|
المؤلف : أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا ت: 428 هـ
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
من جهة الألفاظد
فنقول: إن المغالطة باشتراك المفهوم على وجوهه: فإنها إما أن تكون لأن السؤال يكون كثيراً، وإما أن تكون للكثرة في النتيجة أيضاً. وتلك الكثرة يكون الحق في بعضها موجودا، وفي بعضها ليس بموجود، كما إذا سئل: " هل الساكت يتكلم؟ " أو قيل: " هل الذي يريد يتعلم ليس يعلم؟ " ؛ فإن الأول يغلط في النتيجة، فينتج نتيجتين ولا يشعر باشتراكه، وهو مقدمة بعد. واما الثاني فإنه - وهو مقدمة بعد - لا يفهم إلا بتفصيل اشتراكه، فمن عداه عداه وهو غير مفهوم، إذ لابد له في أن يفهم من أن " يعلم " راجع إلى الشيء المعلوم أو العالم، حتى يمكنه أن يجيب عنه. ويشبه ذلك أيضاً قولهم: " أليس الذي تعلمه تعلمه، ولكن تعلم أن كل اثنين زوج، ولا تعلم اثنين في يدي " . وفي جميع أشباه هذه يكون الخلف فيها بأن تنتج أن الشيء ليس هو؛ فإن الخلف على وجهين: خلف استحالته تتبين لا من جهة التناقض، كمن ينتج مثلا أن زوايا المثلث أكثر من قائمتين، والثاني خلف استحالته تتبين من جهة التناقض، كمن ينتج أن المثلث ليس بمثلث، أو أن الأعمى ليس بأعمى. فيجب إذن علينا إن شعرنا بديا باشتراك الاسم أن نكون تسلمنا محدودا مفصلا، بأن نقول للسائل: " إن عنيت كذا فجوابه كذا، وإن عنيت معنى آخر فليس جوابه كذا " ، وأن تتعرض بالمنع لما هو ضار ومبدأ للمغالطة؛ وإن لم نشعر بديا تداركنا بعد ذلك فقلنا: " ليس الساكت يتكلم، بل لهذا الذي هو ساكت الآن أن يتكلم وقتا آخر " ، فإنه ليس يلزما أن نجيب عن المهملة وهي مهملة، وعن المبهمة وهي مبهمة، وإن فعلنا فلما أن نشير إلى ما عنينا. وكذلك إذا قال: " أليس يعلم الذي يعلم " ، فنقول: أعلم ما أعلم وليس أعلم جزئيات الذي أعلم، أو ليس يلزم أن أعلم أحوال الذي أعلمه.
والمغالطات التي من التركيب والتقسيم فلنا أن نحفظ الحكم في التركيب، ونمنعه في التقسيم. وبالعكس لنا ان نمنع الحكم في التركيب، ونحفظه في التقسيم، إذ المركب ليس هو المقسم. فيرجع الغلط في هذا الباب - إلى ما يقال - على نحوين من المرائيات بوجه ما، مثل المغالطة التي يكون المركب فيها مثل أن " مما نعلم أن يضرب زيد فبه يضرب " فيضرب إذن فيه بفعلك أو علمك. وهذا فيه أيضاً تضليل من جهة المراء. أما من جهة التركيب، فلأنه يسأل مثلا: ألست تعلم بما يضرب به زيد؟ فيقول: بلى. ثم يقول: أليس بذلك يضرب؟ فيقول: بلى. فيركب ويقول: فإذن بما تعلم أن زيدا يضرب، به يضرب. وأما من جهة المراء فلأن " به " ينصرف إلى موضعين: أحدهما آلة العلم، والثاني آلة الضرب. وربما كان القول صادقا إذا فصل عن الهيئات واللواحق، فإذا قرن بها صادق قل ما يغلط بالتركيب والمراء.
والذي ظن أن كل مغالطة فهي لفظية، وأن كل مغالطة لفظية فهي للاشتراك في الاسم، فلا يتأخر بيان خطئه إذا ما تأملنا هذه الأمثلة التي من باب المراء، ومن باب التركيب والتفصيل. مثل قولهم بالظرف الذي يضرب؛ على أن موضع الذي يضرب في لغة العرب النصب، لأنه مفعول به، وعلى أنه الجر لأنه بعد الظرف؛ وهذا من باب المراء. وكذلك: نعلم أن السفن التي لها ثلاث سكانات التي تكون بأسقلية الآن، فإن " الآن " تتصل تارة بالعلم، وتارة بالسفن.
(2/169)
وأما من باب التركيب فمثل أن تقول: " أليس فلان خيرا، وأليس فلان إسكافا رديا، فعلان خيرا رديا " . وكذلك: " أليس للعلوم الجيدة تعليمات جيدة، وللردى أيضاً تعليم جيد أيضاً أن تعلم رديا؛ لكن كل شيء ردي من يعلمه فيعلم رديا، فإذن كل تعليم الردي ردي، والجيد غير ردي؛ هذا خلف " . وههنا تضليل من جهة التركيب، وتضليل من جهة اللفظ أيضاً في قوله: " يعلم رديا " . وأيضاً حق أن يقال: " الآن إنك حادث، لكن لست أنت الآن حادثا، فأنت حادث الآن لس حادثا الآن؛ هذا خلف " . وكذلك، " أليس كما يكون لك شيء ممكنا، كذلك يمكنك أن تفعل، ويمكنك عند ما تضرب العود أن لا تضربه، فإذن يمكنك أن تكون ضاربا للعود غير ضارب " . وهذا كله يرجع إلى ما قلنا: إن الشيء يفهم بوجهين: من وجه وذلك لأن سقراط، وإن كان فاضلا، فليس في كل شيء، بل في الخلق، فإن كان رديا فليس في كل شيء بل في الدباغة؛ وهذا لا يتناقض بل يجتمعان، إنما يتناقض مفهوم آخر وهو أن يكون فاضلا ورديا في شيء واحد. فسقراط فاضل وردي كقضيتين اثنتين لا كقضية واحدة، وعلى ما علمنا في موضع آخر. وكذلك ليس يتناقض " خير في نفسه " و " شر في شيء آخر " ، ولا يلزم أن يجعل أحدهما شرطا في الآخر، أو متجها معه نحو حد واحد. وكذلك ليس إذا صدق عند ما لا أضرب العود يمكنني أن أضربه لو كنت شئت مجموعا، يمكن أن يصدق مفترقا، ويقول: " عند ما لا أضربه " ؛ أو يقول: " إني عندما لا أضرب أضربه، فإن )أراد( الإمكان والمشيئة، فقد أسقط وفرق القول؛ ومعنى الإمكان في هذه الأشياء أنه كان يكون الشيء بدلا عن ضده، لا مع ضده، وههنا قد أخذ مع ضده.
وقد حكى المعلم الأول أن بعض الناس - وأظنه يعني بذلك المدعى له أنه معلمه - حل ذلك بأن قال: فرق بين قولنا: " يفعل بحسب ما يمكنه " ، وقولنا: " إنه يفعل لا محالة بحسب ما يمكنه شيئاً " ، فلو كان يفعل الممكن لا محالة، فلعله وجب أن يضرب في حال ما يمكن هو حين لا يضرب، واما إذا لم يكن كذلك - بل ليس يجب وقوعه - لم يجب إمكانه، فيجوز أن يقع واقعا بحال عدم الضرب، فيكون حينئذ لا يضرب، فإن معناه أنه كان غير ممتنع في ذلك الزمان أن يقع الضرب بدل غير الضرب، ليس أنه يجب. وهذا الحل - وإن كان من وجه حلا - فإنه ليس حلا بحسب أن المغالطة متعلقة بالتركيب والقسمة، فإن الحل يجب أن يكون مستمرا في جميع الجزئيات؛ وهذا الحل خاص بهذه المادة، وإن استمر فليس فيه تعرض لما أورد من المقدمات، ومن السبب المتصل.
واما المغالطة التي تقع من جهة الشكل، فمنه ما يكون الحكم فيه على نفس اللفظ، مثل من يقول: " إن هذا البيت ليس بمنقوص ساكنه " فينتج أن " هذا البيت ساكنه فيه " . ومنه ما ليس الغلط فيه في نفس اللفظ، بل هو شيء يتعلق بهيئة اللفظ، وهو كالاشتراك في الهيئة أو شيء يتعلق بهيئة الأداء، كما يكون الشيء يقال مرة بضجر وحدة، ومرة بطلاقة، فيتغير الحكمان. وإذا لم يلتفت إلى اللفظ وإلى شكل اللفظ، بل إلى المراد والمعنى، سهل التخلص، مثلا إذا قال قائل: " إن الذي يبصر نفسه يفعل من حيث يبصر، وينفعل من حيث هو مبصر، فيكون من جهة واحدة فاعلا ومنفعلا " ، فنقول: إن الذي يبصر ينفعل في كل حال وليس يفعل. ولا تشتغل بأن تصريف " يبصر " هو تصريف " يضرب " و " يقطع " لأن المعنى هو غير مطابق للتصريف. وهذا يشبه الاسم المشترك، ويشبه الذي يسأل عن مسائل كثيرة، وحكمه في أن يحصل سؤاله بديا أو أخيرا لا مرة على نحو حكم ما قيل في اللفظ المشترك، وحكمه في أن يغلط لاشتراك الاسم حكم المراء، وهو مغالطة لفظية على ما يراه بعضهم من ان كل مغالطة لفظية متعلقة بالاسم المشترك.
(2/170)
ولنورد أمثلة مرائية تغلط من جهة اللفظ، وحلها غير حل المغالطة التي وقع فيها اسم مشترك، مثل قولهم: " أليس من يرمي شيئاً هو له يصير له، فمن رمى الكراع الذي عنده فيكون لا كراع له؛ لكنه إن رمى واحداً جاز أن يبقى عنده تسعة، فيكون له كراع ليس له كراع " . ومثل هذا ليس فيه اسم مشترك، وإنما وقع الغلط بسبب أن قوله " لاكراع له " فهم منه: لا كراع له ألبتة، وأن التسليم وقع لقلة التحرز لا لاشتراك في لفظة الكراع، أو لفظة من الألفاظ المفردة. وكذلك: " هل يبذل الإنسان إلا ما له؟ فيقول: لا؛ فنسأله بالسرعة أنه إن بذل ما له؟ فيجيب المجيب بالسرعة، ويقول: نعم، فننتج عليه: أن الإنسان يعطي ما ليس له " . وأيضاً: " هل الذي ليس له يد يبطش باليد؟. وأيضاً: هل الذي ليس له عين يبصر؟ فإن قالوا: بلى، يشنع أنه كيف يبصر بلا عين، ويبطش بلا يد، وإن قالوا: لا، فذو اليد الواحدة والأعور ذاك يبطش وهذا يبصر " . وقد ذكر حال هذا خارجين مما يتعرض للمثال لا للقانون، وفيهما كلام كثير من وجوه الاحمال فوق محل المنال. والحل وما فسرا به غير لائق.
وأيضاً مثال آخر: " أليس كتبك هذا صادقا لشيء كتبته؟ فتقول بلى. ثم تقول: أليس ما كتبته كاذب؟ فتقول: بلى، إذا كان كاذبا؛ فإذن هو كاذب وصادق " . والسبب أن هذا الكاذب هو قول صادق، والعقد الكاذب عقد صادق. وههنا فقد أخذ الكذب مقرونا بالمدلول عليه، والصدق مقرونا بالعدل من الكتابة، ولاختلاف التركيبين وقعت المغالطة.
وأيضاً: " أليس ما يتعمله زيد هو هو، وهو يتعلم الثقيل والخفيف، فهو ثقيل وخفيف. والمغالطة - كما علمت - من قبل رجوع " هو " تارة إلى المتعلم وتارة إلى المتعلم، وليس يسلم المجيب أنه " هو " المتعلم، بل " هو " الشيء الذي يتعلم لا زيد.
وأيضاً: " أليس هذا الشيء الذي يسيره الإنسان يطأه، وهو يسير يوما كله، فهو يطأ اليوم " ، لأنه يطأ ما يسير فيه من المسافة، لا الزمان. " وهذا أليس يشرب من الكأس، ولكنه لم يشرب منها شيئاً " ، والمغالطة أن " هذا " يشرب منها لا من جوهرها. " وأليس كل متعلم هو إما متلقن وإما مستنبط، ولكن المستنبط ليس متلقنا أو مستنبطا، والمتلقن ليس مستنبطا أو متلقنا " ؛ والمغالطة بسبب ربط ما بين القضيتين، فأنه يوهم أنه ربط أحدهما بالآخر على أنه معاقبة، ويوهم أنه ربطه به على أنه معاندة.
وأيضاً: " الإنسان في نفسه شيء ثالث غير العام والخاص، لكن العام والخاص هو لأنه إنسان " . وهذا المثال قد يحتمل أن يجعل تضليلا معنويا، لكنه مع ذلك لفظي أيضاً، وذلك لأنه غير العام والخاص في نفسه، أي اعتبار نفسه، والخاص والعام هو لا باعتبار نفسه، ففيه مغالطة من جهة اعتبار تركيب نفسه مع الإنسان وتفصيل معه، وهو من حيث نفسه لا يصدق أنه شيء من الاثنين، بل كشيء منهما. وكذلك جميع العوام حملت على الشيء من طريق ما هو، أو حملت خارجه عن جوهره، فإن السبيل واحدة.
ثم بالجملة فجميع ما يغلط عند اللفظ يقابل عند الجواب بالضد: إن كان الغلط بالتركيب، فيغلط من تركيب القسمة، وإن كان من القسمة فيحل بالتركيب. وإن كان الغلط شيئاً مثلا بشكل مخفف، فليكن الجواب بشكل مثقل، وإن كان باسم مشترك فبأن يأتي باسم محقق للمعنى المفرد، وكان في المراء وفي التركيب، مثلا إذا قال: " أليس من يمشي يتوطأ ما يمشي فيه، وهو يتوطأ الزمان " ، فيكون تسليما أن الذي يمشي يتوطأ ما يمشي فيه من المسافة دون الزمان. وعلى هذا القياس في تلك البواقي.
الفصل الخامس
(ه) فصل
في حل ما في التبكيتات المعنوية
والتمكن من مقاومة أصناف مغالطية
وأما التي من طريق المعاني، فالذي من العرض فبعضه واضح مستمر في جميع ذلك، بأن يكون ذلك في بعض الجوابات من الأعراض إذا سئل عناه، فيقول: ليس من الاضطرار أن يكون مثلا الأبيض موسيقار، وإن كان قد يوجد أيضاً ويتفق وجوده. وإنما يلزم الصدق في جميع الأغراض إذا لم تكن متباينة الأجناس العالية والوسطى، فحينئذ لا تنفذ حيلة المغالطة؛ ويوضح ذلك بأمثلة يسمعها السامعون، ويستوحش من مخالفتها المشاغب.
(2/171)
ومن أمثلة ما بالعرض قولهم: " ألست علم ما أسألك " ؟ فإن قال: نعم، بلى أعلم، قال له: " ما هو؟ " ، وإن قال: " لا أعلم " ، قال: " أنا أسألك عن زيد أو عن الخير وأنت تعلمه " . والمغالطة في هذا من جهة العرض هو أن شيئاً واحداً هو معلوم في نفسه ومسئول عنه، وليس هو معلوما من حيث هو مسئول عنه بتركيب العرض بين المعلوم والمسئول.
وأيضاً قولهم: " جبل قاف قليل، لأنه واحد؛ وكل قليل صغير، فهو قليل وهو صغير؛ وجبل قاف قليل لأنه واحد، فهو إذن صغير " .
وقوله: " الكلب لك، وهو أب " ، فيجمع ذلك معا.
وأيضاً: " أنت تعلم زيدا أنه ذاك، فهو الداخل الدار، فتعلم الداخل ولا تعلمه " . والحل في هذا أن ذاك غير الداخل، وإنما هو هو بالعرض، وهما بالذات والمعنى شيئاًن، فليس المعلوم هو المجهول. وحل ذلك " قليل وصغير " ، هو أن هذا قد يوجد وليس بالضرورة. وكذلك إن سأل: " ألست تعلم ما أريد أن أسألك عنه حين تجيب عنه، والذي يسألك مخفي، فيجب أن تعلم المخفي والمستور " . وجميع هذا مما عرض كلاهما لموضوع واحد، وأحدهما عرض للآخر من غير نسبة بينهما، وكل واحد منهما ليس هو الآخر. وليس الجواب ما أجاب به بعضهم - وأظن من جرى ذكره مرارا - أن الشيء يعلم ويجهل من وجهين، فإن هذا هو المشنع به. وكيف يكون وجهان للواحد من حيث هو واحد! فإنهم يشنعون بهذا، بل يجب أن يقال: المعلوم ليس هو المجهول ألبتة، نعم إلا بالعرض. هذا جواب وحل من جهة وفي بعض الأشياء، ولكن ليس مستمرا في جميع المسائل التي من هذا الباب، ولا مقبولا عند المنكر منهم.
وبالجملة من يخالف المشهور يلزمه لا يكون القياس المؤلف من المشهور يلزمه، وإن لزمه كان قياسا مبتدئا لا حلا لشبهة. ومع هذا فإن هذا الحل هو بإزاء الشبهة التي هي النتيجة، وليس بإزاء القياس، ومن حيث السبب الجامع لهذا المثال وغيره. وليس يمتنع أن يكون الخطأ في مقدمة واحدة تؤخذ له وجوه تبين به خطأه. ولكن الحل من ذلك ما عارض السبب المشترك بينه وبين سبب ما يجري مجراه. ولو أن إنسانا ألف قياسا من مقدمات كاذبة، فانتج كذبا، فأوضح خطأ النتيجة، كان ذلك بينان للخطأ، ولكن مع إعراض عن السبب، مثل من يعارض قياس زينون حين يقول إنه لا حركة؛ لأنه لو كانت حركة لكانت تحتاج أن تقطع أنصافا بلا نهاية في زمان متناه، بأن يجاب ويقال: الزمان أيضاً مساو للمسافة في الانقسام؛ فإن هذا يبين أن النتيجة غير شنعة. والحل الصواب هو أن يقال: المقدمة كاذبة، وأنه ليست هناك أنصاف بلا نهاية. وإذا تكلف إبانة خطأ النتيجة بعد ذكر من البنات ولم يتعرض لخطأ القياس، لم يلزم شيء.
وكذلك حلهم لمغالطة قالها بعضهم: " إن كل عدد كثرة لأن العدد كثرة مركبة من آحاد، وكل عدد فإنه أقل من غيره، وكل أقل فهو قليل، فكل عدد قليل وكثير " ، فإنهم قالوا: أليس يكون قليلا وكثيراً من وجهين؟ وليس هذا بمحال، فما عملوا غير مقاومة النتيجة، وسلموا القياس، ولم يحلوا التضليل؛ وما كان يجب لهم أن يسلموا أن كل عدد كثير، وإن كان يقال له كثرة، فإن الاثنين ليس بكثير.
والمغالطة التي تورد يقال: إن كذا ابن لك، وهو أب أو عبد لك، وهو ابن، فيجمع أنه لك أب وابن، أو لك أب وعبد، من هذا القبيل الذي بالعرض. قال المعلم الأول: حل بعض الناس هذا - وأظنه المذكور مرارا - بأن قال: إن المغالطة ههنا باشتراك الأسم في " لك " ؛ وهذا غير نافع في الحل، ولا مستمر، فإنه وإن كان لفظة " لك " تقال باشتراك الاسم على معان تارة بمعنى الملك، وتارة كما يقال في المغالطة المذكورة فيها في الابن والأب، فإنه ليس بمعنى الملك، بل تدل على نسبة الاختصاص والقرابة؛ وهذه النسبة معناها واحد فيهما، وإن كان المنسوب إليه مخلفا، وإلا لكان قولنا: " لك " يقال على معان غير متناهية، وأنه وإن كان لفظة " لك " مشتركا فيها، فإنها عند ذكر العبد تدل على الملك فقط، وفي ذكر الأب تدل على تخصيص نسبة أخرى. وليس يقع الغلط بسبب اشتراك في مفهومه، بل بسبب تأحيد الأمرين اللذين لا يتأحدان إلا بالعرض. بل إنما المغالطة في هذا من طريق العرض، فإن الذي الذي هو ابن لي عرض له أن كان أبا أو ابنا أو عبدا لا من طريق ما هو لي أب، ولا من طريق نسبتي، حتى يكون أبا لي أو ابنا. وكذلك أمثلة أخرى من باب العرض أخذها الرجل المذكور من باب اشتراك الاسم.
(2/172)
وبالجملة فإن الأشياء المأخوذة من الكيف والكم والمضاف العارص لشيء واحد لا تتخذ إلا بالعرض، ولا يكون بعضها جزءا إلا من طريق ما هو؛ وكذلك ما يكون من مقولة واحدة، لكن أجناسها الثانية متباينة. ومع ذلك فإن الإضافات إذا حفظت قل وقوع العرض فيما بالعرض، وكذلك الشروط الأخرى التي للنقيض؛ على أن هذا باب برأسه. وقد ذكرت لهذه أمثلة، ونحن نذكر ما هو اولى بأن يلتبس منها من ذلك، ويوقف أيضاً أنها مغالطات برأسها ليست من قبيل اشتراك الاسم، كما ظنه المذكور. ومن تلك الأمثلة مثل قولهم: " إن بعض العلوم علوم للأشرار، وكل ما هو للأشرار فهو شر وردي، لكن كل علم خير، فبعض ما هو خير شر وردي " ؛ وذلك لأنه وإن كان علم الأشرار قد استعمل فيه الإضافة الدالة على وجوه مختلفة فإن العلوم ههنا ليست تدل على القنية فقط، ولا الغلط جاء من ذلك بل من جهة أنها ليست للشرير من جهة ما هو شرير. وذلك مثل أن الإنسان إذا قال: إن الإنسان للحيوان، لم تكن لفظة اللام تدل على معان كثيرة بل على أنه نوعه، لأن التقييد أزال اشتراكه. على أن كون الخير للشر قد يحتمل أن يكون على وجوه ليس ككون الإنسان للحيوان؛ ولكن لم يقع الغلط ههنا من ذلك.
ولعل أكثر أصناف هذه المغالطات لا تقع باشتراك الاسم، فإنه إذا قال قائل: " إن الذهب خير، وهو في دماغ فلان، فهو خير فيه " ، وإن كان لفظة " في " مشتركة، فإنها في هذا الموضع غير مشتركة، ومع ذلك قد أنتج منه غلط.
ولا يجب أن نتوهم أن يصدق حمل الشيء على شيء ما من وجه، وصدق سلبه عنه من وجه آخر، يجعل لفظه لفظا مشتركا فيه، فإن كل لفظ في الدنيا يدل بالشرط على شيء، وبالإطلاق على شيء، وبشرط ثان على ثالث، ووحده على شيء، ومع غيره على شيء آخر؛ إنما المشترك فيه هو أن يكون بعينه بحال واحدة تكثر دلالته، وإلا فإن قصيدة طويلة تدل على أمر ما، ونصفها يدل لا على ذلك الأمر بل على شيء آخر، ولا تصير مع ذلك مشتركة الدلالة. وبالجملة ليس الشيء على الإطلاق، ومع تقييد بشيء من العوارض التي تعرض في مقولات أخر، واحداً؛ وبأمثال هذا ما غالطوا فقالوا: " هذا الشيء موجود، وليس فيما هو موجود، فهو موجود غير موجود هو الفرس " . وأيضاً ما يقولون: " هل يتكون ويوجد ما ليس بموجود، فيكون هو الشيء الذي ليس بموجود موجودا " . وكذلك: " هل الذي هو موجود يبطل كونه ووجوده، فيكون الموجود قد حصل لا موجود، فهو موجود ولا موجود " . " وهل أن تحلف حسنا، لكنه على الكذب ليس بحسن " . " وهل أن تستحلف حسنا لكنه على الجور ليس بحسن، ثم الحلف مما يستحسن، والاستحلاف مما يستعدل، فهو حسن غير حسن، هذا خلف " وكذلك: " الطاعة حسنة، وهي أيضاً قبيحة " ؛ وكل هذا لترك اعتبار الوجوه والشروط، وترك اعتبار الإطلاق والتقييد، فإذا أغنينا عن ذلك لم يعرض لها تبكيت. وأنه فرق بين أن يكون وبين أن يكون شيئاً، وبين الموجود وبين الموجود شيئاً، وبين الحسن بحال والحسن مطلقا، والقبيح بحال والقبيح مطلقا، أي في مثال الحلف والاستحلاف والطاعة. وليس ببعيد أن يختلف الإطلاق والتقييد أو التقييدان المختلفان في الحكم. ومن هذه الأمثلة: " أليست الصحة واليسار خيرا؟ فإذا قيل: بلى، قال: لكنها ليست خيرا للجاهل، فإذن هي خير ليس بخير " . وكذلك: " أليس في الذنب خير، وليس للطيرات خير " . ومثال يتلو هذا سمج، ويجب أن يفهم على هذه الصورة، مثل أن يقال: " أليس ما لا يؤثره الحكيم فهو شر؟ فنقول: بلى؛ ثم نقول: أليس أحوال الخير خيرا؟ فنقول: بلى؛ فنقول: الحكيم لا يريد إطراح الخير وإبعاده، وطرح الخير ونفيه حال للخير، وما هو حال للخير فهو خير، فالحكيم لا يريد خيرا، وما لا يريده فهو شر، فبعض الخير شر. وحل جميع هذا واضح.
وأيضاً مثال من باب الشر يشبه مثالا تقدم ذكره في باب الخير، وهو أن اللص شرير، فيجب أن يكون ما يأخذه ويطلبه شرا، وهو يطلب الخير، وذلك لأنه ليس لأنه شر يجب أن يكون جميع ما ينسب إليه شرا، بل قد يعرض أن يكون ما ينسب إليه الشر خيرا، كما أن المرض شر، وليس كل ما ينسب إليه شرا، فإن الإقبال منه ليس بشر.
(2/173)
ومن المغالطات في هذا الباب إذا تسلم أنه لما كان العادل آثر من الجائر وجب أن يكون ما هو على جهة العدل آثر من الذي على جهة الجور، فيكون القتل على جهة العدل آثر من القل من جهة الجور؛ وليس كذلك، فإن المغالطة في هذا أن لا تخفظ أنه يكون ما هو على جهة العدل آثر للعادل أو المعدول به، وكذلك ما هو على جهة الجور آثر للجائر وللمجور عليه.
ومثال آخر يجب أن يفهم هكذا: أنه " هل للعادل أن يأخذ كل شيء له من حيث كان " فإن قال: نعم، قال: فإن كان رهنا أخرجه من يده، أو ملكا جعله سكنى لغيره " وأيضاً: " هل يلزم القاضي إلا الاجتهاد، فالاجتهاد صواب، والسنة صواب؛ وإن خالف كان صواب يخالف صواباً، وعدل يخالف عدلا، فيكون عدلا لا عدلا " . وأيضاً: " هل يجب أن يعاقب من يقول العادلات، أو من يقول الجائرات؟ فيقال: من يقول الجائرات؛ والعادل الذي يقول الجائرات التي جرت عليه، يجب أن يعاقب " .
وجميع هذه الأمثلة من اختلاف دلالة ما يقال على الإطلاق وعلى التقييد، مثل أن إصرار كل ما يجري على طريق العدل يؤثر من غير أن يقال لمن. وكذلك أن يقال: كل شيء لمالكه أن يأخذه، ولا يبين بشرط أنه ما لم يؤجره يخرجه أو يرهنه عن نفسه بحق لغيره، ولا يبين أن الاجتهاد مرجوع إليه ما لم يخالف النص، وأن لا يبين قول الجائرات التي يحكيها أو قول الجائرات التي يجور بها على غيره. وليس الإخبار عن الجور جورا، كما ليس الإخبار عن العدل عدلا، وعن النافعات نفعا. وفرق بين جور يحكى وبين جور يعمل على الإطلاق.
وأما ما يقع من جهة التكبيت فعليك أن تعتبر صورة القياس هل هي منتجة أولا، وتنظر في الحدود هل الوسط واحد بعينه من كل جهة، وهل كل طرف هو في القياس وفي النتيجة واحد بعينه في كل جهة من شرائط النقيض؛ وتجتهد في التسليمات أن تراعى في أول ما تسأل هل تسلم شيئاً مرتين بحالين مختلفين أو شيئاً يشارك النتيجة بحال دون حال. ومما يبرأ عنه أن يراعى في المحمولات شروط النقيض، وإذا قيل له مثلا: " هل كذا ضعف أو ليس بضعف " ، أجاب مع استظهار فقال: ضعف كذا دون كذا. وكذلك يراعى الوقت والجهة في كل شيء بحسبه، مثل استظهاره في جواب من يسأل: " أليس من يعرف الأمر يعرف كما هو؟ وكذلك الذي يجهل الأمر، ثم أنت تعرف زيدا ولا تعرف أنه موسيقار، فتعرفه ولا تعرفه " ؛ وهذا لأنه يشرط أنه يعرفه من جهة واحدة وعلى الإطلاق أو من كل جهة. وكذلك إذا قال: " أليس ما هو ثلاثة أذرع أكثر مما هو ذو ذراعين؛ لكن هذا ذو الذراعين أكثر عرضا، فهو أكثر وليس أكثر " . فإذا تحفظ المجيب وقال: هو أكثر طولا، لم يلزمه هذا التبكيت.
واما المصادرة على المطلوب الأول، فإن عرف المجيب أنه مصادرة لم يسلم ولم تلزم الشنعة، وإن كانت الشهرة توجب تسليما، ولم يحتشم قائل: إني بعد أن خالفت الشهرة في الوضع الذي أنصره، فكذلك أخالفه فيما هو هو أو على حكمه، فإن سها ولم ينتبه ودلس عليه فسلم المصادرة، فإن انتبه تدارك وقال: هب أنى سلمت، فليس لك قياس، لأن هذا التسليم رجوع مني عن وضعى، ومساعدة لك، وأما أنت فلم تعمل شيئاً ولم تفهم تبكيتا؛ وكيف يكون وأنت استعملت نفس نقيض وضعي في إبانته، والمقدمة عين النتيجة.
وأما وضع ما ليس بعلة علة فلتراع أنه يلزم ما يلزم مع دفع ما تسلمه، فإن كان قيل إنه سواء سلم ذلك أو لم يكن، فالشنع لازم، وليس يفيده.
وأما اعتبارات اللازم المحمول واللازم التالي فيجب أن لا تغلط فتجعل الملزوم لازما، واللازم ملزوما، فيحنئذ لا يمكن أن يقع لنا غلط حين لانتوهم الانعكاس. وهذا الباب على صنفين: إما على سبيل الاستقامة، وإما على سبيل عكس النقيض ومقابلة الوضع؛ فإنه تارة إذا قيل: كل حريف حار، ظن أنه يصح معه أن كل حار حريف، وقع منه التضليل؛ وتارة إذا قيل: كل متكون له مبدأ، يظن أن ما ليس بمتكون ليس له مبدأ، ويعرض ما عرض لماليسوس حين يحكم من هذا أن جرم العالم غير متكون، فهو غير متناه. وذلك الغلط، بل اللزوم - كما علمت - بالعكس.
(2/174)
وأما السؤالات إذا جمعت فينبغي أن نتأمل المحمول والموضوع، أو المقدم والتالي، هل هو واحد على جهة في المعنى أو كثير، وأن نفصل ولا نجيب إلا عن واحد واحد. وأقل ما يقع هذا الغلط إذا كان الجواب بالإيجاب أو السلب صادقا في الجميع، كما في اللفظ المشترك المتفق المعاني في الحكم. وأعظم ما يقع فيه الغلط إذا كان مختلفا؛ فلنحذر مثل هذا.
ومما يغلط من هذا القبيل أن يكون الجواب في المسألتين المجموعتين بالمتقابلين؛ مثلا أن يكون أحدهما خيرا والآخر شريرا، فيقال هذان خير أو شر؛ ويقال أيضاً من وجه آخر إن مجموع هذين لا خير ولا شر، لأن الكل ليس هو ولا واحد منهما، وكل واحد هو هو وليس الآخر، فيقال للمجموع هو كل واحد وليس هو هو، وليس الخير والشر إلا هما ولهما، وهو أيضاً لهما، وليس هو هما، فهو هما، وليس هما. وأيضاً: ليس ما هو خير يكون شريرا، والشرير يكون خيرا، فيكونان قد صارا شيئاً واحداً، كل واحد منهما خير وشر، لأن الخير صار شرا، والشر صار خيرا. فهذه وإن تعلقت بجمع السؤالات، فلها أيضاً ضروب أخرى من التضليل من باب اشتراك الاسم وغيره.
وليس لقائل أن يقول: إذا قلنا: " كل أو كلاهما " فهو تأحيد لا تكثير فإن " الكل وكلاهما " يصلح للتكثير، وإذا حمل شيء في مثل ما نحن فيه على " كلاهما " فقد حمل على اثنين في المعنى، وإن كان واحداً في اللفظ، اللهم إلا أن يكون الموضوع واحداً. ويدخل الكل للسور، وذلك غير ما نحن فيه. فهذا ما نقوله في المغالطات التي في نفس القياس بحسب اللفظ والمعنى. واما الخارجة فنذكر أحوالها أيضاً.
وأما الأقاويل الملجئة إلى التكرير إما في المضاف فنحن نبين أن الشيء المضاف لابد من تعريفه بالمضاف الآخر - من حيث يكون المضاف الآخر ذاتا - ثم ليس المضاف ذاتا تتكرر على المضاف، اللهم إلا أن نسأل على وجه يعرض ما قلناه في موضعه من أن الملجئ إليه فحش السؤال. والسؤال الفاحش هو الذي يسأل عما لا فائدة فيه، فيكون جوابه لا فائدة فيه. ثم ليس كلما تكرر شيء عرض منه هذيان، فإنك إذا حددت العشرة الحد الحقيقي احتجت أن تقول إنه عدد مؤلف من واحد وواحد وواحد، وكذلك حتى تكرر إلى المبلغ الواجب من غير استحالة ولا هذيان؛ وذلك لأن ما هو مكرر فبيانه مكرر؛ وكذلك أجزاء الموجبة تكون موجودة في السالبة، وأن يفعل في أن لا يفعل. فإذا قيلت المنفصلة من إيجاب وسلب لم نقل قد كرر فيه الشيء لأنه كرر على نحو يجب، فلا يكون موضع شنعة. ولو أن إنسانا تكلف أن يعرف الضعف خلوا من تعريفه بغيره الذي قد يتعرف بنوع ما به، ويكون له تكرار ما، لما عرف الضعف، بل ربما عرف موضوع الضعف كالاثنينية، ويكون عرف شيئاً لازما ما الضعفية، وليس ذلك الشيء في جوهره من المضاف، ويكون مثل العلم الذي هو هيئة ما للنفس وصورة من باب الكيفية تلزمها إضافة؛ ولذلك ما كان لها أن تتخصص ولا تخصص في مقابلة شيء مثل الطب؛ فإنه يتخصص من بحث العلم؛ ولا يكون كونه مبتدئا إلا للمعنى الذي يكون به جنسه، وهو العلم مضافا؛ لأن تلك الإضافة عارض لازم كثير. وقد بينا هذا في قاطيغورياس.
وأما الباب الآخر مما يشنع بوقوعه التكرير فيه من جهة الأعراض الذاتية التي يؤخذ في حدها الموضوع، ويعلم بتوسط ما يحمل عليه؛ فإن التكرير يقع فيه أيضاً بسبب فحش السؤال، فيحتاج إلى ان يقال، فإن الأنف الأفطس هو أنف فيه التقعير الذي يكون في الأنوف؛ وليس هذا كاذبا بل مكررا؛ لأنك أخذت السؤال مكررا؛ وجواب المكرر يكون مكررا. فلو قلت " أفطس " وحده، كأن يكون أنفا فيه تقعير. فكما أنك إذا استوضحت معنى قولك " أنف أنف " ، كان الجواب عن تحديده مكررا، كذلك إذا قلت: " أنف أفطس " . ومع هذا فليس شنعا ولا كذبا أن يكون أنف فيه تقعير يكون في الساق حتى يكون أفحج. وإذا قلنا: أنف فيه تقعير، لم نحتج إلى أن نقول فيه تقعير أنفي.
(2/175)
وأما ما يعرض من العجمة فينبغي أن لا تجيب حتى يحاولوا هم الكشف، فليس عليك أن تجيب عما لا تعلم، من أي الوجوه كانت العجمة: من الإعراب أو التذكير، أو التأنيث، أو غير ذلك. وهذه المواضع المغلطة تكون في بعض الأوقات أظهر، وفي بعضها أخفى. وربما اتفق أن يجتمع في شيء عدة وجوه من هذه فتزداد التباسا؛ وتستدعى وجوها مختلفة من الحل. وقد يكون في باب واحد ما هو أصعب وأسهل؛ مثل ما يكون في الواقعة في اتفاق الاسم، مثل النحو الذي تختلف فيه أحكام المحمول في موضوعات مشتركة الاسم.
والأقاويل المضحكة التي قد تستعمل في جنس المغالطة والشعر، فأكثرها من قبل اللفظ، مثل ما يقال في العربية: " يا نبيل يا حر " ويعني به شيء آخر؛ ومركبات، ونغمات، وتصحيفات مضحكة تذهبن على أولى الدربة، فضلا عن الأغتام، ولو كان التضليل من اللفظ؛ وليس إنما تقع الضلالة بهذه الوجوه للأغتام، بل كثيرا ما يضل بسبيها المجربون. والقول الحاد التأثير السريع العمل جدا هو الذي لا يفطن معه بسرعة هل الغلط في التأليف، أو في أنه لا ينبغي أن تسلم مقدمة، أو هو كذب صرفا، أو يجب أن يسلم بعد التفصيل، فإن مفهومها متضاعف، وأفواه ما بكت بما هو أشد شهرة من النتيجة ما كان من المجادلين يسأل عن طرفي سؤال أحدهما مشهور والآخر شنع حتى يدري أيهما ينفع تسليمه في مطلوب السائل، بل يكون من أمور مظنونة كلا الطرفين فيها سواء في الظن، ليس أحدهما أشهر. وفي مثل هذا إن استعمل الحاد المعاجل من السؤال عرضت الحيرة، لاستبهام الذي ينفع، وإشكال الأمر في الكاذب والصادق، وصحة القسمة السؤالية وفسادها، وقصر مدة النظر والتأمل. وكذلك إذا كان السؤالان سئلا ولم يعتن المسوق إليه الكلام بهما من طرفي النقيض حتى تكون مطالعة المطلوب تهدي سبيل المقاومة. وكذلك يشكل هذا التأليف على مستقيم أو على خلف. وكذلك القياسات المضللة المتقابلة التي تحتاج إلى ترجيح، ويصعب ويعلم أنها متقابلة يدفع بعضها موجب البعض، ولا يهتدي إلى السبب الذي من قبله تعرض، وأخذ الحاد أن ما يخفى وجه الغلط فيه هل هو من التأليف، أو من المقدمات، وهل فيها كذب أو حاجة إلى تفصيل الاسم المشترك. وبعد ذلك ما نعلم مثلا أن المغالطة ليست في التأليف، ولكن يشكل هل هي بسبب كذب أو حاجة إلى تفصيل، ثم لا نعلم أن ذلك في أي مقدمة. ويكون الركيك من هذه القياسات ما ليس فيه شهرة، أو استعمل فيه في جملة ما يسلم شيء لم يتسلم.
ولا يجب أن نجعل سوء ترتيب المقدمات سببا للاستهانة إذا كانت صحيحة - صحيحة أحوال الحدود - وأخذ بسرعة إلى الصحة، بل يجب أن يستعان بها؛ كان القول غير موهم شهوة المقدمات، ولا إنتاج التأليف، إذ يكون السائل ضعيفا غير محنك.
ويجب أن تتلطف في النقض، فتارة تقصد به القول، وتارة القائل، بأن ترى أنه لم يسأل جيدا؛ فإن السؤال قد يراد به تارة المجيب نفسه، وتارة قد يراد به الأمران.
الفصل السادس
(و) فصل
في خاتمة الكلام في السوفسطائية
وعذر المعلم الأول عن تقصير لو وقع
قد بينا وجوه المغالطات وحلها، ووجه السؤال بها، وأخذ مقاومتها، والواجب أن نعود إلى إجمال القول في غرضنا: قال المعلم الأول: إنا لما حاولنا أن تكون لنا قوانين نقتدر بها على إيراد القياسات من المشهورات لغرض جدلي أو امتحاني، وكان السوفسطائي يشاكل هذين - أي الجدلي والامتحاني؛ أما الجدلي فلأن موضوعاته مشتركة، ولأن السوفسطائي قد يتشبه بالجدلي، ويسمى بحسب ذلك مرائيا؛ وأما الامتحاني، فمن حيث المغالطة، ومن حيث يشارك الجدلي أيضاً - أردفناه بالنظر في هذه الصناعة. ولم نتشعب ولم نقتصر على ما للسائل في ذلك، بل وما للمجيب في حفظه الوضع بالمشتركات، وعلى ما يجب أن يراعيه في الأمور المشهورة، وما للمتشبه بالمجيب حفظا منه لأوضاع سوفسطائية. والحفظ بالجملة أصعب من السؤال، إذ السؤال كالهدم، والحفظ كالبناء. وينبغي للحافظ أن يحتفظ بالمشهورات لا غير. واما السائل فيعمل من كل ما يتسلمه؛ وكذلك كان سقراط لا يجيب، إذ كان يعترف أنه لا يحسن ذلك، بل كان يقوم مقام السائل.
(2/176)
والذي في التعليم الأول بعد هذا لا يجب أن يفهم منه أنه يتكلم في القياس العام، بل هذا في القياس السوفسطائي، وإن كان كذلك قال: " وقد كان لنا في الصنائع البرهانية والجدلية المذكورة أصول مأخوذة ممن سبقنا " ليس يعني من حيث هي مجردة عن المواد، بل من حيث استعملت في مواد، فكان هناك جزئيات استعملت في البراهين - مثلا في الهندسة - وجزئيات استعملت في السؤال والجواب في الجدل والخطابة، أمكن أن ينتزع منها قوانين كلية. وهذه الجزئيات كانت في ابتداء تفطن الناس للجدل والخطابة قليلة جدا، ثم انشعب، وكثرت على حسب نبوغ النابغين أخيرا، والبناء عليها، وتبديلها، وإصلاحها، وصارت لهم ملكة - وإن لم تكن عن قوانين - فسألوا وحلوا وخلفوا من الجزئيات ما فيه الكفاية؛ وربما دلوا على أمور ما من الكليات، وإن قلت. وقد ذكر أقواما توالوا في تربية الخطابة بعد القدماء مثل طيطياس، وبعده ثراسوماخوس الذي يجادل سقراط في أمر العدل، ثم ثادروس.
واما مقاومة السوفسطائيين فلم يوف السالفون منها شيئاً يعتد به لقلة الحاجة إليه، بل لم يكن عندهم منها شيء - لا في الأصول ولا في الجزئيات - نرثها إياهم أصلا، )و( مع ذلك فإن الحاجة قلت إلى صناعة السوفسطائية، فلم يتم عقودها فضلا عن حلولها، بل تكلموا في امثلة قليلة جزئية، وأشياء تناسب الخطابة؛ لكنا بسطنا القول قليلا، ونظرنا في وجوه الأغاليط، وجمعناها، وجردناها من المواد صناعة كلية. وإنما مست الحاجة إلى مثل الخطابة بسبب إيثار ما يؤثر، واجتناب ما يجتنب. وكان الأولون إنما وقعوا أولا من الخطابة إلى هذا الجنس، ثم استنبطوا؛ وكانوا يستعجلون فيعلمون ويتعلمون قبل أن يجردوا الصناعة، فيكون من يعلم منهم يتعلم منه على سبيل ما يتعلم من المعلم المجرب لا على سبيل الصانع القياس، فما كانوا يفيدون صناعة ولا أمرا كليا، إلا ما يعتد به، بل يبلغ فائدة. وكان مثلهم مثل من يقول: إني أعلمكم حيلة في وقاية أقدامكم ألم الوطء والحفا، وهو أن نقطع من الجلود ما تلبسون من غير تفصيل وبيان، بل على سبيل عرض خفاف معمولة عليه - فإن هذا بعد لا يكون صناعة ما لم يعلم أي الجلود تصلح، وكيف تقطع، وكيف تخرز، وما لم تميز الخفاف والشمشكات بفصولها. بل الذي يفيد مثل هذا العلم، فإنما يفيد أمرا مستبهما - وكل ما حسبنا تجمع الخفاف من غير تفصيل. ومع ذلك فإنه لا يخلو بما يعمله عن هداية، ولكنه لا يكون قد أفاد الصناعة. وأكثرهم جدوى من أفاد شيئاً صناعيا اتخذه، فصناعته كمن أفاد خفا معمولا، ولم يفد بذلك صناعة، إذ لم يفد كيف يعمل الخف. قال: فلهذا لم نستفد ممن سلف صناعته، بل ورثناهم أمورا خطبية معمولة وجدلية وبرهانية.
قال: وأما صورة القياس؛ وصورة قياس قياس، فأمر قد كددنا في طلبه مدة من العمر حتى استنبطناه؛ فإن عرض في هذا الفن الواحد تقصير فلنعذر من يشعر به عند التصفح؛ ولنقبل المنة بما أفدناه من الصواب؛ ولنعلم أن إفادة المبدأ واستخراج قاعدة الصناعة أجل موقعا وأسمى مرتبة من البناء عليها خصوصا إذا كان المستنبط - مع انه مخترع مبتدئ - محيطا بكل الصناعة وقوانينها، لا يذر منها إلا ما يعتد به. فهذا ما يقوله المعلم الأول.
(2/177)
واما أنا فأقول لمعشر المتعلمين والمتأملين للعلوم: تاملوا ما قاله هذا العظيم؛ ثم اعتبروا أنه هل ورد من بعده إلى هذه الغابة - والمدة قريبة من ألف وثلثمائة وثلاثين سنة - من أخذ عليه أنه قصر، وصدق فيما اعترف به من التقصير، فإنه قصر في كذا؛ وهل نبغ من بعده من زاد عليه في هذا الفن زيادة؟ كلا بل ما عمله هو التام الكامل والقسمة تقف عليه، وتمنع تعديه إلى غيره. ونحن مع غموض نظرنا - كأن أيام انصبابنا على العلم، وانقطاعنا بالكلية إليه، واستعمالنا ذهننا، أذكى وأفرغ لما هو أوجب - قد اعتبرنا، واستقرينا، وتصفحنا فلم نجد للسوفسطائية مذهبا خارجا عما أورده. فإن كان شيء فتفاصيل لبعض الجمل - التي أخذناها منه - ما نحن نرجو أن نستكثر من الدلالة عليه في " اللواحق " حين نرجو أن نكون أفرغ لما هو أوجب. والذي عمله معلمه، وسماه كتاب " سوفسطيقا " حاد فيه عن الواجب، وقصر عن الكفاية. اما الحيد فخلطه المنطق بالطبيعي والإلهي، وهذا لضعف تميز كان فيهم قبل نبوغ هذا العظيم وأما التقصير فإنه لم يفهم وجها للمغالطة إلا الاسم المشترك. وبالحري أن نصدق ونقول: إنه إن كان ذلك الإنسان مبلغه من العلم ما انتهى إلينا منه، فقد كانت بضاعته مزجاة، ولم تنضج الحكمة في أوانه نضجا يجنى. ومن يتكلف له العصبية، وليس في يديه من علمه إلا ما هو منقول إلينا، فذلك إما عن حسد لهذا الرجل، وإما لعامية فيه ترى أن الأقدم زمانا أقدم في الصناعة رتبة والحق بالعكس.
ونسأل الله الهداية والتوفيق.
) تم كتاب السفسطة (
الخطابة
الفن الثامن من الجملة الأولى من المنطق ريطوريقا أربع مقالات
المقالة الأولى
سبعة فصول فصل
الفصل الأول
في منفعة الخطابة
قد سلف لك الفرق بين الصنائع القياسية الخمس، واستبنت صورة التصديق اليقين، وصورة ما يقاربه، وصورة الإقناع المظنون، وعلمت مفارقة الإقناع للوجهين الأولين، وتحققت أن للإقناع درجات في التأكد والوهن، وبأن لك أن الصنائع الحائمة حوم التصديق أربع من الخمس، وأن المغالطية مرفوضة، وأن الجدلية قليلة الجدوى على الحكماء إلا بالطرق المشتركة بينها وبين البرهان، وإلا بالارتياض وبالإقناع في المبادئ، وإلا في تخطئة مخافلين للحق من نفس ما يسلمون، وأن الجدلية أيضاً يسيرة الفائدة على العامة، فإنها وإن كانت مستوهنة ضعيفة بالقياس إلى الصناعة البرهانية، فهي متينة صعبة بالقياس إلى نظر العامة، وأن العامة - بما هم عامة - تعجز عن تقبل الجدل إلا إذا صاقب بلينه حدود الخطابة، وأن الجدل، إذا ألزمهم شيئاً، وأذعنوا للزومه، خالوه مغالطة أضنتهم، أو شيئاً ليس يستوي لهم انكشافه، فهم في حيرة منه، ونسبوه إلى العامل بفضل القوة لا بفضل الصواب، والمسكوت عنه للحيرة ولقصور المنة، لا لمصادفة الموقع. فيكون عندهم أنهم لو تيسرت لهم نفلة عن درجتهم إلى فضل استظهار بنظر واستبصار بعرفان، لم يبعد أن ينقضوا ما سمعوه ويعلموا موضع التلبيس فيما عجزوا عنه. وبالجملة: إذا استقصروا أنفسهم عن شأو المفاوض بالقياسات الجدلية زالت ثقتهم بما أنتج عليهم، فلم يعلموا أن الحق موجبه، أو القصور مخيله.
فيجب أن تكون المخاطبة التي يتلقاها العامي بعاميته من الجنس الذي لا يسترفعه عن مقامه استرفاعا بعيدا كأنه متعال عن درجة مثله، بل يجب أن يكون الفائق فيها فائقا في الباب، أعني أن يكون المقتدر على إجادته معدودا في جملة مخاطبي العامة، لكنه أثقف منهم من غير مجاوزة لحدودهم.
وليس تبقى لنا صناعة قياسية تناسب هذا الغرض غير الخطابة. فلتكن الخطابة هي التي تعد نحو إقناع الجمهور فيما يحق عليهم أن يصدقوا به. ولتتضع عن نفع يعود منها على الحكمة أو على الجدل.
ولما كان المخاطب إنسانا وكل إنسان إما خاصي، وإما عامي والخاصي لا ينتفع من حيث يحتاج أن يصدق تصديق الخواص إلا بالبرهان والعامي لا ينتفع من حيث يحتاج أن يصدق تصديق العوام إلا بالخطابة فالصناعتان النافعتان في أن يكتسب الناس تصديقا نافعا هما: البرهان والخطابة.
(2/178)
وأما الجدل فينفع في أن يغلب المحاور محاوره غلبة. وأما أن يفيده تصديقا ينفعه، فهو في بعض حواشي الصناعة، دون أسها، أو بما يعرض عنها، لا لأنها جدل. وليس قصد الغلبة هو بعينه قصد إفادة التصديق. فإن السوفسطائية تقصد الغلبة، ولا تقصد إفادة ألبتة. وكذلك المفاوضة الامتحانية والمحاورة العنادية. ولو أريد بالجدل الدلالة على الصدق، لما كانت الصناعة متجهة إلى المتقابلات، ومبنية على المسلمات. وحيث يراد بالجدل إقناع المتعلم في المبادئ، فليس يراد أن يفاد تصديقها جزءا. فإن المعلم يكون قد جانب فيه طريقة من يعلم، وجنح إلى سيرة من يغر، وآثر مذهب من يغش، إن أوهم ذلك وكذب فيما يقول. بل ءاية غرضه في ذلك أن يزيل عن نفس المتعلم الاستنكار، ويشعره قرب الوضع من الإمكان، ويميل بظنه إلى طرف واحد من طرفي النقيض ومثله.
وإن كان من العامي تصديقا، فليس يكون من الخاصي تصديقا. فإن الخاصي قد تمت منه الإحاطة بأن تصديق مثله إنما هو بالحق، وأنه لا تصديق له بما فيه بعد إمكان عناد. وأما تصديق العامي فليس من شرطه أن ينمحق الشك معه. ولذلك من شأن العامي أن يقول لمخاطبه: صدقت وأحققت. وليس من شأن الخاصي أن يقول في مثل ذلك لمخاطبه: صدقت وأحققت.
وليس لقائل أن يقول: إن التصديق أعم من التصديق الخاصي، فيكون المتعلم، إذا أقنع في المبادئ كيف كان، فقد أفيد التصديق المطلق، وإن لم يفد التصديق الخاصي. فإنا نجيبه: أن الخاصي لو وقع له بمثل هذه المعاملة تصديق من جنس التصديق العامي، لكان يحق علينا أن نقول: إن هذه المخاطبة تفيده تصديقا، وإن لم يكن تصديقا خاصيا. لكن الشاعر بالتصديق الخاصي والمستعد له ليس من شأنه أن يقع له التصديق ألبتة، إلا على نحو التصديق الخاصي والشبيه به الذي لا يخطر مقابله بالبال خطور ما يجوز وجوده. فما خرج عن ذلك أو لم يناسبه، لم يقع له تصديق به. واما العامي فلا يشعر بذلك، بل يأخذ الأمر مصدقا به، إذا مالت إليه نفسه، ويتحرى أن يميط المقابل عن ذهنه. وإن لاح له جوازه، فيكون ميل نفسه إليه مقارنا للتصديق وعلة له، وإن لم يكن نفس التصديق. فإنه إذا كان ميل نفس مع شعور بجواز النقيض مخطرا بالبال مساعدا على أنه لا يبعد أن يكون، فليس بعد هناك تصديق ولا ظن مؤكد، بل ميل ظن. فإذا انعقد الرأي، وجعل النقيض - مع إمكانه كونه عند المستشعر - في حكم ما لا يكون، كحكمنا على كثير مما يمكن عندنا كونه بأنها لا تكون، فحينئذ يكون تصديقا. وميل النفس يوقع التصديق عند العامي ويمقت إليه اعتقاد أن طرفه الآخر يكون، وإن كان جائزا عنده أن يكون. ولا يفعل ذلك بالخاصي. فإن كان المتعلم في درجة المرام، والمعلم في درجة المروجين، كان ذلك يصدق من حيث هو عامي، لا من حيث انتقل إلى التخصيص وكان هذا يروج من حيث هو مغالطي، لا من حيث هو مجادل، أو معلم. على أن المناقشة في هذا مما عنه مندوحة. فلنضع أن هذا النوع من استعمال قوانين الجدل موقع التصديق. إلا أن هذا النوع ليس من الأغراض الأولية للجدل، بل هو من الأمور المتعلقة بالجدل والمنافع المستدرة عن صناعة الجدل. ولربما نفعت صناعة في غير ما أعدت له. فإذا الغاية القصوى في الجدل هي الإلزام. ولربما حسنت معونته على التصديق إما مع العامي إذا ترافع عن العامية يسيرا، فأريد أن يحبب إليه عقد أو يبغض عليه رأي، من غير أن تعم منها هذه المعونة جماعة المنسوبين إلى العقل من الجمهور كلهم، بل أفرادا منهم، كأنهم خواص، وكأنهم مذبذبون، لا إلى الخاصة حقا، ولا إلى العامة حقا؛ وإما مع المتعلم إذا أريدت منه السلاسة لقبول المبادئ، من غير أن يقتصر به عليه، أو يوهم كفاية له فيه.
(2/179)
وكما أن المخاطبة البرهانية لا يبعد أن يراد بها الغلبة نفسا، وكذلك المخاطبة الخطابية، فكذلك المخاطبة الجدلية لا يستنكر أيعدل باستعمالها عن جهتها إلى جهة التصديق. وقد نطق الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي هو تنزيل العزيز الحكيم بمثله، فقال: ادع إلى سبيل ربك أي الديانة الحقيقية بالحكمة أي بالبرهان، وذلك ممن يحتمله والموعظة الحسنة أي الخطابة، وذلك لمن يقصر عنه وجادلهم بالتي هي أحسن أي بالمشهورات المحمودة. فأخر الجدل عن الصناعتين لأن تينك مصروفتان إلى الفائدة، والمجادلة مصروفة إلى المقاومة. والغرض الأول هو الإفادة، والغرض الثاني هو مجاهدة من ينتصب للمعاندة.
فالخطابة ملكة وافرة النفع في مصالح المدن، وبها يدير العامة.
فصل
الفصل الثاني
في عمود الخطابة
وأجزائها والتفريق بينها وبين الجدل
الخطابة قد تشارك الجدل باعتبار، وتشاكله باعتبار. أما المشاركة فمن جهتين: إحداهما في القصد، والثانية في الموضوع. أما المشاركة بالقصد فلأن كل واحد منهما يروم الغلبة في المفاوضة. أما القائس فبالإلزام، وأما الآخر فبالانفصال. وإن كان في الخطابة غرض آخر هو غرض القائس، وذلك هو إيقاع التصديق، وكان الآخر لا يكفيه في كمال فعله أن يقاوم المقدمات والقياس فقط، بل وأن يعود قائسا على مقابل نتيجة الخصم فيبين كذبه.
والجهة الثانية من الجهتين الأوليين أنه ليس ولا لواحد منهما موضوع يختص به نظره. أما الجدل فقد علم أمره. وأما الخطابة، فإن العامة لا يهتدون إلى تمييز الموضوعات بعضها عن بعض، وتخصيص الكلام في موضوع مبني على مباد تليق به وحده، على ما توجبه الصناعة البرهانية. بل الخطابة في ذلك كالجدل. وإن كان الجدل التفاته الأول إلى الكليات، والخطابة التفاتها الأول إلى الجزئيات. على أن لها أيضاً أن تتعاطى الكلام في الكليات من الإلهيات والطبيعيات والخلقيات. فهذا هو المشاركة.
وأما المشاكلة، فلأن مبادئهما جميعا المحمودات. لكن الجدل محموداته حقيقية، والخطابة محموداتها ظنية.
ولما كان كل واحد من الجدل والخطابة متعرضا لكل موضوع، صارا مشاركين للعلوم البرهانية في موضوعاتها من وجه، فحصل أيضاً بينهما وبين العلوم مناسبة ومشاكلة.
وهذه الصناعة قد يتعاطى أفعالها كل إنسان، وتجري بينهم مفاوضات، تبين لك بأن تتأمل ما يختلفون فيه من مدح، أو ذم، أو شكاية، أو اعتذار، أو مشورة. فمنهم من تصرفه في بعض هذه المعاني أنفذ، ومنهم من هو متصرف في جميعها، ومنهم من ينفذ في ذلك بملكة حصلت له عن اعتياد أفاعيلها من غير أن تكون القوانين الكلية محصلة عنده حتى يعلم لمية ما يفعله وتكون عنده أحكام صناعية مجردة عن موادها، ومنهم من يجمع إلى الملكة الاعتيادية ملكة صناعية حتى تكون القوانين محققة عنده، وهو الإنسان الذي أحاط بهذا الجزء من المنطق علما، واكتسب الملكة بالمزاولة. والملكة الاعتيادية وحدها، وإن كانت تنجح، فلا عن بصيرة. والملكة الصناعية وحدها أيضاً تكون فاترة الإنجاح غير نافذة.
وقد ذكر المعلم الأول: أن سلفه إنما كان مقاومهم في الخطابة مقام من له ملكة اعتيادية، ولم تكن تميزت له صورة الملكة الصناعية، ولا تكلموا فيها ولا خاضوا خوضا يعتد به. إذ كان أكثر ما تكلموا فيه هو النظر في الأمور اخارجة عن عمود الخطابة.
وذلك لأن الخطابة لها عمود، ولها أعوان. أما العمود: فالقول الذي يظن أنه ينتج بذاته المطلوب. وأما الأعوان: فأحوال أيضاً وأقوال خارجة عن ذلك العمود. وذلك لأنه، لما لم يكن للغرض في الخطابة إصابة الحق، ولا إلزام العدل بل الإقناع وحده، كان كل مقنع مناسبا للغرض. وليس كل ما يقنع هو قول قياسي أو تمثيل، أو شيء مما يجري مجرى ذلك. فإنك قد تقنع بما يحكم به المعروف بالصدق من غير أن تسومه إقامة البرهان، وتقنع بما يخبر به من تشهد سحنته وهيئته بما يخبر به، كالذي هيئته هيئة مرعوب مذعور، إذا حدثك بأن وراءه فتنة أو آفة. وكل من يحاول إقناع آخر، فإما أن يحاول ذلك بالشيء الذي من شأنه أن يقنعه به، وإما أن يجعله مستعدا للقناعة بما لولا الاستعداد أوشك أن لا يكون مقنعا.
(2/180)
والأشياء المقنعة: إما قول تروم منه صحة قول آخر، وإما شهادة. والشهادة: إما شهادة قول، وإما شهادة حال. وشهادة القول مثل الاستشهاد بقول نبي أو إمام أو حكيم أو شاعر؛ ومثل الاستشهاد بقوم يحضرون ويصدقون قول القائل مشافهة بأن الأمر كان؛ أو مثل الاستشهاد بشهادة الحاكم والسامعين بأن القول مقنع. فالأول شهادة مأثورة، والآخر شهادة محضورة.
واما شهادة الحال: فإما حال تدرك بالعقل، أو حال تدرك بالحس. فأما الحال التي تدرك بالعقل فمثل فضيلة القائل، واشتهاره بالصدق والتمييز. وأما الحال التي تدرك بالحس: فإما قول، وإما غير قول. والقول مثل التحدي، ومثل اليمين، ومثل العهود. أما التحدي فكمن يأتى بما يعجز عنه، فيعلم أن دعواه دعوى صادقة، ولولا ذلك لما أيد من السماء بما ليس في طباع البشر أن يوجد بقولهم، وكمن يدعى أنه أعلم من إنسان آخر بالطب، وإلا فليعالج هو معالجته. واما اليمين فحالها معروفة. وأما العهود فهي أقاويل أيضاً مدونة مكتوبة، وهي شريعة ما، يشرعها المتعاهدان على أنفسهما.
وأما الحال المحسوسة، غير القول، فمثل من يخبر ببشارة، وسحنة وجهه سحنة مسرور بهج، أو يخبر بإظلال آفة وسحنة وجهه سحنة مذعور خائف، أو ينطق عن تقرير بالعذاب والثواب. فمن ذلك ما تكون الحال الشاهدة تتبع الانفعال النفساني مثل السحنة والهيئة؛ ومن ذلك ما تكون الحال الشاهدة طارئة من خارج مثل العقوبة أو المبرة.
واما الحيل للإعداد المذكورة فتتوجه نحو من يراد إقناعه. ومن يراد إقناعه: إما المفاوض نفسه الذي تتوجه إليه المفاوضة، وأما غيره. وغيره: إما ناظر يحكم بين المتحاورين، وإما السامعون من النظارة. فههنا: قائل، وقول، وسامعون. فالحيلة الإعدادية: إما أن تكون بحيث تجعل القائل مقبول القول، أو بحيث تجعل القول أنجع، أو بجيث تجعل السامعين أقبل. فأما القائل، فأن يتكلف الاستشهاد بحال نفسه تكلفا، إذا لم يكن ذلك واقعا بنفسه، وذلك أن يتكلف الدلالة على فضيلة نفسه، أو يتهيأ بهيئة وسحنة تجعل مثله مقبول القول. وأما القول فأنه يحتاج تارة إلى أن يرفع به الصوت، وتارة إلى أن يخفض به الصوت، وتارة إلى أن ينقل الصوت، وتارة إلى أن يحد، وتارة إلى أن تخلط فيه هذه الأمور. ولكل عرض أيضاً ترتيب خاص.
وأما السامع فيحتاج أن يستعطف ويستمال حتى يجنح ويميل إلى تصديق القائل، أو يرد إلى هيئة مصدق، وإن لم يصدق. وكذلك الحاكم. وأما المناظر فيكفي منه أن يهيأ بهذه الحيلة بهيئة مذعن مصدق، وإن لم يقع له التصديق.
وهذا التأثير يوجبه أمران. أحدهما ما يحدث انفعالا، والثاني منهما يوهم خلقا. فإن الأخلاق تختلف بالناس؛ فبعضها يجعل الإنسان أسرع تصديقا؛ وبعضها يجعل الإنسان أميل إلى إيثار العناد. والانفعالات أيضاً فإنها تقوم وقت ما تحدث مقام الأخلاق في ذلك. فإن من انفعل بخوف، واتقى عاقبة عناد، كان أقرب إلى الشهادة. ومن رحم، كان أدنى إلى التصديق. ومن أحب، كان أخلق بأن يميل إلى معاونة المحبوب. ومن مدح وأعجب بنفسه، كان ميله إلى مادحه الذي عجبه بنفسه وتصديقه إياه أكثر. ومن أغضب على إنسان، كان أحرى أن يكذبه. ومن مكنت منه القسوة، كان أجدر أن لا يذعن للرحمة. ويشرح جميع هذا من ذي قبل. وأكثر ما يستدرج من هذه الحيل قولي. فيكون إذا في الخطابة أقوال غير العمود المذكور: من ذلك أقوال يراد بها تقرير هذه الحيل؛ ومنها أقوال يراد بها إيجاب التصديق بمقتضى الأمور المذكورة. مثال الأول: القول الذي يريد به الخطيب تقرير فضيلته عند السامعين ليصدقوا بها، أو القول الذي يثير به سخط القاضي على خصمه. ومثال الثاني: القول الذي يروم به إثبات كون الشهادة مقنعة، وإثبات كون المعجز حجة، وإثبات كون الشهادة بينة زكية.
فيعود الأمر إلى ان الأقاويل الخطابية التي يراد بها التصديق ثلثة أصناف: العمود، والحيلة، والنصرة.
والعمود هو القول الذي يراد به التصديق بالمطلوب نفسه.
والحيلة هي قول يفاد به انفعال لشيء أو إيهام بخلق.
والنصرة قول ينصر به ما له تصديق.
فقد اتضح لك إذا أن ههنا شيئاً هو العمود، وشيئاً خارجا عنه، وأن جميع ذلك صناعي.
(2/181)
وذكر في التعليم الأول: أن السلف المتكلمين في أصول الخطابة لم يزيدوا على أحكام تكلموا فيها متعلقة بالأمور الخارجية، ولم يفطنوا للكلام في العمود أصلا. فأما الأقاويل الانفعالية والخلقية فقد أكثروا فيها، وكذلك ما يتعلق بالترتيب من الصدر، والاقتصاص، والخاتمة، وجميع ما هو غير العمود مما ليس الغرض فيه نفس التصديق، بل الغرض فيه استدراج السامع. فلو اتفق أن يصطلح الخطباء كلهم في المدن كلها على ترذيل الخارجيات والاشتغال بالعمود، كما كان قد اصطلح عليه في عدة مدن في زمان المعلم الأول، لكان سعى أولئك الخطباء حينئذ قد بطل، ولم يكن إلى ما دونوه من أصولهم في الخارجيات حاجة، بل كان كأنه مما يزيف ويسقط، وكان مذهب الخطباء في ذلك العصر مذهبين: مذهب تختص به بلاد من بلادهم يسوغ للخطيب استعمال كل مقنع من العمود، ومن الحيلة، ومن النصرة؛ ومذهب يحظر ذلك كله ويحرمه ولا يسوغ أن يشتغل بشيء عدا القول المقنع. والصواب هو المذهب الأول. ومن لطف للمتصرف في ذلك كله، واقتنى الملكة فيه، عد فطنا لبيبا، وحسن التأتي أديبا.
فصل
الفصل الثالث
في الأغراض التي تختص بالخطيب وكيفيتها
وكل خطيب يتكلم في الأمور الجزئية، فإنه يحتاج إلى أن يثبت كون شيء موجودا أو غير موجود، في الحاضر أو الماضي أو المستقبل. وأما كون ذلك الشيء عدلا أو جورا، نافعا أو ضارا، فضيلة أو رذيلة، فربما لزمه أن يثبته، وربما لم يلزمه.
فإنه إن كانت الشريعة - إما المشتركة التي لا تنسب إلى شارع، بل تنسبها العامة إلى العقل، فمثل قولهم: الإحسان إلى الآباء واجب، وشكر المنعم فرض؛ وإما الخاصة لقوم وأمة؛ وإما ما هو أخص من ذلك كمعاقدة ومعاهدة - قد ينت أنه عدل أو جور، فقد كفى المثبت لوجود الأمر إثباته كونه عدلا أو جورا. وكذلك إن كان الخطباء والأئمة قد قضوا بذلك تفريعا على الأصول. وإما إن كان لا حكم فيه، فربما كان الأمر فيه موكولا إلى نظر الإمام والقاضي، ولم يكن إلى الخصمين أن يتشاجرا فيه، ويتوليا إقناعا في أمره؛ وربما لم يكن، بل كان عليهما أن يتشاجرا في ذلك، فأيهما أقنع الإمام والقاضي قضى له. وكان هذا القسم مما قل وجوده ويعسر اتفاقه في هذا الزمان، وكان المستمر في الأقاليم كلها هو تفويض الحكم في أن الأمر عدل، أو ليس بعدل إلى رأي الحاكم.
وأما النافع والضار فمن ذلك ما يعرفه الجمهور كلهم، ومنه ما يعرفه خواص منهم. وكل فرقة تختص باستبصار في ضرب من النفع والضر. ومنه ما يكون الحال فيه خفيا. فما كان - مما يثبت الخطيب وجوده - ظاهر التأدي إلى النفع والضر، وكان ذلك الضرب من النفع والضر مشتهرا عند الجمهور، لم يحتج الخطيب إلا إلى أن يثبت كونه أو لا كونه. وما كان خفي التأدية، جلى النفع أو المضرة، لزمه تصحيح التأدية فقط. وما كان خفي التأدية، خفي النفع والضر، لزمه إيضاح حال كونه نافعا أو ضارا. ففي مثل هذه المواضع يحتاج فيه إلى أن يبين أن أمرا يكون أو لا يكون. فإن كان نفس ذلك الأمر مؤديا إلى الغاية المطلوبة، أو إلى ضدها، بلا توسط شيء آخر، لم يحتج إلى إثبات تأديته إلى النافع أو الضار، بل ربما احتيج إلى إثبات كونه في نفسه نافعا أو ضارا. وإن كان مؤديا بتوسط، لم يكن بد من إثبات تأديته إلى النافع أو الضار، إن لم يكن بينا. ويكون ذلك إلى الخطيب. ويكون إلى الحاكم أن يحكم بأن قوله أشد إقناعا من قول خصمه. ولا يكون إلى الحاكم أن يحكم في ذلك بشيء هو عنده. اللهم إلا أن يكون ذلك أحكاما أخروية، ليست أمورا دنيوية. فحينئذ إذا أثبت الخطيب كون أمر أو لا كونه، قضى الحاكم أنه يجريه أو لا يجريه. ومعناه أنه نافع في الآخرة أو غير نافع.
وأما الأمور التي يمدح بها أو يذم: فمنها ما يكون إيجابه للمدح والذم قائما في الشريعة المشتركة، والمشهور المستفيض كما يكون دفع الشر عن المظلوم فضيلة؛ أو بالشريعة الخاصة كما يكون الصيام فضيلة، والحج فضيلة.
ومنه ما يكون استحقاقه للمدح والذم غير بين، فيحتاج أن يثبت كون الأمر محمودا، أو مذموما.
(2/182)
فقد تميز لك الموضع المفتقر إلى أن يتعدى فيه نفس إثبات الشيء أو نفيه إلى كلام آخر، والموضع المغنى عنه. فإذا كان كذلك، فكيف تغنى الأمور الخارجية في إثبات أحكام كلية، يحتاج إلى تصحيحها أحيانا، إذا لم تكن الشريعة حددتها، مثل أن كل ما كان كذا فهو عدل، أو جور، أو نافع، أو ضار، أو حسن، أو قبيح، أو عظيم، أو صغير. حتى إذا صححت، أدخل تحتها الأمر المثبت وجوده أو لا وجوده. فإن الأمور الخارجية تنفع في أن يقنع في الأمور الجزئية. وأما الأحكام الكلية فلا ينتفع في إثباتها بأن يستدرج السامعون بالحيل الموصوفة، وتكاد تكون الانفعالات النفسانية كلها إنما تتناول شخصا بعينه. فإن المخوف، والمرجو، والمحبوب، والممقوت إنما يكون شخصا بعينه. وإن كان قد يخاف معنى كليا لنفسه، فإن الواقع منه في عرض الاستدراج أمر جزئي. على أن الأولى أن تكون الأحكام الكلية مفروغا عن التشاجر فيها، وأن يكون الشارع والأئمة فرغوا من تحديدها. وإنما تكون التفريعات الجزئية مفوضة إلى الحكام أنفسهم. دون المتنازعين. فإن القضاء على العدل، والجور، والمصلحة، والمفسدة مما لا يفي به كل بنية وكل قريحة، ولا القريحة الوافية به تقتدر على الفتوى الجامع للمصلحة إلا عن رؤية ينفق عليها مدة من العمر. فكيف يصلح لهذا القضاء كل من يصلح للحكومات الجزئية؟ ولو صلح لذلك، لكان الزمان الذي في مثله يفصل الأمر بين المتشاجرين، يضيق عن إنشاء الرأي السديد فيه. وإذا لم يكن ذلك إلى الحكام، فكيف إلى من يليهم من العوام؟ فالقوانين الكلية موكولة إلى وضع الشارع. ولابد من شارع من عند الله. وأما اس - عمال الكليات في الجزئيات فيقوم به الحكام، حتى يكون غاية نظرهم إنما هو في كون الأمر الجزئي، وغير كونه، سالفا، أو حاضرا، أو من ذي قبل. ويكون الحكم الكلي متقبلا من الشارع. فكما أن الحكام القاصرين عن رتبة الشارعين يقصرون عن وضع الشريعة، كذلك الشارعون لا سبيل لهم إلى الحكم في جزئي جزئي بعينه مما لا يتناهى.
فهذه ثلثة أشياء: كون الأمر ولا كونه، وهو الذي تنفق فيه الحيل الاستدراجية في تصحيحه. والثاني: الحكم الكلي، وهو شيء مفروغ عنه، ليس مما يستأنف إثباته؛ وإن كان مستأنفا إثباته، فليس للحيل الاستدراجية في تصحيحه مدخل. والثالث: النتيجة الجزئية في أن هذا الكائن كذا أو ليس كذا. وهذا أيضاً فليس تنفع فيه الحيلة الاستدراجية. والوجه الأول، العرض لنفوق هذه الحيل فيه، فإن عموده غير هذه الحيل.
فقد ظهر من هذا أن المقتصر بتقنينه لقوانين الخطابة على تعليم هذه الأمور قد اقتصر من الأمر على صفحته الخارجة، ولم يستبطن كنهه، ولا أدرك حقيقته، بل أكثر جدوى ما صنعه تعريف حيلة يتمكن بها من تصيير السامع على هيئة موافقة لقبول الحجة والإذعان للتصديق الذي يكتسبه صناعة. ونفس هذا التصديق إنما يتوقع من جهة العمود كالضمير لا غير. وقد عرفت أن الضمير ما هو. وإذا كان المعتمد هو الضمير، فبالحري أن لا يختلف حكم صناعة الخطابة فيما يراد به التفسير، وهو التبيين، على سبيل تصح في المشورة، والمشاجرة المبنية على المنازعة في الشكاية والاعتذار. إذ العمدة في جميع ذلك واحد، وهو الضمير. وأما الحيل الاستدراجية فعسى أن ينتفع بها في المشاجرة، دون التفسير. وليس أيضاً ينتفع به في كل مشاجرة، بل في مشاجرة سوقية منبعثة عن معاملة في أخذ، وإعطاء، أو ما يجري مجراها. وأما المشاجرات في الأمور السياسية التي تقع بين أهل مدينة ومدينة، وتقع بين متوليين لسياسة مدينة، فإنها عالية عن خلطها بهذه الحيل الخارجة؛ وإنما مجراها مجرى التفسير.
(2/183)
فلو كانت الخطابة مبنية على هذه الحيل الخارجية، لكان التفسير لصناعة، والمشاجرة لأخرى. ولكانت المشاجرة في الأمور العظام لصناعة، والمشاجرة السوقية لصناعة. ولم تكن الخطابة قوة تتكلف الإقناع الممكن في جميعها. بل الخطابة إنما هي خطابة بالضمير. وهذه الحيل بعضها معدات، وبعضها تزايين وتزاويق يحسن به الضمير، ويفخم به شأن الدليل. وما أحسن من يستعمل هذه الخارجيات فيما أراد فيه التفسير، أو يجعلها قانون الصناعة، ويغفل العمدة التي عليها العمل. والتفسير قد يشارك المشاجرة في الموضوع، كما يتفق أن يقدم إنسان على فعلة هي زلة، وبإزائها جزاء. فإن المفسر قد يشير في ذلك بما ينبغي أن يفعل به. والحاكم قد يحكم بكون تلك العلة عدلا أو جورا من تلقاء نفسه بما توجبه السنة التي ينصرها أو الرأي الذي يعتقده. وهذا للحاكم من حيث هو حاكم بين المتشاجرين. وأما الحكم على ما ينبغي أن يفعل في مجازاته فليس للحاكم ذلك من حيث هو حاكم بين المتشاورين، بل للحاكم. وعليه أن يحكم بتفضيل أحد الرأيين على الآخر، ويكون ذلك الذي يحكم به رأيا تولى الخطيب إثباته. فإن هذا التفسير، وإن كان أخس من الحكومة بسبب أنه عمل من هو أخس، فإن الخصم في مجلس القضاء أخس من القاضي، وبسبب أنه نتيجة رأي إنسان دون الشارع، وذلك نتيجة رأي الشارع، والشارع هو الإنسان الكبير الذي لا يدانيه إنسان، وبسبب أنه في الفرع وهو الجزاء، ليس في الأصل هو الاستحقاق، فإنه، أعني التفسير، أوضح للجمهور وأشيع وأعم. إذ لكل واحد منهم مدخل في مشورة، وليس لهم مدخل في حكومة أو وضع شريعة. ولهذا السبب ما يعرض أن يكون الحاكم بين المتشاورين، إذا حكم، لم يلبث أن ينكشف للناس عدله في القضاء، أو ميله، إذا كان حكمه حكما في أمور أهلية غير وحشية، وفي أسباب معلومة غير مجهولة.
واما في التشاجر فإنما يحكم بما عنده ويراه وبما يجهله جل الجمهور، لأن معوله في ذلك هو على رسم السنة. ولذلك ما ينكتم ميله فيه. ولذلك ما يلزم الرافع إليه ظلامته أن يتحرز عنه في الوحشيات الغريبة، لا في المألوفة المعلومة. فإن شاء سلم الأحقاق لأحد الخصمين ميلا وتبرعا ورفض مر الحكم، وخصوصا فيما يكون إليه أن يقيس ويرى أيه.
والشارعون معنيون دائما بتحريم مجاوزة ما في كتابهم على الحكام، وتحذيرهم إياه، عالمين بتمكنهم في الأحكام التشاجرية مما يميلون إليه. وأما في الأحكام المشاورية، فقلما يفترض فيها قوانين من عند أصحاب الشرائع، إلا في أمور عنادية وجهادية، ويكلون أمر ما خلاه الى الناس. فيكون لجمهور الناس بأحكامه بصيرة. ولذلك ما يصرف الحاكم وكده الى أن يكون مع الأصوب من الرأيين لئلا يفسد رأيه ولا يسقط عن مرتبة الاستقصاء والتصدير للحكومة. ولهذا ما تقل منفعة الحارجيات فياستدراج الحاكم حيث يفسر، ولا تقل في استدراج الحاكم حيث يتشاجر.
وكأنك الآن قد استبنت قلة غناء الخارجيات، واستوجبت صرف الشغل الى الآلة الصناعية الأهلية، وهو ما يوقع التصديق من حيث هو موقع للتصديق بالقياس المحذوف كبراه، وهو الذي يسمى تفكيرا وضميرا.
وقد عرف الفكير أنه جزء من قياس، ذلك القياس لو تم لكان مظنونا به أنه جدلي. وذلك لأن الجدلي هو الذي يكون من محمودات حقيقية، والخطابي هو الذي يكون من محمودات بحسب بادي الظن. ولما كان النظر في القياس الجدلي الذي يسمى مرارا كثيرة منطقيا لصناعة المنطق، فالنظر في الشبيه به لصناعة المنطق. إذ كان النظر في الحق وما يشبه الحق لصناعة واحدة. فالنظر في المحمودات حقا والمحمودات ظنا وفي استعمالها لصناعة واحدة. كما أن النظر في الصادق والحق الذي منه ينبعث البرهان، وفي المحمود الذي منه ينبعث الجدلي لصناعة واحدة. إذ كانت الصناعة المنطقية بالاستحقاق الأول هو البرهان، وكان الجدلي شبيها به. إذ كانت المحمودات تشبه الحق، وغرائز الناس مشغوفة بالتماس الحق، لكن السبيل إليه صعب، فمنهم من يوفق له، ومنهم من يقع إلى الشبيه به.
فصل
الفصل الرابع
في مشاركات الخطابة لصنائع أخر
ومخالفتها لها
(2/184)
إن صناعة الخطابة عظيمة النفع جدا، وذلك لأن الأحكام الصادقة فيما هو عدل وحسن أفضل نفعا وأعم على الناس جدوى من أضدادها. وذلك لأن نوع الإنسان مستبقى بالتشارك. والتشارك محوج إلى التعامل والتجاور. والتعامل والتجاور محوجان إلى أحكام صادقة في الأمور العملية، بها ينتظم شمل المصلحة، وبأضدادها يتشتت. وهذه الأحكام تحتاج أن تكون مقررة في النفوس ممكنة من العقائد.
وقد بينا أن البرهان قليل الجدوى في حمل الجمهور على العقد الحق، وبينا أن الخطابة هي المتكفلة به. فإحدى فضائل هذه الصناعة غناؤها في تقرير هذه الأغراض في الأنفس. وأيضاً فإن في الأمور الجزئية أحكاما يوجبها التعقل الصحيح. وليس التعقل الصحيح مبنيا على المخاطبة والمحاورة، بل قانونه الروية والنظر. كما أن البرهان أيضاً في الأمور الكلية النظرية مبني على الحق دون المحاورة. ثم المصحح بالبرهان من الأمور الكلية النظرية، إذا أريد تقريره في نفس من يسفل عن رتبة البرهان، كان الجدل أعون شيء على تقريره. كذلك المدرك بالتعقل، إذا أريد أن يقرر في نفس من يضعف عن التعقل بنفسه، كانت الخطابة أعون شيء عليه. وإذا لم يكن المدير من الناس مستحقا لأن يخاطب بالصحيح من البيان العلمي فيما ينبغي أن يعتقد، أو بالبيان العقلي فيما ينبغي أن يعمل، فإذا كان لنا قوة خطابية تمكنا من إقناع المخاطب بما يقنعه ويظنه ويقبله ويستحسنه ويناسب قدره ويشاكله، وعلى ما بيناه في صناعة الجدل.
وصناعة الخطابة من الصنائع التي نقنع بها في المتضادين، كما أن صناعة الجدل كانت صناعة يقاس بها على المتضادين. وليس على أن تكون الخطابة نقنع بها في وقت واحد أن هذا الشيء بعينه كان وأنه بعينه لم يكن؛ ولا على أن يكون الجدل أيضاً يرام به القياس على المتقابلين معا في ومان بعينه إلا في الرياضة، بل على أن لنا أن نثبت في أمر أنه كان وأنه عدل وأنه صواب وأنه ممدوح، ولنا أن نثبت أضداد ذلك من طريق القوة ومذهب الصناعة. وأما من طريق الاستعمال فإنا لا ننتفع باستعمالها جميعا في الخطابة في أمر واحد وفي وقت واحد بعينه كما كنا ننتفع بذلك في الارتياض الجدلي. إذ الغرض في الخطابة إيقاع التصديق، ولا كذلك في الارتياض الجدلي. بل قد ينفع باستعمال الإقناع في الطرفين من وجه آخر شبيه بالارتياض، وذلك بأن نحضر الحجج المتقابلة في أفكارنا معا متفكرين فيتصرح لنا ما ينفعنا وفي طريق التصديق الذي يلتمس إيقاعه، ويكون حل الحجج المناسبة للطرف الآخر علينا أهون. فإن الشك، إذا كان حاضرا ذهنك، كن أقدر على تحمل وجه حله من أن يطرأ عليك ولم تستعد له. وليس من الصنائع المنتفع بها صناعة نقيس فيها على المتقابلين غير الجدل والخطابة. أما الصنائع البرهانية فنقيس فيها على طرف واحد. وأما السوفسطائية فليست معدة نحو الإقناع، بل نحو التغليط، ولا هي من الصنائع التي يستعملها الناس للمنافع. وأما الصناعة الشعرية فهي لأجل التخييل، لا لأجل التصديق، ولا في طرف واحد. لكن الخطابة، وإن كانت بهذه الصفة، فالخطابة الجزئية الفاضلة هي التي تنحو نحو الطرف الأفضل، وتبتدئ من المقدمات التي هي ففضل. فهذا أيضاً من فضائل الخطابة، أعني اقتدارها على التصرف في الإقناع تارة في طريف، وتارة في الطرف الآخر. وحكم ذلك حكم أعضاء الإنسان، فإنها معدة للتصرف في الإلذاذ والإيلام، وحكم قواه سوى الفضيلة الخلقية وحدها. فإن قواه معدة للخير والشر جميعا. وأما الفضيلة فللخير فقط. وأما ما سوى الفضيلة، كالصحة واليسار والبسالة، فقد يصلح أن يستعمل في الخير، ويصلح أن يستعمل في الشر. والحاجة إلى الخير ماسة، وإلى الشر قد تمس، ليدفع الشر بها، فلح الحديد بالحديد، وليتخلص به من العدو تسليطا للشر عليه. والمرء ينصر بدنه ونفسه بما هو مشارك فيه لسائر الحيوان، فما أحسن به أن يكون قديرا على نصرة نفسه بما يخصه، وهو اللسان والبيان، فيعدل به ويجور، ويحسن ويسيء، ويتمكن به من التصرف في المتقابلات فيحسن فعلا فعله بعدوه وهو قبيح، ويعدل فعلا دفع به الشر عن نفسه وهو جور، فضلا عن أن يدل على قبح القبيح وجور الجائر.
(2/185)
وكما أن الطبيب ليس عليه أن يشفي كل مريض من كل مرض، بل أن يبلغ الممكن الإنساني على طريق الصواب في مثل العارض المحدود، حتى إن أخفق، كان السبب فيه صعوبة المرض في نفسه واستعصاء الموضوع على مغيره إلى الصلاح. كذلك الخطيب عليه أن يتكلف من إيراد العمد والحيل ما يمكن إيراده في كل باب. فإن كان الأمر مما يعسر تقريره في النفوس، فليس ذلك مما يعود على الخطيب بتعجيز. وكما أن في الجدل المطلق قياسا جدليا بالحقيقة وقياسا جدليا بحسب التشبيه، كذلك في الخطابة ما هو بنفسه من المظنونات المستعملة في الخطابة، وما هو مشبه بالمقنع بأنه ليس هو من الأمور التي تظن بأنفسها، بل أشياء متشاركة لها بالاسم، أو في هيئة اللفظ، أو في معنى من المعاني التي بينا في كتاب سوفسطيقا كيفية إيجابها الحكم في التشبيه، حتى يوهم في قضية أنها قضية أخرى، وتلك تكون صادقة أو مشهورة. فيتوهم في المشبه بها أنها هي بعينها، أو على حكمها.
والفرق بين المقنع والحقيقي وبين الذي يرى مقنعا: أن مقدمات المقنع الحقيقي إذا قرر معانيها في الذهن، مال إلى التصديق بها في بادي الرأي ظن السامع. وأما التي ترى مقنعة، فهي التي إنما وقع بها التصديق على أنها غيرها. ولو يحصل للذهن معناها ويخلص أمام الفكر مفهومها الذي لها في نفسها، لكان الظن لا يجنب إلى جهتها. فهذا هو الفرق بين المقنع الحقيقي وغير الحقيقي، لا وجوه أخرى قيلت في كتب خطابية لأقوام محدثين.
لكنه لما كان الغرض في الخطابة الإقناع بما يظن محمودا، ولم يكن الغرض فيه كشف الحق ولا الإلزام على قانون المحمود الحق، لم يستنكر أن تكون المقنعات بالشبيه داخلة في الصناعة، فتكون بعض هذه الصناعة صادرة عن بصيرة ومعرفة بمثلها يكتسب القوة، وبعضها لا عن تلك الجهة؛ بل عن غلط أو قصد ومشيئة للشر والتلبيس. ويكون كلاهما خطابة. وأما الجدل الحق، فإنما هو جدل لقوة على الإثبات والإبطال بفعل أفعالها مطابقة لتلك القوة فقط، وليكون إثبات وإبطال فقط. وأما الجدل الكاذب، وهو السوفسطائية أو المشاغبية، فليس يكون سفسطة ومشاغبة لأجل مطابقة الفعل قوة وملكة وحتى يكون الغرض فيها إظهار قدرة على التلبيس فقط. فإن هذا قد يستعمل في الجدل وفي الامتحان وفي قياس العناد ولا يكون مغالطة، ولكنه إنما يكون مغالطة إذا يريد به أن يظهر أن المثبت أو المبطل هو الحق نفسه وبقصد التلبيس، لا لأن يظهر القدرة على التلبيس فقط، بل لأن يروج التلبيس قصدا ومشيئة وإرادة للتضليل. فالجدل إنما هو جدل لتلك القوة، والسوفسطائية إنما هي سوفسطائية لتلك المشيئة الرديئة، من حيث هي مشيئة دريئة، لا للقوة.
وأما الخطابة ففيها قوة ومشيئة معا. أما القوة، فلأنها اقتدار على الإثبات والنفي. وأما المشيئة، فلأنه يقصد بها أيضاً ترويج ما يثبت أو يبطل بالإقناع. ولا تصير الخطابة بأن يقتصر منها على إظهار القدرة فقط صناعة أخرى، بل تكون خطابة؛ ولا أيضاً إذا شيء بها الإقناع ولو بالمقنعات المشبهة تكون غير خطابة. لكن العمدة في أمر الخطابة أن تكل القوة بالمشيئة. وكذلك أيضاً التعليم البرهاني، إنما هو تعليم بقوة ومشيئة.
والمشيئة قد تستعمل في مثل هذا الموضع على وجهين عاما: فيقال مشيئة لمشيئة إيقاع التصديق، فتكون الخطابة معدة نحو أن يكون مع القوة مشيئة، أو تكمل بأن يكون موضوعهما واحداً، أو شبه واحد، فيظن المحمول واحداً، وهو القسم الذي من جهة أخذ المحمولات الكثيرة؛ أو أن يكون المحمول واحداً والموضوعان مختلفين - وهو الذي من جهة إيهام العكس - أو تكون النسبة والشرط مختلفا، وهو إما للإضافة، أو الجهة، أو المكان، أو سائر شروط النقيض؛ فهذه أقسام ما من جهة القضايا.
وأما الذي من جهة القياس، فهو أن يكون القول المأخوذ قياسا بعد وضع ما وضع فيه، ليس يلزم عنه قول آخر غيره، فإن القياس في هذه المواضع ليس قياسا على المطلوب المحدود. وهذا إما أن يكون لا يلزم عنه شيء، فلا يكون تأليفه قياسا، وهو قسم؛ وإما أن لا يكون القول اللازم آخر غير الموضوعات، وهذا هو المصادرة على المطلوب الأول؛ وإما أن يكون غيره ولكن ليس المطلوب، وهو وضع ما ليس بعلة علة.
فقد ظهر أن جميع أنواع التضليل الواقع من جهة اللفظ والمعنى ثلاثة عشر وجها.
الفصل الرابع
(د) فصل
(2/186)
في رد جميع الوجوه المغالطية
إلى أصل واحد وأسبابها إلى سبب واحد
وقد يمكن أن ترد جميع هذه الوجوه اللفظية والمعنوية إلى أصل واحد، وهو الجهل بالقياس والتبكيت، فإن حد القياس مقول على التبكيت. وللتبكيت تخصيص أن نتيجته مقابل وضع ما، فإنه لما كان القياس هو الذي يلزم عنه قول آخر بالحقيقة، لا الذي يظن أنه يلزم عنه قول آخر، وكان التبكيت قياسا، لم يكن شيء مما وقع فيه شيء من التضليلات قياسا. وكذلك إذا اعتبرت سائر أجزاء حد القياس، لم تصادف لهذه التضليلات حقيقة.
أما الاسم المشترك فإذا وقع كان المعنى فيه غير وغير، فلم يكن اشتراك بين المقدمات، أو بينها وبين النتيجة. ويدخل في هذا حال الاشتراك في التركيب، والاشتراك في الشكل، وجميع ما يتعلق باللفظ، فإن جميع ذلك يدل على إختلاف في المفهوم لا محالة، وتثنية وتضعيف فيها لا محالة، سواء صدقت التثنية أو كذبت، فإذا اختلف المفهوم في شيء من ذلك لم يكن قياس بحسب تأليف المعنى، بل بحسب تأليف اللفظ. واحد من الأمور المفردة " تفرق بين الريطورية وبين الصنائع المعلمة كالهندسة، وبين الصنائع المقنعة في الجزئيات كالطب. إذ الخطابة لا تنسب إلى جنس معين.
ولكن لقائل أن يقول: هل الطب ملكة على الإقناع الممكن؟ وإن كانت ملكة، فهل هي بذاتها أو بالعرض؟ فإن كان بذاتها، فهل إذا أقنع الطبيب في أمر ما، وأقنع الخطيب في ذلك الأمر بعينه، إذ له أن يقنع في كل أمر، كان إقناع الطبيب من نحو وإقناع الخطيب من نحو آخر؟ وهل الخطيب إذا تكلف ذلك الإقناع بعينه كان قد يتعاطى شيئاً من الطب؟ وبالجملة: هل يحتاج إلى فصل بين الخطيب وبين ما يجري مجرى الطبيب؟ فنقول أولا: إن الطب ليس له ملكة على الإقناع البتة، ولا على التعليم أيضاً، بل ملكة علمية على تدبير الأبدان لتصح. فإن كان الطبيب مقتدرا على هذا التدبير، ولم يكن له بالإقناع بصيرة البتة، وكان عالما بعلمه، ولم يكن له في سبيل التعليم هداية البتة، فهو طبيب وعالم. ثم إن اقتدر على التعليم، فذلك له من حيث هو معلم، ويكون تعليمه ليس إقناعا، لأنه إما أن يعلم أمورا واجبة كقولهم: كل مرض إما سوء مزاج أو فساد تركيب؛ فإن علمها تعليم مثلها، لم يكن مقنعا، بل محققا. وإن أقنع ولم يحقق ولا شارف التحقيق، كان حينئذ مستعملا لفعل الخطابة، لا معلما، وكان من تلك الجهة خطيبا في ذلك الشيء. وإما أن يعلم أمورا ممكنة أكثرية جدا، أو دون ذلك؛ فإن علمها من حيث هي ممكنة بأكثريتها، أو غير ذلك على ما سلف منا شيء من القول فيه في فنون سلفت، لم يخل إما أن يصحح إمكانها وقربها من الكون، فيكون معلما؛ أو يقنع في ذلك من غير إفادة اعتقاد يقين أو مقارب لليقين، كان خطيبا. وإما أن يصحح وجودها وأنها توجد لا محالة. فإن حاول الإقناع في الوجود، كان مستعملا فعل خطيب. وإن حاول إيقاع التصديق الجزم المقارب لليقين فيه، كان مغالطيا. فإذا الإقناع للطبيب بالعرض، ومن حيث هو فاعل فعل الخطيب، إلا أنه ليس بذلك خطيبا، لأنه ليس له ملكة على أن يقنع في كل شيء.
وإنما يصير الخطيب خطيبا بهذه الملكة، لا بأفعالها التي تصدر عنها في أشياء معينة. فنحن وإن سلمنا أن الطبيب قد يقنع، فليس يصير بذلك خطيبا ولا يصير مشاركا للخطيب في الصناعة، لأنه ليس الخطيب خطيبا لأجل أفعال تصدر عنه خطابية، بل للملكة صفتها الصفة المذكورة، أعني ملكة على الإقناع في كل شيء. والطب، وإن سامحنا في أمره، ولمنا أنه ملكة مثلا على الإقناع، فليست ملكة على الإقناع في كل شيء. على أن الطب ليس ملكة الإقناع.
ونقول: إنه كما أن الطبيب قد يقتدر على استعمال علاج في حيوان غير الإنسان، كذلك مجرى الموضوع والمحمول، وهذا خلاف ذلك، فإذا كان الحد الأصغر، أو الأوسط، أو الأكبر، ليس واحداً، لم تكن المقدمة واحدة محصلة فيها محمول واحد على موضوع واحد؛ وإذا لم تكن المقدمة محصلة لم يكن القياس محققا، بل كان القياس ليس على صورته وعلى حده. فبين أن جميع هذه ترتقي إلى مبدأ واحد: وهو أن يكون القياس والتبكيت ليس على حد القياس والتبكيت.
(2/187)
والسبب المقدم في ذلك، وفي كل ضلالة، سبب واحد وهو: العجز عن الفرق بين الشيء وغيره، والفرق بين النقيض وغير النقيض؛ فإن الجهل بأن غير النقيض نقيض، كالجهل بالفرق بين الشيء وهو هو. وهذا النمط من الجهل قد يوجد، أولا يخص أنواع الغلط الواقع من طريق اللفظ؛ فإن جميع هذه الوجوه اللفظية تشترك في أن ما يخص التبكيت من أنه على النقيض لا يؤخذ محققا فيه، بل يكون النقيض غير نقيض في الحقيقة، بل في الظن فقط، إما فيما ينتج مخالفا لوضع القائل، وإما في المقامات المأخوذة فيها شيء على أنه نقيض باطل، ويكون غير نقيضه.
وأما الذي باشتراك الاسم فسببه العجز عن ملاحظة المعنى، وعن قسمة المعاني، وخصوصا في الأشياء الخفية الاشتراك، مثل: الواحد والموجود، حتى يتميز ما هو عما ليس هو هو، والهو هو وما ليس بنقيض عن النقيض. والسبب الذي في التركيب والقسمة أيضاً مثل هذا، وهو العجز عن تفصيل الغير عن الهوهو إذا اختلط، فلا يعلم أن حكم المفصل غير حكم المجموع في التعجيم، حتى لا يراعى الخلاف بين الشيء وبين ما يشبهه في الكتابة مخالفة ما في مد أو قصر أو غير ذلك. وكذلك في شكل اللفظ، فإن الذهن في جميع ذلك يعرض له قصور عن ملاحظة المعنى بحسب اختلاف اللفظ، فتارة يظن أن المشارك في اللفظ مشارك في المعنى، وتارة يظن أن المفارق في اللفظ موافق في المعنى، كأن حكمه هو حكم الشيء على الشيء حكمه حكم الشيء، وأن اللفظ أو حال اللفظ الذي يشارك فيه النقيض غير النقيض هو في معنى النقيض، كأن النقيض في اللفظ وحاله هو النقيض في المعنى. ومن قدر على الميز بادر فلاحظ الشيء نفسه، وصارسماعه للفظ إشارة فيه على المعنى، حتى إنه إذا قال: " موجود وواحد " ، تميز له مثلا ما هو الأولى بذلك والأخص به كالجوهر الشخصي. على صدقه، لأن السمت فضيلة ما غير فضيلة العلم. وليس إذا حسن سمته ودل على فضيلته، دل ذلك على اصابة رأيه في الأمور الفائبة الخفية كالأمور المستقبلة، بل هذا أولى أن يكون نافعا في الأمور المشاجرية. فإذا حسن سمته، ظن به أنه لم يفعل الجور، أو فعل فعل الجور لا على نحو ما يفعل الجور.
وأما استدراج السامعين فيكون كما علمت بالأقاويل الخلقية والانفعالية. فالخطيب إذا يحوج إلى معرفة ما بالخلائق وبالفضائل وبالانفعالات، حتى يكون له أن يتصرف بها وفيها، تارة ليستعملها، وتارة لينقض استعمال خصمه لها بأن يصرح أنه يحتال لأمثالها عليه، وأما التصديق الذي يكاد أن يوقعه ليس لأحقاقه، بل لأحتياله. فلهذا السبب، ولما سلف لك عرفانه، ما تتناسب صناعة الخطابة والجدل والصناعة المدنية التي تبحث عن الأخلاق والسياسات.
أما صناعة الجدل، فمن حيث ذكرنا. وأما الصناعة الخلقية، فمن حيث المعرفة بالأخلاق والانفعالات. فيكون كأن الخطابة مركبة منها، وليست كذلك بالحقيقة، لأنه لا تتركب صناعة من أجزاء صناعة أخرى، كما علمت في تعليمنا صناعة البرهان، بل وليست المشاركة بينها وبين الأمرين إلا في الموضوعات، وأما التصرف في الموضوع فلا تشارك فيه تينكة الصناعتين. وأما الجدل فإنه، وإن لم يشاركها، فقد يشابهها، لأنه يروم تقريرا بالمخاطبة. وأما الصناعة المدنية فلا تشارك الخطابة في نحو الصرف ولا تشابهه. فإن لك الصناعة ليس مبني أمرها على أن تكون مخاطبة للتقرير، و، ولا نحو بيانها نحوا يقتصر فيه على الإقناع، بل يتعدى فيها ذلك إلى الاعتقاد الجزم. نعم، قد تشارك الخطابة تلك الصناعة في الموضوع، لأنها تشارك كل صناعة في موضوعاتها، وتشاركها في بعض المسائل.
قال المعلم الأول: إن المتكلمين في الخطابة قد أغفلوها وعوصوها وأبهموا وجه الإحاطة بها؛ فبعضهم لسوء التمييز وقلة الاستبصار، وبعضهم للكبر والتيه موهما أن كلامه أرفع طبقة من أن يفهم بسهولة، وبعضهم لأسباب أخرى إنسانية من الحسد وغيره.
فصل
الفصل السادس
في العمود
وهو التثبيت وفي أقسامه
(2/188)
فلنتكلم الآن في التثبيت، فنقول: يقال تثبيت وتفكير وضمير واعتبار وبرهان، وبينها فروق. فالتثبيت: هو قول يراد به إيقاع التصديق بالمطلوب نفسه، وهو يعم جميع ذلك. لكن الضمير هو ما كان منه قياسا، والاعتبار الخاص بالهندسة، فإنه مغالطة في الهندسة وخروج عن الهندسة؛ بل يجب أن يكون القياس البرهاني من جنس الأمر ومناسبا له؛ إنما القياس المقبول الغير المناسب هو للجدل، وكيف لا وله وللممتحنة أن تؤلف من الكاذب المتسلم، فكيف من غير المناسب؟ وغير المناسب وإن كان جدليا فهو مغالطة في البرهان؛ فإن المغالطة في العلوم البرهانية هي أن تورد مقدمات على أنها صادقة ومناسبة ولا تكون كذلك، وتسمى هذه المغالطة سوفسطائية. والمغالطة في الجدل هي أن تورد مقدمات على أنها مشهورة ومتسلمة ولا تكون كذلك، وتسمى هذه المغالطة ممارية ومشاغبية. وهذا المشاغبي أيضاً إذا أورد مقدماته، ليست هي التي تسلمت بل شبيهة بالتي تسلمت - وإن اتفق أن كانت صادقة وعقد منها قياس هو بالحقيقة قياس - فترويجها على المحاور على أنه واجب مما سلمه فيه، فهو مغالطة عليه؛ لأنه وإن كان حقا فهو حق في نفسه، لا بحسب التسلم من المخاطب. ويجب أن تفهم هذا الموضع على هذه الجملة؛ ولا تلتفت إلى ما يورده بعض متأخري الفلاسفة.
والسوفسطائيون هم الذين يأتون بالقياس، لا من الأمور المناسبة، ولا من المتسلمة من ذات الأمر، لست أعني الذاتية، بل الذي يتسلم من مقدمات وإن كانت حقة؛ فإنها إذن لم تكن بالحق من ذات ما ينازع فيه، لا أن تكون شيئاً غريبا مشبها به فيما تسلم منه. وأما الذي يأتي بما تسلمه من ذات الأمر فهو الجدلى، فإن الجدلى إنما ينتج أن الوضع كذب عن مقدماته بحسب تسليم المجيب إياها. والمحاورة الامتحانية كأنها جزئية من الجدلية أيضاً، وفي حكمها، كما علمت.
وبالجملة فإن تلك صنائع تتكلم في ذات الواجب؛ وكل الصنائع موضوعها الحق والعدل. ولولا ضعف المجيب لما كان يتم للسوفسطائية صناعة، التي هي صناعة لا تنتهي إلى غرض محصل واجب؛ فإنها وإن حاولت المناقضة وتكلفتها، فإنها غير محققة لا تنال ما تتكلفه. وأقل عيبها أنها لا تنال ذلك فلا تفيد؛ وكيف لا تكون كذلك وهي مع أنها لا تفيد، وليست بسبب للفائدة، فقد تعسر على المستفيد الاستفادة، وتشوش على العالم العلم، بما تورد من الشك. فهذه صناعة معدة نحو الظن والتخييل والمحاكاة، ومبتدئة منها. وبذلك يروج على السامع وعلى المجيب، وأشياء تولدها الأسباب المذكورة الثلاثة عشر، إما بإنفرادها بعضها، أو باجتماعها إن كانت هي أسباب الغلط. وأسباب الغلط هي أسباب القياس المغالطي الذي يقبله من يغفل عن الضلالة فيروج عليها لجزءي آخر على أنه مثله. وأما الاستقراء فنورد فيه الجزئيات على أن الكل هي بعينها، وإن لم يكن كذلك. فإن استوفيت لقسمتك الجزئيات، صار ذلك كما علمت قياسا، لا استقراء، أو كان ضربا آخر من الاستقراء. وبيان ما قدمنا من هذا المعنى على سبيل المثال أنك إذا حكمت أن كل إنسان يسرف يفتقر، فقلت: مثل فلان وفلان، فإن عنيت أنك تنقل حكم فلان إلى كل واحد من أشكاله من الناس أو إلى الانسان العام للمشاكلة فهو بعد تمثيل.
فأما إن لم تقتصر على حكم الممثالة، بل أوهمت أنك بتعديدك ما عددته، عددت الكل، كأنك اكتسبت عموم الحكم لكثرة المعدودات، كان كأنك قلت: كل انسان فهو فلان وفلان، حتى تكون كأنك عددت كل انسان، أو عددت ما هو مقام كل انسان وهو الكثير. فحينئذ لا تكون حكمت على كل واحد، أو على الكل، بحكم وجدته فيما يشاكله فقط، بل بحكم يعم الكل، أو ما هو كالكل فيه، وهذا هو الاستقراء.
فقد علمت إذا أن التمثيل كيف يفارق الاستقراء في ايجاب حكم كلي، وعلمت أن الاعتبار أنفع في الخطابة. ولذلك ما يقل اعتراض الشغب فيه، ويكثر في الضمير. ويشترك المثال والضمير في أن كل واحد يفيد إقناعا، أي يجعل شيئاً، لم يقنع به، مقنعا به. فإن كل مقنع: إما مقنع في نفسه كما يسمع، وإما مقنع في غيره ناقل إليه. لكنه ما لم يكن مقنعا في نفسه لم يقنع في غيره. والمقنع في نفسه هو المحمود.
(2/189)
والمحمود: إما بحسب إنسان إنسان، أو عدة بأعيانهم. وهذا القسم من المحمود، مع أنه غير مضبوط، لكونه غير محدود، فهو أيضاً غير مضبوط، لكونه مختلفا غير ثابت. فإن كل واحد يرى ما يهوى. وتختلف الآراء بحسب الأهواء. ومثل هذه المحمودات، وإن صلحت لأن تستعمل في كثير من القياسات من الخطابيات، فإنها لا تصلح لأن تجعل عمدة في الصناعة. فإنها لا تتناهى أحوالها.
وإما محمود بحسب الجمهور، أو طوائف منهم ليس من حيث لهم عدد حاضر. فإن الخطابة تشارك الجدل في استعمالها. فإن الخطابة قد تستعمل المحمودات التي ليست بحسب هوى واحد، بل بحسب هوى الجمهور. لكن الجدل يحتاج إلى المحمودات احتياجا على شرط المنطق، إلى أن يكون المؤلف منها قياسا بشرائطه. وشرائطه أن تكون المقدمات حقيقية الحمل، وتكون مع ذلك صحيحة التأليف، وعلى نظم قياس، إما بالفعل وإما بالقوة. وإذا كان قد وقع فيها إضمار، وكان على سبيل إيجاز، لو صرح به لم يتغير حكمه. وليس كذلك حكم الخطابة. فإن الخطابة يكفي فيها أن تكون المقدمات فيه محمودة في الظاهر، بأن يكون الناس يرونها من طريق ما بالعرض هذا سبيله؛ وكذلك الذي هو كالجزئي له وهو الغلط من طريق اللازم؛ وأيضاً الغلط من طريق الإطلاق والتقييد غلط في الأجزاء؛ وكذلك الغلط في المصادرة على المطلوب غلط في أجزاء القياس من طريق المعنى، إذ لا تكون ثلاثة بل اثنان فقط.
ولا تظن أن هذه القوانين إنما تتم لك إذا علمت كل موجود، ونظرت في كل خطأ وصواب، فإن ذلك لا يتناهى، بل إنما تتم لك إذا علمت الأصول والقوانين التي تنتزع من أمورها وتكون سائرها على قياسها. وأنت تعلم أن الجزئيات من التبكيتات البرهانية والجدلية غير متناهية؛ بعد أنها أولى أن تكون محصورة، لأنها حقيقية أو شبيهة قريبة من الحقيقة، فكيف الكاذبة التي لا تنحصر تحت حد؟ فكيف الكاذبة الغير المناسبة؟ فمعرفة أسباب التبكيت المغالطي المطلق هو إلى صناعة المنطق.
وأما الجزئيات من التبكيتات المغالطية في صناعة صناعة فحلها إلى صاحب تلك الصناعة. وأما التي في الأمور المشتركة فإلى الجدلي. وليس يمكننا أن نعطي أسباب الغلط في واحد واحد من العلمية، بل يجب أن نعطي أعم ما يكون، وكذلك يجب أن نعطي ما يكون على الجدلي حله، وهو الذي يرى جدليا وليس بجدلي، كما أن للجدلي في صوابه أصولا عامة، فكذلك بإزاء ذلك له في خطئه وغلطه أصول عامة، تلك الأصول هي أصول القياس المغالطي الشبيه بالقياس المقبول وليس بمقبول. وإذا أعطينا بحسب مقابلة الجدلي فقد أعطينا بحسب مقابلة البرهاني؛ وذلك لأن المآخذ الجدلية تشتمل - كما علمت - بوجه ما للمآخذ البرهانية. وأيضاً فإن نوع الغلط ووجوب التحرز في الأمرين واحد، إذ كان الذي يغلط في الحق فيرى غير الحق أنه حق، هو بعينه الذي يغلط في المشهور والمحمود فيرى غير المشهور أنه مشهور. وإذا علم الغلط في القياس العام كالجدلي، علم الغلط في التبكيت العام، وعلم التبكيت الذي في الظاهر ليس بالحقيقة؛ فإن القياس قياس بحسب نتيجته، وتبكيت بحسب مقابل نتيجته، سواء كان مقابل نتيجته بقياس آخر يقابله أو بغير قياس، فيكون إذن كل قياس، كان بالحقيقة أو بحسب الظاهر، أو كان جدليا بالحقيقة أو جدليا بالظاهر، فهو تبكيت.
وإذ قد علمنا الأصول من عقد المضللات، فقد عرفا مواضع الحل. والجدلي هو الذي يلزمه أن يعرف عدد الأسباب للتبكيت الحقيقي الجدلي، والمضمون تبكيتا، حين تظن جدلية أو امتحانية، معرفة بحسب المشهور العامي.
هكذا يجب أن تفهم هذا الموضع.
) تمت آخر المقالة الأولى والحمد لله رب العالمين ( لا يشكون في أنها محمودة، لكنهم إنما يشكون في أنها صادقة.
وأما المحمودات المظنونة فهي التي، إذا تعقبت، زال حمدهما، لا لأجل ظهور الكذب فقط، بل لأجل الشنعة، أو لأجل فقدان الحمد فقط من غير ضد. فيكون الخطاب وإن استعمل محمودات حقيقية، فإنما يستعملها من جهة أنها أيضاً محمودة في الظاهر. فإن كل محمود حقيقي محمود في الظاهر. وإنما يتصرف فيه على المعتاد في الظاهر من غير أن يجعل لها ترتيب القياس، فيزول الانتفاع بالضمير. ومع ذلك يؤنس منه ضرب في فن غير المعتاد.
(2/190)
فقد بان إذا أن الجدلي يتصرف في المحمودات على شروط المنطق، والخطابي يتصرف فيها على الرسوم المعتادة، بل يلزم الرسوم المعتادة في مادة قياسية، وفي صورته حتى إن كانت الصورة قياسية في الظن استعملها كالموجبتين في الشكل الثاني. وذلك لأنه متوخ بما يعمله الموقع عند القوم الذين لا يحتملون المخاطبات المرتبة قياسا بعد قياس إلى غرض مطلوب في مدة طويلة، ولا يضبطونه، ويمله الحكام منه، فيتوقعون لمح الغرض من كثب ولا ينفذ نظرهم إلى أمد بعيد، ويقنعون بما يلوح وإن لم يحقق، ويقل بحثهم عن أمور وجودها بالضرورة. وإن كان يعرض إما على سبيل وضع منهم للصناعة في غير موضعها إذا تعاطوا كلاما في شيء من أموره الطبيعية أو شيء من المعاني الإلهية، وإما على سبيل استعمال الواجبات فمثل قولهم: إن فلانا لا يجتمع فيه حب الشهوات والفضيلة العفية، وإن فلانا لا يراقب الله مادام معتقدا لاستحالة البعث وموجبا فناء النفس. بل أكثر نظرهم إنما في أمور ممكنة كالمشوريات التي يكون كونها ولا كونها في المستقبل بمنزلة واحدة. فكيف يصرح فيها بمقدمات كلية إلا تعريضا للشك؟ فإن المقتصر على قوله: إن فلانا يسعى بفلان، لأنه كان يشاور الأمير ساعة إيعازه بالقبض عليه، ربما أقنع. فإن صرح بالمقول على الكل، شعر في الوقت بكذب المقول على الكل، فشعر بوجوب الشك في الملتمس إثباته. وربما كان الازدياد في الشرح سببا لاثارة الشك ولنشاط السامع للتكذيب أو للتنفير بسبب استيحاش النفس عن التكرير.
وليس كل التفكيرات والضمائر عن ممكنات بالتساوي، بل قد تكون عن ضروريات، وعن أكثريات. والضمائر الموجودة في كل واحد من هاتين قد تكون من الصادقات، أي من المحمودات الحقيقية، وقد تكون من الدلائل. والمحمودات الحقيقية نسبتها الى المحمودات الظنية نسبة الصادقات الحقيقية من المحمودات، وبالعكس.
فمثال ما يكون من المحمودات في الضروريات قولنا: زيد عالم زكي النفس، والعالم الزكي النفس سعيد في الآخرة. وهذه المقدمة المحمودة قد تحذف وتستعمل قوتها، وإنما يصرح بها مهملة، لئلا يكون المقول على الكل، من حيث هو مقول على الكل، مصرحا به. أما تأليف مثل هذا - ويكون تأليفه على منهاج الشكل الأول.
ومثال ما هو من الدليل بالتسمية الخاصة قولنا: هذه المرأة ولدت، فهي مفضتة. فتجعل الولادة دليلا على أن يعرف الافتضاض، وهو دليل صدق لا يخلو عنه، فيلزم أن يكون معه أو أخص منه، ولذلك يكون على قوة الشكل الأول.
وأما العلامة: فهو حكم، إما أن يكون المحمول يلزمه، وهو لا يلزم الموضوع؛ أو يكون هو يلزم الموضوع، والمحمول لا يلزمه. فإنه لو لزمه المحمول ولزم هو الموضوع، كان دليلا، فانعقد الشكل الأول. فالعلامة الأولى منهما تبين بالشكل الثالث، كقولنا: الفقيه عفيف، لأن زيدا الفقيه عفيف. والصدق في هذا الكلام أن يقال: إن زيدا فقيه، وزيدا عفيف، فكل فقيه عفيف. فيكون زيد علامة لكون الفقيه عفيفا. لكن العفة لزمت زيدا، وزيد ليس يلزم الفقيه، حى يكون كل فقيه زيدا. والعلامة الثانية تكون من الشكل الثاني، مثل قولهم: هذه منتفخة البطن، فهي إذا حبلى. والصدق في هذا الكلام أن يقال: هذه منتفخة البطن، والحبلى منتفخة البطن، فيكون انتفاخ البطن علامة للحمل. لكن انتفاخ البطن قد وجد في هذه، وأما الحبل فليس موجودا لكل منتفخ البطن. ولنورد أمثلة هذه في الأكثريات.
أما القياس من الأكثريات فأن تكون الكبرى محمودة بالحقيقة، لكن ليس صادقة في الكل، بل في الأكثر من الأشخاص، أو الأكثر من الاعتبارات، مثل قولهم: زيد كاف الأذى، فهو محبوب. ويكون الدليل الأكثري مثل قولهم: زيد محموم، فهو إذا سريع النبض. وهذا يسمى دليل الأولى والأشبه عند قوم. وأما العلامة من الشكل الثاني فأن يقال: زيد سريع النبض مثلا، فهو محموم. وأما العلامة فيها من الشكل الثالث فمثل أن يقال مثلا: الشجعان لا يبخلون، لأن علي بن أبي طالب كان لا يبخل.
فهذه ثمنية وجوه من الضمائر عن الضروريات والأكثريات.
فصل
الفصل السابع في مثل ذلك
(2/191)
وأما الكائنة عن المتساويات فهي التي يكون فيها المعنى علامة للشيء ولنقيضه جميعا. أقول: لكنه يكون علامة لأحدهما بنفسه من غير واسطة، ويكون علامة للنقيض بواسطة، أو يكون علامة للأمرين بواسطتين، أيهما سبق الى الذهن ميل الذهن إليه، ولا بد من تلويح أكثرية فيه لا بحسب الأمر في نفسه فقط، بل وبحسب الظن وبادي الرأي. فإنه ما لم تكن هناك أكثرية مظنونة، لم يكن ميل نفس البتة. وأما إذا أخذ المتساوي، من حيث هو متساو في الظن، لم يوجب تصديقا. ومثال ذلك قول القائل: فلان قائم على رأس زيد القتيل الطري منتضيا سيفه فهو قاتله، وقول الآخر: فلان قائم على رأس زيد القتيل الطري منتضيا سيفه فليس هو بقاتله. فالأول يعتمد مقدمة أكثرية: وهو أن القائم على رأس القتيل بسيف مسلول هو القاتل. وهذا يصدق في الأكثر ويكذب في الأقل. ويكون قد أخذ هذه المقدمة من حيث اعتبار نفسها. وأما الآخر فلم يأخذ المقدمة المقابلة لها من حيث اعتبار نفسها فقط، ولكن إما أن يكون القائل التفت الى عكسها وهو أن القاتل لا يقوم على رأس القتيل الطري سالا سيفه، وأكد ذلك أن مثل هذا القاتل يكون خائفا، والخائف ينفصل عن مقام الزلة بعجلة متقيا حلول النقمة به. وهذا كله أكثري. وأما أن يكون قد زاد في العلامة شيئاً، فقال: فلان قائم على زيد القتيل الطري المحقون دمه، المتقي للعقوبة سافكه، فتكون علامته غير العلامة الأولى. ولو فرضت العلامة هذه، كان ضمير المحتج الأول لا يقنع أو يصحبه شيء آخر، وهو أنه قد فوجيء قائما هناك غير مهمل للانفلات، أو أنه مني بانسداد المخالص عليه، فحينئذ تكون العلامة أيضاً أخرى. فإن قنع قانع بأنه قبل من غير هذه الشروط، فتكون هذه العلامة من شأنها، إذا انفردت، أن توقع تصديقا ما؛ ومن شأنها، إذا أخطر بالبال معها قرينة شرط، أوقعت مقابل ذلك. وأما إذا كانت من كل الجهات، ونسبتها الى الأمرين نسبة متساوية، فيبعد عندي أن يقنع بلا قرينة البتة في الشيء وفي نقيضه. اللهم في شخصين: ويكون في كل شخص خاص حال تستشعر يزول معها خلوص التساوي. ولهذا لم يتعرض المعلم الأول في هذا الموضع للمكن المتساوي. فليكن هذا أيضاً قسما، ولكن على الشرط المذكور، وليكن اقناعه بأكثرية ما مضمونة. وليفارق ذلك الأكثري الأولى بشهرة تلك الأكثرية ووضوحها.
فأصناف الضمائر إذا تسعة.
فأما المثالات فقد عرفتها، وليس فيها كثير اختلاف. إنما الاختلاف الكثير في أصناف الضمائر. وإنما تعظم المؤونة تفصيلها، فإنها أيضاً يختلف مأخذها كما في الجدل، فيصعب لذلك تفصيلها من حيث هي للخطابة نفسه، ويصعب تمييزها من قياسات خاصة بعلوم وصنائع وملكات أخرى قد حصل كثير منها، ويشبه أن يكون قد بقى منها صنائع وعلوم ولم تدرك بعد. والخطابة تشارك الجميع في الموضوع؛ فيحتاج أن يفصل بين القياسات التي تكون على حذو الخطابة منها، كما يحتاج أن يفصل ما يكون على حذو الجدل منها، ويفرق بين حكمه وبين حكم الخاص بمباديء الصناعة الذي ليس مألوفا عند الجمهور، ولا من مواضع مشتركة.
(2/192)
والمواضع المشتركة المذكورة في الخطابة وفي الجدل أكثر انتشارا بالجملة من الكلام الخطابي والجدلي مفردين ومجتمعين. وكثير من هذه المواضع بأعيناها يستعمل في الخلقيات والطبيعيات والسياسيات على اعتبار غير جدلي. إذ كانت هذه المواضع، مثل مواضع الأقل والأكثر، لا تختص بموضوعات بأعيناها، بل تعم كل موضوع. فتستعمل في الجدل والخطابة، وتستعمل أيضاً في الأقاويل المستعملة في الأمور العدلية، أي الفضائل الخلقية، وفي الأمور الطبيعية، وفي الأمور السياسية وما يجري مجراها، فلا تختص بواحد منها فقط، ولا تنسب الى جنس واحد؛ ولكن يكون لها من حيث تستعمل في الجدل نحو من الاعتبار، ومن حيث تستعمل في الخطابة نحو آخر من الاعتبار، ومن حيث تستعمل في الصنائع الثلث المذكورات بعد الجدل - مخصصا بها التخصيص الللائق بها - نحو آخر واستعمالها في الخطابة والجدل إنما هو من حيث العموم، ومن حيث لا يتناهى الذهن فيها الى شيء بعينه محدود من الموضوعات يخصصه بها. ولو حققت وفصلت ورددت الى الواجب، كان ذلك اختلاف علم سوى الجدل والخطابة، كما علمت في شرح أمر البرهان. ثم يختلف نحو استعمالها في الجدل وفي الخطابة، فيحتاج أن يعرف لها كل هذه الفصول، وأن تستخرج الأنواع والمواضع معدة نحو الخطابة بعينها، دون صنائع أخرى.
والأنواع: هي التي يختص نفعها في أمر جزئي من موضوعات الخطابة.
والمواضع: هي التي يشترك في الانتفاع بها جميع المواضع بالشركة.
المقالة الثانية
تسعة فصول فصل
الفصل الأول
في الأغراض الأولية للخطيب
فيما يحاوله من إقناع والابتداء بمواضع المشوريات وأنواعها وأولها بالمشوريات في الأمور العظام إن المنازعة في كون شيء ولا كونه هي منازعة عامة لجميع الأنواع الخطابية. فإذا رجع إلى التفصيل والتخصيص، فأكثر أصناف المحاورات العامية في الأمور الجزئية يرجع إلى ما فيه خير أو شر. والجزئيات إما مستقبلة، وإما واقعة. ويبعد أن يقع للجمهور منازعة في جزئي مس - قبل واقع بالطبع والا - فاق. هل هو خير أو شر؟ فإن هذا النحو من النظر بأهل العلوم أولى. بل إن تنازعوا في هذا، تنازعوا وهم يشيرون بالتحرز عنه إن كان شرا، والتوقع له إن كان خيرا. وبالجملة: يلتفتون لفت أمر إرادي. وإذا كان كذلك، فالمنازعات التي يتفاوض فيها الخطباء، وتتعلق بأمور ممكنة في المستقبل إنما تقع ليشار بإرادتها واستصواب اختيارها، أو يشار باجتنابها على سبيل صد عنها، فتكون كلها مشاورية، إما آذنة، وإما مانعة حاجزة. وأما الأمور الواقعة من الخير أو الشر بالإنسان فلا يخلو إما أن يراد إثبات وجود هذا الخير أو هذا الشر له فقط. وهذه هي المفاوضة التي يمدح فيها أو يذم. وهذا فقد يكون في الحال، وقد يكون للماضي. ولكن الكلام في خير معدوم وشر معدوم مما يقل. وإنما يمدح ويذم في أكثر الأمر ما هو موجود خاص لنفسه أو حكمه، فيكون أولى الأزمنة لموضوعات هذه المفاوضة هو الزمان الحاضر. وإما أن يراد وجود هذا الخير من إنسان آخر بإرادته، أو وجود هذا الشر من إنسان آخر بإرادته. وهذا إما أن يكون الخطيب يفاوض إنسانا في أن خيرا وصل إليه منه، أو من إنسان آخر. وليس مع الاعتراف تشاجر وتنازع البتة. فقصارى ذلك محاورة في شكر ومشكور له. وإن كان هناك منازعة وتشاجر، فذلك على وجهين: لأنه إذا كان النزاع واقعا في أن خيرا وصل إليه من آخر، وأريد بذلك إثبات فضيلة الآخر، كان النزاع من باب المدح والذم. وإن لم يرد به ذلك، كانت المنازعة منازعة في أعم الوجوه وهو الإثبات والإبطال، ولم تكن منازعة خاصة. فإذا جعل يدل الخير شر، كانت المفاوضة جارية على سبيل شكاية واعتذار. فيكون الذي يدعى وصول الشر إما إلى نفسه أو إلى غيره شاكيا أو نائب شاك، والذي ينكر ذلك أو يجعله على وجه لا يكون شرا أو لا يكون قصدا فهو معتذر أو نائب معتذر. ولا شك أن الأمر الذي يشكي أو يعتذر عنه أمر ماض.
فإذا جميع المفاوضات الخطابية ثلثة: مشاورية، ومنافوية، ومشاجرية.
وكذلك السامعون ثلثة: خصم، وحاكم يحكم بإقناع أحدهما، وسامعون نظار. أما الحاكم في المستقبلات فيكون الرئيس المدير لأمر الجماعة؛ وأما في الواقعات فيكون كالمتوسط الموثوف بفحصه. وأما النظار فينظرون في قوة أحدهما وضعف الآخر، وليس إليهم غير ذلك الشيء.
(2/193)
والخطابة من جهة أخرى تتم بثلثة، بقائل، وقول، ومخاطب.
وربما اتفق أن مهدت مخاطبة من هذه بسبب مخاطبة أخرى، كمن يمدح شيئاً أو يذم شيئاً وغرضه أن ينتقل بعد ذلك إلى المشورة على سبيل التلطف في الحيلة. ولكل واحد من هذه المخاطبات غرض خاص. أما المشورة. فهي مخاطبة يراد بها الإقناع في أن كذا ينبغي أن يفعل لنفعه، أو أن لا يفعل لضره. وأما المنافرة: فمخاطبة يراد بها الإقناع في مدح شيء بفضيلة، أو ذمه بنقيصة. وأما المشاجرة: فمخاطبة يراد بها الإقناع في شكاية ظلم، أو اعتذار بأنه لا ظلم. وربما لم تقع منازعة في كون الأمر نفسه، ولكن في كونه نافعا أو غير نافع، وكونه ظلما أو غير ظلم، أو فضيلة أو نقيصة. والمشورة ليست تكون مشورة بسبب إقناعها في أمر هو نافع بالحقيقة. فإنه ربما لم يكن نافعا بالحقيقة، ولا عند المشير. لكنه إن أظهر أنه نافع، حاول الإقناع فيه، فتكون المخاطبة مع ذلك مشورية. وربما كان المشورة ليست بالنافع، بل بالجميل الذي نفعه من جهة أخرى، وربما كان في العاجل ضارا. وكذلك المدح والذم ليس ينظر فيه دائما إلى النافع والضار حتى يكون المدح للنافع، والذم للضار، بل ربما كان المدح مدحا بالضار. فإن اقتحام الضرر والأذى للذكر الجميل ممدوح، كالذين يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويخرجون ويسلبون. وكثيرا ما يحمد العاقل بإيثار الموت على الحيوة. ولما كان القياس الخطابي في جميع هذه الوجوه يقتصر منه على قضية تقدم وتكون إما مأخوذة من المحمودات، وإما دليلا، وإما علامة، فكل واحد من هذه مقدمة، وهي بعينها مكان القياس، ويرجع إليه على ما تحققت. والقياس المطلق من مقدمات على الإطلاق. والتفكير قياس يكون من هذه المقدمة على وجه خاص. فيجب أن يكون قد خزن عندنا مقدمات نافعة في هذه الأبواب. ولما كان الضروري كونه وعدمه لا إنسان يطلبه أو يهرب منه، فلا تتوجه المشورة إليه، بل المشورة متوجهة نحو الممكنات. فينبغي أن يكون عند الخطيب المشير مقدمات في إثبات أن الأمر ممكن أو غير ممكن، وفي أنه هل يكون أو لا يكون، وأيضاً في أنه هل كان أو لم يكن. فإن هذا ينتفع به المشير في التمثيل، وفي إثبات الإمكان أو نفيه. وينتفع به الشاكي، والمعتذر، والمادح، والذام. وأيضاً فإن التعظيم والتصغير ينتفع به المشير والمنافر والمشاجر بأن يقول: إن في هذا الأمر نفعا أو خيرا عظيما أو صغيرا لا يعبأ به، وإن هذه فضيلة أو رذيلة عظيمة أو صغيرة لا قدر لها، وإن هذا عدل أو جور عظيم أو صغير لا يلتفت إليه. وسواء اعتبر كل واحد منها بنفسه أو بمقايسة بعضها إلى بعض، فظاهر أن الخطيب لا يقع له استغناء عن إعداد مقدمات في التعظيم والتحقير، والأفضل والأخس تكون مواضع وأنواعا. فلنبدأ باعتبار الأنواع المشورية. ولما كانت المشورة مشورة بمحاولة أمر لأجل غرض هو خير، فبالحري أن يحصل المشير أقسام الخير الذي يشار به، وقبله أن يحقق معرفته من حيث هو عام. ومن المعلوم أن الخيرات والشرور الواقعة بالضرورة خارجة عن توجه المشورة إليها، إذ المشورة قول يراد به التحريك الإرادي نحو ما يكتسب بالإرادة من الخير أو ما يتحرز عنه بالإرادة من الشر. والضروري لا محالة كائن، أريد أو لم يرد. فالخير المشوري إمكاني، لا ضروري. ولا كل إمكاني. فإن من الإمكانات ما يصدر عن الطبيعة من غير إرادة، ومنها ما يصدر عن عرض يعرض، إما من خارج مثل انتفاع المحموم بنسيم الشمال إذا هبت، وإما من داخل مثل انتفاع الشاكي مغسا ريحيا بغضب يعرض له على سبيل الانفعال، وإن لم يكن مصدره عن الإرادة، فيسخن مزاجه، فيتحلل ريحه. وأمثال هذه الأشياء لا تكون المشورة فيها مقدمة تمهد للعمل عليها، بل تكون المشورة مقدمة للعمل الإرادي. فإن المشورة تختص بما كان من الممكنات إلينا أن نوجده أو نعدمه بالإرادة. فهذا هو الأمر العام لما تنحوه المشورة. ثم ههنا أنواع خاصية ينبغي أن نحصيها غير ملتفتين في إحصائها إلى الأنواع الحقيقية العقلية، بل نقتصر في ذلك على المقنعات المظنونة. إذ ليست الخطابة معدة للتحقيق، بل هي صناعة تتصرف فيها الصناعة القياسية بمواد من السياسة وأمثالها وعلى هيئة كالجدلية والسوفسطائية، فنقول:
(2/194)
إن الأمور التي هي أقسام المشورية الخطيرة جدا، دون الجزئيات التي لا تحصر، خمسة: العدة، والحرب والسلم، وحماية المدينة، ومراعاة أمر الدخل والخرج، وتفريع الشرائع ووضع المصالح.
فالخطيب المشير في أمر العدة ينبغي أن يكون خبيرا بارتفاعات الناحية: من رأى الأجناس هي، وكم هي، وبمبلغ النفقات إذا جرت على القسط ليوازي الدخل بالخرج. ويوعز بنفي البطال الذي لا يضرب يده في حرفة ينفع بها المدينة، والمتعطل أقعدته الزمانة والعلة عن الاحتراف، ويحجر على المسرف بفضل سعته عادلا به إلى الاعتدال. فليس كل ميسرة عن استكبار دخل، بل عمود الميسرة التأتي للتقدير في النفقة. فإن التقدير في الخرج مما يبسط في ذات اليد. فهذا مما ينبغي أن ينصرف إليه وكد من كان مشيرا في باب العدة. وينبغي أن يحيط علما بجزئيات الأخبار وبعوائد التجارب، فإنها تذاكير وأمثال.
وأما المشير في أمر الحرب والصلح فأول ما ينبغي أن يلحظه قوة الخطب الباعث على القتال وقدره وجدواه، فربما اتضع قدره عن تجشم خطر القتال بسببه، إما لأن كظم الغيظ فيه أخف وطأ من تكلف مؤونة الحرب بسببه، فرب كظم كفى عظيما، ورب نزق جلب ندما، وإما لأن له دواء غير مر القتال يشفي داءه، ويزيح علته. ثم بعد ذلك فينبغي أن يحيط بمقاتلة مدينته، والمقاتلة المحاصرين، عددهم، وعددهم، ودربتهم بالحرب، وبسالتهم علما، وأن يحيط بحال نجدة لعسكره يرتجى لحوقها واستمدادها في مثل ذلك، وفي نقاء دخلتهم وطهارة نيتهم أو ضدها خبرا، فرب نجدة عادت كلا ومدد صار وبالا. ويجب أن يكون هذا المشير ممن له بصر ببعض أنواع الحروب والتعابي، إن لم يكن بكلها، وسماع لأخبار المتقدمين من المقاتلة في مدينته وفي تخومها وما يليها ورسومهم ومذاهبهم، وأن يكون خبيرا بعواقبها المحمودة والمذمومة بحسب غرض من أغراض المقاتلين، فإنه سيستغزر من هذه الأحوال مقدمات ينتفع بها في المشورة. وكذلك ينبغي أن يستأنف النظر كل وقت في اعتبار عدة مقاتلة المخالف وشوكتهم هل هم مشابهون لمقاتلتهم في ذلك. ولا يقتصر على الامتحان السالف، فربما وفرهم إبقاء التنسل وانتقلوا عن قلة إلى كثرة، وعن ضعف إلى قوة. وأن يعتبر جزئيات سالفة، فإن الأمور في أشباهها، وتحتذى كثيرا حذو أشكالها.
وأما المشير في أمر حفظ المدينة فينبغي أن يعرف أنواع الحفظ لأنواع البلاد المختلفة سهليتها وجبليتها وبريتها وبحريتها، وبما يكتنفها ويحيط بها. وأن يعرف مواضع المسالح، وأنها كيف ينبغي أن تكون في قربها وبعدها، وكيف وجه الاستظهار في ترتيبها. فإن هذا أمر قد يوقف عليه وإن لم يعرف حال المدينة مشاهدة. وأن يعرف عدد الحفظة والذين أقعدوا مرصدا من المسالح، ويتحقق نياتهم لينجد قليلهم بالمدد، ويعزل خبيثهم بالناصح. وأن يكون له بصر بالمدراج المخوفة والمسالك التي يرتادها المغتالون ومن ينحرف عن الشوارع، فيكون له أن يشير فيها بالأرصاد. وأن يقف على الحاصل من القوت وما يحتاج إلى جلبه وإعداده من خارج المدينة، وما يحتاج إلى تجهيزه نحو ناحية أخرى لعوض أو لغرض آخر. فإن القوت وما يجري مجراه من آلات اللبس وأهب الفصول، إذا انحسمت مادتها، عجز عن حفظ المدينة. وتكون هذه الأشياء لكل بحسبه. والناس يختلفون في الحاجة إليها. فينبغي أن يكون المشير بصيرا بمقدار حاجيه كل إلى كل، وبأحوال أهل الفضائل وأهل الثروة منهم، فيشير بما ينبغي أن يستعان به فيه بأهل الفضائل والصنائع، وما ينبغي أن يستعان فيه بأهل الثروة، مما ينتظم به شمل المصلحة.
وأما الخامس وهو المشورة في أمر السنن فهو من أعظم الأبواب خطرا، وأمسها إلى فضل قوة الخطابة حاجة. فأول ما ينبغي للسان أن يتحققه حال عدد الأنواع والاشتراكات المدنية، وحال التركيبات الخلطية التي تتولد عنها، وأن يعلم مناسبة اشتراك اشتراك لأمة أمة بحسب عاداتها وخلائقها، وأن يعلم السبب الحافظ لكل واحد منها، والسبب الفاسخ له، وما الذي من جهتهت يتقي فسخها، إما من الشركاء أنفسهم، وإما من أضدادهم الخارجين. والفساد ينجم من المدينة نفسها، إذا لم تكن محكمة التدبير من أمرين: أحدهما عنف من المدبر لهم، وتشديد في أمر الواجبات عليهم؛ والثاني إهمال ومسامحة وفسح ومراخاة.
(2/195)
وأصناف السياسات التي تحفظ هذه الاشتراكات أربعة، تتشعب إلى ستة. منها: السياسة الوحدانية إذا لم يرض السائس فيها بالشريك؛ التي من جملتها السياسة التغلبية، وهو أن يكون المطاع المؤتمر المنتهي إلى رسمه المتدبر بتدبيره هو المستولي بالغلبة، إما بفضل ذات اليد، وإما بفضل قوة أخرى، ويكون مدبرها مقصور الهمة على الاستخضاع والتعبد. ومن جملتها: سياسة الكرامة وهي أن يكون الرئيس يراعي مصالح المرءوسين لا لشيء يستعيضه منهم إلا للكرامة والتعظيم. ومنها: الرياسة الفكرية وهي أن يكون المطاع هو الموسر، يرأس ويقدم ويتدبر بتدبيره لثروته من غير مغالبة تولاها قبل. ومنها: السياسة الإجماعية وهي أن يكون أهل المدينة شرعا سواء فيما لهم من الحقوق والكرامة، وعليهم من الأروش والجنايات، لا يروس أحد أحدا لخلة غير إجماعهم عليه، ومهما شاءوا استبدلوا به. ومنها: سياسة الأخيار وهي أن يكون أهل المدينة متشاركين على طلب السعادة العاجلية والآجلية، كل له مقام محمود بحسب فضيلته في نوع صناعته وجنسها، فهو دون من فوقه إن كان، وفوق من دونه إن كان، وكل له عمل يعود بصلاح المشاركة؛ وفيهم رئيس واحد أو رؤساء كنفس واحدة، يذعن له أو لهم الآخرون طوعا لا عن إجبار، ويروسهم الرئيس استحقاقا، لا لاتفاق. ثم تتشعب تحته رياسات بحسب الصناعات إلى آخر الناس، لا نزاع بينهم ولا خصام ولا اختلاف ولا انشعاب. فإن كان الرئيس فيها حكيما، وكان له مع الفضيلة المدنية فضيلة نظرية، كان بالحري أن تكمل هذه السياسة.
فأول هذه السياسات يسمى التغلبية، والثانية تسمى سياسة الكرامة؛ وإذا أخذت مع التغلبية سمى الأمر الذي يعمهما وحدانية الرياسة، لامتناع الرئيس فيها أن يشاركه في منزلته أحد. والثالثة تسمى سياسة القلة؛ إذا أخذت مع التغلبية سمى الأمر الذي يعمهما سياسة الخسة. والرابعة تسمى سياسة الحرية والديمقراطية. والخامسة سياسة الخير، والسادسة سياسة الملك؛ ويعمهما اسم سياسة السقراطية.
فينبغي أن يكون المشير بصيرا بهذه السياسات، وما يعرض لكل واحد منها من العوارض، وما يؤول إليه حال كل واحد منها من المآلات. فإن السياسة الكرامية لا تحتمل المشاركة، فهي بعرض أن تنتقل سريعا إلى سياسة التغلب. وسياسة القلة، مادامت سياسة قلة فقط، لا يضرها ازدحام الرؤساء. وسياسة الحرية قد تنتقل إلى سياسة القهر، وسياسة القلة، وغير ذلك. كل ذلك لفرط المسامحة في السنن أو فرط التشديد فيها. فإنها إذا كانت مهملة، لم يكن قانون. وإذا كانت مشددا فيها وقانونها التحرير، لم يجتمع التشديد والتحرير، فربما مالت إلى طاعة المدبر الذي له فضل بقوته أو فضل بيساره فتخضع له، وتخرج عن الحرية إلى جانب العبودية، ولا تبقى المراتب محفوظة.
وقد يعين على المشورة في أمر وضع السنن تأمل قصص من سلف.
وأم فساد السنن من جهة الأضداد فليس يحتاج إليه الخطيب من جهة ما يشير في وضع السنن، بل من جهة حفظ البلاد.
وقد قيل في ذلك وفرغ عنه. على أن استقصاء الأمر في هذا العلم للسياسة، لا لصناعة الخطابة.
فصل
الفصل الثاني
في المشوريات
التي في الأمور الجزئية غير العظام
قد وقف مما عددناه على المواضع التي منها تنتزع المقدمات المشورية في الأمور العظام. والآن فقد يحق علينا أن ننتقل إلى إعداد المواضع المشورية النافعة في الأمور التي بحسب الأشخاص، وهي في أنفسها غير معدودة، إلا أن جميعها يشترك في حكم أن المشورة تنحو نحو صلاح الحال، كان بالحقيقة، أو كان بالظن. فيجب أن نحد أو نرسم صلاح الحال، وأن نعدد الأمور التي هي أنواع لصلاح الحال أو أجزاء له، باجتماعها يصلح الحال، حتى يكون للمشير فيما يشيره مواضع يجعلها مقدمات مشورية.
قال المعلم الأول: ولا يقتصر على ما كان عند الخطباء في ذلك فيما سلف من ذكر وجوب التهويل والتكبير أو التهوين والتحقير والحث عليها واجتناب ما يفسد النظام ويزيل الإقناع، من غير أن عرفوا بماذا يكون التهويل والتكبير أو التهوين والتحقير، وفيماذا يكون، وما الذي يفسد غرض الخطيب، وينقص إقناعه.
(2/196)
فنقول: إن صلاح الحال هو الفعال الجميل عن فضيلة، وإملاء وإنساء للعمر، مشفوعا بمحبة القلوب وتوفر الكرامة من الناس في رفاهية وطيب عيش ووقاية وسعة ذات اليد في المال والعقد، وتمكن من استدامة هذه الأموال والاستمداد إليها. فإن صلاح الحال بحسب الظن العام هو ما ذكرناه، أو ما يجري مجراه.
وأما أجزاؤه: فزكاء المحتد، ووفور الإخوان والأولاد واليسار والأنعام، وبلوغ الشيبة الحسنة لوقارها وأحوالها، والصحة، والجمال، والجلد والجسامة، والبطش، ومع ذلك فالمجد، والجلالة، وسعادة البخت، وأنواع الفضائل مثل أصالة العقل، والبسالة، والعفاف، والبر. فبعض هذه بدنبة، وبعضها نفسانية، وبعضها خارجة كالحسب والإخوان والمال والكرامة.
ومن حيي هذه الحيوة، وحسن منقلبه بعد الممات، فهو السعيد عند الجمهور.
فأما أجزاء زكاء المحتد وشرف المنصب فأن يكون من قبيلة إما بنكاء في المدينة نفسها من أول بنائها أو قدماء فيها، أو علماء حكماء، أو رؤساء مشاهير ذوي كثرة، أحرار غير موالي، أو أن يكون من قبيلة أخرجت سعداء قد تيسرت لهم أمور جزيلة وجميلة فهم لها مغبوطون. وهذا المحتد يتفرع إلى طرفي الأعمام والخؤولة جميعا إذا كان فيهم ما عددناه موروثا عن أسلافهم وموجودا في المشايخ من الخلف وفي الأحداث منهم. وأما حال الأولاد، فالأمر الجامع من صلاح الحال أن تكون فيهم كثرة مع الجسامة والجمال والبطش والقوة، وأن يكون لهم مع ذلك من الفضائل النفسانية مثل العفاف والبسالة. ثم تخص كل إنسان في ولده شهوة، فمنهم من يسره جماله، ومنهم من تسره ذكورته، ومنهم من تسره أنوثته. وللإناث فضيلة تزاد فيهن خاصة وهي الجمال، والعبالة في البدن، والعفة، وحب الزوج، والنشاط للعمل وإن كد. قال المعلم الأول: وبعض الناس في بعض البلاد يقتصرون من جميع ذلك في باب النساء على الزينة، كما للقدميين.
وقال بعضهم: إن اقريطن، صاحب كتاب الزينة، منهم.
وأما أجزاء اليسار: فكثرة الصامت والضياع والأموال من الإناث والمواشي والعقد مع علاقة كل شيء ونفاسته واشتمال الوقاية عليه وتيسير الاستمتاع والتنعم به في وجوه اللذات المشهورة. وأيضاً الضياع التي تؤتي أكلها وتجني ربوعها، والمستغلات التي تعود بالربح من غير إنصاب موصولا إلى التصرف فيه من غير خوف وأن لا تبغضه الشركة، ولا سبب من أسباب الحجر، بل يكون إليه التصرف فيه تصرف الملاك احتباسا وإخراجا ببيع أو هبة. وبالجملة: فإن الاستغناء في الاستمتاع، لا في الادخار.
وأما النباهة فهي الشهرة بأصالة الرأي وجمال الفعل، وهي الفضيلة عند الجمهور ويؤثره الأكثر منهم، وخصوصاً أولو الكيس.
وأما الكرامة فإنما يقلاها في الأكثر من عم بحسن الفعال. وقد تختلف بحسب الأزمنة والأمم، فقد يكرم قوم لأفعال وأحوال في أزمنة وبلاد أخرى. والكرامة قد تكون بالعدل والاستحقاق، وذلك إذا كان المتعرض لها قد اعتنى بحسن الفعال. وقد تكون لا عن وجوب، كما يكرم المقتدر على ذلك وإن لم يعن به، كالأغنياء إذا أكرموا، والسلاطين إذا خدموا، لأنهم يقتدرون على إنعام بمال أو جاه أو تخليص عن مضرة أو توصيل إلى مربحة. وليس كل الناس يقتدرون على ذلك غير السلطان والغنى، وأيضاً النجد القوي.
وأما أجزاء الكرامة فأن يدعى الإنسان بالخير، أو يتصدق باسمه، أو يقرب عنه، إما في حيوته أو بعد موته، على ما يريده، وأن يندب إلى الولائم والدعوات العامة فلا يغفل تحشيمه، وأن يتقرب إليه بالهدايا والتحف. فإن الهدايا دلائل على كرامة المهدى إليه. وقد تسر الهدية طائفتين: إحداهما محبو القنية من حيث الهدية تحفة مالية، والأخرى محبو الكرامة من حيث الهدية دلالة كرامية.
وأما فضائل الجسد فالصحة الغريزية التي لا تشوبها مسقامية مع اقتدار على استعمال الأعضاء الآلية كلها. فإن كثيراً من الأصحاء كالمرضى، مثل الذين ركنوا بطباعهم إلى الكسل والخور، وأفرطت بهم العبالة وأقعدتهم عن الحركة أو عذرت عليهم الإسراع فيها، كما يعرف من حال الذين كسلوا لاعتياد الدعة فما بهم نهوض في الحركة، ولا استقلال بالمشقات وهل بين من تعطلت عليه أعضاؤه فلا تغنى غناءها وبين من لا أعضاء له فرق؟ وهؤلاء الضخام والمترفون في حكم من لا عضو له، غير لسان به ينطق، أسنان بها يمضغ.
(2/197)
وأما كثافة الجنس ووفور الخلة فهو أن يكون للإنسان جماعة عديدة يعملون بخيرات تخصه.
وأما سعادة الجد فمعلوم أنه من صلاح الحال. وكم من خير عم ونعمة تمت بالخت، لا عن اكتساب صناعي ولا عن فعل طبيعي! وإن كان في الخيرات ما تفيدها الصناعة، حتى إن الصحة كثيرا ما تفيدها الصناعة. وأما الجمال والجسامة الغريزية فعن الطبيعة لا محالة. وخيرات الجد هي التي يغبط عليها المغبطون، ويكثر عليها الحاسدون. والجد من العلل الكاذبة التي لا تعويل عليها لا في الخير ولا في الشر: إما في الأمور الطبيعية فأن يتفق للواحد أن يكون أقبح ممن حضره، فيحسنون في مقابلته بختا؛ أو يكون أحسن من آخرين، فيقبحون في مقابلته بختا؛ وإما في الأمور الإرادية مثل اختصاص الواحد بالعثور على كنز دون آخرين والطريق واحد، أو اختصاص الواحد بإصابة سهم غرب إياه دون آخرين والموقف واحد.
وأما الفضيلة فسنعد أجزاءها بحسب الظن في باب المدح.
فهذه هي التي يشار بما يشار على واحد واحد من الناس لأجلها.
وقد بقيت النوافع المشتركة وهي التي يشار بها، لا لها. والفرق بين النافع والخير: أن الخير يراد لأجله، وغيره له؛ والنافع يراد لأجل غيره، وربما كان شرا. والخير هو ما يتشوقه الكل أو أهل البصيرة والمعرفة منهم كل بحسب ظنه ومبلغه من العلم، حتى إن الذي يختاره الجاهل عن جهل لا يعده الجمهور خيرا ولا يظنونه، بل إنما يعتبرون ما يميل إليه أهل الرأي منهم. وإذا وصلوا إليه سكنوا عن الطلب. وإذا وجدوا بعض أهل الرأي والتصور قد اختار شيئاً، كان ذلك حجة مقنعة عندهم في أنه خير. وكان الخطيب ينتفع بالاحتجاج بذلك.
والمقصود المحتاج إليه الذي هو نفس الحاجة قد يشارك النافع الذي يفعل الحاجة ويوجدها أو الذي يحفظها ويديمها في أن المشير يشير نحوه. فإن المشير يشير نحو الخير، ونحو النافع؛ لكن يشير إلى أحدهما لنفسه، وإلى الآخر لأجل غيره.
وربما أشار بلازم النافع، كمن يقول: اتعب تصح. وليس التعب هو علة الصحة، بل الحركة الرياضية هي علة الصحة، فيلزمها التعب. وكذلك يشير باجتناب علل الشر ولوازمها.
واللوازم كلها: إما لاحقة من بعد، كالعلم فإنه يلزم التعلم، إلا أنه يتأخر عنه، وإما مساوقة لوجود الشيء مثل استحقاق المديح بحسن السيرة في الحيوة.
وأما العلل الفاعلة، فمن ذلك ما يكون اسمه من حيث فعله، مثل المصحح والصحة، ومن ذلك ما لا يكون كذلك. وكل ذلك على قسمين: قسم تكون طبيعة المسمى إنما هي علة موجبة لما توجبه لكيفيتها، كالغذاء للصحة، ومنه ما لا تكون طبيعته علة موجبة لها لكيفيتها، بل لكميتها مثل الارتياض للصحة. فإن الارتياض ليس علة للصحة من حيث هو ارتياض بالفعل، بل من حيث أنه بمقدار منه يجب استعماله. والغذاء، وإن كان له مقدار لا يجوز تجاوزه، فإنه ليس كالارتياض، لأن ما فضل من الغذاء على الواجب وانهضم فلا يكون علة للمرض لذاته؛ فإن ذاته حين انهضم علة للصحة بذاته؛ وإن لم ينهضم، لم يكن غذاء بالفعل. وأما المعتدل منه، بل القليل منه، إذا انهضم وقبله عضو ما فهو علة لصحة ذلك العضو بالقدر الذي قبل. وأما الرياضة فقليلها وكثيرها رياضة وحركة؛ لكن قليلها لا يوجب صحة شيء البتة، وكثيرها ربما أوجب الضرر.
والنوافع: منها ما يعد خيرات؛ ومنها ما يكون شرورا، منفعتها التخليص من الشرور. وإذا خلص شيء من الشر كيف كان، كان مقبولا عند الجمهور أنه هو الذي يفعل الخير الذي يتمكن منه عند الخلاص من الشر. ومن النوافع ما ينفع لا في إفادة خير ليس غير، بل في الزيادة إليه، أو ينفع لا في التخليص من الشر أصلا، بل لتهوينه والكسر من حمياه. فيكون هذا النقصان من جملة ما يعد فائدة. إذ كان الأنقص شرا نظن به أفضل، والأفضل أزيد على ما هو دونه، فيكون الشر الأكبر (الذي هو في نفسه أخص) أنقص في الحقيقة. لكن الفائدة التي هي من باب الخير هي بالحقيقة فائدة.
وأما الفائدة التي من باب الشر التي هي الانتقاص من الآفة إنما هي من جملة الخيرات النافعة، لا الخيرات الحقيقية. والخيرات الحقيقية التي هي الفضائل فهي أيضاً نوافع في خيرات عامية.
(2/198)
واللذة من الخيرات العامية، لأنها مما تشتاق إليه الطبيعة الحيوانية. بل كل مشتاق إليه إما جميل، وإما لذيذ - جميلا أو نافعا. وكذلك التمكن اللطيف، مثل الذكاء وحسن القبول. وكذلك الحفظ والتعلم والخفة في العلوم والصنائع. وقد تختار هذه لذواتها لا لغيرها. فهذه خيرات نافعة معترف بها عند الجمهور، وأضدادها شرور.
وقد يمكن من جهة المغالطة أن تقلب القضية، فتجعل هذه الأحوال النافعة ضارة وشرورا، وأضدادها خيرات ونوافع. فإن الشجاعة ضارة إذا كانت للعدو، وكذلك العقل إذا كان له. فإذا أخذت ضارة مطلقة ولم تضف إلى الوجه الذي ينبغي أن تضلف إليه، كانت مغالطة. وربما كان من القبيح أو المتعلق به سارا بذلك الشرك: مثل سرور رجل من الملوك المحاصرين ناحية، لما قتل عدوه ولده في بعض المغازي، فلم يزل يتضرع إليه حتى سلمه منه قتيلا، فاعتد بذلك، إذ تمكن من تدبير جثته بإحراقها على رسمهم وإحراز رمادها في الكوز لينقل إلى موضعه، اعتدادا كان يصرح به عارضا كوزه على ذويه وشيعته، ناشرا ليد عدوه في رده ولده القتيل إليه. وليس رد الولد قتيلا مما يسر به، لكنه قد صار سارا بارا لما قارنه من الحال. إذ كان حجرهم بين القتيل وبين أوليائه ممكنا لهم. ولو فعلوه لكانوا قد زادوهم غما. وكان حكم الإحنة، وحكم غزو هؤلاء إياهم يقتضي الإمعان في غيظهم. فلما لم يفعلوا، مع إمكان ومع استحقاق، كان ذلك خيرا عظيما من جهة، ومن عظيمة من الجنس الذي لا يمكن كتمانه إذا كان ظاهرا، ويلزم الشكر عليه، وإلا كان كفرانا.
فإن قال قائل: إن رد الولد قتيلا سار مطلقا، بلا اعتبار مثل هذه الحال المقارنة، كان ذلك مغالطة. وليس هو من المغالطة التي تقنع فيكون خطابيا، بل هو من الجنس الذي هو مغالطة، ولو في الخطابة، لأن مقدماته محرفة عن وجه الصدق، وعن وجه الحمد، وعن الظن جميعا.
ثم من الخيرات النافعة الإحسان أو المكافأة، فإنه في نفسه خير ونافع في خير آخر هو النباهة والذكر الجميل والمحبة. وأفضل الإحسان الإحسان إلى الأفاضل بنصرتهم على أعدائهم الأراذل، إما نصرة فعلية، وإما نصرة قولية، مثل ما فعل أوميروس الشاعر. إذ اختار فاضلين هما ثاوذروس ملك اثينيه وهيلاني ابنته واختار أخيلوس الشجاع ونصبهم هدفا للمدح والثناء، ونصب بإزائهم عدوهم اسكندر بن ملك بربر الذي كان عدوا لهم فنكلهم بالذم والهجاء، ففعل بالأصدقاء والأعداء ما ينبغي أن يفعل من الإحسان إلى الأصدقاء والإساءة إلى الأعداء على المقدار الذي كان ممكنا له فعله.
(2/199)
فإن كان المتوقع من الإسداء هو الممكن المتوقع، فإذا لم يكن إلا القليل ثم أتى به فلا تقصير. وإن أمكن أكثر، فاقتصر على كثير دونه، عد تقصيرا. وكذلك ما يحتمل من تقصير أو جفاء يقع من الصديق لداعي خوف، إنما يحتمل ولا يحزن عليه، إذا قل وقصر زمانه. فأما إذا طال وجاوز وقت الضرورة فهو مكروه، ولا يقوم عليه العذر. لأن المتوقع من الإحسان بلوغ الإمكان، والمعذور من الإساءة ما يصدر عن ضرورة وعوز إمكان. فما قصر عن الممكن في الإحسان فهو تقصير، وما جاوز الضرورة من الإساءة فهو قصد. وإذا دام الإذعان للمحن واشتد الضعف والخوف حتى تجاوز بالجفاء وقت الضرورة أورث الاستيحاش لا محالة. وقد فهم بعضهم من الضعف الضعف وهو التضاعف، فكان معناه أن الشيء إذا تضاعف أمل، وإن كان قبله سهلا. والمثال لما نحن فيه ما تورثه طاعة الإنسان لهواه في الإحسان. فإن هواه أن لا يتضرر البتة بإحسان إلى غيره بشر يصيبه في مال أو حال. ثم إن دعاه داع من استحقاق المحسن إليه الإحسان جزاء عما قدمه من الإنعام إلى التضرر بنقص يقع له في مال أو حال، فهواه حينئذ موقوف على الغير، وهو أن يكافئه بما يقصر عن مستحقه ما قدر. فيغالطه عن كثير ما أسداه بالقليل، وعن عام المنفعه بخاص المنفعة، وعما كان محتاجا إليه عند القبول بما هو فضل لا يحتاج إليه مبتدئه بالإحسان. وبالجملة: يجهد أن لا يكون مكافئا بالمثل. والمكافيء بالمثل فهو الذي يكافيء بما هو مقارب في الجنس أو مقارب في القدر والمنفعة. وأما الموجبة للنباهة والحمد والثناء من المكافأة فأن لا يكون المبتدئ والمكافئ مؤثرا لإحسان يسير أو مكافأة قليلة، وقد تيسر عليه الجزيل. على أن المتيسر من المكافأة قد يكون تارة ما هو مثل الإحسان المبتدأ من جنسه بكماله وكليته، وقد يكون ما هو أكثر منه، وقد يكون شيئاً خارجا من جنسه وشبيها به بالقوة، وقد يكون ناقصا. ومن وفى الممكن فقد أعذر، ومن قعد عنه فقد أعذل. وقد يكون من المكافأة أمور ليست أعواضا تملك، بل مثل سر صديق وإيحاش عدو، وأفعال يلتذ بمشاهدتها ويتعجب منها من الفكاهات وغيرها بحسب ما يقع له عند مشاهدة المتقرب إليه إياه من الموقع لاستعداد يختص به المتصرف إليه في فطرته. فكل يلتذ بشيء ويتعجب من شيء يخصه. وإما بحسب ما اعتاده وتدرب فيه، فإن الدربة قد تلذذ شيئاً وتعجب منه، لولاها لم يلتذ به ولا تعجب منه. ومن هذا الباب أيضاً الهداية والنصيحة فإنه إحسان ومكافأة ما. ولموافاة الصنيعة أو الجزاء وقت الحاجة إليه والرغبة فيه موقع لذيذ، بل عظيم كريم. ولكل واحد من الناس خاص إيثار؛ فلقوم ما يعينهم في الغلبة، ولقوم ما يعينهم في الكرامة، ولقوم ما يعينهم في اليسار، وهلم جرا.
والتصديقات الخطابية في باب الخير والشر إنما تكتسب من هذه المواضع المذكورة.
فصل
الفصل الثالث
في الأشد والأضعف
وختم القول في المشوريات
وقد يحتاج الخطيب المشير إلى مقدمات يعدها في إثبات أن هذا الخير أفضل، وهذا النافع أنفع، بل قد يحتاج إليه غيره أيضاً. فينبغي أن يعد الأنواع النافعة في ذلك.
(2/200)
فأفضل الخيرين أعمهما، أو أدومهما، أو أكثرهما جهات نفع وخيرية وأولادهما بأن يكون مقصودا لنفسه. وإذا كان الواحد من باب خير ما أفضل من عدة من خير آخر - إلا أن يكثر جدا - فهو أفضل. والخير الذي عظيمه أفضل من عظيم خير آخر فهو أفضل، مثل أن العظيم من الحكمة هو معرفة الله، والعظيم من العبادة هو المثابرة على الصلوات، ومعرفة الله أفضل من المثابرة على الصلوات. فالحكمة أفضل من العبادة. وما كان أيضاً نفسه أفضل، فعظيمه أفضل؛ فإنه إذا كان القرآن أفضل وأفصح من خطبة النبي، ففصيح القرآن أفضل وأفصح من فصيح خطبة النبي. وإذا كان أحد الخيرين يستتبع الآخر، إما معا كالسلطان والكرامة، وإما بأحرة كالسلطان واليسار، وإما في القوة مثل السلب فإنه نفسه فقد، وليس كل فقد صلبا، وكان الآخر لا يستتبعه دائما، فالمستتبع أفضل. وربما أقنع أن الشيء الذي ليس بفاضل في نفسه، إذا كان يفعل خيرا أعظم في نفسه من شيء آخر هو نفسه فاضل، فإنه ينبغي أن يكون هو آثر من الفاضل، وإن لم يكن أفضل، مثل الجلد والجمال. فإن الجلد، وإن لم يكن بنفسه خيرا كالجمال، فقد يدرك بالجلد ما هو أفضل من الجمال. وكذلك التصحح، وإن لم يكن أفضل من اللذة، فقد يدرك به ما هو أفضل من اللذة، فيكون هو آثر. فيكون بعض ما هو نافع آثر من بعض ما هو خير. والذي يؤثر لنفسه، وإن لم يصحبه الآخر، آثر من الآخر، إذا كان لا يؤثر وإن لم يصحبه الأول، مثل الصحة والجمال. فإن الصحة بلا جمال مؤثرة، ولكن الجمال بلا صحة غير مؤثر؛ فالصحة آثر وأفضل. والذي هو تام الوجود مستقره ومراد لنفسه كالصحة آثر من الذي يفقد أحدهما أو كلاهما، إما كاللذة فإنها في طريق التكون وتطلب لذاتها، وإما كالرياضة فإنها في طريق التكون ومع ذلك فإنها تطلب لغيرها. والذي وجوده يغني عن الآخر أفضل من الذي وجوده يفتقر الى الآخر، مثل اليسار والتجارة. فإن اليسار يغني عن التجارة، والتجارة تفتقر الى اليسار؛ فاليسار آثر. وقد يوهم كون الشيء مبدأ لأمر أنه أعظم منه، وربما لم يكن في الحقيقة. فإن الخير أفضل من اخياره، وهو بدؤه. على أنه ليس يمكن أن يكون خير أو نافع مشوري لا بدء له. وكيف وكلها إرادى! فإذا كان كذلك، أمكننا أن نجد أنواعا من اعتبار المبادئ: فما مبدؤه أعظم، فهو أعظم. والمبدأ الذي لأعظم المعلولين أعظم. وقد يمكن أن ينصر في بعض الأوقا أن المبدأ نفسه أعظم. فإن رجلا واحداً من الخطباء يقال له لاوداماوس ذم رجلين: أحدهما يقال له قلسطراطس، والآخر كفريوس. وكان قلسطراطس - كما أقدر أنا - أشار على كفريوس بارتكاب جور فأتمر. فذم قلسطراطس وقال: إن خطيئته أعظم من خطيئة الآخر، فإنه لولا إشارته عليه بالجور، لما ارتكبه. ثم ذم الآخر، فقال: إن خطيئته أعظم من خطيئة الأول، فلولا ائتماره، لما ضرت مشورته.
وأيضاً فإن الأعز أفضل كالذهب. وأيضاً بل الأعم نفعا، كالحديد، فإن في صلابته وشدته منافع عامة جدا ليس في الذهب. بل الأكثر وجودا أعم نفعا، كالحديد، فقد ينتفع به كل إنسان، والذهب يقل الانتفاع به. وكذلك الماء، وإن كان دهن البلسان أعز وجودا منه، فهو أفضل لعموم نفعه.
(2/201)
وأيضاً فالذي هو أصعب إدراكا وذلك لعظمة في نفسه. بل الذي هو أسهل وصولا إليه، وذلك لموافقته لمحبتنا للدعة. وأيضاً فإن الذي ضده أعظم ضررا فهو أعظم نفعا؛ والذي فقدانه أعظم ضررا، فهو أعظم نفعا. وأقلب الأعظم في باب النفع الى الأعظم في باب الضرر. وغايات أفعال هي أعظم، فمن الخيرية أو الشرية أعظم. وبالعكس. وماهو خاص بالأعظم أعظم، فإن صحة البصر أعظم من صحة الشم، إذ البصر أعظم من الشم. وكذلك محبة الإنسان أفضل من محبة المال، لأن الإنسان أفضل من المال. ثم الفضائل أنفسها، وهي من المبادئ، أفضل من الأفعال الفاضلة. وما اشتهاره أفضل فهو أفضل. وبالعكس. وأفضل العلمين فهو الأفضل أثرا، مثل الطب، فإنه أفضل من علم الزينة؛ ومثل علم الهندسة فإنها أفضل من علم الأخلاق. فإن الصدق في الهندسة آكد وهو فيه الغرض، وفي علم الأخلاق أضعف، لأن بناءه على المحمودات، وليس الغرض فيه نفس الصدق فقط، بل والعمل. وبالعكس. فإن أفضل العلمين في وزنه، أي في وزن براهينه، وفي مرتبته، أي في تقدمه بالغائية، لأنه هو الذي علم آخر لأجله، فغايته أفضل. فلذلك علم التوحيد أفضل من علم الهيئة، لأن القياسات التوحيدية مجردة عن المادة، صحيحة جدا؛ والهيئة تتعلق بالحس والرصد. وأيضاً فإن الهيئة يقصد علمها ليتوصل به الى كثير من علم التوحيد. والذي ما يشهد به العقلاء الصالحون الذين لا تستغويهم الأهواء والشهوات فهو أفضل مطلقا؛ وقد يقتدرون لسلامة أنفسهم عن العصبيات والأهواء على الإحاطة بكثير من الأمور الفاضلة بماهيته وكميته، وإن كان ذلك دون ما تفيده الصنائع العلمية المرتبة ترتيبها الطبيعي. وما هو أكثر إلذاذا فهو أفضل. فاللذة مشتاقة عند الجمهور لذاتها، وخصوصا ما كان أبرأ عن شوب الغم، وأدوم مدة، وأرسخ ثباتا. وكذلك ما كان أجمل فهو أفضل من الأقبح. فإن الجميل مختار لذاته. ومن التصاريف أيضاً أن الشجاعية أفضل وآثر من العفية، لأن الشجاعة أفضل وآثر من العفة. وما يختاره الكل آثر. وما يختاره السلاطين والعظماء أو العلماء آثر. وما يختاره الذين يؤخذ عنهم الرأي في عظائم الأمور، وإن قلوا، فإنهم هم المكرمون أيضاً؛ فإن من جنس الهوان أن لا يقبل قول الإنسان. والذين هم أعظم كرامة. والذين هم أشد تمكنا من الضر والنفع. والمجبرون على تعظيمهم. وهذه الأنواع تفارق ما سلف. فإن ذلك بحسب الشهادة، وهذه بحسب الإيثار. وأيضاً فإن المعنى العظيم من هذا إذا جزئ إلى أقسامه، فعدت أقسام ذلك المعنى، فكثر الكلي الواحد أو الكل الواحد، صار أعظم. مثل ما قال أوميروس: إن هذه المدينة، إذا فتحت عنوة، ستلقى من مالاغروس كل شر، وكذلك الناس كلهم، فإنه يهلك الناس، ويشب الحريق في المدينة حتى يحرقها بأسرها، ويعترف كل بولده، أي ينوح كل باسم ولده: يا ولدي فلان! فهذا التفصيل مما قد جعل الشر أعظم مما لو ذكرت الجملة غير مفصلة. وقد يفعل أيضاً التركيب والإجمال، فإنه إذا اقتضت جزئيات خير أو شر، ثم اتبع ذلك بالدعوى الكلية، زاده ذلك تأكيدا. وأيضاً فإن صدور الشيء عن أصعب مصادره وأقلها صدورا عنه يجعله أعظم، إما بحسب الزمان إذا كان صدوره في مثل زمانه أقل، أو السن إذا كان صدوره عن صاحب ذلك السن مثلا صعبا وقليلا. وكذلك المواضع ومقدار المدد والقوى فإنها تجعل الشيء الغريب الصدور عظيما. فإن الزنا من الشيخ مستفظع فوق استفظاعه من الحدث. وأورد لهذا الباب أمثلة في التعليم الأول لم أفهمها. والجزء الرئيس من الشيء الأشرف هو أفضل، كمن قال: إن نفى الشباب عن المدينة مثل إسقاط الربيع عن السنة. وأيضاً فإن الذي يكون في الحين الأنفع أفضل، مثل المال فإنه في الكبر أفضل منه في الشباب، وفي المرض أفضل منه في الصحة. والأقرب إلى الغاية أفضل، لأنه كالغاية. وكذلك ما كان من اللوازم خاصا بالغاية أفضل من لوازم تخص ما هو دون الغاية. فإن الصحة تلزم اعتدال المزاج، والضعف يلزم ما دون اعتدال المزاج، فالصحة أفضل من الضعف. وقد فهم من الضعف الضعف بمعنى اليسار وتضاعف المال، وفهم من الخاص ليس الخاص بالغاية، بل الخاص بالكاسب. وعندي أنه وقع في النسخ غلط، ويجب مكان الضعف عدم الضعف أو ما به وهو القوة؛ ولكن يجب أن يرجع إلى اليونانية. والخيرات المتيسرة في آخر العمر آثر من المتيسرة في الحداثة، لأنها كأنها تخص الغاية. وما
(2/202)
يقصد لأجل ذاته، وليكون موجودا بالحقيقة، آثر من الذي يقصد لأجل الحمد الذي، إذا كان ذلك لا يوقف عليه ولا يظهر للغير، لو يؤثر البتة. ولهذا ما تكون استفادة الخيرات آثر من إفادتها، إذا لم تظهر للغير؛ لأنها إذا لم تظهر للغير، فغلط الغير في مصدرها لم تؤثر. وقريب من هذا ما قيل في الصحة والجمال. وما هو أنفع في أمور كثيرة فهو أنفع. فإن ما ينفع في الحيوة وفي حسن الحيوة آثر من الذي ينفع في أحدهما. ولهذا ما تعظم الصحة واليسار لكثرة تفننهما في النفع، لأنهما يبرئان من الحزن، ويمكنان من اللذة علما أو جهلا. وكان اليسار هو من الخير المطلق عند بعض الناس، وعند بعضهم إنما يكون خيرا إذا اقترنت به أحوال أخرى. وكذلك الضرر قد يختلف، فمن الضرر ما هو أعم؛ ولذلك فقؤ عين الأعور أضر من فقء عين الصحيح. ويجب أن يستكثر من ضرب الأمثال وإيراد التذاكير واقتصاص أحوال ناس هم في مثل ذلك الحكم.د لأجل ذاته، وليكون موجودا بالحقيقة، آثر من الذي يقصد لأجل الحمد الذي، إذا كان ذلك لا يوقف عليه ولا يظهر للغير، لو يؤثر البتة. ولهذا ما تكون استفادة الخيرات آثر من إفادتها، إذا لم تظهر للغير؛ لأنها إذا لم تظهر للغير، فغلط الغير في مصدرها لم تؤثر. وقريب من هذا ما قيل في الصحة والجمال. وما هو أنفع في أمور كثيرة فهو أنفع. فإن ما ينفع في الحيوة وفي حسن الحيوة آثر من الذي ينفع في أحدهما. ولهذا ما تعظم الصحة واليسار لكثرة تفننهما في النفع، لأنهما يبرئان من الحزن، ويمكنان من اللذة علما أو جهلا. وكان اليسار هو من الخير المطلق عند بعض الناس، وعند بعضهم إنما يكون خيرا إذا اقترنت به أحوال أخرى. وكذلك الضرر قد يختلف، فمن الضرر ما هو أعم؛ ولذلك فقؤ عين الأعور أضر من فقء عين الصحيح. ويجب أن يستكثر من ضرب الأمثال وإيراد التذاكير واقتصاص أحوال ناس هم في مثل ذلك الحكم.
فقد أعطينا الأنواع النافعة في إثبات أن الشيء صلاح حال، أو نافع، أو خير، والأنواع في الأفضل، والأنفع، والآثر.
والمدينيات الست، فقد علمتها، وعلمت الغايات فيها، وأن كل واحد منها ينبغي أن يشار فيه بما يحفظه، وأن الإجماعية منها، فقد يرأس فيها الإنسان الذي هو في مثل حكم غيره، وإنما يرأس إجماعا لداع دعا إلى ذلك من قرعة، أو بخت. وخساسة الرياسة هي التي يكون الاستيلاء فيها ببذل إتاوة يطلقه الرئيس للمرءوسين فيتقبلونه. وأما الرياسة الشريفة فهي التي يسوس فيها السائس لأنه مستحق للسياسة لاقتداره على وضع السنن أو حفظها. وأن وحدانية الرياسة هي التي قصارى غرض الرئيس فيها العز، والكرامة، والانفراد، والاستعباد لمن هو غيره؛ وأن هذه قد تكون بسيطة، محدودة، وقد تكون متركبة، متبدلة بحسب ما يمكن به حفظ الكرامة.
وغاية الإجماعية الحرية؛ وغاية خساسة الرياسة اليسار؛ وغاية جودة التسلط حفظ السنة؛ وغاية الكرامة حفظ الكرامة والعز والاحتراس من المنازع. ولكل غاية ضرب من الأخلاق يجانسه فيحفظه ويدعو إليه مما يسهل الوقوف عليه.
وينبغي أن يكون المشير يشير بتلك الأخلاق، ويكون متخلقا بها. فإن المشير إذا أشار بخلق لا يتخلق به نبا عنه القبول.
فليكن هذا كافيا في المشوريات .
فصل
الفصل الرابع
في المنافريات
وهو باب المدح والذم
فلننتقل إلى تعديد الأنواع النافعة في المدح والذم، المتعلقة بالفضيلة والرذيلة وما يجري مجراها. وهي مع أنها تنفع في المدح والذم، فقد تنفع في إعداد الخطيب للتصديق بقوله، وإن كان في غير باب المنافرة، وذلك أنه إذا أثبت فضيلة نفسه جعل نفسه أهلا للثقة بقوله؛ وكذلك إذا ذم خصمه، عرضه لرد الناس قوله.
(2/203)
والممادح المنسوبة إلى أنها فضيلة وأشياء تتبع الفضيلة من الجمال والحسن وغير ذلك من الممادح التي قد يتعدى بمدحها الناس والملائكة إلى أشخاص أخر يمدح بها. فالجميل هو المختار لأجل نفسه، وهو المحمود اللذيذ لا لشيء آخر، بل لأجل خيريته. فإنه جميل من هذه الجهة. والفضيلة نوع من الجميل، لأنها قوة، أي ملكة حسنة التأتي لتحصيل ما هو خير، أو يرى خيرا، وهي التي تفعل أو تحفظ الأمور الشريفة العظيمة من كل جهة. وأجزاء الفضيلة هي: البر، والشجاعة، والعفة، والمروءة، وكبر الهمة، والسخاء، والحلم، واللب، والحكمة. ومن الفضائل لا محالة ما يتعدى خيره إلى غير الفاضل، مثل البر والشجاعة والسخاء، ولذلك تلزم كل واحد منهم، إذ الكرامة مبذولة من الكل للنافعين.
فلنعد إلى ذكر كل واحد منها: فأما البر فإنها فضيلة عادلة تقسم لكل ما يستحقه بحسب تقدير الشريعة. والجور رذيلة يكون بها المرء آخذا ما ليس له بحسب تقدير الشريعة. والشجاعة فضيلة يكون بها المرء فعالا أفعالا صالحة نافعة في الجهاد على ما تأمر به الشريعة، وبها ينصر الشريعة نصرة خدمة؛ والجبن خلاف ذلك في التقصير. وأما العفة ففضيلة يكون بها المرء في استعمال الشهوانية البدنية على القدر الذي ترخص فيه الشريعة؛ والفجور خلافه. وأما السخاء ففضيلة يكون بها المرء فعالا للجميل ببذل المال؛ والدناءة خلافه. وأما كبر الهمة ففضيلة يكون بها المرء فعالا لأفعال عظيمة المنزلة من الحمد؛ والسفالة ضدها. وأما المروءة ففضيلة بفعل النبل بالتوسيع في الإطعام؛ وصغر النفس والنذالة خلافه. وأما اللب ففضيلة في الرأي يكون بها المرء حسن التعقل والمشورة نحو الخيرات والجميل؛ والبلاهة ضده.
ولتؤخذ هذه السروم على ظاهرها، ولا يلتمس فيها التحقيق العلمي البتة. وكذلك في أكثر سائر الرسوم التي نورد في هذا الفن من المنطق.
فهذه هي الفضائل التي يمدح بها.
وأما ما سواها من الممادح ففاعلات الفضائل والعلامات التي تدل على الفضائل، مثل الأنداب على الشجاع. وكذلك الانفعالات التي تلحق العادلين، لإذا لزموا العدل ولم يجنبوا إلى الجور، كالمستودع إذا شدد عليه العذاب في انتزاع ما هو في يديه، فاحتمل، وأبى أن يسلم الوديعة إلا إلى ربها. وأما الانفعالات التي يستحقونها عدلا، فهي وإن كانت خيرا في نفسها وواجبات، إذ كل فعل يصدر عن عدل فهو واجب وخير، فإنها من حيث هي آلام صرفة تجلب ضيما وخسرانا فقط بلا زيادة أخرى فليست خيرات وممادح لمن تقع بهم. وإن كانت باستحقاق عن سوء سيرة، فهي مذام. وأما في الباب الأول فقد كان الألم، وإن كان من حيث هو ألم، شرا ينقضي أثره، فهو من حيث يدل على فضيلة النفس وإيثار العدل مكرمة ومحمدة، وربما خلد ذكرها. وقد يمكن أن يصدر عن الشجاع فعل لا يصدر إلا عن شجاع، أو يلحقه انفعال لا يكون إلا للشجاع؛ وكذلك قد يصدر عن السخي فعل وانفعال لا يصدران إلا عن سخي؛ ولكنه لا يكون محمودا، إذا كان خارجا عن مقتضى العدل. ومن آثار الفضائل ما هو أكرم وأحسن. فإن الشجاع إذا جوزي بالكرامة، كان هذا أقرب إلى استحقاق المدح به من أن يجزى بالمال. وأدل أفعال الفضائل على استيجاب المدح ما فعل لا لجذب منفعة إلى الفاعل، بل لأجل غيره، أو لأنه خير لنفسه. إذ هو خير عام له ولغيره. ولهذا يمدح من يتعهد الموتى بالصدقات، لأن هذا النوع من الإحسان لا يبتغي به جزاء. ثم ما أريد به نفع الآخرين من حيث هو خير لهم، وليس لهم فيه غرض. ويفارق ما قبله أن ذلك كان الإيثار متجها فيه إليه لأنه خير فقط، وهذا لأنه خير للآخرين؛ وهذا قد يبتغى عليه جزاء، والأول لا يبتغي عليه جزاء. وبعد هذا ما يراد به الإحسان إلى المحسنين خاصة. فإن كان مكافأة فإنه من حيث يكافئ فاعلها لا يرتاد لنفسه خيرا إلا بالعرض من حيث هو مكافئ متوقع لا مكافئ فقط. وأما المكافئ، من حيث هو مكافئ، فقد حصل الخير وأحرزه، وليس يتوقعه حين يكافئ.
(2/204)
ومن علامات الفضيلة والممادح أجزاء من تنابذ الفضيلة وتضادها وتخجيله. فإنهم كثيرا ما يبتدئون بأقوال وأفعال من الفواحش يريدون بها فضح غيرهم فيفتضحون لفضيلة في ذلك الغير يصدر عنه حسن المعاملة لأجله. مثل ما فعلت سفا الحكيمة، حين رمز إليها القاوس المتغلب، فعرض عن فاحشة قائلا: إني أريد أن أنفث عن صدري بشيء، لكن الحياء والاحتشام يصدني عنه. فاستقرت هذه الحكيمة على جملة أمرها وديعة لم تقابله بالفحشاء من القول، والهجر من السب، مستحيية من مفارقة طريقة الحكمة، ومن إظهار التنبه لمعنى الفاحشة، كأنها لا يخطر ببالها أن أحدا يعرضها لطمع سوء، ويعترض لها بدعوة إلى فاحشة، ويضرب لها مثلا بمنكر، أو يجري عليها المعاني التي تجري على غيرها. لكنها كانت مصروفة الشغل إلى نصرة الهيئة والملكة الفاضلة، تترك الفعل الرذل، وكذلك من كان معها من النسوة الحصر لا يجزعن ولا يخفن من وقوع مثل ذلك بها ثقة بشرف نفسها، واعتلائها عن طاعة غير الواجب، وكمال فعلها في طاعة فضيلتها، وقلة انفعالها عن الرذائل، صار كل ذلك صادرا عن ملكة حصلت بالارتياض والاجتهاد. فإن الفضائل جلها مباين للهوى، ويكتسب بالمجاهدة إيثارا للمجد والفخر في تنميتها. وتنميتها بالعقل على الهوى، مثل ما سمعت من قصة الرجل والمرأة. والاستحياء أيضاً قد يؤهل للمدح ولكن دون تأهيل حالة سفا. والاستحياء أيضاً قد يكون لشيئين: أحدهما لاشمئزاز النفس عن الحالة الشنعاء، وهذا يصدر عن فضيلة؛ والثاني لنظرته ذكر فاحشة عرف بها المستحيي، وقد نسيت في الحال. فإذا لفظ بلفظ يشير إلى معناها، أو فعل مثلها، خطرت بالبال من الحاضرين، وهو من أهلها، فخطر بالبال صنيعه، فصار كالمشاهدة منهم له، الموجبة للاستحياء، إلا من البالغ في الرذيلة والسقوط فلا يستحيي من انكشاف مذمته. ومن الممادح أفعال يفعلها الإنسان ليصلح بها حال آخرين. وأيضاً الانتقام من الأعداء، وقلة الإذعان لهم، والجزاء على الحسنة والسيئة. وأن يكون الشجاع مغلبا لا يغلب. فإن الغلبة والكرامة من ممادح الشجعان. وأن يفعل أفعالا تنشر وتذكر، وتكون لعظمتها مما يسهل تخليدها، فيتوارثها الأعقاب. ومن الممدوحات علامات تختص بالأشراف، كإسبال العلوية شعورهم، فإنه من دلائل شرفهم. ومن الممدوحات الاستغناء عن الآخرين في أي باب كان.
وقد يتطلف في المدح على سبيل كالمغالطة، فيعبر عن الخسيسة بغبارة تجلوها في معرض الفضيلة، إذا كانت أقرب الخسيستين المتضادتين من الفضيلة، أو قد كان يلزمها والفضيلة شيء واحد يعمهما. وهذا مما يضطر إليه الخطيب إذا أحوج إلى مدح الناقصين، فجعل الشيء الذي تشارك به الفضيلة الخسيسة مشاركة ما مكان نفس الفضيلة. فيقال للحريز إنه حسن المشورة، وللفاسق إنه لطيف العشرة، وللغبي إنه حليم، وللغضوب القطوب إنه نبيل ذو سمت، وللأبله المغفل عن اللذات إنه عفيف، وللمتهور إنه شجاع، وللماجن إنه ظريف، وللمبذر في الشهوات إنه سخي.
(2/205)
ومن الممادح الانخداع والغلط في صغار الأمور، فإنه يدل على قلة الخوف، فإن الخوف هو الملجئ إلى الاحتياط في الفكر، ويدل على قلة الالتفات إلى مراقبة فوت ما يضن به. وقد يمدح أيضاً بالبراءة عن الانخداع أصلا لشدة الفطنة. ومن الممادح الإذلال إلى الصديق والعدو. وإن كان من الممادح أيضاً تخصيص الأصدقاء بالإحسان والإسداء. وأيضاً فإن الخطيب يجب أن يعلم موضع مدح الممدوح حتى يمدحه بما يلائم ذلك الموضع، فلا يأمن من أن يكون الممدوح به في موضع مذمة في موضع آخر، بل يجب أن يعلم الممادح بحسب البلاد والأمم والملل. ومن الممادح ذكر السلف الصالح والآثار التي خلدوها، خصوصا إذا تشبه بهم الخلف فاستوجب مزيد مدح وكرامة من تلقاء نفسه، وإن قصر عن شأو سلفه، أو كان ما يكسبه أقل مما كان ينبغي أن ينحو نحوه من الخير والفضيلة، كالإنسان المتوسط في همته، أو كان ما يكسبه أقل مما كان ينبغي، فإذا أنجح، اقتنع فلم يمعن. والكبير الهمة كلما أمعن في الإنجاح، أمعن في استئناف الجد نحو إدراك ما هو أعلى، وصار أحرص على اقتناء المآثر المستصعبة. ومثل هذا الإنسان لا يقتصر على الشرف الموروث، بل يستخف به، وينشط لادخار الحسب والشرف المكتسب، ويقل افتخاره بآبائه، وربما ارتقى بأفعاله إلى درجة تفوق درجة قبيلته، كما قال بعض الناس في مديح سوسدس مخاطبا أباء وإخوانه: إنه اليوم في الساطورانس. كأن الساطورانس قبيلة أشرف من اليونانيين.
وأول الأفعال التي يستحق بها المدح ما صدر عن قصد أو عن مشيئة. وأما التي بالعرض، فإذا بدر نفعه لم يذكر إلا أن يتكرر، فيلحق حينئذ بالممادح، ويشبه بما يصدر عن مشيئة. فإن المتكرر مرارا قد يظن به أنه مقصود من الفاعل، ويعتقد أن الذي بالبخت قليل التكرر. والممادح الحقيقية هي الأفعال الاختيارية. وأما المظنونة فهي التي تنسب إلى النسب، حتى يقال: إن الأسد يلد الأسد، والحية تلد الحية؛ وكذلك التي تصدر عن تأديب وتقويم، ليس عن نشاط غريزي. على أنه ليس يبعد من الحق أن يتشبه الأولاد بالآباء. فإن الإنسان يحرص على الإتيان بما يكثر منه مشاهدته ويستمر عليه نشؤه، ولذلك ما قد يحمد الفاعل إذا فعل الجميل المنشؤ عليه. فإنه إذا فعل ما نشأ عليه، دل على أن الفعل إنما صدر عن فضيلة وعن ملكة فيه رسخت مع النشوء. فيكون حينئذ قد فعل ما فعل آباؤه. فإن أعمالهم الباقية دلائل على أفعالهم. وإنما يمدحون على أعمالهم لأنها عن أفعالهم؛ وإنما يمدحون على أفعالهم لأنها تصدر عن فضائلهم الموجودة فيهم. فأما استحقاق الحمد فهو لنفس الفضيلة، حتى لو تيقنا وجود الفضيلة في إنسان ما، فإنا نمدح ذلك الإنسان، ولو لم نر فعلا فعله. ثم الفعل دليل على الفضيلة ال،ي هي الممدوحة. وإن كان استحقاق الحمد لا يكون إلا على فعل. والفعل هو الإنعام. وأما السعادة المشهورة فهي من باب الاتفاق والبخت. وكما أن صلاح الحال جنس للفضيلة، كذلك الاتفاق الجيد جنس للسعادة.
(2/206)
لكن الكلام في المدح والمشورة نوع جديد، أي غير ما قلناه مما هو خاص أو مما قد اعتبر خاصا بكل واحد منهما، بل شيئاً يعمهما وغيرهما من الأمور الخطابية. وذلك أن من الذي نمدح به الممدوح أشياء قد يشار بها على المشار عليه. وبالعكس. فإنه كما يقول المشير: ينبغي أن لا تستنيم إلى السعادة الاتفاقية، بل أن تستنيم إلى ما تيسر لك من المآثر المكتسبة بالمشيئة، ويكون هذا مشورة على سبيل تفويض وإطلاق؛ إذا كذلك يقول المادح في الممدوح: إنه هو الذي حاز المحاسن بسعيه، ليس الذي اتفق له من أسبابها ما أتته منها حظا غير موثوق به. فإذا أردت أن تمدح، فيلزمك أن تتأمل ما تمدح به. فإذا كانت المشوريات تتشاد في أمور، فيمنع عن بعضها ويطلق بعضها، فالذي لو أشرت لأطلقت الإذن فيه ورأيته المستصلح من الأمرين للتقرب بالمشورة به، فهو المستصلح للمدح. فانتقل من المشورة إلى المدح، ومن المدح إلى المشورة. وينبغي أن يؤكد أمر المدح، وكذلك أمر المشورة، بالألفاظ المعظمة المفخمة، كما يقال: إنه هو نسيج وحده في كذا، وإنه قريع عصره فيه، وإنه وحده فعل، وأول من سن، وأسرع من فعل مثل فعله، وأكثر من فعل مثله فعلا، وفعل في زمان يعسر فيه فعل مثله، وإنه صار قدوة لغيره، وأقام غيره لمن سواه، وأصبح مزجره عن الفحشاء والمنكر أمة يؤتسي به في الجميل شهرة عند الناس والجمهور، وخصوصا إذا كان فعل ذلك بقصده. ويقال في كل شيء من ذلك ما يشاكل. وكذلك يقال: إنه فعل كذا لا كفلان الذي قصر عنه، بل كفلان الذي وفق له. وليس كل إنسان مليئا بالمقايسة بينه وبين غيره. فإن أكثر الناس يستفضل نفسه على غيره في فضله، ويستهين رذيلته وعيبه الذي لو كان في أخيه استكثره. وعلى ما يقال: إن المرء ليعمى عن الجذع يعترض في حدقته، ويلمح قذاة في عين صاحبه. وليس كل إنسان مثل سقراط الذي كان يعتبر نفسه من غيره في مجاري أخلاقه، فيعاقب نفسه إذا تشبهت بالأراذل، ويثيبها إذا تشبهت بالأخيار. ومن المحمود أن يجتهد في التشبه. فإن المجتهد كالحاصل في تخوم الفضائل.
فبهذه الأشياء يكون التعظيم. والتعظيم يدل على زيادة في الشرف. والزيادة في الشرف شرف مفرد. والشرف المفرد ممدحة خاصة. وبالجملة: فإن التعظيم والتفخيم أشد مشاكلة للمدح وأما الدلالات والبرهانات فأشد مشاكلة للمشورة. لأن الممادح بالحاضرات، وأكثر الحاضرات مقربها، وقلما يطلب دليل عليها واما المشوريات فبالمعدومات الغائبة. وتمس الحاجة إلى تصحيح الغائب بالحجة وضرب الأمثال مما كان لما سيكون أشد من مسها إلى تصحيح الحاضر. وأما الكلام الذي هو فصل القضاء، وهو استيضاح صحة الحجة، فاللحاكم، لأن الحاكم ينبغي أن يورد الفصل الذي لا مطعن عليه. وضرب الأمثال من الأمور المستقبلة والماضية أوقع عند الجمهور في المشورة من غيره، لأنه أمر قد كان ودرس وبقي ذكره. وللتذكير تأثير أكثر من المشاهدة، لأن التذكير كأنه أقرب إلى الأمر العقلي الذي يختص بذوي الألباب، والمشاهدة إلى الأمر الحسي الذي يشترك فيه الخاص والعام. وقد تستنبط الممادح من المذام، والصواب في المشورة من الخطأ فيها.
فصل
الفصل الخامس
في شكاية الظلم
والاعتذار بأنه لا ظلم
وأما القول في الشكاية والاعتذار فقد حان أن ننتقل إليه، ونحدد القياسات المشاجرية، وأن نبين الأمور التي يجور لأجلها، فتؤخذ منها مقدمات في أنه لما كان الفاعل كذا أقدم على الجور، والأمور التي يعرض بها الإنسان لأن يجار عليه، فتؤخذ منها مقدمات في أنه لما كان المفعول به كذا أقدم بالجور عليه، والغايات التي كان يجار لأجلها الجور، والأمور التي هي في أنفسها جور. وقبل ذلك ينبغي أن نحدد الجور، فنقول: إن الجور إضرار يقع بالقصد والمشيئة متعد فيه الرخصة الشرعية.
والشريعة والسنة: إما خاصة مكتوبة بحسب شارع شارع، وبلاد بلاد، وأزمنة أزمنة وإما عامة غير مكتوبة، لكن أكثر الناس وجلهم يعتقدونها، ويرونها. وربما تخالفا: مثل إيثار أرذل الأولاد بالتحلي، فإنه يصح في السنة المكتوبة، إذا وقع من المؤثر في وقت الصحة، ويمنع عنه في السنة الغير المكتوبة. والقضاء المر مبني على السنة المكتوبة، والوساطة على السنة للغير المكتوبة، والحسية على أقرب السنتين من مصلحة الوقت مشوبة بسنة الملك، وهو السياسة.
(2/207)
فالجائر هو الذي يضر بالمشيئة. لأن الذي يصدر عنه فعل ما طبعا أو قسرا، لا مشيئة وطوعا، فإنه لا يعد به محسنا ولا مسيئا. وأما الذي يقدم طوعا على ما يفعله فهو الجائر. والمقدم طوعا هو الذي يعلم ما يفعله ويقدم عليه غير مقسور لأمور يستدعيه إليه هواه. فمنهم من يكون مقدما هذا. لإقدام عن رؤية ونظر واختيار، وهذا هو الشرير الجائر. ومنهم من يفعل ذلك لضعف رأي، وهو الذي يجيب في ذلك داعي تخيل يثير انفعالا نفسانيا مناسبا لاستعداد خلق له، أو مخالفا للخلق الموجود فيه. مثل ما يعرض ممن تغلبه الشهوة أو الغضب أو الخوف أو شيء آخر مما يشبه ذلك، فيعمل من غير روية يستعمله فيما يفعله، وربما يعقبه الندم. وهذا مثل ما يبدر عن النذل إذا لمح مرفقا وعن الشره النهم إذا عرضت له لذة ويبدر من الكسلان، عندما يتخيل الدعة التي يهواها، من خذلان صديقه ومن الجبان عند الخوف، فربما سلم الحريم كما يقع من المؤثر للكرامة عند استرباح الكرامة وتقية الهوان وكما يقع من المغضوب، عند ثوران الغضب، من عسف ومن مؤثر الظفر، عند اعتراض الغلبة، من اقتحام ومن الأنف ذي الحمية، عند خشية الاستخفاف والعقوبة، من انقباض ومن المائق المافوك في عقله، عند التبلد فيما بين الخطأ والصواب، من خبط ومن الوقح الجريص، عند فائدة تلوح له ومربحة خسيسة تقرب منه، من استخفاف بنضوب ماء الوجه، وقلة رغبة في الحمد. فهذه هي الأحوال التي إذا كانت في خلائق الناس حركتهم إلى الجور، أو كانوا قد انفعلوا بها وقتا ما، وإن لم تكن عن خلق. وينتفع الخطيب باستعمالها في أن الجور وقع من الجائر. فينبغي أن نبين الآن الأشياء التي لأجلها يجار. فإن الأمور المشكوة ستحد، وأما المعاذير فإنها غير محدودة بأنفسها، لأنها تتبع الشكايات وتتحدد بها. فمن المحال أن تكون معذرة إلا وتتلقى بها شكاية مصرح بها، أو مضمرة، أو متوقعة، فنقول: إن كل فعل يصدر عن الإنسان، فإما أن يكون عن قصد وإرادة، أو يكون بغير قصد وإرادة. وما ليس بقصد وإرادة، فإما أن يعرض بالاتفاق، أو يقع بالاضطرار. والذي بالاضطرار، فإما أن يقع عن طبيعة، وإما أن يقع عن قسر. فأما الأفعال التي تكون عن الإرادة، فمنها ما يتبع العادة والخلق، ومنها ما يتبع شوقا حيوانيا، إما نحو اللذة وهو الشهوة، وإما نحو الدفاع والغلبة وهو الغضب، ومنها ما يتبع شوقا فكريا أو شوقا منطقيا. ويشبه أن يكون قد عنى بالفكري ما يصدر عن الفكر نحو أي غرض كان، وإن كان الغرض غير عقلي أو غير جميل، وبالمنطقي ما يكون نحو الجميل العقلي. ويشبه أن يكون قد عنى بالفكري التخيل، بالمنطقي الفكري بالحقيقة. وهذه الأقسام تنحصر في سبعة: الاتفاق، كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا والطبيعي، كمن ركب مطية مستأجرة مثقلة بالقدر الذي عسى أن يكون غاية ما يرخص في حمله عليها، فناء بها حتى نفقت واستكراهي، كمن يلب على يده فيقبض سكينا، فيوجأ بيده إنسان وإما عادي وخلقي، مثل من اعتاد السرقة والاختلاس. فإذا أمكنته فرصة لم يملك نفسه أن انتهرها وإما فكري، مثل رجل اختل حاله، فلم يزل يفكر ويحتال حتى أنشأ تدبيرا في اختزال مال إنسان وإما غضبي وإما شهواني. فهذه هي القسمة الذاتية. وأما قسمة هذه الأسباب من جهة الأسنان، ومن جهة الهمم، فمثل ما يقال: إن الشاب يجور في الحرم وفي الدماء، والشيخ يجور في الأموال، والغنى يجور في اللذات. فليس ذلك قسمة ذاتية. فإن الشاب ليس يجور في الدماء، لأنه شاب، بل لأنه غضوب وليس يجور في الحرم لأنه شاب، ولكن لأنه مغتلم. والشيخ ليس يجور في الأموال لأنه شيخ. ولكن لأنه حريص وقح. والغني ليس يجور في اللذات لأنه غني، بل لأنه حريص متمكن. وكذلك الناسك ليس يعدل لأنه عابد، بل لأنه زاهد. لكن من الأقسام التي تتبع العرض ما هو بعيد عن المناسبة، مثل قسمة الناس إلى البيضاني والسوداني والنحاف والسمان. فإن ذلك لا يتعلق به شيء من الأخلاق التي تصدر عنها هذه الأفعال بالذات. ومنها ما هو قريب، وهو مثل قسمة الناس إلى الأحداث والشيوخ، وإلى العباد والفساق. فإن هؤلاء قد يكفيهم ويلزمهم من الأخلاق ما تصدر عنها بالذات هذه الأفعال. والغني والفقير من هذا القبيل. فللغني أخلاق تخصه، وللفقير أضدادها.
(2/208)
والأفعال الصادرة عن الاتفاق غير مضبوطة ولا محدودة. وأما التي عن الطبيعة فدائمة وأكثرية. وقد توجب الطبائع أيضاً أخلاقا متمكنة لا يجب أن تنس الأفعال الصادرة عن تلك الأخلاق إلى الطبائع إلا بالعرض. ولم يحسن من ظن أن الطبائع في هذا الموضع تعمل عمل السجايا. وأما الخارجات عن الطبيعة فقد علمتها. والمستكره في جملتها. وقد جرب الناس أحوال المستكرهين مرارا كثيرة في أمور مختلفة، وعرفوا ما فيه. فالمستكرهون عرضة لتمهيد معاذيرهم. إنما الذي يجب علينا تفصيل القول فيه هو ما يكون بروية وفكرة لمنفعة تؤم نحو غاية ترى خيرا، وربما كانت لذة أو غلبة. لكن إقدام من يستفزه الانفعال، فيحثه على فعل ما، هو على خلاف هيئة إقدام المروي عليه. فإن الذي يقدم بانفعال نفساني أو خلقي هو الذي قد أعرض له الشيء، فشاهده، فتحرك به إليه انفعال أو خلق. وأما الذي يقدم بروية فهو الذي يتمحل الحيلة في تحصيل الغاية وطلبها قصدا. لكن أكثر من يجور عن روية، يجوز لمنفعة، لا للذة، ولا لغلبة، وأما الشهوانيون الفجار فليس يجورون في اللذة لينتفعوا بها في شيء، بل لنفس اللذة. والمنطوون على إحنة ووتر يطالبون الثأر لأجل التشفي والغلبة، لا لأجل التأديب. وفرق بين العقاب وبين أخذ الثأر. فإن التأديب يقصد به تقويم المسيء وتثقيفه وردعه ومجازاته لأجل مجازاته. واما الثأر فالمقصود بطلبه ليس حالا تحصل في المفعول به فقط، بل حالا تحصل للفاعل، وهو التشفي والابتهاج بالانتقام. وكل متبع روية أو مطيع خلقا أو انفعالا فله لذة ما فيما يطلبه. ولكل لذة علة. فبعض اللذات علتها الطبيعة وبعضها علتها العادة، حتى إن كثيرا مما هو غير لذيذ بالطبيعة يعود لذيذا بالاعتياد، وبالجملة: فإن الإقدام على شيء طوعا لارتياد خير ولذة حقيقية أو مظنونة - وبالجملة: لابتغاء المنفعة - هو خاصة المروي. فإن المروي هو مستعمل الحد الأوسط إلى ما يرتاد من الخير عنده. وهذا الحد الأوسط هو المنفعة، حتى إن الشر بالحقيقة أو بالظن، أو اليسير من الخير قد يطلب بالروية طلب النافع، ليتوصل به إلى غاية هي خير أو ترى خيرا. فحري بنا أن نتكلم في النافع واللذيذ. لكن النافع قد ذكر في باب المشورة، فبقي اللذيذ.
فصل
الفصل السادس
في أسباب اللذة الداعية إلى الجور
إن اللذة حركة النفس نحو هيئة تكون عن أثر يؤديه الحس بغتة، يكون ذلك الأثر طبيعيا لذلك الحس. وأعني بالحس الظاهر والباطن معا. والشيء الذي يفيد هذه الحركة هو اللذيذ، وضده الذي يفيد هيئة مضادة لهذه هو المؤلم.
(2/209)
فالأمور الطبيعية كلها لذيذة. والمعتادة والمتخلق بها هي أيضاً كالطبيعة، إذ العادة كأنها طبيعة مكتسبة. والمستكره مخالف لهما مؤلم. ولذلك صار الاعتناء وبذل الجهد والدؤب من المؤلمات، والكسل والاستراحة والتواني والعصيان والترف والنوم من اللذيذات، لأنها نحو الأمر الطبيعي. والمشتهى لذيذ كيف كان لذة نطقية أو غير نطقية. وغير النطقية هي التي يتوجه إليها الشوق لا عن فكرة ورأي وتمثيل بين أنه هل يجب أن يطلب أو أن لا يطلب، وهي التي تنسب إلى الطبيعة وإلى الحس. لكن السمع والبصر قد يختصان بتأدية لذات إلى النفس ليست طبيعية، بل عقلية، بما تدل عليه من غير المعنى المحسوس، كمن يسمع فضيلة فينزع إليها، أو يبصر صنعا جميلا فيحن نحوه، ويؤثر التشبه به، أو يقرؤه من مكتوب. وأما التخيل فله نوع من اللذات، إلا أن التخيل حس ضعيف كأنه أثر عن حس، ويلذ بالتذكير أو بالتأميل. وأكثر المأمول يطابق المذكور وخصوصا وإنما تؤمل تركيبات عن مفردات محسوسة وسالفة، فيكون الالتذاذ بالذكر أو بالأمل تابعا للذة حسية شوهدت فذكرت، ثم أملت. وإن الحس للحاضر، والذكر للماضي، والتأميل للمنتظر. وربما كان الذكر والتأميل أشد إلذاذا من المركون إلى حصوله. فإن الشوق يسقط مع الظفر. والملال من هذا القبيل. وهذا يختلف باختلاف الأوقات، والالأحوال، والسجايا. ومن الأذكار اللذيذة أذكار مشقات قوسيت فتخلص بها من خطر، أو توصل بها إلى مراد ووطر. وانبعاث الغضب أيضاً فكثيرا ما يلذ، لتخيل الغلبة اللذيذة واستقرائها، كما قال أوميروس: إن الغضب لأجل من الشهد. وللا الغلبة لما لذ الغضب. فإن الغضب على من لا يرجى الانتقام منه. لعلو شأنه، غير لذيذ. وأيضاً فإن الساقط الخامل الذي لا اعتداد به قلما يلتذ بالتسخط عليه، لقلة الالتذاذ بغلبته. والشهوة قبل المواقعة قد تلذ، لمثل هذا الشأن. وذلك لأنه يتخيل معه المواقعة ومصادفة المشتهى، فتلذ. ولهذا ما يلتذ المتذكر والمؤمل. ولهذا ما يعرض لبعض المصابين أن ينقبضوا عن المآتم والمناحات تسلية للنفس بلذات الذكر والأمل، وخشية أن يؤكد المأتم خيال الألم في النفس. وربما اجتمع في عارضة واحدة لذة وألم، كالمصاب فإنه يلتذ بتذكار من أصيب به، ويتألم بفقدانه، وكما قال أوميروس الشاعر في وصف كلام إنسان يندب ميتا ويؤبنه ويذكره: إنه لما تكلم بذلك، صرخوا صرخة فاجعة لذيذة. ومن اللذيذات إدراك الثأر، وإخفاق العدو في الطلبات. وكما أن الحنق، إذا لم يستقص التشفي بالانتقام، بقي حسيرا، إلا أن يترجى التلاقي، فيفرح بالرجاء. والغلبة لذيذة، لا لجمهور الناس، بل لسائر الحيوان، فضلا عن مؤثريها من الناس خلقا وطباعا، وإن اختلفت الدرجات فيه. ولهذه العلة ما صار استعمال الأدوات اللعبية كالضرب بالصولجان والمراماة بالأحجار والملاعبة بالشطرنج والنرد وسائر ما يجري مجراها لذيذة. فبعضها لا يلذ ما لم يتمهر فيها كالشطرنج والنرد، وبعضها يلذ في الحال كالصيد. والغلبة بالواجب والقسط ألذ عند قوم، والتي تقع بالمشاغبية والتلبيس ألذ عند آخرين، يحسب انشعاب الهمم. وكثير من الغلبة وغير الغلبة يرغب فيه لما يتبع ذلك من الكرامة، لما يتخيل من استحقاق الغالب والمعجب إياها مع الغلبة أو التعجب. فإن المجتهد في الفضيلة ربما صرف وكده إلى اجتهاده بسبب الوجوه. وحتى إن إكرامه على ذلك يزيده غلوا فيه. ووجوه الحاضرين أدعى إلى ذلك من الغيب، والمعارف أولى بأن يبتغي وجوههم من الأجانب. والبلديون أولى به من الغرباء. والحاصلون أولى به من الآتين. والمحصلون أولى به من الأغتام. والأكثر عددا أولى به من الأقل. وأما المستخف بهم جدا مثل البهائم والأطفال وأشباههم من الناس فلا تهتز الأنفس إلى طلب الوجه لديها. والأحباء من الأمور اللذيذة. فما من حبيب حتى الجسم إلا ويستلذ. وإنما يستلذ الحبيب لما يتخيل فيه من خير يصل منه أو يريده هو لمن يحبه. وأما التذاذ الإنسان بأن يكون محبوبا مقربا فليس لأجل شيء خلا نفسه. وكذلك أن يكون متعجبا منه، ولأجل ذلك ما يبارز المعجب من نفسه بين الصفوف ومجمع الزحام ومآقط اللقاء، فيتجشم ما يتجشمه التذاذا بما يعجب من نفسه. والتملق أيضاً لهذا السبب لذيذ. فإن المتملق معجب من نفسه بما يظهره من الموالاة. وتكرير اللذيذ لذيذ. والمعتاد لذيذ. وتغير الأحوال وتجددها
(2/210)
لذيذ، لما يستحدث معه من الإحساس بها، ويكمل به من الوهم المتسلط علينا. فإن الوهم إنما يستكمل بما تورده عليه الحواس من الفوائد الجديدة. وأما الحاصل فيكون كشيء قضى منه الوطر، فلا تأثير لبقائه. والتعلم لذيذ ويشبه أن يكون إلذاذه لما يخيل من التعجب منه إذا استكمل، ولأن التعلم يخرج أمرا دفينا في قوة الطبيعة إلى الاستكمال وإلى حصوله صنعة. والفعل الجميل إذا فعل لذيذ. والانفعال الجميل كالاحتمال الدليل على جودة الاقتدار، وكمال المسكة لذيذان، وكأنداب الجروح في مزاولة الشجاعة. والفعل الحسن إنما يلذ لأنه يشتاق فيه إلى أمرين: أحدهما الحسن، والآخر إظهار الاقتدار. وفي الانفعال أحدهما فقط. والهداية لذيذة. والكفاية لذيذة. وانسداد الخلة لذيذ. وكما أن التعلم لذيذ بسبب ما يتوقع من التعجيب، كذلك المحاكمات كلها كالتصوير والنقش وغير ذلك لذيذة، حتى إن الصورة القبيحة المستبشعة في نفسها قد تكون لذيذة إذا بلغ بها المقصود من محاكاة شيء آخر، هو أيضاً قبيح مستبشع، فيكون إلذاذها لا لأنها حسنة، بل لأنها حسنة المحاكاة لما حوكي بها عند مقايستها به. والحيل التي يتخلص بها عن المكاره لذيذة، لا لغايتاتها، بل لجودة ترتيبها. هذا كله للمناسبات بين الصورة مثلا وما يحاكيها، وبين الحيلة وما تعمل فيه. وهذه المناسبات أمور في الطبيعة. وشبيه اللذيذ لذيذ، مثل شبيه الصديق. وشبيه نفس الشيء لذيذ إليه، لأنه نفسه إلى نفسه لذيذ، مثل الصبي إلى الصبي، واللص إلى اللص. وكذلك المناسب في العادة، لأن العادة محبوبة. والسلطان والترائي بالحكمة والاستبصار لذيذ عند الجميع، وخصوصا عند محبي الكرامة. والتمكن من عول الأقارب ورياستهم لذيذ. ثم ارتياض المرء فيما بينه وبين نفسه في اكتساب الفضيلة جيد لذيذ. والمضاحك والنوادر والفكاهات الحادة لذيذة. فهذه هي اللذيذات، وأضدادها هي المؤذيات.، لما يستحدث معه من الإحساس بها، ويكمل به من الوهم المتسلط علينا. فإن الوهم إنما يستكمل بما تورده عليه الحواس من الفوائد الجديدة. وأما الحاصل فيكون كشيء قضى منه الوطر، فلا تأثير لبقائه. والتعلم لذيذ ويشبه أن يكون إلذاذه لما يخيل من التعجب منه إذا استكمل، ولأن التعلم يخرج أمرا دفينا في قوة الطبيعة إلى الاستكمال وإلى حصوله صنعة. والفعل الجميل إذا فعل لذيذ. والانفعال الجميل كالاحتمال الدليل على جودة الاقتدار، وكمال المسكة لذيذان، وكأنداب الجروح في مزاولة الشجاعة. والفعل الحسن إنما يلذ لأنه يشتاق فيه إلى أمرين: أحدهما الحسن، والآخر إظهار الاقتدار. وفي الانفعال أحدهما فقط. والهداية لذيذة. والكفاية لذيذة. وانسداد الخلة لذيذ. وكما أن التعلم لذيذ بسبب ما يتوقع من التعجيب، كذلك المحاكمات كلها كالتصوير والنقش وغير ذلك لذيذة، حتى إن الصورة القبيحة المستبشعة في نفسها قد تكون لذيذة إذا بلغ بها المقصود من محاكاة شيء آخر، هو أيضاً قبيح مستبشع، فيكون إلذاذها لا لأنها حسنة، بل لأنها حسنة المحاكاة لما حوكي بها عند مقايستها به. والحيل التي يتخلص بها عن المكاره لذيذة، لا لغايتاتها، بل لجودة ترتيبها. هذا كله للمناسبات بين الصورة مثلا وما يحاكيها، وبين الحيلة وما تعمل فيه. وهذه المناسبات أمور في الطبيعة. وشبيه اللذيذ لذيذ، مثل شبيه الصديق. وشبيه نفس الشيء لذيذ إليه، لأنه نفسه إلى نفسه لذيذ، مثل الصبي إلى الصبي، واللص إلى اللص. وكذلك المناسب في العادة، لأن العادة محبوبة. والسلطان والترائي بالحكمة والاستبصار لذيذ عند الجميع، وخصوصا عند محبي الكرامة. والتمكن من عول الأقارب ورياستهم لذيذ. ثم ارتياض المرء فيما بينه وبين نفسه في اكتساب الفضيلة جيد لذيذ. والمضاحك والنوادر والفكاهات الحادة لذيذة. فهذه هي اللذيذات، وأضدادها هي المؤذيات.
فهذه هي ما يدخل في باب اللذة من غايات الجور.
فصل
الفصل السابع
في الأسباب المسهلة للجور
كانت في نفس ما جير به أو في الجائر أو في المجور عليه
(2/211)
وأما الداعي إلى الجور من انتهاز الفرصة، وحسن التأتي، فسنعدها عدا. من ذلك أن يكون الجور مما يسهل تجهيله وإخفاؤه وإنساؤه، أو يكون الغرم فيه، إن شاع وظهر، دون الغنم. وأما الكلام في الممكن وغير الممكن من الأمور فسنشرحه أخيرا. ولكنه إذا اجتمع التمكن وأمن سوء العقبى، دعا ذلك إلى ارتكاب الجور دعاء حثيثا. ومما يؤمن ذلك كثافة العشيرة، وكثرة الشيعة، وخصوصا إذا كانوا شاركوا في العهدة، هم أو آخرون هم منهم بسبب. وهذا من جانب الجائر. ومن ذلك زوال الحشمة، وتأكد الصداقة مع المجور عليه، فيرجى احتماله أو حسن مرجوعه بأدنى اعتذار يخاطب به، ولما ترافع بعد إلى الحاكم. أو إذا أمل ذلك من الحاكم، فيطمع في ميله، أو تخفيفه عليه النكير وهذا من جنبة المجور عليه أو الحاكم. وكذلك إذا كان المجور عليه مريضا، أو ضعيفا، أو بعرض حد يقام عليه، أو بلاء يساق إليه. فإنه إذا كان كذلك، أقدم على ظلمه من غير مبالاة. وهو أيضاً قد يقدم على الجور، فإن مثله لا يظن به الجور. ومن ذلك أن يكون الجور علانية جدا، ومجاهرة حقا، إما بترويج الجد منه على أنه هزل، أو باختداع الأوهام والإيحاء إليها أن ذلك لو لم يكن واجبا، لم يجاهر به. ومثل هذا الجور لا يتحفظ منه، لأن كل تحفظ إنما هو عن معتاد الوقوع، والنوادر لا تتقى، وإلا لازدحمت تقيات غير متناهية في إنسان واحد. ولذلك فلا يتحفظ عن صديق أو حميم. وكذلك فإن حسن الظن بالناس، والواثق بصحبتهم، والغافل عن ترصد أعدائه إياه هو بصدد كل جور لسقوط التحفظ عنه. ومثل هذا يسهل الجور عليه لما يظن به من تضييع الاحتياط. ومن الناس من يهمل التحفظ إيهاما من نفسه سلامة الصدر، ليقل الاحتراز منه، فيتمكن من الجور، وتقوم الحجة له في التنصل أنه ليس من أهل العدوان. ومن الذين يسهل عليهم الجور من يقتدر على كتمان ما جار فيه، إما في الأخبار، وإما في الحالات، أي في أحوال يعمى على الناس فعله من مراآته بالتقوى، أو وقوعه حين ما يجور في زحام لا يبين. ومما يسهل الجور رجاء الإملال باللجاج، وطول المدافعة عند المحاكمة، والمواقفة، أو بذل الغرامة. وكذلك رجاء حيف من الحاكم إلى جنبة الجائر، وتعديه في الحكم. وكذلك الثقة بظهور الإعدام وأنه ليس ممن يسام غرامة ويجبر عليها. وكذلك من يرجو في جوره منفعة حاضرة وعظيمة، ويحاذر مضرة متراخية أو يسيرة. وكذلك من يأمن مضرة الغرامة عند منفعة الغنيمة لعموم فتنة أو وقوع هرج يهدر الجنايات. وكذلك من اكتسب بإمعانه في الجور ذكرا ينشر أو فخرا يشهر، مثل المؤاخذ بثأره، إذا تعدى حد القصاص، فقتل عن نفس نفوسا. وكذلك الذين لا يرتقبون فيما يجنونه آفة عن خسران في مال أو اضطرار إلى جلاء. ومن الناس من هو بالضد من هؤلاء، فيهون عليه ارتكاب الجور الذي تعقبه فضيحة أو عقوبة، إذا أمن الخسران في المال. والمرددون في العقوبات، المعتادون للآلام يستخفونها، فيهون عليهم احتمالها، ولا يقبضهم ذلك عن ارتكاب العدوان. ولهذا ما يشجع من كثرت مزاولته للحروب. وقد يحمل على ذلك ضعف الرأي، وهو الرضى باستعجال المنفعة واللذة، وإن اقترن باستئجال المضرة والأذى الكليمين. وههنا قوم بالضد منهم لا يردعهم عاجل الخسران عن مزاولة جور يعقبهم آجل الالتذاذ. وهؤلاء أجل رأيا. وربما حمل على الجور تقدير الجائر أنه يعتذر بأن ذلك قد وقع منه اتفاقا، أو أنه كان عليه محمولا مستكرها، أو كان سهوا وخطأ، أو صدر عن طبيعة مستولية عليه وعادة متقررة فيه، أو يكون من ظاهر حاله الاستغناء عن ذلك الجور فيقول عند التظلم منه: وما الذي ألجأني إلى هذا الجور ولا امتساس حاجة إياي به، ولا لي سبيل مستقيم إلى غرض دون تعاطيه؟ على أن الاستغناء لا يلحق الحاجة إلى الازدياد. فالحاجة على وجهين: حاجة ضرورة وهي للفقراء وحاجة شره وهي للأغنياء، وإذا أنجح صاحبها لم يحمد، بل ذم لشرهه. والخب منهم ينسب ذلك الإنجاح إلى الجد والاتفاق، دون القصد، ولا يظهر بسببه كل الجدل. والغبي بضده. ومن الأمور التي تكون في الإنسان فيطمع الأشرار فيه أن يكون المجور عليه عييا عن الجور، أو مخذولا، لا ناصر له، أو يكون عنده ما يحتاج إليه المضطر أو المتنعم، أو يكون في طباعه من قوم منظرين مسامحين لا يستعجلون في اقتضاء الحقوق، أو يكون من القرابة. والأقرباء أيضاً، فإن الأولين يجار
(2/212)
عليهم استضعافا، وهؤلاء يجار عليهم استسماحا. ولأن الأقرباء لا يسيئون الظن بأقربائهم، فتخفى عليهم مظنة الجور، فيدرس الأمر ويخفى. وكذلك حال أهل التقوى والصيانة والترفع عن المشاجرة. وكذلك الذين حسنوا الطرائق وصححوا الأمانات يقصدون بالجور أحيانا، لما قيل: ومن لا يظلم الناس يظلم. والداعي إلى ذلك أمن جانبهم. وكذلك المتدعون الكسالى، فإنهم لا يلحون على الحكام بفصل القضاء. وكذلك الحييون والذين يعدون الشغب أشد إخسارا من فوت المال. وكذلك المدعون المتظلمون كثيرا المعتادون للظلم، فإنهم يظلمون استحقارا وثقة بأنهم ملوا التألم والتظلم. وكذلك الذين أخفقوا كثيرا في الشكايات فمجتهم مجالس الحكام. والذين شارفوا الانتصاف مرارا فلم ينتصفوا. والذين قد حالت الجنايات بينهم وبين الظهور للحكام والأئمة، فهم مرتقبون حلول النكير بهم، لما سلف عنهم. والواترون قوما بأنفسهم أو ذويهم معرضون للجور من القوم. والمستخفون. ومن أنهى منه ترة، أو أنهى منه استخفاف، وهو صديق. فإن كان المنهي يسيرا، خف ولم يلتفت إليه. وإن كان عظيما، التفت إليه، وأصغى نحوه إصغاء ملذا، لما يؤدي من حيث يوقف عليه وإن كان أليما من حيث هو جفاء. واما العدو فربما خف عظيم ما يبلغ عنه خفة ما يتوقع، وربما ثقل ما يستفظع. ومن ليس بصديق ولا عدو، فأجدر أن يكثر التهاون بمقاله، إذا لم يتعده إلى المكروه من فعاله. ومن الناس من يجار عليهم لا لمنفعة، بل للذة فقط، مثل الغرباء، ومثل أصحاب الغفلة فإن إيذاءهم والتعرض لهم أيسر على الأشرار منه لغيرهم. والسبب في ذلك خروج أمثال هؤلاء إلى القلق سريعا لأيسر موحش. فقد علم أن إحراج من يسرع إليه الحرج لذيذ. ولهذا ما يولع الصبيان بالمجانين، فإذا رأوهم يحتملون، وادعوهم وإذا رأوهم يزدادون نزقا، زادوهم إحراجا. والمعتدون المسيئون يلتذ بالتعدي عليهم، وتؤمن عاقبة الإنكار فيه، كأنهم لما يفتنون أو يعذبون به مستحقون، ويتحرى بذلك قربة إلى الناس. وكذلك من ساعدهم، أو فرح بسوء صنيعهم، وجميع شيعتهم، والمتعجبون منهم. والحكماء المحتملون البالغون في الإغضاء يلتذ الجور عليهم، تعجبا من حلمهم، أو أمنا لغائلتهم. والمعاشر يظلم، ثقة باحتماله أيضاً. والذي وقف على شكايته، قد ينشط لابتداء الجور عليه، إذا كانت الشكاية هي المتقاة والصادة عن الجور. فلما وقعت، فقد كان ما كان يتقي. والذين يفطن لجور هم يهمون به، فإن مقابلتهم بمثله مما لا يعد جورا، مثل قتل من هم بالقتل. والذين هم بشرف من جور، فقد يهون الجور عليهم من ذلك النوع، أو من نوع آخر، مثل من ماله عرضة لنهب جائر، فإن غير ذلك الجائر ربما أقدم على مشاركته في النهب إقداما، لولا ابتداؤه به لما استحله. وذلك لأنه لما أيقن بفوات ماله، لم ير مصيره إلى الجائر أولى من مصيره إليه. وكذلك من أشرف على الغرق، فابتدر إلى سلب ثيابه عنه. وكما ذكر أن قوما شاهدوا شرذمة استخذأت لطائفة تأسرهم وتسبيهم، فلما رأوهم قد بذلوا الرضا بذلك، ولهم أن يمتنعوا، عمدوا إليهم، فسبوهم وحجزوا بينهم وبين الطائفة المبتدئة. وقد يسهل الجور في أشياء تخفى، ويتوقع فيها الصفح، لحقارة المجور فيه، أو لسرعة استحالته وتغيره كالأطعمة، أو لسهولة تغيره عن حاله، إما بالشكل أو اللون كالثياب، أو بالخلط كالأدوية، أو لأن الجائر يملك ما يشبهها ويضاهيها. فإذا وجدت معه، لم تميز عن الموجود قديما عنده، وأوهم ذلك استغناءه عنه. أو يكون في رفعه إلى الحكام، والبوح بالتظلم فيه فضيحة، ويكون ستره أخلق بذي المروءة من كشفه، كالجور في الستر.يهم استضعافا، وهؤلاء يجار عليهم استسماحا. ولأن الأقرباء لا يسيئون الظن بأقربائهم، فتخفى عليهم مظنة الجور، فيدرس الأمر ويخفى. وكذلك حال أهل التقوى والصيانة والترفع عن المشاجرة. وكذلك الذين حسنوا الطرائق وصححوا الأمانات يقصدون بالجور أحيانا، لما قيل: ومن لا يظلم الناس يظلم. والداعي إلى ذلك أمن جانبهم. وكذلك المتدعون الكسالى، فإنهم لا يلحون على الحكام بفصل القضاء. وكذلك الحييون والذين يعدون الشغب أشد إخسارا من فوت المال. وكذلك المدعون المتظلمون كثيرا المعتادون للظلم، فإنهم يظلمون استحقارا وثقة بأنهم ملوا التألم والتظلم. وكذلك الذين أخفقوا كثيرا في الشكايات فمجتهم مجالس الحكام. والذين شارفوا
(2/213)
الانتصاف مرارا فلم ينتصفوا. والذين قد حالت الجنايات بينهم وبين الظهور للحكام والأئمة، فهم مرتقبون حلول النكير بهم، لما سلف عنهم. والواترون قوما بأنفسهم أو ذويهم معرضون للجور من القوم. والمستخفون. ومن أنهى منه ترة، أو أنهى منه استخفاف، وهو صديق. فإن كان المنهي يسيرا، خف ولم يلتفت إليه. وإن كان عظيما، التفت إليه، وأصغى نحوه إصغاء ملذا، لما يؤدي من حيث يوقف عليه وإن كان أليما من حيث هو جفاء. واما العدو فربما خف عظيم ما يبلغ عنه خفة ما يتوقع، وربما ثقل ما يستفظع. ومن ليس بصديق ولا عدو، فأجدر أن يكثر التهاون بمقاله، إذا لم يتعده إلى المكروه من فعاله. ومن الناس من يجار عليهم لا لمنفعة، بل للذة فقط، مثل الغرباء، ومثل أصحاب الغفلة فإن إيذاءهم والتعرض لهم أيسر على الأشرار منه لغيرهم. والسبب في ذلك خروج أمثال هؤلاء إلى القلق سريعا لأيسر موحش. فقد علم أن إحراج من يسرع إليه الحرج لذيذ. ولهذا ما يولع الصبيان بالمجانين، فإذا رأوهم يحتملون، وادعوهم وإذا رأوهم يزدادون نزقا، زادوهم إحراجا. والمعتدون المسيئون يلتذ بالتعدي عليهم، وتؤمن عاقبة الإنكار فيه، كأنهم لما يفتنون أو يعذبون به مستحقون، ويتحرى بذلك قربة إلى الناس. وكذلك من ساعدهم، أو فرح بسوء صنيعهم، وجميع شيعتهم، والمتعجبون منهم. والحكماء المحتملون البالغون في الإغضاء يلتذ الجور عليهم، تعجبا من حلمهم، أو أمنا لغائلتهم. والمعاشر يظلم، ثقة باحتماله أيضاً. والذي وقف على شكايته، قد ينشط لابتداء الجور عليه، إذا كانت الشكاية هي المتقاة والصادة عن الجور. فلما وقعت، فقد كان ما كان يتقي. والذين يفطن لجور هم يهمون به، فإن مقابلتهم بمثله مما لا يعد جورا، مثل قتل من هم بالقتل. والذين هم بشرف من جور، فقد يهون الجور عليهم من ذلك النوع، أو من نوع آخر، مثل من ماله عرضة لنهب جائر، فإن غير ذلك الجائر ربما أقدم على مشاركته في النهب إقداما، لولا ابتداؤه به لما استحله. وذلك لأنه لما أيقن بفوات ماله، لم ير مصيره إلى الجائر أولى من مصيره إليه. وكذلك من أشرف على الغرق، فابتدر إلى سلب ثيابه عنه. وكما ذكر أن قوما شاهدوا شرذمة استخذأت لطائفة تأسرهم وتسبيهم، فلما رأوهم قد بذلوا الرضا بذلك، ولهم أن يمتنعوا، عمدوا إليهم، فسبوهم وحجزوا بينهم وبين الطائفة المبتدئة. وقد يسهل الجور في أشياء تخفى، ويتوقع فيها الصفح، لحقارة المجور فيه، أو لسرعة استحالته وتغيره كالأطعمة، أو لسهولة تغيره عن حاله، إما بالشكل أو اللون كالثياب، أو بالخلط كالأدوية، أو لأن الجائر يملك ما يشبهها ويضاهيها. فإذا وجدت معه، لم تميز عن الموجود قديما عنده، وأوهم ذلك استغناءه عنه. أو يكون في رفعه إلى الحكام، والبوح بالتظلم فيه فضيحة، ويكون ستره أخلق بذي المروءة من كشفه، كالجور في الستر.ف مرارا فلم ينتصفوا. والذين قد حالت الجنايات بينهم وبين الظهور للحكام والأئمة، فهم مرتقبون حلول النكير بهم، لما سلف عنهم. والواترون قوما بأنفسهم أو ذويهم معرضون للجور من القوم. والمستخفون. ومن أنهى منه ترة، أو أنهى منه استخفاف، وهو صديق. فإن كان المنهي يسيرا، خف ولم يلتفت إليه. وإن كان عظيما، التفت إليه، وأصغى نحوه إصغاء ملذا، لما يؤدي من حيث يوقف عليه وإن كان أليما من حيث هو جفاء. واما العدو فربما خف عظيم ما يبلغ عنه خفة ما يتوقع، وربما ثقل ما يستفظع. ومن ليس بصديق ولا عدو، فأجدر أن يكثر التهاون بمقاله، إذا لم يتعده إلى المكروه من فعاله. ومن الناس من يجار عليهم لا لمنفعة، بل للذة فقط، مثل الغرباء، ومثل أصحاب الغفلة فإن إيذاءهم والتعرض لهم أيسر على الأشرار منه لغيرهم. والسبب في ذلك خروج أمثال هؤلاء إلى القلق سريعا لأيسر موحش. فقد علم أن إحراج من يسرع إليه الحرج لذيذ. ولهذا ما يولع الصبيان بالمجانين، فإذا رأوهم يحتملون، وادعوهم وإذا رأوهم يزدادون نزقا، زادوهم إحراجا. والمعتدون المسيئون يلتذ بالتعدي عليهم، وتؤمن عاقبة الإنكار فيه، كأنهم لما يفتنون أو يعذبون به مستحقون، ويتحرى بذلك قربة إلى الناس. وكذلك من ساعدهم، أو فرح بسوء صنيعهم، وجميع شيعتهم، والمتعجبون منهم. والحكماء المحتملون البالغون في الإغضاء يلتذ الجور عليهم، تعجبا من حلمهم، أو أمنا لغائلتهم. والمعاشر يظلم، ثقة باحتماله أيضاً. والذي وقف على شكايته، قد ينشط لابتداء الجور عليه، إذا كانت الشكاية هي المتقاة والصادة عن الجور. فلما وقعت، فقد كان ما كان يتقي. والذين يفطن لجور هم يهمون به، فإن مقابلتهم بمثله مما لا يعد جورا، مثل قتل من هم بالقتل. والذين هم بشرف من جور، فقد يهون الجور عليهم من ذلك النوع، أو من نوع آخر، مثل من ماله عرضة لنهب جائر، فإن غير ذلك الجائر ربما أقدم على مشاركته في النهب إقداما، لولا ابتداؤه به لما استحله. وذلك لأنه لما أيقن بفوات ماله، لم ير مصيره إلى الجائر أولى من مصيره إليه. وكذلك من أشرف على الغرق، فابتدر إلى سلب ثيابه عنه. وكما ذكر أن قوما شاهدوا شرذمة استخذأت لطائفة تأسرهم وتسبيهم، فلما رأوهم قد بذلوا الرضا بذلك، ولهم أن يمتنعوا، عمدوا إليهم، فسبوهم وحجزوا بينهم وبين الطائفة المبتدئة. وقد يسهل الجور في أشياء تخفى، ويتوقع فيها الصفح، لحقارة المجور فيه، أو لسرعة استحالته وتغيره كالأطعمة، أو لسهولة تغيره عن حاله، إما بالشكل أو اللون كالثياب، أو بالخلط كالأدوية، أو لأن الجائر يملك ما يشبهها ويضاهيها. فإذا وجدت معه، لم تميز عن الموجود قديما عنده، وأوهم ذلك استغناءه عنه. أو يكون في رفعه إلى الحكام، والبوح بالتظلم فيه فضيحة، ويكون ستره أخلق بذي المروءة من كشفه، كالجور في الستر.
(2/214)
فصل
الفصل الثامن
في التنصل والاعتذار
وجواب الشاكي بتعظيم الجناية والمعتذر بتصغيرها
إن الظلم قد يكون بحسب مخالفة السنة المكتوبة، وقد يكون بحسب مخالفة السنة الغير المكتوبة. وكل ذلك: إما في الملك، وإما في الكرامة، وإما في السلامة. وكل ظلم: إما بحسب واحد، كمن يضرب واحداً أو يأخذ ماله أو بحسب المدينة، كمن يفر من الزحف، ولا يشارك في البيعة. والظلامة حال المظلوم من حيث ظلم. وذلك كما علمت بالمشيئة، وطوعا، وعلى أقسامه. وليس كل مضرة ظلما، ولا كل منفعة عدلا. وبإزاء المتظلم المتنصل. والمتنصل: إما أن ينكر أصلا لما رفع عليه في قصة الدعوى وغما أن يقر به، وينكر وقوعه على الجهة التي يكون بها ظلما، كما يقول: إنه أخذ ولم يسرق، وإنه عاشر ولم يفجر، وإنه كان أخذ الزينة غافلا عن كونها وقفا على المصلي، وإنه فعل ما شكى فضحه المفعول به، لكنه فعله سرا غير جهار، وعلى جهة لم يفصح به، وإنه واطأ العدو احتيالا عليه لا له. فإن أصناف الظلم والفضيحة والاستهانة والزنا إنما تصير ظلما، لا لنفس الفعل، بل لوقوعه على جهة، وبالمشيئة. فيكون الاعتذار: إما بإنكار نفس الفعل، إو بإنكار وقوعه على جهة يكون بها ظلما، أو لوقوعه كذلك غلطا وسهوا، لا بالمشيئة. وهذه الجهات تتحدد بالشرائع المكتوبة والمشتركة. أما المكتوبة فيرجع إليها في كميتها. وأما غير المكتوبة فإن العدل والجور يتفاضل فيها على حسب تفاضل الخير والشر، إما من جنس ما يستحق به المدح أو الذم، وإما من جنس ما يستحق به الكرامة والهوان.
ومثال الأول أم من قال. ينبغي أن نحسن إلى المحسن، ثم فعل ذلك، استحق المدح بفعله ومن قال: ينبغي أن نحسن إلى الإخوان كافة، ثم فعل ذلك، استحق الكرامة منهم أيضاً لفعله.
وكثير من العدل لا يكون بحسب المكتوبة مفصلا. فإن الحلم يعد في السنة المكتوبة عدلا من غير تفصيل ملخص، ثم يفصل بالسنة الغير المكتوبة المشتركة. فإن الحلم في بعض المواضع رذيلة وجور بحسب السنة المشتركة، كما قيل: إن بعض الحلم عجز. وإنما يقع هذا الإيهام في السنن المكتوبة حيث لا يفصل العدل والجور على واجبه، ويحتاج أن يردف حكم السنة المكتوبة فيه بحكم السنة الغير المكتوبة لشيئين: أحدهما أن يكون المتعرض للشرع غير مؤيد من السماء، وإنما هو متكلف خارجي فيجهل ويتهم وإما لأن الأمر في نفسه غير ممكن إنهاؤه إلى آخره تفصيلا، لأن المخصصات الجزئية لا نهاية لها. فيكون الشارع إنما يشرع أحكاما كلية، يحتاج أن يستعان في تفصيلها بحسب الواقعات الجزئية بالمحمودات والسنن الغير المكتوبة، وهي التي تسمى عند الجمهور عقلا. ومثال هذا أن الشارع إذا قال: من قتل بالحديد، فيلزم أن يقتل بالحديد، فليس يمكنه بعد ذلك أن يفصل جميع وجوه القتل بالحديد، من جهة القتل، أو من جهة الحديد، أو من جهة المضرب، أو من جهة عوارض جزئية أخرى، ربما تعرف لها أحكام وتكون غير محدودة ولا مضبوطة، ودون إنهائها فناء العالم. فبين أن كثيرا من الظلم والعدل، إذا كان ظلما وعدلا بحسب الشريعة المكتوبة، فربما يجد المعتذر فيه مخلصا بالتجائه إلى السنة الغير المكتوبة على سبيل التفصيل. وربما كانت السنة الغير المكتوبة تخالف المكتوبة أصلا، كما كان في بعض السنن المكتوبة القديمة أن لابس الخاتم، إذا شال يده غير منكوسة، استحق التأديب ونسب إلى الظلم، والسنة الغير المكتوبة تبيح له ذلك.
وقد تختلف السنة المكتوبة وغير المكتوبة بالعكس من ذلك: وهو أن تكون المكتوبة قد تحدد وتحصر في أقل، وغير المكتوبة توجب على العموم. فإن السنة الغير المكتوبة توجب الإحسان إلى الإخوان كافة وربما منعت المكتوبة الإحسان إلى بعض الإخوان. وكما أن السنة المكتوبة ترى كل حلم عدلا، والمشتركة تفصل ذلك، وقد توجب خلاف ذلك. فإن السنة المشتركة ربما رأت الحلم في بعض المواضع واجبا، ورأت العقوبة قبيحة، وكانت السنة المكتوبة لا ترى ذلك بل تخصص ذلك الموضع. مثاله: أن السنة المشتركة توجب أن يكون المقدم على سرقة الطفيف يحلم عنه ولا يعاقب والسنة المكتوبة توجب قطع اليد في سرقة دينار عند قوم، وربع دينار عند آخرين. وهذا مما تشمئز عنه المشتركة.
(2/215)
ومن ترك حقه من الإضرار بالآخر على مبني السنة الغير المكتوبة، إذا كانت المكتوبة لا ترخص له في ذلك الإضرار، لا يسمى حليما ولا محتملا. وإن كان الأمر بالعكس، سمي حليما ومحتملا. ومن تعاطى الإفضال على الآخر على موجب فتوى السنة المكتوبة، فإن كان لا توجبه السنة المشتركة، لم يسم متفضلا. فإن تبع فتوى السنة المشتركة في ذلك، وإن كان لا توجبه عليه السنة المكتوبة، أو توجب عليه دونه، يسمى متفضلا.
وبإزاء المتظلم اثنان: معتذر ومستغفر. وقد قلنا في المعتذر، فبالحري أن نقول في المستغفر. والمستغفر هو ملتمس الحلم أو التفضل. أما الحلم، فبأن لا يعاقب على جوره وأما التفضل، فبأن يترك عليه ما جار فيه، ولا يرتجع منه. فإن ترك ذلك عليه نوع من مغفرته. فليسم باسم آخر. والأنواع النافعة في الاستغفار أن يقال: إن الحلم هو الصفح والأولى بالعاقل أن لا ينظر إلى قول الشارع في شرعه، بل إلى سيرته من حلمه وصفحه وأن لا يتعلق بالظاهر من لفظه، بل بالمقصود من مراده وأن لا يؤاخذ بعمل العامل، بل يلحظ نيته وأن لا يلتفت إلى نادر خطيئته، بل إلى متواتر طاعته. وأن يقول المعتذر المستغفر: لا تلحظني بعين الحال، بل يعين السالف والآنف. فقد أحمدتني فيما مضى، وستحمدني فيما يستقبل. واذكر الجميل، ينسك القبيح. وتأن ولا تتوثب بالمكافأة، فعسى أن يكون ما كرهته يعقبك خيرا. وليكن للمشكور من الجميل عنك موقع عندك ليس دون موقع المشكو من القبيح بفعله. وليكن حضور الولائم آثر عندك من حضور المخاصم. فإن الخير الكريم موادع، والخبيث اللئيم نزق منازع. واعلم أن الصخب الأهوج ربما نزعت نفسه إلى أن يتحالم. فلتكن أنت أولى به. فبهذه الأشياء يعتذر المعتذر، ويستغفر المستغفر.
وحينئذ للشاكي أمور يعظم بها الظنية وبإزائه للمعتذر أمور أضدادها يهون به الفعلة. فمن الظلم العظيم ما يقدم عليه الإنسان العظيم الذي لا فاقة به إلى الجور. فيكون اليسير من فعله مستعظما، فإنه يدل على العظيم من شره. وربما كان اليسير من الجور مستعظما، لا من جهة الجائر، بل من جهة المجور عليه، إذا كان فقد ذلك اليسير عظيم الضرر عليه، كمن لا يملك إلا قوتا ويغصب ما يملكه. والخيانة الخسيسة مستعظمة، كمن يسرق من وقف المسجد درهما. فإن هذا، وإن كان من طريق الحقيقة واعتبار العدل ظلما قليل الضرر لا يوجب الحكام فيه عقوبة بالغة، فهو من جهة استنكاره عظيم القبح، وإن كان من الظلم الذي لا يفتقر إلى مصالحة، ولا إلى مشاجرة ومرافعة إلى الحكام، أو احتمال عن المظلوم بسبب أنه صديق وقريب، فإنه دون أن يقع فيه حلم وصفح، كما لا يقع به تفضل، فإنه ليس مما يتعين به صلاح. والحاكم، إنما يرفع إليه فيما يحتاج أن يرده الحاكم إلى الصلاح، أو فيما يحتاج أن يقيم فيه حدا. وعن الظلم العظيم أن يجمع إلى غضب النقمة الإنهاك في العقوبة. ومن الظلم العظيم ما يقع على المحسن، مثل عمل الناسك بابن عرس. ومن المعظمات أن يقال: إنه أول من فعل، وإنه المنفرد وحده بما فعل، وإنه كثيرا ما فعل، وإنه جار على من توخى بصنعه التقرب إليه والمصلحة له. ثم من الظلم العظيم أن يستعان فيه الجسراء على الانهماك الذين لا رقة بهم ولا رأفة، كأنهم سباع ضارية، حتة يستعان بهم في العقوبة. وقطع القرابة وإغفال حقها وإخافتهم ظلم عظيم. وكذلك خفر العهد، والحنث في اليمين، والخيانة في الأمانة، والتعرض للمحصنات. فإن هؤلاء لا يقتصر بهم على العقوبة، بل يعمل على فضحهم وإخزائهم، كما يفعل بشهود الزور من فضحهم في مجلس القضاء. والظلم في السنة الغير المكتوبة أعظم، لأن هذه السنة أوجب. وكذلك تعدي المكتوبة أيضاً ظلم عظيم عند مستحليها.
وأما الظالم اليسير فهو ما قابل ذلك.
فليكن ما قلناه كافيا في التصديقات الواقعة بصناعة.
فصل
الفصل التاسع
في التصديقات التي ليست عن صناعة
(2/216)
وأما التصديقات التي ليست عن صناعة - وأكثر نفعها في المشاجرات - فهي تنحصر في أقسام خمسة: السنن، والشهود، والعقد، والعذاب، والأيمان. فأما السنن المكتوبة فربما افتقر الخطيب إلى مناقضة موجبها، فيجد إلى إيهان مقتضى بعضها سبيلا بإظهار إعراض مثلها للنسخ والتبديل، وأن غير المكتوبة مأمون التغير، ولأن أهل المروءة لا يناقشون بمر السنة المكتوبة، بل ينحرفون إلى مقتضلا السنة المشتركة، وذلك بحسب ما يقول: لأن المكتوبة إنما احتيج إليها لعجز الجمهور عن تقدير الغير المكتوبة وتفصيلها. فإذا كان بالعاقل من المنة أن يفصل المشتركة، كان له بعقله كفاية، وكان له أن يخصص المكتوبة بحكم العقل. ثم يقول: والحاكم الفاضل هو بمنزلة النار المخلصة بعض الجواهر عن بعض، فيلزمه أن يتهدى لهذا التخليص، وينظر في واجب الأمر، ولا يخلد إلى مر القضاء، فإن ذلك من عمل الحشوية الغتم الذين لا يفطنون للصالح، ولا يتصرفون في رأي واجتهاد. وأما القاضي البصير فربما رأى أن يرجح حجة العقل، وربما رأى أن يرجح مر الحكم. وإذا أشكل عليه المصلحة، اعتصم بالتوقف، ولم يستعجل في فصل القضية. فربما أعقبته العجلة ندامة. وإذا وقف الأمر، كان له أن يستظهر بمعاودة النظر، فيلوح له الصواب من إيثار الواجب من المكتوبة أو النافع من المشتركة. فهذا وأمثاله مما يقوله الخطيب، حين تكون السنة المشتركة أشهد للخطيب.
فإن لم توافق المشتركة، وكان المكتوبة أوفق له، قال غير ذلك، فقال: إن الأمور التي فيها أحكام السنة المشتركة أمور مختلفة ومتبدلة لا استقرار لها، ولا صدق للحكم الكلي فيها، فلا بد من سنة مكتوبة مخصصة تحدد وتقدر، ولا يحل للحاكم أن يحدث نفسه بعدول منها فإن كان الحاكم قد جهل المكتوبة، فما أخلق به أن لا ينفذ حكمه، بل يتوقف ريث الاستبانة. فإن الحكم الذي عنده بحسب السنة المشتركة هو مصلحة أو خير مطلق. وليس قضاؤه، عندما يترافع إليه المتشاجران، قضاء في أمر كلي، حتى يكون في خير مطلق، بل في خير ما. فعليه أن يتأنى ريث ما يستعلم مقتضى السنة المكتوبة المقدرة. فإنه إن جاز أن لا يستعمل السنة المكتوبة، فقد جاز أن لا يسن، وفي ذلك إبطال السنن ورفع الحاجة إلى الشريعة. وكما أن الانتفاع بالطبيب مما يفقد عند مواربته ومناكرته والعدول عن إشارته، كذلك الانتفاع بالشارع مما يبطل أصلا إن جازت مخالفته. بل هذا أعظم. ولو جاز أن لا يلتفت إلى السنن المكتوبة، لم تقع الحاجة إلى استقصاء الفقية الماهر المستبصر في أحكام السنة المكتوبة. فإن السنن المشتركة لا يذهب عنها أولو الألباب، وإن لم يكونوا فقهاء. فهذا ما قيل في سبيل السنة.
وأما الشهادات، فمنها شهادات قدماء عدول على أمور قديمة، يلتفت إلى شهادتهم بوجود الأمر وغير وجوده، وإلى شهادتهم بكونه على صفة من صواب أو خطأ أو ظلم أو جور وغير ذلك. وربما كانت شهادتهم كهانات وإنذارات بأمور مسقبلة بحسب زمانهم. ومنها شهادات شهود حدث، وهم المشاركون في الزمان، وهم الذين يحتاج إلى تعديلهم والتفتيش عنهم والرجوع في ذلك الى جيرانهم الخبراء بأمورهم. ويفارقون الأولين أيضاً من جهة أنهم قد يتهمون بمشاركتهم المشهود له في فائدة الشهادة من جذب خير أو دفع شر، ومن جهة أنهم لا مرجع إليهم إلا في إثبات وجود الأمر وعدمه. وأما حكمها بعد ذلك فيكون إلى الحكام. ومن الشهود ما ليس من جملة الناس، وهي الدلائل والأمارات التي تجر اجتهاد الحاكم إلى أحد جنبتي الشكاية والاعتذار بحسب المشاكلات وكيف لا يستنام إلى هذه الأمارات عند عدم الشهود. وربما أحتيج إليها عند وجود الشهود في قبول الشهادة أو تزييفها. وكل شهادة، إما على الخصم بأنه ظالم كاذب فيما يقوله، وإما على الأمر بأنه كان أو لم يكن، وهو الأصل الذي لا محيص عنه. فأما الشهادة على النحو والكيفية: بأن يشهد مثلا الشهود له بأنه حسن السيرة حليم محصل، ولخصمه بأنه داه محتال خب.
(2/217)
وكل ما هو خارج عن الأمر نفسه، فإما أن يؤكد به نفس ما يقوله المتكلم بأنه حق، وإما أن يؤكد به ما هو مخالف لدعوى خصمه. وهما وإن تقاربا، فبينهما خلاف: فإنه ليس تصحيح ما يقوله إنسان، هو بعينه تصحيح بطلان ما يقوله خصمه. مثلا: ليس القياس الذي الذي يثبت به، مثلا، حدث العالم، هو بعينه القياس الذي يدفع به قدمه، وإن كان نتيجة لازمة لنتيجة ذلك. فإن القياس الذي نحو الموجب منهما غير القياس الذي نحو السالب منهما، وهما متغايران. وكذلك فرق بين أن يشهد أنه أعطاه وبين أن يشهد أنه أخذ منه، وإن كانا معا. فالشهود إنما تقام على أحد هذه الوجوه.
وأما إبطال الشهادة، فهو بأن يقال: إن الشاهد هو صديق للمشهود له، أو عدو للمشهود عليه. وذلك لأن الشهود ثلثة: صديق، وعدو، وغريب من المدعى والمنكر، لا ميل له إلى أحدهما، الذي بالحري أن تقبل شهادة مثله.
وأما العهود، فإنها إذا وافقت دعوى المشاجر، أعطته مجالا في تزيين أمر نفسه وتعظيمه، إذ قد حافظ على الميثاق، وفي تحقير أمر صاحبه، إذا خفر به ونكثه. وبالجملة: فإن غناء العهد لعارضه على الحكام والحاضرين إنما هو في الإقناع، وإيقاع التصديق بوجوب العمل على مقتضى دعواه، وثبوت ظلم من خالفه وتعداه. وإما في التزيين والتفخيم. والعهد كالشاهد في وجوب ما يوجبه على المكتوب له وعليه. وكالشاهد في التعديل والتجوير والتعظيم والتحقير ونفي الحجة. العهد، إذا وافق الدعوى، فينبغي أن لا يحاد عنه، بل يجب أن تقام به الحجة، وتعظم به الظنية. فإن العهد شريعة شرعها اثنان أو عدة فيما بينهم. والشريعة إنما ترعى وحفظ بالعهد. والعهود ربما كانت خارجة عن حكم موجب الشريعة، مستقة بنفسها، مثل معاهدة اثنين على أن لا يفترقا في سفر، ولا يتخاذلا عند وقوع منكر. وللمدعى أن يقول: إنك إن نبذت العهد وراء ظهرك، فاخلق بأن تنابذ الشريعة وتنسلخ عن السنة. وإن الناس عند عهودهم. وكيف، وإنما عقدوها على اختيارهم! فإن كان العهد مرذولا والاستنامة إليه ساقطة، فقد زال المعاملا، وسقط المشاركات، وما يجري هذا المجرى من الشناعات.
فأماالذي يجد العهد مخالفا لمراده، فيجب أن يقول: كل عهد ليس في الكتاب فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة. وقد كفانا عقد الشرع عقد العهد الذي هو مخادعة ومراوغة. ومن استقصر الشريعة، حتى احتاج إلى غيرها من المعهادة والشريطة، فقد برئت منه الذمة. ومن استقصرها، فقد نسب الناس في قبولهم الشريعة إلى اجتماع على الجهل والضلالة. ثم يقول للحاكم: إن الحاكم خليفة العقل والشرع، وفي ذمته عهدة الاستكشاف، وبالحري أن يستبرئ أحوال العهود المفروضة، فإن صادقها بمعزل عن جهة السنة أوعز بفسخها، وعمل بإبطالها. فلا عهد في معصية الله. فمن القبيح أن يتمكن مدلس من حمل على جور بقهر، ومن إيجاب طاعة لعقد غير عادل بقسر. وإن الشريعة لتتقبل عن رضى واتفاق من العلماء. وأما العهد والإقرار فربما خدع إليه، وربما قسر السلطان عليه. وإذا وجد الخطيب نصا من السنة المكتوبة في سنة تلك المدينة، أو رجع إلى سنة مدينة أخرى أو أمة أخرى، إن لم يجد النص في سنة المدينة، ووجد مشهورا من السنة المشتركة بخلاف العهد، فقد اعتصم الخطيب في إبطال مقتضاه بالعروة الوثقى. وكذلك إذا وجد عهدا آخر سبقه، وقد عهد بخلافه، فيقول: إن الأول من العهدين هو الأولى بالانتهاء إليه والعمل عليه ولو حل نكثه، فأحرى بأن يحل نكث ما بعده. وكذلك إذا وجد عهدا تأخر عقده عنه والشيء بتأريخ بعده، فإنه يستدل بتأريخه على نسخه الأول، وعلى أن التراضي بالأول مقصور على مدة، لم يتراض بعدها إلا على ضده، وأن الأول، لو كان مقبولا، لما أجمع على نقضه بعهد ردفه. والدفع بالناسخ أعمل منه بالمنسوخ. ويجب أيضاً أن ينظر، فعسى أن يجد في لفظ العهد وعبارة الصك لفظا متشابها يحتمل غير المعنى المدعي، فيكون التأويل يصرفه عن الجهة التي يخشى أن ينص عليها الحاكم.
(2/218)
وأما التقريرات والفحص عن الأحوال بالإنذار والإعذار، وبالترغيب والترهيب، وبالعقاب والثواب فهي أيضاً من جنس الشهادات. فإن كان التقرير موافقا للدعوى، احتفظ به حجة وربى واعتمد عليه، وقيل: لا أكثر من اعتراف على هذه الجهة، وإقرار يصدر في مثل هذه الحالة. وإن كان مخالفا للدعوى، فيقول ما هو الحق: وهو أن المضطر، كالغريق، لا يبالي بأي علقة يتشبث وربما رجى الخلاص بالكذب، كما يرجى الخلاص بالصدق. وإنه إذا صدع المقرر بالحق وصبر عليه فلم يصدقوه، ولم يزالوا يعنتونه تكذيبا إياه وتعذيبا له، ألجئ إلى الكذب، وعدل إليه عن الصدق الذي لم يجد به خلاصا. ويضرب لذلك أمثالا مشهورة عند الحكام من كذب قوم آخرين عند تشديد عليهم. مما يقال حينئذ: إن من الناس من يستنكف أن تذله العقوبة وتضطره الى البوح بما آثر كتمه، وينسبه ذلك عند من يطلب وجهه إلى عجز فلا يصرح بالحق، وإن اختلف عليه ضروب العقوبات ومنهم خوار يقرره أدنى ذاعر. فلا معول على التقرير بالتنكيل.
وأما القسم واليمين، فمنه ما لأجل أن يعطي ما يحلف عليه من عرض أو جاه أو معونة أو غير ذلك، فيأخذه وما يتعلق به. وإما أن يكون لا معطيا فيه ولا آخذا، بل حاكما أو متظلما. وإما أن يكون متمكنا من إعطاء، معفى عن الأخذ، وذلك عن رغبة، كمن يحلف. أن هذا الولد ليس له، حيث يكون حلفه يوجب إلزام الولد غيره، ويكفيه مؤونته. وإما أن يأخذ ولا يعطي. وكل ذلك إما أن يلزم المدعي الحلف أو يلزم خصمه. ومن عرف بالحنث والخبث والفجور لم تكن اليمين التي يقدم عليها موقعا لتصديق البتة. وأما الموثوق به، فإذا حلف، أماط عن نفسه وجوب ما يدعى عليه. والذي لا يحلف، فقد أوجب على نفسه ما يدعى عليه، وكانت فضيلة داعية إلى التصديق بقول الخصم عليه. وكان هذا ضربا من الفضيلة يكون على الفاضل، ليس له.
فمن يخطب في تزييف اليمين يقول: إن هذا لم يزل حانثا في يمينه، ضعيفا في مروءته أو يقول: إن غنم الإقدام على الأقسام منقود، وغرم الحنث نسيئة، والفاجر يؤثر العاجلة على الآجلة.
وأما الملاعنة والاستدعاء إلى اليمين، فقد تكون على سبيل تهور، وقد تكون عن ثقة بجبن الآخر عنه، وخصوصا إذا كان المتحدي بذلك كأنه لا يبالي بما تعقبه اليمين، وإن كانت كاذبة، وذلك الآخر يتقي الشبهة في الصادق وقد تكون على سبيل الثقة بصدق نفسه. ولأجل ذلك أكثر ما يتحدى المتحدون. والأمين ربما غرم، ولم يحلف وربما حلف لتأكيد صدقه، وليزيل الشبهة عن إنكاره، حتى لا يقال إنه استحل أن يكذب عند الإنكار. فلو نكل، لصحح أنه كان قد كذب فيه. وإذا حلف، أزال الشبهة، ولكنه يستصعب ذلك ويستشقه على نفسه. أقول: والكريم من حلف لذلك، ثم غرم. والثقة الأمين ربما آثر الغرامة، وأن يجل الله عن ذكره في مثل ما شجر بينه وبين غيره، ويتنزه عن الإقدام على الحلف به، حيث له عنه مندوحة ببذل مال لكنه يستحيي أن لا يحلف في موضع يوجب هو نفسه الحلف على الآخر فيه، أو يتحداه إليه، كما في المنافرة إلى اليمين.
فمن هذه الأشياء تؤخذ الأنواع النافعة في الدعوى والإنكار الذي يقوله. والمقدم على اليمين الفاجرة، إذا ظهر حنثه، أو المعقود عليه في المستقبل بعقد، وقد أجرى إلى مخالفة حكمه، قد يدفع اللائمة عنه بمثل ما يقول: لقد قهروني على الاستحلاف، أو أجرؤني على الخلاف، أو خدعت، أو وقع مني، أي ذينك كان بلا قصد، أو إنه إنما خالف ظاهر اللفظ، لا التأويل المعتقد والنية المرادة، وإن اللجاج حمله على الزلة لكثرة عناد الخصم، وإن اليمين التي يعتبر حكمها ما تعقده القلوب، لا ما يوجبه اللغو. فإن الشرائع قد أهملت أمر اللغو.
المقالة الثالثة
ثمانية فصول فصل
الفصل الأول
في المخاطبات الاستدراجية
لنتكلم الآن في المخاطبات التي يستدرج بها القضاء والسامعون.
(2/219)
قد يختلف ذلك بحسب مراتب الحكام في أذهانهم وثقافة آرائهم، أو أضداد ذلك، وخصوصا في المشوريات. وأما الخصومات، فيشبه أن يكون الاعتماد فيها على السنن المحفوظة أكثر منه على القرائح المميزة. فإذا كان الخطيب خبيرا بحال الحاكم، وحال خصمه، انتفع بذلك. فإن الحكام لا يتساوى ميلهم إلى من يحبونه، ومن يشؤونه، وحكمهم لمن يضمرون عليه موجدة، أو لا يألونه مسالمة. فكذلك إذا استدرج الحاكم بالمخاطبة في خلل المرافقة إلى قلي يعتقده للخصم وسخط عليه، ومحبة يعتقده للخطيب أو رحمة إياه، أو غير ذلك مما يميله إليه ويشدده على خصمه، أو كان حسن الظن بالمتكلم الخطيب مستنيما إليه، لما يتخيله من فضيلته ودمائته، أو صار كذلك، لم يبعد أن يصير به إلى خير، كما أنه لا يبعد أن يكون متعسرا على المريب المتعسر. فما أطوع الطباع لمدامثة المدامث، ومشاكسة المشاكس. والمتكلم قد يقع التصديق به للثقة بلبه، أو للثقة بفضيلته، أو للثقة بمؤالفته وصداقته. وقد يقع التكذيب لأضداد هؤلاء. كما قد يقع الكذب في المشورة من المشيرين: إما لجهلهم، وإما لشرارتهم ومحبتهم الشر للناس، وإما لأنهم غير معنيين بالمشار عليه، فلا يصدقون النظر في أمره، ويشيرون عليه بالفطير من الرأي. فأما امتحان الإنسان وتعرف حاله في أصالة لبه، وزكاء خليقته، فإنما يتيسر الوقوف عليه باعتبار الأنواع المعطاة في باب المدح والذم. وأما حال الألفة والصداقة واعتبارها فسيرد من الأنواع في ذلك ما يزيح العلة في الحاجة إلى معرفته حين نذكر الانفعالات، وهي الأحوال التي يختلف - باختلاف تكيف الحاكم بها - حكمه.
فلنبدأ من هذه الأحوال بالغضب، والمغضب، والمغضوب عليه. فأما الغضب، فهو أذى نفساني لشوق من الإنسان إلى إحلال ما يرى عقوبة بسبب اعتقاد استصغار وازدراء من الذي يغضب عليه إياه. ولذلك فالغضب لا يتناول أمرا كليا يغضب عليه، لأن الأمر الكلي لا يصدر عنه احتقار، ولا يرجى منه انتقام، بل المغضوب عليه شخص أو نفر. وقد علمت ما يلزم الغضب من اللذة التي تستدعي إلى التزايد فيه. وأما الاستحقار: فهو أن يظهر من حال الشيء قولا أو فعلا أنه لا يستحق الاعتناء به، والالتفات إلى كرامته، وأنه لا يخاف شره ولا يرجى خيره. وينحصر في ثلثة أقسام هي: الاستهانة، والعنت، والشتيمة. والاستهانة: إظهار ما يدل على دناءة المستهان به. والعنت: هو التعرض له عند ما يحاول حركة أو سكونا بإرادته ليصد عن ذلك لا لغرض إلا للالتذاذ بضجره أو حيرته. وهذا لا يفعل إلا بمن يعد غير معتد برضاه ولا سخطه، كأنه لا يرجى ولا يتقى.
وأما كيفية الإضرار بالشتيمة وأنه لا يصدر إلاعن استحقار فهما ظاهران لا يحتاج إلى كشفهما. والشتم أيضاً مما يلتذ له الشاتم لما يتخيله عندما يشتم من الغلبة، وما يتوهم عند نفسه من سبقه المشتوم في الفضيلة لبراءته عما قذفه به من المثلبة. والأحداث والمثرون شتامون فحاشون لهذا السبب. والطنز تركيب من العنت والاستخفاف، أو العنت والشتيمة، على ما يشرح في موضعه.
(2/220)
وأقل الناس احتمالا للمخرجات وحلما عند لذع المغضبات من يرى لنفسه فضلا بحسبه، أو قوته، أو فضيلة فيه، أو سلطان، والمتنعمون، ومن يتوقع إكراما وإنعاما فيخفق، أو يتلقى ممن يتوقع ذلك عنده استخفافاً وهواناً في نفسه أو ذويه بقصد من الآخر. والمشغول بألم في بدنه أو مقاساة أذى من غيره أو مصائب فجعته أو نوائب فدحته مستعد للغضب من أدنى مغضب. ولذلك من منى بالعسرة، أو قصر عن مشتاق إليه من الأغراض فإنه لا يتفرغ للشهوة واللذة، ويضطرب عند عارض الغضب. وقد يسرع إلى الإنسان الغضب على من يتهاون بعارض له من ألم بدني أو نفساني، أو بما يهمه من استخبار حال أو مزاولة قتال، أو يتهاون بحقه من الصداقة. وكذلك المخفق في أمله، فإنه تعرض استشاطته غضبا على من حرمه أمله، وعلى غيره. ومن جنس الشتيمة والاستهانة تحقير ما يؤثره أهل الاجتهاد في العبادة والفضيلة، أو في تعليم أهل الاجتهاد الحكمة وتعلمها، وترذيله. فإن الجمهور كثيرا ما يتطانزون بهؤلاء لقصور أوهامهم عن إدراك المنفعة فيما يدأبون فيه، فينسبوهم إلى أنهم متشحطون فيما لا منفعة فيه، ولا قوة منفعة. فإذا فطن المجتهد والمتعلم لصنيعهم امتعض وارتمض. لكن العامي أيضاً آخر الأمر فقد تحوجه الأحوال إلى ترضى الأمناء والفضلاء فيما يتوقعونه من حسن قيامهم على الودائع، وحسن توسطهم في الأمور، بما يعرفه العامي من تدينهم بإحسان المعونة من الافتقار إلى عدالتهم في باب الشهادات التي لا بد منها في المعاملات، فحينئذ يتألفونهم ويستعطفون قلوبهم، ويرون في استيحائهم منهم خسرانا ووضيعة.
ومن المغضبات: قطع العادة في الإحسان، والقعود عن جزاء الجميل بالجميل. فكيف إذا ساء المجازاة، وقوبل الجسيم من النعمة بالسيئة أو بالكفران، أو باستخساس ما أسدى من الإحسان وإيقاعه موقع القاصر عن الاستحقاق. فبعض هذه الوجوه خسيسة وهو قطع العادة، وبعضه أخس وهو القعود عن الجزاء، وبعضه لا كلام في قبحه وهو سوء الجزاء. وقد يغضب المرء على صديقه، إذا استحل السكوت عن الجميل في بابه، إذا أصابه بأساء فهانت عليه، ولم يمتعض له، ولم يحسن مشاركته إياه فيها؛ أو أصابته فاقة، وبه سده، فلم يرتج له. وكذلك إن كان مكانه أهل عنايته، ومن يهمه أمره. وذلك لأن هذا كله دليل على الاستهانة.
وأصناف الاستهانات الموجبة للعتب،: الاستهانة بالمر نفسه، والاستهانة بمن يكرمه، والاستهانة بمن يتعجب المرء، والاستهانة بما يجلب فضيحة على الصديق. ومن هذه الأصناف: غضب الوالد على أولاده، والمتسلطة على زوجها.
والبخس في كل مستحق هو من الاستهانة. وكذلك تلقى جد الجاد بالهزل. والتخصيص بالحرمان من يبن الأشكال. وتناسي الصديق حتى يمحو اسمه أو قصته عن الذكر. فقد استقصى شرح ما يتعلق بالغضب.
(2/221)
فلننتقل إلى شرح الحال في ضده: وهو فتور الغضب. وإنما يفتر عمن لم يقصد الاستهانة بالمنة، يل سها أو غلط؛ وعمن يتعدى الإغضاب إلى العذاب، فيشغل الألم عن الحرد؛ وعن الذي يعامل نفسه بما عاملك به؛ وعن المعترف والمستغفر بالتوبة. كما أن المصر على الإنكار والجحد لوقاحة أو لاستخفاف فإنه يؤهل لمزيد الغضب على ما كان عليه من الغضب. وعن المتخاشع المتذلل المستكين المتساكت الذي لا يعتصم باللجاج والحجاج، ويستنبت السكون من الاعتراف المخجل. وقد تجد الكلاب المتهرشة، إذا أولعت بالحمل على عدة، فقعد بعضهم، واستعجل بعضهم كأنه يجالدها، كفت عن المستخذي بالقعود، وحملت على المجالد. وقد يفتر الغضب عن القوم الهشاش جدا. فإن الأريحية التي تتوسم فيهم لمفراحيتهم تحيل النفس إلى مثلها في بابهم، كأن الهشاشة إحسان يقتضي جزاء. وكذلك الفقراء الذين بأحوالهم ضر؛ وكذلك المستغفرون المحتجزون؛ وكذلك المشاهير بكف الأذى، وغض الطرف، وقصر اللسان، فإنهم يحتمل عنهم بوادرهم ونوادرهم. وكذلك المهيبون والمستحيي منهم؛ فإن الغضب لا يجامع المهابة، ولا الخجل. والاستهانة، إذا صدرت عن محتشم، ظنت نتيجة سخطه، فلم تعتقد استهانة محضة، بل اعتقدت تأديبا وتثقيفا، وعد تأهيله للغضب عليه مضادا لاحتقاره. فإن البالغ في السقوط لا يسف إليه السخط، ولا يعتري منه الحزن، ولا الأذى المستشعر مع استشعار استهانته. وكذلك الاستهانة التي تكون في حال المزاح، فإنها تدل على التذاذ المستهين بمحاورة المستهان به، ومخالطته؛ وذلك لعزه لا لحقارته. والملهو به فقد لا يغضب لرجائه الخير ممن يلهو به. وكذلك إذا أتى بفعل مغضب مشوبا بسد خصاصة، وإسداء معروف. وإذا طال الزمان على المعنى المغصب انمحق أثره، فلم يغضب، أو فتر عنه الغضب. ومما يسكن الغضب. الظفر، وإدراك الثأر، وانصباب عذاب على المغضبين، ولو من السماء. والعازف بزلته وجنايته، الواقف باعتباره على خطيئته، المتحقق لا ستحقاقه ما يجري عليه من الاحتقار، فإنه لا يحرد في التعنيف به حرد المصر على الإنكار، وخصوصا إذا عوقب أولا بالكلام؛ وذلك أن يواقف على سوء صنيعه، ويوبخ عليه. وإنما يغضب في مثل هذه الحالة من الناس من هو غال في الزعارة. ومما يسقط الموجدة على المسيء جهله بالإساءة، وغفلته عن الفرقان بين الجميل والقبيح. وإن هلاك المغضب ولحقوه بالدار الآخرة لمما يسل السخيمة عن القلوب، فضلا عن الغضب.
فصل
الفصل الثاني
في أنواع الصداقة والأمن
والخوف والشجاعة والجبن
(2/222)
الصداقة حالة الإنسان من حيث يهوى الخير لإنسان آخر، لأجل ذلك الآخر، لا لأجل نفسه. فتكون له ملكة داعية إلى فعل الخير لذلك الآخر. والصديق هو الذي يحب ويحب معا، ويشارك في السراء والضراء، لأجل صديقه، لا لأجل نفسه. وإنما يظهر صدق الصداقة عند الارتياح لما يسر الصديق والاغتمام لما يسوءه. لأن العدو بالضد. والمحببون إليك من الناس هم المحسنون إما إليك، أو إلى من منك بسبب، وخصوصا إذا توالى الجسيم من إحسانهم عن طيب نفس، وطلاقة، من غير استثقال. وكذلك الذين يرتجى مثل ذلك فيهم. وكذلك حبيب الحبيب، وعدو العدو الذي يبغض العدو، أو يبغضه العدو. والذين يطمعون غيرهم ولا يطمعون، مثل الأسخياء والشجعاء والأبرار. والذين يقتنعون بما يكسبونه بكد أنفسهم، ويحسمون مواد الأطماع عن غيرهم، مثل الذين يتعيشون بغنائم الأعداء. وكذلك سلماء الصدور محببون، لكفهم الأذى وإيمانهم الناس غوائلهم. وكذلك ذوو الفضائل الذين يستغنون عن الآخرين، ولا يقدم أحد على إكرامهم إلا بالاستئذان، ويستشعر من يبرهم منة جسيمة حين يجاب إلى القبول. وكذلك الظرفاء الألذاذ في عشرتهم لما يتوقع من مساهلتهم، ومساعدتهم، ولمهم الإنسان على شعثه، وقلة معاتبتهم على التقصير، وشدة أمان الأصدقاء توبيخهم على التفريط. وأضداد هؤلاء هم الصخابون، المعاسرون، العدال. وإن كان ليس كله للنكد، بل وللشفقة. ومنهم الصلاب، المحتملون لأنواع العقوبة، المصطبرون عليها؛ فإنهم إنما يفعلون ذلك لشراسة أخلاقهم. ومن المحبوبين: المداحون المتملقون، والمتجملون الحسنو البزة، والذين لا يعيرون، ولا يعاسرون، ولا يربون الوغر في الصدور، ويمقتون اللجاج فإنهم إذا جرت عادتهم هذه في الناس، رجا كل إنسان منهم مثل ذلك مع نفسه. وكذلك الذين يملكون ألسنتهم فلا يهجرون ولا يفيضون في ذكر الشر. ولمثل هذه العلة ما تنحل عقدة الموجدة، إذا تلقيت بالسكون والاستخذاء. والشريك في الحرفة والعادة. والذي يظن بالإنسان فضيلة أو تعجبيا ويأنس به هو محبب عند المظنون به. وكذلك المكرمون المبجلون. وكذلك من تود أن لو حسدك من غير تعديه إلى تربص غيلة بك؛ فإنك لو لم تعتد به، لم هو حسده لك، والمعتد به، إذا أمن شره، فهو معرض للمحبة. وكذلك من تحب أن يحبك. ومن المحبين أيضاً من يبذل مودته للداني والقاصي من غير تملق وتصنع. ومن المحبين من يوثق بحسن كتمانه لما يقف عليه من مساوئ الإنسان. ولذلك فإن الوقاح يحب الحي، لأنه يأمنه.
فأما أنواع الصداقة فثلثة: أولاها الصحبة، وهي حالة تتأكد بين اثنين لطول التشاهد؛ وثانيها الأنس، وهو الالتذاذ بالالتقاء؛ وثالثها الوصلة، وهي المشاركة، إما في القرابة كالمصاهرة، وإما في النعمة كالمهاداة.
وأما العداوة فيوقف على أحوالها من أحوال الصداقة، على مقتضى المقابلة. ومن أسباب العداوة والبغض: الغضب. لكن الغضب لا يكون إلا على شخص، والبغض قد يكون للنوع، وما يشبه النوع، كبغضك للسارق على الإطلاق. فمن هذه الأنواع يمكن أن نبين أن فلانا صديق وفلانا عدو، ومنها يمكن أن تقرر في نفس الحاكم والسامعين على سبيل الاستدراج عداوة للخصم وغضبا عليه، ومحبة للمتكلم وميلا إليه.
(2/223)
فأما الخوف، فهو حزن واختلاط نفس، لتخيل شر متوقع ناهك يبلغ الإفساد أو لا يبلغه. فإنه ليس كل شر يخاف. فإن الحسد وكون الإنسان فاجرا مما لا يخاف. إنما يخاف من الشر ما ينهك من يحله بإفساد أو إيلام، ويكون في المستقبل. فأما الذي انقرض، أو الذي حل، فقد بطل الخوف عنه. ويكون - مع كونه في المستقبل - متوقعا، أي قريب الوقوع. فإن المستبعد لا يخاف. ولهذا لا يخاف كل إنسان المو، بل إنما يخافه الذي شارفه. فالمخوفون إذاً هم الذين يقتدرون على مثل هذا الضرر. وركوب الخطر هو الحركة نحو مقاربة الضرر أو الثبات بقربه. ومما يوجب الخوف الاعتبار، وهو مشاهدة مثل ذلك الضرر وقد حل بآخر. ومن صدر عنه ذلك مخوف، ومن جرب بالأضرار مراراً فهو مخوف. والمقتدر الذي لا يدافع إلا بالاستغفار مخوف، وإن لم يقدم على ضرر، وخصوصاً إذا كان مع ذلك ظالماً. والمغافص - بخلاف المظنون - يخاف من غافصه به. وهذا المغافص، ما لم يرجه، مخوف عند مغافصه. والمقتدر على المنازعة فيما لا يحتمل الشركة، كالملك، مخوف. والأعلى يداً مخوف، وخصوصاً إذا شعر بقصد منه. والذين يخافهم من هو أفضل فهو مخوف عند الأدون. وأصدقاء المظلومين. والأعداء. والمسارعون إلى الإضرار بك. والمتأنون من الدهاة، فإنهم أبلغ نكاية من المتسرعين، وهؤلاء هم الذين لا يوقف على نياتهم بسرعة، ولا يملون طول مزاولة العداوة. ومن الأمور المخوفة ما لا يسهل تداركه بمنعه، أو مقابلته بضده، وما لا ناصر له على مدافعته. فأما المستعد لأن يخاف، وهو الذي به أحد هذه الأحوال، فهو متوقع لضرر مطل، ولا ناصر له، ولا حيلة. والذين لا يخافون هم المثرون، المتمكنون من العدد والأعوان. ولذلك ما تراهم شتامين، صخابين، مستخفين بالناس، مستعلين؛ وخصوصاً في سن الشباب وصحة البدن وقوته، ووفور الشيعة، وكثافة الرفقة. والالتجاء إلى المشورة من علامات الخوف.
فمن أراد أن يثبت خوفا، أو يقرره في نفس أو وهم، فليتأمل شيئاً شيئاً مما قلناه، وليتخذه موضعا.
(2/224)
فأما الشجاعة: فهي ملكة يكون بها الإنسان حسن الرجاء للخلاص، ومستبعداً لوقوع المكروه. وكأن المكروه عند الشجاع غير موجود، أو بعيد. وكل ذلك له من جهة اعتقاده بأن أسباب الخلاص قريبة؛ ومن جهة حسن ظنه بالتمكن من تقويم الشر المتوقع، وقوة استشعار نفسه التمكن من إحلاله النكير بالقرن المبارز. ثم كثرة الأنصار وقوتهم معاً، ثم البراءة عن الظلم وقلة احتماله معاً، إذا اجتمعا، شجعا الإنسان. فإنه من حيث لم يظلم حسن الظن، ومن حيث لا يحتمل الظلم جرئ على المدافعة. فإنه لا يمكن أن يقدم على المجاهدة وما به منه بدن أو نفس. فأما إذا كانت هناك قوة، وكان الآخر يجري منه مجرى الصديق، وكان مبرأ عن توجه الضيم منه إليه، بل لم يزل مخصوصاً بالإحسان منه به، إما في فعل، أو انفعال - أما الفعل فمثل المعونة بالمال، وأما الانفعال فمثل مقاساة الشدائد فيما يعود على الصديق بالمصالح - فإن مثل هذا الإنسان شديد التشجع على من يؤذيه من أصدقائه الذين حاله إليهم ما اقتصصناه. ثم المستند بخلال الشرف في النسب، والفضل في الحسب، أو باجتماعهما، جريء مقدام، لاستحقاره من دونه. والأمور التي يشجع عليها هي الأمور التي لا تبلغ الإتلاف، ويتوقع فيها التلافى. والأمور المكابدة مراراً عن خلاص، فإن المجرب من المخاوف المكابدة ربما جرأ عليها قوماً، وربما جبن عنها قوماً. وما لم يجرب مشجوع عليه أيضاً حين لا يتخيل عقباه. وقد يشجع على المخوف المجرب، إذا صودف فيه سند يعول على كفايته، كم يشجع على ركوب البحر مستنيماً إلى الربان الحصيف. وقد يشجع على المخوف معرفة الإنسان بخلاص طائفة قاسوه عنه، وإن لم يخضه الإنسان بنفسه. وإذا كان المدبر تحت تدبير غيره يرى أنه أفضل وأولى بالرتبة السنية منه، شجع عليه. وكذلك إن رأى نفسه نظيراً له. فأما كان المستعلى أفضل وأولى بوفور ماله، أو قوة بطشه، أو كثافة أنصاره وزحامة بلده وكثرة عدده، أو في بعض ما هو خطير من جملة ذلك، فإنه يكون حينئذ مخوفاً مهيباً. وإذا كان المستعلى عليه حسن السيرة، متمهد الحال فيما بينه وبين الله، كان أيضاً قليل الاكتراث بالمتغلب عليه. وكذلك إذا كان العقلاء والفقهاء والخطباء يحسنون به الظن، ويشهدون له بالستر، فإنهم لا يكترثون بالمتغلبين. ومن المشجعات اشتعال الغضب؛ فإنه إذا حمى، شجع الجبان، وقوى الخوار، وأخرج الإنسان إلى جانب الإقدام. ومما يوجب مثل هذا الغضب ظلم يقع على البرئ، فإنه يحسن ظنه بصرة الله إياه. وكذلك الثقة بأمن غائلة الإقدام، أو بزيادة المنفعة فيه على المضرة، أو اعتراضها للتلافى.
فصل
الفصل الثالث
في أنواع الاستحياء وغير الاستحياء والمنة
فلنتكلم في الخجل وفي الافتضاح وفي أسبابهما:
(2/225)
إن الخجل والاستحياء حزن واختلاط بسبب شر يصير به الإنسان مذموما، سواء سلف وقوعه، أو حضر، أو يتوقع. والوقاحة خلق يحتقر معه الإنسان فوات الحمد، ويستهين بانتشار الذم. فتكون الفاضحات هي الشرور التي بهذه الصفة، مثل الفرار من الزحف، والتكشف عن السلاح جبنا، ومثل التعرض للوديعة بالخفر، ومثل ارتكاب الظلم، وكذلك معاشرة الفساق ومداخلتهم في مواضع الريبة، والحرص على المحقرات والإسفاف للدنيات مثل سلب المسكين والنبش عن كفن الميت، والتقتير مع اليسار، ومسئلة المعسرين، والاستسلاف حيث يقبح، ومعارضة المستميح بالاستماحة، ومقابلة المجتدي بالتقاضي، فيتقاضى إذا استميح، ويستميح إذا تقوضي. ومن ذلك المدح للطمع، والذم عند الإخفاق، فيكون متملقا يفرط في نشر فضائل إنسان ما خارجا عن الواجب، ومتظاهرا باغتمام لما يغم الآخر فوق المضمر في النفس. ومن الفضائح الجزع على اليسير من الوجع أو الضر جزع المشايخ، أو الكسالى، أو المتسلطين، أو الضعفاء وكذلك تعيير المحسنين بأفعالهم أو انفعالاتهم، فإن ذلك قبيح وفضول، لأن ذلك علامة صغر النفس. وكذلك مدح النفس بالكذب والصلف وانتحال ما أظهره غيره من أثر، فإن هذا من علامات الزهو. ومن المستهجنين من يجري مجرى هؤلاء، وإن لم يأت مأتاهم. والذي يجري مجراهم هو من يرضى برضاهم، ويدخل في مشورتهم، ويميل إلى عشرتهم. ومن المخازي انفعالات يتلقاها الإنسان في نفسه وذويه بالإذعان، مثل رضى الإنسان بالاستهزاء به ومحاكاته للأمور الخسيسة وتعريضه أعضاءه لمعاملات فاحشة، وصبره على الشر الواقع به بإرادته وغير إرادته، لحرصه وجشعه وتوقعه حلوانا عليه. وكثير من الصبر جبن لا شجاعة، وذلك مثل القعود عن الثأر وما يجري مجراه. ثم الافتضاح أو الخزاية في الجملة فإنه يوهم لفوات الحمد وحلول الذم وانطلاق الألسنة فيه بالذم عند من يعبأ به.
وأما فوت الحمد عند المجانين والصبيان فأمر لا يستحيي منه. فالمستحيي منهم هم الذين يتعجب منهم، أو يتعجبون هم من المستحيي، ومن يؤثر المستحيي أن يكون عجيبا عنده أو مكرما لديه، ويكون معتدا بما يناله من حمده، وذلك من إيثاره تعجبه منه، أو يكون محتاجا إليه، أو يكون مادحا له، أو يكون نظيرا له. فربما توخى من الوجه إلى النظير ما لم يتوخ إلى غيره. أو يكون المستحيي منه حصيفا معروفا بأصالة الرأي، أو شيخا، أو أديبا. وفضح العيان أشد من فضح الأثر، وفضح الجهر أشد من فضح السر. والفضيحة عند الأقربين والمصاحبين أعظم من الفضيحة عند الأبعدين والمهجورين. والفضيحة عند الذين لا يحلون منه محل المقومين والمؤدبين أعظم من الفضيحة عند القائمين مقام المقومين والمؤدبين. فإن الإنسان كالمتكشف لمن لا يحله محل المؤدب، ولمن استرسل إليه، وكالمنقبض عمن يحله ذلك المحل، ولا يبوح إليه بنيات صدره وخفيات سره، ويكره أن يقف هو على خطائه، صرح له به، أو لم يصرح، كان ذلك حقا، أو كان باطلا، بعد أن يكون هناك توهم. وليس كل ذي معرفة يسترسل إليه، فكثير من المتعرفين بالمودة هم قاعدون للعثرات بالمرصد، وموكلون باستقراء المساوئ. والفضيحة عند أمثالهم أعظم فضيحة. وأمثال هؤلاء، فليس إنما يستحيي منهم لأنهم في أنفسهم أهل الاستحياء، بل لإذاعتهم ما يستحيي منه، حتى يبلغ من يستحيي منهم. وهؤلاء هم المستهزئون بالصداقات، والمشاجرون للمعارف. وقد يستحيي ممن لم يزل معظما للإنسان، لم يمتهنه باستهانة، كما يستحيي من المتعجب من الإنسان، ومن المرغوب في استئناف صداقته واستمداد مواصلته، ومن الذي سيصار إلى الإلتقاء به. والمعارف القدماء الذين لم يستعثروا الإنسان فيما سلف. وليس إنما يستحيي فقط من العمل الفاضح والكسب الفاحش، بل من دلائله وعلاماته، بل ومن النطق به.
وأما من لا يستحيي منه فالخلص من الإخوان، والمستخف بهم من الغاغة المجرون مجرى البهائم والأطفال، والغرباء الذين لا معرفة بينهم. فإن الاستحياء من المعارف بالحقيقة، ومن الأجانب على سبيل الظن.
ولا يحتاج أن يكرر القول في ذكر ما يشتد الاستحياء منه.
(2/226)
وإذ قلنا في الحياء والوقاحة، فلنقل في شكر المنة وكفرانها، فإنه متصل بذلك. والمنة هو الأمر الذي به يسمى الإنسان ممتنا، وهو الأمر النافع الذي إذا وجد من إنسان عند إنسان وجب أن يصير له الإنسان الآخر شاكرا، أو طائعا، أو أكثر شكرا، أو أطوع نفسا. وكل منة: فإما بخدمة، أي بفعل بدني نفاع، وإما بصنيعة، أي بإعطاء جوهر ينتفع به، اللتين لولا المعطي، لما كان الانتفاع به نفسه ممكنا مستطاعا. وإنما يكون مثل هذه الخدمة والصنيعة منة، إذا لم يرد بها غير نفس المصطنع إليه. والمنة العظيمة ما توافي اشتداد الحاجة، أو تكون في وقت تعسر المعونة بمثله فيه؛ أو يكون المان منفردا بالمن به، لم ينشط به غيره؛ أو يكون أول من أنعم، فأنشط غيره، ويكون أكثر إنعاما به. والحاجة، إما مشتهى يشتاق حصوله، أو مشتهى يحزن فراقه، كالمعشوق. وخصوصا ما يشتهى في الشديدة، إما لأنه يدفع الشديدة، وإما لأن الرغبة فيه بحيث لا تسقطها الكآبة والحزن بالشديدة. وموقع المنة عند الممنونين بالفاقة، والمدفوعين إلى الخصاصة أعظم. وكذلك عند الممحونين والمتوارين والمستخفين عن أعداء وأضداد، ولمن يجري مجراهم، وعند من هو أسوأ حالا منهم. وأعظم الناس منا من لم يرد بالإنعام ذكرا، ولا بستر الصنيعة نشرا، فإن ستر الاصطناع تهنئة، كما أن إذاعته تنغيص. فهذا ما يحتج به في توكيد المنة.
ومما يحتج به في إبطالها وتحقيرها أن يقول: ما أردت باصطناعك إلا عرضا استنفعته، وإنك لم تتمم النعمة، وقصرت عن الواجب في مثله عليك، إذ لم تطبق به مفصل الحاجة، وألزمت قبولها عند القنية، فإنك لم تصنع بقصد، بل لاتفاق أو ضرورة، أو لرغبة في مجازاة، أو من غير علم ولا إرادة. فإن ذلك كله مما تتضاءل معه المنة. وإذا كانت من أجل الضرورة، قلت معها المنة. وقد تكون مع الضرورة إرادة، فتكون الإرادة قسرية، وهو أن يلجأ إلى اختيار الإنعام. وقد تكون من غير إرادة فيه، وهو أن يكون المضطر يؤخذ منه ماله، ويبذل غيره، وكذلك تكون مع علم، ومن غير علم.
وهذه الأنواع نافعة في الشكاية والاعتذار. والعلامات المحققة لتهنئة المنة وتأكيدها أن يكون صدورها عن إرادة ومحبة، وأن لا يكون فيها تقصير، وأن لا يكون مثل ذلك قد صدر منهم إلى أعداء الممتن. فإنه إذا اشترك في النمة العدوان معا، دل على ضرورة دعا إلى ذلك الإحسان. وكذلك إذا اصطنع المان مثله إلى عدو نفسه. وكذلك إذا لم يكن أحسن إلى من هو في مثل استحقاق الممنون عليه أو فوقه. فإن ذلك يدل على أن المنة لم تصدر عن سماحة. فإنه لو كان إحسانه إحسان مرتاد للمنة والقربة لما كان حكم العدو فيه حكمه، ولما كان المستحق الآخر يقصر عنه مثله. وكذلك إن كانت المنة مشوبة بشر ينقصها. فحينئذ لا يكون الغرض بالمنة مطابقة الحاجة.
والاعتراف بالمنة يقتضي اعترافا بالحاجة، ولا يعترف أحد بحاجة إلى الشر.
فصل
الفصل الرابع
في أنواع الاهتمام بالمرء
والشفقة عليه والحسد والنقمةوالغيرة والحمية والاستخفاف
فلنذكر الآن الاهتمام بالغير، وهو قريب من الشفقة أو شغل القلب بالإنسان على سبيل العناية، ومن الذي يهتم له. والاهتمام أذى يعتري الإنسان لشيء مفسد أو حازن يعرض لإنسان آخر من غير استيجاب، ومن غير توقع. والمهتم هو الذي به مثل هذا الأذى لما عرض لإنسان آخر، أو المتصل به من ذلك. وأما الهالكون فلا يهتم لما وقع لهم، لأن ما عرض لهم يبعد أن يقال فيه إنه غير متوقع. وكذلك سعداء البخت لا يهتم لهم، لأنهم لا يظن بهم سوء، ولحوق شر. والذين لا يهتمون، ولا يبالون، فهم المتدربون بمقاساة الشرور للسن، أو لكثرة التجارب. والمخلدون إلى الإقبال وأنفسهم طيبة لا تستوحش لحال. والمشهورون بالاعتلاء والنمو. والمتأدبون الذين يغلب عليهم حسن الظن. والذين جرت الأمور على محاب أسلافهم، وعلى محابهم أنفسهم. والمنفعلون بأعراض الشجاعة، كالغضاب والقساة. وكذلك المستهينون والشتامون، فإنه لا هؤلاء يهتمون، ولا مقابلوهم من الخائفين الأرقاء المكروبين الأشقياء، فإنهم بهم ما يشغلهم عن الاهتمام لغيرهم؛ بل إنما يهتم المتوسطون بين ذلك. ولا يهتم بالخاملين المحتقرين فإنهم في عداد المعدومين. ولذلك فإن الجبابرة لا يهتمون بأحد تقديرا منهم أنه ليس غيرهم أحد.
(2/227)
وأما الأسباب التي لأجلها يهتم فقد يوقف عليها من حد الاهتمام. وهذه الأسباب مثل المهلك من العذاب والأوجاع والجهد والكبر والسقم والخصاصة وسوء البخت وعدم الأنصار، وخصوصا إذا طرأ الشر من متوقع منه الخير، وإذا خلا الشر عن خلط الخير، أو يكون الاستمناع بخلطه قد انقرض وقته.
والمهتم لهم هم المعارف والشركاء والحرفاء. فأما من هو من الإنسان كنفسه، وهو الولد، فلا يقال إن الإنسان يهتم للأذى يصيبه، كما لا يقال إنه يهتم للأذى يصيب نفسه. فلا يقال إن الإنسان يشفق على نفسه، ويعتني بنفسه، بل ذلك شدة خوف، لا عناية وشفقة. ولهذا ما حكى عن واحد أنه لم تدمع عينه عند إشفاء ولده على التلف، ورأى صديقا له قد فضحته الفاقة، فبكى له. والشدة تنسي الشفقة، وتسلي عن العناية بالغير. ومن المهتم لهم الأشكال في الأسنان، وهم الأقران، والأشكال في الأخلاق والهمم والمراتب وإيثار الجميل. وكل ما يخاف وقوعه بالإنسان فهو الذي يهمه إذا حل بالإخوان. ولذلك لا يهتم للمتقادم، ولا للمتراخي. وممن يهتم له المتشكل بشكل المظلوم، والمعذب، والممنو والممحون، وإن لم يشاهد ما قدمناه ولا يحقق ما محنته. فإن هيئته تخيل حالته، فيكون المشاهد من هيئته كالمشاهد من حاله. وقد تهم أيضاً علامات الآفات إذا دلت على وقوعها، وإن لم تقع بعد. ولهذا المعنى قد يهم امتحان غير المستحق. وكأن هذا الحزن مضاد، أي مقابل مقابلة ما، للحزن الذي يعتري للنجح بلا استحقاق، وهو الذي يسمى في هذا الكتاب جزعاً، وإن لم يكن تضاداً حقيقياً.
فإن مصدر كل واحد منهما عن خلق كريم. والجامع من ذلك صيرورة كل منهما إلى غير مستحقه من خير أو شر. ووقوع ما لا يستحق يغم بالحق، وأما إذا لم يكن لذلك سبب معلوم، بل كان واقعاً على مجرى للقضاء والقدر، فالحزن في ذلك متوسط. فإنه لا يبعد أن يقول القائل: إنه لم يقض له الخير الذي أتاه عفواً إلا عن استحقاق، ولا قضى عليه الشر الذي أتاه بغتة إلا عن استيجاب، فيقل الحزن لذلك، وإن كان لا يجب زواله دفعة أو جملة. فإن القضاء والقدر ليسا مقصورين على الاستحقاق فقط، وإن كانا موهمين إياه، بل المشهزر أن أمر القضاء والقدر مشكل موكول إلى الله.
وقيل في التعليم الأول: فأما الذين يصيرون إلى ذلك بلا حتم أو قضاء. يشبه أن تكون لفظة (لا) قد وقعت زائدة سهواً من الناقلين أو غيرهم، أو يشبه أن يكون معناه بلا حتم من الكاسبين، ولا تقدير منهم؛ فيكون كأنه قال: بلا توقع من الناس وتقدير.
(2/228)
ومما يضاد الاهتمام والجزع المذكورين: الحسد. فإن الاهتمام هو أذى يعترى لشر يبصيب الإنسان؛ إنما يعترى لأنه غير مستحق، ولأجل ذلك الإنسان. والحسد هو أذى يعتريه لخير يصيب من يستحقه، لأجل أنه أصابه. فأما الجزع المذكور فهو كالوسط بينهما. فإن الجزع أقرب إلى الاهتمام. وإذ هو أقرب من الاهتمام فهو كالضد للحسد. ولا يجب أن يناقش أيضاً في الأضداد، مطالبة أن يورد على الحقائق، دون المظنونات. فقد قيل في هذا مما هو سد لهذا الباب. والحسد، إنما يكون حسداً، إذا كان الغم فيه بسبب أن الخير أصاب الغير. وأما إذا كان الغم ليس لهذا، بل بسبب قصور مثله عن المغتم، فهذا ليس حسداً. وهو أمر قريب من الواجب، ولاتنفك عنه الطبائع. فإن كل انسان يغتم لما يفوته من العطاء والرزق الذي من شأنه أن يوجد لغيره. وكذلك إذا كان الغم بسبب خوف يعتري الإنسان من إنجاح العدو، يقدر معه أن إنجاحه يبسط له في القدرة، فيمكنه من أفعال المعاداة. وههنا فرح يصيب الإنسان لشر يعرض للمستحقين، كالذين يقتلون الناس ويعفون الآثار ويعيثون في الأرض ساعين بالفساد؛ وفرح آخر بإخفاق المستحق وسوء حال المحسن؛ وهما متضادان: أحدهما يصدر عن فضيلة، والآخر عن رذيلة. وحزنان: حزن يعرض لحسن حال المستحق، لأجل حسن حاله، وهو الحسد؛ وحزن يعرض لحسن حال من لا يستحق - لأنه لا يستحق - وهو المناقمة والغيظ؛ وهما متضادان: أحدهما عن رذيلة، والآخر عن فضيلة. فهذه تركيبات مختلفة من الحزن والفرح، والخير والشر، والاستئهال وغير الاستئهال. والحاسد يحسد في كل خير، حى في الحسن والجمال وغير ذلك. وأما الناقم فليس يحسد في الفضائل، لأنه لا معنى لاستشعاره وجود فضيلة بلا استحقاق. فإن غير الفاضل لا ينال الفضيلة. بل إنما ينقم للخيرات الخارجة. فإن غير الفاضل لا يستحقها، وغير الفاضل ينالها، وإنما يستحقها الأخيار. وكذلك لا ينقم في الخيرات الواقعة في الطبع كالحسن واجمال، ولا في الخيرات الموروثة التي لم تستحدث، فإن ذلك يرى كالحق الواجب. وكذلك إذا كان المستحدث للخيرات سلطاناً ومتبعاً؛ فإنه، وإن لم يستأهلها بالفضيلة، فكأنه استأهلها قديماً للسلطان والمكنة. فيكون بعضهم لا ينقم عليه لأنه في عداد من كان يملك قديماً، وإن استحدث؛ وبعضهم لأنه لم يستحدث، بل هو له كالحق.
(2/229)
وليس أيضاً مبلغ الاستحقاق في الجميع واحداً، ولا كل إنسان مستحقاً لكل خير، بل كل إنسان يليق به خير ما، ينقم إن فاته. فإن الناسك غير مستحق للمعتقد جمالاً وخيراً من زينة التلبيس والتسلح. وكذلك فإن الاستكثار من السرايا وما يجري مجراه لا يليق بمستطرق اليسار. فإن المستطرف يليق به أن يتشبه بعد بمن حاله حال الفقير إلى أن يؤنس بيساره. وكذلك الحقير لا يسأهل ظفراً بالنبيه، وخصوصاً إذا كانا في مذهب واحد. ولهذا صار أمثال هذه الأحوال مما يعد من آثار القدر، وليس من آثار القدر. ولولا ذلك لما استولى العاجز على القادر، ولا استهان مثل المغنى بالناسك. والأمور المنسوبة من هذا الباب إلى القدر اثنان: أحدهما أن يفوز من لا استحقاق له بالخطر العظيم، والثاني أن يقصر المستحق الفاضل عن مستحقه. وإنما تشتد نقمة الناقم على أمثالهما، إذا كان هو نفسه محباً للكرامة. وإن محب الكرامة أنظر إلى الاستئهال، وضده. ولهذا السبب يكون القنوع بالدنية، والمستند إلى المخادعة التي يرجى عيشه بها، ولا يلتفت إلى المذمة، غير ناقم؛ لأنهم لا يلتفتون إلى الاستيجاب. والمحسدون هم الذين أصابهم خير، وهم مع ذلك من جنس الحساد. فإن المباين في الجنس كأنه لا يحسد؛ وكذلك المباين في النسب، أو السن، أو الحرفة، أو المرتبة، أو الثروة. فإنه إذا بعد ما بين الدرجات، نام الحسد. فإن لم يكونوا متساوى الدرج في المعنى الجامع، ولكن كانوا متقاربيها، فإنهم يتحاسدون أيضاً. والحاسد هو القاصر عن الغاية، وإن كان مقارباً فيها. ولهذا ما يكثر الحسد من المتمكنين. فإن الذي يعلم، هو أحسد العالم من الذي لا يعلم. والذي يفعل العظائم هو أحسد لمن يفوقه فيها ممن لا ينهض إليها البتة. فإنه لا بد من مشاكلة أو مقاربة. وأشدهم حسداً محبو الكرامة، وبالجملة: محبو الحمد، لما قلناه. وكذلك المتجملون بالرقيق والأموال. فإن التجمل لتحمد. وكذلك في كل شيء مستحسن حسد مرصد، وخصوصاً إذا كان المستحسن مما ينزع إليه الحاسد. وأنت تعلم من هذا أنه من المحسود. ولا يحتاج الى تكرير ذكره مما جرى.
وأما الذين لا يحسدهم الناس: فالذاهبون الأولون من القرون، والهالكون، والبعداء في المكان المنقطع عنهم، كالساكنين عند منار هرقلس، فلا يحسدهم أحد من هذه البلاد. والمستقصون جدا، والفائقون جدا، الذين لا يقاربون، بل إنما يحسد من يصلح أن يكون منازعا، ويصلح أن يشارك في الهوى والإرادة. ويكون الخير المحسود عليه مما يتوقعه الحاسد، أو كان له مرة. ولذلك ما كان أكبر الغلامين يحسد أصغرهما إذا أفلح، إذ كان له فيما أفلح حق، وكان له أن يكتسبه. وكذلك المبذر يحسد المصلح. وكذلك الذي لا يدرك الخير إلا بجهده يحسد من تيسر له إدراك الخيرات. وبالجملة: إذا كان يرى نفسه أهلا لمثل ما سبق إلى غيره. فأما إذا تباينت المراتب، لم يكن حسد.
فبهذه الأنواع يقتدر الخطيب على التنقيم، والتحسيد، والتأسيف، والاهتمام، والتسلية، وغير ذلك.
وههنا شيء يناسب النقم: وهي الحمية، وهو أيضا من جملة الخير. والحمية أذى يعترى عند فوت خيرات يستحقها المرء وينالها الآخرون، ويكون في نيل الآخرين دلالة على جواز نيلها. وجواز النيل في مذهب الاستحقاق. ولن تعتري هذه الحمية إلا لمن يحب الخير، ويأسف على فوته، ويراه محمودا؛ ولا تعرض إلا لكبار الأنفس، أعلياء الهمم. وأولاهم بالحمية من تيسر مثل ذلك الخير لسلفه، أو لعشيرته، أو لأشكاله، وخصوصا إذا كان الخير مما يكرم عليه، وينال الحمد به، كالمال والجمال. لا كالصحة فإنها ليست تعرض الناس للكرامة كل التعريض، وإنما يغار على مثل الشجاعة، والحكمة، والرياسة؛ لأن هذه أمور تمكن من الفضائل ومن الإحسان ومن الكسب للمحامد.
(2/230)
فالغيرة إذا إنما تقع على الذين لهم هذه الفضائل، وأشباهها، وعلى جميع من يرغب في مصادقته لفضيلة، وعلى المتعجب منهم، والمثنى عليهم، والمستخفين بمن يقصر منهم ويضادهم ويخالفهم. فإن الاستخفاف يضاد الحمية. فإن الحمية تصدر عن غيرة، والاستخفاف عن عدم غيرة. وإذا كان الاستخفاف يضاد الحمية، فهو يحركه تحريك المضاد والمؤذي فيزيد فيه. فإن المستخف بذي الحمية يكون محركا من حميته عندما يستخف به. وأما الذي تعتريه الحمية فهو فاقد الخير الذي يحمي. وأما الذي يستخف به ولا يحمي عليه فمن سامق إليه الجد شيئاً بغير استئهال، ولا يكون ابتداؤه عن جلد وصرامة. فمثل هذا يستخف به، ويوثق بوهى قاعدة أمره.
فصل
الفصل الخامس
في مواضع نحو اختلاف الناس في الأخلاق
وينبغي أن ندل على الأحوال المحركة نحو خلق خلق بحسب الأعراض والهمم، وبحسب الأسنان، وبحسب الحدود، وبحسب الأنفس. أما الأعراض فمثل الغضب والميل. وأما الهمم فكما يعتاد من إيثار النفس على جنس من الأمور، كملكة أو سياسة أو زهد، وتدخل فيها الأديان والصناعات. وأما الأسنان فكالحداثة والشباب والشيبة. وأما الحدود فالحسب واليسار والجلد. وأما الأنفس فالنفس العربية والعجمية، والنفس الكبيرة والنفس الصغيرة.
ولنبدأ بالأسنان: فالغلمان قد تكثر حركة الشهوة فيهم ويقتدرون عليها، وتقتصر شهواتهم على الأمور المطيفة بالبدن، المنسوبة إلى الزهرة، كالمناكح والملابس والمشام؛ وهم سريعو التقلب والتبدل، يغلب عليهم الملال، يشتهون بإفراط ويملون بسرعة، لحدة أهوائهم وملقها وفقدان الجزالة في آرائهم. وإنما آراؤهم كالعطش الكاذب الذي ينتفع بالنسيم البارد. ويسرع إليهم الغضب، ويشتد فيهم، وخصوصا لحبهم الكرامة، فلا يحتملون الضيم. وتفرط فيهم محبتهم للكرامة ومحبتهم للغلبة ميلا منهم إلى النباهة والعلو. وحبهم لذلك أشد من حبهم للمال، بل ميلهم إلى المال ميل يسير، فإنهم لم يقاسوا الحاجة، ولا كابدوا الفاقة. ومن طباعهم سرعة التصديق بما يرتمي إليهم لما فيهم من حسن الظن، وقلة الارتياب، وفسحة الأمل. وكل ذلك تبع لمزاجهم الحار المشابه لمزاج النشاوي الذي يقوي النفس جدا. ولذلك لا يجورون ولا ينهزمون ويرجون العيش بالأمل. فإن المستقبل في سلطانهم والماضي في سلطان المشايخ. فإنهم، إذ لا كثير ماض لهم، تقل تجربتهم. ولحسن ظنهم يسهل انخداعهم. وكذلك الشجعان. ولهذا يشتركان في سرعة الغضبت فهما حسنا الظن، سريعا الغضب. وحسن الظن يزيل الجزع. وشدة الغضب تقوي النحيزة فتتبعه قلة الخوف، لا لحسن الظن فقط، بل لشدة القلب. فإن الخوف والغضب لا يجتمعان. ويشبه أن يكون حسن الظن جزءا من الشجاعة. وقد يغلب على الأحداث الحياء، لأنهم لم يندفعوا بعد في الفواحش الموقحة، وبقوا على الفطرة. وهم متهمون لأنفسهم استقصارا لأنفسهم في المعرفة والخبرة. ويتبع حسن ظنهم كبر أنفسهم. ولا يقدرون أنهم سيفتقرون، إذ لم يقاسوا الضراء بعد. ولهذا ما تتوجه هممهم إلى العظائم، وتجسم في أنفسهم الأماني. وميلهم إلى النافع الذي عرفوه أكثر من ميلهم إلى الجميل الذي لم يألفوه بعد. وإنما فكرهم وهواجس نفوسهم موقوفة على الأنفع. فإنهم إنما عرفوا من الخير النافع الذي عندهم بحسب سنهم، وكأنه اللذة وما يجري معها والفكر المبني على الفطرة. وهذه الفكرة إنما تجذب إلى النافع الذي بحسب المفكر وعنده. وأما الجاذب إلى الجميل فهو الفضيلة، لا الفطرة. هكذا يجب أن يفهم هذا الموضع.
(2/231)
وأما الأحداث فشديدوا المحبة لذويهم وإخوانهم وأقرانهم، وذلك لأنهم نشيطون، يحبون السرور. والسرور إنما يتم بالصحة والمعاشرة معا. وليس عرضهم فيما يؤثرونه المنفعة الحقيقية، بل المنفعة المؤدية إلى اللذة. ولذلك صداقتهم للذة، لا للمنفعة في المصالح العقلية، فلذلك يحبون الأصدقاء، ليلتذوا بهم. وخطأهم في إتيان نافعهم وفي كل شيء أعظم من خطأ المشايخ في مثله، لأنهم مفرطون لا يتوسطون. والإفراط مغلطة. ومن شدة إفراطهم ظنهم بأنفسهم البصر بكل شيء. ومن سجاياهم ركوب الظلم الجهار، وإن عاد عليهم بالعيب والخزي، لأنهم مائلون بالطبع إلى سوء الفعال، لأنهم بالطبع شديدو الغضب، قليلو الخوف. ومع ذلك فقد تغلب عليهم الرحمة، لتصديقهم المتظلم المتعرف بالخير. وهم لقلة جريرتهم ومكرهم مناصبون للأشرار المكرة. وهم محبون للهزل والمزاح، لحب الفرح والسرور، ولضعف الروية التي إذا قويت، وقفت الهمة على الجد.
(2/232)
وأما المشايخ فأكثر أخلاقهم ضد أخلاق هؤلاء. فإن أخلاقهم سخيفة، ومع ذلك شكسة، ولا تذعن لأحد لكثرة ما جربوا، وكثرة ما جرى عليهم من الخديعة والغلط، ثم تنبهوا له، وكثرة ما خاضوا فيه من الشرور وقصدوه منها. ومن أخلاقهم لا يحكمون في شيء من الأشياء بحكم جزم البتة. وإن حموا، حكموا به على ما جربوه. وكل شيء عندهم على حكم ما سلف، أو لا حكم له أصلا. وكأنه على كثرة تجربتهم، لم يجربوا شيئاً، وذلك لشدة امترائهم فيما لا مثال له عندهم، فكأنهم فيه أغمار. ويقل اكتراثهم بالمحمدة والمذمة. وإذا حدثوا عن أمر في المستقبل، حدثوا عنه مرتابين يعلقون ألفاظهم " بعسى " و " لعل " وأخلاقهم سيئة، لسوء ظنهم. وليس من عادتهم الغلو في ولاء أو بغضاء، إلا في الأشياء المضطر إليها. وتراهم في محبتهم كالمبغضين؛ وفي بغضهم كالمحبين. وهم صغار الأنفس، متهاونون، لا يقتفون أثر العزم المصمم، كأنهم قد يئسوا. فلذلك يضعف شوقهم إلى الأمور، سوى ما يتعلق بالمعاش، فهم حرصاء عليه، خوفا من إدراك الأجل. ولأجل ذلك مالا تسمو أنفسهم إلى التكرم والمروءة، ضنا بمتاع الدنيا. وقد أشعرتهم التجارب عسر الاقتناء، وسوء عاقبة الإتلاف والإفناء. والجبن يستولي عليهم. وهم محسنو الإنذار بما هو كائن، لما استفادوه من التجارب. وهم على خلاف الشبان في المعاني المحركة، بل هم إلى السكون لبرد مزاجهم، فلذلك يجبنون ويخافون. ولأجل الجبن والخوف، يشتد حرصهم. وأيضاً لفرط حبهم للحيوة بسبب إعراضها فيهم للزوال. وتسقط شهوتهم عن المناكح والمناظر، لزوال حاجتهم فيها. على أنهم يشتهون أيضاً، وخصوصا المأكل. ويميلون إلى العدل، ويحبون الأئمة العادلة، وذلك من جبنهم وضعفهم. فإن الميل إلى العدل هو لحب السلامة. وحب السلامة هو إما من فضيلة، وإما لصغر النفس؛ فإن الفضيلة تحث عليه، وصغر النفس أيضاً يوجبه. فمن ليس توجبه فيه الفضيلة، فليس شيء يوجبه إلا صغر النفس. ويؤثرون النافع، ولا يؤثرون الجميل. وكل ذلك لمحبتهم لأنفسهم. فإن محب نفسه، يميل إلى النافع، لا إلى الجميل. فإن النافع بحسب نفس الإنسان، والجميل بحسب غيره. وهم أوقاح لا يستحيون، لأنهم ليس لهم كل الميل إلى الجميل، بل ميلهم موقوف على جهة النافع. فلذلك يتهاونون بالجميل. ومن أخلاقهم قلة التأميل، إذ وجدوا الإخفاق في العالم أكثر من الإنجاح. والتجربة تتبع الأكثر. والاعتقاد فيهم يتبع التجربة. ولهم، بدل الالتذاذ بالتأميل، الالتذاذ بالتذكير. ولقلة تأميلهم، يكثر جبنهم. وغضبهم حديد، ضعيف. أما الحدة، فلسرعة الانفعال، كأنهم مسقامون؛ وأما الضعف، فلضعف النحيزة. وشهواتهم مضمحلة، أو منكسرة. وشوقهم إلى النافع، دون اللذيذ، ولذلك يظن بهم أنهم أعفاء. وهم أعفاء ضرورة، لا أعفاء فضيلة. وتقل رغبتهم في طلب الفضل والفائدة، استقصارا لمدة الحيوة. ويعاشرون الناس على أنهم أتباع فيما يؤثرونه لأخلاق مستعفة، لأجلها يفعلون ما يفعلون، لا على أنهم أتباع أفكار تؤم المنافع. فإن عاداتهم الترائي بأخلاق الصالحين، وإن كان ما يفعلونه لأغراض وأفكار. فإنهم إذا تراءوا بالصلاح، طلبوا بذلك منفعة ما، لكنهم لا يعترفون به. وهم طلابون جدا لكسب المنافع، ولكن على سبيل الأرب والخب والمكر، لا على سبيل المجاهرة، وارتكاب ما يستحيي منه، خلافا لعادات الأحداث. وقد يرحمون أيضاً بسبب مخالف لرحمة الأحداث. فإن الأحداث يرحمون لمحبتهم للناس، وتصديقهم للمتظلم؛ وهؤلاء يرحمون لضعف أنفسهم، وتخيلهم للشر المشكو منه والمشاهد كالواقع بهم. وهم مع ذلك صبراء على الأذيات، غير قلقين. وليسوا بمهزالين، لأن الهزل مناف للجد، مباين للصبر.
(2/233)
وأما الذين في عنفوان التشييخ، وهم الذين بلغوا أشدهم، ولم ينحطوا، فأخلاقهم متوسطة بين الخلقين المذكورين: بين الشجاعة التهورية والجبن، وبين التصديق بكل شيء والتكذيب لكل شيء. بل هم في الشجاعة على ما ينبغي، وفي التصديق على ما ينبغي. وهممهم مازجة للنافع بالجميل، وللجد بالهزل. فهم أعفاء مع شجاعة. وأما الأحداث فشجعان مع نهم. كما أن الشيوخ جبناء مع عفاف. ومبدأ هذه السن من ثلثين إلى خمسة وثلثين، واستكمالها إلى خمسين. وأما الأنسباء ذوو الأبوة من الناس، فإنهم راغبون جدا في الكرامة، متشبهون بأوائلهم. وقد يظن أن كل ما هو أقدم فهو أجل وأعظم، فلذلك يشتهون الرفعة والكرامة. ولذلك يجنحون إلى التيه والاستطالة وربط الجأش. ومع ذلك فكرمهم يدعوهم إلى العدل؛ وذلك مادام الكرم فيهم باقيا بعد، ولم تنسخ الأيام عاداتهم الموروثة عن أسلافهم. ثم يتعطلون آخر الأمر مع ضربان الدهر لقلة تواضعهم للتأديب، واعتلائهم عن الإسفاف للحرف والصنائع والمكاسب السافلة. فإذا جار عليهم الدهر، بقوا متعطلين، وتفرقت عنهم العدد والكفايات، فبقوا معانيه، أو عجزة مخاذيل. وأما أخلاق الأغنياء: فالتسلط، والاستخفاف بالناس، والإقدام على شتيمتهم، وعظم الاعتقاد في أنفسهم، كأنهم فائزون بكل خير، يلاحظون كلا بالتملك والاستعباد. فهم مترفون بالنعمة، صلفون بحسن الحال. وهم محبون للثناء، مشترون للمدح لكثرة ما اعتادوهما. ومن عاداتهم أن يستحسدوا كل إنسان، كأن كل إنسان يحسدهم على حظهم. ولذلك جعل بعضهم من فضائل الحكمة أن الحكيم، لاحتياجه إلى الأغنياء، ومقاساته الفقر، يكون بصيرا بالأحوال، غير سيء الظن بالناس، ولا مسيئا إليهم بحكم التسلط. وإساءة الأغنياء تغلب عليهم ضعف الروية لقلة الحاجة منهم إليها. وتشاكل شمائلهم شمائل النساء. إلا أن الذي له قديم في الغناء أنبل من المستحدث الذي قد قاسى قبله الهوان، ورسخ فيه صغر النفس.
والأغنياء يشبهون الأحداث في المجاهرة بالظلم من غير مبالاة، كأن المال وقاية لهم عن كل آفة. وتقوى فيهم الأخلاق المائلة إلى جهة القوة. والأخلاق المائلة إلى جهة القوة: منها ما هو أخس وهي التي تصرف فضل القوة إلى الازدياد في الاقتناء؛ ومنها ما هو أنبه مثل محبة طلب الفضيلة. فإن من كان منهم أعلى همة، صرف قوته إلى الفضيلة. وهؤلاء هم المحبون للكرامة. وهم أفحل أخلاقا، وأجزل آراء، وهؤلاء هم أقدر من المائلين إلى الازدياد في الميسرة، لأن أفعال القوة هي التي نحو الغلبة والكرامة والجلالة. وأما الاكتساب والاستكثار من العدة فهو للضعف. وكلما كانت النفس أقوى، كان إلى التصون والصلف أميل. وهؤلاء يكسبون بقوة أنفسهم فضل لب، ويترفعون عن أن يتكبروا بتكلف، فلذلك لا يرون لأنفسهم حاجة إلى الكبر، فيكونون متواضعين حسني الأشكال في العشيرة. لا يسعون للظلم الحقير. فإن ظلموا، ظلموا في كثير.
وأما المحدودون، فمن أخلاقهم: التنعم، والاستمتاع باللذات، والاستطالة، وقلة المبالاة، لسعة المقدرة. ويكونون محبين لله جدا، واثقين به، معولين على التوكل، لأنهم اعتادوا الانتفاع بالجد، دون الكد.
وقد يوقف على أحوال أضداد هؤلاء من أحوالهم.
ولما كانت المنفعة في الأقاويل الإقناعية هي حصول الإقناع. والإقناع لن يحصل إلا إذا انقطع الجواب، وحقت الكلمة. والواحد يعسر إسكاته، ويبعد إذعانه، وخصوصا في الأمور الإقناعية. فبالحري أن يكون من تمام التدبير في المحاورات الخطابية تعيين حاكم يزجر المرتكب عن ارتكابه، والمعاسر عن معاسرته، مع تمكينه كلا من كلامه، لا يحجر عليه، أو يجري إلى الخطل. ويجب أن يكون إنما يحجر عند مشاركة النظار إياه في استخطال المتكلم. وشهادة السامعين للبادئ لئلا ينسب إلى الميل.
فينبغي إذا أن يكون هنا متكلم، وحاكم، ونظار. وإذا كان كذلك، وجب أن تكون عند الخطيب أنواع تعين في الانفعالات والأخلاق.
فصل
الفصل السادس
في الأنواع المشتركة للأمور الخطابية
(2/234)
قد حان لنا الآن أن نتكلم في الأنواع المشتركة للأمور الخطابية الثلثة: كالقول في الممكن وغير الممكن، والقول في الكائن وغير الكائن، وفي التكبير والتصغير. وهذه وإن كانت عامة للثلثة، فيشبه أن يكون التكبير والتحقير أخص بالمدح. وأما الجزئي الموضوع، أي الذي يحكم بوضعه وكونه، وهو الذي ينحوه النظر في الكائن وغير الكائن، فهو أخص بالمتشاجرين. وأما الممكن وغير الممكن والمتوقع كونه فإنه أخص بالمشورى الذي يثبت أن الانتفاع بكذا ممكن ومتوقع.
فلنبدأ بالأنواع الخاصة بالممكن وغير الممكن، فنقول: إذا كان نقيض الشيء ممكناً، فظاهر أنه ممكن. و أيضاً إن كان ما يشبهه ويجرى مجراه ممكناً، فهو ممكن. وإن كان الأصعب ممكناً، فالأسهل ممكن. وإن كان كونه بحال أحسن ممكناً، فهو ممكن. فإنه لما كان إجاده البناء ممكناً، فالبناء ممكن. وما ابتداء كونه ممكناً، فما ينتهي إليه ممكن. وما كان تمامه ممكناً، فبدؤه ممكن. وإذا كان المتأخر في الطبع ممكناً، فالمتقدم ممكن. فإنه إن أمكن أن يكون الإنسان رجلاً، أمكن أن يكون غلاماً. وبالعكس. والأمور التي يشتاق إليها طبعاً ممكنات، فإن الممتنع لا يشتاق. والأمور التي تتعاطاها العلوم كالطب، والصنائع كالفلاحة، ممكنات. وما كان إلينا أن ندبره، كالذي يكون عن إجبار أو تشفع، فهي ممكنات. والذي يتعلق بمعونة الأفاضل والأصدقاء كالممكن، مثل ما يتعلق بأموالهم أو جاههم، فإنه ممكن لا يبخلون به. وإذا كان كل جزء ممكناً، فالكل ممكن. وإذا كان الكل ممكناً، فكل جزء ممكن. وإن كانت طبيعة النوع ممكنة الوجود، فطبيعة الجنس ممكنة لا محالة. وإذا أمكن أحد طرفي الاضافة، أمكن الآخر. وما أمكن للجاهل والبطال، فهو للعالم الصانع أشد مكاناً. وما كان ممكناً للأوضع، فهو ممكن لمن هو أشرف.
وأما الذي لا يمكن، فستجد له أنواعاً مضادة لهذه.
وأما أنواع أنه: هل كان الشيء أو لم يكن؟ فمن أنواعه أنه: إن كان ما هو أقل استعداداً للكون قد كان، فالأتم استعداداً قد كان. وإن كان التابع قد كان، فالمتبوع قد كان. فإنه إن كان قد نسى، فقد كان قد علم. وإن كانت الأسباب قد كانت، فالشيء قد كان. فإنه إذا كانت القدرة والإرادة، فقد كان الشيء، وخصوصاً إذا لم يكن عائق. وهذا نحو أن يكون قدر وغضب، أو قدر واشتاق، أو قدر واشتهى. والذي توجب الدلائل أن يكون، فليوضع كائناً. فإن الأسباب الملاصقة توجب الوجود بالفعل لا محالة. وإذا كانت المعدات قد سبق كونها، فالأمر قد كان. كما أنه إن كان السحاب قد برق، فقد رعد. وإن كان الإنسان قد جرب محاولة أمر يطلبه، فوجده قد أذعن له، فقد فعل. وإذا استعد للثاني، فقد كان الأول؛ مثل أنه إذا استعد للقتال، فقد تقدم الاستيحاش.
قال المعلم الأول: ومن هذه ما هي اضطرارية، ومنها ما هي أكثرية. فيجب أن تعلم من ذلك أن رأى المعلم الأول في الخطابيات ليس ما ينسب إليه من وجوب تساوى الإمكان فيها. وأنت ستعلم أنواع ما لا يكون من أنواع ما يكون. ومن هناك تعلم حال متوقع الكون، وهو ما استعدت نحوه الأسباب مما ذكر؛ وما ليس متوقع الكون، وهو الذي بالخلاف.
وأما أمر التعظيم والتحقير، فقد يكتفى في بما ذكر منه في المشوريات، وخصوصاً إذا خصصت بحسب أمر أمر من الأمور الجزئية، وجعل له بحسبه حكم حادث.
فلنفصل الأمر في التصديقات المشتركة، وهي جنسان: المثال والتفكير. وأما الرأي المحمود فهو داخل في مواد التفكير.
ولنبدأ بالمثال، وهو الذي نسميه ههنا برهانات، ونقول: إن الأمثلة على ضربين: أمثلة من أمور مقر بكونها يقاس عليها غيرها سواء كانت أموراً موجودة، أو حوادث وجدت في زمان ماص، أو أمثالاً مضروبة سائرة. هكذا ينبغي أن يفهم. ومنها ما يخترعه الإنسان: فمن ذلك مثل وحكاية تجعل له حكماً وتجعله كأنه قد كان، وهو ممكن الكون، إلا أنه لا رواية له، ولا سير مثل به؛ ومنها ما هو كلام كاذب، مثل ما في كتاب كليلة ودمنة.
فمثال المثال بالحقيقة، ما يقال: لا ينبغي لك أيها الملك أن تستهين بأمر الجواسيس، ففلان قد استهان فندم. ومثال المثل المضروب ما قال سقراط: إن من يحرم الرأس بالقرعة، كمن يحرم المصارعة بالقرعة. فإن تحريم المصارعة بالقرعة لم يكن أمراً قد وجد وأعقب خطأ، بل أمراً قد اختلق فرضه، وبه يضير فيه الخطأ، فنقل الخطأ منه إلى غيره.
(2/235)
وأما الثالث: فكضرب بعض المشيرين مثلاً، وهو يشير على قومه بشدة التقيظ، وأن لا يذعنوا لواحد وعدهم بتخليصهم عن يدي متسلط عليهم هنيف بهم، فإنه قال لقومه: إياكم وأن تصيروا بحالكم إلى ما صار إليه الفرس، عندما زاحمه الأيل في مرعاه، ونغصه عليه، ففزع إلى إنسان من الناس يعتصم بمعونته، ويقول له: هل لك في إنقاذي من يدي هذا الأيل؟ فأنعم الإنسان له الإجابة على شرط أن يسمح بالتقام ما يلجمه، وبتمطيته ظهره وهو ممسك قضيباً. فلما أذعن له، صار فيما هو شر له من الأيل.
وقال آخر في قريب من هذه الواقعة: إني أوصيكم أن تستنوا بسنة الثعلب الممنو بالذبان. قيل له: وما فعل ذلك الثعلب؟ قال: بينا ثعلب يعبر نهراً من الأنهار إلى العبر الآخر، إذا اكتنفته القنصة، وحصل في حومة الطلب، فلم ير لنفسه مخلصاً غير الانقذاف في وهدة غائرة انقذافاً أنحنه. وكلما راود الخروج منه، أعجزه، فلم ير إلا الإستسلام. وهو في ذلك إذ جهدته الذبان محتوشة إياه. وإذا في جواره يشاهد ما به من الغربة والحيرة ولذع الذبان وإنحلال القوة، فقال له: هل لك، يا أبا الحصين، في أن أذب عنك؟ فقال: كلا. ولا سبيل لك إلى ذلك، وإنه لمن الشفقة الضائرة، ومن البر العاق. فقال له القنفذ: ولم ذلك؟ قال: أعلم أن هؤلاء الذبان قد شغلت المكان فلا موقع لغيرهم من بدني، وقد امتصت ريها من دمي، فهي الآن هادئة. فإن ذبت، خلفها جماعة أخرى غراث، كلبى، تنزف بقية دمي.
وأكثر ما ينتفع بهذه الأمثال في المشورة، حين ما يعز وجود جزئيات مشاكلة، فتخترع؛ فإن اختراعها يسير. لكن موقع الموجود المشهود به آكد. واعتبار الجزئيات الموجودات من أبواب مبادئ الفلسفة، وإذ التجربة، كما علمت، من أجل أصولها، فكيف في البحوث الضعيفة. والفزع إلى المثال إنما يقع عند عوز التفكير، فإن التفكير أولى أن يوقع التصديق. وأما إذا أورد المثال لا على أنه المقنع نفسه، بل على أنه شاهد لضمير مصنوع، أو مصحح لمقدمة كبرى في الضمير، على ما تحققته قبل، فإنه يكون في أول القسمين نافعاً، وفي الثاني ضرورياً. وتكون منزلة المثال في تثبيت الكلى منزلة الاستقراء. وإن كان الاستقراء غير أهل للخطابة ولا مناسب إلا في أحوال نادرة. فإذا قدم الخطيب الضمير، ثم أيده بالشاهد، على أنه نافع أو ضروري، كان قد تمم الإقناع. فإن الشاهد مقنع. لكنه إذا سبق فأدعى، ولو مقروناً بالضمير، فاستنكر دعواه بدياً، لم يكد يسلم له إلا شهادات كثيرة. فأما إذا أورد المثال أولاً واعتمده، ثم أورد الدعوى بعده، فتكون الدعوى قد صادف الاستعداد من الأنفس لقبوله ولم ترد عليها بغتة فيتنبه لإنكارها. وقد يقبل المثال الواحد قبول الشاهد الواحد، إذا كان ثقة. وهذا الإعداد مثل الإعداد بحذف الكبرى أيضاً؛ فإن التصريح بها ينبه على العناد. فالغرض في هذا أن الضمير إذا كان محوجاً إلى تصحيحه بالمثال، فلأن يبتدئ بالمثال أولى من أن يبتدئ بالضمير. وأما إذا كان المثال للاستظهار، فلا بأس في تقديمه أو تأخيره. هكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع.
(2/236)
وأما الرأي فإنه قضية كلية، لا جزئية، وهي في أمور عملية، ومن جهة ما يؤثر أو يجتنب. والتفكير الرأيي قريب من المستنتجة التامة. ونتائج الآراء، إذا أخذت بانفرادها، هي أيضاً آراء، كما أن مقدماتها آراء، لكنها إنما تكون تفكيراً إقناعياً، إذا قرنت بها العلة، مثل قولنا: إن معرفة الأحداث بالحكمة فضول. فهو رأي، ونتيجة رأي. وهو أنهم حينئذ يكونون مدخرين ما لا ينتفعون به. لكنه إذا أخذ الرأي الذي هو نتيجة وحده، لم ينتفع به، لأنه لا ينفع، إذ ليس مقبولاً بنفسه، إذ القبول يناله بعد قبول مقدمة، هي علة قبوله، فينبغي أن يقرن ذلك به، فينتج، ثم تستعمل النتيجة، فيكون الضمير جميع ذلك القول. ويجب لذلك أن تون أنواع الرأي أربعة: رأي لا يحتاج إلى قرن كلام به لظهوره في نفسه؛ ورأي لا يحتاج إلى ذلك لظهوره عند المخاطب أو عند أهل البصر؛ ورأي يحتاج أن يقرن بكلام آخر ليؤدي إلى المطلوب. وهذا على قسمين: لأنه إما أن يكون ذلك الكلام هو نتيجة عنه، أو يكون منتجاً إياه. فإن كان نتيجة عنه، كان هو بالحقيقة ليس ضميراً على المطلوب، بل جزءاً من الضمير، كأنه جزء قياس مركب. وإن كان يحتاج إلى ما ينتجه، فيكون هو الضمير القريب، وليس جزءاً من الضمير البتة. فإن القياس القريب ليس كالبعيد. فإن البعيد ينتج على أنه جزء قول مفلح، والقريب ينتج الشيء بذاته، لا على أنه جزء شيء. وعلى هذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع.
وقد خبرناك أن الخطابة تشاكل الجدل في الموضوعات والمبادئ، وتشاركه في أشياء، فينبغي أن تأخذ الآراء الخطبية آراء مختارة مقبولة عند إنسان إنسان ممن تخاطبه، أو عند إنسان من الأئمة، أو مما يظن مقبولاً مما هو في الأمور الممكنة المتعلقة بالزمان، لا المظنونة التي في الأمور الدائمة، فإن ذلك للجدل. وإذا كان هذا محصلاً عندك، أمكنك أن تستنبط منه الحجج والضمائر. ولسنا نوجب عليك أن تضبط أموراً غير متناهية من الموجودات بحسب شخص شخص في أمر أمر جزئي. فإن ما لا يتناهى لا يوجد، فكيف يحصر ويضبط!؟ بل أن تصنف الأحكام الكلية الموجودة المحصورة الم - تعلقة بالأجناس الثلثة للخطابة، وتجتهد أن تخصصها ما قدرت. فإن الأحكام التي هي أخص، أشد نفعاً وأقرب إلى الباب، وأليق به. وكذلك اذا اخذت تستعملها في الجزئيات، فتلطف في تخصيصها تلطاف آخر، حتى تكاد تطابق ذلك الشخص المتكلم فيه وحده. مثال ذلك في المدح: اذا كان عندك مقدمة مناسبة للمدح، كقولك: الإلهي هو الذي يكاد أن تكون فيه قوة إلهية، فإن هذا من المديح البالغ جدا. لكنك إذا مدحت واحدا من الفضلاء بهذا، فقد مدحته بما يعمه وغيره من الذين يجرون مجراه. فإن خصصت وزعمت أنه الذي فعل الأمر الإلهي الفلاني، فظفر بفلان، وأنقذ فلانا من ورطة، كان هذا بالمدح أليق، وإلى الإقناع أقرب. فإنك إذا قلت: إن فلانا إلهي، لم تقنع بذلك، ما لم تدل على جزئي من الأمور به يصير مثله إلهيا. هكذا ينبغي أن يفهم أيضاً هذا الفصل.
ومن الآراء التي تحتاج أن يقرن بها قول آخر حتى تتزوج وتستمر وتقبل ما يكون انفراده غير مقتصر به على أن يجهل، ولا يتسارع إلى قبوله فقط، بل يكون معرضا إياه أيضاً للشنعة. فما لم يقرن به القول الآخر، لم يتعرض للإحماد. ولا نشك في أن الأولى في مثله، على ما ذكرناهمن غيره، أن تقدم تلك القرينة به عليه، مثل قول القائل: قد ينبغي لمثلي أن لا يتأدب. فإن هذا إذا ذكر وحده، استشنع. فإذا قدم عليه، فقيل: ينبغي لمثلي من الراغبين في أن يأمن غوائل الحساد أن لا يتأدب، فحينئذ ربما أقنع. وأما المجهول الذي لا تعرف شناعته ولا حمده، فلا يأس أن تقرن العلة به مقدمة، أو مؤخرة. وربما كانت العلة في أمثال هذه ليست رأيا، بل رمزا شعريا، وكلاما مخيلا، فيروج، مثل قول القائل: إياكم أن تكونوا شتامين، فتؤذوا خطاطيف الأرض. وعنى بخطاطيف الأرض الناس الضعفاء، الكافي الأذى، المستنيمين إلى الشنعة والوعوعة، عندما يخرجهم أمر.
(2/237)
وليس كل الناس يليق به استعمال الكلام الرأيي واختراع ضرب الأمثال، بل إنما يليق ذلك بالمشايخ، لأنهم المرموقون بعين التمييز؛ فتكون أحكامهم الكلية متلقاة بالإذعان، وهم المظنون بهم كثرة التجارب؛ فتكون أمثالهم التي يضربونها معدودة في الكائن. فإن تكلف الغمر الذي لم يجرب لضرب الأمثال، وإيراد الشواهد من الأحوال، فهو شروع منه فيما لا يعني، وإساءة الأدب.
فالرأي إنما يوجد كليا، ويعبر عنه مهملا. وربما اشترط فيه الأمر الأكثر، وربما اقتصر على الكثير. فتارة يقال: إن كذا كذا، إيهاما للكلية؛ وتارة يقال: أكثر كذا كذا؛ وتارة يقال: كثيرا ما كان كذا كذا. وهذا مما يقنع بالتكلف، والاستكراه. وكذلك في العلامات. وينبغي أيضاً أن نورد في الرأي ما كان الجمهور يرونه مما أجمعوا عليه لسنة، أو عادة، وإن لم يكن من الذائعات المطلقة. وذلك مثل استعمالنا في شريعتنا: أن المتعة ظلم، وأن قذف المحصنات يوجب حد ثمانين. فإن أحكام الشرائع آراء جليلة. وينبغي أن نورد أيضاً الأمثال المقبولة السائرة على أنها أحكام كلية. وهي مع قبولها عند الجمهور ليس يجب أن تكون محمودة بالحقيقة، كقولهم: الكلاب على البقر؛ وقولهم: إذا عز أخوك فهن؛ وقولهم: ول حارها من تولى قارها. فإنها محمودات في بادي الرأي. كذلك ينبغي أن يفهم هذا الموضع.
وينبغي أن تستعمل الآراء التي في غاية الفشو، حتى يجتمع فيها أن تكون آراء وأمثالا، مثل قولهم: اعرف ذاتك. وهذه من الآراء التي تصلح للأضداد. إذ هذا يصلح للمدح والذم. وكذلك: لو عرفت خلقك، لما استعظمت هذا منك. فإن هذا أيضاً يصلح للأضداد. إذ هذا يصلح للشكاية والإشكاء. وبعض هذه تكون فاعلة في النفس انفعالات، كما نقول للمشتعل غضبا عن شيء بلغه: إن أمثال هذه السعايات، بقدر علمي، لكاذبة. فإن هذا ربما أهدأ غيظه؛ وكما تقول: طوبى لمن عرف قدر نفسه، فلم ينتصب لقيادة الجيوش. فإن هذا يسخط من انتصب لها. فهذه من جملة ما يؤثر انفعالات. وقد تكون أقوال رأيية أخرى خلقية، كقولهم: ليس ينبغي أن يحب المرء بقدر ما يبغض، بل أن تكون محبته للحبيب أكثر من بغضه للبغيض. وينبغي أن يجتهد في كل موضع حتى يكون اللفظ المجر به مطابقا لكنه ما في الضمير. فإن قصر اللفظ عن مطابقة المعنى، ولم يخرج خروجا مغنيا عن الشرح، فعليه معاودة الشرح. كذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع.
مثلا، ليس ينبغي أن يقول: أحب، لا كما تبغض، ويسكت، فإن هذا غير شارح، بل يقول: إنه ينبغي أن يحب الحبيب، لا بقدر ما يبغض البغيض، كما قال قوم، ولكن يجب أن يكون آكد المحبة، دائمها. ثم يعطى العلة، فيقول: أما المساواة بين الحب والبغض فهو طريقة الغدار الذي لا يثبت على العهد، والمكار الذي لا يصح عنده انعقاد الميثاق. أو يقول على وجه آخر: ينبغي أن تشتد محبة الحبيب، كما ينبغي أن يشتد بغض الشرير. وهذا أيضاً إيراد للعلة في المقابلة.
ولإيراد الكلام الرأيي منافع عند السامعين: منها ما يتعلق بثقل فهمهم وبلادتهم؛ فإنهم إذا كانت عندهم جزئيات مجربة تحت حكم، وقصروا عن رفعه إلى حكم عام، فأورد عليهم الحكم العامي، طالعوا دفعة جميع جزئياتهم، وفرحوا بذلك كأنهم أصابوا حاجتهم. وربما كان القول الكلي غير محمود، لكنه إذا وقع مطابقا لجزئيات أهمتهم، حمدوه وقبلوه في الوقت؛ كالمتأذي بعدة جيران فساق أو بأولاد عقاق إذا سمع قول القائل: الجيران شر الخليقة، وقوله: لا خير في اتخاذ الأولاد، فرح جدا بذلك، وتلقاه بالتصديق، وقنع به. فلذلك ينبغي أن يكون المتكلم بصيرا بحال السامع والحاكم، وإلى نحو حاجته بالقول الكلي. ومن منافع الرأي أن يجعل الكلام خلقيا، أي حكميا في الأخلاق. وهذا مما يفخم به الكلام، ويصير قائله كالسان والشارع، ويلتذ بمثله من الخطباء والمخاطبين.
فصل
الفصل السابع
في الفرق بين المقدمات الجدلية والخطابية
وفي إعطاء أنواع نافعة في التصديقات بأصنافها
(2/238)
الفرق بين المقدمات المستعملة في الضمائر والمستعملة في الجدل أن الجدلية قد تستعمل فيها المقدمات البعيدة عن المطلوب، ليتدرج بها إلى المطلوب بأوساط متتالية، وتستعمل فيها المقدمات التي هي متعالية الشهرة حقيقيتها، وتستعمل فيها المقدمات التي لا ظن للجمهور فيها، إذا كانت منتجة عن مقدمات مشهورة. وأما الخطابة فلا يجوز أن تستعمل المشهورات الحقيقية فقط، فيوهم ان المتكلم يتعلق بالحقائق، ويخرج عن طريق العامية والخطابية. ولا تستعمل فيها أيضاً المقدمات البعيدة عن ظنون الجمهور، بل إنما تستعمل فيها مقدمات ليست حاضرة الأذهان بالفعل حضور كون الشمس مشرقة، ولا غائبة عنها، حتى إذا ذكرت، قعدت الأذهان عن الحكم فيها بوجه، بل هي التي عندما تذكر، ينقدح فيها ظن، سواء انقدح منها ذلك، إذا ذكرت مفردة، أو ذكرت مع قرينة، وعلى نحو ما علمت. وهذا مثل قولهم: بئس الشيء الطمع. فإن المعلومة جدا ذكرها كالفضل؛ والمجهولة جملة ذكرها كالإغراب، والخروج عن العادة. وأما المناسب لطباع العامة فما لا يجهل، ولا يكون أيضاً كالمعلوم والفضل. والشيء المجهول منفور عنه، غير مجانس. ولذلك ما يكون الرجل القليل الأدب أفكه في المجالس من الأديب. وذلك لأن الأديب كالغريب، وكما لا يجانس؛ وهذا أقرب إلى المجانسة. وهو أيضاً أسرع إلى التصديق والقبول والارتياح لما يسمع من الأديب الذي لا يفيده السماع إلا ما علمه سالفا. فيكون مثل هذا الإنسان أسر في المجالس لما يسمع ويسمع. فمنهم من يتكلم بالظاهرات جدا عند الكل؛ ومنهم من يتكلم بأمور هي عندهم معروفة. فإذا تكلم بالظاهرات أوردها على أنها فوائد وقوانين مضبوطة، ففرح من جهة ما يفيد، فأمعن في النشاط. وإذا أورد ما هو عنده مشهور، وليس من المعلوم جدا، ولكن بين حمله، وكان من القريبة لا من البعيدة، وعلى ما ذكرنا في ابتداء الفصل، فاستمر إلى فهمها السامعون، ففرحوا بها. وأما الأديب، فإنه يورد الغرائب، وذلك مما تشمئز عنه الأنفس. والأحب إلي أن يفهم هذا الفصل هكذا.
فيبين من هذا الكلام الخطبي ينبغي أن لا يكون كله ما يرى ويظن من المشهورات جدا، بل من أمور محمودة، إذا قبلت، تكون كأنها أصول، وكأنها مذكرات يلتذ بها، فتكون من الجنس الذي علم بالعلامات المعلومة أن الحكام يقبلونه. ويجب أن يقرن بها دعوى أنها ظاهرة بينة للكل والأكثر. فإن ذلك، وإن لم يكن بالحقيقة كذلك، فلا يبعد أن يزيد القول توكيدا. فإنه ليس واجبا لا محالة أن يؤتى بالاضطراريات، بل والأكثريات نافعة لهم. فليأخذوها مأخذ الاضطراريات. هكذا فافهم هذا الموضع.
والمتصدي للكلام في جنس من الأجناس مع مخاطب من المخاطبين، ينبغي أن يكون بصيرا بذلك الجنس من الأمر وبالأحوال التي عرضت للجزئي الذي يتكلم فيه، كما مثلنا في المشورة في الجزئيات وغيرها، وخصوصا ذكر مشورة حروب في بلاد مخصوصة. فإنه إن لم يعلم مآثر إنسان ما وأفعاله الكريمة، لم يمكنه أن يمدحه. وإن لم يعلم فضائحه، لم يمكنه أن يذمه. ولهذا أشار رسول الله صلى الله عليه على حسان بن ثابت أن يحضر أبا بكر الصديق فيسمع منه مساوئ أبي سفين وعشيرته، ثم يقول الشعر فيه. وكذلك الحال في المشاجرات، وفي كل باب.
واعلم أن الحكم في الخطابة كالحكم في الجدل في أن أصوب الصواب له التقدم بإعداد مواضع نحو كل إثبات وإبطال على جهة محدودة قريب من الأمر. فحال الخطابي في هذا هو حال الجدلي. وكما قد بينا هناك أن الموضع الأقرب، والأشد مناسبة للأمر أحرى بالاستعمال، وكذلك فإن النوع الأقرب والأخص بالغرض أولى في الخطابة بالاستعمال، فيجب لا محالة أن تهيأ فيها المواضع والأنواع، فإنها اسطقسات وأصول العمل.
وكل تفكير، فاما تثبيت قد يشبه القياس المستقيم، وإما توبيخ قد يشبه الخلف. والتثبيت قد يؤلف من مقدمات يقر بها، والتوبيخ من المجحودات المستشنعة، وذلك في أي شأن كان التفكير: في مشاورة، أو منافرة، أو مشاجرة، أو كان في الانفعاليات والخلقيات.
فلنذكر هذه، ولننتقل عنها إلى ذكر المناقضات والمقاومات:
(2/239)
فنوع من ذلك نقل الحكم من الضد على ما علمت. وربما جحد، لأنه غير ضروري. ونوع من النظائر والأشباه. ونوع من المتضايقات، مثل أنه: إن كان فعل هذا حسنا، فانفعال ذلك حسن. وربما يغالط في هذا مغالط، فيزيل الشرط، كمن يقول: إن كان عدلا بالقاتل أن يقتل، فعدل في أن أقتله. فإن القاتل، وإن كان عدلا به أن يقتل، فليس مطلقا، بل بشرط أن يقتل بذي قاتل محدود، لا بذي كل قاتل. فيجب أن يراعي الاستقامة والتعادل في المضاف، فلا يوجد عند أحد المضافين إلا ما يعادله، دون أي شيء اتفق. وأن تكون الإضافة من جهو واحدة. فلا يبعد أن يكون للمضاف الثاني إلى الأول إضافة ما، غير الإضافة التي فيها الكلام. مثلا: أن يكون صديقا، وأن يكون شريكاً. فإذا أخذ من حيث الآخر صديق، لا ينبغي أن يؤخذ هذا من حيث هو شريك. فربما كان لكل إضافة حكم آخر. وربما كان الحكمان متضادين: مثل أن يكون هذا شريك ذلك، وذلك ظالم هذا. فيكون مثلا، حكم الشركة يقتضي ضد جكم الظلم. وهما إضافتان بينهما لا غير. ونوع من الأقل والأكثر، على الوجوه التي علمتها. ونوع جزئي جدا مأخوذ من التقديم والتأخير الزماني، مثل أن يقول: إن فعلت كذا وكذا، فيلزمني أن أفعل كذا. فربما كان ما يسئله خارجا عن وسعه، فلا يلزمه أن يجيبه إلى ملتمسه. أو مثل أن يقول له: إن الفاضل والقدير من يفعل كذا وكذا. فهلم، فافعل. فإن هذا في قوة قياس موهم أن القائل يقدر على أمر يعجز عنه المخاطب. أو يقول لآخر: بئس الرجل أنت، إذا فعلت كذا وكذا. يوهمه أنه بريء الساحة عن هذه المذمة. وربما أوهم القائل المخاطب بمثل هذا أنه بريء الساحة عما يريد المخاطب أن يشكوه عليه. ونعم ما قال القائل: إن التجني بلا جناية من هذا النمط. ومن هذا الجنس أيضاً التقصير في الشروط عند العهود، والتقصير في تفصيل الألفاظ وتجريدها عن التأويلات. فإن المكار يتقدم فيجعل العهود ذوات تأويل. وهذه نوافع في التوبيخ حيث يقول: لو فعلت كذا، لفعلت كذا. أو يقول: إنك لم تفعل كذا الواجب عليك، وهذا قبيح منك. ونوع من قبل اعتبار الحد، وإن لم يكن الحد حقيقيا، بل مظنونا، كقول القائل: إن كان الملك حقيقته أنه إلهي، وخلق قريب من الله، فإن الله على كل حال موجود. ومثل قولهم: فلان لم يسم فاضلا إلى أن شجع؛ فإذا الفضيلة هي الشجاعة. فالأول هو استخراج حكم من حد، والثاني استخراج حد من الحكم. ونوع مأخوذ من القسمة وإبطال وجه وجه منه بحجة، أو بتسلم. ونوع من الاعتبار وإيراد أمثلة كثيرة من الجزئيات، مثل من يثبت إصابة الشفيق في المشورة بعد أمثلة، أو يثبت حقه حال العدول عن الشبيه بأمثلة. وهذا هو استقراء يستعمل في الأمور الاختيارية في الخطابة. ونوع آخر أن يكون ذلك الحكم بعينه قد حكم به فاضل، أو حكم بحكم كان شبيها بذلك الحكم، أو حكم بضد ذلك الحكم في ضد ذلك الأمر. ونوع آخر أن ينظر في جزئيات المحمولات فلا يجدها للموضوع، فيسلب الحكم، كقول القائل: إن كان زيد شجاعا، فمتى قاتل، وفي أي حرب بارز؟ وموضع آخر من لواحق الحكم ولوازمه، كقولهم: لا تتأدب، فتحسد، أو تقول: تأدب تبجل. ونوع آخر مقارب لهذا من حيث هو من اللوازم، مخالف له من حيث هو من لوازم المتضادين، إذا كان يلزمها أمر عام، ويكون بحيث لابد من حمل أحدهما على الموضوع، فيكون كالوسط في إنتاج ذلك الحكم. ولهذا الموضع خاصة أخرى: وهو أن الضدين نفسهما قد يستعملان في إيجاب نقيض ذلك الحكم. مثاله قول القائل: ينبغي أن يسكت المرء في المحافل. فإنه إذا صدق، أبغضه الناس؛ وإن كذب، أبغضه الله. فالناطق في المحافل مقيت. ثم يقول: ينبغي أن يتكلم المرء في المحافل. فإن صدق، أحبه الله؛ وإن كذب، أحبه الناس. فهو على كل حال محبب. وكما يقول: عليك باتخاذ العقار، فإنها إن أغلت، فزت بالغلة؛ وإن لم تغل، أمنت بوار الأصل. وهذا يفارق الأول، لأن الطرفين تلحقهما خصلة واحدة، وهو الخير فقط. ونحو آخر أن يقول القائل في إثبات شيء أو مدح شيء، فيأتي في الظاهر بحجة عدلية، نقبل في الظاهر، ويكون في الباطن إنما يراعى حجة أخرى وغرضا آخر، وهو الانتفاع والملاءمة، مثل محب اللذات، فإنه في ضميره يحبها لأنها ملائمة، ولأنها لذات؛ وأما إذا احتج لدفع المذمة عن نفسه عليها، قال: أحبها لأنها تقوي الطبيعة، وتشرح الصدر، وتجلو الذهن. كما أن أصحاب
(2/240)
الماليخوليا ينتفعون بالجماع من حيث هو مفرح. وكذلك حال بعض الصوفية في قولهم بالشاهد، فكأنهم يحاولون جمع الأمرين كليهما، أحدهما في الباطن، والآخر في الظاهر. وهذا الموضوع لتعجيبه شديد الإقناع. ونحو آخر من الوزن والمعادلة. أما الوزن فوضع مقابل بإزاء المقابلة. وأما المعادلة فوضع حكم بإزاء حكم. كما قال قائل عذل في استخدام أبيه، وكان قد بلغ الكبر، فقال: إنكم إن كنتم تعدون الطوال من الغلمان رجالا، فعدوا القصار من الرجال صبيانا. وكما قال فائل: إن كنتم تستقبحون طرد الضيف الخبيث، فلا تستقبحوا قرى الضيف اللبيب. والأول على قياس عكس النقيض؛ والثاني على قياس الاستقامة. ونحو آخر من هذا القبيل، وهو أن يكون الحكم ثابتا على أي الوجهين أوجبت، مثل قولهم: إن كان الإله خالقا للخير والشر، أو خالقا للخير وحده، فالإله موجود. وكذلك سواء قلت إن الإله مكون، أو قلت إن الله فاسد، فذلك يرفع وجود الإله. وكذلك ما يعمل على سبيل الموازنة والاستدراج، كمن يسئل منكر العلم والفلسفة، فيقول: هل يحب أن يتفلسف؟ فإن قال: نعم، فقد أعطى علما؛ وإن قال: لا، فقد أعطى علما. فكون هذا على سبيل الاستدراج ليس معناه أنه مغالطة، بل معنى كونه مستدرجا أنه يفتقر فيه إلى سؤال، ويخالف ما الذي يأتي به المثبت من تلقاء نفسه. وكقولهم: سواء خرجت إلى فلان من ملك أرضك، أو من ملك ملكك، فكلاهما إذعان. وهذا وقت ما يحتج بأنه لو جمع بينهما في تمليكهما فلانا فقد انقاد لصغار، وإنما يعطيه أحدهما. وكقوله: إنك تكبرت من خدمة الملك، ورأيت مخالطته مذلة، فكذلك انحيازك إلى العامة، ورضاك بجري أحكامهم عليك، ولبسك ثوب السلامة الذي أفيض عليهم. ونحو آخر من ضدين عند ضدين في وقتين يمكن أن يعكس الأمر فيهما، كقول القائل: إنما كنت أقاتل لأني كنت متورطا. فإن أمنت، فلا أقاتل. ولقائل أن يقول: إنما كنت لا أقاتل، لأني كنت في الورطة. والآن، فإذا أمنت، فأنا مقاتل. ونحو آخر ينبغي أن يفهم هكذا: وهو أنه إذا كان الضد الذي قد كان سببا لضد، فالضد الآخر لو كان، لقد كان يكون لا محالة سببا للضد الآخر، مثل ما يقال: إن كنت لما أعطيته سررته، فكلما ارتجعت حزنته. وإذا كان الأمر سببا لضدين، فيجب أن لا يخص بأحدهما، فيقال: ليس الجد إنما يعطي السعادة الإحسان، بل وللغبطة، ولأن يحسده الأشرار ويقصدوه بالشر. وقد يمكن أن يفهم الضرب الذي قبل هذا على هذا المعنى بعينه، حتى يقول: ما أعطاه، ليسره، بل ليرتجعه، فيغمه. وهذه المواضع نافعة في الذم، وفي كفر المنة، والشكاية؛ وقد تنفع أيضاً في المدح والاعتذار. ونحو آخر خاص بالمشاجرة والمشاورة، وهو أن يكون الخطيب عمد إلى حال الشيء فتأملها، فإذا كانت على جهة ما شكا به أو منع؛ وإن كانت على ضدها اعتذر أو أطلق، كمن يقول: هذا ممكن وسهل ونافع لك ولأخوانك، فافعله، في المشورة؛ أو فعلت بك، عند الاعتذار؛ وفي ضده: لا تفعله، في المشورة؛ أو فعلت بي، عند الشكاية.ليا ينتفعون بالجماع من حيث هو مفرح. وكذلك حال بعض الصوفية في قولهم بالشاهد، فكأنهم يحاولون جمع الأمرين كليهما، أحدهما في الباطن، والآخر في الظاهر. وهذا الموضوع لتعجيبه شديد الإقناع. ونحو آخر من الوزن والمعادلة. أما الوزن فوضع مقابل بإزاء المقابلة. وأما المعادلة فوضع حكم بإزاء حكم. كما قال قائل عذل في استخدام أبيه، وكان قد بلغ الكبر، فقال: إنكم إن كنتم تعدون الطوال من الغلمان رجالا، فعدوا القصار من الرجال صبيانا. وكما قال فائل: إن كنتم تستقبحون طرد الضيف الخبيث، فلا تستقبحوا قرى الضيف اللبيب. والأول على قياس عكس النقيض؛ والثاني على قياس الاستقامة. ونحو آخر من هذا القبيل، وهو أن يكون الحكم ثابتا على أي الوجهين أوجبت، مثل قولهم: إن كان الإله خالقا للخير والشر، أو خالقا للخير وحده، فالإله موجود. وكذلك سواء قلت إن الإله مكون، أو قلت إن الله فاسد، فذلك يرفع وجود الإله. وكذلك ما يعمل على سبيل الموازنة والاستدراج، كمن يسئل منكر العلم والفلسفة، فيقول: هل يحب أن يتفلسف؟ فإن قال: نعم، فقد أعطى علما؛ وإن قال: لا، فقد أعطى علما. فكون هذا على سبيل الاستدراج ليس معناه أنه مغالطة، بل معنى كونه مستدرجا أنه يفتقر فيه إلى سؤال، ويخالف ما الذي يأتي به المثبت من تلقاء نفسه. وكقولهم: سواء خرجت
(2/241)
إلى فلان من ملك أرضك، أو من ملك ملكك، فكلاهما إذعان. وهذا وقت ما يحتج بأنه لو جمع بينهما في تمليكهما فلانا فقد انقاد لصغار، وإنما يعطيه أحدهما. وكقوله: إنك تكبرت من خدمة الملك، ورأيت مخالطته مذلة، فكذلك انحيازك إلى العامة، ورضاك بجري أحكامهم عليك، ولبسك ثوب السلامة الذي أفيض عليهم. ونحو آخر من ضدين عند ضدين في وقتين يمكن أن يعكس الأمر فيهما، كقول القائل: إنما كنت أقاتل لأني كنت متورطا. فإن أمنت، فلا أقاتل. ولقائل أن يقول: إنما كنت لا أقاتل، لأني كنت في الورطة. والآن، فإذا أمنت، فأنا مقاتل. ونحو آخر ينبغي أن يفهم هكذا: وهو أنه إذا كان الضد الذي قد كان سببا لضد، فالضد الآخر لو كان، لقد كان يكون لا محالة سببا للضد الآخر، مثل ما يقال: إن كنت لما أعطيته سررته، فكلما ارتجعت حزنته. وإذا كان الأمر سببا لضدين، فيجب أن لا يخص بأحدهما، فيقال: ليس الجد إنما يعطي السعادة الإحسان، بل وللغبطة، ولأن يحسده الأشرار ويقصدوه بالشر. وقد يمكن أن يفهم الضرب الذي قبل هذا على هذا المعنى بعينه، حتى يقول: ما أعطاه، ليسره، بل ليرتجعه، فيغمه. وهذه المواضع نافعة في الذم، وفي كفر المنة، والشكاية؛ وقد تنفع أيضاً في المدح والاعتذار. ونحو آخر خاص بالمشاجرة والمشاورة، وهو أن يكون الخطيب عمد إلى حال الشيء فتأملها، فإذا كانت على جهة ما شكا به أو منع؛ وإن كانت على ضدها اعتذر أو أطلق، كمن يقول: هذا ممكن وسهل ونافع لك ولأخوانك، فافعله، في المشورة؛ أو فعلت بك، عند الاعتذار؛ وفي ضده: لا تفعله، في المشورة؛ أو فعلت بي، عند الشكاية.ى فلان من ملك أرضك، أو من ملك ملكك، فكلاهما إذعان. وهذا وقت ما يحتج بأنه لو جمع بينهما في تمليكهما فلانا فقد انقاد لصغار، وإنما يعطيه أحدهما. وكقوله: إنك تكبرت من خدمة الملك، ورأيت مخالطته مذلة، فكذلك انحيازك إلى العامة، ورضاك بجري أحكامهم عليك، ولبسك ثوب السلامة الذي أفيض عليهم. ونحو آخر من ضدين عند ضدين في وقتين يمكن أن يعكس الأمر فيهما، كقول القائل: إنما كنت أقاتل لأني كنت متورطا. فإن أمنت، فلا أقاتل. ولقائل أن يقول: إنما كنت لا أقاتل، لأني كنت في الورطة. والآن، فإذا أمنت، فأنا مقاتل. ونحو آخر ينبغي أن يفهم هكذا: وهو أنه إذا كان الضد الذي قد كان سببا لضد، فالضد الآخر لو كان، لقد كان يكون لا محالة سببا للضد الآخر، مثل ما يقال: إن كنت لما أعطيته سررته، فكلما ارتجعت حزنته. وإذا كان الأمر سببا لضدين، فيجب أن لا يخص بأحدهما، فيقال: ليس الجد إنما يعطي السعادة الإحسان، بل وللغبطة، ولأن يحسده الأشرار ويقصدوه بالشر. وقد يمكن أن يفهم الضرب الذي قبل هذا على هذا المعنى بعينه، حتى يقول: ما أعطاه، ليسره، بل ليرتجعه، فيغمه. وهذه المواضع نافعة في الذم، وفي كفر المنة، والشكاية؛ وقد تنفع أيضاً في المدح والاعتذار. ونحو آخر خاص بالمشاجرة والمشاورة، وهو أن يكون الخطيب عمد إلى حال الشيء فتأملها، فإذا كانت على جهة ما شكا به أو منع؛ وإن كانت على ضدها اعتذر أو أطلق، كمن يقول: هذا ممكن وسهل ونافع لك ولأخوانك، فافعله، في المشورة؛ أو فعلت بك، عند الاعتذار؛ وفي ضده: لا تفعله، في المشورة؛ أو فعلت بي، عند الشكاية.
(2/242)
وإما نحو يتبع هذا، وهو في الاشتغال بالمعروف، والقريب من المعروف فهو كالمكرر. وموضع من التوبيخ أورد غير مناسب لما يحكيه: وهو أن يأتي بما هو معلوم من مساوئ الخصم، وإن كانت خارجة عن المسئلة؛ ومساوئه هي الأمور القبيحة المنسوبة إليه، أو من الأمور القبيحة التي هو مؤثر لها، إما من الأحوال المنسوبة إلى الدهر والزمان وهي الجدية، أو من الأفعال الاختيارية أو الأقوال الاختيارية؛ أو يأتي بما هو معلوم من فضائل نفسه، وإن كانت خارجة عن المسئلة. ونحو بإزاء توبيخ الموبخ، بأن يقول: إن كذا لو كان قبيحا، لما فعله فلان، أو لما فعل شبيهه فلان، أو إنه إنما فعل فلان، لا أنا، أو إنما كان لكذا لا لكذا، ليحسنه على الجملة. وربما كانت المصادرة على المطلوب الأول مقنعة، ويكون التكرير الذي فيه موقعا لتصديق الأمر بعد تكذيبه، كقول القائل: لم زعمت أن فلانا شق العصا، فيقول: لأنه شق العصا. وكذلك ما يجري مجرى المصادرة، مما قيل في الجدل، وذلك مثل أن يقول: فلان لا يفعل كذا، لأنه لا مأمون أن يفعل كذا، فإنه في قوة المصادرة؛ وإنما فعل كذا مناكدة لفلان، لأنه أراد مغالطته. ومن الإنحاء في التوبيخ: إنك لم فعلت هذا، وقد كان الأحسن والأولى بك ممكنا؟ وهذا في قوة قياس على إنتاج القبح. وأيضاً أن يقول: لو كان ما يقوله صوابا، لفعلته. وقد يصلح للتثبيت أنه لما قال شيئاً، وفعله بنفسه، فقد كان عنده صواباً. أو يقول الموبخ: لو كان ما يقوله صوابا عنده، لفعله بنفسه. ويعارض هذا بأنه يجوز أن يكون لما فعل ما فعله، أو لم يفعل ما لم يفعله، كان ذلك عنده أنه صواب. وأما حين يشير بما يشير به، فلا يؤمن أن يكون قد بدا له في استصابته. فهذا النوع يعارض بهذا. وأيضاً قد يعارض قول من قال: قلت ولم تفعل - وهو موضع يصلح للاستغشاش - بأنه ليس كل من يشير بصواب يجب أن يعمله. فما كل صواب يعتقد، يعمل به المعتقد. فهو موضع يصلح لإزالة التهمة عند الاستغشاش. ويعارض من قال: إنه لما قال وفعل، فهو صواب، بأنه ربما فعل على غير الوجه الذي قد أشار. ويصلح للتغشيش أيضاً. ونحو آخر من التوبيخ مأخوذ من الضدين: إنه إن كان يفعل كذا، لأجل كذا، فلم يفعل الذي يخالفه، والذي يضاده؟ وإن كنت لا تفعل كذا، فلم تفعل كذا؟ وبالجملة: فإن فعلك يلزم منه ضد فعلك. كما قال قائل لقوم يذبحون عن ميت أنه لحق السعادة، وصار إلى جوار الله، وهم مع ذلك يبكون عليه: إنكم بئس ما تفعلون. إن كان المتوفي عندكم لاحقا بدرجة السعداء، فلم تبكون عليه؟ وإن كان لاحقا بدرجة الأشقياء، فلم ذبحون عنه وتقربون؟ ونحو آخر يجب أن يفهم أنه يتمكن به المتكلم من التوبيخ لما يعرض لخصمه من الخطأ في الاحتجاج. وذلك يعرض كثيرا. فتكون الحجة التي يحتج بها الخصم توكد عليه الإلزام. مثل المرأة المتهمة بإسقاط ولدها، وقتله. فإنها لما قيل لها: لم فعلت؟ فحاولت أن تدرأ عن نفسها التهمة، قالت: ما قتلت ولدي، ولا فلانا زوجي. فصار قولها هذا حجة للخصم يوبخ بها ويقول: إن هذه قد جعلت حكم زوجها حكم ولدها، فهي قاتلتهما جميعا. ونحو آخر يتعلق فيه باشتقاق الاسم، وبالاستعارة، وبما هو منقول إليه، كمن يقول: إنك والله جواد، كما سميت. وفلان ظالم، كما سمى. وكما قال واحد لثراسوماخس الجدلي: إنك والله لثراسوماخس، كما سميت، أي صخاب ومشغب. وكما يقال: إن شريعة موسى كموسى، أي حلاقة صعبة. وكما يقال: إن ماة محمد لمحمدة. والتوبيخ أنجع من التثبيت، لأنه يضع الضدين نصب العين. والعبارة عن التوبيخ فإنها تجري على إيجاز، كما يقال: لو فعلت كذا، أو كان كذا؛ فيكون مبدؤه ينبه لآخره عن قرب. والموبخ يؤلم، ويؤثر أثرا يستشعر فاعله معه فضل تشف، وخصوصا إذا كان هيئة ابتدائه تنبه على آخرته. فإن سرعة التفهيم مفرح، كما أن سرعة التفهم مفرح.
فصل
الفصل الثامن
في الضمائر المحرفة المقبولة في الخطابة
والمرذولة المغالطية منها وفي أصناف المقاومات
(2/243)
قد علمت أن استعمال الضمائر المحرفة التي ليست حقيقية قد يكون خطابيا؛ فمنها ما تحريفه بسبب اللفظ، كالذي يكون فيه لفظ مشترك، وما يجري مجراه؛ ومنها ما تحريفه بسبب الشكل، وهو أن لا يكون القول يلزم منه الأمر بحال، ولا لزوما مظنونا؛ لكن القائل يتجلد، وينتقل عن القول إلى النتيجة كأنه أنتجها، فيروجها. وهذا الترويج يكون بسبب في هيئة القول ولفظه، متعلق باللفظ وحده أو متعلق بالمعنى مع اللفظ، تتروج له المقدمة على أنه بدلها. فمن ذلك ما يكون باشتراك الأسم الصرف، كم يثني على الكلب ويمدحه، فيقول: ألا ترى الكلب الذي في السماء يبذ سائر الكواكب نوراً؟ ومن ذلك ما يكون بسبب التركيب والتفصيل، على ما علمت في الفن الذي قبل هذا، كمن يقول: فلان يعرف الحروف والهجاء، فيعرف إذاً الشعر. وكقولهم: كيف يكون فلان قد صح، وقد نكس إلى مرضه؟ وكيف يكون عن شرير خير؟ وقد يقال هذا على جهة التوبيخ، ويقال على جهة التثبيت. ومن ذلك أن يترك الأمر، وينتقل إلى غيره، مثل المنكر أنه فعل شيئاً أتهم به، إذا لم تكن عنده حجة يبين بها أنه لم يفعله، فإنه يأخذ في تقبيح من يفعل ذلك، وتعظيم صنيعه؛ أو الشاكي، إذا تهيأ بهيئة مخرج مغضب، أوهم أن ذلك قد فعل به. وهذا نوع من الاحتجاج المظنون. لأن الحاكم إذا كان كون الأمر ولا كونه مشكلاً لديه، لا يتضح له، فعومل ما ذكرناه، اشتغل عن استثبات الحال فيه، وانتقل إلى اعتبار ما يخاطب به، أو يتراءى به لديه، فلم يلبث أن يصدق. فهكذا يجب أن يفهم هذا الموضع.
ونحو آخر أن يأتي باللاحق. فإن هذا بالحقيقة مظنون، لأنه من الموجبتين في الشكل الثاني.
ومن ههنا نعلم أن المعلم الأول لما ذكر في كلامه المائل المنحرف، وأنه تفكير حقيقي، لم يعن به أن المائل من جهة وضع حدوده، والمنحرف عن الشكل المنتج في نفسه، تفكير حقيقي. فإنه ليس يراه تفكيراً حقيقياً، بل تفكيراً مظنوناً. وإنه إنما عنى بالمائل ما حرف عن الجهة القياسية. وذلك لأن كثيراً من المقدمات يستعملفي الخطابة، لا على أنها مقدمات، بل على أنه مسائل، أو تعجبات، أو أوامر.
ومن ذلك أن يسلك طريق ما بالعرض، كم يقول: إن من الاستظهار أن يكون مع الإنسان حيث يكون درهمان، فإن يزدجرد، إنما هلك، لفقده الدرهمين. ومن ذلك قوله: ينبغي أن يفهم على ما أعبر عنه. وهو موضع مبني على اعتبار المعادلة، أو اعتبار المباينة، وأن يجعل للشيء حكم شيء، لأنه نظيره، كمن يجعل التخلي دليلاً على العز، إذ كان تخلي الاسكندر إنما هو لعزه؛ ويجعل السرى بالليل دليلاً على الزنا، لأن الزناة كذلك يفعلون. وكذلك أيضاً، لما كان المساكين الذين لا مأوى لهم وإنما يسكنون الرباطات، قوماً يأكلون بلا حشمة ويرقصون؛ والهراب الشاردون أيضاً ينزلون حيث شاءوا، ويفعلون ذلك؛ ثم الأكل والرقص والنزول حيث شاء الإنسان قد يكون كثيراً للمثرين المتنعمين؛ فيقال من ذها: إن المساكين والهراب مثرون متنعمون. وهذا أيضاً من جملة اللواحق. وأما الأمثلة لهذا من المباينة، كما يقال: لست بقارون، فما لك والاسراف؟ وهذه أيضاً ضمائر مظنونة. وعندي أنها قريبة من باب اللواحق، أو جزئية اللاحق، وأنه تأخر عنه لغلط من النساخ. ومن ذلك أخذ ما ليس بعلة علة، كمن يقول: لولا ورود فلان المشئوم، لما ما فلان. ومن ذلك اطراح الشرائط من الأين والكيف وغير ذلك، وأخذ ما ليس بمرسل مسلاً. فإن الجدلى يأخذ الشرط ويورده ويوجده، والسوفسيطي يلغيه ويعدمه. وهكذا فافهم هذا الموضع.
وإذا كانت السوفسطية مظنونة مقبولة فهي خطابية؛ فلا بأس في الريطورية أن يستعمل من الضمير المظنون ما أشرنا إليه، فيؤخذ ما ليس محمولاً بالإيجاب على الإطلاق محمولاً بالإيجاب على الإطلاق. فما كان من أصناف هذه التفكيرات ما يتروج ويظن في مذهب الخطباء حجة، فهو غير بعيد من الخطابة.
وأما ما كان لا يقع به الن، ولا يقبله الجمهور، ويفطنون لتحريفه، فإن استعمالها مغالطة في الخطابة، كمن يقول: إن زيداً الجاني، عندما هو مريض، قد كان صادقاً عليه أنه غير واجب أن يعاقب، فيجب أن لا يعاقب أبداً؛ أو يقول: إن هذا السكران إن لم يجلد في سكره وجنايته، فكيف يجلد وهو صاح، وقد فارقته الجناية؟ فإن أمثال هذه يظهر عند الجمهور ما فيها من التحريف.
(2/244)
وأما المناقضة، فمنه ما يكون بأن يورد الخصم حجة بإزاء حجة الخصم تنتج نقيض نتيجة حجة الخصم. ويكون ما أعطيناه من الأنواع المظنونة الصالحة لإيقاع الظنين المتقابلين معاً كافياً في معرفة مأخذ ذلك. ومنها ما يكون بأن يقاوم ولا يأتي بحجة على نقيض مطلوب الخصم، بل يقصد المقدمات. والمقاومة الخطابية تشارك الجدلية في العدة، وفي أنها أربع؛ وقد ذكرت في الجدل أنها إما مقاومة نحو المقدمة، أو نحو القول، أو نحو السائل، أو نحو الزمان؛ وإن كانت تخالف الجدلية في التعيين. على أن الجدلية أيضاً تنفع في الخطابة. وأما هذه الأربعة المذكورة خاصة في الخطابة فهي أن المقاوم إما أن ينحو بها نحو المقدمة نفسها، أو نحو ما هو مقامها ككليها فوقها أو جزئيها تحتها، وإما أن يتركها ويقصد شبهها فيثبت في شبهها ما يبطل حكم المقدمة، وإما أن يقصد ضدها فيجعل حكم المقدمة ضد حكم الشبيه، أو يرفع حكم المقدمة على اقتضاء ذلك التضاد، وإنما أن يأتي بنص من أقاويل الشرائع والحكام، كمن يقول يقول: إن السنة ليست توجب على السكارى العذاب، إذا قذفوا، وهم سكارى. فيقول المقاوم: بل السنة توجب ذلك، ولذلك عذب فلان النبي والإمام ولده، حين أساء أدبه في حالة الانتشاء.
ثم إن التفكيرات: إما أن تكون من الواجبات وهي الآراء المحمودة، أو تكون من البرهانات، لا من حيث يصحح بها المطلوب نفسه، فذلك خارج عن هذا، بل بأن ينتقل منها إلى حكم كلي، ثم يصنع منه ضمير؛ وإما من الدليل وهو الذي على سبيل الشكل الأول، وهو اضطراري جداً؛ وإما من الرسوم. واعلامة: إما من الكلية على سبيل الشكل الثاني؛ وإما من الجزيئة على سبيل الشكل الثالث، وعلى ما علمت. وذلك إما في إثبات؛ وإما في نفي. هكذا يجب أن يفهم هذا الموضع.
وليس يجب أن يظن أن الواجب هو الحق دائماً، بل وإن كان في الأكثر، فهو واجب بحسب هذا المبلغ. والكلام المؤلف من الآراء، فإنما يناقض بالمقاومة للمقدمة فقط، ولا يناقض من جهة ترذيل الشكل. وتناقض المقدمة بأنها ليست دائمة الصدق، ويؤتى بجزئي يكذب فيه الحكم، وأنه ليس باضطرار. وإن كان يسلم أنه واجب، فلا يسلم أنه واجب دائماً كل وقت. بل تارة يقول: إنه ليس بواجب، وتارة يقول: إنه ليس باضطرار وجوبه كل وقت. وأن يقول نعم، هذا يكون في الأكثر، ولكن ليس واجباً، بل قد يخلف. وإنه وإن كان الشرع أوجبه، فقد أوجبه من غير تفصيل، والمصلحة توجب فيه التفصيل بحكم العقل. فيخصص الحكم بزمان يناقض به، أو بشخصي يناقض به. وإما أن يكون ظاهراً حكمه في أنه ينقض، أو يدعم الجزئي بحجة من مصلحة أو غيرها. كما أن الاعتماد على مقتضى الكثير بالعدد المترادف في الزمان قوي. كذلك نقضه أيهما كان، أو باجتماعهما، نقض قوي.
وأما الرواسم فإنها تنقض من وجهين: أحدهما من أن القول غير منتج؛ والآخر من أن المقدمة غير صحيحة. على أن نقيض المقدمة فيهما ربما عسر، لأنها تكون في الأكثر في مقدمات مسلمة.
وأما الأمثلة فمناقضتها بالأمثلة واجبة. فإن لم تنتقض بمثال، فالوجه أن يقال فيها: إنها ليست باضطرارية، وإن كانت أكثرية، ويعترف بأكثريتها، ثم يقال: لكنها تخلف في مثل ما فيه الكلام. اللهم إلا أن تفرط جداً في الكثرة. فحينئذ لا بد من المقاومة بمثال آخر. فإن الذي هو قريب من العموم، وليس المعول فيه على شبيه واحد فقط، إما أن يبين أنه ليس بمشابه أصلاً ولا مشاكل، أو يبين أن الحكم لعلة أخرى غير المشابهة المظنونة؛ وإما أن يعترق بفضيلته ويذعن له.
وأما الدلائل فلا تؤى من جهة رداءة التأليف. فإن صدقت المقدمات، فلا سبيل إلى مناقضتها.
وأما التكبير والتصغير فليس اسطقساً للضمير الذي يراد به الوصول في المشاجرات والمشاورات والمنافرات، بل هما من توابع ذلك، فمقاومتها ليست مقاومة أصلية، ولا اسطقسات مقاومة. وكل مخاصم بالحجاج، كما علمت، إما بمعارض، أو بمقاوم. وكلاهما مشتركان في استعمال أنواع جنس واحد، ومحتاجان إليه، ومغترفان منه. وإن كانت المقاومة من نوعي المناقضة ليست تفكيراً، كما علمت؛ لأنه ليس إذا أبطل صحة احتجاج خصمه، فقد صحح قول نفسه، وإنما أكثر ما يبينه أن كلام خصمه ليس بصحيح، وأن فيه كذباً ما.
المقالة الرابعة
أربعة فصول فصل
الفصل الأول
في التحسينات
واختيار الألفاظ للتعبيرات
(2/245)
قد قيل في التصديقات، وفي الأنواع كلها، وبقي أن نتكلم في التوابع والترتيبات والتحسينات. وهذه بعضها متعلق باللفظ، وبعضها متعلق بالترتيب، وبعضها متعلق بهيئات المتكلمين وهي أمور خارجة عن اللفظ وعن المعنى. فمنها ما يتعلق بهيئة اللفظ ونغمته. ومنها ما يتعلق بهيئة القائل، فيخيل معاني، أو يخيل أخلاقا واستعدادات نحو أفعال أو نحو انفعال. وهذا هو الشيء الذي يسمى الأخذ بالوجوه، ويسمى نفاقا. وهذا كما أنه يصلح للشعر من جهة ما فيه من التخييل، فقد يصلح أيضا للخطابة. فإن التخييل قد يعين على الإقناع والتصديق. ومنها الصنف المستعمل في النغم، مثل تثقيلها وتحديدها وتوسيطها وإجهارها والمخافتة بها أو توسيطها. فإن للنغم مناسبة ما مع الانفعالات والأخلاق. فإن الغضب تنبعث منه نغمة بحال، والخوف تنبعث منه نغمة بحال أخرى، وانفعال ثالث تنبعث منه نغمة بحال ثالثة. فيشبه أن يكون الثقل والجهر يتبع الفخامة، والحاد المخافت فئة تتبع ضعف النفس. وجميع هذا يستعمل عند المخاطب، إما لأن يتصور الإنسان بخلق تلك النغمة أو بانفعالها عندما يتكلم، وإما لأن يتشبه نفس السامع بما يناسب تلك النغمة قساوة وغضبا، أو رقة وحلما.
ومن أحوال النغم: النبرات، وهي هيئات في النغم مدية، غير حرفية، يبتدئ بها تارة، وتخلل الكلام تارة، وتعقب النهاية تارة، وربما تكثر في الكلام، وربما تقلل. ويكون فيها إشارات نحو الأغراض. وربما كانت مطلقة للإشباع، ولتعريف القطع، ولإمهال السامع ليتصور، ولتفخيم الكلام. وربما أعطيت هذه النبرات بالحدة والثقل هيئات تصير بها دالة على أحوال أخرى من أحوال القائل أنه متحير أو غضبان، أو تصير به مستدرجة للمقول معه بتهديد أو تضرع أو غير ذلك. وربما صارت المعاني مختلفة باختلافها، مثل أن النبرة قد تجعل الخبر استفهاما، والاستفهام تعجبا، وغير ذلك. وقد تورد للدلالة على الأوزان والمعادلة؛ وعلى أن هذا الشرط، وهذا جزاء؛ وهذا محمول، وهذا موضع.
واعلم أن اختلاف النغم عند محاكاو المحاكي إنما يكون من وجوه ثلثة: الحدة، والثقل، والنبرات. والمنازعون من الخطباء يكتسبون هذه الملكة من مراعاة المنازعين من الشعراء، فما كان أعمل في أغراضهم، نقلوه إلى صناعتهم، وكذلك قد يأخذونها من هيئات السواس حين يسوسون المدن. لكن هذه الأشياء لم تكن دونت إلى زمان المعلم الأول؛ بل الأوجب منها، وهو القول في اللفظ، لم يكن قد دون البتة. وهذه الأشياء كلها توزينات للقول ليستقر في الأنفس استقرارا أكثر، وهي لأجل قذف الظن في النفس. وأما بالحقيقة فهي خارجة عن صرف العدل ومره؛ لأن صرف العدل هو الاقتصار على الكلام؛ وأما هذه فهي حيل، ولكنها حيل نافعة.
واعلم أن الاشتغال بتحسين الألفاظ في صناعة الخطابة والشعر أمر عظيم الجدوى. وأما التعاليم فإن اعتبار الألفاظ فيها أمر يسير، ويكفي فيها أن تكون مفهومة، غير مشتركة، ولا مستعارة، وأن تطابق بها المعاني. ولا يختلف التصديق في التعليم بأي عبارة كانت إذا عبرت عن المعنى. وأما الإقناع في الخطابة والتخييل في الشعر فيختلف في المعنى الواحد بعينه بحسب الألفاظ التي تكسوه. فينبغي أن يجتهد حتى يعبر عنها بلفظ يجعله مظنونا في الخطابة، ومتخيلا في الشعر. فإن اللفظ الجزل يوهم أن المعنى جزل؛ واللفظ السفساف يجعل المعنى كالسفساف؛ والعبارة بوقار تجعل المعنى كأنه أمر ثابت؛ والعبارة المستعجلة تجعل المعنى كشيء سيال. ولذلك فإن المشتغلين بالحقائق، المتمكنين من المعرفة، المتحلين بالصدق لا يتعاظون طريقة تزيين الألفاظ؛ فلا المهندس ولا معلم آخر يعنيه الاشتغال بالألفاظ وتحسينها، إلا أن يكون ناقصا، أو مزورا، أو مضطرا إلى أن يروج المعنى باللفظ، كبعض الخراسانية النسفية الذين كانوا قريبا من زماننا. بل هذه التكلفات تجري مجرى النفاق والأخذ بالوجوه فيحسن حيث تحسن هي.
وقال المعلم الأول: وقد تكف النظر فيها ثراسوماخس الخطيب الجدلي.
(2/246)
أما النفاق والأخذ بالوجوه، فإنما ينصرفان على أشياء تصدر عن الصناعة. ولهذا صار المقتدر على إجادة العبارة أشوق إلى المنازعة من العاجز عنها، وإن كان المعنى واحدا. كما أن المقتدر على الأخذ بالوجوه يجسر على ما لا يجسر عليه الساذج، وإن اتفقا في المعنى. وأما الرسائل الخطبية المكتوبة فإنما تكون قوة تأثيرها لأحوال في نفس اللفظ فقط، لا لمعنى النفاق. لأن النفاق لا يكتب. وكثيرا ما يضعف المعنى جدا، فيتداركه اللفظ الجزل، وإن لم يرفده النفاق. ذلك وأول من اهتدى إلى استعمال ما هو خارج عن الأصل هم الشعراء، إذ كان بناؤهم لا على صحة وأصل، بل على تخييل فقط. فلذلك أخذوا في تفخيم الألفاظ وجعلوا أيضا نغم الإنشاد مضاهية لجزء جزء من الغرض. ومن هناك اهتدوا إلى استنباط الصنائع الخطابية المدنية والقصصية. ولذا إذا قدر الشاعر على أن يخيل باللفظ وحده من غير حاجة إلى الغناء والتلحين وأخذ الوجوه والنفاق اعتد لصنيعه، وأعجب به، واستوجب عليه الإحماد. ولهذا السبب ما يسبق التخييل التصديق في الزمان. فإن المأثور من العبارات والمناظرات القديمة إنما يجري على مذهب الشعراء في التخييل. والناس أول ما يسمعون إنما يسمعون الأمثال الشرعية التي فيها مشاكلة للأقاويل التخييلية. ثم بعد زمان يتدرجون إلى خطابة، ثم إلى جدل وسفسطة، ثم إلى برهان ويكون المتكلفون والمتفصحون في كل عصر محاولين للتفيهق في بذلة الكلام. وليس يحسن هذا في كل موضع، ولا أيضا في كل شعر. فكثيرا ما يجب أن يستعمل مثل هذا في غير الشعر؛ وكثيرا ما يجب أن يستعمل في الشعر. فإن الأشعار القصار والخفاف التي ينحى بها نحو المعاني الهزلية والضعيفة يجب أن لا تفخم فيها الألفاظ بل يؤتى بالبذلة. ولذلك فإن الأعاريض التي كانت لليونانيين مفروضة لمعنى ما، لما حرفت وألحقت بأعاريض أخرى، حرف أيضا ما يليق بها من التفخيم. ولما طولوا الرباعيات حاولوا تغيير عادة اللفظ فيها. ولم يحسن ذلك؛ لأنهم لم يطولوها وهم يعدونها نحو استعمال آخر، بل استعملوها في الغرض التي كانت تستعمل فيه وهي رباعية. ويجب أن يفهم أن الرباعيات هي القصار من الأبيات، دون الطوال. وبالجملة: لا ينبغي أن تستعمل فخامة اللفظ في كل موضع. ولا ينبغي أن يقتدي الخطيب بالشاعر في ذلك. وكيف والشعراء أنفسهم لا يستعملون ذلك في كل موضع! وينبغي أن لا يتحرى الخطيب التفيهق في كل موضع بكلام مستقصى في الجزالة، ولكن ليطابق بمتانة اللفظ وسلاسته متانة ما يتكلم فيه وسلاسته.
واعلم أن القول يرشق بالتغيير. والتغيير هو أن لا يستعمل كما يوجبه المعنى فقط، بل أن يستعير، ويبدل، ويشبه. وذلك لأن اللفظ والكلام علامة ما على المعنى. فإنه إن لم يدل على شيء، لم يكن مغنيا غناء اللفظ. فينبغي أن يكون له في نفسه حال يكون بها ذا رونق، حتى يجمع إلى الدلالة حسن التخييل، وذلك أن لا تكون الألفاظ حقيرة سفسافية، ولا مجاوزة في المتانة مبلغ الأمر الذي تدل عليه. وكذلك الشعراء المفلقون الذين كلامهم أحسن كلام عامي، وهو الشعر، فإنهم يستعملون الألفاظ من الأسماء والكلم ما كان مشهورا كريما، بين الحقيرة وبين المتكلفة المجاوز حد الواجب في تهذيبها. وهذه الألفاظ المتوسطة التي ترتفع عن درجة العامية، ولا تخرج إلى الكلفة المشنوءة، تسمى ألفاظا مستولية. وأما أقسام الألفاظ من حيث أنفسها فتذكر في الشعر.
(2/247)
واعلم أن الرونق المستفاد بالاستعارة والتبديل سببه الاستغراب والتعجب وما يتبع ذلك من الهيبة والاستعظام والروعة، كما يستشعره الإنسان من مشاهدة الناس الغرباء، فإنه يحتشمهم احتشاما لا يحتشم مثله المعارف. فيجب على الخطيب أن يتعاطى ذلك حيث يحتاج إلى الروعة وإلى التعجب. وللأوزان تأثير عظيم في ذلك. واستعمال الاستعارات والمجاز في الأقوال الموزونة أليق من استعمالها في الأقوال المنثورة، ومناسبتها للكلام النثر المرسل أقل من مناسبتها للشعر، وهو مع ذلك متفاوت. فإنه ليس قولك لرجل لا تعرف اسمه: يا رجل، كما تقول له: يا غليم. فإن هذا أشد بعدا من الواجب. على أن له موضعا يلائمه، ويليق به. ولا ينبغي أن يقتدي في ذلك بالشعر. فإن الخطابة معدة إلى الإقناع، والشعر ليس للإقناع والتصديق، ولكن للتخييل. وليعلم أن الاستعارة في الخطابة ليست على أنها أصل، بل على أنها غش ينتفع به في ترويج الشيء على من ينخدع وينغش ويؤكد عليه الإقناع الضعيف بالتخييل، كما تغش الأطعمة والأشربة بأن يخلط معها شيء غيرها لتطيب به أو لتعمل عملها، فيروج أنها طيبة في أنفسها. وقد يقع من ذلك ما يسمج جدا، كما كان يفعل رجل يقال له إدروس فإنه كان يحرف لغته وصوته ويتكلم بغير لغة بلده، ويتشبه فيه بالغرباء، فكان يستبشع ذلك منه عند المحنكين، لأنه كان يخرج عن العادة، وإنما كان يتعجب منه المغبونون والأغرار.
وقد يعرض لمستعمل الخطابة شعرية، كما يعرض لمستعمل الشعر خطابية. وإنما يعرض للشاعر أن يأتي بخطابية وهو لا يشعر، إذا أخذ المعاني المعتادة، والأقوال الصحيحة التي لا تخييل فيها، ولا محاكاة، ثم يركبها تركيبا موزونا. وإنما يغتر بذلك البله، وأما أهل البصيرة فلا يعدون ذلك شعرا. فإنه ليس يكفي للشعر أن يكون موزونا فقط. وهذا الإنسان في حكم اللص، لأنه يسرق ظنا بغير وجوب، ولا أشباه وجوب. وأول من كان يفعل هذا أوريفيدس. بل الأصل الأول في الخطابة أن تكون الألفاظ التي منها تتركب الخطابة ألفاظا أصلية مناسبة، وأن تكون الاستعارات وغيرها تدخل فيها كالأبازير، وكذلك اللغات الغريبة، وكذلك الألفاظ المختلقة على سبيل التركيب، وهي ألفاظ لم تستعمل في العادة على تركيبها، وإنما الشعراء ومن يجري مجراهم هم الذين يختلقون في تركيبها، مثل قولهم: فلان يتكشحم. فإن هذه مما ينفر عنها في الخطابة، لأنها أحرى أن تستعمل في التخييل منها في التصديق. وستعلم أن بين الجميل والحسن وبين القوي والعظيم فرقا، كما في الخلق والأشكال. وإنما يحسن في الخطابة من الأسماء ما كان مستوليا، وقد عرفته، وما كان مناسبا أيضا أهليا. وهذا هو اللفظ النص على المعنى. وأما التغييرات فإنما تصلح إلى حد. والفرهة من الخطباء يستعملون هذه الأصناف. وههنا أقسام من الألفاظ ذكرها بكتاب الشعر أولى، ومن حقها أن تهجر في الخطابة، وكلها يغلط السامع، والتغليط بالشعر أولى منه بالخطابة، وخصوصا المتفقات من الأسماء فإن من حقها أن لا يستند إليها. على أنها بالمغالطية أولى. وأما المترادفة فهي بالشعر أولى، فإن ترادفها يخيل توكيدا للمعنى. وأما التصديق فلا يستعان فيه بالتكرير البتة. اللهم إلا أن يكون التصديق غير واقع أو يرفد بتخييل. وكما أن الوزن من جملة ما لا ينتفع به في الخطابة، أو ينتفع به نفعا يسيرا، وإنما يحتاج فيها إلى شيء من الوزن غير ام، كذلك الألفاظ الشعرية.
(2/248)
واعلم أن الاستعارة والتغيير إما أن تقع بلفظ مشهور، أي بحسب معنى آخر، أو بلفظ غريب، أو بلفظ لا مشهور جدا، ولا غريب، ولكن لذيذ. واللذيذ هو المستولي المذكور، وخصوصا إذا كانت حروفه حروفا غير مستشنعة في انفرادها، أو في تركيبها. وكيف كان فينبغي أن يستعمل من الألفاظ الموضوعة أي المطابقة، والمتغيرة أي المستعارة، وما يجري مجراها من المجاز ما يليق بالشيء، لا كيف اتفق، وذلك على حسب الشيء ومضاده، وأن يقايس بينه وبين ضده فيعلم اختصاصه بما يليق به. فإن الشيخ يجمل به شيء من الزينة بعينه، ولا يجمل به ضده؛ وبالصبي شيء آخر. ويبين ذلك إذا قوبل الشيخ بالصبي، فروعي ما يجمل بالصبي، فيعلم أن ذلك لا يجمل بالشيخ. وينبغي للخطيب، إذا أراد أن يستعير ويغير حيث يريد التحسين، أن يأخذ الاستعارة والتغيير من جنس مناسب لذلك الجنس، محاك له غير بعيد منه، ولا خارج عنه. فإنه إذا أراد أن يحقر إنسانا ويقبحه، فيجب لا محالة أن لا يحاكيه بشيء بعيد من جنس ما يفعله، بل يقول، إن أراد أن يقبح ملتمسا ويحقره: إن فلانا ليتكدى. وإذا أراد أن يفخم أمر حريز، لم يبعد بالمحاكاة، بل حاكاه بأنه حاذق بما يتعاطاه، وكما يقال للص المحتال: إنه لص بالتدبير والحيلة. وربما كان ما يحاكيه به ليس يخرجه إلى ضد المعنى، بل يجعله أصغر أو أكبر فيه. كمن يهون حال الظالم، فيقول: مخطئ، مسئ؛ أو يعظم الظنية في أمر من أساء وأخطأ، فيقول: ظالم، متعد. وكذلك يقول لمن سرق: إنه أخذ وتناول تارة، يريد بذلك تخفيف الأمر، أو أغار وانتهب أخرى، يريد بذلك تعظيم الأمر. وقد يقع أيضاً الغلط في الدلالة من جهة إعراب المقاطع، وفي حروف الوصل والفصل. فربما يقع ذلك خطأً، وربما يقع قصداً، لتحريف الدلالة والتغيير. وإذا لم يجد الخطيب للشيء إسماً، فأراد أن يستعير له، فينبغي أن يستعير اسمه من أمور مناسبة ومشاكلة، ولا يمعن في الإغراب، بل يأخذ الأسم المحقق لشبيهه ومناسبه. فتغييره إياه ليس مستعار المستعار، ومغير المغير. ثم يجب أن تكون المعاني التي يستعار منها معاني لطيفة معروفة محمودة، وقد استعملت في المتعارف من الكلام، مثل قول القائل: فوا برداً على كبدي. فإن أمثال هذه الاستعارات قد صارت لفرط الشهرة كأنها غير استعارات. وأما الاستعارات التي لم تذع ولم تتعارف، فأكثرها منافية للخطابة. وإنما يجوز أن تختلف الاستعارات الغريبة في الكلام الشعري. ومن حسن الأدب في الألفاظ أن يكون الخطيب، إذا حاول العبارة عن معنى فاحض، لم يصرح بلفظه البسيط الذي يدل عليه بلا تركيب، أي بلا توسط معنى مستعار، بل ينبغي أن يعترض عنه، ويستعير له ويقيم شيئاً بدله. وذلك وإن كان كذباً، فهو كذب حسن. وربما دل على المعنى القبيح بالإشارة، دون العبارة. ولكنه مذهب غير شريف في الخطبة. لأن الخطيب يجب أن يدل على المعنى بحيث يسمع. فإذا سك عنه لفظاً، وأومأ إليه إشارة، فكأنه ترك المخاطبة. وقد يحسن أن يعترض لا من الشبيه والمناسب، بل بتسمية ما يخالف المعنى محكوماً فيه بالأولى والأحرى والأفضل، ومقابلها من الأقل. أما بالأولى والأحرى والأفضل فكما يقول وهو يريد ذم إنسان: إن السيرة الحسنة أولى من الغشم، وإن العفاف أفضل من الفجور. وأما بالأقل فأن يقول: ليس العفاف أقل في إرغاد العيش من الطمع. وربما ذكر مقابل ما هو الأحرى والأولى، مثل ما ذكر في المثالين. وربما لم يذكر ذلك المخالف، بل ذكر الأولى والأحرى وحده، وكفاه في ذلك الباب بعينه، فيقول: الازدياد من العفة أولى، والاستكثار من الأصدقاء أحرى. وقد ينفع هذا أيضاً إذا ذم به من فيه عفة أو له أصدقاء، إلا أنه مقتصر على الاقتصاد.
(2/249)
وجميع الاستعارات تؤخذ من أمور إما مشاركة في الاسم، أو مشاكلة في القوة، أي مغنية غناء الشيء في فعل، أو انفعال، أو مشاكلة في الكيفية المحسوسة، مبصرة كانت أو غيرها. وللقول الانتقالي الاستعاري في تأثيره مراتب. فإنه إذا قال الغزل في صفة بنان الحبيب: إنها وردية، كانت أوقع من أن يقول: حمر، وخصوصاً أن يقول: قرمزية. فإن قوله في الاستعارة للحمر " وردية " ، قد يخيل معها من لطافة الورد وعرفه ما لا يخيله قوله " حمر " مطلقاً. فإن قوله " حمر " مطلقاً لا يطور بجنبه المدح والاستحسان. وذكر القرمز يتعدى إلى تخييل الدودة الستقذرة. وكذلك أيضاً الحال في الأسماء الموضوعة التي ليست مستعارة، فإن بعضها أفضل من بعض. فإن اللفظ الذي يقع على الشيء من حيث له معنى أكرم هو أحسن من اللفظ الذي يقع عليه من حيث له معنى أخس، وإن كان كل واحد منهما يقصد به في الحقيقة معنى واحد، مثل ما يقال للبغل: إنه نسل فرس من غير فرس، فإنه أوقع من أن يقال له: نسل حمار من غير حمار. وكلاهما، وإن قصد بهما واحد من جهة وفي ظاهر الأمر، فإن الاعتبارين المتحققين فيهما مختلفان، وأحدهما أحسن. وهذا قريب مما قال أبو الطيب: أيابن كروس، يا نصف أعمى وإن تفخر، فيا نصف البصير وعلى هذا المجرى حال استعمال اللفظ المعظم والمصغر. فإذا قيل مثلاً: ذهيب، وثويب، حقر به المعنى الواحد بعينه الذي يعظمه لو قيل: العقيان، أو قيل: الخلعة. بل إذا قيل: ثعلبان، وقيل: ثعيلب، وقيل: معطى، وقيل: معيطى، وعنى تصغير معطى، اختلف المعنى بذلك شديداً. ويجب في أكثر المواضع أن يتوقى الإفراطات جميعاً.
والألفاظ الباردة على وجوه أربعة: منها الأقوال المأخوذة بالتركيب بدل الأسماء، إذا جمع من أعراض بعيدة، غير خاصة، مثل قولهم بدل السماء: الكثيرة الوجوه، وقولهم بدل الأرض: جماء الهامة، وقولهم بدل المتملق: صديق الحاجة، وكقولهم بدل النفس العادية: أسد، وكقولهم بدل قعر البحر: قاني اللون. فإن هذه الألفاظ المركبة، إذا ذكرت، لم تقم مقام حد، ولا رسم، ولا خاصة، ولا يفهم منها غرض القائل. وأما في الشعر، فقد يجوز أمثال ذلك، ويكون استعمالها لا على أنها تدل على الشيء، بل على أنها ألفاظ تحاكى الشيء.
والنوع الثاني: أن يستعمل لغة غريبة، إما من ذلك اللسان بعينه، أو من لسان آخر ينقله إلى لسانه، أو على سبيل الاختراع، كما اخترع بعض أهل لسان العرب، فقال: ترافع العز بنا فارفنعا.
(2/250)
والنوع الثالث: أن يكون من الألفاظ الموضوعة الموافقة ما يستثقل جدا، لا لنفس الغرابة، بل لأنها محرفة في هيئاتها عن القبول: لطوله جدا، كإستعمالهم بدل الطويل: العشنق؛ أو لإبهامه: كما يتفق أن تكون الكلمة مبهمة لا تدل على زمانها، فلا يعرف أن الأمر ماض مثلا أو مستقبل، أو تكون محرفة الزمان كقولهم: كان ذلك، أي سيكون؛ أو لأنها متصلة، أي متصلة بغير ذلك المعنى، كتسميتهم الخمر صهباء، حيث لا يكون مشهورا. فإن الصهوبة تشير إلى صفة تواصل الخمر بها غيره. أو قولهم للماء واللبن: الأبيضان، حيث لا يكون مشهورا. وأمثال هذه لا تحسن في الكلام الخطابي. ولا ما كان مشهورا جدا، متعارفا على ألسنة الناس والغاغة، وشيئا كالمملول. ولا يحسن أيضا ما يكون مع ذلك مأخوذا من الشعر مخيلا فيه طبيعة الشعر، كما يسمع تقريبا من هذا الذي يسمى في زماننا ذوب الشعر، وهو وإن استحسن في زماننا، فإنما استحسن في البلاغة من حيث هي بلاغة يراد بها التعجيب، لا من حيث هي خطابة يراد بها إيقاع التصديق للجمهور، إذ ليس هو على عادة الجمهور ومذهب اللفظ المشهور، بل هو كاللفظ الغريب، الغير اللذيذ عند الجمهور، وعلى أن الإجماع إنما وقع على ذلك من المتعجرفين. وأما البصراء فإنما يحبون من ذوب الشعر ما هو حائل اللفظ، لطيف المعنى، وليس بالمفرط في الاستعارة، ويحبونه كالأبازير. ومن اللفظ البارد ما يسمج لإفراط جعله الشيء عظيما، مثل ما كان لا يستعمل بعضهم في كلامه لفظة " اللذيذ " ، بل يأخذ بدله " المغرى " . وقد ذكر لذلك أمثلة أخرى جمع فيها إن كان اللفظ متصلا، ومع الاتصال فيه البرد التركيبي. وإنما يضطر إلى استعمال هذه الأشياء في كثير منه حيث لا يوجد للشيء لفظ موضوع مفرد، فيحتاج أن يؤلف له لفظ دال عليه. ثم على طول الزمان ربما قبل واعتيد. ويكون قبل ذلك باردا. وبعض هذه الوجوه المستبردة قد يقع في الشعر أحسن موقع. أما المضعفات فتلائم الوزن المسمى " افمن " ، وهو وزن يستعمل في المطربات المفرحة والمضحكة، ويكون مع ذلك طويلا. فيكون المضاعف لطوله، ولتعريضه للضحك منه ببرده، يلائمه. وأما الغريب فيصلح للوزن المسمى " افي " ، فإنه وزن يراد به تهويل الأمر في السياسات والشرائع، ليخشع أو يحذر. والغريب من جملة ما يكون له، كما أنبأنا به من قبل، روعة وحشمة، مع انقباض النفس عنه. كما أن الاستعارة تناسب " ايامبوا " .
وأما النوع الرابع من الألفاظ الباردة: فهي الاستعارات التي لا تشاكل الخطابة أصلا، إما لشدة بعدها والغلو فيها، وإما لحقارتها وذهابها إلى جهة الاستهزاء، فإنها قبيحة. وإن كانت الاستهزائية منها تصلح في ضروب من مؤذيات الشعر، وهي التي تذكر فيها الأهاجي والفحش والرفث. والمبعدات العظيمة جدا منها تستعمل في " الاطراغودية " .
والتشبيه يجري مجرى الاستعارة، إلا أن الاستعارة تجعل الشيء غيره، والتشبيه يحكم عليه بأنه كغيره، لا غيره نفسه، كما قال القائل: إن أخيلوس وثب كالأسد. والتشبيه نافع في الكلام الخطابي منفعة الاستعارة، وذلك إذا وقع معتدلا. فأما أصله فهو للشعر. ويجب في التشبيه والاستعارة، إذا استعملا في شيئين معا، أن يكونا متجانسين. مثلا: إذا دل على الزهرة والمريخ معا بالاستعارة، أو بالتمثيل، أو بالمحاكاة، فقيل في هذه: ماسكة الكأس، فينبغي أن يقال للمريخ: ماسك الحربة. حتى إذا كانا نظيرين ومتخالفين معا، يمثلان بشيئين متناظرين من جهة، مختلفين من جهة خاصة كل واحد منهما.
فصل
الفصل الثاني
في إشباع الكلام في اجتناب ما يهجن اللفظ
واختيار ما يحسنه وما يحسن في الشعر ولا يحسن في الخطابة وما يحسن فيهما جميعا
فلنتكلم الآن في كيفية اختيار اللفظ، فنقول:
(2/251)
يجب أول كل شيء أن تكون فصيحة صحيحة، لا لحن فيها بحسب اللغة؛ فإن اللحن يركك الكلام ويرذله. ثم ينبغي أن تراعى الرباطات بتمامها. والرباطات هي الحروف التي يقتضي النطق بها عودها مرة أخرى، وارتباط كلام بها؛ فينبغي أن لا ينسى إعادتها، أو أن لا ينسى الكلام المرتبط بها، مثل أنه إذا قال: أما أنا فقد قلت كذا، فينبغي أن يتمم الكلام، فيقول: واما أنت، أو إنسان آخر فلم يفعل كذا. فإن الوقوف على " أما " هو نقصان من واجب الكلام؛ وأن لا يباعد بين الرباطين بحشو دخيل ينسى ما بينهما من الوصلة؛ وأن يراعي حقه من التقديم والتأخير، فإنه يجب أن يقول: لما كان كذا، كان كذا، فإن حق " لما " أن يقدم. ويقول: كان كذا، لأن كذا كذا، فإن تقديم " لأن " قبل الدعوى سمج. أقول: ولم يأتمر بهذا فرفوريوس، صاحب ايساغوجي. وأن لا يدخل رباط بين رباط وبين جوابه، إلا في بعض المواضع، كقولهم: أما أنا، فلأجل الرغبة في حمدك، فارقت قومي، وقصدتك؛ واما فلان فيلزمهم. فلأن لفظ " فلأجل " قد دخل بين " أما " الأول، وبين " أما " الثاني، وتوسط، فلم يقبح. وربما لم يوسط بل جعل في الطرف، كقولهم: أما أنا فأتيتك، وأما فلان فلم يأتك. ثم يورد العلة في الطرف، فيقال: لأجل كذا. وهذا إنما يحسن حيث يكون الرباط الأول شديد التنبيه على الثاني. ثم للغات في هذا أحكام، فليس يمكن أن يقال فيها قول كلي محقق. بل ينبغي أن تكون الألفاظ التي لا يراد فيها التشبيه والاستعارة ألفاظا خاصة، غير مشتركة، ثم لا تكون مغلطة وتوهم بمعناها الواحد الشيء وضده. فأمثال هذه الألفاظ تستعمل تغليطا، مثل ما يستعمل انبادقليس الكرة التي يقول إن العالم سيصير وقتا إليها، كما ابتدأ وقتا منها. وكما يتلفظ به المتكهنون، مثل الحكم النجومي الذي حكم به بعض المنجمين، فقال: فلان الملك اليوناني، إذا عبر النهر تأدى الأمر به إلى بطلان ملك عظيم. فلما عبره، تلقاه كورش الملك وهزمه وأفسد ملكه. ولم يجد إلى الإنكار على المنجم سبيلا، لأنه لم يكن بين أي الملكين يبطل بعبوره. وإنما كان الملك نفسه، ومن ذات نفسه، وبحسب وهمه، ما تخيل أن ملك كورش يبطل. ولفظ الكاهن كان محتملا للمعنيين. ولمثل ذلك ما يكون المنجم والكاهن جسورا على القضايا بأمور كلية جدا، إذ الغلط في الجزئية أكثر. ولذلك فإنهم يحكمون حكما مبهما جدا، غير مؤقت ولا مكيف. والوجه الرابع: أن يراعى أمر التأنيث والتذكير، ما كان بعلامة، وما لم يكن بعلامة، حتى لا يقع فيه غلط. والوجه الخامس: أن يراعى أمر الجمع والتثنية والوحدان والتصاريف التي تختص بها. وينبغي أن يسقط الرباطات والإدخالات والتعويضات بالشروط المتداخلة بالتقديم والتأخير، ويجعل الكلام عفوا، حسن الدلالة. وأن تكون هيئات الدلالة على الوقف بالتقصير، وعلى الاتصال بالتثقيل مراعاة على حقوقها. وهذا شيء يكثر في اللغة السريانية واليونانية. ويحذر إيقاع اللفظ موقعا يمكن أن تقرن دلالته بموضعين مختلفين، كقول بعضهم: إن هذا القول كان دائما للرجال الحكماء؛ لأن الدائم لا يدري أهو في شرط الموضوع، أو في شرط المحمول، أي على أن هذا القول إذا كان دائما فهو للرجال الحكماء، أو على أن هذا القول للرجال الحكماء كان دائما. فيحتاج ضرورة إلى علامة تتصل به: أما في الكتابة فإلى الشكل والإعجام؛ وأما في العبارة فإلى مثل ذلك من الدلالة. وهذا مما ليس في كلام العرب. وهذا كما يجب عليك، إذا ذكرت الشيء وحده، أن تدل عليه بالاسم الذي يخصه، كما تقول في حكاية حال العين: إنها أبصرت. فإن قال: أحست، لم تدر إلى أي الحواس يرد، إذ كان محتملا للرد إلى كل حاسة رد العين إلى الإبضار واللمس. فكذلك حال الدائم هناك، لكنه إذا ذكر حالا عامة لانبين، مثل حال عامة لفعلى السمع والبصر معا، احتاج ضرورة إلى أن يقول: تحس، واغناه ذلك عن أن يقول: الاذن والعين ابصرت وسمعت، بل يقول: أحستا. وكذلك إذا جمع المذكر والمونث معا، أوثناهما، فغلب المذكر.
ومن الاشياء المفسدة لرونق النظم إدخال كلام في كلام، مثلا كما يقول: كنت أريد أن آتيك وقت المساء، وفي ذلك الوقت يرجع الناس إلى بيوتهم ويتهيئون لصلوة المغرب، ولتناول العشاء، لأن الشمس تغرب، والليل يقرب، لكنه منعني من ذلك بعض الموانع.
(2/252)
واعلم أن الكلام ربما نفع إيجازه حين يراد الإفهام الوحي، ويوثق بتعقبالإقناع إياه لمعرفة حال السامع، أو حال الأذاء. فيجب أن ترد الحدود والرسوم هناك إلى الألفاظ المفردة. وربما نفعت بسطة للإسهاب به حين يراد توكيد الإقناع واتهويل. فيجب أن تبدل الألفاظ المفردة بالأقاويل. وقد يبدل الاسم بالقول، إذا كان الصريح يستبشع، مثل الاسم الصريح لفرج النساء، فالأسن أن يبدل فيقال: عورة النساء، وكما يبدل اسم الحيض بدم النساء، ويبدل الاسم الصريح للجماع بلمس النساء. وربما بدل الاسم بالصفة المفردة، فيقال بدل الاسم الصريح للجماع: الوطء، وبدل اسم ذلك الذي لهن: العورة. وربما تركت الصفة، وفزع إلى التشبيه والاستعارة والشعراء يجتنبون استعمال اللفظ الموضوع، ويحرصون على الاستعارة حرصاً شديداً، حتى إذا وجدوا اسمين للشيء، أحدهما موضوع، والآخر فيه تغيير ما، مالوا إلى المغير. مثلاً: إذا كان شيء واحد يحسن أن يقال له: مستراح، ويقال له: مسكن ومبيت، وكان تسميته بالمسكن أولى، لأنه مكان المرء ووطنه، سموه بالمستراح، لأنه يدل على تغيير ما، ويخيل راحة ما. كما ينتقلون إلى الوصف عن الاسم، فيقولون لبعض الدور والمساكن: تلك الكثيرة الأبواب، ولبعضها: تلك التي لها وجهان ومصراعان متباينان؛ ولا يقولون بالتصريح: إنه دار فلان، أو مسجد فلان، بل يتركون الاسم الموضوع، ويميلون إلى النعت. وكذلك يتركون الاسم الموضوع، وينتقلون إلى اسم مشتق عن وصف، أو إلى مستعار. وبالجملة: إلى مغير هذا.
ومما يعين على الإياز: ترك الرابط، وحذف حروف الإضافة، والصلات، إذا وقع عنها استغناء. وليس يحسن استعمال المعدول حيث يوجد اللفظ المعتدل، الموجز، الحصل. فإن المعدول لا يدل النفس على معنى يقع عنده، بل إنما يدل على المراد بالعرض، كما علمت. فيجب أن لا تعقد أن في استعماله كل تلك الفصاحة والشرف، بل يجب أن تستعملها في التعريضات حيث يكره التصريح، وفي التهويلات وحيث يراد التعجيب والتغريب. وهذه الأشياء تجوز في الإفراطات المديحية والهائية، حيث تذكر خيرات وشرور، لا لأجل أن ينتفع بها. وكذلك تحسن جداً في الشعر. وأما في المشورات فلا تحسن إلا حيث يراد تهويل ما بالتحذير. وأما الشكاية فقلما يحتاج فيها إلى ما يدل على المعنى بالمطابقة. وأما الإعتذار فربما احتاجت الشعراء فيه إلى مثل ذلك، فكثيراً ما يستعملون ذلك، فيقولون مثلاً: إن الأشعار ألحان غير مزهرية، وإن النفخ في المزمار القرني عزف غير عودي. وأحسن هذه ما يحفظ المعادلة. وإنما تكون المعادلة إذا كان للشيء ضد، أو نظير وشريك، فدل عليه بسلب ذلك الشيء عنه، فيقال: الجاهل غير عالم، والزمر عزف غير وتري. إذ كان الجاهل غير العالم، وكان الوتر نظير الزمر. وأما أن يقال: غير إنسان، أو غير اثنين، أو ما أشبه ذلك، فهو مستكره، غير مقبول.
(2/253)
والألفاظ الفصيحة الموافقة هي المطابقة، والمخيلة مع ذلك على سبيل التضليل، وهي التي تجمع إلى تفهيم المعنى التخييل المطابق للغرض أيضاً، إذا فهمت؛ وذلك إما للعبارة، وإما لنفس اللفظ، كما يقال بدل الخبيث من الناس: القذر، فإنه تقزز عنه مع إفهام المنقصة القصودة. وأن يكون معتدله. والمعتدل هو الذي لا يفرط في الصفة حتى يدخل في حيز الكذب الظاهر، ولا يقصر أيضاً تقصيراً يسلب الصفة رونقها. ويجب أن يقال في كل شيء بما يناسبه، ولا يقصر في الأمور العالية، ولا يفرط في الأمور المتواضعة، وأن يهجر اللفظ العامي السفسافي الذي لا يستعمله إلا الغاغة. فإن الشعراء الهجائين أيضاً، إذا قصدوا قصد الفحش والسقط السفسافي من المعنى، اجتنبوا اللفظ الساقط، وهو بذلك أليق. فإن السفساف أليق بالسفساف. وقد ينتفع بالألفاظ الانفعالية والخلقية انتفاعاً شديداً، وذلك حين يراد أن يثار انفعال. فتكون الألفاظ المثيرة للأنفة، الفاضحة، صالحة لإثارة الغضب. وأما الألفاظ المستقبحة للفواحش والآثام، فإنما ينتفع بها حين يزهد في القبائح. وينتفع بالمدحيات للاستدراج، وبالذميات والمؤذيات عند الغم. فإن الألفاظ، إذا قرنت بهذه الأحوال، ضللت النفوس، وجذبتها إلى جانب التصديق، وقهرتها إلى القناعة، وحصلت هيئة نفس السامع على هيئة نفس القائل. وللفظ سلطان عظيم، وهو أنه قد يبلغ به، إذا أحكمت صنعته، مالا يبلغ بالمعنى، لما يتبعه أو يقارنه من التخيل. فإعان النفس لما تهيؤها له قوة اللفظ بقرب البعيد من التصديق، كما أن التهيئات الخلقية اللاحقة للإنسان وغيرها مما يقرب من التهيئات تقرب البعيد من الانفعال، والطاعة، وتصديق ما ينى على ذلك الانفعال. والألفاظ الخلقية تقوم مقام هذه الهيئات. والكلام الخلقي هو المحرك نحو اعتقاد خلق، واستشعاره، والركون إلى إيثاره. والكلام الانفعالي هو المحرك في الوقت لانفعال، وإن كان مخالفاً للخلق، مثل ما يخجل الحكيم ويجنبه ذكر ما يطابق باللفظ الصريح بين الخلق والانفعال. ومن هذه الألفاظ الانفعالية قول القائل: كل عاقل يعلم أن كذا كذا، فيستحي السامع إنكاره؛ وقول القائل لخصمه: أظن أن الناس يذعنون لرزقك، ويصغون إلى تلبيسك؟ أو يقول: أنت هو ذا تستحقر الحاكم والحضور ولا تعبأ بهم، ولا تنقد أولاً ما تعرض عليهم من كلامك. وهذا وما أشبه يغيظ المتوسطين، ويخرجهم إلى توبيخ الخصم.
وأما وجوب اختيار الوقت لكل عمل من هذه بحسبه، فهو أمر يعم كل شيء. وأما دعوى الصحة فهو أيضاً من ذلك القبيل. ودعوى الصحة أن يقرن بكل لفظ يقوله: إنه لا شك فيه، وإنه من البين. وكذلك وجوب تقدمه الأعداد.
وليس يجب أن يستعمل الطيب المعتدلات فقط، فربما وجب أن يستعمل تلك الأخرى، ويستدرج السامعين بترك استعمال المعتدلات، مائلاً بالألفاظ بها إلى الإفراط المذكور، أو التقصير المذكور. وكذلك يلزمه أن يستدرج بأحد الوجوه؛ فإنه إن لم يفعل هذا، لم يكن القول إلا ساذجاً على فطرته الأولى، غير معان بحيلة. وحينئذ ربما لا يفاد منه إقناع. فإذا غلظ اللين، ولين الغليظ، كان في ذلك تدارك للشيء بلطف الصنعة، ورد إياه إلى الإقناع. وأما الأسماء الموضوعة والمضاعفة والغريبة فتصلح في الأحوال الانفعالية، وخصوصاً إذا قرن بها معان انفعالية وعرض لمدح، أو ذم، أو احتشام، أو تقرب بتودد، مثل ما كان يقول سقراط: إنه سيتم مرادي، فلقد تم صبري وجهادي. والمجاهد في الحق يبلغ منه أربه. وهذا أشد موافقة للشعر. قال: وعليه كان الشعراء القدماء. ولمثل هذا ما كان الشاعر في القديم ينزل منزلة النبي، فيعتقد قوله، ويصدق حكمه، ويؤمن بكهناته، إذا كان يزعم ما يحكم به بمثل هذه الأشياء.
(2/254)
لكن الخطابة، وإن رخص فيها بمثل هذه الأحوال، فلا ينبغي أن يقرن بها وزن وعدد إيقاعي، فإن الناس يلحظونها حينئذ بعين الصناعة والتكلف، وأنه إنما يفعل فعله لما صنع عليه من تلك الصنعة، وأفرغ فيه من ذلك القالب، وأنه من جملة ما صنع ليتعجب منه ويتخيل عنه، لا لإيقاع التصديق. وتدعوهم حشمته إلى شدة صرف الهمة كلها إلى تفهمه، فيسبقون اللفظ، ويفهمون الغرض قبل الوصول اليه، فيعرض من ذلك أن لا يلتذ به، حين ما يسمعونه، بل يكون كالمفروغ منه، ويعرضونه بذلك للتعقب، خصوصاً والزمان يسع له. فربما سمع وهو معاند. ويكون ذلك كما يبدر الصبيان المتعادون أمام المنادى في السوق، فيخبرون بما يقوله. فإذا طلع على القوم، رمق بعين الاستغناء عنه.
وأما اللفظ المتخلخل، وهو المقطع مفرداً مفرداً، فهو شيء غير لذيذ؛ لأنه لا يتبين فيه الاتصال والانفصال في الحدود التي تتناهى إليها القضايا وغير القضايا أيضاً التي هي مثل النداء والتعجب والسؤال، إذا تمت. فإن لكل شيء منها حداً وطرفاً يجب أن يفصل عن غيره بوقفة، أو نبرة، فيعلم. وإذا كان الكلام مقطعاً ليس فيه اتصالات وانفصالات، لم يلتذ به. وهذا الوصل والفصل وزن ما للكلام، وإن لم يكن وزناً عددياً. فإن ذلك للشعر. وهذا الزن هو الذي يتحدد بمصاريع الأسجاع. فإن قرب من الوزن العددي تقريباً ما، لا يبلغ الكمال فيه، فهو حسن. وهذا التقريب أن تكون المصاريع متقاربة الطول والقصر، وإن لم تكن قسمتها قسمة متساوية إيقاعية. وللنبرات حكم في القول يجعله قريباً من الموزون. وكذلك فإن القول المنثور أيضاً قد يجعل بالمدات موزوناً، كالخسروانيات فإنها تجعل موزونة بمدات تلحقها. وأنت ستعلم معنى الوزن في موضع آخر، وذلك حين نتكلم في الإيقاع الشعري، إذا بلغنا إلى الموسيقى. فمن الأقاويل ما ينبغي أن تورد النبرات فيه عند تمام قول قول، وذلك عندما يكون الكلام قصيراً، ويحتاج أن يكون مع قصره فخماً، فتخلل أجزاؤه القولية الصغرى بنبرات؛ وكأن هذه الأقاويل هي التي تسمى باليونانية (أيامبيقي) و (ماريقا). وأحوج الأقوال إلى النبرات هي القصيرة المتعادلة الأجزاء؛ وأما الطوال فتقل حاجتها إليها، فإنها تزداد بذلك طولاً. وأعني بالطويل من الأقاويل مثل ما تكون القضايا فيه كثيرة أجزاء الموضوع والمحمول. ومثل ذلك أيضاً في سائر أقسام اللفظ المركب. فيجب أن لاتخلل هذه الأقاويل الطويلة إلا النبرات التي لا ينغم فيها، وإنما يراد بها الإمهال فقط. وربما احتيج أن تخلل الألفاظ المفردة، إذا كانت في حكم القضايا، خصوصاً حيث تكون على سبيل الشرط والجزاء، كقولهم: لما التمس، أعطيت، فيقول بين (التمس) وبين (أعطيت) نبرة إلى الحدة، وهو عند الشرط، وبعقب (أعطيت) نبرة أخرى إلى الثقل، وهي للجزاء. ويشبه - والله أعلم - أن يكون هذا الجنس من الكلام باليونانية يسمى (أيامبقي). ومن الكلام والعبارة ما تكثر فيها النبرات، فيصير كالجمز، وكأن ذلك قريب من الشعر، وكأنه أحسن للمغالطة والتغيير، وهو يشبه بالأشعار الرباعية. وذكر أن ثراسوماخوس أول من تكلم فيها، أو بها. ونوع من النبرات يأتي عند خواتم الفصول، ويشتمل على هذه، ويشبه أن يكون يسمى هذا (فودون). ويجب أن يميز بينه وبين النبرات الأخرى المتخللة والمبتدئة - (وفادون) كأنه أمر لابد منها فيه - وعن سائر تلك الأخر. وقد يجب أن يكون (مردون) بالمقطع الممدود، ليس المكتوب، مثل الألف التي تكتب في: لنسفعا، ويسمع بدله حرف آخر، أو في: اعلموا، ولا يسمع البتة، بل المسموع المطابق.
وأقول: إن العادات توجب في انبرات ودلائلها أموراً لا تضبط، وكذلك في تلفيق الكلام، وتصريفه، وتسجيعه وغير ذلك. ثم لليونانيين في هذا الباب أحوال لم نحصلها، ولم نقف عليها، وما نراها نحن ينتفع بها اليوم.
(2/255)
والعرب أحكام أخرى في جعل النثر قريباً من النم، وهو خمسة أحوال. أحدها: معادلة ما بين مصاريع الفصول بالطول والقصر؛ والثاني: معادلة ما بينها في عدد الألفاظ المفردة؛ والثالث: معادلة ما بين الألفاظ والحروف، حتى يكون، مثلاً، إذا قال: بلاء حسيم، قال بعده: وعطاء عميم، لا عرف عميم؛ والرابع: أن يناسب بين المقاطع الممدودة والمقصورة، حتى إذا قال: بلاء جسيم، قال بعده مثلاً: نوال عظيم، ولم يقل: موهب عيم، وإن كانت الحروف متساوية العدد؛ والخامس: أن يجعل المقاطع متشابهة، فيقال: بلاء جسيم، ثم لا يقال: منيخ عظيم، بل يقال: مناخ عظيم، حتى يكون المقطعان الممدودان يمتدان نحو هيئة واحدة، وهو إشباع الفتحة.
وأما السجع وتشابه حروف الأجزاء فهو شيء لا يتعلق بالموازنة، وهو خاصة للعرب، وله غناء كثير في اللفظ. وكل هذا لا يخرج النثر إلى الم.
فهذا ما نقوله في الأوزان للخطابة. وقد ذكرت هذه أيضاً في التعليم الأول.
فصل
الفصل الثالث
في وزن الكلام الخطابي
واستعمال الأدوات فيها والنبراوما يجب من ذلك بحسب مخاطبة خطابية
وما يحسن مسموعاً على الأشهاد وما يحسن في مجالس الخواص وما يحسن مخاطبة وما يحسن كتابة
(2/256)
قيل في التعليم الأول: إنه يجب أن يكون الكلام الخطابي مفصلاً، أي ذا مصاريع، وتكون التفاصيل ليس كل واحد منها يتم بنفسه، بل يجب أن يكون كل واحد منها مشوقاً إلى المصراع الذي يليه الذي إنما يتم به المعنى. وهذا مثل ما قال الفصيح من العرب: إياك وما يسبق إلى النفس إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره؛ فليس كل من يسمعه نكراً، يقدر أن يوسعه عذراً. فإن كل مصراع من مصراعي هذا الكلام يحتاج إلى الفقه حتى يتم. وهذه التفاصيل تحسن عند المخاطبة بالنبرات التي تقطع وتصل. ويب أن يكون للكلام الخطابي عطوف، وهو أن يكون إما الابتداء من لفظ أو حرف ينتهي إليه، سواء كان على سبيل التكرير، أو على سبيل التجنيس، وهو أن يكون المكرر، وإن كان لفظاً مكرراً في المسموع، فهو مختلف في المفهوم. فإن هذا يجعل الكلام لذيذاً، محصوراً بحدود حادة يقف عندها الذهن، ويجعله سهل الحفظ، لكونه ذا عد، إنما يسهل لمثله حفظ الموزون. وبالجملة: فإن المسجع والمعطف والموزون أقرب إلى أن يثبت في الذكر من غيره من الكلام. ويجب أن يكون طول الأسجاع بقدر لا يبعد له ما بين الأطراف بعداً ينمحي معه تخيل السجع الأول. وأيضاً فلا ينبغي أن يكون سريع الانقطاع قصيراً جداً. وينبغي أن يكون التوصيل بين المصاريع غير متباين، ولا مفترقاً فلا يتناسب. والموصل هو الكلام الذي له مصاريع يتنفس فيما بينها، كما عند أسجاع المعاطف، فهو كلام فيه تفاصيل بالفعل. وأما الذي لا تفصيل فيه، فهو المصراع الواحد، مثل المصراع الأخير. ويجب أن تكون مصاريع الأسجاع والاتصالات معتدلة في القصر والطول. فإن القصير يسهي الإنسان لما يعرض من قصر مدة مطابقة الذهن إياه. فإن النهر والمعبر، إذا قصر جداً، لم يحتفل به، ولم يستعد للطفر عليه، ولم يكن به اعتداد البتة. وأما الطويل فإنه يمل وينسى أوله آخره ويعدل فيه عن الواجب، مثل المعبر الى الساحل إذا كان طويلاً جداً لم يحسن أن يطفر عليه طفراً؛ فإن فعل، ل يبعد أن يغرق في وسطه. ومثل الطريق إذا طال، فإن المترافقين يتركون سالكهم في ذلك الطريق، ويحيدون عن مرافقته. فالطويل مملول، والقصير مستحقر، ولا تكون له استدارة، أي اعتدال بأجزاء يعود بعضها على بعض. والكلام الموصول فربما كان اتصاله أقساماً، ويسمى المقسم، كقولهم: إني تعجبت من فلان الذي قال كذا وكذا، ومن فلان الذي عمل كذا. فهؤلاء أقسام المتعجب منهم. وربما كانت الأقسام إلى التقابل، كقولهم: منهم من اشتاق إلى الثروة، ومنهم من اشتاق إلى اللهو؛ وكقولهم: أما العقلاء فأخفقوا، وأما الحمقى فأنجحوا. والمتقابلات إذا توافقت، أحدثت رونقاً، لظهور بعضها ببعض. فالموصلات: بعضها مقسمات؛ وبعضها متقابلات؛ وبعضها مدافعات وهو أن تختلف أقسامها في الطول والقصر بعد أن يكون بينها نظام ما؛ وبعضها مصارعات وهي التي لها أطراف متشابهة أو مبادئ متشابهة وهي المسعات بسجع واحد بأن يكون المقطع الآخر فيها واحداً أو تكون فيها كلمة واحدة مكررة في آخر كل مصراع أو أوله. واعلم أن العبارة المفهمة لذيذة بما يفهم، والإغراب مستكره لما لا يفهم.
ومن التغييرات الاستعارية اللذيذة أن ينسب الأمر إلى صفة الفاعل، دون الفاعل، وخصوصاً إذا كانت تلك الصفة توجب الأمر، مثل أن لا يقال: المشايخ يفعلون الخيرات، بل يقول: إن الشيخوخة تفعل الخيرات. وهذه الصفة عامة كالجنس.
ويجب أن تستعمل الاستعارات غير الكثيرة التداخل، وهو أن تدخل استعارة في استعارة. وكذلك الإغرابات فإنه ينبغي أن لا يمعن فيها. فإن الإمعان في الصفة نقيصة، كما أن الإمعان في السخيف من العبارة والسفاف منها يكون مسترذلاً، وذلك هو الذي يفهمه كل إنسان من ساعته. وكذلك الذي يصعب فهمه أيضاً مسترذل. بل يجب أن تكون العبارة بحيث يفهمها الأمائل، دون سقاط الجمهور، ويفهمونه متى أصاخوا إليه إصاخة متأمل، ولم يحوجوا إلى نظر وفحص. فإن هذا أيضاً يكون غير قليل. وإن المعتدل، وخصوصاً إذا شحن بالطابقات المأخوذة من المتقابلات، لذيذ جداً. وكذلك إذا وقعت فيها استعارات لطيفة، ليست شديدة البعد. وكل ذلك ينبغي أن يكون بتأمل ونظر واختيار للأوفق. وأن يكون التغيير كأنه يجعل الشيء قائماً نصب العين. ومدار جميع ذلك على ثلثة أشياء: التغييرات، ومطابقات المتقابلات، والأفعال.
(2/257)
أما التغييرات فأنجح ضروبها ما كان المستعار منه يعادل المستعار له ويحاكيه محاكاة تامة، ولا يكون فيه شيء يظهر مخالفته للمقصود، ومحاكاته من الجهة المقصودة. والتغييرات أربعة: تشبيه؛ واستعارة من الضد، كقولهم " جونة " للشمس، و " أبو البيضاء " للأسود؛ واستعارة من الشبيه، كقولهم للملك " ربان البلد " ؛ واستعارة من الاسم وحده، كقولهم للشعرى " هذا النباح في الساء " ، وكقولهم للحمل " ذلك الناطح في السماء " .
وأما المتقابلات: فبعضها أضداد، وبعضها كأضداد. والمتضايفات في تلك الجملة. والصيغة المتقابلة تجعل الشيء كالمحسوس المشاهد.
وأما الأفعال فهو أن يشرح الشيءالمنصوب بحذاء العين ببسط أفعاله، وتقام أفعاله مقامه. وقد تتركب الاستعارة مع شرح الفعل وتحسن، كما يقال للرجل الصالح: إنه مربع الجوانب، أي معتدل. فهذا استعارة، وبسط لفعله.
ومن أنواع الاستعارة اللفظية: أن تجعل أفعال الأشياء الغير المتنفسة كأفعال ذوات الأنفس، كمن يقول: إن الغضب لجوج، وإن الشهوة ملحفة، والغم غريم سوء. وأحسنه ما لا يبعد، ويكون قريباً مشاكلاً، ولا يكون أيضاً شديد الظهور. فإن المشابهة القريبة ليس ينتفع بها في التغيير فقط، بل وفي العلوم على ما قد علمت. وكثير من الألفاظ الاستعارية النادرة المستطرفة خطاباً يقبح أن يستعمل في الكتابة. ومن ذلك الإفراطات في الأقاويل، كقولهم: أجمع أهل الدنيا؛ وكقولهم: أنت وذاك. ومن التغييرات الحسنة أن يتحدث عن أمر، بحيث ظاهره لا يكون حجة على القائل، ويعتقد في الضمير أنه إنما يعني به معنى ما بلا شك فيه من غير أن يكون أقر به. ومن ذلك عكسه: وهو أن يقول القائل بقوله على ظاهره، وكأنه يقر بأن غرضه ذلك المعنى، لكن الأحوال تدل على ما أريد به ظاهره. وربما كان السبب فيه اتفاق الاسم، بل أكثر ذلك باتفاق الاسم. ومن الملح في ذلك أن ينقض الشيء نفسه ويروج، كقول القائل: الأحسن بنا أن نموت قبل أن نفعل ما نستحق به الموت. فإن قوله " الأحسن بنا أن نموت " هو نفس الدلالة على استحقاق الموت، فكأنه قال: نحن نستحق الموت، قبل أن نستحق الموت. وأمثال هذه الأشياء تتروج إذا كانت موجزة مبينة؛ فإن بسطت، سمجت. ويجب أن تكون المقابلة فيها لطيفة، غير مصرح بها تصريحاً. ويجب أن يكون لمثل هذا القول وجه يصدق به دون وجه المجاز الذي ليس هو صدق به، أي وجه مجازيته. فإن هذا القول - الذي يمثل به - له وجه يصدق معه؛ ولكن إذا صرح بذل الوجه وبذل الشرط، لم تكن له روعة، كما لو قيل: ينبغي أن نموت قبل أن نستحق الموت القبيح بالخطيئة.
وليس الاستعارات كلها في الأفعال والأوصاف، بل قد تكون في المسميات، وتقع، إذا أحسن فيها، الموقع اللطيف، كمن قال بدل الترس (صفحة المريخ). وهذا على سبيل التركيب. وأما على الإطلاق، فإذا سمي الترس صفحة، أو سمي القوس صنجا، لم يكن له موقع من القول. وربما لطف موقع ما يجتمع فيه الأمران من الاستعارة للاسم والاستعارة للصفة والفعل، كما قيل: إن فلاناً يشبه قرداً يزمر. وقد يخطيء الشعراء في التشبيه، إذا أبعدوا وقبحا، كقول القائل: إن ساقيه ملتفتان كالكرفس. فإن التشبيه من جملة التغيير؛ كأن التغيير منه استعارة بسيطة، ومنه تشبيه بسيط، ومنه مثل يضرب.
والإغرابات الواقعة بكثرة التركيب هي تغييرات بحسب القول، لا بحسب اللفظة المفردة. ومن إفراطات الأشياء التي تقال للتعظيم مع العلم بكذب دعوى من يدعيها، أو وصف من يصفها، قول الناس: لو أعطيت مثل هذا الزمل ذهباً ما رغبت في نكاحها؛ وكما قال بعضهم: إن الزهرة لا تشبه بهذه، أي أنها أحسن من الزهرة. فهذه ليست أمثالاً، ولا تشبيهات، ولا استعارات. فإنه ليس يعني بهذا معنى، ويعبر عنه بغير لفظه. بل هي أكاذيب ظاهرة.
(2/258)
وهذا الصنف قريب من الموافق في الخطابة. وأقبح من ذلك ما كان في المكتوبات. فإن هذه إفراطات قد تقال قولاً يتصرم تصرماً. وأما في الرسائل المكتوبة فأمثالها تقبح، لأنها تخلد. والمخلد يقبح فيه ما يدل على النزق وعلى المجازفة بالقول. وليس أيضاً حال الخطبة المشورية والمدحية التي يخطب بها على رأس الملأ، ويراد فيها التفخيم والتنويه لما يقال، وحال المشورة التي يحكم بها واحد عنه واحد، بمنزلة واحدة. فإن الخطبة تحتمل من الإفراطات ما يقبح أن يخاطب به الواحد على سبيل المشاورة. وعلى كل حال، فإنه يلزمنا أن نعرف الوجه الأجود في المخاطبة، والوجه الأجود في الكتابة، وما يليق بكل واحد منهما، حتى إذا ثبتنا وناظرنا، استعملنا الأول؛ وإذا احتجنا أن نجيب الرسائل، استعملنا الوجه الثاني، ولم نضطر إلى السكوت اضطرار من لا يكتب.
واعلم أن اللفظ المكتوب ينبغي أن يكون أشد تحقيقاً واستقصاء في الدلالة، واللفظ المخاطب به يكون أشد اختلاطاً بأخذ الوجه والنفاق المذكورين، سواء كان خلقياً أو انفعالياً. والمنافقون، الآخذون بالوجوه، شديدو الحرص على قراءة الكتب النافعة في أخذ الوجوه، والكتاب على قراءة الكتب النافعة في تجويد اللفظ. والشعراء أيضاً كذلك. وما يسمع، ولا يقرأ، ينسى، فلا يتصدى لنقد الفكر، ولا يلزم من تصحيحه ما يلزم من تصحيح المكتوب. ولهذا ما كان كثير من التاب المهرة لا يجيدون الإقناع بالمخاطبة؛ وكثير من الخطباء المقنعين المفلقين لا يحسنون أن يعملوا بأيديهم إقناعاً. والسبب في ذل أن المنافقة شديدة الموافقة في المنازعات والمفاوضات. وتشبهها أحوال أخرى مثل إهمال الرباطات باختصار أو تكرير الأول الواحد استظهاراً. وليس شيء من هذا بملائم للكتابة. واختلاط أخذ الوجوه بالتغييرات شديد المعونة في الإقناع، لأنهما يتفقان جميعاً على تضليل الذهن. ويكون ترك النفاق كالأخذ بفضل القوة. واستعمال النفاق كالأخذ بالتلطف والالتماس. وكذلك إذا استعملت الألفاظ مجردة عن الرباطات، فقال مثلاً: وافيت (بالوقف)، طلبت (بالوقف)، ولم يدل باللفظ على المقصود، بل بالاشارة، والهيئة، والنغمة. والتثقيل المرتل والتعجيل الحدر من هذه الأبواب. وأعلم أن الاختصار في ترك الرباطات هو اختصار لفظي، وليس اختصاراً معنوياً. فإن الرباط يجعل الكلام الكثير كالواحد، وتركه يجعل الكلام مفرقاً، مكثراً، فيوهم معاني كثيرة، كمن لا يقول: وافيت ولقيت وطلبت، بل يقول: وافيت، لقيت، طلبت، فإن هذا يوهم كأنه عمل أمراً كثيراً.
(2/259)
وقد يحسن في الخطبة تصدير يفهم الغرض الذي يصار إليه، وخصوصاً في المشورية. فإن الخطب على رءوس الملأ تكون في الأكثر مشورية، وقد تكون منافرية. وقد علم ذلك خطباء العرب، مثل خطبهم في الفتوح التي يبتدئون بها، فيقول: الحمد لله معز أوليائه، قاهر أعدائه، فيقدم شيئاً كالرسم قبل التصوير يوقف منه على الغرض. فإن الجمع كلما كان أكثر، احتاج إلى تفهيم أكثر، وإقناع أقل،؛ وذلك لأن تصديق الأكثر والجمهور والغاغة بالشيء سهل، وإنما يتعسر تصديق الخواص البحت، إذا انفردوا بالمباحثة. وتفهيم الأكثر صعب، إنما يسهل تفهيم الخواص البحت. والقول الخصومي يحتاج أن يجعل قولاً شديد التقريب من الغرض، وأن يكون اللفظ فيه شديد المطابقة للمعنى، لا سيما حيث لا يكون كالخطبة، بل يكون بين يدي حاكم واحد ومجلس خاص، وذلك لأن تكلف الخصومة في مثل هذا الموضع يكون أيسر منه على رأس الملأ المزدحم. فإن مثل هذا الموضع يحتاج إلى عمل واحد من الخطابة، وهو حسن العبارة، ولا يحتاج إلى كثرة الاستعارات والتشبيهات والتهويلات كما تحتاج إليها الخطبة التي على المثابر، وعند المحافل، بل الاشتغال في المشاجرة التي تكون في مجلس خاص يجب أن يكون مقصوراً على إظهار الغرض الخاص بالأمر، وأن يظهر بالقريب منه، وحتى لا يكون الشاكي منهما أيضاً قد بعد عن المراد. وذلك لأن القضاء في المجلس الخاص مصرح مهذب مخلص، لا يحتاج فيه إلى التكلف الذي يحتاج إليه في المحافل. فلذلك لا نجد المعتادين للخطبة على رءوس الملأ ينجحون في مجالس الخاصة إنجاحهم على المنابر، لأن النفاق والأخذ بالوجوه هناك أحسن وأروج. لأن ما يرا أن يفهمه جماعة يكون بحسب الأقرب إلى فهم أرذلهم. وأما ما يخاطب به الخواص، فهو شيء آخر. فإذ كان المراد بالخطاب العامي هو التكثير، ليس التحقيق، فالنفاق أنفع فيه من الاستقصاء. وأما اللفظ المرئي، أي المكتوب الذي ليس بمسموع، فمنه الرسائل ولا يحتاج فيها إلا إلى القراءة؛ ومنها السجلات التي يخلدها القضاة والخطباء، ولا يحتاج فيها إلا إلى القراءة؛ ومنها السجلات التي يخلدها القضاة والخطباء، ولا يطلب فيها غاية التعظيم والتفخيم للكلام، فإنه مبغوض، بل أن يكون جزءاً من الكلام مهذباً. وإذا اشتمل على التحميد والعظة، فينبغي أن تكون العبارة عنه على ما بينا فيما سلف. ويجب أن يكون أشد الكلام تقويماً. لأن السجل أشرف من الرسالة وأبقى، وأشد احتياجاً إلى الغرض. فينبغي أن تكون ألفاظه ألفاظاً مشهورة، غير غريبة، ليس من المشهورات السفسافية. ولا ينبغي أن تكون فيها إضمارات كثيرة، فإنها تردها إلى الغربة عن الشهرة، والاختصار يفقدها الغرض في أمثالها. ولا بد من أن خلط بها أيضاً أشياء لطيفة من التغييرات المعتادة، وقليل من الغريبة، وشيء من الوزن الخطابي على الجهات المقنعة المذكورة.
فصل
الفصل الرابع
في أجزاء القول الخطابي
وترتيبها وخاصيتها في كل باب من الأبواب الثلاثة وما يفعله المجيب فيها
ويجب أن نعرف الآن حال النظم والترتيب، فنقول:
(2/260)
إن الخطابة تتعلق بأمرين: الشيء الذي فيه الكلام، والحجة التي تبين ذلك الشيء. وبالجملة: فيه دعوى، وحجة. وللأقاويل الخطابية صدر، واقتصاص، وخاتمة. والصدر هو كالرسم للغرض الذي ينحى نحوه من الأمر. والاقتصاص كالرسم للتصديق، كأنه ذكر ما كان، وما يقتضيه كونه بالإجمال. والتصديق هو الإحكام. والخاتمة هو جمع ما ثب دفعة واحدة على سبيل التوديع للقول. والاقتصاص لا يحتاج إليه في المشورة، لأن الاقتصاص اقتصاص لأمر واقع، فينسب إلى أنه حسن، أو قبيح، كما في المنفرة؛ وإما عدل وجور، كما في المشاجرة. وأما المشورة فليس فيها ما يحكى فيشكى، أو يحمد ويذم، وليس فيها منازعة ومواثبة، بل دلالة على مصلحة قابلة. وإذا تغيرت عن هذه الصورة، عادت شكاية. لكن الصدر يحسن جداً في المشوريات، ليكون الإنسان قد وعى الغرض فيه جملة ما، ثم لا يزال يستبرئ حاله بالمقايسة بين الحجج الموردة من المشاجرين في أمره. وكذلك الخاتمة كقوله: قد قلت ما عندي من المصلحة، والآن فالرأي رأيكم. وبعض الشكايات لا يطول بالاقتصاص، وذلك إذا أريد أن يوجز الكلام. ثم الصدر والاقتصاص والخاتمة هي أقاويل يتلقى بها السامعون، دون الخصم. وإنما يتلقى الخصوم بالتصديقات. والتصديقات تكرر وتطول للتذكير والتفهيم، لا لأن التكرير جزء من الخطبة. ونسبة الصدر إلى الكلام كله نسبة التنحنح إلى الأذان، والترنم الزمري قبل افتتاح الزمر إلى الزمر. وكذلك من أراد من المتعلمين للكتابة أن يجيد صورة ما يكتبه، فإنه يرسم بالنقط أولاً؛ ثم يوسع الحروف. ويحسن الصدر في المدح والذم، مثل قول القائل: بالحرى أن يتعجب الناس من فضيلة اليونانيين، ثم يفيض بعد ذلك في عد فضائلهم وتصحيحها. وكذلك في المشورة أن يقول: بالواجب أن يكرم أهل الفضائل، ثم يتخلص منه إلى الإنسان الذي يريد أن يذكره ويشير بإكرامه. وفي الشكاية أيضاً، كما يقول: الآن قد بلغ السيل الزبى؛ وكما يقول: وبعد فقد طال ما قيل سمن كلبك يأكلك. وتصدير الخصومة أولى بالطول. وليس الصدر مما يقدمه الخطباء فقط، بل والشعراء المجيدون. اللهم إلا أن يكون الأمر قليل الخطر في كل باب منها، فيكون ترك التصدير فيه أولى، لأن التصدير للعظائم من الأمور. وأما الحيل الخارجة عن الأمر، فوجه فائدتها هو على ما علمت. فمن ذلك ما يتعلق بالمتكلم بأن يثني على نفسه؛ ومنها ما يراد به الاستدراج؛ ومنها ما يراد به تخييل الأمر نفسه على الوجه المراد، وذلك مثل ما يراد به إظهار نقيصة الخصم. والضد. فأما الشاكي فيحسن أن يستعملها بدياً، فيقرر فضيلته وخسيسة خصمه. وأما مجيب الشاكي، فإنما يجب عليه أن ينحو نحو صريح الجواب عن الشكاية في أول الأمر، فإنه متوقع، ثم بعد ذلك يأتي بالحيل. والذي يهجو - ويقابل المادح - فينبغي أن يقدم التصديق بسرعة لتعظيم القبح، فإن الترتيب بالجميل أجمل، والمغافصة بالقبيح أوقع؛ ثم يأتي بالحيلة. وأما الشاكي فلا بد من أن يصدر أو يطول. وأما استدراج السامع فهو بتقريب وبسط تارة، وتبعيد وإيحاش أخرى. وليكن التقرب متوسطاً، لئلا يحسن الإنسان. وكذلك باستئناس وتحبب تارة، وبضد ذلك أخرى. والتحبب إنما يخيله الظاهر بحيث يصور الخير، وتوجيه القرابة والمنزلة وحسن المنظر. فيجب أن يوهم كل ذلك. فإن كان التحبب لا ينفعه، ولم يكن من شأنه، فالأحرى أن يقتصر على التصديق. والسامع الأحمق أطوع للاستدراج منه للتصديق. فكذلك يجب أن يتلطف لمثله بالتصدير الخالب للقلب، والمزين، والمعظم. واعلم أن الافتتاح بالمخسسات جداً، والغامات المتوحشات في الشكايات قبيح، مسقط لرونق القائل، كتصدير بعض الشاكين: إنك ستخلص عن قريب من بموتي. أو يقول في المشورة: قد يكاد أن تلحقني نكبة بالقتل، فحينئذ تفقدون مثلي؛ وهذه المصببة ليست لي وحدي، بل ولكم. والتصدير من الأشياء التي إنما يراد بها السامع، لذلك ما صار أكثر الناس ينشطون لتطويله. وإن زيدوا، فإن النفوس من السامعين تشتاق إلى الصريح، لكن الإمعان في التصدير وإطالته من الجبن، والضعف عن البوح، والعجز عن التصريح. مثل العبيد الذين يسئلون شيئاً، فيجا وبون بما يطيف به، دون ما يسئل. ومدح السامعين نافع للاستدراج. وأما الخطبة، إذا أعدت نحو الشكاية، فليس يحتاج فيها إلى كثير من التصدير، لأن أكثر هذا يكون في الأمر المشهور. اللهم إلا أن لا
(2/261)
يكون السامع أو الخصم عرف قدر الأمر، فيحتاج أن ينبه قدره بالتصدير.ون السامع أو الخصم عرف قدر الأمر، فيحتاج أن ينبه قدره بالتصدير.
وأما مقاومة الشكاية فتارة أن يقول: لم يكن؛ وتارة أن يقول: كان، ولم يضر. وإنكار كون ما يشكى أصلاً، فهو على وجهين: لأنه إما أن ينكره أصلاً، أو ينكر كون جميع ما قال، فيقول: ولا كل هذا. وإنكار الضرر على وجهين: إما أن ينكره أصلاً، أو يقول: لم يكن الضرر عظيماً. وأيضاً من إنكاره أن يقول: لم يكن قبيحاً، بل كان واجباً؛ أو يقول: لم يكن لها كبير مقدار قبح. ووجه آخر أن يدعى الخطأ والزلة. ووجه آخر أن يقول: إن هذا كثير الشكاية بالجزاف، فقد شكاني، أو شكا فلاناً، ولم يكن من ذلك شيء. وموضع آخر أن يقول: كانت نيتي جميلة فيما فعلته؛ وإن كنت آذيتك، فقد كانت فيه مصلحة لك. كالذي يحنث في يمينه فيرى وجه التخلص أن يدعى نية مضمرة تخالف الظاهر من الحلف. ونحو آخر أن يقابل السيئة المشكوة بحسنات مشكورة، فإن هذا يوهن أثر الشكاية. وقد يقابل هذا، فيقال: والدهاة إذا أرادوا أن يضروا، غمروا المضرور أولاً بالمنافع ليؤمنوا. ويقال: إن أسأت فعلاً، فقد أسأت شكايته. وهذه المقابلة هجاء ما للشاكين، ونسبة إياهم إلى التزوير والسعاية. ثم يقال: إن الساعي يمدح عند المسعى إليه يسيراً، ويهجى عند الناس كثيراً؛ وإن المعتذر أكرم من الشاكي، فإن المعتذر ينحو نحو الفضيلة، ويثبت العدل؛ والشاكي ينحو نحو المذمة، ويحاول أن يثبت الأمر الخسيس الذي هو الجور.
والاقتصاص هو ايجاز لما يراد أن يظهر ويوضح بعد، ولكن لا على ذلك النسق والترتيب، بل بإشارة جزئية. وربما كان الاقتصاص مخلوطاً بشيء غير صناعي، وربما كان مخلوطاً بالصناعي. ولما كان الاقتصاص كالرسم للتصديق، وكان شيئاً يحتاج أن يثبت في الذهن أولاً إلى أن يتمم ويرى، فيجب أن لا يراعى فيه حقوق الترتيب، فيخرج به عن الغرض فيه. وكثير من الأشياء ظاهرة، ولا تحتاج إلى اقتصاص مجمل، لأن الجملة من أمره ظاهرة. إنما الحاجة فيه إلى اتباع التصديق بالتفصيل. فذلك هو المطلوب. مثلاً: إذا كان يخطب في مدح إنسان، وذلك الإنسان معروف بمدح الناس إياه، ومجهول الممادح بالتفصيل، فإذا وقع الاقتصاص قبل التفصيل، لم يفد معرفة شيء ليس عند الناس به معرفة مما يجب أن يفاد بالقول حتى يعتقد ويرى. فإذا لم يحتج إلى ذلك، فالأولى أن يعرض عنه، ويشتغل بالبيان. فمثل هذا لا يحتاج إلى اقتصاص. اللهم إلا أن يكون الحاكم غريباً، فيحتاج أن يفعل ذلك.
ويجب أن يأتي الخطيب في المديح بالتصديقات المأخوذة من الأفعال والأوصاف الخاصة بالممدوح، فبها تعظم الفضيلة. وأما الأمور الاتفاقية والخارجية فيؤتى بها لتأكيد التصديق، كما يقال: وبالحرى أن كان ت وهو ولد الفاضلين - فاضلاً.
والمشورة تشارك المدح، وبأدنى تغيير لفظي يصير المدح مشورة، كما إذا قلت: هو فاضل لأنه يفعل كذا وكذا، كان مدحاً. فإن قل: أفعل كذا وكذا، تكن فاضلاً، كان مشورة. وأما الممادح البختية فقد تقلب إلى المشورة من وجه آخر، بأن يقال: لا تعتمد الجد، بل الكد فينقلب هذا في المشورة إلى مكان المذموم، وذلك لأن المدح الحقيقي أيضاً إنما هو بالأمور المكتسبة، لا الاتفاقية. ولذلك قد تنقلب المشورة التي ذكرناها مدحاً، فيقال: إنما يجب أن يمدح مثل فلان المدرك بجده، لا بكده. ولا شك في أن التقلب ربما أخر إلى باب الضد. والأولى بالصدر والاقتصاص أن يكون معتدلاً، وأن لا تخلط به التصديقات فيشوش النظام، وإذا خلط الاقتصاص بذكر فضيلة القائل، مهد للإصغاء إلى قوله التصديقي، وتكون تلك الفضيلة التي يذكرها من النحو الذي يلتذ به الحاكم.
(2/262)
وأما المجيب فلا يحتاج في المشاجرة إلى اقتصاص كثير، وخصوصاً إذا أنكر الأمر أصلاً، أو أنكر الضرر. وجميل به أن يورد حججاً في تصحيح إنكاره بردها على الشاكي أو في إلزامه الصفح. ويجب أن يكون الاقتصاص وخصوصاً من المعتذر لطيفاً مقبولاً، فيه كلام خلقي يدل على الخير ويدعو إليه، فيقيد المتكلم سمتاً ومحلاً وهيئةمحمودة، وذلك يوهم أنه لا يختار إلا الخير. فإن الكلام الخلقي يتعلق بالاختيار. ولذلك ليس في التعاليم قول خلقي يتعلق بجميل أو قبيح، أو نافع أو ضار. اللهم إلا عند بعض أصحاب سقراط. وقد تستعمل الأقاويل الخلقية دلائل على خلق الخصم. مثلاً إذا قيل: إنه يتكلم ويمشي معاً، فيدل ذلك على أنه نزق، عجول، وأنه لا يتكلم عن روية، بل يعتمد المجازفة. لأن الأحوال الخلقية تستند إلى هيئات الاختيار. وإذا لم يقع بذلك تصديق، دل عليه بعلامة وعلة ومثال مما فعله. وأيضاً فقد يجب على المجيب أن يرذل الأخذ بالوجوه، بأن يقول: هذه حيلة؛ وهذا تباكي الطرارين.
والاقتصاص لا يدخل في المشورة، كما قلنا مراراً، إلا بالعرض، حين يعزم على ذكر أمر كان، واقتصاصه، والإحتجاج على حاله، وما يلزمه من الخير أو الشر، ثم ينتقل عنه الى المشورة. وكذلك إذا ابتدأ بضرب مثل أو بمدح، ثم انتقل إلى المشورة، فيحتاج أن يصحح ما يقتصه، إن كان مكذباً؛ وخصوصاً الشاكي، إذا كان خصمه ينكر أصل الفعل. وأما إذا سلم، ثم جحد أنه ضر بما فعله، أو ادعى أنه عدل فيه، وأنه كان السبب فيه خصمه، وأنه ابتدأه به، فقد ضيق عاى نفسه الاحتجاج؛ وخصوصاً في الأخير من الوجهين: وذلك حين يقر بالفعل وبالضرر، ويدعى الاستحقاق. فإنه يجعل المسيء هو الشاكي، فيحتاج أن يبين أموراً. وأما إذا جحد الأصل، فقد ضيق الأمر على شاكيه. والمماراة في المشورة هي: إما في أن الأمر لا يكون ولا ينفع، أو يكون ولا ينفع، أو ينفع ولا يكون بعدل، وأن المشار اليه ليس مما يحتاج إليه في الأمر، أو أنه يجب أن يكون لا على هذا النحو بل على نحو آخر.
والدلائل نافعة. والأمثلة أنفع في المشورات بمقايسة ما يكون بما قد كان. وأما الضمائر فهي في الخصومة أنفع؛ فإن المثالات قليلة النفع فيها، لأن المشكو كائن وداخل في الوجوه. فيجب أن يغير نظام الضمائر على ما قيل في الجدل. وفي بعض المواضع يجب أن تذكر على الترتيب إذا كان الكلام قوياً ويزيده الترتيب إيضاحاً. ولتتذكر من علم الجدل ما ينبغي أن تعتمد عليه في ذلك. وإذا أردت أن تحدث انفعالاً، فلا تأت بضمير البتة، فإنهما متمانعان. فإن الانفعال يشغل عن الضمير، والضمير يشغل عن الانفعال. فإن الانفعال يتقرر بالتخييل والألم، ويميل بالاختيار إلى حال؛ والضمير يخبر إخباراً من غير إختيار.
والمشورة أصعب من المشاجرة، لأن القول في المعدوم أصعب من القول في الموجود. والتعلق بالشريعة في المشاجرات باب قوي، لأن الاحتجاج به مؤكد، ولا يحسر على مخالفته ورده، كما يجسر على رد سائر المقدمات. اللهم إلا أن يقع من الخصم تشكك في أمر الشريعة نفسه. وأما المحمودات في الظاهر فتصلح جداً في المدح. والتوبيخ أنجح من التثبيت، لما فيه من إحداث الألم، وإحلال الصغار بالمخاطب.
وأما كلام الخصم فبعضه ينتقض، كما علمت، بالمقاومة؛ وبعضه بالمعارضة بقياس آخر. وإذا قاومت في المشورة والخصومة، فمن الحسن أن تبتدئ بنقض ما قاله الخصم، ثم تقصد إلى إثبات نقيض ما حاوله. فإن المشير، إذا أبطل مشورات غيره، أصغى جدا إلى مشورته إصغاء ليس كما لو ابتدأ بالمشورة، خاصة إذا كان ما يشير به منجحا، سديدا، مؤيدا بالتصديق البالغ. وينتفع بأن يقول في جوابه للشاكي: إن المصر على الشكاية لا يلتفت إلى المعذرة. وإنك سليط، فصيح، تماحك في كل شيء، أو تعظم كل شيء، أو تقتدر على الغلبة، وتحسن الكلام، فتصدق عند الناس، ولا تصدق عند الله. أو يقول: أنت لجوج مغري بالإطالة. أو يقول: أنت أبلع، لا تعرف ما تقول؛ والعجب من اشتغالي بك.
فصل
الفصل الخامس
في السؤال الخطابي
وأنه أين ينبغي وفي الجواب وفي خاتمة الكلام الخطابي
فلنختم هذا الفن بذكر كيفية السؤال والجواب، وكيفية الخاتمة.
(2/263)
أعلم أنه ليس بناء الخطابة على السؤال عن المقدمات. وقد عرفناك هذا فيما سلف. ولكن للسؤال فيها أيضا مواضع نافعة. فمن ذلك: السؤال عن الشيء الذي إن أجيب فيه بنعم، لزم الخصم شيء في خاص ما يقوله. وإن أجيب بلا، كان ذلك، أو ما يلزم عنه، عند السامعين قبيحا، مستنكرا. أو بالعكس. والثالث: أن يكون القائل واثقا أنه لا يجيب إلا بطرف، وأن ذلك الطرف نفس الضمير الذي ينتج المطلوب، كقولهم: أليس دخل الدار بغير إذن، وفقد مع دخوله المتاع؟ حين يعلم المخاطب أن الآخر يعترف به، ويسلمه، وكما يجيب بنعم تؤخذ عليه، فينتج أنه إذا لص. والأول يفارق هذا بأن ذلك الجواب تلزمه شنعة، وهذا يلزمه المطلوب. وهذا نافع حيث لا يمكن المتكلم إثبات الشيء إلا بتقرير الخصم به. وأيضا إذا وثق بأنه يجيب جوابا فيه تناقض، فيعجب من بلهه. وأيضا إذا كان السؤال ذا وجوه، ومن حق المجيب أن يفصل تفصيلا طويلا. فإذا سئل ولم يفصل، ألزم؛ وإن مال إلى التفصيل والتطويل، أمل وأوهم أنه، أي المجيب، قد تبلد وتشوش. فإن الجمهور لا يفطنون للتفصيلات، إنما يقنعهم من الجواب ما كان جزما، وفصلا " بنعم " أو " لا " . فإذا ابتلى المجيب عند الدهماء بمثل هذا فاختصر وأجاب بلا تفصيل، قطع. وإن أخذ يفصل، أوهم أنه يتعلق بحواشي الكلام والهذيان، وقد ضاق عليه المجال. والمسائل الخطابية أيضا قد تكون مهملات. والحق يوجب أن يتوقف في أمر المهمل. والتوقف يوهم الاحتيال للتخلص عن الإلزام. ويجب أن لا يكون السؤال المقصود قريبا من الابتداء، وعلى ما قيل في طوبيقا. وأما الجواب فيجب أن يتحرى فيه مقابلة أغراض السائل، وسائر ما قيل في طوبيقا. ويجب أن لا يسئل عن النتيجة، ولا عما بعد النتيجة، للعلة المذكورة في طوبيقا.
وقد يستعان بالهزل، في أوقات الضرورة، وبالمزاح. وقد قيل في موضع آخر في المزاح، وإن الذي يليق بالكريم منه غير الذي يليق بالخسيس. وإن الذي يليق بالكريم منه بالتعريض، وهو تكمين المعنى، دون التصريح. ويجب أن يكون مشيرا به إلى تفضيل نفسه، وتخسيس خصمه، واستدراج السامع.
وأما المواضع والأنواع، والتعظيم والتصغير، والألميات، والخلقيات، وأجزاء الخطبة، والمقاومات فقد علمتها مما سلف في هذا الكتاب. والذي يليق بآخر الخطبة، وهو الخاتمة، وأن يكون مفصلا غير مخلوط بما قبله، مثل الصدر، وخصوصاً في المشوريات، وهو أن يقول: هذا هو الذي قلته، وسمعتموه. والحكم إليكم. كما يقال عندنا: أقول قولي هذا، وأستغقر الله العظيم لي ولكم. إنه غفور رحيم.
الشعر
الفن التاسع من الجملة الأولى في المنطق من كتاب (الشفا)
ثمانية فصول
الفصل الأول
في الشعر مطلقا
وأصناف الصنعات الشعرية وأصناف الأشعار اليونانية
نقول نحن اولا ان الشعر هو كلام مخيل مؤلف من اقوال موزونة متساوية - وعند العرب: مقفاة. ومعنى كونها موزونه ان لها عدد ايقاعي؛ ومعنى كونها متساوية هو ان يكون لها قول منها مؤلفا من اقوال ايقاعية فان عدد زمانه مساو لعدد زمان الآخر ومعنى كونها مقفاة هو أن تكون الحروف التي يختم بها كل قول منها واحدة.
(2/264)
ولا نظر لمنطق في شيء من ذلك الا في كونه كلاما مخيلا : فان الوزن ينظر فيه : اما بالتحقيق والكلية فصاحب علم الموسيقى. واما بالتجربة وبحسب المكستعمل عند امة امة فصاحب العروض والتقفية ينضم فيها صاحب علم القوافي. وانما ينظر المنطقي في الشعر من حيث هو مخيل، والمخيل الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن امور وتنقبض عن امور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسيا غير فكري سواء كان القول مصدقا " به أو غير مصدق به؛ فان كونه مصدقا به غير كونه مخيلا او غير مخيل. فانه قد يصدق بقول من الأقوال ولا ينفعل عنه، فان قيل مرة اخرى، وعلى هيئة اخرى، فكثيرا ما يؤثر الانفعال ولا يحدث تصديقا. وربما كان المتيقن كذبه مخيلا. واذا كانت محاكاة الشيء بغير تحرك النفس، وهو كاذب، فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو عليه تحرك النفس وهو صادق ؛ بل ذلك اوجب، لكن الناس اطوع للتخيل منهم للتصديق. وكثر منهم اذا سمع التصديقات استنكرها وهرب منها. وللمحاكاة شيء من النعجيب ليس للصدق، لان الصدق المشهور كالمفروغ منه ولا طراء له ؛ والصدق المجهول غير ملتفت اليه ؛ والقول الصادق اذا حرف عن العادة والحق به شيء تستأنس به النفس، فربما افاد التصديق والنخيل. وربما شغل التخيل عن الالتفات إلى التصديق والشعور به. والتخيل اذعان، والتصديق اذعان، لكن التخيل اذعان للتعجب والالتذاذ بنفس القول؛ والتصديق إذعان لقبول أن الشيء على ما قيل فيه. فالتخيل يفعله القول بما هو عليه، والتصديق يفعله القول بما القول فيه عليه أن يلتفت فيه إلى جانب حال المقول فيه.
والشعر قد يقال للتعجب وحده، وقد يقال للاغراض المدنية؛ وعلى ذلك كانت الاشعار اليونانية0 والاغراض المدنية هي في أحد أجناس الأمور الثلاثة : أعني المشورية، والمشاجرية، ولمنافري0 وتشترك الخطابة والشعر في ذلك. لكن الخطابة تستعمل للتصديق، والشعر يستعمل للتخيل.
والتصديقات المنظونة محصورة متناهية يمكن ان توضع انواعا ومواضع، واما التخييلات والمحاكيات فلا تحصر ولا تحد. وكيف، والمحصور هو المشهور او القريب، غير كل ذلك المستحسن في الشعر، بل المستحسن فيه المخترع المبتدع.
والامور التي تجعل القول مخيلا منها امور تتعلق بزمان القول وعدد زمانه، وهو الوزن، ومنها امور تتعلق بالمسموع من القول، ومنها امور تتعلق بالمفهوم من القول، ومنها امور تتردد بين المسموع والمفهوم. وكل واحد من المعجب بالمسموع او المفهوم هو على وجهين : لانه اما ان يكون من غير حيلة، بل نفس اللفظ فصيحا من غير صنعة فيه، او يكون نفس المعنى غريبا من غير صنعة فيه ) غير ( الا غرابة المحاكات والتخيل الذي فيه، واما ان يكون المتعجب منه صادرا عن حيلة في اللفظ او المعنى اما بحسب البساطة او بحسب التركيب. والحيلة التركيبة في اللفظ مثل التسجيع، ومشاكلة الوزن، والترصيع، والقلب، واشياء قيلت في ) الخطابة (.
وكل حيلة فانما تحدث بنسبة ما بين الاجزاء. والنسبة اما بمشاكله او بمخالفة. المشاكلة اما تامة، اما ناقصة. وكذلك المخالفة : اما تامة، واما ناقصة. وجميع ذلك اما ان يكون بحسب اللفظ، او بحسب المعنى. والذي بحسب اللفظ : فاما في الالفاظ الناقصة الدلالات، او العديمة الدلالات كالادوات، و الحروف التي هي مقاطع القول ؛ واما في الالفاظ الدالة البسيطة ؛ واما في الالفاظ المركبة. والذي بحسب المعنى فاما ان يكون بحسب بسائط المعاني، واما ان يكون بحسب مركبات المعاني. ولنبدأ من القسم الاول فنقول : ان الصيغات التي بحسب القسم الاول نسبة اواخر المقاطع واوئلها. فالنظم المسمى المرصع كقوله : فلا حسمت مَن بعدِ فقدانه الظُّبي.
ولا كَلمَتْ من بعدِ هِجرانه السُّمرُ ومنها تداخلُ الادوات وتخالفها وتشاكلها ك(من( و )الى( من باب المتخالفات، و )من( و )عن( من باب المتشاكلات.
(2/265)
وأما )الصناعة التي بحسب القسم الثاني فالذي بالمشكلة تكرار في الاجواء وتداخل الادوات و( الصيغات التي بحسب القسم الثاني فالذي بالمشكلة التامة فهو ان تتكرر في البيت الفاظ متفقة او متفقة الجوهر مخالفة التصريف والتي بالشماكلة الناقصة فان تكون متقاربة الجوهر، او متقاربة الجوهر والتصريف. ومثال الاول : العين والعين، ومثال الثاني : الشمل والشمال ؛ مثال الثالث والرابع الفارهُ، والهارِث، او العظيم والعليم، والصابح والسابح، او السهادِ والسُّها.
هذا هو التشاكل الذي في اللفظ بحسب ما هو لفظ وقد يكون ذلك في اللفظ بحسب المعنى، وهو ان يكون )لفظان( اشتهرا مترادفين او احدهما مقولا على مناسب الاجزاء ( 187 ب ) او مجانسة، واستعمل على غير تلك الجهة كالكواكب والنجم فيراد به البيت، او السهم والقوس ويراد به الاثر العلوي.
واما الذي بحسب المخالفة فاذا ليس لفظ من الالفاظ بمخالف اللفظ من جهة لفظيته، فاذن ان خالف معناه ان، يخالف وهو المعنى الذي يكون اشتهر له، فتكون الصيغة التي على هذا السبيل في الفاظ او لفظين يقع احدهما على شيء والاخر على ضده او ما يضن انه ضده وينافيه، او ما يشاكل ضده وما يناسبه ويتصل به وقد استعمل على غير تلك الجهة كالسواد التي هي القرى، والبياض او الرحمة وجهنم وما جرى مجراه.
واما الصنعات التي بحسب القسم الثالث فالذي منه بالمشاكلة فأَنْ يكون لفظ مركب من اجزاء ذوات التصريف في الانفراد، ويجتمع منها حملة ذوات ترتب في التركيب ويقارنه مثله، او يكون الترتيب من الفاظ لها احدى الصنعات التي في البسيطة ويقارنه مثله. والذي بحسب المخالفة فالذي يكون فيه مخالفة ترتيب الاجزاء بين جملتي قولين مركبين : اما اجزاء مشتركة فيهما، او اجزا ء غير مشتركة فيهما.
واما الصيغات التي بحسب القسم الرابع : اما الذي بحسب المشاكلة التامة فانه يتكرر في البيت معنى واحد باستعمالات مختلفة، واما الذي بحسب المشاكلة الناقصة فان تكون هناك معان مفردة متضادة او مناسبة، كمعنى القوس والسهم، ومعنى الاب والابن. وقد يكون التناسب بتشابه في النسبة، وقد يكون بجهة الاستعمال، وقد يكوم باشتراك في الحمل وقد يكون باشتراك في الحكم، وقد يكون باشتراك في الاسم. مثال الاول : الملك، والعقل ؛ ومثال الثاني : القوس والسهم، ومثال الثالث : الطول والعرض ؛ ومثال الرابع : الشمس والمطر.
وربما صرح بسبب المشاكلة، وربما لم يصرَّح وذا صرَّح فربما كان بحسب الامر في نفسه، وربما كان بحسب الوضع. والمخالفة اما تامة في الاضداد وما جرى مجراها، واما ناقصة. وهي بين شيء ونظير ضده او مناسب ضده، وبين نظيري ضدين او مناسبيهما. وربما كانت المخالفة بسبب يذكر، وربما كانت في نفس الامر.
واما الذي بحسب القسم الخامس فاما في المشاكلة فان يكون معنى مركب من معان وآخر غيره يتشاكل تركيبها او يشتركان في الاجزاء. واما الذي بالمخالفة فأن يتخالفا في التركيب او الترتيب بعد الشركة في الأجزاء، او بلا شركة في الاجزاء، او يدخل في هذه القسمة كقولهم : اما كذا كذا واما كذا كذا. والجمع والتفريق كقولهم : انت وفلان ونحن، لكن انت للعمادة، وذلك للزعامة. وجمع الجملة لتفصيل البيان : كقولهم يرجى وتخشى، يُرَجَّى الحيا منه، ونخُشىَ الصواعق.
(2/266)
فهذه هي عدة الصناعات الشعرية على سبيل الاختصار. واليونانيون كانت لهم اغراض محدودة يقولون فيها الشعر. وكانو ا يخصون كل غرض بوزن على حده، وكانوا يسمون كل وزن باسم على حده. فمن ذلك نوع من الشعر يسمى )طراغوذيا(، له وزن طريف لذيذ يتضمن ذكر الخير والاخيار والمناقب الانسانية. ثم يضاف جميه ذلك الى رئيس يراد مدحه. وكانت الملوك فيهم يُغَنَّى بين ايديهم بهذا الوزن. وربما زادو فيه نغمات عند موت الملوك للناحية والمرثية. ومنه نوع يسمى (ديثر مبي)، وهو مثل طراغوديا، ما خلا انه لا يخص به مدحة انسان واحد او امة معينة، بل الاخيار على الاطلاق. ومنه نوع يسمى ( قوموذيا ) وهو نوع تذكر فيه الشرور والرذائل والاهاجي. وكانوا ربما زادوا فيه نغمات ليذكروا القبائح التي يشترك فيها الناس وسائر. الحيوانات ومنه نوع يسمى ( ايامبو ) وهو نوع تذكر فيه المشهورات والامثال المتعارفة في كل فن ؛ وكان مشتركا للجدال وذكر الحروب والحث عليها، وفي معاني الغضب والضجر. ومنه نوع يسمى ( دراماط)، وهو نوع مثل (ايامبو ) الا انه كان يراد به انسان مخصوص او ناس معلومون. ومنه نوع يسمى ( ديقرا )، وهو نوع كان يستعمله اصحاب النواميس في تهويل المعاد على النفوس الشريرة. ومنه نوع يسمى ( انثي ) وهو نوع مفرح يتضمن الاقاويل المطربة لجودتها او لغرابتها. ومنه نوع يسمى ( افيقي ) ريطوريقي، وهو نوع كان يستعمل في السياسة والنواميس واخبار الملوك. ومنه نوع يسمى ( صاطوري ) وهو نوع احدثه الموسيقاريون خاصة في ايقاعه والتلحين المقرون به، وزعم انه يحدث في الحيوان حركات خارجة عن العادة. ومنه نوع يسمى ( فيوموتا) وكان يذكر فيه الشعر الجيد والرديء ويشبه كل ما يجانسه، ومنه نوع يسمى ( ايفحا باساردس) واحدثه انبدقليس، وحكم فيه على العالم الطبيعي وغيره. ومنه نوع يسمى (اوتوستقي)، وهو نوع تلقن به صناعة الموسيقى لا نفع له في غيره.
الفصل الثاني
في أصناف الإغرا الكلية
والمحاكات الكلية التي للشعراء
والان فانا قد نعبر عن هذا القدر الذي امكنا فهمه من التعليم الاول، اذ اكثر ما فيه اقتصاص اشعار ورسوم كانت خاصة بهم ومتعارفة بينهم يغنيهم تعارفهم اياها عن شرحها وبسطها0 وكانت لهم، وكما اخبرنا انواع معدودة للشعر في اغراض محدودة ويخص كل غرض وزن ؛ وكانت لهم عادات في نوع خاصة بهم كما للعرب من عادة ذكر الديار والغزل وذكر الفيافي وغير ذلك0 فيجب ان يموت هذا معلوما مفروضا.
فنقول الان : اما الكلام في الشعر، وخاصة كل واحد منها، ووجهه اجادة قرض الامثال والخرافات الشعرية، وهي الاقاويل المخيلة، وابانة اجزاء كل نوع بكميته وكيفيته فنقول فيه ان كل مثل وخرافة فاما ان يكون على سبيل تشبيه بآخر ؛ واما على سبيل اخذ الشيء نفسه، لا على ما هو عليه، بل على سبيل التبديل، وهو الاستعارة او المجاز؛ واما على التركيب منهما. فان المحاكاة كشيء طبيعي للانسان، والمحاكاة هي ايراد مثل الشيء وليس هو هو، وذلك كما يحاكي الحيوان الطبيعي بصورة في الظاهر كالطبيعي. ولذلك يتشبه بعض الناس في احواله ببعض ويحاكى بعضهم بعضا ويحاكون غيرهم0 فمن ذلك ما يصدر عن صناعة، ومن ذلك ما يتبع العادة، وايضا من ذلك ما يكون بفعل، ومن ذلك ما يكون بقول. والشعر من جملة ما يخيل ويحاكى باشياء ثلاثة : باللحن الذي يتنغم به، فان للحن يؤثر في النفس تأثيرا لا يرتاب به. ولكل غرض لحن يليق به بحسب جزالته او لينه او توسطه. وبذلك التاثير تصير النفس محاكية في نفسها لحزن او غضب او غير ذلك ؛ وبالكلام نفسه اذا كان مخيلا محاكيا، وبالوزن، فان من الاوزان ما يطيش، ومنها ما يوقر. وربما اجتمعت هذه كلها. وربما انفرد الوزن والكلام المخيل فان هذه الاشياء قد يفترق بعضها من بعض، وذلك ان اللحن المركب من نغم متفقة ومن ايقاع قد يوجد في المعازف والمزاهر ؛ واللحن المنفرد الذي لا ايقاع فيه قد يوجد في المزامير المرسلة التي لا توقع عليها الاصابع اذا سويت مناسبة. والايقاع الذي لا لحن فيه قد يوجد في الرقص ؛ ولذلك فان الرقص يتشكل جيدا " بمقارنة اللحن اياه حتى يؤثر في النفس.
(2/267)
قد تكون اقاويل منثورة مخيلة وقد تكون اوزان غير مخيلة لانها ساذجة بلا قول. وانما يجود الشعر بان يجتمع فيع القول المخيل والوزن ؛ فان الاقاويل الموزونة التي عملها عدة من الفلاسفة، ومنهم سقراط، قد وزنت اما بوزن حيا الثالث المؤلف من اربعة عشر رجلا، واما بوزن مؤلف من ستة عشر رِجلا، وغير ذلك. وكذلك التي ليست بالحقيقة اشعارا، ولكن اقوالا تشبه الاشعار. وكذلك الكلام الذي وزنه انبدقليس )188 أ ( وجعله في الطبيعات، فان ذلك ليس فيه من الشعر الا الوزن. ولا مشاركة بين انبدقلس وبين اوميروس الا في الوزن. واما ما وقع عليه الوزن من كلام انبدقلس فاقوال طبيعية وما يقع عليه من كلام أوميروس فاقوال شعرية. فلذلك ليس كلام انبدقلسي شعرا. ولذلك ايضا من نظم كلاما ليس من وزن واحد بل كل جزء منه ذو وزن اخر، فليس ذلك شعرا. ومن الناس من يقول ويغنى به بلحن ذي ايقاع. وعلى هذا كان شعرهم يسمى ديثورمبي واظنه ضربا من الشعر كان يمدح به لا الانسان بعينه او وظائفه بعينها، بل الاخيار على الاطلاق. وكان يؤلف من اربعة وعشرين رِجلا، وهي المقاطع. وكذلك كان شعرهم الذي يستعمله اصحاب السنن على النفوس الشريرة، واظنه الذي يسمى ديقراقي. وكذلك كان يعمل (طراغوذيا) وهو المديح الذي يقصد به انسان حي او ميت وكانوا يغنون به غناءا فحلا، وكانوا يبتدئون فيه فيذكرنون فيه الفضائل والمحاسن ؛ ثم ينسبونها الى واحد: فان كان ميتا زادوا في طول البيت او في لحنه نغمات تدل على انها مرثية ونياحة. واما قوموذيا وهو ضرب من الشعر يهجى به هجاءاً مخلوطاً بطنز وسخرية - ويقصد به انسان. وهو يخالف طراغوذيا بسبب انه يحسن ان يجمع اسباب المحاكاة كلها فيه من اللحن والنظم، ( قوموذيا ) لا يحسن فيه التلحين، لان الطنز لا يلائم اللحن.
وكل محاكاة فاما ان يقصد بها التحسين، واما ان يقصد بها التقبيح. فان الشيء انما يحاكى ليحسن، او يقبح. والشعر اليوناني انما كان يقصد فيه في اكثر الامر محاكاة الافعال والاحوال لا غير، واما الدواب فلم يكونوا يشتغلون بمحاكاتها اصلا كاشتغال العرب. فان العرب كانت تقول الشعر لوجهين : احدهما ليؤثر في النفس امرا من الامور بعينه نحو فعل وانفعال ؛ والثاني للتعجب فقط، فكان يشبه كل شيء ليعجب بحسب التشبيه.
واما اليونانيون فكانوا يقصدون ان يحثوا بالقول على فعل، او يردعوا بالقول عن فعل. وتارة كانوا يفعلون ذلك على سبيل الخطابة، وتارة على سبيل الشعر. فلذلك كانت المحاكاة الشعرية عندهم مقصورة على الافاعيل والاحوال، وعلى الذوات من حيث لها تلك الافاعيل والاحوال في كل فعل.
وكل فعل اما قبيح، واما جميل. ولما اعتادو محاكاة الافعال انتقل بعضهم الى محاكاتها للتشبيه الصرف، لا لتحسين وتقبيح، فكل تشبيه ومحاكاة كان معدا عندهم نحو التقبيح او التحسين، وبالجملة المدح او الذم. وكانوا يفعلون فعل المصورين فان المصورين يصورون الملك بصورة حسنة والشيطان بصورة قبيحة، وكذلك من حاول من المصورين ان يصور الاحوال ايضا، كما يصور اصحاب ماني حال الغضب والرحمة فانهم يصورون الغضب بصورة قبيحة، ويصورون الرحمة بصورة حسنة.
وقد كان من الشعراء اليونانيو ن من يقصد التشبية للفعل وان لم يكن نخيل منه قبيحا وحسنا بل المطابقة فقط.
فظاهر ان فصول التشبيه هذه الثلاثة : التقبيح، والتحسين ؛ والمطابقة ؛ وان ذلك ليس في الالحان الساذجة، والاوزان الساذجة ولا في الايقاع الساذج بل في الكلام. والمطابقة فصل ثابت يمكن ان يمال بها الى قبح، وان يمال الى حسن وكانها محاكاة معدة - مثل من شبة شوق النفس الغضبية بوثب الاسد، فان هذه مطابقة يمكن ان يمال بها الى الجانبين فيقال توثب الاسد الظالم او توثب الاسد المقدام. فالاول يكون مهيئا نحو الذم، والثاني يكون مهيئا نحو المدح. والمطابقة تستحيل الى تحسين او تقبيح يتضمن شيئا زائدا - وهذا نمط اوميروس. فاما اذا تركت على حالها ومثالها كانت مطابقة فقط.
فكل هذه المحاكيات الثلاث انما هي على الوجوه الثلاثة المذكورة سالفا0 فكان بعض الشعراء اليونانيون يشبهون فقط، وبعضهم كاوميروس يحاكي الفضائل في اكثر الامر فقط، وبعضهم يحاكي كليهما، اعني الفضائل والقبائح. ثم ذكر عادات كانت لبلاد في ذلك.
(2/268)
فهذه هي فصول المحاكاة من جهة ما هي محاكاة، ومن جهة ما يقصد بالمحاكاة. اما المحاكيات فثلاثة : تشبيه، واستعارة، وتركيب. واما الاغراض فثلاثة : تحسين وتقبيح ومطابقة.
الفصل الثالث
في الأخبار عن كيفية ابتداء نشأ الشعر
وأصناف الشعر
ان السبب المولد للشعر في قوة الناس شيئان : احدهما الالتذاذ بالمحاكاة واستعمالها منذ الصبا؛ وبها يفارقون الحيوانات العُجْم، ومن جهة ان الانسان اقوى على المحاكاة من سائر الحيوان : فان بعضها لا محاكاة فيه اصلاً، وبعضها فيه محاكاة يسيرة : اما بالنغم كالببغاء واما بالشمائل كالقرد.
ولللمحاكاة التي في الناس فائدة، وذلك في الاشارة التي يحاكي بها المعاني فتقوم مقام التعليم وتقع موقع سائر الامور المتقدمة على التعليم. وحتى ان الاشارة اذا اقترنت بالعبارة اوقعت المعنى في النفس ايقاعا جليا، وذلك لان النفس تنبسط وتلتذ بالمحاكاة، فيكون ذلك سببا لان يقع عندها لامر فضل موقع.
والدليل على فرحهم بالمحاكاة انهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة والمتقزز منها0 ولو شاهدوها انفسها لتنكبوا عنها.فيكون المفرح ليس نفس تلك الصورة ولا المنقوش، بل كونها محاكاة لغيرها اذا كانت اتقنت، ولهذا السبب ما كان التعلم لذيذً،ا لا الى الفلاسفة فقط بل الى الجمهور لما في التعلم من المحاكاة، لان التعليم تصوير ما للامر في رقعة النفس. ولهذا ما يكثر سرور الناس بالصور المنقوشة بعد ان يكونوا قد احسنو الحاق التي هذه امثالها فان لم يحسنوها قبل، لم تتم لذتهم، بل انما يلتذون حينئذ قريباً مما يلتذ من نفس كيفية النقش في كيفيته ووضعه، و ما يجرى مجراه.
والسبب الثاني حب الناس للتأليف المتفق والالحان طبعاً. ثم قد وجدت الاوزان مناسبة للالحان، فمالت اليها الانفس واوجدتها.
فمن هاتين العلتين تولدت الشعرية وجعلت تنموا يسيرًا يسيرًا تابعة للطباع. واكثر تولدها على المطبوعين اللذين يرتجلو ن الشعر طبعاً، وانبعث الشعرية منهم بحسب غريزة كل واحد منهم وقريحته في خاصته وبحسب خلقه وعادته.فمن كان منهم اعف، مال الى المحاكاة بالافعال الجميلة وبما يشاكلها،ومن كان منهم اخس نفسًا مال الى الهجاء، وذلك حين هجو الاشرار كانوا اذا هجوا الاشرار بانفرادهم يصيرون الى ذكر المحاسن والممادح ليصيروا الرذائل بازائها اقبح. فان من قال ان الفجور رذالة ووقف عليه لم يكن تاثير ذلك في النفس تأثيره لو قال : كما ان العفة جلالة وحسن حال.
قال : الا انه ليس لنا ان نسلم ذكر الفضائل في الشعر لاحد قبل اوميروس وقبل ان بسطَ هو الكلام في ذكر الفضائل. ولا ينكر ان يكون اخرون قرضوا الشعر بالفضائل: ولكن اوميروس هو الاول والمبدأ. ومثال اشعار المتقدين من الهجاء قول بعضهم ما ترجمته : )ان لهذاك شبقاً وفسقاً وانتشار حال(.
(2/269)
وما يجرى مجرى ذلك مما يقال في الاشعار المعروفة ب " يامبو " وهو وزن يخص بالمجادلات والمطانزات والاضجارت من غير أن يقصد به انسان بعينه وهو وزن ذو اثني عشر رجلا؛ وكان يستعمله شعراء " ديلاذ " ا " وفاروديا " . ثم ان اوميروس - وان كان اول من قال طراغوذيا قولا يعتد به، و بسط الكلام في الفضائل، فقد نهج ايضاً سبل قول دراماطريات، وهي في معنى ايامبو، الا انه مقصود به انسان بعينه او عدة من الناس باعيانهم. ونسبه هذا النوع الى " قوموذيا " نسبة " اوذوسيا " الى " طراغوذيا " ، يعني ان كل واحدة منهما اعم من نظيره واقدم والثانيان اشد تفصيلا وابطأ زماناً، وانما تولدا بعد ذلك. ويذكر بعد هذا مايدل عليه من كيفية الانتقال بسحب تأريخاتهم التي كانت لها من نوع الى نوع، الى ان تفصل طراغوذيا وقوموذيا واستفاد الرونق التام. فان طراغوذيا نشا من الديثرومبو القديمة: واما قوموذيا فنشأ من الاشعار الهجائية السخيفة المنسية عندالاماثل، الباقية - قال - الى الان في الرساتيق الحسيسة. ثم لما نشأت الطراغوذيا لم تترك حتى اكملت بتغييرات وزيادات كانت تليق بطباعهم ثم اضيف اليها الاخذ بالوجوه واستعملها الشعراء الذين يخلطون الكلام بالاخذ بالوجوه حتى صار الشيء الواحد يفهم من وجهين: احدهما من حيث اللفظ والاخر من حيث هيئة المنشد. ثم جاء لسخيلوس القديم فخلط ذلك بالحان، فوقع للطرغوذيات الحانا بقيت عند المغنين والرقاصين. وهو الذي رسم المجاهدة بالشعر، يعني المجاوبة والمناقضة،كما قيل في " الخطابة " وسوفقليس وضع الالحان التي يلعب بها في المحافل على سبيل الهزل والتطانز. وكان ذلك قليلا يسيرًا فيما سلف. ثم انه نشأ ساطوري من بعد، وساطوري من بعد رباعيات اياموبو ثم استعمل ساطوري في غير الهزل ونقل الى الجد وذكر العفة. واظن انا ان الرباعيات هي الاوزان القصيرة التي يكون كل بيت منها من اربع قواعد، وكل مصراع من قاعدتين. وليس يجب ان يصغى الى الترجمة التي دلت الربارعيات هي التي تضاعف الوزن فيها اربع مرات بل الترجمة الصحيحة ما يخالف ذلك. فان ذلك النقل يدل على ان هذه الرباعية قديمة وبسبب الرقص المسمى ساطوريقيا. والاقدم من الاشعار هو الاقصر والانقص والمستعمل للرقص هو الاخف قال: وانما سمي هذا النوع ساطوري لان الطباع صادفته ملائما للرقص المسمى ساطوريقيا وكأن الطباع تسوق الى هذا النوع من القول ذلك النوع من الوزن، وخصوصا حينما كانت الاجزا تشغل بالوزن، وهذا هو ان يلحن فيكون في كل جزء من اجزاء البيت الموزون وزن تلحيني. قال : والدليل على أن ذلك طبيعي ان الناس عند المجادلات والمنازعات ربما ارتجلوا شيئا منها طبعا ارتجالا مصراع منه وهي ستة ارجل واما تمام الوزن تنبعث اليه القريحة بتمامه.
وانما يقع المتنازعون في ذلك اذا انحرفوا في المنازعات عن الطريق الملائم للمفاوضة او مالو عنها محبة للتفخيم والزينة، فان العدول من المبتذل الى الكلام العالي الطبقة والتي تقع فيه اجزاء هي نكت نادرة هو في الاكثر بسبب التزيين لا بسبب التبيين. ولا نشك في ان الناس تعبوا تعبا شديدا حتى بلغوا غايات التزيين في واحد واحد من انواع الكلام.
و " القوموديا " يراد بها المحاكاة التي هي شديدة الترذيل وليس بكل ما هو شر ولكن بالجنيس من الشر الذي يستفحش ويكون المقصود به الاستهزاء والاستخفاف. وكأن " قوموذيا " نوع من الاستهزاء. والهزل هو حكاية صغار واستعداد سماجة من غير غضب يقترن به، ومن غير الم بدني يحل بالمحكي. وانت تر ى ذلك في هيئة وجه المسخرة عندما يغير سحنته لتطنز به من اجمتاع ثلاثة اوصاف فيها القبح، لانه يحتاج الى ان يغير عن الهيئة الطبيعية الى سماجة النكد، لانه يقصد قصد المجاهرة بما يغم من اعتقاد قلة مبالاة به واظهار اضرارعلية. ولذلك في وجه النكد هيئة يحتاج اليها المستهزيء. والثالث الخلو عن الدلالة على غم لا كما في الغضب، فان الغضب سجيته مركبة من سجية موقع متأذ ومغموم جميا.
وام المستهزيء فسجية المنبسط والفرح دون المنقبض المغتم أو المتأذي.
(2/270)
قال : فاما مبدأ الامر في حدوث طراغوذيا وآخره فامر مشهور لا يحوج الى شرح. واما قوموذيا فلما لم تكن من الامور التي يجب ان يعتني بها اهل العناية واهل الفضل والراوية فقد وقع الجهل بنسبة ونسى مبدؤه وكيفية تولده. وذلك ان المغنين والراقصين لما اذن لهم ملك اسوس ان يستعملوا القوموذيا بعد تحريمه اياه عليهم كانوا يستعملون شيئا يخترعونه بارادتهم مما ليس له قانون شعري صحيح. ولم يكن يجنبهم والفرب منهم من يستمد منه اشكال الاقوال الشعرية حتى كانو يصادفون شعرا ويكتبونه غناء وايقاعا " . وكانو ا يقتصرون على بعض الوجوه الموزونة من الاقاويل القديمة او من جهة الاستعانة لصناعة الاخذ بالوجوه فكان امثال هؤلاء لا يتحققون المعرفة بالقاموذيا في وقتهم. فكيف يكون حالهم في تحقيق نسبة قوموذيا الى من سبقهم !
الفصل الرابع
في مناسبة مقادير الأبيات مع الأغراض
وخصوصا فى اطراغوذيا؛ وبيان اجزاء اطراغوذيا ان اجادة الخرافات هى تعقبها بالبسط دون الايجاز فلذلك يتم اكثره فى الاعاريض الطويلة ؛ فان قوما " من الاخرين لما تسلطوا على بلاد من بلادهم وارادوا ان يتداركوا الاشعار القصار القديمة ردوها الى الطول ؛ وتبسطوا فى ايراد الامثال والخرافات. ولذلك رفضوا )أيامبو( القصيرة. واما وزن )افى( وهو ايضا " الى القصير. فانه من ستة عشر رجلا " ؛ فشبهوه بطرغوذيا وزادوه طولا. وهو نوع من الشعر تذكر فيه الاقاويل المطربة المفرحة لجودتها وغرابتها وندرتها. وربما استعملت المشوريات والعظات فينبغى ان يكون الوزن بسيطا " ؛ أى من ايقاع بسيط ؛ فان ذلك اوقع من الذى يكون من ايقاع مركب. ولتكن الاوزان البسيطه موفية توفيات مختلفة لكل شئ بحسبه.
واما سوى هذين الوزنين فيكاد الناس يجوز مد الوزن فى الطول ما تسعه مدة يوم واحد لكن)افى( مع ذلك لم يمدد قدره فى تكثيره الى قدر لايجاوز ولذلك اختلف عندهم. قال: ولكنه ان كان زيد الشعر هذه الزيادة فى اخر الزمان ؛ فقد كانت الطراغوذيات فى القديم على المثال المذكور. وكذلك القول فى )افى ( واما اجزاء ) افى ( و ) اطراغوذيا ( فقد كان بعضها المشتركة بينها ؛ وبعضها ما يخص الطراغوذيات حتى تكون اجزاؤها اما هذه المشتركة ؛ واما الخاصة بالطراغوذيات. فانه ليس كل ما يصلح لطراغوذيا يصلح )لآفى(0 واما السداسيات والقوموذيات فيؤخر القول فيها. فان المديح وما يحاكى به الفضائل اولى بالتقديم من الهجاء والاستهزاء0 ولنحد الطراغودية ونقول ) ان الطراغودية هى محاكاة فعل كامل الفضيلة ؛ عالى المرتبة بقول ملائم جدا " لايختص بفضيلة جزئية ؛ وتؤثر فى الجزئيات لا من جهة الملكة ؛ بل من جهة الفعل ؛ محاكاة تنفعل لها الانفس برحمة وتقوى ( وهذا الحد قد بين فيه امر طراغوذيا بيانا " يدل على انه تذكر فيه الفضائل الرفيعة كلها بكلام موزون لذيذ على جهة تميل الانفس الى الرقة والتقية. وتكون محاكاتها للافعال ؛ لان الفضائل والملكات بعيدة عن التخيل ؛ وانما المشهور من امرها افعالها فيكون طراغوذيا يقصد فيه لاجل هذه الافعال ان يكمل ايضا " بايقاع اخر واتفاق نغم ليتم به اللحن ؛ويجعل له من هذه الجهة ايقاع اوزانه فى نفسه0 وقد يعملون عند انشاد طراغوذيا باللحن امورا من الاشارات والاخذ بالوجوه تتم بها المحاكاه.
(2/271)
فاول اجزاء أطراغوذيا هو المقصود من المعانى المتخيلة والوجيهة ذات الرونق ؛ ثم يبنى عليها اللحن والقول. فانهم يحاكون باجتماع هذه. ومعنى القول : اللفظ الموزون ؛ واما معنى اللحن فالقوة التى تظهر بها كيفية ما للشعر من المعنى. ومعنى القوة هو ان التلحين والغناء الملائم لكل غرض هو مبدأ تحريك النفس الى جهة المعنى ؛ فيحسن له معه التفطن وتكمون فيه هيئة دالة على القدرة ؛ لان التلحين فعل ما ؛ ويتشبه به بالافعال التى لها معان اذ قلنا ان الحدة من النغم ثم بعضا " من الاحوال المستدرج اليها ؛ والثقل يلائم اخرى ؛ (189 أ) وكذلك اجزاء الالحان تلائم احوالا " احوالا " وتكون من الالحان فى امور يتحدث بها عند اناس ينشدون ويغنون على الهيئة التى يضطر ان يكون عليها صاحب ذلك الخلق وذلك الاعتقاد الذى يصدر عنه ذلك الفعل. ولذلك يقال انه انشد كانه واحد ممن له ذلك المعنى فى نفسه او واحد شانه ان يصير بتلك الحال. ونحو هيئات المحدث نحوان : نحو يدل على خلق كمن يتكلم كلام غضوب بالطبع او كلام حليم ؛ ونحو يدل على الاعتقاد كمن يتكلم كلام متحقق ؛ او من يتكلم كلام مرتاب. وليس لهيئات الاذى قسم غير هذين.
ويكون الكلام الخرافى الذى يعبر عنه المنشد محاكاة على هذه الوجوه. والخرافة هو تركيب الامور والاخلاق بحسب المعتاد للشعراء والموجود فيهم. ويكون كل منشد هو كواحد من المظهرين عن اعتقادهم الجد0فانه وان كان هزل حقا " ؛فينبغى ان يظهر جدا " ويظهر مع ذلك فيه دقه فهم ؛فانه ليس هيئة من يعبر عن معقول عبارة كالخبر المسرود هو هيئة من يعبر عنه ويظهر انه شديد الفهم فى وقوعه عليه والتحقيق لما يؤديه منه.
وكما ان للخطابة على الاطلاق اجزاء مثل الصور والاقتصاص والتصديق والخاتمة ؛ كذلك كان القول الشعري عندهم اجزاء. واجزاء الطراغوذيا التامة عندهم ستة :الاقوال الشعرية الخرافية، والمعاني التي جرت العادة بالحث عليها، والوزن، والحكم، والرأي، والدعاء اليه، والبحث والنظر ثم اللحن.
فاما الوزن والخرافة واللحن فهي ثلاثة بها تقع المحاكاة. واما العبارة والاعتقاد والنظر فهو الذي تقصد محاكاته فيكون الجزءان الاولان له احدهما ما يحاكي الثاني ما يحاكى. ثم كل واحد منهما ثلاثة اقسام ويكون المحاكى احد هذه الثلاثة والمحاكى به احد تلك الثلاثة والمحاكيات واما العادة الجميلة والراي الصواب فامر لا بد منه. واما النظر فهو كالاحتجاج والابانه لصواب كل واحد من العادة والخرافة. ويؤدي بالوزن واللحن وكذلك الابانة لصواب الاعتقاد يؤدي بالوزن اللحن.واعظم الامور التي بها تتقوم طراغوديا هذه فان طروغاديا ليس هو محاكاة للناس انفسهم بل لعاداتهم وافعالهم وجهة حياتهم وسعادتهم. والكلام فيه في الافعال أكثر من الكلام فيه في الاخلاق، واذا ذكروا الاخلاق ذكروا الافعال؛ فلذلك لم يذكروا الاخلاق في الاقسام بل ذكروا العادات ليشتمل على الافعال والاخلاق اشتمالا على ظاهر النظر. فانه لو قيل: الاخلاق، لكان ذلك لا يتناول الافعال. وذكر الافعال ضرورية في طراغودياتهم، وذكر الاخلاق غير ضروري فيه. وكثير من طراغوذيات كانت لهم يتداولها الصبيان فيما بينهم، تذكر فيها الافعال ولا يفطن معها لامر الاخلاق. وليس كل انسان يشعر بان الفضيلة هي الخلق، بل يضن الفضيلة هي الأفعال وكثير من المصنفين في الفضائل والشاعرين فيها لم يتعرضو للاخلاق بل انما يتعرضون لما قلنا وان كان التعرض للخرافات والعادات والمعاملات وغيرها وجميعها في الطراغوذيات مما قد سبق اليه اولوهم، وقصر عنه من تخلف ووقع في زمان المعلم الاول فكان المتاخرين لم يكونوا يعملون بالحقيقة طراغوديا بل تركيبا من هذه الاشياء لا يؤدي الى الهيئة الكاملة لطراغوديا فان المعمول قديما كانت فيها خرافات واقعة وكان سائر ما قتوم به الطراغوذيا ماخوذة فيه وكان يؤثر ائرا قويا في النفس حتى كان يعزى المصابين ويسلى الغمغمومين.
واجزاء الخرافة جزءان : الاشتمال وهو الانتقال من ضد الى ضد وهو قريب من الذي يسمى في زماننا مطابقة ولكنه كان يستعمل في طراغودياتهم في ان ينتقلو من حالة غير جميلة الى حالة جميلة بالتدريج، بان تقبح الحالة الغير جميلة وتحسن بعدها الحالة الجميلة. وهذا مثل الحلف والتوبيخ والتعذير.
(2/272)
والجزء الثانى الدلالة. وهو ان نقصد الجميلة بالتحسين ؛ لا من جهة تقبيح مقابلها. وكان القدماء من شعرائهم على هذا اقدر منهم على اللحن والوزن ؛ وكان المتاخرون على اجادة الوزن واللحن اقدر منهم على حسن التخيل بنوعى الخرافة. فالاصل والمبدأ هو الخرافة ثم من بعده استعمالها فى العادات على ان يقع مقاربا " من الامر حتى تحسن به المحاكاة ؛فان المحاكاة هى المفرحة ؛ والدليل على ذلك انك لاتفرح بانسان ولاعابد صنم يفرح بالضم المعتاد ؛ وان بلغ الغاية فى تصنيعه وترتببه - ماتفرح بصورة منقوشة محاكية. ولاجل ذلك انشئت الامثال والقصص0 والثالث من الاجزاء هو الرأى ؛ فان الرأى ابعد من العادات فى التخييل لان التخييل معد نحو قبض النفس وبسطها. وذلك نحو مايشاق ان يفعل فى اكثر الامر. وكان الكلام الراى المحمود عندهم هو ما اقتدر فيه على محاكاة الرأى ؛ وهو القول المطابق للموجودعلى أحسن ما يكون. وبالجملة ؛ فان الاولين انما كانوا يقررون الاعتقادات فى النفوس بالتخييل الشعرى ؛ ثم نبغت الخطابة بعد ذلك ؛ فزاولوا تقرير الاعتقادات فى النفوس بالاقناع ؛ وكلاهما متعلق بالقول.
ويفارق القول في الرأي القول في العادة والخلق ان أحدهما يحث على ارادة ؛ والاخر على يحث على رأى فى أن شيئا " موجود أو غير موجود. ولايتعرض فيه للدعوة الى ارادته أو الهرب منه. ثم لاتكون العادة والخلق متعلقين بان شيئا " موجود أو غير موجود؛ بل اذا ذكر الاعتقاد فى الامر العادى ذكر ليطلب أو ليهرب منه. فاما الرأى فانما يبين الوجود أو اللاوجود فقط على نحو0 والرابع : المقابلة ؛ وهو أن يجعل للغرض المفسر وزنا " يقول به ؛ ويكون ذلك الوزن مناسبا " اياه ؛ وأن تكون التغييرات الجزئية لذلك الوزن تليق به : فرب شئ واحد يليق به الطى فى غرض وزن الشئ وفى غرض آخر يليق به التلصيق ؛ وهما فعلآن يتعلقان بالايقاع يستعملهما.
وبعد الرابعة : التلحين وهو اعظم كل شئ وأشدة تاثيرا " فى النفس واما النظر والاحتجاج فهو الذى يقرر فى النفس حال المعقول ووجوب قبوله حتى يتسلى عن الغم والانفعال المقصود بطراغوذيا ؛ ولا تكون فيها صناعة ؛ أى التصديق المذكور فى كتاب )الخطابة ( ؛ فان ذلك غير مناسب للشعر. وليس طراغوذيا مبنيا " على المحاورة ؛ والمناظرة ولا على الاخذ بالوجوه والصناعة أعلى درجة من درجات الشعر ؛ فان الصناعة هى تفيد الالات التى بها يقع التحسين والنافعات منها، والشعر يتصرف على تلك تصرفا " ثانيا " والصانع الاقدم أراس من الصانع الذى يخدمه ويتبعه.
وأعلم أن أصول التخييلات ماخوذة من الخطابة على أنها خدم للتصديقات وتوابع. ثم التصرف الثانى فيها بحسب أنه أصل للشعر وخصوصا " للطراغوذيا0
الفصل الخامس
في حسن ترتيب الشعر
الطراغوذيا وخصوصا "
وفى أجزاء الكلام المخيل الخرافى فى الطراغوذيا
(2/273)
وأما حسن قوام الامور التى يجب أن توجد فى الاشعار ؛ فينبغى أن يتكلم فيه ؛ فان ذلك مقدمة طراغوذيا " ؛ واعم منه ؛ وأعلى منه مرتبة. فان طراغوذيا أيضا " يجب أن تكون كاملة يعمل من المحاكاة ؛وأن يعظم الآمر الذى يقصده ؛ فان تلك المعانى تقال قولا مرسلا من غير الرونق والفخامة والحشمة. واستعمال طراغوذيا اذن بسبب التعظيم والتكميل وللتخييل. وكل تمام امر فله مبدأ ووسط وآخر ؛وليس يجب أن يكون قبل شئ. والجزء الفاضل هو الوسط. وان كان من جهة المرتبة قد يكون بعد،ولذلك فان الشجعان المقدمين يفضلون اذا لم يجبنوا فيكونوا فى أخريات الناس ولم يتهوروا فيكونوا فى أول الرعيل - وكذلك الحيوان : انما الجيد هو المتوسط.وكل امر جيد مما فيه تركيب فهو الذى يتركب منه شئ ؛ بل يتركب هو من الاطراف فيعتدل. وليس يكفى ان يكون المتوسط فاضلا لانه وسط فى المرتبه فقط ؛ بل يجب ان يكون وسطا " فى العظم ؛ فان المقدار الفاضل هو المقدار الوسط فى العظم. فيجب ان تكون اجزاء طراغوذيا هى المتوسطة فى العظم. وكذلك فان الحيوان الصغير ليس ينتهى. والتعليم القصير المدة التى يخلط الكل بعضه ببعض ؛ ويريده الى واحد لقصره ليس بجيد، ويكون كمن يرى حيوانا " من بعد شديد ؛ فانه لا يمكن أن يراه ؛ ولا أيضا " أن يراه شديد القرب ؛ بل المتوسطة هو السهل الادراك السهل الرؤية. كذلك يجب أن يكون الطول فى الخرافات محصلا " مما يمكن أن يحفظ فى الذكر. وأما طول الاقاويل التى يتنازع فيها ؛ والتصديقات التى للصناعة الخطابية ؛ فان ذلك غير محصل ولا محدود ؛ بل بحسب مبدأ المحاكاة فيه. وأما اطراغوذيا فانه شئ محصل الطول والوزن. ولو كان مما يكون بالجاهدة والمفاوضة، لكانت تلك المفاوضة لا نحدد بنفسها الا ان يقتصر بها على وقت محدود يحدد بفنجان الساعات ولذلك لا يجب ان يوكل امر تقدير طول القصائد الى مدة المفاوضات بل يجب ان يكون لها طول وتقدير معتدل كالطبيعي وان تكون الاشتمالات التي فيه التي ذكرنا انها توجب الانتقالات محدودة الازمنه لا كما ظن ناس انه انما كان القصد في الطراغوذية الكلام في معنى بسيط، ولا يلتفت الى جميع مايعرض للشيء فيطول فيه فأن الواحد تعرض له أمور كثيرة، ولذلك لايوجد أمر واحد له غرض واحد وكذلك للواحد الجزئي أفعال جزئية بغير نهاية، ولهذا ما يكون الشيء واحد الفعل بالنوع غير واحدة بانقسامه بأغراضه وأحواله يقترن به بشخصه. وم ن هنا وقع الشك الكثير في كون الواحد كثيرا، بل يجب أن يراعى نمطا واحدا من الفعل ويتكلم فيه، ولايخلط أفعالا بأفعال وأحوالا بأحوال. فأنه كما يجب أن يكون الكلام محدودا من جهة اللفظ، كذلك يجب أن يكون محدودا من جهة المعنى، ويكون فيه من المعاني قدر يوافق الغرض ولايتعداه الى أحوال وأغراض للمقول فيه خارجة عنه، كما كان يفعله بعض من ذكروا، أما أميروس فأنه كان يخالفهم ويلزم غرضا واحدا.ونعم ما فعل ذلك، سواء كان أعتبر فيه الواجب بحسب الصناعة، فأن كل صناعة تقصد غاية واحدةوأو محدودة أو الواجب حسب الطبيعة فأن الطبيعة تقصد غاية واحدة أو غايات محدودة.وأورد لهذا أمثلة في شعر أوميروس أنه لما ذكر أنسانا أو حزبا لم يذكر من أحوال ذلك الانسان أو الحزب أو ماعرض له من الخصومات ولحقته من النكبات الا المتعلق بالغرض الخاص الذي نحاه.
فيجب أن يكون تقويم الشعر على هذه الصفة: أن يكون مرتبا في أول ووسط وآخر، وأن يكون الجزء الافضل في الوسط، وأن تكون المقادير معتدلة، وأن يكون المقصود محدودا لايتعدى ولا يخلط بغيره مما لايليق بذلك الوزن، ويكون بحيث لو نزع منه جزءا واحدا فسد وأنتقص.فأن الشيء الذي حقيقته الترتيب اذا زال عنه الترتيب لم يفعل فعله، وذلك لانه أنما يفعل لأنه كل، ويكون للكل شيئا محفوضا بالاجزاء ولايكون كلا عندما لا يكون الجزء الذي للكل.
(2/274)
وأعلم أن المحاكاة التي تكون بالأمثال والقصص ليس هو من الشعر بشيء، بل الشعر أنما يتعرض لما يكون ممكنا من الامور وجوده، أو لما وجد ودخل في الضرورة. وأنما كان يكون ذلك لو كان الفرق بين الخرافات والمحاكيات الوزن فقط، وليس كذلك بل يحتاج أن يكون الكلام مسددا نحو أمر وجد أو لم يوجد. وليس الفرق بين كتابين موزونين لهم: أحدهما فيه شعر، والاخر فيه مثل ما فيه " كليلة ودمنة " وليس بشعر الا بسبب الوزن فقط، حتى لو لم يكن لما يشاكل " كليلة ودمنة " وزن، صار ناقصا لايفعل فعله، بل هو يفعل فعله من افادة الاراء التي هي نتائج وتجارب أحوال تنسب الى أمور ليس لها وجود، وأن لم يوزن. وذلك لأن الشعر أنما المراد فيه التخييل، لاأفادة الاراء، فأن فات الوزن نقص التخييل. وأما الآخر فالغرض فيه أفادة نتيجة تجربة، وذلك قليل الحاجة الى الوزن. فأحد هذين متكلم فيها، وجد ويوجد، والاخر يتكلم فيما وجوده في القول فقط. ولهذا صار الشعر أكثر مشابهة للفلسفة من الكلام الآخر لأنه أشد تناولا للموجود وأحكم بالحكم للكلى. وأما ذلك النوع من الكلام فأنما يقول في واحد على أنه عرض له وحده، ويكون ذلك الواحد قد أخترع له اسم فقط ولاوجود له.ونوع منه يكون في اقتصاص أحوال جزئية قد وجدت، لكنها غير مقولة على نحو التخييل. وأما الجزئيات التي يتكلم فيها الشعراء كلاما يخلطونه بالكلى فأنها موجودة كجزيئات الامور التي تحدث عنها في قوموذيا مما وجدت، وليست كجزيئات الامور التي في ايامبو العمة، فأن تلك الجزيئات تفرض فرضا أيضا، ولكن تدل على معنى كلي على النحو الذي يسمى تبديل الاقتضاب. وأما على طراغوذيا فأن النسبة أنما هي الى أسماء موجودة. والموجود والممكن أشد أقناعا للنفس، فأن التجربة أيضا أذا أستندت الى موجود أقتنعت أكثر مما تقنع أذا استندت مخترع وبعد ذلك اذا استندت الى موجود مايقدر كونه. وقد كان يستعمل في طراغوذيا أيضا جزيئات في بعض المواضع مخترعة : يسمى على قياس المسميات الموجودة، ولكن ذلك في النادر القليل. وفي النوادر قد كان يخترع أسم شيء لانظير له في الوجود، ويوضع بدل معنى كلي، مثل جعلهم الجزء كشخص واحد وأطنابهم في مدحه، وذلك لان احوال الامور قد كانت مطابقة لأحوال ماكانوا يخترعون له الاسم. وليس يقع ذلك في التخييل بنفع قليل، ولكنه لايجب أن يوقف عمل الطراغوذيا وأختراع الخرافات فيها على هذا النحو. فأن هذا ليس مما يوافق جميع الطباع. فأن الشاعر أنما يجود شعره لابمثل هذه الاختراعات، بل أنما يوجد وزنه وخرافته أذا كان حسن المحاكاة بالمخيلات وخصوصا للافعال، وليس شرط كونه شاعرا أن يخيل لما كان فقط، بل لما يكون ولما يقدر كونه وأن لم يكن بالحقيقة.
(2/275)
ولايجب أن يحتاج في التخييل الشعري الى هذه الخرافات البسيطة التي هي قصص مخترعة، ولا أن يتمم بافعال دخيلة مثل أخذ الوجوه وهي أفعال يؤثر بعض الشعراء أو الرواة أيرادها مع الرواية التي يخيل بها القول. فأن ذلك يدل على نقصه، وعلى أن قوله ليس يخيل الا بفعل. وأنما يضطر الى ذلك من الشعراء: أما الرذال منهم فلضعفهم، وأما المفلقون فلمقابلة الاخذ بالوجوه بأخذ الوجوه. وأما أذا قابلهم الشعراء المفلقون دون هؤلاء لم يبسطوا الخرافات خالطين أياها بأمثال هذه، وأنما أوردوها موجزين منقحين. وربما أضطروا في الطراغوذيا أيضا الى أن يتركوا محاكاة الافعال الكاملة، ومالوا الى المجزيات، وذلك أكثره في الجزء الذاتي. وقد يخلط بعض ذلك أيضا ببعض الوجوه الآخر كأنها قد دخلت بالاتفاق لتعجب، فأن الذي يدخل بالاتفاق ويقع بالبخت يتعجب منه. وكثير من الخرافات يكون خاليا عن النفع في التخييل، وربما كان بعضها مشتبكا متداخلا به يتحجج، كما أن الافعال من الناس أنفسها: بعضها ينال به الغرض ببساطته وبكونه واحدا متصلا. وبعضها أنما ينال به الغرض بتركيب وتخليط.والمشتبك المشتجر من الخرافات ماكان متفننا في وجوه الاستدلال والاشتمال. وبذلك تنقل النفس من حال الى حال. وأن كل أشتمال وأستدلال يراد به نقل النفس الى أنفعال عن أنفعال بأن يخيل سعادة فينبسط، أو شقاوة فينقبض - فأن الغايات الدنيوية هاتان.وأحسن الاستدلال ما يتركب بالاشتمال. وقد يستعمل الاستدلال في كل شيء ويكون منه خرافة، لكن الاليق بهذا الوضع (190 أ)أن يكون الاستدلال على فعل. فأن مثل هذا الاستدلال وما يجري مجراه من الاشتمال هو الذي يؤثر في النفس رقة أو مخافة كما يحتاج اليه في طراغوذيا؛ ولآن التحسين وأظهار السعادة والتقبيح وأظهار الشقاوة انما يتعلق، في ظاهر المشكور، بالافعال. وأنما يكون لناس كانوا يستدل منهم ويحاكى بهم آخرون يجرون مجراهم في الفعل.
فأجزاء الخرافة بالقسمة الاولى جزءان: الاستدلال والاشتمال. وهاهنا جزء آخر يتبعهما في طراغوذيا، وهو التهويل وتعظيم الامر وتشديد الانفعال، مثل ما يعرض عند محاكاة الافاة الشاملة كالموتان والطوفان وغير ذلك.
فهذه أنواع طراغوذيا.
الفصل السادس
في أجزاء طراغوذيا
بحسب الترتيب والانشاد، لابحسب المعاني.
ووجوه من القسمة الاخرى وما يحسن من التدبير في كل جزء، وخصوصا ما يتعلق بالمعنى قد كان عندهم لكل قصيدة من طراغوذيا أجزاء تترتب عليها في أبتدائها ووسطها وأنتهائها، وكان ينشد بالغناء والرقص ويتولاه عدة. وكان جزؤه الذي يقوم مقام أول النسيب في شعر العرب يسمى " مدخلا " . ثم يليه جزء هناك يتبدى معه الرقاص يسمى " مخرج " الرقاص، ثم جزء آخر يسمى " مجاز " هؤلاء. وهذا كله كالصدر في الخطبة. ثم يشرعون فيما يجري مجرى الاقتصاص والتصديق في الخطابة فيسمى " التقويم " . ثم كان تختلف أحوال ذلك في مساكنهم وبلادهم، وأن كان لايخلوا من المدخل ومجاز المغنين.
" فالمدخل " هو جزء كلي يشتمل على أجزاء، وفي وسطه يتبدى الملحنون بجماعتهم. و " المخرج " هو الجزء الذي لايلحن بعده الجماعة منهم. وأما " المجاز " فهو الذي يؤدونه المغنون بلا لحن، بل بايقاع وأما " التقويم " فهو جزء كان لايؤدى بنوع من الايقاع يستعمل فيه سواه بل يؤدى بنشيد نوحي لاعمل معه أيقاعي الا وزن الشعر. وكل ذلك تنشده جماعة الملحنين. فهذه أنواع قسمة الطراغوذيا.
ونوع آخر أن بعض أجزاء طراغوذيا يعطي ضنا مخيلا لشيء، ويميل الطبع اليه، وبعضه يعطي النفس ما يحذره ويحفظه على سكونه ويقبضه عن شيء.
(2/276)
ويجب في تركيب الطراغوذيا أن يكون غير تركيب بسيط، بل يجب أن يكون فيه أشتباك، وقد عرفته - ويكون ذلك مما يخيل خوفا مخلوطا بحزن بمحاكاته. فأن هذه الجهة من المحاكاة هي التي تختص كل طراغوذيا وبها تقدر النفس لقبول الفضائل. وليس يجب أن تكون النقلة فيها كلها من سعادة الى سعادة. فالشجعان لايقنعون بمزاولة السعادة والبراءة من الخوف والغم ومزاولة الافعال التي لاصعوبة فيها، كما لايقنع الكدود بدوام الشقاوة، ولاتكون فيه محاكاة شقاوة الاشرار. وأنما تحدث الرقة من أمثال ذلك. وكذلك الحزن والخوف. وأنما يحدث التفجع من محاكاة الشقاوة بمن لايستحق.والخوف يحدث عند تخييل المضر. وأنما يريد محاكاة الشقاوة لهذه الامر ولاظهار زلة من حاد عن الفضائل. فينبغي في الطراغوذيا أن تبدأ بمحاكاة السعادة، ثم ينتقل الى الشقاوة وتحاكى ليرتد عن طريقها وتميل النفس الى ضدها، ولاتذكر الشقاوة التي تتعلق بجور من الجائر على الشقي، أو التي تتعلق ببغيه، بل الذي يتعلق بغلطة وضلالة سبيل الواجب وذهابه عن الذي فضله أكثر ويكون الاستدلال مطابقا لذلك. وذكر أن الاولين القدماء كانوا يستهينون في الخرافات حتى يتوصلوا الى الغرض. وأمنا المحدثون بعدهم فقد مهروا، حتى أنهم يبلغون الغرض في طراغوذيا بقول معتدل، وذكر له مثال. وذكر قوما أحسنوا النقلة المذكورة.
وأما الطراغوذيات الجهادية فقد ذكر أنها قد تدخلها المغضَبات في تقويماتها. وذكر له مثال. وقد كان نوع من طراغوذيات الجهادية القديمة قد يتعدى فيها الى ذكر النقائص. وكان السبب في ضعف نحيزة الشعراء الذين كانوا يقولون أشعار التعبد، فكانوا يقعون في مخالفتهم فلم يكن ذلك طراغوذيا صرفية، بل مخلوطة بقوموذيا، وكان شعر هؤلاء شعر المعادين، مثل رجلين سماهما، فأنهما لما صار في آخر أمرهما من النساك المتقين، وأنشدا في المراثي أشياء لاتتناسب فكانا لايخيلان أيضا بالمفزعات والمخزيات، ويوردان في تقويم الامور ما يورده الشعراء المفلقون.
ويجب أن لاتكون الخرافة موردة مورد الشك، حتى تكون كأنها تعسر على التخييل، فأن هذا أولى بأن يخيل جيدا كما كان يفعله فلان، وأن كان فعله غير مخلوط بصناعة تصديقية وشيء يحتاج الى مقدمات. وقد كان بعضهم يقدمون مقدمات شعرية للتعجب بالتشييد والمحاكاة فقط، دون القول، الموجه نحو الانفعال. فيجب في الشعر أن يحاكى الافعال المنسوبة الى الافاضل والى الممدوحين من الاصدقاء بما يليق بهم وبمقابلتها الاعداء: وأحدهما مدح، والآخر ذم. وأما القسم الثالث فتشبيه صرف. وأما عدو العدو، وصديق الصديق، وصديق العدو، وعدو الصديق، فليس يكون ممدوحا أو مذموما لذلك بل لايكون مع ذلك صديقا أو عدوا، أو يكون المدح بذكر أفعال تصدر عن علم: وأما علم بلا فعل، وفعل بلا علم فلا يحسن به مدح أو ذم. وأذا مدح بذلك أو ذم أستقذر القول ونسب السفسافية. وكذلك الاقتصار على ضروب المحاكاة في هذه الابواب قول هذر. ولذلك يقل في أشعارهم. وقد حكي كذلك من الاستدلال أمثله لهم. فهذا مايقال في التقويم.
وأما الاخلاق فأن يحاكى من الممدوح خيرَيته. والخير موجود في كل صنف ونوع على تفاوته. ويذكر أن خيريته نافعة موافقة، وأنها على أشبه ماينبغي أن يكون به، وأنها معتدلة متناسبة الاحوال. وكذلك يجب أن يقول القول الدال عليه. وأورد لذلك أمثلة. والاخلاق المحمودة: أما حقيقية فلسفية، وأما التي يضطر الى مدحها الجمهور بين يدي الجمهور وأن لم تكن حقيقية، وأما التي تشبه أحد هاتين وليس بهز وجميعها تدخل في المديح الشعري.
(2/277)
ويجب أن تكون خاتمة الشعر تدل على مقتضاه، فتدل على مافرغ منه كما ي الخطابة، لاكمثال أورده، وأن يخالطه من الحيل الخارجة بقدر ماينبغي أن يخاطب به المخاطبون ويتحملونه، وأن يكون بقدر لايكون الانسان معه غاليا، وبقدر مطابق للقول لو صرح به. وذكر أمثلة. ويجب أن يكون كالمصور، فأنه يصور كل شيء بحسب، وحتى الكسلان والغضبان. وكذلك يجب أن تقع المحاكاة للاخلاق، كما يقول أوميروس في بيان خيرية أخيلوس. وينبغي أن يكون ذلك مع حفظ للطبيعة الشعرية، وللمحسوس المعروف في حال الشعر.فقد يذهب المحاكي أيضا عن طريق الواجب، وعن النمط المستملح المستحسن. وأنواع الاستدلال فيها الذي هو بصناعة أن يخيل، لست أقول بأن يصدق، وأما أمور ممكنة أن توجد لكنها لم توجد، فيكذب من حيث لم يوجد، ويخيل من حيث يقع كذبه موقع القبول، وأما مقتناه من الاجسام حاصلة لها بالحقيقة، فيشبه به حاصل في الظاهر من المعاني كالطوق في العنق، ويشبه به المنة، والصمصام في اليد يشبه به البيان. وما كان بعيدا عن الوجود أصلا فينبغي ان لايستعمل. وكذلك محاكاة الخسائس. وذكر أمثلة. فهذا الضرب يستعمله الصناع من الشعراء الذين يحسنون التصديق. وبعض الشعراء يميل الى أقاويل تصديقية، وبعضهم يميل الى أشتمالية أذا كان مرائيا بالعفة، بارزا في معرض اللوم والعذل.
وأما الوجه الثاني فالاستدلالات ساذجة، لاصنعة شعرية فيها، وهي شبيهة بالخطابية أو القصص.ويخلو ذلك عن الخرافة. والثالث التذكير، وهو أن يورد شيئا (190ب) يتخيل معه شيء آخر، كمن يرى خط صديق له مات فيذكره فيتأسف.
الرابع أخطار التشبيه بالبال، بايراد التشبيه من النوع والصنف لاغير، مثل من يراه الانسان شبيها بصديقه الغائب فتحسر لذلك.
وأورد أمثلة.
والخامس من المبالغات الكاذبة كقولهم: قد نزع فلان قوسا لايقدر البشر على نزعه.
والاستدلال الفاضل هو الذي يحاكي الفعل. وذكر أمثلة وساق الكلام الى الواجب وخدا، الى أن يبلغ التخييل مبلغا يكون كأنه الشيء يحس نفسه، وأن يطابق بذلك المضادات، فعل المفلقين. وذكر أمثلة. وذكر أن تفصيل الانواع مما يطول. والسبب فيه أن مأخذ التشبيهات ليست حقيقية ولا مضنونة فقدم على ما قدمناه لذلك قولا.
وقد يقع في الطراغودية حل وربط، والربط قد يقع ومن خارج، وقد يقع بقول وآلة. والربط هو أشارة نبتدي بها تدل على الغاية والى النقلة المذكورة. والحل هو تحليل الجملة المسبب بها من ابتداء النقلة الى آخرها. فمن الطراغوذيا أستدلالية وأشتمالية ومشتبكة مركبة من استدلال وأشتمال وقول أنفعالي قد أضيف اليهما، وقول أفراطي ليس يستند الى مايجري مجرى الاحتجاج. ومن الناس من يجيد عند الحل بالاشتباك، ولايجيد مع الايجاز وضبط اللسان عن الاسهاب.
ثم ذكر عادات في الاوزان، وفي التطويل المناسب لطول المعنى وغير المناسب، وما يكون غنائه مناسبا لوزنه وتخييله غير مناسب، وما يخلط بالشعر من أفعال دخيلة ذكرناها، وأن الفعل الدخيل والقول الغير الموزون، أو الموزون بوزن آخر واحد.
فأما القول الرائي فينبغي أن تستقي أصوله من المذكور في " الخطابة " . وأن هذا القول الرائي مطابق للانفعال المرتاد للتخييل الذي يقوم به ذلك الشعر. وأنت تجد أنواع ذلك وما يطابق أنفعالا أنفعالا فيما قيل في الخطابة. وكذلك مايطابق التهويلات والتعظيمات، وما كان أنواعا من القول الرائي صادقا وكان بين الصدق وموافقا للغرض أخذ بحاله. وما كان غير بين بين بطريق شعري لاخطابي، يكون بحيث يقال ويلوح صدقه، بل بأمور خارجة أو أقوال تحاكي أمرا، ذلك الامر يوجب المعنى أيجابا خارجيا، ويشك القول أيضا بفعل يخيل ذلك، وأن لم يكن شيء غيره، وأنما يحتاج اليه بأزاء الاخذ بالوجوه، مثل شكل الامر، وشكل التضرع، وشكل الاخبار، وشكل التهدد، وشكل الاستفهام، وشكل الاعلام.وكأن الشاعر لايحتاج الى شيء خارج عن القول وشكله.وذكر قصة.
الفصل السابع
في قسمة الألفاظ وموافقتها لأنواع الشعر
وفصل الكلام في طراغوذيا، وتشبه أشهار أخرى به
(2/278)
وأما اللفظ والمقالة فأن أجزاءه سبعة:المقطع الممدود والمقصور، كما علمت.ويؤلف من الحروف الصامتة، وهي التي لاتقبل المد البتة، مثل الطاء والباء،والتي لها نصف صوت، وهي التي تقبل الرد مثل السين والراء، والمصوتات الممدودة التي يسميها مدات، والمقصورة، وهي الحركات، وحروف العلة؛ والرباط الذي يسمى واصلة، وهي نقطة لاتدل بانفرادها على معنى، وأنما يفهم فيها أرتباط قول بقول، تارة يكون بأن يذكر الواصلة أولا بقول قيل فينتظر بعده قول آخر، مثل أما المفتوحة، وتارة على أنه يأتي ثانيا ولايبتديء به، مثل الواو والفاء وما هو الالف في لغة اليونانيين، والفاصلة وهي أداة أي لفظة لاتدل بأنفرادها، لكنها تدل على أن القولين متميزان وأحدهما مقدم، والآخر تال، وتدل على الحدود والمفارقات، مثل قولنا " اما " مكسورة الالف، والاسم والكلمة وتصريفها والقول.
وكل لفظ دال فأما حقيقي مستول وأما لغة، وأما زينة، وأما موضوع، وأما منفصل، وأما متغير.والحقيقي هو اللفظ المستعمل في الجمهور المطابق بالتواطؤ للمعنى.
وأما اللغة فهو اللفظ الذي تستعمله قبيلة وأمة أخرى، وليس من لسان المتكلم، وأنما أخذه من هناك، ككثير من الفارسية المعربة بعد أن لايكون مشهورا متداولا قد صار كلغة القوم.
وأما النقل فأنما يكون أول الوضع والتواطؤ على المعنى، وقد نقل عنه الى معنى آخر، من غير أن صار كأنه أسمه، صيرورة لايمز معها بين الاول والثاني. فتارة ينقل من الجنس الى النوع، وتارة من النوع الى الجنس، وتارة من نوع الى نوع وتارة الى منسوب الى شيء من مشابهة من نسبة الى رابع، مثل قولهم للشيخوخة أنه: مساء العمر أو خريف الحياة.
وأما الاسم الموضوع المعمول فهو الذي يخترعه الشاعر ويكون هو أول من أستعمله، وكما أن المعلم الاول أخترع أيضا أشياء، ووضع المعنى الذي يقوم في النفس مقام الجنس أسما هو انطلاخيا.
وأما الاسم المنفصل والمختلط فهو الذي أحتيج الى أن حرف عن أصله بمد قصر وقصر مد، أو ترخيم، أو قلب. وقيل أنه الذي يعمه التفوه به لطوله أو لتنافر حروفه وأستعصائها على اللسان، أو بحال أجتماعها، والاول هو الصحيح.
وأما المتغير، فهو المستعار والمشبه على نحو ماقيل في " الخطابة " . والزينة هي اللفظة: التى لاتدل بتركيب حروفها وجده، بل بما يقترن به من هيئة نغمة ونبرة. وليست للعرب. فكان كل أسم في اليونانية أما أن يكون مذكرا، وأما أن يكون مؤنثا، أو وسطا، وكان حروف التذكير نو. و " رو " ،وحروف التأنيث اكسى وبسى.
وأوضح القول وأفضله مايكون بالتصريح، والتصريح مايكون بالالفاظ الحقيقية المستولية، وسائر ذلك يدخل لاللتفهيم، بل للتعجيب، مثل المستعارة، فيجعل القول لطيفا كريما. واللغة تستعمل للاعراب والتحسين والرمز والنقل أيضا، كالاستعارة وهو ممكن، وكذلك الاسم المضعف. وكلما أجتمعت هذه كانت الكلمة آبد وأغرب، وبها تفخيم الكلام، وخصوصا الالفاظ المنقولة.فلذلك يتضاحكون بالشعراء أذا أتو بلفظ منفصل، أو أتوا بنقل وأستعارة يريدون الايضاح، ولايستعمل شيء منها للايضاح. وأورد لذلك أمثالا، وذكر فيها ماتكون الصنعة فيه بالتركيب وبالقلب، مثل: ليس الانسان بسبب السنة، بل السنة بسبب الانسان: والعطف والمطابقة وسائر ماقيل في الخطابة وأشرنا اليه في فاتحة هذا القول.وقال: أن الالفاظ المضاعفة أخص بنوع ديثرمبي وقد علمته، وهو الذي يبني فيع على الاخبار من غير تعيين. واللغات اليق بديقرامي، وهو وزن كان في شرائعهم يهول به حال المعاد على الاشرار. وأما المنقولات فهي أولى بوزن ايمبق وهو وزن مخصوص بالامثال والحكم المشهورة. وكذلك المنقولات الشديدة الملائمة لابغرافي فهذا ماقيل في طراغوذيا.
(2/279)
وأما الاشعار القصصية التي كانت لهم، والاوزان التي كانت تلائم القصص فسبيلها سبيل طراغوذيا في تقسيم أجزاءه الى المبدأ والوسط والخاتمة.ولا تقع أستدلالات فيها على نفس الافعال، بل على محاكاة الازمنة، لان الغرض ليس الافعال، بل تخييل الازمنة وماذا يعرض فيها، وما يكون حال السالف منهابالقياس الى الغابر، وكيف تنتقل فيها الدول وتدرس أمور، وتحيا أمور وذكر في ذلك أمثلة وبين ( 191 أ) أن أوميرس أحسنهم تأتيا في هذا المعنى. وكذلك الاشعار الحربية، فأنه كان أهدى الى قرضها سبيلا وأحسن لها الى الاجزاء الثلاثة تقسيما، وأن كان ذلك في الامور الحربية صعبا في كيفيتها. وذكر أمثلة.
فهذه الابواب متعارفة بينهم. قال: ونوع " أفي " أيضا مناسب لطراغوذيا، وذلك أنها أما بسيطة، وأما مشتبكة. وربما كان بعض أجزاءها أنفعاليا كما قلنا في طراغوذيا. وأحكامها في التلحين والغناء أحكام طراغوذيا. وذكر أمثالا وقصائد لقوم، بعضها بسيطة، وبعضها مشتبكة، وأنها كانت مختلفة الاوزان في الطول والقصر، وكان بعضها شديد الطول، وهو أفي، وكان فيها خلقيات واعتقاديات كما في طراغوذيا، لكن طراغوذيا لاتتفنن في المحاكيات الا في الجزء الذي في المسكن، ويذكر فيه الثناء على الناحية، والذي بأزاء المنافقين الآخذين بالوجوب. فأما " أفي " فعند أتجاهه الى الخاتمة قد يقع فيه حديث كثير وتفنن في المحاكيات مختلفة. ولذلك يزداد بهاؤه. وربما أدخلوا فيها دخيلات التي علكتها وأن لم تكن مناسبة، وذلك لأن المناسب يقتضي بسرعة التمام. وأنما يطول الكلام بالدخيل.
قال: وأما وزن أرايقوا فوقع من التجربة، فأن أنسانا قاله طبيعيا في الجنس من الامور المخصوصة به، فوافق ذلك قبول الطباع.وهو وزن رزين واسع العرصة، يحتمل معاني كثيرة، وتسعه محاكيات كثيرة، فلذلك يحتمل ذكر الفضائل الكثيرة مع مافيه.
وأما أيانبو فلها أربعة أوزان، وتحرك الى هيئة وقضية مع التحريك الانفعالي.ولايجب أن يخفى هذا كما خفي عن فلان. وليست عرصته بواسعة سعة أيرويقي بالجملة، فأن الملاءمة الطبيعية هي التي حركت الى الاختيار.
قال: وأن أوميرس وحده هو الذي يستحق المدح المطلق، فقد كان يعلم مايعمل. وينبغي للشاعر أن يقل من الكلام الذي لامحاكاة فيه.وكان غير أوميرس سجتهد ويطيل.وأنما يأتي بالمحاكاة يسيرا. وأما أوميرس فكان كما ينسب يسيرا يتخلص الى محاكاة مرأة أو رجل أو المثل أو أعادة أخرى، فأن غير المعتاد معيف.
ويجب أن تحشى الطراغوذيا بالامور العجيبة. وأما " أفي آفي " فيدخل فيها من المعاني العجيبة مالا يتعلق بكيفية الافعال، ثم يتخلص منها الى المضاحك بحسب المساكن. وضرب أمثالا. وقد بين فضل أوميرس الشاعر بتقصير غيره، ودل على ذلك باحوال أشعار لقوم بعضهم حكوا غير الحق، وبعضهم أبتدوا بغير الواجب.
قال: وما كان من أجزاء الشعر بطالا ليس فيه صنعة ومحاكاة، بل هو شيء ساذج، فحقه أن يعني فيه بفصاحة اللفظ وقوته ليتدارك به تقصير المعنى، ويتجنب فيه البذلة، اللهم الا أن يكون شديد الاشهار، كمثل مضروب.
الفصل الثامن
في وجوه تقصير الشاعر
وفي تفضيل طراغوذيا على ما شبيهه
أن الشاعر يجري مجرى المصور: فكل واحد منهما محاك. والمصور ينبغي أن يحاكي الشيء الواحد بأحد أمور ثلاثة: اما بأمور موجودة في الحقيقة، واما بامور يقال انها موجودة وكانت، وأما بأمور يظن أنها ستوجد وتظهر. ولذلك ينبغي أن تكون المحاكاة من الشاعر بمقاة تشتمل على اللغات والمنقولات من غير التفات الى مطابقة من الشعر للاقاويل السياسية التعقلية، فان ذلك من شأن صناعة أخرى.
والشاعر يغلطَ من وجهين: فتارة بالذات وبالحقيقة اذا حاكى ماليس له وجود ولاأمكانه وتارة بالعَرض اذا كان الذي يحاكي به موجودا، لكنه قد حرف عن هيئة وجوده - كالمصور اذا صور فرسا فجعل الرجلين - وحقهما ان يكونا مؤخرين - اما يمنيين واما مقدمين. وقد علمت أن كا غلط: اما في الصناعة ومناسب لها، واما خارجا عنها وغير مناسبلها، وكذلك في الشعر.
(2/280)
وكل صناعة يخصها نوع من الغلط، ويقابله نوع من الحل يلزم صاحب تلك الصناعة. وأما الغلط الغير مناسب فليس حله على صاحب الصناعة. فمن غلط الشاعر محاكاته بما ليس يمكن، ومحاكاته على التحريف، وكذبه في المحاكاة، كمن يحاكى أيلا أنثى ويجعل لها قرنا عظيما. أو بأنه يقصر في محاكاة الفاضل والرذل في فاعله أو فعله أو في زمانه، باضافته أو في غايته.
ومن جهة اللفظو أن يكون أورد لفظا متفقا لايفهم منه ماعنى به من بين أمرين متقاربين يحتمل العبارةكل واحد منهما. ومن ذلك أن لايحسن محاكاة الناطق بأشياء لانطق لها. فيبكت ذلك الشاعر بأن: فعل ضد الواجب. وكذلك أذا حاكى بما ضده أحسن أن يحاكي به. وكذلك اذا ترك المحاكاة وحاول التصديق الصناعي على أن ذلك جائز اذا وقع موقعا حسنا فبلغت به الغاية، فأن قصر قليلا سمج.
ولاتصح المحاكاة بما لايمكن وان كان غير ظاهر الاحالة ولامشهورا وأحسن المواضع لذلك الخلقيات والرأييات والاغاليط والتوبيخات التي بازائها هي هذه الاثنا عشر، وتدخل في خمسة غير الامكان أو المحاكاة بالضار أو بما يجب ضده، أو التحريف، أو الصناعة التصديقية، أو كونه غير نطقي. وقد شحن هذا في الفصل من التعليم الاول بامثلة.
ثم يقايس بين طراغوذيا و " أفي " وخاصة " فورطيقي " منه. وهو ضرب يخلط القول فيه بالحركات الشمالية والاشكال الاستدراجية في أخذ الوجوه وبأغاني. وكان القدماء يذمون ذلك ويشبهون الشاعر المفتقر الى ذلك والقائل به بأبي زَرَة، بل يجعلونه أسوأ حالا منه. وأما " أفي " فهو بنفسه مخيل، ولايحتاج الى شيء من ذلك، فيكون " فورطيقي " على هذا القياس أحسن.
وبالجملة فأن الثلث منه أخذ بالوجوه وليس بشعر، ومافيه أيضا غناء، وعلى نحو عادة رجل فيما ينشد زعق وزمر. على أنه ليس كل حركة وشكل أستدراجي مذموما، بل الذي يتحاشى منه ويتساقط به.
والطراغوذيا قد يمكن أن يطول البيت منه حتى يكون مكان الحرانفاقي كلام، ويكون لقائل أن يقول ان طراغوديا حامع لكل شيء. وأما " أفي " فوزن فقط. وايضا فان الشيء اذا دخل بعض أجزاءه والقلائل منها غناء وأخذ بالوجوه، وكان لها أشكال، كان ألذ، وخصوصا ولها أن تدل بالقوة والعمل جميعا. ولان هذا أنما يعرض عند أنقضائه ويكون مدة يسيرة. ولو كان أختلاط ذلك بطراغوديا في مدة طويلة لسمج. ومثل ذلك.
وأيضا من فضائل طراغوذيا أنه مقصور على محاكاة نمط واحد، وأما " أفي " فأنه مختلف وكأنه طراغوذيات كثيرة مجموعة في خرافة واحدة؛ ويكون ذلك منتشرا، وأن ظهر فيه المعنى فيه بسرعة، كأنه منتشرخفي غير مستقيم، لان الوزن الواحد انما يلائم من تلك الجملة غرضا واحدا. فاذا تعداه وان كانت المحاكاة والصنعة لذيذة، فلا تكون مناسبة الا لغرض واحد.
هذا هو تلخيص القدر الذي وجد في هذه البلاد من كتاب " الشعر " للمعلم الاول؛ وقد بقى منه شطر صالح. ولايبعد أن نجتهد نحن فنبتدع في علم الشعر المطلق، وفي علم الشعر بحسب عادة هذا الزمان، كلاما شديد التحصيل والتفصيل. وأما هاهنا فلنقتصر على هذا المبلغ، فأن وكد غرضنا الاستقصاء فيما ينتفع به في العلوم. والله أعلم وأحكم.
تم الفن التاسع من كتاب " الشفاء " ، ونجز بتمامه الجملة الاولى من الكتاب، وهي مشتملة على تلخيص المنطق.
والحمد لله رب العالمين.
352 86
(2/281)