بما لم يسمعه منه رأى أنه كذب فلم يستحل أن يحكيه عن عطاء. وهذا كما قال أبو إسحاق: «قال أبو صالح (ذكوان) و (عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: ليس أحد يحدث عن أبي هريرة إلا أصادق هو أم كاذب» يريدان أنه إذا حدث عن أبي هريرة بما لم يسمعاه منه علما أنه كاذب، لأحاطتهما بحديث أبي هريرة. وقال الإمام أحمد: «ابن جريج أثبت الناس في عطاء» وكان ابن جريج يذهب إلى هذا المذهب، قال ابن التركماني: «في (مصنف عبد الرزاق) عن ابن جريج قال كان يقول: لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم» . مع هذا كله لم يكن عند ابن جريج عن عطاء في هذا إلا ما ذكره الطحاوي في أواخر كلامه، قال: «حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: ثنا ابن عاصم ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم» وهذا يشعر بأن عطاء إنما أخذ هذا القول عن عمرو بن شعيب، وهذا عكس ما زعمه ابن إسحاق، أفيجوز أن يكون عند ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فيترك أن يقول: كان قول عطاء على قول ابن عباس. ويعدل إلى عمرو بن شعيب؟(2/865)
وقد كان لابن عباس أصحاب حفاظ فقهاء كأنه ألزم له وأعلم به من عطاء ولم يروأحد منهم عنه في هذا الباب شيئاً، فأما ما روى عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن حصين عن عكرمة عن أبن عباس قال: «ثمن المجن الذي يقطع فيه دينار» ذكره ابن التركماني، فليس بشيء، إبراهيم ساقط ولا سيما إذا لم يصرح بالسماع، وأما حسن ظن الشافعي به فكأنه كان متماسكاً لما سمع منه الشافعي ثم ظهر فساده، وقد قال ابن أبي شيبة في (المنصف) : «حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن خالد (بن مهران الحذاء) عن عكرمة قال: تقطع اليد في ثمن المجن. قال قلت له: ذكر لك ثمنه؟ قال أربعة أو خمسة وعبد الوهاب وخالد من الثقات المشهورين. أفتراه يكون عند عكرمة عن مولاه ابن عباس أنه دينار أو عشرة دراهم فيعدل عنه إلى مالا يدري عمن أخذه مع شكة فيه؟ فهذا كله يبين أن ابن عباس لم يقل ما رواه ابن إسحاق قط، وأن عطاء لم يحدث به عن ابن عباس قط، وإنما هو قول عطاء، وقد علمت مع ذلك أنه مبنى على الحدس. والله الموفق.
فإن قيل: فقد قال البخاري في (التاريخ) : «وقال الوليد بن كثير حدثني من سمع عطاء عن ابن عباس –مثله» . قلت: وصله الدارقطني ص369 «حدثنا أحمد نا شعيب بن أيوب نا أسامة عن الوليد بن كثير حدثني عن سمع عطاء عن ابن عباس أن ثمن المجن يومئذ عشرة»
قلت: أبو أسامة كان يدلس ثم ترك التدليس بأخرة ولا يدرى متى حدث بهذا؟ وشيخ الوليد لا يدرى من هو، ولو كان به طرق لما كنى عنه، وقد كان من أهل بلد الوليد ممن يحدث عن عطاء محمد بن عبد الله العرزمى الهالك ولا يبعد أن يكون الوليد إنما سمعه منه فليس في هذا ما يجدى، والصواب ما تقدم.
قال الطحاوي: «حدثنا أبن أبي داود وعبد الرحمن بن عمروالدمشقي قال ثنا الوهبي قال: ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -مثله» يعنى مثل حديثه المتقدم الذي رواه بهذا السند عن ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن(2/866)
عطاء عن ابن عباس وقد أقمنا الحجة على أن ذاك اللفظ ليس هو لفظ الدمشقي ولا الوهبي ولا ابن إسحاق فيأتي مثل ذلك هنا، وقد قال الدارقطني ص369: «نا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحأبي نا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. نا محمد بن مخلد نا محمد بن هارون الحربي أبو جعفر هو أبونشيط نا أحمد بن خالد الوهبي نا محمد بن إسحاق بإسناده نحو» .
وفي (نصب الراية) ج3 ص359 ابن أبي شيبة روى في (مصنفه) عن عبد الأعلى عن ابن إسحاق «عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع السارق في دون ثمن المجن. قال عبد الله: وكان ثمن المجن عشرة دراهم» وفي (تفسير ابن كثير) أن ابن أبي شيبة روى عن ابن نمير وعبد الأعلى عن أبن إسحاق –فذكر مثله.
والذي وجديه في النسخة التي وقفت عليها من (المصنف) «حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: القطع في ثمن المجن» وفيها «حدثنا عبد الأعلى وعبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قال: كان يقول: ثمن المجن عشرة دراهم» وفي (سنن البيهقي) ج8 ص269 من طريق أبي يعلى «ثنا أبن نمير ثنا أبي ثنا محمد بن إسحاق «عن عمرو بن شعيب (1) » عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . وقال الدارقطني ص 368: «حدثنا الحسين بن إسماعيل ثنا يوسف بن موسى ثنا عبد الله بن إدريس وعبد الله بن نمير عن ابن إسحاق ح ونا محمد بن القاسم بن زكريا نا هارون بن إسحاق نا المحاربي عن محمد ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على
__________
(1) سقطت من الأصل. ن(2/867)
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . وفي (مسند أحمد) ج2ص18 «ثنا ابن إدريس ثنا ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن قيمة المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم) . وقال النسائي في (السنن) «أخبرنا خلاد بن أسلم عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» . وفي (نصب الراية) ج3 ص 466 عن (مسند إسحاق بن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مابلغ ثمن لمجن ففيه القطع. وكان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. قال. وسئل عن اللقطعة؟ فقال: عرفها سنة» هذه الرواية تدل أن هذا الحديث هو في الأصل قطعة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في اللقطعة وغيرها. وفي (مسند أحمد) ج2ص302 «ثنا ابن إدريس سمعت ابن إسحاق عن عمروابن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاً من مزينة يسأله عن ضالة الإبل ... وسأله عن الحريسة التي توجد في مراتعها قال: فقال فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، قال: فما أخذ من أعطانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن، فسأله فقال: يا رسول الله اللقطة نجدها في سبيل العامر؟ قال: عرفها سنة ... » وفي (المسند) ج2 ص 207 «ثنا يزيد (بن هارون) أنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رجلاً من مزينة وهو يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - -فذكر نحوالحديث ابن إدريس - قال: وسأله عن الثمار ... فقال ... ومن وجديه قد احتمل ففيه ثمنه مرتين وضرب نكال، فما أخذ من جرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ... » فأما الحديث المختصر في القطع وقيمة المجن ففي (المسند) ج 2 ص 204 «حدثنا نصر بن باب عن الحجاج (بن أرطاة) عن عمرو بن شعيب عنأبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا قطع فيما دزن عشرة دراهم» . وأخرج الدارقطني ص 369 من طريق أبي مالك الجني عن حجاج بسنده بإسناده: لا يقطع السارق في أقل من ثمن المجن، وكان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» ؛(2/868)
والحجاج بن أرطاة معروف بالتدليس عن الضعفاء وفيه كلام غير ذلك وفي (نصب الراية) : «قال في (التنقيح) : والحجاج بن أرطاة مدلس ولم يسمع من عمروهذا الحديث» . وابن إسحاق أيضاً مدلس وهو ممن يروي عن الحجاج فأخلق به أن يكون سمع بعض رواياته لهذا الحديث عن الحجاج عن عمرو بن شعيب فرواها عن عمروابن شعيب تدليساً عل تدليس. لكن قال البخاري في (التاريخ) ج1 قسم 2 ص27 «قال لنا على حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن أبن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب أن شعيباً حدثه أن عبد
حدثه عبد الله بن عمروكان يقول - وحدثني أن مجاهداً أخبره أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن ثمن المجن يومئذ عشرة» . فهذا اللفظ الذي في هذه الرواية قوي لتصريح أبن إسحاق بالسماع، وقال الدارقطني ص 368: «نا أحمد علي بن أبي العلاء نا أبو عبيدة بن أبي السفر نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن عشرة دراهم» . وأبو أسامة كان أولاً يدلس كما سبق، فإن سلمت هذه الرواية من تدليسه كانت متابعة جيدة لابن إسحاق في هذا اللفظ الذي صرح فيه بالسماع.
فإن أغمضنا عن اضراب ابن إسحاق وعن تدليسه أبي أسامة قلنا: إنه يثبت أن عمروابن شعيب روى عن أبيه عن جده هذا القدر الذي اتفقت عليه رواية ابن أبي إسحاق المصرحة بالسماع ورواية أبي أسامة عن الوليد عن الوليد بن كثير وهو «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» .
ويبقى النظر في عمرو بن شعيب، وقد لخص ابن حجر كلامهم فيه بقوله: ضعفه ناس مطلقاً، ووثقه الجمهور، ومن ضعفه مطلقاً فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة ... . فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها ... . وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله بن عمروفي أماكن ... . لكن هل سمع منه ما روى عنه أم سمع بعضها والباقي صحيفة؟ الثاني أظهر عندي وهو الجامع لاختلاف الاقوال فيه وعليه ينحط كلام الدراقطني(2/869)
وأبي زرعة» .
فإن قيل فإذا لم يصرح بسماعه من أبيه من عبد الله بن عمروفغاية ذلك ان يكون من الصحيفة، وقد قال ابن حجر: «قال الساجي: قال ابن معين: هو ثقة في نفسه وما روي عن أبيه عن جده لا حجة فيه، وليس بمتصل وهو ضعيف من قبل انه مرسل، وجد شعيب كتب عبد الله بن أبي عمروفكان يرويها عم جده إرسالاً وهي صحاح عن عبد الله بن عمروغير أنه لم يسمعها» قال ابن حجر: «فإذا شهد له ابن معين ان أحاديثه صحاح غير أنه لم يسمعها، وصح سماعه لبعضها، فغاية الباقي ان يكون وجادة صحيحة، وهو أحد وجوه التحمل» وذكر بعد ذلك كلاماً ليعقوب بن شيبة وفيه: «وقال علي ابن المديني وعمرو بن شعيب عندنا ثقة وكتابة صحيح» قلت: الساجي لم يدرك ابن معين، وقول ابن المديني: «كتابه صحيح» لعله أراد كتابه الخاص الذي قيد فيه سماعاته لا تلك الصحيفة، وقد قال الامام أحمد: «له أشياء مناكير وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا» . وقال مرة: «ربما احججنا به وربما وجس في القلب منه شيء» مأنه يريد أن يحتج به إذا لم يكن الحديث منكراً، وفي كلام أبي زرعة «ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر» وهذا يدل أن في روايته عن أبيه عن جده مناكير غير قليلة. وبذلك صرح ابن حبان في (الثقات) وراجع (أنساب ابن السمعاني) الورقة 319 الف، وذلك يدل على أحد أمرين: إما أن تكون تلك الصحيفة مع صحتها في الجملة عن عبد الله بن عمرولم تحفظ كما يجب فوقع العبث بها. وإما أن يكون عمروأو أبوه اوكلاهما كما يدلس عن الصحيفة يدلس عن فير الصحيفة.
فالذي يتحصل أم ما صرح في عمروبالسماع من أبيه، وبسماع أبيه من عبد الله بن عمروفإنها تقوم به الحجة، وما لم يصرح بذلك ففيه وقفة، ولم أر في شيء. من طرق الحديث التصريح بسماع أبيه من عبد الله بن عمرو، فأما سماعه من أبيه فوقع التصريح به في لفظ «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» في رواية ابن إسحاق عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن عمرو، ورواية أبي أسامة عن الوليد بن(2/870)
كثير عن عمرو، إلا أن فيه اضطراب ابن اسحاق وتدليس أبي أسامة مع عدم التصريح بسماع شعيب. وقد قال الشافعي لمن ناظره من الحنفية: «عمرو بن شعيب قد روى أحكاماً توافق أقاويلنا وتخالف أقاويلكم عن الثقات فرددتموها ونسبتموه الى الغلط فأنتم محجوجون، إن كان ممن ثبت حديثه، فأحاديثه التي وافقناها وخالفتموها، اواكثرها، وهي نحوثلاثين حكماً حجة عليكم، وإلا فلا تحاجوا به» .
وبعد اللتيا والتي إن أصبح شيء عن عبد بن عمروفهو «كان ثمن المجن يومئذ عشرة دراهم» فعلى فرض صحته فهو محمول على الجنس كما توضحه أكثر الروايات «كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» وقد مر انه لا حجة بذلك بعد قيام الحجة المحققة ان المجن الذي قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت قيمته ثلاثة دراهم.
فأما الجملة المرفوعة ولفظها فيما نسبه الزيعلي وابن كثير الى (مصنف ابن أبيشيبة)
«لا يقطع السارق في دون ثمن المجن» وفي النسخة التي وقفت عليها من (المصنف) «القطع في ثمن المجن» وفي رواية ابن راهويه عن ابن إدريس عن ابن إسحاق عن عمرو «ما بلغ ثمن المجن ففيه القطع» فقد تقدم أنها قطعة من حديث اللقطة الطويل، كما وقد تقدم رواية ابن إسحاق له عن عمرو. ورواه النسائي من طريق ابن عجلان عن عمرو «عن أبيه عن جده عبد الله بن عمروعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق قال ... .ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثلية والعقوبة، ومن يسرق شيئاً بع أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ... .» ومن طريق ابن وهب «أخبرني عمرو بن الحارث وهشام بن سعد عن عمروابن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمروأن رجلاً من مزينة اتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع الا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد ... .» ومن طريق عبيد الله ابن الاخنس «عن عمرو بن الاشعب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله(2/871)
- صلى الله عليه وسلم - في كم تقطع اليد؟ قال: لا تقطع اليد في ثمرة معلق فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن، ولاتقطع جريسة الجبل، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن» . وأخرجه أبو داود في «اللقطة» من طرق عن عمرو، ويظهر من أن الحديث أطول مما ساقه النسائي. فمدار تلك الجملة المرفوعة على هذا الحديث. ولم أر في شيء من طرقه التصريح بسماع عمرومن أبيه ولا بسماع أبيه من عبد الله ابن عمرو، وقد ذكر البيهقي في (السنن) ج 8 ص 263 حديث رافع بن خديج مرفوعاً «لا قطع في ثمرة ولا كثر» وحديث عمرو بن شعيب هذا فقال ابن التركماني: «ذكر الطحاوي أن الحديث الاول تلقت العلماء متنه بالقبول وأحتجوا به، والحديث الثاني لا يحتجون به ويطعنون في إسناده ولا سيما ما فيه مما يدفعه الاجماع من غرم المثلين» .
أقول: وإنما الطعن في إسناده لمكان عمرو بن شعيب عب أبيه عن جده، فليس للطحاوي أن يحتج بتلك القطعة من الحديث ولا بشيء من هذا رواية عمروعن أبيه عن جده وقد أخرج مالك في (الموطأ) قطعة من الحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي الحسين المكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن أبي حسين إنما سمعه من عمرو بن شعيب كما صرح به مالك في رواية الشافعي عنه كما في (مسنده) بهامش (الام) ج 6 ص 255.
وعلى فرض صحة حديث اللقطة فالمراد بكلمة «المجن» ذاك المجن المعهود الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه بعد أن قطع في المجن جاءه ذلك السائل فاستشعر من سؤاله حرصه على الالتقاط وما يقرب من السرقة أو يكونها، فشدد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكر غرامة المثلين وجلدات النكال، ثم ذكر له القطع وعدل عن أن يقول: «ما بلغ ثلاثة دراهم» أو «ما بلغ ربع دينار» ليتنبه السائل لموضع العبرة، ويعلم أن ذلك أمر مفروغ منه، قد نفذ به الحكم وجرى به العمل، ليكون ذلك أبلغ في المقصود من ردعه. ولمثل هذا كثر في القرآن ترداد التذكير بأيام الله تعالى في الأمم السابقة. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(2/872)
تلا على عتبة بن ربيعة أوائل سورة (فصلت) فلما بلغ «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» بادر عتبة فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وناشده الرحم أن يكف (1) . وكأن عبد الله بن عمرو حفظ هذا ولم يبحث عن قيمة ذاك المجن، ولا بلغه ما يغني عن ذاك فلما سئل بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطر الى الحدس باعتبار الجنس كما تقدم شرحه، وقد علم عبد الله بن عمر بن الخطاب قيمة ذاك المجن على التحقيق، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
قال الطحاوي: «حدثنا فهد قال ثنا محمد بن سعيد ابن الاصبهاني أخبرني معاوية بن هشام عن سفيان عن منصور عم مجاهد وعطاء عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن. قال: وكان يقوم يومئذ ديناراً» .
أقول: هذا بهذا اللفظ من غريب هذا الوجه، وابن الاصبهاني كثير الغلط، (2) وقد قال النسائي في (السنن) : «حدثنا محمود بن غيلان قال: حدثنا معاوية قال:
__________
(1) أخرجه البغوي في «تفسيره» (7 / 327) من طريق الحماني ثنا ابن فضيل عن الأجلح عن الذيال حرملة عن جابر بن عبد الله. وأعله الحافظ ابن كثير فيتفسيره (3197) بلأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي فقال: «وقد ضعف بعض الشيء» . قلت: والذيال هذا ترجمة أبي حاتم (1 / 2 / 45) ولم يذكر فيه جرماً ولا تعديلاً. والحماني هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي قال الحافظ: «صدوق يخطأ» . وسيأتي كلام المصنف فيه ص 110. ن
(2) كذا الأصل وهو سهو من المصنف رحمه الله تعالى، أراد أن يقول: «معاوية بن هشام» فسبقه القلم وقال: «ابن الأصبهاني ... .» ثم لم ينتبه لذلك، فأعاده في الموضع الآخر ص 110 س 5، وجل من لا يسهو امن لا ينسى. أقول هذا لأن ابن الأصبهاني متفق عليه توثيقه، وهو من شيوخ البخاري في «الصحيح» ولم يجرحه أحد البتة، ولذلك قال الحافظ في ترجمته من «التقريب» : «ثقة ثبت» .
... وأما معاوية بن هشام فهو الذي ينطبق عليه قول المصنف: «كثير الغلط» ، وهو أخذ من قول أحمد فيه: «كثير الخطأ» وقول الحافظ: «صدوق له أو هام» فهو علة هذا اللفظ، حفظه عنه ابن الأصبهاني. ن(2/873)
حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد وعطاء (1) عن أيمن قال: لم يقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - السارق إلا في ثمن المجن، وثمن المجن يومئذ دينار» . محمود أثبت جداً من أن ابن الاصبهاني. وأخرجه النسائي من طريق ابن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن أيمن «لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في ثمن المجن وقيمته يومئذ دينار» ومن طريق محمد بن يوسف عن سفيان عن الحكم عن مجاهد عن أيمن مثله. ادخل في هذه الرواية الحكم بين منصور ومجاهد وكذلك رواه الحسن وعلي ابنا صالح عند النسائي، وكذلك رواه أبو عوانة وشليبان عند البخاري في (التاريخ) ج 1 قسم 2 ص27 كلهم عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن أيمن. ورواه جرير عن منصور فلم يذكر الحكم اخرجه النسائي، وكذلك رواه شريك كما ياتي، والمحفوظ ذكر الحكم، والحكم مدلس ولم يصرح بالسماع، وايمن هو ايمن الحبشي كما صرح به في الرواية، ولفظ البخاري في (التاريخ) : قال «قال لنا موسى (بن اسماعيل) عن أبي عوانة - وتابعه شيبان - عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن ايمن الحبشي ... » فاما ان يكون هو ايمن الحبشي والد عبد الواحد كما يدل عليه ما رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن داود: «سمعت عبد الواحد بن ايمن عن أبيه- قال: وكان عطاء ومجاهد قد رويا عن أبيه. ووالد عبد الواحد تابعي لم يدرك الخلفاء الراشدين واما ان يكون آخر لا يعرف.
فإن قيل فقد قال النسائي: «أخبرنا على بن حجر قال أنبأنا شريك عن منصور عن عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن - قال أبو الوليد: رفعه: لا يقطع السارق الا في مجن أو حجفة قيمته دينار» .
__________
(1) في النسخة «عن مجاهد عن عطاء» .(2/874)
قلت: شريك على فضله سئ الحفظ كثير الغلط، ونسبه الدارقطني وعبد الحق الى التدليس، وأيمن بن أم ايمن ليس بجبشي بل هو كما نسبه غير واحد أيمن بي عبيد بن زيد ... أبن عوف بن الخزرج. فهو عربي أنصاري.
فإن قيل: لعله قيل له: الحبشي، لأن أمه حبشية.
قلت: هذا بعيد، ومع ذلك أختلف في أم أيمن، نسبها غير واحد كابن عبد البر في (الاستيعاب) : « ... بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان» . فعلى هذا هي عربية لا حبشية.
فإن قيل: لعل أمها كانت حبشية.
قلت: وما الموجب لهذا التعسف؟! وقد ذكر أهل المغازي وغيرهم أن أيمن أبن أم أيمن أستشهد يوم حنين، وشريك قد تقدم حاله، وقد تفرد بقوله: «أبن أم أيمن» ، ويجوز أن يكون زاد ذلك وهما، أو يكون قال: «أيمن بن أم أيمن» كما يقال: «أحمد أبن أم أحمد، وإن لم تكن كنية أمه أم أحمد، وفي محاورة جرت بين سلمان وحذيفة أن حذيفة قال: يا سلمان أبن أم سلمان. فقال سلمان: يا حذيفة أبن أم حذيفة.
فلهذا الخبر علتان: الأول: قد ليس الحكم. الثانية: أن أيمن تابعي لم يدرك الخلافاء الراشدين، أو غير معروف.
هذا وقد تفرد شريك بقوله: «قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم» وشريك قد تقدم حاله، والائمة الاثبات لا يذكرون ذلك ورواية الطحاوي عن فهد عن أبن الاصبهاني عن سفيان شاذة بل باطلة. وأبن الاصبهاني كثير الغلط جداً (1) .
فإن قيل: فقد قال الطحاوي: «ثنا ابن أبي داود قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني قال: ثنا شريك عن منصور عن عطاء عن أيمن عن أم أيمن قالت: قال
__________
(1) قلت: بل هو ثقة حجة، والعلة من معاوية بن هشام كما بيناه ص 108 ن(2/875)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع السارق إلا في جحفة وقومت يومئذ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم» .
قلت: زاد ابن الحماني ضغتاً على أبالة، وهو متكلم فيه وإن الح ابن معين في توثيقه. وفي كتاب (العلل) لأبن أبي حاتم ج 1 ص 457: «سألت أبي عن حديث رواه الحسن بن صالح ... قال قال أبي: هو مرسل، وارى انه والد عبد الواحد بن ايمن وليست له صحبة.
قلت لأبي: قد روى هذا الحديث يحيى الحماني..؟ قال أبي: هذا خطأ من وجهين:
احدهما: ان اصحاب شريك لم يقولوا: عن ام ايمن ... والوجه الآخر: ان الثقات رووه عن منصور عن الحكم عن مجاهد وعطاء عن ايمن قوله» .فأما المتن في رواية الجماعة ففيه جملتان:
فالأولى: في رواية سفيان: «لم تكن تقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن» . وفي رواية علي بن صالح: «لم تقطع اليد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا في ثمن المجن» . وفي رواية جرير: «لا يقطع السارق الا في ثمن المجن» . وفي رواية الحسن بن صالح وأبي عوانة وشيبان: «يقطع السارق في ثمن المجن» . وسفيان إمام، وعلي ثقة، والباقون جماعة وقد كان أبو نعيم الفضل بن دكين يقول: «ما رأيت أحداً إلا وقد غلط في شيء غير الحسن بن صالح» .
والجملة الثانية: لم تقع في رواية جرير، ولفظة في رواية سفيان: «ثمن المجن يومئذ دينار» .وفي رواية الباقين نحوه إلا الحسن بن صالح فلفظها عنده: «كان ثمن المجن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً أو عشرة دراهم» ، ولعل هذا هو الاصل، فاختصره الجماعة.
وعلى كل حال فهذا من قبيل ما تقدم من اعتبار الجنس، وقد ثبت التحقيق(2/876)
بحديث ابن عمر فسقط الحدس.
قال الطحاوي: «فلما اختلف في قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتيط في ذلك فلم يقطع إلا فيما أجمع أن فيه وفاء بقيمة المجن التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدراً لا يقطع فيما هو أقل منها، وهو عشرة دراهم» .
أقول: قد علمت أنه ليس فيما ذكره الطحاوي ما يصلح دليلاً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أنه لا قطع فيما دون قيمة ذاك المجن، ولا يصلح دليلاً يخالف الحجة الواضحة المحققة أن قيمته ثلاثة دراهم.
ثم قال الطحاوي: «وقد ذهب آخرون الى أنه لا يقطع الا في ربع دينار فصاعداً، واحتجوا على ذلك بما حدثنا يونس أخبرنا به أبن عيينة ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار فصاعداً. قيل لهم: ليس هذا حجة لأن عائشة إنما أخبرت عام قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه» .
أقول: روى ابن شهاب الزهري وجماعة عن عمرة عن عائشة في القطع في ربع دينار واختلفوا، ثم وقع خلاف عن بعض أصحاب الزهري، ثم وقع خلاف يسير عن ابن عيينة في روايته عن الزهري، وهذا الذي ذكر الطحاوي هو رواية يونس بن عبد الاعلى عن ابن عيينة عن الزهري عن عمرة عن عائشة، وهكذا رواه جماعة عن ابن عيينة منهم يحيى بن يحيى عند مسلم، وأحمد في (مسنده) ، وإسحاق وقتية عند النسائي. وخالفهم جماعة عن ابن عيينة. قال ابن حجر في (الفتح) : «أورد الشافعي والحميدي وجماعة عن ابن عيينة بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقطع اليد _ الحديث» . ولفظ الشافعي كما في (مسنده) بهامش (الام) ج 6 ص 254: «أن رسوالله - صلى الله عليه وسلم - قال: القطع في ربع دينار» . ولفظ الحميدي كما ذكره الطحاوي فيما بعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وأخرجه الطحاوي فيما بعد من طريق الحجاج بن منهال عن ابن عيينة ولفظه: «قال(2/877)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السارق إذا سرق ربع دينار قطع» .
ولنجب على قول الطحاوي: ليس هذا بحجة» ثم ننظر في الروايات.
فأما الجواب: فإن أراد أن الحديث بذلك اللفظ ليس بحجة على أنه لا قطع فيما دون ربع دينار، فجوابه مبني على رأي أصحابه في اهدار مفهوم المخالفة ولا شأن لنا به الآن. وإن أراد ليس بحجة على القطع فيما دون عشرة دراهم فقد أبطل. قوله: «يحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه» . قلنا: وعلى هذا الاحتمال يكون حجة.
فإن قيل: قد خالفها غيرها.
قلنا: كلا، لم يخالفها أحد، فقد اتضح بما تقدم أنه لا يثبت مما ذكره الطحاوي غير حديث ابن عمرووهو موافق لهذا الحديث لأن صرف الدينار كان حينئذ أثني عشر درهماً. وقول الحنفية: كان صرفه عشرة دراهم مردود كما بين في محله، وهب أنه كان صرفه في وقت ما عشرة، فذلك لا يدفع أن يكون صرفه في وقت آخر اثني عشر. وهب أن صرفه كان في طول العهد النبوي عشرة دراهم، فالفرق نصف درهم وليس في حديث ابن عمر نفي للقطع فيما دون ثلاثة دراهم. وهب أن عائشة قومت ذاك المجن درهمين ونصفاً فقد اتفقنا على القطع في ثلاثة دراهم لأنه إذا قطع فيما قطع فيها.
وأما الروايات، فالواجب ان يبدأ باستقصاء النظر في الاختلاف عن ابن عيينة عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم بالنظر في رواية غيره عن الزهري، ثم برواية غير الزهري عن عمره. والطحاوي عدل عن هذا، فأخذ احدى الروايتين عن ابن عيينة وهي المخالفة لرواية غيره، وانما بدأ بها الطحاوي ثم قال: «حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب قال: اخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تقطع يد السارق في ربع دينار(2/878)
فصاعداً» (1) ثم قال: «يونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة» ثم ذكر بعض روايات غير الزهري عن عمرة، وانهم اختلفوا، فمنهم من رفعه ومنهم من وقفه، وحاول ترجيح الوقت، ثم عاد فذكر رواية الحميدي والحجاج بن منهال عن ابن عيينة ورواية ابراهيم بن سعد عن الزهري بنحوها ثم قال: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا واختلف على غيره من عمرة على ما وصفنا ارتفع ذلك فلم تجب الحجة بشيء منه اذا كان بعضه بنفي بعضاً» كذا قال حسيبة الله! فلندعه ولنسلك الجادة.
اما الروايتان عن ابن عيينة فقد ترجح رواية الشافعي الحميدي ومن وافقها بأمور:
الأول: ان رواتها عن ابن عيينة ممن سمع منه قديماً وقد جاء عن يحيى القطان «قلت لأبن عيينة: كنت تكتب الحديث وتحدث اليوم وتزيد في اسناده أو تنقص منه. فقال: عليك بالسماع الأول، فإني قد سئمت» كأنه يريد سئم من مراجعة اصوله.
الوجه الثاني: ان من رواتها عن الشافعي والحميدي وكان لهما مزيد اختصاص به، وجاء عن الحميدي انه لزمه سبع عشرة سنة. وقال الأمام أحمد «الحميدي عندنا إمام» وقال أبو حاتم: «هو اثبت الناس في ابن عيينة وهو رئيس اصحابه وهو ثقة إمام» .
الوجه الثالث: ان الحميدي لما روى هذا في مسنده عن ابن عينة ذكر كلام ابن عيينة في الحديث فقال كما ذكره الطحاوي - وقرأته في نسخة من (مسند الحميدي) : «عن سفيان قال: حدثنا اربعة عن عمرة عن عائشة لم ترفعه، عبد الله بن أبي بكر، ورزيق بن حكيم الأيلي، ويحيى، وعبد ربة بن سعيد، والزهري
__________
(1) قلت: هذا أخرجه مسلم أيضاً في «صحيحه» (5 / 112) من طرق أخرى قالوا: حدثنا ابن وهب به مرفوعاً بلفظ: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» .(2/879)
أحفظهم كلهم، إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: «ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار فصاعداً» . فهذا يدل ان ابن عيينة لما حدث الحميدي اعتنى بالحديث واحتفل له وذلك احرى ان يتحرى التحقيق في روايته ولعله راجع اصل كتابه.
الوجه الرابع: أن الذين رووه عن الزهري غير ابن عيينة رووه بلفظ الحميدي عن ابن عيينة عن الزهري اومعناه.
الوجه الخامس: أن الذين رووه عن عمرة غير الزهري، رواه اكثرهم بلفظ الحميدي أو معناه أيضاً.
الوجه السادس: أن في (الصحيحين) من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ادنى من ثمن المجن ترس اوحجفة وكان كل واحد منهما ذا ثمن» (1) فقولها: «ترس أو حجفة» يدل أنها لم تعرفه، واذا لم تعرفه لا يمكنها ان تقومه.
وقولها: «وكان كل واحد منهما ذا ثمن» ظاهر في أنها لم تعرف ثمن ذاك المجن والا لبينته لتتم الفائدة المقصودة.
فإن قيل لا يلزم من عدم معرفتها بقيمة ذاك المجن أن لا تعرف قيمته غيره مما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد قطع النبي صلى الله عليه وسلم سارق رداء صفوان وكان ثمنه ثلاثين درهماً، وقطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي وتجحده. وهاتان الواقعتان ليس فيها ربع دينار فكيف تأخذ عائشة منهما أو من احدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار.
__________
(1) قلت ورد حديث عائشة بلفظين آخرين، حقق المصنف أنهما شاذان. وذلك في آخر هذهالمسألة ص (138) . ن(2/880)
فإن قيل لعلها اخذت ذلك من واقعة اخرى غير هذه الثلاث.
قلت: لا يعرف ذلك، ولو كان ذاك عندها لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها، بل كانت تذكر ذاك الشيء الآخر الذي عرفت قيمته فذلك اوفى بمقصودها من ذكر ما لم تعرف ولا عرفت قيمته.
فإن قيل قد قال النسائي: «اخبرنا قتيبة ثنا جعفر بن سليمان عن حفص بن حسان عن الزهري عن عروة عن عائشة، قطع النبي صلى الله عليه وسلم في ربع دينار»
قلت: جعفر فيه كلام، وحفص مجهول.
فإن قيل، فقد يعكس عليك الأمر فيقال، لو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» اونحوه لما احتاجت ان تقول ما رواه هشام عن أبيه عنها.
قلت: هناك مسألتان:
الأولى: هل يقطع في ربع دينار؟
الثانية: هل يقطع فيما دون ذلك؟
فحديثها مرفوعاً «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» يدل علىالمسألة الأولى بمنطوقة، ولا يدل على الثانية الا بمفهوم المخالفة، فكأنها لما أرادت الإحتجاج على أنه لا يقطع في الشيء التافه، استضعفت ان تخصص القرآن بمفهوم المخالفة، فلم تحتج بهذا الحديث وعدلت الى ما رواه هشام عن أبيه عنها وكأنها كانت تجوز أن تكون قيمة ذاك المجن كانت أقل من ربع دينار، فأخبرت بما عندها، وهو أنه أقل ما يقطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتركت النظر لغيرها.
فإن قيل فقد جاء في بعض روايات حديث عمرة عنها ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقطع اليد الا في ربع دينار فصاعداً» وهذا واضح الدلالة على(2/881)
المسألة الثانية.
قلت: هذا اللفظ مرجوح، والمحفوظ «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» اما في معناه كما يأتي بيانه ان شاء الله، وكأن من روى بلفظ: «لا تقطع ... » انما روى بالمعنى فصرح بمقتضى مفهوم المخالفة اذ تقرر هذا فلوصح عنها انها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع اليد في ربع دينار» لوجب حمله على انها انما اخذته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» بناء على ان من شأنه - صلى الله عليه وسلم - ان يوافق فعله قوله، فإذا قال، «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» علم منه انه كان اذا رفع اليه في سرقة ربع دينار قطع، فإن لم يقع القطع بالفعل لعدم الرفع فهو واقع بالقوة.
والحق ان ذاك اللفظ «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع فير ربع دينار فصاعداً» لا يثبت عن عائشة، ولكن يمكن ان تكون تلك حال ابن عيينة سمع الحديث بلفظ «) تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً) فرواه تارة كذلك وذلك حين اعتنى بالحديث عنه تحديثه للحميدي كما مر، وتارة بلفظ «القطع في ربع دينار» ، وتارة «السارق اذا سرق ربع دينار قطع» وتارة: «قالت عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار فصاعداً» والثلاثة الأخيرة كلها من باب الرواية بالمعنى، اما الثاني والثالث فظاهر، واما الرابع فلما استقر في نفس ابن عيينة ان النبي - صلى الله عليه وسلم - اذا قال شيئاً فقد عمل به اوكأنه قد عمل به، وقد ذكر الطحاوي في (مشكل الآثار) ج 2 ص 270 حديثاً من طريق شجاع بن الوليد عن ابن شبرمة بسنده: قال رجل يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك - ثلاث مرات. قال: ثم من؟ قال أبوك. ثم رواه من طريق ابن عيينة وفيه ذكر كلام الأم مرتين فقط ثم قال الطحاوي: «قد يحتمل أن يكون ابن عيينة ذهب عنه في ذلك ما حفظه شجاع لأن ابن عيينة كان يحدث من كتابه» وعَبَّرَ صاحب (لمعتصر) (ج 2 ص(2/882)
286) (1) بعبارة منكرة. وفي (المعتصر) ج 2 ص205 في الكلام على حديث «أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب» أن ابن عيينة روى «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» ثم قال في (المعتصر) : «ففيه غلط من ابن عيينة لأنه كان يحدث من حفظه فيحتمل أن يكون جعل مكان اليهود والنصارى المشركين إذ لم يكن عنده من الفقه ما يميز بين ذلك» كذا في (المعتصر) وقوله: إذ لم يكن ... .» عبارة بشعة لا أرى الطحاوي يتفوه بها، وإنما هي من تغيير المختصر الذي ليس عنده من العلم ما يعرف به مقام ابن عيينة كما فعل ابن عيينة كما فعل المختصر في المرضع السابق. والمقصود إنما هو ابن عيينة كان كثيراً ما يروي من حفظه ويروي بالمعنى. هذا وصنيع مسلم في (صحيحه) يقتضي أنه لا فرق في المعنى، فإنه صرح أولاً بلفظ ابن عيينة الأول: «قالت عائشة كان رسول الله ... » ثم ساق الإسناد عن معمر وإبراهيم ابن سعد وسليمان بن كثير وقال: «كلهم الزهري بمثله» مع أن لفظ معمر وإبراهيم كلفظ الحميدي عن ابن عيينة ولفظ سليمان الشافعي عن ابن عيينة.
أما البخاري فأعرض عن رواية ابن عيينة البتة كأنه يقول: أختلفت الرواية عنه، وفي رواية غير الكفاية. والحق أن رواية الحميدي ومن وافقه هي أرجح الروايتين عن ابن عيينة وأنه لو لم يعرف أرجح بصرف النظر عن رواية غيره فإنه يعرف بالنظر في رواية عيره فنقول مثلاً: يونس وابن عيينة من جانب، وابن عيينة وحده من جانب أيهما أرجح؟ على أن مع يونس جماعة كما يأتي. وفي (فتح الباري) : «وأما نقل الطحاوي عن المحدثين أنهم يقدمون ابن عيينة في الزهري على يونس، فليس متفقاً عليه عندهم، بل أكثرهم على العكس، وممن جزم بتقديم يونس على سفيان في الزهري يحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري، وذكر أن يونس صحب الزهري أربع عشرة سنة وكان يزامله في السفر وينزل عليه الزهري إذا قدم أيلة، وكان يذكر أنه كان يسمع الحديث الواحد من الزهري مراراً،
__________
(1) طبعة ثانية.(2/883)
وأما ابن عيينة فإنما سمع منه سنة ثلاثة وعشرون ومائة، ورجع الزهري فمات في التي بعدها» .
أقول: أما الحفظ فابن عيينة أحفظ، وأضبط بلا شك ولا سيما فيما رواه قديما إلا أنه كثير الرواية بالمعنى، ويونس دونه في الحفظ ولكن كتابه صحيح كما شهد له ابن المبارك وابن مهدي. وعلى كل حال فلا معنى للموازنة بينهما هنا، ولكن الطحاوي لأمر ما ذكر رواية ابن عيينة المرجوحة وعقبها برواية يونس، ونصب الخلاف بينهما. وقد علمت ان الواقع رواية ابن عيينة المرجوحة من جانب وروايته الراجحة ويونس من جانب، فأي معى للموازنة بين الرجلين؟
أما بقية الرواة عن الزهري فجماعة:
الأول: يونس بن يزيد. تقدمت رواية الطحاوي عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن مهب عنه، وبنحوه رواه البخاري في (الصحيح) عن ابن أبي أويس عن ابن وهب، وكذلك رواه عن ابن وهب الحارث بن مسكين عند النسائي، وابن السرح ووهب بن بيان وأحمد بن صالح عند أبي داود، ورواه مسلم عن حرملة والوليد بن شجاع عن ابن وهب وقالا في المتن: «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» وهذه رواية بالمعنى بالتصريح بمفهوم المخالفة، والاولون أكثر وأثبت. وأخرج الامام أحمد (المسند) ج 6 ص 311 عن عتاب، وأخرج النسائي عن حبان بن موسى كلاهما عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعاً: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . وهذا أثبت مما تقدم لأن أبن المبارك أثبت من ابن وهب وكان يقول: كتاب يونس صحيح. وكان من عادة ابن المبارك تتبع أصول شيوخه، فالظاهر أنه أخذ هذا عن يونس من أصل كتابه، ويشد لذلك أنه لم يذكر عروة، وبقية الرواية عن الزهري غير يونس في رواية ابن وهب لا يذكرون عروة، وحديث عروة عن عائشة ليس بهذا اللفظ، وفي (الفتح) : «يحتمل أن يكون لفظ عروة هو الذي حفظه هشام عنه وحمل يونس حديث عروة على حديث عمرة فساقه على لفظ عمرة، وهذا يقع لهم كثيراً» .(2/884)
أقول: إنما يتصرف يونس هذا التصرف إذا حدث من حفظه أو من فرع خرجه من أصوله، فأما إذا حدث من أصله فإنما يكون على الوجه. فبان بهذا أن ابن المبارك أخذ الحديث عن يونس من أصل كتابه، ولقوة هذه الرواية ذكرها الامام أحمد عقب رواية ابن عيينة كأنه يشير الى أن رواية يونس هذه هي الصواب.
الثاني: إبراهيم بن سعد عند البخاري في (الصحيح) عن القعنبي عن إبراهيم بمثل رواية ابن المبارك عن يونس. وكذلك ذكره الطحاوي «ثنا ربيع المؤذن ثنا أسد ثنا إبراهيم، وأخرجه مسلم في (الصحيح) عن أبي بكر بن أبي شيبة «ثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان ابن كثير وإبراهيم ... » ولم يسق المتن. وفي (مصنف ابن أبي شيبة) : «القطع في ربع دينار فصاعداً» وهذا لفظ سليمان.
الثالث: سليمان بن كثير تقدمت روايته قريباً.
الرابع والخامس والسادس: قال البخاري في (الصحيح) عقب رواية إبراهيم «وتابعه عبد الرحمن بن خالد وابن أخي الزهري ومعمر» وفي (الفتح) : «أما متابعة عبد الرحمن.. فوصلها الذهلي في (الزهريات) عن عبد الله بن صالح عن الليث عنه نحورواية إبراهيم ... . وأما متابعة ابن أخي الزهري ... فوصلها أبو عوانة في (صحيحه) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن أخي شهاب عن عمه ... . وأما متابعة معمر فوصلها أحمد عن عبد الرزاق عنه. وأخرجه مسلم من رواية عبد الرزاق لكن لم يسق لفظه، وساقه النسائي ولفظه: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً، ووصلها هو أيضاً وأبو عوانة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن معمر. وقال أبو عوانة في آخره: قال سعيد نبَّلنا معمراً، رويناه عنه وهو شاب ... . وسعيد أكبر من معمر وقد شاركه في كثير من شيوخه. رواه ابن المبارك عن معمر لكن لم يرفعه، أخرجه النسائي» .
أقول: رواية أحمد في (المسند) ج 6 ص 163، ورواية مسلم هي عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد عن عبد الرزاق، ورواية النسائي هي عن إسحاق(2/885)
عن عبد الرزاق، وكذلك أخرجه البيهقي في (السنن) ج 8 ص 254 من طريق أحمد بن يوسف السلمي عن عبد الرزاق. ورواية سعيد بن أبي عروبة عند النسائي هي عن عبد الوهاب الخفاف عنه، وقد عدوا عبد الوهاب من أثبت الناس عن أبي عروبة، لكن ذكر بعضهم أنه سمع من قبل الاختلاط وبعده، وهذا لا يضر هنا فإن قول سعيد «نبَّلنا معمراً، رويناه عنه وهو شاب» يقضي بأن سعيدا روى هذا قديماً، فإن معمراً ولد سنة ست أو سبع وتسعين، وسعيد بدأ به الاختلاط أواخر سنة 143، واشتد به قليلاً سنة 145 واستحكم سنة 148. هذا هو الجامع بين الحكايات المتصلة في ذلك فأما المنقطعة فلا عبرة بها. فأما رواية ابن المبارك فهي عند النسائي عن سويد بن نصر عنه، وسويد مات سنة 240 وعمره 91 سنة فقد أدركه الشيخان ولكنهما لم يخرجا عنه في (الصحيح) وإنما روى له النسائي والترمذي ووثقه النسائي ومسلمة ابن قاسم وقال ابن حبان: «كان متقناً» فالله أعلم. وقد روى النسائي عنه ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت: يقطع في ربع دينار فصاعداً. وأثبت الروايات عن يحيى ما رواه مالك وابن عيينة عنه عن عمرة عن عائشة: «ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار فصاعداً» . فإن لم يكن وهو في روايته عن ابن المبارك عن معمر فالتقصير من معمر. وقد قال الامام أحمد: «حديث عبد الرزاق عن معمر أحب الي من حديث هؤلاء البصريين (عن معمر) ، كان (معمر) ، يتعاهد كتبه وينظر فيها باليمن (حيث سمع منه عبد الرزاق) ، وكان يحدثهم حفظاً بالبصرة» . وسعيد بن أبي عروبة أقدم سماعاً، فإن لم يكن الوهم من سويد فكأن معمراً حدث بالحديث مرة من حفظه حيث سمع منه ابن المبارك فشك في الرفع فقصر به كما كان يقع مثل هذا لحماد بن زيد. وقد حدث به معمر قبل ذلك حيث سمع من ابن أبي عروبة فرفعه وحدث به باليمن حيث كان يتعاهد كتبه فرفعه، والإمام أحمد إنما سمع عن(2/886)
عبد الرزاق من أصوله كما تراه في ترجمة عبد الرزاق من (التهذيب) .
السابع: زمعة بن صالح. في (مسند أبي داود الطيالسي) ص 220 «حدثنا زمعة عن الزهري عن عمرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» .
فهؤلاء سبعة رووه عن الزهري كما رواه الحميدي والشافعي وغيرهما عن ابن عيينة الزهري، وإنما هناك اختلاف على ابن عيينة ومعمر، وأرجح الروايتين عن كل منهما هي الموافقة للباقين. وهب أن الاختلاف عنهما ضارُّ فبروايتهما فقط، ويثبت الحديث برواية الباقين وليس وراء ذلك إلا اختلاف يسير في الألفاظ مع اتحاد في المعنى، فليس في حديث الزهري ما يسوغ أن يسمى اضطراباً، فضلاً عن أن يكون اضطراباً مسقطاً كما زعم الطحاوي بقلة مبالاة، مع تشبثه بحديث ابن إسحاق الذي تقدم حاله!
وأما بقية الرواة عن عمرة فجماعة:
الأول: ابن ابن أخيها محمد بن عبد الرحمن عبد الله بن الرحمن بن سعدة بن زرارة الأنصاري. قال البخاري في (الصحيح) : حدثنا عمران بن ميسرة ثنا عبد الوارث حدثنا الحسين (المعلم) عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن حدثه أن عائشة حدثتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تقطع اليد في ربع دينار» .
ورواه عن عبد الوارث أيضاً أبنه عبد الصمد وصرح بسماع يحيى بن أبي كثير، ورواه عن يحيى أيضاً حرب بن شداد وهمام بن يحيى كما في (الفتح) عن الإسماعيلي، ورواية حرب في (مسند أحمد) ج 6 ص 252 وكذلك رواه هقل بن زياد عن يحيى كما في (الفتح) عن (مسند أبي يعلى) . وقال النسائي «أنا حميد بن مسعدة ثنا عبد الوارث ثنا حسين يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري ثن ذكر كلمة معناها عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار» . لم يتقن حميد بدليل قوله: فذكر كلمة معناها» والصواب «تقطع اليد في ربع دينار» كما مر.(2/887)
وروى النسائي من طريق إبراهيم بن عبد الملك أبي إسماعيل القناد عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عمرة عن عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع اليد في ربع دينار. والقناد ليس بعمدة، وذكر الساجي أن ابن معين ضعفه. وقال العقيلي: «يهم في الحديث» وقال ابن حبان في (الثقات) «يخطئ» فقد وهم في السند بقوله: «بن ثوبان» ووهم في المتن كما رأيت.
الثاني: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رواه عنه جماعة، منهم يزيد بن الهاد عند مسلم في (صحيحه) من وجهين، وعند الطحاوي من وجهين آخرين، ومنهم عبد الرحمن بن سلمان عند النسائي، ومنهم ابن إسحاق عند الطحاوي والبيهقي، وقال في المتن المرفوع «لا تقطع اليد إلا في ربع دينار» وفي رواية البيهقي ج 8 ص 255 من طريق ابن إسحاق عن أبي بكر «أتيت بنبطي قد سرق فبعثت إلي عمرة بنت عبد الرحمن أي بني إن لم يكن بلغ ربع دينار فلا تقطعه فإن عائشة حدثتني أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يقطع في دون ربع دينار» وفي (مسند أحمد) ج 6 ص 80 و (سنن البيهقي) ج 8 ص 255 من طريق محمد بن راشد عن يحيى بن يحيى الغساني قال: «قدمت المدينة فلقيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل على المدينة فقال: أتيت بسارق (زاد البيهقي: من أهل بلادكم حوراني قد سرقة سرقة يسيرة. قال) فأرسلت إلي خالتي عمرة بنت عبد الرحمن أن لا تعجل ... قال: فأتتني فأخبرتني أنها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقطعوا في ربع الدينار ولاتقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» .
الأثبت عن عمرة لفظ (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) وقد دل حديث عروة كما تقدم على أن هذا هو اللفظ الذي كان عند عائشة، فما وقع في هذه الرواية (تقطع اليد إلا ... ) ونحوه من الرواية بالمعنى. والمقتضى لذلك هنا والله أعلم أن الحديث يدل على حكمين:
الأول: اثبات القطع في ربع دينار.(2/888)
الثاني: نفي القطع فيما دون ذلك.
فإذا كان الاول هو الاهم فحقه أن يقال مثلا ً: (تقطع اليد في ربع دينار) . وإذا كان الثاني هو الاهم فحقه أن يقال مثلاً: (لا تقطع اليد إلا في ربع دينار) . وإذا كانا سواء جمع بين اللفظين فلما كان الاهم في الواقعة التي ذكرها أبو بكر هو الحكم الثاني وقع التعبير لما يوافقه. والاشبه أن التصرف من أبي بكر، سمع الحديث في صدد بيان الحكم الثاني.
فثبت في ذهنه بالمعنى المقتضي للفظ الثاني فعبر بذلك، ثم كأنه أستشعر حيث أخبر النسائي أن أصل لفظ عمرة يقتضي المعنيين على السواء فجمع بين اللفظين، وأنما كان لفظ الحديث يقتضي أهمية الاول، والمقام يقتضي أهمية الثاني فتدبر.
الثالث: سليمان بن يسار. أخرجه مسلم في (الصحيح) من طريق ابن ووهب مخرمة ابن بكير بن الاشج «عن أبيه عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً» . وأخرجه الطحاوي عن يونس عن ابن وهب مثله إلا أنه قال «يد السارق»
قال الطحاوي: أنتم تزعمون أن مخرمة لم يسمع من أبيه. حدثنا ابن أبي داود قال: ثنا ابن أبي مريم عن خاله موسى ابن أبي سلمة قال سألت مخرمة بن بكير: هل سمعت من أبيك شيئاً؟ فقال: لا» .
اقول: قال ابوداود: «لم يسمع من أبيه الا حديثاً واحداً وهو حديث الوتر» فقد سمع من أبيه في الجملة، فان كان ابوه اذن له ان يروي ما في كتابه ثبت الإتصال والا فهي وجادة، فان ثبت صحة ذاك الكتاب قوي الأمر، ويدل على صحة الكتاب ان مالكاً كان يعتد به، قال أحمد: «اخذ مالك كتاب مخرمة فكل شيء يقول: بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة عن أبيه عن سليمان» . وربما يروي مالك عن الثقة عنده عن بكير بن الأشج. وقد قال ابوحاتم: «سالت اسماعيل بن أبي اويس قلت: هذا هو الذي يقول مالك: حدثني الثقة - من هو؟(2/889)
قال: مخرمة بن بكير» .
واخرج النسائي من طريق ابن اسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عمرة انها سمعت عائشة تقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقطع اليد الا في ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار» . ومن طريق مخرمة عن أبيه «سمعت عثمان بن الوليد الأخنسي يقول، سمعت عروة بن الزبير يقول: كانت عائشة تحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: لا تقطع اليد الا في المجن اوثمنه، وزعم ان عروة قال: المجن اربعة دراهم. وسمعت سليمان بن يسار يزعم انه سمع عمرة تقول: سمعت عائشة تحدث أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه» .
أقول: ابن إسحاق في حفظه شيء ويدلس، وكأنه اومن فوقه سمع الحديث كما ذكره مخرمة عن أبيه فخلط الحديثين، والصواب حديث مخرمة، فذكر المجن إنما هو من رواية بكير عن عثمان بن الوليد عن عروة، ورواية سليمان لا ذكر فيها للمجن، وعثمان بن الوليد ذكره ابن حبان في (الثقات) وذاك لا يخرجه عن جهالة الحال لما عرف من قاعدة ابن حبان لكن إن صحت رواية بكير بن الأشج عنه فإنها تقويه، فقد قال أحمد بن صالح: «إذا رأيت بكير بن عبد الله (بن الأشج) روى عن رجل فلا تسأل عنه فهو الثقة الذي لا شك فيه» . وهذه العبارة تحتمل وجهين:
الأول: أن يكون المراد بقوله: «فلا تسأل عنه» . أي: عن ذاك المروي. أي: لا تلتمس لبيكير متابعاً فإنه أي بكيراً الثقة الذي لا شك فيه ولا يحتاج الى متابع.
الوجه الثاني: أن يكون المراد فلا تسأل عن ذاك الرجل فأنه الثقة. يعني أن بكيراً لا يروي إلا عن ثقة لا شك فيه. والله أعلم.
وعلى كل حال فالصواب من حديث عروة ما في (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «لم تقطع يد سارق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى(2/890)
من ثمن المجن ترس أو حجفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن» .
الرابع: أبو الرجال وهو محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان. قال النسائي: «أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن، ابن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقطع يد السارق في ثمن المجن، وثمن المجن ربع دينار» . ذكر ابن حجر هذه الرواية في (الفتح) بقوله: «أخرجه النسائي من رواية عبد الرحمن بن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة» كذا وقع في النسخة والصواب إسقاط كلمة «عن» الواقعة قبل «محمد» .
هذا وأبوالرجال ثقة عندهم وعمرة أمه، وأبينه عبد الرحمن وثقة أحمد أبن معين وغيرهما، لكن لينة أبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود.
وقال ابن حبان في (الثقات) : «ربما أخطأ» ، وأراه خلط حديثين فإنه لا يعرف عن عمرة ذكر المجن. وقد دل حديث (الصحيحين) عن عروة أن عائشة لم تكن تحق ثمن المجن كما تقدم شرحه.
الخامس والسادس والسابع. قال الطحاوي: «حدثنا علي بن شيبة قال: ثنا عبد الله ابن صالح. قال: ثنى يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة عن العلاء بن الأسود بن جارية ويقال: الأسود ابن العلاء بن جارية) وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خميس أنهم تنازعوا في القطع، فدخلوا على عمرة يسألونها فقالت: قالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع إلا في ربع دينار» .
قال الطحاوي: «أما أبوسلمة فلا نعلم لجعفر بن ربيعة عنه سماعاً، ولا نعلمه لقيه أصلاً» .
أقول: ذكروا أن جعفر بن ربيعة رأى عبد الله بن الحارث بن جزء، وعبد الله توفى سنة 86 على الراجح. وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقيل بعدها(2/891)
بسنتين فيشبه أن يكون مولد جعفر نحوسنة 75. وقد أختلف في وفاة أبي سلمة وقيل سنة 94 وقيل سنة 104 فاللقاء ممكن. والله أعلم.
وكان في المدينة ربيعة الرأي الفقيه وكان قوله: القطع فيما يبلغ درهماً فكأن هذا هو الباعث على ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الحديث بلفظ «لا تقطع اليد ... » أو نحوه ذلك كما وقع في رواية سليمان بن يسار وغيرها.
الثامن: أبوالنضر فيما رواه ابن لهيعة «ثنا أبوالنضر عن عمرة عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن فما فوقه. قالت عمرة بنت عبد الرحمن: فقلت لعائشة: ما ثمن المجن يومئذ؟ قالت: ربع دينار» . أخرجه البيهقي ج 8 ص 256 وابن لهيعة ضعيف.
التاسع: يحيى بن يخيى الغساني فيما أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) ص 3 وص 89 عن أحمد بن أنس بن مالك الدمشقي المقري وعن خالد بن أبي روح الدمشقي كل منهما عن إبراهيم بن هاشم بن يحيى بن يحيى الغساني عن أبيه عن جده عن عمرة عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «القطع في ربع دينار فصاعداً» . قال الطبراني: «لم يروه عن يحيى بن يحيى إلا ولده» ، زاد في الموضع الثاني «وهم ثقات» . وإبراهيم بن هاشم ذكره أبن حبان في (الثقات) وأخرج له في (صحيحه) ، لكن طعن فيه أبو حاتم وذكر قصة تدل على أن إبراهيم كان به غفلة. والله أعلم.
العاشر: يحيى بن سعيد الانصاري. وهو من أجل من كثير من الذين تقدموا، وإنما أخرته لأن بعضهم نسب رواة هذا الحديث عنه الى الخطأ كما يأتي. قال النسائي: «أخبرنا الحسن بن محمد (بن الصباح الزعفراني) قال: حدثنا عبد الوهاب (بن عطاء) عن سعيد (بن أبي عروبة) عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» .أخبرني يزيد بن محمد بن فضيل قال: أنبأنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا أبان قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن(2/892)
عمرة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . وقال الطحاوي: «حدثنا محمد بن خزيمة ثنا مسلم بن إبراهيم ... » فساقه مثله.
الحسن ثقة من رجال البخاري، وعبد الوهاب من رجال مسلم، وثقة جماعة مطلقاً ولينة آخرون، وقدموه في روايته عن سعيد، قال الأمام أحمد: «كان عالماً بسعيد» . وسأل ابوداود عنه وعن السهمي في حديث ابن أبي عروبة؟ فقال: عبد الوهاب اقدم. فقيل له: عبد الوهاب سمع زمن الاختلاط (يعني اختلاط سعيد) فقال: من قال هذا؟ ! سمعت أحمد يقول: عبد الوهاب اقدم» . وقال ابن سعد: «لزم سعيد ابن أبي عروبة، وعرف بصحبته، وكتب كتبه ... » . وقال البخاري: «يكتب حديثه» قيل له: يحتج به؟ قال: «ارجوا إلا انه كان يدلس عن ثور واقوام احاديث مناكير» . وسعيد ثقة جليل إلا انه اختلط بأخرة، وسماع عبد الوهاب منه قديم.
وأما السند الثاني فشيخ النسائي لم يوثق ولكن قد تابعه محمد بن خزيمة كما رأيت، ومسلم ثقة متفق عليه. وأبان من رجال مسلم. واخرج له البخاري في (الصحيح) بلفظ: «قال لنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان ... » وبالجملة فمجموع السندين صالح للحجة حتماً. لكن اعله بعضهم بأن مالكاً وابن عيينة رويا عن يحيى عن عمرة: قالت عائشة: «ما نسيت ولا طال علي، القطع في ربع دينار» وبنحوه رواه جماعة عن يحيى، وروى أخوه عبد ربه وعبد الله بن أبي بكر ورزيق بن حكيم عن عمرة: قالت عائشة: «القطع في ربع دينار» . بل حاول الطحاوي إعلال من أصله، وأجاب البيهقي وغيره بأنه لا منافاة بين أن يكون الحديث عند عائشة فتخبر به تارة وتستفتى فتفتي بمضمونه أخرى. وفي (الموطأ) عن عبد الله ابن أبي بكر عن عمرة قالت: «خرجت عائشة ... إلى مكة ومعها مولاتان لها ... فسئل العبد عن ذلك فأعترف، فأمرت به عائشة ... فقطعت يده وقالت عائشة: القطع في ربع دينار فصاعداً ويؤيد الجمع أن لفظ المرفوع في أثبت الطرق وأكثرها: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» . ولفظ الموقوف في جميع طرقه إلا ما شذ: «القطع في(2/893)
ربع دينار فصاعداً» وزاد يحيى قبله: «ما طال علي ولا نسيت» .
والمدار في هذا الباب على غلبة الظن، ولا ريب أن من تدبر الروايات غلب على ظنه غلبة واضحة صحة كل من الخبرين وأنه لا تعارض بينهما، وعلم أن الحمل على الخطأ بعيد جداً. هذا وقد قال أبن التركماني: «قال الطحاوي: حدثني غير واحد من أصحابنا من أهل العلم عن أحمد بن شيبان الرملي ثنا مؤمل بن إسماعيل الرملي (كذا) عن حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت: يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب: وحدث يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه، فقال له عبد الرحمن: أنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه» . وبمثل هذا السند لا يثبت هذا الخبر عن حماد بن زيد (1) لكن يظهر أن له أصلاً، فقد تقدم رواية سعيد بن أبي عروبة وأبان بن يزيد عن يحيى عن عمرة عن عائشة مرفوعاً باللفظ الذي رواه الإثبات الذيثن رفعوا الحديث «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً» . وروى مالك وابن عيينة عن يحيى عن عمرة ان عائشة قالت: ما طال علي ولا نسيت، القطع في ربع دينار. وقوله: «القطع في ربع دينار» هو اللفظ الذي رواه الواقفون فهذا يدل انه كان عند يحيى كلا الخبرين، فكان يحدث بالمرفوع فأنكر عليه بعض من لم يسمعه وسمع الموقوف، فأعرض يحيى عن رواية المرفوع صوناً لنفسه عن ان يتهمه من لا يعلم حقيقة الحال بالإصرار على الخطأ.
هذا، وقد ذكر ابن عيينة رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربة ورزيق (2) ثم قال: «إلا أن في حديث يحيى ما قد دل على الرفع: ما نسيت ولا طال علي، القطع
__________
(1) قلت: يعني لأن مؤمل بن إسماعيل سيء الحفظ كما سبق في ترجمته من الكتاب برقم (252) وهو بصري نزيل مكة، فالظاهر أن الذي عند الطحاوي (الرملي) صوابه: (الملكي) . والله أعلم. ن
(2) بالراء ثم الزاي مصغراً، ويقال فيه بتقديم الزاي، وهكذا وقع عند الطحاوي وقد اخرجه (2 / 94) من طريق الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة، وقد مضى بالكتاب قريباً ص 113. ن(2/894)
في ربع دينار» . اعترف به الطحاوي بقوله: «قد يجوز أن يكون معناها في ذلك ما طال علي ولا نسيت ما قطع فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما كانت قيمته عندها ربع دينار» .
أقول: قد مر دفع الاحتمال وبيان أنه لا يعرف فيما قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم ما هو قليل إلا المجن، وقد دل حديث (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على أنها لم تكن تعرف المجن ولا قيمته. وبهذا يتبين أن رواية عبد الله بن أبي بكر وعبد ربة ورزيق تدل أيضاً على الرفع، فإن التقدير بربع دينار ليس مما يقال بالرأي، ولا يعرف ما تأخذ عائشة منه ذلك إلا ما ثبت عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ثم جعجع الطحاوي بما علم رده مما تقدم ثم قال: «فلما اضطرب حديث الزهري على ما ذكرنا، وأختلف على غيره عن عمرة كما وصفنا، أرتفع ذلك كله فلم تجب الحجة بشيء منه إذا كان بعضه ينقض بعضاً» .
كذا قال، وقد أقمنا الحجة الواضحة على انه لا اضطراب ولا تناقض (1) ثم
__________
(1) قلت، ومما يسهل على القارئ المنصف تبين سقوط كلام الطحاوي أنه لو سلمنا جدلاً بصحة ما ادعاه من الاضطراب في الحديث فهي محصورة في الطرق التي ساقها هو إلى الزهري، ومن تابعه في روايته عن عمرة، ولكن الطحاوي لم يستوعب الطرق كلها أو جلها إليه وإليها. كما فعل المصنف جزاه الله خيراً فقد ذكر متابعة عشرة من الثقاة للزهري عن عمرة عن عائشة. وكلهم أتفقوا على رفعه، إلا يحيى بن سعيد في إحدى الروايات عنه، وهي في حقيقتها لا تخالف الروايات الأخرى المرفوعة، وهب أن الرواية عند يحيى مضطرية أيضاً، ففي الروايات التسع ما يكفي ويشفي، وكلها متفقة على الرفع، وبأقل من ذلك يثبت الرفع كما لا يخفى على المصنف، وهي وإن اختلفت في ضبط الكتن، هل هو: «تقطع اليد ... » أو «لا تقطع ... » والمؤلف رجح الأول، وقد يمكن ترجيح الآخر بقاعدة «زيادة الثقة مقبولة» ، وسواء كان هذا أو ذاك، فالحجة في الحديث قائمة على أن اليد تقطع في ربع دينار، وذلك ما لا يقوله الطحاوي تبعاً لمذهبه. والله المستعان. ن.(2/895)
قال: «ورجعنا إلى أن الله عز وجل قال في كتابه: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» فأجمعوا أن الله عز وجل لم يعن بذلك كل سارق وإنما عنى به خاصة ... فلا يدخل إلا ما قد أجمعوا أن الله تعالى عناه، وقد أجمعوا أن الله تعالى عنى سارق العشرة الدراهم» .
أقول: عليه في هذا أمور:
الأول: دعواه الإجماع غير مقبولة وفي (الفتح) في تعداد المذاهب: «الأول يقطع في كل قليل وكثير تافهاً كان أو غير تافه، نقل عن أهل الظاهر والخوارج ونقل عن الحسن البصري، وبه قال أبو عبد الرحمن أبن بنت الشافعي ... . الثالث مثل الأول إلا إن كان المسروق شيئاً تافهاً لحديث عروة الماضي. لم يكن القطع في شيء من التافه، ولأن عثمان قطع في فخارة خسيسة وقال لمن يسرق السياط لئن عدتم لأقطعن فيه، وقطع أبن الزبير في نعلين. أخرجها أبن أبي شيبة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه في مد أو مدين. الرابع: تقطع في درهم فصاعداً وهو قول عثمان البتي ... من فقهاء البصرة وربيعة من فقهاء المدينة ... » .
وأقول لا أرى هذه المذاهب الثلاثة إلا متفقة على إبقاء الآية على عمومها، وإنما المدار على تحقق أسم «السارق» فإنه لا ريب أن عمومها إنما يتناول من يحق عليه أسم «السارق» وهذا لازم للمذهب الأول، إذ يمتنع أن يقول عالم أن من أخذ حبه بر مثلاً حق عليه أسم «السارق» . وأما المذهب الثالث فلعل قائله نحا هذا المنحي أي أن الشيء التافه الذي لا يتبين أنه يحق على آخذه أسم «السارق» لا يتبين دخوله في الآية، والقطع إنما هو على من يتبين دخوله فيها. وأما المذهب الرابع فالبتي وربيعة الرأي كانا ممن يتفقه ويتعانا الرأي والنظر، فكأنهما رأيا أن التفاهة التي لا يتبين بها الدخول في الآية معنى غير منضبط فرأيا ضبطها بالدراهم.(2/896)
الأمر الثاني: هب أنه سلم للطحاوي ما ادعاه من الإجماع، فقد علمنا أن ظاهر القرآن وجوب القطع على كل سارق، وظاهر القرآن حجة قطعاً، ويوافقه حديث (الصحيحين) : «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» ، وهذه الحجة لا يجوز الخروج عنها إلا بحجة، فإن لا يثبت من السنة ما يوجب إخراج شيء من ذاك العموم رجعنا إلى الإجماع فإن كان هناك إجماع على خروج شيء، فأما ما أختلف فيه فقيل بخروجه وقيل ببقائه فهو باق على ظاهر القرآن، لأن القائلين بخروجه بعض الأمة، وليس في قول بعض الأمة حجة يترك بها ظاهر القرآن.
فإن قيل: فقد أختلف النظار في العام الذي قد خص، فقال بعضهم: إنه لا يبقى حجة في الباقي.
قلت: هذا قول مخالف لإجماع السلف، وقد رغب عنه الحنفية أنفسهم، وتمام الكلام في رده في أصول الفقه.
الأمر الثالث: هب أنه قويت دعوى الإجماع، وقوي ما يترتب على ذلك من دعوى أن الآية صارت مجملة، ففي السنة الثابتة ما يكفي، فقد صح حديث ابن عمر، واندفع ما عورض به، وصح حديث عائشة، وبطلت دعوى اضطرابية، فثبت القطع في ثلاثة دراهم وفي ربع دينار، وبقي النظر فيما هو أقل من ذلك، وليس هذا موضع البحث فيه.
ثم ذكر الطحاوي خبر المسعودي عن القاسم عن أبن مسعود: «لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم» ورواه بعضهم عن المسعودي عن القاسم عن أبيه والمسعودي أختلط. ثم هو منقطع لأن القاسم لم يدرك أبن مسعود، وكذلك أبوه عبد الرحمن نفى جماعة سماعة من ابن مسعود، وأثبت بعضهم سماعة منه لأحرف معدودة ذكرها أبن حجر في (طبقات المدلسين) ص 13، ثم قال: «فعلى هذا يكون الذي صرح فيه بالسماع من أبيه (أبن مسعود) أربعة أحدها، موقوف وحديثه(2/897)
عنه كثير ... معظمها بالعنعنة هذا هو التدليس» .
أقول: وليس هذا الخبر من تلك الأربعة.
وروى الثوري عن «حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لا تقطع اليد إلا في ترس أو حجفة. قلت لإبراهيم: كم قيمته؟ قال: دينار» .والثوري يدلس، وحماد سيئ الحفظ، حتى قال حبيب بن أبي ثابت: «وكان حماد يقول: قال إبراهيم: ط فقلت والله إنك لتكذب أو إن إبراهيم ليخطئ» . وقد قال حماد نفسه لما قيل له: قد سمعت من إبراهيم؟ : «إن العهد قد طال بإبراهيم» . وإبراهيم عن عبد الله منقطع، وما روي عنه (1) أنه قال: إذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله. لا يدفع الانقطاع لاحتمال أن يسمع إبراهيم عن غير واحد ممن لم يلق عبد الله، أو ممن لقيه وليس بثقة، (2) واحتمال أن يغفل إبراهيم عن قاعدته،
__________
(1) قلت: تصدير المصنف رحمه الله لقول إبراهيم المذكور بقوله: «روي» مما يشعر إصطلاحاً - بأنه لم يثبت عنده، ولعل عذره في ذلك أنه لم يقف على إسناده، وإلا لجزم بصحته، فقد أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (6 / 190) : أخبرنا عمروا بن الهيثم أبوقطن قال: حدثنا شعبة عن الأعمش قال: قلت: لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت: قال عبد الله، فقد سمعته من غير واحد من أصحابه، وإذا قلت: حدثني فلان، فحدثني فلان» . وهذا إسناد صحيح رجال ثقات، وقد أخرجه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخ دمشق» (ق 131 / 2) : حدثنا أحمد بن سيبويه قال: حدثنا عمرو بن الهيثم به، إلا أنه قال: «فحدثني وحده» .
أقول: وإذا تأمل الباحث في قول إبراهيم «من غير واحد من الصحابة» يتبين له ضعف بعض الإحتمالات التي أوردها المصنف على ثبوت رواية إبراهيم إذا قال: قال ابن مسعود، فأن قوله: «من أصحابه» يبطل قول المصنف «أن يسمع إبراهيم من غير واحد ممن لم يلق عبد الله» ، كما هو ظاهر. وعذره في ذلك، أنه نقل قول إبراهيم هذا من «التهذيب» ، ولم يقع فيه قوله: «من أصحابه» الذي هو نص في الاتصال. ن.
(2) قلت: هذا فيه بعد. فأننا لا نعلم في أصحاب ابن مسعود المعروفين من ليس بثقة، ثم أن عبارته المتقدمة منا آنفاً صريحة في أنه لا يسقط الواسطة بينه وبين ابن مسعود إلا الذي كان حدثه عنه أكثر من واحد من أصحابه. فكون الأكثر منهم - لا الواحد - غير ثقة بعيد جداً. لا سيما وإبراهيم إنما يروي كذلك مشيراً إلى صحة الرواية عن ابن مسعود. والله أعلم.(2/898)
واحتمال أن تكون قاعدته خاصة بهذا اللفظ «قال عبد الله» ، ثم يحكى عن عبد الله بغير هذا اللفظ ما سمعه من واحد ضعيف فلا يتنبه من بعده للفرق، فيرويه عنه بلفظ «قال عبد الله» ولا سيما إذا كان فيمن بعده من هو سيئ الحفظ كحماد. وفي (معرفة علوم الحديث) للحاكم ص108 من طريق «خلف بن سالم قال: سمعت عدومن مشايخ أصحابنا تذاكروا كثرة التدليس والمدلسين، فأخذنا في تمييز أخبارهم، فأشتبه علينا تدليس الحسن بن أبي الحسن وإبراهيم بن يزيد النخعي ... وإبراهيم أيضاً يدخل بينه وبين أصحاب عبد الله مثل هني بن نويرة، وسهم بن منجاب، وخزامة الطائي، وربنا دلس عنهم» .
وقد ذكر الأستاذ ص 56 قول يحيى الحماني: «سمعت عشرة كلهم ثقات يقولون: سمعنا أبا حنيفة يقول القرآن مخلوق» فقال الأستاذ: «قول الراوي سمعت الثقة يعد كرواية عن مجهول، وكذا الثقت» . (1) وما روي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم: «لا تقطع اليد في أقل من ثمن الحجفة، وكان ثمنها عشرة دراهم» قول إبراهيم، وقد يكون إنما أخذ من عمروأبن شعيب أو مما روي عن مجاهد وعطاء وقد تقدم ما فيه.
وقد روي الثوري أيضاً عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي عن أبن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه خمسة دراهم. قال أبن التركماني: «فيه ثلاثة علل، الثوري مدلس وقد عنعن، وابن أبي عزة ضعفه القطان وذكره الذهبي في كتابه في (الضعفاء) ، والشعبي عن أبن مسعود منقطع» .
أقول: أما الأولى فنعم، وأما الثانية فإنما حكى ذلك العقيلي، وهو لم يدرك
__________
(1) قلت: لنا على هذا العطف نظر سبق بيانه في التعليق على الصفحة (274)(2/899)
القطان، (1) ومع ذلك فهو جرح غير مفسر، وابن أبي عزة وثقه أحمد وابن معين وابن سعد، فأما الذهبي فمعلوم أن قاعدته أن يذكر في (الميزان) (2) كل من تكلم
__________
(1) -كذا قال المصنف رحمه الله، وعمدته في ذلك قول الحافظ في «التهذيب» : وذكره المقيلي في «الضعفاء» وقال: ضعف حديثه يحيى بن سعيد القطان» : فأن ظاهره أن المقيلي حكى التضعيف لم يروه بسنده كما هو النالب عليه وعلى أئمة الجرح والتعديل، ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد قال العقيلي في كتابه المذكور: «حدثنا محمد بن عيسى، قال حدثنا صالح بن أحمد، قال: حدثنا علي قال: سألت يحيى عن حديث عيسى بن أبي عزة (قلت: فذكره وقال:» فضعف الحديث» .
(2) -قلت «الميزان» غير «الضعفاء» ، وهذا هو الذي عزى اليه ابن التركمانى تضعيف القطان. وجواب المصنف يشعر بأنه هو «الميزان» نفسه، وليس كذلك، فانهما كتابان، قاعدته في الأول منهما كما ذكره المصنف، وقاعدته في الآخر كما نص عليه هو في مقدمته: «فهذا ديوان أسماء الضعفاء والمتروكين، وخلق من المجهولين، وأناس ثقات فيهم لين» . ونحن الآن في صدد تحقيقه، يسر الله إتمامه، وطريقته فيه، إما أن يذكر رأيه في المترجم، كأن يقول فيه «ضعيف» أو «متروك» أو «متهم» ونحوه، كما هو أسلوب الحافظ ابن حجر في «التقريب» . وأما أن ينقل الجرح عن بعض الأئمة،:ان يقول: «ضعفه الدارقطني» أو «قال النسائي: ليس بقوي» . أو قال أبو حاتم: «لا يحتج به» وهكذا، فكل من يورده فيه ضعيف إلا أفراداً قليلين يصرح بتوثيقهم، أما تمييزاً وإما لدفع التهمة عنهم، فمن الأول قوله: «إبراهيم بن نافع الحلاب البصري قال أبو حاتم: كان يكذب. أما إبراهيم بن نافع عن عطاء المالكي فثقة» . ومن آخر قوله: «أحمد بن حسن بن خيرون، ثقة حافظ تكلم فيه ابن طاهر بعلاك بارد، وهو أوثق من ابن طاهر بكثير» ، وقد لاحظنا أنه كثيراً ما يختلف اجتهاده في هذا الكتاب، عنه في «الميزان» ومن الأمثلة القريبة على ذلك، عيسى بن أبي عزة هذا، فإنه حكى فيه تضعيف القطان له، ثم توثق جماعة من الأئمة له، ثم ختم ذلك برأيه فيه فقال: «حديثه صالح» . وهذا معناه أنه مقبول عنده، ومع ذلك أورده في ديوانه «الضعفاء» وضعفه بقوله
«قال القطان: حديثه ضعيف» . والظاهر أن المصنف لم يراجع «الميزان» حين كتب الجواب، وإلا لكان يجد فيه رداً أقوى في الذهبي: «حديثه صالح» ، وذلك بين لا يخفى. والعصمة لله وحده. ن(2/900)
فيه ولو كان الكلام يسيراً لا يقدح. وأما الثالثة فنعم، ولكن الشعبي جيد المرسل، قال العجلي: «لا يكاد الشعبييرسل إلا صحيحاً» . وقال الآجري عن أبي داود: «مرسل الشعبي أحب إلى من مرسل النخعي» .
والظاهر أنه إن صح عن ابن مسعود شيء فهو في ذكر القطع في المجن مطلقاً وأما التقويم فممن بعده أخذاً من حديث أنس عن أبي بكر وسيأتي، أو يكون ابن مسعود إنما ذكر قطع أبي بكر.
وروى ابن عيينة عن حميد الطويل قال: «سمعت قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع؟ فقال: حضرت أبا بكر قطع سارقاً في شيء ما يسوى ثلاثة دراهم. أو: ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» وقد رواه أبو حاتم الرازي عن الانصاري عن حميد وفيه: «ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» بدون شك. أخرجه البيهقي ولا يلزم من قول أنس: «ما يسرني ... » أن تكون القيمة أقل من ثلاثة دراهم، فأن من لا يحتاج إلى سلعة لا يسره أنها له بقيمة مثلها، وإنما يسره أن تكون بأقل من قيمتها ليبيعها فيربح فيها أو يدخرها لوقت الحاجة.
وقد روى قتادة عن أنس قصة أخرى، وهي أنه قطع في مجن قيمته خمسة دراهم. رواه النسائي والبيهقي في (السنن) ج 8 ص 259 من طريق الثوري عن شعبة عن قتادة. ورواه النسائي أيضاً من طريق أبي داود الطيالسي قال: «حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنساً يقول: سرق رجل في عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع. ورواه أبوهلال محمد بن سليم عن قتادة فقال: «عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... .» . وأبوهلال ليس بعمدة ولا سيما في قتادة. ورواه هشام عن قتادة فوافق أبا هلال، وسئل هشام مرة فقال: «هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فهو عن أبي بكر» . ورواه عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس أن أبا بكر قطع في(2/901)
مجن قيمته خمسة دراهم، أو أربعة دراهم، شك سعيد، وصوب النسائي وغيره رواية شعبة وذلك واضح. ومن أحب تتبع هذه الروايات فليراجع (سنن النسائي) و (سنن البيهقي) .
وفي (مصنف ابن أبي شيبة) عن شريك عن عطية بن مقسم عن القاسم بن عبد الرحمن قال: أُتي عمر بسارق فأمر بقطعه، فقال عثمان: إن سرقته لا تساوي عشرة دراهم قال: فأمر به عمر فقومت ثمانية دراهم فلم يقطعه. القاسم لم يدرك عمر ولا كاد، وعطية مجهول الحال، وشريك سئ الحفظ ونسبه بعضهم الى التدليس كما مضى. ورواه الثوري عن عطية بن عبد الرحمن الثقفي عن القاسم قال: «أُتي عمر بن الخطاب بسارق قد سرق ثوباً فقال لعثمان: قومه، فقومه ثمانية دراهم فلم يقطعه» . ويؤخذ من كلام البخاري وأبي حاتم أن عطية هذا هو الذي روى عنه شريك، فإن صح هذا فهو مجهول الحال، وإلا فكلاهما مجهول. ولو صحت القصة، فلفظ الثوري أقرب، ويكون ترك القطع لمانع آخر كشبهة ظهرت. وسيأتي عن عثمان أنه قطع في أترجة قومت ثلاثة دراهم ومر عنه أنه قطع في فخارة خسيسة. فكيف يقول ما وقع فيه لفظ شريك؟!
وفي (نصب الراية) ج 3 ص363 أن في (مصنف عبد الرزاق) : «عن معمر عن عطاء الخراساني أن عمر بن الخطاب قال: «كم أخذ من ثمر شيئاً فليس عليه قطع حتى يأو ي الجرين، فإن أخذ منه بعد ذلك ما يساوي ربع دينار قطع» . عطاء الخراساني لم يدرك عمر، لكن هذا أقوى من رواية عطية. وفي (الفتح) : أخرجه «ابن المنذر عن عمر بسند منقطع أنه قال: إذا أخذ السارق ربع دينار قطع» . وفيه أن ابن المنذر أخرج من طريق منصور عن مجاهد عن ابن المسيب عن عمرة: لا تقطع الخمس إلا في خمس» . ابن المسيب عن عمر منقطع، إلا أنه جيد، لكن لا نعلم كيف السند إلى منصور. وأخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) من طريق قتادة عن ابن المسيب، وقتادة مشهور بالتدليس.
وروى مالك في (الموطأ) ، وابن عيينة كما في (مصنف ابن أبي شيبة) عن عبد الله(2/902)
بن أبي بكر عن عمرة أن سارقاً في زمن عثمان سرق أترجة فأمر به عثمان أن تقوم، فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار فقطع عثمان يده» . وعمرة يقال أنها ماتت سنة 98 وعمرها سبع وسبعون سنة. فعلى هذا يكون سنها لمقتل عثمان فوع أربع عشرة سنة. وقد جاء عن عثمان ما هو أشد من هذا كما تقدم.
وروى حاتم بن إسماعيل كما في (مصنف ابن أبي شيبة) ، وسليمان بن هلال كما في (سنن البيهقي) عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عن أبيه عن علي رضي الله عنه أنه قطع يد سارق في بيضة حديد ثمنها ربع دينار. وقال الشافعي في (الأم) ج 6 ص 116: «أخبرنا أصحاب جعفر عن جعفر عن أبيه أن علياً رضي الله عنه قال: «القطع في ربع دينار» . محمد بن علي لم يدرك علياً، لكن لم يعارض هذا عن علي ما هو أقوى منه، وإنما ذكر البيهقي (السنن) ج 8 ص 261 أثراً عن علي فيه: «لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم» ثم قال: «هذا إسناد يجمع مجهولين وضعفاء» (1) . فقال ابن التركماني: «قد جاء من وجه آخر ضعيف إلا أنه أجود من الرواية التي ذكرها البيهقي بلا شك. فروى عبد الرزاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار عن على قال: لا تقطع اليد في أقل من دينار أو عشرة دراهم. فعدل البيهقي عن هذه الرواية الى تلك لزيادة التشنيع» .
... أقول: وهذه ليست مما يفرح به، الحسن بن عمارة طائح، قال شعبة: أفادني الحسن ابن عمارة سبعين حديثاً عن الحكم فلم يكن لها أصل» . ونص شعبة على أمثلة
__________
(1) قلت: بل هو ضعيف جداً فإن من رواته جويبراً وهو ابن سعيد البلخي أورده الذهبي في «الضعفاء» وقال: «متروك الحديث» . وقال الحافظ في «التقريب» : «ضعيف جداً» .
قلت: ومع هذا فهو خير من الحسن بن عمارة الآتية روايته، فإنه لم ينسب إلى الكذب أو وضع، بخلاف ابن عمارة، فإنه أشد ضعفاً منه، قد نسبوه إلى الوضع كما يأتي في الكتاب، وقال الإمام أحمد: أحاديثه موضوعة. فهل خفي هذا على ابن التركماني حتى زعم أن روايته أجود من رواية جوبير، أم هو التعصب المذهب؟!(2/903)
منها، سئل الحكم عنها فلم يعرفها. قال شعبة: «قال الحسن بن عمارة: حدثني الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي - سبعة أحاديث، فسألت الحكم عنها فقال: نا سمعت منها شيئاً» وقال ابن المديني في الحسن بن عمارة: «كان يضع» .
المسلك الثالث: لبعض مشاهير الحنفية في هذا العصر. كان الرجل مشهوراً بطول الباع وسعة الاطلاع والوهد والعبادة، (1) وكان يقرر أن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت. وكان مع ذلك غاية في الجمود على المذهب والتفاني في الدفاع عنه. وفي مسلكه هذا ما يظهر منه علوطبقته في ذلك؛ ذكر أن
__________
(1) هو العلامة الشيخ محمد أنور الكشميرى، وكلامه الذي أشار إليه المؤلف مذكور في كتابه «فيض البارى على صحيح البخاري» (4/446-447) ، وهو بحق كما وصفه المصنف في سعة العلم، ولكنه مع الأسف لم يستفد كثيراً من علمه، صده عن ذلك التقليد المتوارث مع أنه من أحق العلماء المتأخرين بالخلاص منه، والاستقلال في النظر والاختيار، فانظر إليه مثلا في موقفه من مسألة رفع اليدين في الركوع التي لا يمكن للباحث في أدلتها إلا أن يقول بمشروعيتها واستحبابها، ولو كان حنيفاً غير متعصب مثل العلامة اللكنوي رحمه الله فإنه لم يسعه إلا أن يقول بمشروعيتها واستجابها في بحث له جيد في «التعليق الممجد» ، وأما الشيخ الكشميرى فلم يستطع التصريح بالاستحبات، على الرغم من أن التحقيق الذي وصل إليه يلزمه ذلك، - فهو يقول في الكتاب المذكور (2/257-259) : فقد ثبت الأمران عندي (الرافع والترك) ثبوتاً لا مرد له، ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز» . ثم نقل عبارة لأبي بكر الجصاص تؤيد ما ذكره من الجواز، ثم قال: «فاسترحت حيث تخلصت رقبتي من الأحاديث الثابتة في الرفع» ! كذا قال، وفي عبارة من الركعة ما لا يخفى، وإذا قال بجواز الرفع وأراد الجواز الذي يستوى فيه الفعل والترك، فلم يأت بشيء جديد بإثباته الرفع، لأن القائلين به لايقولون بوجوبه، وإن أراد به جوازاً مع استحباب فهلا صرح به؟ لأنه لم يجد في مذهبه من سبقه إلى ذلك! ثم إذا صح ظننا به، فهل كان يرفع يديه كسباً للثواب، بل وبياناً للجواز ولو بالمعنى الأول، علم ذلك عند أصحابه، وظني أنه لم يفعل، لغلبه العصبية المذهبية على من حوله. والله المستعان. ن(2/904)
لأصحابه طرقاً في التملص من أحاديث (الصحيحين) في هذهالمسألة، من ترجيح غيرها أو دعوى اضطرابها أو نسخها، وأنه لم يرتض شيئاً من ذلك، واختار طريقاً جديداً يجمع بين الادلة في زعمه، وهو أولاً كان في ثمن المجن كما في حديث (الصحيحين) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وكانت قيمة المجن أولاً قليلة، ثم أخذت تزيد بزيادة أتساع حال المسلمين حتى بلغت عشرة دراهم فأقر الأمر عليها، وترك اعتبار ثمن المجن، وذلك كما هو الحال عنده في الدية. قال: «وعلى نحوهذا حملت حد الخمر ومقدار المهر» .
أقول: لم أظفر بتطبيق الأخبار على هذا المسلك لكن قد يقال: كان المعيار الشرعي لما يجب في القطع هو قيمة المجن فكأنها كانت أولاً لا تزيد عن أقل ما يحق على آخذه اسم «السارق» وحينئذ أنزل الله عز وجل: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» ، ثم كأنها ترقت قليلاً فصارت كقيمة الحبل والبيضة وحينئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده» ثم ترقت فصارت ربع دينار وهو عند الحنفية درهمان ونصف، وحينئذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً» ثم ترقت فصارت ثلاثة دراهم، وحينئذ قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجن قيمته ثلاثة دراهم.
ثم كأنها بقيت كذلك إلى أن قطع أبو بكر في شيء يقول أنس: «ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم» . ثم كأنها ترقت فصارت خمسة دراهم، وحينئذ قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم. وكأنها بقيت على ذلك إلى عهد عمر، وحينئذ قال - لو صح عنه -: لا تقطع الخمس إلا في خمس. ثم كأنها نقصت إلى درهمين ونصف فحينئذ قال عمر - لو صح عنه - إذا أخذ السارق ربع دينار قطع. ثم كأنها ترقت فصارت عشرة دراهم وحينئذ امتنع - لو صح عنه - من القطع في ما قيمته ثمانية دراهم. ثم نقصت في عهد عثمان وحينئذ قطع في أترجة قيمتها ثلاثة دراهم، ثم ازدادت نقصاً وحينئذ قطع في فخارة خسيسة. ثم تحسنت الحال قليلاً في زمن علي وحينئذ قطع في بيضة حديد قيمتها ربع دينار، وأفتت عائشة بالقطع في ربع(2/905)
دينار، ثم لا أدري متى عادت فترقت إلى عشرة دراهم، وحينئذ بمقتضى هذا المسلك نزل الوحي وبإلغاء اعتبار قيمة المجن، وأن يكون هو العشرة الدراهم!!
ولعمري لقد تكرر في الأخبار ذكر المجن، وأن بعض الألفاظ ليوهم اعتبار المجن، إلا أن الناس فهموا أن سبب التكرر هو أن أقل ما قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - مجن، وحملوا ما يوهم اعتبار المجن على ما تقدم مفصلاً، ولم يعرج أحد منهم على هذا المسلك الطريف ولكن:
لكل ساقطة في الأرض لاقط ... وكل كاسدة يوماً لها سوق
ومن العجيب أنه لم يرتض دعوى بعض أسلافه النسخ ثم وقع فيها، وأنه يقول: إن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت ثم يخالف صرائحها ويتشبث بما لم يثبت مما فيه ذكر العشرة.
فأما حديث هشام عن ابن أبيه عن عائشة فاختلف فيه الرواة عن هشام سنداً ومتناً.
أما السند فمنهم من ذكر عائشة، ومنهم من لم يذكرها وجعله مرسلاً من قول عروة، نبه على ذلك البخاري في (الصحيح) ، والصواب ذكر عائشة.
وأما المتن فعلى ثلاثة أوجه:
الأول: ما رواه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة عن عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة «أن يد السارق لم تقطع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا في مجن حجفة أو ترس» . ثم روى البخاري عن عثمان أيضاً عن حميد «ثنا هشام عن أبيه عن عائشة. مثله» .
الثاني: ما رواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة «لم تكن تقطع يد السارق في أدنى من حجفة أو ترس كل واحد منهما ذوثمن» .
الثالث: رواه البخاري «حدثني يوسف بن موسى ثنا أبو أسامة قال: هشام بن(2/906)
عروة أخبرنا عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم تقطع يد سارق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن ترس أو حجفة، وكان كل منها ذا ثمن» .
فالأول: مداره على عثمان بن أبي شيبة عن عبدة وعن حميد، وقد خولف عن كل منهما فرواه مسلم في (صحيحه) عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حميد بسنده: «لم تقطع يد سارق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس وكلاهما ذوثمن» . وهذا على الوجه الثالث كما ترى. ورواه البيهقي في (السنن) ج8 ص 256 من طريق هارون بن إسحاق عن عبدة بسنده «لم تكن يد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس» .
وهذا على الوجه الثاني كما ترى، وبهذا بان ضعف الوجه الأول، بل ظاهره باطل، لأنه يعطي أن القطع لم يقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة في ذاك المجن، وقد ثبت قطع سارق رداء صفوان الذي كانت قيمته ثلاثين درهماً. وثبت قطع يد المخزومية التي كانت تستعير الحلي ثم تجحده.
وأما الوجه الثاني فقد اختلف على عبدة كما رأيت، وكذلك اختلف على ابن المبارك، رواه النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام عن أبيه عن عائشة: «لم تقطع يد سارق في أدنى من حجفة أو ترس، وكل واحد منهما ذوثمن» .
وهذا على الوجه الثالث كما ترى. فبان رجحان الوجه الثالث، لأنه رواه عن هشام أبو أسامة ولم يختلف عليه فيه، ورواه ابن نمير عن حميد عن هشام وابن نمير اثبت من عثمان بن أبي شيبة، ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام.
... وقد رجح الشيخان والنسائي الوجه الثالث.
أما البخاري فساقها على هذا الترتيب، ثم عقب بحديث ابن عمر، فأشار والله أعلم بالترتيب إلى ترتيبها في القوة، فالثاني أقوى من الأول، والثالث أرجح منهما.(2/907)
أو قل: أشار الى أن الثاني يفسر الأول من وجه والثاني (1) يفسرهما جميعاً، وأشار بالتعقيب بحديث ابن عمر إلى أن هذا الحديث وحديث ابن عمر عن واقعة واحدة، فعائشة حفظت أن أقل ما قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو ذاك المجن ولم تذكر قيمته، وابن عمر حفظ قيمته ولم يذكر أنه أقل ما قطع النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وأما مسلم فصدر بحديثه عن محمد بن عبد الله بنمير وساقه بتمامه وهو على الوجه الثالث كما مر ثم قال: «حدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن ح وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان ح وثنا أبوكريب ثنا أبو أسامة كلهم عن هشام بهذا الإسناد نحوحديث ابن نمير عن حميد بن عبد الرحمن الرواس، وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة: «وهو يومئذ ذوثمن» فحمل سائر الروايات على حديث ابن نمير وهو على الوجه الثالث كما مر، ولم يعتد بمخالفة بعضها له في الأوجه المذكورة مع اعتداده بالإختلاف في قول ابن نمير «وكلاهما ذوثمن» وقول عبد الرحيم وأبو أسامة: «وهو يومئذ ذو (2) ثمن» ثم عقب مسلم ذلك بحديث ابن عمر.
وأما النسائي فأنه مع تصديه لجمع الروايات في ذكر المجن لم يسق من طرق حديث هشام المذكورة إلا رواية سويد بن نصر عن ابن المبارك عن هشام، وهي على الوجه الثالث.
وصاحب هذا المسلك أنما يكون له متشبث ما في الوجه الثاني، وقد علمت أنه مرجوح من جهة الرواية، وهكذا هو مرجوح من جهة النظر لما يأتي، وعلى فرض أنه لا يتبين أنه مرجوح فلا يصح التمسك بما اختص به بعض الروايات وخالفها وغيرها، لأن الاختلاف إنما جاء من جهة الروايتين بالمعنى فلا يصح التشبث بواحدة منها حتى يترجح أنها باللفظ الاصلي أو موافقة له.
__________
(1) كذا الأصل والظاهر أنه خطأ، والصواب «والثالث» .
(2) الأصل «ذون» .ن(2/908)
ومع هذا فاللفظ الواقع في الوجه الثاني لا يتعين حمله على ما زعمه صاحب هذا المسلك فإنه يحتمل أن يكون المراد أن السارق لم يقطع فيما دون ثمن ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا مانع أن تعرف عائشة هذا ولا تعرف قيمة ذاك المجن. وهذا المعنى أقرب وأولى مما زعمه صاحب هذا المسلك، فإنه يزعم أن المعنى قيمة أن اليد لم تكن تقطع إلا فيما يبلغ ثمن مجن من المجان أي مجن كان، وهذا بغاية البعد، فإن من المجان الردئ البالي المعيب الذي تكون قيمته درهماً واحداً أو دونه، ومنها ما يزيد على ذلك زيادة متفاوتة، ولم يعهد من حكمة الشارع وإيثاره الضبط، أن ينوط مثل هذا الحكم العظيم بمثل هذا الأمر الذي لا ينضبط.
فإن قيل قد يختار مجن من أو سط الغالب على نحوما قدمت أول المسألة.
قلت: أو سط الغالب بعيد أيضاً عن الانضباط، والذي تقدم إنما هو من بعض من بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رأى أنه لا ينبغي القطع في أقل مما قطع فيه النبي صلى الله عليه وآلة وسلم، وعرف أنه ذاك المجن ولم يعرف ثمنه فأضطر إلى الحدس، والشارع لا ضرورة تلجئه ة لا حاجة تدعوه إلى مثل هذا، فلماذا يعدل عن سنته من إيثار الضبط وهو قادر على الضبط بالذهب أو الفضة، فيكون المناط ظاهراً منضبطاً سهل المعرفة جارياً على ما يعرفه الناس ويتعارفونه؟!
فأما تقدير الدية بالإبل فذلك معروف متعارف من قبل الاسلام، وكان أغلب أموالهم الإبل ووصفها الشارع بصاف معروفة تقربها من الإنضباط، ولا يخشى بعد ذلك التباس ولا مفسدة كما يخشى في نوط القطع بثمن مجن، فإن وجبت عليه الدية لا يلزمه أن يدفع النفيسة، فلو كانت عنده نفيسة، وأراد أن يشتري بها عشراً كلهن على وصف الدية مكن من ذلك، فيشتري بتلك الناقة عشراً ويدفعها فتحسب له عشراً، واحتمال ان لا يتمكن من ذلك بعيد، فإن اتفق ذلك فللفقيه أن يقول هي بمنزلة المعدومة، ويعدل الى قيمة القدر الواجب من الغالب - كما قيل بنحو ذلك في الزكاة. فأما إذا طابت نفس صاحبها فدفعها فلا إشكال. والحنفية لم(2/909)
ينكروا وجوب الإبل، وإنما قالوا: إن الواجب هي أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وإن يتعين بالتراضي أو القضاء.
وأقول أما التراضي فلا إشكال فيه، وكذلك القضاء إذا قضى القاضي بالإبل، أو بذاك المبلغ من الذهب أو الفضة وهو قيمة الإبل. وأما إذا لم يكن ذلك قيمتها، فجعل الخيرة للقاضي مناف للعدل وفتح لباب اتباع القضاة للهوى، وأصول الشرع تأبى ذلك. والمقصود هنا انه مفسدة في جعل الزكاة من الإبل، فإن الواجب الحقيقي هو أقل ما يتحقق به الصفة فالمستحق بين أن يحصل له حقه، وأن يحصل له دونه برضاه، وأن يحصل له فوقه برضا الدافع.
... وعلى فرض أن المقوم اخطأ في التقويم، فالخطب سهل، إنما هو خسارة مالية يجبرها الله عز وجل من فضله.
... واما المجن فإن قيل: إنه يقطع في سرقته مطلقاً بأي صفة كان فلا يخفى ما فيه، وإن قيل: لا يقطع فيه إلا إذا كان بوصف مخصوص، فما هو ذاك الوصف؟ وما الدليل على تعيينه؟ وإن قيل. لا يقطع فيه إلا إذا بلغت قيمته حداً معيناً كما يدل عليه قول أنس: «سرق رجل مجناً على عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع» فهذا قولنا وبطل هذا المسلك الطريف رأساً.
وإذا كان المسروق ذهباً أو فضة، فعلى ذلك المسلك ينبغي أن ينظر هل هو قيمة مجن أولا؟ وهذا عكس المعروف المتعارف من اعتبار مقادير السلع بالذهب والفضة. وإذا كان المسروق سلعة أخرى احتيج الى تقويمين، تقويم السلعة بالذهب أو الفضة، وتقويم المجن الذي لم تبين صفته بالذهب أو الفضة، واحتمال الخطأ في ذلك أشد من احتماله في تقويم واحد.
فإن قيل: إنما كان ذلك في أول الأمر ثم استقر الحال على العشرة الدراهم.
قلت: فهل كان الشارع يجهل عاقبة الأمر وقد قال الشاعر:
رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولا(2/910)
وإذا كان المجن لا يصلح أن يجعل معياراً مستمراً، فكذلك لا يصلح أن يكون معياراً موقتاً بلا ضرورة ولا حاجة.
فإن قيل: قد يكون صاحب هذا المسلك إنما عنى ذاك المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: فيلزم أن يكون ذاك المجن محفوظاً في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم في بيوت الخلفاء، فكلما رفع سارق، قوم المسروق ثم أخرج ذاك المجن فقوم بقيمة الوقت! وهذا باطل من وجوه:
منها انه لم ينقل، ولو كان لنقل لغرابته، ومنها أن النقل يأباه، ومنها انه خلاف المعهود من براءة الشريعة عن مثل هذا التكلف الذي لا تبرره حكمة. وكثير مما تقدم يرد على هذا أيضاً. أشد ذلك الداهية الدهياء وهي النسخ بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قيل: لعل صاحب هذا المسلك إما أراد أن ذلك التدرج واستقرار الأمر على عشرة الدراهم كان كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت ظاهر صنيعه خلاف ذلك لتنظيره بحد الخمر، ولأنه لا يجهل أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذكر العشرة، (1) وإنما يصح إن صح شيء عمن بعده وبعد الخلفاء الراشدين. وهب أنه أراد ما زعمت، لم يأت عليه بشبهة فضلاً عن حجة، ويرد عليه أكثر ما تقدم. وكيف يقول: إن أحاديث (الصحيحين) قطعية الثبوت ثم ينسخها بما لم يثبت؟ !
وأما قضية المهر فلم يثبت تحديده، وإنما اقتسر الحنفية قياسه على ما يقطع فيه السارق، والأصل باطل، والقياس أبطل.
وأما حد الخمر فالحق أنه أربعون. واستنبط الصحابة من تدرج الأمر في الخمر
__________
(1) قلت: في هذا نظر، فإن المومى إليه قد صرح بتصحيح حديث ابن عباس في العشرة!(2/911)
من حكم إلى أشد منه رعاية للحكمة جواز زيادة التشديد تعزيزاً، واستأنسوا الزيادة بقولهم: «إنه إذا سكر هذا، وإذا هذا افترى» (1) مع علمهم بأنه لا يلزم بمجرد الاحتمال حكم المرتد ولا حكم المطلق ولا غيرها ذلك مما يحتمل صدوره منه عند هذيانه، والسرقة لم يقع في تحريمها تدريج، لا من حال إلى أشد منها، ولا من حال إلى أخف منها.
فإن قيل قد يقال، إن للتدريج حكمة، وهي أن الناس كانوا في ضيق فكان المسروق منه يتضرر بأخذ اليسير من ماله، ثم اتسعوا فصار لا يتضرر إلا بأخذ أكثر من ذلك وهكذا.
قلت: تعقل الحكمة لا يثبت به الحكم، مع أن ما ذكر تم يعارضه أن المناسب في زمن الضيق أن يخفف على السارق لكثرة الحاجة، وقد شهدت الشريعة في الجملة لهذا المعنى دون الأول وذلك يدرء الحد عن المضطر، وما يروى عن بعض السلف أنه لا قطع في زمن المجاعة (2) .
فإن قيل: إن المقدار لم يتغير في المعنى، لأن السلع كلها أو غالبها تساير المجن، فالسلعة المسروقة التي تكون قيمتها خمسة حين بلغ ثمن المجن خمسة، كانت قيمتها ثلاثة حين كانت قيمة المجن ثلاثة، وهكذا الدراهم نفسها، فإن الثلاثة كانت أولاً تغنى غناء تغنيه أخيراً إلا الخمسة مثلاً.
قلت: هذا كله لا يغني فتيلاً فيما نحن بصدد، ثم هو غير مستقيم، فقد تغلوا سلعة وترخص أخرى، ولا تزال تضطرب قيمتها ارتفاعاً وانخفاضاً إلى يوم القيامة، ولماذا إذ كان لوحظ ذاك المعنى وقع التحديد أخيراً بالعشرة؟ ! وقد يزيد
__________
(1) هذا لم يصح، وهو مطل في إسناده ومتنه، وقد بينت ذلك في «إرواء الغليل» .ن
(2) قلت يشير إلى ما روى عن عمر رضي الله عنهأنه قال: «لا قطع في غدق، ولا في عام سنة» .نده جهالة كما ىبينة في المصدر السابق (2496) .(2/912)
الاتساع فتصير خمسة عشر لا تغني إلا غناء الثلاثة، وقد يعود الضيق ويشتد أشد مما كان أولاً، والمعروف إنما هو ضبط أثمان السله بالدنانير والدراهم، لا ضبط الدنانير والدراهم بالسلع، فكيف بالسلعة لا تنضبط؟
وقد أطلت في رد هذا المسلك مع أنه لا يحتاج في رده إلى هذا كله، ولكن دعا إلى ذلك شهرة قائلة. والله المستعان.(2/913)
المسألة الخامسة عشرة: القضاء بشاهد ويمين في الأموال
قال الأستاذ ص 185: «وأما القضاء بشاهد ويمين فلم يرد فيه ما هو غير معلل عند أهل النقد، وحديث مسلم فيه انقطاعات مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه كما فصل في محله. والليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه ... حتى أن يحيى الليثي رواية (الموطأ) وغيرهم من كبار المالكية خالفوا مالكاً في المسألة، وكم بين الشافعية من خالف الشافعي في المسألة، فسل قضاة العصر ماذا كانت تكون النتيجة في الحقوق لوحكموا للناس بما يطالبون به بدون تكامل نصاب الشهادة؟ فضلاً عن الضعف الظاهر فيما يحتجون به في الأخذ بشاهد ويمين» .
أقول: حديث مسلم هو قوله في (صحيحه) : «حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد ابن عبد الله بن نمير قالا ثنا زيد - وهو أبن حباب - ثني سيف بن سليمان أخبرني قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشهادة» .
فأما الإنقطاعات المزعومات فأحدهما بين عمرووابن عباس. والآخرين بين قيس وعمرو.
أما الأول فقال ابن التركماني: «في (علل الترمذي) : سألت محمداً (البخاري) عنه- أي هذا الحديث - فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس» .(2/914)
أقول: ليس لهذه العندية ما يسندها سوى أمرين:
الأول: أن محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، فقال بعض الرواة عنه: عن عمروعن طاوس عن ابن عباس. وبعضهم قال: عن عمروعن جابر بن يزيد عن ابن عباس.
الثاني: استبعاد صحة الحديث لعدم اشتهاره عن ابن عباس ومخالفته لظاهر القرآن.
فأما الأول فقد أجاب عنه البيهقي بأنه إنما جاء ذلك عن بعض الضعفاء، فأما التقات فرووه عن الطائفي عن عمروعن ابن عباس كما يأتي: ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء.
أقول: ومع ذلك فلوصح الوجهان المذكوران أو أحدهما لصح الحديث أيضاً كما صحح الشيخان حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر في لحوم الخيل، مع رواية ابن عيينة وغيره له عن عمروعن جابر. (1) ولهذا نظائر.
وأما الثاني: فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن ذاك الاستبعاد إن كان له وجه فلا يزيله إلا دعوى أن بين عمرووابن عباس واسطة ضعيفة، إذ لو كان بينه وبينه ثقة لصح الحديث أيضاً كما مر، وليس لأحد أن يفرض الواسطة الضعيفة هنا فأن عمراً لا يدلس مثل هذا التدليس، وإنما قد يرسل ما سمعه من ثقة متفق عليه كما أرسل عن جابر ما سمعه من محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عنه، ومحمد إمام حجة. وقد تتبعت ما قيل أن عمراً أرسله مثل هذا الإرسال غير الحديث السابق، فلم أجد إلا حديثاً حاله كحال الحديث السابق، وذلك أن في (مسند أحمد) ج3 ص 368:
__________
(1) أنظر تخريجه في «الإرواء» (2551) .(2/915)
«ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمروا بن دينار عن جابر ... ، قلت لعمرو: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا» . والحديث في (صحيح البخاري) من طريق ابن عيينة «قال عمرو: أخبرني عطاء أنه سمع جابراً ... .» فبين عمرووجابر في هذا عطاء بن أبي رباح، وهو إمام حجة. ووجدت حديثين آخرين لم يتضح لي الإرسال فيهما، فإن صح فالواسطة في أحدهما عكرمة وطاوس أو أحدهما.
وفي الثاني: ابن أبي مليكة، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات. فإن ساغ أن يقال في حديث رواه عمروعن ابن عباس: لعله لم يسمعه منه. فإنما يسوغ أن يفرض أن عمراً سمعه من ثقة حجة سمعه من ابن عباس. وفي ترجمة عمرومن (تهذيب التهذيب) : قال الترمذي: قال البخاري: لم يسمع عمرو بن دينار من ابن عباس حديثه عن عمر في البكاء على الميت» . قال ابن حجر: «قلت: ومقتضى ذلك أن يكون مدلساً» .
أقول: لم أظفر برواية عمروذاك الحديث عن ابن عباس، والقصة - وفيها الحديث- ثابتة في (صحيح مسلم) و (مسند الحميدي) من رواية عمروعن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، فإن كان بعضهم روى الحديث عن عمروعن ابن العباس فلا ندري من الراوي؟ فإن كانت ثقة فالحال في هذا الحديث كما تقدم، حدث به عمرومراراً عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس حتى عرف أن الناس قد عرفوا أنه لم يسمعه من ابن عباس، ثم قال مرة على سبيل الفتيا أو المذاكرة: «قال ابن عباس» وليس هذا بالتدليس، على أنه لا مانع من أن يسمع من أبن أبي مليكة عن ابن عباس القصة وفيها الحديث ويسمع من ابن عباس نفسه الحديث. ولا مانع من أن يسمع الرجل الحديث من رجل عن سيخ ثم يسمعه من ذلك الشيخ نفسه ثم يرويه تارة كذا. وهذا النوع يسمى «المزيد في متصل الأسانيد» وقد عد بعضهم منه حديث عمروفي لحوم الخيل. وقد ذكر مسلم في مقدمة (صحيحه) أمثله مما قد يقع من غير المدلس من إرسال ما لم يسمعه، وذكر(2/916)
منها حديث عمرو بن دينار في لحوم الخيل وقد مر، وهذا حكم من مسلم بأن عمراً غير مدلس، وأن ما قد يقع عن مثل ذاك الإرسال ليس بتدليس. وأحتج الشيخان بكثير من أحاديث عمروالتي لم يصرح فيها بالسماع، واحتج مسلم بحديث في المخابرة رواه ابن عيينة عن عمروعن جابر، مع انه قد ثبت عن ابن عيينة أن عمراً لم يصرح فيه بالسماع من جابر. وهذا الترمذي حاكي الحكايتين عن البخاري صح في لحوم الخيل رواية ابن عينة التي فيها «عمروعن جابر» وخطأ حماد بن زيد في قوله «عمروعن محمد بن علي عن جابر» مع جلالة حماد وإتقانه، فلو كان عند الترمذي أن عمراً يدلس لما كان عنده بين الروايتين منافاة. والصحيح أنه لا منافاة ولا تدليس كما مر. فأما ما في (معرفة الحديث) للحاكم ص 111 في صدد كلامه في التدليس: «فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ... وأن عامة حديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة» . فإنما قال ذلك في صدد من روى عمن لم يره قط ولا سمع منه شيئاً، فإن تلك العبارة هي في صدد قوله ص 109 «الجنس السادس من التدليس قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ... » . وحاصل ذلك أن عمراً يرسل عمن لم يره من الصحابة، وهذا على قلة ما قد يوجد عن عمروفيه ليس بتدليس وإنما يسميه جماعة تدليساً إذا كان على وجه الإيهام، فأما أن يرسل المحدث عمن قد عرف الناس أنه لم يدركه أو لم يلقه فلا إيهام فيه فلا تدليس. وعادة أئمة الحديث إذا كان الرجل ممن يكثر منه هذا الإرسال أن ينصوا على أسماء الذين روى عنهم ولم يسمع منهم، كما تراه في تراجم مكحول والحسن البصري وأبي قلابة عبد الله بن زيد وغيرهم، ولم نجد في ترجمة عمروإلا قول ابن معين: «لم يسمع في البراء بن عازب» ولعله لم يرسل عن البراء إلا خبراً واحداً. وسماع عمرومن ابن عباس ثابت، والحكم عندهم فيمن ليس بمدلس ولكنه قد يرسل لا على سبيل الإيهام أن عنعنته محمولة علة السماع إلا أن يتبين أنه لم يسمع، كالحديث الذي رواه شعبة عن عمروعن جابر وقد تقدم. ووجه ذلك أنه لم يثبت(2/917)
عليه إلا أنه قد يرسل لا على وجه الإيهام، ومعنى ذلكأنه لا يرسل إلا حيث يكون هناك دليل واضح على أنه لم يسمعه، فحيث وجدنا دليلاً واضحاً على عدم السماع فذاك، وحيث لم نجد كان الحكم هو السماع ألا ترى أن الثقة قد يخطئ، ومع ذلك فروايته محمولة على الصواب ما لم يقم دليل واضح على الخطأ، فأولى من ذلك أن يحكم بالاتصال في حديث من لم يعرف عنه ألا الإرسال حيث لا إيهام، لأن المخطئ قد يخطئ حيث لا دليل على خطائه بخلاف المرسل. والحكم عندهم فيمن عرف بالتدليس وكثر منه إلا أنه لا يدلس إلا فيما سمعه من ثقة لا شك فيه أن عنعنته مقبولة، كما قالوه في ابن عيينة فما بالك بما نحن فيه؟
وأما عدم اشتهار الحديث عن ابن عباس فلا يضره بعد أن رواه عنه ثقة جليل فقيه وهو عمرو بن دينار، وكم من حديث صححه الشيخان وغيرهما مع احتمال أن يقال فيه مثل هذا أو أشد منه، هذا حديث «إنما الأعمال بالنيات» عظيم الأهمية عند أهل العلم حتى قالوا أنه نصف العلم. وهذا مما يقتضي اشتهاره، وفي روايته ما يشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره، وذكر فيه أن عمر بن الخطاب رواه وهو يخطب على المنبر، وهذا مما يقتضي اشتهاره، ومع ذلك لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر بن الخطاب، ولا رواه عن عمر غير علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة غير محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن محمد غير يحيى بن سعيد الأنصاري، ومع ذلك صححه الشيخان وغيرهما وجعلوه أصلاً من أصول العلم، بل جعلوه نصف العلم كما مر.
فإن قيل: لكن له شواهد.
قلت: وحديث القضاء بالشاهد اليمين كذلك فقد جاء من رواية جماعة من(2/918)
الصحابة بأسانيد جيدة قد صححوا نظائرها. وجاء من رواية آخرين بأسانيد نصلح للاستشهاد، (1) وجاء من مرسل عدة من التابعين، وكان عليه عمل أهل الحجاز لا يعرف عندهم خلافه.
فإن قيل: فقد قلت في حديث ابن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس في قطع يد السارق في ثمن المجن ما قلت.
قلت: ذاك خبر اضطرب فيه ابن إسحاق أشد أضطراب، وابن إسحاق في حفظه شيء، وجاءت أدلة تقضي بأنه من قول عطاء، لا من روايته عن ابن عباس كما تقدم تفصيله في المسألة السابقة، وليس الأمر ههنا كذلك، ولا قريباً من ذلك. وقد تجتمع عدة أمور يقدح مجموعها في صحة الحديث، ومنها ما لو انفرد لم يضر.
وأما مخالفته لظاهر القرآن كما قد يشير إليه صنيع البخاري في (صحيحه) فكم من حديث صححه هو وغيره وهو مخالف لظاهر القرآن كحديث المنع من الجمع بين المرآة وعمتها أو خالتها، وحديث النهي عن أكل كل ذي ناب أو مخلب، وحديث النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وغير ذلك. وكم من دلالة ظاهرة من القرآن خالفها الحنفية أنفسهم، وقد تقدم شيء من ذلك في المسألة الثانية عشر، وذكر ابن حجر في (الفتح) أمثلة من ذلك، وبسط الشافعي كلام في (الأم) ج 7 ص 6 - 31 ومع ذلك فمخالفة حديث القضاء بشاهد ويمين لظاهر القرآن مدفوعة كما ستراه.
قال الله تبارك وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ» إلى أن قال: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
__________
(1) سيأتي ذكر بعض شواهده 156-157.ن(2/919)
إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» إلى أن قال «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا» إلى أن قال «وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ» .
إن قيل: أمر الله تعالى أن يستشهد عند المدينة رجلان فإن لم يكونا فرجل وامرأتان، فدل ذلك على أنه لا يثبت الحق عند التداعي عند الحاكم إلا بذلك.
فالجواب: إن أردتم أنه لا يثبت مطلقاً إلا بذلك فهذا باطل، إذا قد يثبت الحق بالاعتراف، بالنكول فقط عند الحنفية، ومع يمين المدعي عندنا، وإن أردتم أنه لا يثبت بشهادة إلا كذلك فهذا لا يفيدكم، فإن الحديث إنما أثبته بالشاهد واليمين لا بالشاهد وحده.
فإن قيل: لو كان يثبت بشاهد ويمين لما كان بالأمر برجلين أو رجل وامرأتين فائدة.
قلنا: بلى، له فوائد عظيمة، الأولى ما نصت عليه الآية: «ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا» ، وهذا كما يحصل بالكتابة مع أن الحق لا يثبت بالكتاب وحده، فكذلك يحصل بالشهادة التامة، فإن القضاء يحصل بشهادة تامة أظهر في القسط والعدل من القضاء بشاهد ويمين، وأقوم للشهادة لأن كلاً من الشاهدين يبالغ في التحفظ لئلا تخالف شهادته شهادة الآخر، وأبعد عن الريبة كما لا تخفى، وقد دل الآتيان بصيغة التفضيل على أن أصل القسط، وقيام الشهادة، والبعد عن الريبة، قد يحصل بما هو دون ما ذكر، فما هو؟ ليس إلا الشاهد واليمين، كما دل(2/920)
عليه الحديث، فالآية تدل على صحة الحديث، لأنه لو لم يكن صحيحاً لما كان هناك ما يحصل به ما اقتضته الآية.
الفائدة الثانية: أن ذلك أحوط للحق، إذ لوأستشهد رجل واحد فقط فقد يموت قبل أداء الشهادة، أو يعرض له ما تفوق به شهادته، كالجنون أو النسيان أو الفسق أو الغيبة، فإذا كانا إثنين فالغالب أنه لا يعرض لهما ذلك معاً، وهذه أدنى درجات الاحتياط نبهت عليها الآية، ولم تمنع مما فوقها، بل في هذا إشارة إلى أنه إذا اقتضت الحال ينبغي مظاهرة الاحتياط، وذلك كأن تكون مدة الدين طويلة كخمس عشرة سنة، ووجد شاهدان شيخين كبيرين فينبغي الزيادة في عدد الشهود بحيث يغلب أنهم لا يموتون جميعاً قبل حلول الدين، أو يعرض لهم جميعاً ما تفوت به شهادتهم.
الفائدة الثالثة: إن الشاهد الواحد لا يثبت به الحق بل لا بد معه من اليمين، وقد يكبر على المدعي أن يحلف خشية أن يتهمه بعض الناس، أو لأنه قد نسي القضية أو صفتها، أو لأنه لم يحضرها وإنما حضرها مورثة الذي قد مات، وقد يجن الدائن أو يموت ويكون وارثه صبياً أو مجنوناً فتتعذر اليمين وقت المطالبة فيتأخر القضاء بالحق إلى أن يكمل صاحبه اويموت.
فإن قيل: ذكر البخاري في (الصحيح) عن ابن شبرمة انه أحتج على أبي الزناد بالآية وذكر قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» قال: «قلت: إذا كانت يكتفى بشاهد شاهد ويمين المدعي فما يحتاج أن تذكر أحدهما الأخرى؟ ما كان يصنع بذكر هذه الاخرى؟» .
قلت: قد تقدم ما يعلم منه الجواب، ولا بأس بإيضاحه فأقول: يصنع بذكر الأخرى أنه إذا كان الرجل باقياً حاضراً جائز الشهادة أن تتم فيكون ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأبعد عن الارتياب. ولا يتوقف ثبوت الحق على يمين المدعي وقد تكبر عليه أو تتعذر منه فيضيع الحق، أو يتأخر كما تقدم، وإن(2/921)
كان الرجل قد مات أو عرض له ما فوت شهادته، شهدت المرآتان وحلف المدعى معهما وثبت الحق كما هو مذهب مالك، والظاهر أنه كان مذهب أبي الزناد، وهو مذهب قوي فإن الآية أقامت المرأتين مقام الرجل، وفي (الصحيحين) من حديث أبي سعيد الخدري في قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد ومروره على النساء وموعظته لهن «قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى» وهذا قاضٍ بأن شهادة المرأتين في ما تقبل فيه شهادتهن مثل شهادة رجل، فأما إشتراط الآية لاستشهاد المرأتين أن لا يكون رجل فإنما هو والله اعلم لأن المطلوب في حق النساء الستر والصيانة، والشهادة تستدعي البروز وحضور مجالس الحكام والتعرض لطعن المشهود عليه.
فقد أتضح بحمد الله تبارك وتعالى انه ليس في الآية ما يتجه معه أن يقال إن الحديث مخالف لظاهر القرآن، بل ثبت أن فيها ما يشهد له بالصحة.
وأما المخالفة لبعض الأحاديث الصحيحة فذكروا هاهنا ما جاء في قصة الأشعث بن قيس أنه أدعى على رجل فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «شاهداك أو يمينه» . وحديث (الصحيحين) عن ابن عباس مرفوعاً: «لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» لفظ مسلم.
والجواب على الحديث الاول: أنه في (الصحيحين) وغيرهما من طريق أبي وائل شقيق ابن سلمة عن الاشعث بن قيس، وأختلفت ألفاظ الرواة في مقاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ففي رواية «شاهداك أو يمينه» ، وفي أخرى «بينتك أو يمينه» وفي ثالثة أنه بدأ فقال للأشعث: ألك بينة؟» قال الأشعث: قلت: لا، «قال فيحلف» هكذا في (صحيح البخاري) في «كتاب الأحكام» في «باب الحكم في البشر» من طريق سفيان الثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل، وهكذا رواه أبومعاوية عن الأعمش إلا أنه قال: «فقال لليهودي: احلف» . أخرجه البخاري في «كتاب الشهادات» من (صحيحيه) ، «باب سؤال الحاكم المدعي: ألك بينة؟» .(2/922)
ونحوه في (صحيح مسلم) و (مسند أحمد) ج 5 ص 211 من طريق أبي معاوية ووكيع عن الأعمش - إلى غير ذلك فلا ندري ما هو اللفظ الذي نطق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أجل من روى الحديث عن أبي منصور والأعمش وأجل من رواه عنهما سفيان الثوري وهو إمام الاتقان والفقه، وروايته هي الأشبه بآداب القضاء أن يبدأ فيسأل المدعي أله بينة؟ فإن لم يكن له بينة وجه اليمين على المدعى عليه. والبينة كل ما بين الحق، فتصدق على البينة التامة وهي ما لا يحتاج معها الى يمين، وبالبينة الناقصة وهي ما يحتاج معها الى يمين. على انه لوثبت ان لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «شاهداك أو يمينه» فدلالة هذا على نفي القضاء بشاهد ويمين ليست بالقوة، ودلالة أحاديث القضاء بالشاهد واليمين واضحة.
فإن قيل يقوي هذه أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
قلت: فإن ظاهرها يقتضي أن لا تقبل شهادة رجل وامرأتين.
فإن قيل: يجوز أن يكون الأشعث قد علم قبول رجل وامرأتين.
قلت: ويجوز أن يكون قد علم قبول شاهد ويمين. والحق أنه يجوز ان لا يكون قد علم ذا ولا ذاك، وليس هناك محذور، لأن من شأن المدعي أن يكون حريصاً على إظهار مل ما يؤمل أن ينفعه، فلو كان له شاهد وامرأتان أو شاهد فقط أو امرأة واحدة وقيل له: «شاهداك أو يمينه» لقال لا أجد شاهدين ولكني أجد كذا، وقد نازع في تحليف المدعى عليه كما في بقية القصة فإن فيها «قلت يا رسول الله ما لي بيمينه؟ وإن تجعلها تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر» أفتراه ينازع في هذا ويأخذ بما يشعر به قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن كان ما قاله «شاهداك» فلا يقول: لي شاهد واحد إن كان له؟
وأما الحديث الثاني فأوله يبين آخره، ويدل على أن محل قوله «اليمين على المدعى عليه» حيث لا يكن للمدعى إلا دعواه فقط، وكما أنه لا يتناول من له شاهدان لأنه لم يعط بمجرد دعواه، وإنما أعطي بدعواه مع شهادة الشاهدين فكذلك لا يتناول من له شاهد، لأنه إن أعطي فلم يعط بمجرد دعواه.(2/923)
وأما ما يقال: إن اختصاص المدعى عليه باليمين أصل من الأصول، فحديث القضاء بشاهد ويمين المدعي مخالف للأصول، فتهويل، ويمكن دفعه بأن لما اقام شاهدا عدلا صار الظاهر بيده، فاذا اصر المدعي عليه على الانكار فهو مدع لبطلان ذاك الظهور، فقد صار المدعي في معنى المدعى عليه وصار المدعى عليه في معنى المدعي. ويمكن معارضته بأصل آخر، وهو: انه لا يخالف المدعى عليه مع وجود بينة للمدعى.
فان قيل: ذاك إذا كانت بينة تامة.
قلت: لنا أن نمنع هذا. ويتحصل من ذلك أن المتفق عليه انه لا يمين للمدعي حيث لا شاهد له، ولا يمين للمدعى عليه مع وجود بينة تامة، ما إذا كان للمدعي شاهد واحد مترددا بين هذا الاصلين، فيؤخذ فيه بالدليل الخاص به، وقد ثبت الحديث بتحليف المدعي، فان حلف صارت البينة في معنا التامة، وان أبى صار في معنى من لا شاهد له أصلا. والله الموفق.
وأما الانقطاع الثاني وهو مبين في قيس وعمر وفلا وجه له، ولم يقله من يعتد به، وقد تقدم ان البخاري كأنه استبعد صحة الحديث، ثم لم يكن عنده إلا أن حدس إن عمرا لم يسمعه من ابن عباس، وقد تقدم الكلام معه في ذلك، وهو الذي يشدد في اشتراط العلم باللقاء، فلو كان هناك مجال للشك في سماع قيس من عمرولما تركه البخاري والتجأ إلي ذاك الحدس الضعيف الذي لا يجدي، وقيس ولد بعد عمروومات قبله، وكان معه في مكة وسمع كل منهما من عطاء وطاوس وسعد بن جبير ومجاهد وغيرهم، وكان عمرولا يدع الخروج الى المسجد الحرام والقعود فيه إلي أن مات، كما تراه في ترجمة من (طبقات ابن سعد) ، وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضا، وسمع عمرومن ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم ولم يدركهم قيس، فهل يظن بقيس انه لم يلق عمرا وهو هـ معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟ أو لم يكونا يصليان في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟ أو لم يكونا يجتمعان في حلقة عطاء غيره في المسجد ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة اذرع. اويظن بقيس انه استنكف السماع من عمرولأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالا؟ وقد قاتل الأستاذ أشد القتال(2/924)
لمحاولة دفع قولهم أن أبا حنيفة الذي ولد سنة ثمانين بالكوفة ونشأ بها، معرضا عن سماع الحديث لم يسمع من انس الذي عاش بالبصرة وتوفي بها سنة إحدى وتسعين وقيل بعدها بسنه اوسنتين، وليس بيده إلا أنه قد قيل: أن أبا حنيفة رأى أنسا! وقد تعرضت لذلك في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت من قسم التراجم، ثم ترى الأستاذ هنا يجاري أصحابه في توهمهم الباطل مع وضوح الحال.
وسبب الوهم في هذا أن الطحاوي ذكر هذا الحديث فقال «وأما حديث ابن عباس فمنكر لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء» فتوهم جماعة من آخرهم الأستاذ الكوثري أن الطحاوي قصد بهذا أن قيسا عن عمرو منقطع لعدم ثبوت اللقاء بناء على القول باشتراط العلم به، القول الذي رده مسلم في مقدمة (صحيحه) ، ونقل إجماع أهل العلم على خلافه.
وعبارة الطحاوي لا تعطي ما توهموه، فإنه ادعى أن الحديث منكر، ثم وجه ذلك بقوله: «لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء» ولم يتعرض لسماعه منه ولقائه له بنفي ولا إثبات. ولا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع، فإن كثيراً من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشيء.
فإن قيل: إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ، وعمرو لم يستضعفه أحد.
قلت: بل قد يكون لسبب آخر، كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضل بن فضالة القتباني لأنه قضى عليه بقضية، وامتنع مسلم عن الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري فكأن الطحاوي رأى أن قيس لو كان يروي عن عمر لجاء من روايته عنه عدة أحاديث لأن عمراً كان أقدم وأكبر وأجل. وقد سمع من الصحابة وحديثه كثير مرغوب فيه، وكان قيس معه بمكة منذ ولد، فحدس الطحاوي أن قيساً كان ممتنعاً من الرواية عن عمرو، فلما جاء هذا الحديث استنكره كما قد نستنكر أن نرى حديثاً من رواية ابن وهب عن المفضل، أو من رواية مسلم عن محمد بن يحيى. فإن قيل فقد يكون لإستنكاره خشي إنقطاعه.
قلت: كيف يبنى على ظن امتناع قيس من الرواية عن عمر نفسه أن يحمل هذا(2/925)
الحديث على أنه أرسله عنه؟ بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسه كان أشد امتناعاً من أن يروي عن رجل عنه فضلاً عن أن يرسل عنه - أو بعبارة أخرى - يدلس، وقيس غير مدلس.
فإن قيل: فعلى ماذا يحمل؟
قلت: أما الطحاوي فكأنه خشي أن يكون سيف وهو راوي الحديث عن قيس - أخطأ في روايته عن قيس عن عمر.
فإن قيل: فهل تقبلون هذا من الطحاوي؟
قلت: لا، فإن أئمة الحديث لم يعرجوا عليه، هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث فيما يظهر إنما حدس أن عمراً لم يسمعه من ابن عباس، وذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو، وهذا مسلم أخرج الحديث في (صحيحه) ، وثبته النسائي وغيره. وليس هناك مظنة للخطأ، وسيف ثقة ثبت لوجاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة، أو عن مسلم عن محمد بن يحيى لوجب قبوله، لأن المحدث قد يمتنع عن الرواية عن شيخ ثم يضطر إلى بعض حديثه، هذا على فرض ثبوت الامتناع، فكيف وهو غير ثابت هنا؟ بل قد جاء عن قيس عن عمرو حديث آخر، روى وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار ... » ووهب وأبوه من الثقات الأثبات.
ذكر البيهقي ذلك في الخلافيات ثم قال: «ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا» نقله ابن التركماني في (الجوهر النقي) ، ثم راح يناقش البييهقي بناءاً على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع ودعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو، وقد مر إبطال هذا الوهم، والطحاوي أعرف من أن يدعي ذلك لظهور بطلانه، مع ما يلزمه من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهم للقاء والسماع على فرض أن هناك مجالاً للشك في اللقاء، وقد بينا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع، والحق أنه لا امتناع، ولكن قيساً عاجله الموت، ولما كان يحدث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حياً في المسجد نفسه ولعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه عن عمرو لأن عمراً معهم بالمسجد،(2/926)
فكان قيس يحدث بما سمعه من أكابر شيوخه، فإن احتاج إلى شيء من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمراً عن ذلك الحديث فحدثهم به فرووه عنه ولم يحتاجوا الى ذكر قيس، واستغنى سيف في هذا الحديث، وجرير في الحديث الآخر بالسماع من قيس لأنه ثقة ثبت، ولعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو.
هذا وقد تابع قيساً على رواية هذا الحديث عن عمرو بن دينار محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي، ذكر أبو داود في (السنن) حديث سيف ثم قال: «حدثنا محمد بن يحيى وسلمة ابن شبيب قالا: ثنا عبد الرزاق نا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار - بإسناده ومعناه، قال سلمة في حديث قال عمرو: في الحقوق، وأخرجه البيهقي في (السنن) ج 10 ص 168 من طريق عبد الرزاق ومن طريق أبي حذيفة - كلاهما عن الطائفي. والطائفي استشهد به صاحبا (الصحيح) ، ووثقه ابن معين وأبو داود والعجلي ويعقوب بن سفيان وغيرهم، وقال ابن معين مرة: «ثقة لا بأس به وابن عيينة أثبت منه، وكان إذا حدث من حفظه يخطأ وإذا حدث من كتابه فليس به بأس، وابن عيينة أوثق منه في عمرو بن دينار، ومحمد بن مسلم أحب الي من داود العطار في عمرو» . وداود العطار هذا هو داود بن عبد الرحمن ثقة متفق عليه وثقة ابن معين وغيره.
وقال عبد الرزاق «ما كان أعجب محمد بن مسلم إلى الثوري» . وقال البخاري عن ابن مهدي «كتبه صحاح» . وقال ابن عدي: «لم أر له حديثاً منكراً» وضعفه أحمد، ولم يبين وجه ذلك، فهو محمول على أنه يخطأ فيما يحدث به من حفظه.
فأما قول الميموني: «ضعفه أحمد على كل حال من كتاب وغير كتاب» ، فهذا ظن الميموني، سمع أحمد يطلق التضعيف فحمل ذلك على ظاهره، وقد دل كلام غيره من الأئمة على التفصيل، ولا يظهر في هذا الحديث مظنة للخطأ وقد اندفع احتماله بمتابعة سيف. (1)
__________
(1) كذا في الأصل، وهو سبق قلم من المؤلف، والصواب: «قيس» فهو المتابع للطائفي كما هو ظاهر. ن(2/927)
هذا، وللحديث شواهد منها حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد» كان سهيل أصيب بما أنساه بعض حديثه ومن ذلك هذا الحديث، فكان سهيل بعذ ذلك يرويه عن ربيعة ويقول: «أخبرني ربيعة وهو عند يثقة أني حدثته إياه - ولا أحفظه» . والنسيان على غير قادحة، وقد رواه يعقوب ابن حميد عن محمد بن عبد الله العامري «أنه سمع سهيل بن أبي صالح يحدث عن أبيه - فذكره» وذكر ابن التركماني أنه اختلف على سهيل، رواه عثمان بن الحاكم عن زهير بن محمد عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت.
قلت: إن كان هذا مخالفاً لذاك فذاك أثبت، (1) عثمان مصري، قال فيه أبو حاتم: «ليس بالمتين» وزهير أنكروا «عليه» الأحاديث التي يرويها عنه غير العراقيين. وروى المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد» قال ابن التركماني: «مغيرة قال فيه ابن معين: ليس بشيء» .
أقول: هذا حكاه عباس عن ابن معين. وقد قال الآجري: قلت «لأبي داود: إن عباساً حكى عن ابن معين أنه ضعف مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي ووثق (مغيرة بن عبد الرحمن) المخزومي. فقال: غلط عباس» احتج به الشيخان وبقية الستة، وقال أبو زرعة: «هو أحب إلي من أبي الزناد وشعيب» ، يعني في حديث أبي الزناد. كما في (التهذيب) .وشعيب هو ابن حمزة ثقة متفق عليه. قال أبو زرعة: «شعيب أشبه حديثاً وأصح من ابن أبي الزناد» . وابن أبي الزناد تقدم ذكره في المسألة الثانية، وقد حكى الساجي عن ابن معين أنه قال: «عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة حجة» . وحكى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: «ليس في هذا الباب حديث أصح من هذا» .
قال ابن التركماني: «قال صاحب (التمهيد) : أصح إسناد لهذا الحديث حديث
__________
(1) قلت: قد صحح الطريقين عن سهل عن أبيه عن أبي هريرة، وعن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت الإمامان: أبو حاتم وأبو زرعة الرازى، كما بينبته في «الإرواء» ، فإشارة ابن التركماني الى إعلاله انتصاراً لمذهبه لاقيمة له. ن(2/928)
ابن عباس. وهذا بخلاف ما قال ابن حنبل» .
أقول: كلاهما صحيح، ولا يفيد الحنفية الإختلاف في أيهما أصح.
وذكر ابن عدي أن ابن عجلان وغيره رووا عن أبي الزناد عن ابن أبي صفية عن شريح قوله. (1) وهذا لا يوهن رواية المغيرة، إذا لا يمتنع أن يكون الحديث عن أبي الزناد من الوجهين، وإنما كانم يكثر من ذكر المروي عن شريح لأن شريحاً عراقي، والخلاف في المسألة مع العراقيين، ومن عادتهم أنهم يخضعون للمقاطيع عن أهل بلدهم، ويردون الأحاديث المرفوعة من حديث الحجازين، ولذلك جاء عن محمد بن علي بن الحسين أنهم سألوه: أقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد؟ قال: «نعم، وقضى به علي رضي الله عنه بين اظهركم» . ذكره البيهقي ج 10 ص 173. وذكر البخاري عن زكريا بن عدي أن ابن المبارك ناظر الكوفيين في النبيذ «فجعل ابن المبارك يحتج بأحاديث
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار من أهل المدينة، قالوا: لا، ولكن من حديثنا! قال ابن المبارك ... عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: إذا سكر من شراب لا يحل له أن يعود فيه أبداً. فنكسوا رؤوسهم، فقال ابن المبارك للذي يليه: رأيت أعجب من هؤلاء؟ أحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه والتابعين فلم يعبأو ابه،
وأذكر عن إبراهيم فنكسوا رؤوسهم!» حكاه البيهقي في (السنن) ج 8 ص 298.
وروى عبد الوهاب الثقفي وهو ثقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد» . أعله جماعة بأن جماعة رووه عن جعفر عن أبيه مرسلاً. ونازع في ذلك الدارقطني ثم البيهقي. (2) ...
__________
(1) قلت: عزو هذا لابن عدي فيه نظر، فإنه ليس عنده في ترجمة المغيرة من «الكامل» (ق386/2-1) ، والمصنف أخذه من «التهذيب» ، ولكن هذا لم يصرح بعزوه الى ابن عدي وانما هو من قول الذهبي في «الميزان» مصرحاً به أنه من قوله. ن
(2) قلت: وهب أن الراجح أنه مرسل. فهو مرسل صحيح الاسناد، وهو حجة عند الحنفية، لا سيما وله شواهد موصولة كما تقدم، فالحديث صحيح حجة عند الجميع لولا العصيبة المذهبية عفانا الله منها. وقد خرجت كثيراً من الشواهد لهذا الحديث عن جماعة من الصحابة في «إرواء الغليل» .(2/929)
وفي الباب أحاديث أخرى ومراسيل ومقاطيع عند الدارقطني والبيهقي وغيرهما، والحديث أشهر من كثير من الأحاديث التي يدعي لها الحنفية الشهرة، ويحتجون بها على خلاف القرآن والسنن المتواترة.
وأما قول الأستاذ: «مع عدم ظهور دلالته على التنازع فيه» . فيشير به إلى تأويلات أصحابه، فمنها زعم بعضهم في حديث مسلم: «قضى بيمين وشاهد» أن المعنى قضى بيمين حيث لا شاهدين، وقضى بشاهد حيث وجد الشهود، والمراد بـ (شاهد) الجنس وهذا التأويل كما ترى!
أولاً: لأنه خلاف الظاهر.
ثانياً: لأنه يجعل الكلام لا فائدة له، فإن لا يخفى على أحد أنه يقضى باليمين حيث لا بينة، ويقضى بالشاهدين حيث وجدا.
ثالثاً: حمل شاهد على الجنس ثم إخراج الواحد منه لا يخفى حاله.
رابعاً: هذا اللفظ رواية زيد بن الحباب عن سيف. وقد رواه عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي عن سيف، فقال: «قضى باليمين مع الشاهد» . رواه الإمامان الشافعي وأحمد عن عبد الله بن الحارث كما في (الأم) ج 6 ص 273 و (مسند أحمد) ج 1 ص 323 وزاد في رواية الشافعي: «قال عمرو: في الأموال» . وفي رواية أحمد: «قال عمرو: إنما ذاك في الأموال» . وعبد الله بن الحارث كأنه أثبت من زيد بن الحباب، فإن زيداً قد وصف بأنه يخطئ، ولم يوصف بذلك عبد الله، وكلاهما ثقتان من رجال مسلم. وهكذا رواه محمد بن مسلم الطائفي عن عمروإلا أنه قال: «قال عمرو: في الحقوق» فقوله: «قضى باليمين مع الشاهد» . لا يمكن ولوعلى بعد بعيد على أجراء تأويلهم المذكور فيه، ورواية عن ابن عباس - وهو عمرو بن دينار ثقة جليل فقيه - أقره على المعنى الذي نقول به ولهذا خصة في الأموال، والقضاء باليمين حيث لا شهود فد يكون في غير الأموال، وكذلك القضاء بالشاهدين.
وهكذا جاء لفظ هذا الحديث «قضى باليمين مع الشاهد» في حديث أبي هريرة وحديث جابر وغيرهما. وفي بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع التصريح الواضح.(2/930)
ومن التأويلات في قول بعضهم في لفظ «قضى باليمين مع الشاهد» أن المعنى قضى بيمين المدعى عليه مع وجود شاهد واحد للمدعي، ورود بأوجه: منها أنه خلاف الظاهر، فإن الظاهر أن المعية بين اليمين والشاهد وأنه قضى بينهما معاً، ومنها أن الرواية الأولى ترد هذا التأويل، ومنها أن روية عن ابن عباس وهو ثقة جليل فقيه أقره على ظاهره كما سلف، ومنها ما ورد في بعض الشواهد والمراسيل والمقاطيع من التصريح الواضح.
وفي (الفتح) عن ابن العربي أن بعضهم حمله على صورة خاصة، وهي أن رجلاً اشترى من آخر عبداً مثلاً فأدعى المشتري أن به عيباً، وأقام شاهداً واحداً، فقال البائع: بعته بالبراءة، فيحلف المشتري أنه ما اشترى بالبراءة، ويرد العبد.
أقول: حاصل هذا التأويل أن البائع أنكر أولاً العيب، فأقام المدعي وهو المشتري شاهداً واحداً، فأعترف المدعي عليه وهو البائع، ولكنه أدعى دعوى أخرى وهي أنه باع بالبراءة فأنكر المشتري، ولم يكن للبائع بينة فيحلف المشتري. وأنت خبير أن هذه قضيتان قضي في الأولى بالاعتراف، وفي الثاني باليمين وذهب الشاهد لغواً فكيف يعبر الصحابة عن هذا بلفظ «قضى باليمين مع الشاهد» و «قضى بيمين وشاهد» ؟ فإن كلاً من هاتين العبارتين تعطي أن القضاء وقع باليمين والشاهد معاً.
فإن قيل: قد يقال: لم يعترف البائع بل قال لا عيب، فإن كان فلا يلزمني لأنني بعت بالبراءة.
قلت: فعلى هذا أن حلف المشتري على وجود العيب وعدم البراءة فقد قضى له في القضية الثانية بيمينه فقط وفي الأولى بشاهده ويمينه وهو الذي تفرون منه. وإن حلف على عدم البراءة فقط ومع ذلك قضى له برد العبد فقد قضى له في الثانية بيمينه فقط، وفي الثاني بشاهد واحد بلا يمين، وهو أشد مما تفرون منه. على أن الذي ينبغي في هذه الصورة أن لا يقبل قول البائع «لا عيب ... » بل يقال له: أما أن تعترف بوجود العيب، وإما أن تصر على إنكارك، فإن أعترف فقد تقدم، وإن أصر على إنكاره، قيل للمشتري ألك شاهد آخر؟ فإن قال: لا، فعلى قولكم يقال للبائع: احلف، فإن حلف قضي له يمينه وذهب الشاهد لغوا، ولم يحتج إلى دعوى(2/931)
البراءة. وإن أبى قضي بوجود العيب لنكول المدعي عليه وذهب الشاهد لغوا وتمت القضية الأولى، ثم ينظر بالقضية الثانية.
وعلى قولنا يقال للمشتري احلف مع شاهدك، فإن حلف ثبت العيب بشاهده ويمينه، ثم ينظر في القضية الأخرى، وإن أبى قيل للبائع احلف أنه لا عيب، فإن أبى قضى له بيمينه واستغنى عن الدعوى الثانية وذهب الشاهد لغوا. وإن أبى قيل للمشتري احلف على وجود العيب (وهذه يمين مردودة ليست هي التي تكون مع الشاهد) فإن حلف قضى له بيمينه مع نكول البائع واستغنى عن الشاهد، ثم ينظر في القضية الثانية، وإن أبى سقط حقه واستغنى عن القضية الثانية.
فإن قال قائل: أنا أخالفكم في رد اليمين وفي القضاء بالشاهد واليمين إلا في صورة واحدة وهي ما إذا كان للمدعي شاهد واحد ونكل المدعي عليه عن اليمين فيحلف المدعي ويستحق، ففي هذه يقضى له بشهاده مع يمينه. قلنا: فأنت تقضي للمدعي الذي لا شاهد له بمجرد نكول خصمه ولا تقضي للمدعي الذي له شاهد بمجرد نكول خصمه بل تكلفه اليمين فوق ذلك فكأن وجود شاهد للمدعي يوهن جانب المدعي حتى لو لم يكن له شاهد لكن جانبه أقوى، فهل يقول هذا أحد؟ !
وأما قول الأستاذ: «والليث بن سعد رد على مالك رداً ناهضاً في رسالته إليه» . فهذه الرسالة في (إعلام الموقعين) ج 3 ص 82 وهي تفيد أن مالكاً كتب إلى الليث يعاتبه في إفتائه بأشياء على خلاف ما عليه جماعة أهل المدينة فأجابه الليث بهذه الرسالة، فذكر أولاً أنه قد كان في الأقطار الأخرى جماعة من الصحابة، وكان الخلفاء يكتبون إليهم قال: «ومن ذلك القضاء بشاهد ويمين صاحب الحق وقد عرفت أنه لم يزل يقضي بالمدينة به ولم يقض به لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالشام ولا بحمص ولا بمصر ولا بالعراق ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم ولي عمر بن عبد العزيز وكان كما قد علمت في حإياء السنن والجد في إقامة الدين والإصابة في الرأي والعلم بما قد مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق ... إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذاك بالمدينة فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين» .(2/932)
مقصود الليث فيما يظهر أن الأحكام على ضربين، منها ما لا يسع فيه الاختلاف ومنها ما دون ذلك. وإن الخلفاء كانوا يكتبون إلي بالأقطار الأخرى من الصحابة في الضرب الأول كيلا يخالفون فيه، وإذا وقع منهم فيه خلاف كتب إليهم الخلفاء ينهو نم عنه، وأما الضرب الثاني فكانوا يقرون فيه كل مجتهد على اجتهاده؛ وأن هذه القضية من الضرب الثاني كان الخلفاء في المدينة يقضون بالشاهد واليمين وكان من بالأقطار التي سماها الليث من الصحابة لا يقضون بذلك فيما يعلمه الليث ولم يكتب إليهم الخلفاء يأمرونهم بالقضاء به، فدل ذلك أنها عندهم من الضرب الثاني، وأستشهد لذلك بما ذكره عن عمر بن عبد العزيز، وأنه لما كان في المدينة كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنده قولهم فكان يقضي به، ثم لما كان في الشام كأن فقهاءها ناظروه فقوي عنه قولهم فصار إليه. فيرى الليث أن ما كان من الضرب الثاني فليس لمالك أن يجعل عمل أهل المدينة فيه حجة على الناس كلهم، ولا أن ينكر على من يخالفه فيه.
أقول: فهذا معنى معقول مقبول في الجملة، والمدار على الحجة، وأن حمل كلام الليث على غير هذا المعنى صار زللاً داحضاً لا رداً ناهضاً.
ونحن لم ندع أن القضاء بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق من الضرب الأول الذي لا يسع خلافه وينقص قضاء القاضي بخلافه، وإنما ادعينا أنه ثابت بالحجة وأن المخالف له مخطئ. وليس في رسالة الليث ما يدفع هذا.
وأما قول الأستاذ: «حتى أن يحيى الليثي ... » فمخالفة بعض المالكية والشافعية للإمامين إنما تدل أنه قوي عند المخالفين أنه لا يقضى بذلك، وقوته عندهم لا تستلزم قوته في نفس الأمر، والمدار على الحجة وقد اقمناها.
وأما قول الأستاذ: «فسل قضاة العصر ... » فجوابه أنها إذا روعيت العدالة الشرعية كما يجب لم يكن هناك اختلال يعتد به، وقد قضى أهل العلم بذلك ويقضون به إلى اليوم في بعض الأقطار، ولا يدرك اختلال، وإنما الاختلال في جواز القضاء بشهادة فاسقسن على ما يقول الحنفية، أو رأيت أو قال قضاة العصر قد فسد الزمان فلا يقضى بأقل من ثلاثة شهود على شرط أن تكوت القرائن مساعدة لشهادتهم؟ . وكما أن الفساد يخشى من إدعاء الباطل، فإن أشد منه يخشى من جحد الحق.(2/933)
فإن شددت بالشهادة دفعاً لما يخشى من ظلم المدعي للمدعي عليه، فقد سهلت بذلك ظلم المدعى عليه للمدعي، وهذا أشد، فإن الغالب أن يكون المطالب عند الحاكم هو الضعيف اتلذي لا يمكنه استيفاء الحق من المدعى عليه فكيف أن يظلمه؟ فالقسطاس المستقيم هو إتباع الشريعة، والله عز وجل متكفل بحفظهما، وضامن بقدره أن يسدد المتبع لها، ويسد ما قد يقع من الخلل في تطبيق العمل بشرعه على حكمته في نفس الأمر أو يجبره. وهو سبحانه اللطيف الخبير، على كل شيء قدير.
تتمة
يعلم من مناظرة الشافعي لمحمد بن الحسن في هذه المسألة أن محمداً مع إنكاره أن يقضي بشاهد ويمين ورده الأحاديث في ذلك وزعمه أن ذلك خلاف ظاهر القرآن كان يقول: إن نسب الطفل إلى المرأة وبالتالي إلى صاحب الفراش مع ما يتبع ذلك من أحكام الرق والحرية والتناكح والتوارث والاستحقاق الخلافة وغير ذلك يثبت بشهادة وحدها. فاعترضه الشافعي بأن عمدته في ذلك أثر «رواه عن علي رضي الله عنه رجل مجهول يقال له: عبد الله ابن نجي، ورواه عنه جابر الجعفي وكان يؤمن بالرجمة» .
فحاول الأستاذ الجواب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن قبول شهادة القابلة إنما هو استهلال المولود ليصلى عليه أو لا يصلى.
الثاني: أن ابن نجي غير مجهول فقد روى عنه عدة ووثقه النسائي وابن حبان.
الثالث: أن جابر الجعفي روى عنه شعبة مع تشدده ووثقه الثوري.
الرابع: أنه قد تابعه عطاء بي أبي مروان عن أبيه عن علي.
الخامس: أنه قد روى عبد الرزاق بسنده إلى عمر قبول شهادة القابلة، والأسلمي الذي في السند مرضي عند الشافعي.(2/934)
السادس: قال الأستاذ: «محمد بن الحسن استنبط قبول قول المرأة فيما يخص معرفته من قوله تعالى: «ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن» ، ووجه دلالته أن الاستهلال مما تشهده النساء دون الرجال عادة فإبطال شهادتهن ينافي قبول قول المرأة فيما تخصها معرفته كما هو المستفاد من الآية» .
أقول: أما الأول فالموجود في كتب الحنفية أنه يثبت النسب بشهادة القابلة عن أبي حنيفة وصاحبيه في بعض الصور وعندهما في صور أخرى فمن شاء فليراجع كتبهم، وليقل معي: أحسن الله عزاء المسلمين في علم الأستاذ محمد زاهد الكوثري! فأما القبول في الاستهلال ليصلي عليه أو لا يصلي فهذا يوافق عليه الشافعي وغيره وليس بشهادة، وإنما هو خبر لا يترتب عليه أمر له خطر.
وأما الثاني: فابن نجي كان مجهول الحال عند الشافعي.
وقال البخاري: «فيه نظر» . وهذه الكلمة من أشد الجرح عند البخاري كما ذكره الأستاذ في كلامه في إسحاق بن إبراهيم الحنيني وتراه في ترجمة إسحاق من قسم التراجم، فأما توثيق ابن حبان فقاعته توثيق المجاهيل كم اذكره الأستاذ غيرة مرة ومرت الإشارة إليها في القواعد وفي ترجمة ابن حبان من قسم التراجم. (1) وتوثيق النسائي معارض بطعن البخاري، على أن النسائي يتوسع في توثيق المجاهيل كما تقدم في القواعد.
وأما الثالث: فجابر الجعفي اسقر الأمر على توهينه، ثم هو معروف بتدليس الأباطيل ولم يصرح بالسماع.
وأما الرابع: فذاك الخبر تفرد به سويد بن سعيد وهو إنما يصلح للاعتبار فيما صرح فيه بالسماع وحدث به قبل عماه، أو بعده وروجع فيه فثبت. وهب أنه يصلح
__________
(1) قلت: هذا مثال آخر لاعتداد الكوثري بتوثيق ابن حبان إذا وافق مذهبه وهواه، وراجع تعليقنا في المكان الذي أشار اليه المصنف. ن(2/935)
للاعتبار في هذا فأي فائدة في ذلك وخبر الجعفي طائح؟ !
وأما الخامس: فالأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى هالك، وارتضاء الشافعي له إنما هو فيما سمعه عنه أما لأنه سمع من أصوله، وأما لأنه كان متماسكاً ثم فسد بعد ذلك (1) وهذا الخبر لم يسمعه منه الشافعي، ومع ذلك فشيخه فيه إسحاق بن عبد الله الفروي وهو هالك باتفاقهم. والزهري عن عمر منقطع.
ثم إن كان المراد بالقبول على الاستهلال لأجل الصلاة على المولود فليس هذا محل النزاع كما سلف.
وأما السادس: فقوله تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِن» الكلام فيع على التوزيع، أي: ل يحل للمرأة أن تكتم ما خلق الله في رحمها، والنهي عن الكتمان يقتضي أنه مظنة أن يقع، وإنما يظن بالمرأة أن تكتم حيث كان لها غرض فمآل النهي عن الكتمان إلى الأمر بالاعتراف، فغاية ما في هذا الدلالة على أنه يقبل منها الاعتراف، فإذا ذكرت أنها قد تمت أقراؤها كان هذا اعترافاً بأنه لا نفقة لها، وادعاء لأنه لا رجعة للزوج عليها فيقبل منها الاعتراف وينظر في الادعاء، فإن قبل منها الادعاء أيضاً فهل تجعلون الولادة من هذا القبيل؟
فإن قلتم: نعم!.
لزمكم أن تقبلوا قول الأم نفسها: هذا ابني من فلان، وتثبتوا بذلك نسبه وميراثه وغير ذلك.
فإن قلتم: إنما هو موضع الاستنباط أن الآية أشعرت بأنه يقبل قول المرأة في الحيض والحمل وأن علة ذلك هو أنه يتعسر العلم بذلك إلا من جهتها فقلنا:
__________
(1) قلت: وإما لأنه لم يتبين له حاله، ولم يعرفه كما عرفه غيره من الأئمة كمالك وأحمد وغيرها. قال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص 223) بعد أن روى عن الشافعي أنه كان يقول فيه: كان قدرياً: «لم يبين له أنه كان يكذب، وكان يحسب أنه طعن الناس عليه من أجل مذهبه في القدر» . ن(2/936)
والولادة يعسر العلم بها إلا من جهة النساء فأخذنا النساء من ذلك قبول شهادتين فيها.
قلنا: أما قبول قولها وحدها في حيضها وحملها، فهذا مما تختص هي بمعرفته دون غيرها، والولادة ليست كذلك بل يطلع عليها غيرها من النساء، أفرأيتم إذا أخذتم من ذلك قبول شهادة النساء على الولادة فمن أين أخذتم أنها تكفي امرأة واحدة؟ فقد تحضر عدة قوابل وقد تحضر مع القابلة عدة نساء وقد يحيط رجال بالخيمة مثلاً بعد كشفها، والعلم بأنه ليس فيها إلا المرأة الحامل، ثم يحرسون الخيمة إلى أن تكشف فلا يكون فيها إلا المرأة وطفل معها فيشهد الرجال شهادة محققة أنها ولدت ذاك الطفل، دع قضية الرجال فإنها نادرة، ولكن هل قلتم دلت هذه الآية على قبول شهادة النساء في الولادة، ودلت آية الدين على اشتراط العدد، فيؤخذ من الآيتين قبول شهادة أربع نسوة كما يقول الشافعي؟ أو ليس إذا قبلتم شهادة امرأة واحدة فيما يختص به النساء لزمكم قبول رجل واحد فيما يختص به الرجال كما يتفق في الجامع يوم الجمعة؟ بل في كل شيء إلا أنه إذا كفت امرأة واحدة فيما يختص به النساء ورجل فيما يختص به الرجال فما لا يختص لا يتجه فيه إلا أحد أمرين: إما أن يكفي الواحد رجلاً كان أو امرأة، وإما أن يشترط رجل أو امرأتان، فقد دلت السنة على هذا فيما يتعلق بالأموال ورادتكم يميناً.
فإن قلتم لكن الشافعي لا يقول بقبول شهادة المرأتين مع اليمين.
قلنا: قد قال بذلك أستاذه مالك وهو مذهب قوي كما سلف؛ والله الموفق.(2/937)
المسألة السادسة عشرة: نكاح الشاهد امرأة شهد زوراً بطلاقها
في (تاريخ بغداد) 13 / 371 من طريق الحارث بن عمير قال: قال «سمعت أبا حنيفة يقول ... ، قال الحارث بم عمير وسمعته يقول: لوأن شاهدين شهدا عند قاض أن فلان بن فلان طلق امرأته وعلما جميعاً أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها؟ قال: نعم. قال: ثم علم القاضي بعد أله أن يفرق بينهما؟ قال: لا» .
قال الأستاذ ص 37: «مسألة نفاذ حكم القاضي ظاهراً وباطناً هو مقتضى الأدلة وإن كان شاهد الزور يأثم إثماً عظيماً لكن لا يحول ذلك دون نفاذ حكم القاضي ظاهراً أو باطناً وإلا لزم إباحة وطئها للزوج الأول في السر فيما بينه وبين الله وإباحة وطئها للزوج الجديد بحكم الحاكم، وأي قول يكون أقبح وأشنع من هذا؟ يكون لامرأة احدة زوجان في حالة واحدة أحدهما يجامعها في السر والآخر في العلانية، ونعترف أن أبا حنيفة لا يمكنه أن يرى مثل هذا الرأي رغم مل تشنيع، بل يرتد على مخالفيه ومشنعيه كما صورناه، وأبو حنيفة من أبرأ الناس من أن يحدث الفوضى في الأحكام، وأما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه بحال الشاهدين فليس من مسائل أبي حنيفة وإنما مذهبه التروي في الحكم مطلقاً» .
أقول: يتفوه الأستاذ بالقبح والشناعة وينسى ما في صنيعه هذا منهما، أما إباحتها لزوجها الحقيقي فذلك حكم الله تبارك وتعالى من فوق سبع سموات! وأما إباحتها لذلك الشاهد الفاجر فإنما يقول بها أبو حنيفة، فأما مخالفوه ومنهم أصحابه أبو يوسف ومحمد وزفر فإنهم قائلون بحرمتها عليه أشد التحريم.(2/938)
والحاصل أن أبا حنيفة يقول هي حرام في حكم الله تعالى على زوجها، مباحة في حكم الله تعالى للشاهد الفاجر! ومخالفوه يقولون بعكس هذا. غاية الأمر أن القاضي لجهله في نفس الأمر يحول بينها وبين زوجها ويسلط الشاهد الفاجر عليها، ولا قبح في هذا ولا شناعة، أرأيت إذا ادعى رجل على امرأة أنها زوجته فحكم القاضي بذلك، وكانت المرأة في نفس الأمر أم المدعي أو أخته أو بنته والقاضي لا يعلم، أليس يسلطه عليها في قول أبي حنيفة وغيره؟ ونظير مسألتنا ما إذا كان لزيد أمة فادعى بكر أنها أمته وأقام شاهدي زور فقضى له القاضي، فأبو حنيفة يوافق في هذه أن الأمة لا تزال في ملك زيد حلالاً له وحرماً على بكر، وإن كان القاضي يحول بينها وبين زيد ويسلط عليها بكراً. وليت الأستاذ كان ذكر الأدلة التي زعم أن نفاذ حكم القاضي ظاهراً وباطناً هو مقتضاها فكنت أنظر فيها، وعسى أن تكون في ذلك فائدة، ولكن الأستاذ عدل عنها إلى سلاحه الوحيد من المغالطة والتهويل على عادته. ومن العجيب قوله: «وأما عدم تفريق القاضي بينهما بعد علمه ... » أليس من المعلوم أنه في قول أبي حنيفة إذا علم حقيقة الحال قضى بأنها امرأة ذلك الشاهد الفاجر حلال له ظاهراً وباطناً؟ أو ليس إذا كان هذا قضاءه لم يكن هناك وجه عنده للتفريق بينهما؟ .(2/939)
المسألة السابعة عشرة: القرعة المشروعة
في (تاريخ بغداد) 13 / 390 من طريق يوسف بن أسباط قال: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وأقرع أصحابه، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار» قال الأستاذ ص 87: «وأما مسألة القرعة فقد قصرها أبو حنيفة على موردها وقال: إنما يجري الإقراع عند إرادة السفر بين النساء، وعند القسمة التي ليس فيها باطل حق ثابت، باعتبار أن القرعة وردت في ذلك على خلاف القياس» .
أقول: الذي في كتب الحنفية عن أبي حنيفة أنه لا حكم للقرعة، وإنما تستحب تطييباً للنفس ثم لا يلزم العمل بها، فللزوج أن يخرج بأي أزواجه شاء حتى لو أقرع فخرج سهم إحداهن فله الخروج بغيرها. وهكذا في القسمة يكون حق التعيين للقاضي. وقد بقين للقرعة موارد أخرى. ودعوى أنها خلاف القياس كأنه أريد بها في الأصل قمار. وسنوضح بعون الله عز وجل بطلان ذلك ونثبت أن القرعة في بابها قياس من أعدل الأقيسة وأقومها وأوفقها بالأصول، وأن جعل التعيين إلى الزوج والقاضي في الفرعين السابقين هو مخالف للأصول.
أعلم أن صورة القرعة قد تستعمل في أربعة أبواب:
الباب الأول: أن يقصد بها إبطال حق صاحب الحق وجعله لمن لا يحق له، كأن يقول الرجل لصاحبه ألق خاتمك وألقي خاتمي ونقترع عليهما فأينا خرج سهمه استحق الخاتمين. أو يقول أحدهما: أقارعك على خاتمي هذا فإن خرج سهمك(2/940)
أخذته أنت. أو يتداعيا داراً في يدهما فيقال أقرعوا بينهما فان خرج سهم المدعي أخذ الدار.
الباب الثاني: أن يتنازعا حقاً أن يكون لهما معاً ولا دليل يرجح جانب أحدهما، كأن يتنازعا داراً بيدهما معاً، ولا دليل لأحدهما، وحلف كل منهما أنها جميعها له ليس لصاحبه منها شيء.
الباب الثالث: أن يختص الحق بأحدهما بعينه ويتعذر تعيينه، كمن طلق بائناً إحدى امرأتيه وتعذر تعيينها.
الباب الرابع: أن يكون الحق في الأصل ثابتاً لكل منهما لكن اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه.
فأما الباب الأول فلا نزاع أن القرعة إذا استعملت فيه فهي قمار، وكذلك الباب الثاني.
وأما الباب الثالث ففيه نظر وقد قال بعض الأئمة بصحة القرعة فيه.
وأما الباب الرابع فهو مورد القرعة، والفرق بينه وبين الأبواب الأولى بغاية الوضوح، فإنه إذا اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه فما بقي إلا طلب طريق للتعيين لا ميل فيه ولا حيف، فإذا ظفرنا بطريق كذلك لم يكن فيه إبطال حق ثابت ولا إثبات حق باطل، فما هوهذا الطريق؟ من كانت له امرأتان واحتاج إلى السفر واستصحاب إحداهما فقط، فقد ثبت بالدليل باعتراف أبي حنيفة أن له ذلك وبقي التعيين، ومن مات عن ابنين فقسم القاضي المال نصفين فقد ثبت الدليل باعتراف أبي حنيفة أنه ينبغي تخصيص أحدهما بأحد النصفين والآخر بالآخر وبقي التعيين. فأبو حنيفة يقول: يعين الزوج والقاضي، ومخالفوه يقولون: الزوج والقاضي منهيان عن الميل وعن كل ما يظهر منه الميل، ولا ريب أن تعيينهما برأيهما ميل أو يظهر منه الميل والأصل في ذلك التحريم، فإباحته لهما مخالف للأصول والقياس وفتح لباب الهوى ومناف للحكمة. وإذا عين الزوج برأيه إحدى امرأتيه ظنت الأخرى أنه إنما عينها ميلاً إلى هواه فحزنها ذلك، وأدى ذلك إلى مفاسد،(2/941)
وإذا عين القاضي برأيه أحد النصفين لزيد وكان بكر يريده ظن بكر أن القاضي إنما مال مع هواه، وساءت ظنون الناس بالقاضي وجر ذلك إلى مفاسد. فإن قال أبو حنيفة: فما المخلص؟ قالوا قد بينه الله تعالى ورسوله وهو القرعة، فإن قال: القرعة قمار. قيل له: إنما تكون قماراً في غير هذا الباب كما تقدم شرحه، وإذا صح أن أبا حنيفة إستحب القرعة فقد لزمه أنها ليس في هذا الباب بقمار وإنها مشروعة، وإذا اعترف بأنها مشروع فما بقي إلا أن يجب العمل بها أو يجوز تركها وجعل التعيين إلى الزوج والقاضي، والحجة قائمة على منع أن يكون التعيين إلى الزوج والقاضي لأنه فتح لباب الميل كما تقدم، ولا ضرورة إليه ولا حاجة.
وقد وردت القرعة في فروع أخرى من الباب الرابع، وبذلك ثبت أنها في ذلك الباب أصل من الأصول الشرعية يقاس عليه ما يشبه.
قال الله تبارك وتعالى في قصة مريم: «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا» إلى أن قال «وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (آل عمران: من الآية44) .
فالقوم وفيهم نبي الله زكريا عليه السلام اختصوا في كفالة مريم، ففزعوا إلى القرعة، وظاهر أنهما إنما يرضون بالقرعة عند تساويهم في أصل الإستحقاق وإقتضاء مصلحة الطفلة أن يختص بكفالتها أحدهم. فقص الله تبارك وتعال ذلك في كتابه وأخبر أنها كفلها زكريا، أي والله أعلم بأن أخرج سهمه في القرعة فكان هو القارع.
وقال عز وجل في قصة يونس: «إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ الصافات» (الصافآت: 140 - 142) ذهب يونس إلى فلك مشحون أي موقر ليركب فيه فكأنه والله أعلم طلع إلى الفلك هو وجماعة حاجتهم كحاجته(2/942)
فكأن صاحب الفلك أخبرهم أنه لا يمكنه أن يسافر بهم جميعاً لأن فلكه مشحون أي موقر، وطلب منهم أن ينزل بعضهم فتشاحوا فإقترعوا فطله سهم يونس في المدحضين أي في الذين خرجت القرعة بأن ينزلوا - والظاهر أن الفلك كان لا يزال بالمرفأ وليس في النزول منه خطر ظاهر، لكن الله عز وجل قضى على يونس بما قضى وفي (الصحيحين) من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «لويعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لأستهموا ... » وفي (صحيح مسلم) من حديثه أيضاً مرفوعاً: «لوتعلمون - أو يعلمون - ما في الصف المقدم لكانت قرعة» أي أنهم يحضرون معاً ويكثرون ويتشاحون ولا يكون هناك مرجع فيحتاج إلى القرعة وفي (صحيح البخاري) ، وغيره من حديث أم العلاء قالت: «طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ... .» وفيه من حديث النعمان بن بشير مرفوعاً: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ... » وفي (صحيح مسلم) وغيره عن عمران بن حصين: «أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق أثنين وأرق أربعة» ووجه ذلك أن تصرف المريض مرض الموت وصية يصح منها الثلث فقط، ومن الأصول الشرعية مراعات أن تعتق الرقبة كاملة كما ثبت فيمن أعتق في حال صحته بعض مملوكة أنه يعتق عليه كله، وفيمن أتعق شركاً له في مملوك أنه أن كان المعتق موسراً عتق المعتوق كله وغرم المعتق قيمة ما زاد على نصيبه لشريكه، وإن كان معسراً فقد قال بعض أهل العلم: يعتق المملوك كله ويسعى في قيمة ما زاد على نصيب المعتق حتى يدفعها إلى الشريك، وقال آخرون: قد عتق منه ما عتق ويبقى باقيه على الرق. ومن المعنى في مراعاة عتق الرقبة كاملة أن مقصود العتق هو أن يحصل للملوك وعليه جميع الحقوق المختصة بالأحرار ويغني عن المسلمين غناء الحر، وليس المبعض كذلك، فإن من حقوق الأحرار ما لا يحصل له ولا عليه منها شيء، ومنها ما يحصل له جزء من فقط، ومع ذلك يكون التبعيض منشأ نزاع مستمر بين المبعض ومالك بعضه، فيلحق الضرر بكل منها، ويشتبه الحكم في كثير من الفروع على المفتي والقاضي، كما تراه في أحكام المبعض في كتب الفقه، فجاءت(2/943)
السنة بأن يجزأ الستة ثلاثة أجزاء ليعتق إثنان كاملان فكلهم متساوون في أصل الحق، واقتضى الدليل أن يخص إثنان منهم وبقي التعيين، فهذه الصورة من الباب الرابع الذي وردت فيه القرعة. فثبت أن القرعة في ذاك الباب أصل من الأصول الشرعية قرره الكتاب والسنة، واقتضاه العدل والحكمة.
«والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه وسلم» .(2/944)