إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد :-
فإن العمل التربوي - على اختلاف مستوياته - ضرورة لا تستغني عنها الأمة الإسلامية، فهو الوسيلة لنقل الأحكام الشرعية من الحيز النظري إلى العمل والتطبيق، ويكفي في بيان علو منزلة التربية وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه مرب فقال }هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ{ (الجمعة:2).
وقد رأينا اليوم ثمار ونتاج التربية التي تولاها جيل الصحوة المبارك، برغم هذا الواقع السيء للأمة، فخرَّج هذا الجيل نماذج فذة متميزة أعادت الأمل بتحقق مجد الأمة وعزها، وأسهمت في حماية الشباب المسلم من أبواب الفساد وطرقه، وأخذت بيده في مدارج الخير والهداية.
إن هذا الجيل المتميز الذي خرج برغم هذه العواصف والمعوقات، والذي يؤمل أن يكون فرطاً للأمة في حركة التغيير الشاملة التي تسعى إليها وقد بدأت بشائرها تلوح في الأفق، إن هذا الجيل كان نتاج جهد تربوي ضخم، جهد قام عليه أناس يرجون وجه الله والدار الآخرة –نحسبهم كذلك والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً-، ولا يسوغ أن يكون ما فيه من قصور أو ضعف بشري مدعاة للطعن والتثبيط فضلاً عن الاحتقار واستصغار الجهود.
والجهد التربوي جهد لا يطيقه أي إنسان، بل هو جهد في غاية الصعوبة والمشقة، إنه تعامل مع عالم الإنسان هذا العالم الغريب الذي يحوي عديداً من المتغيرات، وتؤثر فيه كثير من العوامل والمؤثرات، ويبقى تعميم التجربة الفردية غير ذي بال، فمتى يجد الباحث في هذا الميدان صورتين متكافئتين؟(1/1)
وهو جهد يحتاج لمزيد من المعارف والعلوم، ومزيد من القدرات والإمكانات والمواهب، ورصيد من التجارب والخبرات.
ومع ذلك كله يزداد الأمر صعوبة ومشقة حين يكون في مجتمع تتجه معظم وسائل التأثير فيه اتجاهاً مضاداً لما يريد المربي، فالشارع، والسوق، وزملاء المدرسة، ووسائل الإعلام، وربما المنزل والمدرسة تربي الشاب والفتاة اليوم على خلاف المنهج الشرعي.
إن هذا كله يفرض على من ولاه الله مسؤولية التربية والتوجيه سواء كان أباً أو أماً أو معلماً أن يعنى بأداء هذه الأمانة والرسالة، وألا تتحول هذه الوظيفة إلى عمل آلي مجرد.
وهو يفرض على من آتاه الله علماً وفهماً وتجربة في هذه الميادين أن يسهم في تصحيح المسيرة وتقويمها مصوِّباً لما يراه صواباً من العمل، ومصلحاً لما يرى من خطأ وخلل، ومذكراً بما يُغفل عنه أو ينسى، ومعلماً لما يُجهل.
ومن هذا المنطلق كان للكاتب عناية بطرح الموضوعات والمسائل التربوية من خلال المحاضرة أو الكتابة؛ شعوراً منه بأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إليه.
وهو حين يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق لا يرى أنه أصبح أستاذاً وموجهاً للمربين، ولا عَلَماً ينبغي أن يصدروا عن رأيه – عياذاً بالله من العجب والاعتداد بالنفس - بل يرى أن كثيراً من القائمين على هذه الثغور والميادين خير منه وأبر وأتقى لله.
وغاية ما في الأمر أنه رأى من نفسه قدرة على تقديم مايفيد بعض المربين فتصدى لطرح ما لديه.
ورغبة في لمِّ شتات ما تفرق من ذلك رأيت جمعه في هذه السلسلة، فما يطرح في المحاضرات المسجلة يُغفل عنه وينسى مع طول المدة، إضافة إلى صعوبة الرجوع إليه، إضافة إلى أن الحديث المسجل يغلب عليه السعي لإيصال فكرة معينة، وتفرض طبيعة الارتجال فيه نوعاً من قلة التحرير والضبط، ويسود فيه التكرار والإعادة.(1/2)
لذا رغبت في تدوين وكتابة بعض ما سبق طرحه مما يخص المربين، ولما كانت بعض الموضوعات لا تستحق أن تفرد في كتاب مستقل، رأيت أن أصدرها في سلسلة تحوي كل مجموعة منها عدداً من الموضوعات سواء مما سبق طرحه في مقال أو محاضرة أو مما لم يكن كذلك.
وأشعر أن الحديث في المسائل التربوية لن يكون قضايا نهائية محسومة - حاشا ما كان فيه نص من قرآن أو سنة – بل ستكون مساحة الرأي الشخصي واسعة فيها، وتترك التجربة والخبرة الشخصية أثرها الواضح على المتحدث فيها.
والكاتب يأمل بعد ذلك كله من إخوانه ممن يقرؤون ما سطره في هذه الرسائل أن يتواصلوا معه بالنصح والتصويب، والاقتراح والتأييد والتسديد.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون في هذا الجهد ما يفيد، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، ويرزقنا فيه السداد والإصابة، وأن يمن علينا بصلاح أبنائنا وذرياتنا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،،
محمد بن عبدالله الدويش
ص ب 52960 الرياض 11573
الرياض 21/5/1420هـ
من البدهيات المقررة لدى الناس أجمع أنه لابد لكل وظيفة وعمل يقوم به الإنسان من إعداد وتهيئة، فالبناء لا يمكن أن يقوم به إلا متخصص، والصيانة لأعمال المنزل، أو السيارة لا يمكن أن تتم إلا على يد من يعرف هذا العمل ويدرك أصوله، فكيف ببناء الإنسان وإعداده؟
والتربية عملية مهمة وصعبة، إنها إعداد للإنسان وغرس للقيم والمعاني، وهي وسيلة لإزالة الرواسب السيئة التي ترسخت لدى الإنسان بفعل عوامل ومؤثرات شتى.
إنها تعامل مع عالم الإنسان، العالم الغريب بأحواله ومشاعره وعواطفه وسائر أموره.(1/3)
إن من يتعامل مع غير الإنسان يتعامل مع آلة صماء، أو حتى كائن حي يمكن السيطرة عليه وترويضه، أما التعامل مع الإنسان فهو أمر عسير؛ إنه التعامل مع الند والقرين، فإذا كانت التربية كذلك فلا يمكن ولا يسوغ أن تتاح لكل إنسان، بل وليس حمل المفاهيم الصحيحة، والخلفية العلمية والقدرة على الحديث والحوار، ليس ذلك وحده كاف في أن يتأهل الشخص للتربية.
ومن ثم يأتي الحديث عن صفات المربي وتحديد هذه الصفات لأمور عدة:
فالأمر الأول: أن هذا يسهم في وضع ضوابط ومعايير يمكن أن يختار المربون على أساسها؛ فلا يتولى التربية إلا من يملك هذه الصفات ويتمثلها؛ فليست الأقدمية وطول الخبرة، ولا المؤهل العلمي وحده كافياً في تأهل الشخص للتربية.
الأمر الثاني: أن تكون منطلقاً لتربية وتوجيه من يُعدُّون للتربية، بحيث يُسعى إلى تحقيق وتكوين هذه الصفات لديهم؛ فالمربون ليسوا هم الأفراد الذين يحفظون كماً من المعلومات أكثر من غيرهم، ولا أفراداً يجيدون الحديث أكثر من الآخرين، إنهم القادرون على أداء تلك المهمة العالية: مهمة بناء النفوس وإعدادها.
الأمر الثالث: أن ذلك يقود المربين إلى مراجعة أنفسهم على ضوئها حتى يزداد عطاؤهم وترتفع قدرتهم ويعظم أثرهم ونتاجهم بإذن الله.
الأمر الرابع: أن هناك مفاهيم واقتناعات غير صحيحة ترسخت اليوم عن العمل التربوي لدى طائفة من جيل الصحوة، ومنها:
أ – اعتقاد أن كل الناس يجيدون التربية، وأن من استكمل مرحلة معينة في البناء التربوي وحصل قدراً من العلم الشرعي والمفاهيم فهو مؤهل لتربية غيره، ولو لم يكن يملك تلك الصفات الشخصية التي تؤهله لذلك.
ب – اعتقاد أن الميدان التربوي هو وحده أفضل الميادين، وأنه ميدان الناجحين، وأن الفشل فيه دليل على ضعف تربية صاحبه أو ضعف قدراته .(1/4)
ومع الإيمان بأهمية هذا الميدان فليس هو الميدان الوحيد، وقد يفشل فيه من ينجح فيما سواه، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - تفاوت أصحابه وتباين قدراتهم، ومع ذلك لم يكن هذا مدعاة لانتقاص ما امتاز به فرد على آخر.
عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :»أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح«(1).
وكتب عبدالله القمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل فكتب إليه مالك رحمه الله: " إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد . فنشر العلم أفضل أعمال البر ، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر".
فلابد أن نملك الجرأة التي نواجه بها أنفسنا حين نرى أنها لا تصلح لهذا الميدان فننأى بها عنه، وأن نملك الجرأة التي تدفعنا لمصارحة من نراه غير مؤهل لذلك.
ومع أهمية الحديث عن صفات المربي فإن السعي لاستجماعها يطول، ويدعو الكاتب للحديث عن بدهياتٍ وقتُ المربي أثمن من أن يقرأها، خاصة أن كثيراً من المخاطبين بهذا الخطاب على قدر من العلم والوعي، ومن ثم رأيت الاقتصار على بعض الصفات التي أحسب أن هناك من القراء من يحتاج للتنبيه عليها، لكونها لم تخطر بباله، أو أنها قد خطرت لكنها تحتاج للوقوف عند بعض جوانبها.
لذا فهذه الصفات هي أهم الصفات التي يرى الكاتب أن المربي يحتاج إلى أن يُحَدَّث عنها، لا الصفات التي يجب أن يتحلى بها.
1 - العلم:
والعلم الذي يحتاجه المربي يشمل جوانب عدة، منها:
__________
(1) رواه أحمد (12493) 3/183 والترمذي (3790) وابن ماجه (154)(1/5)
أ - العلم الشرعي: فالتربية في الإسلام إعداد للمرء للعبودية لله تبارك وتعالى، وذلك لا يُعرف إلا بالعلم الشرعي، والعلم الشرعي يعطي المرء الوسيلة للإقناع والحوار، ويعطيه القدرة على مراجعة المسائل الشرعية وبحثها، وهو يمنعه من الانزلاق أو الوقوع في وسائل يمنعها الشرع.
والعلم الشرعي الذي يراد من المربي لا يعني بالضرورة أن يكون عالماً أو طالب علم مختص، لكن أن يملك القدرة على البحث والقراءة والإعداد للموضوعات الشرعية، وأن يملك قاعدة مناسبة من العلوم الشرعية، ويبقى بعد ذلك التطلع لمزيد من التحصيل لزيادة رصيده من العلم الشرعي.
ب - الثقافة العامة المناسبة، وإدراكه لما يدور في عصره.
ج - العلم بما يحتاج إليه من الدراسات الإنسانية، كطبيعة المرحلة التي يتعامل معها (أطفال، مراهقين، رجال ... .)، وطبيعة الإنسان ودوافعه وغرائزه واستعداداته، واطلاعه على عدد من الدراسات التي تخص الفئة التي يتعامل معها.
وهذا أيضاً لا يلزم منه أن يكون مختصاً بعلم النفس أو التربية، لكن أن يملك الأسس العامة، وأن يكون قادراً على فهم الدراسات والبحوث المتخصصة في هذا المجال.
د - المعرفة بالشخص نفسه من حيث قدراته واستعداداته وإمكاناته، ويظهر هذا الأمر لمن يتأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفته لأصحابه.
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :»أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح«(1)
__________
(1) رواه الترمذي (3790) وابن ماجه (154) وأحمد (12493) 3/183(1/6)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :» لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه«(1).
وأوصى - صلى الله عليه وسلم - صاحبه أبا ذر -رضي الله عنه- بوصية تنبيء عن معرفته به، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:» يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم«(2).
هـ - المعرفة بالبيئة التي يعيشها المتربي بصفة عامة؛ إذ هي تترك آثارها الواضحة على شخصيته، ومعرفة المربي بها تعينه على التفسير الصحيح لكثير من المواقف التي يراها.
2 - أن يكون أعلى من المتربي:
فالتربية عطاء وإعطاء، وأداء وتلقٍّ، ومن ثم كان لابد أن يكون المربي أعلى ممن يربيه، وليس بالضرورة أعلى سناً - وإن كان عامل السن له أهميته- لكن أن يكون أعلى قدرات وخبرات وإمكانات.
»وتلك حقيقة نفسية تعمل عملها في النفوس، فأنت لكي تتلقى لابد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي، وإلا فلو أحسست أنك في الموقف الأعلى فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس؟«(3).
__________
(1) رواه البخاري (6570)
(2) رواه مسلم (1826)
(3) منهج التربية الإسلامية (2/44)(1/7)
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يملك أعلى صفات البشرية في كل جانب من الجوانب فهو من خير الناس نسباً ومنزلة، وهو أوسعهم خلقاً فكان أحلم الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس. وهاهم أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يسجلون هذه الشهادة: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قِبَل الصوت فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: »لن تراعوا لن تراعوا« وهو على فرس لأبي طلحة عري، ما عليه سرج، في عنقه سيف فقال: »لقد وجدته بحراً أو إنه لبحر«(1).
وهو - صلى الله عليه وسلم - أتقاهم لله وأعبدهم له عز وجل، كما قال عن نفسه: »قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم« (2).
ولهذا يتفاوت الناس في مدى قدرتهم على التربية، فمعظم الآباء نظراً لفارق السن والخبرة يجيدون تربية أبنائهم، أو بمعنى أدق: يتجاوب معهم أبناؤهم في الصغر لشعورهم بأنهم أعلى، لكن كلما تقدم السن ازداد الأمر صعوبة، وقلَّ أولئك الذين يستجيب لهم أبناؤهم.
ولهذا فمن الناس من تكون طاقته أن يربي أبناءه الصغار، ومنهم من يجيد تربية مجموعة محددة من الناس، ومنهم من تكون أكثر من ذلك، ومنهم من يربي مجتمعاً بأسره، أما الأمة كلها على امتداد الزمان والمكان فاختار الله لها المربي الأول? - صلى الله عليه وسلم - .
3 - أن يملك المربي ما يقدمه:
»وينبغي أن يحس المتلقي ثانياً أن مربيه -بالإضافة إلى أنه أكبر شخصية منه - عنده ما يعطيه، فليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي - وهي البديهية الأولى في عالم التربية - إنما ينبغي أن تكون عنده حصيلة يعطيها الآخرين في صورة تجربة واقعية« (3) .
__________
(1) رواه البخاري (6033) ومسلم (2307)
(2) رواه البخاري (7367)
(3) منهج التربية الإسلامية (2/44)(1/8)
وتتمثل هذه الحصيلة في جوانب عدة منها:
أ ـ الرصيد العلمي الشرعي وهو أمر له أهميته وسبقت الإشارة إلى ذلك.
ب ـ القدرة على الإجابة على التساؤلات الملحة التي يطرحها المتربون والمتلقون.
ج ـ القدرة العقلية والخبرة العملية التي تعينه على مساعدة من يربيهم على تجاوز مشكلاتهم فيجيد التعامل معها، ويجيد طرح الرأي المناسب لحلها.
وحين يفقد المربي هذا وذاك يشعر المتربون، أنه ليس ثمة ما يدعوهم للارتباط بفلان من الناس، وليس عنده ما يؤهله لأن يتولى تربيتهم.
4 - أن يملك القدرة على العطاء:
»هناك شخصيات كبيرة لا تستطيع أن تعطي، ومن ثم لا تستطيع أن تربي، هو في ذاته شخصية فائقة التكوين، متفوق عقلياً أو روحياً أو نفسياً أو عصبياً أو أخلاقياً ... ولكنه لسبب ما لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية لأنه عزوف عن الناس، لأنه صاحب تجربة فكرية فقط بغير رصيد من التجربة الواقعة، لأنه رجل مثالي حالم، يحلم بالمثل ولا يمارس التطبيق الواقعي، أو لا يحسنه ... . ومن الأمثلة المعهودة أن تجد أستاذاً جامعياً ممتازاً في علمه، ممتازاً في خلقه، ممتازاً في محاضرته...ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يربي، ولا أن يُكوِّن جيلاً من التلاميذ بمعنى الحواريين والأتباع« (1) .
إنهم كثير أولئك الذين نراهم في المجالس والملتقيات يجيدون الحديث، ويجيدون التنظير والنقاش، وربما يملكون من الخبرة والعلم والمعرفة، لكن ذلك وحده لا يؤهلهم لأن يتولوا التربية، فقد لا يستطيعون العطاء، وكثيراً ما تأسرنا شخصيات أمثال هؤلاء، ونظن أنهم أفضل الطاقات المؤهلة للتربية دون النظر إلى الجوانب الأخرى.
وكونه أيضاً قادراً على الإعطاء لا يكفي بل لابد من أمر آخر ألا وهو:
5 - أن يكون حسن العطاء:
__________
(1) منهج التربية الإسلامية (2/44-45)(1/9)
»فمجرد أن يكون لديه ما يعطيه ليس كافياً في شؤون التربية، إنما ينبغي أن يعطيه بطريقة حسنة كذلك، وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد حين يعطي المربي ما عنده بطريقة منفرة« (1).
إن التربية ليست مجرد معلومات أو توجيهات تقال للناس، وليست مجرد أوامر أو نواهي، بل هي عطاء واسع يشمل جوانب النفس شتى، ويتعامل معها في أحوالها وأطوارها المختلفة والمتفاوتة.
ومن ثم فالذي يتولى هذه المهمة لابد أن يملك القدرة على التعامل مع هذا الواقع، وبناء النفس في هذه الأطوار المتفاوتة.
إن البائع الذي يسعى لترويج سلعته يدرك أن مجرد عرضها على الناس للبيع ليس كافياً في ترويجها، فهو يحتاج لحسن عرضها، ويحتاج للحديث عنها مع الناس بالطريقة التي تشعرهم بحاجتهم إليها، وإلى وسائل للدعاية والإعلان ... .إلخ.
ويتحدث المختصون اليوم عن أساليب لتسويق الأفكار وترويجها، ووسائل للإقناع والتأثير على الناس.
فكيف بالتربية التي هي فوق ذلك كله؟
ولقد تحدث من كتب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طائفة من صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومنها أن يكون: رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه.
وقد يشعر المربي أنه يكفيه إثبات حبه لمن يربيه، ووجود الحب أمر ضروري للتلقي لكن الحب وحده »لا يكفي، فقد تحب طفلك وتحب له الخير، ولكن طريقتك في تقديم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه«(2).
إن المربي الذي يملك حسن الإعطاء هو الذي يجيد استخدام الأسلوب الأمثل، وأن يحقق لكل مقام مقاله المناسب.
6 - القدرة على القيادة:
والتربية كما أنها إعطاء وتلقٍ، فهي تتضمن جوانب أخرى لها أهميتها، تتمثل في قيادة الناس وإدارتهم، وهي صفة لا يملكها كل الناس، فالناس يستطيعون اتخاذ قرارات إدارية، وقد يستطيع بعضهم إدارة عمل أو مؤسسة، لكن القيادة فوق ذلك كله.
__________
(1) منهج التربية الإسلامية (2/45)
(2) منهج التربية الإسلامية (2/45)(1/10)
خاصة إذا علمنا أن التلقي والتربية يصعب فرضها على الناس فرضاً، فقد يستطيع العسكري أو السلطان أن يسوق الناس بعصاه، أما المربي فما لم يكن قائداً قادراً على القيادة والإقناع فلن يستطيع تربية الناس.
7 - القدرة على المتابعة:
»فالتربية عملية مستمرة لا يكفي فيها توجيه عابر -مهما كان مخلصاً ومهما كان صواباً في ذاته- إنما يحتاج الأمر إلى المتابعة والتوجيه المستمر« (1).
»والشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية، ولو كان فيه كل جميل من الخصال، وليس معنى التوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة! فذلك ينفر ولا يربي فالمربي الحكيم يتغاضى أحياناً أو كثيراً عن الهفوة وهو كاره لها، لأنه يدرك أن استمرار التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه، ولكن ينبغي التنبه دائماً من جانب المربي إلى سلوك من يربيه، سواء قرر تنبيهه في هذه المرة أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر أولهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير« (2).
8 - القدرة على التقويم:
التقويم لا يفارق التربية ولا تستغني عنه، بل هو لا يفارق أي عمل جاد مستمر، ويحتاج المربي للتقويم حتى:
أ ـ يُقوِّم الأفراد ويحدد قدراتهم ليعطي كل شخص ما يناسبه.
ب ـ يُقوِّم الأفراد بعد تلقيهم للتربية ليقيس مدى ما تلقوه وأثره عليهم.
ج ـ ويُقوِّم الأعمال والبرامج والحلول.
د ـ ويُقوِّم المشكلات ليضعها في إطارها وموقعها الصحيح دون مبالغة أو تهوين من شأنها.
والتقويم الذي يحتاجه المربي هنا هو التقويم العلمي الموضوعي الذي ينطلق من أسس محددة موضوعية، لا الانطباع الشخصي لديه تجاه عمل أو فرد ما.
__________
(1) منهج التربية الإسلامية (2/46-47)
(2) منهج التربية الإسلامية (2/47-48)(1/11)
ومن ثم يحتاج المربي إلى أن يتعرف على العوامل والعناصر الموضوعية التي يُقوِّم من خلالها ويعطي كل عامل نسبته ووزنه المناسب.
ثم يحتاج ثانياً إلى أن يملك القدرة على التحقق من وجود هذه المعايير ودرجة ذلك.
والخبرة والتجربة بالإضافة إلى المناقشات الجماعية مع الاطلاع والممارسة، كل ذلك مما يسهم في زيادة قدرة المربي على التقويم.
9 - القدرة على بناء العلاقات الإنسانية:
التلقي فرع عن المحبة، وللعلاقة بين التلقي والمحبة من الاتصال قدر أكبر مما قد نتصور أحياناً، فمن لم يغرس المحبة له في نفوس الطلاب فكثير مما يقوله ستكون نهايته عندما يتلفظ به، ولن يأخذ طريقه نحو القلوب، فضلاً عن أن يتحول إلى رصيد عملي.
وهب أن إنساناً بلغ الغاية في التأثير وقوة المنطق ورصانة الحجة، أتراه يكون أعلم، أو أفصح، أو أكثر تأثيراً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ومع ذلك قال الله سبحانه في شأنه }فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ{ (آل عمران:159). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع ما آتاه الله سبحانه من وسائل التأثير، ومع شعور الناس أن الحق معه وحده، مأمور بأن يلين لأصحابه وإلا انفضوا عنه، فكيف بغيره ممن يحمل قائمة طويلة من صفات القصور والنقص؛ فهو حين لا يحظى بقبول تلامذته له سيرون فيه من القصور ما يبررون به رفضهم وإهمالهم لما يقول؛ بل تفسير نصحه وتوجيهه على غير وجهه.(1/12)
لذا يؤكد الأستاذ محمد قطب على هذا الارتباط فيقول:»والضمان لذلك هو الحب ... فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير، فلن يقبل على التلقي منه، ولو أيقن أن عنده الخير كله بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده؛ وأي خير يمكن أن يتم بغير حب« (1).
ولأجل ذلك عني من كتب في أدب العالم والمتعلم من الأسبقين بالتأكيد على حسن الخلق وجميل الرعاية، فيوصي ابن جماعة المربي بذلك فيقول: »وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب، ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه، والإحسان إليه، والصبر على جفاء ربما وقع منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه، وسيء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان، ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصداً بذلك حسن تربيته، وتحسين خلقه، وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة لصريح العبارة، وإن لم يفهم إلا بصريحها أتى بها وراعى التدريج في التلطف« (2).
ويكرر الغزالي الوصية نفسها فيرى أن من آداب المعلم:»أن يزجر المتعلم عن سيء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ«(3).
ويؤكد الإمام النووي هذا المعنى فيقول:»ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه، والصبر على جفائه وسوء أدبه، ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان فإن الإنسان معرضٌ للنقائص«(4) .
10 - الاستقرار النفسي:
حيث إن المربي يتعامل مع الناس، ومع الطبيعة الإنسانية المعقدة فلابد أن يملك قدراً من الاستقرار النفسي، فلا يكون متقلب المزاج سريع التغير مضطرباً، أو يعاني من حدة انفعالات أو سوء ظن وحساسية مفرطة، فضلاً عن كونه غير مصاب بمرض نفسي.
__________
(1) منهج التربية الإسلامية ( 2 /45 ).
(2) تذكرة السامع والمتكلم ( 50 ).
(3) إحياء علوم الدين ( 1/57 ).
(4) المجموع شرح المهذب (1/30).(1/13)
إن المتربي بحاجة إلى أن يتعامل مع إنسان مستقر، بحاجة إلى أن يتعامل مع شخص يتوقع ويتنبأ بتصرفاته، أما حين لا يكون مربيه كذلك فلن يعيش هذا الفرد في جو مريح، وسوف يسيطر عليه الخوف والقلق.
11 - التوازن الاتصالي:
إن التربية ليست عملاً من طرف واحد، وليست تعاملاً مع آلة صماء، ومما لا يقبل أن يحول المربي المتلقي إلى شخص مهمته أن يحسن الاستماع والاستقبال فحسب، بل لابد من قدر من التوازن الاتصالي فالتربية عملية اتصال من طرفين لا من طرف واحد.
ومن ثم فلابد من العناية بحسن الخطاب والحوار مع المتربي، وحسن الإنصات والاستماع له، وكذلك كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعاً بين الأمرين.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد؟ –والنبي - صلى الله عليه وسلم - ?متكئ بين ظهرانيهم- فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: يا ابن عبدالمطلب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ?»قد أجبتك« فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ??إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك، فقال: »سل عما بدا لك« فقال: أسألك بربك ورب من قبلك أالله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: »اللهم نعم«، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ فقال : »اللهم نعم«، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ فقال : »اللهم نعم«، قال: أنشدك بالله أالله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :»اللهم نعم«، فقال: الرجل آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام ابن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر (1).
__________
(1) رواه البخاري (63)(1/14)
فانظر إلى عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإنصات والاستماع لهذا الرجل، ومثل ذلك استماعه - صلى الله عليه وسلم - للشاب الذي جاء يستأذن بالزنا.
وكما كان يعتني - صلى الله عليه وسلم - بالاستماع والإنصات، فقد كان يعتني بالخطاب والحديث، فكان حسن الحديث، تصفه عائشة -رضي الله عنها- بقولها : »لم يكن يسرد الحديث كسردكم« (1) وفي لفظ »ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بينه فصل يحفظه من جلس إليه« (2).
12 - السمت والهدي الحسن:
__________
(1) رواه البخاري (3568)
(2) رواه الترمذي (3639) وانظر في الحديث حول التوازن الاتصالي علم النفس الدعوي (304-307)(1/15)
إن المربي قدوة بأعماله وسلوكه قبل أن يكون موجهاً للناس بقوله، والفعل والهدي يترك أثراً على النفس أعظم من أثر القول؛ وفي حديث جرير بن عبدالله البجلي –رضي الله عنه- ما يؤيد هذا المعنى، فعنه –رضي الله عنه- قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: »}يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ{ إلى آخر الآية }إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً{ والآية التي في الحشر }اتّقُواْ اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مّا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا الله{ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: »ولو بشق تمرة« قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :»من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء« (1).
فالناس قد سمعوا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته وتأكيده، لكنهم لما رأوا هذا الموقف من هذا الرجل تتابعوا في الإنفاق.
__________
(1) رواه مسلم (1017)(1/16)
ولهذا عني السلف بالتأكيد على جانب الهدي والسمت الحسن لدى المربي؛ روى الرامهرمزي بإسناده عن أبي العالية قال:»كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء الصلاة لم نأخذ عنه«(1).
وقال محمد بن سيرين: »إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم«(2).
وقال حماد بن زيد: دخلنا على أنس بن سيرين في مرضه فقال:»اتقوا الله يا معشر الشباب، وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث فإنها دينكم« (3).
وقال الإمام مالك رحمه الله:»إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تسأل يوم القيامة فانظر عن من تأخذه« (4).
وقال مجالد:» لا يؤخذ الدين إلا عن أهل الدين« (5).
فما أحوج المربين اليوم إلى تحقيق السمت الحسن والهدي الصالح في نفوسهم.
13- الاعتدال والاتزان:
سنة الله تبارك وتعالى في خلقه قائمة على الاعتدال والتوازن، وهي سنة مطردة لا يشذ عنها شيء؛ فالشمس والنجوم والأفلاك والأرض بما فيها قائمة على أساس ذلك، وحياة الإنسان الجسمية والعقلية قائمة على أساس هذا الاعتدال والتوازن.
والغلو والشذوذ أمر ممقوت أياً كان مصدره، حتى لو كان دافعه الاستزادة من الخير والاجتهاد في العبادة، لذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة ممن شددوا على أنفسهم في العبادة بالاعتدال وإعطاء كل ذي حق حقه.
وكما يبدو الغلو والتشدد في مواقف محددة، فهناك فئة من الناس يصبح الخروج عن الاعتدال سمتاً لهم وصفة ملازمة لتصرفاتهم وأحكامهم.
__________
(1) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي الحسن بن عبدالرحمن الرامهرمزي (409).
(2) رواه مسلم في مقدمة صحيحه. والخطيب في الكفاية 121. والرامهرمزي في المحدث الفاصل(437).
(3) رواه الخطيب في الكفاية (122). والرامهرمزي في المحدث الفاصل (440).
(4) رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (444).
(5) رواه الرامهرمزي في المحدث الفاصل (445).(1/17)
ويبدو أثر تلك السمة في الأحكام التي يصدرها الشخص على الناس والجهود البشرية؛ فتدور بين الثناء والذم المبالغ فيهما، وفي المواقف التي يتخذها؛ فتتسم بالحسم والقطع في الأمور النسبية التي تحتمل الرأي الآخر.
ومن آثار فقدان الاعتدال لدى المربي:
أ – أن يغرس هذه الصفة لدى طلابه فيربيهم على الغلو والتطرف في التفكير والآراء والمواقف؛ إذ هم لا يسمعون إلا رأياً واحداً يمثل الحق المطلق في كل قضية صغيرة وكبيرة، وكل ما خالف هذا الرأي فهو باطل بكل حال، وما لم يتمثل الاعتدال لدى المربي في صورة واقعية فلن يبقى أثر لما يطرحه من جوانب معرفية ونظرية.
ب - ويبدو ذلك أيضاً في تقويمه لأعماله وبرامجه، ولطلابه وتلامذته فيتسم بالتطرف والخروج عن الاعتدال.
ج – عدم القدرة على التعامل المتزن مع تصرفات طلابه وتلامذته؛ فيقف منها موقف المتشنج، وتزداد مساحة ردة الفعل في تعامله مع أخطائهم، أو مع ما يصنفه على أنه أخطاء، ولو لم يرق لذلك.
14 – التفاؤل:
إن الشعور بالنجاح وإمكانية تحقيق نتائج مرضية شرط لابد منه في أي عمل يعمله الإنسان؛ فالتاجر الذي يفقد الأمل في الربح يرى من العبث وإضاعة المال أن ينفق أمواله في التجارة، والكاتب الذي لا ينتظر رواجاً لفكرته وتحقيقاً لأهدافه من نشرها لن يسطر حرفاً ... وهكذا سائر العاملين أياً كانت أهدافهم ومشاربهم.
ولما كان الجهد التربوي جهداً مضنياً وشاقاً، ويحتاج لطول نفس وصبر، ونتائجه حين تقاس بالمعايير الكمية تبدو ضئيلة لأول وهلة، أصبح التفاؤل سمة مهمة في من يتصدون للقيام بهذا الجهد.
ويزداد الاقتناع بأهمية هذه السمة حين ندرك أن نتائج التربية لا تبدو آثارها في الرقعة الزمنية المحدودة، وتحتاج إلى فترة قد لا يصل إلى مداها المتسرعون والمتشائمون.(1/18)
إن هناك فئة من الناس يسيطر عليهم التشاؤم، ويسبق هاجس الفشل قيامهم بأي جهد أو عمل، فالأولى بهؤلاء أن يسلكوا الميادين التي تبدو نتائجها سريعة ومغرية.
إنهم حين يتصدون للتربية فلن تقنعهم النتائج والآثار التي يرونها على تلامذتهم لأنهم يتطلعون لما هو أكبر وأسرع من ذلك، وتسيطر عليهم النظرة للهفوات والأخطاء ليبرهنوا بها على فشل استجابة الناس، أو فشلهم هم في جهدهم وتربيتهم.
كما تبدو تلك الآثار في تفكيرهم وحوارهم وأحكامهم، فيغرسون الروح المتشائمة لدى من يتلقون عنهم، ويفشلوا في إقناع من تحت أيديهم بقدرتهم على النمو وتجاوز الأخطاء.
15 - القدرة على النمو:
قد يملك المربي قدرات ومعارف وخبرات جيدة، لكن هذا وحده لا يكفي؛ فلابد من أن يملك القدرة على النمو، وتبدو هذه الصفة ضرورية للمربي للأمور الآتية:
الأول: أن الحياة متجددة متطورة، فالوعي السياسي الذي يملكه شخص ما يصبح بعد عام أو أعوام قليلة مجرد ذاكرة تاريخية، وقل مثل ذلك في سائر المجالات المتطورة، بل حتى ميدان العلم الشرعي تتجدد فيه أمور عدة، فثمة كتب تطبع حديثاً، وثمة مؤلفون جدد ومحققون ومؤسسات علمية، كل ذلك يحتاج إليه طالب العلم المربي، فضلاً عن المسائل والنوازل المستجدة، وما لم يكن متابعاً قادراً على النمو فسوف تضمر لديه هذه الجوانب.
الثاني: أن تطور مجالات الحياة المتسارع -خاصة في هذا العصر- يترك آثاراً واضحة على المجتمع الذي ينشأ فيه، وما لم يدرك المربي ذلك ويعيه فإنه سيعيش مع جيل غير جيله، وسيضع مرآة أمام عينه مستوردة من الجيل السابق ينظر بها كل ما أمامه.
وما نراه اليوم من إصرار بعض المربين على تكرار تلك الأساليب والبرامج التي عهدوها وتلقوها إنما يمثل صورة من صور التعامل مع الجيل الحاضر بعقلية الجيل السابق.(1/19)
الثالث: أن زاد المربي محدود لابد أن ينفد، ففي مبدأ الأمر يدرك المتربون على يديه أنه يملك رصيداً هائلاً لا يملكونه، وأنهم يلقون لديه الكثير، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يتناقص تبعاً لما حصلوه منه، حتى يروا أنه لم يعد لديه شيء ذي بال يذكر، وأنهم قد استوعبوا كل ما لديه من خبرات.
الرابع: أن المتربين ينمون ويتطورون، بل هم في موقف يشعرهم بأن المهمة الأساسة لهم هي التلقي، ولابد أن يكون لهم مصادر ذاتية أخرى غير ما يقدمه لهم من يربيهم، ومن ثم فهذا النمو ما لم يقابله نمو من المربي فإنه سيخل بمعادلة التفوق المفترضة، وسيجعل موقفه تجاههم أقل من ذي قبل.
وهذا يبدو واضحاً بشكل أكبر لدى العناصر المتميزة، فهم سرعان ما يدركون أنهم تجاوزوا من يربونهم، أو أنهم على الأقل بحاجة لعطاء وأداء جديد قد لا يملكه هؤلاء المربون، ومن ثم يبحثون عن البديل.
والمربي الناجح الورع، الذي يتقي الله في الأمانة التي حمله الله إياها، والذي يسعى لمصالح تلامذته أكثر من سعيه لبناء المجد الشخصي والهالة الزائفة حول نفسه؛ الذي يكون بهذه الصفة يكون واقعياً ويشخص المشكلة بوضوح، ويسمح لأمثال هؤلاء أن ينتقلوا إلى بديل أفضل.
لكننا اليوم نرى فئاماً من الشباب يصبحون ضحية لطائفة من المربين أصحاب قدرات محدودة، ومع ذلك يتهمون الآخرين بالتمرد وعدم معرفة قدرهم، ويسعون لصنع هالة ضخمة لأنفسهم.
الخامس: أن انشغال المربي بالمهمة التربوية يجعله يشعر بأن الدور الأساس له هو العطاء والتوجيه، وأن مرحلة النمو والتلقي والأخذ قد انتهت وتجاوزها، فما أن يقضي وقتاً في هذا الميدان حتى يرى أن الآخرين قد فاقوه وسبقوه.(1/20)
وكان السلف يؤكدون على من يتولى التعليم والتوجيه ألا يقف عند هذا الحد، فقد ذكر ابن جماعة من آداب المعلم : »ألا يستنكف عن أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها، قال سعيد بن جبير: "لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون" وأنشد بعض العرب:
وليس العمى طول السؤال وإنما تمام العمى طول السكوت على الجهل
وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم«(1).
والقدرة على النمو صفة مهمة قد تكون فطرية في النفس، فمن الناس من تؤهله قدراته إلى مستوى معين يقف عنده ويصعب عليه تجاوزه، ومن هنا تأتي مسؤولية أولئك الذين يختارون المربين في مراعاة تحقق هذا الجانب لدى من يؤهلون لتولي التربية.
ومع هذا الأمر الفطري تبقى هناك جوانب عدة تسهم في تحقق هذا النمو لدى المربي، ينبغي للمربين أن يسعوا لتحقيقها في أنفسهم، ومنها:
1- التحصيل الذاتي، من خلال القراءة والمطالعة، والتعامل مع أوعية المعلومات ومصادرها المختلفة، وينبغي أن يكون حازماً مع نفسه ويضع لها برنامجاً لا يخل به، وسيجد من أوقات الفراغ والإجازات، وتقليل الروابط الاجتماعية غير الضرورية، وإعادة تنظيم أوقاته مع طلابه، سيجد من ذلك كله ما يعينه على تحقيق هذا الجانب.
2- العناية بما يقدمه لطلابه من مشاركات ودروس، بحيث يعتني بالإعداد، ولا يقف إعداده على مجرد ما سوف يلقيه ويقدمه لهم، بل يجعل من إعداده لموضوع ما فرصة لاستيعاب أطرافه وما طرح وكتب فيه.
3- اللقاء مع المربين الأعلى منه قدرة، واستشارتهم والاستفادة من خبرتهم والحرص على السماع منهم.
__________
(1) تذكرة السامع والمتكلم (60)(1/21)
4- اللقاء مع أقرانه بشكل مستمر ودائم؛ فهذا يسهم في تبادل الهموم والخبرات والتجارب، ويسهم في رفع مستوى تفكيره؛ ذلك أنه حين يعيش في أوساط من يربيهم وهم دونه سناً وخبرة، فلابد أن يتأثر باهتماماتهم وخبراتهم، فيسهم حديثه معهم وتلقيه لمشكلاتهم وتساؤلاتهم في حصر تفكيره وهمومه داخل هذه الدائرة، بل يشعر بالتفوق والأستاذية، لكنه حين يعيش مع أقرانه وطبقته فإن ذلك سوف يسهم في تحقيق التوازن لديه في هذا الجانب.
الكمال عزيز:
النقص من صفات البشر ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها، وحين نسعى لاستجماع هذه الصفات في كل من يربي وبالقدر الأمثل فنحن نبحث عن عناصر نادرة لا يمكن أن تفي بجزء من متطلبات الجهد التربوي المنوط بالصحوة اليوم.
لكنها منارات نسعى للتطلع إليها والاقتراب منها، متذكرين أن النقص والقصور سمة بشرية، وأن الكمال عزيز، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
ومتخذ القرار الحصيف الذي يجمع بين الواقعية وبين رعاية الأمانة والمسؤولية تجاه الجيل، لن يجهل أن هناك قدراً من الخلل في الصفات يغتفر ويسعى لعلاجه، ويكون احتماله خير من تعطيل الجهد والطاقات، وأن هناك قدراً لا يمكن اغتفاره.
ونختم حديثنا بالوصية للمربين والعاملين للإسلام بأمر بالغ الأهمية، وبدونه يصبح كل ما يقومون به من عمل وما يبذلونه من جهد غير ذي بال، ألا وهو الإخلاص لله تبارك وتعالى وإرادة وجهه.
ونحن ندرك أن عامة من يتصدون لتربية شباب الصحوة اليوم يدفعهم لذلك حسن النية والرغبة في تحصيل الثواب؛ إذ لانتائج دنيوية ترجى من وراء هذا العمل.
لكن ما نؤكد عليه هو استحضار النية الخالصة، وتذكرها واستشعارها، فهذا بإذن الله علاوة على ما يحقق لصاحبه من الثواب ورضا الله عز وجل، فهو يزيد الهمة ويعلي الحماسة للعمل، ويعين صاحبه على احتمال ما يواجه من مشاق وعقبات.(1/22)
وفي النهاية يدرك المخلصون ثواب عملهم حين تسعر النار بأولئك الذين كانوا يبحثون عن عاجل حطام الدنيا ويبتغون رضا الناس بأعمالهم الصالحة.
عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أنشدك بحق ... وبحق ... . (1)لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلا ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق فمسح وجهه فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق ومسح وجهه فقال: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته علي طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتتل في سبيل الله ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك.
__________
(1) حُذفت من الراوي.(1/23)
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يارب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرتَ بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك.
ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة و قال الوليد أبو عثمان فأخبرني عقبة ابن مسلم أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا قال أبو عثمان وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لمعاوية فدخل عليه رجل فأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس، ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشرٍّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله }من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون{(1).
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المخلصين، العاملين له ابتغاء وجهه، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،،
ثمة اعتبارات عدة تؤكد على أن تحاط الجهود التربوية بسياج ضوابط الشرع، منها:
الاعتبار الأول :التربية عبادة:
__________
(1) رواه الترمذي (2382) وأصله عند مسلم (1905) بأخصر من هذا.(1/24)
التربية عمل شرعي، وعبادة لله عز وجل، فلا بد لها أن تحاط بسياج الشريعة وتضبط بضوابطها، وإن سلامة المقصد وحسن النية ونبل العمل ليست مسوغاً أو مبرراً لتسور السياج الشرعي وتجاوز الضوابط.
وإذا كان الدافع للمربي هو تحصيل الأجر وابتغاء مرضاة الله عز وجل، فهذا لن يتحقق له مع مخالفة أمر الله وتجاوز حدوده }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{ (الكهف:110).
الاعتبار الثاني:التربية وظيفة شرعية:
التربية شأنها شأن سائر الوظائف الشرعية الأخرى (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحكم بين الناس، الجهاد....) فإذا كانت هذه الوظائف لابد من إحاطتها بسياج الضوابط الشرعية، فالتربية كذلك.
ولذلك ذكر أهل العلم آداباً للمحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينبغي أن يحققها ويرعاها، وذكروا آداباً وأحكاماً للجهاد كالامتناع عن قتل النساء والولدان والرهبان وأهل الصوامع، وذكروا آداباً للقاضي في نظره وتعامله مع الخصوم ونطقه بالقضاء، وفي كتب أدب العالم والمتعلم ذكروا طائفة مما ينبغي أن يرعاه ويتمثله كلٌ من معلم العلم وطالبه.
الاعتبار الثالث:التربية قدوة:
التربية قدوة قبل أن تكون توجيهاً، وعمل قبل أن تكون قولاً، والمربي ينبغي عليه أن يربي الناس بفعله قبل قوله، فحين يجاوز حدود الشرع فكيف سيربي غيره على الورع والتقوى ورعاية حدود الله والمتربي يرى المخالفة الشرعية ممن يربيه ويقتدي به؟
وأثر إخلال المربي بالتزام الضوابط الشرعية في تربيته وعمله لا يقف عند حد العمل التربوي بل يتجاوز ذلك لينتج جيلاً يتهاون بحرمات الله ويتجاوز حدوده ويقصر في أوامره في سائر ميادين حياته.
الاعتبار الرابع:المربي تحت المجهر:(1/25)
وكما أن المربي يُنظر إليه بعين القدوة فهناك عيون أخرى ترقبه وتنظر إليه، فينظر إليه من الخارج باعتباره واحداً ممن يعمل للإسلام وعمله يمثل السمت والهدي الشرعي، وربما يُنظر إليه بعين تبحث عن الخطأ وتفرح به؛ فتتخذ من أخطائه مدخلاً للنيل من المصلحين، والوقوف في خندق واحد مع أعداء الله، وهو مسلك قديم ورثه هؤلاء عن أولئك الذين طعنوا في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم انتهكوا حرمة الشهر الحرام، ناسين أنهم واقعون فيما هو أكبر من ذلك من الصد عن سبيل الله والكفر به والمسجد الحرام }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلََئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَأُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ (البقرة:217).
وذلك كله يدعو المربي إلى أن يتقي الله ويتحرى الضوابط الشرعية فيما يأتي ويذر.
الاعتبار الخامس:التوفيق بيد الله:
إن التوفيق والنجاح ليس مرده إلى الجهد البشري وحده، بل قبل ذلك كله توفيق الله وعونه وتأييده؛ وهذا التوفيق له أسباب من أعظمها وأهمها رعاية العبد لحرمات الله، وما أحرى أولئك الذين يتجاوزون الحدود الشرعية بالبعد عن توفيقه سبحانه وتأييده، وفي التعقيب على غزوة أحد بيان أن ما أصاب المؤمنين إنما كان بسبب أنفسهم }أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هََذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{ (آل عمران:165).(1/26)
هذه الاعتبارات وغيرها تدعو وتؤكد على ضرورة أن يعنى المربون برعاية الآداب الشرعية، وأن يكون عملهم محاطاً بسياج الضوابط الشرعية.
والمتأمل في الساحة الإسلامية يرى أن هناك تجاوزات عدة في ميدان العمل التربوي للضوابط الشرعية تستوجب الوقوف والمراجعة.
ولعل أهم أسباب هذه التجاوزات ما يلي:
السبب الأول:
ضعف العلم الشرعي وقلة العناية به؛ فكثير من العاملين في الساحة الإسلامية يأخذ العلم الشرعي مرتبة متأخرة ضمن برامجهم، بل إن الأمر تجاوز مجرد إهمال العناية بالعلم الشرعي إلى تهميش دوره والتقليل من شأنه؛ فهو يشغل عن الدعوة إلى الله وهمومها، أو هو شأن الخاصة والمهتمين، أو أن العناية باستراتيجيات الدعوة وقضاياها الفكرية الساخنة أولى وأصدق دلالة على عمق صاحبها! ... هذه حجج يواجَهُ بها من يدعو بعض العاملين للإسلام لإعطاء العلم الشرعي دوره اللائق به ضمن برامجهم الدعوية.
ونحن إذ نقول ذلك لا ندعو أيضاً إلى أن يكون الجانب العلمي هو وحده الهم الأوحد للدعاة، وأن يهمل ما سواه، ولا إلى أن يكون كل جيل الصحوة فقهاء ومحدثين ومجتهدين، ولا أن تنسى الأولويات الدعوية ونعيش في إطار هامشي محدود.
لكننا ندعو إلى أن يأخذ مكانه اللائق به، وأن يكون البناء العلمي من أهم أهداف المربين للشباب اليوم؛ فبدونه يخرج جيل يجيد التقعر والتشدق، ويحسن الخطابة والحديث دون علم شرعي يحميه من الزلل والتجاوزات، ويسلك به منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه في الدعوة.
وندعو إلى أن يجمع المربون بين الاعتناء بالعلم الشرعي، والتعاطي المنضبط مع الثقافة المعاصرة، والوعي بظروف العصر وأحواله.
السبب الثاني:(1/27)
الغلو والمبالغة في دور المربي وواجباته وتعظيم ذلك، وهذا يؤدي إلى نقل كثير من المناهي الشرعية إلى دائرة الضرورة؛ إذ يرى المربي أن التربية لا تتم إلا بذلك، فهو بحاجة لمعرفة معلومات دقيقة عمن يربيه، والاطلاع على كوامن في نفسه، وإلى أن يتجاوز الوقوف عند حدود الظاهر...
وحين يعطى هذا الجانب أكثر من حقه فسيشعر المربي أن الضوابط الشرعية ستقف عائقاً دون تأدية أدوار كثيرة فيضطر لتجاوزها، كما يفعل بعض الزعماء حين يجنحون إلى إعلان حالة الطوارئ التي تسمح لهم بقدر من الحرية في تجاوز القوانين التي قد تحد من صلاحياتهم، مع فارق التشبيه.
وعلى أولئك الذين يضخمون حجم المربي ويعطونه هالة ليست له أن يدعموا موقفهم بنص من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يؤيد ذلك؛ إذ هو من جملة المسلمين المخاطبين بسائر النصوص الشرعية.
والمربي -مع التقدير لدوره ووظيفته- شأنه شأن القائمين بكثير من الوظائف الشرعية كالتعليم والاحتساب، وقد اعتنى أهل العلم قديماً وحديثاً ببيان ضوابط عمل هؤلاء وحدود مسؤوليتهم، دون أن يعتقدوا أن خصوصية مهمتهم عامل في تجاوز الضوابط الشرعية.(1/28)
ومع أهمية الجهاد وجواز الكذب فيه على الأعداء، إلا أنه مهما كانت المصالح فلا يجوز الغدر ولا الخيانة، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يوصي من يؤمره في الجهاد بمراعاة الأدب الشرعي؛ فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال:»اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً ... وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا«(1).
السبب الثالث:
ضعف الورع والانضباط الشرعي، وهو باب بلي به كثير من الناس في هذا الزمان، ومن يضعف ورعه ويرق دينه ربما تجرأ على ما يعلم علم اليقين أنه محرم، أو تهاون فيما هو في دائرة المشتبهات، أو غلبه هواه.
وامتد أثر ذلك إلى بعض الصالحين فغلب عليهم التهاون وقلة الورع في حياتهم الخاصة، ومن ثم بدا أثره في أعمالهم وجهودهم الدعوية، بل بعضهم يرفض مبدأ النقاش في هذه القضايا من أساسه.
السبب الرابع:
الإغراق في التنظير والأسباب المادية والغفلة عن الإخلاص واستحضار النية واستشعار العبودية لله تعالى في هذه الأعمال، وحين يغيب هذا الأمر تسيطر الحسابات البشرية المادية، ويغفل المرء عظمة قدرة الله تبارك وتعالى، والتي من أعظم نتائجها وآثارها التسليم والتفويض له، والشعور بأن العمل مالم يبارك الله فيه ويكتب التوفيق لصاحبه فهو إلى بوار وهلاك.
__________
(1) رواه مسلم (1731)(1/29)
ولا نعني أن يهمل الدعاة إلى الله الأخذ بهذه الأسباب فهي مما لابد منه، لكنها ينبغي أن لا تنسينا استحضار النية والعبادة في هذه الأعمال.
السبب الخامس:
قلة العناية بالمراجعة والمحاسبة؛ إذ هي توقف المرء على مدى تقصيره، وعلى جوانب الخلل في عمله، ولا يسوغ أن يكون الاعتياد على عمل وإرثه عن السابقين حائلاً ومانعاً عن المراجعة والمحاسبة.
وقد يسمع المربي النقد لبعض أوضاعه، والحديث عن بعض التجاوزات الشرعية التي يقع فيها، فتحول نظرته لنبل عمله وسلامة مقصده، أو أنه ورث هذا العمل عن من يحسن الظن بهم ويثق بمسلكهم عن الاقتناع بخطأ مسلكه.
أو أن يكون النقد صادراً ممن لا يرعى فيه الأدب الشرعي، أو من أهل الإثارة واللغط على المصلحين، والمؤمن يقبل الحق ممن جاء به ولو ساءت نيته أو أساء الأدب في عرضه.
من صور الإخلال بالضوابط الشرعية:
الصورة الأولى:
الاتكاء والاعتماد على القواعد الشرعية العامة المجملة دون النظر للنصوص الخاصة في المسألة، والشريعة باب واحد لا يمكن أن تتناقض أو تضطرب، والقواعد العامة للشرع إنما تفهم في إطار سائر النصوص، وتسليط الأفهام البشرية عليها يؤدي إلى فوضى واستهانة بحدود الله.
ومن أهم هذه القواعد مراعاة المصلحة، إذ كثيرٌ من المخالفات العظام في الساحة الإسلامية تجرأ عليها أصحابها باسم المصلحة، وهو المنهج نفسه الذي يسلكه بعض علماء السوء وأهل الأهواء في تبرير مواقف العلية من الناس، مع اختلاف الدوافع.
إن جلب المصلحة ودرء المفسدة قاعدة شرعية عظيمة لا جدال فيها ولا نقاش لكنها يجب أن تكون ضمن ضوابط من أهمها أن لا تخالف نصاً أو حكماً شرعياً، وإلا كانت مصلحة ملغاة.
الصورة الثانية: عدم وضوح قضية الظاهر والباطن:(1/30)
من القواعد الشرعية أخذ الناس بظواهرهم وعدم التنقيب عما وراء ذلك، وما ورد في الشرع من النهي عن التجسس والتطلع داخل ضمن هذه القاعدة. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :»إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم« (1).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فنادى بصوت رفيع فقال:»يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله« (2).
عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :»يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته«(3).
وقال أيضاً لمعاوية:»إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم«. فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله تعالى بها(4).
وقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- »من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه«.
وقد نص طائفة من أهل العلم على أن أحكام الشرع مبناها على الظاهر، قال ابن القيم رحمه الله: »فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر بل على الظواهر والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر والظواهر تبع لها«(5).
__________
(1) رواه البخاري (4351) ومسلم (1064)
(2) رواه الترمذي (2032)
(3) رواه أحمد (19277[4/421]) وأبو داود (4880)
(4) رواه أبو داود (4888)
(5) أعلام الموقعين (1/129)(1/31)
وقال الشاطبي:»ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منحرفاً حكم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصل عام في الفقه وسائر الأحكام والعاديات والتجريبيات، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً، وكفى بذلك عمدة أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح« (1).
ومن صور التجاوز نتيجة غياب هذا المفهوم ما قد يمارسه بعض المربين:من التجسس، والاستماع لحديث غيره دون علمه، والاطلاع على ما يخصه دون إذنه... كل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله تعالى }يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظّنّ إِنّ بَعْضَ الظّنّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ تَوّابٌ رّحِيمٌ{ (الحجرات:12) وقوله - صلى الله عليه وسلم - :»من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة... « (2).
والشعور بالأمانة والمسؤولية ليس عذراً للمرء أن يتطلع إلى مالا يحل له التطلع إليه، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل أن يطرق أهله ليلاً، معللاً ذلك بقوله:»يتخونهم أو يلتمس عثراتهم« (3)، ولا أظن أن مسؤولية المربي وخصوصية دوره تتجاوز مسؤولية الزوج عن أهله.
__________
(1) الموافقات (1/171)
(2) رواه البخاري (7042)
(3) رواه مسلم (715)(1/32)
وتدعو الشفقة والحرص والعناية المربي إلى التطلع ومحاولة معرفة ما وراء الظاهر، والدافع لذلك كله حسن؛ فهو يسعى للتربية والإصلاح، ويريد قياس نتاج تربيته، ويخشى أن يغتر بالمظاهر، لكن ذلك كله لا يسوغ أن يكون على حساب الضوابط الشرعية.
ومما يعين المربي على الاقتناع بالوقوف عند حدود الظاهر وتجاوز التطلع، علمه أنه غير مكلف شرعاً بما لا يظهر له، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عن نفسه:»إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار.. « (1)، فإذا كان هذا الشأن في الحقوق والأحكام فكيف بما هو دونها من أمور التربية والتوجيه؟
وكذلك فالداعية والمربي ليست مهمته إصلاح الناس وهدايتهم، بل ذلك أمره إلى الله وحده، إنما مهمته دعوتهم والاجتهاد في سلوك أقرب الطرق الموصلة لاستجابتهم، وحين لا يتحقق ذلك فالأمر خارجٌ عن دائرة مسؤوليته، وهاهو محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يستطع هداية عمه، وهاهو نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه، ونوح ولوط مع زوجيهما، فوقوع المتربي في المعصية وانحرافه ليس بالضرورة دليلاً على فشل المربي أو تقصيره في مهمته التي تنتهي عند أداء الجهد قدر استطاعته.
وثمة سؤال له أهميته هنا: ذلك أن العبرة بصلاح الباطن، وأن صلاح الظاهر وفساد الباطن باب من أبواب النفاق، فكيف مع ذلك نقف عند حدود الظاهر فقط؟ وكيف لا تكون عناية المربي متجهة إلى الباطن؟
__________
(1) رواه البخاري (6967) ومسلم (1713)(1/33)
والجواب: أن ثمة فرق بين الدعوة والتربية، وبين التعامل وإجراء الأحكام؛ فالدعوة والتربية يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب، وتنقية السرائر؛ فصلاح الباطن هو الأساس، أما التعامل وإجراء الأحكام فهو على أساس الظواهر، ولا يسوغ للإنسان السعي للتنقيب عن الباطن، وحديثنا ونقدنا إنما هو منصب على دائرة التعامل وإجراء الأحكام، وليس على اعتناء المربي بتوجيه الدعوة لإصلاح الباطن.
ومما يعين المربي على تحقيق الاتزان في هذه القضية إدراك الارتباط بين صلاح الظاهر والباطن، فصلاح الباطن أو فساده لا بد أن يبدو أثره على ظاهر الإنسان، ومن ثم فليس بحاجة إلى التطلع إلى الباطن والتفتيش عنه، وفي المقابل فالأعمال الصالحة الظاهرة لها أثر في صلاح باطن المرء؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والصدقة تطهر وتزكي، والصيام طريق لتحقيق التقوى، والذكر تطمئن به القلوب، وهكذا سائر الأعمال الصالحة.
وأولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عن البواطن والتفتيش في الدواخل تبدو لهم مشكلات لا يطيقون حلها، فيعيشون حالة من القلق كان بإمكانهم تجاوزها لو اتبعوا المنهج الشرعي في الوقوف عند حدود الظاهر.
الصورة الثالثة: التهاون بحجة مسائل الاجتهاد:
ثمة قضايا كثيرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية اختلف فيها أهل العلم حلاً وحرمة، ولكل منهم مأخذه ودليله، فهي دائرة ضمن مسائل الاجتهاد.
والأمر في مسائل الاجتهاد واسع، ولا يسوغ في ذلك الإنكار والإغلاظ والتهارج، لكن ذلك قد يشعر بعض المربين أن هذه الأمور ما دامت ضمن مسائل الاجتهاد فالباب فيها مفتوح على مصراعيه دون ضوابط، فيسلك فيها ما يهواه دون أي اعتبار لأمر آخر.
وكون المسألة من مسائل الاجتهاد لا يُسوَّغ أن يتبع فيها المرء ما يحلو له، بل لا بد أن يتحرى ويجتهد في اتباع ما يؤدي إليه الدليل الشرعي -وليس هذا مقام بسط هذه المسألة-.
الصورة الرابعة: إهمال الورع الشرعي الواجب:
ومن ذلك:(1/34)
أ - ما يتعلق بصحبة الأمرد مثلاً، فقد شدد السلف في ذلك والآثار عنهم يضيق هذا المقام عن حصرها، ومنها:
ما رواه البيهقي في الشعب عن بعض التابعين قال:»كانوا يكرهون أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الجميل« (1).
وروى أيضاً عن بعض التابعين:»ما أنا بأخوف على الشاب الناسك من سبع ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه« (2).
وروى عن الحسن بن ذكوان قال:»لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء، وهم أشد فتنة من العذارى« (3).
وروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال:دخل سفيان الثوري الحمام، فدخل عليه غلام صبيح، فقال:»أخرجوه؛ فإني أرى مع كل امرأة شيطاناً، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً« (4).
وقال ابن جماعة :»والأولى أن لا يسكنها –المدرسة- وسيم الوجه أو صبي ليس له فيها ولي فطن« (5).
وقد غدت اليوم صحبة المربين لهؤلاء الأحداث ضرورة ملحة، ولا يسوغ أن يُهمَلوا أو يُنهى المربون عن صحبتهم بحجة الورع؛ ذلك أن واقع السلف كان يختلف عن واقعنا، فَلَمْ يكن البديل عندهم هو الشارع غير المنضبط، أو التجمعات الساقطة مما نشهده اليوم، بل كانت البيوت ومؤسسات المجتمع التربوية تتكفل بتربية هؤلاء والعناية بهم، أما الآن فالبديل لصحبة المربين لهؤلاء هو أن يصحبهم شياطين الإنس والمفسدين، والواقع شاهد بأن كثيراً من هؤلاء حين ابتعدوا عن الميادين الصالحة انزلقوا في طرق الفساد.
ومثل ذلك الحاجة إلى دخول رجال الحسبة للأسواق والمواطن التي تكثر فيها المنكرات، ويتعرضون فيها للنظر المحرم ورؤية المنكرات، وفي ذلك من الأثر على النفس ما فيه، لكن للحاجة أجاز أهل العلم ذلك.
__________
(1) شعب الإيمان [(5395) 4/358]
(2) شعب الإيمان [(5396) 4/358]
(3) شعب الإيمان [(5397) 4/358]
(4) شعب الإيمان [(5405) 4/360]()
(5) تذكرة السامع والمتكلم (295)(1/35)
ومع القول بالحاجة لصحبة المربين للأحداث تبقى هذه النصوص عن السلف لها قيمتها واحترامها، فعلى المربي أن يراعي ضوابط مهمة في ذلك منها: عدم الخلوة، أو السفر مع الأمرد وحده، ومراعاة المبيت وما يتعلق به، وهي أمور قد يخل بها بعض المربين، مما ينشأ عنه نتائج غير محمودة.
ومن الضوابط المهمة في ذلك: أن يُبعَد من ينشأ منه تقصير وتهاون في هذا الأمر ويلحظ منه ميل للأحداث؛ أن يبعد عن هذه الميادين التي تتطلب اتصالاً مباشراً بهم، وفي الميادين الدعوية الأخرى بديل عن ذلك(1).
ب - ومن صور إهمال الورع الشرعي الواجب: التوسع في الوقوع في الأعراض، فقد تدعو طبيعة العمل التربوي للحديث عن قضايا خاصة للمتربين وانتقادهم، وقد يتحدث بعض الأساتذة عن طالب معين بما يكرهه، والأصل في ذلك كله هو المنع والتحريم؛ إذ هو داخل تحت النصوص التي تحرم الغيبة وتشدد فيها، بل تجعل حرمة أعراض المسلمين كحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام، إلا ما كان له حاجة ومصلحة شرعية واضحة.
ومن أخطر هذه الأبواب ما يتعلق بالأعراض، إذ قد يصارح تلميذ أستاذه ومربيه بمشكلة تتعلق بهذا الباب فيتجرأ هذا المربي على الحديث عنها لغيره بما لا ضرورة له.
أما الحاجة للتقويم ووضع الرجل في المكان المناسب فينبغي أن تقدر بقدرها، ومن ذلك ما ذكره بعضهم في ضوابط الصور المستثناة من الغيبة.
وبعد:
فحين نتحدث عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات فيجب أن نعتدل ونتوسط، فلا يسوغ أن تكون مجالاً للتندر والانتقاص للعاملين لله، أو أن تحول إلى معول هدم للصروح التربوية ويسعى إلى القضاء عليها بحجة الانضباط الشرعي.
__________
(1) وقد يلحق بذلك من تصدر منه تجاوزات لا تليق بأمثاله وإن تاب منها، ففرق بين التوبة التي لا يغلق بابها، وبين بقائه في هذه الميادين، بل من التوبة تخلي الإنسان عن طرق المعصية وأبوابها، والله أعلم.(1/36)
وندرك أيضاً أن كثيراً ممن يقع في مثل هذه التجاوزات إنما أتي من باب الغفلة، والذهول عن مراعاتها لا من قبل رقة الدين، بل أكثرهم خير وأتقى لله منا.
وندرك المنجزات الرائعة التي قدمها هؤلاء المربون نسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتهم وأن يبارك في جهودهم، ويكلل أعمالهم بالتأييد والنجاح والتوفيق.
تعنى الأمم التي تحرص على بناء نهضتها ورفعة مكانتها بالموهوبين والنجباء، وهذه العناية والاهتمام لم تكن وليدة العصر الحاضر، ولا نتاج الدراسات الإنسانية المعاصرة؛ ففي قصة أصحاب الأخدود يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكاهن قال للملك: »انظروا لي غلاما فهماً أو قال فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا؛ فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه ... «(1).
وقد برزت العناية بالموهوبين اليوم في الدراسات النفسية والتربوية، وظهرت مدارس ونظريات تفسر الموهبة والتفوق، وتطرح برامج لرعاية الموهوبين والاهتمام بهم؛ لما لهم من أثر في مجتمعاتهم .
لذا كان لا غنى للأمة وهي تسعى اليوم لاستعادة مجدها عن الاعتناء بالنجباء والموهوبين، وكان حرياً بالغيورين من المصلحين أن يولوا هؤلاء ما يستحقون من عناية ورعاية.
ومن هنا جاء تناول هذا الموضوع الذي لا يمثل دراسة علمية، بل هو لا يعدو أن يكون آراء وأفكاراً شخصية.
التعريف بالنجباء والموهوبين وخصائصهم:
قال ابن الأثير:»النجيب: الفاضل من كل حيوان. وقد نجب ينجب نجابة إذا كان فاضلاً نفيساً في نوعه«(2).
__________
(1) رواه الترمذي (3340) وأصل الحديث في مسلم (3005)دون موضع الشاهد.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر (5/17)(1/37)
وقال في اللسان -نقلا عن ابن سيده - :» النجيب من الرجال الكريم الحسيب ... وقد تكرر في الحديث ذكر النجيب من الإبل مفرداً ومجموعاً، وهو القوي منها الخفيف السريع« (1).
وقد شاع في العرف المعاصر إطلاق لفظ الموهوبين على النجباء، ويعرف المختصون الموهوب بتعريفات عدة، منها: أنه الذي يظهر تفوقاً مستمراً في أي ميدان من ميادين الحياة، وعرفت الجمعية الوطنية للدراسات التربوية في الولايات المتحدة الطفل الموهوب بأنه: ذلك الطفل الذي يظهر أداءً مرموقاً بصفة مستمرة في أي مجال من المجالات ذات الأهمية (2).
ومن المقاييس الشهيرة للموهوبين مقياس رونزويللي ويتضمن المجالات الآتية:
خصائص التعلم:
كبناء الثروة اللفظية، نمو عادات القرار المستقلة، الإتقان السريع للمادة المتعلمة وتذكر المعلومات، استخلاص المباديء العامة.
خصائص الدافعية:
مثل المبادأة الذاتية، الإصرار على استكمال الواجبات والأعمال، والمعاناة من أجل الوصول إلى مستوى أفضل، الشعور بالملل عند أداء الأعمال الروتينية.
الخصائص الابتكارية:
كحب الاستطلاع الشديد لعدد متنوع من الأشياء، قدر أكبر من الأصالة في حل المشكلات والاستجابة للأفكار، درجة أقل من الاهتمام بالمسايرة.
الخصائص القيادية:
كالثقة بالنفس، والنجاح في العلاقات مع جماعات الرفاق، الاستعداد لتحمل المسؤوليات، سهولة التكيف مع المواقف الجديدة(3).
__________
(1) لسان العرب (1/748)
(2) انظر : الموهوبون: أساليب اكتشافهم وسبل رعايتهم في التعليم الأساسي الصادر عن مكتب التربية العربي، ص(20،40)
(3) الموهوبون، مصدر سابق (46)(1/38)
ومن خصائصهم العقلية التعليمية - التي توصلت إليها بعض الدراسات - أنهم أكثر قدرة من العاديين على القراءة السليمة والمحادثة الذكية، ويتميزون بالقدرة على التذكر ودقة الملاحظة، والقدرة على التفكير المنظم. ومن خصائصهم في سمات الشخصية أنهم لا يبالغون في أقوالهم، وتدل تصرفاتهم على النضج، ويتمتعون بالاتزان الانفعالي.
وليس هذا ميدان دراسة متخصصة حول الموهوبين وما يتعلق بهم، إنما إشارات سريعة يمكن أن تخدمنا فيما نحن بصدده من الحديث عن النجباء.
ماذا نعني بالنجباء؟
حين نتحدث عن النجباء في إطار اهتمامات جيل الصحوة، فلا بد أن تفرض علينا خصوصيتنا قدراً من الاختلاف في النظرة والمعايير، ولا يسوغ أن نستورد الدراسات الاجتماعية – التي هي أحد إفرازات وضع اجتماعي لا نتفق وإياه - دون تمحيص أو مراجعة.
والعناية بالموهوبين قدر مشترك بين العقلاء، ومن ثم فلابد من نقاط اتفاق واسعة، لكننا قد نختلف مع هؤلاء في بعض السمات والخصائص المنطلقة من اختلاف النظرة للحياة الدنيا والآخرة، والنظرة لقيمة الإنسان وغاية خلقه.
ومن ثم فقد لا نحفل كثيراً ببعض من تصنفهم الدراسات المعاصرة من الموهوبين، كمن يتميزون بالقدرات في الفن والرسوم والتمثيل ونحو ذلك، فهم - مع عدم اعتراضنا على مالا يخالف الشرع من أنشطتهم - لا يمكن أن يرقوا لمستوى القدوة والريادة في الأمة، فضلاً عن النابغين في أنشطة محرمة كالموسيقى والغناء وغير ذلك.
ونشعر أيضاً أن عنايتنا بالموهوبين لا يسوغ أن تتناقض مع أصل التفاضل بالصلاح والديانة والتقوى. ومن رزقه الله الجمع بين العلم والفهم في مقاصد الشرع، وفق لسلوك الطريق الوسط والمنهج الأقوم في ذلك.
وانطلاقاً من هذه المقدمة يمكن أن نقترح خصائص للنجباء الذين ينبغي أن يعنى بهم جيل الصحوة، ومن ذلك:
1- الذكاء المرتفع، والقدرة العقلية العالية.
2- الشخصية القيادية.(1/39)
3- الشخصية المتميزة في الجد والبذل والإنتاجية والمثابرة.
4- الشخصية التي تملك المهارات الاجتماعية والقدرة على كسب قلوب الناس.
5- القدرة والمواهب الأدبية كالشعر والقصة وسائر فنون الأدب.
حاجتنا إلى النجباء:
إن الحديث عن النجباء وما يتعلق بهم فرع عن الاقتناع التام بالحاجة إليهم، واعتبار كسبهم في صفوف الدعوة من الأولويات والمطالب الملحة، فهل هذا الأمر داخل ضمن نطاق اهتماماتنا الدعوية ؟
إن الأولى أن تكون هذه المراحل قد تجاوزها الدعاة إلى الله عز وجل وعادت أموراً بدهية مقررة، ولذا فسنشير إشارة عاجلة إلى مبررات الحاجة إليهم، ليدفعنا ذلك إلى الحرص على كسبهم في قطار المستجيبين للدعوة، ولندرك عمق الخسارة التي نجنيها، والمعاناة التي تعانيها الدعوة من جراء سقوط أمثال هذه العناصر.
1 - قدر مشترك عند العقلاء:
لا اختلاف بين العقلاء في أن الناس معادن وقدرات متفاوتة، وتسمع في مجالس كثير من الناس الحديث عن فلان بأنه رجل مؤهل، والآخر يملك قدرة فائقة، والثالث ذكي سريع البديهة. ويتفق الناس جميعاً على أن الرجل الغبي البليد لا يمكن أن يتحول يوماً من الأيام إلى رجل ذكي عبقري، وأن الرجل الجبان ضعيف الشخصية لا يمكن أن يوصله التعليم والتدريب والتربية لأن يكون قائداً محنكاً، وقديماً قيل:
والناس ألف منهم كواحد ... ... وواحد كالألف إن أمر عنى
ولا يزال أصحاب الأعمال والتجار يحرصون على كسب عناصر معينة من الناس تملك القدرة والمواهب الفذة التي تؤهلها للقيام بأدوار مهمة في إدارة أعمالهم، ويمنحون رواتب مجزية لأمثال هذه العناصر.
2 - الناس معادن:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- يرفعه قال: »الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف« (1).
__________
(1) رواه مسلم (2638) ورواه البخاري بنحوه.(1/40)
فيقرر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث هذا المعنى فيبين أن الناس يتفاوتون كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، وأن خيرهم في الإسلام، هو الذي كان خيرهم في الجاهلية، أي الذي كان من معدن نفيس.
3 - هديه - صلى الله عليه وسلم - :
إننا حين نتأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته نجد أنه كان يولي هذا الجانب اعتباراً وعناية؛ فمن ذلك:
1 - حرصه على إيمان نفر من المشركين أكثر من غيرهم، وعنايته بدعوتهم وقد كان يقول:»اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب«(1).
وقد ظهر أثر ذلك واضحاً؛ فكل من يقرأ السيرة لا يمكن أن يخفى عليه كيف كان أثر إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولهذا قال عبدالله ابن مسعود -رضي الله عنه-:»ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر«(2).
2 - عنايته - صلى الله عليه وسلم - بمن أسلم من أصحاب الطاقات الفاعلة والمواهب، ويصور لنا ذلك قول عمرو بن العاص -رضي الله عنه-:»ما عدل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخالد في حربه أحداً منذ أسلمنا« (3).
3 - توجيه أصحابه توجيهات خاصة دليل على أن هناك جوانب في النفس قد لا يمكن للمرء أن يتجاوزها لذا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر:» يا أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم« (4)، وهي مقولة خاصة بأبي ذر -رضي الله عنه- دون غيره من أصحابه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - علم منه ما لم يعلمه من غيره، أما عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد تولوا المسؤوليات والولايات.
__________
(1) رواه أحمد (5363) 2/95 والترمذي (5681)
(2) رواه البخاري (3863)
(3) رواه الطبراني والبيهقي.
(4) رواه مسلم (1826)(1/41)
4 - مكاتبته - صلى الله عليه وسلم - للملوك ودعوته إياهم، أليس هذا دليلا على أن من الناس من إذا اهتدى اهتدى بهدايته أمم؟ فلئن كان هذا يصدق على الملوك آنذاك، فهو يصدق أيضاً على قادة الفكر والرأي، وعلى من يملكون قدرة على إقناع الناس ومقارعة الحجة.
4 – هدي السلف:
وقد أدرك أصحابه رضوان الله عليهم هذا الأمر فحرصوا عليه في دعوتهم؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } ؟ حتى ختم السورة فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له }إذا جاء نصر الله والفتح{ فتح مكة فذاك علامة أجلك }فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا{ قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم(1).
وهاهو مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وقد أرسله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة يأتيه سعد بن معاذ - رضي الله عنه - ليسلم فيقول له أسيد بن حضير: هذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، وفعلاً كان لسعد البلاء المشهود في الإسلام، ومن بلائه - رضي الله عنه - موقفه في غزوة بدر، وحكمه في بني قريظة حتى اهتز له عرش الرحمن حين مات، كل ذلك مما يفسر لنا حرص أسيد -رضي الله عنه- على دعوة سعد وهدايته.
__________
(1) رواه البخاري (4294)(1/42)
ومن نماذج عناية السلف بالنجباء ما رواه الخطيب في الجامع بإسناده عن إسماعيل بن عياش قال: كان ابن أبي حسين المكي يدنيني، فقال له أصحاب الحديث: نراك تقدم هذا الغلام الشامي وتؤثره علينا؟ فقال إني أؤمله، فسألوه يوماً عن حديث حدث به عن شهر : إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل، فذكر ثلاثاً ونسي الرابعة، فسألني عن ذلك، فقال لي: كيف حدثتكم؟ فقلت: حدثتنا عن شهر أنه إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا كان أوله حلالاً، وسمي عليه الله حين يوضع، وكثرت عليه الأيدي، وحمد الله حين يرفع. فأقبل على القوم، فقال: كيف ترون؟(1).
5 - تاريخ الإسلام خير شاهد:
إن من يقرأ في السيرة النبوية يدرك تماماً أن هناك من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان في إسلامه خيرٌ كثيرٌ للأمة، وأثر يوازي آثار غيره، فهذا عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه-منذ أن أسلم لم يزل المسلمون في عزة ومنعة، وهذا خالد بن الوليد -رضي الله عنه-لم يمض على إسلامه أشهر معدودة حتى قاد المسلمين في غزوة مؤته وأنقذ المسلمين من مهلكة، وهو مع ذلك دون كثير من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلاً وقد قال له - صلى الله عليه وسلم - :»لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه« (2)، بل إن من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يعرف، ومنهم من طبقت شهرته الآفاق.
6 - ضخامة الأدوار المناطة بالصحوة:
إن الصحوة تتحمل مسؤولية ضخمة أمام الأمة في قيادتها والنهوض بها، مما يتطلب منها إعداد قيادات للأمة في مجالات شتى من مجالات الحياة، تسهم هذه القيادات في إقناع الأمة بالمشروع الإسلامي وتأهله للقيادة.
والصحوة نفسها تفتقر إلى طاقات وقدرات توجهها وتضبط لها مسيرتها وتقودها في هذا الطريق الطويل.
__________
(1) الجامع 1/312
(2) رواه البخاري (3673) ومسلم (2541)(1/43)
وتفتقر إلى طائفة ممن يحملون العلم الشرعي ويفقهونه حق الفقه، ليكونوا قيادة راشدة للأمة، ولتستغني بالطاقات التي تعيش همومها ومشكلاتها.
إن هذه الأدوار وتلك لا يمكن أن يقوم بها فرد عادي، ومن ثم كانت الصحوة بحاجة إلى كسب النجباء الذين يملكون التأهيل لتولي المسؤوليات القيادية على مستوى الصحوة، وعلى مستوى الأمة أجمع.
إن تلك الاعتبارات وغيرها تفرض على المربين المخلصين إعادة النظر في موقفهم من النجباء وعنايتهم بهم.
أخطاؤنا تجاه النجباء
1 - الإهمال:
وذلك أننا قد لا نعيرهم الاهتمام اللائق بهم؛ إما في دعوتهم ابتداءً، أو في إعطائهم الجهد التربوي الذي يستحقونه بعد استقامتهم؛ فلا نفرق بين نجيب وغيره، والجهد المبذول له قد يساوي الجهد المبذول لضعاف العقول والشخصية.
وترك أمثال هؤلاء يعيشون في أجواء لا تتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم يتسبب في انقطاعهم عن المسيرة، أو في بقائهم داخل الصف بعد أن تذبل قدراتهم وتموت ملكاتهم.
كما أن كثيراً من المعلمين والمربين التقليدين لا يعطونهم الاهتمام اللائق، بل يتضايقون منهم »لأنهم لا يحبون الانقياد والتبعية، كما أنهم مندفعون ومن ذوي الأفكار الغريبة، وغير تقليدين، ويبحثون عن التغيير في المجالات التي تتطلب إظهار روح المغامرة، ويميلون إلى الفوضى وعدم النظام« (1).
2 - وهم الغرور:
وهذا من أكثر الأخطاء التي يقع فيها بعض المربين؛ فإنه يملك حرصاً على طلابه، وحساسية مرهفة، فيقف عند الإشارة، والكلمة، والحركة، ويغرق في التحليلات، ويبالغ في التوقعات – والحرص ما لم يخرج عن حد الاعتدال مطلوب – ونتيجة لحرص المربي على طالبه، فإنه يرى أن العناية به والاهتمام به، بل وضعه في موضعه الطبعي يدعوه إلى التميز عن أقرانه مما يدخل العجب والغرور إلى نفسه، ويمكن هنا أن نسجل بعض الملحوظات:
__________
(1) رعاية الموهوبين والمبدعين. رمضان القذافي ص (123)(1/44)
1 - إن حرص المربي على طلبته ما لم يتجاوز حد الاعتدال أمرٌ مطلوب ولا شك، والعناية بإصلاح أعمال القلوب وتفقدها ومدافعة أمراض النفس مسلكٌ لا جدال فيه.
2 – لا شك أيضاً أن الغرور والعجب داء قاتل، - وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله-.
3 – لا شك أن العناية بالطالب النجيب، ورعايته لا بد أن ينتج عنها تميزه على زملائه وأقرانه.
ولكن: لماذا لا ننظر إلى المسألة إلا من جانب واحد هو الخوف عليه من الغرور؟ فلماذا ننسى أن من حقه التربية والعناية والرعاية ؟ ولماذا نغلب الخوف وحده دون الرجاء ؟ بل إن هناك خوفٌ آخر يجب أن نحكمه هنا، ألا وهو أن إهمال النجيب، وترك العناية به ورعايته مدعاة لأن نخسر طاقة كان يمكن أن تستثمر.
ومن يتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يعدم الشواهد العديدة من اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - وعنايته بذوي القدرات من أصحابه، وأن هذا الاعتبار لم يكن عائقاً عن الاهتمام بهم وإنزالهم المنزلة اللائقة، ومن ذلك:
1 – ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على بعض أصحابه في مواقف عديدة بعبارات حفظت وسطرها علماء التراجم ضمن مناقبهم رضوان الله عليهم، ولا شك أن هذه العبارات تحمل من التزكية والثناء مالا تحمله أي عبارة من غيره - صلى الله عليه وسلم - ، وأي عبارة ثناء وتقدير يسمعها من بعدهم لن تبلغ منزلة ثناء صاحب الرسالة، أفلم يكن - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على حماية أصحابه من العجب والغرور؟
2 – تكليفه - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه بل والشباب منهم بمهام لا يقوم بها إلا الأكابر، ومن ذلك:
أ - تكليف زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بكتابة الوحي وهو غلام.
ب - تأميره أسامة بن زيد -رضي الله عنه- وهو دون العشرين من عمره على جيش يغزو الروم وفيه كبار أصحابه.
ج - توليته عمرو بن سلمة -رضي الله عنه- على الصلاة بقومه(1).
__________
(1) رواه أحمد 5/30 (20355)(1/45)
د - حين قدم عليه وفد ثقيف وكان فيهم عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- وهو أصغر الوفد سناً ولاَّه عليهم وأمره بإمامتهم، ووجهه قائلاً:»أم قومك، فمن أم قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم الضعيف، وإن فيهم ذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء«(1).
هـ وولى عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- أميراً على مكة وكان عمره حين استعمل نيفاً وعشرين سنة(2).
3 - إطلاع بعض الشباب من الصحابة على بعض الأمور المهمة التي لا يطلع عليها إلا الكبار، ومن ذلك:
أ - تكليف زيد بن ثابت -رضي الله عنه- بتعلم السريانية وائتمانه على كل ما يكتبه - صلى الله عليه وسلم - لليهود وما يكتبونه له وهو لما يزال غلاماً بعد(3).
ب - اختياره - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم لتكون مكاناً لاجتماع المسلمين في مكة مع أنه شاب لم يبلغ العشرين بعد.
ج - حين شاع الحديث في الإفك دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - شابين من أصحابه فاستشارهما في قضية خاصة وحرجة ألا وهي فراق أهله، كما تحدثنا صاحبة الشأن -رضي الله عنها-:»...ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله« (4).
والاستطراد في سرد الشواهد يطول، ولعل فيما أوردنا كفاية.
3 - وضعه في غير موضعه:
__________
(1) الحديث في مسلم (468) وأصل القصة عند الطبراني كما في المجمع (9/371) وعند ابن سعد (6/47)
(2) الإصابة (4/356)
(3) رواه أحمد (5/186) والترمذي (2715) وأبو داود (3645)
(4) رواه مسلم (2770)(1/46)
وذلك بأن يوجه لمجالات وجوانب، ويكلف بأعمال يمكن أن يقوم بها من دونه، فهذا إهدار للطاقة النادرة ابتداءً، ومدعاة إلى شعوره بأن هذا العمل لا يليق بأمثاله، فيرى أنه لم يقدر قدره مما يؤدي إلى تسربه وإعراضه. وإنه لمن الإهدار للطاقة والقدرة، ومن التوجيه غير السليم أن يكلف مثل هذا الطالب بأعمال صحفية وفنية في الجمعية المدرسية تستهلك عليه وقته واهتماماته، في حين يقوم بها غيره ويتفرغ هو لأعمال فكرية وعلمية وقيادية تنمي المواهب الهامة التي تحتاجها الأمة.
ومن وضعه دون موضعه أن يتولى تربيته طاقات غير مؤهلة تربوياً للقيام بأمثاله، فإن استمر في المشوار التربوي فسيكون دون ما هو عليه، فنخسر طاقته وقدرته، ولست أدري إلى متى ونحن نمارس الأوهام والمخادعة لأنفسنا، فيتخيل المربي أنه قادر على التعامل مع كافة المستويات وسائر الطبقات؟ ولم لا يتجرأ المربي فيفكر أنه دون هذا العمل، وأقل من أن يقوم بفلان، وأي ضير في ذلك أو نقص عليه؟ إنك حين تطلب من رجل أن يرفع حجراً لا يطيقه يبادرك بالاعتذار وأن هذا فوق إمكانه وطاقته، فما باله لا يملك الشجاعة على الاعتذار عن تحمل هذه الأعمال التي لا يطيقها؟
إن من تقدير النجيب حق قدره أن يوجه له أمثاله ممن يملكون القدرة التربوية، ويقتنع أنهم يملكون ما يقدمونه له.
مشكلات النجباء:
لئن كانت هناك أخطاء نقع فيها في تربية النجباء، فهناك مشكلات تقع منهم أنفسهم، ومنها:
1 - الغرور والعجب:
النجيب المتميز يحمل بذرة تعينه على الغرور؛ إذ هو يدرك تميزه على أقرانه في سرعة فهمه وإدراكه، وسبقه لهم في كثير من الأنشطة التي يشاركهم فيها، وحين يضاف إلى ذلك تعامل الناس معه وإعلاؤهم لشأنه وثناؤهم عليه يزيد ذلك من شعوره بالغرور والعجب.(1/47)
ولهذا رعى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى؛ عن عائشة –رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فقال:»لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله عز وجل«(1).
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: أثنى رجل على رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:»ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك« مراراً ثم قال:»من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه« (2).
قال ابن بطال :»حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة ، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به«(3).
وقال ابن حجر:»ولكن تبقى الآفة على الممدوح ، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبراً أو إعجاباً أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل ، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصراً ، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس ، وربما كان مستحباً«(4).
وعن معاوية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:»إياكم والتمادح فإنه الذبح« (5).
وحين يحل العجب والغرور قلب امريء فهذا يعني بداية العطب والهلاك، قال الغزالي:»والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل: الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها، كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب« (6).
2- الإفراط في النقد:
__________
(1) رواه أحمد (24721)
(2) رواه البخاري (2662) ومسلم (3000)
(3) فتح الباري (10/585)
(4) فتح الباري (10/586)
(5) رواه ابن ماجه (3743)
(6) إحياء علوم الدين (1/49)(1/48)
ومن المشكلات التي تكثر عند بعض النجباء والموهوبين الإفراط في النقد، ذلك أن القدرات التي يملكونها تؤهلهم أكثر من غيرهم لاكتشاف الأخطاء، ويتراكم تأثير ذلك حتى يصبح النقد سلوكاً مستقراً لدى أحدهم، فينتقد الأشخاص والبرامج والأعمال، وبعضهم من فرط نقده قلما يرى شيئاً أو أحداً يعجبه.
والنقد بحد ذاته ليس صفة ذميمة، لكنه حين ينشأ لدى الشاب في وقت مبكر فقد يولد آثاراً غير محمودة، خاصة أن خبرة الشاب لا تزال تقصر عن مؤهلاته وقدراته.
وينشأ عن ذلك أيضاً المثالية في النقد، نظراً للإفراط في التجريد لدى الشاب وقلة الخبرة.
وقد ينشأ من الإفراط في النقد في هذه المرحلة المبكرة حرمان الشاب من الاستفادة من كثير من الأشخاص، أو البرامج والفرص المتاحة نظراً لأنها قد لا تروق له ولا تعجبه.
3 – احتقار الآخرين:
وقد ينشأ من غرور الشاب وإعجابه بنفسه أن يحتقر الآخرين؛ ذلك أنه يرى أنه أسد منهم تفكيراً، وأكثر اطلاعاً، وأسرع فهما واستيعاباً، فيولد ذلك لديه احتقارهم واستصغار شأنهم.
ويزيد من ذلك الشعور قدرته على النقد واكتشاف أخطاء الآخرين.
4 – الشذوذ وتتبع الغرائب:
يدفع بعضَ النجباء شعورُهم بالتميز وتطلعهم للتفرد إلى الشذوذ في الآراء، وتتبع الغرائب، ويغذي ذلك شهوة خفية توحي إليهم أن ذلك أمارة على دقة فهمهم وسعة اطلاعهم، وأنهم يدركون ما لا يدركه الآخرون.
وهذا المسلك إنما هو نتيجة للثقة المفرطة بالنفس والاعتداد بها، لذا فكثيرٌ ممن انحرفوا في ميدان الفكر وأتوا بالغرائب والشواذ هم من الأذكياء والنجباء.
ومما يعوق أمثال هؤلاء عن الرجوع للحق والاستماع للمخالف، شعورهم بأن ذلك يعني اعترافهم بنقص قدرهم وتميز الآخرين عليهم.
5 – سرعة الملل والسأم:
يتسم الموهوبون –كما سبق - بالشعور بالملل عند أداء الأعمال الروتينية، ويتطلعون كثيراً للتجديد والتطوير، وهي سمة إيجابية.(1/49)
لكنها تولد مشكلات لدى كثير من المربين تتمثل في مللهم وسأمهم من البرامج التي تقدم لهم، وقد لا يستطيع كثير من المربين الوفاء بمطالبهم وملاحقة تطلعاتهم، خاصة التقليدين منهم الذين لا يستوعبون التطوير والتجديد، وتمثل الأساليب التقليدية التي اعتادوها ثوابت لا يفكرون في تجاوزها.
وقد ينتج عن هذه المشكلة انقطاع هؤلاء، أو جنوحهم إلى الكسل والعجز، أو إلى العبث والشغب.
وصايا للاعتناء بالنجباء :
أنتجت الدراسات المعاصرة برامج ووسائل للاعتناء بالموهوبين ورعايتهم، وثمة مدارس عدة تتفاوت فيما بينها في وسائل الرعاية والاهتمام.
لكن لما كان هذا الحديث حديثاً خاصاً للمربي والمعلم الذي لا يملك التغيير في بنية التعليم وهيكليته رأيت الاقتصار على بعض المقترحات التي يمكن أن يطبقها المعلمون والآباء.
وقبل ذلك أشير باختصار شديد إلى أهم وسائل رعاية الموهوبين في البرامج التعليمية:
1 – التجميع أو العزل
وهو تجميع المتميزين من الطلاب في فصول خاصة بالمدرسة الواحدة جزءاً من اليوم الدراسي أو طوال اليوم، أو تجميعهم في مدارس خاصة.
2 – الإثراء
ويقوم هذا الأسلوب على أساس إغناء المنهج في إطار الصفوف العادية، أو في مجموعات خاصة، ومن أساليب الإثراء المستخدمة:
أ – أن تكون هناك مقررات إضافية، أو أجزاء من المقررات لا يلزم بها الطالب العادي.
ب – إضافة أجزاء في كل وحدة أو موضوع في الكتاب الدراسي كقراءات إضافية أو بحوث أو نحو ذلك.
ج - إعداد كتب إضافية تصحب الكتاب المدرسي.
3 – الإسراع
ويتضمن القبول المبكر في المراحل التعليمية بالنسبة لعمر الطالب الزمني، أو السماح له بتخطي بعض الصفوف الدراسية، أو إنهاء دراسته في مدة أقل مما تتطلبه مرحلته الدراسية(1).
__________
(1) انظر: الموهوبون 22-29 ، 61-63، 180-181.(1/50)
وقد تكون الاستفادة المباشرة لبعض المربين من هذه الوسائل محدودة، وإن كنا ننتظر من المربين ألا يقفوا عند حدود ما يقدم لهم جاهزاً بل يسعوا لتوظيف خبرات الآخرين بالطريقة المناسبة، وحين يكون المربون غير قادرين على ذلك فهذا يعني الشك في تأهلهم وقدرتهم على التربية ابتداءً.
لذا نقدم هذه الوصايا التي نأمل أن يستفيد منها المربون في الاعتناء بالنجباء والموهوبين:
1 - الحرص على التعرف عليهم واكتشافهم ابتداء، وإن كانت الاختبارات والمقاييس العلمية قد لا تتيسر في ذلك، إلا أنه يمكن أن تُستخدم الوسائل الآتية التي قد تعد مؤشرات قوية:
أ – الملاحظة المباشرة، وتفتقر إلى خبرة المعلم وقدرته على التقويم.
ب – تطوير طرق التدريس وأساليبه، والبعد عن الطريقة التي تعتمد على الإلقاء، والحرص قدر الإمكان على زيادة تفاعل الطلاب ومشاركتهم.
مع ملاحظة أن المشاركة المطلوبة هنا ليست ما يفعله كثير من المعلمين من خلال طرح أسئلة في ثنايا الدرس عما سبق أن قدمه لهم، فهذه تقيس التذكر والاستدعاء، إنما ينبغي أن تكون المشاركة في التعرف على المشكلات، والوصول إلى النتائج، مع الاعتناء بالمستويات المتقدمة من التفكير.
ج – تطوير أساليب التقويم لتقيس كافة مستويات التحصيل ولا تكون مقتصرة على التذكر والاستدعاء وحده.
د – تطوير البرامج والأنشطة، والبعد عن الأساليب والأنماط التقليدية الجامدة.
هـ – تنظيم المسابقات والمنافسات والبرامج المنوعة التي تسهم في اكتشاف الطاقات والخبرات، مع مراعاة أن تصاغ بطرق تخدم في التعرف على الموهوبين والنجباء، دون أن تكون مركزة على اكتشاف المعلومات والمهارات السابقة لدى الطلاب.
و- الاستعانة بالنتائج الدراسية، مع الحذر من الاعتماد عليها وحدها، فهي تعد مؤشراً من المؤشرات.
2 – الحرص على إصلاحهم وهدايتهم، فهذه هي الركيزة الأولى للاستفادة منهم، وتوظيف قدراتهم في سبيل الخير ونصرة الحق.(1/51)
3 – الاعتناء بتربيتهم وتوجيههم، والحرص على تحقيق النمو المتوازن لديهم، ويمكن الاستفادة بصورة أو أخرى من وسائل الرعاية التي أشرنا إليها قبل قليل، مع ضرورة التوازن وعدم المبالغة في إظهار الاهتمام الزائد؛ فينشأ عن ذلك نتائج عكسية.
4 – تطوير البرامج التربوية والارتقاء بها؛ بحيث تسهم في تقديم خبرات متنوعة، وتتعامل مع كافة مستويات التحصيل، وعدم التركيز على الجانب المعرفي وحده، كما هو الواقع في البرامج التربوية التي تقدم اليوم للناشئة(1).
5 – مراجعة محتوى البرامج والأنشطة التربوية ووسائلها وأهدافها بحيث تراعي الفروق الفردية، وتضمينها قدراً أكبر من المرونة.
6 – الاعتناء باختيار من يولى تربية الموهوبين ورعايتهم، فليس كل المعلمين والمربين يجيدون التعامل مع الموهوبين ورعايتهم.
7 – علاج المشكلات المتولدة لديهم، كالعجب والاعتداد بالنفس، قبل أن تنمو وتستفحل فيصعب علاجها.
لا بد من الاعتدال:
إنه ومع ضرورة الاعتناء بالنجباء والموهوبين فلا بد من الاعتدال في ذلك، وأن يوضع الأمر في الإطار الطبيعي، بحيث لا يؤدي إلى:
1 - إهمال دعوة سائر الناس وتربيتهم، فدين الله تعالى جاء خطاباً للجميع، وليس ديناً خاصاً بالنخبة.
__________
(1) المؤلف بصدد إعداد كتاب يتناول الأهداف التربوية في مرحلة الشباب ووسائل تحقيقها، لعله أن يقدم بعض الأفكار في ذلك، أعان الله على إتمامه وإنجازه.(1/52)
2 - الإعراض عمن أقبل من غير هؤلاء وإهماله؛ فقد أنكر الله تبارك وتعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إعراضه عن ابن أم مكتوم حين جاء مقبلاً وانشغاله بصناديد قريش }عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جَاءهُ الأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جَاءكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ{.
3 - احتقار من سواهم والنظرة إليهم نظرة قاصرة، وقد يكون فيهم من هو أزكى وأفضل عند الله تعالى؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : »رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره« (1).وقال أيضاً - صلى الله عليه وسلم - :»ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر«.(2).
وأعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلة الضعفاء وشأنهم؛ فقد قال لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه- حين رأى أن له فضلاً على من دونه: »هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟«(3)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: »أبغوني ضعفاءكم فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم« (4). وقال - صلى الله عليه وسلم - : »طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع« (5).
__________
(1) رواه مسلم (2622)
(2) رواه البخاري (4918) ومسلم (2853)
(3) رواه البخاري (2896)
(4) رواه أحمد (21224) وأبو داود (2594) والترمذي (1702) والنسائي (3179)
(5) رواه البخاري (2887)(1/53)
بل والصحوة اليوم تحتاج لطائفة من الصالحين الصادقين الذين لا يأبه لهم الناس، ولو لم يتولوا مسؤوليات وأعباء، علها أن تنصر وتوفق بدعائهم وصدقهم مع الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يحشرنا في زمرة عباده الصالحين، إنه سميع مجيب،،،
يمثل تصحيح الخطأ جانباً مهماً من الأدوار التي يقوم بها المربي؛ إذ كثيراً ما يجد نفسه أمام أخطاء من يربيهم، وقد تكون أخطاءً فردية أو عامة، وقد تكون نتاج البيئة المنزلية أو المجتمع الأوسع، وقد تكون طارئة أو مزمنة.
وأياً كان الأمر فهي تحتاج إلى مراجعة منهجنا وأساليبنا في التعامل معها، وفي هذا المبحث سنتناول بعض الأخطاء التي قد نقع فيها في علاجنا لأخطاء من نربيهم.
1 - اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية:
يمثل تصحيح الأخطاء عند بعض المربين المنطلق الوحيد للتربية، وعليه فالتربية عندهم تبدأ من تحديد قائمة بالأخطاء والملحوظات، ومن ثم ترتيب البرامج لتصحيحها وتلافيها، فتمثل الأخطاء المنطلق الوحيد في رسم البرامج، والمعيار الوحيد في تحديد نوعية ما يقدم للناس، وتبدو آثار هذا الأسلوب من التفكير في اختيار الموضوعات التي يتحدث فيها لفئة معينة من الناس، فحين يستضاف أحد المتحدثين يُقترح عليه موضوعات تدور حول الأخطاء والملحوظات الشائعة لدى المخاطبين، أو يَسْأل هو عنها لتكون محور حديثه.
وهذا الأسلوب يتولد منه آثار غير محمودة؛ فحين نسلك هذا المسلك فغاية ما نحققه إذا نجحنا -ولن نحقق النجاح الكامل- أن نحافظ على الإنسان عند مستوى محدد.
وثاني هذه الآثار أن تسيطر لغة النقد على حديثنا فتترك هذه اللغة أثرها على أولئك الذين لم يعد يطرق سمعهم غيرها، فيعيشون حالة من الإحباط والشعور بالفشل والنقص على الدوام.
وفرق بين عطاء هؤلاء، وأولئك الذين غرست لديهم الثقة بإمكاناتهم وقدراتهم، ورفعت لهم المنارات ليتطلعوا إليها ويسيروا نحوها.(1/54)
وثالثة الأثافي أن يحصر العطاء في زوايا محددة وهي تلك التي تبدو فيها أخطاء واضحة صارخة، أما البناء وتفعيل الطاقات وتنمية المواهب فلن يجد له مكاناً عند هؤلاء الذين يسيطر عليهم هذا المنطق في التفكير.
2 – تجاهل الخطأ حتى يستفحل:
إن المشكلات الكبار لا تولد دفعة واحدة، والنار تنشأ من مستصغر الشرر، لذا فكثير من الصفات السيئة في البشر تبدو بذرة صغيرة يسقيها الإهمال والتسويف، ويُمدها التجاهل بماء الحياة حتى تنمو وتترعرع لتتجذر في النفس فيصعب اقتلاعها وزوالها.
وأعظم شاهد على ذلك ما نراه من أن كثيراً ممن يضِلّون بعد الهدى، وينتكسون بعد الاستقامة، كان سبب ذلك أخطاء وأحوال من الضعف تدرجت بهم وتركوها حتى تستفحل.
وكثيرة هي المشكلات والأخطاء التي نقع فيها نحن، أو يقع فيها من نتولى تربيته، ونهملها ولا نعبء بها فلا تلبث أن تستفحل وتأسرنا لتصبح جزءاً من سلوكنا.
وسواء كان الدافع لإهمال العلاج وتأخيره التسويف والعجز والكسل، أو افتراض أن الزمن كفيل بحله وتجاوزه، أو المبالغة في مراعاة نفسية المخطئ والخوف على جرح مشاعره، سواء كان هذا أو ذاك فالنتيجة لا تعدو واحدة من ثلاث:
أ – أن يذوب السلوك السيء في نفس صاحبه ويصبح جزءاً من شخصيته، فيسعى لتبريره والدفاع عنه، واتهام من يلومه بالغلو والتشدد، وما أكثر ما نرى هذه الصورة.
ب- أن يستفحل في النفس فيرى صاحبه أنه قد صار صفة ملازمة له، وأنه لا يستطيع الخلاص منه أو الفكاك، وقد يدعوه ذلك إلى الإفراط في ركوب الانحراف والشطط.
ج – أن يستفيق بعد فترة، فيلوم أولئك الذين تجاهلوا هذا الخطأ، والأغلب أن يبالغ في ذلك، وقد يقوده هذا إلى التخلي عن بعض الميادين الخيرة.
3 – ردة الفعل وعلاج الخطأ بخطأ آخر:(1/55)
يترك الخطأ أثره الواضح عند من يرقبه، وقد تكون مشاعره جياشة فيولد وقوع الخطأ لديه أثراً قد يغفل فيه عن الأسلوب الأمثل في التعامل معه، وهو موقف طبعي في النفس الإنسانية، ولعل من أمثلة ذلك ما وقع لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالات عدة.
ومنها قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وهي مشهورة في السنة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - :»دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين« (1).
ومثله حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: إن فتى شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه فقال:»ادنه« فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال:»أتحبه لأمك ؟«... - إلى أن قال:فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (2).
ففي هذه النصوص نظر الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى عظم الخطأ فتعاملوا معه بما يرون أنه يليق به، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى أمر أبعد من ذلك، ألا وهو أثر ذلك على صاحب الخطأ نفسه(3).
__________
(1) رواه البخاري (220) ورواه مسلم (284) من حديث أنس -رضي الله عنه-
(2) رواه أحمد (21708) 5/257
(3) كثير من المتحدثين يحتجون بهذه الأحاديث وغيرها، ويشددون على الذين يقعون في هذا الخطأ، ويغفلون عن أن الصحابة رضوان الله عليهم وقعوا في ذلك، وإن كانت الحجة في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله، إلا أن وقوع مثل ذلك من الصحابة يدل على أن الأمر لايخلو منه بشر، واعتراضنا على هؤلاء ليس منصباً على مطالبتهم للدعاة بالرفق، إنما ينصب على أن نطالبهم بأن يرفقوا هم فيمن يطالبونه بالرفق كما رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحابة الذين وقعوا في التعنيف.(1/56)
وحين نطالب المربي بأن يكون متزناً في تعامله مع الأخطاء فهذا لا يعني أن نطالبه بالعصمة وبإلغاء مشاعره، لكن بالاجتهاد قدر الإمكان.
هذه حالة، وثمة حالة أخرى قد لا يكون المربي أمام خطأ معين مباشر يريد علاجه، بل أمام قصور أو ثغرة لا تتمثل في موقف محدد فهنا يكون عذره أقل من الصورة السابقة إن هو لم يتحكم بردة فعله.
إن ردة الفعل قد ينشأ منها تضخيم الخطأ وربما إشعار صاحبه باليأس، أو قد ينشأ عنها غلو وشطط على النفس، أو قد ينشأ عنها خطأ آخر في الطرف المقابل.
فقد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيحه فيتعامل مع نفسه بردة فعل غير متزنة؛ فعلى سبيل المثال: حين يكتشف المرء أنه مقصر في طلب العلم الشرعي، ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه سبقاً بعيداً، فيسعى إلى تصحيح هذا الخطأ ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً لا يطيق أن يصبر على بعضه فضلاً عن أن يطيقه كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع؛ ثمة مسافة بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه وكان يتطلع إليها وبين ما يمكن أن يصل إليه من قدر من التصحيح، وحين يصل إلى هذا الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى، وقد يدعوه ذلك إلى إهمال واجبات وحقوق أخرى، وما أكثر ما نقع في هذا.
بل الأمر يتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسؤولة عن رسم المناهج أصلاً؛ فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا، وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق بل أي امرئ لا يتطرف هذا التطرف الذي يتطرف فيه أصحابه فهو لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير.
وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر، بل لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى.(1/57)
4 – الإفراط في العقوبة:
النفس البشرية تعتريها حالات من الضعف والقصور، ويقعد بها الهوى وتستجيب أحياناً لداعي الشهوة على حساب أحكام الشرع ومنطق العقل، ومن ثم احتاجت إلى أن يؤخذ بزمامها، وأن تسلك معها وسائل متنوعة؛ إذ الإقناع وحده لا يكفي في حمل النفوس على الامتثال.
ومن ثم جاء الشرع بمبدأ العقوبة لتكون رادعاً عن وقوع النفوس في المحظورات وتقصيرها في المأمورات، وتنوعت العقوبات بين العقوبات الدنيوية التي يراها الناس حاضرة والأخروية التي تُدخر لهم في البرزخ والقيامة –عافانا الله وحمانا- وبين العقوبات الكونية التي تصيب الناس في أموالهم وأولادهم وأمنهم، والعقوبات الشرعية التي أُمر الناس أن يوقعوها على من أصاب ما يستوجب ذلك كالحدود والتعزيرات.
وكما أن إهمال العقوبات وتعطيلها مخالف لأمر الله، فالإفراط فيها ووضعها في غير موضعها هو الآخر مخالف لأمر الله تعالى، ومؤدٍ لتعطل مقاصد العقوبة وفواتها.
لذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يُتجاوز في العقوبة – فيما لا معصية فيه- عشرة أسواط، فقال:»لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله« (1)، والمقصود بحدود الله على الصحيح المخالفات الشرعية، كما قال تعالى }تلك حدود الله فلا تعتدوها{ وكما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر :»مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ... « (2).
وحين يفرط المربي في العقوبة ينقلب الأمر إلى تأثير مضاد، فيدفع المتربي شعوره بأنه مظلوم إلى الإصرار على الخطأ وتبريره، وينشغل بالعقوبة التي وجهت له عن الاعتناء بإصلاح الخطأ، وكثيراً ما يصر عليه ويتشبث به، ويكره الحق وأهله.
__________
(1) رواه البخاري (6848) ومسلم (1708)
(2) رواه البخاري (2493)(1/58)
كما ينشأ عن ذلك أيضاً أن تنمو لديه مشاعر الكراهية والبغض لمن عاقبه، وكثيراً ما نرى بعض الأبناء يكرهون آباءهم أو معلميهم بل ربما يتمنون هلاكهم، والسبب في ذلك ما يلقونه منهم من إفراط في العقوبة.
ولا شك أن ترسخ هذه النظرة لديه تجاه معلمه أو والده تقف عائقاً كبيراً أمام تقبله للتوجيه والتربية.
5 - المثالية:
حين يعيش المرء في ميدان التنظير يحلق في أجواء الخيال، ويرسم صوراً مثالية يصعب أو يستحيل تحققها.
وهو أسلوب قد يمارسه المرء مع نفسه، فيرسم لها أهدافاً وبرامج وخططاً طموحة، ومن ثم يصطدم بجدار الواقع فيرى أنه عاجز عن تحقيق جزء يسير مما رسمه لنفسه.
وقد يمارسه المرء مع من يربيه، فالأم كثيراً ما تعاتب طفلها وربما تعاقبه على أخطاء لا بد أن يقع فيها مادام طفلاً؛ فحين يعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار تعاتبه وتعاقبه، وربما كانت العقوبة شديدة، إنها تطلب منه أن يكون منضبطاً مثالياً فلا يسيء إلى إخوانه الصغار ولا يعبث بالتراب ولا يعبث بالأثاث ولا يرفع صوتاً ولا يبكي.
والأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب؛ فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام فلا يسيء الأدب مع أستاذه في استئذانه وحديثه وتعامله، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام، ولا بد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو، ولا أن يتأخر عن الحضور إلى الفصل، ولا أن يتغيب ... إلخ هذه القائمة التي ربما عجز الأستاذ نفسه حين كان طالباً عن استجماعها وتحقيقها.
إننا حين نرسم للناس صورة مثالية سوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يعد قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي.(1/59)
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال:»والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم« (1).
وحين حضرت أبا أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- الوفاة قال: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله؛ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:»لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم« (2).
وقد قال أيضاً - صلى الله عليه وسلم - :»كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون« (3).
إن الواقعية في التفكير، وإدراك الطبيعة البشرية، والهدوء في الدراسة والمراجعة، والخبرة المتراكمة؛ كل ذلك يسهم إلى حد كبير في الاقتراب من الواقعية والبعد عن المثالية المجنحة في الخيال.
6 - الإفراط في الواقعية:
وهو خطأ في الطرف المقابل للخطأ السابق، فينطلق صاحبه من نظرته لبشرية الناس وامتناع عصمتهم إلى تبرير الأخطاء والدفاع عنها بحجة الواقعية، وهي نظرة تنعكس أيضاً على أهداف المرء وبرامجه فتصبغها بصبغة التخاذل ودنو الهمة والطموح.
وتسهم هذه النظرة في تكريس الأخطاء وإعطائها صفة المشروعية، ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك ما اعتدناه من الفوضى في مواعيدنا وأوقاتنا، حتى أصبح الانضباط شذوذاً، وصار يقال إن في بني فلان رجلاً منضبطاً في مواعيده وأوقاته.
فالمثالية في التعامل مع هذه القضية تتمثل في التشدد في الدقائق فلا يقبل المرء عذر من تأخر عن موعده ولو لدقائق قليلة، والواقعية المفرطة تتمثل في التساهل بما هو أكثر من ذلك وهو الأغلب، وحين يراد تحديد الموعد تترك هذه الروح الفوضوية أثرها في تفكيرنا فنضيف ساعة أو نحواً من ذلك احتياطاً.
7 - إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ:
__________
(1) رواه مسلم (2749)
(2) رواه مسلم (2748) والترمذي (3539)
(3) رواه الترمذي (2499) وابن ماجه (4251) وأحمد (12637)3/199.(1/60)
لقد خلق الله الإنسان من عجل فهو يستعجل النتائج والثمرات بطبعه، ويريد أن يحقق في ساعات ما لا يتم إلا في أيام، وحين يضاف إلى ذلك حرصه على بلوغ الغاية وحماسه لها يزداد الأمر عجلة.
إن إهمال البعد الزمني في التفكير مرض ورثه بعض الدعاة والخيرين من عقلية المجتمعات الإسلامية التي لا تفكر إلا فيما تزرعه اليوم وتحصده في الغد وتأكله في اليوم الثالث.
فهل يمكن أن تعالج الأخطاء التربوية المتراكمة -التي أصحبت تشكل جزءاً من كيان الشخص وتربيته، وترسبت لديه من خلال مؤثرات عدة- في أيام قصيرة، أو من خلال توجيهات بخطأ هذا السلوك، ووجوب نهج السلوك الآخر؟
والأمر أكثر وأشد تعقيداً حين ننظر إلى جيل الصحوة أجمع، فعمره لا يزال قصيراً، وهذا الجيل المتوافد على الخير والهداية نتاج تربية آباء وتربية أمهات وتربية مؤسسات تربوية عامه؛ إنه إفراز لمجتمع يعيشه، فمسؤولية واقعه التربوي ليست قاصرة على الصحوة ذاتها.
وحين نسعى إلى تصحيح الأخطاء في هذا الجيل، وإلى تحقيق قدر من النضج فلا بد أن نعطيه المدى الزمني الذي يمكن أن يؤهله لحل هذه المشكلة إذا أردنا أن نكون واقعيين.
8 - إحراج الواقع في الخطأ:
إنه ليس من أهداف تصحيح الخطأ إصدار حكم بإدانة صاحبه وإثبات التهمة في حقه، لذا فالجدل الطويل حول إثبات التهمة، أو السعي للتصريح بالاعتراف بالتقصير والوقوع في الخطأ أمر لا مبرر له.
وحين يأخذ المربي في حسبانه مراعاة مشاعر الناس وعواطفهم، ويكون همه منصباً على الإصلاح والتغيير فلن يسعى لإحراج صاحبه، ولقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مراعاة هذا الجانب.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:»إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر« (1).
__________
(1) رواه البخاري (2234) ومسلم (1703)(1/61)
فمع أن هذه الأمة قد وقعت في ذنب عظيم وخطيئة كبيرة، إلا أن إقامة الحد كانت كافية في زجرها فلا ينبغي المبالغة والتثريب عليها.
وقد طبق النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الهدي في سنته العملية؛ فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب قال:»اضربوه« قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال:»لا تقولوا هكذا؛ لا تعينوا عليه الشيطان« (1).
وقد ينشأ الإحراج نتيجة الإصرار على الإدانة وانتزاع الاعتراف بالخطأ، أو نتيجة المواجهة المباشرة، أو نتيجة اللوم والتأنيب والإغلاظ في الحديث.
9 - المبالغة في تصوير الخطأ:
إن الاعتدال سنة الله في الكون أجمع، وحين يقع الخطأ فليس ذلك مبرراً للمبالغة في تصوير حجمه والحديث عنه.
إن تحويل الحادثة إلى ظاهرة، والمشكلات الفردية إلى قضايا عامة، وربط المشكلات المعقدة بقضية محددة؛ كل ذلك إفراز للمبالغة في التعامل مع الأخطاء وتجنب الاعتدال، وما أكثر ما نسمع أمثلة صارخة تثير الاستغراب حين الحديث عن ظاهرة من الظواهر، وكون هذه الأمثلة تملك قدراً من الغرابة أعظم دليل على شذوذها وأنها مما لا يقاس عليه.
وحتى في الحديث عن المعاصي والمخالفات الشرعية –فما لم يقد الأمر إلى الاستهانة بحدود الله- لا يجوز تحويل الشبهة إلى أمر مقطوع بتحريمه، واللمم والصغيرة إلى موبقة من الموبقات.
10 – الاحتفاظ بصورة سلبية عن المخطئ:
يتطلع كثير ممن يقع في الخطأ ويلومه الناس على ذلك أن يثبت لهم أنه قد تجاوزه، وأن يغير هؤلاء النظرة السلبية التي ارتسمت لديهم تجاهه.
__________
(1) رواه البخاري (6777)(1/62)
لذا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرعى هذا الجانب فهو يعتني - صلى الله عليه وسلم - ببيان الخطأ لمن يقع فيه حين يقتضي الموقف البيان، لكنه لا يتحول إلى نظرة ثابتة ترسخ الشعور بالفشل والإحباط لدى الواقع في الخطأ، أو تؤدي به إلى الشعور بأن هذا الخطأ أصبح أمراً ملازماً له لا يفارقه.
عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى }ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض..{ إلى آخر الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :»اصنعوا كل شيء إلا النكاح« فبلغ ذلك اليهود فقالوا: مايريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه؛ فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا فلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما(1).
وحتى حين يقتضي الخطأ الإغلاظ على صاحبه والتشديد عليه، فإنه لا يبقى ملاحقاً له في كل موقف، كما حصل مع أسامة بن زيد –رضي الله عنه- في موقف يرويه هو فيقول: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:»يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟« قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم(2).
__________
(1) رواه مسلم (302)
(2) رواه البخاري (4269) ومسلم (96)(1/63)
وبعد هذه الواقعة أمَّره - صلى الله عليه وسلم - على جيش أكبر من ذلك، ألا وهو الجيش الذي سيغزو الروم وشعر بعض الناس أن هذه المهمة ربما ينوء بها أسامة -رضي الله عنه-، وأنه لو ولي غيره كان أولى فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لهم؛ فعن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثاً وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:»إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده« (1).
لقد أعطى هذا الموقف أسامة –رضي الله عنه- وغيره الشعور بأن الإنسان يمكن أن يتجاوز الخطأ، وليس بالضرورة يبقى علماً عليه لا يفارقه.
لذا فإن ما يمارسه بعض الآباء من تكرار تذكير أبنائهم بأخطائهم أمر مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهجه في التربية.
11 - الاقتصار على الأسلوب المباشر وحده:
وذلك بالحديث المباشر الصريح أن هذا الأمر المعين خطأ، وأن الشخص الذي قام بذلك العمل قد أخطأ.
وثمة أخطاء تستوجب الحديث الصريح المباشر عنها، وثمة حالات لا يسوغ أن يتجاوز وصفها والحديث عنها هذه الكلمات أو مشتقاتها أو ما ينوب عنها، لكن ذلك لا يعني الاعتماد على هذا الأسلوب وحده.
ومن تأمل المنهج النبوي وجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطي كل ذي حق حقه؛ فتارة يتحدث عن الخطأ حديثاً صريحاً دون مواربة، وتارة يوميء ويشير إليه، ومن هذه المواقف التي كان - صلى الله عليه وسلم - يستخدم فيها هذا الأسلوب:
__________
(1) رواه البخاري (4469) ومسلم (2426)(1/64)
عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :»لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا« (1).
وعن ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال:»أوفعلت؟« قالت: نعم، قال: »أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك« (2).
وحين رأى ابن عمر -رضي الله عنهما- رؤيا وقصها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:»نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل« (3).
وعن سليمان بن صرد -رضي الله عنه- قال استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :»إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم«(4).
إن مثل هذه الأساليب غير المباشرة تترك أثرها في النفس، فهي توصل الرسالة التي يريدها المربي، وتنقذ المواجه بالخطأ من الحرج والخجل، وتشعره بحسن الخلق والتقدير والتوقير، إنه أسلوب الكرام العظام.
نسأل الله عز وجل أن يقينا شر أنفسنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،
المحتويات
الموضوع ... الصفحة
المقدمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. ... 5
من صفات المربي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... ... ... .. ... 9
افتقار العمل التربوي للضوابط الشرعية ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... 31
__________
(1) رواه البخاري (902) ومسلم (847)
(2) رواه البخاري (2592) ومسلم (999)
(3) رواه البخاري (1122) ومسلم (2479)
(4) رواه البخاري (6115) ومسلم (2610)(1/65)
النجباء والموهوبون ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ... ... ... .. ... 45
أخطاء في علاج الأخطاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... 65
المحتويات ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... 79(1/66)