والأصل في هذا أنه إذا كان القياس واحد كانت المقدمات على حدود ثلاثة. فإن كان القياس اثنين، ولكن الثاني في درجة الأول، أي ليس شيء فيه نتيجة عن القياس الأول، بل ينتجان نتيجتين متباينتين، كانت المقدمات أربعاً، وكانت الحدود ستة، لا أربعة. فإن كان القياسان على مقدمتين مشتركتين، هما جزءا قياس آخر، صارت خمسة. فإن صارت المقاييس التي في درجة واحدة ثلاثة تنتج متباينات كانت المقدمات سنا، وكانت الحدود تسعة. فإن كانت النتائج الثلاثة تشترك على الولاء، صارت الحدود سبعة. فلا يزال يزداد عددا الحدود في القياس المتتالية على عدد المقدمات بواحد، وتكون المقدمات أزواجاً والحدود أفراداً، وتكون النتائج لضعف عدد المقدمات تارة أزواجاً وتارة أفراداً، لأن أنصاف الأزواج تكون أزواجاً وتكون أفراداً.
وأما إذا كانت القياسان ليس نسبتهما هذه النسبة، لكن أحد القياسين أقدم مرتبة من القياس الثاني، إذ توجد فيه مقدمة الأخر، فإنه إذا تم القياس الأول كانت الحدود ثلاثة. فإذا جاء القياس الثاني، جاءت مقدمة أخرى، وحد آخر، فيكون للقياسين في البسط سنة حدود: اثنان من الستة، حدود القياس الأول؛ فيبقى القياسين أربعة حدود. فيكون عدد الحدود مثل هدد المقدمات، والنتائج نصف عددها. فإن جاء قياس ثالث حينئذ جاء بمقدمة تضاف إلى النتيجة الثانية، ويكون بزيادة حد، وتكون المقدمات مع ما فيها من النتائج الأولى ستاً، والنتائج ثلاثاً، والحدود خمسة. وإذا كانت المقدمات أربعاً كانت الحدود أربعة. والآن لماذا ازداد حد فصارت المقدمات ستاً، ازدادت نتيجة لما سلف، ومقدمة. فإن زدنا حداً، ازداد قياس، فصارت المقدمات ثماني والنتائج أربعاً، والحدود ستة. فيكون في القياس الأول عدد الحدود أكثر من المقدمات بواحد. وفي القياس الثاني يتساوى المقدمة والحد، كأن المقدمات قد لحقت الحدود. ثم من بعد ذلك يكون تجاوزه في كل تركيب؛ إذ مع كل حد تزداد مقدمتان. فإن الحدود كانت أولاً ثلاثة، وزاد واحد فصارت الحدود أربعة، وزادت مقدمتان فصارت المقدمتان أربعاً. فلما زاد حد صارت المقدمات ستاً، والحدود خمسة. وعلى هذا القياس. فتكون المقدمات دائماً أزواجاً، وتكون الحدود في أول الأمر فرداً، إذ هي ثلاثة، وفي التركيب الثاني زوجاً، وفي الثالث فرداً. وكذلك تنتظم دائماً. فإن كان الترتيب مختلطاً لم يحفظ لذلك الترتيب ولا هذا الترتيب. أما ذلك الترتيب فلا أن المقدمات وإن بقيت أزواجاً، فالحدود لا تبقى أفراداً ولا يكون لها نظام. وأما هذا الترتيب، فإن المقدمات دائماً تبقى أياً أزواجاً. لكن الحدود لا يكون تزايدها مستمراً على تزايد العدد، وعلى تواليه. وليس تكون المقاييس المركبة هذا التركيب، ولا التركيب الآخر الذي سنذكره الذي من قياسات من شكل واحد، إلا أن يكون المطلوب كلياً موجباً. فإن القياسات عليه، وعلى مقدماته، تكون من الشكل الأول، ومن الضرب الأول، أعني من الحمليات. فإن كان المطلوب سالباً كلياً، فإن القياس على أحد مقدمتيه وهو الكلي الموجب، أن يكون من الشكل الأول. وأما على مقدمته الثانية فيكون من الشكل الأول، ومن الشكل الثاني، وبحدود واحدة بأعينها. مثاله، والمطلوب: لا شيء من ج اَ. فيكون تركيب قياسه الأبسط وهو الذي قياس على مقدمته على وجوه، فأما إن كانت المقدمة الصغرى موجبة، والكبرى سالبة، أعني في القياس القريب من المطلوب، وكان هذا القياس القريب من الشكل الأول، فإنك تجد الصغرى لا تبين إلا بالشكل الأول، والكبرى تبين بالشكلين، وتتبين بالشكل الثاني من وجهين: أحدهما والكبرى من الشكل الأول: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فكل ج دَ. كل دَ هَ ولا شيء من هَ اَ فلا شيء من دَ اَ. فلا شيء من ج اَ. والوجه الثاني والكبرى من الشكل الثاني وصغراه موجب: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فكل ج دَ. كل دَ هَ، ولا شيء من اَ هَ، فلا شيء من دَ اَ. فلا شيء من دَ اَ. فلا شيء من اَ ج. اوجه الثالث والكبرى من الشكل الثاني وصغراه سالب: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فكل ج دَ. لا شيء م دَ هَ، وكل اَ هَ، فلا شيء دَ اَ. فلا شيء من ج اَ.(1/338)
وإما أن تكون المقدمة الصغرى موجبة، والكبرى سالبة في القياس القريب، ويكون القياس من الشكل الثاني. فتكون الصغرى لا تتبين بالشكل الأول أيضاً، والكبرى تتبين بالشكلين، الوجه الأول والقياس على الكبرى من الشكل الأول: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فجل ج دَ. كل اَ هَ، ولا شيء من دَ هَ، فلا شيء من اَ دَ. فلا شيء من ج اَ. الوجه الثاني والقياس على الكبرى من الشكل الثاني والصغرى موجب: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فكل ج دَ. كل اَ هَ، ولا شيء من دَ هَ، فلا شيء من اَ دَ. فلا شيء من ج اَ. الوجه الثالث والقياس على الكبرى من الشكل الثاني، وصغراه سالب: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فكل ج دَ. لا شيء من اَ هَ، وكل دَ هَ، فلا شيء من اَ دَ. فلا شيء من ج اَ.
وإما إن كانت المقدمة الصغرى سالبة ولا يتم حينئذ إلا من الشكل الثاني، فيكون من ذلك وجوه ثلاثة، وهي عكس الوجوه الثلاثة المذكورة. وأنت يمكنك أنت تعلم ذلك. فإن كان المطلوب جزئياً موجباً، فيكون قياسه القريب من مقدمتين موجبتين، وإحداهما كلية. فإن كان على صورة الشكل الأول، كان القياس على الكبرى الكلية الموجبة من الشكل الأول فقط. والقياس على الصغرى إما من الشكل الأول والجزئية موجبة صغرى لا محالة؛ وإما من الثالث فيكون من كليتين؛ فيكون القياسان الأبعدان من الشكل الأول لا غير؛ وإما كمن جزئية وكلية، فتكون تارة الجزئية صغرى، وتارة كبرى. وإن كان القياس القريب من الشكل الثالث، وصغراه موجبة جزئية، كان القياس على كبراه من الأول، وعلى صغراه إما من الأول كما علمت، وإما من الثالث على وجهين. وإن كان صغراه كلية، كان القياس على صغراه من الشكل الأول، وكل كبراه إما من الشكل الأول، وإما من ضروب الثالث. فإن كان المطلوب جزئياً سالباً، فإما أن يكون القياس القريب عليه من الشكل الأول، أو الثاني، أو الثالث. فإن كان القياس القريب عليه من الشكل الأول، فيكون القياس على كبراه من الشكل الأول لا غير؛ وعلى صغراه من الشكل الأول على ضرب، ومن الشكل الثالث على ثلاثة ضروب. وإن كان القياس عليه من الشكل الثاني، وصغراه موجبة، وكبراه كلية، فيكون القياس القريب على كبراه من الأول، ومن ضرب الثاني، وعلى صغراه من الأول، ومن ثلاثة ضروب الثالث. وتركب المزاوجات فيه، فتكون ثمانية. وإن كانت صغراه سالبة، تتبين كبراه بضرب من الأول، وصغراه بضرب من الأول، وضربين من الثاني، وثلاثة ضروب من الثالث؛ فيكون أربعة وعشرين تركيباً.(1/339)
وأما التركيب الذي يكون على سبيل فصل النتائج من المقدمات، بأن تذكر المقدمات وتترك النتائج أصلاً، إلا النتيجة الأخيرة، مثل قولهم: كل ج هَ، وكل دَ هَ، وكل هَ زَ، وكل زَحَ، فكل ج حَ. فإن أول القياس الذي فيه بالفعل لا محالة، وهو من مقدمتين، والقياس الثاني مذكور كبراه في المثال الذي أوردناه، فكلما زدنا حداً، زادت مقدمة؛ فيكون لما زدنا حداً رابعاً، زادت مقدمة ثالثة، وإذا زدنا حداً خامساً، جاءت مقدمة رابعة. فتكون عدد المقدمات أقل من عدد الحدود بواحد. فإن كانت المقدمات زوجاً، كانت الحدود فرداً؛ وإن كانت المقدمات فرداً، كانت الحدود زوجاً؛ كذلك على الولاء. لكن مع زيادة كل حد، تزيد نتيجة القوة، أعني من النتائج النافعة في المطلوب. فكلما زيد حد زادت نتيجة، فتكون النتائج الزائدة النافعة في المطلوب، هي بعدد الحدود، ومثلها في الزوجية والفردية. ومعنى قولنا: النتائج النافعة في المطلوب، أنه في قوة مثل هذا التركيب أن تستنتج نتائج غير نافعة في المطلوب. والنتائج النافعة في المطلوب في المثال الذي أوردناه، فمثل: كل ج هَ، ومثل: كل ج دَ. وأما غير النافعة في المطلوب، فمثل قولنا: إذ نقيس في تلك المقدمات، فنقول: كل دَ هَ، وكل ه زَ. فينتج فكل دَ زَ. فهذه النتيجة غير نافعة في المطلوب في نسقنا الذي نسقناه. وإن كان لنا أن نبتدئ بترتيب آخر ونسق آخر نجعل فيه مقدمة ج هَ بينة، ومقدمة هَ زَ غير بينة، ثم نبنيها، ثم نضيف إليها مقدمة زَ حَ على أنها بينة. لكن نكون قد غيرنا النسق الذي فرضناه في هذا لمثال. وهذا النوع لا يستفاد فيه، مع زيادة كل حد نتيجة. وأما النوع الآخر فإنا ننتج أولاً: أن كل ج هَ، ثم نضيف إليه: كل هَ زَ، فينتج: كل ج زَ، ثم نضيف إليه: كل زَ حَ، فينتج: كل ج حَ. وأما كل دَ زَ، وما يجري ومجراه، فإنه لا ينفع بوجه من الوجوه، في هذا الترتيب من القياس.
واعلم أن الحد الزائد، يدخل في جانب الحد الأصغر، وفي جانب الحد الأكبر، وفي الأوسط. وأما الكلي الموجب، فلا تكون القياسات المركبة عليه إلا من الشكل الأول، ويكون التركيب الواقع فيها على النحو الذي قد علمت في المثال الذي أومأنا إليه. وأما الكلي السالب فيكون عليه القياسات مركبة على الوجه المذكور في الموصلات. فنظير الوجه الأول، كل ج بَ، وكل بَ دَ، وكل دَ هَ، ولا شيء من هَ اَ، فلا شيء من ج اَ. ونظير الوجه الثاني: كل ج بَ، وكل بَ دَ، وكل دَ هَ، ولا شيء من اَ هَ، فلا شيء من ج اَ. ونظير الوجه الثالث كلي ج بَ، وكل بَ دَ، ولأن دَ هَ، وكل اَ دَ، فلا شيء من ج اَ.
وكذلك الحال في جميع الوجوه التي تترك فيها النتائج أصلاً، ويرضى بها وهي بالقوة، وإنما تذكر الأخيرة منها بالفعل فقط. فمن هذه الأشياء، يبين لك أن الكلي الموجب مما يصعب وجود القياس عليه جداً، كان قياساً مفرداً، أو قياساً مركباً. إذ لا يكون إلا من ضرب واحد من شكل واحد. ومقابله يسهل وجود القياس عليه جداً، لأنه يتبين بستة ضروب مفردة، أعني بهذا المقابل الجزئي السالب، ويتبين بضروب كثيرة جداً من القياسات المركبة، عددناها لك. وعلى الكلي الموجب في الصعوبة الكلي السالب. يعرف ذلك من مذهب هذا الاعتبار، ويلي الكلي السالب في الصعوبة مقابلة الجزئي الموجب. ويعرف ذلك من ذلك المذهب أيضاً.
وأعلم أن التركيب المفصل إذا انتهى إلى المقدمات سوالب بعد الموجبات، فالأحسن أن توصل، فإن النظام ينقطع هناك. وأما إذا كان الابتداء من السوالب، ثم تلتها موجبات أي عدد كانت، استمر القياس على تركيب المفصول. وقد تتركب القياسات الاستثنائية واقترانية، وتكون الاقترانية إما داخلة لإنتاج الاتصال والانفصال، أو لإنتاج الاستثناء.
الفصل الرابع
(د) فصل
في اكتساب المقدمات
وتحصيل القياسات على مطلوب مطلوب(1/340)
قد اشتغلنا إلى هذا الحد بتبيين أن القياس ما هو، وكم ضروبه، وما الفرق بين بسيطة ومركبة. وليس يكمل انتفاعنا بأن نعلم القياس الصحيح من غير الصحيح، إذا لم نعلم كيف نكتسبه ونحصله. وذلك لأنا إذا احتجنا إلى معرفة شيء بالقياس لم يكفنا أن نعلم أن القياس ما هو. ويكو مثلنا كمثل من يعلم أن الدواء النافع لعلة كذا ما هو. وهذا لا يكفيه في شفاء العلة، ما بم يكن يعلم من ذلك طلبة وتحصيله واتخاذه. فإنه إن اتفق أن صادفه معمولاً محصلاً انتفع به، وإن لم يتفق ذلك بقي متحيراً لا ينفعه علمه بماهيته وكيفيته في حاجته السانحة. فحرى بنا أن نشتغل بتعرف كيفية اكتساب القياس اشتغلاً على وجه كلي. أما اكتساب القياس من حيث هو برهاني أوجد لي غير ذلك، فهو أمر أخص من بحثنا هذا؛ بل كما أن بحثنا إنما هو عن القياس الكلي، لا عن قياس ما معين برهاني أو جدلي؛ كذلك بحثنا عن اكتساب القياس إنما هو عن القياس على الإطلاق، لا عن قياس ما.(1/341)
ولنعبر عن ما أفادنا المعلم الأول في ذلك، وإن كان جميع الصناعة مستفادة منه بقوة أو فعل، فنقول: قد علمنا أن الأمور إما شخصيات، وإما كليات. والشخصيات قد تكون حقيقية موجودة في الشخصيات؛ وإما محمولة على الشخصيات، كهذا الأبيض على زيد، فلا يكون بالحقيقة، وهذا الشيء قد أوضح لك في موضع آخر. وأما الكليات فمنها كليات قريبة من الأشخاص بلا واسطة، ومنها كليات بعيدة عنها ولا عام لها، وإما أمور في الوسط. وكل محمول إما ذاتي وعلى المجري الطبيعي، وإما كائن بالعرض كحمل موضوع على عارضه كالإنسان على الأبيض، أو حمل عارض على عارض آخر يشاركه في الموضوع، الذي هما محمولان عليه الحمل الطبيعي كحمل الأبيض على الموسيقار. وليس كل حمل عرضي إنما يكون من حمل موضوع على عرضيه، بل وقد يكون من حمل موضوع على ذاتية المقوم الأعم، كما يحمل الإنسان على الحيوان، وزيد على الإنسان، وذلك في القضايا المحصورة الجزئية. لكن الأمر الذي هو في نفس واجب، بحسب طبائع الأمور من غير اعتبار عارض من خارج، هو أن يكون الأخص موضوعاً لأعم، وأن يكون الأمر موضوعاً لخواصه العارضة، لا بالعكس. والمحمولات التي تحمل بالطبع على شيء واحد يتبين من حالها أنها متناهية، سواء أخذت محمولات حقيقية أو مشهورة. فإن كثيراً مما لا يحمل بالحقيقة حملاً ذاتياً يكون مشهوراً أنه محمول ذاتي. وربما كان لا عام فوقه بالحقيقة، ويكون في المشهور أن له عاماً فوقه. وبين أعم العوام وأخص الخواص أمور، إنما أكثر الكلام فيها وأكثر البحث عنها. فإذا أردت أن تكتسب القياس، فضع الحدين واطلب حد كل واحد منها وخاصيته، وكل ما يلحق كل واحد منهما، أعني الحدين من الأجناس وأجناسها، والفصول وأجناسها وفصولها والعوارض لها، ولشيء من مقوماتها وفيها أجناس وعوارض وفصول عوارضها أو عوارض عوارضها، وبالجملة لواحق اللواحق، فإنها عوارض أيضاً. وكذلك تطلب ما يلحقه كل واحد من الحدين مما نسبة الحد إليه النسبة المذكورة، وما يلحقه ما يلحقه. فهذه مواد طلب الإيجاب. وأما مواد السلب، فاطلب أيضاً الأمور التي لا يوجد لها ضرورة أو إطلاقاً الحد حد منها. ولا تشتغل بطلب ما لا يلحقه حدُّ حدٍّ، فإن ما لا يلحق هو النفس ما لا يلحق، وأما ما يلحق فليس هو ما يلحق. فإن الموضوعات التي على المجرى الطبيعي، تمايز المحمولات التي على المجرى الطبيعي، وإن دخل بعضها في بعض، إذا كانت على غير المجرى الطبيعي، كما قد علمت. فإذا حصلت ذلك فعند ذلك تتأمل حال كونها ذلك حقيقة أو مشهورة. واعلم أنك كلما كنت أمعنت في الاستكثار من هذه اللواحق والملحوقات وما لا يلحق، فأنت أقرب إلى إصابة الغرض. واللواحق التي تلحق غير الملحوق الكلي، مما لا ينتفع به أكثر الأمر؛ بل عليك باقتناص الكليات. وكذلك في الملحوقات، وفيما لا يلحق. واعلم أن القياس إنما يحصل لك من الكليات. وليس اللاحق الكلي ما يلحق بكليته للموضع، بل ما يلحق كلية الموضوع؛ وقد استبنت هذا فيما سلف. وكما لا يفيد اشتغالك بتأمل ما لا يلحقه الموضوع، أعني مثل هذا الملحوق الكلي، كذلك لا يفيد اشتغالك بتأمل ما يلحق اللاحق، هل هو لاحق للموضوع، فإن لاحق اللاحق لاحق. وكذلك لا يفيد اشتغالك بتأمل ملحوق الملحوق، هل هو ملحوق اللاحق؟ وكذلك لا يفيد اشتغالك بتأمل شيء، هل يلحق الطرفين جميعاً أو هل لا يلحق الطرفين جميعاً. إذ قد علمت أن ذلك لا يفيد، إلا أن لا تجعل نظرك من حيث لحوقه ومن حيث لا لحوقه، بل من حيث كيفية اختلاف لحوقه في الضرورة وغير الضرورة. فذلك مفيد جداً في اشتغالك به، على رأينا خاصة الذي سنذكره، إن تذكرته. ولا يفيد أيضاً أن تنظر، هل في موضوعات المحمول ما لا يلحق الموضوع، فإن ذلك لا ينعقد عنه القياس. ويجب أن تتأمل حال اللحوق الضروري، والممكن والذي هو دائم، أو أكثري. فإن كان مطلوب ينتج مما يجانسه، فإذا كان مطلوبك موجباً، وهو كلي، طلبت في لواحق الموضوع شيئاً هو من ملحوقات المحمول. فقد انعقد قياس. فإن كان جزئياً، فاطلب في ملحوقات كل واحد من الطرفين، فإذا وجدت مشتركاً، انعقد لك قياس من الشكل الثالث ينتج النتيجة؛ ولكن وجدت في ملحوقات أحدهما لاحقاً للآخر كله أو بعضه أفادك ذلك. وإن كان المطلوب سالباً؛ فاطلب لواحق أحد الحدين، هل فيها شيء في الجملة ما لا يلحق الآخر؟ فإن صادفت(1/342)
انعقد لك قياس من الشكل الثاني. وإن كان جزئياً طلبت هل في ملحوق أحدهما ما لا يلحقه الآخر، فإن وجدت انعقد لك قياس. وإذا تدربت في هذا، علمت غناء الحد الأوسط،وأنه هو الذي يخلق القياس. وإذا امتحنت حال ما يلحق وما لا يلحق، فابتدئ من اعم لواحق أحدهما، هل هو مما لا يلحق؟ فإنك إن وجدت ذلك غير لاحق كفيت المؤونة، وعلمت أن ما دونه غير لاحق؛ فإن لم تجده كذلك، بل وجدته لاحقاً فانزل عنه درجة، يبتدئ مما هو أعم، وتتدرج عنه على الولاء. فإن في ذلك سرعة الإصابة، ومصادفة القياس الأول. فإن السلب الناطق عن البياض ليس سلباً أولياً، بل سلب الجسم أو الجوهر. فإذا كنت في طلب هذا الامتحان، فلا يكون قصارى طلبك أنه هل في لواحق أحد الحدين شيء مضاد للواحق الحد الآخر أو مغاير، حتى تقول مثلاً: إن ج بارد واَ حار، أو نقول: إن ج سماء واَ أرض؛ وذلك لأن الحد الأوسط يجب أن يكون شيئاً واحداً، وأما ههنا فإن الأوسط اثنان. وذلك يضطرك إلى أن تجعل ما يمكنك ترتيبه قياساً واحداً، وأكثر من قياس واحد. وذلك لأنه ليس إنما يصير حينئذ اَ، ومنسوباً عن ج، بسبب كونه وصوفاً بشيء هو ضد ما يوصف به ذلك، حتى يكون هذا هو الذي لأجله منعقد القياس المنتج للسلب. فإنه لو صار بدل الضد مضاف، أو عدم، أو ملكة، أو غيرية أخرى، لكان القياس ينعقد. لكن السبب الأول فيه كوزن شيء مما هو لاحق لج، غير لاحق ل اَ، أو بالعكس. فالبارد إذا لحق ج، كان قياسه إلى اَ قياسين: أحدهما، أنه غير لاحق له، والآخر أنه ضد لاحقه، وإنما ينعقد منه القياس لأنه غير لاحق فقط. فإنك إن حفظت: كونه غير لاحق، وبدلت: كونه مضاداً للاحق، استمر القياس المطلوب. فإن أمكن أن تحفظ: كزنه ضدا، وتتوهم: أنه لاحق مثلاً، حتى تجعل الأضداد قد تلتحق بالشيء الواحد، لما كان ينعقد عنه القياس. وهذا يحوجك إلى أن تتكلف طلبين. فإنك إذا وجدت البارد يلحق ج، ونظرت هل يلحق البارد اَ أو لا يلحقه، فوجدته في جملة ما لا يلحق اَ، كفيت المؤمنة. فأما إذا استأنفت الطلب بعد حصول الأرب، فأخذت تبحث هل في لواحق آضد له، فإنما تبحث بحثاً خارجاً عن الغرض، اللهم إن تطلب قياساً آخر.د لك قياس من الشكل الثاني. وإن كان جزئياً طلبت هل في ملحوق أحدهما ما لا يلحقه الآخر، فإن وجدت انعقد لك قياس. وإذا تدربت في هذا، علمت غناء الحد الأوسط،وأنه هو الذي يخلق القياس. وإذا امتحنت حال ما يلحق وما لا يلحق، فابتدئ من اعم لواحق أحدهما، هل هو مما لا يلحق؟ فإنك إن وجدت ذلك غير لاحق كفيت المؤونة، وعلمت أن ما دونه غير لاحق؛ فإن لم تجده كذلك، بل وجدته لاحقاً فانزل عنه درجة، يبتدئ مما هو أعم، وتتدرج عنه على الولاء. فإن في ذلك سرعة الإصابة، ومصادفة القياس الأول. فإن السلب الناطق عن البياض ليس سلباً أولياً، بل سلب الجسم أو الجوهر. فإذا كنت في طلب هذا الامتحان، فلا يكون قصارى طلبك أنه هل في لواحق أحد الحدين شيء مضاد للواحق الحد الآخر أو مغاير، حتى تقول مثلاً: إن ج بارد واَ حار، أو نقول: إن ج سماء واَ أرض؛ وذلك لأن الحد الأوسط يجب أن يكون شيئاً واحداً، وأما ههنا فإن الأوسط اثنان. وذلك يضطرك إلى أن تجعل ما يمكنك ترتيبه قياساً واحداً، وأكثر من قياس واحد. وذلك لأنه ليس إنما يصير حينئذ اَ، ومنسوباً عن ج، بسبب كونه وصوفاً بشيء هو ضد ما يوصف به ذلك، حتى يكون هذا هو الذي لأجله منعقد القياس المنتج للسلب. فإنه لو صار بدل الضد مضاف، أو عدم، أو ملكة، أو غيرية أخرى، لكان القياس ينعقد. لكن السبب الأول فيه كوزن شيء مما هو لاحق لج، غير لاحق ل اَ، أو بالعكس. فالبارد إذا لحق ج، كان قياسه إلى اَ قياسين: أحدهما، أنه غير لاحق له، والآخر أنه ضد لاحقه، وإنما ينعقد منه القياس لأنه غير لاحق فقط. فإنك إن حفظت: كونه غير لاحق، وبدلت: كونه مضاداً للاحق، استمر القياس المطلوب. فإن أمكن أن تحفظ: كزنه ضدا، وتتوهم: أنه لاحق مثلاً، حتى تجعل الأضداد قد تلتحق بالشيء الواحد، لما كان ينعقد عنه القياس. وهذا يحوجك إلى أن تتكلف طلبين. فإنك إذا وجدت البارد يلحق ج، ونظرت هل يلحق البارد اَ أو لا يلحقه، فوجدته في جملة ما لا يلحق اَ، كفيت المؤمنة. فأما إذا استأنفت الطلب بعد حصول الأرب، فأخذت تبحث هل في لواحق آضد له، فإنما تبحث بحثاً خارجاً عن الغرض، اللهم إن(1/343)
تطلب قياساً آخر.طلب قياساً آخر.
وبالحقيقية إن وجدت هذين، فلم تجد قياساً واحداً، بل قياسين. فإنك في استعمالها كأنك تقول: ج بارد، واَ ليس ببارد، وج ليس بحار واَ حار. والخلف أيضاً قد يكتسب بهذا النحو. وذلك لأنك إذا تتبعت لواحق وملحوقات حدود النقيض وما لا يلحقه، فوجدت فيها ما ينعقد به مع أحد طرفيه مقدمة صادقة، ينتج مع النقيض محالاً، كنت قست قياس الخلف وكيف لا ينتفع بهذا الاعتبار، وكل خلف كما سيتضح لك، فإنه يرجع إلى المستقيم بوجه من الوجوه؟ وكذلك يمكنك أيضاً أن تكتسب من هذا المأخذ ما يفتقر إليه الشرطي الاستثنائي، على ما علمت. ويمكنك بهذا الوجه أن تكتسب الاستقراء أيضاً، وذلك إذا ما تأملت موضوعات الموضوع. وإذا وجدت في اللواحق ما يدل على المساواة، أمكنك أن تكتسب قياساً كلياً، من حيث كنت تكتسب الجزئي بقوة الانعكاس. وهذه المساواة في الإيجاب، هو أن يكون الإيجاب على الموضوع فقط، وفي السلب أن يكون السلب عنه فقط، ويجب أن تتأمل في جميع ذلك، هل هو على سبيل الاضطرار أو على سبيل الإمكان؟ وأما الطلق، فإن عينته بشرط أن لا يكون دائماً، وجدته من مادة الممكن؛ وإن أخذته عاماً فأيهما وجدته صح لك مطلقاً، فلا يحتاج أن تبحث عنه بحثاً خاصاً. فإن قال قائل: كيف يمكننا أن نجعل ما يمكن مطلقاً كلياً. فإنا نجد الكتابة ممكنة للإنسان، ثم لا نقول: كل إنسان كاتب. فنقول: إنا قد أوصيناك أن تأخذ اللواحق الكلية، والملحوقات الكلية، فذلك هو المقدم، فإذا شئت أن تعتبر الإمكان والضرورة، فبالأحرى أن تعتبرها بعد ذلك. واللاحق للكل إذا كان غير دائم ولا ضروري، فهو ممكن ومطلق على ما علمت. وبان لك هناك، أن هذه المطلقات موجودة، وإن كانت القضية المؤلفة من الإنسان والكاتب ليس من جملتها. فإذن كان اشتغالك باعتبار الضرورة واللا ضرورة، ووجدت الإمكان من اللحوق الكلي، وكان مرادك بالمطلق ما ليس بضروري، فقد وجدت. وإن كان مرادك المطلق الأعم، وهو الأصوب أن يكون مرادك، فأيهما وجدته المطلق. فبحثك حينئذ عن الشيء، هل هو المطلق، محال. وكما أن السلب والحمل قد يكون بالحقيقة، وقد يكون بالشهرة؛ فكذلك الضرورة واللا ضرورة قد تكون بالحقيقة، وقد تكون بالشهرة. والمشهور أيضاً، منه ما هو مشهور في بادئ الرأي. فأنت من حيث تكتسب القياس المطلق يجب أن تميز جميع ذلك، ويجب أن تعلم أن لكل صناعة مقدمات خاصة. فتكون اللواحق والملحوقات وما لا يلحق، إنما يطلب بحسب تأمل تلك الصناعة. فإن إدراكها بالحيلة المشتركة إدراك يسير. وكثير منها يحصل بالتجربة، وكثير منها بالاستقراء وستعلم الفرق بينهما.
فهذه إشارة إلى اكتساب القياس. وأما نقيضها فحيث يتكلم في صناعة الجدل.
ولقائل أن يقول: إن كانت هذه الجملة بازاء ذلك التفضيل، فإذن هذا بحث عن اكتساب القياس بنحو غير كلي، بل بنحو مطابق للبحث الجدلي.
فنقول: إن البحث الجدلي في ذلك، هو البحث عن اكتساب القياس من المشهورات. والمشهورات أعم من الأوليات. فكل أولي مشهور، وليس كل مشهور أولي، فالمباحث البرهانية تدخل في المباحث الجدلية، من حيث هي أيضاً نافعة في المشهور، لكن إنما ينظر إليها في كتاب الجدل من حيث هي مشهورة؛ وتطلب في البرهان من حيث هي حقة؛ وننظر من هذا الكتاب من حيث الوجه الذي يعمها.(1/344)
فهذا البحث، والبحث الذي في الجدل، يشتركان في المباحث؛ ويختلفان في أنهذا البحث أعم من ذلك بالاعتبار، وأن لم يكن في الموضوع. وذلك لأن هذا القياس يبحث عن تلك من حيث هي مشهورة؛ بل من حيث هي مقدمات. وفي كتاب البرهان يبحث عنها من حيث هي أولية وحقة. وفي كتاب الجدل يبحث عنها من حيث هي مشهورة، وإن كان قد يدخل البحث الأول والنافع في البرهان في لك البحث، فليس يدخل بالذات، بل بالعرض. فإن المشهور ليس يحمل على الأولى من حيث هو. والمقدمة تحمل عليه من حيث هو، ونحو البحث الذي في البرهان، فقد يدخل في هذا بالذات إذا كانت المقدمة أمراً يلحق كل واحد من الأمرين، من حيث هو هو. والمقدمة أعم من المشهور، من حيث هو مشهور، ومن الحق الغير المشهور من حيث هو حق غير مشهور. والبحث عن المقدمة من حيث هو بحث عن المقدمة، يصلح أن يفصل فيجعل بحثاً عن المقدمة من حيث هي مقدمة برهانية. والبحث عن المقدمة من حيث هي مشهورة، لا يكون جنساً للبحث عن المقدمة من حيث هي مقدمة برهانية. فإن البحث البرهاني ليس جزءاً من البحث الجدلي. والبحث عن المقدمة البرهانية كالجزء من البحث عن المقدمة المطلقة. كما أن القياس البرهاني والجدلي، هما جزآن من القياس المطلق. وليس ولا واحد منهما جزءا من الآخر.
ولكن لقائل أن يقول: فما بالكم أعرضتم عن النحو الخطابي والسوفسطائي والشعري، ولم تحيلوا على الفن الخطابي والسوفسطائي والشعري، بل أحلتم على الجدلي. فنقول: إن اكتساب القياس منفعته الكبرى في الأمور الكلية والصنائع المعدة نحو ذلك ثلاثاً: الرهان والجدل والمغالطة. والمغالطة المذمومة، وتتعلم ليؤمن الوقوع في حيالة مقاييسها المصنوعة. فكيف يكون تعلمها لأجل اكتسابها؟ على أنك إذا أخذت مكان الحق أو المشهور في اللواحق، والملحوقات، وما لا يلحق؛ المشبه من اللواحق، والملحوقات، وما لا يلحق، تكون قد صادفت القياس المغالطي.
الفصل الخامس
(ه) فصل
في بيان غلظ من ظن أن القسمة قياس
وقد ظن قوم أن القسمة هي سبيل على اكتساب القياس، بل إنها هي القياس. فمنهم من جعلها قياساً على كل شيء. ومنهم من جعلها قياساً وبرهاناً على الحد، وجعل الحد محتاجاً إلى البرهان، وجعل برهانه القسمة. فأما الحق، فإن القسمة إنما يكون منها القياس المسوق إلى إنتاج قضايا منفصلة على ما علمت، وأما على غيرها وعلى الحد فلا. وليست أيضاً قياساً، بل مقدمات قياس. فلنبين أن القسمة ليست قياساً على الحدود المنفصلة التي في أجزائها؛ ثم لنبين أن القسمة ليست قياساً على الحد الأول.
فأما التبيين الأول فنقوله فيه، أولاً: إنهم إنما يرومون أن ينتجوا بالقسمة شيئاً موجباً. والشيء الموجب إنما يثبت لموضوعه بتوسط وسط إما أخص من المحمول الذي هو الأكبر أو مساو له.(1/345)
وأما القسمة فإنما يكون الأكبر فيها دائماً الأخص من الأوسط، كقولك: كل حيوان إما مائت، وإما أزلي. ثم تقول: والإنسان حيوان. فإن أنتج هذا، فإنه ينتج منفصلاً فقط. وأما الإنسان أزلي أو مائت، فلا ينتج منه البتة. اللهم إلا أن نأخذ ذلك أخذ القول: إن الإنسان حيوان أزلي أو مائت. فإن كان هذا يعطي لك بنفسه أو بقياس آخر، فما الذي أحوجك إلى القياس عليه؟ فإنما القياس إنما يكون قياساً إذا كان مفيداً لعلم المجهول، ولهذا يكتسب ويطلب. وأما المفروغ عن معرفته، فاكتساب القياس عليه كالفضل، فكيف إذا كان الذي يكتسب منه لا ينتج المطلوب؟ فإن قال قائل: إن هذا يفيد أن الإنسان مائت، بأن نقول: الإنسان حيوان، وكل حيوان مائت وإما أزلي، فينتج: إن الإنسان إما مائت، وإما أزلي؛ ثم تقول: لكنه ليس بأزلي، فينتج: أنه مائت؛ أو أنه ليس بمائت، فينتح أنه أزلي. فنقول أولاً: إن القسمة حينئذ لا تكون مفيدة، من حيث يفيد القياس الاقتراني، بل من حيث يفيد القياس الاستثنائي، إلا نتيجة منفصلة. وأما ثانياً: فإنه لا يخلو إما أن يكون قولك: الإنسان ليس بأزلي، بينا؛ أو قولك: ليس بمائت، بينا؛ أو لا يكون أيهما اعتبرته بينا. فإن كان قولك: ليس بمائت، بينا؛ وكان كونه أزلياً، بينا؛ لم يحتج إلى القياس. إن لم يكن كونه أزلياً منهما بينا، فلا يخلو إما أن يكون بينا، أن الشيء فإذا لم يكن مائتاً فهو أزلي، أو لا يكون. فإن كان ذلك بينا بلا وسط، فيكفينا أن نقول: إن الإنسان ليس بمائت، وما ليس بمائت فهو أزلي من غير فسمة، وإن لم يكن بينا، بل كان جائزاً عندك في أول الأمر أن يكون بعض ما ليس بمائت، ليس بأزلي؛ أو يزاد فيه حيوان؛ فاستثناؤك: لكنه ليس بمائت، لا ينتج. ذلك ما لم تقل: لكنه ليس بحيوان مائت.
فيجب أن تكون قسمتك مأخوذاً فيها المقدم جزءاً من المقسوم إليه؛ إذ القسمة على وجهين: أحدهما أن لا يؤخذ المقسوم جزءاً من المقسوم إليه، كقولك: كل حيوان إما مائت وإما أزلي؛ والثاني أن يؤخذ كقولك: كل حيوان إما أن يكون حيوان مائت، وإما أن يكون أزلي. فإذن يجب أن تكون قسمتك على هذا الوجه. وإذا كانت قسمتك على هذا الوجه لزمك أيضاً ما قلنا. فإنه إن كان بينا، إن كل إنسان حيوان ليس بمائت، وبينا أن كل حيوان ليس بمائت، فهو حيوان أزلي، وكذلك مطلوبك أن كل إنسان حيوان أزلي، فقد يمكنك أن تنتجه من هذا التأليف من غير قسمة. فإن ليس يمكنك من طريق القسمة أن تنتج الأطراف.
وأما استعمال القسمة لإثبات الحد، فأول ما فيه أن القسمة لا تفيدك: أن ما أخذته هو المحمول الأعم الذي يجب أن يقسم بقسمة مثلا، كالحيوان في هذا الموضع، بل يجب أن يكون ذلك لك موضوعاً. ثم تقول مثلاً: الإنسان حيوان، وكل حيوان إما مائت وإما غير مائت. فإذا وقفت ههنا لا يكون الحد قد حصل لك، بل يجب أن تضع وضعاُ وتأخذ أخذاً، أن كل إنسان حيوان مائت. ثم تعود وتقول: إن كل حيوان مائت إما ناطق، وإما غير ناطق، فتضع، وضعاً مرة أخرى، أن الإنسان ناطق. فيجتمع أن الإنسان حيوان ناطق مائت. فإذا فعلت ذلك، لم يمكنك يكمن ذلك أن تعلم أن هذا حد. فإن القسمة لا تدل على أن هذا مساوٍ، وليس بأعم. فليست القسمة تفيد شيئاً من ذلك إفادة ضرورية. والحد كما تعلمه مؤلف من جنس، ومن فصول. والجنس لا يكتسب القسمة. والفصول هي التي تكتسب القسمة، ليست التي تكتسب بالقسمة. والتمام، وهو المساواة، ليس يمكن أن يبين بالقسمة أنه قد حصل. وأيضاً فإن الذاتية والعرضية لا تتبين بالقسمة.(1/346)
فإذن القسمة يسيرة الجدوى في عمدة القياس والإنتاج، خصوصاً في الحد. ومع ذلك فإنها لا تخلو عن جدوى؛ فإنها تنبه على ترتيب الفصول؛ وتنبه على ما ينقسم الشيء ولما هو هو، وعلى ما ينقسم إليه بالعرض. فإن انقسام الحيوان إلى الناطق وغير الناطق أمر له، لأنه حيوان؛ وأنا إلى السواد والبياض، فليس لأنه حيوان. والقسمة لا تفيد هذا بالذات، بل بالتنبيه. والقسمة تنبيه فصول على فصول تليها. فإن القسمة إذا أوردت ذا الأرجل، وعديم الأرجل، نبهت على أن من ذي الأرجل، ما هو ذو الرجلين، وما هو ذو أربع، وما هو ذو أربعة أرجل كثيرة. وإذا أعطت الفصول والخواص نبهت لأمور تلحق الفصول والخواص، ونبهت أيضاً على ملحوقات ما هو أعم. وجميع ذلك في القياس، وفي الحد. لكن إفادته على سبيل التنبيه، لا على سبيل الإيجاب. أرأيت لو كان مطلوبنا أن القطر مباين للضلع، فقلنا: إما أن يكون القطر مبايناً، أو مشاركاً. هل كان هذا القول يؤدي إلى أن القطر مباين البتة، إلا أن يصادر على المطلوب، أو يأتي بقياس آخر به استثناء عن القسمة.
الفصل السادس
(و) فصل
في تحليل القياسات
وذكر وصايا وتحذيرات تعتمد وينتفع بها في ذلك
ولأنه ربما خوطب الإنسان بقياس يورد عليه مصنوعاً مفروغاً منه، أو وجد ذلك مكتوباً في كتاب؛ ثم لم يكن بسيطاً، بل مركباً. وكان تركيبه غير موصول، بل مفصول. وربما كان مع ذلك محرفاً عن ترتيبه الطبيعي، أو مضمراً فيه شيء، أو مورداً فيه زيادة غير محتاج إليها، وربما كان بسيطاً ومحرفاً أيضاً عن ترتيبه الطبيعي أو ناقصاً. أو زائداً. وقد علمت السبب في ذلك. فإذا لم تكن عندنا قوانين يهتدي بها، في أنا كيف نطلب المطلوب المعطى قياسه، صحة النسبة إلى القياس المعطى بحسن الثاني، لتحليل قياسه إلى عدد مقدماته، وترتيبها الطبيعي، وتجريدها من الشوائب، وتتميمها إن كانت ناقصة، ورفعها إلى شكلها الذي منه أنتج، فاتنا ما يفيد القياس. أما إن كان القياس صحيحاً، فإنتاجه. وأما إن كان فاسداً، فالوقوف على فساده إما في مقدماته، وإما في تأليفه.(1/347)
فيجب أن يكون عندنا فقوانين من باب الوصايا، ومن باب التحذيرات، نعتمدها في تحليل القياس، لا على أنه القياس برهاني أو جدلي أو غير ذلك؛ بل على أنه قياس مطلق. وأنت إذا أعطيت ذلك، وجدت ما يؤديك إليه التحليل، مطابقاً لما سلكت منه على سبيل التركيب، فتجد الحق متفقاً من جميع جهاته وشاهداً لذاته. فإن الحق كما أنه من حيث هو موجود، شاهداً لذاته من حيث هو منصور. كذلك من حيث هو مبتدأ منه، شاهداً لذاته من حيث هو منتهى إليه، ومن حيث هو منتهى إليه شاهداً لذاته من حيث هو مبتدأ منه. فإذا وجدت قياساً فأول ما تطلب منه: المقدمتان، قبل الحدود. فإن حصر الأقل أسهل. وأيضاً فإنك إذا ابتدأت بالحدود، أمكن أن تكون وجوه إمكان تركيب المقدمتين منها أكثر من وجهين، فاحتجت إلى بحث متفرع، وذلك لأنك بمصادفة الحدود قد لا تصادف المقدمتين مؤلفتين، بل تضطر إلى أن تمتحن حال كل حد من الحدود. فتمتحن أربعة أصناف من إمكانات التركيب. فتكون لك خمسة مباحث: بحث عن الحدود؛ ثم أربعة بحوث تتصل بنحو تأليف المقدمتين منها. فإنها صادفت المقدمتين، كفاك نظر واحد وهو تعديد الحدود. فإذا وجدت مقدمتين، سهل لك حال القياس ومصادفته. فأول ذلك أن ننظر، هل المقدمتان تشارك كل واحدة منهما المطلوب بحد، وتباينه بآخر؟ فإن كانت إحداهما تشارك جزءاً من الثانية في كلا الحدين، والأخرى تشارك بجزء منها كلا الحدين من المطلوب، هو غير ذلك الجزء، فالقياس استثنائي. والمقدمة التي تشارك المطلوب بجزء، وتشارك الأخرى بجزء آخر، مشاركة في إحدى كل واحد من المطلوب والأخرى، فهي شرطية. والأخرى هي الاستثناء. فتأمل الذي يشارك جزء منه المطلوب بالحدين، هل هو متصل أو منفصل؟ فإن كان متصلاً فانظر هل يشارك بمقدمة أو تاليه؟ وانظر ذلك الآخر؟ هل هو بمثل، أو نقيض؟ أو كان منفصلاً، فانظر هل يشارك بمثل أو نقيض؟ وانظر في حال الأخرى، وهي استثنائية كذلك، فينحل القياس لك حينئذ إلى الضروب الشرطية. فإن لم يكن كذلك، بل كان القياس ليس فيه ما يشارك المطلوب إلا بحد دون حد ما هو يباين به، فاعلم أن القياس اقتراني. وإن وجدت كل مقدمة تشارك النتيجة، فاطلب الحد الأوسط، فتجد الشكل؛ وانسب الحدود إلى النتيجة، فتجد الأكبر والأصغر وتجد سائر ما ينبغي أن تطلبه. وإن لم تجد الحد الأوسط، فالقياس غير بسيط، بل هناك تركيب، وأقل حدوده أربعة. فليكن المطلوب كلياً موجباً وهو أن كل ج اَ، وليكن الموجدات من المقدمة: كل ج بَ، وكل دَ اَ. فإن كان بينا أن كل بَ دَ انتظم قياسك، وإلا فيحتاج إلى وسط. وليكن المطلوب كلياً سالباً، وليكن الموجود: كل ج بَ، ولا شيء من دَ اَ، فانظر هل كل بَ دَ؟ فإن كان، فقد تركب قياس؛ وإلا فيحتاج إلى وسط. وليكن الموجدات من المقدمات: لا شيء من ج بَ، وكل اَ دَ؛ ولا ينفعك ههنا أن تجد أن كل بَ دَ، فإن السالبة تصير صغرى الأول وتبقى موجبتان. فانظر هل يصحح لك كل دَ بَ. فحينئذ تقول كل دَ بَ، ولا شيء من ج بَ، وينتج: فلا شيء من ج دَ. وتضيف إليها: أن كل اَ دَ، فينتج: لا شيء من ج اَ. وليكن الموجود: لا شيء من ج بَ، وكل دَ اَ، فلا ينتفع به. وليكن المطلوب: بعض ج اَ، ووجدت بعض ج دَ وكل بَ اَ، فإن اتصل كل دَ بَ، فقد وجدت. وإن كان الموجود كل دَ ج، وكل بَ اَ، فإن اتصل كل دَ بَ، فقد وجدت.وإن كان الحاصل: كل ج دَ، وبعض بَ اَ، فإن اتصل كل دَ بَ، أو بعض دَ بَ، لم ينتفع به. وإن اتصل كل ج بَ، أو بعض ج بَ، لم ينتفع به. وكذلك إن اتصل بعض بَ ج، أو بعض بَ دَ، لم ينتفع به. وكذلك إن اتصل كل بَ دَ، لم ينتفع به. وإن اتصل كل بَ ج، لم يحتج إلى ج. فإن كان الموجود الحاصل بعض دَ ج، وكل بَ اَ، واتصل كل دَ بَ فقد حصل القياس. وإن كان الحاصل كل دَ ج، وكل بَ اَ، واتصل كل أو بعض دَ بَ، فقد حصل القياس. وإن كان الحاصل كل دَ ج، وبعض بَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان الحاصل بعض دَ ج، وكل اَ بَ، لم ينتفع به. وكذلك فاعتبر الأقسام الباقية. وليكن المطلوب جزئياً سالباً وهو: أنه ليس كل ج اَ، ووجدت بعض ج بَ، ولا شيء من دَ اَ، فان اتصل بَ، دَ انتفعت به، مثل: كل بَ دَ. وإن كان عندك لا شيء من ج بَ، وبعض دَ اَ، لم ينتفع به. وكذلك إن كان عندك: كل ج بَ، وليس بعض دَ اَ. وإن كان عندك ليس كل ج بَ، وكل دَ اَ، فلا ينتفع به. وإن كان(1/348)
عندك: بعض بَ ج، ولا شيء من دَ اَ، واتصل كل بَ دَ انتفعت به. وإن كان: لاشيء من بَ ج، وبعض دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان: كل بَ ج، وكل دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: ليس كل بَ ج، وكل دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: بعض دَ ج، ولا شيء من اَ بَ، واتصل كل دَ بَ، انتفعت به. فإن كان عندك: لا شيء من ج بَ، وبعض اَ دَ، لم ينتفع به. وإن كان الحاصل: كل ج بَ،وليس بعض اَ دَ، لم ينتفع به. وإن كان الحاصل: ليس كل ج بَ، وكل اَ دَ، لم ينتفع به؛ وإن كان عندك: بعض ج بَ، ولا شيء من اَ دَ،واتصل كل بَ دَ، انتفعت به. وإن كان عندك: لا شيء من بَ ج، وبعض اَ دَ. لم ينتفع به؛ وإن كان عندك: كل بَ ج، وليس كل اَ دَ، لم ينتفع به.ك: بعض بَ ج، ولا شيء من دَ اَ، واتصل كل بَ دَ انتفعت به. وإن كان: لاشيء من بَ ج، وبعض دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان: كل بَ ج، وكل دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: ليس كل بَ ج، وكل دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: بعض دَ ج، ولا شيء من اَ بَ، واتصل كل دَ بَ، انتفعت به. فإن كان عندك: لا شيء من ج بَ، وبعض اَ دَ، لم ينتفع به. وإن كان الحاصل: كل ج بَ،وليس بعض اَ دَ، لم ينتفع به. وإن كان الحاصل: ليس كل ج بَ، وكل اَ دَ، لم ينتفع به؛ وإن كان عندك: بعض ج بَ، ولا شيء من اَ دَ،واتصل كل بَ دَ، انتفعت به. وإن كان عندك: لا شيء من بَ ج، وبعض اَ دَ. لم ينتفع به؛ وإن كان عندك: كل بَ ج، وليس كل اَ دَ، لم ينتفع به.
وكذلك في سائر البواقي. هذا إذا كانت المقدمتان تشارك كل واحدة منها المطلوب في حد. فإن كانتا مشتركتين في أنفسهما، وليسنا مشاركين للمطلوب أصلاً، فلا تشتغل بتحليله؛ فهناك نقصان مجاوز للقدر. وكذلك إذا كانت تشارك إحداهما المطلوب فقط، والأخرى لا تشارك المطلوب ولا رفيقها، فهو بعيد عن التحليل، يحتاج في تعليم تحليله إلى أن نوصل أصلاً طويلاً لا ينحصر في قانون بالإيجاز. على أن تحليل ذلك ممكن، ولكن مكانه كتاب اللواحق، وحيث تحلل المقدمات أكثر من اثنين. فإن وجدت المقدمتين مشتركتين وتشارك أحدهما المطلوب، فأما أن تشاركه في الموضوع، أو في المحمول.
فلنضع المشاركة في الموضوع، ولتكن أولاً النتيجة كلية موجبة، كقولنا: كل ج اَ، وليكن الموجود هكذا: كل ج بَ، وكل بَ دَ. فإن وجدت دَ، تتصل باَ، فقد حصل. ولتكن النتيجة كلية سالبة، والموجود: كل ج بَ، وكل بَ دَ. فإن وجدت اَ، مسلوبة عن كل دَ، فقد حصل. وإن وجدت كل ج بَ، ولا شيء من بَ دَ؛ فإن وجدت: كل اَ دَ، فقد حصل دون عكسه؛ وإن وجدت لا شيء من ج بَ، وكل بَ دَ، فلا ينتفع به؛ وإن وجدت لا شيء من ج بَ، وكل دَ بَ، ثم وجدت كل اَ دَ، فقد حصل. ولتكن النتيجة جزئية موجبة، وليكن قد حصل أن بعض ج بَ، وكل بَ دَ، فإن اتصل كل دَ اَ، فقد حصل اَ. وليكن كل دَ بَ وكل بَ ج. فإن اتصل كل دَ اَ، أو بعض دَ اَ، فقد حصل. وليكن: كل ج بَ، وبعض بَ دَ، وبعض بَ دَ، فإن هذا لا ينتفع به. وإن كانت الجزئية سالبة، ووجدت بعض ج دَ،وكل دَ بَ، واتصل شيء من بَ اَ، فقد حصل. وإن وجدت بعض ج بَ، ولا شيء من بَ دَ، واتصل كل اَ دَ، فقد حصل. وتأمل ما بقي عليك من هذا في أمثاله بحسب التراكيب.
واعلم أن قولنا: فقد حصل، أي حصل من غير احتياج إلى عكس للوجود، وتغيير. واعلم أنا لا نتكلف أن نعلمك الآن الحاصل في أي شيء يكون. فإنك إن لم تفهم، ولم تحفظ ما قيل، لم ينتفع بهذا.(1/349)
ماذا إذا كانت المشاركة في محمول المطلوب، وكان المطلوب كلياً موجباً؛ وكان عندك كل دَ بَ، وكل بَ اَ، واتصل كل ج دَ، فقد حصل. وأما إن كان المطلوب كلياً سالباً، وكان الموجود: كل دَ بَ، ولا شيء من بَ اَ، واتصل كل ج دَ، فقد حصل. وإن كان الموجود عندك: لا شيء من دَ بَ، وكل اَ بَ، واتصل كل ج دَ، فقد حصل. وإن كان عندك: كل دَ بَ، ولا شيء من اَ بَ، واتصل كل ج دَ، فقد حصل. وإن كان المطلوب جزئياً موجباً،وعندك بعض بَ دَ، وكل دَ اَ، واتصل كل بَ ج، انتفعت به. وإن كان عندك: بعض بَ دَ، وكل اَ دَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: بعض دَ بَ، وكل بَ اَ، وكان كل دَ ج، انتفعت به. وإن كان عندك: بعض دَ بَ،وبعض اَ دَ، لم ينتفع به وبعكسه في الترتيب. وأما إن كان المطلوب عندك جزئية سالبة، وكان عندك بعض بَ دَ، ولا شيء من دَ اَ، واتصل كل بَ ج به. أو كان عندك: كل بَ دَ، وليس كل اَ دَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: ليس كل بَ دَ، وكل دَ اَ، وإن كان عندك: لاشيء من بَ ج، وبعض دَ اَ، لم ينتفع به. وإن كان عندك: بعض د ب، ولا شيء من اَ بَ، واتصل كل دَ ج، انتفعت به. فإن كان عندك: لا شيء من دَ بَ،وكل اَ بَ، واتصل بعض ج دَ، انتفعت به. وإن كان عندك: ليس كل دَ بَ، وكل اَ بَ، لم ينتفع به.
وجرب أنت التركيبات التي تكون مشاركة فيها في المحمول المطلوب على هذا القياس.
فهذه وأمثالها مما نقيسه عليها هي وجوه التحليل، وعندك مقدمتان. فإما أن كانت عندك مقدمة واحدة تشارك النتيجة في المحمول، والمطلوب كلي موجب؛ وكان المطلوب: كل ج اَ، وعندك كل دَ اَ، فإن اتصل كل ج دَ، فقد حصل. وإن كان عندك كل اَ دَ لم ينتفع به. وإن كان المطلوب كلياً سالباً، وعندك: لا شيء من دَ اَ، أو لا شيء من اَ دَ، واتصل كل ج دَ، فقد حصل. وإن كان عندك: كل دَ اَ، فلا يحصل؛ بل إن كان عندك: كل اَ دَ، وصح لا شيء من ج دَ، فقد حصل. وإن كان المطلوب جزئياً موجباً، وعندك: بعض دَ اَ، واتصل كل دَ ج، انتفعت به. فإن كان عندك كل دَ اَ، اتصل بعض ج دَ، انتفعت به. وإن كان عندك: بعض اَ دَ، لم ينتفع به البتة، إلا بأن تعكس. وإن كان المطلوب جزئياً سالباً، وعندك: كل دَ اَ، لم ينتفع به البتة، بل إن كان لا شيء من دَ اَ، واتصل بعض ج اَ، انتفعت به. وكذلك إن كان لا شيء من اَ دَ، وعندك بعض دَ اَ، أو بعض اَ ج، لم ينتفع به. وإن كان عندك: ليس كل دَ اَ، واتصل كل دَ ج، انتفعت به. وإن كان ليس كل اَ دَ، لم ينتفع به.
وأنت إذا فعلت هذا الترتيب الذي بينت لك، وقفت على الحدود، وعلى الأشكال، وعلى الضروب. فصادفت الحدود لا تخرج عن الوجوه المذكورة في أن ينتفع بها.
واعتبر للقرائن الشرطية هذا الاعتبار بعينه.
الفصل السابع
(ز) فصل
في ذكر تأليفات قياسية يعسر حلها
وبيان الوجه الذي يسهل به ذلك
إنه كثيراً ما يعسر تحليل القياس الناقص، إذا كان ظاهر المسموع عنه تلزم عنه النتيجة عند الذهن، فتستغني النفس عن تتميمه ورده إلى كماله. وتظنه تاماً؛ ثم لا تجد القدر الموجود، مشاركاً للنتيجة حق مشاركتها، التي ينبغي أن تكون بينها بين المقدمات. ومثال هذا قول القائل: إن أجزاء الجوهر؛ وما ليس بجوهر، لا يبطل بطلانه الجوهر. أو نقول: بطلان أجزاء الجوهر، يبطل معه الجوهر؛ وبطلان ما ليس بجوهر، لا يبطل معه الجوهر. فيلزم منه أن أجزاء الجوهر، جوهر. ثم لا يشك الذهن في لزوم هذا عما وجده، فيظن أن قياس تام؛ ثم لا يمكن تحليله ورفعه إلى الأشكال رفعاً يلزم منه المطلوب فيتبلد فيه الذهن، ورما كان المطلوب في مثل هذا، لازماً للنتيجة القريبة من القياس، لزوم التالي للمقدم، أو لزوم النتيجة عن الضمير. كما أن هذا القياس إنما ينتج عنه بالحقيقة. أما على العبارة الأولى، فهو أن أجزاء الجوهر، ليس ما ليس بجوهر؛ ويلزم هذا تال المقدم، أن أجزاء الجوهر جوهر. وأما على العبارة الأخرى، فهو أن بطلان أجزاء الجوهر، ليس بطلان ما ليس بجوهر؛ وإذا أضيف إليه، وما ليس بطلانه بطلان لا جوهر، فهو جوهر؛ فينتج: فأجزاء الجوهر جوهر.(1/350)
وربما كان القياس يعود إلى إنتاج المطلوب بأدنى تعبير يلحق مقدمة من مقدماته، إذ كانت المقدمة مأخوذة في القياس، لا على النحو الذي ينتج المطلوب الواجب، بل على نحو يلزمه مثل عكس، أو عكس نقيض، أو غير ذلك. فإذا رد إلى الواجب سهل تحليل القياس فإن هذه المقدمة القائلة: وبطلان ما ليس بجوهر لا يبطل به الجوهر، إذا قلبت حتى صار: وكل ما يبطل ببطلانه الجوهر، فهو جوهر، أنتج على الاستقامة: إن أجزاء الجوهر، جوهر. وكذلك لو أن قائلاً قال: إن كان الإنسان موجوداً، فالحيوان موجود؛ وإن كان الحيوان موجود. قيل: وهذا يعسر تحليله. وقد قيل في كونه عسر التحليل، وجوه من قبل. من ذلك إن هذا التأليف إنما يكون من شرطين، ليس من حملين؛ ومع ذلك فليس استثناء، فليس بقياس، وإن أشبه القياس. ومن ذلك أن المراد منه هو أن ينتج من هذا: أن الإنسان جوهر؛ ولا ينتج ذلك من هذا. ومن ذلك أنها تين مهمتان. ومن يقول هذا فالعجب منه إذ يغشى الحق. ولم يعرف بعد الإهمال إلا في الحمليات. وينبغي أن يكون ما يقال في مثل هذا تحفظ أشياء: أحدها، أن يكو المطلوب حقاً. والثاني، أن يكون لازماً عن ذلك القول. والثالث، أن يكون القول ليس ينتج ذلك إما لأنه غير قياس، وإما لأنه قياس. وينتج غير ذلك. وهذه الأشياء لا يمكن أن تحفظ في تعقب هذا القياس. لأن هذا القياس مؤلف من شرطيتين متصلتين، والمطلوب شرطي متصل لا ينتج إلا عنه، فلا يوجد في هذا القياس مغمز إلا أن يقال: إن المقدمتين ليستا بمحصورتين لا الحصر الذي للحملي، بل الذي للشرطي الذي قد علمت. فيحتاج إلى أن يصلح، فيجعل بدل: إن كان، كلما كان، لكن المعلم الأول إذ أورد هذا، فقد أورده، ولم يتقدم تعليمه للشرطيات، فيشبه أن يكون معنى ذلك أن ههنا لوازم تلزم، ولا تكون عن وجوه القياسات التي تعلمتموها. فلا يمكن حلها إلى تلك حتى تعلم: أنه ليس كلما يلزم عنه شيء يكون صورة القياس المتعلم كما هو؛ بل ربما كان اقتراني آخر. وإذا أريد تحليله إلى الحمليات التي علمت في هذا الكتاب، لم يمكن أن تؤخذ بحالها، بل أن يتصرف فيها نحو من التصرف، فتنتقل مثل الشرطيتان ههنا إلى حمليتين. وإما أنه كيف ينقل ذلك إلى الحمليتين فبأن نقول: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جوهر، فكل إنسان جوهر. ويلزمه: إن كن إنسان فهو جوهر. فهذا تأليف قول يلزم عنه ما وضع لازما عنه، ولا ينحل إلى القياس المتعلم. وإذا احتيل حتى يحل إليه بما ذكرناه، لزم عنه أيضاً هذا اللازم، ولكن ليس على أنه نتيجته الأولية. فإذا أخذ على هذا نتيجته لم يكن تحليله مع النتيجة وإذا حلل وحده كانت النتيجة شيئاً آخر وكان هذا لازماً عن النتيجة.(1/351)
فعلى هذا يمكنني أن أفسر هذا المثال. فهذا وأمثاله من قبيل ما يكون الموهم في الشيء، إنه قياس على شيء، وليس بالحقيقة قياساً عليه، هو كونه بحيث لا يشك في لزوم ذلك الشيء عنه. وقد يعرض أن يكون الموهم شيئاً فيه نفسه، لا بالقياس إلى ما يظن أنه يلزم عنه. وذلك بمشابهة حدود لحدود القياس، مع إخلال وقع فيه، بشرط أو بشروط تلحق الحدود من الأسوار والروابط وغير ذلك. ويكون غير منتج، ولا يلزم منه شيء، فيظن قياساً. مثل ذلك: أن زيداً متوهم زيداً، والمتوهم زيداً قد يكون إنما أن يكون أزلياً. والذي قيل في هذا إن السبب في التغليط، كون الكبرى غير الكلية وإن الشرط أن الكبرى يجب أن تكون كلية حتى تنتج. وهذه ليست كلية؛ بل مهملة. وإذا قيلت: كلمة، فقيل: وكل متهم فيمكن أن يكون أزلياً، كان ا لقول كاذباً، قول من حقه أن ينظر فيه. ونقول لقائل أن يقول: إن الكبرى ليست مهملة، بل شخصية. وأن نقول: يشبه أن تكون القياسات المؤلفة من شخصيتين قد تنتج: وإن كانت ا لكبرى ليس كلية، فإنه إذا قيل: إن زيداً هذا القاعد، وهذا القاعد هو أبيض، لزم دائماً أن يكون زيد أبيض. إنما كان الجزئي لا ينتج حيث تكون جزئيته محصورة أو في وقتها. فيجوز أن يقلب الأصغر عن الأوسط. وههنا فلا يقلب الأصغر عن الأوسط أبداً. فلو قلنا: إن زيداً متوهم زيدا، كان متوهم زيداً إن كان شخصياً، ثم كرر، وصدق أن المتوهم زيداً يمكن أن يكون أزلياً، وعنى به هذا المتوهم زيداً، كان القياس منتجاً. والقول يلزم عنه ما يلزم. وإن كان قولنا: وهذا المتوهم زيداً، يمكن أن يكون أزلياً، كاذباً. فيكون القول لم ينتج حقاً، لأن كبراه كاذب، لا لما قيل.
على أن لقائل آخر أن يقول: إن قولنا المتهم زيداً، يفهم عنه معنيان: أحدهما، الشيء الموجود خارجاً، المضاف إليه صورة النفس، وهيئة تحكى صورته، كما يقال: محسوس، للشيء الذي في الخارج. وقد أخذ الحس صورته. وقد يمكن أن يفهم منه نفس تلك الصورة التي في الوهم، فإنه ه المتوهم عن زيد. فالمعنى الأول إذا أضيف إليه، أنه يمكن أن يكون أزلياً، فيمكن أن يفهم منه معان. فإنه يمكن أن يفهم منه أن يكون دائم الوجود في نفسه. ويمكن أن يفهم منه أنه يكون دائم الوجود في الوهم، ويمكن أن يفهم منه أنه يتوهم محكوماً عليه دائم الوجود، لا على معنى أنه كذلك في الوجود في نفسه، ولا على أن يبقى في الوهم دائماً، بل لو بقي في الوهم ساعة قصيرة، كان قد توهم في تلك الساعة أنه موجود دائماً، صدق القول والألفاظ التي تطابق معنى من هذا.(1/352)
أما الذي يطابق المعنى الأول فأن نقول: إن الشيء الحاصل صورته في الوهم، موجود في الأعيان دائماً. والذي يطابق المعنى الثاني هو أن نقول: إن الشيء الحاصل في الوهم صورته، تبقى صورته في الوهم دائماً، بقي هو أو لم يبق. والذي يطابق المعنى الثالث أن الشيء الفلاني قد أحضر في الوهم صورته، وحكم على أنها دائمة الوجود في الأعيان حكماً في الوهم، حتى يكون الحكم في الوهم، ولكن مقيساً إلى الخارج. ثم لنسلم أن قولنا المتوهم زيداً أزلي، أو يمكن أن يكون أزلياً، موضوعه معنى كلي. فإن عنى به المعنى الأول، فالقضية كاذبة. وإن عنى به المعنى الثاني، فالقضية أيضاً كاذبة. وإن عنى به المعنى الثالث، فهناك تقصير في العبارة، إذ معنى القول: إن المتهم زيداً أزلي في حكم الوهم فيجب أن يؤخذ الأزلي كذلك في النتيجة. فلا تكون النتيجة كاذبة، بل صادقة. ويكون السبب في كذب النتيجة وجهاً غير الوجه الذي ذهب إليه، وهو أن الحدود في القياس على نحو، وفي النتيجة على نحو، إلا أن ترتيبها في القياس ترتيب رديء. فيجب أن يحكم الآن في ذلك فنقول: أما قوله: متوهم زيداً، فهو معنى يجوز أن يفهم على وجه كلياً. وذلك بأن يفهم منه أن هذا الشيء حصل صورته في الوهم منسوبة إليه. وقد يمكن في التوهم العام أن يتوهم غير زيد زيداً، كان كاذباً أو صادقاً. فإنه ليس أن يكون كونه متوهماً شيئاً، وكونه صادقاً هذا المتوهم، شيئاً واحداً. ثم ليس يبعد أن يتوهم عبد الله أنه زيد، فيكون هذا المتوهم ممكنا. ويكون كاذباً. وهذا مثل قولك: زيد، قيل إنه فلان؛ ويجوز أن يكون عبد الله، وقولاً أنه فلان. فيكون المقول إنه فلان زيد، وغير زيد. وإن كان الصدق واحداً من ذلك. وفرق بين أن يكون الشيء قولاً، وبين أن يكون صادقاً. وكذلك بين أن يكون متوهماً، وبين أن يكون صادقاً . فإذن الأوسط على هذا الاعتبار كلي.
ثم ليسامح أيضاً في أمثال مثل هذه الأمثال، فليؤخذ المتوهم مقولاً على ذات زيد، وعلى الصورة، من حيث لكليهما نسبة إلى الوهم؛ وليسامح، وليجعل أحدهما ممكناً أن يكون أزلياً، وهو الذي في الوهم، والآخر ليس كذلك، وبحسب إمكان وجوده، حتى يكون أيضاً قولنا: يمكن أن يكون أزلياً، بحسب إمكان النحو من الوجود له، فيكون صادقاً: أن بعض ما هو متوهم زيداً، يمكن أن يكون أزلياً، الإمكان الذي له، وليكن الآخر ليس كذلك. فإذا قيل: وكل متوهم، دخلا جميعاً وكذب الحكم. وإذا أخ مهملا صدق. فيكون السبب ههنا، والصورة هذه الصورة، إنما ليس ينتج. لأنه على النحو الذي لا ينتج ما كان كبراه مهملاً. وذلك النحو، هو أن يخرج الأصغر عن الحكم الذي للأكبر على الأوسط.(1/353)
فهذا هو غرض المعلم الأول. وإن كان عليك أن تجعل الأوسط جزئياً، لا عموم له، وذلك باعتبار آخر. وهناك يتغير هذا الحكم الذي نحن في اعتباره. والمعلم الأول ليس يبالي في الأمثلة، إن لا تكون الحدود على كل ذلك التواطؤ. ثم إن احتيل أن تجعل الكبرى صادقة عند ردها إلى الكلية، حتى قيل: وكل متوهم زيداً، يمكن أن يكون أزلياً في الحكم والوهم، فلا تكون النتيجة كاذبة. وليس شغلنا بهذا، بل الذي ليست النتيجة صادقة. وقد يتبع هذا المثال بمثال آخر، فيقال: زيداً هو زيد المغني، وزيد المغني لا يبقى غداً وإلا بقي الغناء، فإن مجموع كلا المعنيين وأحدهما لا يبقى. ويجب أن يفهم من هذا المثال، أن زيداً المغني، أمر كلي أيضاً. لأن زيداً لا يقال إلا على واحد؛ وأما زيد المغني، من حيث هو زيد المغني، فيقال على الكثيرين.وذلك لأن زيداً المغني من حيث هو زيد المغني، هذا المغني بهذا الغناء، نجده بعد ساعة قد بقي زيداً، ولكن لا يبقى مغنياً. فلا يكون زيداً المغني، ثم يصير زيداً المغني. ونعني ذلك الغناء لا بالعدد، ولكن بالنوع. فيكون من حيث هو زيد ذلك الشخص بعينه؛ وأما من حيث هو مجموع زيد ومغني، فلا يكون ذلك بعدد. وإنما كان يكون ذلك بالعدد، لو كان زيداً ذلك بعينه، والغناء الذي بعينه بالعدد. وهذا كلبنة تتخذ من طين، ثم تنقض، ثم تعاد. فلا تكون اللبنة تلك بعينها، وإن كان طينها ذلك الطين بعينه؛ بل يكون هذا شيئاً مبتدئاً غير ذلك. كذلك إذا كان هذا الغناء غير ذلك الغناء بالعدد، فهذا المعنى من حيث هو هذا المعنى، غير ذلك بالعدد. الشيء قد يغاير ذاته في أحواله، كما قد علمت. والمغايرة لا تصح مع حدة بالعدد؛ وذلك يوجب أن لا يكون الموضوع واحداً.
وإذا كان الحد الأوسط معنى ليس بشخصي فمن حق الكبرى أن يكون صادقاً عند حصر الكلي. فيكون قولنا: زيد المغني يجوز أن يدخله كلُّ، فتكون كأنك قلت: إن كل شيء يوصف بأنه زيد المغني. وقد علمت أن معنى هذا أن الأمور موضوعة لزيد المغني، إذ علمت أن قولنا: كل ج بَ، معناه كل ما يوصف بأنه ج بالفعل فهو بَ؛ ليس بشرط إذا ما دام موصوفاً بأنه ج، أو في وقت آخر. والأمور الموضوعة لزيد المغني أحدها زيد مطلقاً، والثاني زيد المغني من حيث هو مغني،وهما مختلفان، ويحمل عليهما زيد المغني، فمن الكذاب أن يقال: إن كل ما يوصف بأنه زيد المغني، ويوضع لمعنى زيد المغني، فإنه يبطل غداً، بل بعض ذلك، وهو الذي هو زيد المغني، من حيث هو زيد المغني. وأما كل ما يوصف بأنه زيد المغني، ويوضع لزيد المغني فلا. فإن زيداً لا بشرط إنه زيد المغني، لست أقول بشرط إنه ليس زيد المغني، هو مما يوصف بأنه زيد المغني، مثل إن الإنسان باعتبار نفسه، وإن لم يشترط باعتبار أنه أبيض، فإنه يوصف بأنه أبيض. فإنك إذ تقول: زيد أبيض، فلم يأخذ الموضوع إلا زيداً فقط بلا زيادة. وكذلك يوصف أيضاً مأخوذاً مع الأبيض حين تقول: زيد الأبيض أبيض. لكنه إذا أخذ مع الأبيض كان الحمل ضرورياً، بالوجه الذي تعلم. وإذا أخذ مطلقاً، كان الحمل عليه مطلقاً. وهذا الفن من العموم، هو الذي عمومه ليس بحسب الأشخاص، بل بحسب الأحوال، وقد فهمت هذا مراراً. فإن أخذ زيدٍ، أنه زيد، شيء، وأخذ أنه زيد المغني، شيء، وقولنا: الموصوف بأنه زيد المغني، شيء. وقولنا: الموصوف بأنه زيد، المغني، هو كل واحد منها. لأن زيداً يكون معتبراً أنه زيد، ولا تعتبر معه زيادة. ويكون معتبراً مع اشتراط زيادة أنه معنى. وهذا لا يبطل شخصي زيد، لأنه شخص من حيث هو زيد فقط، مشترطاً فيه معنى فقط.(1/354)
وإذ قد تبين هذا، فإذا أخذت الكبرى مهملة أوهمت الصدق، وإذا جعلت كلية كذبت. فهذان المثالان، مثال ما تكون الحدود منه مرتبة ترتيبها، ولكن في تحصيل كميتها تخليط، وربما كان التخطيط في روابط الحدود. وذلك لأنه ربما عبر عن القياس بأن يبتدأ من المحمولات، فيحتاج حينئذ إلى زيادة لفظ ليس داخلا في الحدود، وإنما هو رابطة أو شبه رابطة. ثم يقع فيه اشتراك كمن يقول: إن في الصحة ولا في شيء من المرض، والمرض في كل إنسان. قيل: وقد يظن أنه يعرض من هذا أن الصحة غير ممكنة أن تكون في واحد من الناس. ولكن لقائل أن يقول: إنه أخذ النتيجة ضرورية، وهذا مما لا يلزم عن القياس عنده، وإن كان قياساً. والذي يظن أنه يلزم عنه، هو أن الصحة ليست ولا في واحد من الناس. وهذا يكون حقاً على النحو الذي الصغرى به حق، وهو أن المرض في كل إنسان. فإن أخذت الصغرى ممكنة؛ فهذا على النحو ممكن؛ وقد حكتم أن هذا القياس ينتج ممكنة. وإن أخذ الصغرى مطلقة،وصح إطلاقها، فهذه النتيجة أيضاً تصح مطلقة. والذي نقول في الجواب عن هذا: أن النتيجة مأخوذة ضرورية، والكبرى مأخوذة ضرورية، والصغرى مأخوذة ممكنة.
وإذا قد استدل في التعليم الأول على صدق الصغرى من جهة القبول. والقبول لا يدل على الوجود، بل على الإمكان. على أن كل إنسان يصدق عليه أنه مريض مطلقاً، إذ كل إنسان مائت، وكل موت يفتقده مرض، ولو زماناً يسيراً. فمن القياس أن تقال الصحة بالضرورة، لا على شيء من المرض. والمرض، إن شئت، قلت: ممكن، أو شئت قلت: موجود في كل إنسان. فإن أخذت الصغرى مطلق،وجب أن تكون النتيجة ضرورية اتفاقاً. وإن أخذتها ممكنة، وجب أن تكون النتيجة ضرورية على حسب اعتبار الحق، وإن لم يكن عليه اتفاق. وعلى أن المعلم الأول يومئ إلى أنه يأخذها ممكنة، فيتضمن ذلك أن رأيه هذا الرأي. لكنه يقول ما يقوله في الاختلاطات على سبيل الامتحان. وبعد هذا فإن النتيجة الضرورية كاذبة، وسبب كذبها أن دلالة لفظة " في " في الكبرى ما يشبه الرابطة. ولذلك يصدق أن نقول: ولا شيء مما هو مرض بصحة. وفي الصغرى هي جزء من المحمول. ولذلك لا نقول هناك: إن كل إنسان مرض، بل نقول: بل كل إنسان فيه مرض. فتكون لفظة " في " في الكبرى تدل على أن حمل لفظة " في " في الصغرى لا تدل على أن الأوسط محمول على الأصغر، بل موجود فيه. فإن أصلح حتى قيل مثلاً: كل إنسان فيه مرض، أو هو مريض، أو ذو مرض. ثم قيل: ولا شيء مما هو مرض بصحة، لم يكن قياساً. فإن أصلح كرة أخرى فقيل: ولا يمكن أن يكون شيء مما هو مريض بصحة أنتج حقاً: وهو أنه لا أحد من الناس يمكن أن يكون صحة. وإن سلك به إلى أن ينتج المحال، وهو أنه لا شيء من الناس يمكن أن يكون صحيحاً، يجب أن تقال الكبرى: ولا شيء مما هو مريض يمكن أن يكون صحيحاً. فتكون هذه القضية كاذبة. وهذا نوع من الغلط يقع حيث تكون الحالات أخذت مكان قوابل الحالات، وأخذت الصحة مكان الصحيح والمرض مكان المريض بالقوة، وإن لم يكن بالفعل. فهذه أنحاء من الغلط تعرض بسبب الأمور الداخلة على الحدود مثل: الحصر، والإهمال، والربط.
الفصل الثامن
(ح)فصل
الاعتبارات المأخوذة من الحدود
في تعريف وجوه آخر من الاعتبارات المأخوذة من الحدود ومن نفس الحكم، لا بالقياس إلى النتيجة، يسهل بها التحليل ولنود الآن وجوها من الاعتبارات يجب أن تراعى حتى لا يتعذر التحليل. وتلك الاعتبارات في نفس الحدود، وفي نفس الحكم، لا بالقياس إلى النتيجة، ولا أيضاً من جهة الدواخل. فمن ذلك ما في نفس الحدود. وذلك أن الحدود ربما لم تكن ألفاظاً مفردة؛ بل تكون ألفاظاً مركبة، مثلا لا يكون الحد الأصغر: الإنسان، بل الحيوان الناطق المائت؛ فتشوش حينئذ عليك أفراد الحدود، لأنك لا تجدها ثلاثة، بل أكثر؛ ويصعب عليك تمييز بعضها عن بعض. فاجتهد حتى تجد لجملة جملة منها اسماً مفرداً، فإن لم تجد فعليك أن تضع لجملة جملة منها اسماً وفرداً. وربما كان الأول أن تبدل اسماً مكان اسم، وأن تصلح مثلاً مقولاً في العبارة.(1/355)
ومن الأمثلة الموردة لهذا ما يجب أن يفهم لا على ما فسره عليه شيخ النصارى، ولا على ما فسره عليه فاضل المتأخرين. قال: إنك إذا أوردت مثلاً أن تبرهن، فتجعل الحد الأصغر متساوي الزوايا، والأوسط المثلث، والأكبر متساوي الزوايا لقائمتين،لأنك تحتاج إلى أن تبرهن على المتساوي الزوايا بسبب المثلث، لأن هذا المثلث أولى، أي ليس مقولاً عليه بسبب القول على أعم منه، وإن كان بينهما وسط؛ فيكون ما تنبيه وتفهمه، وهو الحد الأكبر، كلاماً وقولاً لا لفظاً مفرداً. فكذلك فاعلم أنه ربما كان الأوسط لا لفظاً مفرداً، لكن مركباً، مثل هذا الأكبر. فإذا طلبت أن تجعل الحد الأوسط مفرداً من جملته لم بنحل لك الإشكال. وأن تتأمل حال الألفاظ التي هي أدوات أو كالأدوات وهي التي حقها أن تكون جزءاً من جملة المحمول أو الموضوع. فيعرض من الإخلال ما عرض فيما سلف ذكره. مثل قولك: إن علماً واحداً موجوداً في الأضداد. وإن الخير موجود للحكمة. فإن " في " في الأول جزء من المحمول، لأن معناه: الأضداد فيها علم واحد. وحرف " اَ " في الأخرى ليست جزءاً من شيء، بل هي حرف دال على الربط. فإذا وجدت شيئاً في الحدود من هذا الجنس، فانظر هل هو جزء، فاحتفظه جزءاً وأضفه إلى ما هو قرينه، واجعل منهما حداً واحداً، وطرح الآخر، واقلب القضية إلى عبارة لا تحوجك إلى استعمال ذلك. فإنك إذا قلت: الخير موجود للحكمة، احتجت إلى هذا اللام، وإذا قلت الحكمة خير استغنيت عنها، فعلمت أن اللام ليس جزءاً من المحمول البتة. فأما إذا قلت: علم واحد في الأضداد؛ ثم قلت: الأضداد فيها علم واحد؛ لم تستغن عن لفظة في، أو لفظة أخرى تقوك مقامها. وقد يتفق أن يكون مثل هذه اللفظة، في الصغرى والكبرى جميعاً، دالة على الجزء، كقولك: كل كيفية ففيها تصديق، وكل ما فيه تصديق فاه موضوع، فكل كيفية لها موضوع. وربما اختلف الأمر في المقدمتين، فكان الدال على الجزء في الكبرى والآخر في الصغرى، كقولك: العلم موجود في كل كيفية، والكيفية موجودة في كل بياض. وربما كان بالعكس، كقولك: الخير موجود في العلم، والعلم موجود في كل كيفية. وليس هذا في الإيجاب وحده، بل وفي السلب أيضاً، كقولك: ليس في الكون كون، وليس للحركة حركة. فإنك إذا أخذت لفظة " اَ " ولفظة " في " دالتين على الحمل، كذبت القضيتان؛ وإن أخذتهما جزئيين من المحمول صدقتا جميعاً. فإنك إذا قلت: لا شيء من الكون موجود للكون، والكون موجود في كل لذة، فأخذت اللام في الكبرى جزءاً، أنتج من هذا أن اللذة ليس لها كون. وهذا حق، إذ كل لذة كون، والكون ليس له كون. وإذا أخذت دالاً على الحمل، لم يصح قولك: إن الكون ليس موجوداً للذة، أو ليس محمولاً عليها. وكذلك العلامة ليست موجودة للعلامة، والعلامة موجودة للضحك. وكذلك الوقت موجود لله. وزمان يحتاج إليه ليس موجوداً لله. وهذه الأشياء تخلصك عنها قول المقدمات على الترتيب المستعمل. فإنه وإن كان وضع الحدود يحوجك أحياناً إلى أن تقول: إن الحيوان على الإنسان، والإنسان على الكاتب. فإن استعمال المقدمات لا يحوجك إليه، فإنك لا تقول في استعمال القياس هذا، لا في الكتب، ولا في المخاطبات، بل تقول: كل كاتب إنسان، وكل إنسان كاتب، وتكون قد تخلصت عن شبهة الزائد على الحدود. وقد يعرض الغلط في الحدود من جهة شرائط هي بالحقيقة أجزاء من الحدود، ولكنها لا يصرح بها، أو يختلف التصريح فيها. فيجب أن يصرح بجميع ذلك، ويحضر بالفعل، ثم تحاول التحليل. مثال ذلك إن قولك: إن غير المتناهي لا يعلم، ليس بالحقيقة صادقاً، فإنه إن كان عدداً علم من جهة ما هو عدد، وإنما يجهل من جهة أنه غير متناه، وليس أنه غير متناه وأنه عدد معنى واحد، فيجب أن تزيد فيه، وغير المتناهي لا يعلم من جهة ما هو غير متناه، وأما ما يكون كقولك: الإنسان حساس، فلا يحتاج إلى ذلك فيه. واعلم أنه ربما صدق القول مرسلاً، فإن زيد شرط كذب. فإنه صادق أن الإنسان حساس، وليس بصادق أن الإنسان حساس للنفس. وربما كذب مرسلاً كقولك: إن الإنسان معدوم. فإن قيل: معدوم النظير، صدق. وأما ليس كذلك، فليس شيء يصدق بشرط هو داخل لا مدخول فيه، وإلا هو صادق مرسلاً. فإن الشيء إذا كان مملوكاً لزيد، فهو مملوك لا محالة. وما كان يميننا لعمرو فهو أيضاً يمين. فإن الشيء ما لم يكن له المعنى الأعم لم يكن له(1/356)
المعنى الذي يخصصه. وأما صدق الشيء بسيطاً دون المركب، ومركباً دون البسيط، فهذا أمر قد عرفته وتحققت كيفيته. الذي يخصصه. وأما صدق الشيء بسيطاً دون المركب، ومركباً دون البسيط، فهذا أمر قد عرفته وتحققت كيفيته.
واعلم أنه قد يعرض لبعض الحدود أن يؤخذ مراراً، فيحسب أن تكراره إنما يكون حيث هو، ولا يكون كذلك، بل يكون مرة واحدة أو في حد مرة جزءاً من حد آخر. فإذا كان المكرر هو الحد الأوسط عرض كثيراً أن يكون له ثلاثة مواضع: موضع في الأوسط، وموضع في الأكبر، وموضع في النتيجة. مثاله: العدل خير، وكل خير فإنه يعلم أنه خير، فالعدل يعلم أنه خير. فالخير ههنا يكون مرة حداً أوسط، ومرة أخرى جزءاً من الأكبر. وكذلك إذا قيل: إن الخط كذا غير متناه، وكل غير متناه فلا يعلم من جهة ما هو غير متناه، فتكون النتيجة: أن خط كذا لا يعلم مطلقاً؛ ولكن من جهة ما هو غير متناه. فإن قال قائل، إن المفهوم قولك: لا يعلم، أعم أيضاً من مفهوم قولك: لا يعلم من جهة ما هو غير متناه؛ فيصح أن ينتج عنه: لا يعلم. فنقول،وأيضاً قولنا: لا يعلم، أعم من قولنا: لا يعلم ذاته، أولاً يعلم خطاً، فإذا أنتج: أنه لا يعلم، موقوفاً؛ غير مفصل أنه كيف لا يعلم؛ لم يخل من وجهين: إما أن يكون هذا جارياً مجرى الكلم الوجودية، التي لا تصدق إذا حملت، ولا تكذب؛ كقولنا: لا يكون الذي يراد به الربط، ليس كونه في نفسه الذي لا يتم بمفعول واحد، لكن الذي يتم بمفعول واحد؛ حتى يكون أيضاً قولنا: لا يعلم، يقتضي أنه ماذا لا لا يعلم نفسه؛ مثل ما يقال أيضا: لا يظن. فيكون ما جعل نتيجة ليست نتيجة إذ ليس فيه صدق ولا خبر. وإما أن يكون محمولاً مستقلاً بنفسه. فإن كان محمولاً مستقلاً بنفسه فلا يعتبر في صدقه صدق قولك: إنه لا يعلم خطا، أو كذبه؛ بل معنى أعم منه. كأنه يقول: لا يعلم من وجه ما. لكن القياس ربما لا يكون ذهب إلى هذا، بل نحا نحو تمييز ما؛ أو يكون موضع الكلام يقتضيه. فإذا لم يوضع ذلك أشكل الأمر، وإن كان كله هذا التأويل. وذلك حين لا يكون هذا التأويل مناسباً.
واعلم أنه حيث ما قيل: فهو في المحمول دون الموضوع. فإن قولك: ج كذا، من جهة ما هو ج؛ ليس ج الثانية جزءاً من الموضوع، بل من المحمول. ولذلك غلط من قال من الغالطين: إن الموجود من جهة ما هو موجود إما قائم بنفسه، وإما غير قائم بنفسه. ولو كان الموجود من جهة ما هو موجود، هو غير قائم بنفسه لوجب أن يكون كل موجود موصوفاً بأنه غير قائم بنفسه. وكذلك إن كان من تلك الجهة قائماً بنفسه، وجب أن يكون كل موجود قائماً بنفسه، وهذا خلف. ولم يعلم أن القابل للموجبة منهما هو أنه ليس ما أورد، بل هو أنه ليس من جهة ما هو موجود قائماً بنفسه.
فيدخل السلب على القائم بنفسه، مقروناً من جهة ما هو موجود؛ ويكون من جهة ما هو موجود داخلاً في المحمول، فلا يلزم من ذلك الحال. فجميع أمثال هذه يجب أن يؤخذ المكرر منها من جملة المحمول. فإن كان الأوسط في مثل الضرب المشار إليه وقع أيضاً في الأكبر، وإن لم يجز الأمر على هذه الجهة لم يكن للكلام معنى، ولم ينحل إلى الضروب.(1/357)
ومن الأمثلة لهذا الباب: الإنسان المحسوس، وكل محسوس فإنه يعدم من جهة ما هو محسوس. فكلما أردت أن تنتج في أمثال هذه الأشياء بشرط، فيجب عليك أن تأخذ الأكبر في الأوسط بالشرط، ثم تحلل. وإن صح إنتاجك مرسلاً، فخذ ذلك مرسلاً، ثم حلل. مثال الأول إذا أردت أن تنتج أن الخير معلوما ما، فقل لأنه موجود ما. وإن أخذت: معلوم، فخذ: موجود. ومتى انغلق، فبدل الألفاظ ما شئت. وربما كان حذف جزء من اللفظ المؤلف، غير مؤثر في غرضك، وإنما أخل إدخالاً غير ضروري، بل لفرط بيان، فتكون إن أسقطه لم يتغير المعنى، فأسقطه، ثم حلل. فإنه ربما أردت أن تنتج: إن كذا هو المتوهم؛ ويكون الوسط المظنون؛ فتقول: المتوهم جنس المظنون، وكذا هو المطنون، فيدخل الجنس بين الحدود. وإنما أدخلته لتدل على أن حمل المتوهم على الظنون صحيح. ثم إن أسقطت ذلك لم يضرك في الإنتاج، فأسقطه لينحل القول إلى القياس. وربما كان الأمر بالضد، فيكون حذف شيء يسير يوقع خلافاً كثيراً، كما أن إدخاله يوقع أيضاً خلافاً كثيراً. فإنك إن قلت: إن اللذة هي خير، كان له معنى. وإذا قلت: إن اللذة هي خير، كان له معنى. وبين المعنيين بون بعيد. وكيف والأول منهما صادق عند من سلم أن اللذة خير، والآخر ليس بصادق، إذ ذلك يوجب أن يكون الخير مساوياً في الحمل للذة. وكذلك من أورد أن ينتج: أن اللذة هي خير، فيجب أن يجعل الأكبر خيراً، بغير الألف واللام. وإن أراد أن ينتج: أن اللذة هي الخير، فيجب أن يأخذ الأكبر مع الألف واللام حداً أكبر. ولقائل أن يقول: إن في هذا خللاً، فلتكن بَ هو الحد الأوسط، فيكون حينئذ اللذة هي بَ. فلا يخلو إما أن تقول: إن كل بَ هو الخير، أو تقول: بعض بَ هو الخير، أو تقول ال بَ هو الخير. فإن قلت: كل بَ هو الخير، فكأنك قلت: كل واحد مما هو بَ، هو الخير كله، وهذا كذب. وإن قلت: بعض، صارت الكبرى جزئية.وإن أخذت مهملة، كانت الكبرى مهملة، فلم ينتج. فنقول في جواب هذا: إن المهملة في المادة المنعكسة تنتج. وذلك لأن المحمول فيها لا يكون مختصاً ببعض الموضوع دون الموضوع، بل على كل الموضوع. كما أن الموضوع مقول على كله. فلا يقلب الأصغر، لا يكون أيضاً إلا منعكساً، ولا يمكن أن يوجد إلا على هذه الصفة. وفي هذه المادة قد يكون قياس من مهملتين، حيث يقال: إن اللذة هي ال بَ، وال بَ هي الخير، وتكون هذه المساويات بعضها لبعض. فتنعكس فتكون كل لذة بَ، وكل بَ لذة، وكل بَ خير، وكل خير بَ. ولكن قولنا: كل خير بَ، لا يفيد ما يفيده قولنا: إن كل الخير هو ال بَ. فإن الأول يلتفت إلى الموضوعات الخير، وهذا يلتفت إلى طبيعة الخير نفسه. وهذا لا يفيد المساواة، وهذا يفيد المساواة. فيفيد أيضاً أن بَ مقول على كل ما يقال له الخير، بعدما أفاد أن كل الخير مقول على كل ما يقال له بَ. وهذه الفائدة غير مستفادة من المقول على الكل، بل المستفادة من المقول على الكل عموم المحمول لجميع ما يوصف بالموضوع فقط. فإن هذا هو المعنى المستفاد من القول على الكل. ليس المقول على الكل هو أن بَ المحمول على كل الأشياء التي يقال على كلها الموضوع، حتى إن كان شيئاً عليها بَ. ولا على كلها، لم يقل عليها المحمول، بل هو أعم من ذلك؛ وكذلك ليس المعنى المقول على الكل، أن يكون مقولاً على كل ما يوجد فيه بَ، حتى إن كان بَ يوجد في بعض الشيء، يكون ىَ مقولاً على كله، حتى يكون قولنا الحيوان، على كل إنسان، معناه الحيوان مقول على كل شيء يوجد فيه إنسان، فيكون مقولاً على جسم. فإن هذا ربما كان أخص مما يوجد فيه الإنسان، كما تحققته من هذا المثال. فإذ ليس معناه هذين، فكيف يكون معناه أمن الحيوان بكليته مقول على الإنسان؟ حتى يكون قولنا: اللذة هي الخير، وقولنا: كل لذة هي الخير، بمعنى واحد يوجه المقول على الكل في أحدهما؟ فإذن هذا يفيد بنفسه فائدة أخرى، وصلح أن يؤلف من مثله النحو من القياس المذكور، ولا يلزم الشك المذكور.
الفصل التاسع
(ط)فصل
في ذكر أحوال مانعة من التحليل
بحسب شكل القياس وبحسب أشكال المقدمات
يجب أن تراعى في التحليل بسبب الشكل والاقتران وصورة المقدمات فلنقل الآن في أحوال التي تعوق عن التحليل بسبب شكل القياس وبسبب شكل المقدمة، أعني الذي ليس بسبب الحدود.(1/358)
فنقول: أنه قد يتفق القياس الموجود مركباً، فيحتاج أن يحلل أولاً إلى القياسات. فإن وجد قياس أوهم ذلك أن القياس الثاني هو من شكله، فيجب أن لا يلتفت إلى ذلك، ونعلم أن القياسات قد ترتكب، وهي من أشكال وضروب مختلفة، بل يجب أن تعتبر حال التأليف في نفسه لا غير. وإذا كانت القياسات مؤلفة لتنتج سلباً، وكان المحمول مركباً، فإنه قد يمكن أن يخفف فيزال التركيب. وذلك لأنه إذا كان الدعوى أن الماء جسم بسيط مشروب، فهذا يمكن أن يبطل فيه جملة القول، فيقال: ليس جسماً بسيطاً مشروباً. ويمكن أن يبطل بأن يبطل أنه مشروب. فإنه إذا أبطل أنه مشروب، لم يكن جسماً بسيطاً مشروباً. ثم يكون إبطال أنه مشروب، يكفي أن يورد الحد الأكبر في القياس وهو المشروب وحده، فكيف التحليل أسهل. فنقول: ماء البحر ماء، ثم لا نقول: وماء البحر ليس بجسم بسيط مشروب؛ بل نقول: ليس بمشروب. فهذا وذلك يقوم لك في غرضك مقام المركب. فإن جاءك قياس استثنائي فحله إلى شكله، لا تحله إلى الأشكال الاقترانية. أما المنتجة للاستثنائية؛ فسيمكنك ذلك فيه. وكذلك المنتج للخلف في قياس الخلف، وإما على الطريق المشهور عند الجمهور، وأما الحقيقي المركب من الحمل الشرطي، على ما أوضحناه، وكلاهما اقتراني. ويمكن أن يحلل إلى أشكال. والفرق بين الشرطية في القياس الاستثنائي الذي في الخلف؛ والقياس الاستثنائي الذي ليس في الخلف، أن الشرطية التي في الخلف لا يلتفت فيها إلى تسليم المخاطب، إذا الحق من طرق النقيض، وأما الأخرى فيحتاج أن يقرر المخاطب بها، ويتسلم منه أنه إذا كان المقدم كذا، لزم كذا التالي. والخلفية في كل مادة يكون التالي منها نقيض المقدم في الأكبر، فلا يصرح بها استثناء. وفي غير الخلف لا بد من التصريح في أكثر الأمر. ورما لم يصرح الأمر بالمستثنى هذا. وربما أشكال الأمر في الانحلال، وكان القياس صالحاً لأن ينحل إلى أشكال ثلاثة كالقياس المنتج للجزئي السالب؛ أو إلى الأول والثاني، كالقياس المنتج للكلي السالب؛ أو إلى الأول والثالث، كالمنتج للجزئي الموجب. وربما كان لا ينحل إلى شكل آخر إما أنه لا ينتج مطلوبه إلا في شكل واحد كمنتج الكلي الموجب، وإما لأنه إن أنتج مطلوبه غيره. فإنه لا ينحل إلى ذلك الغير لأن حدده لا تطيع العكس المراد إليه، كرابع الثاني وخامس الثالث، فإنه يجب أن تراعى الحدود وكيف حال الشركة فيها. فإن أشكال فلا تبال بعد أن ينحل.(1/359)
ومما يتعذر معه أمر حل القياس إلى الأشكال، اشتباه السالبة والمعدولة. فإنه إن كانت المقدمتان أو إحداهما معدولة ظنت السالبة فغلظ ذلك. وأكثر ما يغلظ هذا إذا كانت النتيجة موجبة بسيطة لا عدول فيها، وفي مقدمات عدول. فظن سلباً مثلاً أن تكون الصغرى معدولة من جهة المحمول، والكبرى معدول من جهة الموضوع. مثل قولنا: كل ج، هو لا بَ. وما هو لا بَ، فهو اَ. فكل ج اَ. فهذا ما يحير ويغلظ. ولكن يجب أن نراعى حال السلب والعدول، وأن نأخذ المعدول موجباً وحرف السلب جزءاً من الحد الذي يقرن به وخصوصاً من المحمول. وقد علمت الفرق بين الموجب والسالبة والحال في تلازمها وتخلفها. وسيكفيك ما سلف لك من بيان ذلك، ولا تحتاج إلى الإطالة التي تورد في هذا الموضع، لتبين به الفرق بين أن يرد السلب بعد هو وبعد الكلمة الوجودية؛ وبين أن يرد قبل هو الكلمة الوجودية؛ بأن يقال: لا فرق بين أن يرد بعد هو وبعد الكلمة الوجودية، وبين أن يرد بعد معنى آخر. فإنه لو كان قولنا: موجود لا أبيض، مناقضاً لقولنا: موجود أبيض، لكان قولنا: يمكن أن يمشي، مناقضاً لقولنا: يمكن أن لا يمشي، بل يكون قولنا: عود أبيض، مناقضاً قولنا: عود لا أبيض. فسيكون كل شيء إما عود أبيض، وإما عود لا أبيض. فسيكون القمر عوداً لا أبيض، وسيكون كل شيء إما شيئاً يساوي شيئاً، وإما شيئاً غير مساو على المعنى مفاوت. مثلاً: إذا عنينا بغير مساو المفاوت، أو عنينا شيئاً أعم منه مختصاً بالوجود، فستكون النقطة إما مساوياً للخط، وإما مفاوتة، قالوا: إذا غلظ وأخذ المعدول في قوة السلب عرض منه حال، وغلظ عظيم. فليكن اَ، مكون بَ، ليس بمكون دَ، هو غير مكون ج. أبيض دَ ليس بأبيض ب، هو غير أبيض. حتى يكون ب، الشيء الذي لا هو أبيض، ولا هو أيضاً ليس بأبيض. لأن المعدولة غير السالبة. ودَ الشيء الذي ليس بمكون ولا أيضاً هو ليس بمكون. لأن المعدولة غير سالبة. وإذا كان اَ مكوناً، فيكون محمولاً على ج الأبيض حمل الأعم، حتى يكون كل أبيض مكوناً، وليس كل مكون أبيض. ولكن بَ نقيض اَ وهو ليس بمكون، ودَ نقيض ج وهو ليس أبيض، فلأن اَ أعم من ج، فيكون دَ أعم من بَ. وقد علمت هذا مما تكرر عليك. ومما يزيدك في التنبه لذلك بياناً، أن تعلم أنه لما كان يكذب عليه اً، يكذب عليه ج، فيصدق عليه دَ. وكان قد صدق بَ، وكلما صدق بَ، صدق دَ. لكن اَ قد يصدق على ما ليس بج، لأنه أعم منه، فيصدق إذن على بعض ما هو دَ، وحينئذ يكذب بَ، وكلما كان صدق بَ، صدق دَ. فإذن دَ أعم من بَ. فكذلك إذا كان دَ أعم من بَ، فسيكون ج أخص من اَ، وعلى قلب ذلك البيان فليكن دَ الغير مكون، في قوة النقيض ل اَ المكون، فإن كان هو في قوة النقيض، فسيكون على هذا الحكم المذكور في الانعكاس. ولكن بَ كذلك لج، فإن كان دَ في قوة النقيض ل اَ، كان أخص من بَ؛ وكان أيضاً أخص من بَ، إذ كان بَ في قوة دَ من حيث هو غير أبيض. وإذا كان كذلك لم يكن دَ بَ، وليس دَ أيضاً باَ. فيصدق عليه أنه ليس اَ، وقد يصدق عليه أيضاً أنه ليس بَ. فهو إذن قد سلب عنه الطرفان. وما سلب عنه الطرفان فهو في حكم الواسطة. والواسطة، ليس بأن يكون نقيضاً لأحد الطرفين، أولى منه بأن يكون نقيضاً للطرف الآخر، بل هو نقيض لكل طرف. فإذن من حيث دَ هي نقيض اَ، وبَ نقيض لج، فيكون بَ أعم من دَ. ولأن دَ نقيض بَ، ودَ نقيض ج؛ ونقيض بَ، أعم من ج، فسيصير دَ أعم من دَ، وهو هو، هذا خلف.(1/360)
وأما أن نقول: أنني لست أفهم هذا الكلام حق الفهم. وسيكون غيري فهماً أبلغ من فهمي له لأنه إن كان إنما يكون واسطة لأن الطرفين يسلبان عنه. فيكن إذن شيء ليس هو اَ. وأيضاً ذلك الشيء ليس هو بَ. فهذا يكفيني أن أعلم أن اَ دَ ليسا بمتناقضين. ولا أحتاج إلى هذه الهندسة كلها. ومع ذلك فإنه ليس هذا كالواسطة بالحقيقة، فإن الواسطة هو الذي سلب عنه الطرفان جميعاً من حيث الطبيعتين لا من حيث العموم والخصوص. والمعدولة ليست هي السالبة، على الوجه الذي يقال: ليس الإنسان هو الحيوان، إن معنى الحيوان أعم من الإنسان. فأما أن الحيوان ليس محمولاً على الإنسان، فكلا. وههنا فإن الوجبة لا تحمل على المعدولية. وأما السالبة المقابلة لها فإنها تحمل على المعدولية. وإنما تفارقها بحسب العموم. والمتوسط كالمباين، فليس إنما تخالف الطرفين بأن أحد الطرفين أعم، بل بأن الطرف لا يحمل عليها أصلاً. فقد أخذ إذن المعدولية كالواسطة. وإنما المعدولية بالحقيقة، نوع وأمر أخص من الطرف الآخر. ومثل هذه الواسطة ليس يجب أن تكون نسبتها إلى الطرفين نسبة واحدة، بل تكون نسبتها إلى أحدهما نسبة الأمر الذي هو مباين، ونسبته إلى الآخر نسبة الأمر الذي هو أخص. ثم إن الواسطة، وإن كانت مسلوباً عنها الطرفان، فليست تقوم ولا لشيء من الطرفين مقام النقيض؛ فإنه ليس كلما ليس الشيء، فهو نقيضه، وكل من له عقل وإنصاف يعقل أن هذه النسبة غير متشابهة. وليس يجب إذا فرض نقيضاً من جانب، أن يصير نقيضاً من الجانب الآخر؛ بل أن يصير متوسطاً. ثم يشبه أن يكون عند غيري بيان لهذا ليس عندي؛ إلا أنه لم يرد في التفاسير شيء يقنع به. وإنما خبطوا فيه خبط عشواء.
والمقدار الذي عرف في أول العدول والسالب يغني عن تكلف هذه الهندسة، فليقتصر على ذلك، فإن في ذلك بياناً وفرقاناً. واعلم أن أخذ المعدول مكان النقيض يكون بالقوة، كنقل النقيض إلى المضادة. وقد علمت ما في هذا. فإن كانت المادة ضرورية لم يختلف، وإن كانت ممكنة اختلف ولم يصلح.
الفصل العاشر
(ي) فصل
في استقراء النتائج التابعة للمطلوب الأول
بالقياس المؤلف
المقاييس التي تنتج الكلي فإنها تنتج ذلك الكلي والجزئي تحته، وعكسهما المستوى، وعكس النقيض. ومعنى عكس النقيض هو أن تجعل مقابل المحمول، بالإيجاب والسلب موضوعاً، ومقابل الموضوع محمولاً. مثل أنه إذا أنتج: ما ليس بَ، ليس اَ. ولكن ينتج الأول بالذات، وأولاً؛ وهذه بالعرض، وثانياً؛ على سبيل اللزوم. والجزئية الموجبة تجمع إلى ما ينتج عكسه وعكس النقيض. وأما السالبة الجزئية، فليست تستتبع شيئاً لأنها لا تنعكس. وههنا وجوه آخر في اللزوم المستنبطة من قياس واحد، وهو أن القياس الكلي في الشكل الأول إذا قام بالفعل على الحد الأصغر، قام بالقوة على كل ما يشاركه تحت الأوسط، أعني على كل موضوع مثله للأوسط.(1/361)
وأيضاً على كل موضوع للأصغر. فإذا أحضرت هذه الموضوعات في الذهن، انعقدت القياسات أخر في الحقيقة، وكأنها ليست قياسات أخرى، بل كأنها القياس الأول لاتصالها في الذهن به معاً. فالوجه الأول نتيجة مع نتيجة. والوجه الثاني نتيجة تحت نتيجة. وأما الشكل الثاني فإنما تستتبع النتيجة فيه ما تحتها لا ما معها. فإن الأكبر بالفعل غير المعقول على الأوسط، بل عسى بالقوة. وأما القياسات الجزئية فلا تستتبع نتائجها ما تحتها بحكم ذلك القياس، لأن ذلك إنما يمكن حيث تكون النتيجة كلية فيقوم في القياس الذي هو في الحقيقة منتج النتائج المستتبعة مقام الكبرى، فيظن للاتصال الذي فيهما أنهما قد لزما عن قياس واحد. وأما إذا كانت النتيجة جزئية، فلا يمكن ذلك فيها. أعني استتباع ما تحتها. وأما استتباع التي معها فيمكن. وإذا لم تكن النتيجة الجزئية أن تستتبع التي معها فيمكن. وإذا لم تكن النتيجة الجزئية أن تستتبع ما تحتها في الأول، فذلك في الآخرين أحرى. فإنه إذا لكن لا يستتبع النتيجة الكلية ما معها في الآخرين لأن الحكم على الأوسط غير مبرهن، أي غير موضوع بالفعل مبيناً، ويحتاج إلى بيان، فكم بالأحرى أن لا تستتبع الجزئية جزئية معها. ولكن نظن أن النتيجة في الشكل الثالث قد تستتبع ما معها. والصواب أن ذلك ليس مع النتيجة، لأنه ليس الموضوع فيه بالفعل مرتباً تحت الأوسط مع موضوع النتيجة الثانية فيكون معها، وإنما يكون معها إذا كان بالفعل موضوعها وموضوع النتيجة الأولى تحت الأوسط، فيكون الحكم عليها كالواحد؛ والقياس عليها في الظاهر كالواحد. وأما إذا كان يحتاج إلى عكس وبيان، فلا. وبالجملة إنما يكون معها إذا كانت نسبتهما إلى الكبرى واحدة. وإنما يكون تحتها إذا كانت النتيجة تصح أن تصير كبرى. فهذا وجه تقف به على أن القياس كيف ينقلك عن نتيجة إلى لازم آخر.
الفصل الحادي عشر
(ك) فصل
في أن المقدمات الصادقة قد تلزمها النتيجة الصادقة
ولا ينعكس فتكون النتيجة الصادقة لازمة عن مقدمات صادقة
اعلم أنه لما كان القياس كالمقدم للنتيجة،إذا كان يلزم عنه النتيجة،والنتيجة كالتالي،فيجب من وضع المقدم،وهو صديق القياس أي صدق مقدماته وصواب تأليفه،أن تكون النتيجة لا محالة صادقة،وليس يجب برفع المقدم،وهو كذب المقدمات أو فساد التأليف،كذب النتيجة لا محالة؛بل قد يمكن أن تكون من مقدمات كاذبة،نتيجة صادقة،لا أن المقدمات أوجبتها،بل أتفق أن كانت صادقة لذاتها وعارضة لهذه المقدمات.فأما أنه قد يمكن أ، تكون نتيجة صادقة من مقدمات كاذبة،فمثال ذلك أنك أذا قلت:كل ج بَ،ولا شئ من اَبَ،فأنتج:لا شىء من ج اَ،ثم حرفت فكذبت فيهما فقلت:لاشىء من ج بَ،وكل اَبَ،أنتج ذلك:أنه لاشىء من ج اَ.وكذلك أيضا في الموجب أذ أتفق أن كان شيئان متباينين في الجنس،وأورد جنس أحدهما فقيل بالايجاب على الاخر،وقيل ذلك بالايجاب على المباين أنتج الصدق.مثال ذلك قولك:كل أنسان حجر،وكل حجر حيوان،فيلزم منه:أن كل أنسان حيوان.أو قيل:ولا شىء من الحجر بجماد،فأنتج:لاأحد من الناس بجماد.فأما أن هذا المقول الذي قيل قياس،فلانه قول أذا وضع ما فيه،أي سلم،لزم عنه قول أخر،أضطرارا لذاته لا بالعرض.وهذا القول الاخر هو هذه النتيجة الصادقة.
فلنبدأ أولا بالدلالة على أصناف هذا النحو من الانتاج في الشكل الاول.فنقول:أنه لايخلو اما أن يكون الكذب في المقدمتين جميعا أو في احديهما.فان كان الكذب في الكبرى،وكان كذبا في الكل،أي ومع ذلك في كل وقت،حتى يكون كاذبا غاية،وكان القياس على مطلوب كلي،فيمتنع أن ينتج عنه الصدق البتة.والسبب فيه أن ضد تلك المقدمة يكون صادقا.واذا أضيف الى الصغرى،أنتج ضد النتيجة التي ينتجها كاذب الكبرى في الكل ويكون ذلك الضد صادقا.فكيف يكون هذا صادقا.فأما ان كانت كاذبة بالجزء،فأنه قد تكون النتيجة فصادقة.فأنه يمكن أن يكون الحد ألاكبر في كل ألاصغر،ومع ذلك ليس في كل الأوسط،بل في بعضه،وذلك حبث يكون ألأوسط أعم من كليهما.فصدق أن كل ج بَ،ويكون كاذبا بالبعض أن كل بَ اَ،ويصدق كل ج اَ.مثاله: كل قفنص أبيض وكل أبيض حي.(1/362)
وأما السلب فأن تكون نسبة الأوسط هذهزلكن ألاكبر قسيم ألاصغر تحت عام فهو غير موجود في شىء من الاصغر.ولكن بدل الققنس الثلج.فأما ان كانتالصغرى كاذبة في الكل،فيمكن أن ينتج الصدق.مثل أن يكون ألاكبر جنسا،وألاوسط وألاصغر نوعين متفقين في المرتبة تحته.كقولنا:كل انسان فرس،وكل فرس حي.وللسلب بدل الحي جنس غريب عن كليهما كما نجعل البدل الفرس وألانسان،الموسيقى والطب.وتترك الحي بحاله.وكذلك ان كانت الصغرى كاذبة في الجزء، حتى يكون الاوسط نوعا مثلا،ويكون الاصغر فصلا ما أعم من النوع،أو جنسا أعلى من الاصغر،كقولنا:كل مشاء انسان،وكل انسان حيوان.وللسلب جنس غريب لمثل ذلك كما نقول:ان كل فكري عقل،وهذا كاذب في البعض،ولاشىء مما هو عقل بحيوان.فان كان القياس على جزئى فان الكبرى الكاذبة في الكل تنتج.مثاله:بعض الابيض ثلج،وكل ثلج حي،فبعض الابيض حي.ونسبة ما بين الحدود هي ان الأصغر أعلى من الأوسط.ويقال على كله ولكنه يقال على بعض الأكبر.مثاله في السلب:بعض الأبيض إنسان،ولا شئ من الناس بحيوان.والاوسط كماكان،لكنه يقال على بعض الأكبر.والأكبر يقال على كله.وكذلك ان كانت جزئية الكذب،فانه يجوز ان يكون الاكبر في بعض من الاوسط،والاصغر والاوسط في بعض الاصغر،فتوجب الكبرى كلية أو تسلب كلية.فاما القياسان المنتجان للجزئى فقد ينتجانه،والكبرى كاذبة بالكل،او بالجزء،او الصغرى،او كلاهما كاذبان.فانه يجوزان يكون الاكبر كالحي غير موجود في شيء من الاوسط كالثلج،والثلج موجود في بعض الابيض، والاكبر موجود في بعض الاصغر.فتوجد الكبرى موجبة.وللسلب،الاكبر موجود في كل الاوسط،كالحيللانسان،وفي بعض الاصغر كالابيض دون بعض،فتوجد الكبرى سالبة. وكذلك الحال ان اخذت الكبرى كاذبة في الجزء،فانه يجوز ان يكون الاكبر في بعض الاوسط،كالحي في بعض الجسد، والاوسط في بعض الاصغر،فتؤخذ الكبرى موجبة كلية أو سالبة كلية.فان جعلتن الصغرى هي الكاذبة في الكل،فان يجوز ان يكون الاكبر في كل الاوسط،كالحي في كل فقنس،وفي بعض الاصغر،كالحي في بعض الاسود،ويكون الاوسط ليس في شيء من الاصغر،ويوجد في بعض.وللسلب الاكبر جنس غريب من الاوسط،كالحي الذي هو غريب من العدد.ثم يكون الاوسط مسلوبا عن عرض يوجد فيه الاكبر،كالابيض،فيكون لاشي من الابيض بعدد،فيؤخذ كل ابيض عددا.واما ان جعلت الصغرى كاذبة في البعض،فلا يجب أن يكون كذبا اذا اخذت جزئية.واما اذا اخذت المقدمتان جميعا كاذبتين،اما الكبرى ففي البعض،وأما الصغرى ففي الكل،فيجوز ان تكون النتيجة صدقا،وذلك اذا كان الاكبر كالحي موجودا في بعض الاوسط كالابيض،وفي بعض الاصغر كالاسود،والابيض لاشىء من الاسود.وأخذ بعض الاسود أبيض،وكل ابيض حي،أو ليس شىء من الابيض حيا.فينتج الصدق.وقد يجوز ان تكون النتيجة صدقا والمقدمتان جميعا كاذبتين في الكل،بان يكون الاكبر كالحي مسلوبا عن جميع الاوسط.وهو نوع غريب كالعدد وموجود في بعض الاصغر،وهو كعرض لأنواعه كالابيض.ثم يكون الاوسط مسلوبا عن كل الابيض، فيؤخذ بعض ج بَ، وكل بَ اَ. وللسلب يكون الاوسط نوعا تحت الجنس، مثل القنفس تحت الحي. ويكون الاصغر شيئا من الاعراض التي يوجد فيها الاكبر كالأسود، لكن الاوسط لايوجد فيها البته،فيقال:بعض ج بَ،ولاشيء من بَ اَ.وأما في الشكل الثاني فقد ينتج الصدق من الكذب على جميع الاقسام، وفي الكليات والجزئيات.فأن حدود الضرب الاول أذا كانت صادقة وأنتجت:لاشيء من ج اَ، فجعلت الموجبة سالبة،والسالبة موجبة، كانتا كاذبتين في الكل، وانتجتا تلك النتيجة بعينها في الضرب الثاني من. وكذلك حدود الضرب الثاني ينتج مثل ذلك من الضرب الاول منه. وكذلك ان كانت احداهما كاذبة بان يكون الاوسط موجودا في الطرفين وليس أحد الطرفين موجودا في الاخر، فجعل موجودا في كل أحداهما ولافي شيء من الاخر، فأن النتيجة تكون:أن لاشيء من الاكبر في الاصغر؛وسواء جعلت السالبة الكاذبة صغرى أو كبرى. وكذلك أن كان الاوسط شيئا لا يوجد في شيء من الطرفين، ولا يوجد احدهما في شيء من الاخر،فأخذ موجودا في أيهما كان،فيكون الايجاب كاذبا،وتكون تارة صغرى،وتارة كبرى.وكذلك أن كانت الكاذبة كاذبة بالجزئيات،يكون الاوسط في بعض طرف،وفي كل الاخر،وهما متباينان، وأخذ لا في شيء من ذلك، فكانت السالبة كاذبة؛لكون الاوسط في بعض طرف، وقد(1/363)
أخذت لا في شيء من ذلك الطرف.وكذلك ان كان الاوسط موجودا في بعض كل من الاصغر والاكبر،ولا واحد منهما في الآخر،كالحار في الاسود والابيض،فأخذ في كل أيهما شئت، وفي لا شيء من الاخر، فتكون القضيتان كاذبتين في البعض، والنتيجة صادقة، ان كان القياس على جزئي. وكذلك فانه يجوز ان يكون الاوسط كالحيوان،مما يوجد في الكل الاكبر وفي بعض الاصغر، والاكبر ليس في كل الاصغر، الققنس في المتحرك، فأن اخذت معه الكبرى سالبة كلية انتج الصدق. او ان يكون الاوسط لا في شيء من الاكبر،ولا في كل الاصغر،والاكبر ولا في كل الاصغر، فتوجد الكبرى كاذبة موجبة وكذلك ان كانت الكبرى وحدها صادقة، بأن يكون الاوسط غير موجود في شيء من الطرفين، والاكبر ليس الا في بعض الاصغر، فتوجد الصغرى جزئية موجبة أو تكون موجودة في جميع كليهما، وهما على ما قيل، فتوجد الصغرى جزئية سالبة. وعلى هذا القياس فتأمل. لا في شيء من ذلك الطرف.وكذلك ان كان الاوسط موجودا في بعض كل من الاصغر والاكبر،ولا واحد منهما في الآخر،كالحار في الاسود والابيض،فأخذ في كل أيهما شئت، وفي لا شيء من الاخر، فتكون القضيتان كاذبتين في البعض، والنتيجة صادقة، ان كان القياس على جزئي. وكذلك فانه يجوز ان يكون الاوسط كالحيوان،مما يوجد في الكل الاكبر وفي بعض الاصغر، والاكبر ليس في كل الاصغر، الققنس في المتحرك، فأن اخذت معه الكبرى سالبة كلية انتج الصدق. او ان يكون الاوسط لا في شيء من الاكبر،ولا في كل الاصغر،والاكبر ولا في كل الاصغر، فتوجد الكبرى كاذبة موجبة وكذلك ان كانت الكبرى وحدها صادقة، بأن يكون الاوسط غير موجود في شيء من الطرفين، والاكبر ليس الا في بعض الاصغر، فتوجد الصغرى جزئية موجبة أو تكون موجودة في جميع كليهما، وهما على ما قيل، فتوجد الصغرى جزئية سالبة. وعلى هذا القياس فتأمل.
وأما في الشكل الثالث فقد ينتج الصدق من الكذب كيف اتفق. أما عن الكاذبتين في الكل، فأن يكون الاوسط مباينا للطرفين، وأكبرهما في بعض الاصغر، فتوجد المقدمتان موجبتين وذلك في انتاج الايجاب. او تكون المباينة مع الاصغر وحده، فتوجد معه بايجاب كاذب، ومع الاكبر تسبب كاذب،وذلك في انتاج السلب. واما الكاذبتان في الجزء، فأن يكون الطرفان، كل واحد منهما،يوجد في بعض الاوسط وحده، والاكبر في بعض الاصغر فيوجد ان كليتين بالايجاب،او تكون الكبرى سالبة كلية، والاصغرى كلية موجبة. وقد يجوز أن توجد الكبرى وحدها موجبة كاذبة، بأن يكون الاكبر موجودا في بعض الاصغر، وغير موجود في شيء من الوسط، ولكن الاصغر موجود في بعض الاوسط، فيكذب،فيجعل الاكبر في كل الاوسط. وللسلب ان يكون الاكبر في مثل ذلك موجودا في كل الاوسط، فيوجد ولا في شيء منه. وقد تنتج والاكبى موجبة كاذبة في كل، كقولك:كل فقنس حي، وكل ققنس أسود، ويعكس هذا الترتيب الصغرى كاذبة في الكل ايضا، كقولك: كل فقنس حجر، ول فقنس باسود. وقد يمكن أ، يكون الكذب في البعض، أما للموجبة والكبرى كاذبة، فكقولك:كل أنسان ذو رجلين، وكل أنسان فاضل. وللصغرى هذه الحدود نفسها، ويعكس الترتيب. فأما والكبرى سالبة وكاذبة في البعض، فكقولك:كل انسان ذو رجلين،ولا انسان بفاضل. فأن كانت الصغرى كاذبة،فكقولك:كل انسان فاضل،و لا انسان بفرس. وأما الجزئيات فيجب ان توجد حدودها هذه الحدود،على أن يكون الجزئي الكاذب كاذبا في الكل. فأن لايتصور جزئي غير كاذب في الجزء. فيعلم ان صدق القياس الذي هو كالمقدم، يوجب صدق النتيجة الذي هو التالي. وأما كذب القياس الذي هو رفع المقدم، فلاينتج كذب التالي الذي هو رفع التالي.فأما كيفية هذا التقديم والتلو،فيجب ان تعلمه مما قد علمت، و لا أطيل عليك القول فيه.
الفصل الثاني عشر
(ل) فصل
في قياس الدور(1/364)
أنه قد يقع في القياس عرضان، من جهة حال نسبة المقدمات الى النتيجة، أحدهما بيان الدور، والآخر عكس القياس، على ما سنبينهما. فهما، من جهة ما هما عرضان للقياس بما هو قياس، فيجب أن ينظر فيهما في علم القياس. وأما الانتفاع بهما، فأنما يكون في الامتحان والمغالطة أو يكون لأجل التحرز، وقد يدخل من وجه ما في العلوم وفي الجدل. وكل واحد من بيان الدور، ومن عكس القياس عارض للقياس، وموضوعها القياس. فأن الدائر والمعكوس قياس.وذلك لان القياس لم يكن قياسا، لان مقدماته حقه او مسلمة او مشهورة او غير ذلك، بل أنما كان قياسا لان مقدماته اذا وضعت وسلمت لزم عنها غيرها. فأما بيان الدور فأن يكون معنا قياس على مطلوب، ثم يجعل المطلوب مع عكس أحدى المقدمتين قياسا على إنتاج المقدمة الاخرى، فيكون المطلوب تارة مقدمة، والمقدمة تارة مطلوبا. فتارة توجد تلك المقدمة في بيان المطلوب، وتارة يؤخذ المطلوب في بيانهما. وبالحقيقة المطلوب والمقدمة يكون واحدا. وهذا قد يستعمل بان يتلطف فيغير المطلوب في اللفظ عن صورته وهو مطلوب، ليوهم شيء شيئا اخر وربما أستعمل هذا في العلوم بأن يكون معنا مقدمتان فتنتجان شيئا على سبيل برهان " أن " وبيان العلة من المعلول، وذلك على طريق " لا أن " ثم يقلب فيبان المعلول من العلة على طريق " اللم " على ماأستعملة في الفن الذي يلي هذا الفن.وأما عكس القياس، فهو أن ينتج من مقابل النتيجة مع احدى المقدمتين مقابل المقدمة الاخرى.وأكثر نفع هذا في أنكار أحدى المقدمتين من قياس يوجب شيئا، فيتولى أبطاله بأن يحتال ويتلطف في تسليمه مقابل النتيجة من حيث لا يشعر به بتغيير لفظ أو حيلة من الحيل، فيقرن بمقدمة وينتج صخة مقابل المقدمة الاخرى، فيمنع يذلك القياس على المطلوب.رقد ينتفع به كما ستعلم في رد الخلف الى المستقيم.وأما في الجدل فانه ربما كان مقابل المطلوب مشهورا في نفسه. أذا المتقابلان،كما ستعلم، كثيرا مما يكونان مشهورين. والجدلى من حق صناعته أن ينصر طرفي النقيض معا في وقتين، وان يستعمل طرف النقيض المشهورين في وقتين مختلفين. وربما حاول أن يكون نصر أحدهما في وقت بقياس، ثم يتلطف يتسلم مقابله المشهور،فيمنع به مقدمة في قياس يؤلف على أبطاله، على أن هذا يكون ضربا من المغالطة في الجدل. فانه عندما ينصر أحد المقابلين، ليس له ان ياخذ مقابله حقا على سبيل المشهور.(1/365)
فلنبدأ بيان الدور، فبيان الدور أن تؤخذ النتيجة وعكس أحدى المقدمتين، فتنتج المقدمة الثانية. فأن أدخل حد غريب، لم يكن بيان الدور، وان أنتج أيضاً شىْ غريب، لم يكن بيان الدور؛بل بيان الدور أن يبين الشىء بما بين به، مثل قولك:كل جَ ب َ، وكل بَ اَ، فينتج: وكل جَ اَ.فان أخذت كل جَ اَ،وكل اَبَ، أنتجت: كل جَ بَ.وان أخذت كل بَ جَ وكل جَ اَ، أنتجت كل بَ اَ.ويحتاج ان تكون المقدمة التي تضاف الى النتيجة منعكسة على كميتها،مثل: كل جَ بَ، وكل بَ جَ.فهذا العكس في الموجبة ظاهر.وأما في السالبة،فان العكس المحتاج اليه في الدور، انما يكون حيث يكون المسلوب خاص السلبعن الموضوع؛ فيكون موجود في كل ماليس موصوفا بالموضوع.كما ان العكس في الايجاب،انما يكون حيث يكون. الأيجاب خاصا بالموضوع؛ فيكون مسلوبا عن كل ماليس موصوفا بالموضوع.ومثل هذه السالبة،سالبة ترجع الى العدول الموجب،فتنعكس بالايجاب.ومثال هذا السلوك قولك:لاشىءمن الجوهر بعرض، فينعكس العكس الذي يخص هذا الموضوع فيكون ماليس بعرض فهو جوهر،أولاشىء مما هو اله بمتعلق الوجود بالغير،فعكسه:ماليس بمتعلق الوجود بالغير فهو اله.وبالجملة هذا هو السالب الذي إذا جعل حرف السلب منه جزءا من المحمول، ثم عكس بأن يجعل جزءا من الموضوع،صح الطرف الاخر على كل ذلك الموضوع. ونقول:اذا كان لاشىء من بَ اَ،وانعكس لاشىء من اَ بَ،على ان كل ماليس اَ فهو بَ، فيلزم أن كل ماليس بَ فهو اَ؛والا فليكن بعض ماليس بَ ليس اَ،وكل ماليس اَ فهو بَ، يلزم ان بعض ماليس بَ فهو بَ. هذا خلف.فاذن اذا وجد هذا الازم يلزم عكس مقدمة، فهذا تلزمه المقدمة ايضا. واما الجزئية السالبة كقولنا ليس: بعض ج اَ،فأنما يعكس العكس المطلوب ههنا ان كل ماليس بعضه اَ، فهو ج.فان كانت احدى المقدمتين منعكسة دون الاخرى كانت هي التي تنضم الى النتيجة في انتاج الاخرى،ولا يتكافأ.فالضرب الاول من الشكل الاول اية مقدمتين انعكست، انتجت مع النتيجه المقدمة الاخرى.وان كانت المنعكسة الكبرى،بقيت كبرى في القياس الثاني.أو كانت الصغرى، بقيت الصغرى في القياس الثاني.وأي مقدمة اخذت مع عكس النتيجة، أنتجت عكس الاخرى.وأن عكستا جميعا، أنتجتا عكس النتيجة.وان كانت الكبرى سالبة كقولنا: لاشىء من بَ اَ، وكانت الكبرى تنعكس العكس الذي يخص السالب في هذا الموضع، وهو ان كل ماليس اَ فهو بَ. فناخذ النتيجة محولة من السلب الكلي الى العدول، فنقول: كل ماهو ج،فليس اَ، وكل ماليس اَ فهو بَ، ينتج كل:ج بَ. وان قوما من المفسرين يضنون انه ينبغي ان يقال: أن ج شىء لايقال اَ على شىء منه. وكلما لايقال اَ على شىء منه فأن بَ يقال على كله.فينتيجون:أن ج شىء يقال اَ على كله.فيجعلون السور غير السور،بلجزءا من المحمول. ويجعلون النتيجة في ظاهر حاليها مهملة.ويجعلون النتيجة بالجملة ليست احدى المقدمتين فيكونون قد غيروا النتيجة الاولى والمقدمة المضافة والنتيجة الثانية عن الوجه الطبيعي. ليخالفوا نسق كلام من يفسرون كلامه.وأما انتاج الكبرى فسهل، بأن تعكس الصغرى فيكون كل بَ ج،ولاشىء من ج اَ. وأما القياسات المنتجة الجزئى فبين ان الكبرى لايمكن ان تنتج من النتيجة وعكس الصغرى. وأما الصغرى فقد يمكن في الموجبتين هكذا:بعض ج اَ، وكل اَ بَ، فبعض ج بَ.هذا في النتيجة الموجبة. وأما في السالبة فلا يمكن، لأنا اذا عكسنا الكبرى صارت النتيجة صغرى سالبة،فلم ينجح. وان عكسناالصغرى صارت النتيجة كبرى جزئية،فلم تنجح.وأما في الشكل الثاني فلا يمكن أن تنتج الموجبة دورا بنحو انتاج السالبة. لان الموجبة لاتنتج من موجبة وسالبة. وأما السالبة فيمكن ان تنتج من ذلك، لأن النتيجة السالبة مع عكس الصغرى تنتج من الشكل الاول عكس الكبرى السالبة،ثم يعكس. فان كان من شرائط البيان الدورى أن تكون النتيجة تؤخذ وتعكس مقدمة فقط،ولا عكس بعد ذلك،لم يكن هذا بيان الدور. فان أخذت النتيجة السالبة مع عكس الموجبة الكبرى الكلية انتجت الصغرى السالبة،وصارت النتيجة صغرى سالبة. وقد تنتج الصغرى السالبة من الشكل الثاني. وأما اذا اريد انتاج الموجبة،فيحتاج الى العكس الذي يخص السالبة مثاله:كل ج اَ، ولا شىء من بَ اَ، فلا شىء من ج بَ.فنقول:كل ماهو ج،فليس بَ.وكل ماليس بَ،فهو اَ.فكل ج اَ.فهكذا تبين بأخذ لازم النتيجة ولازم(1/366)
الكبرى من غير عكس.فان لم يجعل هذا بيان الدور لأنه لم تنعكس فيها مقدمة، فله ذلك. وان جعل بيان الدور يتم بما يلزم المقدمات من العكس، وما يجري مجرى العكس من اللوازم التي حكمها حكم الملزوم، كان هذا بيان الدور.وأما ان كانت الموجبة هي الكبرى مثاله:لاشىء من ج بَ، وكل اَ بَ. فتحتاج ان تعكس النتيجة السالبة العكس الذي يخص هذا الموضع، وهو انه كل ما هو اَ، ليس ج، وكل ماليس ج، فهو بَ، فكل اَ بَ.فاما ان لايكون هذا بيان الدور أو يكون على وجه اخر.فيفارق هذا الشكل الشكل الاول من هذه الجهة،وهو انه يحتاج فيه في انتاج السلب الى احد الامرين، أما ان يؤخذ لازما السالبتين، أو يؤخذ عكس النتيجة ولازم المقدمة. ومن غير هذه الجهة لايمكن. فان كانت المقدمات هكذا امكن بيان الدور. وأما ان كانت الصغرى جزئية، فلا يمكن ان يتبين منها ومن النتيجة الكبرى البتة. ولكن ان كانت سالبة أمكن من النتيجة وعكس الكبرى أن يتبين من الشكل الثاني.وان كانت موجبة لم يكن على النحو البسيط لانه لاقياس من سالبتين. ولاكن يبين على النحو الذي قلنا لاغيره. وأما الشكل الثالث، فلا يمكن ان تبين فيها كلية البتة، لان النتيجة الجزئية مع عكس مقدمة كيف كانت،لاتنتج الا جزئية. وأما الجزئية، فأن كانت كبرى، والنتيجة موجبة، واضفنا عكس الصغرى اليها كليا، انتج الكبرى الجزئية. لانا اذا عكسنا، فقلنا: كل ج بَ، و ج الاصغر، وكان انتج بعض: ج اَ، انتج: بعض بَ اَ، وهو الكبرى. وأن كانت صغرى لم يكن الا بعكسين. لان اذا اخذنا ان بعض ج اَ، وهو النتيجة وأضفنا إليها عكس الكبرى وهو كل اَ بَ أنتج لا المطلوب ولكن عكسه ولم يكن كلامنا في ذلك.ولكن إذ جوزوا هذا في الثاني فما بالهم لا يجوزونه في الثالث ؟ وان اختلط موجب وسالب والموجبة كلية أمكن انتاج السالبة.لأنك تقول: ليس بعض ج اَ وهو النتيجة وتضيف اليها عكس الصغرى وهو كل جَ بَ ينتج:ليس بعض بَ اَ َ.فإن كانت الكلية هي السالبة لم يكن أن تنتج الصغرى الجزئية الموجبة من سالبتين إلا أن تعكس السالبة على النحو المذكور. فنقول: بعض ج هو ليس باَ. وكل ما ليس كله أو بعضه اَ فهو بَ.فنقول: بعض ج بَثم نعكس.فقد بان إن البيان الدوري في الشكل الأول للموجبات لا يخرج من الشكل الأول حقيقة ولا خيالا وأما للسوالب فقد يكون البيان من الشكل الأول ولكنه يتخيل كأنه من الثالث.لأنك تقلب المقدمة السالبة فتقول: كل ما لا يؤخذ فيه اَ يؤخذ فيه بَ. فجعلت اَ بَ محمولين معا أما الشكل الثاني فالبيان فيه أما بالشكل الأول عند التحصيل وإن كان في الشكل الثاني وإما على الوجه الذي يحيل الشكل الثالث.وأما في الشكل الثالث فإنه يمكن أن يكون البيان الحقيقي كله منه. وأما المخيل فكان في غيره منه فكيف فيه ؟ وما كان من الشكلين الآخرين إنما يبين دوره بالرجوع إلى الأول فيحتاج إلى عكس النتيجة.فكون بيان الدور فيه إما ناقصا وإما معدوما إذا جعل بيان الدور ما يتم النتيجة وعكس مقدمة. من غير عكس.فان لم يجعل هذا بيان الدور لأنه لم تنعكس فيها مقدمة، فله ذلك. وان جعل بيان الدور يتم بما يلزم المقدمات من العكس، وما يجري مجرى العكس من اللوازم التي حكمها حكم الملزوم، كان هذا بيان الدور.وأما ان كانت الموجبة هي الكبرى مثاله:لاشىء من ج بَ، وكل اَ بَ. فتحتاج ان تعكس النتيجة السالبة العكس الذي يخص هذا الموضع، وهو انه كل ما هو اَ، ليس ج، وكل ماليس ج، فهو بَ، فكل اَ بَ.فاما ان لايكون هذا بيان الدور أو يكون على وجه اخر.فيفارق هذا الشكل الشكل الاول من هذه الجهة،وهو انه يحتاج فيه في انتاج السلب الى احد الامرين، أما ان يؤخذ لازما السالبتين، أو يؤخذ عكس النتيجة ولازم المقدمة. ومن غير هذه الجهة لايمكن. فان كانت المقدمات هكذا امكن بيان الدور. وأما ان كانت الصغرى جزئية، فلا يمكن ان يتبين منها ومن النتيجة الكبرى البتة. ولكن ان كانت سالبة أمكن من النتيجة وعكس الكبرى أن يتبين من الشكل الثاني.وان كانت موجبة لم يكن على النحو البسيط لانه لاقياس من سالبتين. ولاكن يبين على النحو الذي قلنا لاغيره. وأما الشكل الثالث، فلا يمكن ان تبين فيها كلية البتة، لان النتيجة الجزئية مع عكس مقدمة كيف كانت،لاتنتج الا جزئية. وأما الجزئية، فأن كانت كبرى، والنتيجة موجبة، واضفنا عكس الصغرى اليها(1/367)
كليا، انتج الكبرى الجزئية. لانا اذا عكسنا، فقلنا: كل ج بَ، و ج الاصغر، وكان انتج بعض: ج اَ، انتج: بعض بَ اَ، وهو الكبرى. وأن كانت صغرى لم يكن الا بعكسين. لان اذا اخذنا ان بعض ج اَ، وهو النتيجة وأضفنا إليها عكس الكبرى وهو كل اَ بَ أنتج لا المطلوب ولكن عكسه ولم يكن كلامنا في ذلك.ولكن إذ جوزوا هذا في الثاني فما بالهم لا يجوزونه في الثالث ؟ وان اختلط موجب وسالب والموجبة كلية أمكن انتاج السالبة.لأنك تقول: ليس بعض ج اَ وهو النتيجة وتضيف اليها عكس الصغرى وهو كل جَ بَ ينتج:ليس بعض بَ اَ َ.فإن كانت الكلية هي السالبة لم يكن أن تنتج الصغرى الجزئية الموجبة من سالبتين إلا أن تعكس السالبة على النحو المذكور. فنقول: بعض ج هو ليس باَ. وكل ما ليس كله أو بعضه اَ فهو بَ.فنقول: بعض ج بَثم نعكس.فقد بان إن البيان الدوري في الشكل الأول للموجبات لا يخرج من الشكل الأول حقيقة ولا خيالا وأما للسوالب فقد يكون البيان من الشكل الأول ولكنه يتخيل كأنه من الثالث.لأنك تقلب المقدمة السالبة فتقول: كل ما لا يؤخذ فيه اَ يؤخذ فيه بَ. فجعلت اَ بَ محمولين معا أما الشكل الثاني فالبيان فيه أما بالشكل الأول عند التحصيل وإن كان في الشكل الثاني وإما على الوجه الذي يحيل الشكل الثالث.وأما في الشكل الثالث فإنه يمكن أن يكون البيان الحقيقي كله منه. وأما المخيل فكان في غيره منه فكيف فيه ؟ وما كان من الشكلين الآخرين إنما يبين دوره بالرجوع إلى الأول فيحتاج إلى عكس النتيجة.فكون بيان الدور فيه إما ناقصا وإما معدوما إذا جعل بيان الدور ما يتم النتيجة وعكس مقدمة.كليا، انتج الكبرى الجزئية. لانا اذا عكسنا، فقلنا: كل ج بَ، و ج الاصغر، وكان انتج بعض: ج اَ، انتج: بعض بَ اَ، وهو الكبرى. وأن كانت صغرى لم يكن الا بعكسين. لان اذا اخذنا ان بعض ج اَ، وهو النتيجة وأضفنا إليها عكس الكبرى وهو كل اَ بَ أنتج لا المطلوب ولكن عكسه ولم يكن كلامنا في ذلك.ولكن إذ جوزوا هذا في الثاني فما بالهم لا يجوزونه في الثالث ؟ وان اختلط موجب وسالب والموجبة كلية أمكن انتاج السالبة.لأنك تقول: ليس بعض ج اَ وهو النتيجة وتضيف اليها عكس الصغرى وهو كل جَ بَ ينتج:ليس بعض بَ اَ َ.فإن كانت الكلية هي السالبة لم يكن أن تنتج الصغرى الجزئية الموجبة من سالبتين إلا أن تعكس السالبة على النحو المذكور. فنقول: بعض ج هو ليس باَ. وكل ما ليس كله أو بعضه اَ فهو بَ.فنقول: بعض ج بَثم نعكس.فقد بان إن البيان الدوري في الشكل الأول للموجبات لا يخرج من الشكل الأول حقيقة ولا خيالا وأما للسوالب فقد يكون البيان من الشكل الأول ولكنه يتخيل كأنه من الثالث.لأنك تقلب المقدمة السالبة فتقول: كل ما لا يؤخذ فيه اَ يؤخذ فيه بَ. فجعلت اَ بَ محمولين معا أما الشكل الثاني فالبيان فيه أما بالشكل الأول عند التحصيل وإن كان في الشكل الثاني وإما على الوجه الذي يحيل الشكل الثالث.وأما في الشكل الثالث فإنه يمكن أن يكون البيان الحقيقي كله منه. وأما المخيل فكان في غيره منه فكيف فيه ؟ وما كان من الشكلين الآخرين إنما يبين دوره بالرجوع إلى الأول فيحتاج إلى عكس النتيجة.فكون بيان الدور فيه إما ناقصا وإما معدوما إذا جعل بيان الدور ما يتم النتيجة وعكس مقدمة.
الفصل الثالث عشر
(م) فصل
في عكس القياس
قد علمت ان عكس القياس هو أن يؤخذ مقابل النتيجة، إما نقيضها، وإما ضدها؛ويضاف الى احدى المقدمتين، وينتج مقابل المقدمة الاخرى. ومن الضرورة أن مقابل النتيجة إذا أخذ مع احدى المقدمتين أبطل الاخرى؛ والا فإن كانتا ثابتتين فالنتيجة لم تبطل، إلا أن أخذ المقابل بالتناقض والتضاد، مختلف. فليعتبر ذلك من الشكل الاول، ولنضع أن: كل ج بَ، وكل بَ آ، فكل ج آ. فإن قلنا: لاشئ من ج آ، وكان كل بَ آ، انتج لاشئ من ج بَ. وكان كل ج بَ. فأخذ الضد، أنتج ضد الصغرى. وإن أاخذنا النقيض، أنتج النقيض للصغرى. وكله من الشكل الثاني. وأما إن أضفنا اليه الصغرى فقلنا: لاشئ من ج آ، وكل ج بَ، انتج من الثالث: أنه ليس كل بَ آ. فكذلك لو قلنا: لاكل ج آ. فاذن لاسبيل الى انتاج مضاد الكبرى، لآن الثالث لاينتج عاما، ولابد من ان يكون الشكل هو الثالث.(1/368)
ولنضع أن كل ج بَ، ولا شئ من بَ آ، فلا شئ من ج آ. وناخذ مضاده وهو ان كل ج آ. وكان لاشئ من بَ آ. أنتج ضد الصغرى. ونأخذ نقيضه، فيتنج نقيض الصغرى. وذانك من الثاني. فإن اخذنا مع النتيجة المعكوسة الى التضاد او التناقض، الصغرى. أنتج نقيض الكبرى لاغير. وذلك من الشكل الثالث. ولنضع الصغرى جزئية، فحينئذ إن عكست النتيجة الى التناقض بطلتا، معا والى التضاد لم يبطل شئ. فلنضع أن بعض ج بَ، وكل بَ آ، فبعض ج آ. فتعكس النتيجة الى السلب المناقض، فنقول: ليس شئ من ج آ، وكل بَ آ، ينتج نقيض الصغرى. أو نضيف اليها الصغرى، فينتج: ليس كل بَ آ. فان اخذنا بالمضادة، وهو ان ليس بعض ج آ، واضفنا اليها الكبرى، وهو كل بَ آ، أنتج ليس بعض ج بَ؛ وهذا لايبطل أن بعض ج بَ؛ أو الصغرى فقلنا: ليس بعض ج آ، وبعض ج بَ كانتا جزئيتين، فولم ينتج التأليف من جزئيتين. ولنضع ايضاً بعض ج بَ، ولاشئ من بَ آ، لا كل ج آ. ونأخذ نقيضه، فنقول: كل ج آ، وبعض ج بَ، فبعض ب آ. وهو نقيض الكبرى. أو نضيف اليها الكبرى، فيكون كل ج آ، ولاشئ من بَ آ، وينتج ليس بعض ج بَ، وهذا لايبطل قولنا: بعض ج بَ، واذا اضفنا الى الصغرا لم ينتج ايضا.
واما في الشكل الثاني، فانه لايمكن ان يؤخذ مقابل النتيجة مع الصغرى، فيبطل الكبرى بأن ينتج ضده، بل بأن ينتج نقيضه. لان القياس حينئذ ينعقد من الشكل الثالث، وذلك لاينتج الكلي. وأما مع الكبرى، فإن عكستالنتيجة الى المضادة، أنتجت ضد الصغرى؛ أو بالتناقض، أنتجت نقيض الصغرى؛ لأن القياس يكون في الشكل الاول، ولايمنع ذلك هناك. فلتكن الكبرى موجبة مثل أن لاشئ من ج آ، وكل بَ آ. فإن اخذنا كل ج بَ، أو بعض ج بَ، وقلنا: ولاشئ من ج آ، أنتج في الحالتين: انه لاكل بَ آ. فان اخذنا كل ج بَ، وكل بَ آ، انتج كل ج آ. فان اخذنا بعض ج بَ، وكل بَ آ، انتج بعض ج آ. ثم فلتكن الكبرى سالبة، مثل أن نقول: كل ج آ، ولاشئ من بَ آ؛ ولناخذ اما كل ج بَ، او بعض ج بَ؛ وقد قلنا: كل ج آ؛ انتج في الحالتين: بعض بَ آ، وهو نقيض الكبرى، لاضدها. وإن اخذنا مع عكس النتيجة، الكبرى، فقلنا: كل ج بَ، ولا شئ من بَ آ، انتج: لاشئ من ج آ. او قلنا: بعض ج بَ، ولاشئ من بَ آ، انتج بعض ج ليس آ. فهذا هو تفصيل ذلك. فان كانت الصغرى جزئية فلا يبطل اخذ ضد النتيجة شيئاً، فانه يكون جزئياً موجبا، ولاينتج مع الصغرى، وينتج مع الكبرى ضد الصغرى وهي جزئية، والجزئية لاتبطل الجزئية. وأما إن عكست النتيجة الى التناقض أبطلت كليهما بالتناقض. فليوضع بعض ج آ، ولاشئ من بَ آ، فليس بعض ج بَ. فان قلنا: بعض ج بَ، لم ينتج مع الصغرى، وأما مع الكبرى فينتج: ليس بعض ج آ. ولايبطل ذلك قولنا: بعض ج آ، فان قلنا: كل ج بَ، وقلنا: بعض ج آ، انتج بعض بَ آ؛ وهو نقيض الكبرى. او قلنا: كل ج بَ، ولاشئ من بَ آ، انتج: لاشئ من ج بَ؛ وهو نقيض الصغرى. ولنضع: لا كل ج آ، وكل بَ آ، فان اخذنا ضد النتيجة وهو بعض ج بَ، لم ينتج مع الصغرى، وانتج مع الكبرى: بعض ج آ، ولايبطل بهذا قولنا: لا كل ج آ. وأما ان اخذنا النقيض، فقلنا: كل ج بَ، وكل بَ آ، أبطل الصغرى بالنقيض. او قلنا: كل ج بَ، ولا كل ج آ، أبطل الكبرى بالنقيض.(1/369)
وأما في الشكل الثالث إن أخذ ضد النتيجة، لم تبطل البتة مقدمة؛ لان ضد النتيجة مع الصغرى، يكون من الشكل الاول، وكبراه جزئية، فلا ينتج؛ ومع الكبرى، يكون الشكل الثاني، وكبراه جزئية، فلا ينتج. وأما ان اخذت بالتناقض، كان نقيض النتيجة كلياً. فان كانت الكبرى سالبة، كان موجبا كليا؛ او موجبة، كان سالباً كليا؛ وانتظم مع الصغرى، على نظم الشكل الاول، ومع الكبرى، على نظم الشكل الثاني. فان كانت المقدمتان كليتين، أنتج ضد كل واحدة منهما، لأن نتيجة الكليتين من الشكل الاول والثاني كلي. وان كانت احداهما، ولتكن الصغرى، جزئية، وتكون لامحالة موجبة، انتجت نقيض كل واحد منهما. لأن الجزئية إذا أخذت مع عكس النتيجة الى النقيض، انتجت جزئيا يناقض الكلي منهما. وان لم تؤخذ هي، بل الكلية، انتجت كلية تناقض الجزئية منهما. وان كانت الكبرى هي الجزئية الموجبة، لم يتالف منها ومن عكس النتيجة الى النقيض ولا الى التضاد، ما ينتج نقيض الصغرى، ولا ضدها، لأنها تنتج عكس مقابل الصغرى وئتلف من الصغرى ونقيض النتيجة ما يرفعها، وكذلك ان كانت جزئية سالبة.
فقد اجتمع من هذا كله ان انعكاسات القياسات من الشكل الاول الى الثاني والثالث. لكن إن أريد ابطال الكبرى، كان من الثالث؛ أو الصغرى، كان من الثاني. وفي الاني تبطل صغراه بالاول، وكبراه بالثالث. وفي الثالث تبطل صغراه بالثاني، وكبراه بالاول.
الفصل الرابع عشر
(ن) فصل
في رد قياس الخلف الى المستقيم
والمستقيم الى الخلف
فلنقل في رد قياس الخلف الى المستقيم، والمستقيم الى الخلف. على انا نعتبر المقدمة التي هي التالي من الشرطية، ونعمل على أن الاقتران منها وحدها مع الحملية؛ فإن ذلك لايضرنا. إذ قد علمت صورة ذلك التاليف، وأن الاعتبار فيه ايقاع التالي من المقدمة الداخلة موقع احدى القرائن الحملية. فقياس الخلف ايضاً يكون من وجه مشابها لعكس القياس؛ لانك تأخذ نقيض نتيجة ما، وتضيف اليه مقدمة، وتبطل مسلماً ما. لكنه يخالف بأن عكس القياس انما يكون دائماً، اذا كان قبله قياس مقرر الصغرى والكبرى، ونتيجة حدثت عنه بالفعل، ثم عقد بعد ذلك قياس آخر لإبطال شئ معلوم. وأما الخلف، فقياس مبتدأ، لايلزم ان يتقدمه قياس، وان اتفق فلا ندري بعد ماينتجه الى ان ينتج محالا. لكن حال الحدود والترتيب فيهما واحد. فليكن صح لنا أن كل بَ آ، بتوسط ج آ. ليس ان اخذنا مقابل النتيجة، واضفنا الى الصغرى، بطلت الكبرى، او اضفنا الى الكبرى، بطلت الصغرى، وكان هذا عكس القياس. فلو أنا ابتدانا فقلنا: ان كان قولنا: كل بَ آ كاذبا، فنقيضه وهو قولنا. لا كل بَ آ صادق، وكان مسلما ان كل بَ ج ينتج: ان لا كل ج آ، وليس كل. فاذن قولنا: ليس كل ج آ، كذب، ولزم عن قياس. فاحدى مقدمتيه كاذبة، ولكن ليست المسلمة، وهي ان كل بَ ج. فهي اذن المشكوك فيها، وهو انه ليس كل بَ آ، فاذن كل بَ آ. والمطلوبات الاربع كلها، الا الكلي الموجب، يمكن ان يتبين من كل شكل بالخلف. وأما الكلي الموجب فيبين من الشكلين الاخرين فقط. لانك اذا اردت ان تبين صدق قولنا: كل بَ آ؛ بكذب نقيضه، وهو قولنا ليس كل: بَ آ، قلت، ان كان قولنا: كل بَ آ كاذباً؛ فنقيضه، وهو قولنا: ليس كل بَ آ صادق. وتحتاج ان تنتج من هذه المناقضة، ومن مقدمة اخرى مسلمة نتيجة بينة الاستحالة. وتلك المقدمة لاتشارك هذه في الشكل الاول. لان هذه المناقضة لايجوز ان تكون صغرى الاول، لانها سالبة؛ ولاكبرى الاول، لانها جزئية. وأما أن اخذت الضد بدل النقيض، أمكن ان تجعله كبرى، ولكن اذا انتج محالا، لزم انه كذب، لم يلزم ان ضده صدق، لان الضدين قد يكذبان معا في المواد الممكنة كما علم سالفا، فلم ينفع في انتاج المطلوب. وأما السالبة الكلية فتبين في الشكل الاول، بأن يؤخذ نقيضها وهو الموجبة الجزئية، ويضاف اليه كبرى، فينتج محالا. ولايمكن ان تضاف اليه الاخرى وهي الصغرى فتكون الكبرى جزئية. والسالبة الكلية تبين في الشكل الاول. بادخال مقدمة هي كبرى لاغير. وأما الموجبة الجزئية، فانا اذا اخذنا نقيضها وهي السالبة الكلية، لم يمكن ان نضيف اليها في الشكل الاول مقدمة الا الصغرى، فينتج المحال. وأما السالبة الجزئية، فاذا اخذنا نقيضها في الشكل الاول، امكن صغرى وكبرى معاً، لانه كلي وموجب.(1/370)
واما في الشكل الثاني، فان الموجبة الكلية اذا اخذ نقيضها، وهو ليس بعض بَ آ، لم يمكن، الا ان تضاف اليها كبرى كلية موجبة. وأما الكلية السالبة، فانه اذا اخذ نقيضها لم يمكن ان تضاف اليها الا كبرى سالبة كلية. واذا اخذ الضد ثبت بالقياس بطلانه، لكن لم تثبت صحة ضده. واما الجزئية الموجبة، فان نقيضها يمكن ان يضاف اليه في هذا الشكل كبرى وصغرى. وكذلك الجزئية السالبة، فان نقيضها يكن ان يضاف اليه كبرى وصغرى، لان نقيض الجزئيتين كلية، فتصلح كبرى وصغرى، سالبة وموجبة. واذا اخذنا الضد في هاتين فبطلت لم يجب بطلان الضد. ولكن لم تصلح الا صغرى. وفي الشكل الثالث. أما الموجبة الكلية فانها ان اريد ان تثبت بالخلف، واخذ نقيضها لم تصلح الا كبرى. وأما الكلية السالبة، فنقيضها يصلح كبرى وصغرى، لانها موجبة جزئية، وتكون صالحة في الطرفين ايهما كان.
واما الجزئية الموجبة، فنقيضها اذا اخذ لم يصلح الا كبرى. وأما الجزئية السالبة، فنقيضها يصلح فيه كبرى وصغرى. فاذن الموجبة لاتبين الا بالضروب التي كبراها سالبة، هي نقيض النتيجة، وأما السالبة فتبين بوجهين من الشكل الثالث. والحال في الضد هنا انه اذا بطل، لم يجب بطلان ضده، هو كما في غيره.
والفرق بين المستقيم والخلف: ان المستقيم يقصد فيه القياس في اول الامر نحو الشئ الذي يريد ان يبينه، فيقيس عليه من مقدمات مسلمة اما على الاطلاق واما عنده، وبينه وبين خصمه. وأما الخلف فانه يقصد فيه في اول الامر ان ينتج شيئاً غير المطلوب، ذلك الشئ بين الكذب على الاطلاق، أو عنده، وبينه وبين خصمه. فاذا تبين كذبه، عاد وانتج كذب ما هو سببه، فانتج صدق نقيض ذلك. وايضا فان المستقيم انما توجد فيه المقدمات الموافقة المطلوب بالذات. وأما في الخلف، فاحدى المقدمتين من تلك الجملة، والاخرى نقيض المطلوب، وايضا فان النتيجة في المستقيم غير بينة في اول الامر، حتى يتم فيلزم. وأما في الخلف فان النتيجة توضع اولا، ويوضع نقيضها. واذا كان الخلف مؤلف من نقيض المطلوب ومن صادقة، ينتج محالا. فانك ان عكست القياس فاخذت نقيض المحال وقرنته بالصادقة، انتج لك نقيض الثانية المشكوك فيها، وهو المطلوب، اعني ذلك النقيض.
لنتبين السالب الكلي بالخلف من الشكل الاول، ولنتأمل كيف يستقيم، وليكن المطلوب أن نتبين انه لاشئ من بَ آ . فاذا اخذنا نقيض هذا، وهو ان بعض بَ آ ، فلا بد م ان تكون ذلك صغرى في الشكل الاول، والتي يضاف اليها حتى تنتج المحال، هو اما قولنا: كل آ ج، او قولنا: ولاشئ من آ ج. فان انتج موجبة، فكان بعض بَ ج، واخذنا نقيضها ليرد الى الاستقامة، كان نقيضها، لاشئ من بَ ج، واضفنا اليها كل آ ج، كان الشكل الثاني. وان كان انتج سالبة، فكان ليس كل بَ ج، وكان نقيضها كل بَ ج، واضفنا اليها لاشئ من آ ج، كان ايضا من الشكل الثاني. واما ان كان المطلوب سالبة جزئية، واخذنا نقيضها وهي الكلية الموجبة، فان افنا اليها كبرى موجبة، او كبرى سالبة، كان بعينه كما قلنا. وان اضفنا اليها صغرى موجبة جزئية او كلية، فان النتيجة تكون موجبة، ونقيضها اما كلية سالبة واما جزئية سالبة. وجميع ذلك يبين باقتران نقيض النتيجة بالصغرى على تاليف الشكل الثالث. وا الموجب الكلي، مثل قولنا: كل آ بَ، فلا يمكن ان يبين بالخلف في الشكل الاول؛ لان نقيضه جزئية سالبة فلا يصلح صغرى ولا كبرى. فأما الجزئي فيبين في الشكل الاول وذلك باخذ نقيضه، فلا يمكن ان يكون نقيضه الا كبرى الاول، لانه سالب كلي فلا يمكن ان يبين بعكس القياس الا من الصغرى، ونقيض النتيجة، وذلك في الثالث. فالموجب في هذا الباب لايمكن رده الى الشكل الثاني.
وأما الشكل الثاني فاذا عكس قياسه الخلفي الى الاستقامة فانه يرجع الى الشكل الاول في كل موضع. أما الكلي الموجب فلانه يكون قد أخذ في الخلف نقيضه فصار صغرى، فيحتاج الى ابطال الصغرى، وقد بان ذلك بالشطل الاول. وكذلك الكلي السالب، لان نقيضه ايضا لايكون كبرى. واما الجزئي الموجب، فان نقيضه يصلح صغرى وكبرى، فيصلح في الاول والثالث؛ وكذلك الجزئي السالب. فاذن جميع قياساته يمكن ان تعكس الى الاول. والخلفان المنتجان للجزئي يمكن ايضا ان تعكس الى الثالث.(1/371)
واما الشكلالثالث، فان موجبات مابين فيه بالخلف قد تبين كلها في الاول بالمستقيم، وسالباته تبين ايضافي الثاني. اما الموجبات فان نقائضها تكون في قياس الخلف كبرى لامحالة، فتبطل بالشكل الاول. واما السالبات، فان نقائضها تكون صغرى وكبرى معا، فيمكن ان تبطل في الثاني ايضا مع الاول. فقد بان وظهر ان القياس الخلفي مشارك للمستقيم، يرجعاحداهما الى الاخر ولايخرج عن تلك القياسات.
الفصل الخامس عشر
(س) فصل
في القياسات المؤلفة من مقدمات متقابلة
وقد يؤلف قياس من مقدمات متقابلة، بأن يؤلف قياس من موجبة وسالبة متضادين أو متقابلين احتيل حتىخفى ذلك، اما بأن تبدل اسم حد ما بما يرادفه، واما بان توجد بدل الحد جزئية او كلية فتحكم عليه بما يرفع الحكم عن الحد. فمنه ماهو بالحقيقة قياس من متقابلين، ومنه ماليس بالحقيقة كذلك، ولكن بالظن. وهذا القياس كثيرا ما يستعمل ف الجدل على سبيل المبالغة في التبكيت بأن يتسلم قول ثم ينتج نقيضه من اصول اخرى ثم يؤخذ المتسلم والمنتج فينتج منه في الشئ انه ليس هو. وكثيرا مايغلط به من هو ضعيف التمييز.
والمتقابلات في اللفظ اربعة: كل، ولا كل كل، ولا واحد بعض، ولابعض. وفي الحقيقة ثلاثة، لان البعض، ولا بعض، لاتقابل فيها. وهذا الضرب من القياس انما يتألف في الشكل الاول بأن يجعل المحمول كشيئين فيوضع احدهما للاخر، وأما في الشكل الثاني فبأن يؤخذ الموضوع كشيئين، ويؤخذ المحمول واحدا. واما في الثالث فبان يؤخذ المحمول كشيئين، ويوضع الموضوع واحدا. وفي الشكل الثاني ان اخذنا متضادين جاز وضع ايهما اتفق صغرى وكبرى. وان اخذنا متناقضين لم يجز الا ان تكون الكبرى هي الكلية سواء كانت موجبة او سالبة. ولكن لابد من ان يكون الطرفان شيئا واحدا بالفعل او بالقوة، مثل ان يكون احدهما نوعا وجزئيا تحت الاخر، فيكون قياسا على المتقابل. واما ما سوى ذلك فلا يكون الا يكون في الظن مثل القياس على متلازمين بسبب وايجاب. وغير ذلك لان المقدمتين لاتكونان بالحقيقة متضادتين ولامتقابلتين، مثل قولنا: كل انسان حيوان، ولاشئ من الناطق بحيوان او لاشئ من الضحاك بحيوان. او كل علم ظن، ولاشئ من الطب بظن. وأقول: يشبه ان يكون القياس على طرفين: احدهما جنس، والاخر نوع. مما يظن انه قياس على المتقابلين. وليس في الحقيقة قياسا واحدا على متقابيلن، بل اذا رد الى ذلك بالتحقيق كان قياسين في قياس، احدهما مضمر، والاخر مصرح. والمضمر هو الحقيقي على متقابلين، ولكنه وان لم يكن حقيقيا فهو اقرب الىالحقيقة، لان الحكم على الكلي كالحكم على الجزئي الذي تحته، ولا يحتاج الى بيان. فكانه حكم على الجزئي بمتقابلين. وذلك حكم القياس المضمر فيه.(1/372)
واما الشكل الثالث، فانما يمكن ذلك في ضروبه المنتجة للسالب. فاما الضروب المنتجة للموجب فمقدمتاه موجبتان. فكيف يتقابلان؟ وعلى كل حال ايضا عن متقابلين نتيجة صادقة البتة. لان هذا ينتج ان الشئ ليس هو. واما انه كيف يمكن ان يعرض لاصحاب النظر الوقوع في استعمال القياسات من متقابلين، وهم لايشعرون؛ فذلك لانه يمكن ان يكون عند انسان ما قياسات فاسدة، انتجت نتائج فاسدة، فهو جامعها عند نفسه، ويكون عنده حق ما، هو موضوع مسلم. وتكون تلك القياسات او النتائج الفاسدة، يلزم عنها لفسادها شئ فاسد، يمكن ان يساق الى انتاج ضد ذلك الحق. او يكون في تلك الفاسدات ما هي مقابلة لجنس هذا الموضوع المسلم او الجزئي تحته. فاذا حقق كان بالقوة مقابلا له. فينتج منه بقياس ما، مقابل هذا الموضوع مثاله ان كان الموضوع: ان بعض الاعداد فرد، ويكون في تلك القياسات الفاسدة اما مقدمة كاذبة، وهو ان كل عدد يتقسم بمستوى بين واما نتيجة فاسدة وهو ان كل عدد ينقسم بمستوايين امكن ان يكتسب ن تلك المقدمة مناقضة او مضادة لهذا الموضوع، ان لاشئ من الاعداد بفرد. فينتج منها ان بعض ماهو عدد، ليس بعدد، او بعض ماهو فرد، ليس بفرد. وكذلك ان وضع، ان كل علم ضن، ثم سلم او لزم من اصول اخرى عنده، ان الطب ليس بضن، وربما كان الموضوع حقاً، والقياسات الفاسدة انتجت مقابلة، وربما كانالموضوع باطلاً، والقياسات انتجت مقابلة، كانت قياسات صادقة او كاذبة، وربما كانت قياسات صحيحة عنده وقياسات فاسدة، فاكتسب من الصحيحة، صحيحة، ومن الفاسدة، فاسداً، وكانا متقابلين. واما اذا وقع ذلك ابتداء فلا يمكن ان يستعمل من غير حيلة. فمن تلك الحيل ان نتسلم جزئية مناقضة لكلية، كما تتسلم ان كل علم ظن، ثم نتسلم، وان لاشئ من الطب ظن. ومن ذلك ان يوهم ان المركب ليس احد الجزاين فيسلب احد الجزأين عن المركب، ويجعل المركب حدأ اوسط، فيقال: ان الحي الابيض ليس بأبيض، أي ليس بابيض مجردا وحده، او ليست حقيقته الابيضية، ولكن لايشترط هذا الشرط. ثم نقول: انسان ما، أي كفلان، هو حي ابيض. فينتج: ان ذلك الانسان ليس بابيض، أي ذلك الانسان بعينه. ثم نقول: ذلك الانسان ليس بأبيض، وهو بعينه ابيض، فينتج: الابيض ليس بابيض: هكذا ينبغي ان يفهم هذا الوضع. ويمكن ان يؤخذ له مثال كلي، كقولك: كل انسان حيوان حيوان ناطق، وليس شئ مما هو حيوان ناطق بناطق. على انه يعني فيما بينه وبين نفسه: وليس شي مما هو حيوان ناطق بناطق فقط، فينتج: فليس احد من الناس بناطق. ثم موضوع: ان كل انسان ناطق. فان قال قائل: ان هذا لايكون متناقضا في المطلق. وخصوصا في المهمل. قيل: اما المهمل، فقد عرفت الجواب عنه، واما المطلق فليؤخذ على الشرط الذي يمتنع ايضا في المطلق اجتماعه. ولنقل: ان زيد ابيض، وهذا الانسان ليس بابيض، فزيد ليس هو هذا الانسان الذي هو زيد، هذا خلف ليس في المطلق كذا.
الفصل السادس عشر (ع) فصل
في المصادرة على المطلوب الأول(1/373)
وقد بقي من الامور المناسبة لما جرى ذكره، أمران: المصادرة على المطلوب الاول، ووضع ما ليس سببا للنتيجة على انه سبب للنتيجة؛ وذلك في الخلف. فاما المصادرة على المطلوب الاول، فهي داخلة في جنس ما لم يبرهن مما قيل. ولكن ذلك الجنس اعم منه، لان مالم يبرهن مما قيل قد يكون بسبب ان القول غير منتج بشكله او بسبب مقدماته. وقد يكون بسبب ان المقدمات اخفى من المطلوب، او ان المقدمات مساوية له في الجهالة، او ان المقدمات انما تبين بعد بيان المطلوب. زليس شئ من هذه مصادرة على المطلوب الاول. فانه انما تكون المصادرة على المطلوب الاول في قياس منتج الشكل، وليس اذن بسبب الشكل. وليس يجب ان تكون بسبب ان المقدة اخفى او مساوية في الجهالة، حتى اذا كان كذلك كانت المصادرة على المطلوب؛ وذلك لان الخلفي والمساوى في الجهالة قد تكون غير الطلوب، ولاتكون مصادرة على المطلوب الاول. واما في المصادرة على المطلوب الاول، فليس الخفي او المجهول المستعمل شيئا غير المطلوب؛ بل انما يكون القياس، مصادرة على المطلوب الاول؛ لان المطلوب نفسه جعل مقدمة لبيان نفسه، بأن يدل اسم احد حديه الذي يراد ان يجعل حدا اوسط. والاشياء البينة بنفسها فلا تبين بوجه ولا بالحقيقة ولا بأن يقاس عليها من نفسها. فان ذلك غير معتاد، لانها مقبولة مسلمة، وان كان يمكن ان يصادر عليها،بل انما يستعمل هذا فيما من شأنه ان يتشكك فيه، ويجهل. فهذا اذا استعمل في بيانه غيره مما هو اعرف منه، فقد عمل الواجب. وان استعمل في بيانه غيره مما هو اعرف منه، فقد عمل الواجب. وان استعمل نفسه في بيان نفسه، فقد صودر على المطلوب الاول. وقد يعرض ذلك في قياس واحد، بان تكون نتيجة نتبين بمقدمة غير بنة بنفسها؛ وتلك المقدمة تبين بمقدمة تبين بمقدمة اخرى؛ وتلك المقدمةانما تبين بصحة النتيجة؛ فيكون هذا ايضا مصادرة على المطلوب الاول بوسائط. مثل الشكل الذي في كتاب او قليدس، ان الخطوط المتوازية اذا وقع عليها خط قاطع كانت الزوايا كذا وكذا. ومن مقدمات برهان ذلك المطلوب ان الخطين اللذين في سطح واحد اذا وقع عليهما خط قصير الزاويتين من جهة واحدة معادلتين لقائمتين لم يلتقيا. فان رام احدان يبين هذا، بأن يقول: انهما ان التقا، كان مثلثا من الخطين، والخط الواقع، وكانت الزوايا الثلاث اعظم من قائمتين، هذا خلف. فاذن لايلتقيان. فقد صادر على المطلوب الاول من حيث لم يشعر، لان كون زوايا المثلث بهذه الحالة، انما يبرهن بعد صحة ذلك، فيكون عرف حال الزوايا في الخطين بزوايا المثلث، وحال زوايا المثلث انما تبين بحال زوايا الخطين، فيكون استعمال زوايا الخطين مع الخط الواقع عليها مقدمة في بيان نفسه ولكن بوسائط، فهكذا تكون المصادرة على المطلوب. وبالجملة يجب ان يكون قد اخذ فيها اخذ حدي المطلوب مرتين، إما بالحقيقة قياسين مرادفين يرجع احدهما على الاخر حملا ومعنى، واما بحسب الظن، فان يأخذ أي شيئين كانا متعاكسين كالانسان والضحاك، فيظن ان شأنهما وحكمهما واحد، ويكون معناهما في الحقيقة مختلفين؛ او اخذ كليا وجزئيا، ويظن ان الحكم فيهما واحد؛ فيظن انه مصادرة على المطلوب الاول.(1/374)
والمصادرة على المطلوب الاول بحسب الظن على اقسام مذكورة في طوبيقا. واما في الحقيقة فهو ان يوضع لما يراد ان يجعل من الحدين حدا اوسط، اسما آخر مرادفا، كما يكون في تقابل القياس. فان تقابل القياس والمصادرة على المطلوب الاول، مشتركان في ان الحد الاوسط فيهما موجود ف النتيجة. والقياسات الصحيحة ليست كذلك. وتكون المصادرة على المطلوب الاول فيهما مقدمة صادقة جداً، وهي التي يكون موضوعا ومحمولها واحدا؛ ومقدمة مشكوك فيها، وهي التي هي المطلوب، وقد صودر عليه. وقد يمكن المصادرة على المطلوب الاول في الشكل الاول والثاني والثالث. لكن ان كان المطلوب موجبا كليا امكن في الشكل الاول صغرى وكبرى. فإن كان صغرى، كان للاكبر والاوسط اسمان مترادفان، وكانت الكبرى هي تلك المقدمة الصادقة جدا. وان كان كبرى، مان للاصغر والاوسط اسمان مترادفان، وكانت الصغرى هي تلك الصادقة جدا. وان كان جزئيا، لم يمكن الا ان تكون صغرى. وان كان سالبا، لم يمكن الا ان تكون الكبرى. وقول المعلم الاول: ان كل مطلوب موجب في الشكل الاول فيصلح ان يؤخذ في القياس صغرى وكبرى، انما عنى به الكلي. واما في الشكل الثاني، فان المطلوب لايكون الا سالبا. ففي ضرب لايكون الا صغرى، وفي ضرب لايكون الا كبرى. هذا ان كان السالب كليا. فان كان جزئيا لم يجز في الثاني الا صغرى، وفي الشكل الثالث الا كبرى، وفي الاول لايصلح بيانه بوجه. لأنه لايصلح صغرى ولا كبرى.
والمصادرة على المطلوب الأول قد تكون في المعلوم، وذلك إذا كان صادر بالحقيقة على الوجه الذي قلنا. وقد تكون في الجدل، وذلك إذا كان فعل اهو مصادرة بحسب الظن المحمود، وهو الذي يكون حد المقدمة الصادقة فيه كشيء واحد بحسب الظن المحمود.
الفصل السابع عشر
(ف) فصل)
في وضع ما ليس سببا للنتيجة على أنه سبب
وأما وضع ما ليس سببا للنتيجة على انه سبب للنتيجة، فهو وأن ينتج كذبا وينسبه إلي مقدمة، حتى يكن من حقه أن يقال إن الكذب الذي أنتجته هو من قبل كذا، وليس من هذه الجهة التي ظننت. وهذا يقع في قاس الخلف إذا أخذ نقيض الموضوع، ثم قاس قياسات انتج كذبا، ثم رام أن ينتج أن نقيض الموضوع كذب، لأنه انتج كذبا. فيقال له لم يلزم الكذب عن هذا ليمنع قياس الخلف. وإنما يمكن أن يقال له: ذلك إذا كان الكذب يلزم؛ وان رفعت تلك المقدمة، ولم تستعمل في القياس أصلا.(1/375)
وهذا الاعتبار لا يكون في المستقيم، لان المستقيم لا يقصد فيه إنتاج كذب من وضع شئ مناقض للمطلوب؛ بل يساق إلى المطلوب. وإذا منع، قيل: إن في القياس مقدمة كاذبة، أو ليس تأليفه منتجا. ولم يقل: انه لم يعرض الكذب من قبل وضع كذا لأنه لم يبن على أن هناك كذبا عارضا، بل هذا في الخلف إذا كان نقيض الموضوع، سواء وضع أو رفع لا يغير حكم اللازم من الكذب ولا يكون سببا لإنتاج المحال، فلا يلزم أن يكون محالا. وهذا على وجوه: إما أن تكون الحدود التي للمحال ولقياسه، غير مشاركة لنقيض الموضوع البتة؛ وإما أن تكون مشاركة، ولكن المحال لزم عن شئ آخر. مثال الأول: لو أن أحدا أراد أن يبين أن القطر غير مشارك للضلع، فاستعمل فيه قياس " زينن " في أن لا حركة، ثم قال: وهذا محال، ثم قال: فإذن القطر غير مشارك للضلع. وهذا القسم من اخذ ما ليس بسبب سببا، هو اظهر ما في هذا الباب. وأما مثال الذي يأخذ في المحال أو قياسه حدود تشارك وتتصل بحدود النقض، فمثل أن يقول: ليس كل بَ آ، وإلا فليكن كل بَ آ، وليكن كل دَ ج، وكل ج ب، وكل بَ آ. فإذن كل دَ بَ. هذا خلف. فإذن ليس كل بَ آ. فهذا قد وضع فيه ما ليس بسبب سببا. لان قولنا: كل دَ بَ، يكون نتيجة عن مقدمتيه، وان لم يقل: كل بَ آ. وأيضا ن الجانب الأخر بان يقول كل بَ آ، وكل آ ج، وكل ج دَ. فكل آ دَ. وهذا خلف. فان هذا أيضا وضع ما ليس بسبب سببا. وذلك لان قولنا: كل بَ آ، وان رفع، بقى القياس المنتج للخلف؛ بل يجب أن تكون حدود المحال وحدود قياسه وحدود المطلوب متصلة، وتكون مع ذلك بحيث إذا رفع النقيض لم يلزم محال، بل يكون المحال إنما يلزم لوضعه لا غير. فيكون القياس المركب متصل التركيب، لا حشو فيه، وليس قياسات مختلفة لا وصلة بينها. فان الكذب لا يمكن أن يجتمع عن قياسات كثيرة لا تتصل اتصالا تصير به كقياس واحد، فإنها إذا اجتمعت ولم تتصل أما أن يكون الكذب لازما عن واحد منها، وان رفع البواقى الباقيان لا يلزم عنها شئ بالشركة. وان كذبت نتائجها كلها أيضا، لم ينفع بجمعها في إبطال شئ أو إثباته، مثل قياسات مختلفة، على أن المتوازية تلتقي، وان المثلث زواياه أعظم من قائمتين، وغير ذلك. فان جميع أصناف نتائج كاذبة، لا تتصل قياساتها، لا يلزم منه شئ على الوجه الذي يلزم في قياس الخلف.
الفصل الثامن عشر
(ص) فصل
في وصايا وتحذيرات ينتفع بها السائل والمجيب
في تسليم المقدمات، والامتناع عن تسليمها، وغير ذلك
إن القياس قد يستعمل في العلوم، وقد يستعمل في الجدل. والذي يستعمل في العلوم فيستعمل على ما عليه الأمر في نفسه، والذي يستعمل في الجدل يستعمل على ما هو مشهور أو متسلم. وان عوسر في المشهور لم ينتفع به في الجدل. فعمدة المقدمة في المحاورة الجدلية أن تكون على سبيل التسليم، والتسليم يكون بالمسألة، والمسألة في الموضوع كأنها هي المقدمة. وإنما تباين بهيئة تلحق المسألة تنحرف بها عن هيئة المقدمة. وقد يقال لها أيضا مسألة إذا كانت متسلمة عن سؤال. ولما كان الجدل إنما يحاول الإلزام والتبكيت، اعني القياس على نقيض ما ينصره المجيب، وليس غرض الجدلي من حيث هو جدلي، الحق؛ فلا بأس أن يحاول السائل في تركيب القياس الجدلي حيلا يكون استعمالها مقر بالمسافة من الغرض؛ وان يعتمد المجيب، الذي يورد للسائل القياس على مقابل ما ينصره حيلا يتحرز بها عند احتياجه إلى الإجابة عن مسألة مسألة، من أن يلحقه نقض وتبكيت؛ ويجتهد في منع القياس أصلا، آو منع القياس على مقابل ما ينصره.
ولنعد هنا أصولا يختص نفعها بمن يستعمل القياس، أو يستعمل عليه وهو عارف بصورة القياس. ولان المسالة الجدلية على وجهين: فإنها أما أن تكون عن مقدمات قياس مع نتيجة، كقولك: أليس إذا كان كل بَ ج، وكل ج دَ، كان كل بَ دَ. فهذا لا حيلة فيه إلا تسليم أو إنكار مقدمة أو ادعاء أن القياس غير منتج. وأما أن يكون السؤال عن مقدمة ليجمع منها آخر الأمر القياس وتنتج النتيجة. فيكون فيه التحفظ على وجهين: أحدهما عند تسليم مقدمة. والأخر عند اجتماعها لئلا يؤلف قياسا.(1/376)
فأما القسم الأول فيجب أن يجتهد فيه حتى لا نسلم حدا مكررا تسليما قياسيا. فانه إذا لم يوجد في المقدمات حد مشترك قياسي، لم يمكن أن يلف قياس، ولم يمكن السائل أن يكبت. والتبكيت قياس على إثبات نقيض الوضع الذي يحفظه المجيب. وأما في آخر الأمر بعد التسليم فيجب أن يتأمل أن الواسطة التي سلمت كيف نسبتها إلى الطرفين، حتى يعرف الشكل والضرب. فان لم يكن ذلك؛ أو كان غير منتج أصلا، منع إنتاجه أصلا. وهذا إنما يتأتى له بعد حفظه أشكال القياسات وضروبها. فهذه وصية المجيب. وأما السائل فيجب أن يحتال في التوصل اللطيف إلى ترويج ما أوى بالتحرز عنه، فيجب ان يجتهد بأخفى ما يكون من الحيلة، فيتسلم ماهو ضروري في الانتاج من غير ان يتسلمه على نظم قياسي فيقطن لصنيعه. بل ان كان القياس مركبا من قياسات تنتج نتائج تصير مقدمات لقياسات تنتج نتائج اخر، ولا يزال حتى يبلغ المطلوب، سأل اولا عن ابعدها من ابهام المطلوب وتسلمه، ثم لم يسأل عما يليه، بل عما هو اقرب من المطلوب من مقدمات بينهما، ثم عاد وسأل عما بين المسألتين. ولذلك وجوه من الترتيب. مثلا ان كان تبين ان كل زَ آ، وكان ينتج ذلك بأن كل زَ هَ، وكل ه دَ، وكل دَ ج، وكل ج بَ، وكل بَ آ، فكل زَ آ. فيسأل إما عن مقدمات الاطراف، او الواسطة. فإن سأل عن مقدمات الاطراف فاولاها الكبرى. لأن السائل اذا سأل اولا عن الصغرى اليس كل زَ هَ؛ حدس المجيب انه عسى ان يكون كل هَ دَ، أو شيئا آخر مما على النظام. وأما اذا سأل عن الكبرى انه اليس كل بَ آ ؟ فيكون قد عكس الكلام عن الترتيب. فكأن وقوع الحدس عن هذا الجانب اقل، لانه لو قيل: كل بَ آ، وكل زَ بَ مصرحا، لم يكن على النظم القياسي بالفعل اذا لم يوضع المشترك في كل واحد منهما بجنب الآخر فلم يوهم، فكيف اذا لم يصرح ؟ والاحرى أن يسأل عن الكبرى أولا، فيقول: أليس بَ كل آ؟ ثم يتباعد عنه فلا يسأل عما هو بجنبه، بل عن البعيد منه،فيسألهل كل ه دَ؟ ثم يعود فيسأل عما بينهما أنه هل كل ج بَ ؟ وكذلك يجتهد أن يوقع اختلافا في الترتيب. وان سأل عن بعض المقدمات المتوسطة أولا، ثم الطرفية على خلاف ماهو نهج الترتيب في الاوساط، ثم عاد الى الطرفية الاخرى، لم يكن به بأس بعد أن لايجعل المسائل مرتبة.
وأما اذا كان القياس بسيطا غير مركب فيجب أن يسأل اولا عن الواسطة بجعل أول سؤاله عن الكبرى، فيكون أول ما يلفظ به لفظ الواسطة، مثلا نقول: هل كل بَ آ ؟ فيكون أول مايدخل في لفظة الواسطة؛ ويكون انما طلب أولا النسبة التي للح الاكبر الى الواسطة، ثم سأل عن الصغرى فيكون فعل مايمكنه من تغيير اتصال المقدمات. فاذا فعل هذا حدث قياس على نقيض الموضوع، وهو التبكيت. فالتبكيت قياس ما، وعلى شرائطه في الاشكال والضروب، الا انه باعتبار ما، وذلك الاعتبار أن تكون نتيجة نقيض وضع مايحفظه المجيب.
وقد ظن بعضهم ان قول المعلم الاول: إنه يجب أن يبدأ أولا بالواسطة، أن معناه انه يجب اب يبدأ بالاصغر. وليس كذلك. فانه اذا سأل عن الصغرى، لم يكن بد من أن يتلوه بالسؤال عن الكبرى، فيكون قد سأل على ترتيب قياسي منتظم. وقد حذر ايضا عن الابتداء للصغرى لما فيه من التنبيه على مأخذ الاحتجاج. فإن كان السؤال عن الكبرى مما لابد للمجيب فيه عن جواب يلائم غرض السائي، يكون حكمه حكمه لو ابتدأ بالصغرى سائلا، وإن كان للمجيب ان يجيب بشئ آخر، فهو الآن افطن لوجوب ذلك عليه، إذا أحس بالصغرى وأحس بانتظام القياس. فاذا كان له سبيل الى ان يعاسر في تسليم الكبرى، فقد افترض عليه سلوكها من هذا الوقت. وأما اذا سأل عنها أولا، ثم تلاها بالسؤال عن الصغرى وذلك في الشكل الاول لم يلح له وجه التأليف والنسق، فلم يلح له وجوب المعاسرة. فإن كان التسليم أشبه بالواجب والمستحسن رجى ان لايعدل عنه عدوله لو بينه للتأليف القياسي. ولو أن إنسانا ينازعنا في ان العالم محدث؛ فأردنا ان نثبت عليه أن العالم محدث؛ فقلنا له: أليس العالم كذا؟ تنبه أن كونه كذا يجعله محدثا. فعاسر في ذلك في اول الامر وأما إذا سألناه، وقلنا: أليس كذا محدثا ؟ أمكن أن يذهب توهمه الى انه شئ لايضره حدثه ولا قدره (قدمه).(1/377)
ويجب أن تعلم أن هذا الاتلاف في الترتيب ينتفع به المقاييس التي تؤلف. على نظم الشكل الاول. ومع الذين لم يحتنكوا في الجدل؛ بل هم مبتدئون وعاميون. وأما المحنكون فلا يؤثر هذا القدر من الاختلاف عندهم؛ بل انما يغلطون في القياسات المركبة.
الفصل التاسع عشر
(ق) فصل
في أنه كيف يمكن أن يعلم الشيء ويجهل معا
وأنه كيف يعلم ويظن به مقابل ما يعلم
إنه كما أن المجيب قد يسلم مقدمات يلزم عنها تبكيته ولايشعر، لأنها تسلمت منه لاعلى الترتيب المنتج، بل مخلطة محرفة. كذلك الانسان فيا بينه وبين نفسه قد يكون عنده المقدمات التي يجب ان يعلم مع العلم بها شئ آخر؛ فيجهل ذلك الشئ، لآن المقدمات ليست حاضرة في ذهنه مرتبة في علمه بالفعل بالترتيب الموجب لذلك العلم. فلتقل كيف يمكن ان يجهل الشئ ويعلم معا، وأن يعلم ويظن به مقابل ما يعلم. فنقول: إن السبب في أن يكن بالشئ علم وظن متقابلان بقياسين أو أحدهما بقياس والآخر ليس بقياس، هو على جهتين.
إحداهما، يستحيل أن يكون في انسان واحد في وقت واحد، بل قد يقع لإنسانين، وذلك انه اذا كان مثلا كل دَ بَ و ج بلا واسطة، ثم كان كل بَ آ، وكل ج أيضا آ، فإن اعتقد انسان واحد ان كل بَ آ، وهو الحق واعتقد الآخر أن لاشئ من ج آ، وهو بالطل، وقرن كل بما تراه الغرى، هذا أن كل دَ بَ، وذلك كل دَ ج، اعتقد اعتقادين متقابلين. وأما إنسان واحد فلا يمكن أن ينعقد عنده القياسان معا بالفعل فيرى شيئا وضده من جهة انتاجهما اياهما معا، بل ان وقع له مثل هذا تشكك ولم يعتقد شيئا.
والجهة الثانية، هو الذي يمكن في انسان واحد، وهو أن يكون يعتقد أن لاشئ من ج آ، ومع ذلك يعتقد في نفسه مقدمات قياس على هذه الصفة: أن كل دَ ج، وكل ج بَ، وكل بَ آ. فانه ربما التفت، فعلم من هذا بالفعل ان كل دَ آ، وعلم ان كل بَ آ، ولم يعلم أن كل ج آ بالفعل ان كل دض آ، وعلم أن كل بَ آ، ولم يعلم ان كل ج آ بالفعل اذ لم يصرف تامله الى ذلك؛ وكان يجب ان يعلم ذلك، لو صرف اليه تأمله. اذ العلم بأن كل ج بَ، وكل ب آ، يكون علما بالقوة ان كل ج آ. قوة تصير بالفعل إذا أورد المعنيين بباله، وأخطرهما على ترتيبهما، وقصد أن يعلم مع ذلك حال مابين الطرفين قصدا، ولكنه لم يفعل. لكنه يظن الآن أن لاشئ من ج آ. فالذي يعلمه ليس يعلمه الا من جهة العلم بالكلي الذي يلزم عنه أن يعلم، وهو ان كل بَ آ. وأما من الجهة الخصوصة به فليس يعلمه مثلا. كما أن إنسانا يعتقد أن الاجرام السماوية لاتشارك النار والاستقصات في طبيعتها، ثم يحسب ان الكواكب نارية لانها نيرة. فهذا ظنه بالفعل مخصوص بالكواكب وعلمه بها كلي، توجد هي فيه بالقوة لابالفعل، لأنه علم بالجمل أن كل جسم سماوي لايشارك النار. وأما ان الكواكب غير نارية فهو جزئي تحت هذا الحكم الكلي. فليس من جهة واحدة علم وظن، بل علم الشئ من جهة لاتخصه، وظن به ظنا مقابلا لعلمه من جهة تخصه.(1/378)
وقد نهجنا لك سبيلا الى أن تعلم أنه كيف أن تعلم في المثال الاول أن كل ج بَ، وتعلم أيضا أن كل بَ آ، ومع ذلك يظن أن لاشئ من ج آ. أو تعلم ههنا أن كل كوكب فهو من جوهر الجسم السماوي، وتعلم أن كل ماهو من جوهر الجسم السماوي فهو غير ناري، ثم تظن ان الكواكب نارية. فانه يسهل عليك بما اعطيناك آنفا أن تحل هذه الشبهة. لآنك تعلم من ذلك انه لافرق بين أن تعلم الكبرى، ولم تضع الاصغر تحت الاوسط بالفعل في انه لايجيب أن تعلم النتيجة بالفعل، وبين أن تعلم الكبرى والصغرى معا ولم تؤلف بينهما تأليفا تلزم عنه النتيجة بالفعل، لن وجود هاتين المقدمتين في النفس كيف اتفق، لا يوجبان في النفس العلم بالنتيجة، الا ان يكون فيما بينهما تأليف ما مخصوص، وأن تكون النفس مرعية لذلك التأليف، معتبرة اياه قاسية بينه وبين المطلوب. كل ذلك بالفعل والا وقع ذهول. مثلا ان من يعلم ان هذه بغلة، ويعلم ان كل بغلة عاقر. فاذا لم يجمعهما معا في الذهن خاطرين بالبال، أمكن ان يظن مع ذلك ان في بطن هذه البغلة جنينا. وذلك لأن هاتين المقدمتين ليستا سبب النتيجة الا بالقوة. وانما تصيران شبب النتيجة بالفعل اذا اخطر معا بالبال على الترتيب الذي من شأنه أن ينتج قاعدة نحو النتيجة. وأما اذا كانا معلومين بالتفاريق، ولم يحضرا معا في العلم على للترتيب المذكور، ونحو الغرض المقصود، فان النتيجة تلزمهما بالقوة. كما أن الكبرى وحدها اذا علمت، لم يعلم وجود النتيجة مالم يخطر بالبال أن الاصغر موضوع تحت الاوسط وتحت حكمه. فاذن الخدعة الواقعة مع العلم بمقدمتين ومع العلم بالمقدمة الكبرى الكلية متشابهة؛ أحدهما، الجهل فيه بجزئي، وهو بالقوة تحت كلي معلوم؛ والثاني، الجهل فيه يلازم هو بالقوة بعد لازم عن ملزوم معلوم، لا من حيث هو ملزوم بالفعل، بل من حيث ذاته. فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول المعلم الاول.
فإذن ليست من جهة واحدة جهل الشئ وعلم. فقد زال تشكك رجل يقال له مانن على فيلسوف يقال له سقراط. إذ قال له: هل المطلوب عندك بالقياس معلوم، أو مجهول؟ فان كان معلوما فالطلب محال، وان كان مجهولا فكيف تعرفه اذا وجدته؟ وهل يمكن أن يظفر بالآبق من لم يعلم عينه ؟ ولم يتعرض سقراط بالمعلوم. وأما تلميذه الذي يقال له افلاطون فلما تعرض لذلك قال: إن التعلم تذكر. وكيف يستقيم هذا الذي اعتمده هذا الفيلسوف الآخر متخلصا به عن الشك والعالم بأن مل مثلث زواياه الثلاث مساوية لقائمتين عالم بالقوة بالمثلثات الجزئية، وإن كان جاهلا بها بالفعل. فكما يحس بمثلث جزئي،ويعلم ان هذا الشئ مثلث، ويخطر بالبال ما كان علمه اولا، تيقن ان هذا الشئ زواياه الثلاث مساوية لقائمتين. ولايجوز أن يكون قد تذكر شيئا علمه قبل، فان هذا المثلث الجزئي انما حدث الآن، فكيف يكون علم من قبل أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين ؟ بل انما كان علم اولا علما كليا، ثم علم ثانيا وقوع هذا الجزئي تحت ذلك الاول العلم الكل، فعلم ثالثا أمرا لم يعلمه قط بالفعل بل بالقوة. فاذن قد كان يعلم المطلوب لا من الوجه الذي يجهله، ويجهله لامن الوجه الذي يعلمه. فليس المطلوب اذن يجهل كل الجهل حتى اذا وجدناه لم نعلمه بوجه لايخصه، ولا ايضا نعله كل العلم حتى نستغني عن طلبه لأنا نجهله من الوجه الذي يخصه. وهذا كمن كان يعرف آبقا أبق منه بعلامة، فعرف مثلا ان كل من به تلك العلامة فهو آبقة، ولا يعرف اين آبقة الذي يطلبه، فكما يحس به يحس بالعلامة، وهو الحد الاوسط فيحكم انه الآبق المطلوب.(1/379)
وبالجملة فإن المعرفة اما عامية، وإما خاصية. وايضا فإن المعرفة إما معرفة بالقوة، وإما معرفة بالفعل. ولهذا السبب يمكن ان تكون عارفين بالكلي ونجهل الجزئي، لا الجهل الذي هو عدم العلم فقط، بل الجهل المضاد للعلم. مثلا بان يكون علمنا أن كل خس مرطب، ثم رأينا خسا فحسبناه مجففا فظننا انه جرجير أو غير خس، فنكون قد اخطأنا فيالصغرى، لا جهلناه فقط. وربما ظننا أن خيرا ما ليس بخير، كالشجاعة، أنها شر؛ وكنا علمنا أن كل شر ما فليس بخير، فيكون ظننا أن خيرا ما ليس بخير. وسواء عقد في خير مثلا انه شر ما، أو انه وذلك الشر واحد. وكذلك سواء عقد في ذلك الشر وشر آخر انه واحد، وعقد ان ذلك الشر، ذلك الشر الثالث، بل هذا أشهر تأكدا لانه يدل على المساواة. لكن مذهب الغلط واحد. وربما ينتج لنا صواب عن مثل هذا الخطأ بأن يظن بخير ما أنه شر، ويظن بذلك الشر انه خير، فنكون قد انتجنا ان خيرا ما خير، فنكون انخدعنا في المقدمة دون النتيجة. وقد يعرض للانسان من جهة اخرى علم وظن بشئ واحد متقابلين معا من جهة، وليس معا من جهة. مثل أن يكون الذهن قد يصدق من جهة القياس أن ليس خارج العلم خلاء ولا ملاء. ثم انه اذا اعرض عن ذلك القياس ونظر في الامر نفسه، جاءت القوة الوهمية فرسمت وجوب أن يكون هناك خلاء أو ملاء، فتتبعها النفس فتظن أن هناك خلاء أو ملاء على سهيل غفلة، كما علمت. ثم اذا تذكرت القياس انقلعت عن طاعة الوهم. فيكون هناك من جهة علم وظن معا، ومن جهة ليس. أما الجهة التي ليس بها العلم والظن معا انه يستحيل ان تخطر جميعا بالبال، اعني صحة ان ليس هناك خلا او ملاء من القياس اليقيني الموجب له، ثم تكون النفس ظانة ان هناك خلاء او ملاء؛ وان كانت القوة الوهمية مصممة على ذلك اذ ليس الوهم والظن شيئا واحدا. وأما الجهة التي يكون بها هذا العلم والظن معا، فلان هذا العلم قد اكتسب وحصل، وليس يحتاج أن يستأنف طلبه؛ كالمشكوك فيه بقياس يستفاد والظن طرأ على هذا العلم، وهو مكتسب، ولكنه معرض عنه. وفرق بين المكتسب المعرضعنه وبين المجهول المطلق. فإن جميع مايعلمه الانسان لايكون نصب عينه. ومن هذه الجهة ما يعرض للانسان من الاختلاطعند الظنون الفاسدة فيكون الانسان متيقنا من جهة العقل انه لاضار له في الموضع المظلم، ويظن من جهة الخيالات والظنون الفاسدة أن فيه ضارا له فيجبن عن خوضه. كأن الوهم يخيل شيئاً، وكأن النفس تنقاد لذلك المتخيل فيظنه ظنا أو يعتقد عقدا. ولو كان لايظنه ولا يعتقده لما كان نفس التخيل بوحشية، فإن الانسان قد تخيل امورا هائلة، فاذا لم يكن معها ظن ما لم ينفعل عنها شيئا، فيكون العقل وخصوصا الحيوانية تكون كأنها تؤثر الاعراض عن المعقول.
الفصل العشرون
(ر) فصل
في عكس النتائج
وههنا اعتبارات تعرض للقياس والمقدمات بسبب أحوال في الحدود. فنقول: انا اذا انتجنا ان كل ج آ، من قولنا: كل ج بَ وكل بَ آ. ثم انعكس كل ج أ. فصح أن كل آ ج. فيلزم أن تنعكس الصغرى. وذلك لآنك تقول: كل بَ آ،وكل آ ج، فكل بَ ج. ويلزم أن تنعكس الكبرى لأنك تقول: كل آ ج، وكل ج بَ، فكل آ بَ. فان كانت الكبرى سالبة، فقلت: كل ج بَ، ولاشئ من بَ آ، فيلزم انه لاشئ من ج آ، كانت الكبرى مما ينعكس لامحالة. فكما تنعكس الكبرى، فكذلك تنعكس النتيجة لانعكاس الكبرى لاعلى سبيل وجوب عن تأليف؛ وإن كانت الكلية السالبة تنعكسلنفسها دائماً. وأما كيف تنعكس بسبب انعكاس الكبرى، فلأن الكبرى اذا انعكست صارت الى الشكل الثاني، وصلحت ان تكون صغرى، فأنتجت عكس النتيجة. وايضا ان انعكست الصغرى وعكست النتيجة السالبة، انعكست الكبرى السالبة. لانه اذا كان كل بَ ج، وقلت: ولا شئ من آ ج، وهو عكس النتيجة، انتج: لاشئ من آ بَ. فان لم تنعكس النتيجة، أنتج الكبرى بحالها. فهذا ما كان بسبب انعكاس النتيجة او المقدمة.(1/380)
وأما انعكاس المتلازمات والمتقابلات، فانه اذا كان كل واحد من آ و بَ ينعكس على الاخر في الحمل، وكان كذلك جَ و دَ. وكان دَ آ و ج موضوع اما الشئ المطلق واما شئ اخص، لايخلو اما ان يكون ج واما ان يكون آ، فكذلك هو بَ و دَ. لانه اذا كان اذا وجد في الموضوع آ. وجد فيه بَ. وحينئذ لايوجد فيه ج، فيجب ايضا ان لايوجد فيه دَ، والا فقد وجد فيه جض، لان كل دَ ج. فاذن عندما يوجدفيه بَ، لايوجد فيه دَ. وكذلك عندما يوجد فيه دَ يجب ان يوجد ج، فلا يوجد آ. فيجب ان لايوجد بَ، والا فقد وجد آ. واقول ايهما لم يوجد فالاخر يوجد، لانه اذا لم يكن فيه دَ، فأقول يكون فيه بَ، لأنه اذا لم يكن فيه دَ، لم يكن فيه ج، والا لكان ج ليس ب دَ. واذا لم يكن فيه ج كان فيه آ، وكل آ بَ، فكان فيه بَ. وكذلك بالعكس. ومثال هذا انا نضع المكون والفاسد، ينعكس احدهما على الاخر. فغير المكنو وغير الفاسد ينعكس احدهما على الاخر. وكل شئ اما مكون، واما غير مكون. فكل شئ إما فاسد، وإما غير فاسد. وهذان قياسان مركبان: احدهما يبين ان الشئ دائما يكون موصوفا بأحد هذين. والثاني انهما لايجتمعان فيه معا. فيتبين منهما المطلوب.
فأما اولهما ان كل شئ إما مكون، واما غير مكون. وكل مكون فاسد، وكل غير مكون غير فاسد. ينتج: كل شئ لايخلو عن كونه فاسدا او غير فاسد. ولكن معنى لايخلو ههنا هو، ليس انهما لايجتمعان فيه، ولايزولان عنه؛ بل معناه أنه لايوجد مفارقا للمعنيين جميعا، وان جاز اجتماعهما فيه. وهذا في نفسه قياس مركب من قياسين: احدهما ان كل شئ اما مكون، واما غير مكون، وكل مكون فاسد ينتج كما تعلمت فيما سلف. وحيث علمناك الاقترانيات الشرطية ان كل شئ لايخلو على الوجه الذي قلنا من الصنفين المذكورين، اعني من ان يكون فاسدا، أو غير مكون. واذا جعل هذا مقدمة، واضيف اليها: وكل غير مكون غير فاسد؛ ينتج: أن كل شئ لايخلو من ان يكون فاسدا، او غير فاسد.
ولكن ليس على معنى انه لايجوز اجتماعهما فيه كما علمت، بل يحتاج في اتمام ذلك الى بيان آخر. وذلك في القياس الثاني، وهو مركب من قياسات، وهو انه لاشئ مما هو مكون بغير مكون، وكل غير فاسد غير مكون، فلا شئ مما هو مكون غير فاسد. ثم نقول: كل فاسد هو مكون، ولا شئ مما هو مكون غير فاسد، ينتج انه لاشئ مما هو فاسد بغير فاسد. ثم يقال: كل شئ لا يخلو من فاسد وغير فاسد، والفاسد وغير الفاسد لايجتمعان، فكل شئ لايخلو مما لايجتمعان، وكل شئ لايخلو مما لايجتمعان فهو إما هذا واما ذاك. فكل شئ إذن إما هذا الذي هو الفاسد، وإما ذاك.
فاحد القياسين المركبين يبين ان كل شئ لايخلو منهما جميعا. والثاني تبين ان لاش من الاشياء يوجد فيه كلاهما. فعلى هذا الوجه يمكن ان يبان ما يقوله المعلم الاول من ان ذلك يبين بقياسين مركبين.(1/381)
وأما من لم يعلم الاقترانيات التي من شرطيات، فيهيم في بيان هذا هيمانا غير منتظم. هذا وايضا وان كان كل الموضوع إما ان يوجد فيه آ، و إما بَ. وايضا إما ان يوجد فيه ج وإما دَ. ثم كان كل آ ج، وكل ج آ؛ فكل ب دَ، وكل دَ بَ. والا فليكن بعض دَ ليس بَ، فيكون آ، لانه لايخلو الموضوع من آ و بَ. واذا كان بعض دَ آ، وكل آ ج. وكان دَ، ج لايجتمعان معا. هذا خلف. واما ان كانت آ موجودة في كل وفي كل ج فقط ولاتوجد في غيرهما. ثم كان كل ج بَ. فيكون كل آ بَ، لان بَ تقال على جميع ماتقال عليه آ لأن آ تقال علىبَ و ج فقط، ثم بَ تقال على بَ وعلى ج فبَ تقال على جميع ما يقال عليه آ. فكل بَ آ. فان انعكس بَ ج انعكس ايضا آ بَ. وهذا ظاهر. وايضا اذا كان كل ج آ، وكل ج بَ، وكان بَ ج، فكل بَ آ. لان كل بَ ج وكل ج آ. ونقول: انه ليكن آ و دَ مطلوبين. و جض، بَ مهروبا منهما. و آ و بَ متقابلان. فنقول: اذا كان آ، جض كلاهما مجموعتين، افضل من بَ و دَ مجموعتين؛ فان آ افضل من دَ؛ وذلك لان آ مطلوب، كما ان بَ مهروب عنه لانهما متقابلان، وكذلك ج مطلوب مثل ما أن دَ مهروب لانهما يتقابلان. فان لم يكن آ افضل من دَ، فاما ان يكون مساويا ل دَ، او يكون دَ افضل. لكنه ان كان آ مساويا ل دَ في انه مطلوب، فيجب ان تكون اضدادهما تساويين في انهما مهروب منه، واذا جمع الى بَ، دَ اجتمع مطلوب ومهروب منه. وكان جملة ذينك في الطلب والهرب، كجملة هذين. فلم يكن مجموع آ ج افضل من مجموع بَ دَ، وكان افضل. هذا خلف. واما ان قلنا: إن دَ، افضل من آ في باب انه مطلوب، فضد الدال الذي هو في غاية الخلاف له، اكثر في باب الهرب. لان الاقل بازاء الاقل، والاكثر بازاء الاكثر. فاذن ج اكثر في وجوب اجتنابه والهرب منه من بَ. فتكون بَ اثر من ج، فتكون بَ و دَ معا. اثر من آ، ج. ولم يكن هكذا. ثم مثل لهذا مثالا من كتاب افلاطن. فليكن بدل من المواد اختبار مساعدة الحبيب محبة على بغيته. فتكون بَ أن لايختار مساعدة الحبيب محبة على بغيته. ولتكن ج هو ان لايساعده على بغيته. فتكون دَ هو ان يساعده على بغيته. ثم كلا آ و ج، اعني ان يهوي مساعدته ولا يساعده؛ افضل من كلا بَ، دَ اعني ان لايهوي مساعدته ويساعده. فاذن آ وحده وهو ان يهوى ان يساعده، افضل من دَ وهو ان يواتيه ويساعده. ومعنى هذه المواتاة والمساعدة الشركة في الجماع. فاذن افعال المحبة بلا جماع آثر في المحبة من الجماع. والافضل هو الكمال في كل شئ. والجماع إما ان لايكون له مدخل في باب المحبة، وإما ان يكون شيئا من اجل المحبة لإرادة شدة الالتقاء وطلب النسل المؤدي الى تأكد المقارنة والمخالطة. فلا يكون عن المحبة ولكن عن شهوة مقارنة للمحبة، فالشهوة تطلب اللذة، والمحبة تطلب المخالطة والخير الواصل الى المحبوب. فتكون اذن هذه الشهوة اذا قدرت وعدلت يصدر عنها طلب الجماع لأجل المحبة. فالجماع يدخل في المحبة من هذه الجهة، لاعلى ان نفس المحبة تقتضيه، بل على ان الشهوة المقدرة المعدلة بالمحبة تقتضيه لأجل المحبة.
الفصل الحادي والعشرون
(ش) فصل
في القياسات الفقهية والتعقلية
ليس الراجع في التحليل الى الاشكال الاقترانية هي المقاييس البرهانية والجدلية، بل والمثال والاستقراء والضمائر الخطبية والفقهية والحسية والتعقلية والوساطية. وما كان من الضمائر يسمى دلائل وعلامات، مما سنذكره.(1/382)
واعلم أن الحجج الخطبية إما ضمائر حذفت فيها الكبريات، فاذا ردت عادت الى شكل من الاشكال؛ وإما مثالات مظنونة الصدق غير معتقدية، أو مظنونة الانتاج في التاليف غير معتقدية، سواء كانت صداقة او كاذبة، ولكنها معدة نحو الزام خصم منازع، أو اقناع جماعة سامعين وحاضرين أو مكاتبين؛ وأكثرها في الامور الجزئية. والقياسات الفقهية أيضا فانها قياسات مثالية، وهي التي تحكم فيها على شبيه بحكم موجود في شبيهه المأخوذ عن صاحب الشريعة أو خلفاء الله المهديين أو عن الائمة العالميين أو المتفق عليه مما يرجع الى المأخوذ عنه. ويسمى الشبيه أصلا، وما يتشابهان به معنى وعلة، وما ينقل عن الشبيه الى شبي هه حكما. وقول صاحب الشريعة اما جزئي اقيم مقام كلي، كما يخاطب في كتاب الله النبي عليه السلام، ويراد به الناس كلهم؛ واما كلي اقيم بدل جزئي، كالعام في كتاب الله تعالى الذي يراد به الخاص. واما جزئي اريد جزئيا، او كلي اريد كليا. وهذان هما النص.
وأما القياسات التعقلية، فهي قياسات تؤلف على انتاج ما ينبغي ان يفعل وتخالف المشورية بما تخالف به الخطبية. فان الخطبية جماع الامر فيها ان تكون على سبيل المخاطبة، فلا يقال لمن فكر في نفسه في ايثار ما يجب ان يفعل ولا يفعل انه يخطب. وكذلك تشبه ان المشورية تكون على الغير. ولذلك صارت القياسات التعقلية مأخوذة من مقدمات صادقة او اكثر في الحقيقة. واما الخطبية والمشورية فليس الشرط فيها ذلك، بل ان تكون مقبولة عند السامع مظنونة تلزمها النتيجة. وانما صار ذلك كذلك بسبب ان الانسان ليس غرضه مع نفسه ان يلزمها، بل ان يهديها سبيل الحق؛ وغرضه مع غيره قد يكون الهداية، وفد يكون الالتزام. والتعقلية أعم من السياسة، فأن السياسة انما تكون فيما ينتج ما ينبغي ان يفعل، وتترك من الامور المتعلقة بالمشاركة العائد نفعها الى تدبير المدنية من حيث هو تدبير مدنية. والتعقلية تكون في ذلك، وفيما هو اخص من ذلك.
وأما القياسات الحسية، فهي قياسات مأخوذة من مقدمات فقهية وسياسية مخلوطة. فتؤخذ عامياتها من المقدمات الفقهية وخاصياتها من المقدمات السياسية. والوساطية قياسات مقدماتها مأخوذة مختلطة من الفقهية، والآراء المحمودة التي ليست تختص بملة ملة، التي تسمى سنة غير مكتوبة. فتكون في اكثر الامور عامتها من المقدمات الفقهية، ثم تخصص بمقدمات محمودة.(1/383)
واما الاستقراء، فهو أن يبين أن شيئا كليا موجب على شئ كلي آخر، أو مسلوب عن شئ كلي آخر، لوجود ذلك الكلي الاول فيما تحت الكلي الثاني، اعني في جزئياته. ولما كان المبين به موضوعات المبين له الحكم، فالكلي المحمول أو المسلوب كالطرف الاكبر. وتلك الموضوعات حقها ان تكون كالطرف الاصغر. والكلي المحكوم عليه حقه ان يكون كالحق الاوسط. فيكون قد تبين بأحد الطرفين وجود الطرف الآخر للواسطة، ويكون ماحقه أن يكون حدا أصغر قد صار واسطة، وما حقه أن يكون حدا أوسط صار حدا اصغر. فليكن مثلا الحد الاصغر وهو ج انسانا وفرسا وبغلا، وليكن الحد الاوسط وهو بَ قليل المرارة، والحد الاكبر وهو آ طويل العمر. لنبين ان كل قليل المرارة طويل العمر. فاذا اردنا ان نستعمل هذا على سبيل الاستقرا، قلبنا الاوسط أصغر، والاصغر اوسط، وحفظنا الاكبر بحاله. فقلنا: كل حيوان قليل المرارة فهو اما انسان او فرس او بغل. أو قلنا: كل حيوان ويل العمر، فهو كالفرس والانسان والبغل. ثم قلنا: وكل فرس أو بغل او انسان فهو قليل المرارة. فأنتجنا: ان كل حيوان طويل العمر فهو قليل المرارة. فقد رجح هذا اذن الى القياس الاقتراني الا ان الوسائط فيه اشياء كثيرة وموضوعات الحد الاكبر. وأما ان الاكبر كليللاوسط، والاوسط موجب على الاصغر، والاوسط نافل للحكم فيه من الكبرى الى الصغرى، وجامع بين الاكبر والاصغر، فهو كما في القياس. ويجب ان يعلم ان الاستقراء ليس استقراء الا لأنه بيان حكم على كلي لكونه في جزئياته مدعى انه في جميعها لفظا، وان لم يكن كذلك ولم تكن قد عددت بكمالها، متناهية كانت او غير متناهية. فان المستقرئ يقول كل حيوان طويل العمر فهو كفلان وفلان. فيكون هذا ظاهر دعواه. فانه لو اعترف ان شيئا شاذا من جملة مايستقرئه فكأنه اعترف بانه عمى ان يكون دعواه الكلي غير صحيح، وربما عد منها شيئا، ثم قال: كذا وكذا، وما يجري مجراه. فاذا فعل كذلك، جعل الاوسط في دعواه مساويا لجزئياته. فانه يقول: إن كلها كذلك. لكنه ربما كذب فيما يوهمه. وليس قانون الاستقراء مبنيا على ان يكون حقا، بل على انيكون على الصفة المذكورة. فإن استقراء الجميع، فقد اتي باستقراء برهاني. وإن لم يستقرئ الجميع فانه يوهم أنه يستقرئه حتى يكون كأنه يقول: كل حيوان هو احد ماعدا فقط. وليس لقائل ان يقول: انه يجب ان يعد الجميع، والالم يلزم. لأن الاستقراء كما قلنا قلنا ليس للإلتزام الحقيقي، بل للإلتزام المشهور، وبما يظن غالبا. فالاستقراء استقراء لهذا. وقد غلط من ظن ان الاستقراء المذكور في كتاب القياس شئ على حدة، وأن فيه نوعا من الاستقراء غير الذي في طوبيقا، محتجا بانه قد ذكر فيه ان الاستقراء يكون لجميع الجزئيات. فإن ذلك ليس على انه يكون كذلك بالحقيقة، بل على انه يدعي انه كذلك. فالاستقراء أعم من الاستقراء المستوفي الذي هو بالحقيقة قياس مقسم، ومن جملة ماعددنا فيما سلف ومن الاستقراء المقصر فيه المدعي فيه الاستيفاء فان انعكس ج على ب حتى يكون كل بَ، فهو احد تلك المعدودة لاغير ولايخلو منها، فكانت الباآت هي الجيمات، والجيمات هي الباآت، حمل الالف على كل الباء لامحالة. إذ كل اثنين يقالان على موضوع، ثم انعكس الموضوع على احدهما، فواجب أن يقال الثاني على الذي انعكس عليه الاول. قد بينا هذا، والاستقراء التام الحقيقي هو الذي يرجع فيه بَ على ج وتوكن الجزئيات عدت بالتمام. والاستقراء انما يضطر اليه في انتاج المقدمات التي ليس يوجد بين محمولها وموضوعها واسطة، كان وجه البيان هو القياس بتلك الواسطة، لا الاستقراء.
فقد بان من هذا ان الاستقراء يخالف القياس، من جهة ان الشئ الذي يجب ان يكون حدا أصغر لو كان القول قياسا يصير في الاستقراء واسطة، فبين به مايجب ان يكون حدا اكبر للواسطة، أو كان القول قياسا. وفي القياس لايكون هكذا. وايضا القياس اقدم وابين بالطبع عند العقل. وأما الاستقراء فأقدم وابين عندنا بالحس. فكأنما يكتسب كثيرا من المقدمات الاولى بالاستقراء الحسي. وأما كيف ذلك، فسيبين في موضوعه.
الفصل الثاني والعشرون
(ت) فصل
في الاستقراء(1/384)
نعود فنقول: ان الاستقراء استقراء، لأنه إثبات حكم على كلي لانه موجود في جزئياته على ايهام انها استوفيت، ومنع ان يكون لها مخالف. فمنه تام ومنه غير تام. فكونه استقراء امر اعم من ذلك. وايضا فاعلم ان الاستقراء كونه ليس بسبب تصحيح كبرى او صغرى، فانه استقراء لأنه يثبت به مطلوب كلي. ثم يعرض له ان يصير مرة اخرى مقدمة كبرى أو صغرى. فلا يكون الاستقراء انما هو لإثبات الكبرى أو الصغرى، أو لإثبات شئ لينفع في شئ اخر، أو لإثبات شئ هو مطلوب في نفسه، بل الاستقراء استقراء لانه يثبت به امر ما من الامور واحد معين النوع المعلوم من الاثبات. ويكون ذلك الامر تارة مطلوبا لنفسه وتارة مطلوب لغيره. وذلك اختلاف بعد كونه مثبتا بالاستقراء، واختلاف ما بعد ذلك لايجعله مختلفا في انه استقراء، بل هذا كله يعد انه استقراء. والاستقراء قد يستعمل لبيان الكبرى في قياس ما، وقد يستعمل في بيان الصغرى وتؤخذ الكبرى اخذا. وحيث ما كان فيجب ان يكون مابين بالاستقراء أظهر من المطلوب الآخر أو ليس اخفى منه. أما كيف يكون اظهر من ذلك المطلوب، فان يكون ذلك المطلوب مثلا مجهولا وجود محموله لموضوعه او سلبه عنه؛ ويكون المحمول في المصحح بالاستقراء معلوما وجوده للموضوع او سلبه عنه مطلقا، لكن كميته مجهولة فتصحح بالاستقراء كميته؛ او يكون كلاهما ظاهرين بحسب الشهرة، لكن هذا أظهر. وأما كيف يكون ليس باخفى منه، بل مساويا له، فانما يمكن ذلك اذا كان لوجود المحمول في المطلوب سبيل بيان غير هذه السبيل لايحتاج فيه الى هذه السبيل. فيكون كل واحد منهما له وجه بيان ليس متعلقا بالآخر. فلا يكون احدهما مبدأ بيان للآخر، فيكون أظهر منه، بل يتساويان. ولكنه من حيث هو الآن مبين بهذا، فلا يمكن الا ان يكون البيان اولا للمقدمة، ثم للنتيجة. فيكون الوسط للمقدمة اقل منه للنتيجة. واذا كان الوسط اقل فهو ابين. فانج ميع مانورد في الاستقراء من وسط، فانه مشترك للمقدمة والنتيجة. وللنتيجة زيادة وسط آخر. فان كان الاصغر مبينا، والاكبر مشكوكا فيه، واريد اثباته بالاستقراء التام، امكن من وجه ولم يمكن من وجه.
اما الوجه الذي يمكن فان يقسم تكون الجزئيات فيه بحيث لايخرج عنها الاصغر مثل ان الحيوان تارة يقسم الى الناطق، والى غير الناطق؛ والى غير الناطق؛ وتارة الى المائت وغير المائت. والمائت وغير المائت لاينفلت عنهما الناطق ولاغير الناطق. فاذا اريد مثلا ان يبين ان كل ناطق الف، وجعل الحيوان فيه وسطا، او اريد ان تبين الكبرى بالاستقراء، قيل فيه: كل حيوان مائت وغير مائت، وكل مائت وغير مائت فهو آ، فكل ناطق آ.
واما الوجه الذي لايمكن، فأن يستعمل الاستقراء في الكبرى مأخوذا من جزيئات القسمة الاخرى. فنقول: كل ناطق حيوان، وكل حيوان اما ناطق واما كذا، واما كذا، وكل ناطق وكل كذا وكذا آ، فانه يأخذ ان كل ناطق آ في بيان ان كل ناطق آ. وكذلك الحال حيث لاتكون القسمة الا قسمة واحدة ان كان شئ هكذا. وغلط من جعل هذه القسمة مثل قسمة اللون الى جزيئاته مرة الى انواع اللون، ومرة الى انها جسم وبياض، فجعل الجسم والبياض قسمين في الترتيب تحت اللون، ولم يحضره انه يمكن ان يقسم الى موضوعات للحمل قسمة لايذكر فيها مايدخل في قسمة اخرى.
فبالجملة الوجه الممكن هو ان يكون اذا قسم القسمة المذكورة ادعى ان كل واحد مما في القسمة الغير المصرحة بالاصغر ولا المخرجة اباء هو بصفة، فجعل تلك الصفة للكلي الذي هو الاوسط، ثم ادخل الاصغر تحت ذلك الحكم.
واما الوجه الذي لايمكن فيه ذلك، فان تكون القسمة مخرجة في الاجراء للاصغر صريحا، فيحتاج ان يصرح ان موجود للاصغر، وذلك هو المطلوب الاول، وذلك محال. فان ذلك ان كان بينا فما الحاجة الى البيان. وكذلك ان كانت الصغرى هي الخفية.(1/385)
على ان المستقرئ اذا لم يكن استقراؤه تاما اقتصر من الاقسام التي ينقسم اليها الذي هو في حكم الاوسط على ما هو خارج عن الاصغر، وترك الاصغر. فاذا انتج الحكم الكلي عاد فادخل الصغرى تحت ذلك الحكم. واعلم ان المستقرئ عند ما يستقر مايمكن ان يجعل صغرى او كبرى، فانما ينظر فيه لنفسه، ولا يلتفت حينئذ الى النتيجة، بل انما يطلب ان يستقر له الحكم الكلي فاذا استعمله في القياس استعمله على انه امر قد تبين قبل. فهو بحسب استعماله ابين من النتيجة. ويكون في نفسه اما ابين، واما مثل النتيجة في الخفاء. فان الاستقراء من حيث هو استقراء انما يبين به ما هو بالحقيقة امر جزئي، الا ان ينقلب الاستقراء قياسا مقسما. وذلك الذي بان هو مثل مانريد ان نبين من امر النتيجة المسوق اليها الكلام. فان تلك النتيجة بعد استعمالل هذا القياس المبني على الاستقراء لاتبين ايضا بالحقيقة من حيث الدعوى الكلية، كما لم تكن المقدمة ايضا بانت، فحفاؤها واحد. ولا يمنع ان يكونا من حيث الجزئية قد كانا معلومين بالسواء. وربما كان للنتيجة طريق اخر تبين به تسط هذا المتوسط، وبلا توسط الصغرى او الكبرى المجهولين، ويكون ايضا لتلك طريق اخر تبين به. فيكون البيان الحقيقي لهما منفردا لكل على حياله غير مبين بالاخر، فلا يكون احدهما اظهر من الاخر. فعلى هذه الحجة ينبغي ان تفهم هذه المواضع، لاعلى الجهات التي قيلت.
واعلم ان الاستقراء الناقص مغالطة في البرهان، وليس مغالطة في الجدل. وقد يؤخذ في الجدل اخذا غير حق، ويستعمل على ذلك من غير استكثار في الجدل. والاستقراء التام المنقول عنه الحكم الى شئ تحت المستقرئ له انما ينفع في البراهين، اذا بانت بها المقدمات من جهة قسمة ما. ثم هناك قسمة اخرى تصير لها الجزئيات الاخر فيطلب الاكبر على جزئي ما منها، مثلا اذا بان ان كل ناطق وكل غير ناطق بصفة، فصار كل حيوان بتلك الصفة، ثم اخذ الماشي فقيل: والماشي حيوان، وكل حيوان فقد بان باستقراء جزئياته انه بصفة كذا. او يكون قد بان الحكم على كل ناطق وعلى كل غير ناطق، فبان على كل حيوان، ثم جعل الحد الاصغر جزئي الناطق. فلا يمتنع ان يكون الحكم على الناطق ابين منه على جزئي الناطق. ثم ليس لقائل ان يقول: فهلا بين الجزئي الذي للناطق من جهة الناطق ؟ وانما ليس ذلك له، لانه لايمتنع ان يكون نظره الاول في الناطق، ليس لأجل جزئي الناطق، بل لأجل الاستقراء، ثم صح له من الاستقراء ان كل حيوان بصفة، ثم لما اورد ذلك الجزئي خطر بالبال وقوعه تحت الحيوان، ولم يخطر الناطق بالبال في هذا الحين، فائتلف قياس صحيح. فان كان بيانه من جهة الناطق بيانا افضل ومما هو اولى، على ما ستعلم في كتاب البرهان، فعلى هذا يجب ان يفهم هذا الموضع من كلام المعلم الاول.
واعلم انه كلما كانت الاوساط من حيث هي جزئيات المستقرئ له اقل، ومن حيث هي موردة في الاستقراء اكثر، كان الشك ازول، لان الباقي مما لم يعد يكون اقل. فاعلم ان الاستقراء في تصحيح المقدمات الكلية يستعمل على الوجهين المذكورين، وقد يستعمل للتنبيه على الاوائل، ولايحتاج فيها الى الاستيفاء. وقد يستعمل بوجه ما للتجربة ويحصل معه ضرب من اليقين وان كانت من غير استيفاء، كما سنتكلم فيه في كتاب البرهان. واعلم انه قد استعمل في التعليم الاول لإبانة الاستقراء المنتج للصغرى مثالان، احدهما ما قبل من ان كل عدل علم، وكل متعلم، فكل عدل متعلم. ثم وجد كون العدل علما امرا غير بين، فكان هذا الذي يحتاج الى بيان استعمل بعضهم فيه القياس. ونسى انه ينبغي ان يستعمل الاستقراء، اذ المثال للاستقراء. وكان ذلك القياس مثل قولهم: ان كل عدل ملكة تكتسب بالفكرة، وكل ملكة تكتسب بالفكرة علم. وهذا هو نفس القياس. وقد عمل بعضهم شيئا اخر، وهو ان قال: انه يجب ان يكون مكان العدل فضيلة، ويكون العدل جزءا من جزيئات الاستقراء، اذ هو جزئي للفضيلة. فلما صح ان العدل علم بالقياس المنقول، قبل: وكذلك كل فضيلة علم. واما نحن فلا يعجزنا ان ناخذ العدل حدا اصغر نفسه، ويكون بيانه ان عدالة فلان المشهود. وفلان المشهود كانت قنية اكتسبت بالبحث والفكرة. فنقول حينئذ: كل عدالة مكتسبة بالبحث والفكرة. فتكون هذه الصغرى انما بانت بالاستقراء هكذا.(1/386)
واما المثال الثاني فانه يشبه ما يستعمل فيه الاستقراء وليس مستعملا فيه الاستقراء. وذلك المثال هو ان قيل مثلا: ان الدائرة تساوي اشكالا مستقيمة الخطوط، وكل ما يساوي اشكالا مستقيمة الخطوط فهو معروف التربيع، فالدائرة معروفة التربيع. لكنه بين الصغرى، بأن قسمت الدائرة الى اشكال هلالية، وكان كل واحد منها يساوي مربعا، فالدائرة تساوي المربع. فههنا شئ لايمنع الاستقراء، وشئ يمنع الاستقراء.
اما الشئ الذي لايمنع الاستقراء فهو انه ان كانت الدائرة لاتنحل الى اشكال هلالية بتمامها، بل يبقى شئ غير هلالي، فان الاستقراء يتم بالاكثر وان اغفل الاقل. ومع ذلك فيدعي المستقرئ انه اخذ فيه الجميع.
واما الشي الذي يمنع الاستقراء فهو ان الهلاليات ليست جزئيات الدائرة، بل هي اجزاء الدائرة. وكذلك فان الدائرة الواحدة بالعدد تتألف من الهلاليات الكثيرة على اقوال مستعمل هذا القياس. وليس كذلك حال الجزئي والكلي. ولذلك فان الهلاليات لاتقال عليها الدائرة، وليس كذلك حال الجزئي عند الكلي. لكن هذا مثال سمومح فيه ووضعت الاجزاء بدل الجزئيات، اذ الامثلة قد لايناقش فيها.
الفصل الثالث والعشرون
(ث) فصل
في التمثيل
واما التمثيل، فإنه اذا حقق يكون من اربعة حدود: اكبر كلي، واوسط كلي. وهذا الاوسط محمول على الاضغر، وعلى شبيه الاغر. فيكون الاغر وشبيه حدين واما الاكبر فانه يحمل على الاوسط لانه محمول على شبيه الاصغر. فليكن الاكبر آ ومعناه المذموم، والاوسط بَ ومعناه قتال المتامخمين، والاصغر ج ومعناه قتال بلد كاثينية لاهل ثينيا، والشبيه بالاصغر تحت الاوسط دَ ومعناه قتال اهل ثينيا لجيرانهم اهل قونيا. وههنا فالمشكل شيئان: احدهما الكبرى، هل بَ أي هل قتال المتاخمين مذموم. والثاني النتيجة وهو انه هل قتال اهل اثينية لأهل ثينيا مذموم. ويجب لن يكون شيئان اعرف من هذين، احدهما هل قتال اهل اثينية لأهل ثينيا قتال المتخامين، وهو وجود الاوسط في الاصغر؛ والثاني هل قتال اهل ثينيا لاهل قوفيا مذموم، وهو وجود الاكبر في شبيه الاصغر. واما التشبيه مثل ان حال قتال اهل اثينية لأهل ثينيا، حال قتال اهل ثينيا لأهل قوفيا، فينبغي ان يكون بين الشبه. فاذا رتبت هذه فنقول هكذا: ان قتال اثينية لاهل ثينيا قتال المتاخمين، وقتال المتاخمين مذموم، فقتال اهل اثينية لأهل ثينيا مذموم بعد ان تحح الكبرى بالشبيه. فنقول: قتال المتاخمين هو كقتال اهل ثينيا لأهل قونيا، وقتال اهل ثينيا لأهل قونيا مذموم: فقتال المتاخمين مذموم. فقد رجع التمثيل الى قوة القياسات، وصار التمثيل يصح بقياسين. وسواء كان المثال الذي هو الشبيه واحدا او كثيرا، فيرجع حاصل الامر في المثال الى انه يوجب حكما على جزئي لوجوده في جزئي آخر او جزيئات أخر.
وأما الاستقراء فكان يصح الحكم فيه على كلي لوجود في جزيئاته. والاستقراء يدعى فيه انه من جميع الجزيئات، حتى يبين وجود الاكبر في الواسطة التي تريد ان تكون حدا اصغر. وأما في المثال فيكتفي فيه بجزئي واحد أو جزيئات فوق واحد غير مدعي معها انها قد استوفيت تحت الكلي لنحكم على الكلي بذلك الحكم دعوى بالفعل، بل ذلك بالقوة بالايهام. وانما الذي بالفعل، فهو ان حكم هذا كحكم امثاله المعدودة غير مدعي فيها انها قد استوفيت. فإن الحاجة الى دعوى اتيفائها انما هو لإثبات الكلي الذي ينقسم فيها.(1/387)
وقياس المقاومة ايضا انما يرجع الى الاشكال. وقياس المقاومة قياس مؤلف معد نحو انتاج مقابل مقدمة في قياس لتبطل فيمنع القياس يمنع المقدمة التي عليها مدار ذلك القياس وهي التي تؤخذ كبرى. فالمقاومة يقصد بها قصد المقاومة الكلية في القياس. فانها أس القياس، وتكون على وجهين: إما عنادا، واما مناقضة. والعناد ان تجعل المقدمة الكبرى في القياس الذي تقابل به المقدمة الكلية أشد عموما من تلك المقدمة ومخالفة لها في الكيفية. فيكون الحكم في المقدمة الاولى هو على شئ عام كالأضداد مثلا. ويكون الحكم عليها ان العلم بها واحد فيجئ المقاوم ويأخذ ما هو أعم من الاضداد ويحكم عليه بضد الحكم، وهو ان يسلب عنه الحكم سلبا كليا. فنقول: ولاشئ من المتقابلات يكون العلم بها واحدا. ونضيف اليه فنقول: ان المتضادات متقابلات. واذا كان القياس الاول على موجب، وكان القصد في كبرى القياس الثاني مقابلة الحكم بالضد الاهم، لم يمكن ان يكون هذا القياس على وجه من الشكل الثاني، فإن الشكل الثاني يحوج الى عكس هذا الحكم. وبيان هذا انك اذا اوردت كبرى المقاومة، فقلت: ولا شئ من المتقابلات يكون العلم به واحدا فلا تتصل به والاضداد متقابلات الا ان تعكس، ولا تنعكس كلية. بل جزئية. وأما اذا كان المقاوم سالبا لتكون المقاومة موجبة، فلا يكون قياس المقاومة ينتج الموجبة الكلية الا في الشكل الاول. ثم ان هذا القياس اذا انتج مقابل كبرى القياس الاول فأضيف اليه الصغرى من القياس الاول بحالها انتج مقابل النتيجة المطلوبة بالقياس الممنوع. فيكون قد قيل: إن بَ آ، لان بَ ج، وكل ج آ. فعورض ان بَ ليس آ، لأن بَ ج، ولاشئ من ج آ فيكون من حيث اخذ الصغرى بحالها من حقه ان يسمى قلبا.
واما المناقضة فأن تكون الدعوى كليا فتورد جزئيا من الموضوع ليس فيه الحكم. ويكون ذلك الجزئي ملوظا اليه اول ما نلحظه للمناقضة، على انه موضوع لطرفي المناقضة. وهذه الهيئة ليست هيئة الشكل الاول ولا الشكل الثاني. فاذن كل مقاومة موجبة، اما في الشكل الاول، واما في الشكل الثالث. واما في الشكل الثاني فلا يمكن مقاومة موجبة. واما السالبة فلا تتبين به الا بأن يغير الكلام في المقدمة الكبرى عن وجه المقاومة، وهو ان يكون موضوعه هو بعينه موضوع المقاومة. مثلا نقول: إن الاضداد متقابلة، ولاشئ مما به العلم واحد بمتقابل. فنغير الدلالة على البيان بنفسه الى ابانته بالعكس، فان البين بنفسه اذا كان انه لاشئ من المتقابلات العلم به واحد، فأخذت بدل هذا عكسه، لم ذعن له الذهن اذعانه لهذا، بل احتيج ان يذكر ان السالبة الكلية تنعكس فتحتاج ان تزيد في الكلام ما عنه غنى. ونحن وإن قلنا: إن السالبة الكلية تنعكس مثل نفسها، فلم يضمن ان عكسها مثلها في البيان. ويجب ان نتأمل في المقاومة ما يوجبه الراي المحمود فتؤخذ المقاومة مقدمة محمودة ان لم تكن أولية، ويستعان فيها أيضا بالقياس الاستثنائي. مثلا انه لو كان العلم بالأضداد واحدا، لكان المعلوم والمجهول يقع عليهما علم واحد. وكذلك بالنظر في الاضداد، والنظر في الاشباه، كقولهم: لو كان العلم بالمضافين واحدا، لكان بالعدم والملكة واحدا.
وههنا أشياء أخر من هذا الباب تبين في الفن المشتمل على الجدل.
الفصل الرابع والعشرون
(خ) فصل
في الدليل والعلامة والفراسة
وقد جرت العادة في هذا الموضع أن يسمى بالدليل ما يكون مؤلفا من مقدمتين، كبراهما مقدمة محمودة، يراها الجمهور ويقول بها، وتؤخذ حجة ودليلا لاعلى سبيل ان جزءا منه دليل على جزء آخر مثل الدخان على النار، بل على ان نفس القول الحاصل من الجزئين معترف به فهو دليل. وربما كان على امر مستقبل، وربما كان على امر حاضر، وربما كان عاما، وربما كان على الاكثر، مثل قولهم: ان الحساد ممقوقون، والمنعمون مودودون. فان هاتين المقدمين دليلان او منهما يتخذ الدليل. وليس الغرض ان نفس المقت او الود علامة ودليل، او نفس الانعام والحسد؛ بل على ان هذا القول نفسه دليل أي متبع مقبول محمود مرجوع اليه، فإن الدليل في هذا الموضع يراد به هذا. فيكون الدليل اما على ان امر لانها ممكنة؛ واما على ان الامر قد دخل في الموجود او لم يدخل. هكذا يجب ان يفهم هذا الموضع.(1/388)
وهذه المقدمات تؤخذ في القياسات مقدمات كبرى، اما بالقوة، وإما بالفعل. وصغرياتها شخصيات كقولنا: إن فلانا حسود، وإن فلانا محب. وحمل هذه المقدمات بحسب الظن الغالب. والقياس الكائن منها يسمى اينوميا. وقياس العلامة ايضا يرجع الى الاشكال. وقياس العلامة ضمير يثبت فيه الاكبر للاصغر بعلامة. وتلك العلامة إما ضرورية، وإما محمودة مظنونة. والحد الاوسط في القياس الكائن من العلامة يقع على جهات ثلاثة: إما أن يصلح ان يكون حدا أوسط على الاصغر دون الاكبر، مثل اللبن اذا جعلته علامة للولادة، فيقال المرأة لها لبن، فقد ولدت؛ وهذا خص كثيرا باسم الدليل. وإما ان يصلح ان يجعل أوسط موضوعا لها جميعا، كقول القائل: الحكماء ذوو فضائل، لأن فلانا ذو فضل وفلانا حكيم. وإما أن يصلح أن يجعل أوسط محولا عليهما جميعا ولو بلإيجاب في الشكل الثاني، لأن مثل هذا في الخطابيات مقبول لأنه قياس مظنون، مثل قولهم: هذه المأة صفراء، فقد ولدت. ولايمكن أن يقال كل صفراء ولدت، بل كل والدة صفراء. فهذا يقبل في الظن. وكذلك هذه المرأة تتغثى فهي حبلى. وانما يكون علامة ودليلا إذا أضمر الكبرى، وإلا كان قياسا. والذي في الشكل الاول يستمر ولا ينقض، وهو صحيح، وأما الذي في الشكل الثالث فينقض. فإنه ليس اذا كان حكيم ما فاضلا، فكل حكيم فاضل. وكذلك التي في الثاني، لأن القياس الكائن من موجبتين ولاتنعكس كبراه سهل المناقضة، بأن يقال: ليس يجب ان تكون كل صفراء والدة. فيكون طعنا في التاليف، وتنهيدها على انه غير واجب بما هو أيضا محمود مقبول.
وأما المؤاخذة بما هو تنبيه برهاني وليس مشهورا مستعملا في العرف العامي، فليس عدلا في الخطابة. فلذلك صار الذي في الشكل الاول افضل العلامات ويسمى طغمور يدن. وليس يعجبني ما يظن من أن العلامة تدل على الوجود فقط، حتى تكون مقدمات القياسات العلامية في الاشكال الثلاثة موجبة، ومقدمات مايسمى دليلا تكون موجبة وسالبة. فإنه قد تكون على العدم علامة كما على الوجود علامة. وعلامة العدم كثيرا ماتكون عدم علامة الوجود. وأيضا هذا الذي يسمى دليلا، الاولى أن يكون له اسم آ خر ليتوقع منه إنتاج خاص بالاول. فكأن هذا وقع بحسب المترجمين. والاشبه ان يكون اسم الدليل ما جعل علامة من الشكل الاول، فيوجب الحكم. وأن المخصوص باسم العلامة هو ما في الشكل الاول فيوجب الحكم. وأن المخصوص باسم اللاعمة هو ما في الشكلين الآخرين. فإنهما كعلامة، غير دليل. فكأن الدليل اقوى من العلامة، وكأن العلامة دليل ضعيف. وكلُ يتوقع منه تخييا من ايجاب وسلب. وقد استعمل ذلك على هذا الوجه في موضع آخر.
وأن قوما من الذين يسمون بالمستدلين من الشاهد على الغائب، يطلبون القياسات كلها من العلامة، ويحصلون مقدمة كلية من الاعلامة والحد الاكبر. فمرة يصححون ذلك بالاستقراء المستوي، ومرة بالاستقراء المعكوس، وهو الذي يكون على عكس النقيض للمطلوب. وذلك الاول يسمونه طردا، وهذا الثاني يسمونه عكسا، ويسمون العلامة علة. وإذا أرادوا أن يتفوقوا في تصحيحها عدوا أوصاف الشئ الذي هو كالمثال، ثم يبطلون أن تكون اعلامة والعلة واحدا منها، أو يبطلون أن يكون واحدا واحدا منها علامة. فيبقى لهم أن العلامة هي الباقي أو أن الباقي علامة، ويحسبون أنهم برهنوا.
فأول ذلك: أنه ليس يجب أن يكون الحكم للمثال لأجل حكم آخر فيه، بل ربما كان لذاته لابحكم آخر سابق له. وأنه لو كان كل حكم يكون للشئ يكون بحكم آخر لتسلسل الى غير النهائي. فإن كان حكم يلقي للذات بلا واسطة، فليكن حكمان كذلك فما فوقهما.
والثاني: انه ليس يسهل عد الاوصاف للشئ، بل ربما ترك منها شئ. وليس أن يتفكر فلا يجد وصفا دليلا على انه لاوصف.(1/389)
والثالث: أنه لايجب ان تكون الاقسام بعدد الاوصاف المفردة، بل ربما كان الاجتماع علة أو اجتماع الذات مع واحد منها أو عدة منها. فإن كانت الذات آ، والاوصاف بَ و ج و دَ، والحكم هَ، فربما كان الحكم لأنه آ، أو لأنه آ، بَ؛ أو لانه آ، ج؛ أو لانه آ، دَ؛ أو لانه آ و بَ و دَ؛ أو لانه بَ و ج؛ أو لانه بَ و دَ؛ الى سائر الاقسام أو لاجتماعها كلها. وبعد ذلك، فإن ذلكالباقي الذي يبقى ربما كان عاما، فينقسم الى نوعين وصنفين، فيكون مثلا الباقي ج. لكن ج منه زَ ومنه طَ، فتكون العلة ليس ج كيف اتفق، بل طَ من ج، أو زَ من ج. وكون ما سوى ج ليس بعلة، انما يبقى ان العلة في حيز ج دَ، ولا يوجب أن يكون كل ماهو ج علة. فانه حين يكون طَ من ج هو العلة يكون ليست العلة بَ ولا دَ، ولا شئ من اقسام اخرى غير ج ان كانت بَ و دَ. ومع ذلك فلا يكون لزم أن كل ج علة. إذ العلة طَ فقط. ثم كيف يتوصل الى أن يبلغ بقسمة الاوصاف الى حد لاينقسم الى خواص تحته نوعية أو صنفية، حتى يكون الباقي الذي يبقى لاينقسم الى علة والى غير علة.
على انهم لايميزون بين قولهم: فالعلة كذا؛ وبين قولهم: فالعلة هي كذا؛ وبين قولهم: فالعلة هي الكذا. فيأخذون أي هذه اتفق مكان الآخر. وتحليل قياسهم يوجب ان تكون العلة هي الموضوع وأن يكون المحمول ليس الكذا، بل كذا. فانهم لايمكنهم الا ان يقسموا فيقولوا: كذا كذا إما لذاته، أو لعلة. لكنه ليس لذاته، فبقى أن يكون كذا كذا لعلة. ويحتاج أن يقولوا: والعلة صفة، لا أن يقولوا: والصفة علة فإن هذا لاينتج. فاذا قالوا: والعلة صفة، ثم قالوا: فإما أن تكون بَ صفة، أو ان تكون ج صفة، كذبوا؛ فإن كل ذلك صفة. ومع ذلك لايستمر قياسهم، لأنه لاينتج، بل يجب أن يقولوا: وكل صفة له إما بَ، وإما ج، وإما دَ. فحينئذ تكون النتيجة: فالعلة إما بَ، وإما ج، وإما دَ. ثم يبقى آخر الامر فالعلة دَ، لا أن دَ علة. وايضا ان قالوا قبل الانتاج: وما هو الصفة إما البَ وإما الج، وإما الدَ، كذبوا فليس يجب في القسمة أن يكون الامر على هذه السبيل حتى يكون كل قسم على حكم منحرفة، وانت تعلم هذا قريبا. بل يجب ان يقولوا: والصفة إما بَ، وإما ج، وإما دَ؛ فتكون النتيجة: أن العلة إما بَ، وإما ج، وإما دَ. فحينئذ اذا أبطل بَ و ج وبقى دَ، تكون النتيجة: أن العلة دَ. ليس أن كل د علة، حتى حيث وجد دَ يكون علة، بل تكون العلة التي توجب الحكم دَ، حتى اذا وجدت العلة وجد دَ. ويجوز ان يكون ما هو دَ مما يحتاج أن يقسم ويخصص، إن أمكن، حتى يبلغ الى العلة. كما أنك إن قلت: وليس الجسم بقديم، فأنتجت: فالجسم محدث. لم يجب أن تكون أنتجت: والمحدث جسم، أو أن كل محدث جسم. فإن طمعوا في اول الامر ان يكون قولهم: إن العلة إما بَ كيف كانت، وإما ج كيف كانت، وإما دَ كيف كانت، فهذا غير مسلم. فانه ليس اذا كان للحكم علة، وكان لايخلوا عن أحد الاوصاف المذكورة أنه يجب أن يكون الموضوع الذي لايخلو عنه، إنما لايخلو عنه على انه ذلك الحكم لنفسه لالمعنى أخص منه يكون علة. نعم إن كانت القسمة الاولى جاءت بالاوصاف التي لاتنقسم بقسمة ثانية، فسيمكن ذلك. ومن لهم بذلك ؟(1/390)
هذا وان قياس الفراسة من جملة القياسات لالتمثيلية العلامية. فإنه اذا سلم ان الانفعالات والمزاجات الواقعة في ابتداء الجبلة والطبيعة، تتبعها أخلاق النفس، كما تتبعها هيئات البدن، سلمت الفراسة. أو رؤى ان الانفعالات الطبيعية للنفس كالغضب والشهوة والاخلاق، يتبعها تغير في هيئة البدن ومزاجه، كما يتبعها في النفس؛ سلمت الفراسة. وانما قلنا الانفعالات الطبيعية لأن ههنا انفعالات تؤثر في النفس من غير أن تتعرض للبدن مثل تعلم اللحون. انما الطبيعية مثل الغضب والشهوة وغيرهما. فإذا علم أي انفعالات النفس يصحب أي انفعالات البدن، وبالعكس؛ أمكن ان نجعل الانفعالات البدنية والهيئات البدنية دلائل على الانفعالات النفسية والملكات النفسية. فاذا عرف من شئ من الحيوان انفعال أو هيئة نفسانية كالشجاعة من الاسد طلب مايقترن بتلك الحالة النفسانية من احوال البدن ويختص بها، فجعلت الهيئة البدنية علامة للهيئة النفسية. فتكون العلامة البدنية في الاسد مثلا عظم الاطراف العلية. ويكون هذا للأسد خاصة لابالقياس الى كل حيوان، بل بالقياس الى كل حيوان غير شجاع؛ بل تؤخذ هذه الهيئة البدنية لكل حيوان شجاع، فيجعل عظم الاطراف علامة للشجاع اذا كانت تنعكس عليه. فاذا وجد انسان عظيم الاطراف العالية، قيل إنه شجاع. وإن كان هناك خلقان أو انفعالان نفسانيان مثل ما للاسد، فانه شجاع فقد ينسب اليه جود وكرم.
فيجب أن يتأمل أولا أي العلامتين يتبع أي المعنيين، ويعرف ذلك على وجهين: فإنه إن كانت العلامة فيالنوع كله وليس أحد المعنيين في كله، فإن العلامة تدل على فراسة الموجود في النوع كله. وإن كانت العلامة في نوع آخر يشاركه في احدى الخليقتين دون الاخرى، فالعلامة لما يشاركه فيه. مثل أن النمو لايشاركه في الكرم ويشاركه في عظم الاطراف العالية، ومع ذلك فيشاركه في الشجاعة. فيكون عظم الاطراف العالية دليلا على الشجاعة وعلامة عليها دون الكرم.
فاذن يجب أن تكون الواسطة في الفراسة أعم من الاصغر لامحالة، ومساوية للأكبر، وترجع الى القياسات المذكورة.
352 101 - /البرهان
من كتاب الشفاء
الفن الخامس من المنطق في البرهان، وهو أربع مقالات:
المقالة الأولى
اثنا عشر فصلاً
الفصل الأول
في الدلالة على الغرض في هذا الفن
لما كان العلم المكتسب بالفكرة؛ والحاصل بغير اكتساب فكري - قسمين : أحدهما التصديق والآخر التصور؛ وكان المكتسب بالفكرة من التصديق حاصلاً لنا بقياس ما؛ والمكتسب بالفكرة من التصور حاصلاً لنا بحدّ ما؛ وكان كما أن التصديق على مراتب؛ فمنه يقيني يعتقد معه اعتقاد ثان - إما بالفعل وإما بالقوة القريبة من الفعل - أن المصدّق به لا يمكن ألا يكون على ما هو عليه إذا كان لا يمكن زوال هذا الاعتقاد فيه؛ ومنه شبيه (90 أ) باليقين : وهو إما الذي يعتقد فيه اعتقاد واحد، والاعتقاد الثاني ذكرناه غير معتقد معه بالفعل ولا بالقوة القريبة من الفعل : بل هو بحيث لو عسى إن نُبّه عليه بطل استحكام التصديق الأول، أو إن كان معتقداً كان جائز الزوال؛ إلا أن الاعتقاد الأول متقرر لا يعتقد معه بالفعل لنقيضه إمكان؛ ومنه إقناعي ظني دون ذلك : وهو أن يعتقد الاعتقاد الأول ويكون معه اعتقاد ثان - إما بالفعل وإما بالقوة القريبة من الفعل - أن لنقيضه إمكاناً، وإن لم يُعتقد هذا فلأن الذهن لا يتعرض له وهو بالحقيقة مظنون - كانت القياسات أيضاً على مراتب. فمنها ما يوقع اليقين وهو البرهاني، ومنها ما يوقع شبه اليقين وهو إما القياس الجدلي وإما القياس السوفسطيقي المغالطي. ومنها ما يقنع فيوقع ظناً غالبا وهو القياس الخطابي.وأما الشعري فلا يوقع تصديقاً؛ ولكن يوقع تخيلا محركا للنفس إلى انقباض وانبساط بالمحاكاة لأمور جميلة أو قبيحة.(1/391)
وأيضاً كما أن التصور المكتسب على مراتب : فمنه تصور للشيء بالمعاني العرضية التي يخصه مجموعها؛ أو على وجه يعمه وغيره. ومنه تصور للشيء بالمعاني الذاتية على وجه يخصه وحده، أو على وجه يعمه وغيره. والتصور الذي يخصه من الذاتيات وحده إما أن يشتمل على كمال حقيقة وجوده حتى يكون صورة معقولة موازية لصورته الموجودة إذا لم يشذ منها شيء من معانيه الذاتية. وإما أن يتناول شطراً من حقيقته دون كمالها. كذلك القول المفصل المستعمل في تمييز الشيء وتعريفه؛ ربما كان تمييزه للمعرّف تمييزاً عن بعض دون بعض : فإن كان بالعرضيات فهو رسم ناقص، وإن كان بالذاتيات فهو حد ناقص. وربما كان إنما تمييزه عن الكل؛ فإن كان بالعرضيات فهو رسم تام؛ وخصوصاً إن كان الجنس قريبا منه. وإن كان بالذاتيات فهو عند الظاهريين من المنطقيين حد تام، وعند المحصلين : إن كان اشتمل على جميع الذاتيات اشتمالا لا يشذ منها شيء فهو حد تام، وإن كان يشذ منها شيء فليس حدا تاما. وليس الغرض في التحديد أن يحصل تمييز بالذاتيات فقط. ألا ترى إلى قولك إن الإنسان جسم ناطق مائت " ؛ فليس هذا وإن ميّز بالذاتيات، بحد تام، لأنه أخلّ بفصول أجناس متوسطة. وكذلك إن اشتمل على فصول الأجناس المتوسطة وكان للشيء وحده بغير شركة غيره فصول كثيرة؛ وكان بواحد منها كفاية في التمييز؛ ولم يكن به وحده كفاية في تمام الحد؛ بل يحتاج أن تُذكر جملتها حتى الحد الحقيقي.
فلهذا ليس رسم الحد ما قيل من أنه " قول وجيز مميز للمطلوب بالذات " ، بل ما قاله المعلم الأول في " كتاب الجدل " : إن الحد قول دال على الماهية. يعني بالماهية كمال حقيقة الشيء التي بها هو ما هو؛ وبها يتم حصول ذاته.
فهذا الكتاب هو الذي يفيدنا المواد التي إن جُعلت حدود قياس كان القياس موقعاً لليقين - وهو القياس البرهاني - ويفيدنا المواد التي إذا جعلت أجزاء حد؛ كان الحدّ موقعاً للتصور التام.
ويصلح أن يُجعل التصور بنوع ما مبدأ للتصديق، لأن كل مصدّق به متصوّر؛ وليس كل متصور مصدّقاً به : فإن معاني الألفاظ المفردة والألفاظ المركبة التي ليس تركيبها تركيب قول جازم كلها متصورة وليست بمصدقة. بل الأقوال الجازمة قد تتصور ويصدّق بها؛ ولكن يكون ذلك من وجهين. أما التصور فمن جهة أن معناها قائم في النفس كقولك الإنسان حيوان، وأما التصديق فلأن معناها مضاف إلى حال الشيء بأنه كما تصور : أي أنه كما حصلت منه صورة معقولة من نسبة أُوقعت بين حديها. وكذلك الحال لحديها في الوجود في نفس الأمر.
فإذا كان هذا هكذا، فيشبه أن يكون التصديق بوجه ما كالتمام للتصور؛ وتكون سائر أصناف التصورات التي لا تنفع في التصديق مُطرحة في العلوم. وإنما يُطلب منها في العلوم ما يعين في التصديق. فإذا كان هذا هكذا؛ فيجوز أن يكون إنما نُسب هذا الكتاب إلى القياس دون الحد بأن سُمّى " كتاب البرهان " لهذا المعنى. وأما في الحقيقة فهو كتاب البرهان والحد معا.
وإذا ذكرنا غرض الكتاب وهو إفادة الطرق الموقعة للتصديق اليقيني والتصور الحقيقي، فمنفعة الكتاب ظاهرة؛ وهو التوصل إلى العلوم اليقينية والتصورات الحقيقية النافعة لنا؛ بل الضرورية لنا إذا شرعنا في استعمال هذه الآلة التي هي المنطق؛ وأخذنا نزن بميزانها العلوم النظرية والعملية معا.
الفصل الثاني
في مرتبة كتاب البرهان(1/392)
إن الفنون التي سلفت، سلف أكثرها على نهج طبيعي من الترتيب؛ فكان من حق الفن الذي في البسائط أن يقدم على المركبات؛ ومن حق الفن الذي في التركيب الأول الجازم أن يقدم على الذي في القياس؛ وكان من حق الفن الذي في القياس المطلق أن يقدّم على القياسات الخاصة. وأما هذه الفنون التي انتقلنا إليها فمن الجائز أن يقدم بعضها على بعض؛ وليس إلى شيء من التراتيب والأوضاع حاجة ضرورية. لكن الأشبه أن يكون المعلم الأول رتب هذا الفن الذي في البرهان قبل سائر الفنون : لأن الغرض الأفضل في جميع ما سلف، وفي القياس نفسه، هو التوصل إلى كسب الحق واليقين. وهذا الغرض يفيده هذا الفن دون سائر الفنون. والأوْلى في كل شيء أن يقدّم الأهم وأن يصرف الشغل إلى الفرض قبل النفل. أما ما يفيده سائر الفنون فكأنه من الأمور التي ينتفع ببعضها في الأمور المدنية المشتركة دون استفادة الكمالات الخاصية إلا ما يُتعلم منه على سبيل ما يُتعلم اشُّر ليُحذَر. والكمال الخاص قبل الكمال المشترك. وذلك لأن بعضها يُتعلم ليُحرز منه؛ وبعضها ليُرتاض به أو ليكبح به معاند الحق. وبعضها ليُقدَر به على مخاطبة الجمهور في حملهم على المصالح بما يظنون منه ظنا أو يتخيلون تخيلا. وجميع ذلك مما لا غنية عن تلخيصه لتكملة الأقسام.
لكن من الناس من رأى أن الأصوب هو أن يتقدم الفن المعلم للجدل على هذا الفن، فاستُنكر ما يقوله كل الاستنكار ورُد عليه كل الرد، وليس يستحق الرجل كل ذلك النكير وكل ذلك الرد : فإن من وسع وقته للتأخر وأُملي له في الأجل فسلك ذلك السبيل، كان ذلك أحسن من وجه، وإن كان الأول أحسن من وجه. فإن الأول أحسن من جهة حسن الاختيار والشفقة على الروزكار. والثاني أحسن من جهة اختيار حسن التدريج : وذلك لأن مدار الجدل إنما هو على القياس والاستقراء، ومن كل واحد منهما : برهاني وغير برهاني. والقياسات البرهانية الأولى هي المؤلفة من مقدمات محسوسة ومجربة وأولية، أو أولية القياس كما ستقف عليه. والاستقراءات البرهانية هي المستوفية المذكورة. فأما القياس الجدلي فهو من المقدمات المشهورة، واستقراؤه من المستوفية بحسب الظاهر أو بحسب الدعوى. وكل مقدمة محسوسة أو مجربة أو أولية فإنها مشهورة وفي حكمها. ولا ينعكس. وكل استقراء حقيقي فهو أيضاً استقراء بحسب الظاهر، ولا ينعكس. وليس كل ما أُورد في الجدل فهو شيء بعيد عن البرهان، بل كثير من المواد البرهانية مذكورة في الجدل، لكنها لم تؤخذ من حيث هي صادقة بوَسَط أو بلا وسط، بل من حيث هي مشهورة. ولو أخذت من حيث هي صادقة لم يُرض بمشهورات غير صادقة. فالمادة الجدلية الأولى أعم من المادة البرهانية الأولى. نعم سيتشعب البرهان إلى مواد لا تكون مشهورة، ولكن ليست تلك المواد الأولى للبرهان. ومع ذلك فإن النسبة التي تكون بين تلك المواد البرهانية لا يدفع الجدل استعمالها، بل إنما لا يستعملها لأنه ليس له إلى معرفتها سبيل. وأما النسبة التي بين تلك الحدود فتستعمل في الجدل، لكن الحدود أنفسها ربما دقّت عن لا جدل. وفي المنطق لا يعطى الحدود إنما يعطى النسب التي بين الحدود. فإن نسب المواد الثواني مما يُعطى أيضاً في تعليم صناعة الجدل بحسب المنطق.
وإذا كان كذلك فنسبة مادة الجدل ونسبة النسب التي تعطى في تعليم قانون الجدل - وهما شيئان مختلفان - إلى المواد الأولى للبرهان وإلى النسب التي تُعطى لحدود المواد في تعليم قانون البرهان - وهما شيئان مختلفان - نسبة صورة القياس المطلق إلى القياس البرهاني.(1/393)
وإذا كانت هذه النسبة إحدى الدواعي إلى تقديم القياس، فكذلك تلك هي إحدى الدواعي إلى تقديم كتاب الجدل. لكن بينهما بعد ذلك فرق. وذلك لأن العام قد يكون (90 ب) مقوما للشيء وقد يكون عارضا. ونسبة القياس المطلق إلى القياس البرهاني هي نسبة أمر مقوّم. ونسبة المشهور إلى الصادق بلا وسط ليس نسبة أمر مقوم. ولذلك إذا التفت الإنسان إلى الصادق بلا وسط - من حيث هو صادق بلا وسط - ولم يلتفت إلى شهرته، بل فرض مثلا أنه غير مشهور، بل شنيع، لما أوقع ذلك خللا في التصديق به كما لو سُلب القياس البرهاني حد القياس المطلق لاختل، بل لامتنع. لكنه وإن كان كذلك فإن الابتداء بالأعم ثم التدرج إلى الأخص متعرفا فيه الفصل بينه وبين ما يشاركه في ذلك الأعم، أمر نافع، وإن كان الأعم ليس مقوّما.
وعلى هذه الصورة حصلت ملكة البرهان : فإنه إنما فطن أولا للجدل ثم انتقل إلى البرهان. وأيضاً فإن الأمور المجهولة إذا طُلبت فإنما يُتوصل إليها في أكثر الأمر بأن تورد أولا قياسات جدلية على سبيل الارتياض، ثم يتخلص منها إلى القياس البرهاني. وهذا شيء ستعلمه في صناعة الجدل.
فأما صناعة الخطابة والشعر فبعيدان عن النفع في الأمور الكلية النظرية : وذلك لأن موضوعهما الأمور الجزئية. وإن نقلت إلى الأمور الكلية ظَلَمت هي الأمور الكلية.
وأما المغالطة فإنها وإن شاركت الجدل في أنها كانت أولا قبل البرهان في الزمان، فإنها إنما كانت تتقدم تقدم الضار لا النافع. وتقدم الجدل تقدم النافع. والمغالطة ليست مما ينفع بوجه، ولا مادتها بمشاركة لمادة البرهان بوجه. بل لا المادة المغالطية تُحمل على مداة البرهان ولا صورتها على صورته، ولا بالعكس.
والخطابة فقد تقدمت أيضاً على البرهان في الزمان فكانت إما مشبهة بالجدل ومن حكم الجدل، أو كانت على حكم المغالطة. وليس التقدم في الزمان هو المقصود، بل التقدم النافع الذي مع مشاركة ما.
الفصل الثالث
في أن كل تعليم وتعلم ذهني فبعلم قد سبق
التعليم والتعلم منه صناعي مثل تعلم التجارة والصباغة، وإنما يحصل بالمواظبة على استعمال أفعال تلك الصناعة. ومنه تلقيني مثل تلقين شعر ما أو لغة ما، وإنما يحصل بالمواظبة على التلفظ بتلك الأصوات والألفاظ ليحصل ملكة. ومنه تأديبي، وإنما يحصل بالمشورة على متعلمه. ومنه تقليدي، وهو أن يألف الإنسان اعتقاد رأى ما، وإنما يحصل له من جهة الثقة بالمعلم. ومنه تنبيهي كحال من يعلم أن المغناطيس يجذب الحديد، لكنه غافل عنه في وقته ولا يفطن له عند إحساسه جاذبا للحديد، فيعجب منه، فقال له : هذا هو المغناطيس الذي عرفت حاله. فحينئذ يتنبه ويزول عنه التعجب. أو كمن يخاطب بالأوائل فلا يفطن لها لنقص في العبارة أو في ذهنه فيُحتال في تقريرها له. ومنه أصناف أخر، وليس شيء منها بذهني أو بفكري. والذهني والفكري هو الذي يُكتسب بقول مسموع أو معقول من شأنه أن يوقع اعتقادا أو رأيا لم يكن، أو يوقع تصورا ما لم يكن. وهذا التعليم والتعلم الذهني قد يكون بين إنسانين وقد يكون بين إنسان واحد مع نفسه من جهتين. فيكون من جهة ما يحدس الحد الأوسط في القياس مثلا - معلما، ومن جهة ما يستفيد النتيجة من القياس - متعلما. والتعليم والتعلم بالذات واحد وبالاعتبار اثنان. فإن شيئا واحدا - وهو انسياق ما إلى اكتساب مجهول بمعلوم - يسمى بالقياس إلى الذي يحصل فيه - تعلما، وبالقياس إلى الذي يحصل عنه، وهو العلة الفاعلة - تعليما. مثل التحريك والتحرك.
وكل تعليم وتعلم ذهني وفكري فإنما يحصل بعلم قد سبق. وذلك لأن التصديق والتصور الكائنين بهما إنما يكونان بعد قول قد تقدم مسموع أو معقول. ويجب أن يكون ذلك القول معلوما أولاً، ويجب أن يكون معلوما لا كيف اتفق، بل من جهة ما شأنه أن يكون علما ما بالمطلوب : إن لم يكن بالفعل فبالقوة.(1/394)
أما التصديق فيتقدمه معلومات ثلاثة : أحدهما تصور المطلوب وإن لم يُصدق به بعد. والثاني تصور القول الذي يتقدم عليه في المرتبة. والثالث تصديق القول الذي يتقدم عليه في المرتبة. فيتبع هذه الثلاثة المعلومات تصديق بالمطلوب. وسواء جعلت القول الذي يتقدم عليه بالمرتبة قياسا أو استقراء أو تمثيلا أو ضميرا أو غير ذلك، فلا بد من مقدمة أو مقدمات يحصل العلم بها على وجهين : من جهة التصور أولا، والتصديق ثانيا، حتى يكتسب بها تصديق لم يكن.
وأما التصور فيجب أن يتقدمه تصور أجزاء الحد أو الرسم لا غير. وفي الصناعات العملية أيضاً إنما يُتوصل إلى التعليم والتعلم من علم متقدم : كما أن متعلم التجارة يجب أن يعلم أولا ما الخشب وما القدوم؛ وأن الخشب من شأنه أن ينحت بالقدوم وينشر بالمنشار ويثقب بالمثقب وما أشبه هذا.
واعلم أنه لما قيل : كل تعليم وتعلم ذهني، حسبوا أن الغرض في قوله " ذهني " هو أن يفرق عن الحسي. قالوا فإنه قد يتعلم أيضاً حسيّ عن علم قد سبق : كمن أدرك شيئا بالحس ثم نسيه فهو يتطلبه ويتعرفه، فيكون هذا التطلب الثاني بعد علم سبق. وهذا مما ليس يعجبني : فإنه يشبه أن يكون التعلم والتعليم لا يقالان على ما يستفاد بالحس. ولو أن إنسانا أَرَى إنسانا غيره شيئا ما عرضه على حسه فإفاده إدراكا لمحسوس لم تكن عنده معرفته، فإنه لا يقال لنفس ما فعل به الآخر إنه علّمه شيئا، ولا يقال للمفعول به ذلك إنه تعلّم شيئا، اللهم إلا أن يكون إنما أراه ما أراه ليُحدث له به ملكة ما صناعية. وذلك إذا كان ما يريه هو هيئة عمل. وذلك اعتبارا غير اعتبار كونه مدركا لذلك من حيث هو محسوس. والأشبه أن يكون هذا أيضاً ليس تعليما وتعلما، بل تعريفا وتعرفا، وألا يكون إدراك الجزئيات علما بل معرفة.
وبعد ذلك فإن قولهم : إن كل تعليم وتعلم ذهني فبعلم قد سبق، ليس الغرض به أي سبق اتفق، بل أن يكون سبقا نافعا في التعليم والتعلم، وحاصل الوجود في هذا التعلم حصول العلة مع المعلول. وأما الإحساس الأول فليس شيئا موصلا إلى الإحساس الثاني ولا جزءا من السبب الموصل إلى الإحساس الثاني نافعا فيه، موجودا معه. فإن أريد أن يكون هذا الكلام على هذا التأويل كالصحيح، فيجب أن يجعل بدل التعليم والتعلم التعريف والتعرف، أو يفهم من التعليم والتعلم ما لم يتواطأ عليه في هذه الكتب، بل ما يفهم من التعريف والتعرف، ولا مناقشة في ذلك.
وقد قالوا إن قول القائل " كل تعليم وتعلم ذهني " ليس في صحة قول القائل " كل تعليم وتعلم فكري " : فإن هذا القائل يكون قد أخرج بقوله " الفكري " الحسيّ. فهؤلاء يعرض لهم ما عرض لأولئك. وشيء آخر : وهو أن الذهني هو الذي يكتسب بالذهن، والذهن غير الحس : فأي حاجة إلى ما يفصله عن الذي بالحس؟ والذي عندي هو أن الذهني أصلح من الفكري؛ فإن الذهني أعم من الفكري والحدسي والفهمي : فإن الفكري هو الذي يكون بنوع من الطلب؛ فيكون هناك مطلوب ثن تتحرك النفس إلى طلب الأوسط على الجهة المذكورة في اكتساب القياس. فلا تزال تستعرض الأمور المناسبة إلى أن تجد حدا أوسط. وأما الحدسي فهو أن يكون المطلوب إذا سنح للذهن تمثّل الحد الأوسط عن غير طلب. وهذا كثيرا ما يكون. أو تكون إحدى المقدمتين سانحة للذهن فيضاف إليها دفعة حد إما أصغر وإما أكبر، فتخلق نتيجة من غير فكر ولا طلب.
وأما الفهمي فهو ألا يكون الحد الأوسط حصل بطلب ولا بسنوح، بل بسمع من معلم من خارج، والذهن هو الذي يتلقى جميع هذا. فإن قال قائل إن الفهمي هو فكري أيضاً : لأن النفس عندما تسمع تفكّر؛ فيقال له إن المعلم كلما أورد حدا للقياس فعلمه المتعلم من جهة التصور كان ذلك دفعة. ثم إذا انضاف إليه حد آخر فحصلت مقدمة، فإن شك فيها لم ينتفع بما قال المعلم، إلا أن يفكر في نفه فيعلم، فيكون هذا تعليما مركّبا من فهمي ومن فكري : إذ هو قياس مركب، وكل قياس من جملته فهو تعليم مفرد، وكلامنا في المفرد. وإما أن يجع إلى المعلم فيفيده المعلم العلم بالقياس، فيكون العلم إنما جاء مع القياس : وكلامنا في ذلك القياس كهذا الكلام. فأما إن لم يشك المتعلم، فظاهر أن الصديق يتبع التصور دفعة بلا فكرة.(1/395)
وبالجملة يجب أن يفرد التعليم الذي نحن في اعتباره تعليما واحدا وقياسا واحدا، ولا يؤخذ خلطا : فإن الخلط قد يجوز أن يتركب من أصناف شتى، فيجد فيها ما يكون فهما دفعة، وما هو غير فهم دفعة، وهنالك لا يكون انتفاع.
فإن عاد وفكر في نفسه فذلك تعلم من نفسه. أو عاد فاستفهم المعلم مرة أخرى ففهم، فالتعلم هو الذي في هذه الكرة.
ثم قد علم أن الفكرة أمر كالحركة للنفس يُنتقل بها من شيء إلى شيء، ويتردد طالبه لا واحده. فإذا لم يحصل في التعليم والتعلم (91 أ) هذه الحركة على وجهها لم تكن هناك فكرة.
وإذا كان كل تعليم وتعلم للأمور العقلية، فهو إما على سبيل الفكر أو الحدس أو الفهم، وليس ذلك في التصديق فقط، بل وفي التصور. وكل ذلك ذهني. فقولهم " تعليم وتعلم ذهني " أصوب.
والشيء الذي إذا وقع التصديق به كان تصديقا بالقوة بشيء آخر، فهو إما ملزومه وإما معاندُه، أو كلي فوقه، أو جزئي تحته، أو جزئي معه. والملزوم إذا بالفعل كان ذلك العلم علما بالقوة بلازِمِه، وذلك بالقياس الاستثنائي من شرطيات متصلة. والمعاند إذا علم بالفعل كان ذلك العلم علما بالقوة بمعانده : إما برفعه عند وضع ذلك، أو وضعه عند رفع ذلك. وذلك بالقياس الاستثنائي من شرطيات منفصلة. والكلى إذا علم وجود حكم عليه من إيجاب أو سلب بالفعل، كان ذلك علما بالقوة بالجزئي الذي تحته بطريق القياس. والجزئي إذا عُلم وجود حكم عليه بالإيجاب أو السلب، كان ذلك ظنا بالقوة بالكلى الذي فوقه إن كان المعلوم حكما في بعض الجزئيات، وذلك بالاستقراء الناقص. أو كان علما بالقوة بالكلى الذي فوقه إن كان المعلوم حكما يعم كل جزئي، وذلك بالاستقراء التام. والجزئي إذا عُلم وجود حكم عليه، كان ذلك ظنا بالقوة في جزئي آخ أنه كذلك - إذا كان يشاركه في معنى - وذلك بالتمثيل.
فإذن كل صنف من الظن والعلم المكتسب إذا كان اكتسابه ذهنيا فهو بعلم أو ظن سابق : سواء كان بتعلم من الغير أو باستنباط من النفس. وليست هذه كلها سواء في كونها علما بالقوة، بل قوة بعضها أقرب، وقوة بعضها أبعد نقطة فإن اللازم ليس متضمنا في الملزوم إذا لم يكن لزومه على سبيل وضع وحمل. فأنا إذا قلنا كل ب أ فمعنى هذا القول : كل واحد مما تحت ب ومما يوصف بب ويوضع لب فهو أ. فقد ضمّنّا موضوعات ب في هذا الحكم. فهذه المعرفة بالقوة التي كأنها فعل. والعلم بأن الأوسط موجود للأصغر ليس علما بالقوة بأن الأكبر موجود له إذا كان الأكبر مجهولا : فإن كون الأكبر للأصغر ليس مدرجا في كون الأصغر للأوسط كأنه محصور تحته، بل الأمر بالعكس. فإنك إذا علمت إن كل ب أ فقد علمت أن كل موصوف بب هو أ ، فخلت فيه الموصوفات بب. وأما إذا علما أن كل ج ب فلم يخل أ الذي هو محمول على ب في هذا، لا بفعل ولا قوة : لأن قولنا كل ب أ معناه كل موصوف بب وداخل تحت ب فهو أ . وليس قولك كل ج ب معناه كل ج هو كل محمول ب : إذ الكلية في جنب الموضوع. فإن قال قائل إنه إذا كان كل ج ب كان ج موصوفا بكل محمول لب، فذلك وإن كان حقا، فليس مفهوم نفس اللفظ، بل هو لازم عنه. إذا قلت كل ب فمفهومه كل موضوع تحت ب. وليس يجب أن يظن أن معنى قول أرسطو " فبعلم سابق " أن ذا السبق هو في الزمان، بل بالذات. فمن الأشياء ما نعرفها الآن بالفعل إذا كانت معنا معرفة قديمة بالقوة التي كأنها فعل، وتكون تلك المعرفة قد سبقت بالزمان. وبعضها إنما نعرفها مع العلم المحتاج إليه في أن نعلمه، الذي لو سبق في الزمان لكان علما بالقوة القريبة جدا. ومثال ذلك أنك إذا فرضت حدا أكبر وأوسط وأصغر، وكان الأوسط حاصل الوجود للأصغر، وأنت تنظر هل الأكبر للأوسط لينتج منه الأكبر للأصغر. فإذا لك أنه للأوسط، بانَ لك في الحال أنه للأصغر، ولم تحتج أن تنتظر شيئا وأن تنظر في تأليف الأصغر مع الأوسط؛ بل يتبين لك الأمران معا في الزمان، ولم تحتج أن تطلب بعد وجودك الأكبر للأوسط أنه موجود للأصغر ولا في أقصر جزء من الزمان لو كان، لكن هذا العلم السابق إنما هو سابق بالذات، وإليه توجه أول الطلب بالذات. فهكذا ينبغي أن يفهم هذا الموضع.
الفصل الرابع
في تعديد مبادئ القياسات بقول عام(1/396)
ثم إن مبادئ القياسات كلها إما أن تكون أمورا مصدقا بها بوجه أو غير مصدق بها. والتي لا يصدّق بها إن لم تجر مجرى المصدّق بها بسبب تأثير يكون منها في النفس، يقوم ذلك التأثير من جهة ما مقام ما يقع به التصديق، لم يُنتفع بها في القياسات أصلا. والذي يفعل هذا الفعل هي المخيلات، فإنها تقبض النفس عن أمور وتبسطها نحو أمور، مثل ما يفعله الشيء المصدّق به، فتقوم مع التكذيب بها مقام ما يصدق به : كمن يقول للعسل إنه مرة مقيّئة فتقزز عنه النفس مع التكذيب بما قيل، كما تتقزز عنه مع التصديق به أو قريبا منه. وكما يقال إن هذا المطبوخ المسهّل هو في حكم الشراب، ويجب أن تتخيله شرابا حتى يسهل عليك شربه، فيتخيل ذلك فيسهل عليه، وذلك مع التكذيب به. فهذا الواحد هو مبدأ القياسات الشعرية. ومنافع القياسات الشعرية عند الجمهور في الأمور الجزئية قريبة من منافع القياسات المعقودة من المصدقات التي تؤلف منها قياسات في الأمور الجزئية : إذ كان الغرض في إيقاع التصديق فيها هو تقزز النفس على انقباض وانبساط، أو سكون عنهما.
وإذا كان التخيل من شأنه أن يفعل ذلك، قام مقامه على أن أكثر عوام الناس أطوع للتخيل منهم للتصديق. فهذا قسم. وأما القسم الذي فيه التصديق فإما أن يكون التصديق به على وجه ضرورة أو على وجه تسليم لا يختلج في النفس معانده، أو علة وجه ظن غالب. والذي على وجه ضرورة، فإما أن تكون ضرورته ظاهرية - وذلك بالحس أو بالتجربة أو بالتواتر - أو تكون ضرورته باطنية. والضرورة الباطنية إما أن تكون عن العقل، وإما أن تكون خارجة عن العقل ولقسوة أخرى غير العقل. فأما الذي عن العقل فإما أن تكون عن مجرد العقل، أو عن العقل مستعينا فيه بشيء. والذي عن مجرد العقل فهو الأوْلى الواجب قبوله : كقولنا الكل أعظم من الجزء. وأما الذي عن العقل مع الاستعانة بشيء : فإما أن يكون المُعين غير غريزي في العقل فيكون هذا التصديق واقعا بكسب فيكون بعد المبادئ، وكلامنا في المبادئ. وإما أن يكون المعين غريزيا في العقل أي حاضرا - وهو الذي يكون معلوما بقياس حده الأوسط موجود بالفطرة وحاضر للذهن. فكلما أُحضر المطلوب مؤلفا من حدين لأكبر وأصغر تمثل هذا الوسط بينهما للعقل من غير حاجة إلى كسبه. وهذا مثل قولنا : إن كل أربعة زوج : فإن من فهم الأربعة وفهم الزوج تمثل له أن الأربعة زوج، فإنه في الحال يتمثل أنه منقسم بمتساويين. وكذلك كلما تمثل للذهن أربعة، وتمثل الاثنان، تمثل في الحال أنها ضعفه لتمثل الحد الأوسط. وأما إذا كان بدل ذلك ستة وثلاثون أو عدد آخر، افتقر الذهن إلى طلب الأوسط. فهذا القسم الأوْلى به أن يسمى مقدمة فطرية القياس.(1/397)
وأما الذي هو خارج عن العقل فهو أحكام القوة الوهمية التي يحكم بها جزما وبالضرورة الوهمية إذا كانت تلك الأحكام في أمور ليس فيها للعقل حكم أوْلى. وتلك الأمور مع ذلك خارجة عن المحسوسات فيضطر الوهم النفس إلى حكم ضروري فيها كاذب، إذ يجعلها في أحكام ما يحس، مثل حكم النفس في أول ما يوجد مميزه، وقبل أن تثقف بالآراء والنظر، أن كل موجود فهو في مكان أو في حيز مشار إليه؛ وأن الشي الذي ليس في داخل العلم ولا في خارجه فليس بموجود. فإن النفس تحكم بهذا الضرورة، ولا يكون العقل هو الموجب لهذا، ولكن يكون ساكتا عن هذا. ثم إذا نظر العقل النظر الذي يخصه، وألّف قياسات من مقدمات مشتركة القبول بين العقل وبين قوى أخرى - إن كان لها حكم في القبول والتسليم - أنتج أن للمحسوسات مبادئ مخالفة للمحسوسات. فإذا انتهى النظر إلى النتيجة ما نعت القوة التي تحكم الحكم المذكور، فيعلم أنها كاذبة ضرورة، وأن فطرتها وضرورتها غير الضرورة العقلية، وإن كانت ضرورة قوية في أول الأمر. وأول ما يكذبها أنها نفسها لا تدخل في الوهم. ومع ذلك فإنه قد يصعب علينا التمييز بين الضرورتين، إلا أن ننظر في موضوع المطلوب ومحموله. فإن كان شيئا أعم من المحسوس أو خارجا عنه، وكانت الضرورة تدعو إلى جعله على صورة محسوسة. لم نلتفت إليها بل نفرغ إلى الحجة. والموجود والشيء والعلة والمبدأ والكلى والجزئي والنهاية وما أشبه ذلك كلها خارجة عن الأمور المحسوسة. بل حقائق النوعيات أيضاً مثل حقيقة الإنسان فإنها مما لا يتخيل البتة ولا تتمثل في أوهامنا. بل إنما ينالها عقلنا، وكذلك كل حقيقة كلية من حقائق نوعيات الأمور الحسية فضلا عن العقلية كما سنبين ذلك في موضعه.
فمبادئ البراهين التي من جنس المدركات (91 ب) بالضرورة من هذه التي تدرك ويصدق بها بالضرورة الحقيقية دون تلك الوهمية. وأما ما يكون على سبيل التسليم فإما أن يكون على سبيل تسليم صواب، وإما على سبيل تسليم غلط. أما الذي على سبيل تسليم صواب فهو إما على سبيل تسليم مشترك فيه، وإما على سبيل تسليم من واحد خاص، يكون ذلك نافعا في القياس الذي يخاطب به ذلك الواحد الخاص، ولا يكون التصديق به مما يتجه نحو المخاطب والقياس بل نحو المخاطب. فلا ينتفع به المخاطب والقياس فيما بينه وبين نفسه البتة انتفاعا حقيقيا أو مجردا.
والذي على سبيل تسليم مشترك فيه : إما أن يكون رأيا يستند إلى طائفة، أو يكون رأيا لا يستند إلى طائفة، بل يكون متعارفا في الناس كلهم قبوله، وقد مرنوا عليه، فهم لا يحلونه محل الشك : وإن كان منه ما إذا اعتبره المميز، وجعل نفسه كأنه حصل في العالم دفعة وهو مميز، ولم يعّود شيئا ولم يؤدب ولم يلتفت إلى حاكم غير العقل، ولم ينفعل عن الحياء والخجل، فيكون حكمه خلقيا لا عقليا؛ ولم ينظر إلى موجب مصلحة فيكون بوسط لا بضرورة؛ وأعرض عن الاستقراء أيضاً فيكون بوسط؛ ولم يلتفت إلى أنه هل يُنتفض عليه بشيء. وإذا فعل هذا كله ورام أن يشكك فيه نفسه أمكنه الشك : كقولهم إن العدل جميل، وإن الظلم قبيح، وإن شكر المنعم واجب. فإن هذه مشهورات مقبولة؛ وإن كانت صادقة فصدقها ليس مما يتبين بفطرة العقل المنزّل المنزلة المذكورة، بل المشهورات هذه وأمثالها منها ما هو صادق ولكن يحتاج في أن يصير يقينا إلى حجة، ومنها ما هو صادق بشرط دقيق لا يفطن له الجمهور.
ولا يبعد أن يكون في المشهورات كاذب. والسبب في اعتقاد المشهورات أخذ ما تقدمنا بالاحتراز عنه عند تمثيلها في الذهن للامتحان. وهذه هي المشهورات المطلقة.
وأما التي تستند إلى طائفة فمثل ما يستند إلى أمة وإلى أرباب صناعة وتسمى مشهورات محدودة، ومثل ما يستند إلى واحد أو اثنين أو عدد محصور يوثق به ويُخص باسم المقبولات.(1/398)
واعلم أن جميع الأوليات أيضاً مشهورة ولا ينعكس، كما أن جميع المصدّق بها متخيّل ومحرّك للخيال ولا ينعكس. وأما المصدق بها على سبيل تسليم غلط فهو أن يسلّم المسلّم شيئا على أنه أمر آخر لمشابهته إياه ومشاركته في لفظ أو معنى على ما سنبين في موضعه، وهي المقدمات المشبهة، كمن يقول " كل عين باصرة " ويكون ذلك مسلماً له من حيث يفهم منه أحد معاني الاسم المشترك، ويأخذ بدله آخر فيحسبه أنه المسلّم، أو يقصد به مغالطة حتى يقع في أن يظن بنفسه أو يظن غيره أن الدينار يبصر. وكذلك من يسلم أن كل مسكر خمر وأخذ بدله ما يسكر بالقوة. وهذه هي المقدمات المشبّهة.
فأما المظنونات فهي التي تُظن ظنا من غير وقوع اعتقاد جزم : وبذلك إما لمشابهتها للأمور المشهورة فتكون مشهورة في بادئ الرأي الغير المتعقب؛ فإذا تعقبت علم أنها غير مشهورة مثل قولهم " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " فإن هذا يظن كما يقرع السمع ظنا ويمال إليه ميلا : ثم إذا تعقب كان المشهور أنه لا يجوز أن يُنصر الظالم أخا كان أو ولدا، لكنه في الحال يفعل فعله إلى أن يتعقب. وإما أن يقع بها الظن على سبيل القبول من ثقة : وإما أن يقع الظن بها من جهات أخرى ليس لأخذها على أنها مشهورات، كمن يرى عبوسا يأتيه فيظنه باطشا به. وهذه المظنونات إنما تنفع في المقاييس من حيث إن بها اعتقادا لا من حيث إن مقابلها يختلج في الضمير.
فإذن جميع المشهورات وما سلف ذكره أيضاً معها نافع حيث تنفع هي لأنها معتقدة. فأي صناعة جاز فيها استعمال المظنونات، جاز استعمال المذكورات قبلها كلها. وكذلك المشهورات إنما ينتفع بها - لا من حيث إنها قد يجوز أن يتشكك فيها - بل من حيث هي معتقدة اعتقادا لا يختلج مقابلة؛ فيكون ما قبلها من الأمور الضرورية إذا اعتقدت وسُلّمت نافعا نفعها، فيصلح استعماله حيث يصلح استعمال تلك.
وأما الضروريات الوهمية فإنها بالحرِيّ أن تكون أقوى من المشهورات - لا في النفع - بل في شدة إذعان النفس الغير المقومة لها. فربما بقيت مشهورة وربما صارت شنِعة، فتكون كاذبة وشنعة معا. وتكون صيرورتها شنعة ليست بسبب أمر يدعو إليه من الغرائز والأخلاق والمصالح، بل لما يدعو إليه العقل.
فإذن مبادئ القياسات مخيلات، ومحسوسات، ومجربات، ومتواترات، وأوليات، ومقدمات فطرية القياسات، ووهميات ومشهورات مطلقة، ومشهورات محدودة، ومسلمات، ومقبولات، ومشبهات، ومشهورات في بادئ الرأي الغير المتعقب، ومظنونات ظنا. فهي أربعة عشر صنفا.
وهاهنا قسم من مبادئ المقاييس وهي التي ليست مبادئ من جهة القائس نفسه، فإن أقسام الذي يكون من جهة القائس هو ما قلناه، ولكن هي مبادئ من جهة المعلم، وهي أن يكلّف المعلّم المتعلم تسليم شيء ووضعه ليبنى عليه بيان شيء آخر فيسلمه ويضعه. وهذه هي الأمور التي تسمى أصولا موضوعة ومصادرات.
الفصل الخامس
في المطالب وما يتصل بها
وفي ذلك بيان أصناف مبادئ العلوم وأصناف الحدود الوسطى(1/399)
أما المطالب بحسب ما يُحتاج إليه هنا فإنها بالقسمة الأولى ثلاثة أقسام، وبالقسمة الثانية ستة. أما بالقسمة الأولى فمطلب " ما " ومطلب " هل " ومطلب " لمَ " . ومطلب " ما " على قسمين : أحدهما الذي يُطلب به معنى الاسم كقولنا ما الخلاء وما العنقاء؟ والثاني الذي تطلب به حقيقة الذات كقولنا ما الحركة وما المكان؟ ومطلب " هل " على قسمين : أحدهما بسيط وهو مطلب هل الشيء موجود على الإطلاق، والآخر مركب وهو مطلب هل الشيء موجود كذا أو ليس موجودا كذا، فيكون " الموجود " رابطة لا محمولا، مثل قولك هل الإنسان موجود حيوانا أو ليس موجودا حيوانا. ومطلب " لمَ " على قسمين :فإنه إما بحسب القول وهو الذي يطلب الحد الأوسط، وهو علة لاعتقاد القول والتصديق به في قياس ينتج مطلوبا ما، وإما بحسب الأمر في نفسه وهو يطلب علة وجود الشيء في نفسه على ما هو عليه من مجوده مطلقا أو وجوده بحال. وأما مطلب الأيّ والكيف والكم والأين والمتى وغير ذلك، فهي راجعة بوجه ما إلى " الهل " المركب. فإن أراد أحد أن يكثر المطالب بتعديده هذه فليفعل، إلا أن المطالب العلمية الذاتية هي تلك. ومع ذلك فإن مطلب " أي " أبسط هذه البواقي وأشد دلالة على المطلوب به، فإنه يُطلب به تمييز الشيء بما يخصه، وتلك أوسع مذهبا وأعرض مجالا. وإن أحب أحد أن يجعل مطلب " أي " مشتملا بوجه على مطالب كيف وكم وأين وغير ذلك فليفعل. فحينئذ يكون مطلبا " هل " و " لم " يطلبان التصديق، ومطلبا " ما " و " أي " يطلبان التصور. فمطلب " ما " الذي بحسب الاسم متقدم على كل مطلب؛ وأما مطلب " ما " الذي بحسب تحقق الأمر في نفسه فمتأخر عن مطلب " هل " البسيط. فإن الذي يطلب ما ذات الحركة وما الزمان فإنما يطلب مائية أمر موجود عنده. وأما إن طلب أحد هل حركة أو هل زمان أو هل خلاء أو هل إله موجود، فيجب أن يكون فهِم أولا ما تدل عليه هذه الأسامي : فإنه يمكن أن يعلم ما يدل عليه الاسم ولا يعلم هل ذلك المدلول عليه موجود أو غير موجود. وإن كان الحد إنما هو بالحقيقة للموجود، ولكن لا يوقف في أول الأمر أن هذا القول حد بحسب الاسم أو بحسب الذات إلا بعد أن يعرف أن الذات موجودة. ولذلك يوضع في التعاليم حدود أشياء يبرهن على وجودها من بعد كالمثلث والمربع وأشكال أخرى حُدّت في أول كتاب " أسطقسات الهندسة " . فكان حدا بحسب شرح الاسم، ثم أثبت وجودها من بعد، فصار الحد ليس بحسب الاسم فقط بل بحسب الذات : بل صار حدا بالحقيقة. ويجب أن يعلم أن الفرق بين الذي يفهم من الاسم بالجملة والذي يفهم من الحد بالتفصيل غير قليل. فكل إنسان إذا خوطب باسم فهم فهما ما ووقف على الشيء الذي يدل عليه الاسم إذا كان عالما باللغة. وأما الحد فلا يقف عليه إلا المرتاض بصناعة المنطق. فيكون أحد الأمرين معرفة، والثاني علما، كما أن الحس معرفة والعقل علم.
ومبادئ العلوم مختلف في تقديمها على العلوم وتصدير التعاليم بها. ففي بعضها إنما يوضع أن الأمر موجود أو غير موجود فقط، لأن الضرورة (92 أ) تدعو فيها إلى هذا المقدار كقولنا " إن الأمر لا يخرج عن طرفي النقيض " ، أو مثل وضعهم " إن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية " . وفي بعضها إنما يوضع أولا ماذا يدل عليه الاسم كما ذكرناه من حال المثلث والمربع المذكورين في فاتحة كتاب الاسطقسات، ثم من بعد ذلك يبين وجوده. وفي بعضها يحتاج أن يوضع الأمران جميعا : مثل الوحدة في فاتحة علم العدد. ونحن مستقصون لهذا فنقول : إن الأمور التي تذكر في المبادئ منها معان مركبة ومنها معان مفردة. والمعاني المركبة إنما يليق بها أن يستدعي فيها التصديق لا لأن تعطي لها الحدود، فإن التركيب الخبري للتصديق.وأما الحدود فللمعاني المفردة وما في حكم المفردة. والقضايا المتعارفة والأصول الموضوعة مركبة، فإذن لا يتحقق فيها معنى إعطاء الحد والماهية، ولا بد من أن تقبل بالهلية ليتبين بها غيرها. فقد حصل من هذا القسم من المبادئ يوضع بالهلية.(1/400)
وأما المعاني المفردة فمنها ما هي أعراض موضوع الصناعة، ومنها ما هي داخلة في جملة موضوع الصناعة. فما كان منها من أعراض موضوع الصناعة وآثاره، فهي التي تطلب في الصناعة ليصحح فيها وجودها. ليس وجودها إلا للموضوع. فيكون النظر في أنها موجودة موضوع الصناعة لتلك الصناعة. وذلك هو النظر في أنها موجودة. فإن إثبات وجودها إلى تلك الصناعة. فهذه لا يجوز أن تكون بينة الوجود ومجهولة الموضوع الصناعة، لإذ موضوع الصناعة كما يبين لك من بعد هو مأخوذ في حدها ووجودها أن يكون له. وإذ هذه في الصناعة المستعملة لموضوعها غير بينة الوجود، وإنما يطلب وجودها لموضوع الصناعة، بل وجودها مطلقا في تلك الصناعة، فيستحيل أن يفرض وجودها مطلقا، فمستحيل أن يفرض وجودها في المبادئ. وإذ لا بد من أن تفهم حدودها فيجب أن توضع حدودها في المبادئ. فهذا القسم حدودها في المبادئ دون وجودها.
وأما ما كان من المفردات داخلا في جملة الموضوع فلا بد من أن يفهم، ولا بد أيضاً من أن يعترف بوجودها وأنها حقةٌ معا. فإنها إن لم تفهم ماهيتها لم يمكن أن يعرف شيء من أمرها. وإن لم يوضع وجودها فكيف يطلب وجود شيء لها؟ وإذ لا مفرد في العلوم البرهانية إلا شيء داخل في الصناعة : والداخل في الصناعة إما الموضوع الذي للصناعة وما هو منه، وإما أحكام الموضوع. فإذن بعض المفردات توضع حدودها في المبادئ دون وجودها : وبعضها توضع حدودها ووجودها.
وإذ ما خلا المفرد المركب، والمركب النافع في العلوم قضية، والقضية إنما يوضع وجودها لا محالة دون حدها. وعلى ما قلنا فتبين من جميع ذلك أن من الأمور المصدرة في الصناعة ما يوضع بهليته فقط، ومنه ما يوضع بماهيته. ومنه ما يوضع بهليته وماهيته. وأما مطلب " الّلم " فأنه على كل حال متأخر عن المطلبين معا؛ فإن لم يتصور معناه فإن طلب الّلم فيه محال، وما تصور أيضاً معناه وأنه ما هو أو ما معنى الاسم الدال عليه، ولم يعط أنه موجود أو غير موجود بحال أو على الإطلاق، فإن طلب الّلم فيه أيضاً محال. ولكن طلب الّلم الذي بحسب القول ربما كان متقدما على طلب الّلم الذي بحسب الأمر في نفسه. فربما صح عندنا بقياس أن ج ب ولا ندري العلة في نفس الوجود لكون ج ب . فنكون قد علمنا أنا إذن لم نعتقد أن ج ب ولم نعلم أنه لم كان ج ب في نفس الأمر. وربما كان مطلب " لمَ " الذي بحسب الأمر في نفسه غير مفتقر إلى مطلب " اللم " الذي بحسب القول، وذلك إذا كان الشيء بينا بنفسه بالحس. وأما علته فخفية مثل جذب المغناطيس الحديد، فإن ذلك ليس يمكن أن يثبت بقياس أو بطلب بلم حتى يعطى الحد الأوسط فيه. ولكن إذا أصيب بالحس خطر بالبال طلب الّلم فيُطلب لم صار مغناطيس يجذب الحديد، فيطلب علة الأمر في نفسه لا علة التصديق به. وكثيرا ما يتفق أن يكون الحد الأوسط في القياس - وهو علة القياس - علة أيضاً للأمر في نفسه فيكون قد اجتمع المطلبان معا في بيان واحد.
الفصل السادس
في كيفية إصابة المجهولات من المعلومات
كل مطلب من هذه فإنما يتوصل إلى نيله بأمور موجودة حاصلة. لكن هاهنا موضع شك في أن المعدوم الذات المحال الوجود كيف يتصور إذا سئل عنه " ما هو " حتى يطلب بعد ذلك " هل هو " . فإنه إن لم يحصل له في النفس معنى، كيف يحكم عليه بأنه حاصل أو غير حاصل؟ والمحال لا صورة له في الوجود، فكيف يؤخذ عنه صورة في الذهن يكون ذلك المتصور معناه؟ فنقول إن هذا المحال إما أن يكون مفردا لا تركيب فيه ولا تفصيل، فلا يمكن أن يتصور البتة إلا بنوع من المقايسة بالموجود وبالنسبة إليه كقولنا الخلاء، وضد الله : فإن الخلاء يتصور بأنه للأجسام كالقابل، وضد الله يتصور بأنه كما للحار البارد؛ فيكون المحال يُتصوّر بصورة أمر ممكن ينب إليه المحال، ويتصور نسبة إليه وتشبها به. وأما في ذاته فلا يكون متصورا معقولا ولا ذات له.(1/401)
وأما الذي فيه تركيب ما وتفصيل مثل عنز أيّل أو عنقاء وإنسان يطير فإنما يتصور أولا تفاصيله التي هي غير محالة، ثم يتصور لتلك التفاصيل اقتران ما على قياس الاقتران الموجود في تفاصيل الأشياء الموجودة المركبة الذوات. فيكون هناك أشياء ثلاثة اثنان منها جزءان كل بانفراد موجود، والثالث تأليف بينهما، هو من جهة ما هو تأليف متصور، بسبب أن التأليف من جهة ما هو تأليف من جملة ما يوجد. فعلى هذا النحو يعطى معنى دلالة اسم المعدوم فيكون المعدوم إنما تصور متقدم للموجودات.
ونقول الآن إنه إذا كان حصل عندنا حكم على كلي أول حصوله :إما بيّنا بنفسه مثل إن كل إنسان حيوان، والكل أعظم من الجزء، أو بيّنا باستقراء أو تجربة على الوجوه التي يُصدّق بها بالأشياء من غير استعانة بقياس، فقد علمنا بالقوة الحكم على كل جزئي تحته، ولكن جهلناه بالفعل. فلا نعرف مثلا أن زيدا الذي بالهند حيوان : لأنا إنما عرفناه بعد بالقوة إذ عرفنا أن كل إنسان حيوان، وإنما جهلناه بالفعل لأنه يحتاج أن يجتمع لنا إلى هذا العلم علم آخر أو علمان آخران حتى يخرج الذي بالقوة إلى الفعل. وذلك بأنه يجب أن نعلم أن زيدا موجود، وأن نعلم أنه موجود إنسانا. فإذا حصل لنا بالحس معرفة أنه موجود وأنه إنسان من غير أن يكون مطلوبا أو متعلما، واقترن بذلك علم، كان عندنا حاصلا أيضاً بغير قياس، اقترانا على التأليف الذي من شأنه أن يُحدث بالذات علما ثالثا، علمنا أن زيدا حيوان. فيكون عن معرفة وعن علم اجتمعا حدث لنا علم. أما المعرفة منهما فهو ما كان من الحس، وأما العلم فما كان من العقل. والمعرفة حدثت في الحال، وأما العلم فقد كان قبلها. والذي يحصل منهما فقد يجوز أن يكون قد كان لنا مطلوبا وطلبنا مبادئه الموصلة إليه، ويجوز أن يكون شيئا قد انسقنا إليه انسياقا لموافاة أسبابه عن غير طلب. ومع ذلك فيجب أن يتقدم تصور المطلوب ومبادئه على كل حال.
وقد يتفق ألا يكون هكذا : بل يكون الحكم على الكلى حاصلا عندنا بقياس، والحكم على الجزئي حاصلا بقياس آخر. فإذا اجتمعا حصل العلم الثالث. ولكن وإن كان كذلك فإن القياسات الأولى تكون من مقدمات بيّنة بنفسها أو مكتسبة بالاستقراء والتجربة والحس من غير قياس على ما نوضّح بعد.
ثم إن لسائل أن يسأل أحدا فيقول : هل تعلم أن كل اثنين زوج؟ ومعلوم أن جوابه إني أعلم ذلك. فيعود ويقول : هل الذي في يدي هو زوج أو فرد؟ وعدد الناس الذي بمدينة كذا زوج هذا أو فرد. فإن أجيب بأنا لا نعلم ذلك، عاد فقال : فلستم تعرفون أن كل اثنين عدد زوج، فإن هذا الذي في يدي اثنان ولم تعرفوا أنه زوج. وقد قيل في التعليم إن قوما أجابوا عن هذا بجواب غير مستقيم فقالوا : نحن إنما نعرف أن كل اثنين عرفناه فهو زوج. وهذا الجواب فاسد : فإنا نعرف أن كل اثنين موجود عرف أو لم يعرف، فهو زوج. بل الجواب عن هذا : أنا لم تقل إنا نعرف كل اثنين زوج، فإذا لم نعرف اثنين زوجا ينتقض قولنا. وأيضا لم تقل إنا نعرف من كل شيء هو اثنان أنه اثنان فنعرف أنه زوج. بل قلنا أحد قولين : إما(92 ب) أن كل اثنين عرفناه فإنا نعرف أنه زوج، أو كل اثنين في نفسه - عرفناه أو لم نعرفه - فهو في نفسه زوج. أما القسم الأول فلا ينتقض بالشبهة التي أوردت. وأما الوجه الثاني فهو معرفة عامية لا يناقضه الجهل الخاصتي : لأنا وإن لم نعلم أن الذي في يد فلان زوج أو ليس بزوج فعلُمنا أن كل اثنين فهو في نفسه زوج، ثابت معناه غير باطل. وأما ما جهلناه فإنه داخل في علمنا بالقوة لا بالفعل. فالجهل به لا يكون جهلا بالفعل بما عندنا. وإذا حصل عندنا أن الذي في يده اثنان، وتذكرنا المعلوم الذي كان عندنا، عرفنا في الحال أن الذي في زوج. فإذن مجهولنا غير معلومنا. وليس إذا لم نعرف أن شيئا ما هو زوج أم لا - لأنا لا نعرف أنه اثنان أم لا - يبطل ذلك أن نعلم أن كل ما هو اثنان فهو زوج، فنكون قد علمنا أيضاً أن ذلك زوج من وجه، فبهذا يزول ذلك الشك.(1/402)
وقد ذكرنا أن مأنن الذي خاطب سقراط في إبطال التعليم والتعلم قال له : إن الطالب علما ما إما أن يكون طالبا لما يعلمه فيكون طلبه باطلا، وإما أن يكون طالبا لما يجهله فكيف يعلمه إذا أصابه؟ كمن يطلب عبدا آبقا لا يعرفه، فإذا وجده لم يعرفه. فتكلف سقراط في مناقضته أن عرض عليه مأخذ بيان شكل هندسي، فقرر عنده أن المجهول كيف يصاد بالمعلوم بعد أن كان مجهولا. وليس ذلك بكلام منطقي، لأنه بيّن أن ذلك ممكن فأتى بقياس أنتج إمكان ما كان أتى به " مانن " بقياس أنتج غير إمكانه ولم يحل الشبهة. وأما أفلاطون فأنه تكلف حل الشبه وقال إن التعلم تذكر : يحاول بذلك أن يصير المطلوب قد كان معلوما قبل الطلب وقبل الإصابة، ولكن إنما كان يُطلب إذ كان قد نُسِى. فلما تأدى إليه البحث تذكّر وتعلّم : فيكون إنما علم الطالب أمر كان علمه. فكأن أفلاطون قد أذعن للشبهة وطلب الخلاص منها فوقع في محال. وهذا شيء كنا قد استقصينا كشفه في تلخيصنا للكتاب الذي في " القياس " . لكنا نحن مع ذلك نقول.
إن المطلوب لو كان معلوما لنا من كل ما كنا نطلبه، ولو كان مجهولا لنا من كل جهة ما كنا نطلبه. فهو معلوم لنا من وجهين مجهول من وجه، فهو معلوم لنا بالتصور بالفعل، ومعلوم لنا بالتصديق بالقوة.وإنما هو مجهول لنا من حيث هو مخصوص بالفعل، وإن كان معلوما من حيث لا يخص أيضاً بالفعل. وإذا سبق منا العلم بأن كل ما هو كذا فهو كذا من غير طلب، بل بفطرة عقل أو حس أو غير ذلك من الوجوه، فقد أحطنا بالقوة علما بأشياء كثيرة. وإذا شاهدنا بالحس بعض تلك الجزئيات من غير طلب، فإنها في الحال تدخل بالفعل تحت العلم الأول. وهذا يحاذي من وجه ما أورد مانن من مثال الآبق حذوا بحذو. فإنا نعلم المطلوب بالتصور أولا كما نعلم الآبق بالتصور أولا، ونعلم ما قبله مما يوصل إلى معرفته بالتصديق، كما نعلم الطريق قبل معرفة مكان العبد الآبق. فإذا سلكنا السبيل إلى المطلوب وكان عندنا منه تصور لذاته سابق، وطريق موصل إليه، فإذا انتهينا إليه فحينئذ نكون أدركنا المطلوب، كما إذا سلكنا السبيل إلى الآبق وكان عندنا منه تصور سابق لذاته وطريق موصل إليه، فإذا انتهينا عرفناه ولو أنا كنا لم نشاهد الآبق البتة، ولكن تصورنا له علامة : كل من يكون على تلك العلامة فهو آبقنا. ثم إذا انضم إلى ذلك علم واقع لا بكسب بل اتفاقا بالمشاهدة، أو واقع بكسب وطلب وامتحان وتعرّف، فوجدنا تلك العلامة على عبد، علمنا أنه آبقنا. فتكون العلامة كالحد الأوسط في القياس. واقتناصنا لتلك العلامة في عبد كحصول الصغرى، وعلمنا بأن كل من به تلك العلامة فهو آبقنا، كحصول الكبرى قديما عندنا، ووجدان الآبق كالنتيجة. وهذا الآبق أيضاً لم يكن معلوما لنا من كل وجه، وإلا ما كنا نطلبه؛ بل كان معلوما لنا من جهة التصور، مجهولا من جهة المكان. فنحن نطلبه من جهة ما هو مجهول لا من جهة ما هو معلوم. فإذا علمناه وظفرنا به حدث لنا بالطلب علم به لم يكن. وإنما حدث باجتماع سببين للعلم : أحدهما السبيل وسلوكها إليه، والثاني وقوع الحس عليه.
كذلك المطلوبات المجهولة تعرف باجتماع شيئين : أحدهما شيء متقدم عندنا وهو أن كل ب أ وهو نظير السبب الأول في مثال الآبق. والثاني أمر واقع في الحال : وهو معرفتنا أن ج ب بالحس، وهو نظير السبب الثاني في مثال الآبق. وكما أن السببين هناك موجبان لإدراك الآبق، فكذلك السببان هاهنا موجبان لإدراك المطلوب. وليس ما صادر عليه : " أن كل ما لم يعلم من كل وجه فلا يعلم إذا أصيب " بمسلّم، بل كل ما جهل من كل وجه فهو الذي لا يعلم إذا أصيب. وأما إذا كان قد علم أمر مضى العلم به فذلك علم بالجزء المطلوب بالقوة وهو كالعلامة له. وإنما يحتاج إلى اقتران شيء به يخرجه إلى الفعل. فكما يقترن به ذلك المخرج إلى الفعل يحصل المطلوب.
فإذا قد تقرر أنه كيف يكون التعليم والتعلم الذهني، وأن ذلك إنما يحصل بعلم سابق؛ فيجب أن تكون عندنا مبادئ أولى للتصور، ومبادئ أولى للتصديق، ولو أنه كان كل تعليم وتعلم سابق؛ ثم كان كل علم بتعليم وتعلم؛ لذهب الأمر إلى غير النهاية؛ فلم يكن تعليم وتعلم. بل لا محالة أن يكون عندنا أمور مصدق بها بلا واسطة؛ وأمور متصورة بلا واسطة؛ وأن تكون هي المبادئ الأولى للتصديق والتصور.(1/403)
ولنبدأ بمبادئ التصديق؛ ولنشغل أولا بمبادئ التصديق اليقيني.
الفصل السابع
في البرهان المطلق
وفي قسميه اللذين أحدهما برهان " لِمَ "
والآخر برهان " إن " ويسمى دليلا ونفصل أولا وجوه العلم المكتسب : فقد يقال علم مكتسب للتصور الواقع بالحدود والمصادرات والأوضاع التي تفتتح بها العلوم؛ ويقال لكل تصديق حق وقع من قياس منتج أن كل كذا كذا أو ليس كذا؛ ويقال لما أخص من هذا : وهو كل تصديق حق وقع من قياس بوقع التصديق بأن كذا كذا؛ ويوقع أيضاً تصديقا بأنه لا يمكن أن لا يكون كذا. ومعلوم أن بين التصديقين فرقانا : لأن النتائج المطلقة يعلم إنها كذا ولا يكون معها التصديق بإنها لا يمكن ألا تكون كذا إلا إذا أخذنا المطلق عاما للضروري ما دام الذات موجودة؛وللضروري ما دام الموضوع موجودا على ما وضع به؛ وللموجود غير الضروري بأحد الوجهين، ثم علم وجه الضرورة بعد علم وجه الإطلاق، وذلك نظر ثان. فالعلم الذي هو بالحقيقة يقين هو الذي يعتقد فيه أن كذا كذا؛ ويعتقد أنه لا يمكن ألا يكون كذا اعتقادا لا يمكن أن يزول.
فإن قيل للتصديق الواقع إن كذا كذا - من غير أن يقترن به التصديق الثاني أنه يقين فهو يقين غير دائم؛ بل يقين وقتا ما.
فالبرهان قياس مؤتلف يقيني. وقد قيل في تفسير هذا أقوال. ويشبه ألا تكون المراد باليقيني أنه يقيني النتيجة؛ فإنه إذا كان يقيني النتيجة فليس هو نفسه يقينا؛ وإن أمكن أن يجعل لهذا وجه متكلف لو تُكُلف جعل إدخال المؤتلف فيه حشوا من القول. بل يكفي أن يقال قياس يقيني النتيجة.
ويغلب على ظني أن المراد بهذا قياس مؤلف من يقينيات وأن في اللفظ أدنى تحريف. فاليقينية إذا كانت في المقدمات كان ذلك حال البرهان من جهة نفسه. وإذا كانت في النتيجة كان ذلك حاله بالقياس إلى غيره. وكونه يقيني المقدمات أمر له في ذاته، فهو أولى أن يكون مأخوذا في حده ومعرفا لطبيعته.
والاستقراء الذي تستوفى فيه الجزئيات كلها فإنه بهذا القياس أيضاً إن كانت القضايا الجزئية يقينية، وهي التي تصير في القول كبريات وإن كان حقها أن تكون صغريات. وهي في جملة البرهان المفيد للآن. وذلك لأن ذلك الاستقراء هو بالحقيقة قياس، وهو القياس الشرطي الذي اسمه المقسّم. فهو داخل في هذا الحكم. إنما الاستقراء الآخر هو الذي لا يدخل في هذا الحد. وقد علمت أن القياس المقسم كيف هو قياس حقيقي اقتراني، إذ قد علمت أنه ليس كل قياس اقتراني إنما هو من جملتين. فيجب ألا يروج عليك أن شيئاً يفيد اليقين في الإن وليس ببرهان. ولا يلتفت إلى ما يقوله من لا يعرف من أصناف القياسات الاقترانية إلى الحملية فقط. بل ذلك الاستقراء قياس ما.
وإذا كان القياس يعطى التصديق بأن كذا كذا ولا يعطى العلة في وجود كذا كذا كما أعطى العلة في التصديق فهو برهان (93 أ) إن. وإذا كان يعطى العلة في الأمرين جميعا حتى يكون الحد الأوسط فيه كما هو علة للتصديق بوجود الأكبر للأصغر أو سلبه عنه في البيان، كذلك هو علة لوجود الأكبر للأصغر أو سلبه في نفس الوجود. فهذا البرهان يسمى برهان لم.(1/404)
وبرهان الإن فقد يتفق فيه أن يكون الحد الوسط في الوجود لا علة لوجود الأكبر في الأصغر ولا معلولا له، بل أمرا مضايقا له أو مساويا له في النسبة إلى علته، عارضا معه أو غير ذلك مما هو معه في الطبع معا. وقد يتفق أن يكون في الوجود معلولا بوجود الكبر في الأصغر. فالأول يسمى برهان الإن على الإطلاق، والثاني يسمى دليلا. مثال برهان الإن المطلق أن هذا المحموم قد عرض له أبيض خائر في علته الحادة، وكل من يعرض له ذلك خيف عليه السّرسام ثم ينتج أن هذا المحموم يخاف عليه الرسام. وأنت تعلم أن البول الأبيض والسرسام معا معلولان لعلة واحدة وهي حركة الأخلاط الحادة إلى ناحية الرأس واندفاعها نحوه. وليس ولا واحد منها بعلة ولا معلول للآخر. ومثال الدليل : هذا المحموم تنوب حُمّاه غبا، وكل من ناب حماه غبا من عفونة الصفراء. أو نقول إن القمر يتشكل بشكل كذا وكذا عند الاستنارة : أي يكون أولا هلالا ثم نصف قرص ثم بدرا، ثم يتراجع على تلك النسبة. وما قَبِلَ الضوء هكذا فهو كرى، فالقمر كرى. أو نقول إن القمر ينكسف انكسافه، وإذا انكسف القمر انكسافه فقد حالت الأرض بينه وبين الشمس. أو نقول : هذه الخشبة محترقة وكل محترق فقد مستّه النار. فجميع هذا يُبيّن العلة من المعلول ويسمى دليلا، وهذا ظاهر لا نطول بيانه.
واما البرهان المطلق - أعني برهان لم - فمثل أن نقول : إن هذا الإنسان عفنت فيه الصفراء لاحتقانها وانسداد المسام، وكل من عرض له فهو يحم غبا، نائبة أو لازمة تشتد في الثالث. أو نقول : القمر كرى، وكل كرى فإن استفادته النور من المقابل يكون على شكل كذا وكذا. أو نقول إن القمر وقع في مقابلة الشمس والأرض متوسطة تستر ضوءها عنه، وكل ما كان كذلك انكسف. أو نقول : إن هذه الخشبة باشرتها النار، وكل خشبة باشرتها النار تحترق. فإن هذا كله مما يعطى التصديق بالمطلوب ويعطى علة وجود المطلوب في نفسه معا. وأما أصناف الأسباب وكيف يمكن أن تؤخذ حدودا وسطى فسنفصلها التفصيل المستقصى بعد. وأما الآن فنقول : إن جميع ما هو سبب لوجود إما أن يكون سببا لنفس الحد الأكبر مع كونه سببا لوجوده للأصغر، أولا يكون سببا لوجود الحد الأكبر في نفسه، ولكن لوجوده للأصغر فقط. مثال الأول أن حمى الغبّ معلولة لعفونة الصفراء على الإطلاق. ومعلولة لها أيضاً في وجودها لزيد. ومثال الثاني أن الحيوان محمول على زيد بتوسط حمله على الإنسان. فالإنسان علة لوجود زيد حيوانا - لأن الحيوان محمول أولا على الإنسان. والإنسان محمول على زيد. فالحيوان محمول كذلك على زيد. وكذلك الجسم محمول أولا على الحيوان ثم على الإنسان. فالحيوان وجوده للإنسان علة في وجود الإنسان جسما. فأما على الإطلاق فليس الإنسان وحده علة لوجود الحيوان على الإطلاق، ولا الحيوان وحده علة لوجود معنى الجسم على الإطلاق. فإن سنح لقائل أن يقول : بل الحيوانية علة لوجود الإنسانية لزيد، فإنه ما لم يصر حيوانا لم يصر إنسانا : وكذلك حل الشك في أن فصل الجنس هو أولا للنوع أو للجنس؟ فليكن الجواب عن ذلك فرضا له علينا ودينا نقضيه؛ والآن فنقول : إن الجنس علة للنوع في حمل فصل الجنس عليه، كما هو علة له في حمل جنس الجنس عليه. ونبين تحقيق ذلك من حل الشك المذكور بعد، ونقول :(1/405)
إن كل شيء يكون علة للحد الأكبر فإنه يكون صالحا لأن يكون حدا أوسط له، وإن لم يكن بيّنا أنه علة له. ولكن لا يكون القياس المؤلف " برهان لمَ " بعد. فإلى أن يبين ذلك فلا يكتسب به اليقين التام. وإذا تبين بحجة، بان باعتبار أو حجة، فيكون اليقين إنما يتم لا بذلك الحد الأوسط وحده، بل بالحد الأوسط الآخر - وهو الذي يبين أن السبب سبب بالفعل. فكثيرا ما يكون السبب المعطى أولا ليس سببا قريبا، أو ليس سببا وحده بالذات، بل هو بالحقيقة جزء سبب. وهذا مثل الحساس : فإنه علة بوجه ما للحيوان. فإذا قلنا : مل حساس حيوان : لم يخل ذلك من أحد وجهين : إما أن يجعل اسم الحيوان مرادفا لاسم الحساس حتى لا يكون الحيوان إلا نفس الشيء ذي الحس، فيكون حينئذ الأوسط والأكبر اسمين مترادفين، ولا يكون أحدهما أولى بأن يكون علة للآخر، وإما أن يكون معنى الحساس يدل على شيء ومعنى الحيوان على شيء أكمل معنى منه على ما هو الحق وعلى ما علمت، حتى يكون الحيوان ليس شيئا ذا حس فقط، بل جسما ذا نفس غاذية نامية مولدة حساسة متحركة. وأنت تعلم أن نفس كونه ذا حس ليس نفس كونه جسما ذا نفس غاذية نامية مولدة حساسة، وإن كان هذا لا يخلو عنه. وقد علمت أن الفرق بين المعنيين؛ ومع ذلك فليس أيضاً يلزم من وضعك شيئا ذا حس من غير وسط ولا حجة أن تعلم أنه يجب أن يكون جسما ذا نفس متغذية نامية مولدة وغير ذلك. فإنك لو فرضت أن ها هنا جسما له حس ولا شيء من ذلك، لم يمتنع عليك تصوره بالبديهة. نعم، قد تستنكره وتجد الوجود يخالفه، وليس اليقين يصير يقينا بمطابقة الوجود له وبالاستقراء كما قد علمت. لا، بل ما تنكر البديهة وجوده فإنك تجوز وجوده. وكل ما جوزت وجوده فليس مقابلة يقينا لك.
وإذا كان كذلك فليس قولك كل حساس حيوان - ولا تعني بالحيوان الحساس نفسه حتى يكون اسما مرادفا له، بل تجعله أمرا له خصوصية مفهوم حققناه - أمر متيقنا به، مع أن الحساس علة، إلا أنه علة ليس وحده على، بل هو إحدى العلل : أي جزء العلة. فيجب أن يعتقد هذا ولا يلتفت إلى ما يقال. فأما إذا أخذت " الحساس " مرادفا للحيوان فقد جعلت الحد الأوسط اسما مرادفا لاسم الأكبر، فما شيئا.
فإذن علة الكبرى التي نحن في ذكرها يجب أن تكون علة كاملة وعلة واضحة، ثم تعتبر الاعتبارات التي أعطيناها. ونعود فنقول : وربما كان الأوسط في الوجود معلول الأكبر بالحقيقة، لكنه ليس معلول وجود الأكبر في الأصغر. بل إنه وإن كان بالحقيقة معلولا للأكبر فإنه يكون علة لوجود العلة في المعلول. فإنه لا يمتنع أن تكون العلة أولا موجودة لشيء فيكون ذلك الشيء معلولا لها، ثم تكون العلة بتوسط ذلك المعلول لمعلول آخر، فتكون هذه الواسطة معلولة في الوجود للأكبر، لكنها علة لوجود علة في معلول آخر وليس سواء أن نقول " وجود نقول " ، وأن نقول " وجود الشيء في لاشيء " . ولا يتناقض أن نقول هذا معلول الشيء، ثم نقول لكنه علة لوجود هذا الشيء في معلول آخر : فإن حركة النار مثلا ملولة لطبيعتها، ثم قد تصير علة لحصول طبيعتها عند الشيء الذي حصلت عنده ففعلت فيه. ولذلك هي التي تجعل حدا أوسط دون نفس طبيعة النار، فإن نفس طبيعة النار لا تكون علة الإحراق بذاتها إلا بتوسط معلول هو مماستها للمحترق أو حركتها إليه مثلا.
فالشيء الذي هو علة لوجود الأكبر مطلقا، فهو علة لا لوجوده مطلقا، لكن لوجوده في موضوع ما. فأما العلة لوجود الأكبر في الأصغر فليس يجب أن تكون لا محالة علة للأكبر، بل ربما كان معلولا له على الوجه الذي قلنا.(1/406)
وليس لقائل أن يقول : يجب من قولكم أن يكون ما هو علة لوجود الشيء فهو علة في وجوده لما وجد له، وإذا كان كذلك، فمتى كان الأكبر علة لوجود الأوسط، كان علة له حيث كان، فكان علة له في وجوده للأصغر : فلم يكن هو علة لوجود الأكبر في الأصغر، بل معلولا له. ومحال أن يكون المعلول علة علته. فإن الجواب عن ذلك أنه يجوز أن يكون الأوسط والأكبر لكل واحد منهما ذات ولكل واحدة من الذاتين كون في شيء؛ فيكون الأكبر من حيث هو ذاته علة للأوسط من حيث هو ذاته، ويكون لكل واحد منهما اعتبار كونه في شيء هو غير اعتبار ذاته. فإنه كان ذات الأوسط لا تتحقق موجودة إلا أن تكون في ذلك الأصغر، فلا شك في أن الأكبر علة لوجوده في الأصغر. وأما إن كان ذلك أمرا لا يلزمه، فيجوز أن يكون شيء آخر علة لذلك. ويجوز أن يكون الأكبر علة لذلك. وكيف كان، فإن ذات الأكبر شيء، وجوده للأصغر شيء. فيجوز ألا يكون وجود الأكبر للأصغر من الأمور اللازمة للأكبر؛ فيكون الأكبر هو علة للأوسط من حيث ذات الأوسط؛ أو علة له من حيث وجوده للأصغر؛ ويكون ذلك من الأكبر من حيث ذاته ليس من حيث (93 ب) هو موجود للأصغر؛ ويكون المعلول كونه للأصغر؛ فلا تنقلب العلة معلولا. وتأمل هذا المعنى في مثل المثال الذي أوردناه.
هذا، ونقول : فإذا كان الحد الأوسط علة لوجود الأكبر في الأصغر فهذا برهان " لم " بعد أن علمت أن كون الأوسط علة بوجه ما للأكبر ليس كافيا في أن يصلح وضعه حدا أوسط ما لم يستكمل شرائط عليته. وأما إذا كان الحد الأوسط معلولا للأكبر في وجوده للأصغر حتى يكون ذلك علته فيه : فهو الذي يكون البرهان من مثله " إن " . فيجب أن تعرف هذا الفصل على هذه الصورة فتتخلص من كثير من الشبهات.
الفصل الثامن
في أن العلم اليقيني بكل ما له سبب من جهة سببه
ومراعاة نسب حدود البرهان من ذلك(1/407)
ثم نقول : إذا كان لحمل محمول على موضوع دائما، أو سلبه عنه دائما، أو لحمله و سلبه في وقت معين يكونان فيه بالضرورة علة لتلك العلة، صارت النسبة بين الموضوع والمحمول تلك النسبة. وذات المحمول والموضوع ليس لهما - لولا تلك العلة - تلك النسبة بالوجوب بل بالإمكان. وإذا عُلِمَا من غير الوجه الذي به صار حكم ما بينهما ضروريا على تلك النسبة، فقد علما من جهة غير الجهة التي بها لا يمكن ألا يكَونا بتلك الحال: وذلك هو أن يعلم الحكم بوجه غير وجه السبب الذي يوجبه : لأن كل نسبة للموضوع إلى المحمول المذكورين ؛ وللمحمول إلى الموضوع المذكورين تُفَرض واقعة لا من الجهة التي توجبها العلة، فهي واقعة من الجهة إمكان لا وجوب. فيكون قد علم أن كذا كذا، ولم يعلم أنه لا يمكن ألا يكون كذا ؛ إذ لا يعلم ما به لا يمكن ألا يكون كذا. فإن قاس إنسان فقال : إن فلانا به بياض البول في حمى حادة، وكل من به بياض بول في حمى حادة فهو يعرض له سرسام ، وأنتج، لم يكن له بما أنتج علم يقينى أو يعلم. وكذلك لو قال قائل : إن كل إنسان ضحاك، وكل ضحاك ناطق، فلا يجب من هذا أن يتيقن أن كل إنسان ناطق، بحيث لا يجوز أن يصدق بإمكان نقيض هذا: وذلك لأن الضحك - أي قوة الضحكية - لما كانت معلومة لقوة النطق ، فما لم يعلم وجوب قوة المنطق أولا للناس ، ووجوب إتباع قوة الضحك لقوة النطق ، لم يجب أن يتيقن أنه لا يمكن أن يوجد إنسان ليست له قوة الضحك إلا أن يوجد ذلك في الحس ، والحس لا يمنع الخلاف فيما لم يحس أو يوجد بالتجربة. وأما العقل فيمكن إذا ترك العادة أن يشك في هذا فيتوهم أنه ليس للإنسان قوة ضحك دائما وللجميع، أو يتوهمه زائلا، إذ ليس بمقوم لماهية الإنسان أو بيَّن الوجود له ؛ إلا أن يكون تيقنه بوجوب كون الإنسان ناطقا يوجب كونه ضاحكا - أو يتوهمه زائلا، إذ ليس بمقوم لماهية الإنسان أو بيَّن الوجود له ؛ إلا أن يكون تيقنه بوجوب كون الإنسان ناطقا يوجب كونه ضاحكا - إن أوجب ولم يحتج إلى زيادة. وحينئذ يكون قد عرف وجوبه بعلته فاستحال أن يعود وتبين به العلة. فإن فرضنا أنه ليس يعرف أن الإنسان ناطق؛ فحينئذ لا يتبين له أن الإنسان ضحاك ومن طريق الناطق. وإن كان بينا مثلا أن كل ضحاك ناطق فكيف يصير من ذلك بينا أن الإنسان ناطق؟ وبالجملة إذا كان معلوما أن الإنسان ناطق لم يكن لطلبه عليه وجه. وإن كان مما يطلب ويجهل، فالصغرى في هذا القياس مجهولة يجب أن تطلب. فإذن من الجائز حينئذ أن يتوهم أنه ليس كل إنسان بضاحك. فيكون العلم المكتسب منه جائز الزوال؛ إذ كان إنما اكتسب من جهة اعتبار أن كل إنسان ضاحك. فإن علم من الوجه الذي صار الضحك واجبا؛ وهو أن أعطيت العلة الموجبة في نفس الأمر للضحك، فيجب ضرورة أن يكون ذلك قوة النطق. فيكون عرف أولا أن كل إنسان ناطق. فاقتناصه ذلك بتوسط الضحك فضل. وكذلك حال السواد للغراب. فإنا إنما نقول كل غراب أسود بوجه من الاستقراء والتجربة؛ وإنما يمكننا أن نتيقن بذلك إذا عرفنا أن للغراب مزاجا ذاتيا من شأنه أن يسود دائما ما يطهر عليه من الريش.(1/408)
فبين أن الشيء أو الحال إذا كان له سبب لم يتيقن إلا من سببه. فإن كان الأكبر للأصغر لا بسبب بل لذاته لكنه ليس بين الوجود له؛ والأوسط كذلك للأصغر إلا أنه بيّن الوجود للأصغر؛ ثم الأكبر بيّن الوجود للأوسط؛ فينعقد برهان يقيني؛ ويكون برهان إن ليس برهان لم. وإنما كان يقينا لأن المقدمتين كليتان واجبتان ليس فيهما شك : والشك الذي كان في القياس الذي لأكبره سبب يصل بأصغره، كان حين لم يعلم من السبب الذي به يجب؛ بل أُخذ من جهة هو بها لا يجب بل يمكن. فإن كل ذي سبب فإنما يحب بسببه. وأما هاهنا فكان بدل السبب الذات؛ وكان الأكبر للأصغر لذاته ولكن كان خفيا، وكان الأوسط أيضاً له لذاته لا بسبب؛ حتى إن جُهل جهل. ولكنه لم يكن خفيا. فقد علمت المقدمة الصغرى بوجوبها، والكبرى أيضاً كذلك : إذ لم يكن الأكبر للموصوفات بالأوسط إلا لذاتها؛ لا لسبب يجهل لجهله : والذي يبقى هاهنا شيء واحد : هو أن لقائل أن يقول كيف تكون الذات الواحدة تقتضي لذاتها شيئين : مثلا الأصغر كيف يقتضي ب الأوسط، أ الأكبر اللهم إلا أن يقتضي أحدهما لذاته أولا؛ ويقتضي الثاني لا لذاته بل يتوسط ذلك الأول بينهما. فحينئذ يكون ب على أ - لا بحسب البيان فقط، بل وبحسب الوجود. فالجواب أن المنطقي من حيث هو منطقي يجب أن يأخذ أن هذا ممكن في مواد هذهصفتها؛ ولا يمكن في مواد مخالفة لها. وأما هل لهذه المواد إمكان أم لا؛ وهل هذا الشك صحيح فيها أم لا؛فليس هو بعلم منطقي؛ بل البحث عن أمثال هذه للفلسفة الأولى؛ فإنه متعلق بالبحث عن أحوال الموجودات. وهناك يتبين أنه يجوز أن يكون للذات الواحدة من الذوات التي ليست بغاية البساطة لواحق كثيرة تلحق معا ليس بعضها قبل بعض؛ وأن في بعض الذوات البسيطة أحوالا تشبه هذا من جهة تركيب معنوي فيها، إذ لا تكون بساطتها بساطة مطلقة. وأكثر الموجودات هذه صورتها.
فقد تحصّل من هذا أن برهان الإن قد يعطي في مواضع يقينا دائما؛ وأما فيما له سبب فلا يعطي اليقين الدائم، بل فيما لا سبب له. ومن هذه الجهة نقول إن الرياضي لا يقين له في كثير من الأمور المنسوبة إلى الهيئة لأنه يأخذها من جهة ما وجدت بالرصد. كذلك صنيعه حين يستخرج مثلا أوج الشمس من جهة أن حركة الشمس غير مستوية في أجزاء فلك البروج سرعة وبطئا. فبطؤها للأوج وسرعتها للحضيض، ولا يعطى العلة في شيء من هذا وإنما يعطيها الطبيعي.(1/409)
فإن قال قائل إنا رأينا صنعة علمنا ضرورة أن لها صانعا؛ ولم يمكن أن يزول عنها هذا التصديق - وهو استدلال من المعلول على العلة؛ فالجواب أن هذا على وجهين : إما جزئي كقولك هذا البيت مصور وكل مصور فله مصوّر. وإما كلى كقولك كل جسم مؤلف من هيولي وصورة؛ وكل مؤلف فله مؤلف. فأما القياس الأول : هو أن هذا البيت له مصور، فليس مما يقع به اليقين الدائم لأن هذا البيت مما يفسد فيزول الاعتقاد الذي كان إنما يصح مع وجوده. واليقين الدائم لا يزول. وكلامنا في اليقين الدائم الكلى. وأما المثال الآخر : هو أن كل جسم مؤلف من هيولي وصورة، وكل مؤلف فله مؤلف؛ فإن كون الجسم مؤلفا من هيولي وصورة إما أمر ذاتي للجسم به يتقوم؛ وإما عرض لازم. فإن كان عرضا لازما ما يلزمه لذاته ولا سبب له في ذلك، فيجوز ن يكون من قبيل ما يقوم عليه برهان الإن باليقين. فلنترك ذلك إلى أن تستبرأ حاله. وإن كان عرضا لازما ليس يلزمه لذاته بل لواسطة، فالكلام فيه كالكلام في المطلوب به؛ فلا يكون ما ينتج عنه يقينا بسببه. وإن كان ذاتيا أو كان من اللوازم التي تلزم لا بسبب؛ فالمحمول عليه " أن له مؤلفا " لا " المؤلف " فليس المحمول العلة، لأن العلة هي " المؤلف " لا " أن له مؤلفا " . وليس " المؤلف " هو الحد الأكبر بل " إن له مؤلفا " . فهذا هو محمول على الأوسط الذي هو " المؤلف " فإنك تقول إن المؤلف يوصف بأن له مؤلفا كما يقال للإنسان إنه حيوان. ولا نقول إن المؤلف مؤلف. ثم ذو المؤلف هو أولا للمؤلف، ثم للمؤلف من هيولي وصورة، سواء كان مقوما للمؤلف في (94 أ) أو تابعا لازما. وإذا كان ذو المؤلف في نفس الوجود هو أولا للمؤلف، فهو لما تحت المؤلف بسبب المؤلف على ما عرفت فيما سلف. فيكون اليقين حاصلا بعلة ويكون المؤلف علة لوجود ذي المؤلف للجسم، وإن كان جزء من ذي المؤلف - وهو المؤلف - علة للمؤلف. فقد بانَ أن الحد الأكبر في الشيء المتيقن اليقين الحقيقي لا يجوز أن يكون علة للأوسط؛ عسى أن يكون فيه جزء هو علة للحد الأوسط.واعتبار الجزء غير اعتبار الكل : فإن المؤلف شيء وذو المؤلف شيء آخر : فإن ذا المؤلف هو بعينه محمول على المؤلف؛ وأما المؤلف فمحال أن يكون محمولا على المؤلف. لكن لقائل أن يقول إنه يجوز أن يكون الحد الأكبر غير مقول للأوسط؛ بل هو أمر لازم له ومع ذلك ليس بمعلول له، بل هو أمر مقارن له، وكلاهما معا في الوجود، ولكليهما علة في الوجود واحدة يشتركان فيها مثل الحال بين الأخ والأخ. كيف يمكننا أن نقول إن لزوم وجود الأخ عن الأخ - إذ جعلناه حدا أوسط - لزوم عن علة؟ ومع ذلك فإنه يقيني لا شك فيه. وكذلك إذا علمنا أن هذا العدد ليس بزوج علمنا بتوسطه أنه فرد علما باليقين لا يزول البتة. وليس ذلك عن علة : فإنه ليس أنه ليس بزوج علة كونه فردا؛ بل الأولى أن يكون كونه فردا هو أمر في نفسه علة لكونه ليس بزوج، وهو أمر خارج عن ذاته، إذ هو باعتبار غيره. فيجب أن ننظر في هذه ونحلها فنقول : أما إذا كان هاهنا أمران ليس أحدهما متعلقا بطبيعة الآخر، بل تعلق أحدهما أو كلاهما بشيء آخر، فإنه ليس أحدهما يحب الآخر، بل مع الآخر. وإذا كان كذلك فليس أحدهما يتيقن بالآخر. وأما إذا كان أحدهما علم من جهة العلة؛ فإن كان الآخر علم أيضاً من جهة العلة فتوسيط الأمر الآخر لا يفيد يقينا بذاته؛ إذ قد حصل ذلك من جهة العلة. وأما إن كان أحدهما يعلم من جهة العلة والآخر مجهول لم يعلم بعلمه، ثم من شأنه أن يعلم به الآخر، فليس بينهما حال الإضافة؛ فإن المضافين يحضران الذهن معا. وإذا لم يكن كذلك لم يكن هذا جاريا مجرى الأخ والأخ إذ كان أحدهما أعرف للأصغر من الآخر؛ لكن الآخر الذي هو الأكبر معروف للأوسط. فلو كانت العلة الموجبة للأوسط توجب ذلك أيضاً للأصغر، لم يفتقر إلى الأوسط. فإنه إن كان في ذاته بحيث يجب للأصغر بالأوسط - وليس هو باعتباره بالأوسط وحده في حد الإمكان له - فللأوسط مدخل في عليته، وفُرض لا كذلك. وإن كان اعتباره بالأوسط اعتبار شيء له إمكان بعد في الأصغر - ليس بوجوب - فلا يجب من جهة الأوسط أن يقع يقين.(1/410)
واعلم أن توسط المضاف أمر قليل الجدوى في العلوم. وذلك لأن نفس علمك أن زيدا أخ هو علمك بأن له أخا؛ أو يستعمل على علمك بذلك. فلا تكون النتيجة فيه شيئا أعرف من المقدمة الصغرى. فإن لم يكن كذلك، بل بحيث يجهل إلى أن يتبين أن له أخا؛ فما تصورت نفس قولك زيد أخ. وأمثال هذه الأشياء الأوْلى ألا تسمى قياسات فضلا عن أن تكون براهين.
أما الاستثناء المذكور فلا يخلو : إذا استثنى فقال : لكنه ليس بزوج - أي ليس له حد الزوجية - إما أن يقول ذلك لمقدمة غير موجبة لذاتها أن يكون ليس بزوج، فيكون العلم بهذه المقدمة غير يقيني؛ فلا تكون النتيجة بأنه فرد من جهة هذا البيان يقينية. وإما أن يكون علم بذلك للعلة الموجبة لأنه ليس بزوج - ولا علة لذلك إلا فقدان حد الزوج؛ وليس يمكن أن يفقد حد الزوج إلا بأن يؤجد أولا حد الفرد - فيكون هذا القياس مما لا فائدة فيه : لأنه ينتج ما قد علم قبل الاستثناء. وإنما يفيد من القياس الاستثنائي ما ينتج ما يعلم بعد الاستثناء.
وأما قياس الخلف فإنما يفيد برهان الإن لأنه يبين صدق شيء بكذب نقيضه لإيجابه المحال. وهذه كلها بأمور خارجة. لكنه في قوته أن يعود إلى المستقيم فيكون منه ما في قوته أن يكون برهانا.
وبعد هذا كله يجب أن يعلم أنه لا يكفي في اليقين التام الدائم أن يكون الأوسط علة لوجود الأكبر في الأصغر فقط؛ وأن يعلم أن أكثر الأمثلة الموردة في التعليم الأول المقتصرة على هذا القدر إنما أوردت على سبيل المسامحة؛ مثل حال الشجر؛ وعرض ورقه؛ وجفاف الرطوبة؛ والانتشار؛ وحال القمر وستر الأرض والكسوف. وتلك لأنه إذا كان الأوسط ليس دائم الوجود للأصغر، فإنه لا يجب أن يدوم ما يوجبه وما هو علة له. فإن كان علة فيكون ما يفيده من اليقين إنما يفيده وقتا ما.
ولقائل أن يقول : فكيف يكون حال الأصغر من الأوسط في البراهين؟ فنقول : يجوز أن يكون الأصغر علة للأوسط تقتضيه لذاتها بلا توسط علة اقتضاء النوع لخواصه المنبعثة عنه انبعاثا أوليا. لكن الأوسط علة لا للأصغر في ذاته، بل في بعض أحكامه وخواصه التي هي تابعة للأوسط، مثل " كون زوايا المثلث مساوية لقائمتين " ، إذا جعلناه الأوسط وفرضنا أنه كذلك بالقياس إلى الأصغر - وليكن المثلث، وليكن الأكبر " كون زوايا المثلث نصف زوايا المربع " .
ويجوز أن يكون الأصغر من خواص الأوسط التي يقتضيها الأوسط؛ ثم الأوسط علة لحكم يقارن الأصغر. وأما كيف يكون الأكبر والأصغر معا لازمين لشيء وليس أحدهما علة تقتضي الآخر، فقد علمت الوجه فيه. وأما قياس الأكبر من الأوسط فما علمت.
ولكن لقائل أن يقول إنه إذا ثبت حكم على الأصغر فصحت النتيجة فأردنا أن نجعلها كبرى قياس ما، فكيف يكون ذلك القياس في إفادة اليقين؟ فنقول إن الأصغر إذا صار أوسط وقد صار الأكبر بينا له بعلة؛ فقد صارت تلك العلة بعينها علة لكل ما يوصف بالأصغر؛ فقد صارت علة أيضاً للأصغر الثاني؛ إلا أنها علة للأصغر الثاني بواسطة؛ وللأول بغير واسطة.
وليس برهان اللم هو الذي يعطي العلة القريبة بالفعل فقط؛ بلهو برهان لم وإن يفعل ذلك بعد أن يكون إنما يبيّن ما يبيّن بالعلة واليقين، وكان ينحل البيان فيه إلى العلل. والذي سنقوله من أن البرهان إذا أعطى العلة البعيدة من الحد الأكبر لم يكن برهان لم، فهو أن يكون مثلا الحد الأصغر ج والحد الأوسط ب والحد الأكبر أ ؛ لكن ب ليس علة قريبة لكون ج أ ؛ إنما هو علة لذلك لأجل أنه د. وإذا أعطينا أن ب أ لم يخل إما أن يكون يقينا لنا أن ب أ ومقبولا عندنا، أو لا يكون. فإن لم يكن مقبولا لم يكن هذا القياس برهانا، فضلا عن أن يكون برهان إن. وإن مقبولا لا من جهة د لم يكن يقينا بأن كل ب أ يقينا تاما، وكان إنتاجنا أن كل ج أ لأنه ب غير متيقن يقينا دائما تاما. فأما إذا كان قد تقدم العلم بأن كل ب أ لأجل أن د أ ، أو تأخر ذلك، فإن البرهان حينئذ لا يكون برهان إن مجردا.
الفصل التاسع
في كيفية تعرف ما ليس لمحموله سبب في موضوعه
وفي الاستقراء وموجبه، والتجربة وموجبها(1/411)
ثم لسائل أن يسأل فيقول إنه إذا لم يكن بين المحمول والموضوع سبب في نفس الوجود، فكيف تبين النسبة بينهما ببيان؟ فنقول : إذا كان ذلك بينا بنفسه لا يحتاج إلى بيان، ويثبت فيه اليقين من جهة أن نسبة المحمول إلى الموضوع، فذات الموضوع يجب مواصلتها للمحمول. وقد علمت المواصلة ووجوبها من حيث وجبت، فالعلم الحاصل يقيني. وإن لم يكن بينا بنفسه، فلا يمكن البتة أن يقع به علم يقيني غير زائل : لأنا إذا جعلنا المتوسط ما ليس بسبب، لم يكن أن يطلب به هذا العلم اليقيني. وإن جعلناه ما هو سبب فقد وسطنا سببا، وهذا محال إذا فرضنا أنه لا سبب. فيشبه أن تكون أمثال هذه بينة بنفسها كلها، أو يكون بيانها بالاستقراء. إلا أنه لا يخلو، إذا بين بالاستقراء، من أحد أمرين : وذلك لأنه إما أن يكون وجود نسبة المحمول إلى جزئيات الموضوع بينا بنفسه بلا سبب، إذ إنما يتبين الاستقراء بها النوع، وإما أن يكون وجود نسبة المحمول إلى جزئيات الموضوع في نفسه بسبب. فإن كان بينا بنفسه في كل واحد منها، فإما أن يكون البيان بالحس فقط، وذلك لا يوجب الدوام ولا رفع أمر جائز الزوال، فلا يكون من تلك المقدمات يقين. وإما أن يكون بالعقل وهذا القسم غير جائز، لأن هذا المحمول لا يجوز أن يكون ذاتيا بمعنى المقزم : فإنا سنبين بعد أن الذاتي بمعنى المقوم غير مطلوب في الحقيقة، بل وجوده لما هو ذاتي له بين. وإما أن يكون عرضيا - ولا شك أنه يكون من الأعراض اللازمة لكلى يقال على الجزئيات إذا صح حمله على الكل - فيكون هذا العرض لازما لشيء من المعاني الذاتية للجزئيات، فإن العرض الذي هذه صفته، هذا شأنه. وإذا كان كذلك كان حمله (94 ب) على كل جزئي لأجل معنى موجود له ولغيره من الذاتيات، فيكون ذلك - أي الذاتي - سببا عاما لوجود هذا العرض في الجزئيات، وفرضناه بلا سبب. وإذا علم من جهة ذلك السبب، لم يكن ذلك بعلم ضروري ولا يقين، فضلا عن بيّن بنفسه. ويستحيل أن يكون عرضا للمعنى العام حتى يصح أن يكون مطلوبا، لكنه ذاتي لكل واحد من الجزئيات إلى آخرها : فإن الذاتي لجميع الجزئيات لا يصح أن يكون عرضيا للمعنى الكلى المساوي لها، لأنه ليس ثمة شيء من موضوعات ذلك الكلى يعرض له ذلك الحمل بسلبه أو إيجابه. فإذا لم يكن عارضا لشيء منها، فكيف يكون عارضا لكلها؟ وعارض طبيعة الكلى عارض نوع مع الإنسان. فقد بان أن نسبة المحمول في مثل ما كلامنا فيه تكون عرضية عامة، وتحتاج أن تبين في كل واحد من الجزئيات بسببه. فقد بطل إذن أن يكون استقراء جزئيات سببا في تصديقا بما لا واسطة له تصديقا يقينيا، وأن يكون ذلك بينا في الجزئيات بنفسه.
وأما إن كان حال المحمول عند جزئيات الموضوع غير بين بنفسه، بل يمكن أن يبين بيان، فذلك البيان إما أن يكون بيانا لا يوجب في كل واحد منها اليقين الحقيقي الذي نقصده، فكيف يوقع ما ليس يقينا اليقين الحقيقي الكلى الذي بعده؟ وإما أن يكون بيانا بالسبب ليوجب اليقين الحقيقي في كل واحد منها، فيجب أن تنفق في السبب كما قلنا؛ فيكون وجود السبب للمعنى الكلى أولا. وإذا كان السبب لا ينفع في المعنى الكلى فليس أيضاً بنافع في الجزئي. وإذا نفع في الكلى النافع هو القياس عند ذلك لا الاستقراء. وإما ألا يكون سبب هناك البتة، فيكون إما بينا بنفسه، وذلك مما قد أبطل، وإما استقراء آخر، وهذا مما يذهب بلا وقوف.
فقد بان أن مالا سبب لنسبة محمولة إلى موضوعه، فإما بين بنفسه وإما لا يبين البتة بيانا يقينيا بوجه قياسي.
وأما التجربة فإنها غير الاستقراء، وسنبين ذلك بعد. والتربة مثل حكمنا أن السقمونيا مسهل للصفراء، فإنه لما تكرر هذا مرارا كثيرة، زال عن أن يكون مما يقع بالاتفاق. فحكم الذهن أن من شأن السقمونيا إسهال الصفراء وأذعن له. وإسهال الصفراء عرض لازم للسقمونيا.(1/412)
ولسائل أن يسأل فيقول : هذا مما لم يعرف سببه، فكيف يقع هذا اليقين الذي عندنا من أن السقمونيا لا يمكن أن يكون صحيح الطبع فلا يكون مسهلا للصفراء؟ أقول إنه لما تحقق أن السقمونيا يعرض له إسهال الصفراء وتبين ذلك على سبيل التكرار الكثير، علم أم ليس ذلك اتفاقا، فأن الاتفاق لا يكون دائما أو أكثريا. فعلم أن ذلك شيء يوجبه السقمونيا طبعا، إذ لا يصح أن يكون عنه اختيارا : إذ علم أن الجسم بما هو جسم لا يوجب هذا المعنى، فيوجبه بقوة قريبة فيه، أو خاصة له، أو نسبة مقرونة به. فصح بهذا النوع من البيان أن في السقمونيا بالطبع، أو معه، علة مسهلة للصفراء. والقوة المسهلة للصفراء إذا كانت صحيحة، وكان المنفعل مستعدا، حصل الفعل والانفعال. فصح أن السقمونيا في بلادنا تسهل دائما الصفراء إذا كانت صحيحة. فإن عرفنا الأعظم للأصغر بواسطة الأوسط - الذي هو القوة المسهلة وهو السبب. وإذا حللت باقي القياس وجدت كل بيان إنما هو بيان بواسطة هي علة لوجود الأكبر في الأوسط، وإن لم يكن علة للعلم بالأكبر. فإذن بالسبب حصل لنا هذا النوع من اليقين أيضاً.
ولقائل أن يقول : ما بال التجربة تفيد الإنسان علما بأن السقمونيا تسهل الصفراء على وجه يخالف في إفادته الاستقراء؟ فإن الاستقراء إما أن يكون مستوفيا للأقسام، وإما أن لا يوقع غير الظن الأغلب. والتجربة ليست كذلك. ثم يعود يتشك فيقول : ما بال التجربة توقع في أشياء حكما يقينيا؟ ثم لو توهمنا أن لا ناس إلا في بلاد السودان، ولا يتكرر على الحس إنسان إلا أسود، فهل يوجب ذلك أن يقع اعتقاد بأن كل إنسان أسود؟ وإن لم يوقع، فلم صار تكرر يوقع وتكرر لا يوقع؟ وإن أوقعت فقد خطأ وكذبا. وإذا أوقعت خطأ وكذبا فقد صارت التجربة غير موثوق بها ولا صالحة أن تكتسب منها مبادئ البراهين : فنقول في جواب ذلك : إن التجربة ليست تفيد العلم لكثرة ما يشاهد على ذلك الحكم فقط، بل لاقتران قياس به قد ذكرناه. ومع ذلك فليس تفيد علما كليا قياسا مطلقا، بل كليا بشرط، وهو أن هذا الشيء الذي تكرر على الحس تلزم طباعه في الناحية التي تكرر الحس بها أمرا دائما، إلا أن يكون مانع فيكون كليا بهذا الشرط لا كليا مطلقا. فإنه إذا حصل أمر يحتاج لا محالة إلى سبب، ثم تكرر مع حدوث أمر، عُلم أن سببا قد تكرر. فلا يخلوا إما أن يكون ذلك الأمر هو السبب أو المقترن بالسبب، أو لا يكون سبب. فإن لم يكن هو السبب أو المقترن بالطبع بالسبب لم يكن حدوث الأمر مع حصوله في الأكثر بل لا محالة يجب أن يعلم أنه السبب أو المقارن بالطبع للسبب.
واعلم أن التجربة ليست تفيد إلا في الحوادث التي على هذا السبيل وإلى هذا الحد. وإذا اعتبرت هذا القانون الذي أعطيناه، سهل لك الجواب عن التشكك المورد لحال الناس السود في بلاد السودان وولادتهم السود. وبالجملة فإن الولادة إذا أخذت من حيث هي ولادة عن ناس سود، أو عن ناس في بلاد كذا، صحت منه التجربة. وأما إن أخذت من حيث هي ولادة عن ناس فقط، فليست التجربة متأتية باعتبار الجزئيات المذكورة، إذ التجربة كانت في ناي سود، والناس المطلقون غير الناس السود. ولهذا فإن التجربة كثيرا ما تغلط أيضاً إذا أخذنا بالعرض مكان ما بالذات فتوقع ظنا ليس يقينا. وإنما يوقع اليقين منها ما اتفق أن كل تجربة وأخذ فيها الشيء المجرّب عليه بذاته. فأما إذا أخذ غيره مما هو أعم منه أو أخص، فإن التجربة لا تفيد اليقين.(1/413)
ولسنا نقول أن التجربة أمان عن الغلط وإنها موقعة لليقين دائما. وكيف والقياس أيضاً ليس كذلك! بل نقول إن كثيرا ما يعرض لنا اليقين عن التجربة فيطلب وجه إيقاع ما يوقع منها اليقين. وهذا يكون إذا أمنا أن يكون هناك أخذ شيء بالعرض، وذلك أن تكون أوصاف الشيء معلومة لنا، ثم كان يوجد دائما أو في الأكثر بوجوده أمر، فإذا لم يوجد هو لم يوجد ذلك الأمر. فإن كان ذلك عن وصف عام فالشيء بوصفه العام مقلون للخاص. فالوصف الخاص أيضاً مقارن للحكم. وإن كان ذلك الوصف مساويا للشيء أيضاً، فوصفه الخاص المساوي مقارن للحكم. وإن كان لوصف خاص بل أخص من الطبيعة للشيء، فذلك الوصف الخاص عسى أن يكون هو الذي تكرر فيما امتحنا وفي أكثر الموجود من الشيء عندنا، فيكون ذلك مما يهم الكلية المطلقة ويجعلها كلية ما أخص من كلية الشيء المطلقة، ويكون الغفول عن ذلك مغلطا لنا في التجربة من جهة حكمنا الكلى : فإن في مثل ذلك، وإن كان لنا يقين بأن شيئا هو كذا يفعل أمرا هو كذا، فلا يكون لنا يقين بأن كل ما يوصف بذلك الشيء يفعل ذلك المر : فإنا أيضاً لا نمنع أن سقمونيا في بعض البلاد يقارنه مزاج وخاصية أو يعدم المتعارف عندنا، المحسوس، هو لذاته أو طبع فيه يسهل الصفراء إلا أن يقاوم بمانع. وكذلك حال الزمرد في إعمائه الحية.
ولو كانت التجربة مع القياس الذي يصحبها تمنع أن يكون الموجود بالنظر التجربي عن معنى أخص، لكانت التجربة وحدها توقع اليقين بالكلية المطلقة لا بالكلية المقيدة فقط. وإذ ذلك وحده لا يوجب ذلك إلا أن يقترن به نظر وقياس غير القياس الذي هو جزء من التجربة، فبالحرى أن التجربة بما هي تجربة لا تفيد ذلك. فهذا هو الحق، ومن قال غير هذا فلم ينصف أو هو ضعيف التمييز لا يفرق بين ما يعسر الشك فيه لكثرة دلائله وجزئياته، وبين اليقين. فإن هاهنا عقائد تشبه اليقين وليست باليقين. وبالجملة فإن التجربة معتبرة في الأمور التي تحدث على الشرط الذي شرطناه، وفي اعتبار عللها فقط. فإن كان ضرب من التجربة يتبعه يقين كلى حتْمٌ على غير الشرط الذي شرطناه لا شك فيه، فيشبه أن يكون وقوع ذلك اليقين ليس عن التجربة بما هي على أنه أمر يلزم عنها، بل عن السبب المباين الذي يفيد أوائل اليقين، وخبره (195) في علوم غير المنطق. فيشبه حينئذ أن تكون التجربة كالمعد، وليس بذلك المعد الملزم الذي هو القياس، بل معد فقط.
فالفرق بين المحسوس والمستقرى والمجرّب أن المحسوس لا يفيد رأيا كليا البتة، وهذان قد يفيدان. والفرق بين المستقرى والمجرب أن المستقرى لا يوجب كلية بشرط أو غير شرط بل يوقع ظنا غالبا - اللهم إلا أن يؤول إلى تجربة. والمجرّب يوجب كلية بالشرط المذكور.
الفصل العاشر
في بيان كيفية كون الأخص علة لإنتاج الأعم
على ما دون الأخص وإبانة الفرق بين الأجناس والمواد وبين الصور والفصول
فأقول : إنه مما يشكل إشكالا عظيما أن الحيوان كيف يكون سببا لكون الإنسان جسما على ما ادعينا من ذلك : فإنه ما لم يكن الإنسان جسما لم يكن حيوانا. وكيف يكون سببا لكون الإنسان حساسا، وما لم يكن حساسا لم يكن حيوانا : لأن الجسمية والحس سببان لوجود الحيوان. فما لم يوجد الشيء لم يوجد ما يتعلق وجوده به. وأيضاً إذا كان معنى الجسم ينضم إلى معنى النفس فيكون مجموعهما - لا واحد منهما - حيوانا، فكيف يحمل الجسم على الحيوان فيكون كما يحمل الواحد على الاثنين؟ وكذلك كيف تحمل النفس على الحيوان فيكون كما يحمل الواحد على الاثنين؟ فنقول : إن هذا كله يُحل إذا عرفنا الجسم الذي هو مادة والجسم الذي هو جنس؛ والحساس والناطق الذي هو صورة أو جزء، والذي هو فصل، وبان لنا من ذلك أن ما كان منه بمعنى المادة أو الصورة فلا يحمل البتة، ولا يؤخذ حدودا وسطى بذاتها وحدها، بل كما تؤخذ العلل حدودا، وسطى وعلى النحر الذي نبينه بعد فنقول : إنا إذا أخذنا الجسم جوهرا ذا طول وعرض وعمق من جهة ما له هذا بشرط أنه ليس داخلا فيه معنى هو غير هذا - وبحيث لو انضم إليه معنى غير هذا مثل حس أو تغذ أو غير ذلك كان خارجا عن الجسمية محمولا في الجسمية مضافا إليها - كان المأخوذ هو الجسم الذي هو المادة.(1/414)
وإن أخذنا الجسم جوهرا ذا طول وعرض وعمق بشرط ألا نتعرض لشيء آخر البتة ولا نوجب أن تكون جسمية لجوهرية مصورة بهذه الأقطار فقط، بل جوهرية كيف كانت ولو مع ألف معنى مقوم لخاصية تلك الجوهرية، وصورة وكان معها وفيها الأقطار ولكن للجملة أقطار ثلاثة على ما هي للجسم وبالجملة؛ أي مجتمعات تكون بعد أن تكون جملتها جوهرا ذا أقطار ثلاثة، وتكون تلك المجتمعات - إن كانت هناك مجتمعات - داخلة في هوية ذلك الجوهر، لا أن تكون تلك الجوهرية تمت بالأقطار ثم ألحقت بها تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي قد تم، كان هذا المأخوذ هو الجسم الذي هو الجنس. فالجسم بالمعنى الأول - إذ هو جزء من الجوهر المركب من الجسم والصور التي بعد الجسمية التي بمعنى المادة - فليس بمحمول : لأن تلك الجملة ليست بمجرد جوهر ذي طول وعرض وعمق فقط. وأما هذا الثاني فإنه محمول على كل مجتمع من مادة وصورة، واحدة كانت أو ألفا، وفيها الأقطار الثلاثة. فهو إذن محمول على المجتمع من الجسمية التي هي كالمادة، ومن النفس، لأن جملة ذلك جوهر. فإن اجتمع من معان كثيرة فإن تلك الجملة موجودة لا في موضوع. وتلك الجملة جسم لأنها جوهر له طول وعرض وعمق.
وكذلك فإن الحيوان إذا أخذ حيوانا بشرط ألا يكون في حيوانيته إلا جسمية واغتذاء وحس، كان لا يبعد أن يكون مادة، وأن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه؛ فربما كان مادة للإنسان وموضوعا وصورته النفس الناطقة. وإن أخذ بشرط أن يكون جسما بالمعنى الذي به يكون الجسم جنسا وفي معاني ذلك الحيوان على سبيل التجويز للحس وغير ذلك من الصور. ولو كان النطق، أو فصل يقابل النطق - غير متعرض لرفع شيء منها أو وضعه بل مجوزا له وجود أي ذلك كان في هويته، ولكن هناك معها بالضرورة قوة تغذية وحس وحركة ضرورة، ولا ضرورة في ألا يكون غيرها أو يكون، كان حيوانا بمعنى الجنس. وكذلك فافهم الحال في الحساس والناطق : فإن أخذ الحساس جسما أو شيئا له حس بشرط ألا تكون زيادة أخرى، لم يكن فصلا بل كان جزءا من الإنسان. وكذلك كان الحيوان غير محمول عليه. وإن أخذ جسما أو شيئا مجوزا له وفيه ومعه أي الصور والشرائط كانت، بعد أن يكون فيها حس، كان فصلا وكان الحيوان محمولا عليه.
فإذن أي معنى أخذته مما يشكل الحال في جنسيته أو ماديته فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه - إليها كان - على أنها فيه ومنه، كان جنسا. وإما أخذته من جهة بعض الفصول وتممت به المعنى وختمته حتى لو أدخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة وكان خارجا، لم يكن جنسا بل مادة وجبت له تمام المعنى حتى دخل فيه ما يمكن أن يدخل، صار نوعا. وإن كنت في الإشارة إلى ذلك المعنى لا تتعرض لذلك، كان جنسا. فإذن باشتراط ألا تكون زيادة يكون مادة، وباشتراط أن تكون زيادة نوعا، وبألا يتعرض لذلك بل يجوز أن يكون كل واحد من الزيادات على أنها داخلة في جملة معناه، يكون جنسا. وهذا إنما يشكل فيما ذاته مركب، وأما فيما ذاته بسيط فعسى أن العقل يفرض فيه هذه الاعتبارات - على النحو الذي ذكرناه قبل هذا الفصل - في نفسه. وأما في الوجود فلا يكون منه شيء متميز هو جنس، وشيء هو مادة.(1/415)
وإذا قررنا هذا فلنقصد المقصود الأول ونقول : إنما يوجد للإنسان الجسمية قبل الحيوانية في بعض وجوه التقدم إذا أخذت الجسمية بمعنى المادة لا بمعنى الجنس. وكذلك إنما يوجد له الجسم قبل الحيوانية إذا كان الجسم بمعنى لا يحمل عليه، لا بمعنى يحمل عليه. وأما الجسمية التي يجوز أن توضع متضمنة لكل معنى مقرون به مع وجوب أن تتضمن الأقطار الثلاثة، فإنها لا توجد للشيء الذي هو نوع من الحيوان إلا وقد تضمن الحيوانية بالفعل بعد أن كان مجوزا في نفسه تضمنه إياها. فيكون معنى الحيوانية جزءا ما من وجود ذلك الجسم إذ حصل حال الجسم، بعكس حال الجسم الذي بمعنى المادة فإنه جزء من وجود الحيوان، ثم الجسم المطلق الذي ليس بمعنى المادة : فإنما وجوده واجتماعه من وجود أنواعه. وما يوضع تحته فهي أسباب لوجوده وليس هو سببا لوجودها. ولو كان للجسمية التي بمعنى الجنس وجود محصل قبل وجود النوعية، لكان سبب وجود النوعية مثل الجسم الذي بمعنى المادة - وإن كانت قبليته لا بالزمان - ولكان إذ يوجد ذلك، يوجد شيئا ليس هو النوع، بل علة للنوع يوجد بوجوده النوع، فلا يكون النوع هو، وهذا محال. بل وجود تلك الجسمية هو وجود النوع لا غير، بل هو في الوجود هو نوعه.
فلنرتب الآن نوعا ولنحمل عليه جنسه وفصل جنسه وجنس جنسه فنقول : إنا إذا اعتبرنا هذه الأمور من جهة ما لها نسبة بالفعل إلى موضوعاتها - ليس من جهة اعتبار طبائعها فقط - لم نجد الجنس الأعلى يوجد أولا مستقرا بنفسه للنوع، ثم يتلوه الجنس الذي دونه ويحمل بعده؛ بل نجد كل ما هو أعلى تابعا في الحمل للأسفل. فإنك تعلم أنه لا يحمل جسم على الإنسان إلا الجسم الذي هو الحيوان، فإنه ليس يحمل عليه جسم غير الحيوان، بل يسلب عنه جسم ليس بحيوان. فشرط الجسم الذي يحمل عليه أن يكون حيوانا. ولولا الحيوانية لكان الجسم لا يحمل عليه : إذ الجسم الذي ليس بحيوان لا يحمل عليه. وليس الجسم إلا حيوانا أو هو نفس الحيوان. والجسم الذي يحمل عليه هو الذي إذا اعتبر بذاته كان جوهرا كيف كان، ولو كان مركبا من ألف معنى، وذلك الجوهر طويل عريض عميق. وهو إذا حمل عليه بالفعل قد صار المجوز فيه من التركيب محصلا في الوجوب : فإن كل مجوز كما علمته وتعلمه فقد يعرض له سبب به يجب، وهو السبب المعيّن. فكذلك هذا المجوز الذي نحن في حديثه ليس مما يبقى مجوزا لا يجب البتة، بل قد يجب فيكون الجسم قد وجب فيه التركيب الجاعل إياه حيوانا، فيكون ذلك الجسم حينئذ حيوانا، وذلك الحيوان إنسانا. فيكون الإنسان لا يحمل عليه جسم إلا الجسم الذي هو حيوان لا شيء آخر. فالحيوان هو أولا جسم، ثم الإنسان.
وبعد هذا كله، فليكن الجسم المحول على الإنسان علة لوجود الحيوان، وليس ذلك مانعا - على ما علمت - أن يكون الحيوان علة لوجود الجسم للإنسان، فربما وصل المعلول إلى الشيء قبل علته بالذات فكان سببا لعلته عنده إذا لم يكن وجود العلة في نفسها، ووجودها لذلك الشيء واحدا : مثل وجود العرض في نفسه ووجوده في موضوعه فإن العلة فيهما واحد. وليس كذلك حال الجسم والإنسان : فإنه ليس وجود الجسم هو وجوده للإنسان. وبالجملة لو شئنا أن نوصل الجسم إلى الإنسان قبل الحيوان لك (95 ب) يمكن ، وذلك لأن الموصول إليه حينئذ لا يكون إنسانا، لأن ما لم يكن حيوانا لم يكن إنسانا.
فمحال أن نوصل الجسم إلى حد أصغر يكون ذلك الحد الأصغر إنسانا ولم يصل إليه الحيوان. والحيوان إذا وصل إلى شيء تضمن ذلك الوصول وصول ما فوق الحيوان. ويكون وصول الحيوان إليه غير ممكن أيضاً بلا واسطة يكون وصولها نفس حصول الإنسان. وافهم من الوصول الجمل على مفروض.
وهذه فصول نافعة في العلوم دقيقة في أنفسها لا يجب أن يستهان بها.(1/416)
وقس على هذا حال الفصل الذي هو لجنس الإنسان في وجوده للإنسان فإنه كجنس الحيوان أيضاً في أنه جزء من الحيوان يوجد أولا للحيوان، وبالحيوان للإنسان.واعرف هذا بالبيانات التي قدمت، فإنك إن حاولت عرفانه من البيان الأخير تخيل عندك أن ذلك مختص بالجنس ولا يقال للفصل، وليس كذلك. ولكن في تفهم كيفية الحال فيه صعوبة ربما سهلت عليك إن تأنيت للاعتبار، وربما عسرت. وطبيعتها غير مطردة. فإذا أردت أن تعتبر ذلك فتذكر حال الفرق بين الفصل والنوع، وتذكر ما بيناه من أن طبيعة كل فصل، وإن كانت في الوجود مساوية لنوع واحد، فهي صالحة لأن تقال على أنواع كثيرة. فإذا تذكرت هذا وأحسنت الاعتبار، وجدت طبيعة فصل الجنس يستحيل حملها على الإنسان ولم يحمل عليه الحيوان حالما لم يحمل عليه الحيوان. فقد بان لنا أن الجنس الأقرب إذا نسب إلى النوع بالفعل ونسب الجنس الذي يليه إلى ذلك النوع بالفعل، أو نسب فصله إلى ذلك النوع بالفعل، لم تكن نسبة جنس الجنس وفصل الجنس قبل نسبة الجنس، وأن ذلك ليس كما يأخذ الآخذ طبيعة الجنس والفصل بذاتهما غير منسوبة إلى شيء بعينه حتى يكون ما هو أعم مما يجوز أن يوجد وإن لم يوجد ما هو أخص. وفرقٌ بين أن يكون قبل في الوجود مطلقا، وأن يكون قبل في الوجود لشيء.
فقد اتضح من ذلك أن الشبهة منحلة. وهذا يتبين بيانا أوضح إذا نحن تأملنا الأمور البسيطة. فإنه لا يجوز أن يوجد معنى اللون لشيء ثم توجد له البياضية، بل الموجود الأول له هو البياضية. وإذا وجد الشيء بياضا أو سوادا تبعه وجود أن للشيء لونا، وإن كان اللون اعم من البياض وقد يوجد حيث ر يوجد البياض. لكنه لا يوجد لجزئيات البياض إلا لأنه موجود للبياض، إذ كان معنى فصل الجنس وجنسه يوجدان للجنس وإن لم يوجدا لنوعه المعين. ولا يوجدان للنوع إلا وقد وجدا للجنس. فهما إذن لمعنى الجنس قبلهما لمعنى النوع. فظاهر بيّن أن وجودهما للجنس بذاته، ووجودهما للنوع بالجنس. فإذن الجنس سبب في وجودهما للنوع : لأن كل ما هو بذاته فهو سبب لما ليس بذاته.
وكذلك حال ما تحت النوع مع النوع : فإن قال قائل : إنا إذا قلنا إن كل ج حساس، وكل حساس حيوان، فأنتجنا أن كل ج حيوان، لم يمكن أن يزول هذا العلم البتة، ولم يمكنا ألا نصدق بأنه لا يمكن ألا يكون كل ج حيوانا : فالجواب أن الأمر ليس هكذا، بل الحيوان، وإن لزم وجود الحساس، فليس بيّنا أن كل حساس حيوان بيانا يقينيا، بل بيانا وجوديا، أو هو بيان ما بيان برهاني. وذلك لأن معنى قولك حساس هو انه شيء ذو حس من غير زيادة شرط، فليس يلزم ضرورة أن يكون ذلك الشيء من جهة أنه ذو حس هو ذو اغتذاء ونمو وحركة مكانية، لا بأن تكون هذه المعاني مضمنة في الحساس تضمينا بالفعل، ولا بأن يكون العقل يوجب في أول الأمر أن يكون كل حساس يلزمه هذه المعاني كلها بذاتها - وجملة هذه المعاني معنى الحيوان.
فإذن كون الحساس حيوانا بلا بيان آخر أمر ليس يتعين بالوجوب إلا بوسط، بل هو امر لا يمنع العقل في أول وهلة أن يكون شجرا أو يكون جسما له حس وليس له سائر المعاني التي بها تكون الحياة. فإذن توسيط الحساس وحده لا يوجب اليقين المدّعى، إلا أن يؤخذ الحساس من جهة يكون علة للحيوان لا فصلا. ثم يتمم سائر المعاني التي يصير بها علة موجبة للحياة على ما نوضح في باب العلل من كيفية أخذ العلل حدودا وسطى. فحينئذ لا يكون الحساس الفصل حدا أوسط، ولا أيضاً الحساس وحده. وأما إذا كان الحيوان هو الحد الأوسط والحساس مضمن فيه، ليس لازما خارجا عنه، وجب اليقين بالحساس لا محالة ولم يمكن أن يتغير. وأنت تزداد تحقيقا لهذا مما سلف.
الفصل الحادي عشر
في اعتبار مقدمات البرهان
من جهة تقدمها وعليتها وسائر شرائطها
ولما كانت مقدمات البرهان عللا للنتيجة، والعلل أقدم بالذات، فمقدمات البرهان أقدم بالذات. وكذلك هي أقدم من النتيجة عندنا في الزمان وأقدم عندنا في المعرفة من جهة أن النتيجة لا تعرف إلا بها. ويجب أن تكون صادقة حتى ينتج الصدق.(1/417)
وإذا كانت هذه المقدمات عللا، فيجب أن تكون مناسبة للنتيجة داخلة في جملة العلم الذي فيه النتيجة أو علم يشاركه على نحو ما نبيّن بعد، وأن تكون أوائل براهينها من مقدمات أول بينة بنفسها هي أعرف واقدم من كل مقدمة بعدها. وإن لم تكن بهذه الشرائط لم تكن المقدمات برهانية.
وكثيرا ما يؤخذ في الإقناع الجدلي كواذب مشهورة ينتج بها صادق. وكثيرا ما تؤخذ صوادق غير مناسبة في قياسات ينتج بها صوادق : مثل احتجاج الطبيب أن الجراحات المستديرة أعسر برءا من قبل أن المستدير أكثر إحاطة. فتكون أمثال هذه دلائل لا براهين حقيقية لنها غير مناسبة : فإنه استعمل مقدمة كبرى هندسية توخّى بها إبانة مطلوب طبيعي ولم يوضح علة مناسبة.
والأقدم عندنا هي الأشياء التي نصيبها أولا. والأقدم عند الطبع هي الأشياء التي إذا رفعت ارتفع ما بعدها من غير انعكاس. والأعرف عندنا هي أيضاً الأقدم عندنا. والأعرف عند الطبيعة هي الأشياء التي تقصد الطبيعة قصدها في الوجود. فإذا رتبت بأزاء الجزئيات المحسوسة، كانت المحسوسات الجزئية أقدم عندنا وأعرف عندنا معا، وذلك لأن أول شيء نصيبه نحن ونفرعه هو المحسوسات وخيالات مأخوذة منها، ثم منها نصير إلى اقتناص الكليات العقلية. وأما إذا رتبت الكليات النوعية بأزاء الكليات الجنسية، كانت الكليات الجنسية أقدم بالطبع وليست أعرف عند الطبيعة، وكانت الكليات الجنسية أيضاً أقدم وأعرف عند عقولنا. والكليات النوعية أشد تأخرا وأقل معرفة بالقياس إلينا : وذلك لأن طبيعة الجنس إذا رفعت ارتفعت طبائع الأنواع، وإن كانت طبيعة الجنس من جهة ما هي كلية - لا من جهة ما هي طبيعة فقط - قائمة بالأنواع. فطبائع الأجناس أقدم بهذا الوجه من طبائع الأنواع. لكن الأعرف عند الطبيعة هي طبائع الأنواع : لأن الطبيعة إنما تقصد لا طبيعة الجنس في أن يوجد، بل طبيعة النوع. فيلزمها طبيعة على سبيل المقصود بالضرورة أو بالغرض : وذلك لأن النوع هو المعنى الكامل المحصل. وأما طبيعة الجنس وحدها، فلا يمكن أن يوضع لها في الوجود تحصيل.والطبيعة تقصد الكامل المحصل الذي هو الغاية.وأيضاً لو كان المقصود طبيعة الجنس بذاتها لما تكثرت أنواع الجنس في الطبيعة، ووقع الاقتصار على نوع واحد.
وبعيد أن يظن أن طبيعة اللون عي أعرف عند الطبيعة من البياض والسواد وغيرها بل الطبيعة الكلية الممسكة لنظام العالم تقصد الطبائع النوعية. والطبائع الجزئية التي ليست ذاتية لنظام العالم تقصد الطبائع الشخصية، والجنس داخل في القصد بالضرورة أو بالغرض.
فقد بان أن طبائع الأنواع اعرف من طبائع الأجناس في الطبيعة، وإن كان الجنس أقدم بالطبع من النوع. لكن طبائع الأجناس أقدم عندنا من طبائع الأنواع - أعني بالقياس إلى عقولنا وإدراك عقولنا الإدراك المحقق لها : فأن العقل أول شيء إنما يدرك المعنى العام الكلى، وثانيا يتوصل إلى ما هو مفصل. فلهذا ما نجد الناس كلهم مشتركين في معرفة الأشياء بنوع أعم. وأما نوعيات الأشياء فإنما يعرفها أكثر من بحثه اكثر. ونحن في مبدأ استفادتنا للمدركات يلوح لنا ما هو أقدم عندنا على الإطلاق وأشد تأخرا في الطبيعة على الإطلاق - وهي الجزئيات المحسوسات - فنقتنص منها الكليات. وبعد ذلك إذا أردنا أن نتحقق الكليات تحققا كليا ليس شيئا منتشرا خياليا، يكون ما نبتدأ منه هو من جانب الأعرف عندنا، والأقدم عند الطبيعة (96 أ) معا، ونسلك منه منحطا على التدريج إلى الخواص والجزئيات، أي النوعيات، فنبحث أول شيء أعم بحث، ثم نفصل وننزع التدريج. فإذا كنا نتعرف أول شيء طبائع الكليات الجنسية ثم النوعية، فإنا نكون قد ابتدأنا مما هو أقدم بالطبع وأعلاف عندنا وليس أعرف عند الطبيعة وانتهينا إلى ما ليس أقدم بالطبع من الجهة التي حددنا بها الأقدم بالطبع، لكنه أعرف عند الطبيعة. فإذا انتهينا إلى الأنواع الأخيرة ختمنا التعليم، فإنا لا ننزل إلى الأشخاص، وإنما نختم التعليم عند الأشياء التي هي أعرف عند الطبيعة.(1/418)
فأما إذا ابتدأنا أولا وأخذنا من البسائط وصرنا على طريق التركيب إلى المركبات، فنكون قد ابتدأنا مما هو أقدم في الطبع. لكن وإن كان ذلك مما خصصنا به نظرنا أعرف عندنا، فليس هو دائما اعرف عندنا، فإنه ليس كل بسيط أعرف عندنا من المركب، وإن كان هذا البسيط النافع لنا في معرفة هذا المركب المخصوص أعرف عندنا، ونكون قد سلكنا سبيلا برهانيا لا محالة، لأن البسائط أسباب. فلنبحث هل البسائط أعرف عند الطبيعة أو المركبات. فأما البسائط التي هي أجزاء من المركبات فيشبه أن تكون هي لأجل المركبات، فإن المادة لأجل الصورة والجزء لأجل الكل. فيجب أن تكون المركبات أعرف عند الطبيعة لأنها هي الغاية لتلك البسائط، وهذا هو الأصح. ولا يجب أن تكون الأجزاء واحد منها أعرف من الآخر من حيث أنها أجزاء. بل هي سواء في المعرفة عند الطبيعة، إلا أن تعتبر لبعضها خصوصية زائدة على أنها جزء.
وأما البسائط التي هي علل كالفواعل والغايات فليست بأجزاء المعلولات. فيشبه أن تكون هي أعرف وأقدم معا عند الطبيعة من المعلولات التي لها بالذات، فيكون البيان منها برهانيا: لكن عما هو أقدم عند الطبع وأعرف عند الطبع معا لما هو أشد تأخرا.
فإن ابتدأنا عن المركبات وسلكنا إلى البسائط، أو ابتدأنا من الجزئيات وسلكنا إلى الكليات بالاستقراء، فإنا نكون مستدلين غير مبرهنين، ويكون قد اتفق إن كان الأعرف هو الأعرف عند الطبيعة. فيجب أن تتحقق هذه الأصول على هذا المأخذ.
فإن قال قائل ما قد قاله بعضهم : إن المعنى الجنسي أعرف عند الطبيعة لأنه وإن لم يعرف بحسب شيء فهو في نفسه وبقياس الحق أعرف. فيقال له : لا معنى لقولك إنه بقياس الحق أعرف، لأن الشيء إنما يصير معروفا بعارفه، وعارفه إما نحن بالعقل أو كل ما هو ذو عقل. وأما الطبيعة في قصدها لنظام الكل على سبيل الاستعارة فيكون الأعرف عندها ما تقصده بنظام الكل. فإن اعتبرنا بالمعرفة الحقيقية، فالطبيعة الجنسية لا تكون معروفة بذاتها إلا بالقوة : وأما بالفعل فإنما تعرف إذا عرفت بالعقول. وإنما تكون معروفة بذاتها بالقوة على النحو الذي نريد أن تصير معروفة بالفعل. ولا ينكر أحد إن الطبيعة الجنسية أعرف عند العقول، فإن الطريقة البرهانية تأخذ مما هو أعرف عند العقول إلى ما هو أعرف عند الطبيعة كما يصرح به المعلم الأول في ابتداء تعليمه للطبيعيات. ونحن نتقبل به هناك ونشرح الأمر فيه.
الفصل الثاني عشر
في مبدأ البرهان
ومبدأ البرهان يقال على وهين. فقال مبدأ البرهان بحسب العلم مطلقا، ويقال مبدأ البرهان بحسب علم ما. ومبدأ البرهان بحسب العلم مطلقا هو مقدمة غير ذات وسط على الإطلاق، أي ليس من شأنها أن يتلق بيان نسبة محمولها إلى موضوعها - كانت إيجابا أو سلبا - بحد أوسط فتكون مقدمة أخرى أقدم منها وقبلها.
ومبدأ البرهان بحسب علم ما يجوز أن يكون ذا وسط في نفسه، لكنه يوضع في ذلك العلم وضعا ولا يكون له في مرتبته في ذلك العلم وسط، بل إما أن يكون وسكه في علم قبله أو معه، أو يكون وسطه في ذلك العلم بعد تلك المرتبة كما ستعرف الحال فيه.
وكلا القسمين من مبدأ البرهان. ويتفقان في أن كل واحد منهما أحد طرفي النقيض بعينه ولا يمكن أن يكون الآخر برهانيا. ويخالفان المقدمة الجدلية بأن الجدلية وإن كانت أحد طرفي النقيض فليس بعينه على ما علمت.
والمقدمة التي هي مبدأ برهان ولا وسط لها البتة ولا تكتسب من جهة غير العقل، فإنها تسمى العلم المتعارف والمقدمة الواجب قبولها. وأما كل شيء بعدها مما يلقن في افتتاحات العلوم تلقينا - سواء كان حدا أو مقدمة - ففي الظاهر أنهم يسمونها وضعا.(1/419)
والحد يخالف المقدمة التي يكلف المتعلم تسليمها وليست بينة بنفسها، بل يخالف كل مقدمة. وإن كان الحد قد يقال على هيئة مقدمة : مثلا كما لقائل أن يقول إن الوحدة هي ما لا ينقسم بالكم. ووجه المخالفة أن الغرض ليس أن يصدق على الوحدة محمول ما، بل أن يتصور معنى اسم الوحدة أو معنى ذات الوحدة، لا أنها هل هي كذا أو ليست كذا. ثم لا سبيل إلى تلقين ذلك إلا بقول يقال على هيئة المقدمة ولا يكون في ذلك منازعة البتة : لأن لكل حد أن يوضع له كل اسم. إنما تقع المنازعة في الحدود - إن وقعت - لا في معنى التصديق بل في خطأ إن وقع في التصور. وأما المقدمة فإنما تورد ليقرر بها التصديق لا التصور.
ثم إن المقدمة الوضعية تختص دون الحد باسم آخر، وهو الأصل الموضوع. والحد وضع وليس أصلا موضوعا، لأنه لا إيجاب فيه و لا سلب.
وقوم يسمون الأصل الموضوع بالمصادرة. وقوم يقسمون الأصل الموضوع إلى مقبول، بالمساهلة، وليس في نفس المتعلم رأى يخالفه، ويخصونه مرة أخرى باسم " الأصل الموضوع " وإلى متوقف فيه بحسب ضمان المعلم بيانه في وقته وفي نفس المتعلم رأى يخالفه. وربما قالوا " وضع " لكل أصل موضوع فيه تصديق ما - كان أوليا أو غير أولى - كان في نفس المتعلم ما يخالفه أو لم يكن.
وربما سمى في التعليم الأول باسم الوضع كل رأى يخالف ظاهر الحق يقال باللسان دون العقل : مثل قول من قال إن الكل واحد وإنه لا حركة.
وربما قصر المتعلم عن تصور الأوليات في العقل أولية، فتصير الأوليات بالقياس إليه أوضاعا، وذلك إما لنقص في فطرته أصلى أو حادث، مرضِى أو سِنّي؛ أو لتشوش من فطرته بآراء مقبولة أو مشهورة يلزم بها رد الأولى لئلا ينتج نقيضها. وربما كان اللفظ غير مفهوم فيحتاج أن يبدل، أو يكون المعنى غامضا لا يفهم، فإذا فهم أذعن له. وغموضه قد يكون كثيرا لكليته وتجريده وبعده عن الخيال. وفي مثل هذا قد يستقرى المخاطب الجزئيات فينتفع كثيرا لأن الاستقراء وإن كان لا يثبت، فقد يذكر.
وعلى الأحوال كلها فيجب أن نضع أن مبادئ العلوم حدود ومقدمات واجب قبولها في أول العقل، أو بالحس والتجربة، أو بقياس بديهي في العقل. وبعد هذا أصول موضوعه مشكوك فيها ولكن لا يخالفها رأى المتعلم، ومصادرات. وليست الأصول الموضوعة تستعمل في كل علم، بل من العلوم ما يستعمل فيها الحدود والأوليات فقط كالحساب. وأما الهندسة فيستعمل فيها جميع ذلك. والعلم الطبيعي أيضاً قد يستعمل فيه جميع ذلك، ولكن مخلوطا غير مميز.
ولما كان البرهان يوقع لنا تصديقا يقينا بمجهول، وإنما يوقعه البرهان بسبب مبادئ البرهان، فيجب أن يكون تصديقنا بها متقدما. وليس يكفينا أن نكون مصدقين بمبادئ البرهان كلها أو بعضها، أي الذي ليس بمصادرة فقط، بل يكون تصديقنا بها آكد وأولى من تصديقنا بالنتيجة، ةتكذيبا بمقابلاتها أشد من تكذيبنا بمقابل النتيجة. وليس المقابل بالنقيض فقط، بل وبالضد. وإنما وجب ذلك لأنه إذا كان شيء علة لشيء في معنى يشتركان فيه، فيجب أن يكون ذلك المعنى في العلة آكد واكثر إذا كان من أجله يحصل في الآخر. فإنا إذا كنا نحب شيئين لكن حب أحدهما سبب لأن تحب الآخر، فالسبب أولى بأن يحب أكثر كالولد والمعلم في الآخر أو لمخالطة من الضد للأخر، كما يطن من أن الأولى بالسوادية ما شارك في نفس السواد وكان أزيد سوادية فيكون الآخر أزيد بياضية، حتى يكون الشيء إنما يكون أولى بالصدق إذا كان الآخر أولى باللا صدق فيخالطه شيء من الكتب. بل قد يقال إن كذا أولى بكذا من كذا إذا كانا في طبيعة سواء لكن أحدهما له المر في نفسه أولا وللآخر بعد.
وإذا صدقت النفس بأمرين كليهما، لكن صدقت بأحد الأمرين قبل والآخر بعد، كانت النفس تصدق (96 ب) بأحدهما ملتفتة إليه نفسه، وبالآخر ليس ملتفتة إليه نفسه بل ملتفتة إلى الأول، فكان التصديق بالأول أشد لهذا المعنى.(1/420)
فإن شوشك هذا الفصل فدعه فلا كبير جدوى فيه. واعلم لما سمع ما قيل في التعليم الأول حيث قيل ما قيل : " فجميع التي يأخذها وهي مقبولة من حيث لم يبينها، إن كان أخذه لما هو مظنون عند المتعلم فإنما يضعها وضعا، وهي أصل موضوع : أعني الوضع لا على الإطلاق لكنها عند ذلك فقط. فأما أن هو أخذه من حيث ليس له فيه بعينه ولا ظن واحد، أومن حيث ظنه على ضد، فإنما يصادر عليه مصادرة " ، وهذا هو الفرق المذكور في التعليم الأول بين المصادرة وبين الأصل الموضوع، وذلك أن المصادرة هو ما كان مقابلا لظن المتعلم، وهو هذا الذي يأخذه الإنسان وهو متبرهن ويستعمله من حيث لم يبينه، ظنوا أن الأصل الموضوع هو الذي يتبين بأدنى تأمل، وأن المصادرة ما لا يتبين بأدنى تأمل؛ بل كأن الأصل الموضوع هو الذي يحضر المتعلم حقيقته إذا فكر أدنى فكر، وأن المصادرة هو ما لا سبيل له إلى ذلك : وليس الأمر كذلك. فإن الذي يتبين بأدنى تأمل إما أن يكون التأمل هو الاستكشاف لمفهوم اللفظ على سبيل التنبيه : وهو أن يكون الشيء حقه أن يعلم ثم يذهب عنه المتعلم ولا يتبينه لنوع من الغفلة عن مفهوم اللفظ. وإما أن يكون التأمل هو الاستكشاف لحال القول في صدقه لا في فهمه. فأما الاستكشاف للتصور فليس إنما يعرض في القسم الذي هو الأصل الموضوع، بل قد يقع أيضاً في الأوائل الحقيقية؛ فإنها ربما ذهب عنها وأغفلت حتى أنكرت فيحتاج أن ينبه المتعلم. فأما التأمل للتصديق فالتصديق بالمجهول لا يتضح إلا بالوسط، فيكون هذا الاستكشاف هو ابتغاء الحد الأوسط هو ابتغاء الحد الأوسط في موضع بنوع يسهل على المتعلم إدراكه. فيشبه أن تكون المطالب والمسائل القليلة الأوساط أصولا موضوعة. فإن كان كذلك صار كثير من المسائل السهلة التي في الهندسة التي لها بأدنى تأمل، من جملة الأصول الموضوعة : وهذا محال. بل الأصول الموضوعة هي المقدمات المجهولة في أنفسها التي من حقها أن تبين في صناعة أخرى إذ كان المتعلم قد قبلها وظنها بحسن ظنه بالمعلم وثقته بأن ما يراه من ذلك صدق.
والمصادرة ما كان كذلك، لكن المتعلم يظن ما يراه المعلم ظن مقابلة، أو لم يظن شيئا. والمؤكد بالجملة فيه أن يكون عند المتعلم ظن يقابله. بل الأشبه أن تكون المصادرة هي ما تكلّف المتعلم تسليمه وإن لم يظنه، كان من المبادئ أو كان من المسائل في ذلك العلم بعينه : لمسائل التي تتبين بعد فيستسمح بتسليمها في درجة متقدمة. فيكون المبدأ الواحد الذي ليس أبينا بنفسه أصلا موضوعا باعتبار، ومصادرة باعتبار.
وقد يكون مثل ذلك الاعتبار في غير المبدأ للصناعة، بل في مبدأ لبعض مسائل الصناعة إذا كان يتبين في الصناعة. فيقال لذلك المبدأ " مصادرة " .
وبالحرى أن يكون ما وضع في كتاب أو قليدس وهو التقاء خطين في جهة الناقص عن قائمتين " مصادرة " إذ كان الأوسط لا يكون هناك إلا من صناعة الهندسة. والعجب ممن ظن أن الأصل الموضوع يكون كقولهم في الهندسة " إن الخطوط الخارجة من المركز إلى المحيط متساوية " : فإن هذا قد يشكل قليلا، ولا يشكل أن المساوية لواحد متساوية. ثم يكون هذا الإشكال مما يقع بيانه بأدنى تأمل : قال وذلك بفركار يعرف به المتعلم ذلك فيقبله. ولعمري إن هذا الغافل لو قال إن تفهم هذه القضية على سبيل التصور قد ينتفع فيه بالفركار، لكان له معنى. وأما على سبيل التصديق فكيف يمكن ذلك؟ فإنه إذا سمع المتعلم أن الدائرة بها شكل خطوط مركزه كذا وسلّمه وحده، لم يمكنه أن يضع دائرة وخطوط مركزها لا كذا : فيكون وضع دائرة ليست دائرة. وهذا لا يمكنه أن يشك فيه بعد فرض وضع دائرة؛ ويكون هذا بين اللزوم من فرض الدائرة. بل الذي يجب أن يشكل عليه هو أنه هل هذا المسمى دائرة له وجود أم ليس له وجود؟ فإن بلغ إلى ان أشكل عليه حال هذه الخطوط بعد أن سمع حد الدائرة وفرض أن لها وجودا فالفركار كيف يصحح الأمر العقلي في الهندسة؟ ولو كان فركار عقلي لعز ذلك فيه فضلا عن الحسي! فكيف يمكن أن يدل بفركار جزئي عقلي أو حسي إلا أن خطوطا محدودة هي متساوية؟ وكيف يلزم من ذلك أن كل خط مما لا نهاية له في القوة كذلك لزوما ضروريا؟ فإن شك المتعلم في وجود الدائرة شك في ذلك مع كل فركار يفرضه. وأن سلم وجود الدائرة لم يمكنه - وقد حدّها - أن يشك في ذلك.(1/421)
ثم إن كان متعلم أبله شك في ذلك بعد أن فهم ما الدائرة، وانتفع بالفركار على سبيل التنبيه عن الغفلة، فستجد متعلمين بلهاء أكثر من ذلك سيغفلون عن تفهم أن المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية، حتى يؤخذ لهم مسطرة وخطوط فيبين لهم ذلك على سبيل التنبيه.
وبالجملة فإن سبيل التنبيه لا يتميز به العلم المتعارف من غير المتعارف، بل الحق هو انه إنما صارت هذه المقدمة أصلا موضوعا لأن وجود الدائرة غير بين بنفسه فيحتاج إلى بيان فوق البيان الواقع بالفركار. فإن سامح المتعلم صار أصلا موضوعا. بل يجب أن يفهم ما سمع من المعلم الأول على ما أعبر عنه. فكل ما يؤخذ ويكلف قبوله من غير بيان - وهو محتاج إلى بيان، ويقع للمتعلم ظن بتصديقه - فهو أصل موضوع بالقياس إلى ذلك المتعلم الذي ظن؛ لا بالقياس إلى غيره. فأما إن أخذه وهو لا يظن ما يظنه المعلم؛ أو يظن خلاف ذلك، فهو مصادرة، والمصادرة هو ما يقابل ظن المتعلم : إما بالسلب بأن لا يظن أو بالتضاد بأن يظن غيره وذلك حين يأخذ هذا الذي يحتاج إلى بيان أخذا من غير بيان.
ومما غلطهم في أمر الأصل الموضوع ما سمع أنه جعله أحد قسمي ما لا وسط له؛ وحسبوا أن معناه لا وسط له في نفسه؛ وليس كذلك. بل معناه ما لا وسط له في ذلك العلم سواء كان له وسط في علم آخر أو لم يكن ولا في شيء من العلوم وسط.
واعلم أن المقدمات البرهانية التي على مطالب ضرورية إنما هي في مواد واجبة ضرورية، والمغالطات البرهانية في أمثالها هي في مواد ممتنعة ضرورية. وأعني بالمغالطات البرهانية ما يشبه البرهان وليس برهانا فإن من المغالطات مغالطات جدلية غير برهانية. والفرق بينهما أن مقدمة المغالطة البرهانية تشبه بالأولية وتكون من أمور ضرورية؛ إلا أن يكون المطلوب أمرا ممكنا فيكون القياس عليه من الممكنات. وأما القياس على ما ليس منها فإنما يكون من ضروريات ومقابلاتها مقابلات الضرورية. فلذلك توجد كلية كاذبة في الكل، كبرى وصغرى، وينتج منها نتائج كاذبة في الكل إذا أخذت كبرى؛ وتكون المقدمة منها مضادة للمقدمة البرهانية، والنتيجة منها مضادة للنتيجة البرهانية، إذا أخذت على هذه الصورة.
وأما المقدمة المغالطية الجدلية فإنها بالمشهورة ولا تكون مشهورة عند التعقب؛ ولا يجب في الأكثر أن تكون ضرورية. وربما كانت شنعة؛ وربما كانت مع شناعتها صادقة ولكن استعمالها في الجدل يكون مغالطة لأنها وإن كانت صادقة فهي خلاف المشهورة. فإن كثيرا من المشهورات كاذب؛ وكثيرا من الشنع حق. ونسبة المشهور والشنع إلى القياسات الجدلية نسبة الحق والباطل إلى القياسات البرهانية، فالغلط في البرهان هو بما ليس بحق؛ وفي الجدل بما ليس بمشهور؛ والمغالطة البرهانية تقع لسهو من القياس، وقد تقع لقصد الامتحان وقد تقع شرا ورداءة نفس.
المقالة الثانية
من الفن الخامس
الفصل الأول
في معرفة مبادئ البرهان وكليتها وضروريتها
إنه لما علم أن مبدأ البرهان يجب أن يكون أوضح وأعرف من البرهان وهو الحق؛ واقترن به الظن أن كل شيء يتبين بالبرهان وهو باطل، اجتمع منهما رأيان أحدهما رأى مُبطل البرهان، والثاني رأى من يرى أن مبادئ البرهان تبين دورا.
فأما الرأي الأول فقد احتج أصحابه بأن قالوا : لما كان المطلوب بالبرهان يتبين بمقدمات تحتاج أن تكون أوضح منه فيجب أن يكون (97 أ) بيانها قبل المطلوب بالبرهان إنما يقع بمقدمات تحتاج أن تكون أوضح منها، فيجب أن يكون بيانها متعلقا بإقامة البرهان عليها؛ فتحتاج أن يتقدمها أيضاً مقدمات أوضح منها بانت قبل بيانها. وكذلك هلم جرا. وذلك يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد متوقفا في إقامة البرهان عليه على أن يتقدمه إقامة براهين بلا نهاية وهذا محال. أو يكون الشيء يتسلم من غير بيان، وما يُبنى على غير البيّن فهو غير بيّن. فكذلك ما ليس يبيّن فلا يكون مبدأ للبيان. فإذن لا سبيل إلى إقامة برهان على شيء.(1/422)
وأما الرأي الثاني فإن أصحابه لما لزمهم هذا المأخذ من الاحتجاج اضطروا إلى أن يقولوا إن للبراهين مبادئ أُول. وكانوا وضعوا أن كل شيء يتبين ببرهان، فوقعوا في أن قالوا إن هذه المبادئ يكون البرهان منها عليها بعضها على بعض؛ فيبرهن هذا المبدأ بذلك المبدأ، وذلك بهذا على سبيل الدور. فحسبوا أنهم حفظوا وضعهم أن البرهان موجود، ووضعهم أن على كل شيء برهانا معا، وتخلصوا على ذهاب المبادئ والمقدمات إلى غير النهاية.
وكلا الرأيين باطل. والمقدمة المؤدية إلى الرأيين - وهي أن كل علم إنما يقع بالبرهان، وأنه إما ألا يكون علم أو يكون ببرهان - باطلة. بل الحق أن يقال. إما أن يكون كل شيء مجهولا، أو يكون شيء معلوما. والمعلوم إما معلوم بذاته أو معلوم ببرهان. وليس كل شيء مجهولا : فإنه لو كان كل شيء مجهولا لم يكن قولنا " كي شيء مجهول " بمعلوم، ولا كل شيء معلوم ببرهان : فإنه لو كان كل شيء يعلم ببرهان، لكان كل برهان يعلم ببرهان، وهذا محال، فمن الأشياء ما يعلم بذاته. ولو تمموا القياس على هذا النسق لم يلزمهم ما لزمهم. وكيف يكون على كل شيء برهان وقد علمت أن البراهين تكون بمتوسطات بين حدين، ولا يمكن أن يكون بين كل اثنين من المتوسطات بعدد ما بين الطرفين الأولين أيضاً : لأنه لابد في كل ترتيب عددي، كان متناهيا أو غير متناه، من تلو واحد لآخر. فإذا كان مثلا بين ج ، ب متوسطات بلا نهاية لزم محالان : أحدهما أن يكون بين كل اثنين من المتوسطات متوسطات بعدد ما بين الطرفين في أنه لا نهاية له، فيكون بين محصور الجانبين مرتبا مثل الكل الحاصر - وهذا خلف. والثاني أن هذه المتوسطات وإن كانت تذهب إلى غير النهاية، فلكل واحد مما لا نهاية له من جانبيه جاران. ومعلوم أنه ليس بينه وبين جاره واسطة : فتكون إذن بعض المقدمات التي في الوسط له، وهو من مبادئ البرهان لا محالة. ووُضع أن كل علم بوسط : فيكون بعض ما هو مبدأ البرهان غير معلوم : هذا خُلف.
فبيّن إذن أنه ليس كل علم ببرهان. وإن بعض ما يُعلم يُعلم بذاته بلا وسط، فيكون عند النهاية في التحليل، ويكون هو وما يجرى مجراه المبدأ الذي تنتهي إليه مقدمات البراهين. فلا يكون أيضاً ما ظُنّ من أن مقدمات البراهين إما أن تكون بلا نهاية، أو توقف في كل برهان عند أصل موضوع بلا بيان حقا. بل الحق أن ذلك ينتهي إلى بيّن بنفسه بلا واسطة.
وأما الذين ظنوا أنهم يتخلصون من الشبهة بأن يجعلوا البراهين منتهية إلى أوائل بيّن بعضها ببعض، فقد فُسخ طريقهم في التعليم الأول، فقيل إن البيان بالدور ليس ببيان البتة، وبيّن ذلك بحجج ثلاث : إحداهما أن بيان الدور يوجب أن يكون شيئان كل واحد منهما أكثر تقدما واعرف من الآخر، وكل واحد منهما أشد تأخرا وأخفى من الآخر، لا من وجهين مثل أن يكون أحدهما بالقياس إلينا والآخر بالقياس إلى الطبيعة، حتى يكون ما هو أعرف فهو أعرف عندنا وأخفى عند الطبيعة، فإن هذا يمكن. ولكن العرف فيما يتعلق بالبيان الدوري في الشيئين جميعا من جهة واحدة، وبالقياس إلينا وحده، أو بالقياس إلينا وإلى الطبيعة معا : لأنه لا بد من أن يكون ما يؤخذ مقدمة في قياس ما أعرف عندنا من النتيجة. ثم قد يكون مع انه أعرف أقدم بالطبع. وقد لا يكون كذلك، بل يكون ما هو أعرف عندنا متأخرا عند الطبيعة كجزئيات الاستقراء الشخصية. وإذا كان كذلك حصل الشيء الواحد بعينه أعرف عندنا من شيء، وأقل معرفة منه بعينه، وهذا مستحيل جدا.
والحجة الثانية - أن المبرهن بالدور يكون في الحقيقة مصادرا على المطلوب الأول. وذلك لأنه إذا كان يبين مقدمة بمقدمة، ثم كانت تلك المقدمة تبيّن نفسها بالمقدمة الأولى، أو تبين بمقدمة أو مقدمات تبين بالمقدمة الأولى : سواء كانت تلك المقدمات وتلك الأوساط واحدة أو كثيرة، أي كثرة كانت، فإنه إنما يبين الشيء بما يتوقف بيانه على بيان الشيء، فيكون إنما تبيّن الشيء ببيان الشيء نفسه، وهذا محال : لأن القول بأن الشيء موجود لا يفترق فيه الحال بين انه يوضع وضعا بلا بيان لميّته، وبين أن يقال إن الشيء موجود لأن الشيء موجود فقط ولا يزداد. فإن كان لا يقبل أن الشيء موجود، فلا يقبل أيضاً أن الشيء موجود لأن الشيء موجود. وإن كان لا يقبل أن الشيء موجود لأن الشيء موجود، فلا يقبل البيان بالدور.(1/423)
والحجة الثالثة - أنه قد تبين في أنولوطيقا الأولى أن البيان بالدور كيف يكون وفي أي شيء يكون؛ فإنه لا بد من أن يقع في حدود أقلها ثلاثة، وأن يكون بعضها منعكسا على بعض مساويا له. واتفاق مثل هذه في البراهين قليل. وكيف يمكن أن يتفق أن تكون المبادئ الولى للبراهين كلها على هذه الشريطة حتى يتبين بعضها ببعض الدور؟ وهذه - أعني مبادئ البراهين - كثيرة جدا لا يتفق في جميعها أن تكون حدودها متعاكسة. فإن لم يتفق هذا في بعضها لا يتبين بالدور. ونِعم ما قيل : إن هؤلاء يعالجون الداء بأدوى منه. فإنهم لما أرادوا أن يتخلصوا من لزوم أن لا برهان، أو لا بد من ذهاب مبادئ البرهان إلى غير النهاية، فجعلوا مبادئ البرهان محتاجة في أن تعلم إلى ما لا يعلم إلا بها، فآل أمرهم إلى أن جعلوا مبادئ البرهان لا تعلم البتة ولا يعلم بها شيء.
على أن بيان الدور لا يخلص من الذهاب إلى غير نهاية، فإن الدور نفسه ذهاب إلى غير النهاية، ولكن في موضوعات متناهية العدد. فلا هم تخلصوا من الشناعة المبطلة للعلم، ولا تخلصوا من الذهاب إلى غير النهاية.
ولما كانت مقدمات البرهان تفيد العلم الذي لا يتغير ولا يمكن أن يكون معلوم ذلك العلم بحال أخرى غير ما علم به، فيجب أن تكون مقدمات البرهان أيضاً غير ممكنة التغير عما هي عليه. وهذا المعنى أحد المعاني التي تسمى ضرورية. فلنُعدّ الوجوه التي يقال عليها " الضروري " .
وكانا أومأنا إلى ذلك في بعض ما سلف فنقول : إن " الضروري " إما أن يقال بحسب الوجود المطلق بلا شرط : وهذا الذي لا يمكن البتة أن يفرض معدوما في وقت من الأوقات. وإما أن يقال بحسب العدم المطلق، وهو الشيء الذي لا يمكن البتة أن يفرض موجودا في وقت من الأوقات، وإما أن يقال بحسب وجود حمل ما أو عدم حمل ما وهو سلبه. وهذا على أنحاء خمسة : فيقال إما أن يكون السلب والإيجاب دائما لم يزل ولا يزال : كقولنا الباري واحد، والباري ليس بجسم. أو يكون السلب والإيجاب ليس دائما على الإطلاق، بل دائما ما دام ذات الموضوع موجودا ذاتا كقولنا : كل إنسان حيوان بالضرورة، أي ما دام كل إنسان وكل موصوف بأنه إنسان - وهو الموضوع - موجود الذات : فإنه يوصف بأنه حيوان لا دائما : فإن كل إنسان يفسد فلا يبقى اتصافه بأنه حيوان دائما، أو يكون لا ما دام ذات الموضوع موجودا، بل ما دام ذاته موصوفا بالمعنى الذي جُعل موضوعا معه. مثاله : كل أبيض فهو بالضرورة ذو لون مفرق للبصر لا دائما لم يزل ولا يزال، ولا ما دام ذات الموصوف بأنه أبيض موجودا - فإن بعض الذوات الموصوفة بأنها أبيض قد تزول هذه الصفة عنها مع وجودها ويزول أيضاً ما يلزم هذه الصفة وهو ذو لون مفرق للبصر - بل ما دامت الذات موصوفة بأنها أبيض فإنها تكون لا محالة موصوفة بأنها ذات لون مفرق للبصر. أو تكون الضرورة فيه بشرط ما دام المحمول موجودا. وهذا يصح في كل وجود وفي كل نحو من الضرورة مما سبق ذكره وما يجيء بعد : فإن كل موجود ضروري الوجود أو غير ضروري الوجود فإنه ما دام موجودا فلا يمكن ألا يكون موجودا بشرط ما دام موجودا. ولكن إنما يفرد هذا القسم فيما لا كون لمحموله ضرورة إذا رفع (97 ب) هذا الشرط البتة. كقولنا كل إنسان فإنه قاعد بالضرورة ما دام قاعدا، ولا نقول قاعد بالضرورة ونسكت. فمادة هذه الجهة من الضروريات ممكنة للكل من الموضوع وفي كل لوقت. وبهذا تفارق الأقسام الأخرى. أو تكون الضرورة متعلقة بشرط وقت كائن لا محالة - لا بشرط وضع أو حمل - مثل إن القمر ينكسف بالضرورة - أي وقت ما، وبعض الشجر ينتثر ورقه بالضرورة ويورق في الربيع بالضرورة. وقوم حسبوا أن هذا القسم هو الذي قبله : لأن القمر ينكسف بالضرورة ما دام منكسفا، وليس كذلك : بل هذا قسم على حدة وإن كان يصح عليه شرط ذلك القسم كما يصح في سائر الأقسام السالفة، وذلك لأن هذا القسم له وقت ضروري لا يمكن ألا يكون فيه. والقسم الذي قبله ليس له وقت ضروري؛ بل ضرورته اشتراط وجود نفسه، واشتراط وجود نفسه صالح في كل وقت. وهذا القسم في وقته ضروري الوجود - ل لأنه موجود وبشرط وجوده فقط، بل على الإطلاق. وهو في ذلك الوقت لا يمكن ألا يكون.وليس انكساف القمر وقت انكسافه كقعود زيد وقت قعوده. ولا يحتاج إلى أن نطول الكلام في هذا فإن المقدار الذي قلناه واضح.(1/424)
والقسم الرابع لا يدخل في إنتاج النتائج البرهانية الضرورية بذاتها : بل إن كانت من مواد ممكنة أكثرية صلحت أن تنتج نتائج إمكانية أكثرية. وأما سائر الأنحاء فتستعمل في البرهان إن كانت محمولاتها ذاتية. وسنفصل الذاتي بعد. ولكن كل نحو يفيد نتيجة مثل نفسه. وإنما صلحت أن تدخل في البرهان لأنها تصلح أن تفيد اليقين. وإنما صلحت لأن تفيد اليقين لأن كل واحدة منها فهي من الجهة التي صار بها ضروريا ممتنع التغير، فما يلزمه من النتيجة ممتنع التغير.
وكنا إذا قلنا في " كتاب القياس " إن كل ج ب بالضرورة، عنينا أنكل ما يوصف بأنه ج - كيف وُصف بج - دائما أو بالضرورة، أو وصف به وقتا ما، أو بالوجود الغير الضروري، فهو موصوف كل وقت ودائما بأنه ب ، وإن لم يوصف بأنه ج. وأما في هذا الكتاب فإنا إذا كل ج ب بالضرورة، عنينا أن كل ما يوصف بأنه ج بالضرورة فإنه موصوف بأنه ب. لا - بل معنى أعم من هذا وهو أن كل ما يوصف بأنه ج فإنه ما دام موصوفا بأنه ج فإنه موصوف بأنه ب ، وإن لم يكن موجود الذات، لأن المحمولات الضروريات هاهنا أجناس وفصول وعوارض ذاتية لازمة. ولزوم هذه بالضرورة على هذه الجهة. فإنه ليس إذا وصف شيء بنوع ما يجب أن يوصف بجنسه أو فصله أو حده أو لازم له دائما. بل ما دام موصوفا بذلك النوع؛ فإذا زال فإن حده يزول لا محالة. وكثير من فصوله لا محالة. وأما الجنس فربما زال. مثلا إذا استحال الأبيض فصار مُشِفّا؛ أو الحلو فصار تفِهاً لا طعم له؛ فزال حينئذ النوع وجنسه، وهو الأبيض واللون؛ وزال الحلو والطعم معا. وربما لم يزل كما إذا استحال الأسود فصار أبيض، بطل حمل النوع ولم يبطل حمل الجنس.
ولأن المقدمات البرهانية قيل فيها إنها يجب أن تكون كلية؛ فلنبين كيف يكون المقول على الكل في المقدمات البرهانية فنقول : أما في " كتاب القياس " فإنما كان المقول على الكل بمعنى أنه ليس شيء من الأشياء الموصوفة بالموضوع كج مثلا إلا والمحمول كب مثلا موجود لها إن كان القول الكلى موجبا، ومسلوب عنها إن كان القول الكلى سالبا. ولم يكن هناك شرط ثان : وهو أن الوجود والسلب يكون في كل زمان، بل في المطلقات - لقد كان يجوز أن يكون المحمول موجودا في كل واحد من الموصوفات بالموضوع وقتا ما ولا يوجد وقتا.
وأما هاهنا فإن المقول على الكل معناه أن كل واحد مما يوصف بالموضوع، وفي كل زمان يوصف به - لا في كل زمان مطلقا - فإنه موصوف بالمحمول أو مسلوب عنه المحمول. وذلك لأن هذه المقدمات كليات ضرورية. والضروري تبطل كليته بشيئين : إما أن يقال إن من الموضوع واحدا ليس الحكم عليه بالمحمول موجودا : كالكتابة للإنسان : لأنه ليس كل إنسان كاتبا. أو يقال إن من الموصوف بالموضوع ما هو في زمان ما ليس يوصف بالمحمول، كالصبي لأنه لا يوصف بعالم. فهذان يبطلان كون المقول على الكل ضروريا.
وإن قال قائل : إنكم أخذتم الضروريات التي بمعنى " ما دام الموضوع موصوفا " من جملة المطلقات في كتاب القياس، فكانت هناك كليات مطلقة، وكانت كليتها لا تبطل بالخلل الواقع من جهة الزمان، فالجواب : فأنا إنما كنا نأخذها مطلقات بأن نرفع عنها جهة الضرورة؛ وهاهنا أثبتنا لها جهة الضرورة في المحمول. وحيث كنا نجعلها مطلقة فما كنا نقول إن الضروري - ما دام الموضوع موصوفا بما وصف به - مطلق من جهة هذه الضرورة بالفعل، بل مطلق من جهة إمكان اشتراط هذه الضرورة فيه، لا إمكان الضرورة الحقيقية، حتى إن المقدمة التي إذا اشترط فيها الضرورة لم يمكن أن تشترط إلا من هذه الجهة، فهي مطلقة إذا خلت من هذه الشرائط والجهات. وفرق بعيد بين إمكان اشتراط شيء وبين اشتراطه بالفعل. فهاهنا إذا اشترطت الضرورة انتقضت بالخلو عن الحكم أي زمان كان، وهناك إذا لم تشترط الضرورة، بل كانت القضية مطلقة بلا شرط بالفعل، فلم تنتفض بالخلو عن الحكم زمانا إذ وجد زمانا وكان لم يشترط دوام الحمل للوضع. ولو اشترط هناك شرط الضرورة فكان بالضرورة ما دام موصوفا بالموضوع، فلم يوجد في بعض زمان اتصافه به، لكان القول منتفضا.(1/425)
ولنعبر عن هذا من جهة أخرى فنقول : إن الذي يعتبر فيه الخلو زمانا والدوام زمانا ها هنا هو غير الذي كان يعتبر فيه الأمران هناك. فهناك إنما كان يعتبر ذلك ما بين حدي المطلوب على الإطلاق : وهما ذات الشيء الأبيض وذات اللون المفرق للبصر، فيعتبر حال المحمول عند ذات الموضوع من حيث ذاته. وهاهنا يعتبر ذلك في شرط للموضوع وهو - ما دام ذات الموضوع موصوفا بصفة أنه أبيض. وهناك لم كن بشرط هذا بل كان إنما يكون مطلقا لأنه ليس يعرض لذات الموضوع دائما، بل في وقت اتصافه بأنه كذا. فكان ليس كل موصوف بأنه أبيض فهو ذو لون مفرق للبصر ما دام موصوفا بأنه أبيض. فكان " ذو لون مفرق للبصر " لا يحمل في كل وقت على ذات الموصوف بأنه أبيض، بل وقتا ما، وهاهنا كذلك أيضاً. ولكن إنما يُمنع هاهنا أن يخلو شيء من الموضوع عن المحمول زمانا إذا أخذنا الموضوع بالشرط الذي تصدُق معه الضرورة وكان هناك كذلك أيضاً. وهذه المقدمة تستعمل في البرهان مع حذف جهة الضرورة ولكن تُنوى. وإنما تكون مطلقة بالحقيقة إذا حذفت ولم تُنو، بل نظر إلى الوجود فقط.
فقد انحلت هذه الشبهة العويصة.
الفصل الثاني
في المحمولات الذاتية التي تشترط في البرهان
وإذا كانت المقدمات البرهانية يجب أن تكون ذات المحمولات للموضوعات الذاتية التي تشترط في البرهان غير غريبتها، فإن الغريبة لا تكون عللا. ولو كانت المحمولات البرهانية يجوز أن تكون غريبة، لم تكن مبادئ البرهان عللا، فلا تكون مبادئ البرهان على للنتيجة. فلنبين ما الذي هو بذاته فنقول : إن الذي هو بذاته يقال على وجوه : منها وجهان خاصان بالحمل والوضع، وهما المعتد بهما في " كتاب البرهان " : فيقال " ذاتي " من جهة لكل شيء مقول على الشيء من طريق ما هو، وهو داخل في حده، حتى يكون سواء قلت " ذاتي " أو قلت " مقول من طريق ما هو " . وهذا هو جنس الشيء وجنس جنسه وفصله وفصل جنسه وحده وكل مقوم لذات الشيء مثل الخط للمثلث، والنقطة للخط المتناهي من حيث هو خط متناه، وهكذا قيل أيضاً في التعليم الأول. فأقول قبل أن نرجع إلى الغرض يجب أن نستيقن من هذا أن الفصول صالحة في أن تكون داخلة في جواب ما هو صلوح الجنس. وفي التعاليم الأول وضع الفصل والجنس كل واحد منهما للنوع كالآخر في كونه داخلا في ماهيته، ومقولا في طريق ما هو. ثم قد جعل الفصل الأخير المورد في حد الجنس بأنه مقول في جواب ما هو : وفرق به بين الجنس والفصل وغير الفصل.
فيجب من ذلك أن يكون المقول في جواب ما هو غير المقول في طريق ما هو، وأن يكون بينهما فرقان على ما رأيناه وأوضحناه في موضعه.
(98 أ) هذا ولنعد إلى موضوعنا الذي فارقناه ونقول :(1/426)
ويقال الذي بذاته من جهة أخرى : فإنه إذا كان شيء عارضا لشيء وكان يؤخذ في حد العارض إما المعروض له كالأنف في حد الفطوسة، والعدد في حد الزوج، والخط في حد الاستقامة والانحناء؛ أو موضوع المعروض له كالخارج من المتوازيين لمساو زواياه من جهة لقائمتين؛ أو جنس المعروض له بالشرط الذي يذكر، فإن جميع ذلك يقال له إنه عارض ذاتي وعارض للشيء من طريق ما هو هو. وهذان هما اللذان يدخلان من المحمولات في البراهين، واللواتي يؤخذ في حدها جنس موضوع المسألة : إن كان ذلك الجنس أعم من موضوع الصناعة لم يستعمل في الصناعة على الوجه العام، بل خُصص بموضوع الصناعة. فيكون الضد المستعمل في الطبيعيات مخصصا من جهة النظر فيه بما فيه بما يكون طبيعيا. والمناسبة في المقادير مناسبة مقدارية؛ وفي العدد مناسبة عددية تُجعل بحيث يدخل في حدها موضوع الصناعة. وأما ما خرج من موضوع الصناعة فلا يعتد به ولا يلتفت إليه ولا ينتفع به من حيث هو خارج. نعم إن كان خارجا من موضوع المسألة وليس خارجا من موضوع الصناعة، فلا يؤخذ في حده موضوع المسألة، بل جنسه وموضوعه وأمر أعم منه. ولكن لا بد من أن يؤخذ موضوع الصناعة في حده أخر الأمر، فهو مما يدخل في البرهان. فإن المحمول في قولك " هذا الخط مساو لهذا الخط " و " هذا المضروب في نفسه زوج " محموله أعم من الموضوع؛ فكيف يؤخذ في حده الموضوع؟ فليس كل محمول في المقدمات البرهانية يكون إما ليس الموضوع مأخوذا في حده، وإما ما هو مأخوذ في حد الموضوع، اللهم إلا أن يقال إن المحمولات المقدمات إما أن تؤخذ في حدود الموضوعات لها، أو يؤخذ في حدودها الصناعة؛ أو يقال إن المحمولات المقدمات إما أن تؤخذ في حدود الموضوعات لها، أو تكون الموضوعات أو ما يقومها مما هو من تلك الصناعة يؤخذ في حدودها. وإلى هذا ذهب المعلم الأول وإن لم يفصح به. فكل محمول برهاني إما مأخوذ في حد الموضوع، أو الموضوع وما يقوّمه مأخوذ في حده : إما مطلقا كالسطح للمثلث، وإما لتخصيص يلحق به ضرورة، كما أن الخط إذا حُمل عليه " المساوي " فإنما يُحمل عليه " المساوي لخط ما " وهو مخصص. والعالم إذا حُمل عليه أنه واحد حُمل عليه الواحد في العالمية لا الواحد مطلقا. وهذا أيضاً تخصيص له بقول أو فعل.
وأما كيفية أخذ ما يقوّم الموضوع في حد العارض فذلك أن يؤخذ موضوع المعروض له أو جنس المعروض له أو موضوع جنسه. الأول كما يؤخذ العدد في حد مضروب عدد زوج في عدد فرد؛ والمثلث في حد مساواة مضروب ضلعه في نفسه لمضروب الآخرين كل في نفسه : فإن موضوع هذا العارض هو المثلث القائم الزاوية. ولكن يؤخذ في حده المثلث. والثاني كما يؤخذ السطح في حد المثلث القائم الزاوية، فإنه موضوع جنسه. والثالث كما يؤخذ العدد في حد الزوج. فجميع هذه يقال لها أعراض ذاتية.
فما كان من المحمولات لا مأخوذا في حد الموضوع، ولا الموضوع أو ما يقوّمه مأخوذا في حده، فليس بذاتي، بل هو عرض مطلق غير داخل في صناعة البرهان مثل البياض للققنس وإن كان لازما على ما سنوضح. وما بعد هذا فيقال بذاته لا على جهة تليق بالحمل والوضع ولا لائقا بالبرهان : فيقال لما معناه غير مقول على موضوع أو موضوع وهو قائم بذاته. وأما الماشي والمحمولات كلها فكل واحد منها يقتضي معنى ذاته مثل معنى الماشي؛ ويقتضي شيئا آخر هو الموضوع له. فليس ولا واحد منها مقتصر الوجود والدلالة في المعنى على ذاتها. فذواتها ليست هي بذواتها.
ويقال أيضاً " بذاته " للشيء الذي هو سبب للشيء موجب له : مثل إن الذبح إذا معه الموت لم يُقل إنه قد عرض ذلك اتفاقا : بل الذبح يتبعه الموت بذاته، لا مثل أن يعرض برق إثر مشى ماش، أو يمشي إنسان فيعثر على كنز، وسائر كل ما كان اتفاقا.
ويقال أيضاً " بذاته " لما كان من الأعلااض في الشيء أوليا. أعني بقولي أوليا أنه لم يعرض لشيء آخر ثن عرض له، بل كان لا واسطة فيه بين العارض والمعروض له، وكان المعروض له سببا يقال إنه عرض في شيء آخر : كما نقول جسم أبيض وسطح أبيض. فالسطح أبيض بذاته، والجسم أبيض لأن السطح أبيض.(1/427)
فهذه الوجوه الخارجة عن غرضنا هاهنا. بل الداخل في غرضنا هو المذكوران الأولان : فإنه قد يطلق لفظة " ما بذاته " مرادفة لما هو مقول من جهة " ما هو " على المعنى المذكور في هذا الفن : فيقال للمقوم ذاتي لما يقومه وبذاته له. وقد يطلق لفظة بذاته والذاتي ويعني به العرض المأخوذ في حد الموضوع أو ما يقومه على ما قيل - وربما قيل على معنى أخص وأشد تحقيقا - ويعني به ما يعرض للشيء أو يقال عليه لذاته ولما هو هو، لا لأجل أمر أعم منه، ول لأجل أمر أخص منه. وحين استعمل على هذا المعنى في التعليم الأول فقد يتضمن شرط الأولية. فلذلك من غير استثناء وشرط أنتج منه أنه يجب أن يكون أوليا. وإذا لم يفهم ذلك شوش ونوقض وقيل : ما كان يجب أن يقال إن لذاته هو الذي لما هو هو. والسبب فيه أنه لم يفهم هذا الاشتراك الأول. ولذلك قيل : لا الموسيقى ولا البياض بذاته للحيوان : لأن الموسيقى من خواص الإنسان فتكون للحيوان بسبب أنه إنسان. وأما البياض فهو له لأنه جسم مركب. ومن هذه الأعراض الذاتية ما هو ضروري مثل قوة الضحك للإنسان، ومنه ما هو غير ضروري مثل الضحك بالفعل للإنسان.
وقد بلغ من عدول بعض الناس عن الحجة في هذا الباب لسوء فهمه أن ظن أن المحمولات في البراهين لا تكون البتة إلا من المقومات، لأنه لما جرت العادة عليه في تأمله لكتاب " إيساغوجى " بأن يسموا المقوم ذاتيا، ولا يفهم هناك من الذاتي إلا المقوم، ظن أن الذاتي في " كتاب البرهان " ذلم بعينه وهو العلة. قال : وليس كل علة، فإن الفاعل والغاية لا يصلح أن يجعل أحدهما وسط برهان، بل المادة أو ما يجري مجراها وهو الجنس، أو الصورة أو ما يجري مجراها وهو الفصل؛ وإن محمولات المطالب أيضاً هي هذه بأعيانها؛ وإنه إنما تكون المقدمة الكبرى ذاتية إذا كان محمولها ذاتيا بمعنى المقوم للموضوع. وقال الحد الأوسط يكون ذاتيا لكلا الطرفين يعني المقوم. وحين سمع قسمة الذاتي لم يعلم أن الذاتي في كلا القسمين المستعملين هو المحمول، بل حسب أنه المأخوذ في الحد فظن أن القسمة هكذا : أن من الذاتيات ما هو محمول مأخوذ في حد موضوعه؛ ومنه ما هو موضوع مأخوذ في حد المحمول، ليس أن ذلك المحمول يكون ذاتيا للموضوع، بل الموضوع.(1/428)
وقد رأيت بعض المنتسبين إلى المعرفة ممن كانت عبارة هذا الإنسان أقرب إلى طبعه فعول عليه في المنطق، فاعتقد جميع هذا فألزمه لزوم هذا المنهج أن قال : كل محمول ضروري غير مفارق فهو مقوم؛ وألا معنى للخاصة التي تعم النوع كله في كل وقت؛ وأن الخاصة مما لا يمتنع مفارقته؛ وأن كون المثلث المتساوي الساقين ذا زاويتين متساويتين عند القاعدةفصل لا خاصة؛ وان كون كل مثلث ذا زوايا مساوية لقائمتين فصل لا خاصة؛ وأن هذه مقومات لموضوعها. ومع ذلك فيجعل الحد الأوسط علة موجبة للكبر حتى يكون البرهان برهانا. ويعترف أن ذلك كثيرا ما يكون مساويا، ويعترف أن كل مقوم علة، وأن المعلول ليس بمقوم، فيكون الأكبر المعلول ليس مقوما بل لازما، وقد فرضه محمولا ذاتيا بمعنى المقوم. ومع أن يكون لازم غير مقوم - ومع ذلك فإن المقدمة تكون ذاتية ومحمولها ليس بذاتي بمعنى المقوم. ويعترف أن المعلول ربما كان لازما عن العلة دائما لا يفارقه. وأيضاً فإنه مع قوله ذلك يعترف أن مثل المساوي زواياه لقائمتين إن كان مقوما لمثل المثلث فلا يكون المثلث مقوما له : لأن المقوم علة، والشيء لا يكون للشيء الواحد علة ومعلولا إلا بسبيل العرض : لأن كل مقوم متقدم؛ والمتقدم لا يكون متأخرا عن نفس ما هو متقدم. ويعترف أنه ليس كل ما هو مع شيء دائما فهو علة، بل يحتاج أن يكون مع المعية مقوما، والآخر مع المعية غير مقوم. فيكون المحمول في الأكثر - لأنه ذاتي - مقوما للأوسط. ولأن الأوسط في البرهان علة للأكبر عنده مطلقا، فهو متقوم بالوسط. وأيهما كان غير مقوم فهو لازم لزوما (598) كليا. وما لازم لزوما (598) كليا فهو ذاتي : فهو مرة أخرى مقوم.فما أخلق بالعاقل أن يتعجب من عقول هؤلاء! وأنت تعلم أن جميع المطالب في علم الهندسة والعدد تطلب عن أمور لازمة غير مقومة بوجه. فإنك لا تجد فيها قياسا يطلب عن محمول جنسي أو فصلي. والعجب من ذلك الأول المتشبه به إذ أنكر أن تكون العلة الفاعلة وسطا، ثم إنه في الحال ضرب المثل بتوسط قيام الأرض في الوسط في إثبات الكسوف : وذلك في الحقيقة علة للكسوف وتؤخذ في حد الكسوف. والعفونة تؤخذ في حد صنف من الحميات. وكثير من الأسباب الفاعلية والغائية تؤخذ في الحدود والبراهين كما يأتيك بيانه من بعد.
والعجب الآخر أن المثال الذي أورده هو قيام الأرض في الوسط : وذلك علة لانمحاق الضوء مقومة له، لا متقومة به، وعارض خاصي للقمر الذي هو الحد الأصغر، لا مقوم له. ومما يغرهم ما يقال من أمر الحد وأنه مناسب للبرهان، فيحسبون أن كل برهان ينحل إلى الحد، وإذا انحل إلى الحد كان المطلوب هو الحد الأوسط أو الأصغر كذلك. إن كان فإنما يكون ذلك بين الأوسط والكبر. وأن القائس القائل إن القمر تقوم الأرض بينه وبين الشمس : وما قامت الأرض بينه وبين الشمس أورثته ظلمة بالستر، لم يكن الوسط فيه حدا للقمر ولا جزء حد، ولا الأكبر حدا للأوسط بمعنى المقوم، ولا جزء حد له، لكنه معلول له. بل الوسط والأكبر كل واحد منهما أو مجموعهما - كما ستعلم - حد للمطلوب الذي الكسوف، وهو عرض ذاتي من الأعراض التي للقمر، وليس شيئا مقوما له حتى يكون ذاتيا بالمعنى الذي عندهم.
وهذا الطغيان إنما يعرض لهم من سببين ، أحدهما بسبب ما جرت به العادة من استعمال لفظة الذاتي في " كتاب إيساغوجى " . ولم يعلموا أنه لا الذاتي ولا الضروري ولا الكلى في هذاالكتاب هو ما قيل في كتاب قبله. والثاني تفخيم أمر البرهان إذ جعلوه من الذاتيات المقومة، إذ كان الذاتي المقوم بتخيل عندهم أنه أشرف؛ والبرهان أيضاً بالحقيقة هو أشرف. فيتوهمون أنه يجب أن تكون مقدمات البرهان من الأشرف لا غير، كما لو قال قائل إنه لا يجب أيضاً أن يكون برهان على سالب لأنه خسيس، أولا يجب أن يكون برهان على الأمور الطبيعية أو التعاليمية، بل إنما يناسب البرهان الأشرف من الأمور وهو الأمر الإلهي : فإنه إن كان للأشرف في هذا الكتاب مدخل، وكان المدخل ليس على سبيل شرف المناسبة واصدق، بل الشرف الآخر، وكان يجب أن يعتبر هذا في المبادئ، فيجب أن يعتبر أيضاً في المسائل : فيكون إنما يجب في المقدمات أن تكون ذاتية المحمولات بمعنى المقوم الفائز بالشرف إذا كانت مختصة بالعلم الإلهي لشرفه.(1/429)
لكن ليس هذا وأمثاله بشيء. ولا يجب أن يصغي الرجل العلمي إلى ما يفزع إليه القاصرون من أن ذا شريف وذا خسيس، بل إلى الموجود في نفس الأمور. فلنعرض عن أمثال هؤلاء الخارجين، ولنصر إلى غرضنا في تحقيق الأعراض الذاتية فنقول : إنما سميت هذه أعراضنا لأنها خاصة بذات الشيء أو جنس ذات الشيء : فلا يخلو عنها ذات لاشيء أو جنس ذاته - إما على الإطلاق مثل ما للمثلث من كون الزوايا الثلاث مساوية لقائمتين، وإما بحسب المقابلة إذا كان الموضوع لا يخلو عنه أو عن مقابله بحسب المضادة أو بحسب العدم الذي يقابله خصوصا : مثل الخط فإنه لا يخلو عن استقامة أو انحناء، والعدد عن زوجية أو فردية، والشيء عن موجبة أو سالبة.
فإذا اجتمع في هذه العوارض إن كان الموضوع لا يخلو عنه بأحد الوجهين المذكورين، وكانت ليست لغير الموضوع أو جنسه، كانت مناسبة لذاته. فلو كان الموضوع لا يخلو عنه، ولكن توجد لغيره من أشياء غريبة من ذاته أو جنسه - مثل السواد للغراب - لما كانت ذاتية له بوجه : إذا كانت لا تتعلق بذاته وبذات ما يقومه ولا ذات الشيء تتقوم بها. ولو كان الموضوع يخلو منه لا إلى مقابل مثلها، بل إلى سلب فقط، لكان ذات الموضوع لا يقتضيها في المقارنة ولا في التقويم بها. فأما إذا كانت من الأمور اللاحقة للموضوع، التي تقتضيها ذاتها، واختصت بجنسه ولزمته مطلقا، أو على التقابل، صارت تستحق أن تسمى أعراضا ذاتية.
ونقول : إن الأشياء الموجودة في موضوع موضوع للصناعات - لست أعني في موضوع موضوع للمسائل، أعني التي وجودها أن تكون فيه - هي التي تعرض لذلك الموضوع لذاته ولأنه ما هو هو. وأما اللوازم العرضية التي بهذه الصفة فإنها وإن كانت لازمة فهي خارجة عن أن تفيد الموضوع أثرا من الآثار المطلوبة له. وكيف وهي أعم من تلك الآثار : إذ تلك الآثار إنما توجد في الموضوع، وهي توجد خارجة عنه. فإن أخذت من حيث هي مخصصة بالموضوع صارت ذاتية مأخوذا في حدها الموضوع.
واعلم أن الأعراض الغريبة لا تُجعل مطلوبات في مسائل الصنائع البرهانية : وذلك لأنها إن أخذت من حيث تتخصص بموضوع الصناعة زال بذلك غرابتها. وإنما يمكن أن تخصص إذا كانت مناسبة للموضوع أو لجنسه أو لما هو كالجنس فيكون العام للعام والمخصص للمخصص. وما لم يكن كذلك لم يكن مستعملا في البرهان. وإن أخذت مطلقة فليس وجودها لموضوع الصناعة - من حيث هو موضوع الصناعة - إذ قد توجد في غيره فلا يكون النظر فيها من جنس النظر المخصوص بالصناعة.(1/430)
ثم العلوم إما جزئية أو كلية. والعلم الجزئي إنما هو جزئي لأنه يفرض موضوعا من الموضوعات ويبحث عما يعرض له من جهة ما هو هو ذلك الموضوع. فإن لم يفعل كذلك لم يكن العلم الجزئي جزئيا، بل دخل كل علم في كل علم، وصار النظر ليس في موضوع مخصوص، بل في الوجود المطلق، فكان العلم الجزئي علما كليا ولم تكن العلوم متباينة. مثل هذا أن علم الحساب جعل علما على حدة لأنه جُعل له موضوع على حدة وهو العدد. فينظر صاحبه فيما يعرض للعدد من جهة ما هو عدد. فلو كان الحساب ينظر في العدد أيضاً من جهة ما هو كم : أو كان الناظر في الهندسة ينظر في المقدار من جهة ما هو كم، لكان الموضوع لهما " الكم " لا العدد ولا المقدار. وإن كان ينظر في العدد من جهة ما هو في مقدار ما، أو ذو مقدار، فيكون نظره في عارض للمقدار من حيث هو مقدار. وإن كان له أيضاً حين ينظر في المقدار من جهة ما هو عدد أن ينظر فيما يعرض للعدد من حيث هو عدد، كان العلمان قد صارا علما واحدا. وكذلك إن كان هذا ينظر في المقدار من جهة ما يقارن مبدأ حركة، فيكون له أن ينظر في الشيء من جهة له مبدأ حركة، لم يتميز علم من علم. أو كان صاحب العدد ينظر في العدد من جهة ما هو موجود، كان له أن ينظر فيما يعرض للموجود من حيث هو موجود، فكان الحساب لا يفارق الفلسفة الأولى. فذلك إذا كان موضوع صناعة ما جزئية - ولتكن الطب - أمرا - وليكن بدن الإنسان - وطلب عارض غريب ليس للإنسان من جهة ما هو إنسان - مثلا كالسواد المطلق والحركة المطلقة - فإن السواد للإنسان من جهة ما هو جسم مركب تركيبا ما، والحركة له من جهة ما هو جسم طبيعي، وكان له أن ينظر فيما يعرض للجسم المركب من حيث هو جسم مركب، أو من حيث هو جسم - لكان الطب هو عين العلم الطبيعي الكلي، ولم يكن علما جزئيا فكأن يكون أيضاً بيطرة وفلاحة، إذ كأن يكون كل واحد منهما العلم الطبيعي ويتحير فيه الفهم، إلا أن يجعل السواد سوادا مخصصا بالإنسان، ليس أن يجعله سوادا لإنسان بل سوادا هو بحال مع تلك الحال يكون للإنسان، حتى لا يكون تخصيص نسبة فقط، بل تخصيص لأمر خاص، لذلك الخاص تخصصت النسبة. فبيّن أن الأعراض الغريبة لا ينظر فيها في علم من البرهانيات. وإذا اتفق أن أنتج شيء من هذا في علم ما - وإن كان من مقدمات صادقة - فإنما يكون بيانا على سبيل العرض : لأن في مثل هذا القياس إما أن يكون الأوسط غريبا أو الأكبر. فإن كان الأوسط أمرا غريبا من هذا الموضوع فيكون مناسبا لموضوع آخر وللعلم الكلي، فيكون البرهان بالذات من صناعة أخرى، ويكون من هذه الصناعة بطريق العرض. فإن كان الأوسط مناسبا، لكن حمل الأكبر عله لا يكون لأنه هو، بل الأكبر المحمول غريب منه ومن جنسه - وإلا لكان الأكبر مناسبا ولا يكون أيضاً لأجل شيء داخل معه فيكون من حق الأوسط أن يكون بينه وبين الأكبر أوسط أخر قد ترك، وأخذت النتيجة لا عن وجهها الذي تبين به حين لم يؤخذ في بيانها مقدمة بيّنة بنفسها، ولا مقدمة يجري أمرها على أنها مبدأ لعلم وأصل موضوع، فلا يحصل من ذلك يقين مطلق ولا يقين لازم عن أصل موضوع. فلا يكون البيان بيانا حقيقيا بل بالعرض.(1/431)
وقد ظن بعضهم أن السبب في ألا يستعمل في البراهين وسط من عرض غريب - وإن كان لازما - إنه لا يكون علة ذاتية للطرف الأكبر، فلا يكون البرهان " برهان لم " . وليس المر على ذلك : فإن هذا النظر الذي نحن فيه ليس كله فيه " برهان لم " حتى إذا لم يكن للشيء " برهان لم " لم ينظر فيه في هذا الكتاب، وصار حينئذ قياسا خارجا عن القياسات التي في هذا الكتاب، فصار ذلك جدليا أو مغالطيا أو غير ذلك. فإنه ليس يصير القياس بأن ينتج شيئا صدقا من مقدمات صادقة مأخوذة من حيث هي صادقة، جدليا ولا مغالطيا ولا شيئا حقه أن يبان في فن آخر من الفنون الخارجة عن البرهان. ولا أقسام الصنائع القياسية أكثر من هذه الخمسة. بل هذا الكتاب يشتمل على بيان البرهان المطلق الواقع على ما يعطي اليقين بالإن فقط، وعلى ما يعطيه مع الإن اللم. فيكون العارض الغريب الذي ليس بعلة لا يجعل القياس خارجا عن البحث الذي في كتاب البرهان؛ ولا يوجب ألا يكون يقين. وكفى سقوطا بقول من يقول إن ما لا يعرف له علة لا يكون به يقين، انه يوجب ألا يكون له يقين بالبارئ جل ذكره إذ لا سبب لوجوده، فيعترف بأنه ضائع السعي في طلب العلم، إذ هو فاقد للشيء الذي يطلب له العلم، وهو اليقين بالبارئ تعالى جده. بل يجب أن يعلم أن العلة في تزييف هذا العارض ما هو مفهوم كلام المعلم الأول لمن فهمه : وهو أن هذا العارض إذا جعل وسطا كان الكبر إما مساويا له وإما أعم منه : وكيف كان الأكبر، كان أمرا غريبا عن موضوع الصناعة خارجا عن موضوع الصناعة. وذلك أن ما ساوى شيئا يقع خارج موضوع الصناعة فهو واقع خارجا، فضلا عما هو اعم منه. فإذا كان كذلك لم يكن الأكبر من الأعراض الذاتية بوجه من الوجوه. فإن كان الأكبر عرضا ذاتيا وكان الأوسط عرضا غريبا أعم منه، دل كما تدل العلامات التي هي أعم وجودا، وعلى ما قيل في الفن المتقدم. ويكون مثل هذا البيان بيانا إن وقع حقا فإنما يقع حقا على سبيل العرض.
الفصل الثالث
في كون المقدمات البرهانية كلية
وفي معنى " الأولى " وتتميم القول في " الذاتي "
وقد كان المقول على الكل في " كتاب القياس " مقولا على كل واحد وإن لم يكن في كل زمان. وكان المقول على الكل في " كتاب البرهان " مقولا على كل واحد وفي كل زمان يكون فيه الموضوع بالشرط المذكور. ثم قد يختلف في " كتاب البرهان " المفهوم من (المقول على الكل)، ومن " الكلى " ، فإن " الكلى " في " كتاب البرهان " هو المقول على كل واحد في كل زمان وأولا. فيكون كليا باجتماع شرائط ثلاثة. وكل واحد من نوعي الذاتي قد يقال أولا، وقد يقال غير أول. فإذا كان الشيء محمولا على كلية الموضوع مثل الجنس والفصل والعرض اللازم فغنما يكون أوليا له إذا كان لا يُحمل أولا على شيء أعم منه حتى يحمل بتوسط ذلك الشيء عليه. فإنا إذا قلنا " كل إنسان جسم " فإن الجسم ليس أوليا للإنسان : لأن الجسم يُحمل على الحيوان فيكون حمله على الحيوان قبل حمله على الإنسان. فلا يتوقف حمله على الحيوان أن يكون محمولا على الإنسان. ولا يحمل على الإنسان إلا وقد حُمل على الحيوان. والشيء الذي يكون لشيء ولم يكن لآخر، لا يكون للآخر إلا وقد كان له، فهو لاشيء أولا وقبل كونه للآخر.
وإذا تعقبت أصناف ما يقال أولا وقبل، وجدتها تدخل في هذه الخاصية - كان بالطبع أو بالعلية أو بالمكان أو بالزمان أو بالشرف أو غير ذلك.
فتبين أن كل محمول على أعم من الموضوع فهو محمول على الأعم أولا، وعلى الموضوع ثانيا. وعلى هذا القياس إذا قلنا " كل متساوي الساقين فزواياه الثلاث مساوية لقائمتين " فإن ذلك مما يوجد لغير متساوي الساقين من المثلثات. فهو إذن للمثلث أولا، ولمتساوي الساقين ثانيا. وهذا الصنف الأول ربما كان المحمول أولا فيه أعم من الموضوع، كالجسم للحيوان في المثال الأول، والحيوان للإنسان. وربما كان مساويا مثل مساواة الزوايا لقائمتين - للمثلث. وهذا ربما كان داخلا في الماهية كما في المثال الأول، وربما كان عرضا ذاتيا كما في المثال الثاني.
ويجوز أن يكون الموضوع الذي يعرض له العارض أولا مقوما لماهية الموضوع الذي يعرض له ذلك ثانيا : مثل المثلث : فإن كون الزوايا هكذا يعرض له أولا. وأما متساوي الساقين فإنما يعرض له ذلك ثانيا، فيكون عارضا أولا لجنسه، وعارضا ثانيا له. وجنسه يقوّمه.(1/432)
ويمكن أن يكون عارضا لعارض للموضوع : مثل الزمان فإنه أولا للحرجة ثم للجسم، والحركة عارضة للجسم. وعسى ألا تكون هذه الأولية معتبرة في هذا الموضع، بل تكون الأولية في هذا الموضع هي ألا يكون الشيء محمولا على أعم من الذي قيل إنه له أولا وإن كان محمولا عليه بالحقيقة؛ بل في الحقيقة إنما قام على ما هو له أول. فإن من بيّن أن كل مثلث متساوي الساقين فإن زواياه مساوية لقائمتين، فلم يبين ذلك بالحقيقة من جهة ما هو متساوي الساقين، بل من جهة ما هو مثلث.
وليس من شرط الأول ألا يكون بينه وبين الموضوع واسطة : فإن بين هذا العارض للمثلث وبين المثلث وسائط وحدودا مشتركة كلها عوارض أقرب منه. بل الشرط ما قد بيناه أولا.
وأما ما كان ليس محمولا على كلية الموضوع، فلا يمكن أن يكون هذا من جملة الذاتيات الداخلة في ماهية الشيء، بل من جملة الذاتيات الداخلة في ماهيات أنواع الشيء، أو من جملة الأعراض الخاصية الذاتية للشيء. لكن إنما يحمل على كلية الموضوع بسبيل التقابل على ما قلنا.
فأما القسم الأول فهو مثل الفصول المقسّمة للجنس التي لا تقسم نوعا تحته البتة : فتكون فصولا أولية للأنواع من جهة أنها تقومها ولا تقوم أجناسها، وتكون فصولا أولية للأجناس من جهة أنها تقسمها ولا تقسم أنواعها.
وأما القسم الثاني فهي العوارض الخاصية لجنس ما التي لا تعمه، ولا يحتاج أن يصير الجنس نوعا ما معينا فيتهيأ حينئذ لقبول مثل ذلك العارض، مثل أن الجسم لا يحتاج في أن يكون متحركا وساكنا إلى أن يصير حيوانا أو إنسانا، ويحتاج في أن يكون ضحّاكا إلى أن يصير أولا حيوانا بل إنسانا.
فقد قلنا في كيفية أولية كل صنف من الذاتيات.
واعلم أنه فرق بين أن يقال " مقدمة أولية " وبين أن يقال " مقدمة محمولها أولى " : لأن المقدمة الأولية هي التي لا تحتاج أن يكون بين موضوعها ومحمولها واسطة في التصديق وأما الذي نحن فيه فكثيرا ما يحتاج إلى وسائط. فالمحمول إنما يكون كليا في " كتاب البرهان " إذا كان مع كونه مقولا على الكل في كل زمان، أوليا. وما كان من الأعراض الذاتية ليس يختص بالنوع الذي وُجد له، فهو ذاتي للنوع بأن جنسه يؤخذ في حده ذلك العارض؛ وذاتي للجنس بأن نفسه يؤخذ في حده. وقد تكون أجناس الأعراض الذاتية للموضوع : مثل زوج الزوج كما أنه عرض ذاتي وأولى للعدد، كذلك جنسه وهو الزوج. وقد يكون ذاتيا لا للموضوع ولكن لجنسه، مثل أن جنس الزوج - وهو المنقسم - ليس عرضا ذاتيا للعدد لأنه يوجد في المقادير؛ ولكنه ذاتي لجنس العدد وهو الكم.
وكل ما كان عرضا ذاتيا لموضوع من الجواهر ولم يكن جنسه ذاتيا لذلك الموضوع فيجب أن يكون لا محالة ذاتيا لجنس الموضوع أو ما يقوم مقامه. وأما في غير الجوهر فقد لا يكون ذاتيا لجنس الموضوع مثل أن التنافر والاتفاق أعراض ذاتية للنغم، وأجناسها ليست أعراضا ذاتية لأجناس النغم، بل ربما وقعت في الكم.
فقد عرفت الكلى الأولى الخاص مما أشرنا لك إليه إشارة ما، وسهل لك من ذلك أن تعلم أن من المحمولات الأولية المقومة لماهية الشيء ما هي خاصة كالحدود وبعض الفصول (99 ب) كالحساس للحيوان؛ ومنا ما هي غير خاصة، وإن كان أولية كالجنس وبعض الفصول مثل المنقسم بمتساويين للزوج، والناطق للإنسان عند من يرى الناطق مشتركا للإنسان والملَك.
والجنس أولى غير خاص. وأما المحمولات التي هي أعراض ذاتية فمنها أولية خاصة كحال زوايا المثلث للمثلث، ومنها أولية غير خاصة مثل كون الزاويتين اللتين من جهة واحدة مساويتين لقائمتين : فإنه أولى للخط الواقع على خطين المصيّر زاويتيهما المتبادلتين متساويتين، وللخط الواقع على خطين المصيّر الزاوية الخارجة كالدالة المقابلة؛ ولكن ليس بخاص لأحدهما. وهذا الخط وإن كان واحدا بالذات فهو اثنان بالمعنى والاعتبار. فغن صعب عليك تصور هذه الاثنينية فخذ بدلهما الخط الواقع على خطين، الجاعل زاويتي جهة واحدة متساويتين، والآخر الجاعل مختلفتين، لكن المتبادلتين متساويتان.ولا يقبل قول من يظن أن جنس الفصل، إذا لم يكن جنسا، وفصله، أوليان للنوع. وعسى أنهم قالوا هذا في الفصول المساوية.(1/433)
واعلم أنه قد يكون البرهان أولا على ما ليس بحمل أولي : فإن الأوسط إذا كان أعم من الأصغر في القياس الكلى وحمل عليه الأكبر، فإن الأكبر لا يكون حمله على الأصغر أولا، بل يكون البرهان عليه أول برهان، لكنه على جزئيات الأصغر برهان ثان. وقد يجتمع الأمران جميعا، كالبرهان على المثلث المثبت كون زواياه مساوية لقائمتين. وهذا حيث يكون الأوسط مساويا للأصغر سواء كان الأكبر مساويا للأوسط كما في هذا المثال، أو أعم منه. لكنه ليس يقال على ما هو أعم منه كما قد علمت.
والأعراض الذاتية قد تكون خاصة مثل مساواة الثلاث لقائمتين فإنه ذاتي للمثلث ومساوٍ له؛ وقد يكون غير خاص وذاتيا، وذلك مثل الزوج فإنه عرض ذاتي لمضروب الفرد في الزوج، ولكن غير خاص. أما أنه غير خاص فهو ظاهر. وأما أنه ذاتي فلأن العدد - وهو جنس - موضوعه يؤخذ في حده. والعرض الذاتي الخاص قد يكون مساويا، وقد يكون أنقص من لاشيء على الإطلاق. وإما المساوي فمثل مساواة الثلاث لقائمتين فإنه مساو للمثلث. وأما الأنقص فمثل الزوج للعدد.
وأما العرض الخاص فيكون : إما الخاص على الإطلاق مثل ما مثلنا به قبل، وأما أخص من وجه واعم من وجه مثل المساواة : فإنه من الأعراض الذاتية للعدد لأن جنس العدد يؤخذ في حده وهو الكم. ولكنه أخص من العدد من وجه، لأنه يوجد في بعض العدد، وأعم منه من وجه لأنه يوجد فيما يوجد فيما ليس بعدد كالمقادير. وما كان من الأعراض الذاتية على هذه الجهة وكان متقابلا فإنه يقسم موضوعه كالعدد هاهنا، وأنواع أُخر كالخط والعظم والزمان وما أشبه ذلك.
ومن موضوعات الأعراض الذاتية ما هي بالحقيقة أنواع أو أجناس متوسطة أو عالية مثل الإنسان لأعراضه الذاتية، مثل الحيوان والجسم والكم : فإن لكل واحد منها أعراضا ذاتية على ما قلنا. ومنها ما يشبه أجناسا وأنواعا وليست، وهي المعاني التي تقال على كثير ولكن لا بالسوية، وهي لوازم غير داخلة في ماهية الأشياء الداخلة في المقولات مثل الوجود والوحدة، وهما شبيهان من جهة للأجناس العالية. ويعرض لها عوارض ذاتية يبحث عنها في ما بعد الطبيعة مثل القوة والفعل، والعلة والمعلول، والواجب والممكن. وقد تكون أيضاً لأمور أخص من الواحد والموجود وكالأنواع لها.
هذا : ونعود فنقول : قد كنا بينا أن المساواة واللا مساواة عرضان ذاتيان للعدد، وكنا بيّنا أنهما غير خاصتين بالعدد. ثم كل عدد فإما أن يكون مساويا أو غير مساو : فينقسم العدد إليهما قسمة مستوفاة. وأيضاً فإن العدد ينقسم إلى الزوج والفرد قسمة مستوفاة. ولكن قسمة العدد إلى المساوي وغير المساوي ليست قسمة أولية : لأن ما ليس بعدد ولا تحت العدد ينقسم كذلك : مثل الخط والسطح والجسم والزمان. وأيضاً جنس العدد ينقسم كذلك : فإن كل كم إما مساوٍ وإما غير مساوٍ. فإذن القسمة الأولية بهما لجنس العدد. وأما القسمة إلى الزوج والفرد فهي للعدد قسمة أولية بالقياس إلى ما ليس بعدد. ولذلك فإن جنس العدد لا ينقسم بهما قسمة مستوفاة. فلا نقول كل كم إما زوج وإما فرد.
ونقول إن القسمة الأولية بالأعراض الذاتية تكون بتقابل كقولنا : كل خط إما مستقيم وإما منحن، وكل عدد إما زود وإما فرد. وقد تكون بغير تقابل كقولنا : إن من الحيوان ما هو سابح ومنه ماش، ومنه زاحف ومنه طائر.
ونقول إن القسمة المستوفاة الأولية إما أن تكون بفصول ولا تكون نسبتها إلى الجنس ونسبتها إلى النوع مختلفة في الأولية على ما بيّنا، وإن كان نسبة الأولية في كل آخر؛ وإما أن تكون بعوارض هي الجنس أيضاً أولية مثل قولنا كل كم إما مساوٍ وإما غير مساوٍ، وقولنا كل جسم إما متحرك وإما ساكن، وإما بعوارض لا تكون للجنس أولية وإن كانت القسمة بها أولية - وذلك إذا كانت العوارض إنما تعرض للجنس إذا صار نوعا بعينه : مثل قولنا كل عدد إما زوج وإما فرد، فالزوج والفرد ليس يعرض للعدد أولا، بلى ما لم يصر العدد نوعا معلوما لم يكن زوجا ولا فردا : لأن الزوج والفرد عوارض لازمة لأنواعه. وكذلك قسمة الحيوان إلى الضحاك وغير الضحاك وغير ذلك : لأن هذه عوارض تعرض للأنواع بعد أن قامت طبائعها النوعية. ولا تكفي طبيعة الجنس في أن يعرض شيء من هذه العوارض. فهي من جهة القسمة أولية للجنس؛ وأما بذاتها فليست أولية له.(1/434)
والقانون في تمييز الأمرين أن نمتحن ونأخذ طبيعة الجنس مخصوصة : مثل قولك عدد ما أو جسم ما. فإن أمكن أن يكون ذلك صالحا لأن يعرض له الأمران في حالين، فعروضهما أولي، وعند هذا الامتحان يكون جسما ما يصلح لأن يتحرك وأن يسكن. ولا تجد عددا ما يصلح لأن يكون زوجا وان يكون فردا. فإن طبيعة الجسمية كافية لأن نتصورها وقد عرض لها المران قبل أن نلتفت إلى لحوق فصل بها. وليس طبيعة العدد كافية في ان نتصورها قد عرض لها واحد من الأمرين ما لم ينضم إليها في الذهن فصل إذا ألحقته بها تبين لك حينئذ أن يلحقها ذلك العارض.
وقد يكون من أنحاء القسمة للجنس ما ليس بمستوفاة ولا أول له، بل هو أول لما فوقه، كقولك كل عدد إما زائد وإما ناقص وإما مساوٍ، أو لما تحته كقولك كل كم إما زوج أو فرد.
ونقول أيضاً إن القسمة التي تكون أولية للجنس من حيث القسمة، وتكون الأعراض كل واحد منها أوليا وخاصا بنوعه كقولنا كل مثلث إما أن تكون زاوية منه مساوية للباقيتين أو زاوية منه أعظم من الباقيتين مجموعتين، وإما أن تكون كل زاويتين منه مجموعتين أعظم من الثالثة. فالأول عارض خاص بالمثلث القائم الزاوية، والثاني عارض خاص بمنفرج الزاوية، والثالث عارض خاص بحاد الزاوية. وإما أن يكون كل واحد منها أوليا وغير خاص مثل قولنا : كل عدد إما زوج وإما فرد، وكل حيوان إما مشاء وإما سابح وإما طائر وإما زاحف. فإن كل واحد منها وإن كان أوليا لنوع ما فلا يكون خاصا به، وإما أن يكون بعضها أوليا خاصا وبعضها غير خاص مثل قولنا : كل حيوان إما ضاحك وإما غير ضاحك : فالضاحك أولي خاص، وغير الضاحك أولي غير خاص.
ونقول إن السبب في انه لم قيل إن الزوج والفرد عارضان للعدد وليسا بنوعين أو فصلين مقسّمين، ظاهر : وهو أن النوع من العدد يعرف مبلغه وهو كمال حقيقته وماهيته، ويعرف ما معنى الزوج والفرد، ولا يعرف له الزوج والفرد إلا بنظر أنه هل ينقسم بمتساويين أو ليس ينقسم. وتكون نوعيته، وهي مبلغه، لا تقتضي أن يكون بيّنا له الانقسام بمتساويين ومقابله.
والزوج والفرد لا يخلو إما أن يكون كل واحد منهما جنسا لذلك النوع من العدد أو فصل جنس أو فصلا خاصا. أو يكون نفس النوع، وقد علم نفس ذلك النوع، فكيف يمكن أن يكون عارضا لازما له؛ وكيف يمكن أن بكون فصلا خاصا له؟ وقد توجد الزوجية لنوع آخر وكذلك الفردية.
وكيف يكون جنسا أو فصل جنس أو شيئا من الذاتيات على الإطلاق (100 أ)؟ وقد يجوز أن يفهم معناه ومعنى ذلك العدد ولا يفهم ذلك له، وكانت الذاتيات ليست المحمولات التي تلزم في كل وقت، بل التي لا يمكن أن يرفع معناها عما هو ذاتي له مثل معنى العدد : فإنه لا يمكن أن يعقل ما العدد ويجهل أن الأربعة عدد حتى يتأمل ويستبان، اللهم إلا أن لا يكون معنى العدد مفهوما ولا يكون أُحضر في الذهن مع معنى الأربعة. ونحن قد علمنا ما معنى الزوج والفرد. فإذا أحضرنا معناه ومعنى عدد ما مثل ألف وخمسمائة، أمكن أن نشك فلا ندري في أول وهلة أنه زوج أو فرد حتى نستبين ونتأمل حال الانقسام بنصفين أو مقابله بنوع فكر ونظر. فإن كان عدد ما يُعرف ذلك فيه بسرعة أو كأنه في أول وهلة مثل الأربعة والثمانية، فإنا إنما نحكم بسرعة أنه زوج لا لأجل أنه ذاتي للأربعة والثمانية - ولكن لأنه قليل، فيلوح لنا أنه منتصف عن قريب. ولو كان لا يلوح ذلك لكان يتوقف إلى أن يستثبت.فإن ليس بيان كون الأربعة زوجا لذاته، بل لظهور عارض آخر عرفناه له وهو التنصف.
وهاهنا وجوه أخر يعرف بها أن الزوج عارض لا ذاتي لأصناف العدد لا يحتاج إلى التطويل بها. فإذا كان الزوج والفرد عارضين لأصناف العدد وليسا بفصول ذاتية ولا أجناس، ولا يمكن أن يكونا نوعين للعدد ولا فصلين مقسّمين - لأن الفصل المقسّم للجنس هو بعينه الفصل المقوّم للنوع - فبقى أن يكون كل واحد منهما عرضا عاما بالقياس إلى نوع نوع من العدد وغيره، وعرضنا خاصا بالقياس إلى العدد.
الفصل الرابع
قول في التعليم(1/435)
قيل في التعليم إنا ربما أعطينا الكلى الأولى ويظن بنا أنا لم نعطه، وكثيرا ما لم نعطه فيظن بنا أنا أعطيناه. والأسباب في ثلاثة أمور، واحد منها هو سبب لما يكون قد أعطينا ويظن أنا لم نعط، مثل قولنا إن الشمس تتحرك في فلك خارج المركز حركة كذا، وإن القمر يتحرك في فلك تدويره إلى المغرب حركة كذا، وإن الأرض في وسط الكل. فإن هذه العوارض تكون مقولة على الكل أولية ويظن أنها ليست كلية بشرط هذا الكتاب.
والسبب في ذلك أن هذه الأشياء في الوجود مفردة وطبائعها غير مشترك فيها ولا مقولة على كثير في الوجود، فيظن أن محمولاتها وإن كانت مثلا أولية فليست بكلية، وليس المر كذلك. فإن قولنا " شمس " وقولنا " هذه الشمس " مختلفان. وذلك لأن قولنا " الشمس " يدل على طبيعة ما وجوهرها. وقولنا " هذه الشمس " فإنما يدل على اختصاص من تلك الطبيعة بواحد بعينه. ثم كل برهان نبرهن به على الشمس فلسنا نبرهن عليها من جهة ما هي هذه الشمس؛ حتى لو كانت طبيعة الشمس مقولة على غير هذه الشمس، كان البرهان مما لم يقم عليه، بل مجرد طبيعة الشمس من غير اعتبار خصوص ولا عموم. فنبرهن عليها بشيء أو نحكم عليها بشيء لو كانت تلك الطبيعة مقولة على ألف شخص شمسي لكان الحكم والبرهان متناولا للجميع.
والطبيعة الكلية يقال لها كلية بوجوه ثلاثة. فيقال " كلية " من جهة ما هي في الوجود مقولة بالفعل على كثيرين، وليست الأحكام العقلية تقال عن الكليات من جهة ما هي كلية بهذا الشرط. ويقال " كلية " من جهة ما هي محتملة لأن تقال في الوجود على كثيرين، وإن اتفق أن قيلت في الحال على واحد مثل بيت مسبع، وكما يحكى من أمر طائر يقال له ققنس حتى يقال إنه يكون في العالم واحد فإذا بطل حدث من جيفته أو رماد جيفته مثله آخر. ويقال " كلية " لما ليس له في الوجود بالفعل عموم ولا أيضاً له في الوجود إمكان عموم، ولكن لأن مجرد تصور العقل له لا يمنع أن يكون فيه شركة، وإن منع وجود الشركة فيه أمر ومعنى آخر ينضم إليه ويدل على أنه لا يوجد إلا واحدا أبدا. وأما نفس الطبيعة فلا يكون تصورها وتصور أنها واحدة بالعدد شيئا واحدا، بل تصورها شيء غير مانع وحده عن أن تقال في العقل على كثيرين. ولكن معنى آخر وراء تصوره هو الذي يمنع العقل عن تجويز ذلك.
والجزئي المقابل له فهو الذي نفس معناه وتصوره تصور فرد من العدد كتوهمنا ذات زيد بما هو زيد. ولا يمكن أن تكون هوية زيد، بما هو زيد، لا في الوجود ولا في التوهم - فضلا عن العقل - أمرا مشتركا فيه.
فالطبائع الكلية تقال على هذه الوجوه الثلاثة. وكان الأخير منها يعم الأولين. وهو أن العقل لا يمنع أن يكون المتصور منها مشتركا أو ينضم إلى تصوره معنى آخر. وليس هذا الطبيعة كالحيوانية، بل الطبيعة مقرونا بها هذا الاعتبار، وهو أزيد من الطبيعة وحدها بلا اعتبار زيادة. وإنما يشترط هذا وينبه عليه حتى لا يظن أن هذا الاعتبار ليس اعتبار الكلية الذي هو اعتبار غير اعتبار الطبيعة؛ بل هو اعتبار طبيعة الشيء فقط.
فهذا هو الذي ينبغي أن نجعله الكلى المعتبر في العلوم وفي موضوعات المقدمات. ويجب أن تتذكر ما سمعته من هذا المعنى في مواضع أخرى. ولا يحب أن تكون أمثال هذه القضايا عندك شخصية، بل يجب أن تعتقد أن المقدمة الشخصية هي ما يكون موضوعها شخصا مثل زيد وكلّ ما نفس تصور موضوعه يمنع وقوع الشركة فيه. وأما ما كان مثل الشم فالموضوع فيه كلى ومقدمته كلية. ولا تسل كيف كان كليته من الوجوه الثلاثة بعد أن يصح الواحد الآخر كذلك. فإذا قلت إن الشمس كذا وحكمت على الشمس من جهة ما هي شمس، فقد حكمت على كل شمس لو كانت، إلا أن مانعا يمنع أن تكون شموس كثيرة فيمنع أن يشترك في حكمك الكلى كثيرون، وأنت جعلته كليا. فالحكم على الشمس بالإطلاق ذاتي أولي؛ وعلى هذه الشمس غير أولي. فهذا سبب هذه الشبهة الواحدة.(1/436)
وأما الثاني من الأسباب الثلاثة فهو سبب الشبهة الثانية؛ وهي كأنها عكس هذه الأولى في الوجهين جميعا. أحدهما في انه لم يضع المقول على الكل فظن أنه وضع. وكان هناك وضع فظن أنه لم يضع. والثاني أن السبب فيه أنه لما حكم على كل واحد فكان الحكم عاما حسب انه كلى ولم يكن في الحقيقة كليا إذ كان قد فاته أنه أولي؛ وكان هناك حكم على واحد فظن أنه لم يحكم كليا. وهذا كما يقول القائل إن التوازي أولى لخطين يقع عليهما خط فيجعل كل زاوية داخلة من جهة واحدة قائمة. وذلك لأنه لا يخلو شيء من خطين بهذه الصفة إلا وهما متوازيان. فظن المقول على الكل كليا وليس كذلك : لأن شرط الأولية فائت، لأن الزاويتين اللتين من جهة واحدة - وإن لم تكن كل واحدة قائمة بل كانتا مختلفتين لكن مجموعهما مثل قائمتين - فإن التوازي يكون محمولا على الخطين. وهذان الخطان وذانك الخطان يعمهما شيء التوازي موجود له أولا. وذلك الشيء هو خطان وقع عليهما خط فصير الداخلتين من جهة واحدة معادلتين لقائمتين، سواء كانت متساويتين وقائمتين، سواء كانت متساويتين وقائمتين أو مختلفتين.
وأما السبب الثالث فهو سبب الشبهة الثالثة. وهي شبهة توقع فيها الضرورة أو الخطأ. أما الضرورة فإذا كان الشيء الكلى العام لأنواع مختلفة لا اسم له. فيبين الحكم في كل واحد من أنواعه التي لها أسماء ببيانات خاصة. فإذا لم يوجد الحكم لشيء أعم منه لفقدان الاسم العام ظن أنه أولى لكل واحد منها، وأن الحكم منا عليه كلى. مثاله أن يبرهن في المقادير أن المقادير المتناسبة إذا بدلت تكون متناسبة؛ ويبرهن أيضاً في الأعداد المتناسبة إذا بدلت تكون متناسبة وقد يبرهن في كل واحد منهما ببرهان آخر، ولكن المبرهن عليه ليس أوليا لواحد منهما. بل هو أولي لكل كم إلا أن اسم الكم لا يوضع في صناعة الحساب ولا في صناعة الهندسة لأن صناعة الحساب يوضع العدد فيها على انه أعم جنس لا يتجاوز. وصناعة الهندسة يوضع فيها المقدار على انه أعم جنس لا يتجاوز. فكأن اسم الكم معدوم بحسب الصناعتين، وكأنه ليس في إحدى الصناعتين للمعنى العام اسم. فيظن في كل في كل صناعة أن هذا العارض أولى لموضوع صناعته وهو في الحقيقة أولى لجنس موضوعي الصناعتين. وكذلك هذا )100 ب ( التبدل متقرر في الزمان وفي النغم وفي القوال وفي غير ذلك مما هو كم بالذات أو ذو كم.
والسبب الذي يقع لأجله أن يبرهن لا على العام الذي الحكم عليه أولى، بل على أنواعه، إما فقدان الاسم على ما قلنا، وإما لأن العام الأول خارج عن أعم موضوع لتلك الصناعة البرهانية، وإما لأن البرهان على العام صعب جدا، ولكنه على نوع نوع من أحوال تخص ذلك النوع سهل؛ وإما لأن العام لا ينتصب بحذاء الخيال لأنه جنسي، والنوعيات التي تحته تكون أقرب إلى الخيال فتنتصب بحذائه؛ ويكون شأن ذلك العام أن يبرهن عليه بتخييل ما كالتشكيلات الهندسية.
وهذه المعاني كلها مجتمعة في مسألة التبديل : فإن اسم الكم غير جائز في الصناعتين. وأيضاً الكم ليس من موضوعات إحدى الصناعتين. وأيضاً فإن البرهان إنما تسهل إقامته على المقادير من جهة حال الأضعاف، ويقوم على العدد من جهة حال الأجزاء. فيكون قد قام على كل واحد من جهة تخصه، وصعب إقامته بنحو يعمهما جميعا. وأيضاً لأن تخيل العدد والمقدار بالتشكيل والتقريب من الوهم أسهل من تخيل الكم. ولهذا السبب يوضع للكم بحث يخصه كما وضع لأنواعه، بل لم ينسب إلى المقدار - من جهة ما هو مقدار - مباحث كثيرة، بل خُصّ أكثرها بالخط والسطح والجسم كل على حدة، إذ كانت نسبة الأحكام إلى النوعيات من الخط والسطح والجسم أسهل من نسبتها إلى المقدار المطلق بحكم القياس إلى التخيل.(1/437)
فهذا وجه وقوع سبب هذا الخلط من قبل الضرورة؛ وأما كيفية وقوعه من جهة الغلط : وذلك أن ينظر الإنسان أول نظرة في آحاد معنى عام كمثلث مثلث من أنواع المثلث العام من غير أن يحس كيفية الوجه في استيفائها كلها، فإن كان استوفاها كلها لم يحس باستيفائها كلها، فيبيّن في كل واحد منها ببرهان عام أو برهان خاص لكل واحد. وله أن يبتدئ فيبيّن ذلك في المثلث المطلق لأنه له أولا، إلا أن الغلط زاغ به عنه وخص ابتداء نظره بالجزئيات. فحينئذ كيف يمكنه ان ينتقل إلى المثلث المطلق إلا أن يعمل على الاستقراء المغالطي، وهو أن ينتقل الحكم من جزئيات غير مستوفاة - أو غير متحقق استيفاؤها - إلى الكلى. فإن هذا ليس مغالطة في الجدل، وهو مغالطة في البرهان : لأنه لا يلزم من وجود أي حكم كان في جزئيات شيء لم يشعر باستيفائها يقينا أن نحكم بالحكم اليقين على الكل. وأما الحكم الإقناعي الشبيه باليقين، فقد يجوز أن يحكم به. ولذلك ليس هذا مغالطة في الجدل وهو مغالطة في البرهان : لأن هذا الناظر في الجزئيات من المثلثات كيف يتنبّه للشيء الذي هو المثلث المطلق ما لم يكن تيقن استيفاء الأقسام التّيقّن الذي و كان حصل له كان له بعد أن ينقل الحكم إلى المثلث المطلق الذي الحكم له أولى وعليه كلى؟ وإذا لم يتنبه لذلك، حسِب أن الحكم أولّى لتلك الجزئيات، وظن الحكم على كل صنف منها كليا بطريق هذا الكتاب. ومن أراد ألا يضل في معرفة الحكم أولّى،فيجب إذا كان الحكم مقارنا لمعان مختلفة أن يمتحن أولية الحكم بأن يرفع جملة المعان إلا واحدا منها؛ ويبدل ذلك الواحد دائما : فما إذا أُثبت وبطلت البواقي؛ ثبت الحكم، وإذا ارتفع وإن بقيت البواقي - لو أمكن ذلك - ارتفع الحكم. فالحكم له أولا. مثال هذا مثلث متساوي الساقين من نحاس؛ وهو أيضاً شكل. فإذا رفعت تساوى الساقين وكونه من نحاس؛ وأثبن المثلث؛ وجدت كون ثلاث زوايا منه كقائمتين ثابتا. ولو أمكن أن يرفع معنى الشكل ويبقى المثلث، كان الحكم ثابتا. ولكن إنما لا يبقى لأن المثلث لا يبقى. ثم إذا رفعت المثلث وبقى الشكل، لم يبق هذا الحكم. فمن جانب تساوي الساقين وكونه من نحاس، تجد الحكم ثابتا مع رفع الأمرين وإثبات المثلث، ومن جانب الشكل؛ تجد الحكم مرتفعا مع وضع الأمرين ورفع المثلث. فيجتمع من الامتحانين أن الحكم كلى للمثلث لا غير.
الفصل الخامس
في تحقيق ضرورية مقدمات البراهين ومناسباتها
ثم إن مقدمات البرهان يجب أن تكون ضرورية، وذلك إذا كانت على مطلوبات ضرورية. قيل : لأن ما يكتسب بوسط ما يجوز أن يتغير لا يكون ثابتا لا يتغير. بل النتيجة الضرورية تلزم من مقدمات ضرورية لا يقع فيها إمكان تغير.
والأمور الضرورية على وجهين : أمور ضرورية في اللزوم من غير أن يكون بعضها لبعض ضروريا في الجوهر والطبيعة، وهذه لوازم خارجة. وقد أوضحنا قبل أنها لا تنفع في كسب العلم اليقيني، وضرورية في الجوهر والطبيعة، وهي الأمور الموجودة بذاتها.
أما الداخلة في حد الموضوع فهي ضرورية للموضوع ف جوهره. وأما التي الموضوع داخل في حدها، فالموضوع لها ضروري في الجوهر، وهي ضرورية للموضوع في اللزوم أيضاً : إما على الإطلاق وإما على المقابلة. والتي على المقابلة، فالمأخوذ منها في البرهان ما كان ضروري اللزوم للنوع الواحد. فإن كان مما يوجد ولا يوجد في موضوع واحد بالنوع، فليس داخلا في البرهان على الأمر الضروري من حيث ما هو ضروري.
وأما كيف نرتب هذه ليكون منها العلم اليقين فنقوله بعد.
قالوا : وكل قول يُنتج به أمر ضروري وليس ضروريا فإن للمعاند أن يقول إن الملزوم الذي وضعته ليس دائم الوجود، فما يلزمه ليس بدائم الوجود، إذ لا يجب أن يكون دائم الوجود. فإن كان إبطال النتيجة المدعاة أنها ضرورية يكون بهذه السبيل، فإن استحكام قوة اليقين والضرورة فيها هو بألا يكون فيها هذا المطعن.(1/438)
فتبيّن من هذا أن الذين يقتصرون في أخذ المبادئ على أن تكون صادقة في نفسها، أو مقبولة : أي معترفا بها عند قوم أو إمام، أو مشهورة : أي يعترف بها كافة الناس وتراها، من غير أن تكون أولية الصدق - وربما كانت غير صادقة كما نعرفه في " كتاب الجدل " ، فقد يضلون السبيل : فإن استعمال المقبولات والمشهورات وأمثالها في كلب اليقين مغالطة أو غلط وبلاهة : إذ يمكن أن تكون كاذبة. وأما الصادقات فإذا لم تكن مناسبة للجنس الذي فيه النظر، وكانت خارجية غريبة، لا تبين شيئا من الجهة التي بمثلها يقع اليقين العلمي وإن كان يقع بها يقين ما لأنها لا تدل على العلل : إذ العلل مناسبة للشيء. وإنما تُعطى صدق النتيجة فقط،لا ضرورة صدقها أو لميّة صدقها.
وليس كل حق مناسبا وخصوصا إذا لم يكن ضروريا : فإنه إذا كان الوسط غير ذاتي وغير ضروري للأصغر، فلا يخلو إما أن يكون الأكبر ضروريا أو غير ضروري. فإن لم يكن ضروريا كان اليقين بنسبته إلى الأصغر غير ثابت؛ فلم يكن يقينا محضا، إلا أن يكون البرهان عليه من جهة ما هو ممكن، لا من جهة ما هو موجود بالضرورة. وإن كان ضروريا فإنما هو ضروري في نفسه ليس ضروريا عند القياس عليه، لأنه يمكن أن يزول الحد الأوسط عن الأصغر لأنه غير ضروري له. فحينئذ لا يبقى الشيء الذي كان عُلم بتوسطه فيزول حينئذ الظن والشيء موجود في نفسه. فإنا إذا علمنا أن هذا الإنسان حيوان لأنه يمشي وكل ماش حيوان، فإذا لم يمش بطل عنا العلم الذي اكتسب بتوسط المشي، فلم ندرِ حينئذ أنه حيوان أو ليس بحيوان. والأمر في نفسه باق.
فإن قال قائل إن اليقين لا يزول وإن زال الحد الأوسط : لأن قولنا كل ماش حيوان معناه كل شيء موصوف بأنه ماش وقتا ما فهو حيوان دائما - مادام ذاته الموضوعة للمشي موجودة - فإن كل شيء موصوف بأنه ماش فهو حيوان يقينا وإن لم يمش - على ما علم في " كتاب القياس " ، فتكون الصغرى وجودية والكبرى ضرورية : لأن حمل الحيوان على كل موصوف بأنه يمشي - ولو مشى وقتا ما - ضروري؛ والنتيجة عن هذين ضرورية كما علم.
فالجواب عن هذا إنما يفيد اليقين لرجوعه بالقوة إلى قياس برهاني، لولا ذلك لم يفد اليقين. وذلك لأن الكبرى الضرورية المأخوذة ضرورتها على نحو ضرورة " كتاب القياس " ، لا على نحو ضرورة " كتاب البرهان " - وهي قولنا كل ماش بالضرورة حيوان - حقيقها أن كل شيء من شأنه أن يمشي فهو حيوان بالضرورة. فلا يخلو أن يكون عُرف بالعلة أن كل ما من شأنه أن يمشي فهو حيوان، أو لم يكن عُرف بالعلة. فإن كان لم يعرف بالعلة واللمية لم يكن اليقين ثابتا حقيقيا كليا على ما أوضحناه قبل. وإن كان عُرف، فإنما اكتسب اليقين بقياس العلة. وهذا المشي يكاد أن يكون من الأعراض الذاتية بالإنسان من وجه، وبالحيوان من وجه آخر على ما قيل في الأبواب المتقدمة. فيكون إنما )101 أ( صار هذا القول برهانيا لأن الأوسط فيه عرض ذاتي - وهو المشي.
ثم إن تحقيق حال المقدمتين إذا عرفنا باليقين يرجع بالمقدمتين في القوة إلى مقدمتين كبراهما ضرورية : وذلك لأن قولنا " كل واحد مما يمشي وقتا ما فهو حيوان بالضرورة " قوته قوة قولنا " كل ما من شانه أن يمشي ويمكن أن يمشي ويصح أن يمشي فإنه حيوان بالضرورة " . وقولنا " كل إنسان يمشي " فإنه في قوة قولنا " كل إنسان يصح أن يمشي " ومتى صدق صدق هذا معه.
وإذا كان كذلك وكانت الكبرى عرفت بالعلة حتى صح اليقين بها، وكان قولنا " كل ما شأنه أن يمشي فهو حيوان " قولا يقينا معلوما بعلته، وكان الأوسط عارضا ذاتيا للحدين باعتبارين، كان القياس برهانيا، وكان كأنك تقول : كل إنسان يمكن أن يمشي ويصح أن يمشي، وكل ما أمكن أن يمشي وصح أن يمشي فهو حيوان. فلما كان القياس المذكور في قوة هذا القياس، أنتج يقينا وليس يضر في ذلك ألا يكون هو هذا القياس بعينه بالفعل، فإنه ليس اليقين. إنما جاء من كونه بالفعل هكذا. بل لو لم يكن إلا كونه بالفعل هكذا لم يقع يقين، بل وقع اليقين بسبب كونه بالقوة هكذا، ولو لم يكن في قوته ذلك استحال وقوع اليقين به.(1/439)
وكما أنه قد كان يمكن أن تُنتج نتائج صادقة عن مقدمات كاذبة، فكذلك قد يمكن أن تنتج نتيجة ضرورية عن مقدمات غير ضرورية. وكما أن النتيجة الصادقة لم يكن صدقها هناك من جهة عين القياس بل من جهة أنها كانت بذاتها صادقة، وأن من نفس تلك الحدود يوجد صدق نتيجتها ولو بالعرض، كذلك النتيجة الضرورية هاهنا لا تكون ضرورية من جهة اللزوم عن القياس، بل من جهة أنها بذاتها ضرورية، وفي قوة الحدود أن تغلب على نحو نتيجتها ضرورته.
وكما أن هناك قد يُشك متى أُحس بكذب المقدمات، فلا ندري أن النتيجة صادقة أو كاذبة - وإن كانت صادقة في نفسها - ما لم يُعلم صدقها في نفسها بوجه آخر، كذلك هاهنا نشك فلا ندري هل النتيجة ضرورية أو غير ضرورية ما لم نعلم ضرورتها من وجه آخر يلوح مع تلك المقدمات وفي قوتها، أو لا يلوح عنها بل عن مقدمات أخرى.
وكما أن هناك لم يكن يمكن أن تنتج كاذبة عن صوادق، كذلك هاهنا لا يمكن إنتاج غير ضرورية ونسبتا الحد الأوسط ضروريتان.
والمقدمات العرضية وإن كانت لا تنتج شيئا ضروريا فقد تنتج بالضرورة. وفرق بين ما ينتج ضروريا وبين ما ينتج بالضرورة : فإن كل قياس ينتج بالضرورة، وليس كل قياس ينتج ضروريا. وإذا كان القول منتجا بالضرورة، فإن لم ينتج ضروريا فإنه لا يعرى عن فائدة، بل لابد من أن يتبعه فائدتان : إحداهما العلم بوجود شيء وإذا لم يكن يقينيا فإننا نجهل سببه. ففرق بين العلم المطلق وبين العلم اليقيني، كما أنه فرق بين أن يعرف أن كذا كذا وان يعرف لم كذا كذا. وهذا وإن لم يكن نظرا برهانيا مطلقا فهو نافع من جهة ما في البرهان : لأن الشيء إذا ثبت دخوله في الوجود لم يقصر البرهان عنه أو يكشف من كنه لمّيّته. والثاني إلزام الخصم والمخاطب عندما سمح بتسليم المقدمة. وهذا بعيد عن مأخذ البرهان، لأن البرهان لا يتوقف على تسليم الخصم للمقدمة، بل على تسليم الحق لإياها وان تكون ضرورية. ولا تكون ضرورية على النحو المأخوذ في البرهان إلا أن تكون محمولاتها، مع ضرورتها، ذاتية على أحد وجهي الذاتي : فإن الضروريات الخاصة بكل جنس هي إما أجناسها وفصولها، وإما عوارضها الذاتية. وما سوى لمية شيء البتة. فإذا كان الأوسط للأصغر ذاتيا، والكر للأوسط ذاتيا، لم يمكن أن ينتقل من علم إلى آخر. بل يبين كل علم بمقدمات خاصة مثل الهندسيات ببراهين خاصة بالهندسة، والعدديات بالعدد. ولم يدخل شيء من العلوم بيان منقول أو بيان غريب إلا فيما يشتركان فيه - وسنوضح هذا بعد - فتكون المقدمات مناسبة للنتيجة.
الفصل السادس
في موضوعات العلوم
ومبادئها ومسائلها واقتران مبادئها ومسائلها في حدودها المحمولة
نقول إن لكل واحد من الصناعات - وخصوصا النظرية - مبادئ وموضوعات ومسائل. والمبادئ هي المقدمات التي منها تُبرهَن تلك الصناعة ولا تُبرهَن هي في تلك الصناعة : إما لوضوحها، وإما لجلالة شأنها عن أن تبرهن فيها وإنما تبرهن في علم فوقها، وإما لدنو شأنها عن أن تبرهن في ذلك العلم، بل في علم دونه، وهذا قليل.
والموضوعات هي الأشياء التي إنما تبحث الصناعة عن الأحوال المنسوبة إليها، والعوارض الذاتية لها. والمسائل هي القضايا التي محمولاتها عوارض ذاتية لهذا الموضوع أو لأنواعه أو عوارضه، وهي مشكوك فيها فيستبرأ حالها في ذلك العلم.
فالمبادئ منها البرهان، والمسائل لها البرهان، والموضوعات عليها البرهان. وكأن الغرض فيما عليه البرهان أعراض الذاتية، والذي لأجله ذلك هو الموضوع، والذي منه (هو) المبادئ.
ونقول : إن المبادئ على وجهين : إما مبادئ خاصة بعلم علم مثل اعتقاد وجود الحركة للعلم الطبيعي، واعتقاد إمكان انقسام كل مقدار إلى غير النهاية للعلم الرياضي. وإما مبادئ عامة وهي على قسمين : إما عامة على الإطلاق لكل علم كقولنا " كل شيء إما أن يصدق عليه الإيجاب أو السلب " ، وإما عامة لعدة علوم مثل قولنا " الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية " : فهذا مبدأ يشترك فيه علم الهندسة وعلم الحساب وعلم الهيئة وعلم اللحون وغير ذلك، ثم لا يتعدى ماله تقدير مّا : فإن هذه الأشياء هي المساويات في الكميات وذواتها لا غير : فإن المساواة لا تقال لغير ما هو كم أو ذو كم إلا باشتراك.(1/440)
والمبادئ الخاصة التي موضوعاتها موضوع الصناعة أو أنواع موضوعاتها أو أجزاء موضوعاتها أو عوارضها الخاصة فهي المبادئ الخاصة بالصناعة - كانت محمولاتها خاصة بالموضوع أو غير خاصة به بل بجنسه، مثل المساواة في مقدمات من الهندسة والعدد، وإن كان استعمالها في الصناعة يخصصها بها : لأن المساوي في الهندسة مساوي مقدار، وفي العدد مساوي عدد، وكلاهما خاص بالصناعة. والمضادة في مقدمات من العلم الطبيعي والخلقي على ذلك الوجه بعينه: فإن المساواة ليست خاصة بموضوع الهندسة ولا موضوع الحساب، ولا المضادة أيضا خاصة بموضوع العلم الطبيعي من جهة ما هو موضوع العلم الطبيعي والاعتبار على الظاهر. ولكن إن كان شيء مما هو من الأعراض الذاتية محمولا على موضوع العلم أو نوع موضوعة أو جزء موضوعة في المبادئ، وكانت المبادئ خاصة كقولنا " كل عدد زوج منقسم بمتساوين " ، فالمنقسم بمتساويين خاص بجنس موضوع الزوج. وإن قلنا " كل عدد ينقسم بمتساويين فهو زوج " ، كان المحمول خاصا بنفس الموضوع. وأما إذا كان الموضوع في المبدأ خارجا عن موضوع الصناعة أو أعم منه ؛ فهو مبدأ غير خاص.
والمبادئ العامة تستعمل في العلوم على وجهين : إما بالقوة وإما بالفعل وإذا استعملت بالقوة لم تستعمل على أنها مقدمة وجزء قياس؛ بل استعملت قوتها فقط فقيل إن لم يكن كذا حقا فمقابله - وهو كذا - حق؛ ولا يقال لأن كل شيء إما أن يصدق عليه السلب أو الإيجاب : لأن هذا مشهور مستغنى عنه إلا عند تبكيت المغالطين والمناكرين. وإذا استعملت بالفعل خصصت إما في جزئيها معا كقولنا في تخصيص هذا المبدأ المذكور في العلم الهندسي " كل مقدار إما مشارك وإما مباين " . فقد خصصنا الشيء بالمقدار، وخصصنا الإيجاب والسلب بالمشارك والمباين. وأما في الموضوع فكنقلنا المقدمة العامة : وهي كقولنا " كل الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية " إلى أن " كل المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية " . فخصصنا الشيء بالمقدار وتركنا المحمول بحاله. وهذا على الاعتبار الذي مضى لنا أيضاً.
ونقول أيضاً إن المبادئ الخاصة بمسائل علم ما على قسمين : إما أن تكون خاصة بحسب ذلك العلم كله، أو بحسب مسألة أو مسائل.
ونقول إنه قد يكون للعلم موضوع مفرد مثل العدد لعلم الحساب. وقد )101 ب ( يكون غير مفرد؛ بل تكون في الحقيقة موضوعات كثيرة تشترك في شيء تتأحد به، وذلك على وجوه : فإنها إما أن تشترك في جنس هو الشيء المتحد به، اشتراك الخط والسطح والجسم في جنس تتحد به وهو المقدار. أو تشترك في مناسبة متصلة بينها اشتراك النقطة والخط والسطح والجسم؛ فإن نسبة الأول منها إلى الثاني كنسبة الثاني إلى الثالث إلى الرابع. وإما أن تشترك في غاية واحدة كاشتراك موضوعات علم الطب - أعني الأركان والمزاجات والأخلاط والأعضاء والقوى والفعال - إن أخذت هذه موضوعات الطب لا أجزاء موضوع واحد، فإنها تشترك في نسبتها إلى الصحة؛ وموضوعات العلم الخلقي في مسبتها إلى العادة. وإما أن تشترك في مبدأ واحد مثل اشتراك موضوعات علم الكلام، فإنها تشترك في نسبتها إلى مبدأ واحد إما طاعة الشريعة أو كونها إلهية.
وأيضاً فإن موضوع العلم إما أن يكون قد أخذ على الإطلاق من جهة هويته وطبيعته غير مشترط فيها زيادة معنى، ثم طلبت عوارضها الذاتية المطلقة مثل العدد للحساب. وإما أن يكون قد أخذ لا على الإطلاق، ولكن من جهة اشتراط زيادة معنى على طبيعته من غير أن يكون فصلا ينوّعه، ثم طلبت عوارضه الذاتية التي تلحقه من تلك الجهة مثل النظر في عوارض الأُكر المتحركة.(1/441)
و " المسألة " إما بسيطة حملية؛ وإما مركبة شرطية. والمركب يتبع البسيط فيما نورده فنقول : كل مسألة بسيطة فهي منقسمة إلى محمول وموضوع. فلنتأمل أولا جهة الموضوع فنقول : إن الموضوع في المسألة الخاصة بعلم ما إما أن يكون داخلا في جملة موضوعه أو كائنا من جملة الأعراض الذاتية له. والداخل في جملة موضوعه إما نفس موضوعه سواء كان واحد الموضوع أو كثير الموضوع مثل قولنا : هل الجسم ينقسم إلى ما لا نهاية له؟ وذلك في مسائل العلم الطبيعي؛ وإما نوع له كقولنا : هل الهواء المحبوس في الماء يندفع إلى فوق بالطبع أو للانضغاط القاسر؛ وهل الغضب مبدؤه الدماغ أو القلب؟ والكائنة من أعراضه : فأما عرض ذاتي لموضوعه كقولنا : هل حركة كذا مضادة لحركة كذا؟ أو عرض ذاتي لأنواع موضوعه كقولنا : هل الإضاءة الشمسية مسخنة، أو عرض ذاتي لعرض ذاتي له كقولنا : هل الزمان بعد السكون؟ فإن الزمان عارض للحركة التي هي عرض ذاتي للجسم، أو عرض ذاتي لنوع عرض له كقولنا : هل إبطاء الحركة هو لتخلل سكون. فإن الإبطاء من عوارض بعض الحركات دون بعض : فإن بعض الحركات مستوية السرعة لا تبطئ البتة.
ولنقصد الآن ناحية المحمول فنقول : إن المحمول في المسألة على أنها مجهولة الإنية وتطلب فيها الإنية، لا التي هي مجهولة اللمية وتطلب فيها اللمية دون الإنية، لا يجوز أن يكون طبيعة جنس أو فصل، أو شيئا مجتمعا منهما إذا كانت طبيعة الموضوع محصلة. فإن المحمولات الذاتية التي تؤخذ في حد الشيء يجب أن تكون بينة الوجود للشيء إذا تحقق الشيء كما قد علمت؛ وإن كانت يمكن في بعها أن تبين بحد أوسط : لكن ليس كل بيان بحد أوسط فهو قياس؛ فإن الأوليات قد يمكن أن تبين بوجه ما بحد أوسط، مثل أن يجعل الحد الوسط حد المحمول أو رسمه، أو يجعل الأوسط كذلك للأصغر، فيوسط بين الموضوع وبين المحمول. وليس مثل ذلك قياسا عند التحقيق : فإن القياس إنما يكون قياسا على الإثبات والإبانة إذا كان على خفي الثبات؛ ويكون قياسا على اللم إذا كان على خفي اللم. وقد يجتمعان وقد يفترقان. وأما طلب أن هذا المحمول هل هو حد أو جنس أو فصل، فهو مما يجوز أن يكون مطلوبا : لأن كون الشيء طبيعة ما وكونه جنسا ما أو فصلا لشيء أمران مختلفان. فإن الحساس من جهة ما هو حساس طبيعة ما؛ ومن جهة أخرى، وبالقياس إلى الإنسان، هو فصل جنس. فيشبه أن يكون إنما يُشكل في مثل هذا أنه هل هو جنس للإنسان أو ليس بجنس، أو هل هو فصل له أو لجنسه أو ليس. ولا يشكل أنه هل هو للإنسان موجود من جهة ما هو معنى ما من شأنه أن يكون جنسا أو فصل جنس إذا اعتبر له اعتبار العموم.(1/442)
وقد ينبه أيضاً على وجود أمثال هذه المحمولات المقومة الذاتيات ببيان ما، من ليس سليم الفطرة كما ينبه على المبادئ الأولية. وأيضاً قد يبرهن على وجودها لشيء ما إذا كان عُرف بعوارضه ولم يكن تحقق جوهره : فعرف مثلا من جهة ما هو منسوب إلى شيء، أو له فعل أو انفعال ولم يكن عرف ذاته : مثل أنا نطلب هل النفس جوهر أو ليس بجوهر؛ والجوهر جنس النفس. ولكن إنما نطلب هذا إذا لم نكن بعد عرفنا النفس بذاتها، ولكن عرفناها من جهة ما هي مضافة إلى البدن وكمال ما له، وتصدر عنها الأفاعيل الحيوانية. وبالجملة إذا عرفناها من جهة أنها شيء هو كمال كذا ومبدأ لكذا فقط؛ فنكون بعد ما عرفنا ذاتها، فلا نكون عرفنا ذاتها ووضعناها ثم طلبنا حمل جنسها عليها. فإذا لم نكن وضعنا حقيقة ذاتها ثم نطلب حمل أمر آخر عليها - ذلك الأمر جنس لذاتها - لم يكن المحمول في طلبنا بالحقيقة جنسا للموضوع في القضية؛ بل كان جنسا لشيء آخر مجهول يعرض له هذا الذي يطلب المحمول له. وكثيرا ما يتفق هذا الطلب حيث لا نكون قد حصلنا معنى الموضوع والمطلوب، بل عندنا منهما اسم فقط : كما نطلب هل الصورة جوهر أو لا : فإنا إذا كنا عرفنا بالحقيقة ما الجوهر، وعرفنا أنه الموجود لا في موضوع، وعرفنا بالحقيقة ما الموضوع، وعرفنا ما الصورة - فكانت الصورة كل هيئة لمادة لا تقوم دونها تلك المادة، بل تتقوم بها، وكان الموضوع كل مادة متقومة الذات؛ أو قابل متقوم دون الهيئة التي فيهما وإن لم تكن الهيئة ولا شيء يخلف بدلها؛ أو كانت الهيئة لازمة لحقت بعد تقوم ذلك الأمر الذي هو مادة أو قابل - عرفنا أن الصورة جوهر ولم تحتج إلى وسط. ولكن إذا كان عندنا من الصورة خيال ومن الجوهر خيال، أخذنا نحتج ونقيس من غير حاجة إلى القياس.
بل المطلوبات والمسائل إذا كانت موضوعاتها للصناعة، كانت محمولاتها من أعراضها الذاتية، وأجناس أعراضها وفصول أعراضها وأعراض أعراضها. فإن كانت موضوعاتها من أعراضها الذاتية، جاز أن تكون محمولاتها من جنس الموضوع ومن أنواعه وفصوله وأعراضه وأعراض أعراضه وأجناس أعراض أخرى وفصولها وما يجري مجراها. وقد تكون محمولات الصنفين من الموضوعات عوارض ذاتية للجنس كالمساواة في علم الهندسة والعدد، وعوارض ذاتية لما هو شبيه جنس كالقوة والفعل في العلم الطبيعي : فغن القوة والفعل من العوارض الخاصة بالموجود والمضادة أيضاً إذا استعملت في العلم الطبيعي كانت من العوارض الخاصة بجنسه. وإنما لا تكون محمولة في مسائل العلم الرياضي لأن موضوعات العلم الرياضي إما غير متحركة وإما متشابهة الحركة لا مضادة فيها، وإن لم تتفق حركاتها من كل جهة. وأما موضوعات العلم الطبيعي فمهيأة للتغير بين الأضداد.
فأما إذا كان المطلوب هو اللمية دون الإنية فيصلح أن يجعل مقوم ما حدا أوسط يبين به مقوم آخر إذا كان الأوسط علة لوجود الكبر له : إذ يكون الأكبر أولا للوسط، ونسبته تكون للأصغر : كالمدرك فإنه أولا للناطق والحاس ثم للإنسان.
وأقول إن كل ما لم يصلح أن يكون محمولا في المسائل البرهانية فلا يصلح أن يكون محمولا في المقدمات البرهانية البتة سواء كانت مبادئ خاصة أو مبادئ عامة، إلا الأجناس والفصول وما يشبهها فإنها يجوز أن تكون محمولة على أنواعها في المقدمات. فإنه يجوز أن يكون الأكبر جنسا للأوسط أو فصلا، والأوسط عرضا ذاتيا لصغر. ويكون كما أن العرض يجوز أن يبتدأ فيطلب، فكذلك يجوز أن يبتدأ فيطلب جنسه أو فصله. وأيضاً يجوز أن يكون الأوسط جنسا للأصغر أو فصلا، والأكبر عرضا ذاتيا للأوسط. فمن هذه الجهة تدخل الجناس والفصول في جملة المحمولات.(1/443)
وإذا كان يمكن أن يكون وجود العرض الذاتي لفصل الشيء أو لجنسه أوضح منه الشيء، جاز أن يوسط الفصل أو الجنس. وكذلك لما كان يمكن أن يكون نوع العرض أعرف للشيء، أو المفصول بالعرض أعرف للشيء، جاز أن يوسط هذا العرف. وأما أن يكون الكبر مقوما للأصغر فليس يقع إلا )102 أ( على الوجه المحدود. فإن طلب مطالب وقال : لما كان من حق الجنس ألا يحمل على النوع فكيف يعرف وجود النوع في الأصغر ولا يعرف وجود جنسه؟ فالجواب عن ذلك أن الجنس - كما علمت - ليس مما لا يحمل جملة على النوع وجها من وجوه الحمل البتة، بل ما لم يخطر معناه بالبال، ومعنى النوع بالبال، ولم يراع البتة النسبة بينهما في هذه الحال، أمكن أن يغيب عن الذهن. فيجوز أن يخطر النوع بالبال ولا يلتفت الذهن إلى الجنس. ويجوز أن يخطر النوع بالبال محمولا على شيء ولا يخطر حينئذ الجنس ولا حمله بالفعل بالبال فلا يحمل؛ لكنه إذا أخطر مع النوع بالبال حمل بالفعل على ما يحمل عليه النوع البتة. وذلك أولى : فإن المخطر إياه بالبال كان يخطر ولا يخطر الجنس بالبال. فكيف إذا لم يخطر البتة؟
الفصل السابع
في اختلاف العلوم واشتراكها بقول مفصل
نقول إن اختلاف العلوم الحقيقية هو بسبب موضوعاتها. وذلك السبب إما اختلاف الموضوعات وإما اختلاف موضوع. ولنفصل أقسام الوجه الأول ونقول : إن اختلاف موضوعات العلوم إما على الإطلاق من غير مداخلة - مثل اختلاف موضوعي الحساب والهندسة، فليس شيء من موضوع هذا في موضوع ذلك - وغما مع مداخلة مثل أن يكون أحدهما يشارك الآخر في شيء. وهذا على وجهين : إما أن يكون أحد الموضوعين أعم كالجنس، والآخر أخص كالنوع أو الأعراض الخاصة بالنوع. وإما أن يكون في الموضوعين شيء مشترك وشيء متباين مثل علم الطب وعلم الخلاق : فإنهما يشتركان في قوى نفس الإنسان من جهة ما الإنسان حيوان، ثم يختص الطب بالنظر في جسد الإنسان وأعضائه، ويختص علم الخلاق بالنظر في النفس الناطقة وقواها العملية.
وأما القسم الأول من هذين القسمين فإما أن يكون العام فيه عمومه للخاص عموم الجنس أو عموم اللوازم مثل عموم الواحد والموجود. ولنؤخر الآن هذا القسم. وأما الذي عمومه فيه عموم الجنس للنوع فهو كالنظر في المخروطات على انها من المجسمات، والمجسمات على أنها من المقادير. وأما الذي عمومه كالجنس لعارض النوع فمثل موضوع الطبيعي وموضوع الموسيقى : فإن موضوع الموسيقى عارض نوع من موضوع العلم الطبيعي.
وهذا القسم نقسمه على قسمين : قسم يجعل الأخص من جملة الأعم وفي علمه حتى يكون النظر فيه جزءا من النظر في الأعم. وقسم يفرد الأخص من الأعم ولا يجعل النظر فيه جزءا من النظر في الأعم. ولكن يجعله علما تحته.
والسبب في هذا الانقسام هو أن الأخص إما أن يكون إنما صار أخص بسبب فصول ذاتية ثم طلبت عوارضه الذاتية من جهة ما صار نوعا، فلا يختص النظر بشيء منه دون شيء وحال دون حال، بل يتناول جميعه مطلقا : وذلك مثل المخروطات للهندسة. فيكون العلم بالموضوع الأخص جزءا من العلم الذي ينظر في الموضوع الأعم. وإما أن يكون نظره في الأخص، وإن كان قد صار أخ بفصل مقوم، فليس من جهة ذلك الفصل المقوم وما يعرض له من جهة نوعيته مطلقا، بل من جهة بعض عوارض تتبع ذلك الفصل ولواحقه، مثل نظر الطبيب في بدن الإنسان : فإن ذلك من جهة ما يصح ويمرض فقط. وهذا يفرد العلم بالأخص عن العلم بالعم ويجعله علما تحته. كما أن الطب ليس جزءا من العلم الطبيعي. بل علم موضوع تحته.
وإما أن يكون الشيء الذي صار به أخص ليس يجعله نوعا بل يفرده صنفا، ويعارض فينظر فيه من جهة ما صار به أخص وصنفا، ليبحث أي عوارض ذاتية تلزمه. وهذا أيضاً يفرد العلم بالأخص عن العلم بالأعم ويجعله علما تحته.
وبالجملة فغن أقسام الموضوعات المخصصة التي العلم بها ليس جزءا من العلم بالموضوع الأعم، بل هو علم تحت ذلك العلم - أربعة :(1/444)
أحدهما أن يكون الشيء الذي صار به أخص عرضنا من الأعراض الذاتية معنا، فينظر في اللواحق التي تلحق الموضوع المخصص من جهة ما اقترن به ذلك العارض فقط. كالطب الذي هو تحت العلم الطبيعي : فإن الطب ينظر في بدن الإنسان وجز من العلم الطبيعي ينظر أيضاً في بدن الإنسان. لكن الجزء من العلم الطبيعي الذي ينظر في بدن الإنسان ينظر فيه على الإطلاق ويبحث عن عوارضه الذاتية على الإطلاق، التي تعرض له حيث هو إنسان، لا من حيث شرط يقرن به. وأما الطب فينظر فيه من جهة ما يصح ويمرض فقط. ويبحث عن عوارضه التي له من هذه الجهة.
والقسم الثاني أن يكون الشيء الذي به صار أخص من الأعم عارضا غريبا ليس ذاتيا، ولكنه مع هيئته في ذات الموضوع، لا نسبة مجردة. وقد أخذ الموضوع مع ذلك العارض الغريب شيئا واحدا، ونظر في العوارض الذاتية التي تعرض له من جهة اقتران ذلك الغريب به، مثل النظر في الأُكر المتحركة تحت النظر في المجسمات أو الهندسة.
والقسم الثالث أن يكون الشيء الذي صار أخص من الأعم عارضا غريبا وليس هيئة في ذاته ولكن نسبة مجردة، وقد أخذ مع تلك النسبة شيئا واحدا ونظر في العوارض الذاتية التي تعرض له من جهة اقتران تلك النسبة به مثل النظر في المناظر فإنه يأخذ الخطوط مقترنة بالبصر فيضع ذلك موضوعا وينظر في لواحقها الذاتية. وهي لذلك ليست من الهندسة، بل تحت الهندسة.
وهذه الأقسام الثلاثة تشترك في أن الشيء المقرون به العارض الموصوف هو من جملة طبيعة الموضوع للعلم الأعلى من العلمين فيحمل موضوع الأعلى عليه.
والقسم الرابع ألا يكون الأخص عليه الأعم، بل هو عارض لشيء من أنواعه كالغنم إذا قيست إلى موضوع العلم الطبيعي : فإنها من جملة عوارض تعرض لبعض أنواع موضوع العلم الطبيعي. ومع ذلك فقد أخذت النغم في علم الموسيقى من حيث قد اقترن بها أمر غريب منها ومن جنسها - وهو العدد - فتطلب لواحقها من جهة ما اقترن ذلك الغريب بها، لا من جهة ذاتها. وذلك كالاتفاق والاختلاف المطلوب في النغم. فحينئذ يجب أن يوضع لا تحت العلم الذي في جملة موضوعه بل تحت العلم منه ما اقترن به. وذلك مثل وضعنا الموسيقى تحت علم الحساب. وإنما قلنا " لا من جهة ذاتها " لأن النظر في النغمة من جهة ذاتها نظر في عوارض موضوع العلم الأعم أو عوارض عوارض أنواعه. وذلك جزء من اعلم الطبيعي لا علم تحته.
والفرق بين هذا القسم والقسم الذي قبله - أعني القسم الذي جعلنا مثاله الأكر المتحركة أن ذلك العلم ليس موضوعا تحت العلم الناظر في العارض المقرون به، بل تحت العلم الذي ينظر في العام لموضوعه : إذ علم الأكر المتحركة ليس تحت الطبيعيات، بل تحت الهندسة. وأما هذا فهو موضوع تحت العلم الناظر في العارض المقرون به : لأن الموسيقى ليس تحت الطبيعي بل تحت الحساب.
وأما الذي عمومه عموم الموجود والواحد فلا يجوز أن يكون العلم بالأشياء التي تحته جزءا من علمه : لأنها ليست ذاتية له على أحد وجهي الذاتي. فلا العام يؤخذ حد الخاص ولا بالعكس؛ بل يجب أن تكون العلوم الجزئية ليست أجزاء منه. ولأن الموجود والواحد عامان لجميع الموضوعات، فيجب أن تكون سائر العلوم تحت العلم الناظر فيهما. ولأنه لا موضوع أعم منهما فلا يجوز أن يكون العلم الناظر فيهما تحت علم آخر. ولأن ما ليس مبدأ لوجود بعض الموجودات دون بعض، بل هو مبدأ لجميع الموجود المعلول )102 ب (، فلا يجوز أن يكون أن يكون النظر فيه في علم من العلوم الجزئية، ولا يجوز أن يكون بنفسه موضوعا لعلم جزئي، لأنه يقتضي نسبة إلى كل موجود. ولا هو موضوع العلم الكلى العام، لأنه ليس أمرا كليا عاما. فيجب أن يكون العلم به جزءا من هذا العلم.
ولأنا قد وضعنا أن من مبادئ العلوم ما ليس بينا بنفسه، فيجب أن يبين في عم آخر إما جزئي مثله أو أعم منه فننتهي لا محالة إلى أعم العلوم. فيجيب أن تكون مبادئ سائر العلوم تصح ف هذا العلم. فلذلك يكون كأن جميع العلوم تبرهن على قضايا شرطية متصلة : مثلا إنه إن كانت الدائرة موجودة فالمثلث الفلاني كذا، أو المثلث الفلاني موجود. فإذا صير إلى الفلسفة الأولى يبين وجود المقدم فيبرهن أن المبدأ كالدائرة مثلا موجود. فحينئذ يتم برهان أن ما يتلوه موجود. فكأن ليس علم من الجزئية لم يبرهن على غير شرطي.(1/445)
والصناعات المشتركة في موضوع هذا العلم ثلاثة : الفلسفة الأولى والجدل والسوفسطائية. والفلسفة الأولى تفارق الجدل والسوفسطائية في الموضوع وفي مبدأ النظر، وفي غاية النظر : أما في الموضوع فلأن الفلسفة الأولى إنما تنظر في العوارض الذاتية للموجود والواحد ومبادئهما ولا تنظر في العوارض الذاتية لموضوعات علم علم من العلوم الجزئية. والجدل والسوفسطائية ينظران في عوارض كل موضوع - كان ذاتيا أو غير ذاتي - ولا يقتصر ولا واحد منهما على عوارض الواحد والموجود.
فالفلسفة الأولى أعم من العلوم الجزئية لعموم موضوعها. وهما أعم نظرا من العلوم الجزئية لنهما يتكلمان علة كل موضوع كلاما مستقيما كان أو معرجا، لكل بحسب صناعته.
وقد تفارقهما من جهة المبدأ : لأن الفلسفة الأولى إنما تأخذ مبادئها من المقدمات البرهانية اليقينية. وأما الجدل فمبدؤه من المقدمات الذائعة المشهورة في الحقيقة. وأما السوفسطائية فمبدؤه من المقدمات المشبهة بالذائعة أو اليقينية من غير أن تكون كذلك في الحقيقة.
وقد تفارقهما من جهة : لأن الغاية في الفلسفة الأولى إصابة الحق اليقين بحسب مقدور الإنسان. وغاية الجدل الارتياض في الإثبات والنفي المشهور تدرجا إلى البرهان ونفعا للمدينة. وربما كانت غايتها الغلبة بالعدل. وذلك العدل ربما كان بحسب المعاملة وربما كان بحسب النفع، وأما الذي بحسب المعاملة فإن يكون الإلزام واجبا مما يتسلم، وإن لم يكن اللازم حقا ولا صوابا. وأما الذي بحسب النفع فربما كان بالحق وربما كان بالصواب المحمود.
وغاية السوفسطائية الترائي بالحكمة والقهر بالباطل.
واعلم أن اختلاف العلوم في موضوع واحد يكون علة وجهين : فإنه إما أن يكون أحد العلمين ينظر في الموضوع على الإطلاق والآخر في الموضوع من جهة ما مل ما أن " الإنسان " قد ينظر فيه جزء من العلم الطبيعي على الإطلاق وقد ينظر فيه الطب - وهو علم تحت العلم الطبيعي ولكن لا على الإطلاق، بل إنما ينظر فيه من جهة أنه يصح ويمرض.وإما أن يكون كل واحد من العلمين ينظر فيه من جهة دون الجهة التي ينظر الآخر فيها، مثل أن جسم العالم أو جرم الفلك ينظر فيه المنجم والطبيعي جميعا. ولكن جسم الكل هو موضوع للعلم الطبيعي بشرط " وذلك الشرط هو أن له مبدأ حركة وسكون بالذات. وينظر فيه المنجم بشرط : وذلك الشرط أن له كما وأنهما وان اشتركا في البحث عن كرية فلك الجسم. فهذا يجعل نظره من جهة ما هو كم وله أحوال تلحق الكم. وذلك يجعل نظره من جهة ما هو ذو طبيعة بسيطة هي مبدأ حركته وسكونه علة هيئته. ولا يجوز أن تكون هيئته التي يسكن عليها السكون المقابل للفساد والاستحالة هيئة مختلفة في أجزائه، فتكون في بعه زاوية ولا تكون في بعضه زاوية : لأن القوة الواحدة في مادة واحدة تفعل صورة متشابهة. وأما المهندس فيقول إن الفلك كرى لأن مناظره كذا والخطوط الخارجة إليه توجب كذا. فيكون الطبيعي إنما ينظر من جهة القوى التي فيه. والمهندس من جهة الكم الذي له. فيتفق في بعض المسائل أن يتفقا لأن الموضوع واحد. وفي الأكثر يختلفان.
ونقول من رأس إن العلوم المشتركة إما أن تشترك في المبادئ وإما أن تشترك في الموضوعات وإما في المسائل. والمشتركة في المبادئ فلسنا نعني بها المشتركة في المبادئ العامة لكل علم، بل المشتركة في المبادئ التي تعم علوما ما مثل العلوم الرياضية المشتركة في ان الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.(1/446)
وتلك الشركة إما أن تكون على مرتبة واحدة كالهندسة والعدد في المبدأ الذي ذكرناه. وإما أن يكون المبدأ للواحد منهما أولا وللثاني بعده، مثل أن الهندسة وعلم المناظر، بل الحساب وعلم الموسيقى، يشتركان في هذا المبدأ. لكن الهندسة أعم موضوعا من علم المناظر. فلذلك يكون لها هذا المبدأ أولا. وبعدها للمناظر. وكذلك حال الحساب من الموسيقى. وإما أن يكون ما هو مبدأ في علم مسألة في علم آخر وهذا على وجهين : إما أن يكون العلمان مختلفي الموضوعين بالعموم والخصوص فيبين شيء في علم أعلى ويؤخذ مبدأ في علم أسفل، وهذا يكون مبدأ حقيقيا. أو يبين شيء في علم أسفل ويؤخذ مبدأ للعلم الأعلى، وهذا يكون مبدأ بالقياس إلينا. وإما أن يكون العلمان غير مختلفين في العموم والخصوص، بل هما مثل الحساب والهندسة، فتجعل مسائل أحدهما مبادئ لمسائل الآخر : فإن كثيرا من مبادئ المقالة العاشرة من " كتاب الاسطقسات " عددية قد تبرهن عليها قبل في المقالات العددية. وهذا لا يمكن إذا لم يكن بين العلمين شركة في موضوع أو في جنس موضوع.
وأما الشركة في المسائل فهي أن يكون المطلوب فيهما جميعا محمولا لموضوع واحد، وإلا فلا شركة. وهذا أيضاً لا يمكن أن يكون إلا مع اشتراك العلمين في الموضوع.
فإذن الشركة الأولية الأصلية التي للعلوم هي على موجب القسم الثالث، وهو الشركة في الموضوع على وجه من الوجوه المذكورة. وهي ثلاثة : إما أن يكون أحد الموضوعين أعم والآخر أخص كالطب والعلم الطبيعي؛ والهندسة والمخروطات، وسائر أشبه ذلك. وإما أن يكون لكل واحد من موضوعي علمين شيء خاص وشيء يشارك فيه الآخر كالطب والأخلاق. وإما أن يكون ذات الموضوع فيهما واحدا، ولكن أخذ باعتبارين مختلفين فصار باعتبار موضوعا لهذا وباعتبار موضوعا لذلك. كما أن جسم السماء والعالم موضوع لعلم الهيئة وللعلم الطبيعي.
وإذا تكلمنا في مشاركة العلوم في الموضوعات والمبادي والمسائل، فيجب أن نتكلم في نقل البرهان.
الفصل الثامن
في نقل البرهان من علم إلى علم
وتناوله للجزئيات تحت الكليات وكذلك تناول الحد
نقل البرهان يقال على وجهين : فيقال أحدهما على أن يكون شيء مأخوذا مقدمة في علم ويكون برهانه في علم آخر، فيتسلم في هذا العلم وينقل برهانه إلى ذلك العلم، أي يحال به على العلم. ويقال على وجه آخر وهو أي يكون شيء مأخوذا في علم على انه مطلوب ثم يبرهن عليه ببرهان حده الوسط من علم آخر. فتكون أجزاء القياس - وهي الحدود - صالحة للوقوع في العلمين، كما يبرهن على زوايا مخروط البصر في علم المناظر بتقديرات هندسية على جهة لو جعلت معها تلك الزاوية هندسية محضة لكان البرهان عليها ذلك. وكذلك البراهين التي تقوم على الأعداد التي في علم التأليف وإن كان الداعي إلى هذا لا شيء من نفس الأمور، بل ضرورة ما على ما سنبينه بعد.
ونحن نعني هاهنا بنقل البرهان ما كان على سبيل القسم الثاني : وذلك لا يمكن إلا أن يكون أحد العلمين تحت الآخر. وبالجملة يجب أن يشتركا في الموضوع حتى يشتركان في آثاره، إما على الإطلاق، وإما بوجهٍ ما؛ وهذا الوجه هو أن أحدهما تحت الآخر. فحينئذ يجوز أن ينقل البرهان من العام إلى الخاص؛ فيكون العام يعطى العلة للخاص على ما سنوضحه بعد.
وأما إذا اشتركا في الموضوع على الوجوه الأخرى فيمكن أن يتفقا في القياس : فإنه إذا كان الحد الوسط جنسا للأصغر أو فصلا مقوما أو شيئا من هذه المقومات، والكبر عارضا لذلك الجنس أو ذلك المقوم - )103 أ( وهو المأخذ الأول من مآخذ البرهانيات - أو كان )103 أ( الأوسط عارضا ذاتيا للأصغر؛ والأكبر عارضا ذاتيا آخر أو جنس عارض أو فصله أو شيئا مقوما له - وهو المأخذ الثاني من البرهانيات - ليس غيرهما على ما أوضحنا - كان نحو النظر في العلمين واحدا. وإن م يكن هكذا لم يكن القياس برهانيا في كليهما جميعا : بل عساه أن يكون برهانيا في أحدهما غير برهاني في الآخر؛ أو يكون في كليهما غير برهاني : إذ بينا أن البرهان لا يخلو عن أحد هذين المأخذين، وأشبعنا القول فيه.(1/447)
ثم من المحال أن يتفق في أحد المأخذين علمان متباينا الموضوع أو متباينا نحو النظر في الموضوع. ولهذا السبب ليس للمهندس أن يبين هل الأضداد بها علم واحد أولا : فإن الأضداد ليست من جملة موضوعات علمه ولا من العوارض الذاتية له أو لجنسه.
وإذا كان الأمر على ما حققناه فيجب أن نعلم أنه إنما ينقل البرهان من علم أعلى إلى علم تحته كالبراهين الهندسية تستعمل في المناظر، والعددية تستعمل في التأليف.
ويجب ألا يتفق بحثا علمين متباينين في الموضوعات والأعراض؛ وألا يكون شيء من العلوم ينظر في الأعراض الغريبة ولا في الأعراض التي تعرض للشيء لا بما هو هو مثل الحسن والقبيح إذا استعملا في الشكل والخط؛ والمقابلة إذا روعيت بين المستدير والمستقيم : فإن أمثال هذه وإن كانت تؤخذ بوجه ما في موضوعات الهندسة، فليست تعرض لها بما هي هي، بل هي عوارض خارجية قد تعرض لأشياء غير الجنس الذي يختص بموضوعات الهندسة.
هذا : وقد قيل في التعليم الأول : لما كان يجب أن تكون مقدمات البرهان كلية حتى تكون يقينية لا تتغير تغير الأمور الشخصية، ووجب أن تكون نتائجها كذلك كلية ودائمة، وجب ألا يكون برهان على الأشياء الجزئية الفاسدة؛ بل على أحوالها قياس ما يدل على أن الأمر هكذا فقط : لأنه لا يمكن أن يدل على انه يجب ألا يتغير. ولا أيضاً بها علم إلا العلم الذي بطريق العرض. وأما اليقين فغنما يكون بالحكم الكلى الذي يعم الشخص وغيره، ثم عرض واتفق أن دخل هذا الشخص تحت ذلك الحكم دخولا لا تقتضيه نفس ذلك الحكم، ولا الشخص يقتضي دوامه تحته. فليس أحدهما يقتضي دوام النسبة مع الآخر. فإذن النسبة بينهما عارضة وقتا ما. والعلم إذن بالجزئي - أعني الشخص - علم بالعرض. ولذلك إذا زال عن الحس وقع فيه شك ولو في الذاتيات : مثل أنه هل زيد حيوان. فإنه إن مات أو فسد لم يكن حيوانا.
وقيل في التعليم الأول أيضاً انه فرض على الفاسد برهان كانت إحدى المقدمتين غير كلية - وهي الصغرى - وفاسدة. أما فاسدة فلأن المقدمات لو كانت دائمة لكانت النتيجة دائمة، فكان دائما يوصف الشخص الفاسد بالأكبر ولو بعد فساده. وهذا محال. وأما غير كلية فإن الكلية تبقى وهذا الشخص قد فسد، فكيف يمكن أن يحكم عليه بالكلية؟ وإنما يبقى الكل محمولا أياما ووقتا ما. ومحال أن يكون برهانٌ وليست المقدمتان كليتين ودائمتين. فإذن لا برهان على الفاسد. ولا قياس أيضاً كليا، بل قياسات في وقت. وسنبين بعد أن كل حد فإما أن يكون مبدأ برهان أو تمام برهان أو نتيجته - أو يكون برهانا متغيرا متقلبا؛ وتكون الأجزاء التي للحد مشتركة بين البرهان والحد. وإذ لا برهان عليها فلا حد لها. ثم الفاسدات إنما بفارق كل واحد منها إما شيئا خارجا عن نوعه، أو شيئا في نوعه. فأما مفارقته لما هو خارج عن نوعه فيجوز أن يكون بالمحمولات الذاتية. ولكن لا يكون ذلك بما هو هذا الشخص، بل بما له طبيعة النوع. واما الأشياء التي في نوعه فإنما يفارقها بأمور غير ذاتية، بل بخواص له عرضية، ويمكن أن تكون مشاركاته في نوعه بالقوة بلانهاية ، وله مع كل واحد منها فصل آخر عرضي لا ذاتي، فإن الأشياء التي تحت النوع الواحد متفق كلها في الذاتيات.
فإذن لا يجوز أن يحد الشخص الفاسد والشخص المشارك في نوعه الأقرب حدا يكون له بما هو شخص أصلا، لأنه إن مُيَّز بقول كان ذلك القول من عرضيات لا من ذاتيات، ومن عرضيات غير محدودة. وأما القول الذي من الذاتيات الذي يفرقه لا من أشخاص نوعه، بل من سائر الأنواع، فليس له لأنه هذا الشخص، بل لأن له طبيعة النوع. فالحد للشخص الفاسد أيضا بالعرض مثل البرهان.
ولقائل أن يقول: إنكم قد أشترطتم في مقدمات البراهين أن تكون كلية لا محالة؛ ونحن قد علمنا أن من مقدمات البراهين ما هي جزئية - وذلك إذا كانت المطالب جزئية. والبرهان الجزئي وإن لم يكن في شرف البرهان الكلي فإنه برهان يعطي اليقين والعلة، كما أن البرهان السالب وإن لم يكن في شرف البرهان الموجب، فإنه برهان يعطي اليقين والعلة في كثير من الأوقات.فيكون الجواب.(1/448)
إن " الكلى " يقال على وجهين : فيقال كلى لقياس الشخص المخصوص؛ ويراد به أن الحكم فيه على كلى، سواء كان على كله أو بعضه أو مهملا بعد أن يكون الموضوع كليا. ويقال كلى لقياس الجزئي والمهمل، ويراد به أن الحكم على موضوع كلى وعلى كله.
والمقدمة الجزئية غير الشخصية: فإن موضوعها كلى. والبعض أيضا الذي يختص بالحكم منها وإن لم يكن معينا فإنه في الأكثر طبيعة كلية: كقولنا بعض الحيوان ناطق.
فإذن الوجه الذي اشترطناه في هذا الموضوع تدخل فيه المقدمة الجزئية ولا تدخل الشخصية.
وقيل في التعليم الأول : ولأن الأشياء الواجبة الوقوع المتكررة بالعدد قد يبرهن عليها وتحد مثل كسوف القمر، فحري أن يشك شاك أنه كيف وقع لها مع فسادها برهان واحد.والجواب: أن كسوف القمر على الإطلاق نوع ما بذاته مقول على كسوفات قمرية جزئية فاسدة، وذلك النوع طبيعة معقولة كلية. فالبرهان والحد لتلك الطبيعة النوعية ذاتية ودائمة يقينية وكذلك الكسوف في وقت ما:فإنه وإن اتفق ألا يكون واحدا، فليس نفس تصوره كسوفا قمريا في وقت حاله وصفته كذا يمنع عن أن يقال على كثيرين حتى يكون في وقت ما بتلك الصفة كسوفات كذلك شمسية أو قمرية ؛ كما ليس تصور معنى الشمس والقمر يمنع أن يقال على كثيرين.
وعلى ما سلف لك منا شرحه، فإن إنما صار الكسوف الواقع في وقت كذا غير كثير، لا لأن معناه إذا تصور منع أن تقع فيه شركة، بل اتفق لفقدان أمور أخرى من خارج ولاستحالتها : إذ ليست الشمس إلا واحدة، والقمر إلا واحدا، والعالم إلا واحدا؛ وعرض للكسوف ما عرض للقمر نفسه على ما سلف منا الكلام فيه. وأما كسوف ما معين مشار إليه في وقت ما معين، فإنما يتناوله البرهان بالعرض كما يتناول سائر الفاسدات. وليس يقوم بالبرهان على كسوف ما من جهة ما هو كسوف ما، بل من جهة ما هو كسوف على الإطلاق يشاركه فيه كل كسوف عددي كان وتكرر؛ أو جوز الوهم وجوده معه.
ولقائل أن يقول إن الحاجة إلى كون مقدمات البرهان كلية لا تتبين إلا ببيان أن الفاسد لا يبقى به يقين؛ فكيف صار القوم يثبتون أن الفاسد لا برهان عليه لن مقدمات البرهان كلية؟ فالجواب أن الغرض ليس ذلك، ولكن معنى القول هو أنه لما كان الحكم إذا اخذ مقولا على الموضوع وليس دائما في كل واحد منه، حتى لم يكن كليا بحسب الكلى في البرهان، أعرض الحكم للشك والانتقاض إذ كان يتغير في البعض من الأعداد، والمتغير لا يقين به إذا اخذ مطلقا. وكذلك حال الجزئي المتغير إذا كان الحكم مقولا على الموضوع وليس دائما في كل وقت له، فيعرض للشك والانتقاض إذ كان يتغير في البعض من الأزمنة، والمتغير لا يقين به : فكأنه يقول : السبب الذي أوقع في المور العامية حاجة إلى ان تكون مقدمات البراهين عليها كلية، وإلا منع اليقين، موجود بعينه في الحكم على الشخصيات، وذلك هو التغير وعدم الدوام، فيكون الكلى موردا للبينة على العلة، ل لأن يكون نفس مقدمة بيان.
الفصل التاسع
في تحقيق مناسبة المقدمات البرهانية
والجدلية لمطالبها، وكيف يكون
اختلاف العلمين في إعطاء اللم والإنّ قيل في التعليم الأول إنه يجب ألا يقتصر في إقامة )103 ب ( البرهان على أن تكون المقدمان صادقة، بل يجب أن تكون مع ذلك أولية غير ذات أوساط؛ ولا على أن تكون مع ذلك مقولة على الكل فقط، لكن يجب مع ذلك كله أن تكون مناسبة على ما أشرنا إليه مرارا كثيرة.(1/449)
فيكاد أن يكون القياس الذي أورده بروسن على توسيع الدائرة مأخوذا من مقدمات صادقة بينة بنفسها، مقولة على الكل، إلا أن كلامه ليس ببرهان هندسي : لأن مقدماته غير مناسبة. فبيانه كما علمت بالعرض؛ والعرض في هذا التربيع أن يبين أن دائرة مساوية لشكل مستقيم الخطوط كيف كان عدد أضلاعه، فإنه يمكن أن يحل إلى مثلثات مثلا، ثم يمكن أن يوجد لكل مثلثة مربع مساو لها، ولجملتها أيضاً مربع واحد مساو، فيكون ذلك المربع مساويا للدائرة، فيكون ضلع ذلك المربع جذر الدائرة. فبين بروسن غرضه ذلك بان قال : إن الدائرة أكبر من كل شكل مستقيم الخطوط كثر الزوايا هو فيها، وأصغر من كل شكل مستقيم الخطوط كثير الزوايا هي فيه؛ فتكون مساوية لكل شكل مستقيم الخطوط كثير الزوايا هو أكبر من كل مستقيم خطوط يقع فيها، وأصغر من كل مستقيم خطوط يقع خارجا عنها. فقد وجد أيضاً شكل مستقيم الخطوط مساو للدائرة.
وقيل في التعليم الأول قول مجمل : وهو أن هذا الكلام بيان غير خاص بطريقة الهندسة، بل هو عام مشترك فيه ويوجد لأشياء أخرى ويطابقها، وليست تلك الأشياء متناسبة الجنس - أي مشتركة في الموضوع أو جنس الموضوع.
وقال بعضهم في بيان كون هذا القياس لا على الشروط البرهانية، إن السبب فيه أنه أخذ مقدمة غير خاصة بالمقادير، لأنه وضع في قوة كلامه " أن الأشكال التي هي أعظم من أشياء واحدة بعينها كالأشكال التي في الدائرة، وأصغر من أشياء واحدة بعينها كالأشياء المحيطة، هي أشياء متساوية " - أي كالدائرة - وذلك هو الشكل المستقيم الخطوط المذكور. قال : وهذه المقدمة غي خاصة بالأشكال، بل بالأعداد وبالأزمنة وغير ذلك. فلذلك صار البرهان غير مناسب.
وأظن أن هذه المقدمة المستعملة في هذا القياس، وإن كانت غير خاصة بالمقادير، فهي خاصة بجنس المقادير - أعني الكم. والمقدمات التي هي من هذا الجنس مستعملة في العلوم : مثل أن الكل أزيد من الجزء، وأن كل كم إما مساوٍ وإما أزيد وإما انقص. فإن هذين أولا للكم ثم للمقادير والعدد. وإذا أريد أن يجعلا خاصين بأحد الموضوعين قيل في المقادير إن الكل أعظم من الجزء. وقيل في الأعداد إن الكل أكبر من الجزء. وأيضاً قيل في المقادير إن كل مقدار إما مساو لمقدار آخر أو أزيد أو انقص؛ وفي الأعداد كل عدد مساوٍ لعدد آخر وإما أزيد وإما انقص. ومن هذا الجنس يقال تارة : إن المقادير المساوية لمقدار متساوية؛ وتارة الأعداد المساوية لعدد واحد متساوية؛ وما أشبه ذلك. وجميع هذه على نحو ما أنكره هذا المتأول. وبالجملة فليس إنما يستعمل في العلوم الجزئية من المبادئ مبادئ خاصة المحمولات بموضوعاتها، بل والخواص بأجناسها أيضاً التي تشترك فيها. ولكن ينقا من العموم إلى الخصوص بما قد أشير إليه. وهذا يمكن أن يعمل بهذه المقدمة فيقال : إن الأشكال أو المقادير ذوات الأشكال التي هي اصغر من أشكال بأعيانها وأكبر من أشكال بأعيانها فهي متساوية، فيصير حينئذ مبدأ ملائما. فإن لم يصر هذا مبدأ فلا واحد من تلك المبادئ الأخر.(1/450)
ولكن الوجه الذي عندي في هذا أن هذه إنما تنفع إذا أخذت هكذا : إن الدائرة واسطة بين أشكال بلا نهاية في القوة داخلة فيها، وأشكال بلا نهاية في القوة محيطة بها. أعني بالواسطة ما هو أكبر من كل هذه وأصغر من كل تلك بأعيانها. وهاهنا شكل مستقيم الخطوط لا محالة هو أكبر من جميع الداخلة وأصغر من جميع الخارجة. فالدائرة وذلك الشكل المستقيم الخطوط متساويان. فإن فرضت الأشكال أشكالا بأعيانها ولم تفرض غير متناهية، لم يجب أن يكون المتوسطان بينهما متساويين، إلا أن توضع تلك الأشكال على ترتيب متصل، وهذا لا يمكن في الأشكال، لأن كل شكل نفرضه أصغر من الدائرة فهناك شكل آخر أيضاً أكبر منه وأصغر من الدائرة. بل يحتاج أن تقع هذه الداخلة والخارجة أشكالا بالقوة بغير نهاية، فيكون حينئذ قد أخلّ من وجهين : أحدهما في البرهان والآخر في المطلوب. أما في البرهان فلأنه تكلم علة أمور بالقوة وجعل منها المقدمات : وليس ما بالقوة من العوارض الذاتية بالمقادير والأشكال، ولا من العوارض الذاتية بجنس الكم، بل أعم من جميع ذلك لنه من العوارض الذاتية الموجود. وإنما ينقل من العلم الأعلى الناظر في الموجود المطلق بما هو موجود، وما يعرض له بذاته من جهة ما هو موجود، إلى العلوم الناظرة في أشياء تحت الموجود، إذا كانت تلك الأشياء من شأنها أن تكون بالقوة وبالفعل كالأمور القابلة للتغير والحركة. وأما الصورة الهندسية فإنما تؤخذ مجردة عن المواد، ومشارا إليها في الوهم والعقل بالفعل على أنها أمور موجودة.
وأما الخلل في المطلوب فهو شبيه هذا بعينه : لأن ذلك المضلع المتوسط ليس مشارا إليه بالفعل. إنما نشير إليه على انه موجود بالقوة بين أمور ما بالقوة مجهولة. والبيان الذي يبين أن مضلعا مثل هذا ليس يكون أيضاً هندسيا : بل إما جدليا وإما منطقيا - أي من العوارض الغريبة. وأنا أظن أنه بهذا السبب صار هذا القياس ليس برهانيا ولا ذاتيا للهندسة بل خارجيا.
وقيل في التعليم الأول يجب أن يكون الحد الأوسط من العوارض الذاتية والمحمولات الذاتية حتى يكون البرهان مناسبا ويكون إنما قام البرهان على الشيء من جهة ما هو هو. مثلا لو أردنا أن نبين أن ثلاث زوايا مساوية لقائمتين، فيجب أن نأخذ الحد الأوسط من الأمور الذاتية للمثلث أو لجنس المثلث : وبالجملة للموضوع الذي المثلث من عوارضه الذاتية. فإن جاء حد أوسط من جنس آخر، فيجب أن يكون من جنس أعلى وينقل عنه إلى ما تحته كما بينا من حال الهندسة والمناظر، والحساب والموسيقى. ويكون السبب في ذلك هو المشاركة في الموضوع بوجه ما على ما قيل من قبل. فيكون حينئذ العلم الأسفل يعطى برهان إن، والعلم الأعلى يعطى برهان لم. وذلك لأن المقدمات تكون في العلم الأسفل مأخوذة مسلمة على سبيل موضوعات أو مصادرات غير معلومة العلل، ومعلوم أن نتائجها لا تكون على الحقيقة يقينية ما لم يحصل اليقين بمقدماتها. وإنما يحصل اليقين بمقدماتها في العلم الأعلى، إذ كان الوسط إنما هو بالذات في العلم الأعلى. فهناك نظفر بالعلل والأسباب الذاتية. فإن نقل أحد ذلك البرهان من العلم الأعلى إلى الأسفل، فقد أدخل في العلم الأسفل ما ليس منه.
وقد ظن قوم أن المراد في ذلك أن العلم الأعلى يعطى اللم في المسألة بعينها التي يعطى العلم الأسفل فيها الإن، وهذا غير سديد : لأنه على هذا التأويل يجب أن تجعل المسألة فيهما واحدة بعينها، فيكون العلم الأسفل مشاركا للعلم الأعلى في المسائل، ويكون لا محالة مشاركا في الأمور الذاتية للموضوع في المسألة، فيكون مشاركا في الأوسط، فيكون صالحا لأن يبرهن في كل واحد منهما بما يبرهن به في الآخر، ولا يفترقان بأن هذا يعطي الإن وذلك يعطي اللم بل يجب أن يعلم أن الأعلى إنما يعطي اللم على الوجه الذي قلناه، أو على وجه بيناه حيث تكلمنا في حال الموسيقى والمناظر، لا على الوجه الذي قيل. وبالحقيقة فإن الوجه الذي قيل في الموسيقى والمناظر فهو رخصة تدعو إليه الضرورة وقصور الإنسان عن إعداد ما يحتاج إليه قبل وقته لنفسه فضلا عن غيره ممن ينظر نظرا في أمر يحتاج إلى عدة.(1/451)
ولولا ذلك لكان بالحرى أن يبرهن على أحوال الخطوط التي تؤخذ في المناظر، وأحوال الأعداد التي تؤخذ في الموسيقى، لا في علمي المناظر والموسيقى، بل في علمي الهندسة والحساب )104 - أ(، وبعد نتائجها لأصحاب المناظر والموسيقى. ولكن لما كانت المُنّة الإنسانية قاصرة عن معرفة جميع المقدمات التي تتفق إليها في المناظر والموسيقى حاجة ما - إذ كان ذلك كثيرا جدا - لم يمكن إعدادها إعدادا مستوفى، بل أعد من ذلك ما تفتقر إليه الأصول دون الفروع، أو تفتقر إليه الأصول المشعور بها دون أصول يشعر بها بعد.
فلما أوقع الإمعان في الاستنباط حاجة إلى مقدمات أخرى كُسل عن أن تفرد عن العلمين وتلحق بالعلم الذي هو منه. ولنرجع إلى ذكر اختلاف معونة العلمين على اللم والإن فنقول: أما العلمان المختلفان في العلو والدنو ففي الأكثر إنما يتم البرهان المعطى للم من العلم الأعلى للأسفل بأن يعطى الأعلى الأسفل مقدمات تؤخذ مبادئ البرهان. ومن هذا القبيل أيضاً أن يكون في أحدهما برهان حده الأوسط علة ما، وفي الثاني برهان آخر حده الأوسط علة ما أخرى قبل تلك العلة - وهو على العلة. فيكون الأسفل لم يعط العلة بالتمام.
وكثيرا ما تكون أمثال هذه المسائل مرددة في العلمين. والسبب في ترديدها قصور مُنن الناس عن المبالغة في التمييز. مثاله أن العلم الطبيعي والفلسفة الأولى يشتركان في النظر في تشابه الحركة الأولى وثباتها. ولكن العلم الطبيعي يعطي العلة التي هي الطبيعة التي لا ضد لها، والمادة البسيطة التي لا اختلاف فيها، فيمنع أن يعرض فساد أو تغير. والفلسفة الأولى تعطي العلة الفاعلة المفارقة التي هي المحض والعقل المحض، والعلة الغائية الأولى التي هي الوجود المحض. والبرهان في العلمين مختلفان، لكن العلم الطبيعي مع انه أعطى برهانا ما فإنه لم يعط البرهان اللمي مطلقا، بل أعطى أن ذلك متشابه ما دامت المادة موجودة وتلك الطبيعة موجودة. والعلم الأعلى أعطى البرهان اللمي الدائم مطلقا، واعطى علة دوام المادة والطبيعة التي لا ضد لها فيدوم مقتضاها.
وكذلك العلم الطبيعي يعطى العلة في كون الأرض غير كرية بالتحقيق، ووقوع الماء في قصور منها حتى ينكشف أديمها في بعض النواحي. فيكون سبب ذلك في العلم الطبيعي أن الماء بالطبع سيال إلى القعور والأرض يابسة لا تتشكل بذاتها؛ بل تحفظ الأشكال الاتفاقية. فإذا اتفق لأجزائها كون وفساد بق مكان الفاسد قعرا ووهدة، ولم يجتمع لأجله الباقي على الشكل الكرى، وبقى مكان الكائن ربوة. وكذلك الحال عند اتفاق سائر الأسباب التي توجب نقل جزء منها عن موضعه. وأما الماء والهواء وغير ذلك فكل يجتمع على شكله إذا زيد عليه أو نقص منه. وذلك الشكل هو الشكل البسيط الكرى الذي لا يجوز غيره أن يكون مقتضى طبيعة البسيط.
وأما في الفلسفة الأولى فتكون العلة لهذا مثلا من جهة الغاية : وهو أن تستقر الكائنات على مواضعها الطبيعية. والحال في البرهانين ما قلناه.
فهذا ما هو على الأكثر من حال معونة الأعلى في اللم. وأما في الأقل فربما أخذ العلم الأعلى مبادئ اللم من العلم السفل بعد ألا تكون تلك المبادئ متوقفة في الصحة على صحة مبادئ إنما تُبين في العلم الأعلى، أو تكون تبين بمبادئ من العلم الأعلى، لكن إنما تبين بها ثانيا من العلم الأعلى مسائل ليست مبادئ لها وللجزء فيه من هذا العلم الأسفل. بل كما أن بعض مسائل علم واحد تكون مبادئ بالقياس إلى بعض مسائل منه بواسطة مسائل منه هي أقرب إلى المبادئ منها؛ فلا يبعد أن تكون مسائل علم ما تتبين بمبادئ من علم آخر، ثم تصير تلك المسائل مبادئ لمسائل أخرى من ذلك العلم الآخر بلا دور. فيكون هذا حال مسائل تتبين في علم أسفل بمبادئ من علم أعلى؛ ثم تبين بها مسائل ما من علم أعلى. وإما أن تكون هذه المبادئ المأخوذة من العلم الأسفل لا تتبين بمبادئ من العلم الأعلى بوجه، وذلك مثل أن تبيّن بالمبادئ البينة بأنفسها أو الحس أو التجربة.(1/452)
وإذا كانت هذه مبادئ مسائل من العلم الجزئي هي مبادئ لمسائل من العلم الأعلى، صارت بوساطة العلم الجزئي مبدأ ما لمسائل من العلم الأعلى. لكن المبنى على الحس والتجربة لا يعطى اللم في علم أسفل ولا علم فوق، بل إنما يمكن أن يعطي اللم من هذه في العلم الأعلى ما كان مبنيا على المبادئ البينة بنفسها.
واعلم أن الأمور الجزئية الحسية والتجريبية هي اقرب إلى العلوم الجزئية منها إلى العلوم الكلية، كما أن الأمور العامة العقلية أولى بأن تكون المبادئ المقتضبة منها مبادئ العلوم الكلية؛ فإن ما كان أشد عموما فهو أولى بأن يكون مبدأ للعلم الذي هو أشد عموما.
وأما العلوم التي ليس بعضها تحت بعض ولا تحت جزء بعض، فكثيرا ما يكون أحد العلمين معطيا في مسألة واحدة بعينها برهان الإن؛ والآخر معطيا فيه برهان اللم. مثل أن العلم الرياضي يعطي في كرية الماء برهان إن بالدليل؛ والعلم الطبيعي يعطي برهان اللم. وأيضاً كذلك القول في كرية الأرض ووقوعها في الوسط؛ وكرية الأجسام السماوية؛ فإن الرياضي يعطي برهان الإن والطبيعي يعطي برهان اللم في جميع ذلك.
وكثيرا ما يتفق أن يكون أحد هذين العلمين من هذه العلوم التي ليس بعضها تحت بعض يعطي الآخر مبدأ لم مثل العدد والهندسة في مسائل المقالة العاشرة.
ولا يتفق في العلوم الجزئية أن يعطي علمان معا برهان اللم لمسألة واحدة. ونحن نخبر من بعد عن العلة في ذلك. فإنا سنوضح بعد أن العلل كم هي، وأنها كيف تكون حدودا وسطى. وإذا كانت حدودا وسطى كيف تكون حتى تكون معطية البرهان التام.
وأما هاهنا فنقول على الجملة إن الأسباب أربعة : مبدأ حركة - أي الفاعل وما في جملته - والموضوع وما في جملته، والصورة وما يجري مجراها، والغاية وهي التمام الذي لأجله يكون ما يكون، وإليه نسوق مبدأ الحركة وما يجري مجراه.
وقد يتفق أن تجتمع هذه الأسباب كلها لشيء واحد بالذات. وربما كان الشيء ليس له من الأسباب إلا الفاعل والغاية فقط كالعقول المفارقة. وربما كان للشيء جميع هذه الأسباب. وإذا لم يكن للشيء مادة وحركة فإن الفاعل يقال له إنه فاعل، فبنحو آخر يقال : وتكون نسبته إليه نسبة داخلة في صورته. وكذلك غايته.
فكل ما هو مجرد عن المادة فإنما يمكن أن يعطى من الأسباب ما هو صورته فقط. وتسمى العلوم المختصة بمثله علوما انتزاعية. فمن العلوم الانتزاعية ما انتزاعيته بالذات كالعلوم الناظرة في الموجودات التي صورها مفارقة للمواد على الإطلاق. ومنها ما هي انتزاعيته بالحد كالعلوم الرياضية. فإن موضوعاتها أمور غير مفارقة الذات للموضوعات؛ ولكن مفارقة الحدود لها؛ وذلك لن موضوعاتها أمور غير معينة بالنوع : فغن المثلث كما يكون في خشبة كذلك يكون في ذهب. فليس تقتضي طباعها موضوعا معينا، بل كيف اتفق. فليس شيء من الموضوعات التي توجد فيه داخلة في حدودها لهذا السبب.
وأما الصور الطبيعية فإن لكل واحدة منها مادة ملائمة لها بالنوع لا يمكن أن توجد تلك الصورة منها مفارقة لها، ولا في مادة أخرى. فطباع تلك الصورة مختصة بتلك المادة. فلذلك تدخل المواد في حدودها. والأمور الطبيعية هي التي تجتمع فيها بالذات هذه العلل كلها.
ثم من المعلوم أن ما كانت الحدود الوسطى في برهانه مأخوذة من علل صورية فقط، فلا يجوز أن يشترك في البرهان عليه علمان - إذا أريد بالبرهان برهان اللم. وأما إذا كانت له علل مختلفة، فلا يخلو إما أن يكون بعض الأسباب خارجة عن موضوع الصناعة مثل السبب الأول الفاعل للأمور الطبيعية على الإطلاق، والغاية القصوى، فإنها مفارقة للموجودات الطبيعية. أما السبب الفاعل فبالذات، وأما الغاية القصوى لها فمن وجه بالحد ومن وجه بالذات. وإما أن تكون كل تلك داخلة في موضوع الصناعة : أي إما كائنة أنواعا لها )104 - ب ( أو كائنة من عوارضه الذاتية مثل السبب الفاعلي والتمامي والمادي والصوري لموجودات ما طبيعية، دون العامة للكل مثل أسباب الإنسان أو أسباب نوع جنس آخر من الكائنات الطبيعية أو الطبيعيات التي ليس بكائنة، فإن أسبابها الظاهرة كلها طبيعية.(1/453)
ونشرح هذا فيما هو أظهر كالإنسان، فإن سببه الفاعل الظاهر إما إنسان أو نطفة أو قوة في نطفة وصورة فيها. وهذه الثلاثة إما نوع موضوع الصناعة وإما صورة وإما عرض ذاتي داخل في موضوع العلم الطبيعي الذي هو الجسم من جهة ما يتحرك ويسكن. وسببه المادي إما الأركان أو الأخلاط أو الأعضاء، وهو من أنواع الجسم الطبيعي. وسببه الصوري النفس، وهو، من حيث هو، صورة ما للجسم الطبيعي وكمال ما له، وسببه الغائي الكمالي الذي يخصه، وجود أكمل جوهر يمكن حصوله من مبادئ كائنة فاسدة حصولا متحدا من نفس وبدن، حتى يكون من شانه أن تبقى نفسه للسعادة. وهذا الكمال من عوارض الجسم الطبيعي التي لا يمكن أن توجد في غيره.
ويشبه أن يكون الفاعل والصورة والغاية في الأمور الطبيعية واحدا بالنوع، وأن تكون الغاية التي هي غير الصورة في الطبيعيات خارجة عن فعل الطبيعة، ومن عند مبدأ أعلى من الطبيعة وغاية له، مل أن فاعل الإنسان إنسانية ما، وصورته إنسانيته، وهي غاية الفاعل الطبيعي. وأما الكمال الآخر كالطحن الذي هو الغاية المقصودة في تعريض الأضراس للطحن، فهي مقصودة عند مبدأ أعلى من الطبيعة. وأما نفس التعريض فإنه غاية للفاعل الطبيعي ومقصود له. فكأن الغاية في الطبيعيات غايتان : غاية هي صورة - وهي نهاية حركة وتمام محرك طبيعي - مثل التعريض - وغاية بعد الصورة ليست الصورة المقصودة قصدا أوليا في حركة التكوين، وهي مثل الطحن. وهي غاية لفاعل أعلى من الطبيعة.
ونقول بقول مطلق إن المادة والصورة لا يجوز أن يكونا غريبين من جنس الصناعة؛ والفاعل والغاية ربما كانا غريبين. فإذا مهدنا هذه الأصول فنقول : إذا أمكن أن تكون بعض أسباب الشي خارجا عن موضوع صناعته وواقعا في صناعة أخرى، أمكن أن يكون على المسألة برهانان من علمين. وأما إذا كانت الأسباب متعلقة بالموضوع غير غريبة منه، لم يمكن في غير ذلك العلم إعطاء برهان اللم.
فقد اجتمع من جميع ما قلناه أنه لا سبل إلى إقامة البراهين إلا من مبادئ خاصة. وبهذا السبب نغلط فنظن في كثير من الأشياء أنا علمناه بالحقيقة إذا كانت المقدمات المأخوذة في قياساتها صادقة ولا نكون علمناه العلم الحقيقة إذا لم تكن مناسبة.
الفصل السابع
في اختلاف العلوم واشتراكها بقول مفصل
نقول إن اختلاف العلوم الحقيقية هو بسبب موضوعاتها. وذلك السبب إما اختلاف الموضوعات وإما اختلاف موضوع. ولنفصل أقسام الوجه الأول ونقول : إن اختلاف موضوعات العلوم إما على الإطلاق من غير مداخلة - مثل اختلاف موضوعي الحساب والهندسة، فليس شيء من موضوع هذا في موضوع ذلك - وغما مع مداخلة مثل أن يكون أحدهما يشارك الآخر في شيء. وهذا على وجهين : إما أن يكون أحد الموضوعين أعم كالجنس، والآخر أخص كالنوع أو الأعراض الخاصة بالنوع. وإما أن يكون في الموضوعين شيء مشترك وشيء متباين مثل علم الطب وعلم الخلاق : فإنهما يشتركان في قوى نفس الإنسان من جهة ما الإنسان حيوان، ثم يختص الطب بالنظر في جسد الإنسان وأعضائه، ويختص علم الخلاق بالنظر في النفس الناطقة وقواها العملية.
وأما القسم الأول من هذين القسمين فإما أن يكون العام فيه عمومه للخاص عموم الجنس أو عموم اللوازم مثل عموم الواحد والموجود. ولنؤخر الآن هذا القسم. وأما الذي عمومه فيه عموم الجنس للنوع فهو كالنظر في المخروطات على انها من المجسمات، والمجسمات على أنها من المقادير. وأما الذي عمومه كالجنس لعارض النوع فمثل موضوع الطبيعي وموضوع الموسيقى : فإن موضوع الموسيقى عارض نوع من موضوع العلم الطبيعي.
وهذا القسم نقسمه على قسمين : قسم يجعل الأخص من جملة الأعم وفي علمه حتى يكون النظر فيه جزءا من النظر في الأعم. وقسم يفرد الأخص من الأعم ولا يجعل النظر فيه جزءا من النظر في الأعم. ولكن يجعله علما تحته.(1/454)
والسبب في هذا الانقسام هو أن الأخص إما أن يكون إنما صار أخص بسبب فصول ذاتية ثم طلبت عوارضه الذاتية من جهة ما صار نوعا، فلا يختص النظر بشيء منه دون شيء وحال دون حال، بل يتناول جميعه مطلقا : وذلك مثل المخروطات للهندسة. فيكون العلم بالموضوع الأخص جزءا من العلم الذي ينظر في الموضوع الأعم. وإما أن يكون نظره في الأخص، وإن كان قد صار أخ بفصل مقوم، فليس من جهة ذلك الفصل المقوم وما يعرض له من جهة نوعيته مطلقا، بل من جهة بعض عوارض تتبع ذلك الفصل ولواحقه، مثل نظر الطبيب في بدن الإنسان : فإن ذلك من جهة ما يصح ويمرض فقط. وهذا يفرد العلم بالأخص عن العلم بالعم ويجعله علما تحته. كما أن الطب ليس جزءا من العلم الطبيعي. بل علم موضوع تحته.
وإما أن يكون الشيء الذي صار به أخص ليس يجعله نوعا بل يفرده صنفا، ويعارض فينظر فيه من جهة ما صار به أخص وصنفا، ليبحث أي عوارض ذاتية تلزمه. وهذا أيضاً يفرد العلم بالأخص عن العلم بالأعم ويجعله علما تحته.
وبالجملة فغن أقسام الموضوعات المخصصة التي العلم بها ليس جزءا من العلم بالموضوع الأعم، بل هو علم تحت ذلك العلم - أربعة : أحدهما أن يكون الشيء الذي صار به أخص عرضنا من الأعراض الذاتية معنا، فينظر في اللواحق التي تلحق الموضوع المخصص من جهة ما اقترن به ذلك العارض فقط. كالطب الذي هو تحت العلم الطبيعي : فإن الطب ينظر في بدن الإنسان وجز من العلم الطبيعي ينظر أيضاً في بدن الإنسان. لكن الجزء من العلم الطبيعي الذي ينظر في بدن الإنسان ينظر فيه على الإطلاق ويبحث عن عوارضه الذاتية على الإطلاق، التي تعرض له حيث هو إنسان، لا من حيث شرط يقرن به. وأما الطب فينظر فيه من جهة ما يصح ويمرض فقط. ويبحث عن عوارضه التي له من هذه الجهة.
والقسم الثاني أن يكون الشيء الذي به صار أخص من الأعم عارضا غريبا ليس ذاتيا، ولكنه مع هيئته في ذات الموضوع، لا نسبة مجردة. وقد أخذ الموضوع مع ذلك العارض الغريب شيئا واحدا، ونظر في العوارض الذاتية التي تعرض له من جهة اقتران ذلك الغريب به، مثل النظر في الأُكر المتحركة تحت النظر في المجسمات أو الهندسة.
والقسم الثالث أن يكون الشيء الذي صار أخص من الأعم عارضا غريبا وليس هيئة في ذاته ولكن نسبة مجردة، وقد أخذ مع تلك النسبة شيئا واحدا ونظر في العوارض الذاتية التي تعرض له من جهة اقتران تلك النسبة به مثل النظر في المناظر فإنه يأخذ الخطوط مقترنة بالبصر فيضع ذلك موضوعا وينظر في لواحقها الذاتية. وهي لذلك ليست من الهندسة، بل تحت الهندسة.
وهذه الأقسام الثلاثة تشترك في أن الشيء المقرون به العارض الموصوف هو من جملة طبيعة الموضوع للعلم الأعلى من العلمين فيحمل موضوع الأعلى عليه.
والقسم الرابع ألا يكون الأخص عليه الأعم، بل هو عارض لشيء من أنواعه كالغنم إذا قيست إلى موضوع العلم الطبيعي : فإنها من جملة عوارض تعرض لبعض أنواع موضوع العلم الطبيعي. ومع ذلك فقد أخذت النغم في علم الموسيقى من حيث قد اقترن بها أمر غريب منها ومن جنسها - وهو العدد - فتطلب لواحقها من جهة ما اقترن ذلك الغريب بها، لا من جهة ذاتها. وذلك كالاتفاق والاختلاف المطلوب في النغم. فحينئذ يجب أن يوضع لا تحت العلم الذي في جملة موضوعه بل تحت العلم منه ما اقترن به. وذلك مثل وضعنا الموسيقى تحت علم الحساب. وإنما قلنا " لا من جهة ذاتها " لأن النظر في النغمة من جهة ذاتها نظر في عوارض موضوع العلم الأعم أو عوارض عوارض أنواعه. وذلك جزء من اعلم الطبيعي لا علم تحته.
والفرق بين هذا القسم والقسم الذي قبله - أعني القسم الذي جعلنا مثاله الأكر المتحركة أن ذلك العلم ليس موضوعا تحت العلم الناظر في العارض المقرون به، بل تحت العلم الذي ينظر في العام لموضوعه : إذ علم الأكر المتحركة ليس تحت الطبيعيات، بل تحت الهندسة. وأما هذا فهو موضوع تحت العلم الناظر في العارض المقرون به : لأن الموسيقى ليس تحت الطبيعي بل تحت الحساب.(1/455)
وأما الذي عمومه عموم الموجود والواحد فلا يجوز أن يكون العلم بالأشياء التي تحته جزءا من علمه : لأنها ليست ذاتية له على أحد وجهي الذاتي. فلا العام يؤخذ حد الخاص ولا بالعكس؛ بل يجب أن تكون العلوم الجزئية ليست أجزاء منه. ولأن الموجود والواحد عامان لجميع الموضوعات، فيجب أن تكون سائر العلوم تحت العلم الناظر فيهما. ولأنه لا موضوع أعم منهما فلا يجوز أن يكون العلم الناظر فيهما تحت علم آخر. ولأن ما ليس مبدأ لوجود بعض الموجودات دون بعض، بل هو مبدأ لجميع الموجود المعلول )102 ب (، فلا يجوز أن يكون أن يكون النظر فيه في علم من العلوم الجزئية، ولا يجوز أن يكون بنفسه موضوعا لعلم جزئي، لأنه يقتضي نسبة إلى كل موجود. ولا هو موضوع العلم الكلى العام، لأنه ليس أمرا كليا عاما. فيجب أن يكون العلم به جزءا من هذا العلم.
ولأنا قد وضعنا أن من مبادئ العلوم ما ليس بينا بنفسه، فيجب أن يبين في عم آخر إما جزئي مثله أو أعم منه فننتهي لا محالة إلى أعم العلوم. فيجيب أن تكون مبادئ سائر العلوم تصح ف هذا العلم. فلذلك يكون كأن جميع العلوم تبرهن على قضايا شرطية متصلة : مثلا إنه إن كانت الدائرة موجودة فالمثلث الفلاني كذا، أو المثلث الفلاني موجود. فإذا صير إلى الفلسفة الأولى يبين وجود المقدم فيبرهن أن المبدأ كالدائرة مثلا موجود. فحينئذ يتم برهان أن ما يتلوه موجود. فكأن ليس علم من الجزئية لم يبرهن على غير شرطي.
والصناعات المشتركة في موضوع هذا العلم ثلاثة : الفلسفة الأولى والجدل والسوفسطائية. والفلسفة الأولى تفارق الجدل والسوفسطائية في الموضوع وفي مبدأ النظر، وفي غاية النظر : أما في الموضوع فلأن الفلسفة الأولى إنما تنظر في العوارض الذاتية للموجود والواحد ومبادئهما ولا تنظر في العوارض الذاتية لموضوعات علم علم من العلوم الجزئية. والجدل والسوفسطائية ينظران في عوارض كل موضوع - كان ذاتيا أو غير ذاتي - ولا يقتصر ولا واحد منهما على عوارض الواحد والموجود.
فالفلسفة الأولى أعم من العلوم الجزئية لعموم موضوعها. وهما أعم نظرا من العلوم الجزئية لنهما يتكلمان علة كل موضوع كلاما مستقيما كان أو معرجا، لكل بحسب صناعته.
وقد تفارقهما من جهة المبدأ : لأن الفلسفة الأولى إنما تأخذ مبادئها من المقدمات البرهانية اليقينية. وأما الجدل فمبدؤه من المقدمات الذائعة المشهورة في الحقيقة. وأما السوفسطائية فمبدؤه من المقدمات المشبهة بالذائعة أو اليقينية من غير أن تكون كذلك في الحقيقة.
وقد تفارقهما من جهة : لأن الغاية في الفلسفة الأولى إصابة الحق اليقين بحسب مقدور الإنسان. وغاية الجدل الارتياض في الإثبات والنفي المشهور تدرجا إلى البرهان ونفعا للمدينة. وربما كانت غايتها الغلبة بالعدل. وذلك العدل ربما كان بحسب المعاملة وربما كان بحسب النفع، وأما الذي بحسب المعاملة فإن يكون الإلزام واجبا مما يتسلم، وإن لم يكن اللازم حقا ولا صوابا. وأما الذي بحسب النفع فربما كان بالحق وربما كان بالصواب المحمود.
وغاية السوفسطائية الترائي بالحكمة والقهر بالباطل.(1/456)
واعلم أن اختلاف العلوم في موضوع واحد يكون علة وجهين : فإنه إما أن يكون أحد العلمين ينظر في الموضوع على الإطلاق والآخر في الموضوع من جهة ما مل ما أن " الإنسان " قد ينظر فيه جزء من العلم الطبيعي على الإطلاق وقد ينظر فيه الطب - وهو علم تحت العلم الطبيعي ولكن لا على الإطلاق، بل إنما ينظر فيه من جهة أنه يصح ويمرض.وإما أن يكون كل واحد من العلمين ينظر فيه من جهة دون الجهة التي ينظر الآخر فيها، مثل أن جسم العالم أو جرم الفلك ينظر فيه المنجم والطبيعي جميعا. ولكن جسم الكل هو موضوع للعلم الطبيعي بشرط " وذلك الشرط هو أن له مبدأ حركة وسكون بالذات. وينظر فيه المنجم بشرط : وذلك الشرط أن له كما وأنهما وان اشتركا في البحث عن كرية فلك الجسم. فهذا يجعل نظره من جهة ما هو كم وله أحوال تلحق الكم. وذلك يجعل نظره من جهة ما هو ذو طبيعة بسيطة هي مبدأ حركته وسكونه علة هيئته. ولا يجوز أن تكون هيئته التي يسكن عليها السكون المقابل للفساد والاستحالة هيئة مختلفة في أجزائه، فتكون في بعه زاوية ولا تكون في بعضه زاوية : لأن القوة الواحدة في مادة واحدة تفعل صورة متشابهة. وأما المهندس فيقول إن الفلك كرى لأن مناظره كذا والخطوط الخارجة إليه توجب كذا. فيكون الطبيعي إنما ينظر من جهة القوى التي فيه. والمهندس من جهة الكم الذي له. فيتفق في بعض المسائل أن يتفقا لأن الموضوع واحد. وفي الأكثر يختلفان.
ونقول من رأس إن العلوم المشتركة إما أن تشترك في المبادئ وإما أن تشترك في الموضوعات وإما في المسائل. والمشتركة في المبادئ فلسنا نعني بها المشتركة في المبادئ العامة لكل علم، بل المشتركة في المبادئ التي تعم علوما ما مثل العلوم الرياضية المشتركة في ان الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.
وتلك الشركة إما أن تكون على مرتبة واحدة كالهندسة والعدد في المبدأ الذي ذكرناه. وإما أن يكون المبدأ للواحد منهما أولا وللثاني بعده، مثل أن الهندسة وعلم المناظر، بل الحساب وعلم الموسيقى، يشتركان في هذا المبدأ. لكن الهندسة أعم موضوعا من علم المناظر. فلذلك يكون لها هذا المبدأ أولا. وبعدها للمناظر. وكذلك حال الحساب من الموسيقى. وإما أن يكون ما هو مبدأ في علم مسألة في علم آخر وهذا على وجهين : إما أن يكون العلمان مختلفي الموضوعين بالعموم والخصوص فيبين شيء في علم أعلى ويؤخذ مبدأ في علم أسفل، وهذا يكون مبدأ حقيقيا. أو يبين شيء في علم أسفل ويؤخذ مبدأ للعلم الأعلى، وهذا يكون مبدأ بالقياس إلينا. وإما أن يكون العلمان غير مختلفين في العموم والخصوص، بل هما مثل الحساب والهندسة، فتجعل مسائل أحدهما مبادئ لمسائل الآخر : فإن كثيرا من مبادئ المقالة العاشرة من " كتاب الاسطقسات " عددية قد تبرهن عليها قبل في المقالات العددية. وهذا لا يمكن إذا لم يكن بين العلمين شركة في موضوع أو في جنس موضوع.
وأما الشركة في المسائل فهي أن يكون المطلوب فيهما جميعا محمولا لموضوع واحد، وإلا فلا شركة. وهذا أيضاً لا يمكن أن يكون إلا مع اشتراك العلمين في الموضوع.
فإذن الشركة الأولية الأصلية التي للعلوم هي على موجب القسم الثالث، وهو الشركة في الموضوع على وجه من الوجوه المذكورة. وهي ثلاثة : إما أن يكون أحد الموضوعين أعم والآخر أخص كالطب والعلم الطبيعي؛ والهندسة والمخروطات، وسائر أشبه ذلك. وإما أن يكون لكل واحد من موضوعي علمين شيء خاص وشيء يشارك فيه الآخر كالطب والأخلاق. وإما أن يكون ذات الموضوع فيهما واحدا، ولكن أخذ باعتبارين مختلفين فصار باعتبار موضوعا لهذا وباعتبار موضوعا لذلك. كما أن جسم السماء والعالم موضوع لعلم الهيئة وللعلم الطبيعي.
وإذا تكلمنا في مشاركة العلوم في الموضوعات والمبادي والمسائل، فيجب أن نتكلم في نقل البرهان.
الفصل الثامن
في نقل البرهان من علم إلى علم
وتناوله للجزئيات تحت الكليات وكذلك تناول الحد(1/457)
نقل البرهان يقال على وجهين : فيقال أحدهما على أن يكون شيء مأخوذا مقدمة في علم ويكون برهانه في علم آخر، فيتسلم في هذا العلم وينقل برهانه إلى ذلك العلم، أي يحال به على العلم. ويقال على وجه آخر وهو أي يكون شيء مأخوذا في علم على انه مطلوب ثم يبرهن عليه ببرهان حده الوسط من علم آخر. فتكون أجزاء القياس - وهي الحدود - صالحة للوقوع في العلمين، كما يبرهن على زوايا مخروط البصر في علم المناظر بتقديرات هندسية على جهة لو جعلت معها تلك الزاوية هندسية محضة لكان البرهان عليها ذلك. وكذلك البراهين التي تقوم على الأعداد التي في علم التأليف وإن كان الداعي إلى هذا لا شيء من نفس الأمور، بل ضرورة ما على ما سنبينه بعد.
ونحن نعني هاهنا بنقل البرهان ما كان على سبيل القسم الثاني : وذلك لا يمكن إلا أن يكون أحد العلمين تحت الآخر. وبالجملة يجب أن يشتركا في الموضوع حتى يشتركان في آثاره، إما على الإطلاق، وإما بوجهٍ ما؛ وهذا الوجه هو أن أحدهما تحت الآخر. فحينئذ يجوز أن ينقل البرهان من العام إلى الخاص؛ فيكون العام يعطى العلة للخاص على ما سنوضحه بعد.
وأما إذا اشتركا في الموضوع على الوجوه الأخرى فيمكن أن يتفقا في القياس : فإنه إذا كان الحد الوسط جنسا للأصغر أو فصلا مقوما أو شيئا من هذه المقومات، والكبر عارضا لذلك الجنس أو ذلك المقوم - )103 أ( وهو المأخذ الأول من مآخذ البرهانيات - أو كان )103 أ( الأوسط عارضا ذاتيا للأصغر؛ والأكبر عارضا ذاتيا آخر أو جنس عارض أو فصله أو شيئا مقوما له - وهو المأخذ الثاني من البرهانيات - ليس غيرهما على ما أوضحنا - كان نحو النظر في العلمين واحدا. وإن م يكن هكذا لم يكن القياس برهانيا في كليهما جميعا : بل عساه أن يكون برهانيا في أحدهما غير برهاني في الآخر؛ أو يكون في كليهما غير برهاني : إذ بينا أن البرهان لا يخلو عن أحد هذين المأخذين، وأشبعنا القول فيه.
ثم من المحال أن يتفق في أحد المأخذين علمان متباينا الموضوع أو متباينا نحو النظر في الموضوع. ولهذا السبب ليس للمهندس أن يبين هل الأضداد بها علم واحد أولا : فإن الأضداد ليست من جملة موضوعات علمه ولا من العوارض الذاتية له أو لجنسه.
وإذا كان الأمر على ما حققناه فيجب أن نعلم أنه إنما ينقل البرهان من علم أعلى إلى علم تحته كالبراهين الهندسية تستعمل في المناظر، والعددية تستعمل في التأليف.
ويجب ألا يتفق بحثا علمين متباينين في الموضوعات والأعراض؛ وألا يكون شيء من العلوم ينظر في الأعراض الغريبة ولا في الأعراض التي تعرض للشيء لا بما هو هو مثل الحسن والقبيح إذا استعملا في الشكل والخط؛ والمقابلة إذا روعيت بين المستدير والمستقيم : فإن أمثال هذه وإن كانت تؤخذ بوجه ما في موضوعات الهندسة، فليست تعرض لها بما هي هي، بل هي عوارض خارجية قد تعرض لأشياء غير الجنس الذي يختص بموضوعات الهندسة.
هذا : وقد قيل في التعليم الأول : لما كان يجب أن تكون مقدمات البرهان كلية حتى تكون يقينية لا تتغير تغير الأمور الشخصية، ووجب أن تكون نتائجها كذلك كلية ودائمة، وجب ألا يكون برهان على الأشياء الجزئية الفاسدة؛ بل على أحوالها قياس ما يدل على أن الأمر هكذا فقط : لأنه لا يمكن أن يدل على انه يجب ألا يتغير. ولا أيضاً بها علم إلا العلم الذي بطريق العرض. وأما اليقين فغنما يكون بالحكم الكلى الذي يعم الشخص وغيره، ثم عرض واتفق أن دخل هذا الشخص تحت ذلك الحكم دخولا لا تقتضيه نفس ذلك الحكم، ولا الشخص يقتضي دوامه تحته. فليس أحدهما يقتضي دوام النسبة مع الآخر. فإذن النسبة بينهما عارضة وقتا ما. والعلم إذن بالجزئي - أعني الشخص - علم بالعرض. ولذلك إذا زال عن الحس وقع فيه شك ولو في الذاتيات : مثل أنه هل زيد حيوان. فإنه إن مات أو فسد لم يكن حيوانا.(1/458)
وقيل في التعليم الأول أيضاً انه فرض على الفاسد برهان كانت إحدى المقدمتين غير كلية - وهي الصغرى - وفاسدة. أما فاسدة فلأن المقدمات لو كانت دائمة لكانت النتيجة دائمة، فكان دائما يوصف الشخص الفاسد بالأكبر ولو بعد فساده. وهذا محال. وأما غير كلية فإن الكلية تبقى وهذا الشخص قد فسد، فكيف يمكن أن يحكم عليه بالكلية؟ وإنما يبقى الكل محمولا أياما ووقتا ما. ومحال أن يكون برهانٌ وليست المقدمتان كليتين ودائمتين. فإذن لا برهان على الفاسد. ولا قياس أيضاً كليا، بل قياسات في وقت. وسنبين بعد أن كل حد فإما أن يكون مبدأ برهان أو تمام برهان أو نتيجته - أو يكون برهانا متغيرا متقلبا؛ وتكون الأجزاء التي للحد مشتركة بين البرهان والحد. وإذ لا برهان عليها فلا حد لها. ثم الفاسدات إنما بفارق كل واحد منها إما شيئا خارجا عن نوعه، أو شيئا في نوعه. فأما مفارقته لما هو خارج عن نوعه فيجوز أن يكون بالمحمولات الذاتية. ولكن لا يكون ذلك بما هو هذا الشخص، بل بما له طبيعة النوع. واما الأشياء التي في نوعه فإنما يفارقها بأمور غير ذاتية، بل بخواص له عرضية، ويمكن أن تكون مشاركاته في نوعه بالقوة بلانهاية ، وله مع كل واحد منها فصل آخر عرضي لا ذاتي، فإن الأشياء التي تحت النوع الواحد متفق كلها في الذاتيات.
فإذن لا يجوز أن يحد الشخص الفاسد والشخص المشارك في نوعه الأقرب حدا يكون له بما هو شخص أصلا، لأنه إن مُيَّز بقول كان ذلك القول من عرضيات لا من ذاتيات، ومن عرضيات غير محدودة. وأما القول الذي من الذاتيات الذي يفرقه لا من أشخاص نوعه، بل من سائر الأنواع، فليس له لأنه هذا الشخص، بل لأن له طبيعة النوع. فالحد للشخص الفاسد أيضا بالعرض مثل البرهان.
ولقائل أن يقول: إنكم قد أشترطتم في مقدمات البراهين أن تكون كلية لا محالة؛ ونحن قد علمنا أن من مقدمات البراهين ما هي جزئية - وذلك إذا كانت المطالب جزئية. والبرهان الجزئي وإن لم يكن في شرف البرهان الكلي فإنه برهان يعطي اليقين والعلة، كما أن البرهان السالب وإن لم يكن في شرف البرهان الموجب، فإنه برهان يعطي اليقين والعلة في كثير من الأوقات.فيكون الجواب.
إن " الكلى " يقال على وجهين : فيقال كلى لقياس الشخص المخصوص؛ ويراد به أن الحكم فيه على كلى، سواء كان على كله أو بعضه أو مهملا بعد أن يكون الموضوع كليا. ويقال كلى لقياس الجزئي والمهمل، ويراد به أن الحكم على موضوع كلى وعلى كله.
والمقدمة الجزئية غير الشخصية: فإن موضوعها كلى. والبعض أيضا الذي يختص بالحكم منها وإن لم يكن معينا فإنه في الأكثر طبيعة كلية: كقولنا بعض الحيوان ناطق.
فإذن الوجه الذي اشترطناه في هذا الموضوع تدخل فيه المقدمة الجزئية ولا تدخل الشخصية.
وقيل في التعليم الأول : ولأن الأشياء الواجبة الوقوع المتكررة بالعدد قد يبرهن عليها وتحد مثل كسوف القمر، فحري أن يشك شاك أنه كيف وقع لها مع فسادها برهان واحد.والجواب: أن كسوف القمر على الإطلاق نوع ما بذاته مقول على كسوفات قمرية جزئية فاسدة، وذلك النوع طبيعة معقولة كلية. فالبرهان والحد لتلك الطبيعة النوعية ذاتية ودائمة يقينية وكذلك الكسوف في وقت ما:فإنه وإن اتفق ألا يكون واحدا، فليس نفس تصوره كسوفا قمريا في وقت حاله وصفته كذا يمنع عن أن يقال على كثيرين حتى يكون في وقت ما بتلك الصفة كسوفات كذلك شمسية أو قمرية ؛ كما ليس تصور معنى الشمس والقمر يمنع أن يقال على كثيرين.
وعلى ما سلف لك منا شرحه، فإن إنما صار الكسوف الواقع في وقت كذا غير كثير، لا لأن معناه إذا تصور منع أن تقع فيه شركة، بل اتفق لفقدان أمور أخرى من خارج ولاستحالتها : إذ ليست الشمس إلا واحدة، والقمر إلا واحدا، والعالم إلا واحدا؛ وعرض للكسوف ما عرض للقمر نفسه على ما سلف منا الكلام فيه. وأما كسوف ما معين مشار إليه في وقت ما معين، فإنما يتناوله البرهان بالعرض كما يتناول سائر الفاسدات. وليس يقوم بالبرهان على كسوف ما من جهة ما هو كسوف ما، بل من جهة ما هو كسوف على الإطلاق يشاركه فيه كل كسوف عددي كان وتكرر؛ أو جوز الوهم وجوده معه.(1/459)
ولقائل أن يقول إن الحاجة إلى كون مقدمات البرهان كلية لا تتبين إلا ببيان أن الفاسد لا يبقى به يقين؛ فكيف صار القوم يثبتون أن الفاسد لا برهان عليه لن مقدمات البرهان كلية؟ فالجواب أن الغرض ليس ذلك، ولكن معنى القول هو أنه لما كان الحكم إذا اخذ مقولا على الموضوع وليس دائما في كل واحد منه، حتى لم يكن كليا بحسب الكلى في البرهان، أعرض الحكم للشك والانتقاض إذ كان يتغير في البعض من الأعداد، والمتغير لا يقين به إذا اخذ مطلقا. وكذلك حال الجزئي المتغير إذا كان الحكم مقولا على الموضوع وليس دائما في كل وقت له، فيعرض للشك والانتقاض إذ كان يتغير في البعض من الأزمنة، والمتغير لا يقين به : فكأنه يقول : السبب الذي أوقع في المور العامية حاجة إلى ان تكون مقدمات البراهين عليها كلية، وإلا منع اليقين، موجود بعينه في الحكم على الشخصيات، وذلك هو التغير وعدم الدوام، فيكون الكلى موردا للبينة على العلة، ل لأن يكون نفس مقدمة بيان.
الفصل التاسع
في تحقيق مناسبة المقدمات البرهانية
والجدلية لمطالبها، وكيف يكون اختلاف العلمين في إعطاء اللم والإنّ
قيل في التعليم الأول إنه يجب ألا يقتصر في إقامة )103 ب ( البرهان على أن تكون المقدمان صادقة، بل يجب أن تكون مع ذلك أولية غير ذات أوساط؛ ولا على أن تكون مع ذلك مقولة على الكل فقط، لكن يجب مع ذلك كله أن تكون مناسبة على ما أشرنا إليه مرارا كثيرة.
فيكاد أن يكون القياس الذي أورده بروسن على توسيع الدائرة مأخوذا من مقدمات صادقة بينة بنفسها، مقولة على الكل، إلا أن كلامه ليس ببرهان هندسي : لأن مقدماته غير مناسبة. فبيانه كما علمت بالعرض؛ والعرض في هذا التربيع أن يبين أن دائرة مساوية لشكل مستقيم الخطوط كيف كان عدد أضلاعه، فإنه يمكن أن يحل إلى مثلثات مثلا، ثم يمكن أن يوجد لكل مثلثة مربع مساو لها، ولجملتها أيضاً مربع واحد مساو، فيكون ذلك المربع مساويا للدائرة، فيكون ضلع ذلك المربع جذر الدائرة. فبين بروسن غرضه ذلك بان قال : إن الدائرة أكبر من كل شكل مستقيم الخطوط كثر الزوايا هو فيها، وأصغر من كل شكل مستقيم الخطوط كثير الزوايا هي فيه؛ فتكون مساوية لكل شكل مستقيم الخطوط كثير الزوايا هو أكبر من كل مستقيم خطوط يقع فيها، وأصغر من كل مستقيم خطوط يقع خارجا عنها. فقد وجد أيضاً شكل مستقيم الخطوط مساو للدائرة.
وقيل في التعليم الأول قول مجمل : وهو أن هذا الكلام بيان غير خاص بطريقة الهندسة، بل هو عام مشترك فيه ويوجد لأشياء أخرى ويطابقها، وليست تلك الأشياء متناسبة الجنس - أي مشتركة في الموضوع أو جنس الموضوع.
وقال بعضهم في بيان كون هذا القياس لا على الشروط البرهانية، إن السبب فيه أنه أخذ مقدمة غير خاصة بالمقادير، لأنه وضع في قوة كلامه " أن الأشكال التي هي أعظم من أشياء واحدة بعينها كالأشكال التي في الدائرة، وأصغر من أشياء واحدة بعينها كالأشياء المحيطة، هي أشياء متساوية " - أي كالدائرة - وذلك هو الشكل المستقيم الخطوط المذكور. قال : وهذه المقدمة غي خاصة بالأشكال، بل بالأعداد وبالأزمنة وغير ذلك. فلذلك صار البرهان غير مناسب.
وأظن أن هذه المقدمة المستعملة في هذا القياس، وإن كانت غير خاصة بالمقادير، فهي خاصة بجنس المقادير - أعني الكم. والمقدمات التي هي من هذا الجنس مستعملة في العلوم : مثل أن الكل أزيد من الجزء، وأن كل كم إما مساوٍ وإما أزيد وإما انقص. فإن هذين أولا للكم ثم للمقادير والعدد. وإذا أريد أن يجعلا خاصين بأحد الموضوعين قيل في المقادير إن الكل أعظم من الجزء. وقيل في الأعداد إن الكل أكبر من الجزء. وأيضاً قيل في المقادير إن كل مقدار إما مساو لمقدار آخر أو أزيد أو انقص؛ وفي الأعداد كل عدد مساوٍ لعدد آخر وإما أزيد وإما انقص. ومن هذا الجنس يقال تارة : إن المقادير المساوية لمقدار متساوية؛ وتارة الأعداد المساوية لعدد واحد متساوية؛ وما أشبه ذلك. وجميع هذه على نحو ما أنكره هذا المتأول. وبالجملة فليس إنما يستعمل في العلوم الجزئية من المبادئ مبادئ خاصة المحمولات بموضوعاتها، بل والخواص بأجناسها أيضاً التي تشترك فيها. ولكن ينقا من العموم إلى الخصوص بما قد أشير إليه. وهذا يمكن أن يعمل بهذه المقدمة فيقال :(1/460)
إن الأشكال أو المقادير ذوات الأشكال التي هي اصغر من أشكال بأعيانها وأكبر من أشكال بأعيانها فهي متساوية، فيصير حينئذ مبدأ ملائما. فإن لم يصر هذا مبدأ فلا واحد من تلك المبادئ الأخر.
ولكن الوجه الذي عندي في هذا أن هذه إنما تنفع إذا أخذت هكذا : إن الدائرة واسطة بين أشكال بلا نهاية في القوة داخلة فيها، وأشكال بلا نهاية في القوة محيطة بها. أعني بالواسطة ما هو أكبر من كل هذه وأصغر من كل تلك بأعيانها. وهاهنا شكل مستقيم الخطوط لا محالة هو أكبر من جميع الداخلة وأصغر من جميع الخارجة. فالدائرة وذلك الشكل المستقيم الخطوط متساويان. فإن فرضت الأشكال أشكالا بأعيانها ولم تفرض غير متناهية، لم يجب أن يكون المتوسطان بينهما متساويين، إلا أن توضع تلك الأشكال على ترتيب متصل، وهذا لا يمكن في الأشكال، لأن كل شكل نفرضه أصغر من الدائرة فهناك شكل آخر أيضاً أكبر منه وأصغر من الدائرة. بل يحتاج أن تقع هذه الداخلة والخارجة أشكالا بالقوة بغير نهاية، فيكون حينئذ قد أخلّ من وجهين : أحدهما في البرهان والآخر في المطلوب. أما في البرهان فلأنه تكلم علة أمور بالقوة وجعل منها المقدمات : وليس ما بالقوة من العوارض الذاتية بالمقادير والأشكال، ولا من العوارض الذاتية بجنس الكم، بل أعم من جميع ذلك لنه من العوارض الذاتية الموجود. وإنما ينقل من العلم الأعلى الناظر في الموجود المطلق بما هو موجود، وما يعرض له بذاته من جهة ما هو موجود، إلى العلوم الناظرة في أشياء تحت الموجود، إذا كانت تلك الأشياء من شأنها أن تكون بالقوة وبالفعل كالأمور القابلة للتغير والحركة. وأما الصورة الهندسية فإنما تؤخذ مجردة عن المواد، ومشارا إليها في الوهم والعقل بالفعل على أنها أمور موجودة.
وأما الخلل في المطلوب فهو شبيه هذا بعينه : لأن ذلك المضلع المتوسط ليس مشارا إليه بالفعل. إنما نشير إليه على انه موجود بالقوة بين أمور ما بالقوة مجهولة. والبيان الذي يبين أن مضلعا مثل هذا ليس يكون أيضاً هندسيا : بل إما جدليا وإما منطقيا - أي من العوارض الغريبة. وأنا أظن أنه بهذا السبب صار هذا القياس ليس برهانيا ولا ذاتيا للهندسة بل خارجيا.
وقيل في التعليم الأول يجب أن يكون الحد الأوسط من العوارض الذاتية والمحمولات الذاتية حتى يكون البرهان مناسبا ويكون إنما قام البرهان على الشيء من جهة ما هو هو. مثلا لو أردنا أن نبين أن ثلاث زوايا مساوية لقائمتين، فيجب أن نأخذ الحد الأوسط من الأمور الذاتية للمثلث أو لجنس المثلث : وبالجملة للموضوع الذي المثلث من عوارضه الذاتية. فإن جاء حد أوسط من جنس آخر، فيجب أن يكون من جنس أعلى وينقل عنه إلى ما تحته كما بينا من حال الهندسة والمناظر، والحساب والموسيقى. ويكون السبب في ذلك هو المشاركة في الموضوع بوجه ما على ما قيل من قبل. فيكون حينئذ العلم الأسفل يعطى برهان إن، والعلم الأعلى يعطى برهان لم. وذلك لأن المقدمات تكون في العلم الأسفل مأخوذة مسلمة على سبيل موضوعات أو مصادرات غير معلومة العلل، ومعلوم أن نتائجها لا تكون على الحقيقة يقينية ما لم يحصل اليقين بمقدماتها. وإنما يحصل اليقين بمقدماتها في العلم الأعلى، إذ كان الوسط إنما هو بالذات في العلم الأعلى. فهناك نظفر بالعلل والأسباب الذاتية. فإن نقل أحد ذلك البرهان من العلم الأعلى إلى الأسفل، فقد أدخل في العلم الأسفل ما ليس منه.(1/461)
وقد ظن قوم أن المراد في ذلك أن العلم الأعلى يعطى اللم في المسألة بعينها التي يعطى العلم الأسفل فيها الإن، وهذا غير سديد : لأنه على هذا التأويل يجب أن تجعل المسألة فيهما واحدة بعينها، فيكون العلم الأسفل مشاركا للعلم الأعلى في المسائل، ويكون لا محالة مشاركا في الأمور الذاتية للموضوع في المسألة، فيكون مشاركا في الأوسط، فيكون صالحا لأن يبرهن في كل واحد منهما بما يبرهن به في الآخر، ولا يفترقان بأن هذا يعطي الإن وذلك يعطي اللم بل يجب أن يعلم أن الأعلى إنما يعطي اللم على الوجه الذي قلناه، أو على وجه بيناه حيث تكلمنا في حال الموسيقى والمناظر، لا على الوجه الذي قيل. وبالحقيقة فإن الوجه الذي قيل في الموسيقى والمناظر فهو رخصة تدعو إليه الضرورة وقصور الإنسان عن إعداد ما يحتاج إليه قبل وقته لنفسه فضلا عن غيره ممن ينظر نظرا في أمر يحتاج إلى عدة.
ولولا ذلك لكان بالحرى أن يبرهن على أحوال الخطوط التي تؤخذ في المناظر، وأحوال الأعداد التي تؤخذ في الموسيقى، لا في علمي المناظر والموسيقى، بل في علمي الهندسة والحساب )104 - أ(، وبعد نتائجها لأصحاب المناظر والموسيقى. ولكن لما كانت المُنّة الإنسانية قاصرة عن معرفة جميع المقدمات التي تتفق إليها في المناظر والموسيقى حاجة ما - إذ كان ذلك كثيرا جدا - لم يمكن إعدادها إعدادا مستوفى، بل أعد من ذلك ما تفتقر إليه الأصول دون الفروع، أو تفتقر إليه الأصول المشعور بها دون أصول يشعر بها بعد.
فلما أوقع الإمعان في الاستنباط حاجة إلى مقدمات أخرى كُسل عن أن تفرد عن العلمين وتلحق بالعلم الذي هو منه. ولنرجع إلى ذكر اختلاف معونة العلمين على اللم والإن فنقول: أما العلمان المختلفان في العلو والدنو ففي الأكثر إنما يتم البرهان المعطى للم من العلم الأعلى للأسفل بأن يعطى الأعلى الأسفل مقدمات تؤخذ مبادئ البرهان. ومن هذا القبيل أيضاً أن يكون في أحدهما برهان حده الأوسط علة ما، وفي الثاني برهان آخر حده الأوسط علة ما أخرى قبل تلك العلة - وهو على العلة. فيكون الأسفل لم يعط العلة بالتمام.
وكثيرا ما تكون أمثال هذه المسائل مرددة في العلمين. والسبب في ترديدها قصور مُنن الناس عن المبالغة في التمييز. مثاله أن العلم الطبيعي والفلسفة الأولى يشتركان في النظر في تشابه الحركة الأولى وثباتها. ولكن العلم الطبيعي يعطي العلة التي هي الطبيعة التي لا ضد لها، والمادة البسيطة التي لا اختلاف فيها، فيمنع أن يعرض فساد أو تغير. والفلسفة الأولى تعطي العلة الفاعلة المفارقة التي هي المحض والعقل المحض، والعلة الغائية الأولى التي هي الوجود المحض. والبرهان في العلمين مختلفان، لكن العلم الطبيعي مع انه أعطى برهانا ما فإنه لم يعط البرهان اللمي مطلقا، بل أعطى أن ذلك متشابه ما دامت المادة موجودة وتلك الطبيعة موجودة. والعلم الأعلى أعطى البرهان اللمي الدائم مطلقا، واعطى علة دوام المادة والطبيعة التي لا ضد لها فيدوم مقتضاها.
وكذلك العلم الطبيعي يعطى العلة في كون الأرض غير كرية بالتحقيق، ووقوع الماء في قصور منها حتى ينكشف أديمها في بعض النواحي. فيكون سبب ذلك في العلم الطبيعي أن الماء بالطبع سيال إلى القعور والأرض يابسة لا تتشكل بذاتها؛ بل تحفظ الأشكال الاتفاقية. فإذا اتفق لأجزائها كون وفساد بق مكان الفاسد قعرا ووهدة، ولم يجتمع لأجله الباقي على الشكل الكرى، وبقى مكان الكائن ربوة. وكذلك الحال عند اتفاق سائر الأسباب التي توجب نقل جزء منها عن موضعه. وأما الماء والهواء وغير ذلك فكل يجتمع على شكله إذا زيد عليه أو نقص منه. وذلك الشكل هو الشكل البسيط الكرى الذي لا يجوز غيره أن يكون مقتضى طبيعة البسيط.
وأما في الفلسفة الأولى فتكون العلة لهذا مثلا من جهة الغاية : وهو أن تستقر الكائنات على مواضعها الطبيعية. والحال في البرهانين ما قلناه.(1/462)
فهذا ما هو على الأكثر من حال معونة الأعلى في اللم. وأما في الأقل فربما أخذ العلم الأعلى مبادئ اللم من العلم السفل بعد ألا تكون تلك المبادئ متوقفة في الصحة على صحة مبادئ إنما تُبين في العلم الأعلى، أو تكون تبين بمبادئ من العلم الأعلى، لكن إنما تبين بها ثانيا من العلم الأعلى مسائل ليست مبادئ لها وللجزء فيه من هذا العلم الأسفل. بل كما أن بعض مسائل علم واحد تكون مبادئ بالقياس إلى بعض مسائل منه بواسطة مسائل منه هي أقرب إلى المبادئ منها؛ فلا يبعد أن تكون مسائل علم ما تتبين بمبادئ من علم آخر، ثم تصير تلك المسائل مبادئ لمسائل أخرى من ذلك العلم الآخر بلا دور. فيكون هذا حال مسائل تتبين في علم أسفل بمبادئ من علم أعلى؛ ثم تبين بها مسائل ما من علم أعلى. وإما أن تكون هذه المبادئ المأخوذة من العلم الأسفل لا تتبين بمبادئ من العلم الأعلى بوجه، وذلك مثل أن تبيّن بالمبادئ البينة بأنفسها أو الحس أو التجربة.
وإذا كانت هذه مبادئ مسائل من العلم الجزئي هي مبادئ لمسائل من العلم الأعلى، صارت بوساطة العلم الجزئي مبدأ ما لمسائل من العلم الأعلى. لكن المبنى على الحس والتجربة لا يعطى اللم في علم أسفل ولا علم فوق، بل إنما يمكن أن يعطي اللم من هذه في العلم الأعلى ما كان مبنيا على المبادئ البينة بنفسها.
واعلم أن الأمور الجزئية الحسية والتجريبية هي اقرب إلى العلوم الجزئية منها إلى العلوم الكلية، كما أن الأمور العامة العقلية أولى بأن تكون المبادئ المقتضبة منها مبادئ العلوم الكلية؛ فإن ما كان أشد عموما فهو أولى بأن يكون مبدأ للعلم الذي هو أشد عموما.
وأما العلوم التي ليس بعضها تحت بعض ولا تحت جزء بعض، فكثيرا ما يكون أحد العلمين معطيا في مسألة واحدة بعينها برهان الإن؛ والآخر معطيا فيه برهان اللم. مثل أن العلم الرياضي يعطي في كرية الماء برهان إن بالدليل؛ والعلم الطبيعي يعطي برهان اللم. وأيضاً كذلك القول في كرية الأرض ووقوعها في الوسط؛ وكرية الأجسام السماوية؛ فإن الرياضي يعطي برهان الإن والطبيعي يعطي برهان اللم في جميع ذلك.
وكثيرا ما يتفق أن يكون أحد هذين العلمين من هذه العلوم التي ليس بعضها تحت بعض يعطي الآخر مبدأ لم مثل العدد والهندسة في مسائل المقالة العاشرة.
ولا يتفق في العلوم الجزئية أن يعطي علمان معا برهان اللم لمسألة واحدة. ونحن نخبر من بعد عن العلة في ذلك. فإنا سنوضح بعد أن العلل كم هي، وأنها كيف تكون حدودا وسطى. وإذا كانت حدودا وسطى كيف تكون حتى تكون معطية البرهان التام.
وأما هاهنا فنقول على الجملة إن الأسباب أربعة : مبدأ حركة - أي الفاعل وما في جملته - والموضوع وما في جملته، والصورة وما يجري مجراها، والغاية وهي التمام الذي لأجله يكون ما يكون، وإليه نسوق مبدأ الحركة وما يجري مجراه.
وقد يتفق أن تجتمع هذه الأسباب كلها لشيء واحد بالذات. وربما كان الشيء ليس له من الأسباب إلا الفاعل والغاية فقط كالعقول المفارقة. وربما كان للشيء جميع هذه الأسباب. وإذا لم يكن للشيء مادة وحركة فإن الفاعل يقال له إنه فاعل، فبنحو آخر يقال : وتكون نسبته إليه نسبة داخلة في صورته. وكذلك غايته.
فكل ما هو مجرد عن المادة فإنما يمكن أن يعطى من الأسباب ما هو صورته فقط. وتسمى العلوم المختصة بمثله علوما انتزاعية. فمن العلوم الانتزاعية ما انتزاعيته بالذات كالعلوم الناظرة في الموجودات التي صورها مفارقة للمواد على الإطلاق. ومنها ما هي انتزاعيته بالحد كالعلوم الرياضية. فإن موضوعاتها أمور غير مفارقة الذات للموضوعات؛ ولكن مفارقة الحدود لها؛ وذلك لن موضوعاتها أمور غير معينة بالنوع : فغن المثلث كما يكون في خشبة كذلك يكون في ذهب. فليس تقتضي طباعها موضوعا معينا، بل كيف اتفق. فليس شيء من الموضوعات التي توجد فيه داخلة في حدودها لهذا السبب.
وأما الصور الطبيعية فإن لكل واحدة منها مادة ملائمة لها بالنوع لا يمكن أن توجد تلك الصورة منها مفارقة لها، ولا في مادة أخرى. فطباع تلك الصورة مختصة بتلك المادة. فلذلك تدخل المواد في حدودها. والأمور الطبيعية هي التي تجتمع فيها بالذات هذه العلل كلها.(1/463)
ثم من المعلوم أن ما كانت الحدود الوسطى في برهانه مأخوذة من علل صورية فقط، فلا يجوز أن يشترك في البرهان عليه علمان - إذا أريد بالبرهان برهان اللم. وأما إذا كانت له علل مختلفة، فلا يخلو إما أن يكون بعض الأسباب خارجة عن موضوع الصناعة مثل السبب الأول الفاعل للأمور الطبيعية على الإطلاق، والغاية القصوى، فإنها مفارقة للموجودات الطبيعية. أما السبب الفاعل فبالذات، وأما الغاية القصوى لها فمن وجه بالحد ومن وجه بالذات. وإما أن تكون كل تلك داخلة في موضوع الصناعة : أي إما كائنة أنواعا لها )104 - ب ( أو كائنة من عوارضه الذاتية مثل السبب الفاعلي والتمامي والمادي والصوري لموجودات ما طبيعية، دون العامة للكل مثل أسباب الإنسان أو أسباب نوع جنس آخر من الكائنات الطبيعية أو الطبيعيات التي ليس بكائنة، فإن أسبابها الظاهرة كلها طبيعية.
ونشرح هذا فيما هو أظهر كالإنسان، فإن سببه الفاعل الظاهر إما إنسان أو نطفة أو قوة في نطفة وصورة فيها. وهذه الثلاثة إما نوع موضوع الصناعة وإما صورة وإما عرض ذاتي داخل في موضوع العلم الطبيعي الذي هو الجسم من جهة ما يتحرك ويسكن. وسببه المادي إما الأركان أو الأخلاط أو الأعضاء، وهو من أنواع الجسم الطبيعي. وسببه الصوري النفس، وهو، من حيث هو، صورة ما للجسم الطبيعي وكمال ما له، وسببه الغائي الكمالي الذي يخصه، وجود أكمل جوهر يمكن حصوله من مبادئ كائنة فاسدة حصولا متحدا من نفس وبدن، حتى يكون من شانه أن تبقى نفسه للسعادة. وهذا الكمال من عوارض الجسم الطبيعي التي لا يمكن أن توجد في غيره.
ويشبه أن يكون الفاعل والصورة والغاية في الأمور الطبيعية واحدا بالنوع، وأن تكون الغاية التي هي غير الصورة في الطبيعيات خارجة عن فعل الطبيعة، ومن عند مبدأ أعلى من الطبيعة وغاية له، مل أن فاعل الإنسان إنسانية ما، وصورته إنسانيته، وهي غاية الفاعل الطبيعي. وأما الكمال الآخر كالطحن الذي هو الغاية المقصودة في تعريض الأضراس للطحن، فهي مقصودة عند مبدأ أعلى من الطبيعة. وأما نفس التعريض فإنه غاية للفاعل الطبيعي ومقصود له. فكأن الغاية في الطبيعيات غايتان : غاية هي صورة - وهي نهاية حركة وتمام محرك طبيعي - مثل التعريض - وغاية بعد الصورة ليست الصورة المقصودة قصدا أوليا في حركة التكوين، وهي مثل الطحن. وهي غاية لفاعل أعلى من الطبيعة.
ونقول بقول مطلق إن المادة والصورة لا يجوز أن يكونا غريبين من جنس الصناعة؛ والفاعل والغاية ربما كانا غريبين. فإذا مهدنا هذه الأصول فنقول : إذا أمكن أن تكون بعض أسباب الشي خارجا عن موضوع صناعته وواقعا في صناعة أخرى، أمكن أن يكون على المسألة برهانان من علمين. وأما إذا كانت الأسباب متعلقة بالموضوع غير غريبة منه، لم يمكن في غير ذلك العلم إعطاء برهان اللم.
فقد اجتمع من جميع ما قلناه أنه لا سبل إلى إقامة البراهين إلا من مبادئ خاصة. وبهذا السبب نغلط فنظن في كثير من الأشياء أنا علمناه بالحقيقة إذا كانت المقدمات المأخوذة في قياساتها صادقة ولا نكون علمناه العلم الحقيقة إذا لم تكن مناسبة.
الفصل العاشر
إقامة البراهين في العلوم على مبادئها
من البين أنه لا سبيل إلى إقامة البراهين في العلوم على مبادئها، وإلا فما يبين به المبدأ هو المبدأ، والعلم به أحق من العلم بما قيل إنه مبدأ له. فبعض مبادئ العلوم بينة بأنفسها، وبعضها محتاجة إلى بيان. وكلاهما من المستحيل أن يبينا في العلوم التي هي لها مبادئ أول.
أما البينات بأنفسها، فلا يمكن في ذلك بيانها في ذلك العلم ولا في علم آخر. وأما ما ليس بينا بنفسه فإنما يمكن بيانه في علم آخر، وخصوصا في علم أعلى. ومبادئ العلم الأعم الذي سائر العلوم تحته جلها بينة بنفسها، وبعضها مأخوذة من علوم جزئية تحتها على ما قلنا، وذلك قليل.(1/464)
وأما موضوع الصناعة فقد يجب أن يصدق به وأن يتصور جميعا؛ فما كان منه ظاهر الوجود خفي الحد مثل الجسم الطبيعي لم يوضع وجوده في العلم، بل اشتُغل بأن يوضع حده فقط. وما كان خفي الوجود والحد معا مثل العدد والواحد والنقطة، فإنهم يضعون وجوده أيضاً. ووضع وجوده هو من جملة مبادئ الصناعة التي تسمى أصولا موضوعة، لأنه مقدمة مشكوك فيها، مبنى عليها الصناعة. وإن كانت ظاهرة الأمرين جميعا كان تكلف وضع الأمرين فضلا.
وربما وضعوا الحدود فقط في الشيء الذي هو خفي الوجود والحد جميعا، إذ قد يفهم من ذلك أن الشيء موجود وان الحد ليس بحسب الاسم بل بحسب الذات : كقولهم في فاتحة علوم الهندسة إن النقطة شيء لا جزء له.
وأما المحمولات الذاتية من العوارض في هذه الموضوعات فإنها هي المطلوبة كما قلنا مرارا، فلا يمكن أن يوضع وجودها على سبيل أصل موضوع أو مصادرة، ولا على سبيل البيان قبل البرهان عليها. إنما توضع في فاتحة الصناعة حدودها إن كانت خفية الحدود. وأما إن كانت ظاهرة الماهية مثل المساواة والزائد والناقص وما أشبه ذلك في علم الهندسة، فربما لم يُتكلف وضع ذلك. بل إنما يوضع حد مثل الوحدة والمستقيم والمثلث والأصم والمنطق في الهندسة، والزوج والفرد والمربع والمستدير في الحساب. فهذا القسم إنما توضع فيه الحدود فقط.
وأما المبادئ، فيجب أن تكون قد علمت من طريق الهلية وهو التصديق، حتى يمكن أن يعلم بها هلية شيء آخر، إما تصديقا حقيقيا، أو تصديقا وضعيا. ولابد من تصورها وإلا لم يمكن التصديق بها؛ فيجب أن تكون موضوعة الإنية في نفسها، وموضوعة ماهية الأجزاء في فاتحة الصناعة، إلا أن يستغني لفرط الشهرة والوضوح عن ذلك. وغن كانت أعم من الصناعة خصصت بالصناعة على نحو ما قيل.
فإذن الموضوعات إن احتيج إلى التنبيه على وجودها وضعت وضعا ولا برهان عليها في الصناعة، بل على عوارضها الذاتية. وأما العوارض الذاتية فتحد حدا فقط إن احتيج إليه، ولا توضع موجودة إلا عند الفراغ عن إقامة البرهان في مسألة مسألة ليستبين منه إنها موجودة لموضوع أو مسلوبة عن موضوع.
والمبادئ التي ليست أصولا موضوعة وليست مصادرات فإن وضعها من التكلف، مثل أن النقيضين لا يجتمعان وما أشبه ذلك. وإن نازع فيها فلا تنقلب بذلك أصلا موضوعا أو مصادرة، لأن تلك المنازعة باللسان دون العقل، وبالقول الخارج دون القول الداخل.وإنما القياس الذي يتكلف أحيانا في تصحيح شيء من ذلك أو تبكيت مخالفة فيه من السوفسطائية، فإن ذلك كله نحو القول الداخل لا الخارج، وعلى ما عرف فيما سلف ويعرف فيما يستأنف.
وأما المبادئ التي قد يشك فيها، فلابد من أن يوضع وجودها وتفهم ماهية أجزائها إن لم تكن بينة تصور الأجزاء.
والحد فليس أصلا موضوعا ولا مصادرة لأنه ليس فيه حكم، بل إنما يوضع لتفهيم اسم فقط، اللهم إلا ان يُسمى إنسان كل مسموع في فواتح الصناعات أصلا موضوعا. بل إنما الأصول الموضوعة أشياء مصدق بها وهي في أنفسها صادقة تجتمع من التصديق بها - ولو بالوضع مع مقدمات أخرى - نتيجة. والحدود ليست كذلك. ولما قيل في التعليم الأول هذا فُطن لظن لعله يسبق إلى بعض السامعين : أنه ربما كان من المقدمات المستعملة مبدأ ما لعلم كله، أو لمسألة منه ما هو كاذب ثم يطلب منها نتيجة. فكأن سائلا سأل وقال : قد نرى في العلوم أصولا موضوعة ومقدمات كاذبة يتدرج منها إلى المسائل مثل أن المهندس يقول خط أ ب لا عرض له، وهو مستقيم، ولا يكون كذلك. ومثل أ ب ج مستقيم الخطوط، متساوي الأضلاع، ولا يكون في الحقيقة كذلك، بل يكون كاذبا فيما يقول ويروم مع ذلك إنتاج نتيجة صادقة. وإنما يكون كاذبا لأن ذلك الخط لا يكون عديم العرض ولا مستقيما في الحقيقة، ولا ذلك المثلث يكون متساوي الأضلاع في الحقيقة. فأجيب وقيل إن هذا الخط المخطوط والمثلث المشكل ليس مخطوطا لافتقار البرهان إلى مثله، والبرهان هو على خط بالحقيقة مستقيم وعديم العرض؛ وكذلك على مثلث بالحقيقة متساوي الأضلاع المستقيمة، بل إنما خط ذلك وشكل هذا إعانة للذهن بسبب التخيل. والبرهان هو على المعقول دون المحسوس والمتخيل. ولو لم يصعب تصور البرهان المجرد عن التخيل لما احتيج إلى تشكيل البتة.(1/465)
فقد بان أن الأصول الموضوعة مصدق بها، وعلل للتصديق بالنتيجة والمطلوب، ولا كذلك الحد.
وأيضاً فإن كل أصل موضوع فهو محصور : كلى أو جزئي. ليس شيء من الحدود بمحصور كلى ولا جزئي. فليس شيء من الأصول الموضوعة بحدود. على أنه لا حاجة إلى هذا البيان بعد ما قيل.
ولأن قوما حسبوا أن موضوعات العلوم هي صور مفارقة، لكل نوع منها مثال يشبهه قائم بذاته عقلي موجود لا في مادة، فبالحرى أن يقع الشك وحله في جملة ما يتعلق بالبرهان. ويجب أن نذكر أولا السبب )105 أ( الذي حمل أولئك على هذا الظن فنقول : إنما وقع أولئك القوم في هذا الظن من جهة قياس قاسوه فقالوا إن هذه العلوم كلها إنما تنظر في موجودات ما، فالمعدومات لا فائدة في النظر فيها. ثم الموجودات إما واقعة تحت الفساد والتغير، وإما دائمة الوجود غير متغيرة. وأيضاً إما محسوسة، وإما معقولة. والفاسدات لا برهان عليها ولا حد لها. والمحسوسات ليست أيضاً مبرهنا عليها ولا محدودة من جهة ما هي محسوسة وشخصية، بل من جهة طبيعية عقلية أخرى. فالبرهان ليس يقوم على الشمس من جهة ما هي هذه الشمس، بل من جهة ما أنها مجردة من سائر العوارض اللاحقة لها والشخصية العارضة لها. وكذلك الحد ليس لها من جهة ما هي هذه الشمس.
فإذا كان كذلك، كان البرهان على صور معقولة مجردة عن المادة، لئلا تكون محسوسة ولا قابلة للفساد.
وكذلك الحد. فبعضهم وضع ذلك للعدديات فقط، وبعضهم للعدديات والصور الهندسية، وبالجملة للصور التعاليمية دون الطبيعية ورقى إليها الطبيعية.
وكان مأخذ هؤلاء في الاحتجاج شيئا آخر : وهو أن هذه مستغنية عن المادة في الحد، وكذلك في الوجود. وقالوا : وإما ما يضعه الرياضي من خط وشكل محسوس فهو كاذب فيه. والخط والشكل الحقيقي عقلي وعليه البرهان.
وقوم ألفوا الهندسيات من العدديات، وجعلوا العدديات مبدأ الهندسيات. وأما أفلاطن فجعل الصور المعقولة المفارقة موجودة لكل معقول حتى للطبيعيات فسماها إذا كانت مجردة مُثُلا، وإذا اقترنت بالمادة صورا طبيعية. وجميع هذا باطل، فغن الصور الطبيعية لا تكون هي هي إذا جردت عن المادة، والصور التعليمية لا تقوم بلا مادة وإن كانت تحد لا بالمادة، والكلام في إبطال هذه الآراء والقياسات الداعية إليها غنما هو في صناعة الفلسفة الأولى دون المنطق وعلوم أخرى، بل يحسن في المنطق بوجه من الوجوه أن يبين أن هذه وإن فرضت موجودة فلا مدخل لها في علم البرهان ولا هي موضوعة لهذه البراهين التي نحن في تعليمها : لأن هذه البراهين وإن كانت بالذات وأولا لأمور عقلية كلية، فإنها ثانيا وبالعرض للمحسوسات والفاسدات. فإن كل حكم يصح على الشمس المطلقة يصح على هذه الشمس، وكل حكم يصح على الغب على الإطلاق فيصح على هذا الغب. وإذا صح أن كل إنسان حيوان، صح على إنسان ما أنه حيوان.
والبرهان إنما لابد من ان يكون فيه قول كلى ليكون شاملا للكثرة بأن يعطى اسمه وحده للكثرة الجزئية. ويمكن أن يجعل الكلى فيه المحكوم عليه بالحكم الكلى حدا أوسط موجبا على الكثرة بالاسم والحد. فما حكم عليه حكم على الكثرة. وأما الصور فإنها إن كانت موجودة فلا يجب أن يكون الحكم عليها حكما على الكثرة من الجزئيات الشخصية، ولا يمكن أن تكون حدودا وسطى في إثبات شيء على الكثرة من الجزئيات الشخصية، وذلك لأن المثل وإن أنزلنا أنها تعطى الكثرة أسماءها، فلا يمكننا أن نقول إنها تعطيها حدودها : لأنه ليس شيء من الجزئيات صورة عقلية مفارقة أبدية - وهذا هو الحد الجامع للصور المفارقة. وكيف يمكن أن تكون طبيعة الإنسان المحسوس تحمل عليها طبيعة الإنسان المثالي، وهذا الإنسان حيوان ناطق مائت، وذلك لا حيوان ولا ناطق إلا باشتراك الاسم، ولا مائت. وكيف يقال لشيء من هذه إنها تلك كما يقال إنها حيوان؟(1/466)
فإذن الصور المُثُلية لا تُعطى أسماؤها وحدودها معا للكثرة والجزئيات، فلا تصلح أن تتخذ حدودا وسطى في برهان على الجزئيات، وإن كان ذلك البرهان برهانا بالعرض. وكذلك لا يجوز أن تكون حدودا كبرى. وأما أنها ليست حدودا صغرى فلأن الحدود الصغرى إما أن تكون أعيان الموجودات المبحوث عن أحوالها، وإما أمورا الحكم عليها حكم بوجه ما على أعيان الموجودات. وليست أعيان الموجودات الطبيعية ولا الرياضية، ولا هي أيضاً أمورا الحكم عليها حكم بوجه ما على أعيان تلك الموجودات لأنها حينئذ تكون حدودا وسطى، وقد بينا أنها لا تكون حدودا وسطى. ولا هي أيضاً الموضوعات الأولية لهذه العلوم حتى تكون إنما تطلب أعراضها الذاتية. وذلك لأنا أيضاً إنما نطلب أعراضا ذاتية لأمور هي إما أعيان، وإما الحكم عليها كالحكم على الأعيان. وليست المثل على أحد الحكمين. فليس الصور والمثل المفارقة إذن داخلة في موضوعات البراهين ولا في مبادئها بوجه.
المقالة الثالثة
من الفن الخامس
الفصل الأول
في المبادئ والمسائل المناسبة
وغير المناسبة وكيف تقع في العلوم
المبادئ الواجب قبولها وخصوصا المبدأ الذي منه تتشعب كلها : أعني قولنا " إن كل شيء إما تصدق عليه الموجبة وإما أن تصدق عليه السالبة " ليس يوضع في العلوم وضعا بالفعل إلا عند مخاطبة المغالطين والمناكدين، بل إنما يوضع فيها على ما قيل في التعليم الأول على وجوه ثلاثة. وجه يجب أن يعتبر في تكميل التصديق بالمقدمة الكبرى ليعتبر مثله في النتيجة، وذلك بان يعتقد أن الكبرى إن كانت موجبة فلا يجوز أن تصدق سالبة؛ أو كانت سالبة فلا يجوز أن تكون موجبة، لتكون النتيجة بهذه الحال. فهذا الاعتقاد يعتقد دائما وإن لم يلفظ به بالفعل : لأنه لم يعلم أنه إذ هو موجب فليس بسالب وإذ هو سالب فليس بموجب البتة، وأن السلب والإيجاب لا يجتمعان، أو أن كل شيء يصدق فيه أحدهما فلا يحتاج إلى التصريح به. وإنما تكون هذه القوة في نسبة الأوسط إلى الأكبر في الكبرى، أو الأصغر إلى الأكبر في النتيجة من غير عكس. فإنك إذا كنت قلت في الأكبر مثلا " فكل إنسان حيوان " أضمرت " وليس ليس بحيوان " وأنتجت أن " الكاتب حيوان " وأضمرت وليس ليس بحيوان.
وبالجملة ما جعل موضوعا لحكم محمول فليس موضوعا لمقابله.
وأما من جهة المحمول فليس يستمر هذا حتى يكون الحيوان في القياس محمولا على الإنسان وليس محمولا على ما ليس بإنسان، أو يكون الحيوان في النتيجة محمولا على الكاتب وليس محمولا على ما ليس بكاتب، فإن هذا لا يستقيم، لأن المحمول يجوز أن يحمل علة موضوعات يسلب بعضها عن بعض. ولا يجوز ن يوضع الموضوع لمحمولات يسلب بعضها عن بعض. فهذا وجه واحد.
والوجه الثاني كما يقال في الخُلف إنه إن كان قولنا " إن أ ب " ليس صادقا، فقولنا " ليس أ ب " صادق، فيكون هذا المبدأ الذي نحن في ذكره مضمرا، وقوته قوة الكبرى، كأنه يقول بعد قوله ذلك " لأن كل شيء إما أن يصدق عليه الموجب أو السالب.
والوجه الثالث يخالف الوجهين جميعا، فإنه ليس يدخل بالقوة فيه هذا المبدأ على انه نافع في تكميل مقدمة كما في الأول، ولا في تكميل قياس كما في الثاني، بل بأن يخصص إما موضوعه وإما موضوعه ومحموله معا : كقولنا كل مقدار إما مباين وإما مشارك، فنأخذ فيه بدل الشيء شيئا ما خاصا بالصناعة - وهو المقدار - وبدل الموجب موجبا خاصا بالصناعة وهو المشارك، وبدل السالب سالبا ما خاصا بالصناعة وهو المباين : لأنك لا تحتاج أن تأخذ هذا المبدأ بحيث ينفع نفعا مشتركا في كل علم، بل بحيث ينفع في ذلك العلم خاصة فغن ذلك يكفيك.
وهذه العلوم العامية الواجب قبولها تشترك العلوم فيها، لا على أنها ما فيه البيان - أي الموضوعات - أوله البيان وإياه نبين - وهي المائل - بل على أنها من الذي منه البيان. والجدل يستعملها من جهة أن كل أولى مشهور أيضاً. والجدل أيضاً يشارك كل علم في المسائل كما يشارك في المبادئ الواجب قبولها، وكما يشارك في الموضوعات، فإنه لا يختص بموضوع. لأن الجدل ليس بمحدود النظر في شيء من الوجود. وكل علم فإنه محدود النظر في الوجوه الثلاثة من الموضوعات والمبادئ والمسائل.(1/467)
وأما )105ب ( أن الجدل ليس محمود النظر في الموضوعات فإنه لا يقتصر على موضوع واحد يبحث عن أحواله، بل الجميع عنده سواء. والبرهان يقتصر عليه. وأما بيان أنه ليس بمحدود النظر في المسائل، فذلك من وجهين : أحدهما أنه لا يقتصر على المسائل الذاتية بالموضوع الذي يبحث عن أحواله في الوقت، بل في الغريبة أيضاً : مثل أنه ليس ينظر هل الخط المستقيم إذا قام عليه خط كان كذا وكذا، بل هل هو أحسن من المستدير أو ليس، وهل علمه مضاد للمستدير أو ليس. والثاني لأنه قد يتفق أن ننصر الضدين والنقيضين معا بقياسين في وقتين كل واحد منهما جدلي على ما ستعرفه حيث نتكلم في الجدل : فتارة نقيس من المشهورات أن النفس لا تموت، وتارة نقيس منها أن النقس تموت. وأما بيان أنه ليس أيضاً محدود النظر في المبادئ فذلك من وجهين : أحدهما أنه لا يأتي بالمبادئ الذاتية بالشيء، بل كيف اتفق. والثاني أنه يأخذ المبادئ الأولية والصادقة والمشهورة التي ليست بصادقة معا، وما يتسلمه من المخاطب. وقد يجعل كل واحد من المتقابلين مبدأ لقياسه - ذلك في وقت، وهذا في وقت على ما علمت. وأما البرهان فإنه محدود الموضوع، محدود المسألة التي يبينها وينصرها محدود المبادئ التي منها تبين. ويكاد أن يكون الحق هو انه ليس في العلوم مسألة عن طريق النقيض، وذلك أن السؤال النافع عنهما بالحقيقة هو أن يتكافأ تسليم الطرفين معا عند السائل، فأيهما كان، جاز، واستمر في عقد قياسه. والقائس المبرهن إذا سلم له الواحد المعين، النافع له في عقد قياسه، انتفع به. وإن سلم مقابله، سكت ولم يمكنه الاستمرار، فلا يكون لسؤاله حينئذ فائدة، إذ كان إنما ينتفع بالواحد فيجب أن يأخذه أخذا من غير مسألة.
ولكن قد يقال " مسألة علمية " على وجهين : أحدهما يقع في التعليم والتعلم - وهو أحد طرفي النقيض المعلوم أنه هو الحق، وأنه لا يتعداه المجيب أو المخاطب، وإنما يُسأل للتقرير والتعديد لا على سبيل المسائل الجدلية. والثاني في المخاطبات الامتحانية التي تكون في العلوم ولا يبالي فيها بتسليم أي طرفي النقيض كان على ما ستعلمه.
والمسألة الامتحانية فإنها من وجه علمية ومن وجه ليست علمية : فإنها علمية من جهة أن مبادئها مناسبة. وليست علمية من جهة أن الغرض فيها ليس إثبات علم. فلذلك إذا حققت لم تكن مسألة علمية برهانية مطلقة، بل المسائل العلمية المطلقة محدودة. وليس كل سؤال هندسيا ولا طبيا ولا حسابيا ولا من علم من العلوم الأخر، بل المسألة الهندسية مثلا إنما هي إما عن مقدمة صحت وبانت بالطرق الهندسية، ويراد أن يبان بها غيرها فتكون عن مبدأ خاص بالمطلوب، وإما عن مبدأ عام للمسائل الهندسية خاص بالهندسة يتبين به المطالب الهندسية ولا يبين هو في الهندسة. وكذلك الحال في المسألة المنظرية : إما أن تكون منظرية خاصة تبين فيها، وإما أن تكون هندسية، وهي مبدأ لعلم المناظر فغن مبادئه من الهندسة، فتكون مسائل هندسية هي مبادئ مناظرية، ومن وجه مسائل هندسية. وأما أنه كيف يكون ذلك حتى تكون مطالب هندسية هي أيضاً مسائل هندسية، فلذلك بوجهين مختلفين. أما المبادئ فإنها مسائل هندسية لأنها في نفسها مسائل، وهي هندسية لأنها نافعة في الهندسة، فتكون المسائل النافعة في الهندسة مسائل هندسية. وأما المطالب فهي مسائل هندسية بمعنى أنها مسائل هي من الهندسة.
وقد فهم هذا الموضع من التعليم الأول على وجه آخر، وهو أن تكون المسألة من وجه هندسية على أنها مبدأ مثلا للمناظر. فهي من المناظر وليست مناظرية بل هندسية. وتكون المسألة من وجهآخر هندسية إذا كانت هندسية صرفة غير مضافة إلى علم آخر.
وهذا التأويل ليس بجيد ولا بين المرين تباين يفترقان به. بل إنما يعني بالمسألة هاهنا لا المطلوب، بل المسألة التي تؤخذ مقدمة. فمن ذلك مبدأ يتم بيانه في ذلك العلم، ومن ذلك ما من شأنه أن يبين في ذلك العلم ويبين به غيره أيضاً.(1/468)
فالمبادئ مسائل هندسية، أي مسائل نافعة في الهندسة. والمطالب مسائل هندسية، أي مسائل من الهندسة، وليس كونهما مسائل هندسية بنوع واحد، وإن كانا من حيث هما نافعان في مطالب أخرى من الهندسة لا يختلفان. وإذا حققت اعتبار معنى المسألة، فلا يجوز أن يكون المبدأ مسألة من العلم الذي هو مبدأ فيه، لأن المسألة في علم ما جزء من ذلك العلم تكتسب بمبادئه.
والمسائل متميزة عن المبادئ. وليس أحد من أصحاب العلوم يمكنه أن يبين مبادئه من جهة ما هو صاحب علمه. فالمهندس من جهة ما هو مهندس لا يمكنه إثبات مبادئه. والمناظري من جهة ما هو مناظري كذلك. فإن تكلف المناظري ذلك في مبادئه فقد صار هندسيا. ومن جهة الهندسة ما يبين مبادئه. وإن تكلف المهندس ذلك في مبادئه، فقد صار فيلسوفا. ومن جهة ما هو فيلسوف ما يبين مبادئه.
ومبادئ جميع العلوم تُبين في علم ما بعد الطبيعة. وكما أنه ليس لأحد من أصحاب العلوم أن يبين مبادئه، فكذلك لا كلام له مع من يناقض مبادئه، ولا كلام له مع من لا يبني على مبادئه. ولا أيضاً يلزمه أن يجيب عن كل مسألة، بل إنما يلزمه إن كان مهندسا أن يجيب عن المسألة الهندسية.
وعلى صاحب علم ما أن يعرف عماذا يجيب، وعلى السائل أن يعرف عماذا يسأل. فإذا كان السائل إنما يخاطب المهندس في أمور هندسية مبنية على مبادئ الهندسة فهو مصيب، وإلا فليس بمصيب. ولا أيضاً مطلوبه ينكشف في الهندسة بالذات، بل عسى بالعرض، وكذلك المجيب المهندس. فلا كلام له مع من ليس بمهندس فإن كلامهما فضل ويجري مجرى ردئ المآخذ.
ثم إن المسألة التي ليست علمية - أي ليست مثلا هندسية - على وجهين : أحدهما أن تكون بالجملة خارجة عن ذلك العلم، والآخر أن تكون بوجه داخلة فيه. مثلا لو أن إنسانا سأل في الهندسة عن الأضداد هل علمها واحد، فقد سأل مسألة من حق الفلسفة الأولى. أو عن عددين مكعبين هل يجتمع منهما مكعب كما يجتمع من عددين مربعين مربع، فقد سأل مسألة حسابية. أو قال مثلا هل طرفا الذي بالكل والأربعة متفقان؟ فقد سأل مسألة تأليفية. فأي هؤلاء سأل في الهندسة كانت مسألته غير هندسية على الإطلاق. وكذلك إن جهل هذا، كان جهله غير هندسي على الإطلاق. وفرق بين الخطأ والجهل المطلق على ما نوضح بعد في موضعه. فكل خطأ جهل، وليس كل جهل خطأ.
ولو أن إنسانا سأل على سبيل التقرير هل خطان وقع عليهما خط فصير الزاويتين اللتين تتبادلان متساويين - يلتقيان، أو ظن في نفسه أنهما يلتقيان، لم تكن هذه المسألة تقريرا هندسيا، ولا هذا الظن ظنا هندسيا من جهة، وكانا هندسيين من جهة. ذلك لأن غير الهندسي يقال على وجهين : أحدهما بمعنى السلب العام المقارن لعدم القوة في الشيء كقولنا إن النقطة لا وزن لها ولا نهاية لها، وإن اللون غير مسموع. والثاني بمعنى السلب المقارن للقوة، كقولنا للساكن الذي من شأنه أن يتحرك إنه ليس يتحرك. فالمسألة الغير الهندسية، والظن الغير الهندسي على الوجه الأول هو الذي لا يكون في قوة حدوده أن تكون هندسية أو تصير بعمل ما هندسية، مثل قولنا إن طرفي الذي بالكل والأربعة متفقان أو غير متفقين أيهما كان خطأ : فإن هذه الحدود لا يمكن أن ترد إلى مسألة هندسية أو ظن هندسي. وإن أزيل حالها الذي هو الإيجاب إلى السلب، فليس في قوة حدود هذه المقدمة أن تصير هندسية. وأما على الوجه الثاني فهي أن لا تكون هندسية بسبب أن نسبتها إلى الهندسة نسبة رديئة، وإن كانت هندسية من وجه لكون حدودها بالقوة هندسية، وإن كانت ليست بالفعل. ألا ترى أن تلك الحدود إذا حفظت وأزيل ما عرض لها من النسبة الإيجابية بينها إلى نسبة سلبية، فقيل مثلا إن الخطين الواقع عليهما خط كذا وكذا لا يلتقيان، صارت المسألة حينئذ هندسية. فهذه المسألة بالقوة هندسية، وبالفعل مضادة للهندسة. ولما كانت الأضداد إنما تنسب إلى موضوع واحد وجنس واحد، فلا بأس أن يقال من هذه الجهة لكليهما مسألة هندسية أو ظن هندسي.
الفصل الثاني
)106 أ(
في اختلاف العلوم الرياضية وغير الرياضية مع الجدل
وفي أن الرياضة بعيدة عن الغلط وغيرها غير بعيدة منه، وبيان ما ذكر في التحليل والتركيب(1/469)
إن الجهل المضاد للعلم - وهو الذي ليس إنما يعدم معه العلم فقط، بل أن يعتقد ويرى صورة مضادة لصورة العلم، كما يقع في الوجه الثاني من وجهي اللا علمي واللا هندسي - قلما يقع في التعاليم. وذلك لأن هذا الجهل إنما يقع لأسباب، وأظهرها أمران : أحدهما التباس مفهوم حدود القياس لاشتراك الاسم وخصوصا الأوسط، فإن أكثر انخداع يقع بسببه إذا كان اللفظ واحدا في المقدمتين والمعنى مختلفا. والثاني حال التأليف وشكل القول إذا لم يكن منتجا وأشبه المنتج مثل الموجبتين في الشكل الثاني وما أشبه ذلك.
وأما القسم الأول فإنه مما لا يقع في التعليمات لأن ألفاظ معاني الهندسيات معلومة المعاني بالتحصيل فلا توهم غير المعنى المقصود له. بل لكل لفظ منها معنى مفهوم بحسب الغرض أو بحسب ما سبق من التحديد. ثم معاني تلك الألفاظ قريبة من الخيال، فكما يفهم في العقل للفظ منها معنى، كذلك يقوم له في الوهم خيال، فيثبت خياله حقيقة ذلك المعنى ويحفظه ولا يدع الذهن يزيغ عنه. فحينئذ يكون الأوسط مضاعفا أي واحدا بعينه يؤخذ مرتين لشيئين معلومتين فينتج ضرورة. وأما في العوم الأخرى - وفي الجدل خصوصا - فلا تكون هذه المعاون، بل تكون ألفاظها في أكثر الأمر مشتركة، والمعنى العقلي باطن غائر في النف غير مُعان بخيال ملائم لذلك المعنى يثبته ويحفظه في الذهن. بل ربما كان الخيال اللائح منه في الذهن مناسبا لمعنى والغرض معنى آخر، ويزيغ الذهن عن الغرض إلى الخيال.
والخيال فيما سوى التعليمات في أكثر الأمر مضل، وفي التعليمات هاد مرشد. ولذلك ما صارت المسائل الرياضية يصعب تعليمها إلا بأن تشكل أشكالا محسوسة معلمة بحروف، ليكون ذلك معونة للخيال وتقوية، إذ كان لا يخاف من ذلك فيها في العلوم الأخرى.
وأما العلوم الأخرى فإذا لم يكن فيها معونة من قبل الخيال وكان اللفظ مشتركا وفي تفصيل معانيه صعوبة، زاغ الذهن. ويخص الجدل أن وحدانية معنى اللفظ المستعمل فيه قد تكون بحبس الشهرة لا بحسب الحقيقة. فربما كان بحسب الحقيقة مشتركا فه فيكون هذا الالتباس اللفظي في الجدل أكثر - مثل استعمال لفظة الدور في الجدل، ولفظة الدائرة : فإن لفظة الدائرة عند المهندس محدودة المعنى وعند الجدلي ملتبسة ما لم ترسم. فيكاد يقع عنده أن الدائرة المشكلة والشعر الدائر الأجزاء بعضه على بعض، والبيان الدوري، مفهوم لفظة الدائرة في جميعها قريب من مفهوم اللفظ من المتواطئ، فيشكل صدق قول القائل كل دائرة شكل. وربما ظن أنه ليس كل دائرة بشكل، فيكون مثل هذا سببا للغلط عظيما إلا أن يرسم ويميز ذلك.
ولما كان وقوع اسم الدائرة أو ما أشبه الدائرة على أمثال هذه المعاني ليس واحدا في الحد، وجب أن يكون قولنا " كل دائرة كذا " مقتصرا في الدلالة على بعض هذه المعاني دون البعض إن أريد أن تكون مقدمة واحدة. ووجب ألا يناقض قول القائل، جدليا كان يستقرى أو غير جدلي، " إن كان دائرة شكل " كأنه يتخيل الدائرة بحسب المشهور معنى واحدا. فلا تكون عنده بحسب المشهور مشتركا يناقضه بأن يقال له إن الدائرة الشعرية ليست بشكل : لأن المناقضة مقدمة بنفسها، ومناقضة بالقياس إلى غيرها. وما لم تصر أولا مقدمة في نفسها لم تصلح أن تصير مناقضة لغيرها.
ولا تكون الكلمة مقدمة وليس معنى الدائرة فيها بمحصل. فإذا حصل معناها وحصل معنى قول القائل " كل دائرة شكل " لم تكن هذه مناقضة لها. بل إنما يظن أنها مناقضة على أحد الوجهين اللذين بهما لا تكون في الحقيقة مقدمة : إذ كان إما أن تصير هذه المقدمة غير مقدمة للجهل الكائن بمعنى موضوعها الذي هو الدائرة، بل لا يفهم لموضوعها معنى : إما أن تصير غير مقدمة بأن تكون قد أخذ موضوعها - وهو الدائرة - في قولهم " كل دائرة شكل " على معنى " كل ما يسمى دائرة " لا على معنى " كل ماله معنى الدائرة " . وكلا الأمرين يمنعان أن تكون هناك مناقضة : فإن المناقضة مقدمة صحيحة في أنها مقدمة، مقابلة لمقدمة صحيحة في أنها مقدمة. فما لم يتقرر المقدمة لم تتقرر مناقضة.
ولنرجع إلى بيان حكم القسم الثاني من وجوه الغلط الواقع في العلوم دون التعليمات فنقول :(1/470)
إن العلوم الرياضية إنما يستعمل فيها في أكثر الأمر الشكل الأول، ومن ضروبه، الضرب الأول. وربما استعمل الضرب الثاني فلا تقع فيه مغالطة بتأليف القياس إلا في الندوة النادرة جدا. وأما الجدل فكثيرا ما تستعمل فيه قياسات غير منتجة سهوا وانخداعا لأنه متصرف في الأشكال وفي الضروب، ويستعمل الحقيقي والمظنون، وخصوصا التأليف الكائن من الموجبتين في الشكل الثاني، فإنه كثيرا ما يستعمل في الجدل، كمن يريد منهم مثلا أن يبين أن النار كثيرة الأضعاف في النسبة بأن يقول : " النار سريعة التولد والتزيد " و " كثير الأضعاف في النسبة سريع التولد والتزيد " فينتج " أن النار كثيرة الأضعاف في النسبة " . فإن هذه الصورة غير منتجة في الحقيقة وإن كانت قد تعد منتجة في الظاهر. وإنما يمكن أن تصح لها نتيجة في بعض المواضع بسبب المادة إذا كانت المقدمة متساوية الموضوع والمحمول، فيمكن أن تعكس كبراها كلية فترجع إلى الشكل الأول.
والجدل والتعاليم يتخالفان غاية التخالف في التحليل بالعكس. وذلك لأن التعاليم تؤخذ محمولات مسائلها من الحدود وما يلزم من العوارض بسبب الحدود - وهي العوارض التي تعرض للأشياء بذاتها؛ وهي من جهة ما هي، هي من حيث لها حدودها. وكلها محدود محصور ومعلوم وأكثرها منعكس.
فإذا كان مطلوب وأريد أن يطلب له قياس من جهة التحليل بالعكس، طلب من لواحق الطرفين ما هو على الشريطة المذكورة، وهي لواحق محدودة معلومة فتصاب عن كثب فيكون سبيل التحليل فيها سهلا.
وكذلك سبيل التركيب هو عكس التحليل فيكون التركيب فيها أيضاً سهلا : لأن ما هو عكس السهل سهل. وبطريق التركيب يتدرجون من مسألة إلى مسألة من غير أن يُخلوا بمقدمات ذات وسط ويتجاوزوا عنها إلا بعد إيضاحها بالقياسات القريبة منها، ويكون التزيد فيها تزيدا محدودا والطريق منهوجا.
والجدل مخالف في جميع هذا. أما أول ففي التحليل بالعكس : وذلك لأن الأوساط تكون أمورا كثيرة متشوشة، فإنها تكون أمورا عرضية وذاتية، وتكون من العرضيات صادقة وكاذبة بعد أن تكون مشهورة، فتتضاعف مطالب الأوساط فيصعب تحليلها. وليس إنما يصعب التحليل في المسائل الجدلية على الإطلاق، بل وفي الصادقة منها، لأنها قد تنتج من كواذب إذا كانت مشهورة أو ملمة أو منتجة منها. ولولا ذلك لما كانت سهلة من وجه واحد : وهو أنها كانت تكون مقتصرة على الصادقات. وأما ثانيا ففي التركيب : لأن التحليل لما صعُب صعب عكسه وهو التركيب، لأن التركيب فيه ليس يكون على تأليف مستقيم يبتدئ عن غير ذوات أوساط ثم يستمر على نظام، بل يكون كيف اتفق وبأي أوساط اتفقت، وربما عُكس التركيب في الجدل فجعل ما بيّنه الجدل بمقدمة نتيجة لتلك المقدمة يبان بها بعينها في مجادلة أخرى، فيتضاعف التركيب.
وربما وقع ذلك مقدمات الجدلي التي إن سلمت نفذ فيها وعقد القياس؛ وإن لم تسلم رجع من التركيب إلى التحليل، فيتخلل التركيب مواضع التحليل - وهي مواضع المباحثة عما لا يسلم ويطلب له حد أوسط مرة أخرى، وهذا هو التحليل. فيختلط تركيبه بالتحليل.
وأما ثالثا ففي التزيد. وهذا الموضع يمكن أن يفهم على انه يعنى به التزيد البرهاني التعليمي من جهة أنه يتزيد لا بالتوسيط على ما بينا، بل بإضافة حد من خارج - إما إلى غير النهاية أو نقف فنبتدئ برهانا على شيء منقطع عن الأول كما فعل في أوقليدس حين اشتغل بزوايا حول خط قائم على خط.ومثل أن يكون تبين أولا أن العدد الفرد عدد ذو كم محدود بتوسط أنه عدد ذو كم، ثم يبين أيضاً للزوج كذلك. فلا يكون قد استمر بل عُدّل.(1/471)
ومن احب أن يفهم )106 ب ( الخلاف في الحدين الوسطين، كرر الفرد في أوسط أحدهما والزوج في الآخر. ويمكن أن بفهم أنه يعني به التزيد الجدلي فيكون كأنه يقول إن التزيد في نتائج الطريقة الجدلية ليس يكون على الاستقامة فقط، بل تارة يتزيد على الاستقامة، وتارة يعدل إلى جانب فيداخل في أوساط المقدمات نتائج أخرى، أنواعا كثيرة من المداخلة، مثل انه يجعل الحد الكبر شيئا واحدا مثلا، والحدين الآخرين مختلفين فيقول : إن كل عدد فرد - وهو الأصغر - فهو عدد فرد ذو كم - وهو الأوسط؛ وكل عدد ذي كم فهو عدد ذو كم محدود متناه أو غير محدود ولا متناه. فينتج أن العدد الفرد هو ذو كم محدود متناه أو غير محدود ولا متناه. ويقول أيضاً : العدد الزوج - وهو الأصغر - عدد زوج ذو كم؛ وكل عدد ذي كم فهو عدد ذو كم محدود متناه أو غير محدود ولا متناه. فيكون هذا قياسا آخر يشارك القياس الول لا في النتيجة ولكن في الحد الأكبر.
وقد يحول هاهنا إلى جانب آخر في تكثير القياس والنتيجة.
وإنما جوزنا أن يفهم هذا أنه يزيد به جانب الجدل ليتبين أن أكثر قياساته على هذه السبيل. ويقل في البراهين هذا وفي التعليمات لأنها منعكسة الحدود ولأن هذا المثال يليق بالجدليين من حيث المقدمات ومن حيث إنه على مطلوبين متقابلين.
وقد يمكن أن يفهم هذا الموضع من التعليم الأول على غير هذا الوجه، بل على عكسه: وذلك لأن الجدل وإن كان أكثر تصرفا وأكثر شعب تصرف، فإنه أقل نتائج. فإن الجدل لا يتغلغل إلى الكلام في جميع المسائل، فإنه لا تفي بذلك مشهوراته وما يبنى عليها. وذلك لأنه يحتاج في كل مسألة إلى قياس حاضر. فما كان يبين مثلا بألف وسط لا يمكنه أن يحضره. ولا أيضاً ينتفع في جدله ببيان شيء يحتاج إلى أوساط كثيرة جدا لا يفي المخاطب بإيرادها كلها وقت المجادلة. والقياس البرهاني فلا يرى بأسا في أن يكون مطلوبه إنما يتوصل إليه بألف وسط وفي مدة طويلة. فهو يمعن في التركيب على الاستقامة؛ ولا يرى بأسا في العدول أيضاً عن أوساط وحدود صغرى إلى غيرها لأن له مدة فراغ وقد وطن نفسه على التعب.
الفصل الثالث
في استئناف القول على برهان لم وإن
ومشاركتهما ومباينتهما في الحدود واختلافهما في علم وفي علمين
قد تقدم منا القول في إبانة الفرق بين برهان إن أو برهان لم؛ وكيف يكون على شيء واحد برهان إن وبرهان لم. وبقى أن نتحاذى بكلامنا ما قيل في التعليم الأول فنقول :(1/472)
إن الحدود قد يقع فيها برهان إن وبرهان لم على وجهين : أحدهما أن يكون المطلوب واحدا بعينه فيكون عليه قياسان : أحدهما لا يكون قد وفيت فيه العلة الأولى - أي القريبة للأمر، الموجبة له لذاته، وتكون هذه العلة قد وفيت في الآخر، فيشترك القياسان في أن كل واحد منهما أعطى العلة للأمر، ويفترقان في شيئين : أحدهما أن أحد القياسين أعطى العلة البعيدة والثاني أعطى العلة القريبة. والثاني منهما أن أحد القياسين فيه مقدمة تحتاج إلى متوسط وهو العلة القريبة، والمعلول القريب؛ ولذلك لم يعط فيها اللم المحقق، والآخر ليس فيه مقدمة محتاجة إلى ذلك. فهذا أحد الوجهين الممكنين وسيرد تفصيله بعد. وأما الوجه الثاني فأن لا يكون قد أعطى في كل قياس منهما علة لا قريبة ولا بعيدة، ولكن أعطى في أحدهما ما ليس بعلة أصلا : فإنه قد يمكن أن يكون ما ليس بعلة منعكسا على الحد الآخر من المقدمة، سواء كان ما ليس بعلة معلولا للآخر كلمع الكوكب الذي هو معلول لبعده، وهو مما ينعكس على العلة وهو بُعده، ومثل هيئة تزيد ضوء القمر الذي هو معلول كريته، وهو مما ينعكس على العلة وهي كريته، أما كان ما ليس بعلة ليس أيضاً بمعلول للآخر ولا علة، مثل دلالة ثبات الهالة على سجوم المطر عن السحاب الذي فيه الهالة. فإنه إذا كان يمكن أن يكون معلول منعكس أو علامة منعكسة - وإن لم يجب ذلك فربما لم يكن المعلول منعكسا، بل كان اعم مثل إضاءة البيت بسبب الاصطباح، أو كان أخص مثل التدخين عن النار، وكذلك العلامة على ما علمت - فتبين أنه يمكن أن يبين بالمعلول العلة، وبالعلامة ذو العلامة، ويمكن أن يبين بالعكس. وإنما يتوقف الأمر على الأعرف. فإن كان الأعرف نسبة المعلول أو العلامة إلى الحد الأصغر، كان هو الأولى أن يجعل حدا أوسط والعلة حدا أكبر، فكان ذلك وجها من وجهي هذا البرهان، مثل قولك : إن الكواكب المتحيرة مضيئة غير لامعة، وكل مضيء غير لامع فهو قريب، فالكواكب المتحيرة قريبة. وأيضاً : الكواكب الثابتة مضيئة لامعة، وكل مضيء لامع فهو بعيد، فالكواكب الثابتة بعيد. ثم كل واحد من اللمع وسلبه مسبب ومعلول : ذلك للبعد، وهذا للقرب. وكذلك قولك : القمر يتزيد ضوءه كذا وكذا، وكل ما يتزيد ضوءه كذا وكذا فهو كرى، فالقمر كرى. فهذا أيضاً الأوسط فيه معلول الأكبر.
فهذه أمثلة الضرب الثاني من برهان إن. ولو أن هذه الحدود الكبرى كانت أعرف من هذه الحدود الوسطى، وكان القرب والبعد للمتحيرة والثابتة أعرف من اللمع واللامع، والكرية أعرف للقمر من هيئة قبول الضوء، لكان يمكن أن تجعل هذه العلل حدودا وسطى؛ فيقال إن الكواكب المتحيرة قريبة الضوء، وكل قريب الضوء فإنه لا يلمع؛ أو يقال إن القمر كرى، وكل كرى فإنه يقبل الضوء هكذا، فكان هذا برهان لم. على أنه يجوز أن يعلم أولا الإن بالمعلول ثم يقلب فيعلم اللم بالعلة فلا يكون دورا : لأن البيان الأول لم يطلب فيه لم البتة؛ وأما البيان الثاني فلم يطلب فيه إن البتة. فيكون هذا قريبا من المصادرة على المطلوب وليس مصادرة على المطلوب.
ففي أمثال هذه المواد المنعكسة يمكن في علم واحد أن يعلم إن صرف أولا ثم يعلم لم صرف ثانيا من مواد بأعيانها مع ما فيها من تقديم وتأخير وزيادة ونقصان. مثاله أن يعلم بالعلم الرصدي أن القمر كرى الكل لأنه يستضيء كذا وكذا، فيكون هذا محفوظا. ثم يتعرف من العلم الطبيعي أن الأجرام السماوية يجب أن تختص بالأشكال الكرية من جهة برهان طبيعي يعطي اللم والإن جميعا، ثم يقال : فلذلك ما صار على هذا الشكل الذي أنت غير شاك به في إنيته وإنما وإنما تجهل لميته.
وقد يمكن مثل ذلك من وجه آخر. وذلك لأنه د يمكن أن يكون لشيء واحد معلولات ولوازم مقارنة، لا هي علل ولا معلولات، مثل أن تكون معلولات لشيء وتكون منعكسة عليه ويكون له أيضاً علل ذاتية منعكسة عليه، ويكون وجود تلك المعلولات واللوازم لموضوع ما أعرف من وجود الشيء له، ووجود تلك العلة أيضاً لذلك الموضوع أعرف من وجود الشيء له. فإن جعل الحد الأوسط من العلل، كان برهان لم وإن معا؛ وإن جعل من اللوازم والمعلولات كان برهان إن فقط.(1/473)
فإذن هذا الوجه الواحد من وجهي ما نحن فيه قديما قد انشعب إلى وجهين : أحدهما الوجه الذي تكون مواده مشتركا فيها للأمرين ولكن يجري الأمر في الأمرين على العكس. والثاني الوجه الذي تكون مواده مختلفا فيها وأخذا أحد المختلفين، الذي ليس هو العلة، وسطا تارة فأعطى برهان إن، وأخذ ثانيهما الذي هو العلة وسطا تارة فأعطى برهام إن ولم معا. فعلى هذا الوجه يجب أن يفسر هذا الموضع حتى يكون الإن واللم لشيء واحد. والذي يفسره قوم آخرون يكون فيه الإن لشيء واللم لشيء آخر.
ولنرجع إلى تفصيل القسم الذي لا يكون في أحد قياسيه علة قريبة ويكون في الثاني علة قريبة. أما الذي لا يكون فيه علة قريبة فقد قيل في التعليم الأول ما هذا لفظه : " وأيضاً في الأشياء التي يوضع الأوسط فيها خارجا : إنما يكون البرهان على ما لم هو إذا كان أخبر بالعلة نفسها، فإن لم يخبر بها نفسها لم يكن برهان على لم بل على إن " . وإنما يعنى بالعلة العلة القريبة.
لكن قوله " الأشياء التي يوضع فيها الأوسط خارجا " يحتمل معنيين : أحدهما ألا يكون ترتيب الحدود على ترتيب الشكل الأول بل على ترتيب الثاني مثلا، فيكون الحد الأوسط خارجا ولا يكون أعطى العلة القريبة فيه - كما نقول في الشكل الثاني إن الجدار لا يتنفس لأنه ليس بحيوان، وكل متنفس حيوان. وهذا التأويل أظهر. ويكون إنما نسب إلى الشكل الثاني لأنه كما علمت أولى بالسلب. وهذا يقع في البراهين السالبة أكثر وإن كان قد يقع في الموجبة.
فأما التفسير الثاني - وهو الأصوب وإن لم يكن الأظهر - فهو أنه يعنى بالأوسط الأوسط في القياس والوجود جميعا، وهو العلة القريبة، على أنها منعكسة؛ ويكون معنى وضعه خارجا ألا يكون قد رتب في أجزاء القياس بل تُرك من خارج. فإن الجدار في مثالنا المذكور ليس علة كونه غير )107أ( متنفس ما وُضع وهو : كونه ليس بحيوان، بل ما ترك خارجا وهو : كونه غير ذي رئة. فإنه إذا كان للإيجاب مطلقا علة منعكسة، فرفع تلك العلة علة السلب، وكان السلب مطلقا إذا كان له علة منعكسة، فمقابل تلك العلة علة بالإيجاب. ولو كان علة أنه لا يتنفس كونه ليس بحيوان، كان علة أنه يتنفس، كونه حيوانا : وليس كذلك، فإن من الحيوان ما لا يتنفس، وكذلك ليس علة أنه لا يتنفس أنه ليس بحيوان، بل الحيوان أعم مما لا يتنفس و " ليس بحيوان " أخص مما " لا يتنفس " : فإن من غير المتنفسات ما هو حيوان. بل علة التنفس أخص من الحيوانية وهو وجود الرئة. وعلة عدم التنفس أعم من عدم الحياة وهو عدم الرئة.
ولكن قوما لشدة تكلفهم دقة الكلام والتقدير فيه، يتباعدون عن العلل القريبة إلى البعيدة، كما قيل إن بلاد الصقالبة ليس فيها زُمّار إذ ليس فيها كروم. ولو قيل إنه ليس فيها خمور لكان عسى قد أديت العلة القريبة في الإغناء عن المطربين. ولكن أعطى علة العلة فلم يوضح المقصود ولم يبرهن.
وقد قيل في التعليم الأول : إنما يمكن أن يكون هذا في الأكثر في علمين إذا كان أحدهما تحت الآخر بمنزلة علم المناظر عند علم الهندسة، وعلم الحيل عند علم المجسمات، وعلم تأليف اللحون عند علم العدد؛ وعلم ظاهرات الفلك تحت أحكام النجوم - أي أحكام علة الهيئة : فإن هذه العلوم يكاد أن يكون الأعلى والأسفل منهما متواطئ الاسم. وإنما قيل " يكاد " ولم يُقل بالحقيقة؛ وذلك لأن العلمين من هذين ينسبان إلى شيء واحد من وجه : فإن الظاهرات وعلم الهيئة كلاهما ينظر في حال الأجرام والأبعاد. وكذلك النجوم التعليمي ونجوم أصحاب الملاحة، فإن كليهما ينظر في مواضع النجوم. وتأليف اللحون التعليمي وتأليف اللحون السماعي كلاهما ينظر في حال النغم. وكذلك علم المناظر وعلم الهندسة ينظران في أشكال وخطوط ومقادير. وكذلك علم الحيل وعلم المجسمات ينظران في مقادير ذوات عمق.
فلهذا الاشتراك الذي لها تشبه المتواطئة ولكن ليست بالحقيقة متواطئة لسببين : أحدهما أن العلمين في بعض الأصناف المذكورة لا يشتركان في النسبة اشتراكا تاما : فإن علم الموسيقى ينظر في عدد ما بحال؛ وهو عدد وقع في نغم. وعلم المناظر ينظر في مقادير ما بحال وهي مقادير ما للبصر إليها نسبة. وعلم الحساب ينظر في العدد على الإطلاق، وعلم الهندسة ينظر في المقادير على الإطلاق.(1/474)
والوجه الثاني أنهما ولو اشتركا في المنظور فيه واستقرت نسبتهما إليه من جهة كمية المنسوب إليه وكيفيته، فليست النسبة معا؛ بل لبعضها أولا ولبعضها آخرا - وهذا يمنع التواطؤ الصرف - وإن اشتركت أشياء في المعنى إذاً لم تتساو فيه، بل اختلفت بالتقديم والتأخير والاستحقاق أو النقصان والزيادة كما تبين لك من قبل. ولما كادت تكون هذه من المتواطئة أسماؤها شابهت بوجه ما العلم الواحد فشاركت بوجه ما في المسائل لكن اختلفت؛ فإن العلم الأعلى يعطي اللم والعلم الأسفل يعطى الإن على نحو ما كنا نحن أنفسنا أوضحناه في موضعه.
ثم قيل : وذلك لأن العلم بإن هو لمن يُحس بالأمر؛ فأما العلم بلم فهو لأصحاب التعاليم. معناه أن العلم " بإن هو " للملاّح والعلم " بلم هو " للمنجم. والعلم " بإن هو " للمتدرب في صناعه الموسيقى العملية والعلم " بلم هو " لصاحب علم التأليف التعليمي. وهذا هو طاهر الكلام الذي قيل في التعليم الأول. وقيل إن أصحاب العلوم العالية عندهم السبب وكثيرا لا يحسون بالجزئيات ولا يشعرون بها على ما هي عليها، وكثيرا ما يسمع التعليمي العالم بالموسيقى بُعد الذي بالأربعة أو الطنيني أو غير ذلك من الأبعاد المتفقة، فلا يحس ولا يعلم أنها متفقة مع أنه يعلم السبب في اتفاقها؛ لأن عنايته بالأمر الكلى لا الأمر الجزئي، وعنايته بالصورة مجردة عن المادة في الوهم لا محصلة في المادة بالطبع أو الصناعة : فإن المقادير أو الممسوحات وإن كانت لا تكون إلا في المادة، فإن المهندس ينزعها عنها وينظر فيها لذاتها لا لما يعرض لها من وجود في مادة على ما أوضحناه من قبل.
فهذا القسم هو الأكثر. وقد يكون على وجه ثان. وهو أن يكون جزء من علم ما تحت علم آخر لا كله، مثل أن النظر في الهالة والقوس وما أشبه ذلك من الخيالات الكائنة من انعكاس البصر إلى نير أو ملون غير أملس صقيل، جزء من العلم الطبيعي وموضوع تحت علم المناظر ثم الوسط والمقوم من مكان الكواكب، وبين ما يرى عليه الكوكب أو يرى عليه أكر التدوير في أبعادها البعيدة والقريبة، وزوايا انحرافات المنظر، جزء من علم المجسطى وواقع تحت علم المناظر. والعلم كله ليس واقعا تحته. فهاهنا أيضاً يعرض مثل ما يعرض هناك فيكون عند الطبيعي " أن القوس هي هكذا أو هكذا بسبب كذا " سببا غير محصل ولا مقرب. وعند المناظري أنه لم هو بالسبب المحصل المقرب.
وقد يكون على وجه ثالث : وهو أنه قد يتفق ألا يكون العلم كله ولا جزء ما معين منه تحت علم آخر، بل مسألة ما بعينها : إذ يتفق أن يقع عارض غريب لموضوع الصناعة مثل استدارة الجرح، فغن هذا العارض يوجب عارضا ذاتيا وهو عسر الاندمال، فيكون الموضوع قد صار باقتران عارض غريب مخصصا مهيأ لالتزام عارض ذاتي. ولو لم يُجعل مخصصا ما التزم عارضا ذاتيا على ما أوضحنا. فيكون برهانه المعطى للم لا من ذلك العلم، بل من العلم الذي منه العارض الغريب. فالطبيب يحكم أن الجراحات المستديرة بطيئة الاندمال، والمهندس يعطي العلة في ذلك حين يقول لأن الدائرة أوسع الأشكال إحاطة.
وقد يمكن أن يعطى سبب مركب من العلم الطبيعي والهندسي فيقال : لأن الاندمال تحركه إلى الوسط : فإذا كانت زاوية تعينت جهة الحركة فيسهل الالتقاء، وإذا لم تكن زاوية الحركة في جميع المحيط معا وتقاومت الأجزاء وأبطأ الاندمال.
وقد أوردوا في الشروح مثالا لما يكون برهانه في العلم الأسفل من جهة الإن. وفي العلم الأعلى من جهة اللم : أن صاحب المناظر يحكم بأن المخروط البصري إذا بعُد فنِيَ : وعلة ذلك يعرفه المهندس من قبل معرفته بأن الخطين اللذين يخرجان عن غير قائمتين يلتقيان. وهذا المثال غير جيد : وذلك لأنه يجب أن يكون المثال مشتملا على شيء يبرهن عليه في العلمين ببرهانين مختلفين. وأما الذي أورده - إن صح - فيكون مما يوضع في المناظر وضعا لا مما يبرهن عليه فيه.
نعم لو عنوا أن أمرا ما إذا كان مما يبرهن بهذه المقدمة في العلم المناظري، وهي غير معطاة العلة، فإنما يبين بما لم يتحقق بعد، فلا يكون بيانه ببرهان لمَ، وإذا وقع إلى المهندس صار ذلك برهان لِمَ - كان له وجه. على أن هذا المثال رديء جدا وبالعكس من الواجب : لأن الصنوبرة زاويتها عند الحدقة وقاعدتها عند المبصر، وهنالك لا التقاء البتة. ل كلما أمعن كان التباين أكثر.(1/475)
فهذه الأشياء مما قيلت في التعليم الأول وفي الشروح. وقد كان وعد التعليم الأول أن يرينا قياسين على إن ولم في علمين مختلفين، وهذه الأمثلة التي أُردت في إنجاز ذلك الوعد. ومآخذ التفاسير لها إنما ترينا أمرين : أحدهما أن يكون اللم معلوما بقياس، والإن موجودا بالحس. والثاني أن يقع الإن في غير ما وقع اللم. فإذن هذه الأمثلة إما أن ترينا قياسين على مختلفين، وإما أن ترينا أمرين أحدهما قياس والآخر غير قياس. والذي أظنه حلا لهذه الشبهة هو أن المعلم الأول لم يعن بقوله " يحس الأمر " أن يكون حاسا بالنتيجة والمطلوب، بل تكون عنده مقدمات مأخوذة من الحس تنتج المطلوب " إنه " دون " لِمَ هو " : فإن أصحاب العمل لهم مقاييس عن مقدمات تجريبية وامتحانية، وبينهم محاورة في إثبات وتبكيت مبنية على ذلك : مثلا كما يقول صاحب التأليف السماعي إن هذه النغمة ليست موافقة لهذه النغمة من أجل أن الوتر الفلاني كذا، ومن أجل أن النغمة الفلانية كذا. فتكون مقدمات حسية ينتج منها نتيجة حسية يتبين بها أن شيئا كذا أو ليس كذا. وكذلك يقول صاحب صناعة الملاحة " ليس هذا وقت أن يكون كوكب كذا في ذلك الموضع لأن الكوكب كذا بعد لم يُشرق " . ويقول صاحب العلم الطبيعي " إن هذه القوس ليست نصف دائرة لأن الشمس )107ب ( ليست على الأفق " - فيكون أما أولئك فقد أخذوا مقدمات امتحانية، وأما هذا فقد أخذ مقدمة مسلمة عن على بعيدة غير بينة بالعلة القريبة : فإن كون الشمس على الأفق ليست على قريبة، إنما العلة القريبة لذلك وقوع قطب القوس على الأفق. بل إنما بيان مقدمته بالعلة القريبة في علم المناظر، فيكون معنى أمثلة المعلم الأول على هذا الوجه.
الفصل الرابع
في فضيلة بعض الأشكال على بعض
وفي أن قياس الغلط كيف يقع في الأشكال
قد بيّن المعلم الأول أن الشكل الأول أصح الأشكال وأكثرها إفادة لليقين لوجوه ثلاثة : أولها أن العلوم التعاليمية إنما تستعمل هذا الشكل في تأليفات براهينها، ويكاد كل علم يعطي في مسألة برهان لمَ فإنما يستعمل هذا الشكل في الأكثر : وذلك لأن حقيقة هذا الشكل أن تكون العلة موجودة للحد الأصغر فيوجد له معلول، فإن هذا تأليف الشكل الأول : إذ يكون قد أوجدت العلة للأصغر وتبع فيه المعلول العلة. فإن كان البيان البرهاني لا يجاب الكلى، فلا يكون إلا بالشكل الأول؛ وإن كان بالسلب فقد يمكن في الشكل الثاني، ولكن يكون قد غُيّر هذا النظام لأن الحد الأصغر يكون أعطى العلة وحملت عليه العلة ثم لم يجعل المعلول تابعا للعلة في الوجود له، بل حرّف فجعل المعلول متبوعا والعلة تابعة له. فلا تكون العلة قد جرت معلولها بالقصد الأول، وفي الشكل الأول تكون قد فعلت ذلك بالقصد الأول. وأما الشكل الثالث فلا تكون أيضاً العلة قد أُوجدت فيه للحد الأصغر، بل يكون الحد الأصغر أوجد العلة التي يتبعها معلول، فتكون العلة لم تجرّ المعلول بالقصد الأول.
إنما الشكل الأول هو الذي يعطي الشيء فيه علة ما ثم يتبع المعلول علته. فهذا بالحقيقة هو الذي بالفعل برهان لم. وسائر ذلك بالقوة برهان لمَ.
والوجه الثاني أن العلم بما هو - وهو الحد - إن أمكن أن يُنال بقياس فإنما يمكن بهذا الشكل.
وسنوضح بعد أنه كيف يمكن ذلك بقياس وكيف لا يمكن. أما أنه لمَ هو بهذا الشكل فلأن الحد موجب كلى، والشكل الثاني لا ينتج موجبا، والشكل الثالث لا ينتج كليا.
والوجه الثالث فهو أن الشكل الأول قياس كامل بيّن القياسية بنفسه. والشكلان الآخران إنما يبين أنهما بالرد إليه - إما بعكس وإما بافتراض. والخُلف أيضاً فإنه يُرد إليه بوجوه. فإذا رُد إليه صار إلى المقدمات الأولى التي لا وسط لها وإلى الترتيب الأول القياسي الذي لا وسط له : فاجتمع عدم الوسط في الوجهين جميعا.
وهاهنا وجوه من الفضيلة للشكل الأول : من ذلك أن تحليل القياسات إلى المقدمات الأولية لا يمكن بغيره : لأنه لابد في كل قياس من موجبة وكلية، والموجبة لا تنحل إلى مقدماتها التي أنتجتها بالشكل الثاني. والكلية لا تنحل إليها بالشكل الثالث.(1/476)
ووجه آخر أن المطالب البرهانية يراد فيها تقصي العلم ومعرفة ما للشيء بالذات وذلك بالكلى الموجب. فأما الجزئي فليس به علم مستقصى : لأن قولك بعض ج ب مجهول أنه أي بعض هو. فإذا عينته وعرفته وكان مثلا " البعض الذي هو رد " عاد إلى الكلية فصار كل د ب. أما السالب فإنه يعرف من الشيء ما ليس له، وهذا أمر غير ذاتي وبغير نهاية، إلا أن يُومأ في ضمن السلب إلى معنى ليس ساذج السلب فتكون قوته قوة الموجبة المعدولية. ويكاد يكون أكثر السوالب البرهانية على هذه الصفة كبرهان المعلم الأول على أن الفلك لا ضد له.
فإذن النظر المستقصى الذاتي هو الموجب الكلى، وهو مما لا ينال إلا بالشكل الأول. وقد يكفي الشكل الأول من الفضائل أن هيئته هيئة قياس بالفعل، وهيئة غيره هيئة قياس بالقوة، فقد أوضحنا أن ذلك كيف يكون.
وكأن قائلا تشكك على المعلم الأول في هذا الموضع إذ ذكر أن تحليل القياسات من الشكلين الآخرين إلى مقدمات غير ذات وسط في الشكل الأول أن السالبة كيف يكون لها تحليل إلى مقدمات غير ذات وسط، فإن المقدمات التي تنحل إليها السالبة فلا بد فيها من سالبة، فكيف تنتهي إلى سالبة غير ذات وسط، وكيف تكون سالبة غير ذات وسط؟ أما الموجبة التي لا وسط لها فهي التي لا يمكن أن يكون المحمول فيها أولا لشيء هو علة لوجوده للموضوع. والسالب كيف يكون فقدانه للوسط، ليت شعري! فقال إنه كما أن الموجبة قد تكون بغير وسط - أي بحيث لا يقتضي حمل محموله على موضوعه شيئا متوسطا يقطع مجاورتهما، فيكون هو أولا للموضوع، والمحمول له أولا ثم للموضوع؛ فكذلك السالبة قد تكون بغير انقطاع، أي بحيث لا يكون الحكم بسلب محمولها عن موضوعها مقتضيا شيئا آخر عنه يسلب محموله أولا وهو موجود للموضوع؛ ولأن السلب الكلى منعكس، وخصوصا في الضروريات لذاتيات : فمتى وجد لأحد الحدين شيء محمول عليه ليس على الآخر، وإن لم يكن أو لم يسبق أولا إلى الذهن وجود شيء للآخر محمول عليه ليس للأول، أو كان يوجد لكل واحد منهما شيء يخصه أو أشياء فيكون في كل رتبة شيء أو أشياء خاصة تساوى ذلك الحد، كانت الرتبتان متنافيتين ليس في إحداهما شيء يدخل في جملة الأخرى، فإن المحمول على أحدهما يمكن أن يجعل حدا أوسط، فيكون سلبهما أيّهما شئت عن الآخر بقياس.
فغن المحمول الموجب إنما هو في جانب أحد الحدين فقط، كان ذلك بقياس واحد لا غير، مثل إن كان كل أ ج ولا شيء من ب ج : أو كان كل ب ج ولا شيء من أ ج.
وإن كان المحمول الموجب قد وجد في جانب كل واحد من الحدين، كان بقياسين. مثلا إن كان أ، د، ج طبقة متساوية، و ط تحمل عليها وتساويها؛ وب، ه، ز طبقة مساوية، ج يحمل عليها ويساويها؛ ومعلوم أن شيئا من هذه الطبقة لا يحمل على شيء من تلك الطبقة. فغن قيل : كل أ ط ولا شيء من ب ط، كان قياس. وإن قيل كل ب ج ولا شيء من أ ج كان قياس، وهما قياسان، وكذلك الحال إن لم يكن إلا ويحمل عليه ط فقط أو ب ويحمل عليه ج فقط. لكن العادة في التمثيل جرت بذلك.
فإذا كان على أحد الحدين محمول خاص كان السلب بانقطاع. فيجب أنه إذا كان ليس علة أحد الحدين محمول خاص، وأحدهما مسلوب عن الآخر، أن يكون ذلك سلبا بلا انقطاع - أي بلا واسطة - فإنه أي واسطة أُحضرت، كانت مسلوبة عن الطرفين أو موجبة على الطرفين فلم ينتج.
وأما لفظ الكتاب في نسختنا فيوهم بدل المحمول الموضوع والأقسام بحالها. وذلك أيضاً من وجه يستقيم، ولن النتائج تكون جزئية : فإنه إذا كان على كل بعض حكم كلى بقياس، فليس على الكل بلا قياس. وقد وضع كليا بلا انقطاع. فيشبه أن يكون هذا معنى ظاهر النسخة التي عندنا. والأولى ما كتبناه أولا.
ولقائل أن يقول : إن السالبة التي لا وسط لها إن طلبت بهذه الشريطة لم توجد : فإنه لا يخلو أ، ب من حد أو رسم ومن أجزائهما. وإن كان نفسه حدا لم يخل من اسم يدل على المعنى بلا تفصيل. وبالجملة ليست الأشياء تخلو عن خواص ولوازم حتى الأجناس العالية التي لا يحمل عليها جنس. فكيف يوجد أ، ب غير محمول على أحدهما شيء لا يحمل على الآخر؟(1/477)
فأقول : إنه عسى ألا يكون مثل هذا الوسط أي محمول اتفق، وألا يكون القياس كل ما له وسط أي وسط اتفق، بل يجب أن يكون الوسط شيئا : وجوده للأصغر والحكم بالأكبر عليه : كل واحد منهما أعرف من الحكم بالأكبر على الأصغر. وفي المطلوب السالب يجب أن يكون وجود الوسط للأصغر، وسلب الأكبر عن الأوسط، أعرف من سلب الأكبر عن الأصغر. فحينئذ يكون وسط وقياس.
فيشبه أن يكون المعلم الأول عنى محمولا نسبته إلى أ وإلى ب أعرف من نسبة ما بينهما.
هذا وقد علمت أن الجهل ليس صنفا واحدا : بل من الجهل ما هو بسيط - وهو عدم العلم في النفس فقط : وهو ألا يكون للنفس رأي في المر - حق ولا صواب - وهذا لا يكتسب بقياس، فإنه سلب العلم فقط وخلو النفس عنه، وإن كان قد يظن أن ذلك مكتسب بقياس على أحد وجهين : إما على ما ظنه بعضهم )108أ( أن تكافؤ الحجج يوجب هذا الجهل،وهذا خطأ. بل تكافؤ الحجج يثبت هذا الجهل الموجود ويحفظه، وأما أنه يحدثه فليس. وإما على ما ظنه بعضهم أن الرأي الباطل إذا أفسد بحجج ولم يتضح بفساده الرأي الحق، أوجب ذلك حينئذ الجهل البسيط الذي السلب فقط، وكان بقياس. وهذا أيضاً ليس بالحقيقة حادثا عن القياس، بل بالعرض : لأن ذلك القياس إنما أوجب بالذات بطلان الرأي الفاسد. فلما بطل ولم يكن هناك رأي آخر، عرض أن بقيت النفس عادمة للرأي أصلا كما كانت، بل القول الصواب أن هذا الجهل لا يكتسب.
ومن الجهل ما هو مركب - وليس هو علما فقط، بل فيه مع عدم العلم وجود رأي مضاد له، وهو جهل على سبيل القُنية والملكة، وهو مرض نفساني، وذلك لأن صحة كل شيء إما أن تكون موجودة على مزاجه الذاتي وفطرته الأصلية فقط، أو يكون قد اكتسب مع ذلك كمالا ثانيا، كمن يكون مع وجوده على مزاجه الصحي جميلا أو قويا. وليس هو في المزاج من البدن، بل وفي التركيب ايضا، فغن صحة البدن هي في اعتدال المزاج واستواء التركيب.وكمال الصحة أن تقترن بهذين المرين البدنيين الأمور التي يستعد البدن بهذين لها من الجمال والجزالة والقوة.
كذلك صحة النفس على وجهين : صحة أولى - وهي أن تكون على فطرتها الأولى ومزاجها مثلا الأصلي، وليس فيها معنى خارج عن الملاءمة. وصحة ثانية - وهي أن تحصل لها الزوائد الكمالية التي تتعد لها بتلك الصحة، وهي العلوم الحقيقية. وكما أن البدن إذا حدث فيه أمر غريب لا تقتضيه فطرته، فمنع مقتضى فطرته والأفعال التي له بذاته، كان البدن مريضا، كذلك النفس إذا اعتقدت الآراء الباطلة المخالفة لما يجب أن يكون مبنيا على فطرتها الأصلية، كانت مريضة.
وإنما سمى هذا الجهل مركبا لأن فيه خلاف العلم ومقابله من وجهين : أحدهما أن النفس خالية عن العلم، والثاني أن مع خلوها عن العلم قد حدث فيها ضد العلم. وهذا النوع من الجهل قد يقع ابتداء وإذعانا للنفس له من غير حد أوسط، وقد يقع باكتساب قياسي. والكائن باكتساب قياسي إما أن يكون فيما لا وسط له، أو فيما له وسط. والكائن فيما له وسط إما أن يكون الحد الأوسط فيه من الأشياء المناسبة أو من الأشياء الغريبة. وجميع ذلك إما أن يكون الوسط فيه هو بعينه أوسط القياس الصادق بعينه، أو ليس هو بعينه. ولا يخلو إما أن يكون يقابله حق سالب فيكون هو موجبا، ويقع في الشكل الأول فقط إن كان كليا، أو يكون يقابله حق موجب فيكون هو سالبا، ويقع في الشكل الأول والثاني معا إن كان كليا.(1/478)
ولنبدأ بالانخداع الواجب فنقول : إذا كان الحق هو أنهلا شيء من ب أ وكان بغير انقطاع واختدع فظن أن كل ب أ حتى يكون في غاية المضادة للحق، وكان ذلك بقياس حده الأوسط ج، فقد يمكن أن تكون الصغرى والكبرى كاذبة، وقد يمكن أن تكون إحداهما فقط كاذبة. أما القسم الأول فإذا كان ج شيئا لا يحمل على ب ولا يحمل عليه أ، وأخذ أن كل ب ج، كل ج أ ، أنتج الباطل. وهذا ممكن : فإنه لابد أن ل ب ، ل أ ما لا يحملان عليه. ويجوز أن يتفقا في واحد من ذلك وإلا وجب أن يختص بعض ذلك بإيجاب طرف فجاء وسط. وكذلك إن كان ج إنما يحمل على بعض ما من ب لا على كله ، ب غير ممكن أن يكون في كل شيء البتة؛ أو أن يكون في كله شيء البتة - أي مما يباين ب، لأن ب أ مقدمة بلا وسط في كلها، فيكون قولنا كل ب ج كاذبة بالجزء؛ وكل ج أ كاذبة بالكل والجزء معا، أو بالجزء وحده. وأما إن كانت إحداهما فقط صادقة، فلا يمكن إلا أن تكون الكبرى. ومثال هذا أن نفرض أ محمولة ولها موضوعان ج، ب، لكنها تكون موجبة على ج ومسلوبة عن ب بلا انقطاع؛ ب، ج لا يحمل أحدهما على الآخر. فإن قيل كل ب ج وهو الباطل، وكل ج أ وهو الحق، أنتج باطلا وهو أن كل ب أ.
وسواء كان هذا السلب والإيجاب بانقطاع أو بغير انقطاع، فإن هذه المادة لا تنتج إلا باطلا. فهذا هو وجه إعطاء القياس الذي خدعه في اعتقاد الكلى الموجب، ولا يكون إلا في الشكل الأول. وأما القياس الموقع للجهل المركب بكلى سالب غير ذي وسط، فيكون في الشكل الأول عن مقدمتين كاذبتين : فإنه إذا كان كل ج وكل ب أ بلا واسطة وكان لا شيء من ب ج، فقيل كل ب ج، ولا شيء من ج أ، أنتج لا شيء من ب أ. ويمكن أن تكون إحداهما صادقة أيتهما كانت. فلنضع أولا الكبرى صادقة. ولتكن أ حينئذ من المسلوبات عن ج والموجبات ل ب، وهما كما قلنا. وهذا ممكن. فيجب أن يكون قولنا كل ب ج كاذبا - وهي الصغرى - . فإن قيل كل ب ج، وهو كذب، ولا شيء من أ ج وهو صدق، أنتج الكذب. ولنضع الصغرى صادقة : فإنه إذا كان الحق أن كل ب ج وكل ج أ فقيل كل ب ج ولا شيء من ج أ أنتج لا محالة سالبا مضادا للحق. وهذه المادة هي أن تكون أ موجبا ل ب و ج معا ب تحت ج أو مساو ل ج. لكن الجهل المركب لا يكون بمقدمة غير ذات وسط.
وأما الشكل الثاني والمقدمتان كاذبتان بالكل، فلا يمكن ذلك لأنهما إذا رُدا إلى الصدق فأُوجبت السالبة وُلبت الموجبة أنتجا ذلك بعينه : فإنه إذا قيل أولا إن كل ب ج ولا شيء من أ ج وكانتا كاذبتين بالكلية وأنتجتا لا شيء من ب أ، فإن رُدا إلى الصدق فقيل لا شيء من ب ج، كل أ ج أنتجتا ذلك بعينه - وهو انه لا شيء من ب أ.
وكذلك إن كان القياس الكاذب هو انه لا شيء من ب ج، كل أ ج وكانتا كاذبتين بالكلية وأنتجتا لا شيء من ب أ. فإن رُدا إلى الصدق فقيل : كل ب ج ولا شيء من أ ج أنتجتا ذلك بعينه. فإذن نتيجة هذا القسم صادقة دائما.
وأما إن كان الكذب بالجزء فممكن أن يقع منه قياس الخدعة على موجبة غير منقطعة. فإنه إذا كان بعض ب ج، بعض أ ج؛ وكان كل ب أ فقيل لا شيء من ب ج، كل أ ج : أو قيل كل ب ج ولا شيء من أ ج، كانت المقدمتان كاذبتين بالجزء والنتيجة كاذبة لا محالة.
وقد يجوز أن يكون الكذب في إحداهما فقط : فإنه إذا كان في مثالنا كل أ ج فبيّن أن كل ب يكون ج لأن كل أ ب، كل أ ج. فإن كذب في هذه فقيل كل أ ج ولا شيء من ب ج، أنتج الكذب. وأيضاً إن كان ج ليس محمولا على شيء من أ فكان لا شيء من أ ج فيكون لا محالة لا شيء من ب ج. فإن قيل لا شيء من أ ج، كل ب ج أنتج الكذب.
وأيضاً إن كان كل ب ج كذب حينئذ أنه لا شيء من أ ج لأن ب أ، ج.فغن قيل كل ب ج، ولا شيء من أ ج - وهو كذب - أنتج الكذب.
فلنتكلم الآن في القياس الموقع للجهل المركب بقضية ذات وسط. ولنبدأ بما يوقعه في موجب كلى ذي وسط في الشكل فنقول : أما إذا كان الوسط مناسبا، كان قياس الحق لا محالة من كليتين موجبتين، فكان مثلا كل ب ج، كل ج أ حتى أنتج الحق وهو كل ب أ. ولما غلط فيه حتى أنتج المضاد للحق فلا يمكن أن يكذب في المقدمتين جميعا، وإلا صارتا سالبتين فلم ينتج التأليف.(1/479)
ولا أيضاً يمكن أن يكذب في الصغرى فتصير سالبة فلا ينتج، بل إنما يمكن أن يرد إلى الكذب ما يجوز أن يكون سالبا في الشكل وهو الكبرى لا محالة، إذ الشكل هو الشكل الأول. فالكذب السالب إنما يمكن أن يكون في الكبرى فقط. وأما إذا كان الأوسط ليس مناسبا فيمكن أن تكون أ محمولة على كل ب، ج موضوع ل أ مثل ب إلا أنه مباين ل ب مثل الإنسان والفرس تحت الحيوان. فإن قيل كل ب ج - وهو كذب - ولا شيء من ج أ - وهو كذب - أنتج الكذب. والحق لا شيء من ب ج وكل ج أ، وهذا لا ينتج البتة، فليس الأوسط مناسبا.
ويمكن أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة : فإنه إذا لم تكن ج تحت أ وكانت ب تحت أ وموضوعة لها، وكان ج، ب )108ب ( متباينتين، فإذا قيل كل ب ج كان كاذبا؛ ثم قيل ولا شيء من ج أ وكان صادقا، أنتج منهما كاذب، وهو أنه لا شيء من ب أ.
أما مثل ذلك في الشكل الثاني في الوسط - سواء كان منابا أو غير مناسب - فإن الكاذبتين في الكل قد بان من أمرهما أن نتيجتهما صادقة لا محالة.
وأما إذا كانت إحداهما كاذبة في الكل أيتهما كانت، أمكن أن يقع منه قياس الخدعة مثل أن يكون كل ب ج، كل أ ج، كل ب أ. فإن أُقرّت إحدى المقدمتين على الصدق وسلبت الأخرى أيتهما كانت، أنتج لا شيء من ب أ وهو كذب، وإحدى المقدمتين صادقة.
وأما الكاذبتان في الجزء مثل أن يكون ج في بعض أ وفي بعض ب وكل ب أ، فأخذ أيهما كان موجبا كليا والثاني سالبا كليا، أنتج الكذب، مثل أن يقال كل أ ج ولا شيء من ب ج أو : لا شيء من أ ج وكل ب ج. وأما قياس الخدعة والحق سالب والظن موجب والمتوسط مناسب، فقد بان أن هذا لا يكون إلا في الشكل الأول. وبيّن بما قلناه في ضد هذا أن الصغرى يجب أن تُقرّ على إيجابها الذي كان في القياس الصادق فيبقى صادقا، وإنما يمكن قلب الكبرى ورجعها إلى الموجب - فلا يمكن إذن ألا من صادقة صغرى وكاذبة كبرى. فإن كان الحد الأوسط غير مناسب وبحيث لا ينعقد من نسبته الصادقة إلى الطرفين قياس ينتج الحق، فيمكن أن يكذبا في قياس الخدعة معا، ويمكن أن تكذب الصغرى وحدها، ولا يمكن أن تكذب الكبرى وحدها. فإنه إن كان كل ج أ وكان لا شيء من ب ج، كان ولا شيء من ب أ. فغن قيل كل ب ج وإن كان كاذبا، وكل ج أ وكان صادقا، أنتج كاذبا وهو أن كل ب أ. وإن كان لا شيء من ج أ هو الحق، فيمكن أن يكون كل ب ج إذا كان لا شيء من ب، ج )هو( أ، ويمكن ألا يكون شيء من ب ج. فإن كان كل ب ج حقا وقيل كل ج أ وكان باطلا - وكان كليا في بطلانه - كان أنتج باطلا من مناسب. وأما إن كان جزئيا في كذبه، فإنه يمكن ان ينتج من أوسط غير مناسب. وأما إن لم يكن شيء من ب ج فنقلت المقدمتان إلى الإيجاب الكلى، أنتج كذبا لا عن مناسب : فإنه حيث تكون الصغرى سالبة لا يكون الأوسط مناسبا مع ذلك. مثال الأول الحيوان بدل ب والعلم بدل ج والموسيقى بدل أ. والمثال الثاني الموسيقي بدل ب والعلم بدل ج والمناظر بدل أ. والثالث الموسيقي بدل ب والمناظر بدل ج والحيوان بدل أ. ففي القسم الأول لابد من أن تكون الصغرى كاذبة. وفي القسم الثاني الكبرى كاذبة في الجزء، وفي الثالث تكون المقدمتان جميعا كاذبتين حتى ينتج الكذب، فيكون كل موسيقي فهو علم المناظر، وكل علم المناظر فهو حيوان، فكل موسيقي فهو حيوان.
الفصل الخامس
في ذكر كيفية انتفاع النفس بالحس في المعقولات
وذكر المفردات من المعاني وكيف تكتسب. وفي التركيب الأول منها وكيف ينتهي إليه تحليل القياسات قيل إن من فقد حسا ما فقد يجب أن يفقد علما ما - أي العلم الذي يحرك النفس إليه ذلك الحس فلا يمكنه أن يصل إليه. وذلك أن المبادئ التي منها يتوصل إلى العلم اليقيني برهان واستقراء : أي الاستقراء الذاتي. ولابد من استناد الاستقراء إلى الحس.
ومقدمات البرهان كلية، ومبادئها إنما تحصل بالحس، وبأن تكتسب بتوسطه خيالات المفردات لتتصرف فيها القوة العقلية تصرفا تكتسب به الأمور الكلية مفردة؛ وتركبها على هيئة القول. وإن رام أحد أن يوضحها لمن يذهل عنها ولا يحسن التنبه لها، لم يمكن إلا باستقراء يستند إلى الحس لأنها أوائل، ولا برهان عليها، مثل المقدمات الرياضية المأخوذة في بيان أن الأرض في الوسط؛ والمقدمات الطبيعية في أن الأرض ثقيلة والنار خفيفة.(1/480)
ولذلك فإن أوائل العوارض الذاتية لكل واحد من الموضوعات فإنما تعرف بالحس أولا ثم يكتسب من المحسوس معقول آخر : مثل المثلث والسطح وغير ذلك في علم الهندسة، سواء كانت مفارقة أو غير مفارقة، فإن وجوه الوصول إليها أولا بالحس. فهذا قول مجمل قيل في التعليم الأول. ونحن فقد حاذينا بكلامنا ذلك، على أنا نزيدك تفصيلا فنقول : يجب أن نعلم انه ليس شيء من المعقولات بمحسوس؛ ولا شيء من المحسوس، من جهة ما هو معرض للحس، بمعقول، أي معرض لإدراك العقل له، وإن كان الحس مبدأ ما لحصول كثير من المعقولات. ولتمثل لهذا من الإنسان المحسوس والمعقول أولا فنقول. إن كل واحد من الناس المحسوسين فإن الحس يناله أيضاً بقدر ما من العظم، وهيئة ما من الكيفية، ووضع ما معين في أجزاء أعضائه، ووضع له في مكانه. وكذلك تنال هذه الأحوال في عضو عضو منه. فلا يخلو إما أن يكون هذا الذي أدركه الحس هو الإنسان المعقول، أو يكون المعقول شيئا غير هذا المحسوس - وإن كان يلازمه. ثم من البين أن الإنسان المعقول مشترك فيه على السواء. فزيد عند العقل إنسان كما وعمرو إنسان، وذلك بالتواطؤ المطلق. وهذا المحسوس ليس بمشترك فيه : إذ ليس مقداره وكيفيته ووضعه مشتركا فيها. وهو غير محسوس هذا المحسوس إلا كذلك.
فإذن ليس الإنسان المعقول هو المقصور في الخيال من الإنسان المحسوس. وبالجملة إن الشيء الذي يصادفه الحس ليس هو حقيقة الإنسان المشترك فيها، وليس هو الذي يصادفه العقل منها إلا بالعرض. فلننظر كيف يجب أن يكون الإنسان المعقول فنقول : يجب أن يكون مجردا عن شريطة تلحقه من خارج مثل تقدير بعظم ما معين، وتكييف بكيفية ما معينة، وتحديد بوضع ما معين، وأين ما معين. بل يكون طبيعة معقولة مهيأة لأن تعرض لها كل المقادير والكيفيات والوضاع والأيون التي من شأنها أن تعرض للإنسان في الوجود. ولو أن الإنسان كان تصوره في العقل بحده مقترنا بتقدير ما أو وضع ما وغير ذلك، لكان يجب أن يشترك فيه كل إنسان. وهذا العظم المشار غليه، والوضع والأين وغير ذلك إنما يلحق الإنسان من جهة مادته التي تخص به.
فبين أن الإنسان من حيث يتصور في العقل بحده، مجرد بتجريد العقل عن المادة ولواحقها، وهو بما هو كذلك غير متطرق إليه بالحس. بل الإنسان إذا تناوله الحس تناول مغمورا بلواحق غريبة. ثم نقول : إن الموجودات فسمان : معقولة الذوات في الوجود، ومحسوسة الذوات في الوجود. فأما معقولة الذوات في الوجود فهي التي لا مادة لها ولا لواحق، وإنما هي معقولة بذاتها لأنها لا تحتاج إلى عمل يعمل بها حتى تصير معقولة، ولا يمكن أن تكون محسوسة البتة. وأما المحسوسات الذوات في الوجود فإن ذواتها في الوجود غير معقولة بل محسوسة، لكن العقل يجعلها بحيث تصير معقولة لأنه مجرد حقيقتها عن لواحق المادة.
ونقول إنه إنما يكتسب تصور المعقولات بتوسط الحس على وجه واحد، وهو ان الحس يأخذ صور المحسوسات ويسلمها إلى القوة الخيالية فتصير تلك الصور موضوعات لفعل العقل النظري الذي لنا، فتكون هناك صور كثيرة مأخوذة من الناس المحسوسين، فيجدها العقل متخالفة بعوارض مثل ما تجد زيدا مختصا بلون وسحنة وهيئة أعضاء، وتجد عمرا مختصا بأخرى غير ذلك. فيقبل على هذه العوارض فينزعها فيكون كأنه هذه العوارض منها ويطرحها من جانب حتى يتوصل إلى المعنى الذي يشترك فيه ولا يختلف به، فيحصلها ويصورها. وأول ما يفتش عن الخط الذي في الخيال فإنه يجد عوارض وذاتيات؛ ومن العوارض لازمة وغير لازمة، فيفرد معنى معنى من الكثرة المجتمعة في الخيال ويأخذها إلى ذاته.
وأما كيفية هذا الصنيع ومائية القوة الفاعلة لذلك، والقوة المعينة للفاعلة، فليس هذا الموضع موضع العلم به، بل هو من حق علم النفس. لكن الذي نقوله هاهنا فهو : أن الحس يؤدي إلى النفس أمورا مختلطة غير معقولة، والعقل يجعلها معقولة. فإذا أفردها العقل معقولة كان له أن يركبها أنحاء من التركيب، بعضها على التركيب الخاص بالقول المفهم لمعنى الشيء كالحد والرسم، وبعضها بالتركيب الجازم.(1/481)
بل نقول إن تصديق المعقولات يكتسب بالحس على وجوده أربعة : أحدهما بالعرض والثاني بالقياس الجزئي بالاستقراء )109أ( والرابع بالتجربة. أما الكائن بالعرض فهو أن يكتسب من الحس، بالوجه الذي قلنا، المعاني المفردة المعقولة مجردة عن الاختلاط الحسي والخيالي، ثم يقبل العقل على تفصيل بعضها عن بعض وتركيب بعضها مع بعض. ويتبع ذلك أحكام العقل بالفطرة في بعضها ويتوقف في بعضها إلى البرهان. أما القسم الأول من هذين فيكون باتصال من العقل بنور من الصانع مفاض على النفس والطبيعة يسمى العقل الفعال، وهو المخرج للعقل بالقوة إلى الفعل ولكنه وإن كان كذلك، فغن الحس مبدأ ما له بالعرض لا بالذات.
وأما القسم الثاني منهما فيفزع فيه إلى الحد الأوسط، فإذا حصل الحد الأوسط اكتسب المعقول المصدق به اكتساب الأوليات بعينها وبقوة ذلك المبدأ. فهو وجه من الأربعة.
وأما الكائن بالقياس الجزئي فأن يكون عن العقل حكم ما كلى على الجنس فيحس أشخاص نوع لذلك الجنس، فيتصور عنه الصورة النوعية، ويحمل ذلك على النوع فيكتسب معقولا لم يكن.
وأما الكائن بالاستقراء فإن كثيرا من الأوليات لا تكون قد تبينت للعقل بالطريق المذكور أولا. فإذا استقرأ جزئياته تنبه العقل على اعتقاد الكلى من غير أن يكون الاستقراء الحسي الجزئي موجبا لاعتقاد كل البتة، بل منبها عليه. مثل أن المماسين لشيء واحد وهما غير متماسين يوجبان قسمة لذلك الشيء. فهذا ربما لا يكون ثابتا مذكورا في النفس. فكما يحس بجزئياته يتنبه له العقل ويعتقده.
وأما الكائن بالتجربة فكأنه مخلوط من قياس واستقراء؛ وهو آكد من الاستقراء. وليس إفادته في الأوليات الصرفة بل بمكتسبات الحس. وليس كالاستقراء، فإن الاستقراء لا يوقع من جهة التقاط الجزئيات علما كليا يقينيا وإن كان قد يكون منبها. وأما التجربة فتوقع؛ بل التجربة مثل أن يرى الرائي ويحس الحاس أشياء من نوع يتبعها حدوث فعل أو انفعال. فإذا تكرر ذلك كثيرا جدا حكم العقل أن هذا ذاتي لهذا الشيء وليس اتفاقيا عنه، فغن الاتفاق لا يدوم. وهذا مثل حكمنا أن حجر المغناطيس يجذب الحديد وأن السقمونيا تسهل الصفراء. ومن هذا الباب أن يكون شيء يتغير من حاله بالطبع لاقتران شيء آخر معه ووصوله إليه ولا يمكن عند العقل أن يكون تغيره بذاته، فيحكم أن السبب هو الواصل إليه، وخصوصا إذا تكرر.
فهذه الأنواع تفيدنا بالحس علوما كثيرة. ومبادئ العلوم كثيرة، والتجربة منها، فإن فيها اختلاط استقراء حسي بقياس عقلي مبني على اختلاف ما بالذات وما بالعرض، وإن الذي بالعرض لا يدوم. وقد أشرنا إلى بيان هذا فيما سلف.
فهذه هي الأنحاء التي لاستفادة العقل علما تصديقيا بسبب من الحس بحسب ما حضرنا الآن. وقد ذكرنا نوعا من استفادة التصوير بسببه.
فإذن كل فاقد حس ما فإنه لعلم ما وإن لم يكون الحس علما.
ولما كان كل قياس مؤلفا من حدود ثلاثة : أما الموجب منه فإنما يبين أن شيئا ما موجود لثان لأنه موجود لثالث موجود للثاني. وأما السالب فيبين أن شيئا غير موجود لثان لأنه غير موجود لثالث موجود للثاني.
وكذلك القياس على كل واحد من نسبة ما بين حدين حدين. إن كانت محتاجة إلى وسط ومشكلة غريبة، فلابد من أن تنتهي إلى مبادئ وأصول موضوعة موجبة أو سالبة لا محالة لا وسط لها على الإطلاق، أو في ذلك العلم. والمبرهن يأخذ المقدمات الأولى على أنها لا وسط لها، على أحد الوجهين المذكورين، وينحل آخره إلى مالا وسط له مطلقا وإن لم يكن في ذلك العلم.
والذين يقيسون : إما على الظن - وهم الخطابيون - أو على الرأي المشهور - وهم الجدليون - فليس يجب أن تنتهي تحليل قياسهم الى مقدمات غير ذوات وسط في الحقيقة. بل إذا انتهيت إلى المشهورات التي يراها الجمهور، أو المقبولات التي يراها فريق، كان القياس قياسا في بابه، وإن كانت المقدمات الأولى ليست ذوات وسط، بل لها وسط ما مثل أن العدل جميل والظلم قبيح، فإنه مأخوذ في الجدل على أنه لا وسط له. وفي العلوم يطلب لذلك وسط. وربما طلب أيضاً في الجدل على نحو ما يخاطب به سقراط تراسوما خوس.
وربما كان المشهور لا وسط له - لا لأنه بيّن بنفسه وفي حقيقته - بل لنه كاذب مثل أن اللذة خير وسعادة.(1/482)
فتحليل القياسات الجدلية يجب أن يكون إلى المشهورات؛ وتحليل البرهانية يجب أن يكون إلى البرهانيات.
ويجب أن نبتدئ الآن فنبين أن هذه الأوساط متناهية بعد أن نعاود مرة أخرى حال ما بالذات وما بالعرض من المحمولات. فنقول : يقال من وجه للمحمول إنه محمول بالحقيقة لا بالعرض إذا كان الموضوع مستحقا لأن يوضع بذاته محصل الذات ليحمل عليه ما يحمل، فوضع وحمل عليه محمول ما أي حمل كان، مثل قولنا الإنسان أبيض : فإن الإنسان جوهر قائم بذاته غير محتاج إلى حامل يحمله. ثم البياض قائم فيه ومحتاج إلى حامل له مثله. فإذا جُعل الإنسان موضوعا والأبيض محمولا فقد حُمل حمل مستقيم فهو حمل حقيقي لا بالعرض. وبإزاء هذا القسم حمل ما بالعرض، وهذا إما أن يقلب ما من شأنه ن يكون محمولا في طباعه فيوضع لما من شأنه أن يكون موضوعا في طباعه. فيقال أبيض ما إنسان، فيكون بالحقيقة قد أخذ الموضوع مرتين بالقوة. وذلك لأن البيض من جهة ما هو أبيض فقط لا يمكن أن يكون موضوعا، لكن الموضوع هو الذي عرض له أن كان أبيض - وهذا هو الإنسان الذي عرض له البياض، فهو أبيض. وإما أن يكون عرضان في واحد فيحمل أحدهما على الآخر، فيقال إن الأبيض متحرك : أي الشيء الذي عرض له البياض فقد عرض له الحركة، لا أن الأبيض نفسه من حيث هو أبيض موضوع للمتحرك.
ويقال للشيء إنه محمول بالذات والحقيقة إذا كان الوصف له بنفسه، كان عن طبعه أو بقاسر أوجده فيه، ولكنه ليس لشيء غيره من اجله يقال له. وإذا تحققت لم تجد الصفة في نفسه، مثل ما يقال إن الحجر متحرك وإن كان لا بالذات يتحرك ولكن بالقسر.
وبإزاء هذا محمول بالعرض، وذلك إذا كان الشيء يوصف بمحمول ليس في ذاته مثل ما يقال للساكن في السفينة إنه متحرك وإنه يسير إلى موضع كذا، وإذا حققته وجدته ساكنا. فربما كان الموصوف به بالحقيقة منفصلا عنه كالسفينة في هذا المثال، وربما كان متصلا كما يقال كرم أبيض أي عناقيده بيض. ويقال محمول بالذات لمثل حمل العم على الأخص كالحيوان على الإنسان. ويقابله المحمول بالعرض وهو أن يحمل الأخص على العم، فيقال حيوان ما إنسان.
ويقال للشيء إنه محمول بالذات إذا كان محمولا على ما يحمل عليه أولا، مثل السطح إذا قيل له أبيض. وبإزاء هذا : محمول بالعرض كما يقال جسم أبيض - أي سطحه أبيض.
ويقال للشيء إنه محمول بالذات والحقيقة إذا كان ليس وارادا على الشيء من خارج، غريبا، بل هو شيء يقتضيه طبعه ويكون من طبعه مثل ما نقول إن الحجر يتحرك إلى أسفل بالذات. وبإزاء هذا المحمول بالعرض كالحجر يتحرك إلى فوق بالقسر.
ويقال محمول بالذات لما لم يكن من شأنه أن يفارق الشيء في حال. وبإزائه المحمول بالعرض. فيشبه أن يكون انحدار الحجر إذا حمل عليه الحجر من المحمولات بالعرض من هذه الجهة لأنه ليس ملازما.
ويقال محمول بالذات لما كان ليس من شأنه أن يفارق الشيء وكان مع ذلك مقوما لماهيته لا واردا غريبا. وبإزائه المحمول بالعرض معروف. فيكون إذن كون السطح أبيض محمولا بالعرض.
ويقال محمول بالذات لكل ما من شأنه أن يؤخذ في حد الشيء أو يؤخذ الشيء في حده. وبالجملة ما يكون مناسبا لذلك الشيء بالحد الذي لأحدهما. فما خرج من هذين يكون محمولا بالعرض.
ونريد أن نبين أن المحمولات الذاتية على ما بينا من الذاتي متناهية، ولا يلتفت إلى ما بالعرض في هذا الموضوع.
الفصل السادس
في حكاية ما قيل في التعليم الأول
من )109ب ( تناهى أجزاء القياسات وأوساط الموجب والسالب
فنقول محاكين للتعليم الأول : قيل قد علم أن المحمولات بذاتها موجودة، والموضوعات بذاتها موجودة. فليكن موضوع بذاته مثل ج وليس من شأنه أن يصير محمولا إلا بالعرض. وليكن حمل ه على ج أول بلا متوسط وكذلك ز ل ه، ب ل ز. أفتري أن هذه المحمولات تتمادى بلا نهاية من موضوع أول محدود فيؤخذ دائما على كل محمول محمول بلا واسطة، ولا يقف، أو يقف؟ ثم ليكن ب شيئا ليس من شأنه أن يحمل عليه شيء آخر بالذات، لكنه محمول على ط بلا وسط؛ ط على ج كذلك، ج على ب كذلك. أفتري أن هذه النزول في الموضوعات من محمول أول محدود، يتمادى بلا نهاية ويؤخذ دائما موضوع لموضوع بلا واسطة ولا يقف، أو يقف؟(1/483)
والفرق بين البحثين أنا ابتدأنا في الأول منهما من الموضوع المحدود وأخذنا نصعد في المحمولات. وابتدأنا في الثاني منهما من المحمول المحدود وأخذنا ننزل في الموضوعات.
ولتكن أ محمولة على ج بوسط ب - سواء كان أ لا محمول عليه أو عليه محمول؛ و ج لا موضوع له أو له موضوع. فهل يمكن أن يكون بين أ وبين ب أوساط موضوعات ل أ ومحمولات على ب بلا نهاية، وبين ج، ب كذلك؟ وهذا البحث يفارق الأولين بأن المحدود كان في ذينك طرفا واحدا، والمحدود هاهنا طرفان. وإنما يطلب : هل الوسائط بينهما بغير نهاية، فيكون هذا البرهان متوقفة الصحة على براهين بلا نهاية؟ وليس هذا و ج موجب لها أ فقط، بل وإن كانت مقدمة أ ج سالبة والمتوسط ب فصارت ب ج موجبة أ ج سالبة. فهل دائما بين أ ج واسطة؟ وكذلك هل بين كل كبرى سالبة تحدث واسطة، أو تقف قبل؟ وهذا الطلب لا يكون في الأشياء التي تستحق أن ينعكس بعضها على بعض، إن كانت أشياء تستحق أن ينعكس بعضها على بعض في الحمل بالحقيقة وليس فيها موضوع أول ومحمول ثان، بل كل واحد منها يصلح أن يكون محمولا وموضوعا، أو واسطة بين محمول وموضوع. بل الشك يكون منا في الحالتين جميعا أنه هل يوجد لما وضع محمولا شيء آخر ينعكس عليه وعلى صاحبه بحيث يذهب إلى غير النهاية، أو هي محدودة؟ وإذا استبان تناهي حمل والحمل وضع، اللهم إلا أن يكون الحكم كل واحد منهما في العكس مثل حكم صاحبه. بل يكون أحدهما حمل حملا حقيقيا والآخر حُمل حملا عرضيا.
أقول : إن لهذين تأويلين : أحدهما أن يكون الحمل الحقيقي مثل حمل الضحاك على الإنسان، والعرضي كحمل الإنسان على الضحاك. فإن ذهب هذا المذهب فمعناه أن هذه المتعاكسات تكون في الطبع أحدهما موضوعا والآخر محمولا متعينا، ولا يكون حكمهما على ما قلنا من انه ليس أحدهما أولى من الآخر بذلك. والتأويل الثاني أن يكون الحمل العرضي كحمل الإنسان على الحيوان، والحمل الذاتي الحقيقي كحمل الحيوان على الإنسان : فإنه وأن حمل حيوان على إنسان وإنسان على حيوان فالموضوع والمحمول بالذات معين. وإذ قد تقرر هذا فنقول : إن الوسائط بين حدي الإيجاب متناهية. فليكن كل ب أ : فنقول إن الوسائط بينهما متناهية وهي الأشياء التي تحمل على كل واحد منها، أو يحمل واحد منها على ب وبعضها على بعض في الولاء. وذلك أنها إن كانت بغير نهاية لكان إذا أخذنا من جهة ب، صاعدين على الولاء، أو من جهة أ نازلين على الولاء، لم نبلغ البتة الطرف الثاني. سواء أخذنا بعضها على الولاء بلا واسطة بينها، أو أخذنا بعضها وقد تركنا الوسائط فيما بينها، أو أخذنا الكل متتالية ولا واسطة بينها وكانت لا تتناهى، أو أخذنا الكل على طفرات يتضاعف لها مالا نهاية له، فإن الكلام في ذلك واحد. فإذا كنا كلما ابتدأنا من حد لم ننته إلى حد أخير، فليس هناك حد أخير : فإنه لا فرق بين قولك هذا سبيل لا يتناهى عند السلوك، وقولك لا حد له. وكذلك قولك له حد، وقولك يتناهى إليه عند السلوك واحد. ثم من المحال أن يكون حد محدود ولا يبلغ إليه، ونهاية لا يتناهى إليها. ويكون ذلك كقول من يقول أنت إذا أخذت تتصاعد من الواحد لم تبلغ البتة الألف الذي هو حد محدود لن بينهما درجات للعدد بلا نهاية. ولا ينتقض هذا بالمقادير ويقول القائل : إن بين طرفي كل مقدار حدودا بالقوة بلا نهاية، وذلك لأن المقادير المتصلة لا قسم لها ما لم يقسم البتة : وكل قسم يفرض فيها يكون محدود العدد، وأن اللا نهاية التي تتوهم بين حدين منها هو أمر بالقوة، أي تلك الحدود التي فيها هي في القوة، ووجودها في القوة، ولا توجد البتة موجودة بالفعل، بل واحد منها بعد واحد.والذي نحن في البحث فيه فإن فيه حدين وطرفين. وإذا كان بينهما وسائط، تكون معاني تستحق ترتيبا في أنفسها، كانت حاصلة لا متوقفة على قسمة قاسم. فبين إذن أنه لا يمكن أن يكون بين مثل هذين الطرفين وسائط بلا نهاية.(1/484)
وكذلك المر في السلب إذا قلنا : لا شيء من ج أ وكان بينهما واسطة ك أعني شيئا مثل ب يوجد ل ج ولا يوجد له أ ، فليس يمكن أن تكون دائما بواسطة بعد واسطة في المقدمتين جميعا : الكبرى السالبة والصغرى الموجبة. أما الموجبة فقد فرغنا عنه. وأما السالبة فلأن بيان ذلك يكون من أحد الأشكال الثلاثة، أما على سبيل الشكل الأول كما مثلنا له فيجب على كل حال إن كانت الوسائط التي للكبريات تذهب إلى غير النهاية - أن تحصل موجبات بغير نهاية، لكل سالبة موجبة وسالبة ينتجانها معا، ثم للموجبة موجبات. وقد بان في الموجبات أنها متناهية.
فإذا كانت الحدود الموجبة للصغرى السافلة لا يمكن أن تذهب إلى غير نهاية بين حدين، فبين أن الذي لا يزيد عليها في العدد من حدود الكبريات العالية السالبة - متناهية.
وكذلك هذا إذا كان الشكل شكلا ثانيا : وذلك لأم الموجبة وإن لم يجب فيه أن تكون الصغرى بعينها، فلابد من أن يكون في كل قياس مقدمة موجبة.
وأما الشكل الثالث منها، فغن الموجب فيها متعين على كل حال.
وقيل أيضاً إن المحمولات الداخلة في ماهية الشيء متناهية، لأن هذه داخلة في تحديد الأشياء.
والحدود إنما تتم بها. فلو كانت الحدود متوقفة إلى أن توجد فيها بغير نهاية، لما كان يمكننا أن نحد شيئا. لكن الحدود موجودة، إذ الأمور متصورة، فمبادئها متناهية.
ثم قيل بعد هذا في التعليم الأول : إنا إذا قلنا إن الأبيض يمشي، وهذا الكبير هو خشبة، فقد عكس الحمل والوضع عن وجه استحقاقه وأما إذا قيل الخشبة هي كبيرة، أو قيل هذا الإنسان يمشي، فإنه قد أجرى الحمل والوضع على وجه استحقاقه. وذلك أن قولنا الأول - وهو أن الكبير خشبة أو الماشي إنسان - ليس معناه أن نفس الماشي من جهة ما هو ماش، أو الكبير من جهة ما هو كبير موضوع للخشبة أو الإنسان، ولا معناه أن الماشي بنفسه شيء قائم غير مقتض ولا متضمن شيئا آخر هو موضوع له، فإن ذلك لا يصبح. بل معنى قولنا " المشي إنسان " أن الشيء الذي عرض له المشي وعرض له أن كان ماشيا، ذلك الشيء هو إنسان. وكذلك الشيء الذي عرض له أن كان بمقدار كذا وعرض له ان كان كبيرا، ذلك الشيء هو خشبة. وأما معنى قولنا " إن الإنسان ماش " معناه أن الإنسان نفسه - لا شيئا يعرض له أن يكون إنسانا - هو بنفسه ماش. وكذلك قولنا " الخشبة كبيرة " معناه أن نفس الخشبة - لا شيئا آخر يعرض له أن يكون خشبة - هي كبيرة. وأنت تعلم أن بين قولك " الشيء الذي هو ماش وله عرض المشي " ، وبين قولك " الشيء الذي هو إنسان أو خشبة أو جوهر أو ذات " ، فرقا. وذلك لأن الشيء في الأول عين من الأعيان هو في نفسه نوع من الأنواع، وحقيقة من الحقائق. والماشي، من حيث هو مجرد شيء ذي مشي، شيء آخر ليس هو.
وأما في المثال الآخر، فإن الشيء الذي هو جوهر ليس ذات الجوهر، وليس شيئا عرض له جوهرية فيكون في نفسه أمرا محصّل النوعية والحقيقة : وقد أضيف إليه معنى آخر خارج عن ذاته يسمى لأجله جوهرا كما سمى هناك )110أ( لأجله ماشيا.
فالإنسان والخشبة موضوعان ولا يقتضيان نسبة إلى موضوع وإلى شيء غير جوهرهما. فأما الماشي والكبير فكل واحد منهما يدل على معنى الماشي والكبير، ويدل على موضوع.
فلنضع للأمرين اسمين يفترقان به، فنجعل حمل الماشي على الإنسان مخصوصا باسم الحمل بالحقيقة، وأما حمل الإنسان على الماشي فلنخضه باسم الحل بالعرض.
وكل حمل فإما أن يكون من طريق ما هو الشيء، وأما أن يكون على سبيل كيف هو أو كم هو، أو مضاف هو، أو أين هو، أو متى هو، أو يفعل أو ينفعل، وكذلك سائر المقولات. وبعض ذلك داخل في الجوهر، وبعضه عارض : كالإنسان يحمل عليه الأبيض. وليس في المحمولات شيء خارج عن هذين البتة.
أما الصور الأفلاطونية فعليها السلام، فإنها أصوات وأسماء باطلة لا معنى لها. ولو كانت موجودة لم يكن لها مدخل في علم البرهان، إذ البرهان بهذه المحمولات المذكورة.
وهذه العرضيات توجد في الجوهر في الحقيقة، وإن كان يمكن في القول أن يجعل كم ما وحده موضوعا لكم، وكيف ما وحده لكيف. وأما في الوجود فلا يمكن ذلك، بل كلها وأما في الوجود فلا يمكن البتة أن يكون السطح وما يعرض له إلا قائمين في الجوهر وهو الموضوع بالحقيقة للجميع.(1/485)
وإذا كان كذلك فإن الطرف الذي هو الموضوع الحقيقي حد ونهاية. والمحمولات الداخلة فيما هو الشيء، محدودة متناهية من الجناس والفصول : إذ بينا أن الذهن لا يمكن أن يقطع أمورا بلا نهاية لتحديد شيء واحد. والتحديد موجود. والمحمولات العارضة، لها طرف من جهة الموضوع - وهو الجوهر - وطرف من جهة المحمولات - وهو المقولات العشر : لأن كل واحد منها إما كيف وإما كم وإما مضاف وإما غير ذلك. فما بين الطرفين محدود على ما أوضحنا قبل.
وأيضاً فإن المحمولات من جملتها داخلة في حدودها - أعني حدود المحدودات الجزئية منها، الموجودة في الموضوع، وإن لم تكن داخلة في حدود موضوعاتها من الجوهر. والداخلات في حدود الشيء متناهية. فإذن جميع المحمولات متناهية، سواء كانت داخلة في حدود الجواهر، أو كانت أعراضا ذاتية، أو أعراضا غريبة.
فقد استبان من هذه الجهة أيضاً تناهى الأوساط. وهذه الجهة هي جهة اعتبار التصور والحد. فقد بان واتضح أن هاهنا مقدمات أولى، وأن محمولات وموضوعات بلا واسطة، وأنها جارية على الولاء. والأشياء التي تعلم بالبرهان لا يمكن أن تعلم بوجه آخر أشرف منه. وكل علم برهاني فإنما يكون بعلم أقدم منه. فإن ذهب ذلك إلى غير النهاية ارتفع العلم البرهاني أصلا. وأما إن وقف عند مقدمات لا أوساط لها، فأحسن ما تأوّل عليه ذلك أن يكون الوقوف عند أصول موضوعة. والوقوف عند أصول موضوعة - إن كانت تلك الأصول لا تتبرهن في علم آخر - وقوف غير برهاني.
فيجب إذن إن كان وقوف على أصول موضوعة أن يكون لها وقتا ما بيان برهاني. وفي آخر الأمر يجب أن ينتهي البحث إلى مقدمات لا أوساط لها، وإلا لم يمكن برهان ولا علم برهاني.
فلم يكن احتجاج الخصوم في إمكان وجود أوساط لانهاية لها برهانيا يلتفت إليه.
ولما كان البرهان إنما يؤخذ من جهة الأشياء الموجودة للموضوع بذاتها - إما داخلة في حد الموضوع أو الموضوع داخل في حدها : مثال الأول الكم والكثرة للعدد - وقد بان أن هذا القسم متناه - ومثال الثاني الفرد للعدد - وهذا أيضا لا يجوز أن يذهب إلى غير النهاية حتى يكون للفرد شئ مثل ما للعدد، ولذلك الشيء شئ آخر : وذلك لأن قوام جميع ذلك مع الفرد يكون في العدد، ويكون العدد مع الفرد مأخوذ في حدودها. فإن ذهبت تلك إلى غير النهاية ذهب أيضا معها ما يؤخذ في حدودها إلى غير النهاية، لأن لكل محمول منها موضوعا من هذه التي تؤخذ في حدودها؛وكل سابق داخل مع المسبوق حد المحمول. فتكون موضوعات بغير نهاية متتالية كلها تؤخذ في الحدود.وقد بان استحالة هذا. فإنه لما كانت الموضوعات المأخوذة في حدود محمولاتها لا تذهب إلى غير نهاية، فكذلك المحمولات التي تساويها في العدد.
على أن لقائل أن يقول.إنما بان استحالة ذلك في أشياء غير متناهية تؤخذ في حد شئ واحد، وهاهنا لا يكون المأخوذ في حد شئ واحد منها إلا لجملة متناهية من تلك الغير المتناهية، هي ما بين الطرفين، وذلك الواحد وما بين الطرفين كل واحد - متناه.
فيقال له. قد جُعِلَ هاهنا لغير المتناهي من الموضوعات حصول بالفعل، والفعل يشتمل على الجميع من غير أن يبقى شئ خارجا منه هو بعدُ بالقوة. وكل واحد والكل والجميع موجود في حد واحد.لأن كل سابق مأخوذ في حد ما يؤخذ فيه المسبوق. أعنى بالسابق القريب من الطرف، ويكون شئ خارج عنه هو مأخوذ من حده. فيجب أن يكون لما حصل في الوجود من الموضوعات محمول خارج عنها، لكن لبس شئ خارج عنها، بل كل محمول يوجد فيؤخذ على أنه من جملتها. هذا محال.
ثم كيف يمكن أن تكون أمور بلا نهاية هي معا في جنس واحد، بل في شئ واحد بالعدد لها ترتيب؟ فإن الفرد وما يتبعه من اللواحق الغير المتناهية إنما توجد كلها لا محالة في شئ من أنواع العدد. وكلما صعد المحمولات انتقص عددها. والعدد المتضمن للترتيب فإنه في النقصان متناه إلى الوحدة.
فقد بان إذن أنه لا الموضوعات المأخوذة في حدود المحمولات، ولا المحمولات المأخوذة في حدود الموضوعات، ذاهبة إلى غير النهاية. فقد بان من جميع هذا أن للبراهين مبادئ ذوات أوساط، وبان أنها لا برهان عليها، وأنها مقدمات غير منقسمة، وحين بانَ أن الحمل من فوق ومن أسفل واقف، وأن هناك حملا أولا على الشيء.(1/486)
وإنه وإن كان كثير من الحمل على الموضوع يكون لسبب عام مثل أن حمل مساواة ثلاث زوايا المثلث لقائمتين على متساوي وعلى مختلف الأضلاع ليس ولا على واحد منها أولا من جهة ما هو هو، بل من جهة ما هو مثلث - والمثلث عام لهما - فليس يجب أن يكون دائما كل حمل لكل شئ إنما هو أولا لشيء عام، حتى يكون للمثلث شئ آخر عام، وكذلك لذلك الشيء شئ آخر عام. بل يكون الأمر لشيء بذاته وأولا، ويكون بلا واسطة والمقدمة الواحدة والبسيطة والاسطقسية هي في هذه التي لا واسطة لها، ولا تنقسم بالقوة إلى مقدمتين بدخول حد؛ وليس عليها برهان: فإن ما ليس ينقطع بحد أوسط فليس عليه برهان : فإن ما ليس ينقطع بحد أوسط فليس عليه برهان.
وهذه المبادئ بعضها مبادئ البراهين المنتجة للموجبات، وبعضها مبادئ البراهين المنتجة للسالبات. فإنه كما أنه قد تكون مقدمة غير ذات وسط موجبة - وهي مبدأ للبرهان الموجب، كذلك تكون مقدمة غير ذات وسط سالبة، وهي مبدأ للبرهان السالب.
وهذه بسائط المقدمات وأوائلها، كما أن أول الثقل منا، وأول الأبعاد اللحنية هو ربع الطنينى الذي نسبة إحدى نغمتيه إلى الأخرى نسبة ست وثلاثين إلى خمس وثلاثين. وذلك لأن هذه لا تنقسم إلى أبعاد أخرى، وينقسم إليها بوجه ما سائر البعاد التي لها الأسماء، مثل الذي بالكل والذي بالخمسة والذي بالأربعة والطنينى. وإذا انقسمت المقدمة بالحد الأوسط وكانت موجبة كلية فلا يمكن أن يقع الحد الأوسط خارجا عن الطرفين، بل يكون متوسطا بينهما لا محالة.
وأما في السالب فقد يقع خارجا وقد يقع غير خارج، فإن كان مغزاك في قياسك أن تسلب عن الوجود للأصغر، فلا يمكن أن يقع خارجا، ولو أمعنت في التحليل، فلم تزل توسط بين كل حدي سلب هذا النوع من التوسيط.
وأما البيان بالشكل الثالث فلإثبات الجزئي فقط، وهو أيضاً بيان لا بالفعل بل بالقوة. وكل حد يقع في الشكل الأول فإنه يقع بين بين، أي بين الحدين. لكنه يخرج في الشكل الثاني - لا من جانب الأصغر، لكن من جانب الأكبر؛ وبالجملة من جانب الكلى.
ويخرج في الشكل الثالث، لا من جانب الأكبر الذي )110ب ( يمكن أن يكون سالبا، بل من جانب الأصغر. وكذلك إذا رأيت في التحليل أن تصحح السالبة من قياس مقدمة من الشكل الأول، فلك أن تستمر في التحليل وتدخل الوسط بين بين. وأما إن احتجت إلى مثل ذلك من قرائن في الشكل الثاني، وأردت أن تركب قياسا لإنتاج السالبة، لم يخرج من جانب الأصغر. وفي الثالث لم يخرج من جانب السالب.
فقد حاذينا ما قيل في التعليم. وجميع ما أوردنا من هذا توخينا فيه إيراد ما قيل في المشهور. ويجب أن تعلم أن جملته في انه إذا كان حدان امتنع السلوك من أحدهما إلى الآخر إن كانت وسائط بلا نهاية. وإن كانت محمولات بالحقيقة غير متناهية، لم يكن حد ولا برهان. فلا يلزم شيء من هذا من ينكر البرهان والحد، إلا أن يبين عليه من وجه آخر أن هاهنا حدا وبرهانا. وليس ذلك على المنطقي، بل هو موضوع له. وأن المعتمد ما ذكر من أمر التحليل لأن التحليل يوجب ألا تكون المحمولات في الشيء متناهية. ومن جميع هذا لا تبين أن التزايد في البراهين لا يذهب إلى غير النهاية، بل التحليل فقط. وأما أن التزايد كيف يذهب إلى غير النهاية فسنوضحه بعد.
الفصل السابع
في أن البرهان الكلى كلّ أفضل من مقابله
في أن البرهان الكلى والموجب والمستقيم كلّ أفضل من مقابله
قيل في التعليم الأول إنه لما كانت البراهين منها كلية ومنها جزئية ومنها موجبة ومنها سالبة، ومنها مستقيمة ومنها بالخلف، فيجب أن يبحث هل البرهان الكلى أفضل أم جزئي، وهل الموجب أفضل أم السالب، وهل المستقيم أفضل أم الخلف؟ ثم قيل إن لظان أن يظن أن البرهان الجزئي أفضل من الكلى بأن يقول : إذا بينا أن زيدا موسيقار أو ناطق من نفس زيد، فهو أفضل من أن يبين أن كل إنسان كذلك، لأن هذا بيان للشيء من ذاته، وذاك بيان له - لا من ذاته؛ بل من بيان أمر في غيره. وليس أن يعرف أن متساوي الساقين زواياه مساوية لقائمتين من نفسه، كما يعلم ذلك لا من نفسه، بل من شيء آخر هو المثلث. ولما كان البيان من الجزئي بذاته ومن نفسه، والبيان من الكلى ليس من ذات الشيء ومن نفسه، والذي بذاته أفضل، فالجزئي أفضل.(1/487)
وأيضاً لظان أن يظن أن الجزئي أفضل من جهة أخرى، لأن الموجودات هي هذه الجزئيات، والكلى إما أمر غير موجود، بل موهوم فقط، وإما أمر موجود فيها، قائم بها. فغن كان غير موجود فما برهن به عليه إنما برهن على غير موجود فيها. والبرهان على الموجود أفضل منه على غير الموجود. وإن كان موجودا لكنه قائم فيها غير خارج عنها.
ثم البرهان على الكلى يجعله كأنه شيء مفارق بالذات للجزئيات وخارج عنها، فيجعل المثلث شيئا غير هذا المثلث وذاك المثلث، والعدد شيئا غير هذا العدد وذاك العدد. وما أوجب تحريف الحق فهو محرف عن الحق. فإذن البرهان على الكلى إما أن يقع على معدوم، وإما على محرف الوجود عن حقيقته، فالبرهان على الجزئي إذن أفضل.
وأيضاً فإن البيان الكلى شديد التعرض للغلط بسبب أن مستعمليه يكونون كالمبرهنين على غير المطلوبات. مثلا إذا برهن مبرهن على أن الكليات المتناسبة إذا بدلت تكون متناسبة، فلا يكون قد برهن بالذات قد برهن بالذات على خط أو سطح، بل على ما ليس شيئا منها. وإن كان البرهان الكلى من وجه ما هو أكثر، فإنه من وجه آخر على ما هو أقل في الوجود، لأن الذي هو في الوجود هو خط آخر أو سطح أو زمان. على أنه كثيرا ما يتفق أن يقع بالجزئي ظن يخالف الحق الكلى - على ما قيل في " أنولوطيقا " . ولو كان البرهان يقصد به أن يكون على الجزئي وعلى الموجود الحاصل، لاستحال وقوع علم وظن معا. فإذن البرهان على الكلى أخس وأوضع.
ثم قيل في التعليم الول : ليس العلم بالجزئي أكثر من العلم بالكلى، بل أقل : فإنه إذا كان المثلث المتساوي الساقين زواياه كذا وكذا ليس لأنه متساوي الساقين، بل لأنه مثلث، فالذي يعلم ذلك في متساوي الساقين لا من جهة ما هو متساوي الساقين، بل من جهة ما هو مثلث، فعلمه أكثر، إذ يعلم ذلك بالقوة القريبة من الفعل في غير متساوي الساقين من المثلثات، كما يعلمه في متساوي الساقين. وإذا علمه للمثلث فقد علمه لما هو له بالذات، وإذا علنه لمتساوي الساقين فقد علمه لا لما هو له بالذات. فالكلى إذن أفضل.
وأيضاً فغن اللفظ الدال على طبيعة الكلى ليس اسما مشتركا بل اسما متواطئا. وليست طبيعته في الجزئيات كطبيعة الأعراض، بل طبيعة ملائمة للجوهر داخلة في الحد وليس وجوده أقل من وجود الآحاد الجزئية، وإن كان هو واحدا لتشابهه، وتلك لا نهاية لها. وذلك لأن وجود الثابت الباقي أكثر وآكد من وجود الفاسد. والبرهان على الجزئي الفاسد من جهة ما هو جزئي يكاد لا يغني ولا يتناهى إذا لم يُجمع في كل تشترك فيه أمور بلا نهاية وتتحد به فيكفيها كلها برهان واحد. ولولا ذلك لاحتيج إلى براهين بغير نهاية. وأيضاً فإنه ليس يجب على المبرهن من جهة برهانه على الكلى أنه إن لم يجعل الكلى معدوما يلزمه أن يجعله شيئا مباينا للجزئيات. فليست الجواهر الكلية في ذلك بمباينة الحال للأعراض الكلية مثل الكيفية والكمية. فترى هل يجب لكون هذه الأعراض كلية أو تكون أمورا خارجة عن الجزئيات، قائمة بذاتها، موجودة لا في موضوع؟ وهل جزئياتها إذا انفردت بحد تنفرد بالقوام. وإذا غلط غالط فظن أن الكلى شيء خارج عن الجزئيات بسبب إفراد البرهان عليه، فاللوم يلحقه في إصغائه للباطل وتوهمه المحال دون الذي يستعمل البرهان الكلى على واجبه.
وقد علمت أنت في مواضع أخرى الفرق بين الذي ينظر إليه دون اعتبار غيره، وبين الذي ينظر إليه وهو مجرد مباين لغيره.
وأيضا فإنا قد أشبعنا القول في أن البرهان هو قياس من العلة واللمية، والكلى أولى بأن يعطى العلة : وذلك لأن المعنى يوجد للكلى بذاته وأولا، فإن كل شيء له أمر بذاته لا يحتاج أن يكون لشيء آخر يفرض غيره حتى يكون له، بل إن لم يكن للغير المفروض كان له، ولا يكون لذلك الغير إلا ويكون له، فهو للغير بسببه. وهو العلة الغريبة.
فالكلى هو الذي يعطى الجزئي ماله بذاته. والكلى هو الذي عنده نهاية البحث عن لم وعند تناهي البحث ما يظن أنا علمنا الشيء، كما لو سأل سائل : لم جاء فلان؟ فقيل ليأخذ مالا ما، فيقال : لم يأخذ؟ قيل ليقضي دين غريمه، قبل ولم يقضي؟ قيل لكي لا يكون ظالما. فإذا وقف البحث عن اللم عند هذا وأمثاله، فقد سكنت النفس إلى معلومها.(1/488)
ولا محالة أن يبحث اللم في أمثال هذا ينتهي إلى أمر لا يتجاوز عنه، يكون هذا الأمر الأعم الأعلى الذي يلزمه الحكم لنفسه ولغيره بسببه، وهو العلة المطلوبة.
وكذلك إذا سئلنا عن الجزئيات : أن هذا المثلث لمَ زواياه الخارجة مساوية لأربع قوائم وأجبنا بشيء جزئي فقلنا لأنه من ذهب، أو لأنه مخطوط في ثوب، أو لأنه هذا المثلث، لم يكن شيء من هذا جوابا عن العلة الذاتية التي تطلب، إلا أن نقول لأنه شكل يحيط به ثلاثة خطوط مستقيمة كل واحد منها إذا خرج ارتسم حوله مساويتان لقائمتين فيكون جميعها ست زوايا قوائم : اثنتان منها داخلتان، فيبقى الخارج أربعا. فنحن إذن في إعطاء العلة نضطر إلى البرهان على الكلى. وكذلك ليس يمكننا أن نبرهن على هذا الحكم في المتساوي الساقين برهانا كليا إلا أن نقول إنه مثلث حال أضلاعه أن تخرج كذا وكذا.
وأيضاً فإن الجزئيات غير متناهية ولا محدودة، والكلى بسيط محدود. والغير المتناها من جهة ما هو غير متناه، غير معلوم. وإنما يعلم المتناهي المحدود. فإذن العلم الذاتي إنما هو للكلى، وهو أكبر في معنى المعلومية؛ فأولى بأن يكون المقصود بالبرهان. وإذا كان هو أولى بالبراهين، فالبراهين أيضاً أولى به، لأن الأولى من باب المضاف. وإذا كان هذا أولى به منه بغيره، فذلك أيضاً أولى من ذلك الغير به منه.
وأيضاً فإن الشيء الذي إذا علم هو علم غيره من غير انعكاس، فهو أولى )111 أ( يفيد العلم من ذلك الغير. والكلى إذا برهن عليه وعلم، كان ذلك علما به وبالجزئي أيضاً تحته بالقوة القريبة من الفعل. وإذا علم الجزئي فليس يجب أن يكون ذلك علما بالكلى - لا بالفعل ولا بالقوة القريبة من الفعل. فالعلم بالكلى إذن آثر.
وأيضاً فإن البرهان الكلى يكون الحد الأوسط فيه أقرب إلى المبدأ، فهو أشد استقصاء في كل شيء وأكبر في المعنى الذي له المبدأ مما هو أبعد منه من المبدأ. فالبرهان الكلى أشد استقصاء من الجزئي.
وأمثال هذه الأقاويل هي التي قيلت في التعليم الأول، ولكن يشبه أن يكون الأمر - على ما قال المعلم الأول بنفسه - من أن بعض هذه الحجج منطقية جدلية؛ وإن كان بعضهم يفهم منه أنه يقول إن بعض هذه الحجج لا تختص بالبرهان.
والذي يجب أن يصغي إليه من جملة هذه الحجج هو أن العلم بالكلى علم بالقوة الجزئي، ومبدأ للبرهان على الجزئي. وأما العلم بالجزئي فليس فيه البتة علم بالكلى. فإن من علم أن كل مثلث فزواياه كذا، فما أسهل أن يعرف أن متساوي الساقين كذلك. ومن علة أن متساوي الساقين كذلك فلا يعلم من ذلك وحده البتة أن كل مثلث كذلك. ومثل هذا ما قيل إن البحث باللم يُحوِج إلى العلم الكلى. وأيضاً فغن الكلى معقول، والعلم الحقيقي للعقل. وأما الجزئي فمحسوس والمحسوس من جهة ما هو محسوس لا علم به ولا برهان عليه.
ثم قيل إن البراهين المأخوذة من أصول ومبادئ ومصادرات موجبة فقط، وهي التي تبين الموجب، أفضل من الكائنة عن سوالب. واحتُجّ في ذلك بحجج : من ذلك أن تلك لا تحوج إلى استعمال الأشياء مفننة مختلفة كثيرة الأصناف، والبرهان على السلب يحوج إلى ذلك : إذ لم تكن السوالب الصرفة تنتج إنتاج الموجبات الصرفة، بل تنتج إذا خلطت بالموجبات. وإذا أعطينا عللا متوالية في الشيء فإنما نعطي اللمية الحقيقية الواحد منها الأخير الذي هو أقرب من المعلول. وليس في تكثير الأوساط فائدة. بل الفائدة في تقليلها والاختصار منها على القريب الملصق بالجملة. فإن العلم الكائن مما هو أقل، أفضل من العلم الواقع باجتماع أمور كثيرة. فإن الغلط في القليل أقل، وفي الكثير أكثر. وانحصار المعنى في القليل أكثر، وفي الكثير أقل. فإذا كان كذلك فالبرهان الذي يجري على سنة واحدة غير مختلفة أفضل من البرهان المتكثر الأجزاء المختلفة.
والبرهان الموجب هو من موجبات فقط. فالبرهان السالب هو من موجب وسالب. فمبادئ الموجب أقل في النوع ومبادئ السالب أكثر في النوع وأشد اختلافا. فالموجب أفضل.(1/489)
وأيضاً فإن الذي لا حاجة له في أن يعرف وأن يوجد معا إلى شيء ثان - والثاني منهما إليه حاجة - فهو أقدم وأعرف معا من الثاني. والبرهان السالب لا يتم البتة إلا بمقدمة موجبة إنما يكون عليها برهان موجب إن كان، ولا يعرف إلا بها. والبرهان الموجب يتم ويعرف بلا سالبة. فإذن البرهان الموجب أقدم من السالب وأعرف.
وأيضاً فإن البراهين الموجبة تجد المتوسط في حدودها إنما نسبته إلى الطرفين نسبة إيجاب فقط. وكذلك التزايد فيها - وهو أخذ حد خارج عن الحدود الثلاثة لتركيب البراهين الموجبة - موجب أيضاً، ويستمر كذلك لو كان يجوز أن يكون ذلك بغير نهاية ولا مدخل للسلب فيها. وأما البرهان السالب فالغالب فيه في التوسيط والتزيد معا هو الموجب. فإنك إذا كنت قلت كل ج ب ، ولا شيء من ب أ : فإن أردت أن توسط بين ج ب حدا فلا شك أنك توسط بإيجابين. وإن أردت أن توسط بين ب أ حدا، لم يكن بد من موجبة وسالبة. فتصير جملة القياس - كيف وسطت - مؤلفة من موجبتين وسالبة واحدة : كقولك كل ج ب وكل ب د ولا شيء من د أ. أو كل ج د وكل د ب ولا شيء من ب أ.
وكذلك لو ذهبت في التوسيط إلى المقدمات الأولى، كانت الموجبات تزيد والسالبة تكون واحدة. فإن لم تكن تتمة القياس بالتوسيط بل بالتزييد من خارج، فضممت إلى قولك ولا شيء من ب أ قولا سالبا آخر، لم يمكنك أن تأتي بقياس مركب. ولكن تحتاج إلى أن تزيد لا محالة موجبة فتقول وكل د أ حتى ينتج بقياس مركب أن لا شيء من ج د.
فبين إذن أن الموجبات غالبة في البراهين السالبة وأكثر عددا في القوة من السالبة.
فالموجبات إذن أوجب إحضارا في الذهن من السوالب في كل قياس، وهي في أنفسها أفضل. فالمركب منها والمؤدي إليها أفضل.
وأيضاً فإنه وإن كانت المقدمات الكبريات غير ذوات أوساط وكانت موجبة في البراهين الموجبة وسالبة في البراهين السالبة، فغن الموجبة أقدم وأعرف.
أما أنها أقدم، فلأنها أبسط، لأنها تتم بحدين ورابطة. والسالبة تحتاج إلى حدين ورابطة وحرف سلب كما علمت في الفن الثالث. والذي يتم وجوده بأشياء أقل وأبسط، أقدم من الذي يتم وجوده بتلك الأشياء وزيادة.
وأما أنها أعرف، فلأن الإيجاب وكل معنى وجودي فهو معروف بذاته، متصور بنفسه، لا يحتاج في تفهمه إلى قياسه إلى السلب كالوجود وكالملكات. وأما السلب وكل معنى عدمي فإنه إنما يعرف بالوجودي. فما لم يعرف الوجود لم يعرف اللا وجود، وما لم يعرف الملكة لم يعرف العدم كما قد اتضح لك فيما سلف. فالسلب إنما يعرف إذا عرف الإيجاب، فإنه إذا لم يعرف ما هو لم يعرف ما ليس هو. فإذن البرهان للمبدأ الموجب والمنتج له أفضل وأشرف.
والبرهان المستقيم أفضل من الخلف.
وليكن المستقيم هكذا : كل ج ب ، ولا شيء من ب أ ، ينتج أنه لا شيء من ج أ . وليكن الخلف هكذا : إن كان قولنا لا شيء من ج أ باطلا، فليكن بعض ج أ ، وكان لا شيء من ب أ - وهو مسلم - ينتج أنه ليس كل ج ب. هذا خلف إذا كان كل ج ب. ثم إنما أوجب هذا الخلف وضعنا بعض ج أ. فهو محال : فنقيضه - وهو قولنا لا شيء من ج أ هو حق. ففي المستقيم إنما أوجب المطلوب صدق قولنا كل ج ب الموضوع يجنب قولنا لا شيء من ب أ إيجابا بذاته. وفي الخلف إنما أوجب النتيجة كذب قولنا بعض ج أ صدق قول آخر شرطي انتقل به من كذب النتيجة إلى صدق ضدها كما بان لك في الفن الذي قيل هذا. والذي يوجب بصدقه وحده وبذاته صدق النتيجة بلا قياس آخر، أفضل من الذي يوجب بكذبه صدق النتيجة لا بذاته ولا وحده، بل بقياس آخر ينضم إليه.(1/490)
وأنت تعلم أن القياس بالذات - على ما أوضحناه لك في الفن الذي قبل هذا - هو ما تكون إحدى المقدمتين فيه كالجزء تحت الكل، وهي الصغرى. والأخرى كالكل فوق الجزء وهي الكبرى، وتكون النتيجة أيضاً تحت الكبرى كالجزء تحت الكل، حتى يكون العلم بالكبرى علما بالقوة بالنتيجة، وكذلك تكون الكبرى عند النتيجة كالكل عند الجزء، وتكون مقدمة كل ج ب تحت مقدمة لا شيء من ب أ ، ونتيجة لا شيء من ج أ تحت مقدمة لا شيء من ب أ كالجزء تحت الكل. أما كون الصغرى تحت الكبرى وإن كانت تخالف البرى في الكيفية، فلأن ج تحت ب ؛ والحكم على ب كالحكم على ج. وأما في النتيجة فبهذا الوجه وبالاتفاق في الكيفية معا، وهذا لا يوجد لصغرى قياس الخلف مع النتيجة. فإن قولنا بعض ج أ ليس داخلا تحت قولنا ولا شيء من ب أ. ولا أيضاً النتيجة - وهو قولنا ليس بعض ج ب - داخلا تحت قولنا ولا شيء من ب أ. فإذن تحت قولنا صورة القياس بالذات - التي شرطها هذا الشرط - هي للمستقيم لا للخلف.
وأيضاً فمقدمات المستقيم أعرف لأنها معروضة بذاتها مسلمة. ومقدمات الخلُف مشكوك فيها؛ وليست أعرف من النتيجة. بل أحدهما نقيض النتيجة. والقياس الكائن من مقدمات أعرف افضل على كل حال.
ونقول إنه قد يكون علم أشد استقصاء من علم من وجوه ثلاثة : أحدها أن يكون أحد العلمين قد جمع مع الإن اللم ووقف على السبب القريب الذاتي، والثاني اقتصر على الإن فقط. والثاني ان يكون أحد العلمين أخذ الشيء المنظور فيه مجردا بصورته عن المادة، والثاني لم يفعل ذلك، فيكون أشد استقصاء من العلم الذي يأخذ ذلك الشيء مقترنا بمادة. ولذلك )111ب ( فإن علم العدد أشد استقصاء من علم الموسيقى. وكذلك حال علم الهندسة من علم المناظر وعلم الهيئة.
والثالث أن العلم الذي موضوعه الأول معنى بسيط - يشرط أنه مسلوب عنه سائر الزوائد - أشد استقصاء من العلم الذي موضوعه الأول ذلك المعنى وموجب له زيادة. مثاله أن الوحدة والنقطة يوضعان لعلميهما بمعنى بسيط، وهو أن ذات كل واحد منهما غير منقسم، ثم يقترن بذلك في الوحدة ألا يكون لها وضع، وبالنقطة أن يكون لها وضع، فتكون الوحدة أبسط ذاتا من النقطة لأنها ليس لها، مع ذلك المعنى البسيط، زيادة وضع، وللنقطة ذلك المعنى وزيادة وضع. ثم الوحدة موضوعة أولى العدد، والنقطة موضوعة أولى للهندسة. فالحساب أشد استقصاء لذلك من الهندسة.
فقد قرُبنا في هذه الأشياء من محاذاة التعليم الأول ومحاكاته فيه، وكان ذلك غرضنا دون الاستقصاء، فكان هذا النمط من النظر غير مناسب لتصورنا ولا عالق بإفهامنا ولا حسن الانقياد لنا إذا أردنا إتقانه.
الفصل الثامن
في معاودة ذكر اختلاف العلوم واتفاقها
في المبادئ والموضوعات
المباحث إنما تكون من علم واحد إذا اشتركت في الموضوع الأول وكان البحث فيها إنما هو عن العوارض الذاتية التي تعرض له أو لأجزائه أو لأنواعه، واشتركت في المبادئ الأولى التي منها يتبرهن أن تلك العوارض الذاتية موجودة للموضوع الأول أو لأجزائه أو لأنواعه. فإذا اختلفت في الموضوع الأول وفي المبادئ الأولى للبراهين اختلافا ما تشير إليه - ونعني بالمبادئ الأولى لا المقدمات فقط، بل الحدود وغير ذلك - فليست من علم واحد. فإذا أردت الامتحان فارفع كل شيء إلى مبادئه وجنسه الأول - أي موضوعه - فنجد المختلفات من العلوم مختلفة فيهما مثل مسائل المناظر ومسائل الهندسة. أما في الجنس - أي الموضوع - فنجدهما مختلفين فيه لا محالة. وأما في المبادئ فتجدهما وأن اشتركا فيها بوجه ما، فإنهما يختلفان من وجه آخر. فإنك تجد المبادئ، وهي للهندسة أولا وللمناظر ثانيا. وهذا أمر قد فرغنا منه.(1/491)
وليس اختلاف البراهين يوجب اختلافا في هذا الباب، فقد يكون على شيء واحد برهانان مختلفان لا من حدين أوسطين يحمل أحدهما على الآخر فقط، مثل قولنا كل إنسان حيوان، وكل حيوان مغتذ؛ وقولنا كل إنسان نام، وكل نام مغتذ، بل ومن حدين أوسطين لا يحمل أحدهما على الآخر مثل قولنا كل قابل للذة متحرك، وكل متحرك متغير، مع قولنا كل قابل للذة ساكن وكل ساكن متغير. فالأول أحد حديه الأوسطين تحت الآخر : فإن الحيوان تحت النامي. وأما الثاني فهما مختلفان ليس أحدهما تحت الآخر. وكذلك قولنا كل إنسان ضاحك، وكل ضاحك متعجب. وأيضاً كل إنسان مستحي، وكل متعجب : فإن هذين وإن كانا من جملة ما ينعكس على الآخر لأجل موضوعهما، فهما ليسا ما يكون أحدهما تحت الآخر. فقد بان أن اختلاف الحدود الوسطى لا يوجد اختلافا في المباحث من جهة اختلاف علومها. وقد يمكن أن يطلب فيوجد نظير هذا في الشكلين الآخرين : فتوجد الحدود الوسطى المختلفة بالوجهين جميعا تنتج نتيجة واحدة. ولقرب مأخذ ذلك البيان لا نطول الكلام بتفصيله.
وأما أن جعل البرهان غنما هو على الضروري فأمر قد فرغنا منه. وأما أنه قد يكون على الأكثري فبعض المفسرين يأبى أن يكون على الأكثري برهان. بل إنما تسمح نفسه بأن يكون عليها قياس، ويقول لأنها لا يتبعها يقين إذ ليس بها أنفسها يقين. والحق ورأى المعلم الأول يوجب أنه قد يكون على الأكثري برهان مصنوع من مقدمات أكثرية يعطى سببا من أسباب أكثرية، ويكون به يقين غير زائل من جهة ما هو أكثري، وإن كان ظنا من جهة ما هو موجود على ما علمت في مواضع أخرى.
فإن أريد بالبرهان كل قياس يكون على الشيء من جهة العلة وعلى نحو وجوده، فيكون على الأكثري برهان. وأما إن أراد أن يخص باسم البرهان ما كان بالقياسات المعطية للعلة على شرط أن يعطى وجودا غير متغير وغير مختلف وبالفعل الصرف وليس فيه إمكان، فليس على الأكثري برهان، بل قياس ما آخر يصنع من البرهاني والجدلي والخطابي والمغالطي والشعري، ويكون قد تكلف في هذا الاشتراط مالا حاجة إليه. بل الأولى أن يقول إنه لما كان كل بيان إنما يكون لوجود متميز عن لا وجود : وهذا على وجهين : إما أن يكون الاستحقاق دائما فيكون ضروريا، أو غالبا غير دائم - وهو الأكثري. فإذن لا بيان في أمر متميز الوجود إلا لهذين.
ولا برهان على شيء كونه ووجوده اتفاقي لا يتميز بالاستحقاق عن كونه.
لكني أزيد هذا الكلام تحصيلا وأقول : إن الأمور الممكنة يعتبر حال وجودها ويعتبر حال إمكانها. فأما اعتبار حال الوجود في الممكنات على سبيل التوقع فلا طلب فيه إلا عن الأكثريات، ولا قياس إلا عليها، فإن لوجودها فضيلة على لا وجودها في الطبع والإرادة، وعلى الجهة التي أوضحناها في فن سلف. وأما المتكافئ في الوجود واللا وجود فليس يقوم برهان أو دليل على أحد طرفيه إلا قيام مرجح لذلك الطرف مخرج إياه جميع أصنافه برهان على الممكن الأكثري وعلى المساوي وعلى الأقل - أعني البرهان الذي يبين أنه ممكن لا ضروري الوجود العدم - لا البرهان الذي ينذر بوجوده أو لا وجوده، إلا أن يكون شيء منهما أكثريا. وكل ما قلناه في الأكثري الوجود فانقله إلى الأكثري اللا وجود وأنزل أنا عنينا بالوجود الحكم أي حكم إيجابا أو سلبا.(1/492)
ثم قيل في التعليم الأول إنه ليس الحس برهانا ولا مبدأ للبرهان بما هو حس : لأن البراهين ومبادئها كليات لا تختص بوقت وشخص وأين. والحس يجد حكما في جزئي في آن بعينه وأين بعينه. فإذن الحس لا ينال مبادئ البرهان ولا البراهين،ولاشيء منه هو علم بكلى. ولو كنا نحس أن زوايا المثلث المحسوس مساوية لقائمتين، لما كان ينعقد لنا من إحساس ذلك رأى كلي " أن كل مثلث كذلك " . ولا علم بالعلة " . ولو كنا نحس أيضاً أن القمر لما حصل في المخروط الظلي انكسف، لم يمكنا - من جهة الحس - أن نحكم بالكلى : وهو " أن كل كسوف قمري فمن كذا وكذا " ، لأنا لا يمكننا أن نحس بكل كسوف ولا بالكسوف الكلى. أما كل كسوف فلأن ذلك لا نهاية له في القوة. وأما الكسوف الكلى فلأنه للعقل فقط، وإن كنا قد نستقرئ من تكرار المحسوسات الجزئيات أمورا كليى - لا لأن الحس أدركها ونالها - ولكن لأن العقل من شأنه أن يقتنص من الجزئيات المتكررة كليا مجردا معقولا لم يكن الحس أدركه، ولكن أدرك جزئياته فاختلق العقل من الجزئيات معنى معقولا لا سبيل إليه للحس، بل يناله بإشراق فيض إلهي عليه.
وأيضا فإنا كثيرا ما نتوصل بالحس إلى مقدمات كلية - ل لأن الحس يدركها - بل لأن العقل يصطادها على سبيل التجربة، وعلى ما أوضحناه نحن من قبل حيث بينا ما التجربة.
ولما كان الحس قاصرا في كثير منها عن الإدراك المستقصي، صار يوقعنا ذلك في عناء وبحث عن حال ذلك المحسوس نفسه بقوة غير الحس وهي العقل بالفعل مثل حال الزجاجة والجسم الملون الذي وراءها، فإن الجسم الملون الذي وراءها يرى من غير أن تحجب القارورة دون ذلك حجب كثيرة من الأجسام الأخرى. فقوم يقولون إن السبب في شف الزجاجة أن كل ما لا لون له فهو شاف مؤد للون الذي وراءه. وقوم يرون أن سبب ذلك استقامة المسام والثقب التي في الزجاجة فينفذ فيها الشعاع الخارج من البصر ويجوزها إلى أن يلاقي المبصر. قيل في التعليم الأول : فلو كان الحس مما يمكنه بنفسه إدراك الثقب لكان العقل سيجد سبيلا إلى أن يحكم بأن السبب فيه الثقب، وأن الإبصار كائن بنفوذ البصر في تلك الثقب، ولكان يميل إلى المذهب المائل إليه، وإن كان بعده البحث باقيا أنه : هل فيها هواء أو خلاء، وإن كان فيها هواء فهل الهواء في تلك يؤدي اللون، أو الشعاع ينفذ إليه فيه؟. وبالجملة لو كان الإبصار بنفوذ )112 أ( شيء في الثقب، وكان مع ذلك يميز ذلك ويدركه، لكان العقل يجد سبيلا إلى أن يحكم في الأبصار بان السبب فيه اتصال بين البصر والمبصر بواسطة شعاعية، لا نفس شفيف الزجاجة من حيث لا لون لها، وكان حينئذ يكون ذلك العلم حاصلا بالحس، لا أن الحس حصله، لكن لأن العقل اتخذ الحس مبدأ للتجربة.
ثم قيل إنه لا يصح أن يظن أن مبادئ المقاييس كلها متفقة : أما أولا فإن المقاييس منها منتجة للكاذبة، ويجب أن تكون مقدماتها كاذبة؛ ومنها منتجة للصادقة - وهي وإن كانت قد يجوز أن تكون مقدماتها كاذبة فذلك إنتاج يقع منها لا بالذات بل بالعرض. ويشبه ألا تكون هي من جهة إنتاجها للصادق عن الكاذبة قياسات، لأن القياس إنما هو قياس من جهة ما ينتج بالذات، لا من جهة ما ينتج بالعرض. وإذا كان كذلك فيجب أن تكون القياسات المنتجة للصادقات من مقدمات صادقة، وللكاذبات من كاذبة. وإذا كانت كذلك كانت مبادئ القياسات الصادقة غير مبادئ القياسات الكاذبة.
وأيضاً فإن القياسات الكاذبة ليست متفقة في النتائج، فإن الأضداد قد تكذب معا : مثل قولنا إن المساوي هو اكبر، والمساوي هو أصغر.
وأيضاً فإن أشياء غير متضادة تكذب معاولا تصدق معا : مثل قول القائل إن العدل تهور، وقوله إن العدل شجاعة. وكذلك قوله الإنسان فرس وقوله الإنسان ثور، فإن هذه في قوة المتقابلة وغن لم تكن متضادة أو متقابلة بالفعل.
فبين أن مبادئ النتائج الكاذبة هي مختلفة مثل هذه.(1/493)
وأيضاً فإن المقاييس الصادقة يجب أن تكون واحدة بأعيانها : وذلك ان المبادئ إما خاصة بالأجناس الموضوعة لكل علم، فتكون من موضوعاتها ومن عوارضها الذاتية : مثل قولنا في الهندسة إن كل مقدار إما منطوق وإما أصم، وقولنا في العدد : كل عدد إما أول وإما مركب. وبين أن هذه مختلفة لا مطابقة فيها، لأن الهندسة كلها بعد النقطة، والعددية كلها بع الوحدة، ولا يمكن بينهما مطابقة البتة. ولو كانت مطابقة غير صرفة لكانت على أحد وجوه : إما أن تكون أحد المبدأين أعم من الآخر كقولنا كل ج أ وكل ب أ على أن ج تحت ب. فإذا كان كذلك كان أحد المبدأين تحت الآخر أو فوقه، فكان حينئذ أحد الجنسين تحت الآخر أو فوقه. ومثل هذه الشركة قد تقع في المبادئ. وهناك قد يكون الأمر على ما أوضحناه قبل، وذلك إذا كانت أجناس العلوم المتشاركة واقعا بعضها تحت بعض. وأما الجناس التي ليس بعضها تحت بعض فلا يمكن ذلك فيها، وأعني بالأجناس الموضوعات.
وإما أن يكون مبدأ داخلا في الوسط للآخر مثل الخطوط المتوازية التي بين المتوازيين : فيكونان حينئذ إما متشاركين في الجنس، فيكون أحدهما مبدأ والآخر نتيجة لا مبدأ، أو غير متشاركين في الجنس - أعني الموضوع - بل في جنسه، فيكون أيضاً أحد العلمين تحت الأخر، فتكون الشركة في المبدأ على نحو ما حددناه قبل.
وأما العلوم المخالفة التي ليس بعضها تحت بعض فلا يمكن أن تشترك في المبدأ الخاص البتة، لا على أن يدخل حد منها في الوسط ولا فوق منها ولا تحت منها ولا خارجا موضوعا أو محمولا مختلفا في ذلك في علمين.
وأما المبادئ العامة مثل قولنا إن كل شيء إما أن يصدق عليه موجبة وإما أن يصدق عليه سالبة، فقد يشترك فيها، لأن هذه المبادئ صالحة في بيان أحوال الموجودات المختلفة التي بعضها كم وبعضها كيف وبعضها شيء آخر، لأنها من جملة ما هو مبدأ ما في العلم الناظر في الموجود من جهة ما هو موجود، ولكنها توجد في العلوم بالقوة، ولا تؤخذ البتة بالفعل مقدمات كبرى ولا صغرى إلا وقد أخذت مخصصة لموضوع وذلك العلم ولعوارضه الذاتية على ما بينا جميع ذلك فيما سلف. فإذن لا يكون في العلوم المختلفة اشتراك بالفعل بل بالقوة.
والنتائج المطلوبة في العلوم وإن كانت تزيد على المقدمات على النحو المعلوم في تركيب القياس، فليست زيادة مفرطة خارجة عن نسب محفوظة. وليس عن ذلك المقدمات إلا تلك النتائج بأعيانها.
وليست تصلح لغير ذلك القدر من الكثرة. وإذا أدخل حد من جانب أو في الوسط لم يزدد أي نتيجة اتفقت، بل ما ينساب ذلك. فإذا كانت نسبة المقدمات مع النتائج هذه النسبة، فكيف تكون اللواتي هي المبادئ منها صالحة لأن ينتج منها لا هذه، بل نتائج خارجة من هذه؟ فإن جميع المقدمات التي في علم مالا ينتج منها إلا المناسبة لتلك المقدمات فبعضها التي هي المبادئ أبعد من أن ينتج منها مسائل علوم أخرى غير مناسبة لذلك العلم. وكيف والنتائج المطلوبة في العلوم غير متناهية بالقوة. والحدود التي للمبادئ متناهية : فإن المبادئ والأصول الموضوعة لكل صناعة متناهية. وأما النسب الممكن اعتبارها بينها وبين عوارضها، وإن كانت في ذواتها محصورة، فقد لا تتناهى بالقوة من جهة أن بعض المحمولات تكون ضرورية متقررة في الشيء دائمة، وبعضها ممكنة تحصل باعتبارات بينها. مثال ذلك أن المثلث المتساوي الساقين من حاله أن زاويتيه متساويتان - أمر موجود في نفسه بالضرورة. وأما أنه أمر نسبته إلى مثلث آخر يقع مثلا في دائرة كذا، وفي مخمس كذا نسبة كذا، وما يجري مجراه، فأمور ليست محصلة الوجود فيه، وإلا لكانت فيه أمور غير متناهية بالفعل. بل هي أمور تحدث له من جهة مناسبات ممكنة يفرضها العقل فيها.
فأمثال المبادئ الخاصة - مثلا الخاصة بعلم الهندسة - يعظم فيها أن تكون وافية بمسائل الهندسة، فضلا عن مسائل خارجة لا تتعلق بها.(1/494)
وكيف يقال إن مبادئ العلوم المختلفة متفقة؟ أمن جهة أن العلوم المختلفة متفقة وهذا ظاهر البطلان؟. أو من جهة أن كل واحد منها يصلح أن ينتج منها في كل علم، حتى يكون مبدأ أي علم اتفق صالحا لأي علم اتفق؟ وهذا معلوم الاستحالة. فإن مبادئ العلوم التعليمية - وهي محدودة في المصادرات مميزة بالفعل - ، ظاهر من أمرها أنها لا يصلح بعضها لبعض، فكيف تصلح لكل علم. بل ولا مبدأ علم واحد يصلح لجميع مسائل ذلك العلم، فكيف لمسائل علوم أخرى؟ولا أيضاً إذا استعملنا طريق التحليل بالعكس فصرنا إلى المقدمات التي لا أوساط لها في علم ما وميزناها إن لم تكن مميزة تميزها في الرياضيات، وجدناها مشتركة لجميع النتائج، بل كان كل خاصة لنتيجة أو نتائج بأعيانها.
ومع هذا كله فليس يمكننا أن نقول : إن مبادئ العلوم مختلفة اختلافا لا اشتراك فيها البتة ولا في شيء منها. فقد بان فيما سلف أن بعض العلوم يشترك في المبادئ، وان من المبادئ خاصة ومنها عامة. فعسى الحق هو أن المبادئ متناسبة في الجنس، أي في الموضوع. ولكن هذا لا يمكن؛ فإن العلوم التي لا تتناسب في الموضوع، فإن مبادئها الخاصية بأجناسها لا تتناسب أيضاً في الموضوع.
والذي يجب أن يعتقد فيه أنه الحق والقضاء الفصل هو أن المبادئ تقال على نوعين : إما مبادئ منها البرهان - أي المقدمات الأولى في العلوم، وإما مبادئ فيها البرهان وهي أجناس العلوم - أي موضوعاتها وما يتعلق بها - مما يوضع معها أو يساويها كالواحد بوجه ما للموجود. فالقسم الأول يجوز أن يكون فيها مبادئ عامة مثل قولنا : كل شيء إما يصدق عليه الإيجاب أو السلب؛ وقولنا : الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وأما القسم الثاني فلا يجوز إلا أن تكون خاصة، أو يتناسب علمان في الجنس. وما كان من المبادئ التي بمعنى المقدمات - مما هو خاص أو مخصص كما علم، فلا يشترك فيها في جل المر إلا علمان أحدهما فوق الآخر. ويكون لأحدهما أولا وللثاني ثانيا.
ولما كانت الموضوعات في المسائل العلمية إما جنس الموضوع للصناعة؛ أو نوع منه وعرض ذاتي فيه، فلا يجوز أن تكون الصغريات من المبادئ المشتركة بوجه من الوجوه. بل إن كان ولابد فالكبريات، على النحو الذي تجوز به الشركة.
الفصل التاسع
في حال العلم والظن وتشاركهما وتباينهما
وفي تفهيم الذهن والفهم )112ب ( والحدس والذكاء والصناعة والحكمة من المعلوم أن هاهنا علما بشيء، وهاهنا ظنا به؛ وأن الاختلاف فيهما من جهة الوثاقة والفلق، وانهما داخلان تحت الرأي، وأن بينهما موضع مقايسة ومناسبة.
وليس كل علم يحسن أن يقايس بالظن؛ بل العلم التصديقي. ولا كل علم مع كل ظن، بل مع ظن يوافقه في جنس الرأي. وأن ما سواه من الظن فيجب أن يقايس بالجهل.
والعلم التصديقي هو أن يعتقد في الشيء أنه كذا. واليقين منه هو أن يعتقد في الشيء أنه كذا، ويعتقد انه لا يمكن ألا يكون كذا اعتقادا وقوعه من حيث لا يمكن زواله. فإنه إن كان بينا بنفسه لم يمكن زواله. وإن لم يكن بينا بنفسه، فلا يصير غير ممكن الزوال؛ أو يكون الحد الأوسط الأعلى أوقعه.(1/495)
على أنا نعني بالعلم هاهنا المكتسب. والذي يخالفه أصناف من الاعتقاد : اعتقاد في الشيء الذي هو كذا ضرورة انه كذا، مع اعتقاد أنه لا يمكن ألا يكون كذا، لكن يكون هذا الاعتقاد في نفسه ممكن الزوال، لأنه لم يقع من حيث لا يمكن معه الزوال. واعتقاد في الشيء إنه كذا مع عدم اعتقاد آخر بالفعل بل بالقوة - إذا أُخطر بالبال اعتقد وهو أنه يمكن ألا يكون كذا. واعتقاد في ذلك الشيء أنه ليس كذا - وهذا جهل مضاد للعلم لا يشاركه. لكن اعتقاد أنه يمكن ألا يكون كذا إما أن يعتقده في الموجود كذا الذي ليس من شأنه ألا يكون إلا كذا، أو في الموجود كذا ومن شأنه ألا يكون كذا.وكل واحد من هذين بالحرى أن يسمى ظنا. والأول منهما فإنه ظن صادق مركب يجهل مضاد. وأما الموجود كذا ومن شانه ألا يكون كذا، والاعتقاد فيه أنه كذا مع الاعتقاد أن من شأنه ألا يكون، إن كان لا كونه على أنه جائز في نفسه - لكن الوجود قد غلب - أو جائز في وقت آخر، فهذا نوع من العلم ليس ظنا. ولكنه إن وقع بما يوجبه كان يقينا ما بالشيء على ما هو به. وإن كان على أنه يرى ويحكم أنه موجود، ويخطر بالبال عسى ألا يكون موجودا عندما يفرضه موجودا، حتى يجوز أن يكون اعتقاد وجوده حين يضعه موجودا كاذبا - فهو الظن الصادق المطلق الذي ليس فيه تركيب بجهل مضاد، بل بجهل بسيط : إذ لابد في كل ظن من جهل.
والعلم موضوعه هو الضروري، إما على الدوام فيكون العلم علة الدوام، أو الضروري بالشرط فيكون العلم أيضاً بالشرط. والظن موضوعه الحقيقي الأمور الممكنة المتغيرة التي لا تضبط : فيكون حال الأمر بحسب القياس إلى الوجود حال الرأي فيه بحسب القياس إلى الصحة. وقد يكون الظن المركب بالجهل المركب واقعا أيضاً في الأمور الضرورية. والاعتقاد المؤكد ليس يجب - من حيث هو مؤكد - ألا يعد في الظن.
فتكون ثلاثة أشياء من جملة ما عددناه داخلة في اعتبار الظن : أحدها، الاعتقاد بالشيء الموجود مثلا أنه موجود، والاعتقاد معه أنه لا يمكن ألا يكون موجودا مع جواز استحالة هذا الاعتقاد. فإن هذا بالحقيقة ليس علما، بل ظنا. والثاني الذي سميناه الظن الصادق المركب بالجهل المركب. والثالث الذي سميناه الظن الصادق المركب بالجهل البسيط. وتشترك هذه كلها في شيء واحد وهو أنه عقد في الشيء أنه كذا، ممكن أن يلحقه العقد أنه لا يكون كذا. وذلك لأن الأول منهما إذا كان جائز الاستحالة، فليس ممتنعا في طباعه أن يقرن به عقد إمكان ألا يكون الشيء - إما ابتداء وغير طارئ على العقد الآخر الذي معه - وإما فاسخا للعقد الآخر الذي معه وهو الحق.
وكذلك حال العقد الثاني المركب بالعقد الباطل، ويقابل عقد صاحب العقد الأول، لأن ذلك كان يعتقد أنه لا يمكن ألا يكون ما اعتقد كونه؛ وهذا يعتقد أنه يمكن ألا يكون ما اعتقد كونه. وأما العقد الثالث فإن الاعتقاد المذكور مقارن معه بقوة أو بفعل.
وكل واحد من أقسام الظن قد يكتسب بواسطة توقع الظن، كما أن العلم يكتسب بواسطة توقع العلم، فإنه ليس كل واسطة غير ضرورية إلزام الأكثر، تدعو إلى ممتنع، بل قد تدعو إلى أمر واجب.
والعلم بالجملة مخالف للظن في هيئة العقد وفي الأمور التي العلم أولى بها. وكما أنه قد يقع لإنسان في هذا الشيء علم، ولآخر ظن، فكذلك يمكن أن يكون يقع لهذا علم بمبادئ ذلك العلم تتدرج حتى تنتهي إليه، وان يقع للآخر ظن بتلك المبادئ والمقدمات، فيتدرج إلى ذلك الظن الذي هو نتيجة لها. فيكون الأول يرى في تلك المقدمات والنتيجة رأيا صادقا، ويرى أنها لا تتعير عما هي عليه وأما هذا الثاني فيكون رأيه فيها صادقا إلا أنه خال عن الرأي الثاني، أو مجوز لغير ما يراه لحال يجوز أن يستحيل. فيكون الأول يعلم أن الشيء موجود، ويعلم لم هو موجود؛ وهذا الثاني يظن أنه موجود، ويظن أنه لم هو موجود. وإن لم يكن ذلك بمتوسطات، فيظن أنه موجود فقط، ولا يظن لم هو موجود.
وعلى الأحوال كلها فليس العلم والظن شيئا واحدا - وإن كان قد يقع في شيء واحد علم وظن كما يقع ظنان مختلفان : صادق وكاذب. ولا يمكن أن يكون في إنسان واحد ظن وعلم معا، ولا ظن صادق وظن كاذب معا.(1/496)
أما العلم والظن فإنهما لا يجتمعان : لأن قولنا العلم، يقتضي اعتقادا ثابتا في الشيء محصلا، وهو انه ممتنع التحول عما هو عليه، ويمتنع أن يقارنه أو يطرأ عليه اعتقاد مضاد لهذا الثاني. وقولنا الظن، يقتضي اعتقادا ثانيا بالفعل أو بالقوة القريبة أو البعيدة : وهو ان الشيء جائز التحول عما هو عليه. ومحال أن يجتمع في لاشيء الواحد للإنسان الواحد في وقت وواحد، امتناع تحوله عما هو عليه وجواز تحوله معا؛ أو يجتمع فيه رأي أن يجوز زواله ورأي ألا يجوز زواله.
وأما الظن الصادق والكاذب فكيف يجتمعان في إنسان واحد؟ فغن الظن الذي يظنه وهو كاذب؛ والظن المقابل الذي له وهو فيه صادق - إن تساويا لم يكن ظن بل شك في الأمرين. وإن مالت النفس إلى الصادق بقى الكاذب غير مظنون؛ أو إلى الكاذب بقى الصادق غير مظنون. والشيء الواحد بعينه، الثابت، قد يظن ممكنا مرة، ويرى غير ممكن أخرى. فإذا تناول الرأي كونه غير ممكن تناولا تاما، فهو علم. وإذا وقع عليه الرأي من الجهة الثانية فهو ظن. فيكون في الشيء الواحد من جهتين ظن وعلم لإنسانين : مثلا هذا يظن أن القطر غير مشارك للضلع ويصدق، وذلك يرى أن القطر مشارك له فيكذب. والظنان مختلفان لكنهما واحد في الموضوع.
وأما الكلام في الذهن والصناعة والفهم والحكمة والذكاء والحدس فيكاد يكون أكثره أولى بعلوم أخرى من الطبيعيات والخلقيات. إلا أنا نحدها هاهنا حدا.
فالذهن قوة النفس المهيأة المستعدة لاكتساب الحدود والآراء. والفهم جودة تهيؤ لهذه القوة نحو تصور ما يرد عليها من غيرها. والحدس جودة حركة لهذه القوة إلى اقتناص الحد الأوسط من تلقاء نفسها : مثل أن يرى الإنسان القمر وأنه إنما يضئ من جانبه الذي يلي الشمس على أشكاله، فيقتنص ذهنه بحدسه حدا أوسط وهو أن سبب ضوئه من الشمس. والذكاء جودة حدس من هذه القوة يقع في زمان قصير غير ممهل. والفكرة حركة ذهن الإنسان نحو المبادئ للمطالب ليرجع منها إلى المطالب. والصناعة ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية تنحو تماما مقصودا. والحكمة خروج نفس الإنسان إلى كماله الممكن له في حدي العلم والعمل. أما في جانب العلم فأن يكون متصورا للموجودات كما هي ومصدقا بالقضايا كما هي. وأما في جانب العمل فأن يكون قد حصل عنده الخلق الذي سمى العدالة. وربما قيل حكمة لاستكمال النفس الناطقة من جهة الإحاطة بالمعقولات النظرية والعملية وإن لم يحصل خلق.
المقالة الرابعة
من الفن الخامس
الفصل الأول
المطالب والمعلومات بالطلب متساوية
فإن الشيء إنما يطلب ليعلم. فإذا علم بطل الطلب والمطالب. وإن كان للمكثر أن يكثرها بالأي والكم والكيف وغير ذلك، فإنها بحسب ما يبحث عنه في هذا الموضع أربعة : اثنان داخلان في الهل - أحدهما هل يوجد الشيء أي على الإطلاق - والثاني هل يوجد الشيء شيئا؟ مثل أنه هل يوجد الجسم مركبا من أجزاء غير متجزئة؟. وكل واحد من مطلبي الهل يتبعه مطلب اللم؛)113 أ( ويتصل بذلك مطلب الما. وأما مطلب الأي فمن التوابع لمطلب الما.
ومطلب اللم إما أن يطلب علة الحكم بوجود موضوع أو عدمه على الإطلاق؛ أو علة الحكم بوجوده أو لا وجوده بحال. وكل ذلك إما أن يتعدى فيه طلب علة الحكم إلى طلب علة الوجود أو لا يتعدى. والأحرى أن يكون القياس المبين للهل المطلق شرطيا استثنائيا، وعلته في الشرط. أما سائر ذلك فالأحرى أن تكون العلة فيه حدا أوسط.(1/497)
وأما مطلب ما فيه يتبع المطلب البسيط من مطلبي الهل تبعا ظاهرا. فإنه إذا علم أن الشيء موجود، طلب ما ذلك الشيء الموجود. فقد علم أن مطلب ما الذي بحسب الذات فهو بعد طلب هل وتابع له، لكنه قد يسبق من حيث هو مطلب ما بمعنى الاسم. فإذا أعطى، ثم أعطى مطلب هل، اتضح في الحال مقتضى طلب ما بحسب الذات. ويتبع المطلب المركب من مطلبي الهل أيضاً على وجه من الوجوه، حتى يكون كأنه يطلب ما الحد الأكبر أو ما الحد الأوسط. وذلك لأن الموضوع في المطلوب بالهل المركب يجب أن يكون معطى الهلية والماهية أولا في كل علم؛ ثم تطلب عوارضه الذاتية له بالهلية. فإذا طلب وجود العارض له أو لا وجوده بالهل المركب، بالقياس إلى ذلك الموضوع؛ فبالحرى أن ذلك يقتضي إثبات المحمول العارض بالهل البسيط بالقياس إلى نفسه. وذلك لأن البراهين إنما تبحث عن الأعراض الذاتية للموضوعات، وتلك الأعراض لا توجد إلا في تلك الموضوعات وأجناسها. فإن منع أن يكون لها وجود في تلك الجملة منها، صارت في جملة الممتنعات. وإذا أعطيت وجودا في شيء منها، ثبت أنها في الموجودات. فيكون البحث عن هليتها للموضوع بحتا بوجه من الوجوه عن هليتها مطلقا : كالبحث عن هلية المثلث المتساوي الأضلاع المعمول على خط طرفاه مركزا دائرتين وقد وصلا أيضاً بالتقاطيع، فهو بحث عن هليته في نفسه. فبذلك يعلم أن له إمكان وجود. وإذا صح للشيء هليته استحق أن يطلب له المائية وأن يعطاها بحسب الذات. ويقبل ذلك لا يكون استحق طلبها أو أعطاها إلا بحسب الاسم لا بحسب الذات فقد فرغنا من هذا فيما سلف.
فوقت وضوح بحث الما بحسب الذات لهذه العوارض هو هذا الوقت، وإن كان لا مانع من ان يكون ما قد أفيد في جوانب ما بحسب الاسم قبل الاشتغال بالهل كافيا ابتداء طلب ما بحسب الذات : فإنه يتضح حينئذ مع إيضاح الهلية.
وأما الحد الأوسط فهو العلة، ويتبع فيه طلب الما بعد الهل على وجهين : أحدهما بالقوة والآخر بالفعل. أما بالقوة فلأن طالب الهل في مثل هذا إنما يطلب عما هو مشكوك فيه. فيقتضي طلب الهل أنه يطلب بالقوة هل هناك حد أوسط : مثل من سأل هل القمر ينكسف؟ فإنما يطلب هل شيء يوجب العلم بأن القمر ينكسف؟ فإذا أعطى الهل وقيل نعم وطلب ثانيا لم كان القمر ينكسف، ولم قلت إن القمر ينكسف، فإنه يطلب ما علة القياس في أنه قياس، وهو الحد الأوسط كيف كان؛ أو ما علة القياس في انه برهان، وهو علة الوسط الذي هو علة الأمر في نفسه. ومعنى الطلبين أن الحد الوسط الذي أعطيته بالقوة أولا أنه موجود حين ضمنت أن المر الحق كذا، يجب أن تعطيه الإن بالفعل وتقول ما هو الإن. فيكون البحث عن لم بحثا عما هو الحد الوسط بالقوة، فيكون طلب لم هاهنا إنما هو طلب لم بالقياس إلى النتيجة، ويكون بالفعل، وطلب ما بالقياس إلى الحد الأوسط ويكون بالقوة. وأما طلب ما الحد الأوسط بالفعل فذلك ظاهر لابد منه إن كان مجهولا.
فقول المعلم الأول " الموجود بالجزء " يعني الموجود شيئا ما. و " الموجود بالكل " يعني به الموجود على الإطلاق.
والموجود شيئا ما إما شيئا جوهريا للموضوع، أو عرضا ذاتيا أو عرضا خارجيا.
ثم يقول المعلم الأول : أعني بالموجود على الإطلاق الشيء المطلوب هل نفسه موجود؟ مثل قولنا هل المثلث موجود أو الآلة؟ فهذا إنما يبحث عن وجود نفس الموضوع. وأما هل المثلث كذا؛ أو هل الآلة سبب للشيء، فإنه إنما يبحث عن وجود عارض ما أو لاحق. وهذا هو الموجود شيئا ما.
فقد بان من هذا أن المطالب بالقوة ترجع إلى هل الشيء وإلى ما الشيء. وأن مطلب اللم بحث عن ما الشيء بوجه، لأنه بالقوة بمعنى ما الوسط.
ولكن من الناس من ظن أن هذا منعكس، وأنه ليس في البراهين شيء هو بحث اللم إلا وهو بحث الما بالقوة، ولا بحث الما إلا وهو بحث اللم. وتعدى هذا إلى أن الأوسط في البراهين هي الحدود. وكل ذلك أمر باطل. فإنه ليس كل بحث عن ما هو عن الأوسط. وأيضاً ليس البحث عما هو الأوسط هو البحث عن مائية أحد الحدين الآخرين حتى يكون الجواب به حدا. ولا كل ما هو علة موجبة فهو حد أو جنس أو فصل أو مادة أو صورة : فإن العلل الموجبة لأمور لا في أنفسها ولا هي بوجه ما نفس الواجب - لا صورة ولا مادة.(1/498)
وكثيرا ما نجد بين الأوساط في البراهين ما ليس مادة ولا صورة ولا حدا، بل نجده شيئا موجبا لشيء في شيء : فإن الجنس المتوسط يوجب وجود الجنس الأعلى في نوع الآخر، بل وفي كل ما يحمل عليه الجنس المتوسط 0 وإن لم يكن على أن ذلك الشيء نوع الجنس المتوسط - إيجاب العلة؛ وليس هو حدا للكبر ولا صورة ولا مادة. ولا أيضاً يوجب إيجاب غير علة كما علمت أو ستعلم.
وكثير من الخواص هو علة لكثير من الخواص، وهي خارجة عنها ليست بجنس لها ولا فصل ولا حد. فإن كون المثلث بحيث يكون خطه الخارج عنه على صفة مذكورة، يوجب كون زواياه مساوية لقائمتين من غير أن يكون خطه - بتلك الصفة - جنسا ولا فصلا داخلا في الذات لكون زواياه مساوية لقائمتين، ولا مادة ولا صورة.
وكذلك كثير من الأوساط البرهانية ليست حدودا ولا عللا داخلة في جوهر الشيء، بل عللا فاعلة وموجبة. وهكذا حكم قيام الأرض في الوسط للكسوف. وهكذا مماسة النار فإنها قد تجعل حدا أوسط في إثبات احتراق الخشبة. وإن كانت قد يجوز أن تجعل هذه العلل الموجبة فصولا من جهة - على أنها أجزاء فصول لا تحمل، بل تحمل الفصول المعمولة منها. كما أن القدوم لا يقال إنه حديد، بل من حديد، ولا يقال إن الحمى عفونة، بل من عفونة.
وليست أجزاء فصول مقومة للذات هي أخص الفصول، بل أجزاء فصول خاصية فقط. فإن العلل الفاعلة هي علل الوجود وليست عللا للماهية. وأجزاء الحد - أجناسا كانت أو فصولا حقيقية، أو أجزاء فصول - هي التي تكون عللا للماهية. وأما علل الوجود فليس يجب أن تكون عللا للماهية. ولذلك لا تدخل علل الوجود - وهي الفواعل والغايات - في الحدود، بل تدخل في الرسوم القائمة مقام الحدود. ولو كانت جميع العلل الموجبة للوجود تدخل في الحدود لكنا نعلم حدوث كل محدث ومحدث كل محدث من حدة.
فإذن قد يكون من الحدود الوسطى في البراهين ما هي علل موجبة لأمور ليست تلك الحدود أجزاء من تلك الأمور. فإذن ليس كل حد أوسط حدا أو جزء حد، وإن كان قد تكون الحدود حدودا وسطى وأجزاؤها، اللهم إلا أن يكون يعنى بالحد الحد والرسم معا فتكون العلل الموجبة للشيء خاصة على الإطلاق أو مخصصة بها مما يدخل في الرسوم.
وأما إذا كان الحد الأوسط أخص من الأكبر لم يلزم من هذا القبيل شيء. إنما لهم حينئذ أن يقولوا إن الأوسط يكون هناك حدا للأصغر. ويلزم أيضاً ما نقوله للآخرين.
فلو كانت الحدود هي الحدود الوسطى لا غيرها لكان يكون إدراك الأشياء أمرا سهلا. وذلك لأن من المحال أن يطلب وجود محمول لموضوع ولا يعلم ما الذي يفهم من لفظه. فإن كان له حد فأول ما علينا أن نفهم حده، وإلا فرسمه فقط. فكما نفعل ذلك لا يبقى علينا كثير شغل في أن نفهم وجوده للأصغر. فإنه كما نفهم حد المساواة لقائمتين ونضيفه إلى الأصغر - وهو المثلث - يقوم لنا أوسط يبرهن منه. وكما نفهم حد المساواة ونضيفه إلى مثلثين متساويي الأضلاع على التناظر، فينشرح لنا معرفة المساواة فيها. وقد يفعل هذا فلا يفلح بل يحتاج إلى أوساط أخرى ضرورية إذا أعطيناها وأحضرناها علمنا أن المثلثين متساويان، ونكون قد علمنا حد التساوي وحد المثلث قبل ذلك ولم ينفع علمنا بهما.
فهذه أقاويل من جنس الزخارف التي يرمون بها التنويه باسم البرهان، وأنه الشيء الذي من الحد لا غير.
وكثير من هؤلاء يدعى خلل كلامه أنه يأتي ببرهان على )113ب ( وجود الحد للمحدود، فيكون الأوسط مما يأتي به كالحد للأكبر، ويكون الذي يبينه هو وجود للأصغر، ولا يكون الكبر إلا عرضا للأصغر غير حد، فيكون بيّن غير الحد، وعنده أنه بين الحد.(1/499)
على أن هاهنا شيئا يجب أن نعلمه ونتيقنه، وهو أنه لا يمكن في الحقيقة إثبات حد أكبر له حد أو رسم إلا بتوسط الحد والرسم بالقوة أو بالفعل : فإنه ما لم يكن حد الشيء أو رسمه موجبا للشيء فليس هو بموجب، وما لم يكن مسلوبا فليس هو بمسلوب، لكنه ليس ذلك على أنه هو الحد الكافي الذي لا حاجة إلى غيره. فإنه حق ما قبل في أمثلتهم إن حد الاتفاق هو كون النغم على نسبة عددية كذا، وإنه إذا جعل هذا حدا أوسط أنتج أن النغم متفقة؛ فيكون الشيء الذي هو ماهية مفصلة بالاتفاق هو بعينه حد أوسط. لكنه ليس يجب من ذلك أن يكفيك هذا التوسط، أو انه لا يكون البرهان إلا بمثل هذا التوسط.فإنه لو كان معلوما لنا أن هذه النغم موجود لها هذا الحد، لكنا لا نشك في أنها موجود لها الاتفاق، ولكن في أكثر الأمور يشكل علينا حمل الحد كما يشكل علينا حمل المحدود، فلا ننتفع بتوسط الحد، بل نحتاج إلى توسط أمور لا محالة يتأدى بتوسطها إلى إنتاج وجود الحد قبل تأديتها إلى إنتاج الجملة التي يدل عليها المحدود. لكن تلك الوسائط تكون أمورا غير الحدود للمحدود. فلست تُرى برهانا قط وسّط فيه حد حقيقي للأكبر ثم أنتج منه حمل المحدود على الأصغر. ولو كان البرهان هو هذا فقط : أعني الذي أوسطه الحد، ما كنا نجد برهانا على شيء إلا على ما وجود حد الكبر للأصغر فيه ظاهر، ووجود نفس الحد الأكبر خفي، وما أقل أمثال هذه الأشياء. وكذلك إن جعلوا الوسط حدا للأصغر، وقلما يجري ذلك في أمثلتهم.
ولو شئت أن أبين أن هذا لا يكون بالحقيقة وإنما يكون بحسب الظنون لفعلت. وبالجملة يعسر عليهم أن يدلّوا على أنه كيف يبرهن على مطلوب محموله أعم، بمتوسط أخص. فيجب إذن أن ننصف ولا نغتر بهذه الأقاويل الملفقة. ونرجع إلى ترتيب التعليم الأول.
ولأن العلل الذاتية للماهية داخلة في الحد لأنها مقومة لذات الشيء، فهي داخلة في البرهان، لأنا بينا أن اليقين إنما يكون بمعرفتها. والبحث عن لم هو بحث ما بوجه ما عن ما هو بعد الوجه الذي ذكرناه أولا. وإذا أعطينا في الحد الوسط حد الحد الكبر، وكان بيّن الوجود للموضوع، فقد برهنا إذ دللنا على السبب.
وإذا أوردنا الحد الأوسط الذي هو العلة الذاتية إيرادا في قول الشيء فقد حددنا. مثاله أن يقال : لم كان كسوف القمر؟ فيقال لأن الأرض توسطت بينه وبين الشمس فاحتجب الضوء. وكلما كان كذلك فإن القمر ينكسف. والحد الأوسط هو ماهية الكسوف : لأن ماهية كسوف القمر هو انمحاق ضوء القمر لتوسط الأرض بينه وبين مفيد الضوء اعني الشمس. وكذلك إذا قيل لم اتفقت هذه النغمة مع هذه النغمة؟ قيل لأن بينهما نسبة عددية، التفاوت فيها بالقوة أو بالفعل مثل أحد العددين. فهذا بعينه ماهية الاتفاق الذي في النغم : لأن اتفاق النغم ائتلاف صوتين عند الحس بسبب نسبة عددية بهذه الهيئة. فالأوسط إذن داخل في الحد هاهنا دخوله في البرهان، والبحث عن لم يطلب الأوسط. ألا ترى أنا لو كنا نشاهد هيئة انكساف القمر بتوسط الأرض ولو مشاهدة حسية فنكتسب منه بالتجربة دون البرهان علما كليا لكان بحثنا حينئذ عن لم باطلا : إذ كنا وجدنا علة الكسوف؟ فكذلك إذا لم نجده من ذلك الوجه فنحن إنما نطلب إياه بالقياس.
فإذن المطلوب باللم النافع في طلب ما وقع من ذلك.
وليس إذا أعطينا برهانا فقد أعطينا حدا، وإن كان قد يتوهم فيما سلف من ذكر مشاركة طلب اللم - وهو طلب البرهان - وطلب ما، وهو طلب الحد، أن البرهان والحد قد يقومان على شيء واحد من جهة واحدة، وأنا إذا أعطينا برهانا أعطينا حدا، وليس كذلك من وجوه : أولها أن كل حد فهو إيجابي لمحدود، وليس كل برهان يوجب على مبرهنه بل قد قد يسلب.
وأيضاً أن كل حد فمحدوده كلى، وليس كل برهان كليا على مبرهنه. فليس إعطاء برهان المبرهن إعطاء حد المحدود.
وأيضاً فإن البرهان يعطي للشيء عرضا ذاتيا - على ما أوضحنا مرارا - والحد يعطي من الذاتيات المقومة. والعرض الذاتي غير داخل في حد الشيء. فليس إذن ما يعطيه البرهان هو بعينه ما يعطيه الحد. مثاله أن البرهان إنما يعطي أن المثلث زواياه مساوية لقائمتين. وذلك المعنى خارج عن حد المثلث. ولا يعطى البرهان البتة حد الموضوع ولا أيضاً حد المحمول، بل يوجب المحمول أو يسلبه عن شيء.(1/500)
وإذا استقريت لم تجد البرهان إذا أعطاك محمولا ذاتيا أو عرضيا فكان نفس ما يعطيك من وجوده للموضوع أعطاك كونه ذاتيا أو عرضيا فضلا عن كونه حدا.
وليس إذا أعطينا حدا فقد أعطينا برهانا : وذلك لأنا إذا أعطينا حدا فلم نوجب شيئا على شيء، ولم نسلب شيئا عن شيء بحد أوسط، ولم نعلم حال المحدود في المعنى الذي يطلب البرهان عليه : فليس نفس إعطاء الحد هو إعطاء برهان. وإن كان يتفق في كثير من المواضع أن يشارك الحد البرهان في المادة، لكن ليس ذلك دائما : فإن المقدمات الواجب قبولها لا برهان عليها، وأجزاء تلك المقدمات كلها - أعني الحدود المحدودة - تعطي حدودها ولا تعطي بذلك برهانا عليها، فإنها لا برهان عليها لأنها بسائط والبسائط تحد ولا يبرهن عليها. والتأليف منها بيّن بغير برهان. ولو كان أيضاً برهان لم يكف إعطاء الحد مئونة إعطاء البرهان. ولو كان على كل شيء برهان لما كان على شيء برهان. وأنت تعلم أن الحد شيء غير البرهان، وأنه ليس كل محدود مبرهنا بحده، ولا كل مبرهن محدودا ببرهانه.
وإذا كان الحد شيئا غير البرهان، فليس الذي يعطيه البرهان إلا ما يقتضيه ما هو غير الحد - بما هو غير الحد - إذ كما أن البرهان غير الحد، كذلك ما يفيده البرهان - بما هو برهان بالذات - شيء غير الذي يفيده الحد - بما هو حد بالذات. وإلا لكان البرهان لا يحتاج إليه، بل يجد : والحد لا يحتاج إليه، بل يبرهن. وكيف وهذا يوجب بالذات تصورا ساذجا فقط، وذلك يوجب بالذات تصديقا ساذجا فقط؟ أما أن التصديق لا يكون إلا بالتصور فمسلم - لا على أن ذلك التصور من جهة البرهان، بل التصديق هو الذي من جهة البرهان. والحد يقتضب اقتضابا ويوضع وضعا، والبرهان يؤلف تأليفا مسبوقا إلى الغرض، فيلزمه الغرض بالاضطرار. والحد يعطي الأمور الداخلة في جوهر الشيء مجتمعة مساوية لذاته في المعنى وفي الانعكاس عليه معا. وتلك الأمور بينة بنفسها للمحدود. والبرهان يعطي عوارض خارجة عن الماهية. والحد لا يعطي المحدود أجزاء حده بتأليف حمل، بل بتأليف تقييد واشتراط. والبرهان يعطي المبرهن أجزاء برهانه لا بتأليف تقييد بل بتأليف حمل. والبرهان على الشيء أولا يكون برهانا على غيره ثانيا. والحد للشيء لا يكون لغيره ولا يكون منه أول وثان. وإن كان حد الأعم يحمل على الأخص، فليس على أنه للأخص. وأما البرهان فقد ينقل إلى الأخص ويكون برهانا على الأخص.
فالبرهان غير محصور في الحد ولا الحد في البرهان. والبرهان محصور مثل انحصار البرهان على متساوي الساقين في كمية زواياه تحت البرهان على المثلث. بل الحد والبرهان هما مختلفان لأنه ليس يحمل أحدهما على الآخر بوجه.
الفصل الثاني
في أن الحد لا يكتسب ببرهان ولا قسمة
ونقول إن الحد ليس يكتسب أيضاً ببرهان وبحد أوسط على أن يكون المحدود حدا أصغر في القياس، والحد حدا أكبر. ولو كان ذلك مما يكتسب لم يكن بد من حد أوسط. ولما كان الأكبر فيه يجب أن يكون منعكسا على الأصغر، فيجب أن يكون على الأوسط وأن يكون الوسط منعكسا عليهما. فالأوسط لا محالة شيء من الخواص : إما خاصة مفردة أو فل مساو، وإما رسم وإما حد. ويسمى جميع هذا في هذا الموضع من التعليم الأول لمساواتها " خواص " .
فأما ما هو أعم من الشيء فلا يصلح أيضاً أن يكون حدا أوسط بين الشيء وبين حده. وأما الخاصة والفصل فلا يصلح أيضاً أن يكون حدا أوسط، فإنك إذا )114 أ( قلت كل ج ب وكل ب هو كذا وكذا من طريق ما هو، أي محدود بكذا وكذا، وأنتجت أن كل ج فهو كذا وكذا من طريق ما هو، أي محدود بكذا وكذا من طريق ما هو، لزم من ذلك أن يكون ما هو حد الخاصة أو حد الفصل هو حد النوع أيضاً. وسواء عنيت بقولك " كل ب " كل ما هو موصوف بب، أو عنيت كل ب من حيث هو ب، فإن الأمر غير مستقيم. أما على سبيل الوجه الأول فلأنه يجوز أن تكون الجزئيات تحت ب من أنواع مختلفة، وحينئذ تكون الأمور التي من أنواع مختلفة حدها واحدا - إذ تكون كلها محدودة بالأكبر، لأن الوسط الذي هو نفس ب، وهو فصل أو خاصة أو غير ذلك، هو وحده محدود به.(2/1)
وأما على سبيل الوجه الثاني - وذلك أن نعني أن كل ب من حيث هو ب هو كذا، وكذا يدل على ماهية - فإن هذا القول مانع أن ينتج الاقتران ويغير الوسط ويجعله آخر. ولو كان هذا القول منتجا لوجب أن يكون ما هو حد ب من حيث هو ب هو حد ج، وهو غيره في الحد وغير حده. هذا محال : فإن الخاصة والفصل وإن كانا يقالان على النوع ويحمل على النوع حدهما، فإنما يحمل لا من طريق أنه حد للنوع، أو حدهما واحد : فحدهما حد النوع - ولكن من طريق انه موجود للنوع. وفرق بين أن يكون هذا الشيء موجودا للشيء وبين أن يكون حدا له، أو يكون حدهما واحدا. بل حد طبيعة النوع وحد طبيعة فصله وحد طبيعة خاصته مفترق. فحد فصله جزء من حده. وحد خاصته مأخوذ فيه حده بالقوة أو بالفعل.
فإذن ليس يمكن أن يكون الحد الأوسط خاصة أو فصلا من هذا الوجه؛ ولا رسما أيضاً.
وأقول من رأس كالمعيد إن مثل هذا الوسط إما ألا يفيد الحد، وإما أن تكون الكبرى كاذبة : لأنك لا تخلو إما أن تقول مثلا " كل ضحاك أو ناطق فهو حيوان ناطق مائت " وتسكت، فحينئذ ينتج أن كل إنسان حيوان ناطق مائت، من غير زيادة بيان أن هذا حده. وحينئذ يكون حمل الحد على موضوع النتيجة ليس أخفى من جمله على الحد الأوسط، بل ربما كان ذلك أوضح : فإنا إنما نعلم أن الضحاك حيوان ناطق مائت، لأنا نعلم أنه إنسان. وقد بان لك من حال الفصل أن حمل حد النوع عليه يجب أن يكون أخفى من حمله على النوع إن كنت تذكر أصولا سلفت. وإما أن تقول كا ضحاك أو ناطق فهو محدود بأنه حيوان ناطق مائت، وان هذه الجملة ماهيته، فتكون هذه المقدمة كاذبة : لأن معنى قولك " كل ضحاك " أو " كل ناطق " يفهم على وجهين متضمنين فيه : أحدهما أن كل ضحاك من جهة ما هو ضحاك، أو كال ناطق من جهة ما هو ناطق. والآخر، كل شيء يوضع للضحاك وكل شيء يوضع للناطق وليس هو ذات الضحاك أو ذات الناطق. وكلا الوجهين داخل في قولنا كل ضحاك وكل ناطق. ثم هذا الحد ليس حدا للضحاك من جهة ما هو ضحاك وذات ضحاك، ولا الناطق من جهة ما هو ناطق وذات ناطق، بل مما يعرض لذاته ضحاك ويتقوم بان يحمل عليه الناطق - وهو الإنسان.
فإذن ليس يصح أن يقال : ما هو ضحاك أو ناطق فيحمل عليه هذا المعنى على أنه حد.
وأما الوجه الثاني - وهو أن يعني أن كل ما هو موضوع للضحاك وضعا حقيقيا، أو للناطق - فهذا حده، ويعني بذلك الإنسان ويشير إليه في الذهن. فإن كان هذا بينا لم يحتج إلى بيان بالكبرى، بل الكبرى بالحقيقة تبين إذا كان ذلك بينا. وإن لم نشر إليه، بل أشرنا إلى كل واحد واحد، كذبنا. وإن لم نفعل شيئا من ذلك، لم تكن الكبرى مسلمة.
فقد بان أن الحد الأوسط في القياس المنتج للحد لا يكون خاصة ولا فصلا ولا رسما، بل إن كان ولابد، فيجب أن يكون حدا آخر. أما أن الحد الحقيقي للشيء الواحد لا يكون إلا واحدا فذلك يظهر إذا عرفنا م الحد الحقيقي، وعرفنا أنه مساو لذات الشيء من وجهين : أحدهما من جهة الحمل والانعكاس، والثاني من جهة استيفاء كل معنى ذاتي داخل في ماهيته حتى يساويه ويكون صورة معقولة مساوية لصورته الموجودة. ومعلوم أن مثل هذا الحد لا يكون للذات الواحدة إلا واحدا. ولو كان له حد ثان يشتمل على صفات ذاتية خارجة عن اشتمال الحد الأول، لما كان الأول حدا مساويا لمعنى ذات الشيء، ولا حدا حقيقيا بالجملة.(2/2)
لكنهم كثيرا ما لم يستقصوا هذا الشرط واقتصروا على جنس وفصول مميزة، حتى إذا حصل التمييز وقفوا، وإن كانت هناك معان ذاتية أخرى يحتاج إليها حتى يتم الحد الحقيقي. فمثل هذا الحد قد يجوز أني يكون للشيء منه اثنان : مثلا أن يُحد الإنسان تارة بأنه حيوان ذو رجلين مشاء، وأخرى بأن الإنسان حيوان ناطق مائت. وأن النفس عدد محرك بذاتها، وأيضاً مبدأ للحياة بذاتها. وأن الغضب غليان دم القلب. وأيضاً شهوة حركة الانتقام، وما أشبه ذلك. فإذا جعل واحد من هذين الحدين حدا أوسط والآخر حدا أكبر، كان تأليفا ما قياسيا. إلا أنه يعرض منه شيئان : أحدهما أن المكتسب بالحقيقة لا يكون حدا تاما، بل حدا ناقصا وجزء حد تام. والثاني أن هذا الأوسط لا يخلو من أن يكون حمله على الأصغر حملا اشترط فيه أنه حده، والأكبر كذلك في حمله عليه؛ أو يكون الحمل في أحدهما حملا فقط، ولم يقل إنه حد لما حمل عليه. فإن قيل مثلا إن أ حد لب، ب حد لج فأحّد لج لأن حد الحد حد، فقد خرج عن صواب التعريف من وجوه. وذلك لأن كون ب حدا لج موضوع وضعا ومقتضب اقتضابا من غير قياس. وكان الشرط في التحديد بعد انكشاف الجنس عند هذا المنازع ألا يكون إلا بقياس. وأما ألا يكون ب فقد صح أولا أنه حد لج بقياس آخر. وأما أن يكون التحديد ليس طريقه الإنتاج بقياس، لكن لا يجوز أن يكون استبانة ذلك معولا فيها على قياس، وإلا لاحتيج إلى حد ثالث يكون متوسطا، وكان لا يزال يكون بين كل حدين حد، فيكون للشيء حدود بغير نهاية، إذ لا يجوز أن يكون الحد بين ب ، ج هو أ ، فإن هذا دور. وقد بان أن ذلك ينتهي إلى أوساط لا أوساط لها، فتكون حدودا غير مكتسبة، وهذا خلاف ما يذهبون إليه.
فقد بان أن أخذ الأوسط حدا للأصغر، وأخذ الأكبر حدا للأوسط، يكون قد اقتضب اقتضابا فقط. وأيضاً فإن الطلب واحد : أنه هل هذا الشيء حد الشيء أو حد لحده؟ ولا يتبين أنه حد لحده أو يكون بينا أنه حد للشيء. فهذا أيضاً نحو آخر قد خرج فيه عن صواب التعريف، إذ وضع أن أ حد لحد ج، والمشكوك فيه أنه هل أ حد لج. هذا إذا كان وضع أن أ حد لب ، ب حد لج. وأما إذا لم يوضع ب حدا لج، فلا يدرى هل حده حد لج أم لا. لكن يقال إن حده محمول على ج، كما أن حد الفصل والجنس والخاصة محمول على النوع وليس حدا للنوع.
ولا يفيد هذا القياس الحد إذا لم يوضع أن أ حد لب : فإنه ليس إذا علم أن أ موجود لحد ب، يجب أن يكون هو حد ب : فليس كل لازم ومحمول ذاتي حدا.
وإن قيل في آخر الأمر كالمستنبط من وجه هذا البيان، إن أ حد لج، فيكون شيئا قد وضع وضعا من غير أن ينتجه قياس. على أن من وسط الحد للحد فقد صادر على المطلوب الأول وهو لا يشعر : كمن يقول إن النفس عدد محرك لذاته - لو كان هذا حدا - ثم يقول وكل ما هو عدد محرك لذاته فهو استكمال جسم طبيعي آلي. وليس يعني به أن يبرهن على الحمل والوضع فقط، بل أن يبرهن على أن الأكبر حد للأصغر، فيكون كأنه يقول : والشيء الذي ماهيته وحقيقته وحده أنه عدد محرك لذاته، حده وحقيقته أنه استكمال جسم طبيعي آلي. وهذا الشيء هو نفس المطلوب حده. فلو كان بينا أن الشيء الذي حده أنه عدد محرك لذاته، المعلوم بالفعل أنه النفس لا غير، الذي هو المطلوب، حده هو استكمال لجسم طبيعي، لما كان يُطلب هذا.
وليس هذا كما يكون عندما يكون الأوسط غير حد للأصغر، لأن هناك لا يكون نفس الأوسط وحقيقته، بل شيء آخر يحمل هو عليه. وأما المحدود فهو نفس الشيء الذي له الحد.
فهكذا يجب أن يفهم هذا الموضع. ويعود الأمر في الحقيقة إلى أن من يطلب متوسطا بين الحد والمحدود فهو يطلب متوسطا بين لاشيء وبيم حقيقة ذاته، وهذا محال. بل لا متوسط : وإنما يكون المتوسط بين أمور وأشياء ليست هي حقائق تلك الأمور إلا بالعرض، على ما بيّنا في موضع آخر.(2/3)
ثم قيل إن طريق القسمة لا يثبت أيضاً أن أ حد ج. بل لا قياس بالقسمة على شيء كما أوضحنا في الفن المتقدم : لأنه ليس يوضع في القسمة وجود شيء، بل إنما يفصّل فقط فيقال: إما )114 ب ( أن يكون كذا وإما أن يكون كذا؛ ولا يلزم من ذلك أن يوضع أحد الأقسام بالضرورة، إلا أن يصادر عليه ويوضع مسلما كأن لم يكن قياس. وهذا يشبه الاستقراء الدائر من وجه، وذلك لأنه إذا كان مشكلا عندنا هل كل ج ل فأوضح موضح أن ذلك كذلك لأن كل ج أ ، كل أ ب، ثم أخذ يبين أن كل أ ب بأن ينظر فيقول : لأن د ب، ب، ز ب، وهي الجزئيات التي في رتبة ج، ثم يقول فكل أ ب. فيقول القائل - إذا أراد ألا يقبل إلا الضروري - إن ما تحت أ ليس د، ه ، ز فقط بل ، ج أيضاً؛ فإن سلمت أن د، ه ، ز مما هو أ ) هو( ب، لم يلزم أن يكون كل أ ب : فعسى ما لم يشاهد أو لم يُعد خلاف ما شوهد وعد؛ فعسى إنما الذي هو ب بعض الألف - وهو د، ه ، ز وأن ج الذي تنازعنا فيه مخالف. وإن أخذت في الاستقراء أن ج أيضاً هو ب حتى لم يبق جزئي ل أ إلا وقد حمل عليه ب، فقد صادرت على المطلوب وأخذت أن ج ب في بيان أن أ ب لبيان أن ج ب : وهذا محال.
وكما أن مثل هذا الاستقراء لا يضع المطلوب ولا يوجبه بالضرورة أو يصادر على المطلوب الأول، فكذلك التقسيم. وعلى هذا يجب أن يفهم هذا الموضع. فإنه إذا قسّم القاسم بأن الإنسان إما حيوان وإما غير حيوان بل جسم غير ذي نفس، ثم يصغ أنه حيوان ثم يقول : والحيوان إما ماش وإما سابح وإما زاحف وإما طائر، فيضع مثلا أنه ماش، ثم يقول فالإنسان إذن حيوان ماش، كان أخل في إنتاج الحد من هذه الجملة بوجوه ثلاثة : أحدهما أنه لما قسّم لم يتعين له بالقسمة أحد الطرفين بل وضعه مصادرة وتسليما.
والثاني أنه جمع متفرقا. وهذا قد يقع فيه الخلل من وجوه : أحدهما أنه قد يمكن أن يصدق القول متفرقا ويكذب مجتمعا. والثاني أنه يمكن ألا يجتمع من متفرقات طبيعية واحدة بالذات، وهذان مذكوران في باريرمينياس. والثالث أنه قد يمكن أن يقع الجمع لا على الترتيب المحمود الذي يجب أن يراعى في الحد، فينظر فيه أي الفصول يجب أن يقدم وأيها يجب أن يؤخر - وذلك إذا اجتمعت عدة فصول. فهذه ثلاثة وجوه يتشعب إليها الوجه الثاني، وهو الخطأ في جمع المتفرق.
وهذه الوجوه الثلاثة يؤمن عنها وقوع القسمة بالذاتيات وبالأوليات في القسمة على ما قد علمت : أي ما ينقسم إليه الشيء لأنه هو، لا لأجل شيء أخص منه. إلا أنه مع ذلك لا يكون فيه قياس على الحد لما تعرفه.
والثالث من الإخلال في إنتاج الحد من هذه أنه جمع فقط ولم يدل على أنه حد : فإنه ليس كل مجموع ذاتيات على الصواب في الترتيب حدا، فربما نقص شيء من الواجب أو زاد. على أنه يعسر أو يبعد ألا يقع في القسمة طفرة أو تخط للذاتيات إلى شيء خارج من الجوهر، لأن القسمة قد يقع فيها جميع ذلك : مثلا بأن يدخل الضحاك أو عريض الأظفار أو منتصب القامة فيها.
وإن تكلف إبانة وقوع الاحتراز عن هذا، فقد جاوز مقتضى القسمة. وإن تعدى القسمة إلى القياس بأن قسم فاستثنى نقيض قسم أو أقسام وأنتج واحدا هو الباقي من الأقسام، فجمع أجزاء الحدود وتعدى هذا القياس أيضاً إلى قياس بأن جمع المحمولات مفردة جوهرية حتى حصل منها مساو للشيء فقال جملة هذه المحمولات قول مفصل دال على الماهية مساو، وكل ما كان كذلك فهو حد : فهذا حد. فما عمل شيئا حين حاول إثبات الحد بقسمة وقياس معها.
أما القياس الأول فلأنه بالحقيقة ليس بقياس لأن أجزاء الحد بينة بنفسها للمحدود. وإذا كان حصل ذاته في الوهم مجملا وكانت الحاجة إلى تحديده، فإن أجزاء ذلك المجمل تكون بينة للمجمل فلا يحتاج إلى بيان. فإن طن ظان أنه يحتاج إلى بيان، فليس بيانها رفع سائر الأقسام، فإن إثباتها أبين من رفع سائر الأقسام أو مساو له في الخفاء : فإن الناطق أبين للإنسان - إذا عرف ما الناطق - من انه ليس غير ناطق. والاستثناء يحتاج إلى أن يكون أبين من النتيجة، ليس مثلها أو أخفى منها.(2/4)
وأما في القياس الثاني فلم يعمل أيضاً شيئا : وذلك لأن طلبنا أن الحيوان الناطق المائت حد للإنسان، وطلبنا أن الحيوان الناطق المائت قول مفصل مساو للإنسان دال على ماهيته، غير مختلفين في الخفاء والوضوح. فلو كنا نعرف أن الحيوان الناطق المائت قول مفصل مساو للإنسان دال على ماهيته، لما كنا نطلب حد للإنسان البتة. بل إنما نطلب هذا القول المفصل الذي هو بهذه الحال. فإذن كما لا نسلم أن هذا حد للإنسان، كذلك لا نسلم أنه قول بهذه الحال. تسليم ما يجعل حدا، وأخذنا القول بهذه الحال حدا أوسط هو مصادرة من وجه على المطلوب الأول بالقوة دون الفعل. أعني أن توسيط حد الشيء حدا في القياس ربما لا يكون في مواضع أخرى مصادرة على المطلوب الأول إذا كان التفصيل أشهر من الإجمال. وأما في هذا الموضع، فالتفصيل هو المطلوب وهو الخفي. فإذا ليس توسيط حد الشيء مصادرة على المطلوب الأول، فهذا ليس مصادرة بالفعل. لكن لما كانت قوة هذا التوسيط في الموضع الذي نحن فيه كقوة توسيط الحد الأكبر، فهو مصادرة على المطلوب الأول بالقوة في ذلك الموضع.
على أنه قد أخذ منه حد الحد بلا واسطة، كما أخذ " الحي الناطق المائت " أمرا موجودا للإنسان مساويا له بلا قياس - وهو المطلوب. فمن أين بان حد الحد للحد؟ ثم هاهنا شيء آخر ، وهو أن صاحب الصناعة يجب أن يكون عنده قانون في معرفة الحد الصحيح والحد الغير الصحيح، كمل يجب أن يكون عنده قانون في معرفة القياس الصحيح والقياس الغير الصحيح. وكما أنه لا يجب أن يكون القياس قياسا ومع ذلك يبرهن أنه قاس وأن القول الذي نظمه هو على القانون القياسي، وأنه منتج إلا مع المناكدين المغالطين الجاهلين بقوانين القياس، فكذلك المحدد يجب أن يحد على ذلك القانون ولا يستعمل فيه ذلك القانون بالفعل.
وبالجملة كما أن القياس يقيس فقط ولا يقيس على أنه قاس بان يقول وكل قول من شأنه كذا وكذا فهو قياس، كذلك المحدد يجب أن يحد فقط ولا يحد الحد بان يقول كل قول هو كذا وكذا فهو حد. بل يجب أن يكون قد علم ما القياس وما الحد أولا.
وكما أن الذي ينكر أن كذا وكذا إذا ورد عليه شيء على انه برهان ويكلف أن يدل على انه برهان بان له حد البرهان، يكون له أن يقول : لو سلمت أن هذا حد البرهان، أو أنه إن كان حد البرهان فهو موجود لهذا القول، لكنت أسلم أن هذا القول برهان : فإذا لست أسلم أن هذا برهان، فكيف أسلم أن لهذا القول حد البرهان؛ كذلك حال من ينكر الحد فإن له أن يقول : إني لو سلمت أن هذا هو حد الحد، أو أنه وإن كان حد الحد فهو موجود لهذا الشيء، لكنت أسلم أنه حد، وأنه لذلك الشيء حد.
وبالجملة فإن الحد على مائية الشيء والبرهان على إنية الشيء للشيء، وإنية الشيء غريب عن مائيته خارج عنها لا يبعد في مثلها أن يجهل للشيء كما علمت فيطلب بالبرهان.
الفصل الثالث
في أن الحد لا يقتنص أيضاً بالقسمة والاستقراء
وتأكيد القول في هذه الأبواب وفي مناسبة بعض البراهين مع الحدود
وتنبيه بعض البراهين على الحدود وليس لقائل أن يقول إن حد الشيء مستنبط بالقياس الشرطي من حد ضده، لأن حده ضد حد ضده، فمثلا إنا إذا علمنا أن حد الشر هو الأمر المشت الغير المنتظم، علمنا أن حد الخير هو المر الملتئم المنتظم بان نقول هكذا : إن كان حد الشر أنه هو الأمر المتشتت الغير المنتظم، فحد الخير هو أنه المر الملتئم المنتظم، ثم نستثنى، لكن حد الشر كذا، فإذن حد الخير كذا، فإن الجواب عن هذا على وجوه أربعة : أولها : أنه لم يمكن هذا القياس أن يعطي حدا بقياس حتى اخذ حدا باقتضاب ووضع من غير قياس، فأشبه من وجه صاحب القسمة وصاحب الاستقراء، إذ كل واحد منهما يأخذ المطلوب بوجه ما مصادرة، ويضعه وضعا ويظن أنه بينه بقياس ضروري. وإن كان هذا إنما صادر على نقيض مطلوبه : لأنه طلب أن يبين الحد بقياس فأخذ الحد بلا قياس.
وقد عرفنا أن صاحب القسمة كيف يفعل هذا، وأن )115 أ( صاحب الاستقراء كيف يعرض له أن يفعل هذا - فليتأمل من هناك.(2/5)
والثاني أنه عرض لهذا شيء آخر وهو أنه جعل القانون في كسب الحد أن يوضع حد ضد المحدود. فإذا طالبناه بأن يبين كيف يحد الضد الآخر المبين به حد هذا الضد - وهو في هذا المثال الخير - احتاج أن يبينه لا محالة - على حكم قانونه - بحد لهذا الضد، وهو في هذا المثال الشر. فمع أنه يصادر مع المطلوب الأول فإنه يستعمل الدور.
والثالث أنه ليس حد أحد الضدين أعرف من حد الضد الآخر، بل هو مثله في الجهالة والمعرفة الحقيقية. وكل بيان مما ليس اعرف، وإن لم يكن دورا ولا مصادرة، فليس ببيان.
والرابع أنا لنسامح ولنضع أن هذا الإنسان قد حد ماله ضد بهذا القانون ، فكيف يحد ما ليس ضد، أو كيف يحد الضد المطلق، والضد المطلق الواقع على الطرفين ليس له ضد؟ ولقائل أن يقول : إنكم قد زيفتم اكتساب حد الضد من حد الضد الآخر في هذا الكتاب هاهنا، وأما في " كتاب الجدل " فقد استعملتم هذا القانون من حيث تكلمتم في إثبات الحدود وإبطالها. والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما أن " كتاب الجدل " ليس فيه على الإثبات والإبطال الحقيقين، ولكن على الكائن إما من تسليم الخصم لمقدمته، وإما من الرأي المشهور. ونحن لا نمنع أن يكون أحد حدي الضدين يتسلم من الخصم، فحينئذ يلزمه، شاء أو أبى، أن يكون حد الآخر ضد هذا الحد. ولا نمنع أن يكون حد أحد الضدين بالقياس إلى المشهور وإلى الذائع أعرف من حد الضد الآخر، يكون إنما حد بما هو أعرف في المشهور، ولا بما هو حقيقي المعرفة عند العقل الصريح وربما كان خفيا بنفسه ولكن اشتهر، مثل كثير من المقدمات التي هي خفية في نفسها بالقياس إلى العقل النظري الصريح، ولكن بالقياس إلى الشهرة هي بينة بنفسها أو مقبولة.
والثاني أن الحد المطلوب في " كتاب الجدل " هو الحد بحسب قانون الشهرة ولا بحسب قانون الحقيقة، فلا يجب أن يُجرى في الأحكام الحقيقية مجرى الحدود الحقيقية.
ونقول أيضاً إن الحد لا يصطاد بالاستقراء. وقد تبين هذا لك من ان الاستقراء الحقيقي هو من الجزئيات المحسوسة، وهذه لا حدود لها على ما أوضحنا.
والثاني أنه إن استقرئ منها قول على أنه حد فإن ذلك القول إما أن يؤخذ على أنه حد لكل واحد من الأشخاص فينقل إلى انه للكلى، كما إذا وجد حكم في الجزئيات نُقل إلى الكلى، أو على أنه حد لنوع الأشخاص. ولا يمكن أن يكون حدا لكل واحد من الجزئيات، فإنه يعرض من ذلك محالان : أحدهما أنه لو كان لكل واحد منها حد يخصه لكان لا يشاركه فيه الآخر، وكان لا يمكن أن ينقل إلى النوع كله، أو تنقل إليه حدود كثيرة متخالفة.
والثاني أن الحد الخاص بكل واحد، لو كان، لما كان من الأمور الذاتية التي تشارك فيها، بل بالعوارض التي عسى أن تخص جملة منها شخصا واحدا كما علم في " إيساغوجى " . والعوارض غير داخلة فيما هو الشيء. فقد بطل إذن قسم واحد من هذا الاستقراء. وبقى أنه إنما يستقرئ على أنه حد لنوع الأشخاص. وليس شيء من الأشخاص يدل بوجود معنى فيه على أنه حد لنوعه إلا أن يعرف نوعه أولا ويعرف الحد له : فيكون الاستقراء باطلا. وذلك لأنه لا يمكن أن يقال : لما كان هذا حد نوع هذا الشخص، وحد نوع هذا الشخص فهو حد نوع كل هذه الأشخاص، لأن هذا قد عرف إذ عرف أنه حد لنوع الشخص الأول.
قيل : فإذ ليس طريق اكتساب الحد بالبرهان ولا بالقسمة ولا بالاستقراء من الجزئيات، فكيف ليت شعري نعمل، فإنه لا سبيل إلى أن يعرف بالحس ويشار إليه بالإصبع؟ ثم معنى ما هو الشيء - وهو الحد الحقيقي - لا يجوز أن يكون إلا لموجود الذات، والمعدوم الذات قد يكون له قول دال على معنى الاسم. وأما حد فلا، إلا باشتراك الاسم.(2/6)
ومن ظن أن الحد يبين بقياس فإما أن يعني به القول الذي بحسب الاسم من حيث هو كذلك، أو يعني الحد الحقيقي. فإذا عنى شرح الاسم فذلك محال : فإنه ليس يحتاج أن يبين المبين أو يبرهن المبرهن على انه يعني بهذا الاسم معنى هذا القول. وأن عنى به الحد الحقيقي من حيث هو حد حقيقي، فذلك يقتضي أن يشار فيه إلى موجود. فلا يخلو إما أن يكون الحد لا يشير البتة إلى وجود ذلك الشيء، وإنما يعلم وجوده من وجه آخر، أو يكون الحد نفسه يشير إلى وجوده. فإن كان الحد لا يشير إلى وجوده، فقد علم وجوده أولا، فيلزم أن يكون هذا عرف الحد له أولا - لا من حيث هو حد حقيقي، بل من حيث هو شرح الاسم حين عرف ما الشيء الذي هو الموجود، وما يعني باسم الشيء الذي هو موجود. فما لم يفهم معنى اسمه كيف يفهم وجوده! فإن كان وجوده بينا بنفسه تكون صيرورة شرح الاسم حدا له بينا بنفسه وإن كان غير بين فيكون البرهان الذي يبين وجوده، كما يبين وجوده بجعل شرح اسمه حدا له، فيكون الذي كان من قبل شرح اسم قد صار الآن حدا، لما صح أن الشيء موجود لا من جهة أن ذلك برهان على حده بالذات، بل هو برهان على وجوده بالذات، وعلى حده بالعرض، وهذا النحو لا يمنع وقوعه في الحدود ولا فيه خلاف.
وأما إن كان إعطاء الحد نفسه هو المشير إلى الوجود حتى يكون إعطاء الحد لما ليس بين الوجود من حيث هو حد حقيقي بين الوجود بيان أن الأمر موجود، فيكون من حد الشيء، فقد قاس على وجوده معا من حيث حد، هذا محال : فإن الحد إنما يبنى على أمور داخلة في ماهية المحدود، والموجود - كما علمت - ليس منها. فليس الوجود جنسا ولا فصلا بل هو محمول لازم، والحد لا يعطيه لأنه يعطي الأجناس والفصول فقط. بل البرهان يعطيه : لأن البرهان هو معطى اللازمان التي ليست داخلة في الحد. فإن البرهان المعطى للوجود يعطي وجود مجهول الوجود مطلقا، أو مجهول وجوده للشيء. وهذه لوازم خارجة عن الماهية. فلا البرهان يطلب ما هو داخل في الحد لأن ذلك بين نفسه، ولا الحد يعطي ما هو مطلوب البرهان لأن ذلك خارج عن جوهر الشيء. ولذلك كان أهل العلوم كلها يضربون سورا بين الأمرين ويميزون مآخذ إعطاء الحدود بابا، ويقتضبون الحدود اقتضابا، ويميزون مأخذ البراهين بابا آخر، ويؤلفون البراهين تأليفا. وإذا أعطوا حد المثلث في الهندسة لم يقدموا على ذكر وجوده شيئا بل لم يبينوا أن هذا حد بالحقيقة أو تفهيم للاسم. فلما برهنوا أن المثلث موجود بالشكل الأول من كتابهم في الاسطقسات صار حينئذ ما كان تفهيما للاسم عند ابتداء التعليم حدا بالحقيقة.
فما أظهر ما بان أن مأخذ الحد الحقيقي مباين لمأخذ القياس. وكذلك القول المعرف لماهية الاسم الذي ليس بحد وهو أظهر. وذلك لأن معناه أن هذا الاسم أعني به كذا وكذا. وهذا لا يمكن أن ينازع فيه أو يخاصم كما لا ينازع في الاسم. وأما أن هذه الذات حدها كذا وكذا فيمكن أن ينازع فيه ويخاصم. وبين الأمرين فرة.
ولو كان كل قول يطابقه اسم مطابقة يكون لها الاسم يدل على تلك الجملة، والقول يدل على تفصيل ما يدل عليه الاسم حدا، لكان مخاطباتنا وكلامنا حدودا. فما من لفظ مركب بلفظ استفهام أو خبر أو دعاء أو تمن أو تعجب أو ترج أو أمر أو نهي أو غير ذلك، إلا ويمكن أن يوضع اسم مفرد بدله. فيكون جميع ذلك حدودا. بل تكون القصيدة الطويلة مثل شعر أوميروس المسمى بأيلياس حدا لأنه لا يمكن أن تسمى باسم واحد مفرد، كما سمى البلد والقرية مع كثرة أجزائه باسم واحد. ثم يكون حده تفصيل جملته.
فبين إذن أن القياس لا يثبت حدا، والحد لا يكون قياسا، ولا دلالتهما على شيء واحد بعينه. فإنه لا قياس على ما يدخل فيما هو.
والاستقراء أيضاً إنما هو لإثبات " هلية " بسيطة أو مركبة، وحكمه حكم القياس والبرهان. ولا سبيل إلى إثبات الحد به.
أما أنه لا يمكن أن يبرهن على الحد فقد بيناه. وأما الآن فإنا نقول :(2/7)
إنه قد يتفق أن يكون لبعض البراهين منفعة في حدس بعض الحدود وبالعكس. ونقول كما أنا لا نطلب لمَ الشيء إلا بعد أن نضع هل الشيء، كذلك لا نعرف ما الشيء إلا بعد أن نعرف هل الشيء ثم معرفة هل الشيء قد تحصل لنا على سبيل العرض بأن لا يكون الحد الأوسط علة لوجود النتيجة، بل علة للزوم النتيجة، أو يكون عارضا غريبا لازما وقد تحصل بالذات : وذلك إذا عرفنا الشيء من قياس بحد أوسط هو سبب وجوده. فهذا الطريق هو الطريق الذي يؤدي إلى معرفة بالهل حقيقية. والطريق )115ب ( الأول لا ينفعنا البتة في اكتساب ما هو وفي اقتناء الحد. وأما هذا الطريق فإنه لما كان يدل فيه على علة وجود الشيء العلة التي هي ذاتية له، فلا يبعد أن يكون ما يفهمنا من وجوده شيئا زائدا لا يبعد أن يتنبه مع مراعاة الشرائط المذكورة على حدة. فمثل هذا كما أنه مع التوقيف على الهلية يشير إلى لمية الهلية، فكذلك مع التوقيف على الهلية يشير إلى مائية الهلية. وخصوصا وقد سلف منا البيان أن للمية الهلية ومائية الهلية مشاركة. ومثال هذا أن من قاس على أن القمر ينكسف فقال إن القمر قد يقع قبالة الشمس وراء ستر الأرض، وإذا وقع كذلك انكسف، أو قال ما يجري مجرى هذا الكلام، فإن كسوف القمر يثبت به. وأيضاً أنه لم ينكسف يثبت به. وأيضاً انه ما كسوفه - وهو زوال ضوئه بستر الآرض - يثبت به. وخصوصا إذا استقصى هذا البيان حتى صير إلى العلة القريبة التي هي الصورة للكسوف بعد العلل الفاعلة له. فإذا جمعت تلك الأوساط كلها مع الحد الأكبر كان حدا تاما، مثل قولنا أن القمر يمكن أن يقع قبالة الشمس المفيدة إياه الضوء على القطر؛ وكل ما وقع كذلك فإن الأرض تستر عنه ضوء الشمس، وكل شيء يكون كذا فإنه لا يضئ ، بعد أن كان يضئ وكل ما كان كذلك فهو منكسف، فالقمر منكسف. فإذا أخذت هذه الأوساط وابتدئ من أقربها إلى المنكسف - وهو أنه لا يضئ بعد أن كان يضئ - وجمعت هذه بالعكس من ترتيبها، كان حدا للكسوف تاما : وذلك لأن حد كسوف القمر هو أن لا يضئ القمر بعد أن كان يضئ لستر الأرض عنه ضوء الشمس لوقوعه من الشمس على القطر. فهذا هو الحد التام للكسوف، واكتسب من هذا البرهان التام على الكسوف الأول. وذلك الأول حد ناقص أخذ من برهان ناقص.
وعسى المشكك يعترض في هذا فيقول : كأن هذا البرهان لا يصح ولا يقوم إلا لمن تقدم فعرف حد الكسوف، فلا يكون البرهان قد أفاد الحد. فنقول : إن الشيء يعرف معرفة بالفعل، ويعرف معرفة بقوة قريبة من الفعل يكون عنها غفلة ويحتاج فيها إلى تنبيه. فالبرهان يدل على الحد على سبيل التنبيه عن الغفلة. وأما الحد فلا يبرهن عليه البتة. فكأن هذا قد يعرف أن القمر يصيبه كذا من الشمس فغفل عنه. فإذا سمع هذا لحظ ذهنه هذه الأجزاء، فلم يلبث أن يتيسر له الانتقال إلى ترتيب الحد.
وأما إذا لم يكن البرهان مؤلفا بالعلل، بل كان قياسا من العوارض واللوازم، فقيل مثلا إن القمر قد لا يقع له ظل في الاستقبال، وإذا لم يقع له ظل فهو منكسف، فالقمر قد ينكسف، فليس يصطاد من مثل هذا حد، بل يجب أن يعطى العلة بعينها. أما العلة الحقيقية عند قوم فالستر، وعند قوم انقلاب القمر، وعند قوم طُفوءه بعد اشتعاله.(2/8)
وكذلك إن قال قائل إن السحاب قد تطفأ فيه النار، وإذا طفئت فيه النار حدث صوت الرعد، فإنه يمكن أن يستخرج من هذا البرهان حد الرعد.وأما كل شيء لا علة له، فلا برهان عليه ولا حد بالحقيقة له إلا الوجه الذي يجب أن يتأمل ويتذكر من فصل علمناه في أول الكتاب. ثم لا يجب من كلامنا في هذا الفصل أن يظن - كما يظن بعض الناس - أن كل برهان بعلة فإنه يدا على الحد، فإن المعلم الأول لم يضمن هذا، بل ضمن أنه قد يكون من هذا الصنف ما يدل على الحد، لا على أن كله كذلك. ولا لو ضمنه كان حقا : فإنه إذا كان الحد الأوسط نوعا للحد الأكبر كان القياس برهانا ومأخوذا من علة النتيجة وحدها، لا للحد الأكبر مجردا، ومع ذلك لم يستنبط منه حد. وقد فرغنا نحن عن ذلك. فيشبه أن يكون هذا حيث يكون الشيء الذي هو الأوسط علة بذاته للأكبر منعكسة عليه، وعلة للنتيجة معا. وأما الظن المستحكم لقزم أن البراهين إنما هي حدود وسطى هي علل منعكسة على الحدود الكبرى، بل وعلى الصغرى، فأمر باطل. وإنما غرهم قلة العناية والنظر، وفصل من كلام المعلم الأول لم يستقصوه حق الاستقصاء، وسنصير إليه عن قريب، ونبين أن العلل قد تكون أخص من المعلولات في كثير من الأشياء ولا تنعك عليها، إلا أنا نشتغل هاهنا بما هو غرضنا فنقول : إن المعلم الأول دل على ان البراهين ذوات العلل تعطي بوجه ما تنبيها على الحدود، وذلك في الاشياء التي هي عارضة لشيء وفي شيء لعلة من جنس العلل المأخوذة في الحدود.
وأما ما لا علة له في وجود ذاته مطلقا، أو لشيء : لأنه عارض في شيء، أو عارض أول بلا علة - ومن جنسه مبادئ العلوم - فإنه قد يصدق به من غير قياس يعطى هلية البتة. بل هليتها واضحة. ومع ذلك فقد يكتسب لها حد.
وأيضاً كثير من المعاني يوضع في العلوم وضعا، مثل الوحدة في علم العدد، فلا يقاس بالبرهان على وجوه، بل يوضع وضعا، وربما أقنع فيه بكلام جدلي أو استقراء إقناعا غريبا ليس من شرط التعليم، ولكن ذلك لا يتعذر تحديده.
فإذن ليس كل حد إنما يتوقع فيه أن يصار إليه البرهان، بل كثيرا ما يحد الشيء أولا فيقتنص من حده البرهان على عوارضه، وخصوصا من حدود البرهان الذاتية والحدود التي فيها شيء علة وشيء آخر معلول، مثل قولنا إن الرعد صوت يحدث في الغمام لطفوء النار فيه. وطفوء النار علة والصوت معلول، ومجموعهما - لا أحدهما وحده - هو الحد التام : فإنه وإن كان طفوء النار علة فاعلة للصوت، والصوت معلول له، فالصوت علة للرعد علة سبيل العلل الصورية. والحد بجملته علة صورية للمحدود؛ وإن كان بعض جزائه علة لبعض. وإذا كان الحد بالجملة صورية للمحدود فكل جزء منه هو علة لا محالة. وإنما يكون البرهان مفيدا للحد إذا كان فيه جزء هو علة وجزء هو معلول على نحو ما قلنا.
الفصل الرابع
في مشاركة أجزاء الحد
وأجزاء بعض البراهين، وكيفية الحال في توسيط الحدود وتوسيط أصناف العلل
ومما ينفعنا في المقاصد التي إياها نعزو، أن نعرّف ما الحد التام وما الحد الناقص وما الحد الناقص الذي هو مبدأ برهان، وما الحد الناقص الذي هو نتيجة برهان، ومن جميع ذلك ما الذي هو حد حقيقي بحسب الذات، وما الذي هو حد مجازي بحسب الاسم. وجميع هذه ينحصر في أربعة أقسام.
فيقال " حد " بوجه ما لما هو قول يشرح الاسم ويفهّم المعنى الذي هو مقود بالذات في ذلك الاسم، لا بالعرض، ولا يدل على وجود ولا على سبب وجود، اللهم إلا أن يتفق أن يكون معنى الاسم موجودا معروف الوجود، فيكون فيه حينئذ دلالة ما بالعرض على سبب الوجود. وذلك لأنه من جهة ما هو شرح الاسم ليس ذات؛ وإن كان لا يكون حد ذات إلا وهو شرح اسم. فإن أخذ في الابتداء على انه شرح اسم للشك في وجود معنى الاسم وتضمن بيان سبب معنى الاسم لو كان موجودا، فهو بالعرض معط للعلة، مثل ذكر حد المثلث قبل ثبوت وجود المثلث : فإنه إنما يورد وتؤخذ أولا على أنه شرح اسم، ولا يدري من أمره هل هو موجود المعنى. ومع أنه يؤخذ شرح اسم، لابد من أن يعطى أسباب المثلث وهي الأضلاع الثلاثة. فيكون مثل هذا يعطي أسبابا لما لو كان موجودا كانت أسبابه هذه. فإذا اتفق أن صح عند إنسان أنه موجود انقلب ذلك بالقياس إلى ذلك الإنسان حدا ومعطيا للعلة. وإعطاؤه للعلة - من جهة ما هو شرح اسم - بالعرض.(2/9)
وكذلك دلالته على الوجود. وهذا الحد المقول بحسب الاسم إذا لم يوافق معنى الوجود، كان اتحاد أجزائه شيئا معتبرا من وجه. فإذا كان بحسب الذات كان اتحاد أجزائه معتبرا من وجه آخر : وذلك لأن القول إنما يكون واحدا على أحد وجهين : إما لأنه متصل الأجزاء بالأربطة الجامعة كما مضى منا ذكره فيما سلف مثل قصيدة أو كتاب فما دونه. وإما لأن أجزاءه تصير شيئا واحدا في النفس يدل على شيء واحد في الوجود. والحد الذي يكون بحسب الاسم فيشبه أن يكون اتحاد أجزائه - ما دام ليس مطابقا لموجود واحد - اتحادا بالأربطة، إلا أن يؤخذ بالقياس إلى خيال واحد في النفس. وإلى هذا القسم والوجه ذهب قوم. فكأنه غير مستمر في جميع الحدود التي هي بمعنى شروح الاسم. فإنه إذا كان المعنى محالا لا خيال له في النفس البتة، فكيف يكون خياله وجدانيا؟ وإن كان محالا وله خيال في النفس ذو أجزاء لا تجتمع في الطبع، فكيف يكون ذلك الخيال واحدا؟ مثل تخيلنا إنسانا يطير. فإن كان هذا الخيال واحدا، فعساه أن يكون واحدا بجهة غير الجهة التي بها تكون )116 أ( المعاني العقلية والخيالات الصحيحة واحدة. فإن " الواحد " يقال على وجوه كثيرة، ونحن لا نذهب إلى هذا المعنى في قولنا معنى واحد وشيء واحد، بل نشير إلى اتحاد طبيعي جوهري.
هذا، وأما الحد الكائن بحسب الذات فهو متحد الأجزاء بالحقيقة لأنه الخيال أو لمعنى أو لموجود واحد بالحقيقة بوحدة طبيعية. وهذا وجه مما يقال عليه الحد.
ويقال " حد " بوجه آخر لما يعطي علة وجود معنى المحدود ويؤخذ بعينه في البرهان حدا أوسط فيكون مبدأ للبرهان. وإذا أُخذ هذا الحد وضُم إليه كماله - وهو إضافته إلى المعلول - ووضع المحدود، اجتمع فيه ثلاثة أشياء : أعني المحدود، وحدا يعطي العلة، وكماله في إعطاء العلة وهو ذكر المعلول. وهذه الأشياء الثلاثة ينعكس بعضها على بعض، وإلا لما كان محدود وحد وكمال للحد : لأن المحدود والحد متساويان، وكمال الحد هو معلول الحد الذي يوجد عنه فقط، ويوجد لجميع المحدود، وهو أيضاً مساو للأولين. وهذه الأمور الثلاثة موضوعة لأن يكون منها برهان ينتج كمال الحد لموضوع ما بقياسين.
إلا أن الأمر في وضع حدود البرهان بالعكس من وضع أجزاء الحد. مثال هذا : ليكن الغيم هو الموضوع للمحدود الثلاثة، وليكن هذا الحد الذي هو العلة هو طفوء النار في الغيم. وليكن كماله هو حدوث صوت، فنقول : إن الغيم رطوبة قد طفئت فيها نار، وكل رطوبة طفئت فيها نار يحدث فيها صوت، فالغيم يحدث فيه صوت، وكل صوت يحدث في الغيم فهو رعد، فالغيم يحدث فيه رعد. فقد صارت هذه الأمور الثلاثة أجزاء برهانين مرتين أصغر حدودهما موضوع الأمور الثلاثة وهو الغيم. فكان طفوء النار أول مذكور من هذه الثلاثة، ثم حدوث الصوت. وكان حدوث الصوت يُثبت في نتيجة البرهان الأول وطفوء النار لا يثبت، بل هو مبدأ برهان لا نتيجة. والمحدود - وهو الرعد - هو آخر مذكور من هذه الثلاثة في البرهان الثاني ومذكور في النتيجة الثانية.
فإذا رددت هذه الحدود إلى تأليف حدي عكس فذكرت أول شيء الرعد، ثم الصوت الحادث في الغمام، ثم طفوء النار في الغمام : فقلت إن الرعد صوت حادث في الغمام لطفوء النار فيه. فقد انقلب ما كان مبدأ البرهان فصار آخر الحد، وما كان نتيجة للبرهان فصار مبدأ الحد. وصار المحدود الذي كان محمولا آخر الأمر موضوعا للجميع. ونظير هذا الحد قولنا في حد الغضب إنه شهوة الانتقام؛ ونظير كماله غليان دم القلب، وهو نتيجة البرهان. فإذا حددت قدمت غليان دم القلب وأردفته بالعلة وهو شهوة الانتقام. وإذا برهنت قلت : فلان يشتهي الانتقام، وكل من اشتهى الانتقام على دم قلبه. فقدمت شهوة الانتقام وأخرت غليان دم القلب. والجنس دائما مع الحد الذي هو نتيجة البرهان.
وقد ظن قوم أن الحد الذي هو نتيجة البرهان يكون لا محالة من المادة، والذي هو مبدأ البرهان يكون من الصورة، وحسبوا أن توسط الأرض الذي هو المبدأ الفاعل للكسوف هو علة صورية للكسوف، وأن انمحاق الضوء علة مادية، وكأنها من جهة مادة الكسوف، وليس كذلك. بل تكون العلل المتوسطة ومبادئ البرهان من كل نوع.(2/10)
والمعلم الأول يجعل الحد التام المجتمع من الحد الذي هو مبدأ البرهان والحد الذي هو نتيجة البرهان قسما من الأقسام، ويترك الحد الذي هو مبدأ البرهان اقتصارا على فهم المتعلم، وهو بالحقيقة قسم خارج مما ذكر، وهو الرابع في الحقيقة بعد الحد التام، كما أشرنا إليه في مواضع وسنشير إليه بعد قليل. بل إنما نجعل الرابع حد أمور لا علل لها، وذوات لا أسباب لوجودها بوجه، وليس في حدها التام شيء هو علة ومعلول، فلا يكون هناك شيء هو مبدأ برهان وشيء آخر هو نتيجة برهان.
ولا كل مبدأ برهان يؤدي إلى حد هو نتيجة برهان، ولكن يجوز أن يكون مبدأ برهان لأمور عارضة خارجة عن الحد.
فإذا لم يُعتد بالقسم الشارح لاسم لا وجود لمعناه حدا - لأنه بالحقيقة ليس حدا لشيء حتى يثبت وجود الشيء - بقيت الحدود الحقيقية ثلاثة، فإن نتيجة البرهان هو من قبيل دلالة الاسم إلا أنه قد صار حدا. ولا بأس بأن تجعل حدود الأشياء البسيطة من قبيل دلالة الاسم وقد صارت حدودا، اللهم إلا أن يشترط في هذه أنها لا تكون أيضاً إلا لأشياء مخصوصة دلالة الاسم وتركيب المعاني، وتجعل دلالة الاسم أعم من ذلك. وحتى للأشياء التي تركيبها بالعرض كالأبيض والأنف الأفطس ونحو ذلك. وكيف كان فإنه يكون قسما أو نوعا تحت ذلك، فلا تكون بالحقيقة القسمة الأولى إليها.
فقد عرفت أن من الحدود ما من شانه أن يدخل في البرهان ويناسبه.
وإذا كان وجود الأكبر لشيء أعرف من وجود الأكبر للأصغر، فيجعل ذلك الشيء حدا أوسط ويكون القياس من الشكل الأول. وإذا كان الأكبر عارضا ذاتيا يظهر لحد الأصغر أكثر من ظهوره للأصغر فتوسط حد الحد الأصغر على سبيل الشكل الأول. وإن كان سلب حد الحد الأكبر عن الأصغر أظهر من سلب الأكبر، وحفظنا الحد محمولا، بينا ذلك بالشكل الثاني لا غير، إلا أن نحّرف الصورة. وإذا كان سلب حد الأكبر عن حد الأصغر أظهر من سلبه عن الحد الأصغر، بينا ذلك بالشكل الأول لا غير، إلا أن نحرّف الصورة.
وبهذا نستبين أن للشكل الثاني في الاستعمال غناء وللأول غناء، وأنه ليس وإن كان الأول أولى وأفضل فلا غناء خاص للثاني.(2/11)
وإن شئت أن أبوح لك بالصدق، فسواء عندي طلب الشيء للشيء وطلبه لحده التام، وكذلك طلب الشيء للشيء وطلب حده التام له. وكأن من يأخذ أن كذا موجود لحد الشيء ويريد أن يبين أنه موجود للشيء فهو مصادر على المطلوب الأول. وكذلك الوجه الآخر : فليس وضع الشيء إلا وضع حده، ولا حمل الشيء إلا حمل حده. ولكن أمثال هذا إنما تكون قياسات على قوم بُله إذا ذكر لهم الأصغر وحده لم يحضرهم معناه، وإذا ذكر الأوسط وكان حدا للأصغر، ثم ذكر الأكبر، فهموا بالأوسط الأصغر وتصوروه ثم قبلوا حمل الأكبر عليه - لأن الأوسط توسط في التصديق، بل لأن الموضوع لم يكن مفهوما، فكيف كان يحكم بحمل شيء عليه؟ فلما فُهم صُدق ما يجب تصديقه له. فيكون الوسط إنما يقع في التصور بالذات، وأما في التصديق فبالعرض. وكذلك إن كان الحد للمحمول : فإنه لو كان الموضوع مفهوما والمحمول مفهوما، كل بحده، لما احتيج إلى أن يوسط الحد حدا أوسط : فإنه إن كان الحمل بينا على الحد فإنه يكون بينا على المحدود، وإن لم يكن على الحد بينا لم ينفع توسيط الحد. فغن كان أحدهما، وليكن الأصغر مثلا، مفهوما، لا من حيث حده، ووسّط حده وهو لا يشعر أنه حد، فلا يكون الانتفاع بتوسيط الحد من حيث هو حد أيضاً، بل يكون ذلك مثل حال من يتصور الإنسان لا من حده، بل من أنه ضحاك منتصب القامة، ثم يوسط الحيوان الناطق، فيجد حمل التمييز على الحيوان الناطق ظاهرا. وإنما وسط ليبرهن وجوده على الضحاك المنتصب القامة. فإن كان المبرهن عليه يجعل لفظ الإنسان موضوعا لكونه ضحاكا منتصب القامة، فيكون حده لا الحيوان الناطق، فيكون قد جعل الإنسان اسما لغير الحيوان الناطق، فصار حينئذ الحيوان الناطق لازما ورسما للضحاك المنتصب القامة، لا حدا له كما عرفت في غير هذا المكان. فإنك إذا سميت الشيء من حيث ما هو ضحاك منتصب القامة إنسانا، كان هذا الاسم حده أنه ضحاك منتصب القامة ولا مناقشة في الأسماء. فهاهنا لا يكون الأوسط حدا للأصغر. وأما إن لم يجعل الضحاك المنتصب القامة بإزاء الاسم، بل لمعنى هو لاحق لشيء آخر ليس يتعرض له فإن علم منه أنه ضحاك منتصب القامة وكان مجهولا له أنه حيوان ناطق، فلا يكون هذا معلوما أنه محمول عليه حتى يعلم أن الأوسط محمول على الأصغر فتلزم النتيجة. وإن كان ظاهرا أن هذه الذات هي الحيوان الناطق فلم يكن مجهولا مائيته؛ وإذا لم يكن مجهولا مائيته عاد إلى الوجه الأول فكان الطلب للإنسان والحيوان الناطق واحدا. وإن كان معلوما أنه موجود لتلك الذات ومجهولا أنه حده، فيكون أولا لم يتوسط الحد من حيث هو حد )116ب (؛ وثانيا أنه لا يكون معنى بتلك الذات ما نعني نحن بالإنسان. وذلك لأنه يجوز أن يكون العاني يعني بالاسم ما يجب أن يعني به، ولكنه يغفل أو يعجز عن التحديد ولا يتنبه له. وإما إذا عرف حمل معنى الحد عليه ووجوده له وفصل بين حديه، لم يجهل أنه حد. وإذا وضع الاسم ووضع الحد ولم يأخذه على أنه حد ولم يُجره ذلك المجرى، فليس عن غفلة ما يذهب عن تحديده، بل عن قصد، ويكون مراده بالاسم لا ذلك الحد، بل شيئا ما آخر مما يتصوره أو يغفل عنه، لو نُبه عليه لكان معناه غير هذا الحد، أو يكون ذلك الإنسان خالعا للصواب لا يلتفت إليه. وكذلك الكلام في جانب الأكبر.
ولما كانت البراهين الحقيقية كلها، والحدود - بعضها وأكثرها - إنما تتم بالعلل فواجب أن نعرف كم العلل فنقول : إن العلل أربعة : أحدها الصورة للشيء في حقيقة وجوده في نفسه. والآخر الشيء أو الأشياء التي تحتاج أن تكون أولا موجودة قابلة لصورة وجوده إذا حملتها بالفعل حصل هو، وهو المادة. والثالث مبدأ الحركة - وهو الفاعل. والرابع الشيء الذي لأجله يجمع بين مادة الكائن وصورته - وهو التمام. وكلها تصلح أن توضع حدودا وسطى. وذلك لأن علة لشيء في شيء فهي واسطة بينهما. مثلا إذا قلنا الزاوية الواقعة في نصف الدائرة مساوية لمجموع الزاويتين اللتين تحدثان من خطيهما والقطر، وهما معادلتان لقائمة، حتى إن كان الخطان متساويين كان كل منهما نصف قائمة، وكل زاوية مساوية لنصفي قائمة أو نصف قائمتين، أو لزاويتين معادلتين، فهي قائمة، فزاوية نصف الدائرة قائمة، فيكون الحد الأوسط هو المعادلة لما مجموعه قائمة، وهذا علة كالصورة للقائمة.(2/12)
ويجب أن يسامح في أمثال هذه الأمثلة، ولا يقال بل إن كونها قائمة هي العلة لكونها مساوية لمعادلتين لقائمة. بل يجب ألا يراعى في الأمثلة التحقيق. فهذا مثال وضع فيه الحد الأوسط علة صورية. والأظهر من هذا هو البرهان على الشكل الرابع من أوقليدس.
وقد توضع العلة الفاعلة مثل قولهم في جواب سؤال السائل : إن أهل أثينة لمَ حاربوا أهل بلد كذا، فيقال لهم إنما حاربوا لأن أولئك كبسوا أهل أثينة. فقد أعطى هذا الجواب السبب الفاعل الذي هو مبدأ الحركة.
وقد توضع العلة التمامية فيقال إن فلانا لمَ يمشي فيقال لكي يصح. فكأنه يقول : فلان يطلب أن يصح، ومن يطلب أن يصح يمش للرياضة. فالحد الأوسط هو من الغاية. وكذلك يقال لمَ كان البيت؟ فيقال ليحفظ الأثاث. وكذلك لمَ يجب أن يمشى بعد العشاء؟ فيقال لئلا يطفو الغذاء فيفسد الهضم. والعلة في هذا كله هو الغاية.
وقد يعطى الموضوع والمادة، فيقال لمَ يموت الإنسان؟ فيقال لأنه مركب من متضادات وهذه العلل التي تصلح أن تجعل حدودا وسطى، فهي تصلح أن تتخذ منها حدود الشيء على النحو المذكور.
الفصل الخامس
في تفصيل دخول أصناف العلل في الحدود والبراهين
ليتم الوقوف به على مشاركة ما بين الحد والبرهان
يجب أن يعلم أن العلل منها ما هي بعيدة مثل توقي سوء الهضم في جواب طلب لمَ يمشى؟ وذلك من الغاية؛ والشدة في جواب طلب لمَ فلان؟ وذلك من المبدأ الفاعل؛ وتضاد الأركان في جواب طلب لمَ يموت الحيوان؟ وذلك بالمبدأ العنصري؛ وقيام خط على خط في جواب طلب كون زاوية كذا قائمة، وذلك بالمبدأ الصوري.
ومنها قريبة توقى احتقان الخلط واستيلاء البرد في الجواب بغاية المشي، والعفونة في الجواب بمبدأ الحمى الفاعلي، واستيلاء اليابس على الرطب في الأخلاط في الجواب بالمبدأ العنصري للموت، والقيام على خط عن زاويتين متساويتين في الجواب الصوري لكون زاوية كذا قائمة.
ومن العلل ما هو بالذات ومنها ما هو بالعرض. أم الذي فكالثقل لانهدام الحائط وهو من باب المبدأ الفاعلي، وكالصقالة لعكس الشبح، وهو من باب المبدأ العنصري، مثل كون الزاويتين متساويتين في الجنبين مبدأ لإثبات كون الخط عمودا، وهو من باب المبدأ الصوري، وكالصحة ٌثبات أنه يمشي قبل الطعام، وهو من باب المبدأ التمامي.
وأما التي بالعرض فكزوال الدعامة لانهدام الحائط في إعطاء المبدأ الفاعلى؛ وكالحديدية لعكس الشبح في إعطاء المبدأ العنصري؛ ومثل كون الزاوية الواقعة على الخط القائم من الخط الموازي للخط المقوم عليه قائمة؛ لكون الخط عمودا - في إعطاء المبدأ الصوري؛ وكالكلال للمشي قبل الطعام أو العثور على كنز : في إثبات المبدأ التمامي.
واعلم أيضاً أن كل واحد من هذه الأسباب قد يكون بالقوة وقد يكون بالفعل. وكون العلة بالفعل هو سبب لكون المعلول بالفعل، وأما إذا كان بالقوة فليس كونه بالقوة سببا لنفس كون المعلول بالقوة، بل ذلك للمعلول من نفسه.
وقد يكون السبب خاصا وقد يكون عاما، وقد يكون جزئيا بإزاء المعلول الجزئي، وقد يكون كليا.
واعلم أن وجود الغاية ووجود الصورة يلزم من كل واحد منهما وجود المعلول لا محالة. فالصورة مع المعلول في الزمان، والغاية قد تكون بعده في الزمان. ووكلاهما أقدم بالعلية. وأما المادة ففي كثير من الأمور الطبيعية يلومها الصورة بالضرورة ويوجد بوجودها المعلول والغاية لا محالة. والضرورة لا تمنع الغاية : فإن كثيرا من الأمور الطبيعية يكون بالضرورة والغاية معا، مثل أن المادة التي خلقت منها الأسنان الطواحين عريضة، إذا حصلت بتمام الاستعداد يلزمها الصورة ضرورة. ومع ذلك فإن خلقة عرضها لتمام وغاية، وهو طحن الطعام، كما أن خلقة حدة الأنياب لتمام وغاية، وهو قطع الطعام. والمثل الذي ضربه المعلم الأول لهذا أنه إذا سئل فقيل لمَ ينفذ ضوء السراج في المجاري التي هي أوسع، إن كان ينفذ؟ فيمكن أن يجاب من جانب الضرورة العنصرية فيقال للُطف الأجزاء، ويمكن أن يجاب من جانب العلة التمامية فيقال لئلا نتعثر فيه ونزلق. وكذلك إذا سئل فقيل لم يحدث الصوت في السحاب؟ فيجاب تارة فيقال لضرورة الانطفاء، ويجاب تارة فيقال لتهديد أصحاب الهاوية على ما يقوله فيثاغورس في أمثاله. وليست هذه الضرورة ضرورة قسر بل ضرورة طبع.(2/13)
وفي كثير من المواد لا يلزم عند حصول الاستعداد أن يحصل التمام، لأن تمام تلك المادة يحصل بحركة من علة محركة، وكل حركة تقع في زمان وفي آخره ما ينتهي إلى الصورة. كذلك في الأمور الصناعية، فإنها لا يلزم فيها وجود الصورة أيضاً لوجود العنصر وحده؛ لأن العنصر في كل موضع لا ينساق إلى الصورة إلا بعلة فاعلة. فإن كانت العلة فاعلة غريبة ومن خارج، فربما وردت على العنصر وربما لم ترد. وإن كانت العلة طبيعية وموجودة في جوهر الشيء، وكانت مما يفعل بالتسخير وبالذات لأنها قوة طبيعية، لم يمكن ألا يصدر عنها فعلها إذا حدث الاستعداد التام ولاقته.
واعلم أن من قبيل العلة التي هي مبدأ حركة ما ليس يجب من وضعه مع وضع القابل وضع المعلول، ومنها ما يجب من وضعه مع وضع القابل وضع المعلول. فإن جميع القوى الطبيعية إذا لاقت المنفعلة وجب الفعل. والقوى الصناعية والإرادية والشوقية وما أشبه ذلك، ليس يجب من اجتماعها مع القوة المنفعلة فعل وانفعال. وهذه العلل، وإن كان يخالطها ضرورة، فهي بفعل الغاية لا بالاتفاق.
واعلم إنه كلما وضع المعلول بالفعل فقد وضعت الأسباب كلها. لكن الغاية ربما كانت - من حيث هي في الأعيان - موجودة بالقوة كالاضطجاع مع وجود الفراش.
واعلم أن السبب إذا لم يكن سببا بذاته ومطلقا، ولكن إنما يصير سببا بشروط مقارنة، أو كان بعيدا، فتأديته وحده في جواب لمَ كان الشيء، لا تكون تأدية سبب، ويكون قد بقي للم مكان حتى يبلغ الغاية في ذكر الشروط ويصير بها لذاته سببا، وحتى يبلغ السبب القريب.
واعلم أن كثيرا من العلل التي وجود ذواتها لا يكفيها في أن تكون عللا، فقد يقترن بها اشتراط فيوجب أن تكون العلة بالقوة فيها علة بالفعل، مثل كون قوة الأفيون مبردة : فإن ذلك ليس دائما ولكن إذا اتفق أن انفعل الأفيون من الحرارة الغريزية التي للإنسان.
فبيّن من هذا أن البرهان إنما يكون برهانا تاما إذا أعطى العلة القريبة الخاصة التي بالذات وبالفعل.
والحد التام هو الذي يشتمل على مثل هذه العلل فيما له علة الماهية، فيوردها بتمامها لا يحل منها شيئا إن كانت ذاتية. فإنه قد قلنا فما سلف إن الغرض في التحديد ليس التمييز بالذاتيات المساوية للمحدود في المعاكسة، بل والمساوية له في المعنى حتى لا يكون شيء من المعاني )117 أ( الذاتية للمحدود إلا وقد تضمنه الحد واشتمل عليه. فإن أخل بشيء من ذلك اقتصارا على التمييز فما دلّ على ماهيته، لأن ماهيته ليست ببعض مقوماته وبعض ذاتياته، بل هو باجتماع جميع معانية الذاتية فمن عرف بعضها ولم يعرف البعض فما عرف ذاته بالتمام. والغرض من التحديد في النفس صورة موازية لماهية الشيء بكمالها. ولهذا السبب لا يكون لشيء واحد حدان، كما لا يكون لشيء واحد ذاتان. فإذا كان كذلك، وكان في المحدودات ما إضافته إلى جميع العلل ذاتية، وجب أن تؤخذ كلها في حده. إلا أن هذه العلل يجب أن تكون في حيز فصوله لا في حيز جنسه : لأن هذه العلل علل لشيء لا محالة، ووجود ذلك الشيء يقتضي وجودها، وبها يتحقق ويتحصل ويتخصص. فتكون أمثال هذه العلل المحصلة للذات فيما له وجود محصل مخصص، ووجود منتشر غير مخصص، مخصصة لأمر حتى تجعله محصلا. ويكون ذلك الأمر مخصصا بها. فذلك الأمر جنسي والعلل فصلية. كقولك صوت من طفوء النار : فالصوت جنس، ومن طفوء النار فصل،إن كان كل رعد هكذا.
أما أمثلة الحدود المتحدة من العلل المختلفة، فأنت تحد الزاوية القائمة بالصورة فقط فتقول : المساوية لأخرى في جنب خطها على مستقيم. وتحد حمى الغب بالفاعل فتقول : حمى تئوب غبا لعفونة الصفراء. وتحد الخاتم بالغاية فتقول : الخاتم حلقة يلبسها إصبع. وتحد الفطوسة بالموضوع فتقول : تقعير في الأنف. وربما جمعت الجميع في واحد فقلت : إن السيف آلة صناعية أو سلاح صناعي من حديد مطاول معرض محدد الأطراف ليقطع به أعضاء الحيوان عند القتال.
فقولك الآلة والسلاح جنس، وقولك الصناعي فصل من المبدأ المحرك، وقولك من حديد فصل من الموضوع، وقولك مطاول ومعرض محدد فصل من الصورة، وقولك ليقطع به أعضاء الحيوان فصل من الغاية.(2/14)
ولقائل أن يقول : إن الحد يعرف جوهر الشيء وذاته، فكيف تؤخذ فيه الأسباب الخارجة عنه؟ فالجواب أنه إنما يؤخذ في حد الشيء أسبابه : لأن جوهره متعلق بتلك الأسباب، وإضافته إليها ذاتية له في جوهره. وإن كان من الأسباب الخارجة عن الشيء ما هو هكذا، فلا يمكن أن يعرف ما هذا حال جوهره أو تذكر أسبابه.
بل يجب أن نقول الحق ونعلم أن حد الشيء من جهة ماهيته يتم بأجزاء قوامه، ما ليس خارجا منه. ويتم من جهة إنيته بسائر العلل حتى تُتصور ماهيته كما هو موجود ويتحقق بذلك ما يتقدم ماهيته في الوجود، فيتم به وجوده، فيقع لتلك الماهية حصول به.
فأما إذا أريد النظر إلى نفس الماهية غير معتبر لها ما يلزمها من الوجود - وإن كان لابد لها من لزوم نوع من الوجود إياها - كفى في حدها إيراد ما يقومها من حيث هي ماهية.
وليس نسبة الماهية إلى العلل المفارقة نسبتها إلى اللواحق والعوارض الخاصة والمشتركة، فتلك يتأخر وجودها بالذات عن وجود الماهية. وأما العلل فإن وجودها متقدم على وجود الماهية. فكثير من الأشياء تُحد - لا من حيث ذواتها، بل من حيث لها عرض من الأعراض ولاحق من اللواحق ونسبة من النسب. فربما كان ذلك اللاحق والنسبة يتضمن الغاية فلم يمكن إلا أن تذكر الغاية، كاللبس في حد الخاتم وفي حد الملاءة. وربما كان ذلك يتضمن الفاعل كالاحتراق، فإنه ليس اسما لتفرق أجزاء الشيء وتسوّدها كيف كان، بل أن يكون عن حرارة.
ثم لقائل أن يقول : ما بال القوي لا تُحد إلا بأفعالها وهي أمور خارجة عنها وليست أسبابا لها بل هي من جملة اللواحق لها، فهل ذلك حد أو رسم؟ فالجواب أن ذلك قد يمكن أن يؤخذ في شرح اسم القوى على وجه رسم، ويمكن أن يؤخذ على وجه حد : فإنه إذا دل في القول العرف على مجرد نسبة لها إلى أمور خارجة تتبعها كيف كانت، كان رسما. وإذا دل على أن جوهر تلك القوة وذاتها أن تكون بحيث يصدر عنها فعل كذا أولا، كان حدا : لأن الحد يقتضي تعريف جوهر الشيء وذاته، ولا ذات للقوة إلا التي من شأنها أن يصدر عنها فعلها من حيث هي كذلك. وأيضا إذا كانت القوة يصدر عنها فعل أولا وبالذات مثل التمييز في المعقولات والصناعات والأخلاق للقوة الناطقة، وأفعال وأحوال تتبعها لأمور تقترن بها لذاتها : لأن الذي عن قوة واحدة لذاتها فعل واحد مثل الاستعداد للضحك والخجل والبكاء والملاحة وغير ذلك : فإن نسبتها إلى مثل الفعل الأول الذي على الوجه المذكور مما يدخل في حدها؛ ونسبتها إلى مثل الفعل الأول الذي ليس على الوجه المذكور، أو إلى مثل الفعل الثاني، لا يدخل في حدها بل في رسمها.
وأيضاً فإن جزئيات الصناعات التي ليست القوة عليها أولا، بل على الصناعة المطلقة، فإن النسبة إليها تدخل في الرسم. ولا يمكن أن يقال إن جوهر الشيء هو بحيث يلزمه تلك الأمور، لأن الواحد يلزمه واحد بالذات: فلهذا ليس لقائل أن يقول لنا، فلم لا تجعلون كون الإنسان بحيث يلزمه في جوهره قوة الضحك، فصلا له داخلا في حده؟ فنقول لأن هذا كذب، فليس جوهر الإنسان وصورته الناطقة يلزمها قوة الضحك بذاتها أولا لا بالعرض، بل يقترن بها مزاج ما فيتبعه قوة ضحك، وأيضاً قوة بكاء، وأيضاً قوة خجل وغير ذلك. وليس الاستعداد لواحد منها أو فعله أوليا لذات القوة الناطقة.
واعلم أن العلل أجزاء للحد ولا تحمل على المحدود مثل النقطة في الدائرة. والصورة منها فقد تحمل في حال : وذلك أنها تحمل إذا أُخذت مه المادة، ولا تُحمل إذا أخذت مجردة كالنطق لا الناطق.(2/15)
واعلم أنه إذا كان مبدأ فاعل وموضوع وصورة في الأمور الطبيعية والأمور الصناعية والأمور النفسانية، كانت هناك غاية لأجلها الفعل. وليس يجب أن يكون حيث هناك مبدأ صوري فهناك مبدأ غائي على النحو الذي ينتهي إليه الحركة، كما ليس يجب ذلك في المعاني الهندسية. فيجب أن يقبل أنها ليست لغاية ما على هذه الصفة؛ بل إن كانت هناك غاية فعلى جهة أخرى. وأما إذا كان السبب الفاعل إتفاقيا، والسبب المادي إتفاقيا، فلا يجب أن يكون ذلك لأجل شيء بالذات بل بالعرض : وذلك لأنها وإن تأدت إلى غاية ما كانت مبادئ لتلك الغاية بالعرض لا بالذات، فيكون لها إذن غايات لا بالذات بل بالعرض : وهذا هو البحث والاتفاق، مثل أن إنسانا يمشي لطلب غريمه فيعثر على كنز. فالمشي هاهنا سبب من وجه لوجود الكنز، ولكن بالعرض لا بالذات، والعثور على الكنز غاية من وجه للمشي، ولكن بالعرض لا بالذات. إنما الذاتية ما هي على الدوام أو الأكثر.
فينبغي أن يتجنب من الأسباب ما كان بالعرض، ومن الغايات ما كان من الاتفاق، فلا يؤخذ في حد ورسم ولا برهان.
وإذا كان المعلول مما قد كان، فعلته قد كانت. فيجب أن يؤخذ في البرهان على أن كذا كان، ما كان من العلل قد كان فيما مضى؛ ولما هو في الحال كذا، ما كان من العلل في الحال؛ والذي يريد أن يكون، ما كان من العلل يريد أن يكون. وهذه في الأشياء التي عللها تكون عللا بالفعل. فأما إذا كان بعض العلل مما يوجد ذاتا وليس بعدُ علة بالفعل، فلا يمكن أن يبرهن به، بل يستدل عليه. ولا يوضع أمثال ذلك حدودا وسطى، بل حدودا كبرى. وكذلك في الكائنات : مثل أنه ليس إذا كان ذات الأب موجودا وجب أن يكون الابن موجودا؛ وليس إذا كانت النطفة موجودة، وجب أن يكون الجنين موجودا؛ وليس إذا كان الحائط موجودا، وجب أن يكون السقف موجودا. بل الأمور بالعك. فهاهنا يجب أن يؤخذ - لا هي على معلولاتها - بل معلولاتها عليها على سبيل الاستدلال : فيقال إن السقف موجود فالحائط موجود به؛ وإن السقف قد كان، فالحائط قد كان، وإن السقف يريد أن يكون، فالحائط يريد أن يكون. وكذلك في الأب والابن. وبالجملة هذا يكون في الفاعل والمادة، فإنهما يتقدمان على المعلول في الزمان بالذات كثيرا، لأنهما قد يكونان علتين بالفعل، وقد يكونان علتين بالقوة. وإذا كانتا علتين بالقوة ووضعا في حدود وسطى، لم يجب أن يكون المعلول حدا أكبر.
ولك في هذا موضع تعجب، وهو أن الكون كيف يتصل إذا كان يجوز أن توجد المبادئ ولا يتصل بها الثواني؟ ثم كيف يمكن أن تتصل ومبدأ كون العلة في آن ومبدأ كون المعلول في آن، والآنات لا يُحدث )117ب ( من تألفها زمان، ولا أيضاً يمكن أن يتلو أن آنا كما تتلو وحدة واحدة، بل بين كل آنين زمان فيه آنات بالقوة بلا نهاية؟ فإن أريد أن يوصل الزمان بالكون، وجب أن يكون بين كل معلول وعلة وسائط بغير نهاية، فما كانت علل ومعلولات متوالية. فواجب من هذه الأشياء التي نقبلها هاهنا قبولا، ونبرهن عليها في العلم الطبيعي، ألا تكون معلولات الكون متصلة بعللها اتصال كون بكون، فعسى أن يقال إن اتصال الكون إنما هو من جهة أخرى، وهو أن الحركة المستديرة الفاعلة للزمان تصل المبادئ الطبيعية بالثواني الطبيعية بتوسيط الحركة بينهما. فإذا كان كون في آن، اندفع بالحركة إلى كون آخر في آن آخر يصل ما بينهما زمان. وهذا سيتعلم في الحقيقة في العلوم دون المنطق.
ومما يجب أن ينظر فيه إذا وسط النوع للجنس وكان برهان بعلة، فبأي علة يكون ذلك البرهان؟ فنقول : إنه قد يظن أنه يكون من علة مادية لأنه يكون موضوعا للأكبر، وهذا غير مستقيم. وذلك لأن المعلول هو النتيجة، ثم النتيجة ليست موجودة فيه، وذو العلة المادية موجود في مادته. وإنما يقع هذا الغلط للاشتراك في اسم الموضوع. ولكنه إما أن يكون علة غائية لأن الأنواع كمالات للأجناس : فإن طبيعة الجنس تزاد في الطبائع لأجل النوع، وعند النوع يستكمل الوجود، وهذا بالقياس إلى الحد الأكبر؛ أو علة فاعلة لأنه مؤثرا أثرا في شيء وموجب شيئا في موضوع، وهو مباين الذات لما أوجبه، ومثل هذا هو أشبه بالعلة الفاعلية. وهذا بالقياس إلى النتيجة.(2/16)
وكثير من الأمور الطبيعية ليس ترتيب عللها ومعلولاتها على الاستقامة بل على الدور. مثال ذلك في العلل المادية أن الأرض ابتلت من المطر فبخرت فحدث غيم فمطرت فابتلت من المطر. فإذن العلة الأولى لابتلالها من المطر هو ابتلالها من المطر. فإن قيل إن الأرض طين مبتلة من المطر، وكل طين مبتلة من المطر فإنها تبتل من المطر، كان برهانا دائرا ومع دوره صادقا لابد منه، إلا أن بين حده الأوسط والأكبر وسائط ومطالب للم : لأنه يقال لم الأرض المبتلة من المطر تبتل من المطر؟ فيجاب لأنها تبخر. ثم يسأل مرة، ولم إذا بخرت ابتلت من المطر؟ قيل لأنه يحدث من ذلك سحاب. فيسأل : ولم عند حدوث السحاب تبتل من المطر؟ فيجاب لأن السحاب يبرد ويتكاثف وينزل قطرا. فكل واحد من هذه الأمور علة ومعلول، وأخذه حدا أوسط برهان ودليل معا. ولكن ليس العلة والمعلول فيها واحدة بالذات بل بالنوع : فليس الابتلال الذي كان عنه المطر هو الابتلال الذي كان عن ذلك المطر. فأما نوع الابتلال فواحد. وكذلك ليس البخار الذي كان عن السحاب هو البخار الذي كان عنه السحاب.
وعلى هذا القياس فإذا اعتبرت نوع المعنى كان البرهان دائرا، وإذا اعتبرت الشخص لم يكن البرهان دائرا والبرهان هاهنا ليس على النوع، بل على شيء متعين من النوع. فإذن ليس الذي يبين به هو بعينه الذي يبين. فليس هناك عند التحقيق دور وإن أوهم دورا.
هذا وقد قلنا إن البرهان إما لأمور ضرورية وإما لأمور أكثرية. فالأمور الضرورية لا يلبس من حالها أن الواجب في براهينها أن توسط العلة الضرورية. فأما الأمر الأكثر فالحد الأوسط في برهانه يكون علة أكثرية : مثل أن كل ذكر من الناس ففي الأكثر يغلظ ما يتحلل عنه ويكثف جلدة ذقنه، وكل من يكون كذلك فإنه ينبت له على الأكثر لحية. فقد أعطى هذا البرهان علة لوجود الأمر، ولكن أكثرية، لأن وجود الأمر أكثري.
الفصل السادس
في الإشارة إلى أن اكتساب الحد هو بطريق التركيب
نقول إنما وقعنا إلى ما وقعنا إليه من التطويل بسبب ذكر العلل لأمر بيان مشاركة الحد والبرهان حتى نشير إلى انه كيف يستخرج منه الحد. وقد حققنا أنه لا برهان على الحد بوجه. ولا القسمة تكسب الحد. فيجب الآن أن نبين كيف يمكن أن يكتسب الحد.
نقول إنا نعمد إلى الذوات والأمور التي لا تنقسم من جملة المحدود - سواء كان المحدود جنسا أو كان المحدود نوعا - فنأخذ الأمور الذاتية المحمولة عليها، التي هي أعم منها وليس تخرج من جنسها الأول، مثلا عن الجوهر أو الكم وسائر ذلك؛ أو الجنس الأقرب مثلا جنس يكون كالعدد للفرد. فنأخذ من جميع ذلك ما هو داخل في ماهيتها ونجمعها جمعا حتى يحصل منها شيء مساو للمحدود في الانعكاس، وإن كان كل واحد أكبر منه في العموم، ومساو أيضاً للمحدود في المعنى حتى لا يبقى شيء من المقومات ليست مضمنة فيه.(2/17)
فإن أردنا أن نحد النوع ولا نتجاوز منه إلى تحديد الجنس، أخذنا كل محمول مقوم لماهيته ضروري مقول على الكل، وأولى معا. وإن أردنا أن نتجاوزه إلى تحديد الجنس، لم نقتصر على المحمولات الكلية، بل أخذنا جميع ذلك وأخذنا ما هو أولى له وما ليس أوليا له. فإذا وجدنا فقد تمكنا من تحديد الجنس. فإنا إذا أسقطنا من حد النوع ما هو أخص المحمولات به، بقى حد الجنس. مثاله : إذا أردنا أن نحد الثلاثية فلا نأخذ " الموجود " لأنه خارج عن جنسها - وهو العدد - بل نأخذ ما نأخذ ما يلائم جنسها. فإن كنا نريد أن نحدها وحدها، أخذنا في الحد كل ما هو أولى من الذاتيات. وقد علمت أن الأولية لا توجب الخصوص : فإن الجنس والفصل أولى للنوع : فنأخذ " العدد " لأن الثلاثية عدد، ونأخذ " الفرد " لأن الثلاثية فرد، ونأخذ " الأول " . و " الأول " له معنيان فنأخذه بالمعنيين جميعا : أحدهما أن يكون العدد غير مركب من عددين البتة، والآخر أن يكون العدد لا يعده عدد. فخمسة " أول " من جهة أنه لا يعده عدد، وليس " أولا " من جهة أنه لم يتركب من عددين : وذلك لأنه مركب من ثلاثة واثنين. وأما الثلاثة " فأول " من الجهتين جميعا. فالعدد محمول أول عليه وعلى غيره، و " الفرد " محمول أول عليه وعلى خمسة وسبعة. و " الأول " محمول عليه وعلى غيره وهو الاثنان. زلا يوجد محمول مقوم لماهيته " أول " يحمل عليه إلا هذه. فتكون جملتها مساوية للثلاثة من الوجهين جميعا : أعني في المعاكسة وفي الماهية معا.
ويجب ألا يناقش في الأمثلة، ولا يقال لنا إن الفرد ليس نوعا من العدد بل هو من الأعراض اللازمة لأنواع العدد، الذاتية لها، فإن المناقشة في الأمثلة لا فائدة فيها.
ونعود من رأس فنقول إن مساواة هذا القول للثلاثية أمر ظاهر : إذ لا يقال على جنسه ولا يقال على شيء غير الثلاثية مما هو يختص بجنسه، وهو آخر ما ينقسم المحمول عليها، فيتأدى إلى جوهره.
ثم يجب أن يفهم من الجنس هاهنا أمران : هما المحمول العام المأخوذ في ماهية الشيء، والموضوع المأخوذ في ماهيته معا. فإذا أريد أن يحد الجنس الذي هو المحمول، فيجب أن يلتقط من صفات الجزئيات النوعية، لا ما هو أولية له فيكون ذلك جنسا وفصلا ولا يكونان داخلين في حد الجنس، بل إنما يدخلان في حد ما ليس جنسا وفصلا. وهذا مثل أن نكون قد حددنا الإنسان فنأخذ في حده الحيوان الناطق. فإن من هذه السبيل لا يصار إلى تحديد الجنس : لأنك إذا حذفت الخواص لحد نوع نوع، بقى اسم الجنس : مثلا إذا حذفت الناطق من هذا الحد، وغير الناطق من حد ما ليس بإنسان من الحيوان، بقى الحيوان. فحينئذ يكون الباقي اسم الجنس، واسم الجنس ليس بحد له. فيجب أن تطلب جميع المحمولات التي تحمل عليه داخلة في ماهيته، كانت أولية أو غير أولية له. فحينئذ يخرج لك حد النوع وحد جنسه معا بسهولة. وأما كيف يخرج ذلك فقد جعل مثال هذا في التعليم الأول أن يؤخذ الخط المستقيم وخط الدائرة وخط القطع المنحني وخط الزاوية، مثلا القائمة. فإن اتصال كل خط بخط إما على الاستقامة وإما على الانحناء والاستدارة وإما على زاوية. فيكون الخط المستقيم يوجد له أنه طول بلا عرض، والنقط التي تفرض فيه تقع بين نقطتي طرفيه على محاذاتها كلها إياهما. والقوس طول بلا عرض، ويمكن أن توجد فيه نقطة كل الخطوط المستقيمة التي تخرج إليها منه تكون متساوية. والمتحدب على زاوية طول بلا عرض يحيط بسطح وفيه نقطة بالفعل يتصل عليها جزأه ، فإذا حذف خاصة كل واحدة من هذه بقى ما بقى مشتركا وكان حدا للجنس - وهو أنه طول بلا عرض.(2/18)
ثم قيل فارجع إلى المقولة التي تقال عليه وانظر في لوازمه الخاصة بتلك المقولة أولا، فإن لوازم المركبات تستنبط )118 أ( من لوازم البسائط. فأما بعض المفسرين فيقول إن معناه إن كان الشيء كالخط قلت كم طول بلا عرض. وإن كان كيفا كاللون قلن كيف يخرق المشف بما هو مشف بالفعل. وكذلك ثم إن المترجم يقول : إن معنى هذا أنك تقول في لغة العرب طول ما بلا عرض، وفي لغة اليونانيين لا يستعملون لفظة ما الدالة على الانتشار إلا في الجوهر. وأما في الأشياء الأخرى فيستعملون بدل لفظة " ما " اسم المقولة العالية. فإذا أرادوا أن يقولوا سطح ما، قالوا كم سطح، أو لون ما قالوا كيف لون. وهؤلاء غير منازعين في هذا الباب لأنهم أرباب تلم اللغة. وإن كان لقائل أن يقول ما الحاجة في تحديد الخط بعد أن بان أنه طول بلا عرض، إلى أن يقال ما معناه طول ما بلا عرض حتى يحتاج أن يراجع الجنس؟. ومع ذلك فما الحاجة إلى ذكر اللوازم واستنباطها من البسائط للمركب إن كان الغرض ما يقوله ذلك القائل؟بل عسى أن يكون معنى كلام المعلم الأول هو أنه يجب أن تؤخذ الفصول كلها الداخلة في الجنس الأعلى إلى الحدود، وترتب حتى يمكن أن تحذف خواص الأنواع القسيمة فيه، فيبقى حد جنس، ثم يركب ذلك الجنس مع جنس هو مقاسمه تحت جنس فوقهما، ويحذف غير المشترك بينهما ويؤخذ ما يبقى حدا لما فوقه. وكذلك حتى ينتهي إلى أعلى الأجناس الذي ليس له بالحقيقة حد. ويكون معنى هذه اللوازم هي الفصول المقسمة لما فوق الذي يلزمه بالتقابل، أو بالفصول العالية التي للأجناس العالية، فإنه سيشير إلى هذا المعنى بعد، ويذكر أن القسمة معونة في هذا الباب. ويمكن أن يكون عنى باللوازم العوارض الذاتية، وأشار بهذا إلى أن الحد كيف يتوصل به إلى البرهان، وأن ذلك بأن يطلب لوازم أجزائه حتى الأجناس العالية. ويجب إذا أريد تركيب الحدود من الأنواع إلى الأجناس أن يؤخذ من المحمولات المقومة للشيء ما ليس بعضه مضمنا في بعض مقوما له، وإن كان ملازما. فإن وجد شيء يتضمن أشياء منها، حذف أو عزل إلى وقت الحاجة إليه. مثاله إذا أخذ الإنسان أو الفرس على أنه أول نوع، ابتدئ منه تركيب الحد، وأخذ له الناطق أو الصهال والحساس والمتحرك بالإرادة والحيوان والمتغذي والنامي والمولد وذو النفس والطويل والعريض والعميق والجسم والجوهر. فيحذف من جملة هذه " الحيوان " أول لأن الحساس والمتحرك بالإرادة مضمنان في الحيوان. وكذلك جميع تلك العالية مضمن فيه. ويحذف الجسم أيضاً لأن الطويل والعريض والعميق مضمن فيه. ثم يجمع على الترتيب فتقول : إن الإنسان جوهر ذو طول وعرض وعمق ونفس مولدة متغذية متحركة بالإرادة ناطق. وتأخذ في حد الفرس " الصهال " بدل " الناطق " ، فتجد الناطق والصاهل خاصين بالنوعين، وما وراء ذلك مشتركا فتطلب اسما مفردا لجملة المشترك. فإن وجد - كما يوجد الحيوان هاهنا - فقد كفى أن يذكر هو مع الفصل في حد اسم النوع : فيقال إن الإنسان حيوان ناطق، والفرس حيوان صاهل. وإن لم يوجد للجملة المشتركة اسم طُلب لما هو أعلى من ذلك وأعم. فليؤخذ مثلا للجوهر الطويل العريض العميق اسم - وهو " الجسم " . فليؤخذ ذلك فيقال جسم ذو نفس ناطق : فقد تم حد الإنسان. وعلى هذا القياس للفرس.
فإن أريد أن ينتقل إلى حد الجنس فيجب أن تترك الفصول الخاصة ويؤخذ جميع ذلك المشترك للأنواع مفصلا، فهو حد الجنس. وعلى ذلك الوجه يجب أن تطلب حدود الأجناس الأخرى القسيمة للجنس المحدود، فينظر ما هو المشترك لها وما هو الخاص بكل جنس، ويطلب المشترك ويضم ذلك الاسم إلى اسم الفصل الخاص فيكون حد ذلك الجنس. وكذلك إلى أعلى الأجناس.
وإنما طلبنا ذلك القانون الموجب لإسقاط المتضمنات لغيرها، وحفظها مه ذلك إلى وقت آخر، لأنا إن أخذنا مثل الحيوان وضمنا إليه فصل الإنسان وفصل الفرس، وقلنا حيوان ناطق وحيوان صاهل، ثم حذفنا الفصلين، لم يمكنا أن نحد الحيوان بنا بقى لأنه لم يبق إلا اسم الحيوان فقط. وأيضاً إن أخذنا الحيوان والحساس معا فقد أخذنا الحساس في الحد مرتين : مرة مصرحا ومرة مضمرا. فلذلك حذفنا الحيوان من جملة المحمولات. وأيضاً إذا لم نطلب ما هو مثل لفظ الحيوان أو مثل لفظ للاسم مرة أخرى بعد حذفه ولم نعده، بل سردنا جميع المحمولات سردا، كنا قد أطلنا الحد، والحد قد يطلب فيه الإيجاز.(2/19)
فقد بان الغرض في الحاجة إلى أخذ هذه المعاني كلها وحذف المتضمن لغيره منها وعزله، وفي رده أخرى. فإذا فعلت هذا فقد تركب الحد.
ولا يجب أن يظن بالمعلم الأول انه يقتصر في اكتساب الحد على طريق أخذ من أسفل، لا قط لما يتفق من الوصاف كيف كان، كأنه لا يرى إلا طريقة تركيب فقط. بل يضيف إلى ذلك مراعاة الجنس ومراعاة المحمولات الأولية والأولية للأولية. وذلك أيضاً مما يفتقر فيه إلى القسمة أحيانا ومراعاة التركيب. وليس لغير ما فعله، على الوجه الذي فعله، وجه.
الفصل السابع
في أن طريقة القسمة نافعة أيضاً في التحديد
وكيفية ذلك، وتفصيل
طريقة التركيب وما فيها من قلة الوقوع في تضليل الاسم المشترك نقول إن القسمة وإن كانت لا تقيس على الحد فهي نافعة في الحد : وذلك لأن القسمة وإن كانت إنما تؤخذ منها أجزاء الحد اقتضابا لا لزوما، فهي نافعة في التحديد من وجوه ثلاثة : أحدها أن القسمة تدل على ما هو أعم وما هو أخص، ويستنبط من هذا كيفية ترتيب أجزاء الحد فيجعل الأعم أولا والأخص ثانيا. فيقال مثلا في تحديد الإنسان حيوان ذو رجلين إنس، ولا ذو رجلين حيوان إنس، فإن بين الأمرين فرقا، لأن قولك ذو رجلين حيوان إنس إذا قيل فيه رجلين فقد قيل فيه الحيوان. فإذا قيل فيه بعد ذلك فهو تكرار وسوء ترتيب.
وأما إذا قيل حيوان أولا ولم يقل بعد ذو الرجلين، لا بالفعل ولا بالقوة التي يقال بها المضمنات، فإذا قيل ذو الرجلين بعد الحيوان لم يكن خللا.
والثاني أن القسمة تدلك على أن تقرن كل فصل مع جنس فوقه فتجعله جنسا لما تحته، فيجري ترتيب الفصول على التوالي حتى يكون ما يجتمع من الفصول غنما يجتمع على تواليها فلا يذهب منها شيء في الوسط. فإذا أريد أن يركب الحد من الأنواع إلى الجناس لم يُطفر من نوع إلى جنس أبعد، بل الجنس الذي يليه.
والثالث أنها إذا وقعت على الواجب كانت تشتمل على الفصول الذاتية كلها، فلا يبقى شيء من الداخلات في ماهية الشيء إلا وقد ضمن فيه، فنكون قد أعطينا الفصول على تواليها طولا، وأعطيناها بتمامها ولو عرضا. فإنه يمكن أن يقسم الجنس بقسمين ليس أحدهما تحت الآخر مثل الجسم ذي النفس : إلى المتحرك بالإرادة وغير المتحرك بالإرادة مرة، وإلى الحساس وغير الحساس مرة. فيجب أن يراعى هذا في القسمة عرضا كما روعي طولا لئلا يفوت فصل من فصول ما ينقسم إلى فصول ذاتية متداخلة او متوافية. والمتداخلة مثل المائت وغير المائت، والناطق وغير الناطق. والمتوافية مثل الحساس وغير الحساس، والمتحرك بالإرادة وغير المتحرك بها.
والقانون في مراعاة الوجه الثاني والثالث حتى يحصل منه منفعة، أن تكون القسمة بالذاتيات المقومات للأنواع وأن تكون القسمة أولية للجنس؛ وهو في القسمة التي للجنس من طريق ما هو جنس. مثلا إنما يجب أن يقسم الحيوان أولا إلى الطائر والسابح والزاحف والماشي، ثم يقسم الماشي إلى ذي رجلين وكثير الأرجل، والطائر إلى متصل الجناح ومنفصل الجناح. فإن أخل بهذا وقسم الحيوان أولا إلى متصل الجناح ومنفصل الجناح، فما قسم الحيوان من جهة ما هو حيوان بل من جهة ما هو طائر، وكذلك إن قسم الحيوان إلى كثير الأرجل وذي الرجلين فما قسم الحيوان من جهة ما هو حيوان، بل من جهة ما هو ماش.
فيجب أن ينظر أولا أن الجنس هل يحتاج إلى أن تصير له طبيعة زائدة على طبيعته الجنسية (118ب) حتى يقبل هذه القسمة؟ أو لا يحتاج، بل وهذه القسمة له أولا، فتقدم القسمة التي تكون أولا وتؤخر القسمة التي ليست أولا. فإذا قسمت قسمة أولية جمعت المقسوم والفصل ثم قسمت قسمة أولية أخرى، وكذلك إلى أن تنتهي إلى ما ينقسم إلا بالعدد، ثم تقتضب أطراف القسمة محمولات للنوع وتضيفها للتركيب. فإذا قسمت شيئا مرة قسمة أولية فيجب أن تجتهد جهدك وتنظر هل يوجد له قسم أخرى أولية غير هذه القسمة : فإن وجدت قسمت أيضاً حتى تستوفي القسمة طولا وعرضا فتستوفي جميع المحمولات. ويجب أن تكون الفصول المقسمة ذاتية. وقد بينا كيفية ذلك في الفن الأول.(2/20)
ثم قيل في التعليم الأول : لا المقسم يضطر في تقسيمه ولا الحاد في تحديده إلى أن يعلم كل شيء على ما ظن بعضهم إذ قال : إذا قسم المقسم قسمة تامة وجب أن يضع الأنواع الأخيرة كلها بالفعل. وإذا حد المحدد حدا تاما وجب أن يذكر كل فصل للمحدود مع كل واحد من الأشياء بالفعل. وإذا لم يعلم كل فصل فلا سبيل إلى الحد. وإن ما لا يخالف الشيء فهو هو بعينه؛ وما ليس هو هو بعينه فهو مخالف وإن وافق في النوع، كسقراط لأفلاطون بل سقراط للإنسان. والمخالفات الشخصية هي بلا نهاية، ويحتاج كل إلى فصل عن كل. ويشبه أيضاً أن تكون المخالفات النوعية عنده كذلك؛ وكذلك الصنفية، فيحتاج أن يعرف فرق الشيء عن كل نوع وعن كل صنف تحت النوع، وأن تلك فروق بلا نهاية لابد منها كلها.
فأجيب بأن هذا باطل : أما أولا فلأنه ليس كل مباينة توجب أن يكون الشيء مخالفا لآخر بالذات والحد : فإن الفصول العرضية لا توجب خلافا في الجوهر والحد. والأشياء المتفقة في النوع الذي له الحد تختلف بالعرضيات. ولا يبالي حينما يحد النوع بذلك الاختلاف في العرض. ولا يلتفت إلى الأصناف والأشخاص تحت النوع الذي يحد.
وأما ثانيا فإنا إذا أخذنا الفصول متقابلة مثل الناطق وغير الناطق، ونظرنا المحدود أنه في أي الطرفين يقع منهما، فوقع مثلا في الناطق، فقد فصلناه عن كل نوع تحت غير الناطق لاشتراك الأنواع التي تحت غير الناطق في أنها غير ناطقة. ولا تحتاج ان نفصله عن النور وحده والفرس وحده والكلب وحده. ولا يكون إيقاعنا المحدود تحت الناطق مصادرة : فإنه ليس يمكن أن يقع بينهما متوسط لأنه لا واسطة بينهما في جنس الحيوان، وليس يمكن أن يقع ما هو إنسان وناطق تحت غير الناطق. فوقوعه تحت الناطق ضرورة لا مصادرة. فإذا التمسنا فصولا مثل هذه مساوية له لم نحتج أن نطلب فصلا له عن كل واحد من الأنواع.
ويجب أن يراعى في اختيار القسمة النافعة في التحديد أغراض ثلاثة : أحدها أن يتحرى أن تكون القسمة داخلة في الماهية - أعني أن تكون بفصول ذاتية للأنواع. ويجوز أن يستعان في هذا الباب بالمواضع المذكور في كتاب الحجج الجدلية حيث نذكر مواضع هل الشيء جنس أو فصل أو ليس، ويؤخذ من ذلك ما كان ليس مبينا على المشهورات الساذجة. ويستعان أيضاً بالمواضع التي تدل على أن الشيء عرض غير مقوم لماهية الشيء ليتحرز عن أن تكون القسمة بفصول عرضية.
والغرض الثاني أن يستفاد من القسمة الترتيب : فما هو في ترتيب القسمة أول، فيجعل في ترتيب الحد أولا : فيجعل الأعم أولا والأخص ثانيا. فإن تساوى فصلان في العموم والخصوص قدم ما هو أشبه بالمادة وأّخر ما هو أشبه بالغاية. وإن لم يختلفا في هذا فلك أن تقدم أيهما شئت وتؤخر أيهما شئت.
والثالث أن لا تزال تقسم حتى تبلغ الشيء المحدود إن كان نوعا متوسطا، أو تنتهي إلى آخر القسمة التي بالذاتيات التي ليس بعدها إلا القسمة بالعرضيات إن كنت تريد تحديد الأنواع الأخيرة.(2/21)
ثم قيل إنك إذا أحضرت بالقسمة أو بأي وجه كان، جميع المحمولات الداخلة في ما هو، فميز المشتركات منها المتشابهة في أنواع كثيرة، وميز الخواص بنوع نوع لتحد الجنس، فرتبه أولا ثم أردفه بالفصول. فإن وقع في يدك شيء مقول على كثيرين وطلبت المحمولات الخاصة التي لواحد واحد من الكثيرين من جهة ذلك، فركبت الحد ثم رفعت ما يخص واحدا واحدا فلم يبق شيء من المعنى مشتركا، فاعلم أن الاسم مشترك وأن تلك الأشياء ليست متجانسة. مثال ذلك إذا أردت أن تحد كبر النفس ففعلت ما يجب أن تفعل في التركيب بأن قصدت الموصوفين من الأشخاص بكبر النفس فطلبت محمولاتهم من جهة كبر النفس، فوجدت ألقبيادس الملك وأخليوس الشجاع وآيس، كل منهم يسمى كبير النفس، ووجدت أيضاً لوسندرس الصالح وسقراط الفيلسوف يوصفان بكبر النفس، فطلبت الأمر الموجود لواحد واحد منهم. ففي الطبقة الأولى تجد واحدا قتل نفسه أنفة من احتمال الضيم، والآخر اعتقد حقدا لوقوع الضيم عليه اعتقادا لم يفارقه، والآخر قاتل شديدا لطلب الثأر من وقوع الضيم. وفي الطبقة الثانية تجد واحدا منهما ورد عليه حير عظيم يعبأ به بسبب أنه كان من البخت، والآخر ورد عليه بلاء عظيم فلم يعبأ به لأن وروده عليه كان بسبب البخت. فإذا حذفت خواص واحد واحد من الفرقة الأولى وجدتهم قد يبقى لهم شيء مشترك وهو قلة الاحتمال لوقوع الضيم. وإذا حذفت خواص واحد واحد من الفرقة الثانية بقى لهم شيء مشترك وهو قلة المبالاة بتصريف البخت. فإذن كبر النفس يقال على تلك الفرقة بحد واحد، وعلى هذه الفرقة بحد واحد، وذلك الحد هو ما يبقى في كل فرقة بعد حذف العوارض غير الذاتية لكبر النفس التي تخص. وأما إذا عمدت إلى الفرقة الأولى والفرقة الثانية فحذفت خاصية هذه الفرقة وخاصية تلك الفرقة، لم يبقى شيء مشترك. فقد علمت أن كبر النفس ليس جنسا يعم الفرقتين ولا معنى واحدا، بل اسما فقط. ولم يمكنك في مثل هذه أن تمعن في التركيب، بل ينقطع بك العمل وتجد الاستخفاف بالبخت، والامتعاض للضيم، ليسا نوعين لكبر النفس. فليس كبر النفس كليا لهما. وإنما يكون الحد الواحد والبرهان الواحد لكلى واحد لا للتفاريق الجزئية. فإن الطبيب يحد الصحة من حيث هي صحة كلية، لا من حيث هي صحة صحة، ويبرهن على شفاء العين، لا شفاء هذه العين وتلك العين، بل شفاء العين الكلية الواقعة بمعنى واحد على عيون شخصية.
واعلم أنا إذا ابتدأنا في التحديد من الكليات لم نأت من أصعب شيء تقع فيه وأجره أيانا إلى الغلط، وهو اشتراك الاسم الخفي. فإذا ابتدأنا من المفردات والجزئيات وتصعدنا من طريق المعنى إلى الكليات على نحو ما مثلنا في كبر النفس، أمنّا الوقوع في اشتراك الاسم لأن تضليل اشتراك الاسم في الكليات أكبر. وكما أن الغرض المقدم في القياس والمصادر عليه للقياس هو أن يكون مظهرا للتصديق الخفي، فكذلك يجب أن يكون الغرض المقدم في الحد والمصادر عليه للحد هو أن يكون مظهرا لتصور الخفي وأن يكون في غاية الوضوح. وهذا الوضوح قد يستره الاسم المشترك. وقل ما يقع هذا الخلل إذا أخذت من الجزئيات الوحيدة : فإنه إذا قيل لون شبيه بلون وشكل شبيه بشكل، فإن أتى من جانب الشبه أمكن أن يغلط ويظن أنه معنى واحد، وخصوصا إذ هو من العوارض الذاتية بالكيفية، وهما من باب الكيفية. وأما إذا أتى من جانب الشكل واللون فنظر أي شكل شبيه بشكل فكان ذلك شكلا يساوي زواياه شكل آخر وتتناسب أضلاعهما على التناظر، ثم نظر أي لون شبيه بلون فكان ذلك لونا يشارك اللون آخر في الحاسة مشاركة يكون انفعالها منهما واحدا. وإذا حذفت الخاصيتين من الشبيهين لم يبق شيء مشترك، فأمن وقوع الغلط من اتفاق الاسم. وكذلك حال الحاد في الصوت والحاد في الشكل كالزاوية.
فبين أن الابتداء في التحديد من الأنواع ثم تركيبها بعضها إلى بعض لظهور حد الجنس أفضل وأقرب إلى الاحتياط.
الفصل الثامن
في الانتفاع بقسمة الكل إلى الأجزاء
وتمام الكلام في توسيط العلل المنعكسة وغير المنعكسة وتحقيق الحال فيه(2/22)
قال : ليس يجب أن يقتصر على استنباط الأمور التي توجد في الحدود والمقاييس من القسمة التي للكلى إلى الجزئي (119 أ) بل ومن التشريح الذي للكل إلى الأجزاء : مثل تشريح الحيوان والنبات إلى أجزائه الأولى كالأعضاء الآلية، ثم كالأعضاء البسيطة، ثم الثالثة كالأخلاط وكذلك إلى آخر الأجزاء. وليس ينبغي أن يقتصر على ذلك فقط، بل أن يتأمل إذا كثرت الأجزاء والجزئيات أنه ما الذي يلزم كل واحد، أو كل عدة من المحمولات والعوارض، وأيضاً أي الأجزاء تلزم أي الجزئيات.
واعلم أنا كما استنبطنا من القسمة أن الحيوان تحت الجسم وتحت ذي النفس، فكذلك استنبطنا من التشريح أن الحيوان مركب من جوهر مستمسك ومن جوهر سيال. وكذلك استنبطنا لوازم الجزئيات من الأجزاء مثل أن كل حيوان أصلم يبيض، وأن كل حيوان طائر منفصل الجناح يبيض، ومتصل الجناح لا يبيض، وأن كل حيوان ذي قرن فلا أسنان على فكه الأعلى. وعلمنا أن يكون لغذائه قبل وصوله إلى جوفه الباطن هضم ما، وكل سمكة فلا رئة لها.
وأمثال هذه المستنبطات وعللها نافعة في إعطاء اللم، وإن لم يكن كل ما ذكرناه إعطاء علة، فإنه إذا كنا حصلنا بالتشريح والتجربة معا أن الكرش يوجد لشيء هو ذو قرنين وذو رجل، ولكن لا لأنه ذو رجل : إذ قد لا يوجد لذي رجل آخر، ولكن لأنه ذو قرن - إذ كل ذي قرن مثل النور والأروى والماعز فله كرش، فإذا قيل لنا لم لهذا الحيوان كرش؟ فقلنا لأنه له قرن، أو إن قيل لنا لم ليس له كرش؟ فقلنا لأنه ليس له قرن، كان هذا نافعا بوجه ما في جواب اللم، وإن لم يكن فيه إعطاء العلة القريبة. ولكن يجب أن يتأمل أن أي معنى يلزم أي معنى بالذات حتى لا يجعله لازما لما هو أخص منه أو أعم منه. وربما كان المعنى المشترك مأخوذا من طريق التناسب مثل أن الحرف للسلحفاة كالشوك للسمك والعظم للإنسان.
وقد تتحد مسائل كثيرة مسألة واحدة على اختلاف استحقاق الوحدة، وذلك لكون الحد الأوسط شيئا واحدا بالنوع مثل احتباس الماء في السراقة وانزراقه إلى الزراقة وانجذاب الجلد في المحجمة، فإن جميع ذلك قد يتحد لكون السبب في جميعه ضرورة الخلاء. وعند افلاطون جذب المغناطيس والكهرباء والمحجمة سببه شيء واحد وهو انتقال الهواء فيتبعه انتقال ما هو فيه. أو كون الحد الأوسط واحدا في الجس مثل الصدى وقوس قزح، فإن المتوسط فيهما واحد بالجنس - وهو أنه انعكاس محسوس. لكن ذلك انعكاس صوت، وهذا انعكاس لون.
وقد تختلف مسائل مشتركة في سبب واحد فلا تكون بالحقيقة مسألة واحد لأن نسبتها إلى ذلك المتوسط ليست نسبة واحدة، بل هي لهذا أقرب، ولذلك أبعد. ولكن في الجملة تكون الأوساط مرتبة بعضها تحت بعض، مثلا إذا سئل فقيل لم صار النيل عند المحاق أشد سيلانا؟ فيقال لأن الشهر عند المحاق أشبه بحال الشتاء. فقد تمت مسألة. ثم تسأل مسألة أخرى : ولم صار الشهر عند المحاق أشبه بحال الشتاء؟ فيقال لأن القمر ينقص ضوؤه الذي يلينا فيعدم التسخين الكائن منه. ولو سئل لم يكون هذا أيضاً؟ كان الجواب لأن الشمس - وهو الذي يفيده الضوء - صارت لجانبه الأعلى الذي لا يلينا.
فهذه المسائل كلها تحت سبب واحد وهو الاجتماع، إلا أنها مختلفة في القرب والبعد، فليست مسألة واحدة.
قيل : ولكن أن يسأل سائل فيقول : إذا كان من الحدود الوسطى التي توضع عللا للكبريات ما يساويها مثل توسط الأرض بين القمر والشمس لكسوف القمر، ومثل كون الورق عريضا لانتشاره، فإنه سبب مساو للانتشار وإن كان بعيدا، والقريب هو سرعة انقشاش الرطوبة الماسكة، وهو أيضاً مساو، فيمكن أن يبين العلة بالمعلول أيضاً كما يبين المعلول بالعلة ويصير البيان دورا. فإنه إن شئنا قلنا إن القمر انكسف فقد توسطت الأرض بينه وبين الشمس، وإن شئنا قلنا إن القمر توسطن الأرض بينه وبين الشمس فقد انكسف. وأيضاً هذه الشجرة عريضة الورق فينتثر ورقها، وهذه الشجرة انتثر ورقها فهي عريضة الورق. وهذا دور ظاهر. فيقال في جوابه إن هذا البيان فيهما ليس دورا ولا وجه البيان فيهما واحدا.(2/23)
أما أن البيان فيهما دورا فذلك انه لا يخلو إما أن يكون الأمران مجهولين فيكون ذلك هو الدور - ولا كلام لنا في مثله. وإن سبق التوسط إلى الذهن فعرف بحساب ثم أثبت بتوسيطه الكسوف، لم يكن دورا إلا أن يحاول إثبات التوسط من الكسوف الذي ثبت من المتوسط، فإن الكسوف مجهول. وإن سبق الكسوف إلى الحس ثم أثبت بتوسيطه التوسط، لم يكن دورا إلا أن يحاول نظير ما ذكرناه. وأما إن كان كسوف ما يدل على توسط ما، وتوسط آخر - لا ذلك بعينه - يدل على كسوف آخر - لا ذلك الول بعينه - فليس هناك كما علمت دور. وإنما يكون البيان في هذه الأشياء دورا إذا كان مثلا الكسوف مجهولا ويثبت بالتوسط : وهو مجهول إنما يثبت بالكسوف.
وبعد هذا فإن التوسط يعطى برهان اللم للكسوف، والكسوف يعطى قياس الإن للتوسط. ألا ترى أن التوسط على للكسوف فيؤخذ في حد الكسوف، وليس الكسوف علة للتوسط فليس يؤخذ في حده؟ ونقول إنا قد نبرهن على نتيجة واحدة بوسائط من أسباب مختلفة : فتارة من الفاعل وتارة من الصورة وتارة من الغاية وتارة من العنصر. مثاله أنا نبرهن على أن الإنسان يجب أن يموت ببيان العلة الفاعلة للموت وهي الحرارة المفنية للرطوبة التي تتعلق بها الحياة. وتارة من جهة العلة المادية : فإن كل مادة موضوعة للكون فهي موضوعة للفساد : وذلك لأنه إذا كان للشيء مادة، يلزمها هيئة ما بالضرورة، وكان أيضاً هناك علة فاعلة يلزم عنها تلك الهيئة بالضرورة. فواضح أن توسيط المادة صالح لإنتاج وجود الهيئة؛ وكذلك توسيط الفاعل؛ وكذلك توسيطهما مجتمعين. لكنه إذا وسط أيهما، كان وحده يضمن في القوة توسيط الآخر : لأن المادة لا تخرج إلى الفعل إلا بفاعل، والفاعل في ذوات المادة لا يفعل إلا في مادة. فيكون التوسط التام هو مجموعهما جميعا إما بالقوة وإما بالفعل، فيكون كأن مجموع ذلك هو العلة الموجبة للنتيجة، وإن كان فيها علل مجتمعة. مثال أنك إذا قلت إن القمر ينكسف لتوسط الأرض، فقد أعطيت السبب الفاعل للكسوف وضمته في القوة السبب الفاعل من الكسوف - إذ المتوسط يستر قابلا للضوء - فيكون تمام التوسط اجتماع الأمرين : ستر وهو فعل الفاعل، وقبوله وهو حال القابل، وإن أعطيت العلة في هيئة قبول الضوء، وجعلت كريته وهو من السبب القابل، فلا يتم ذلك إلا أن تضيفه إلى الشمس على وضع ما، فتكون ضمنته السبب الفاعل والقابل أيضاً. وكذلك إن أعطيت الغاية في أمر، فقد ضمنت الفاعل والقابل فيه، وإلا لم يجب المعلول. ولولا قبول الستر لما كان التوسط علة الكسوف. ولولا مكان المتأثر القابل للضوء من المفيد، لما كانت الكرية علة لذلك النحو من القبول. فمن هذه الجهة تكون العلة الموجبة للنتيجة شيئا واحدا هو مجموع الجملة.
وأما أنه يجب أن يعطى فاعل دون قابل أو دون غاية، أو أن يعطى فاعل فقط بالفعل، والقابل بالقوة، أو القابل فقط والفاعل بالقوة، وسائر الأقسام، فأمر باطل. بل يجب أن يعلم من حال إعطاء الأسباب الكثيرة حدودا وسطى أنها تكون في قوة له واحدة في الحقيقة : لأن الإعطاء ما لم يشر إلى مجموعهما لم يكن تاما موجبا. وقد يظن بسبب هذا الفصل أنه لا يجوز أن يوسط في مطلوب واحد إلا سبب واحد، وليس كذلك على الإطلاق، بل على النحو الذب بينا.
وقد يظن أيضاً أن العلة يجب لا محالة أن تكون مساوية للمعلول منعكسة عليه، وهذا أيضاً غير واجب إلا في وجه واحد : وإياه قصد في التعليم الأول : وذلك الوجه الواحد أن يكون الأوسط علة للأكبر مطلقا، وتكون طبيعة الأكبر في ماهيتها معلولة لطبيعة معينة، فتكون حيث كانت تكون معلولة له : أي إذا كان المعلول علته واحدة. وأما الوجوه الأخرى فلا يجب فيها ذلك : فإن الطبيعة الواحدة كالرعد تكون من أسباب كثيرة أخص وجودا منها، مثل ريح في سحاب أو طفوء نار فيه. والسحاب نفسه طبيعة واحدة قد يكون لها أسباب كثيرة مثل صعود البخار ومثل تبرد الهواء بنفسه؛ وكذلك الحرارة المنتشرة من القلب في الأعضاء التي هي الحمى قد يكون لها أسباب، إما اشتعال روح، أو عفونة خلط، أو اشتعال عضو. فأي هذه الأسباب جعلت حدودا وسطى أنتجت المعلول وهي أخص منه.(2/24)
وليس (119ب) لقائل أن يقول إن سخونة الروح ليست سببا للحمى كله بل لحمى ماء، فلا تصلح أن توضع علة للقياس المنتج للحمى. وإنما ليس له ذلك لأن المحمول في الكبرى ليس هو أيضاً الحمى كله بل حمى ما. فإنا إذا قلنا " الإنسان حيوان " لم نعن أن الإنسان كل حيوان، بل حيوان ما. ويكفي في إثبات الحيوانية له أن يثبت أي حيوانية كانت. وليس يكفي في سلب الحيوانية أن يسلب أي حيوانية كانت، بل الحيوانية على الإطلاق. وكذلك فإن الأنواع المتوسطة كل نوع منها سبب لوجود جنسه في النوع الذي دونه والأشخاص تحته : فلا يجب أن يشترط أن العلة يجب أن تكون مساوية دائما في البراهين، حتى إذا كان الحد الأوسط أخص من الأكبر لم يكن برهانا. بل يجب أن يعلم أن الأسباب بعضها يدخل في الحد ،وتلك مساوية لا محالة - كانت مادة أو فاعلة - وبعضها يكون أخص من طبيعة الشيء، وربما كانت أعم. فالأخص لا يدخل في الحد لأن طبيعة الشيء لا تتضمنه من جهة ما هو هو حتى يتوقف وجود تلك الطبيعة على وجود ذلك السبب. مثلا أن السحابية غير متوقفة في الوجود على وجود سبب بعينه من الأسباب الخاصة. وأيضاً الحمى من جهة طبيعتها ليست تتوقف في الوجود على أن توجد سخونة الروح فقط، بل إن كان سبب آخر كانت. فإذا كانت الأسباب التي هي أخص - مع أنها أسباب ومع أنها تعطى اللم للنتيجة - ليست أسبابا لمطلق طبيعة الحد الأكبر، لم تدخل في الحد. وهذه الأسباب تكون عللا للنتيجة بالذات، وللحد الأكبر إذا كان مطلقا لا مضافا إلى الأصغر - بالعرض. ونحن قد بينا قبل أن من الحدود الوسطى التي هي علل، ما هو علة للنتيجة فقط دون الحد الأكبر، مثل السخونة التي في الروح فإنها على لوجود الحمى في هذا البدن - لا لوجود الحمى على الإطلاق. فإن وجد لهذه العلل التي هي أخص أمر عام، فكان ذلك علة مطابقة للشيء المعلول منعكسة عليه، كانت هذه الخواص عللا لذلك العام. ولا يجب أن لا يزال يوجد بينها وبين العام عام آخر فذلك محال. بل نقف عند عام هو لها أول بلا توسط فتكون علل خاصة ومعلول عام واسطة بينهما البتة من العلل. مثاله : أن السحاب وإن كانت تجمع علله كلها في شدة تكثيف الهواء العالي، فتكون مثل العلة المطابقة للسحاب شدة تكثيف الهواء العلي، فإن لشدة تكثيف الهواء العالي علتين البخار المتصاعد والبرد. ولا يجوز أن يكون بينهما وبين شدة التكثيف سبب عان آخر، وإن كان وقف آخر الأمر. فالبرد والبخار غير مأخوذ في حد السحاب لذلك. والعلة المكثفة حد للهواء العالي مأخوذة في حد السحاب. فما كان من العلل بهذه الحال - أعني داخلة في الحد - فهي منعكسة.
الفصل التاسع
في معنى توسيط العلل
في تحقيق ما أورده المعلم الأول في معنى توسيط العلل ومحاذاة
مذهب كلامه فيه مع الإيضاح فلنرجع الآن إلى الوجه الذي يجب أن يفهم عليه كلام المعلم الأول لئلا تعرض الشكوك فنقول :(2/25)
يجب أن يفهم كأنه يقول : إنه وإن كان قد يمكن أن يحكم بالحد الأكبر الواحد لشيئين بتوسط سببين : مثل أن يحكم به على ج، ه بواسطتين إحداهما ب والأخرى د، ففي ذلك لا يلزم إذا وضع المعلول الأعم موجودا أن يوضع من علله التي هي أخص أي علة كانت واتفقت، ولا أن توضع واحدة بعينها - وإن كان لابد من أن يكون قد وجدت علة ما، ولكن لا كل علة وكيف اتفق - بل إنما يتعين ما يتعين بسبب. وقد يمكن أن يوجد ما هو بخلاف هذا، وتكون العلة فيه لا توجد للأشياء الكثيرة إلا بتوسط معلول واحد. وليكن المطلوب في المسألة كليا وعلته كلية، ويطلب لشيء كلى له العلة أولا، وإن كان لما تحته ثانيا : مثل أن جمود الرطوبة يوجد لأشجار شتى من التين والخروع والكرم، ولكن يوجد أولا لشيء عام لها - وهو عرض الورق - فيكون كل عريض الورق، أو كل شجر منتثر الورق، فإن رطوبته تجمد. وإذا جمدت بطلت لزوجتها الطبيعية الماسكة فانتثرت. فيكون الانتثار هو الأكبر المعلول، وجمود الرطوبة هو السبب والعلة، وعرض الورق هو الذي له العلة أولا. وليس الانتثار معلول جمود الرطوبة في ذاته، ولكن بحسب وجود في موضوع قابل هو معلول له مطلقا. وما كان مثل هذا مما يكون يوجب حكما معلوما في أشياء كثيرة، ولكن ليس لها أولا، بل لمعنى يجمعها كلها، وهي علة له لا في وجوده في موضوع موضوع فقط، بل لوجوده مطلقا، ففي مثل هذه ما يجب أن تكون العلة داخلة في حد الحكم المساوي لها. وذلك أن العلل هاهنا يجب ألا تكون أخص من المعلول، فإن الأخص من المعلول ليس علة لطبيعة الحد الكبر المعلول على الإطلاق، بل علة لوجوده في موضوع موضوع كما أوضحناه من قبل، وتلك الموضوعات تكون لا محالة مختلفة الأنواع، وقد فرضنا هاهنا أن العلة ليست لموضوع موضوع بل لأمر جامع : فإذن مثل هذه العلة داخلة في الحد، فهي حد مبدأ برهان، والأوسط في مثل هذا الموضع هو الذي يكون منعكسا لا في كل موضع. فعلى هذا يجب أن يفهم قول المعلم الأول، ولا يجب أن يضايق في هذا المثال من جهة أن انقشاش الرطوبة ليست علة بالذات للانتثار، بل بالعرض. وإنما العلة بالذات هو الثقل الطبيعي، وإنما الانقشاش والجمود للرطوبة أيهما كان فهو علة لعدم العلة الواصلة، فهو سبب الانفصال بالذات، والانتثار بالعرض - بمعنى مزيل العائق.
ثم قيل : فليت شعري هل يمكن ألا يكون لشيء واحد بعينه من العوارض المطلوبة بالبرهان في الكل علة واحدة - أي في مثل المعنى الجامع للموضوعات المختلفة - لا في موضوع موضوع؟ ثم قيل أما العلة الحقيقية الذاتية للأمر فلا يمكن، لأنها تكون حدا مبدأ برهان كما أوضحنا. وأما علة القياس كالعلامة والأعراض الغريبة فهو ممكن. فيمكن أن يفهم أنه يعني العلة التي هي علة في جميع الموضوعات، لا علة خاصية بموضوع موضوع. فكأنه يقول إن مثل هذه العلة تكون مساوية للمعلول، حتى إن كان المعلول مشترك الاسم وأخذ شيئا واحدا، إلا باشتراك الاسم حتى يكون مساويا له. وإن كان المعلول جنسا لمعلولات نوعية، كانت العلل جنسية لعلل نوعية. وإن كان واحدا بالنسبة إلى كثير، كانت العلة كذلك. فتجد الحد الأوسط في ذلك على طبيعة الحد الأكبر. فإنه إن كان الأكبر متواطئا، يجب أن يكون ما يوجبه، وهو علة له بالذات، معنى محصلا متواطئا. وإن كانت العلة، من حيث هي علة، معنى محققا محصلا غير مبهم، فيجب أن يكون ما يجب عنها معنى بإزائها محققا محصلا غير مبهم، ولا معنى يدل عليه باسم واحد. وإذا كان هذا هكذا، فإن لم يكن الأكبر محصلا، فالأوسط ليس محصلا. فإن خصصت مسائل بموضوعات مختلفة فيها مطلوب واحد، والمطلوب أولا لمعنى عام لها فالمسائل ليست كثيرة بل واحدة. وإذا أخذت لها حدود وسطى مخصصة فليست بالحقيقة كثيرة بل واحدة لوحدة المطلوب : فإن التخصيصات الملحقة به قد تزال وتبقى العلة علة للمعنى العام في ذلك الحكم بعينه : مثل إبدال النسبة يخصص بالعدد. وهناك حد أوسط ويخصص بالمقادير، وهناك حد أوسط آخر، وإنما هو أولا للكم بما هو كم. والحد الأوسط هو الشيء المشترك للحدين الأوسطين المأخوذين في العلمين المختلفين، وهو النحو من التزيد المجعول علة. وذلك أيضاً أولا للكم، لكنه كما عرض للحدين الأكبرين والأصغرين إن خصصا بجنس واحد، فكذلك عرض للأوسطين أن خصصا.(2/26)
وأما إن لم يكن البيان مثل بيان إبدال النسبة المأخوذة في الهندسة على وجه، وفي الحساب على وجه، بل مثل بيان المشابهة المأخوذة في اللون على وجه، وفي الشكل على وجه، فليس يمكن أن يكون الحد الأوسط في المشابهة المطلوبة في المسألتين واحدا بوجه إلا بالاسم : لأن المشابهة فيهما واحدة بالاسم، ومخالفة في الحد : فإن حد المشابهة في اللون هو اشتراك في حس، وفي الشكل تساوي الزوايا وتناسب الأضلاع.
ولو كانت المشابهة لا باشتراك الاسم ولكن الاسم بالتشكيك والاتفاق في النسبة، لكان الحد الوسط كذلك : كما يوجد في المسائل التي مطلوباتها أشياء نسبية مشككة مثل (120 أ) الصحي والطبي والقوة وغير ذلك.
فقد بان من هذا حال نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأكبر في مثل هذا الباب. وأما نسبته إلى الحد الأصغر فإنه إنما يكون منعكسا عليه إذا أخذ ما الحد الأوسط والعلة له أولا - مثل عرض الورق - فجُعل هو الحد الأصغر فقيل : كل شجر عريض الورق. فأما إن أخذ ما هو له ثانيا، فجعل حدا أصغر مثل شيء من الأنواع تحت الحد الأصغر الأول، لم يجب أن ينعكس البتة. مثل التنبيه والكرم، فإن انتثار الورق يكون عليها كليا.
ثم قيل : أعني بالكلى الفاضل عليه الزائد. زمن قبل فإنما كان يسمى كليا بمعنى آخر دللنا عليه هناك.
ثم عاد المعلم الأول فأوضح ما ذهب إليه من المذهب فقال : إنه قد يجوز أن تكون علل كثيرة، وهي مع كثرتها أخص من المعلول، وتكون علة لشيء واحد ولكن في موضوعات مختلفة : مثل أن علة طول العمر : أما في الناس وذوات الأربع فعظم المرارة، وأما في الطير فيبس المزاج أو شيء آخر. وأما لشيء واحد في شيء واحد فلا يجوز أن تكون علل مختلفة، أي العلل التي تعطى بالتمام على نحو ما قلنا في الصدر.
ولسائل أن يسأل أنه إذا انعكس على الموضوع علة المحمول، ثم كان للمحمول علة أعم منهالا تنعكس على الموضوع : مثلا إن هذا السحاب كان من برد ومن تكثيف الهوا، وسحاب آخر كان من بخار ومن تكثيف الهواء : وفي أحدهما علة تكاثف الهواء هو البرد، وفي الآخر تكاثف البخار : فأيهما هو العلة الخاصية بالسحاب الأول، وأيهما هو العلة الخاصية بالسحاب الثاني. فالجواب أن الخاص بالأول هو الأقرب إليه : أعني البرد؛ وبالثاني الأقرب إليه وهو البخار. والخاص بالسحاب المطلق هو القرب إليه وهو تكثيف الهواء.
وبالجملة فإن العلل للموضوعات الخاصية هي العلل الخاصية. والعلة للموضوع العام هي العلة العامة. وقد عرفت معنى هذا الخاص والعام في العلل.
وأيضاً إذا كان بين الطرفين أوساط متعاكسة بعضها علة للبعض، فالعلة للأصغر هو الأقرب إليه منها، لأنه علة لوجود العلة الثانية لها التي هي أقرب من المحمول. والعلة للأكبر هي الأقرب من الأكبر. فقد عرفت الفرق بين علة النتيجة وعلة الأكبر وحده، بأن الأول هو علة للنتيجة : فما هو أقرب من الأصغر فهو أولى بالعلة للنتيجة. والثاني هو علة الأكبر وحده. وليست أعني بعلة النتيجة في هذا الموضع علة التصديق بها بل علة وجودها في نفسها.
الفصل العاشر
في خاتمة الكلام في البرهان(2/27)
قد بينا من قبل أن العلم بمبادئ البرهان يجب أن يكون آكد من العلم بنتائج البرهان. فلشاك أن يشك أنه هل كلاهما علم، ولقوة واحدة، أو أحدهما علم والآخر شيء آخر ولقوة أخرى؟ ثم لا يخلو إما أن تكون موجودة فينا كما خلقنا ونحن نعلمها منذ ذلك الوقت، فكيف يكون عندنا علم وكنا لا نفطن له حتى استكملنا. وليس يجوز أن يكون عندنا علم برهاني لا يعلمه، فكيف علم أصح من البرهان؟ وإن كنا نعلم ثم نسينا، متى كنا نعلم وفي أي وقت نسينا. وليس يجوز أن نعلمها ونحن أطفال وننساها بعد الاستكمال ثم نتذكرها بعد مدة أخرى عند الاستكمال. فإذن الحق أنا نكون غافلين عن مبادئ البرهان أولا، ثم إنا نصيبها ونحصلها، فكيف نحصل مجهولا بغير برهان؟ وإن كان ببرهان، احتجنا إلى مبادئ قبل المبادئ الأولى، وهذا محال. فلا سبيل إلى حل هذا العويص إلا أن تكون عندنا قوة من شأنها أن تعلم أشياء ما بلا تعلم وبمعاونة أعوان تكون معونتها على جهة غير جهة المعونة في التعليم. وتلك الأعوان قوى الحس الظاهر والحس الباطن الموجودين في الحيوان كله أو أكثره. فإن الحس الظاهر وإن وجد في الحيوان كله فإن الحس الباطن الحافظ لما يؤديه الحس إلى النفس ربما لا يوجد لكل حيوان، أو أن وجد لكل حيوان فربما لم يكن في بعضها لفعله ثبات مثل حالها في الدود والذباب والفراش التي تفر من النار ثم تنسى أنها مؤذية فترجع إليها. وأما الحيوانات الكاملة فيبقى عندها ما أخذت من الحواس مدة طويلة. والحيوانات تأخذ بقواها الدراكة شيئين : أحدهما صورة المحسوس وخلقته كخلقة الذئب الضار لها، وخلقة المحن لها من الناس. وإنما تأخذ هذه الصورة بالحس وتخزنها في الخيال وهو في مقدم الدماغ. والثاني معنى المحسوس مثل منافاة الذئب وموافقة المحسن. وهذا القسم لا يدركه الحيوان بالحس، بل بقوة مميزة لها كالعقل لنا، وتُسمى وهما، وتخزنه في قوة أخرى تسمى ذكرا، وهي في مؤخر الدماغ. وهذه القوة الباطنة للإنسان أقوى؛ وخاصة قوة الذكر والحفظ والهم. والحس والوهم يؤكدان ما يجري في المصورة، وفي الحافظة بالتكرير.
ثم إن القوة المقتنية للعلوم الأولى فينا تطالع هذه الأوهام الباطنة فتميز الشبيه والمخالف وتنزع عن كل صورة ما لها بالعرض وتجرد ما بالذات؛ فيحدث فيها أول شيء تصور البسائط، ثم تركب تلك البسائط بعضها ببعض بمعونة قوة تسمى مفكرة، وتفصل بعضها عن بعض فتلوح لها في تلك المعاني تركيبات : فما اتفق أن كان منها ما من شأنها أن تعلمه بلا تعلم ولا وسط، علمته وجربته، مثل أن الكل أعظم من الجزء. وفي كثير منها تستفيد حكم التركيب والتفصيل من الحس على سبيل التجربة. وقد قلنا ما معنى التجربة.
فإذن السبب في أنا لا نعلم هذه المبادئ هو فقداننا مبدأ أيضاً لها وهو التصور : فإن المبادئ الأولى وإن لم تكن لها مبادئ من جهة التصديق فلها مبادئ من جهة التصور. وأما مبادئها من جهة التصور فتكتسب بالحس والتخيل والتوهم. فإذا اكتسبت أمكن أن يورد التركيب فيها والتفصيل بينها مورد التصديق فتصور من حيث هي مركبة ومفصلة. وبعد هذا التصور نعقلها بالذات. وهذا التصور أحد مبادئها.
وكما أن الحفظ يتأكد بمحسوسات متشابهة متكررة، كذلك التجربة تتأكد - بل تنعقد - بمحفوظات متشابهة متكررة. فيكون بهذا الوجه لنا أن نقتنص الكليات المتصورة والكليات المصدق بها بلا برهان، فيكون اقتناؤها بوجه غير وجه التعلم والتعليم. ونكون إنما جهلناها قديما لأن بسائطها لم تلح لنا ولم تخطر ببالنا. فلما استفاد الواحد منا من الحس والتخيل بسائطها على النحو المذكور ولاح له تأليفها، كان ذلك سبب تصديقنا بها لذاتها إذا كان متصلا بالفيض الإلهي الذي لا ينفصل عنه المستعد.
وأما سائر العلوم فتستفاد إما من التجربة وإما بوسط إذا كان نفس تأليف البسائط لا يقتضي التصديق. فتكون المكتسبات من العلوم قد سبقها سببا الجهل - وهما عدم لوح البسائط للذهن وعدم الوسط والتجربة والأوائل البينة بنفسها سبقها أحد السببين : وهو الأول.(2/28)
وقد شبه المعلم الأول حال اجتماع صورة الكلى في النفس بحال اجتماع الصف في الحرب، فإنه إذا وقعت هزيمة فثبت واحد فقصده آخر ووقف معه، ثم تلاهما ثالث واتصل المر فجعل واحد واحد بعود، انتظم الصف ثانيا، فيكون الصف ينتظم قليلا قليلا. وكذلك العلم والصورة الكلية العلية ترتسم في النفس قليلا قليلا عن آحاد محسوسة إذا اجتمعت اكتسبت منها النفس الصورة الكلية ثم قذفتها. وذلك أيضاً لأن الذي يحس الجزئي فقد بوجه ما الكلى، فإن الذي يحس بسقراط فقد يحس بإنسان. وكذلك ما يؤديه؛ فإنه يؤدي إلى النفس سقراط وإنسانا : إلا أنه إنسان منتشر مخالط بعوارض ل إنسان صراح. ثم إن العقل يقشره ويميط عنه العوارض فيبقى له الإنسان المجرد الذي لا يفارق به سقراط افلاطون. ولو أن الحس لم يكن أدرك الإنسان بوجه ما، لكان الوهم فينا وفي الحيوان لا يميز بين أشخاص النوع الواحد والنوع الآخر ما لم يكن عقل. ولا الحس أيضاً يميز ذلك؛ بل الوهم. وإن كان الوهم إنما يميز شيئا والعقل يميز شيئا آخر.
وكلما اصطادت هذه القوة معنى كليا ضمنته إلى آخر واصطادت بهما معنى كليا آخر. وهذا المأخذ الطبيعي في إدراك النفس للأمور الأولى، شبيه بالمأخذ الصناعي الذي إليه يدعو المعلم الأول في اقتناص الحدود - وهو التركيب. وهذا من دلائل شرف التركيب. قيل فلننظر أي قوة من قوى النفس هذه؟ فإنا نقول : إن للنفس قوة علاّمة بها تكتسب المجهولات بالنظر، وقوة عاقلة، وقوة ظانة، وقوة مفكرة، وقوة متوهمة. ولا يعرض (120ب) لنا في القوى الباطنة قوة دراكة غير هذه. ثم الظانة والمتفكرة والمتوهمة لا يُعتد بها، ولا حكمها صادق دائما، حتى تتقدم على قوة العلم. ولا قوة العلم صالحة لهذا، لأنه كما أن مبدأ الرهان ليس يكتسب بالبرهان، فكذلك مبدأ العلم لا ينال بقوة العلم. ولم تبق قوة تصلح لهذا إلا العقل. فهذه القوة هي قوة العقل النظري المجبول فينا، وهو الاستعداد الفطري الصحيح.
وأما المبدأ لقبول العلم فهو العقل بالملكة. وسيعرفان في " كتاب النفس " . وهذه القوة العاقلة إنما تفعل فعلها الأول إذا اعتدل مزاج الدماغ، فقويت القوى المعينة : أعني الخيال والذكر والوهم والفكرة فتمت آلات العقل.
واعلم أن النظر في المواضع المعينة في الفن الذي في الجدل نافع جدا في البرهان إذا تعقبت منه المواضع البرهانية. ونحن ننتقل من هاهنا إلى ما هنالك. فإذا وضع موضع برهاني دللنا عليه.
تم البرهان من كتاب الشفا : وهو الفن الخامس ولله الحمد.
1 1 - /الجدل
بسم الله الرحمن الرحيم
المقالة الأولى
من الفن السادس من الجملة الأولى
الفصل الأول
فصل (1)
في معرفة القياس الجدلي ومنفعته
كما أنه لا سبيل إلى معرفة القياس إلا بعد معرفة القضايا، ولا سبيل إلى معرفة القضايا إلا بعد معرفة الألفاظ البسيطة، كذلك لا سبيل إلى معرفة أصناف القياسات إلا بعد معرفة القياس المطلق.
وأهم الأشياء بالإنسان أن يشتغل بما يكمل ذاته الشخصية، ثم يشتغل بما ينفع نوعه، أو يحفظ نوعه. وذات الإنسان بالحقيقة إما أن تكون هي النفس الناطقة، أو تكون هي الجزء الأشرف، وهي الشيء المقصود تكميله من ذاته. وكمالها مكسوب بمعرفة: فمنه ما هو معرفة فقط، ومنه ما هو معرفة لما يعمل به. والمعرفة المكسوبة هي بالقياس اليقيني؛ والقياس اليقيني هو البرهان. فيجب أن يكون الإنسان معتنيا أول شيء بمعرفة البرهان.
وإذ لابد من تقدم معرفة القياس قبله، فيجب أن يفزع عن القياس إلى البرهان؛ وقد أعطينا ما أمكننا إعطاؤه على سبيل الاختصار من علم البرهان.(2/29)
لكن هاهنا قياسات أخرى نافعة في الأمور الشركية، وقياسات أخرى مغلطة. والنافعة في الأمور الشركية منها ما يتعلق - أول تعلقها أو أنفع تعلقها - بالأمور الكلية؛ ومنها ما يتعلق - أول تعلقها أو أنفع تعلقها - بالأمور الجزئية. فيجب أن نتعلم هذه الأصناف أيضاً، لما لا تخلو عنه من منفعة، بل لما تدعو إلى استعمالها في الأمور المدنية من الضرورة. وأن نتعلم المغالطات لتكون لنا قدرة على التحرز عنها مستفادة عن الوقوف على أسبابها وعللها. وقد علمت أن النوافع الشركية من حقها أن تؤخر عن النوافع الشخصية، إذا لم تكن ضرورية في المنافع الشخصية. ولا يخفى عليك أن النافع، أو الضروري، إنما نتعرفه بالذات لنطلبه؛ والضار إنما بالعرض لنتحرز عنه. فيجب أن يكون تعرفنا لحال القياسات المغلطة بعد تعرفنا حال القياسات النافعة في الأمور النظرية، أعني الفكرية. ولأن المقاييس على الأمور الكلية أقرب إلى الدرجة العقلية من القياسات النافعة في الأمور الجزئية، فيجب أن يكون ما ينفع في الكليات - على أي وجه كان - مقدما. فيجب أن يكون أول نظرنا إنما هو في الصنف من القياسات التي تتناول أمورا كلية.
فلننظر أي القياسات هذه القياسات. وإذا قلنا: " قياس " في أمثال هذه المواضع، فخذه قياسا، وما يشبه القياس؛ فنقول: إن القياسات لا تتخالف في صورها، بل كان ما إذا وضع فيه أقاويل لم يلزمه قول آخر، أو لم يظن لازما، فليس بقياس؛ وعلى ما سبق منا تلخيص أمره. وكل ما كان كذلك فهو قياس.
لكن الموضوعات تختلف: فمن الموضوعات ما وضعه في الطبيعة، كأن الطبيعة والحق قد وضعاه وسلماه؛ ومنها ما وضعه بحسب واضع أو واضعين. والذي وضع ما فيه إنما هو بحسب الطبيعة، ونفس الحق، فهو القياس البرهاني؛ وقد فرغنا عنه. وجميع الذي يتلوه يجب أن يخالفه بأنه ليس يجب أن يكون الموضوع فيه هو الموضوع في الطبيعة؛ فبهذا يخالف البرهاني غيره. وإما بأنه يكون موضوعا فيه ما لا يجب في الطبيعة، فيضاده. والجدلي أيضاً في جملة ما بعده، فيجب أن يدخل في هذا الخلاف. لكن قولنا: " ليس يجب أن يكون الموضوع فيه موضوعا في الطبيعة " يشتمل على انه سيجوز فيه ذلك، وما ليس ذلك، فيكون إنما تتميز هذه القياسات عن البرهاني بأن حكم مقدماتها الأول أعم من حكم المقدمات الأول البرهانية؛ مثل المقدمات المشهورة المستعملة في الجدل. وإذا كان خلاف الجدلي البرهاني لا يتجاوز المقدار المذكور من الخلاف إلى وجوب أن يكون مضادا في مقدماته للبرهاني، وإن جاز أن يكون في بعضها كذلك، كان تميز القياس الجدلي وما يجري مجراه مما ليس شرطه مضادة القياس البرهاني؛ فقد كان سلف منا القول أن جميع المقدمات الأول البرهانية التي لا وسط لها مشهورة، ولا ينعكس. وكل مشهور مري معتقد، ولا ينعكس.
فلنطلب الآن مقدمات أقرب القياسات من البرهان، ولننظر أنأخذها لأنها مظنونات مرئية فقط، وليس لها زيادة عليه، أو مشهورات؛ فنجد أن الظنون الصرفة إنما تفيد القياسات المعمول منها في الأمور الجزئية. وأما الأحكام على الأمور الكلية فلا ينتفع فيها بالمظنونات التي تكون مظنونات ساذجة، عند إنسان واحد أو إنسانين؛ بل الأولى أن تكون أحكامنا على الأمور الكلية إذا فاتنا البرهان، أو تعذر مخاطبتنا به من نخاطبه، بما هو أقرب إلى طبيعة البرهان على ما هو آكد من المظنونة.
فيجب أن نجعل العمدة في القياس الذي نحن في تعريفه الأمور المشهورة، ثم إن سلم مظنون ليس بمشهور، استعملناه في القياس على المخاطب. لكنا إذا جعلنا العمدة هي المتسلمات، واقتصرنا عليها، فإنا حينئذ لا نكون صناعا ونقادا في أعمالنا، إذ تكون القياسات منا متوقفة على أن يسلم لنا مسلم شيئا، ولا تكون عندنا مقدمات يجب أن تؤخذ مسلمة، فيكون لنا من قبلها قياسات، ولنا قدرة على التصرف. فيجب أن يكون النوع من القياس الذي يلي البرهان قياسا مؤلفا من مقدمات مشهورة، أو متسلمة؛ وبالجملة من مقدمات مشهورة أو مسلمة، إما متسلمة من المخاطب وحده، أو متسلمة من جمهور أهل الصناعة، أو متسلمة من جمهور الناس. وهذان القسمان الآخران - كما علمت - يسميان مشهورين، أحدهما مفيد والآخر مطلق. ونحن قد أومأنا إلى منفعة هذا القياس إيماء، ولم نفسره؛ فنقول:(2/30)
إنه لا يجب أن يتوهم أن هذا القياس قد ينفع استعماله مع نفسه بالقصد الأول، لأنه لا يفيد اليقين إلا البرهان، وما دون اليقين فأكثره ظن، والظن مخلوط دائما بشك قوى أو ضعيف، والشك عدم الكمال. فإن كان الرأي ليس يقينا، وليس ظنا، بل هو عقد قوى يشبه اليقين، فهو بالحقيقة أيضاً جهل. أما إذا كان كاذبا، فهو جهل مضاعف؛ وإما إن كان صادقا، فهو جهل من جهة أن هذا العقد لا يكون منفردا في ذات العقل من غير مشاركة قوة فاسدة، تفسد وتفسد معها العقد المقارن لها، فإن العقل الصريح لا يقبل المجهول إلا من جهة السبب الذي لذاته يصير المجهول معلوما. فهذا القياس الجدلي غير نافع في أن يكون الإنسان مخاطبا به نفسه بالذات، فإذن منفعته المخصوصة به هو في أمر مشترك، وفي أن يخاطب غيره، لكنه ينفع صاحبه منافع لا بالذات - من حيث هو قياس - بل بالعرض. فإنه إن كانت الغلبة مطلوبة عنده، انتفع به فيه. وأيضاً ينتفع به من وجه آخر: أنه إذا لم يجد يقينيات أخذ مشهورات تنتج طرف نقيض، وأخذ أخرى تنتج طرفا آخر، فلا يزال يرجح بينها ترجيحا بعد ترجيح حتى ربما يلوح له الحق، ويخرج به إلى اليقين، كما أن الإنسان كثيرا ما يتخلص من تحقق أعراض الشيء وخواصه إلى معرفة فصله وماهيته. لكن هذا النفع والأول ليسا هما عنه بما هو قياس، فإن القياس - بما هو قياس - نفعه هو بما ينتج. والأول مما عددناه نفعه بشيء يعرض أن يتبع نتيجة، وهو الغلبة، والثاني نفعه بشيء يعرض أن ينكشف عن حال مقدماته، بأن يتخصص ويتحصل منها بعض، ويتزيف بعض، ثم تكتسب مقدمات أخرى، وقياس آخر، وسل من القياس المذكور قياس آخر، فيكون كأن ذلك القياس الأول فسد وبطل، والقياس الثاني حدث وكان، ويكون النافع بالذات هو القياس الثاني.
وقد ينفع تعلم هذه الصناعة في البرهان من وجه آخر: وهو أنه وإن كان ما علمناه في البرهان كافيا، فإن الإنسان ينتفع بتأمل هذه الصناعة في البرهان من وجهين: أحدهما من جهة أنه إذا تحقق معرفة قياسات هي في صورتها أمثال البرهانية بأعيانها؛ ويجد لمقدماتها شرائط وأحوالا تخالف ما عهده، يصير محيطا بأصناف من المقدمات غير برهانية وفي معرفة ما ليس بالشيء؛ ويشاركه منفعة ما في معرفة الشيء؛ وزيادة بصيرة به؛ فإنه يكون حينئذ قد حصل له معرفة بالشيء من حيث هو، ومعرفة بالشيء من حيث ليس غيره، ومن جهة أن كسب المقدمات المشهورة وإعدادها أعم من كسب المقدمات البرهانية وإعدادها، إذ المشهور أعم من البرهاني، فيتفق له كسب المشهورات أيضاً وإعدادها أن يكتسب البرهانية ويعدها، حينما يأخذ بتعقب المشهورات ليتأمل ما منها برهاني، وما منها غير برهاني.(2/31)
ونحن بالحقيقة قد بينا في الفن الذي قبله، سالكين مسلك من سلف، ملهية المقدمات البرهانية وخاصيتها، وأومأنا إلى جملة كسبها إيماءا مجملا، فإذا تفصل ذلك فيما بعده من المواضع المشهورة، كان لنا ذلك زيادة بصيرة. وأما الحاجة الداعية إلى تفصيل الأمر في كسب المشهورات دون البرهانيات، أن البرهانية محدودة الشرائط، غير مخرجة عن حدي المطلوب في كل باب. وأما الشهرة فليس شيئا يتبع أجزاء المقدمات ويلحقها من أنفسها، بل هو شيء يأتي من خارج، فلا يكون القانون المستند إلى اعتبار أجزاء المقدمات نافعا في ذلك، بل نحتاج أن نحصي أمورا بما عرفت من الشهرة الخارجية. فتبين من جملة هذا أن هذا النمط من القياسات لا ينفع الإنسان استعمالها، ولا تحصيل ملكتها فيما بينه وبين نفسه بالذات، بل إنما منفعتها على سبيل المخاطبة، ولا أن ينفع المخاطب في أن يكمل ذاته، بل ينفع في أمر آخر، إما مؤد إلى تكميل ذاته بالقصد الثاني، وإما مؤد إلى قوام المصلحة الشركية. أما المؤدي إلى تكميل ذاته بالقصد الثاني، فلأن المكمل بالحقيقة هو العلم المكتسب بالبرهان. لكن أكثر العلوم البرهانية - على ما عرفت من حالها - يكون في مبادئها ما هو موضوع للمتعلم، فإذا طولب بتسليمها ساذجا، غير معان بما يقنعه بوجه من الوجوه - إذ لا سبيل إلى إيقاع اليقين له بها في درجته - كان مستوحش النفس عما يُبنى على تلك الموضوعات. فإذا كان معنا قدرة على أن نقنعه بقياسات مؤلفة من مقدمات يقبلها، ويسلمها ويحمدها - وإن كانت غير حقيقية في نفسها - لم ينفر عن تلك الموضوعات، ولم يستغربها، ولم يشمئز طبعه عما يبنى عليها، فنفذ في تعلمه إلى أن يحين له تلقف ما يحصل له فيها اليقين. وأما المؤدي إلى قوام المصلحة الشركية، فلأن استمرار الناس على جملة حافظة لحسن المشاركة، مبنية على عقائد يعتقدونها فيما ينبغي أن يُقر به، وفيما ينبغي أن يعمل، وتكون أضدادها مؤدية إلى ما هو ضد لحفظ المشاركة.
فإذا كانت للناس، بل لمدبري الناس، ملكة يقتدرون بها على تأكيد العقائد النافعة في أنفسهم بالحجج المقبولة عندهم، إذا اختلج في قلب أحدهم شك، ويبكتون من اعتقد غير النافع بالحجج المقبولة عندهم، انتفع المدبر من جهة تمكنه من تدبير الذي يتولاه، وانتفع المدبر من جهة قبوله لحسن التدبير. ولو كان سبيل إلى أن يورد الحجج عليهم من المقبولات لذواتها، والمحمودات في نفس الأمر، لا بحسبهم فقط في مدة قصيرة، أو كانت الطبائع متفقة في قبول ذلك وفهمه، لكان الاشتغال باستعمال ما قبوله بحسبهم لا بحسب الأمر شططا وفضلا وخدعة؛ لكن الطريق التعليمي طويل، ولا كل نفس له مقبول، وخصوصا في الأمور التي هي أنفع ما يعتقد، كإثبات الصانع الواحد، وإثبات الرسالة الإلهية، وإثبات المعاد. وإذا انصرف الجمهور بهممهم إلى ذلك، طال عليهم وتأخر عنهم ما يجب أن يتفقوا عليه من المصلحة إلى حين إحاطتهم به، وفيه غرر. وأيضاً فإن أكثر القوى قاصرة عن ذلك، وليس كل ميسر لذلك، بل لما خلق له. فبالواجب ما احتيج إلى استعمال أصناف هذه القياسات، ولم يكن النظر فيها بحسب تكميل أقسام المنطق فقط - كما قال بعضهم - بل كان هنالك منفعة قائمة.
الفصل الثاني
فصل (ب)
في السبب
الذي يسمى له هذا الضرب من المقاييس جدلية
فيجب أن ننظر الآن في أن هذه الصناعة أي الأسماء أحق بها. أما إصابة الحق، والنظر للحق، وغير ذلك، فلا شك في استبعاد دلالته عن الغرض فيها، وخصوصا وهذه الصناعة مقصورة على المحاورة والمخاطبة. لكن الأسماء المستعملة في المخاطبات القياسية هي هذه: التعليم، والمجاراة، والمناظرة، والمعاندة، والاختبار، والمجادلة، والخطابة والإنشاد. وإن كان شيء غير هذه، فهو إما داخل في بعض هذه، أو غير مألوف.
ثم التعليم لا ينفع فيه أيضاً إلا الحق. وأما المجاراة فليس القصد فيه إلا ما في التعليم ولكن المجاراة تتم بالمشاركة، كأن الإنسان الواحد لما كان في أكثر الأوقات أو بعضها إذا حاول أن يكون معلما لنفسه ومتعلما من نفسه من وجهين واعتبارين - على ما علمت - عسر عليه ذلك. فإن أعوزه معلم وقد حصلت له الملكة، افتقر إلى آخر يشاركه في النظر، فيضم ما يحدسه ذلك إلى ما يحدسه هو، فيصير كل واحد منهما جزء معلم، وكل منهما تمام متعلم؛ والغرض فيه العلم.(2/32)
وأما المناظرة فهي مشتقة من النظر والاعتبار، فالغرض فيها المباحثة عن الرأيين المتقابلين المتكفلين؛ أعني يتكفل كل واحد منهما واحد من المتخاطبين ليبين لكليهما المحق منهما، فيساعده الثاني عليه. فهذان أيضاً غرضهما ليس إلا حصول العلم، فلا ينتفعان بالذات إلا بما يوقع العلم ويفيده.
وأما المعاندة فهي مخاطبة المخاطب بها إظهار نقص من يدعي الكمال، على أي وجه كان، وأن يعجزه بقياسات من مقدمات حقة أو باطلة؛ فيكون الغرض فيها من المخاطب إظهار عجز لا إعطاء فائدة يعتقدها المخاطب؛ فإنه ليس إذا عجز عن أمر فقد ظهر فيه الحق؛ ويكون الغرض فيها من المخاطب أن يظهر قوته من حيث يظهر نقض ذلك؛ فتظهر فضيلته ونقيصة ذلك. فإن كان المعاند ليس يعاند ناقضا، بل يقصد التمويه والتلبيس نفسه، لأنه تمويه وتلبيس ولو على غير ناقض، لا ليعرفه النقض، بل ليخيل إليه أن ما يقوله حق، فليس خطابه الخطاب المخصوص باسم العناد، بل هو إما سوفسطائي إن تشبه بالفيلسوف، وإما مشاغبي إن تشبه بالجدلي. بل إنما يكون المعاند معاندا إذا كان ظاهر قصده تعجيز الآخر المخاطب. وربما قرن بذلك الاعتراف بأن ما يقيسه غير حق، لكن المخاطب قاصر عن الوقوف على مواضع الحيلة في كلامه. فلفظ المعاند، بحسب تعارف القوم، ليس أن يجعل اسما لهذه المخاطبة، ولا بحسب اللغة أيضاً؛ فإن العناد موضوع للدلالة على الخروج عن الحق، والعدول عن الواجب، بفضل القوة.
وأما الامتحان والاختبار فليس الغرض فيه إقناع في رأي البتة، بل تعرف لمبلغ المخاطب في القوة على استبانة القياسات. فكأن القياس المعاند والقياس الممتحن، والقياس المغالط، واحد في الموضوع؛ لكنه إذا استعمل على أنه يراد به إثبات الحق، أو الإقناع بالعدل، سمى سوفسطائيا، أو مماريا مشاغبا. وإذا استعمل والغرض فيه تعجيز الخصم المعتقد عجزه، عند القياس المجهول عجزه عند الخصم أو عند آخرين، كان قياس عناد. وإذا استعمل والغرض فيه استكشاف حال المخاطب أمره من غير أن يراد تضليله، أو يراد إظهار المخبور أو المعتقد من عجزه، كان قياس امتحان. والألفاظ أيضاً بحسب اللغة مطابقة لهذه الأرض، فإنه ليس يحسن أن يسمى من يخاطب ليفيد عقدا نافعا مغالطا، ولا معاندا، ولا مختبرا ممتحنا.
وأما الإنشاد، فهو بعيد أن يكون الغرض فيه إيقاع اعتقاد وتصديق البتة.
وأما الخطابة، فإن الخطيب، هو المقتدر على إقناع الناس في الأمور الجزئية - ولا يقال لمن يحسن الإقناع في الهندسة والطب خطيبا - فلم يبق لنا اسم أولى بهذا من اسم الجدل، حتى تكون الصناعة المعدة لإلزام الخصوم بطريق مقبول محمود بين الجمهور في أي رأي كان جدلا. فإنه وإن كان ليس إلزام كل رأي نافعا في كل وقت، فإن الصناعة الاختبارية لا تكون صناعة بأن تكون ملكة على طرف واحد فقط؛ فغن هذا غير ممكن. بل إذا صار الطبيب مقتدرا على التصرف في أحوال الأبدان حتى يفيدها صحة، فإنه تتبعه أو تلزمه أو تتقدمه ضرورة أن يكون مقتدرا على التصرف المطلق في أحوالها بما هو تصرف مطلق، فكان مقتدرا أيضاً على أن يفيد المرض؛ لأنه ليس الاقتدار إنما يكون على الصحة من حيث هي صحة، بل من حيث هي حالة يمكن إحداثها، أو حفظها على البدن.
فكذلك المقنع على النافع يلزمه أن يصير مقنعا مطلقا، فيكون مقتدرا على الإقناع، من حيث هو إقناع، فلذلك يقتدر على غير النافع؛ فيعرض من هذا الجدلي مقتدرا على الإلزام المطلق، لكنه يكون جدليا على المجرى الطبيعي، إذا كان استعماله ذلك في المنافع، كالطبيب: فإنه إنما يكون طبيبا على المجرى الطبيعي إذا كان استعماله ما يستعمله في النافع؛ فإن حرف ذلك فقد أساء.
على انه ربما كان النافع في وقت إلزام أحد طرفي النقيض، وفي آخر مقابله؛ وذلك مع إنسان وإنسان. وأيضاً ربما يقع أحد طرفي النقيض لذاته، ويقع الطرف الآخر بالعرض في إثبات نافع آخر.(2/33)
وإذ كل مخاطبة قياسية، فإما أن يكون القصد فيها التصديق أو لا يكون، بل التخييل، وهو الإنشاد الشعري. والتي القصد فيها التصديق فإما أن يكون المراد فيها الإيضاح للحق، وهو البرهان والتعليم؛ وإما أن يكون الراد فيها الغلبة والإلزام، وذلك إما في الأمور الجزئية وإما في الكلية. والتي في الكلية، فإما أن تكون الغلبة والإلزام فيه على سبيل أن الغرض فيه نفس الإلزام، أو على سبيل أن الغرض فيه غيره من امتحان، أو كشف وفضح. والذي الغرض فيه الإلزام، فإما على سبيل مغالطة، وإما على سبيل عدل؛ وجميع هذه مخصوصة بأسام لائقة، وتلك الأسامي لا تصلح إلا في المخاطبات، لأن ذلك المعنى لا ينفع إلا في المخاطبات. ولفظة الجدلي تليق بعدة منها، وهو ما يكون على سبيل المنازعة؛ فإنه إذا لم تكن منازعة، لم يحسن أن يقال جدل. وقد خص كل واحد منها باسم لائق به في حد تخصيصه، فالأولى أن يسمى باسم الجدل هذا القسم الذي بقى، فليس له اسم.
على ان المتناظرين إذا لم يكن بينهما معاندة ما، بل كانا يتخاطبان على سبيل قدح زند الفائدة؛ لم يحسن أن يقال لتناظرهما جدل. وأما إذا كان الغرض الإلزام، ولو للنافع بما يتمحل من المشهورات والمتسلمات، فكثيرا ما يخرج الحال بالقايس إلى أن يعاند ويحتال؛ فإن الحق طريقه واحدة غير متغير لا محيص عنه، ولا يحسن العناد فيه. وأما تمحل قياس غير حق لينتفع بالإقناع، فلا يبعد أن يحوج فيه إلى العناد واللجاج.
وكثيرا ما يكون الرأي النافع اعتقاده غير حق، فيحتاج أن يلزم الإنسان قبول غير الحق، فلا يبعد أن يخرج محاول ذلك عن حاق الإنصاف، إذا اتفق أن ينازع بما يقوى المقابل الذي هو الحق، فيضطر إلى الحيلة من المشهورات، ويضطر إلى الاحتراز والمخادعة. فإن المشهورات أيضاً كثيرا ما تتقابل، وكثيرا ما ينتقض بعضها بعضا، وكثيرا ما تتأدى إلى نتائج متقابلة - كما ستعلم - فيحوج أيضاً هذا القياس إلى أن يتخلص عن عهدة مشهور آخر، وإلى تغليب مشهوره الذي يستعمله. وربما كان الذي يوجب مقابله أغلب وأشهر، فإن المشهورات كما ستعلم مختلفة في القوة والضعف؛ وأما الحق والصدق فهو واحد. فالمناظر لا يخاف أن يفسد عليه الصدق حجته، فإن الصدق لا ينتج نقيض نتيجة الصدق، ولا يوجب مقاومة قياس الصدق. وأما المشهور فقد يعمل بالمشهور ذلك، والصدق كثيرا ما يعمل بالمشهور ذلك.
وربما كان الدعوى حقا، والبرهان عليه متعذرا، فيحتاج أيضاً إلى أن ينصره بما ليس بحق، بل بما هو مشهور، فيفطن لذلك مناقضه، فيصعب الأمر، ويحوج إلى المراوغة. فإذا كان القياس الجدلي ممنوا بالاحتراز عن جميع ذلك، لك يكن بد من أن يكون كلامه ليس صرف نظر في الأمور كما هي، ولا فيه اتباع لمنهاج واحد، بل يحتاج أن تكون معه ضروب من الحيلة، وأن يحوج إلى معاندة المشهور أو الصادق الذي نصره. ومن بلى بالتدبير في دفع نصرة الذي يناقض معه، لم يستغن عن ضرب من اللجاج، وإن كان غايته نفعا ما.
واسم المناظرة مشتق من النظر، والنظر لا يدل على غلبة أو معاندة بوجه. وأما الجدل فإنه يدل على تسلط بقوة الحطاب في الإلزام، مع فضل وحيلة أخرج من الطبيعي ومن العدل الصرف يسيرا. فليس بمخطئ من جعل القياس المؤلف من مقدمات مشهورة مخصوصا باسم القياس الجدلي، بل عمل الواجب. فلا يلتفتن أحد إلى ما يقوله بعض المموهين.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في بيان حد الجدل وتناوله للسائل والمجيب
وإشباع القول في السائل والمجيب
فغرضنا الآن في هذا الفن هو تحصيل صناعة يمكننا بها أن نأتي بالحجة على كل ما يوضع مطلوبا من مقدمات ذائعة، وأن نكون إذا أجبنا لم يؤخذ ما يناقض به وضعنا.
والصناعة ملكة نفسانية يقتدر بها على استعمال موضوعات ما نحو غرض من الأغراض، على سبيل الإرادة، صادرة عن بصيرة، بحسب الممكن فيها. ولذلك فجميع هذه المقاييس، والتصرف فيها، والعلوم كلها صناعة. وهذه الصناعة - أعني الجدلية - قد يعين على حصولها الاستعداد الجبلي في بعض الناس، وقد يعين على حصولها الممارسة والاستعمال للجزئيات.(2/34)
لكن كل صناعة بنيت على فطرة أو تجربة من غير أن يكون الصانع قوانين كلية هي معايير له، كانت ناقصة. بل ليس كل صناعة أيضاً يحصل لها أن ترفد بالقوانين والتجربة وبمساعدة الفطرة تحصل على كمالها الأقصى، وإن توفر عليها جميع ذلك. فإن من الصنائع ما المواد المستعملة فيها شديدة الطاعة للقوة الفاعلة، ليس فيها عائق. فإذا لم يبلغ بها كمالها الأقصى في الاستعمال، كان السبب للنقص في الصناعة، كمن لا يتهيأ له أن يتخذ من الخشب كرسيا، فإن ذلك ليس لأمر في نفس الخشب، بل لأمر في نفس الصانع.
ومن الصنائع ما يكون السبب في قصورها عن الغرض الأقصى فيها، هو المنفعل، أو الآلة، أو نفس الغرض. أما المنفعل، فإذا كان فيه معاوقة للفاعل، فإن كان فوق قوة الفاعل، لم يبلغ الفاعل في تلك المادة المخصوصة غايتها؛ وإن كانت المعاوقة دون ذلك؛ بلغ مبلغا ما، مثل الصناعة المصارعة. وأما الآلة، فإذا كانت الآلة حالها مع المنفعل إحدى هاتين الحالتين. وأما الغرض، فإذا كان نفسه أصعب من سائر ما يشاكله، وكان متعذرا أن يحصل في كل مادة، بل في مادة دون مادة، مثل تفهيم الدقيق من المعاني، فليس كل مادة لها تقابل. وهذا يناسب القسم الأول، ويخالفه في أن التعويق ليس من سبب المادة كله حتى يكون التقصير منها، بل لأن المطلوب نفسه فوق المعتدل، وصعب المرام. ولولا ذلك لكانت تجيد الطاعة من غير معاوقة. وأما الأول فكان التعويق كله من جهة المادة.
وإذا علمت هذا، فليس إذا كان بعض المواد يستعصي فلا يبلغ فيه الغرض، تكون الملكة النفسانية النقتدر بها على استعمال موضوعات نحو غرض ما معدومة؛ فإنا لم نقل إن هذه الملكة النفسانية - التي هي الصناعة - هي التي يقتدر بها على استعمال كل موضوع بل استعمال ما يكون موضوعا قابلا مقويا عليه، وعنينا قدرة بحسب ما يمكن أن يحصل للإنسان بسبيل الكسب.
فالطبيب موجود له ملكة إفادة الصحة إذا حصل القوانين وعمل عليها - وإن كان قد لا يمكنه أن يفيد الغرض في كل بدن 0 إذا كان بالحقيقة صناعته معينة. فإذا كان ما يعينه، وهو الطبيعة، قاصرة، لم يقتدر بذلك اقتداره على استعمال الموضوع، إن وجد ما يعينه كافيا. وكذلك الخطيب؛ وهو خطيب بملكته إلى بما يمكنه أن يأتي بكل ما يوجب الإقناع بحسب المقدور عليه بالقوة الإنسانية. فإن لم يبلغ الغرض في واحد، فليس ذلك لفقده هذه الملكة التي بها يقنع المستعدين للإقناع.
على أنه يشبه أن تكون بعض الصناعات هو مما يوجد للإنسان وجودا كاملا، وبعضها هو مما يوجد للإنسان وجودا دون الكامل. ثم للصناعة في نفسها حد واحد، كما للصحة؛ وقصور الإنسان عن تحصيلها بالتمام كأنه كقصور عن تحصيله للصحة، فيكون إنما ينسب إلى الصناعة كما ينسب إلى الصحة؛ وكذلك إلى الفضيلة. فإنه إذا كان الغالب عليه تحصيل أفعال الصناعة، ينسب إلى وجود الصناعة له، وإن كانت بالحقيقة غير حاصلة له، كالحال في أفعال الصحة.
ويشبه أن تكون الصناعة ليست تصير صناعة بان تكون أفعالها تنجح في كل مادة، بل في أكثر المواد. فإذا كانت هناك أفعال بها يبلغ الغرض، وأتى بها الصانع، ولم يقصر فيها، كان صانعا؛ وإن لم يبلغ الغرض بسبب في الغرض، أو في المنفعل، أو في الآلة، فيكون كونه صانعا متعلقا باقتداره بتلك الأفعال، التي يمكن بها أن يصادف الغرض المقصود بها، إن لم يكن سبب من خارج. لكن الإنجاح يقع في أكثر الأمر، وربما وقع الإخفاق.
فإن كان حد الصناعة هو الحد الموجب لأن تكون للصناعة إصابة في كل غرض، خرج الطب والخطابة والرماية والمصارعة والمجادلة عن ان تسمى صنائع؛ وإن كانت تسمى صنائع، لم تكن توجد للإنسان بالحقيقة. وإن كان حد الصناعة هو الذي أومأنا إليه، فتكون جميع هذه - إذا حصل الإنسان منها القوانين، وتمكن من استعمالها بملكة نفسانية - صناعات.(2/35)
والغرض المقصود في هذه الصناعة هو الإقناع والإلزام. فليس الغرض هو الإقناع والإلزام في واحد بعينه من طرفي النقيض، بل في كل واحد منهما، إذا كان من شأنه أن يبحث عنه، ويختلف فيه، فيكون للجمهور والعاميين من أرباب الصنائع فيه رأي غير غريزي، فكان السبيل إليه من المشهورات سبيلا تأتي عليه المخاطبة الواحدة. فإن كان لا سبيل إليه من الذائعات أو كان السبيل إليه طويلا لا تفي به قياسات مركبة مبلغها مبلغ ما يخاطب به مخاطب واحد في وقت واحد، حتى يضبطه ويكون له فيه المراجعة وعليه المطالبة؛ بل كان إنما يتم بمخاطبات يوطئ بعضها لبعض، ويبلغ فيها الغرض بمخاطبة أخيرة في وقت ثالث أو رابع، إذ كان الوقت الواحد الي يسع لطول محاورة لا يفي به؛ لم تكن هذه المخاطبة جدلية، بل الأولى أن تكون تعليمية، ولم تكن مما يحسن مخاطبة الجمهور به ومن يجري مجراهم، بل مخاطبة المتعلمين خاصة. وهذا مثل أن يكون الوضع هو أن كل مثلث قائم الزاوية، فالوتر يقوى على الآخرين، فإن هذا لا سبيل إلى أن نبلغ بالمخاطبة الجدلية في موقف واحد كنه الغرض فيه. فأمثال هذه المباحث لا تكون أغراضا في الصناعة الجدلية.
فالغرض الأول في الجدل: الإلزام. وأما كونه إلزاما في هذه المسألة، فهو أمر عارض؛ ولذلك لا يتغير بأن يصير غيره مرادا إلزامه، وإن كان مقابله؛ لأن قصد الإلزام يتغير؛ كما أن الطبيب غرضه الأول إفادة الصحة؛ ثم له أن يفيدها تارة بالتسخين وتارة بالتبريد؛ فلا يصير بهذا متقابل الغرض؛ لأن غرضه الأول لم يختلف.
والحجة الجدلية هي أعم من القياس الجدلي؛ فإنها قياسية واستقرائية، وليس واحد منهما هو صناعة الجدل، بل فعل من أفعال صناعة الجدل. وكما أن العلاج ليس صناعة الطب، ولا الامتناع عن قاذورة شهوانية، فهو نفس الفضيلة العفية، بل هما فعلان يصدر أولهما عن صناعة الطب، والآخر عن فضيلة العفة. وإنما الطب ملكة يقتدر بها على إيجاد العلاج، والعفة ملكة يصدر عنها الامتناع عن الفواحش؛ كذلك صناعة الجدل هي الملكة التي يصدر عنها تأليف القياس على النحو المذكور، أو الاستقراء على النحو المذكور.
وبئس ما ظن أن القياس الجدلي هو فعل يصدر عن السائل لا غير؛ كأنه لم يسمع المعلم الأول يقول في " أنولوطيقا " : إن المجيب يقيس من المشهورات، والسائل من المتسلمات؛ بل المجيب إنما هو مجيب، من حيث هو حافظ وضع، والسائل هو سائل من حيث هو ناقض الوضع. فإذا قاس قايس على رأى هو وضع يحفظه، كان مجيبا؛ وكان السائل حينئذ من يفسد عليه قياسه، ويقاوم مقدماته. وإذا قاس قايس على مقابل وضع بمقدمات يتسلمها من حاتفظ كان سائلا، ولكل واحد منهما قياس.
أرأيت لو أن مدبر مدينة، أو معلم صناعة، حاول أن يقنع الجمهور أو المتعلم في رأي أو مبدأ صناعة، يريد أن يعتقد رأيه، فإن أتى بقياس من المشهورات ليعتقد نتيجة كلية، كان بذلك سائلا، وكان يحتاج أن يتسلم المقدمات منهم، أكان يصير بذلك برهانيا أو خطابيا أو شعريا؟ كلا، بل إنما يأتي بالمشهور المسلم، ويكون قايسا جدليا ليس بسائل. فليس كل قياس جدلي إنما هو قياس جدلي، لأنه سائل، بل إنما يكون سائلا إذا حاول إبطال وضع ينصره ناصر؛ فإن لم يكن هناك وضع منصور، وإلا هناك ناصر يذب عنه، كان القياس الجدلي موجودا، ولم يكن سائل البتة. كذلك إن كان هناك مناقض ليس على سبيل أنه ينصر وضعا نقيض وضع الثاني، بل على أنه مقاوم فقط، وكان الآخر ينصر وضعه بقياس، كان الناصر ليس بسائل.
واعلم أن قولهم فيما سلف من الزمان: " سائل جدلي " يعني به غير ما يعني في زماننا بقولهم: " سائل جدلي " ؛ ويعنون بالمسألة غير ما نعني به الآن. فإن السائل الجدلي إنما يسمى الآن سائلا من جهة أنه يقصد فيبتدئ فيسأل مخاطبا له عن رأيه في أمر؛ فإذا أجاب بما هو رأيه كان مجيبا، وكان الأول سائلا، ومسألته هي ما سأل من نفس الرأي. ثم بعد ذلك لا يسأل بالحقيقة شيئا، وعلى مجرى العادة، بل يأتي بقياس من تلقاء نفسه، أو استقراء، أو غير ذلك، مما هو عندهم حجة، فينتج بذلك نقيض وضعه من غير أن يسأل شيئا. لكنهم ما يسمون إيراد هذه الحجة الموجبة نحو استجابة المخاطب سؤالا، بمعنى أنه وإن يسأل بالفعل فهو بالقوة، كأنه يقول: أليس يلزمك عن هذا كذا؟ وهل عندك جواب هذا؟ وما أشبه ذلك.(2/36)
وأما السائل الجدلي الحقيقي، والذي كان في الزمان القديم يسمى يائلا، فلم يكن يسأل على هذه الصورة، بل كان يتسلم من المجيب مقدمة مقدمة، فإذا استوفاها تسلما،عمد حينئذ فجعلها على صورة ضرب منتج، فكان المجيب لا يجد محيصا عن إلزامه في مدة قصيرة، إذ كان تقدم فسلم المقدمات.
والسبب فيما عليه المر في ذلك الزمان، وما عليه الأمر الآن، أن أولئك المتقدمين كانوا أحرص على الحق منهم على المراءاة، وكانوا أمهر في الصناعة، فكانوا يحسنون تلقف المسائل المتسلمة، ويعرفون ما يجب أن يطالب بتسليمه معرفة محصلة مميزة، كأنهم ينظرون إلى واحد منه بعينه، وكان المجيبون بصراء أيضاً بما ينساق إليه تسليم كل ما يسلمونه، فيعرفون كيف يسلمون.
وأما المتجادلون من أهل زماننا فأكثر همتهم الظهور بالغلبة. والأقدمون منهم الراسمون لهم ما رسموه كانوا يقصدون بذلك ارتفاع الشأن عند الملوك، فكانوا سائلهم أن يورد كل واحد منهم قياسه وحجته في المعاندة، وهم يسمعون ويصغون، حتى إذا جاءت النتيجة فطنوا حينئذ بالسبب المنتج لها، فأنكروه، ولم يسلموه، وعاندوا فيه، وغالطوا؛ ولولا انسياقها إلى النتيجة، لم يبعد أن يسلموها غافلين عن عاقبتها، فيقعوا في حيرة. فما كان في مُنة السائل منهم أن يفي بتسلم مقدمة مقدمة، إذ كانت المقدمات غير متميزة عنده بأعدادها، ولا له بصيرة بما يجب أن تكون عليه المقدمات من العدد والهيئة والتأليف، حتى تؤدي إلى الغرض. بل كان الأسهل عليهم الاستمرار على إيراد جملة مخلطة هي قياسات بالقوة إن كانت قياسات؛ كفعل من يفعل بتجربة أو ملكة غير قانونية، فكان لو كلف أن يبدأ بمسألة مسألة عرض له ما يعرض للموسيقار الذي لا قانون عنده لما يفعله، بل إنما يفعل بالاعتياد؛ فإنه لو كلف أن يدل على نقرة نقرة لم يتخيلها بالانفراد، بل إنما يمكنه أن يأتي بها عند التركيب، كأنه إنما يتذكر كل واحدة منها إذا ذكره ما تقدم عليه، أو خيله. فهنالك يعمل بعجلة، فإن توقف عند نقرة زال خيالها، فلم يأته خيال الأخرى، ليصدر عنه إيجادها. وأما أن يدل عليها واحدة واحدة، وهو لا يعمل أو قبل أن يشرع في العمل حتى يكون قبل العمل لكل نقرة رسم في خياله كأنه ينظر إليها، فأمر الممتنع أو كالأقل.
كذلك السائل عندهم كان إنما تخطر بباله المقدمات إذا شرع في استعمالها، واستمر على نهج خاطره. وأما إذا حاول تجريدها وتعديدها في ذهنه ليتسلمها واحدة واحدة، تعذر عليه. فهذا ما كان السبب فيه من قبل سائلهم.
وأما من قبل مجيبهم، فإنه لو وقع له سائل يتسلم مقدمة مقدمة، فربما سلم ما يضره وهو لا يشعر، فغن أنكره مرة أخرى، أنكر عليه ذلك، واستعجز في ذلك، فلم يلبث أن تكون الحجة تلزمه، فلم يكن من الاحتياط له إلا أن يستمع جميع القول؛ فحينئذ يحس بالسبب الذي يجلب عليه الآفة، فينكره ولا يصدقه. فإذا أنصت لجميع ما يقوله ذلك تيسر له الشعور بما يضره، وكانت له مدة يفكر فيها أن كيف يحتال للتخلص. فلما استمرت عادة أوائلهم على هذه الجملة، بقوا عليها، وكان لهم مع الاحتياط المذكور أن يطلبوا الماراجعات، ويكثروا المراودات، ولا يكون السبيل إلى لزوم ما يلزم قصيرا، فيكون لكل واحد من السائل والمجيب بهاء، ورونق، وتظاهر بقوة، وبصيرة في الصناعة.(2/37)
فأما الأمر الذي هو الواجب، فهو أن لا يكون للقايس على خصم مقاوم، المحتاج في قياسه إلى مقدمات يسلمها له خصمه أن يمضي في تلك المقدمات يؤلفها تأليفا، ولا يدري هل هي مسلمة أو غير مسلمة. فكيف يكون على الخصم قياس من مقدمات لا يضعها ولا يسلمها؟ وكيف تكون تلك لمقدمات مسلمة بالفعل، ولم يسلم؟ وهل في استعماله تلك المقدمات، وهو لا يشتغل بتسلمها إلا نفوذ في الشك وحسن ظن. وليت شعري كيف يكون ما يجمعه قياسا؟ وهل القياس الذي يلزم الإنسان إلا من مقدمات مسلمة عنده؟ وكيف يكون تسليم بلا مسلم، وكيف يكون مسلم ولم يتسلم منه؟ ومعلوم أن تسليم السائل لا ينفع السائل، وتسليم المجيب لا يحصل له إلا بعد السؤال؛ وهل في إيراده قياسا من مقدمات لم تسلم إلا عمل باطل غير متقن؟ فعسى أن لا يسلم شيئا منها، فيكون حينئذ ما ظنه قياسا ليس بقياس، ويكون جميع ما سرده ضائعا، بل يحتاج أن يعاوده من رأس إذا لم تسلم له مقدمة، فيشرع في إثباتها، فإن لم يمكنه فقد تولى باطلا؛ وإن أمكنه فيحتاج أن يقيس حينئذ من رأس. وإنما يكون القياس قياسا الآن حين سلمت المقدمة.
فالأمر الطبيعي للسائل - من حيث هو سائل - أن يكون قياسا من مقدمات قد تسلمها، فيلزمه لا محالة أن يسأل عنها أولا فيتسلمها، فتكون المسألة الجدلية بالحقيقة مسألة عن مقدمة، والسائل الجدلي بهذا السؤال هو سائل جدلي، لأن هذا السؤال هو الذي يدخل في نفس الجدل، وبه يتم فعل الجدل.
فأما السؤال عن المذهب فهو أمر خارج عن الجدل، وإن كان شيئا لابد منه بل إنما هو تمهيد لما يحتاج إليه ليجادل عليه بعد ذلك. كما أن نصب الغرض ليس جزءا من الرمي، بل هو تمهيد لما يحتاج إليه ليرمي نحوه.
وأما الأمر المقوم للجدل الداخل فيه، فهو إيراد القياس الجدلي، والحجة الجدلية. وللسائل خاصة إيراد القياس السائلي خاصة، والحجة السائلية. والقياس السائلي، محصل من المقدمات التي من حقها أن تكون أولا مسائل، فإذا تسلمت كان حينئذ له سبيل إلى القياس السائلي. فالسؤال الجدلي الداخل في الجدل على انه جزء منه هو السؤال عن المقدمة لا غير. والسائل الجدلي هو سائل جدلي من جهة هذا السؤال المسئول، ليتسلم ما يستعان به في إنتاج مقابل وضع واضع.
وأما المجيب فلا يحتاج أن يسأل، بل يورد ما هو السبب عنده في اعتقاد ما اعتقد لأنه ناصر وضع نفسه، وحاك عن داعيه إليه في نفسه؛ وليس يفسد وضع غيره فيحتاج إلى شهادته. وناصر وضع نفسه يحتاج أن يورد وضعه بمقدمات مسلمة لا عند نفسه فقط - حتى يكون الرضا ما يرضاه، ولا عند خصمه إذ ليس إثباته لوضعه متعلقا بوجود خصم له حتى إن سلم هو كان له وضع، وإن لم يسلم لم يكن له وضع - بل أن تكون مسلمة في نفسها.
وناصر الوضع قد يكون ناصر وضع عند من لا يعانده. فإن اتفق أن كان هناك معاند له صارت نصرته بالذب؛ أعني بالذب: الذب عن مقدمات قياسه بان يمنع المقاومات، وعن نتيجة قياسه بان يمنع ما ينتج مقابلها.
فكما أم المجيب يتعرف مذهبه ليكون بحسب الإجابة دالا على وضعه الذي له، كذلك قد يتعرف ما دعاه إلى وضعه. فحينئذ لا يكون جوابه إلا بالحجة، وحينئذ لا تكون حجته مبنية على ما ياتيه من جهة تسليم خصمه، فإنه ليس داعيه إلى وضعه أمرا بحسب خصمه، بل بحسب نفه؛ لكن لخصمه - وهو السائل - أن يقاومه في المقدمات التي يشتمل عليها ما دعاه إلى وضعه، وأن يترك ذلك ويقبل على تأليف ما ينقض وضعه.
فالقياس الجدلي أعم من السائل الجدلي، وكلاهما يؤلف من الذائع المحمود؛ لكن أحدهما مما هو محمود بحسب الجمهور، والآخر مما هو محمود عند المخاطب. وكل محمود فهو مسلم من حيث هو محمود؛ لكن للمجيب خاصية مقاومة تنحو نحو أن لا نفعل، وللسائل خاصية مناقضة تنحو نحو أن يفعل. ولكل واحد منهما حيلة ومزاولة يتم بها فعله؛ لكن السائل غايته مضمنه في كونه قياسا، ومتوصلا إلى عمل القياس. فإنه إذا أمكنه الأمر العام له ولغيره، وهو اتخاذ القياس من المسلمات، فقد أمكنه القياس على مقابل الوضع. فإذا ذكر أن الجدل ملكة يقتدر بها على إيحاد مثل هذا القياس، دخل في ذلك الاقتدار حال السائل، وبقى حال المجيب من حيث هو مجيب، وإن كان لا يقيس. لأن المجيب ليس يلزمه من حيث هو مجيب، أن يكون قياسا. والسائل يلزمه من حيث هو سائل أن يكون قياسا.(2/38)
على أنا لا نمنع أن يكون المجيب قياسا، ولا نوجب أن يكون كل قياس إنما هو للسائل. فإذن في قولنا: " ملكة يقتدر بها على إيجاد القياس على النحو المذكور " قد فرغ عنه من حال السائل من حيث هو سائل، بل بقى علينا حال المجيب من حيث هو مجيب.
وحال المجيب، من حيث هو مجيب، الذب. والذب هو أن لا يسلم ما يتألف منه مقاومة مقدمة، أو لا يأتي بمقدمة منتقضة، أو لا يسلم ما يتألف منه ما ينتج نقيض وضعه. وبالجملة أن لا يؤخذ منه ما يؤدي إلى نقض شيء مما يتم به فعله. وهذا النقض إما نقض مقدمة قياسه تلك الكلية التي كأنها الأصل، بجزئي يخالفه، فتكون من الشكل الثالث. فلا يجب أن يسلم ما يمكن أن ينقض به مقدمته وهو لا يشعر، أو ينقض مقدمة قياسه بقياس لي على سبيل نقض بالجزئي، بل على سبيل إنتاج المقابل؛ لأنه ربما كانت المقدمة في قياسه جزئية، فلا تنقض بل أصلا بقياس. فلا يجب أن يسلم ما يؤلف على يؤلف على مقابل مقدمته، وإن لم يكن نقضا وهو لا يشعر، أو تنقض مذهبه بقياس يسدد نحو الوضع المقدمة؛ فلا يجب أن يسلم أيضاً ذلك.
وهذه ملكة مقابلة لملكة القياس السائلي إذ هذه ملكة فيما لا ينفعل، لا فيما يفعل.
فإذن هذا الرسم مطابق لما يدل عليه اسم الجدل؛ وهو أن تكون لنا قدرة على كمال الأمر في المخاطبة التي قوام أمرها على القياس الجدلي، بأن ينفذ عامله كما يؤثره السائل، أو يرد باطله كما يؤثره المجيب. فبالحقيقة والواجب ما زيد في رسمه فقيل: وأن نكون إذا أجبنا لم نأت بمتناقض. وهذه الملكة بالحقيقة صناعة من حيث قلنا، وقوة من حيث تعمل في متقابلين.
الفصل الرابع
فصل (د)
في إبانة ما غلط فيه قوم من أمر القياس الجدلي
وفي تعريف الموضع والمقدمة وأسباب الشهرة، وإعطاء السبب في تسمية هذا الكتاب بالمواضع.
قد ظن قوم أن القياسات الجدلية إنما هي قياسات جدلية بأن تكون موضوعاتها مقدمات أكثرية الصدق. وظن آخرون أن الصناعة الجدلية إنما هي صناعة جدلية بأنها تنتج الحق في أكثر الأمر. وهذه كلها ظنون فاسدة؛ فإن القياس الجدلي إنما هو قياس جدلي بأن مقدماته متسلمة أو مشهورة. وليس من شرط المشهور والمتسلم أن يكون لا محالة صادقا؛ بل كثيرا ما يسلم الباطل؛ وكثيرا ما يشتهر ما هو كذب؛ وكثيرا أيضاً ما يشتهر ما هو حق مطلق؛ وكيرا ما يكون الحق غير بيّن بنفسه في اعتبار البيان العقلي الأول، ويكون مشهورا. وليس يتفق أن لا تقع الشهرة إلا لما هو أكثري الصدق؛ أو الحق الصريح لا يكون مشتهرا.
وأما الظن الآخر، وهو أن الصناعة الجدلية إنما هي صناعة جدلية بأن أكثر قياساتها تنتج الحق، فهو تحديد للصناعة بأن أكثر أجزائها كذا. وهذا تحديد فاسد،بل الصناعة تُحد بما يجب أن يكون موجودا في كل أجزائها التامة.(2/39)
وإذا كانت الشهرة، أو التسليم، شرطا في مقدمات القياس، فيجب أن يوجد في كل قياس جدلي. ثم الشهرة لا تمنع أن تكون موجودة للباطل كما الحق، حتى تكون المقدمات المشهورة الحقة مساوية للمقدمات المشهورة الباطلة؛ بل إن اتفق تغليب لأحد الطرفين، فإنما يتفق اتفاقا لا وجوبا من حيث هو مشهور أو باطل. وإذا كان اتفاقا لم يكن معتمدا ولم يمتنع أن تكون أيضاً النتائج الحقة والباطلة يتفق لها أن تكون سواء. وإن كان لقائل أن يغلب النتائج الحقة على الباطلة، لأن الباطلة لا تنتج إلا عن الباطلة، وأما الحقة فقد تنتج عن الباطلة والحقة، فكان لنا أن نجيب فنقول: إن هذا أيضاً لا يوجب أن لا يغلب الباطلة بأن يتفق أن يكون عدد ما ينتج الباطلة بالفعل مع ذلك أكثر من عدد ما ينتج الحقة والباطلة معا بالفعل بمقدار لا يتكافأ، وإن كان عدد ما ينتج الحق من جهة أخرى أكثر، فإنه يمكن أن يقاس بضرب واحد على عدد كثير من الباطل، ويعطل جميع الضروب الأخر، فلا يقاس بها على حق أو باطل. إنما كان ما يقوله مصغى إليه لو كان عدد ما ينتجه كل ضرب من الحق أو الباطل مثل عدد الضرب الآخر، ثم أخرج جميع ذلك بالفعل، فكان حينئذ الحق أكثر. لكن هذا أمر لا يمكن ولا يكون، وإنما الممكن غير هذا. وفي الممكن أن يفرض أن الشهرة وقعت بحيث تنتج الحقات مثل ما تنتج البواطل فلا تكون نفس الشهرة بيّنا من أمرها أنها لا تقع كذلك؛ بل إن كان مانع فأمر آخر غير الشهرة، وإذا كان ذلك واقعا فتكون حينئذ الصناعة جدلية، وإن لم تكن تنتج في الأكثر الحق.
وأيضاً، إن كان هذا لا يقع البتة، قلنا أن نفرضه فرضا، كما نفرض فرضا ما لا يكون، ونجعل مقدما ما في الشرطية، فيقال: أرأيت أنه لو كان المشهورات لا تكون بهذه الصفة، لكان حينئذ لا تكون الصناعة المنتجة ممن المشهورات جدلا. فإن كان حينئذ لا تكون الصناعة المنتجة من المشهورات جدلا، وتكون الصناعة منتجة من المشهورات، فليس كونها صناعة منتجة من المشهورات كونها جدلا، بل تكون بذلك برهانية أو خطابية أو غير ذلك، فلا يكون هذا الرسم صحيحا لصناعة الجدل. وإنما تكون الصناعة الجدلية صناعة جدلية بشرط آخر.
لكن يجب أن لا تلتفت إلى هذه الأشياء، ولا تشتغل بحال كيفية الصدق والكذب في المقدمة ولا في النتيجة، بل تلتفت إلى أن تكون المقدمة متسلمة، والنتيجة لازمة عن متسلمات، وإلا فقد صعب على الجدلي أن ينظر في كل مقدمة هل هي أرجح يسيرا من المتساوي الصدق والكذب؛ ويحذر أن تكون صادقة في الكل فيكون في شغل، أو يكون إذا قاس قياسا منتجا للكذب، أو قدر على إنتاجه لا يكون جدليا، أو تكون هناك قياسات أكثر من ذلك بالعدد تنتج الصدق ويكون قادرا عليها، فيكون قياسه ذلك جدليا لا لأمر في نفسه، بل لأمر له بالقياس إلى قياسات أخرى في القوة.
وقد قال قوم: إن السائل يقوم مقام الفاعل؛ وأما المجيب من حيث هو مجيب، فإنه قائم مقام المنفعل، لنه يحاول أن لا ينفعل. وهذا من العجائب أن يصير قائما مقام المنفعل، لأن مائيته أن يكون محاولا لأن ينفعل. بل السائل سائل لأنه يحاول الفعل والمجيب مجيب بأنه يحاول مقابلة السائل بالفعل واللانفعال جميعا. أما الفعل فبأن يطلبه، وأما اللانفعال فبأن لا يقبله.(2/40)
وظن قوم أن الجدلي، وإن كان له أن يتكلم في كل مسألة حتى في مسألة طبية وطبيعية وغير ذلك، فإنما يجب عليه من حيث هو جدلي أن لا يتكلم من مبادئها، بل من المبادئ المشهورة المشتركة. وليس كذلك؛ بل يجب أن يقال أنه ليس يكون جدليا بأن يكون كلامه مقصورا على استعمال مبادئ تلك الصناعة بأعيانها، كما يكون كلام التعليمي مقصورا عليه؛ بل بأن له أن يستعمل المبادئ المشتركة أيضاً القريبة عن ذلك إذا كانت مشهورة، على أن يعلم أن له أن يستعمل المبادئ الخاصة بتلك الصناعة المشهورة فيما بين أهلها. بل التعليم الأول يكلف الجدلي أن يقتني الشعور بالمشهورات الخاصة عند أهل صناعة، كانت مبادئ أو كانت بعد المبادئ من المطالب التي أنتجوها من تلك المبادئ، فهي مشهورة فيما بينهم معلومة لديهم، وحتى أن الجمهور ربما شاركوهم في قبول تلك على سبيل التسليم والحمد. وربما كان أيضاً منها ما سبيل البرهان عليه بعيد، والقياس عليه من المشهورات مما لا يمكن، إلا أنه حين قبل واشتهر صار من المشهورات في أهل الصناعة؛ فللجدلي أن يستعمله من حيث هو مشهور، مثل كون الشمس أكبر من الأرض. وربما كان شيئا ليس عليه برهان، مثل كون زحل نجما؛ ومثله يستعمل في الجدل. فلا يجب أن تلتفت إلى ما يقال من خلاف هذا. بل ليس للجدلي أن يستعمل من أحكام صناعة ومبادئها ما لم يكن مشهورا إلا على سبيل التسليم من خصمه حين يسلمه ما هو غير مشهور، ولا أن يحاول النظر فيما يبعد عن أوائله مسافة مديدة، وكانت أوائله حقيقية أو ذائعة؛ إذ الجدلي لا ينفع بقياسات يقصر وقت تام للمخاطبة عن استيفائها مسرودة.
والكتاب الموضوع للجدل في التعليم الأول قد يسمى بكتاب المواضع.ومعنى الموضع حكم منفرد من شأنه أن تتشعب منه أحكام كثيرة تجعل كل واحد منها جزء قياس؛ مثل قول القائل: إنه إن كان الضد موجودا لشيء، فضده سيكون موجودا لضد الشيء. فهذا حكم مشهور. وليس غناؤه أن يستعمل في القياس على هذه الصفة؛ بل إن استعمل على هذه الصفة، فربما ضر؛ حينئذ يشعر بما يفسده وينقضه، إذ ربما يشعر عند تأمله بضد يكون لشيء، ومقابله ليس لضد الشيء، بل لمثله؛ كالبياض فإنه للجسم، وأيضاً فإن السواد له. وأما إذا استعمل جزئية مقدمة قياس، لم يشتغل بنقضه إلا بما لا يدخل في الجملة المذكورة من جزئياته التي هي جزئيات الكلى الأول. فربما لم توجد له مناقضة، ووجد لكليه مناقضة. وربما كان هو أقرب إلى الشهرة، فكان الكلى أمرا عقليا غير مشهور. فإن الأمور إذا رفعت إلى أحكام عامة كلية جدا بعدت عن الشهرة. فإنه إذا قيل مثلا: إن كان الإحسان إلى الأصدقاء صوابا، فالإساءة إلى العداء صواب، كان هذا في حد جزئيته قريبا من القبول. وإذا أريدت مناقضته، طلب جزئي تحت الإساءة إلى الأعداء، حتى يناقض به لو طلب شهرة مقابلة لهذا الجزئي فقط، حتى يناقض به، ولم يلتفت إلى أمور خارجة عنه في أكثر الأمر. وأما إذا أخذت المقدمة العامة المذكورة، فربما لم يفهم. فإن تصور الكلى جدا أبعد من العقول، وربما فهم بعسر وجهد، وكان وقوعه بالجهد والعسرة مما ينزه الحمد، كأن المحمودات والذائعة أمور سهلة التصور، وكأن سهولة التصديق تتبع في أكثر الأمر سهولة التصور، وكأن صعوبة التصور توجب صعوبة التصديق، فكان عب التصديق بعيدا عن الشهرة، حتى لو كان الشيء مشهورا. فتكلف تعويض العبارة عنه أورثه ذلك سوء الفهم، وأورث سوء الفهم نفور الطبع إباء للتصديق، فكأن التصديق والحمد زايلانه. وذلك لأن الحق حق بنفسه، والمشهور يكتسب الشهرة لأحوال تقرن به، منها سهولة انجذاب النفس إليه؛ فإن المنجذب إليه بسهولة يعرضه ذلك لسرعة تسليمه؛ وكان الإنسان الحسن البيان أقرب إلى أن نسلم له ما يقوله من غيره، وإن تشاركا في القول. كما أن الموثوق به، والمحتشم، والمحبوب، يسلم له الشيء الذي لو طالب بتسليمه غيره ممن يقابله، عووق ومونع؛ فإن التسليم والشهرة ليسا مبنيين على الحقيقة، بل على جسب مناسبتهما للذهان، وبحسب أصناف التخيل من الإنسان.(2/41)
فمن المشهورات ما يكون السبب في شهرته تعلق المصلحة العامة به، وإجماع أرباب الملل عليه، قد رآه متقدموهم ومتأخروهم، حتى إنها تبقى في الناس غير مستندة إلى أحد، وتصير شريعة غير مكتوبة، وتجري عليها التربية والتأديب؛ مثل قولهم: العدل يجب فعله، والكذب لا يجب قوله.
ومنها ما يكون السبب فيه الاستقراء.
ومنها ما يحمل عليه الحياء والخجل والرحمة والحشمة.
ومنها ما يحمل عليه مشاكلته للحق، ومخالفته إياه بما لا يحس به الجمهور، إذا لم يعاملوا بالمعاملة التي ذكرناها، مما ينبههم على طريقة امتحان المجهولات. وذلك نوع من قصد المعاندة والمناصبة. فربما كان الشيء يقبله الطبع إذا كان المصفى إليه ليس يصغي على نحو معاندة ومناصبة. ثم إذا تعصب، ونصب، وطلب وجه الخلاف، أحس بما له فيه أن لا يسلمه. وربما كان اسم مشترك سببا في شهرة الشيء.
وإذا كانت المشهورات صارت مشهورات بالانقياد والإذعان المبني على غير الوجوب الصرف، فله لا محالة أسباب تختلف بحسن موقعها ولطفه، وبسوء موقعها وعنفه. والأمر الشديد الكلية بعيد عن الذهن، سيشمئز عنه الذهن ولا يقبله، فيكون استعمال الجزئي من الموضع مقدمة نافعا محمودا، واستعمال الكلى مقدمة أمرا بعيدا عن الذهن؛ وإذا استعمل وجدت المناقضات له كثيرة، أكثر مما توجد للجزئي. فإن ما ينقض الجزئي ينقضه، أعني الكلى، وسيوجد له ما يخصه.
وربما نبه هو على طلب مناقضة لا ينبه له الجزئي؛ فإن القائل: " إن كان الإحسان إلى الأصدقاء صوابا، فالإساءة إلى الأعداء صواب " ، فلما يفطن له خصمه أن ينقض كلامه، بأن يقول: " ليس إذا كان الضد لشيء، وجب أن يكون ضده لضد ذلك الشيء " . وإن فطن أيضاً، لم يضره؛ فإن ذلك يقول: أنا لم أقل إن كل ضد لشيء يجب أن يكون ضده في ضده، بل إنما قلت ما قلت في أمر جزئي. وليس إذا وجب قبول ليس إذا كان الزوج والفرد لا يتعاقبان على موضوع واحد، وكان ذلك حقا أو مشهورا، أوجب أن يكون مثل ذلك حقا ومشهورا في كل متضادين أو متقابلين. فأما إذا بدأ ووضع الكلى، لزمه النقض حين استعمله، وحين جعل الإحسان والإساءة مستنبطا من حكمه، وصرح به، واعترف به. فإن استنبط ذلك الحكم في نفسه من هذا الحكم، نفعه الاستنباط فيه وفي غيره، وخصوصا إذا لم يشهره مصرحا به.
وأخص من ذلك إذا لم يوجد ما يقاوم به الجزئي فسلم. فإن العامة ومن يجري مجراهم، إذا فهمت شيئا، ووجدوا له أمثلة، ولم يجدوا مثالا ينقضه، سلموه في أكثر الأمر كأنه حكم واجب، ويكون الكلى الذي هو الموضع قانونا معدا له. فأما إذا استعمله بالفعل عرضه للإبطال، وعرض بيانه المؤلف منه للإبطال.
على أني لا أمنع أن يكون موضع من شأنه أن يصير مقدمة أو يستعمل مقدمة، بل أقول كثير من المقدمات المشهورة فهي مواضع فقط لا يحسن استعمالها مقدمات قياس، مثل أن طرفي النقيض لا يجتمعان، وأن الكلى الموجب ينعكس جزئيا موجبا، ومنها ما يحسن أن يكون موضعا ومقدمة، فيكون نافعا في أنه قانون، ونافعا في أنه جزء قياس معا وذلك مثل المثل الذي ضربناه. وكثير منها لا يصلح أن يجعل قانونا على سبيل الكلية، بل على سبيل التمثيل؛ وذلك لا يسمى موضعا. بل الموضع ما يولد الجزئيات من حيث يعمها، ومن حيث ينزل إليها حكمه. وهذا وإن اتفق أن كان حكم موضعا ومقدمة، فهو موضع من جهة؛ ومقدمة من جهة. أما موضع، فمن حيث يستعمل على انه قانون، وأما مقدمة فمن حيث يستعمل جزء قياس.
ولست أستحسن ما يقال من أن الموضع مقدمة هي كذا وكذا، إذ كانت المقدمة إنما هي مقدمة لأنها جزء قياس، وكان الموضع إنما هو موضع لأنه ليس جزء قياس. وإذا كان الشيء الواحد يصلح أن يحفظ قانونا يولد منه أجزاء القياس ويصلح أن يكون نفسه جزء قياس فهو شيء واحد يصلح أن يكون موضعا ومقدمة. وليس من حيث هو موضوع مقدمة فلا يجب أن يؤخذ مونه مقدمة في حد كونه موضعا. ولو قيل بدل المقدمة قضية كان أقرب إلى الصواب.(2/42)
ويشبه أن يكون الموضع إنما سمى موضعا لأنه جهة قصد للذهن، معتبر، معتد به. وكما أن الموضع المكاني يقال عموما على كل مكان معين، ويقال خصوصا على الموضع الذي له خاص حكم يعتد به، حتى يقال: إنه لموضع أمن وإنه لموضع خوف؛ كذلك قد يخص ما يهم التفات الذهن إليه موضعا فيقال: إن هنا موضع بحث وموضع نظر، فكان الحكم النافع على سبيل القانون موضع انتفاع، وموضع اعتبار وحفظ.
وهذا الكتاب ليس كله نظرا في المواضع، بل ذلك أكثر أجزائه. وفيه نظر يتقدم المواضع، ونظر يتأخر عن المواضع، لكن عمدة ما فيه وأكثره هو الموضع. وسائر ذلك إنما يقال في كيفية اكتساب الموضع، أو في كيفية استعمال الموضوع. وقد يسمى الكتاب باسم الغالب من أجزائه، أخذا من مقدار الكتاب، واستيلاء على غرض الكتاب.
الفصل الخامس
فصل (ه)
في التفريق بين القياسات الجدلية وقياسات أخرى كلية
النتائج تشبهها والكلام الجامع لمنافع الجدل
أما القياس المطلق فقد تحققته، والصنف البرهاني منه أيضاً فقد تصورته وأما الجدلي فقد عرفناه بالجملة ما هو، وأنه كيف يخالف البرهاني؛ فإن البرهاني مقدماته من أوائل في العقل، أو بينة عن الأوائل، والجدلي عن المشهورات. والحق ينظر إليه في نفسه، والشهرة ينظر إليها من حيث التعارف لتسليمه. فمنه المشهور والمطلق الذي يسلمه الجمهور، ومنه ما هو مسلم عند أكثرهم، مثل أن الله واحد. ومنه ما هو مشهور محمود عند الفلاسفة والعلماء منهم مثل المشهور عند الحكماء، هو أن الجميل أفضل من اللذيذ، ومنه ما هو فاضل منهم؛ كما هو مشهور محمود عند أصحاب التعليم الأول من أن الفلك طبيعة خامسة.
وهذه المشهورة بحسب عدة من الحكماء، أو واحد منهم، إذا كان مضادا لما عليه المشهور المطلق عند الجمهور ومستشنعا، لا ينتفع به في القياسات الجدلية المطلقة. فإن القياسات الجدلية منها ما هي مطلقة يخاطب بها المجهور وأكثر من يجري مجراهم، ومنها ما يخاطب به صاحب رأي خاص.
ولما كانت القياسات الخطابية والشعرية خارجة عن الانتفاع بها في المخاطبات التي تنحو نحو الأمور الكلية فليس بنا كثير حاجة إلى الفرق بين الجدلية وبينها؛ ولكن اللواتي تشبه الجدل من المقاييس هي البرهانية؛ وقد عرفت الفرق بينهما. وبعد البرهانية المقاييس الأربعة التي يسمى بعضها مشاغبية مرائية، وبعضها سوفسطائية، وبعضها عنادية، وبعضها امتحانية؛ وقد عرفتها. لكن المشاغبية لا تخالف العنادية إلا بالقصد والغرض. فأما في مادة القياس وصورته فحكمها واحد. وكذلك السوفسطائية لا تخالف الامتحانية إلا بالقصد والغرض.
والمشاغبية هي إما من جهة المادة، وذلك أن تكون المقدمات ليست مشهورة على الحقيقة ولكنها مشهورة على الظاهر البادي الغير المتعقب أو مشبه بالمشهور. فهذا إذا كانت صورته منتجة صلح أن يقال له قياس، لأنه قول إذا وضعت فيه أشياء لزم عنها قول آخر. لكنك لست تضع، أو ليس الجمهور يضعونه. وفرق بين أن تقول: " إذا وضعت " وبين أن تقول موضوع، ووضعت. وأما من جهة الصورة فغن يكون القياس غير منتج، لكن المقدمات مشهورة. والقياس يشبه القياس من مشهورات أو ليس قياسا ولا من مشهورات؛ وهذان لا يسميان قياسين لأنه ليس لهما حد القياس، لأنك لو وضعت ما بينهما لم يلزم عنهما غيرهما. ولكن لا يجوز أن يسميا قياسين مرائيين أي قياسين لا في أنفسهما بل عند المماري؛ كما يقال سفينة حجر، ولا يقال سفينة؛ لأنه لا تكون سفينة من حجر. ولكن إذا قيل هذا اللفظ فهم أنه ليس يعني أنه سفينة بالحقيقة، بل يعني أنه مشابه بوجه ما للسفينة وإن لم يكن من حيث هو سفينة.
فهذه الأنواع من القياس، أعني المشبهة بالقياسات الجدلية، إذا كانت الغاية فيها نفس الغلبة فقط، لا لأنها غلبة بل ليظهر عجز المدعى لما ليس فيه، سميت عنادية، وإذا استعملها المغالطون ليوقعوا الغلط، سميت مشاغبية. وإذا استعملها الحكماء ليستوضحوا محل المدعى الكاذب، سميت امتحانية.(2/43)
والصناعة الجدلية قد تشاركها الامتحانية والعنادية في الموضوع. وذلك لأن الامتحانية والعنادية في المشهورات، لكنه لما كان مستعملها في مخاطبات علمية وليست المشهورات معدة لها، فهو يستعملها على أنها مشبهة بالصادقة. فلذلك فارقت الجدل من حيث الغاية؛ إذ استعمال المشهورات في العلوم مغالطة، ولكنها تفارق السوفسطائية أيضاً في الغرض والغاية.
والمقدمة الشبيهة بالمشهورة هي التي يخيل وقتا ما أنها مشهورة، ثم إذا تُعُقبت وتُؤُملت ظهر سريعا أنها ليست كذلك فأما التي تبقى بحالها مشهورة، ولا يظهر عن قريب أنها ليست بمشهورة، بل يرى أنها مشهورة، فإنها بالحقيقة مشهورة؛ إذ كان المشهور ليس هو الصدق، بل قبول الأنفس له.
وأما ظهور حال ما ليس بمشهور فهو على أحد نوعين: أحدهما ببيان الكذب فيه عن قريب، والثاني ببيان عدم الشهرة فيه عن قريب. أما بيان الكذب، فلأن المشهور وإن جاز أن يكون كاذبا، فلا يجوز أن يكون شديد ظهور الكذب؛ فإنه إذا كان ظاهر الكذب لم يقبل، وإذا لم يقبل لم يشتهر؛ بل المشهور الكاذب يجب أن يكون خفي الكذب حتى تستمر شهرته.
وأما بيان عدم الشهرة، فإنه وإن كانت المقدمة صادقة، لكنها ليست مشهورة، وأخذت على أنها مشهورة، ولم يكن التعقب يثبت عليها الشهرة، لم ينتفع بها في الجدل، وكانت مغالطة، وكانت كالكاذبة. والتي تكون مع ذلك كاذبة أبعد من النفع.
وأما القسم الثاني من القياسات المشبهة، وهي المخصوصة باسم السوفسطائي، فنسبتها من حيث المادة إلى القياس البرهاني نسبة البرهاني المماري إلى الجدلي. فكما أن المماري إنما كان مماريا لأن ظاهره هو أن مقدماته مشهورة من مبادئ الجدل، وباطنه هو أنها ليست كذلك، بل مقدماته غير مشهورة في الحقيقة، ولا هي مبادئ قياس جدلي في الحقيقة كذلك المغالطي المذكور ظاهره أن مقدماته صادقة، وصحيحة، ومناسبة للصناعة التي فيها المطلوب مناسبة المقدمات البرهانية. على أن تلك المقدمات إما مبادئ تلك الصناعة، أو أشياء تبين بمبادئتلك الصناعة من شأنها أن تعود فتصير مبادئ قياسات، بعد ما كانت مطلوبة وباطنة ليس طذلك. ومادة هذا القياس تعم الأمرين جميعا: أعني التظاهر بما هو صادق ومبدأ للصناعة ليس فيها بمطلوب؛ والتظاهر بما هو ظاهر مما هو نتيجة، ويصلح أن يصير مبدأ. فكذا يجب أن تعلم هذا الموضع، ولا تلتفت إلى ما يقال.
فإذا كان الظاهر فيها هكذا، والحقيقة مخالفة لذلك بأن يكون مقدمة أو مقدمات من القياس ليست صادقة، ولا مبنية على الأصول في الحقيقة، واستعملت على أنها كذلك؛ ثم كان غرض القياس التضليل والإيهام أن ما ينتجه حق يلزم قبوله، وأنه منتج عن حق، فإن ذلك القياس سوفسطائي. وإن لم يكن كذلك، بل كان الغرض فيه اختيار المخاطب لندري منزلته في تمييز المشتبه عن الحقيقي، كان القياس امتحانيا.
وهذا القياس يخالف البرهان بأن البرهان أصل وحق، وهذا مشبه به. ويخالف الجدلي، بأن الجدلي لا يأخذ المقدمات مدعى فيها أنها حق في نفس المر، بل حق من جهة الشهرة؛ ولا يأخذها على أنها مناسبة للمبادئ، وهذا يأخذها على أنها حق في نفس الأمر غير ملتفت إلى ذلك للشهرة، وأنها مناسبة. فلو أخذ للشهرة وكان مشهورا، كان جدليا. فإن أخذ المقدمة المشهورة على أنها مشهورة جدلي، وأخذ المشهورة على أنها حقيقية في نفس الأمر يتوخى بها التعليم، فهو مغالطي سوفسطائي.
ويخالف القياس المشاغبي بأنه ليس يأخذ مقدماته على أنها مشهورة أو متسلمة ويكذب فيها، بل لأنه يأخذها على أنها حقة ويكذب فيها. وإذا وقع للإنسان هذا مع نفسه فغلط، لم يخرج من أن يكون فيها قياسا مغالطيا، كما إذا وقع الحق للإنسان مع نفسه لم يخرج قياسه من أن يكون تعليميا. بل كما أنه ينزل من نفسه بحسب اعتبارين؛ أن يكون معلما ومتعلما، فكذلك قد ينزل من نفسه بحسب اعتبارين: أن يكون مغالطا ومغالطا. وهذا هو مثل ما عمله بعضهم في تربيع الدائرة، إذ أخذ شكلا هلاليا فوجده مساويا للمربع، فحكم أن الدائرة تنقسم إلى الهلاليات. وكما بين بعضهم بنصفي الدائرتين وقع فيهما المركز على موضعه أن خطأ من مثلث مساو للآخرين أو أزيد؛ وهذا شيء معروف.(2/44)
ولا يجب أن يظن أن هذا القياس يخالف الجدلي والمشاغبي بأن الجدلي لا يكون إلا من المشتركات دون المبادئ الخاصية؛ وإن المشاغبي يتشبه بالمشتركات، وهذا يتشبه بالمبادئ الخاصية لجنس من العلوم؛ فإنا أومأنا قبل إلى أن هذا هذر.
ولا تُصغ إلى من يقول: إن نسبة القياس الامتحاني إلى البرهاني، كالمشاغبي إلى الجدلي؛ فإن ذلك لهذا القياس ليس من حيث هو امتحاني، بل من حيث هو سوفسطائي.
فأصناف القياسات التي نحو الأمور الكلية هي هذه المذكورة على طريق التمثيل والتعريف للأمر الكلى فيها. وأما التفصيل فقد عرفت تفصيل البرهانيات وستعرف الأقسام الأخر في مواضع أخر. وإنما علينا أن نحاول في مأخذنا هذا تفصيل الجدلي.
وإذ أوضحنا الحال في القياس الجدلي أنه ما هو، وبماذا يخالف به غيره، فيجب علينا أن نجمع جوامع ما أشرنا إليه من منافع تعليم صناعة الجدل، فنقول: أول ذلك أنا إذا حصلنا المواضع التي منها تستنبط الحجج على كل مطلوب، والآلات التي بها يتوصل إلى استنباطها، وعرفنا كيفية استعمالها، كنا مرتاضين متخرجين.
ومعنى الارتياض التمكن من تكثير أفعال جنس واحد وتحسينه. فأما التكثير، فبأن تكون مواضع استنباط الحجة لنا معلومة معدة، فلا يكون حالنا كحال من يحتاج أن يتوكل على الخاطر والحس. وأما التحسين فيما يتعلمه من القوانين في جودة استعمال تلك الأفعال فيكون هذا لنا إما رياضة، إن كان هذا القدر رياضة؛ وإما شيئا ممكنا من الرياضة، إن كانت الرياضة تتم بملكة تحصل من التصرف في الموجود لنا من ذلك. فإنه ليس المرتاض بالرمي من يحصل عنده ما يجب أن يستعمله في الرمي، وأن يعلم وجه التحسين في ذلك علما فقط،لكنه لم يتمرن به عملا. فهذه منفعة.
وأما منفعته في المناظرة - فقد عرفت من قبل ما المناظرة، وبماذا تخالف المجادلة - فلأنه إذا كانت لنا قدرة على إيجاد القياس على كل مطلوب، كانت لنا قدرة على إيجاد القياس على الشيء وعلى مقابله. وإذا تفاوض اثنان على سبيل التنازع والتشارك معا - أما التنازع ففي العمل، وأما التشارك ففي الغاية 0 فكان كل يتطلب على قياس الآخر موضع الآخر، لم يلبث أن يستبين الحق لهما فيما بينهما.
وكما أن الإنسان يكون معلما ومتعلما من وجهين، فيجوز أن يكون مناظرا ومناظرا فغن منفعة المناظرة قد تحصل للواحد مع نفسه، ومنفعة الإلزام والغلبة لا تحصل له مع نفسه. فلهذا لا يجوز أن يكون الإنسان الواحد مجادلا ومجادلا، ويجوز أن يكون مناظرا ومناظرا. فلهذا ليست المجادلة مناظرة. ومن البيّن أنا إذا قلنا: إن صناعة الجدل تنفع في المناظرة، لم يكن كأنا قلنا: إنها تنفع في المجادلة؛ فلا يكون التشنيع الذي يحاوله بعض الخارجين بشيء؛ فيكون هذات قسما مفردا من منافعه.
والمنفعة الثالثة هي نفس المنفعة المقصودة في الجدل في أنه جدل نافع،وذلك في إشعار الجمهور العاجزين عن الإصغاء إلى البرهان آراء موافقة لهم، على ما بيناه من قبل.
والمنفعة الرابعة كالجزئي لهذه المنفعة، أو كالمناسب له، وهو منفعته في إقناع المتعلم ليعتقد مبادئ علمه.
ولا تلتفت إلى ما يقال: إنه لما كانت المبادئ للعلوم لا مبادئ لها، فلا قياسات من مقدمات حقيقية صادقة برهانية عليها، فلابد من أن نقيس عليها من مقدمات مشهورة. فإنه ليس تقع الصناعة الجدلية في ذلك من هذه الجهة. فإن المبادئ التي للعلوم إن كانت بيّنة بأنفسها، لم تضطر المتعلم إلى قياسات جدلية تبينها؛ فإن البينات بأنفسها أوضح من الجدليات، وإن كانت إنما تبين بالحس والتجربة، فلا يضطر المعلم أيضاً إلى تكلف قياس جدلي، بل يفزع فيه إلى الحس، والتجربة وشهادة الثبات. وإن كان ليس بينا، لكنه مع ذلك قريب من البين، فإما أن يكون قربه من البين بأن التنبيه اليسير يوقف عليه، فيجب أن ننبه عليه من غير قياس - وقد علمت الفرق بين التنبيه وبين القياس. وإن كان قربه من البين على سبيل أن مقدمات قريبة من الأوائل تنتجه، فله إذن مباد لا محالة، وعليه قياس صادق، إما في ذلك العلم، وإما في علم آخر.(2/45)
وليس الأمر على ما قالوا: من أنه لا قياس صادق عليه أصلا، فيحتاج إلى المشهور وإن كان مما ليس يستبين أصلا استبانة توقع الثقة به، والاعتقاد له؛ فما يدرينا أنه صادق؟ وكيف تكون لنا ثقة بما يبنى عليه؟ أما معونة الجدلي، فأن يبلغ إفادة فيه، فإن كان لا سبيل إلى معونته، فيكون قصارى علمنا بمبادئ العلوم قناعة، كأنا لا نجد سبيلا إلى تصديقها. وبالحقيقة ليس من هذا يبنى؛ بل هذه المبادئ هي المبادئ التي ليست بينة بأنفسها، ولها بيان، وعليها برهان؛ لكن ذلك في علم آخر. فأما في العلم الذي هي مبادئ له، فكما منها هو مبدأ أول له؛ فكيف يكون له فيه برهان؟ وإلا لكان له مبدأ آخر في ذلك العلم، فكان هو في ذلك العلم مطلوبا لا مبدأ؛ فيكون مع الجدل ينفع من هذه الجهة من حيث يقنع المتعلم من المشهورات الذائعة المشتركة، لتكون نفسه غير مشمئزة عن البناء عليه.
وقد جرت العادة في الأمثلة الموردة لهذا الموضع أن تورد قياسات عملت لإثبات مبادئ العلوم، ولتكن مبادئ للهندسة مثلا. فإذ أنها، وهي القياسات الحقيقية، الإنتاج لها، التي هي من صناعة الفلسفة الأولى - ولا تجد واحدة منها من مقدمة مشهورة غير صادقة، أو أكثرية كما يقولونه غير كلية - فإنك تجد اعتمادها على الصوادق. فهؤلاء قد وجدوا قياسات على المبادئ من مقدمات صادقة من الأوائل الأولى، ومع ذلك يقولون: لا نجد ذلك. ومع ذلك فما استعملوا فيها المشهورات من حيث هي مشهورة مشتركة، بل من حيث هي خاصة، وقالوا: إنا استعملناه من حيث هي مشتركة. فمن أحب أن يعلم ذلك تأمل شروحهم.
ثم صناعة الجدل ليست تحصل صناعة جدل - كما علمت - بأن يكون الجدل قادرا على إقناع كل مخاطب، بل بأن يفيد صاحبها قدرة على الإتيان بما يمكن في إثبات ما يحاول إثباته، أو إبطال ما يحاول إبطاله، حتى لا يكون التقصير وقع من جهته، حتى لا يقال: إنه لو قال كذا لكان الإقناع يحصل، وإذا قال كذا قصر عن الإقناع.
وليس ذلك أيضاً في كل شيء، بل في أكثر الأشياء؛ كالطبيب، فإن كونه طبيبا هو أن تكون عنده ملكة بفعل ما ينبغي أن يفعله في حفظ الصحة، ودفع المرض، حتى لا يقال: إنه كان ينبغي أن يفعل كذا، أولا ينبغي أن يفعل كذا؛ ثم إن لم ينجع علاجه فما عليه. وكذلك الخطيب.
الفصل السادس
فصل (و)
في الأجزاء الأولى للمقاييس الجدلية
وهي الجنس والحد والخاصة والنوع والعرض
فيجب أن ننظر أن هذه الصناعة من أي الأجزاء تتقوم. وأول ما يجب أن ننظر فيه هو أبسط أجزائها؛ ثم نتدرج فننظر في التركيب الذي يليه؛ ثم ننظر في التركيب الثالث الذي يليه. وجميع ذلك لا من جهة الصورة، بل من جهة المادة. وأبسط أجزائها الأمور المفردة التي تؤلف منها المقدمات التي منها تؤلف قياساتها. وهذه تكون حدود المقدمات لا محالة؛ وذلك لأن القياسات الجدلية كسائر القياسات إنما تتم من مسائل عن مقدمات منها القياس، وتتوجه نحو نتيجة عليها القياس. لكنها تفارق التعليمات بأنها مبنية على المسائل، وتلك ليست مبنية على المسائل، بل على ما يتعين من طرفي النقيض بتعيين الحق.
وليست المسائل بالموضوع، إلا المقدمات؛ فإن المقدمات في القياس الجدلي السائلي تؤخذ بالطلب من المجيب، فتكون أولا مسائل؛ على ما علمت. ثم إذا تسلمت صارت مقدمات، فيكون القياس مبنيا على المسائل، ومؤلفا من المقدمات. أما مبنيا على المسائل، فلأن المسألة من حيث هي مسألة لا تكون جزء قياس، ولكن تكون أصلا يبنى عليه القياس. وإذا صارت مقدمة، كان منها القياس، لأنهل جزء قياس. فالمقدمة قضية، كما أن النتيجة قضية، وكما أن المسألة قضية. إلا أن القضية إذا كانت مقصودة بالقياس العلمي سميت مطلوبا؛ وإن كانت مقصودة بالقياس الجدلي سميت وضعا. وذلك لأن المطلوب هو ما يطلب ليظفر به، فتحصل منه نفسه فائدة؛ وإنما تحصل منه الفائدة من حيث هو حق. وأما إذا طلب بالإثبات أو الإبطال لا من حيث الحق، فهي وضع ما، ودعوى يراد إثباته. فافهم من الوضع ما يشبه المفهوم من الدعوى.
وإذا كانت القضية مقرونة بمقابلها، مقرونا بهما حرف الاستفهام، أو مأخوذة وحدها، مقرونا بها حرف الاستفهام، سميت مسألة. فهذه الثلاثة موضوعها واحد، وما يتقوم موضوعها واحد، ويختلف الاعتبار.(2/46)
فإن كانت المقدمة الجدلية ليست شخصية، فلا يجوز أن يكون المحمول فيها نوعا؛ لأن النوع إما أن يجعل محمولا على الشخص، أو على صنف تحته، فيكون حينئذ ليس نوعا للصنف، بل نسبته إليه نسبة اللوازم، كما علمت. فيكون حمل النوع من حيث هو نوع ليس بجنس، ولا شيء من اللوازم مخصوصا بوضع الشخص له. فلهذا القبيل، لا لما يطول فيه قوم، لا يؤخذ النوع في المحمولات الجدلية، بل الأولى أن يكون النوع مأخوذا في موضوعات الجدل.
ثم لا يخلو إما أن يكون المحمول مقوما ذاتيا، مقولا من طريق ما هو - لست أقول في جواب ما هو، إذ المقول من طريق ما هو كما علمت أعم - أو لا يكون. فإن كان ذاتيا، فغما أن يكون دالا على جزء من الذات، أو دالا على حقيقة معنى الذات. فإن كان دالا على حقيقة الذات فهو الحد، أو اسم مرادف. والاسم المرادف لا فائدة فيه، وليس هو بمحمول بالحقيقة، فبقى أن يكون الحد. وإن كان جزءا دالا على جزء من معنى الذات، فكله يسمى في هذا الكتاب جنسا، إذ كله مشترك في أنه مقول على كثيرين مختلفين بالنوع من طريق ما هو، كالحيوان للإنسان، وكالحساس له، فإن الحيوان مقول على الإنسان. وإن الحيوان مقول على الإنسان. وإن كان الإنسان مأخوذا وحده من طريق ما هو، وإن لم يكن في جواب ما هو، فإنه لا يلزم في هذا الكتاب مناقضة بفصل الجنس، وجميع ما أوردناه في الفن الأول، لأنه لا يفرق في هذه القسمة في هذا الكتاب بين الجنس والفصل، ولا أورد ما سميناه هناك جنسا على أنه شيء مباين للفصل، بل أخذ المعنى العام لهما وسمى جنسا. هكذا فعل المعلم الأول. وإذا كان كذلك، كان الجنس المحدود هاهنا أعم من الجنس والفصل المحدودين هناك، أو تكون القسمة ناقصة، والقضية كاذبة.
لكن الجنس والفصل معا مقولان من طريق ما هو - كما علمت - ويصلح أن يجاب بهما إذا سئل عن الشيء ما هو. على أن الجواب لا يتم بكل واحد منهما. ولا أحتاج أن أزيدك بيانا لهذا، فقد سلف. فإذن رسم هذا الجنس بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو. وأنت تعلم أن الفصل لم يكن في حدودهم يخالف الجنس من جهة المقول على أنواع مختلفة، بل أنه من جهة أنه كان من طريق ما هو، فإذا كان من شأن الفصل، وأنه - كما صرح به في التعليم الأول حين علم البرهان - صالح أن يكون في جواب ما هو، فقد شارك الجنس في هذا الحد. فإذا كان حد الجنس هذا دخل فيه الفصل، ولم يمنع ذلك أن يكون هو مقولا في جواب أي شيء هو، من حيث هو مقسم، كما هو مقول في جواب ما هو، من حيث هو مقوم. ثم يكون الجنس الذي يباين الفصل بيانه بأنه ليس يصلح أن يقال في جواب أي شيء هو قولا أوليا. وأما الجنس المأخوذ هاهنا فهو أمر أعم من الأمرين.
وتبقى هاهنا في الفصول المساوية للأنواع الخيرة، فإن هذا الحد لا يقال عليها؛ وهذه القسمة لا تخرجها، فتكون القسمة كاذبة، فنقول: إنا إذا أخذنا في المقول في هذه الأشياء المقول بالفعل، تعسر وتعذر؛ وقد عرفت هذا فيما سلف. فيجب أن تأخذ المقول الذي من شأن تصوره أن لا يمنع إيقاع الشركة فيه. وإن منعه، فإنما يمنعه لمعنى زائد عليه، فإنه بهذا يكون كلبا، وكما علمت من أمر الشمس والقمر، وغير ذلك فيما سلف. ثم قد علمت أن الفصول كيف هي، وأنها زوائد تلحق الجناس لا تدخل في تقويمها؛ فنفس تصور الفصل كالناطق لا يمنع أن يوقع خارجا عن الجنس، كما نفس تصور الشمس لا يمنع أن يوقع على غير الشخص المشار إليه وخارجا عنه. فإن معنى الناطق - كما علمت - شيء غير معين له قوة كذا وكذا؛ فلا يمنع الذهن أن يكون هذا المعنى مقولا على جسم ليس حس وتغذ، وحركة بإرادة، وبالجملة ليس له حد الحيوان، كما يقوله قوم في الأجرام السماوية. بل إنما يمنع هذا - إن منعه - أمر من خارج. فإذا كان كذلك، فهو في مجرد طباعه مقول في القوة، ممنوع من ذلك بأسباب أخرى ليس نفس كونه ناطقا. كما أن المتصور من الشمس صورة كلية في نفسها، مقولة على كثيرين، ولكنها ممنوعة لأسباب غير نفس تصورها. وليست هذه القوة بحسب الموجود، بل بحسب التصور في الذهن. فإذا اعتبرت هذا الاعتبار سلم حد الفصل، بل جرى على الواجب الأوجب.(2/47)
وإنما أخرنا هذا البيان في الفن الأول، لأن مقدم ذلك الفن لم يكن ممن يذهب هذا المذهب، وأن حيث نحاذي فيه التعليم الأول، فيجب علينا أن ننبه على الصواب الذي كان القصد متجها عليه ليزول التشكك، وتنحل الشبهة.
هذا، وأما العرضيات فإما أن تكون خاصة بالشيء مساوية له، وإما أن لا تكون ويسمى جميع ما ليس خاصة مساوية في هذا الكتاب عرضا عاما، وإن كان لا يوجد مثلا في نوع غير النوع الواحد إذا لم تعم أشخاصه. وقد علمت أن هذا العرض نعني به ما نعني بالعرض المقابل للجوهر بوجه ما؛ وهذا أمر قد بان لك فيما سلف. فهذا العرض هو عرض غير مساو. ولم يكن هذا العرض الذي في " إيساغوجي " ، وإن كان، فلم نذهب إليه في تعليمنا إياك هناك. ولا نمنعك أن تجعل القسمة هناك على هذا القبيل، وقد أومانا إلى ذلك هناك. وإذا وقعت قسمتك على هذه الصفة، فقد حصلت المحمولات أربعة لا غير: حدا، وجنسا، وخاصة، وعرضا. فإذن كل إثبات وإبطال في المطالب؛ فغنما يتوجه إلى أحد هذه.
فأما الحد فهو قول دال على ما به الشيء هو ما هو. وقد تحققت هذا فيما سلف؛ وعلمت مما تحققته أنه لا يلزم عليه قول من قال: إن حد الجنس إذا كان محمولا في مقدمة لم يكن حد للموضوع، وكان قولا، إذ كان مفصلا، وكان دالا على ما هو الشيء.
على أن قوما قالوا: إن قولنا " دال على ما هو " غير قولنا " دال على ما به الشيء هو ما هو " ؛ فإن الجنس دال على ما هو؛ وأما على ما به الشيء هو ما هو، فليس دالا؛ إذ ليس يدل على كمال ماهية الشيء؛ وعلى فصله الذي هو به ما هو؛ فإن كان هذا حقا، فسيكون قول الجنس على هذا المذهب ليس دالا على ما به الشيء هو ما هو. إلا أني كلما أردت، بل واجتهدت أن أعلم ما الفرق بين طلب ما هو، وبين طلب ما به الشيء هو ما هو، حتى أجد الفرق بين ما يصلح لجواب هذا، وبين ما يصلح لجواب ذلك، تعذر على كل التعذر، ورأيت هذا الكلام نوعا من التكلف.
وأما اعتراض من يعترض: إنكم بقولكم هذا قد حددتم الحد، ولو كان للحد حد، لوجب أن يكون لحد الحد حد آخر؛ ويتسلسل الأمر إلى غير النهاية. فقد أجيب عن ذلك بقول لست أقنع به؛ وهو أنهم قالوا: إنا حددنا الحد المطلق دخل فيه الحد نفسه، فلم نحتج أن نحد مرة أخرى.(2/48)
وأما أنا فأقول: ليس حدي للحد المطلق، هو حدي لحد الحد بالفعل؛ إذ ليس الحد المطلق هو حد الحد، وإن كان حدي للحد المطلق حدا مني بالقوة لحد الحد، إذ حد الحد حد، لكنه ليس بالفعل. وإن كان حدي للحد المطلق حدا مني بالقوة لحد الحد، إذ حد الحد حد، لكنه ليس بالفعل. فإن حد حد الحد ليس هو قولا دالا على الماهية كيف كان، بل قولا دالا على ماهية الحد. كما أن حد حد الإنسان ليس أنه قول دال على الماهية كيف كان؛ بل إنه قول على ماهية الإنسان. لكني إذا علمت حد الحد، قد يسهل على بذلك أن أحد حد الحد؛ لأن حد حد الحد لفظ مؤلف من جزأين كل واحد منهما حد. فإذا حصل لي حد أحد الجزأين، حصل لي حد الجزء الآخر، فحصل لي حد الجملة؛ لأنه مؤلف من حد الجزأين. فكان يجب أن يقولوا: إن إعطاءنا حد الحد المطلق يسهل السبيل إلى ذلك، لا أن يقولوا: إن ذلك نفس إعطائنا لحد الحد، ظنا منهم أنه يجب أن يتحرزوا عن وقوع ذلك إلى غير النهاية، وأنهم إذا قالوا ما قالوا فهو الذي يتخلصون به عن الذهاب إلى غير النهاية. وليس يلزمهم ذلك حتى يطلبوا التخلص منه؛ بل يجب أن يقولوا للقائل: " إنه إن كان للحد حد، فيكون لحد الحد حد " أن هذه المقدمة إذا عنيت بها أنه إذا حد الحد بالفعل حتى حصل قول يدل على ماهية الشيء، كان لحد ذلك الحد حد بالفعل مرة أخرى أيضاً مفروغ منه، فلا نسلم هذا لك فإنا إنما حددنا شيئا واحدا بالفعل. وغن عنيت أنه يلزمنا أن ذلك أيضاً، فليس يلزمنا أن نحد شيئا، بل إن شئنا فعلنا؛ وإن شئنا لم نفعل. بل كثير من الأشياء يسهل علينا تحديده فلا نحده. ولو كنا نحد شيء لكان ما يقولونه كاللازم؛ ولكنا نحتاج أن نحد الحد ثم حد الحد، وكذلك حتى نذهب إلى غير النهاية. بل إذا صرنا بحيث يمكننا إن شئنا أن نحد بقانون لنا، اقتصرنا عليه ولم نحتج أن نحد بالفعل فربما كان لنا قدرة على تحديد أمور بلا نهاية من قانون واحد، كتحديد الأشكال من قانون تعديد الأوضاع؛ حتى نقول للمثلث إنه شكل يحيط به ثلاثة أضلاع؛ ونقول للمربع إنه شكل يحيد به أربعة أضلاع، فلا يلزمنا تشنيع القائل إنكم تذهبون في ذلك إلى غير النهاية، فغن ذلك بالقوة لا بالفعل. فليس إذا علمنا القانون الكلي بالقوة القريبة من الفعل؛ وسهل علينا التحديد سهولة ما هو كالواقع، كنا قد حددنا ذلك كله بالفعل.
وأما إن عنى السائل بقوله: فلحد الحد حد أن ذلك أمر في القوة، فنسلم له انه أمر بالقوة، ويجوز استمرار ذلك إلى غير النهاية. ولا يلزمنا خُلُف ولا محال إذا سلمنا أن أمورا بالقوة لا نهاية لها.
وأما أن هذا الذي نسلم له، هل هو حق في نفسه أم لا، فإنا نقول إنه حق؛ فغن للحد حدا بالقوة إذا أخرج إلى الفعل، كان حدا له وهو أنه قول دال على ماهية الحد. ولهذا أيضاً بذلك الشرط حد؛ وهو أنه قول دال على ماهية حد الحد، وكذلك هلم جرا.
وكما أن الإنسان يدل على الحي الناطق المائت، وهو اسم يدل على ما يدل عليه ذلك القول، فإن سميناه من حيث إنه دال على ذلك الاسم باسم فسميناه بَ ؛ حتى كان بَ اسما لشيء هو اسم الحي الناطق المائت، كان لنا أن نفعل ذلك، ولا يكون مدلول ذلك الاسم وهو بَ هو مدلول الإنسان، فإن مدلول الإنسان هو المعنى نفسه، ومدلول ذلك الاسم، وهو بَ، هو لفظة الإنسان من حيث يدل على الإنسان ثم كان لنا أيضاً أن نسمى بَ ؛ من حيث هو يدل على لفظة الإنسان باسم لا يكون معناه لفظة الإنسان باسم كما لم يكون بَ معنى الإنسان فسميناه جَ ؛ حتى تكون جَ تدل على ما هو اسم اسم الإنسان، فكان لنا أن نفعل ذلك إلى غير النهاية ولكنا لا نفعل ذلك؛ لأنه لا فائدة فيه، لأن القانون فيه ظاهر، لأنه ليس إلا صيغة تتردد وتتكرر فيكون لها بالتركيب حكم متناول عن قريب. فهذا حد الحد ورسمه أنه: قول يقوم مقام اسم؛ أي في الدلالة على الجوهر.
وأما قول يقوم مقام قول، فذلك إنما يكون إذا كان أحد القولين يجهل من ألفاظه لفظة، فيؤخذ حده فيكون ما يجتمع بأخذ حد اللفظ في المجهول في القول قولا آخر، يدل على مدلول الأول.
وأما الجنس فما علمت.
وأما الخاصة فهو محمول ينعكس على الموضوع من غير دلالة على ماهيته.(2/49)
وأما العرض فإنه الذي يجوز أن يكون لطبيعة الموضوع وأن لا يكون، أي الذي تتقوم دونها طبيعة الشيء؛ ثم يمكن أن تعرض - وإن كان لكليه وتلزمه - وأن لا تعرض، بل تفارق؛ إذ هو كلى ليس هو أحد الثلاثة، على ما علمت.
والذي قيل من أن العرض، وإن كان لا يفارق موضوعا ما فإنه قد يوجد في موضوع آخر ويفارقه، وأن الفُسطة وإن لم تفارق الأنف فقد تفارق ما هو في طبيعة النف فلا توجد، فهو قول لا ينجي عن النقض إذا نوقض ما يقولونه بأعراض شأنها أن تلزم ما تعرض له، مثل مساواة الزوايا لقائمتين فإنه عارض بالقياس إلى الحد الزوايا، وإلى قائم الزاوية، ومتساوي الساقين، وغير ذلك، إذ هو كلى ليس بجنس، ولا حد، زلا خاصة، وإن كان خاصة لجنسها وهو المثلث؛ ومع ذلك فإنه لا يفارق.
وكذلك لا يجب أن تلتفت إلى ما يقال من أن العرض إما أن لا يحفظ موضوعه بالكيف؛ بل يشتد ويضعف، وإما أن لا يحفظه بالعدد بل يختلف في موضوعات لا يستوعبها، فليس كل عرض كذلك. ونقول: يشبه أن تكون قسمة التعليم الأول للمحمول هو إلى ثلاثة: إلى جنس، وخاصة؛ وعرض؛ كأنها تعود فتقسم الخاصة إلى حد، وإلى ما يقال له خاصة الخاصة، فتكون الخاصة في التعليم الأول تدل مرة على معنى أعم، ومرة على معنى أخص. فأما المعنى الأعم فكل محمول مساو، وأما الأخص فكل ما لم يكن من جملة ذلك مقوما. وقد علمت أن مثل هذا كثير.
ثم الأخص يدل على معنيين: أحدهما الرسم، والآخر الخاصة المعروفة في كتاب " إيساغوجي " . فغن حد الخاصة هاهنا التي هي بالحقيقة تقع على الرسم وعلى الخاصة المعروفة، فإن كل واحد منهما محمول منعكس؛ لكن أحدهما قول، والآخر مفرد.
ولما ثُلّثت في التعليم الأول، عنى بالخاصة ما يعم الحد، والرسم، والخاصة التي هي إحدى الألفاظ المفردة. ثم لما رُبّعت القسمة عنى بالخاصة ما يعم الرسم والخاصة المفردة. ولم نشتغل هاهنا بالخاصة المفردة؛ إذ لا فائدة هاهنا في النظر في المفردات المطلقة التي لا تركيب فيها بوجه، من حيث هي كذلك؛ فغن ذلك في المبادئ؛ وحيث يجب أن نتكلم في البسائط.
وأما هاهنا، فالغرض أن نتكلم في المحمولات؛ ولا تختلف أحوالها بحسب هذا البحث من جهة البساطة والتركيب؛ فقد صارت لفظة الخاصة تدل تارة على معنى عام وهو الذي يعم الحد والرسم والخاصة المشهورة في " إيساغوجي " ؛ وعلى معنى أخص من الجميع، وهي التي تذكر في كتاب " إيساغوجي " ؛ وقد تركت هاهنا.
الفصل السابع
فصل (ز)
في كيفية الانتفاع بالمواضع المعدة نحو هذه الأمور
وكيفية اعتبارها في المقولات
فهذه هي الأمور التي تجعل محمولات المسائل؛ وإليها يتوجه الإثبات والإبطال. فمنها ما إثباته أسهل ومنها ما إثباته أعسر. وجميع ما إثباته أسهل فإن إبطاله أعسر؛ وجميع ما إثباته أعسر فإن إبطاله أسهل. وكل ما يحتاج في إثباته إلى إثبات شرائط فيكفي في إبطاله إبطال شرط. والحد يحتاج في إثباته في الجدل أن يثبت أنه موجود، ويثبت أنه مقوم ذاتي؛ ويثبت أنه مساو، ويثبت أنه هو الاسم في المعنى، أي أن المدلول به هو المدلول بالاسم.
وأما في البرهان فلا نحتاج أن نثبت أنه موجود، بل لا يمكن، وقد علمت هذا. وذلك لأن الحدود في الجدل قد تكون لا بالحقيقة، بل بحسب الشهرة، وربما لم يكن ما ظن حدا بحد، بل ربما لم تكن جملة بحق، ولكن تحتاج في البرهان إلى إيضاح شرط زائد، وهو أنه يكون مع المساواة في العموم مساويا في المعنى حتى يكون حدا تاما. وقد علمت كيف هذا. ويمكن أن لا يكون هذا غير محتاج إليه في الجدل.(2/50)
وأما الجنس فيحتاج أن يثبت في الجدل أنه موجود، ويثبت أنه مقوم، ويثبت أنه أعم. والخاصة تحتاج أن تثبت أنها موجودة، وأنها مساوية، وأنها ليست في الجوهر. والعرض يحتاج أن يثبت أنه موجود، وأنه غير مقوم، وأنه غير منعكس. لكن من عادة الناس أن يقولوا: إن الحد يحتاج فيه إلى كل ما ذكر، وإن الجنس يحتاج فيه إلى الوجود والتقويم، وإن الخاصة يحتاج فيها إلى الوجود والمساواة، وإن العرض يحتاج فيه إلى الوجود فقط. وأما الطريق الذي أشرت إليه أولا يجعل الحد أصعب إثباتا من الآخر، وذلك من جهة كثرة ما يجب أن يراعى فيه، ويجعل عدد ما يعتبر في العرض والخاصة والجنس متقاربا بعضه لبعض. وأما الطريق المشهور فيوجب أن يكون أن العرض يسهل إثباته حدا ويصعب إبطاله حدا، والحد يصعب إثباته حدا، ويسهل إثباته المطلق. إلا أنه ليس يعجبني هذا المذهب، ولا المعلم الأول يصرح به، بل يقول: إن في جميع المباحث والمواضع التي لغير الحد مواضع لما ينتفع به في الحد. فإن ما يحتاج أن يقول في العرض من طريق الإثبات، قد يحتاج إليه في إثبات معنى الحد المحدود إلى أن يبين أنه حد وأن ما يحتاج أن يقال في الخاصة من طريق ما هي مساوية فيحتاج أن يقال في الحد. وما يحتاج ان يثبت به الجنس من طريق ما هو جوهري يحتاج إلى مثله في الحد.
وأيضاً فإن إثبات الجنس نفسه محتاج إليه في إثبات الحد، فإن أبطل واحد من هذه بطل به الحد، فيكون مشاكلا لهذه، ومشاركا إياها في ضرب من الضروب، فجرت لفظة " جميع " و " كل " على السبيل التي دللت عليها، فظن أن " جميع " على سبيل عموم العدد، ونسى أن في كل باب بحثا خاصا، حتى في الغرض، كأن العرض ليس يحتاج إلى خاص بحث، ذلك البحث مقابل للبحث عما يجب أن يبحث بعد الوجود من حال الجنس، وكأن الشيء إذا كان موجودا كفى ذلك في كونه عرضا.
وبالحقيقة فغن الذي أجرى عليه الأمر في بابا العرض يوهم أن كل ما صح وجوده لشيء فهو عرض، ولكن يشبه أن يكون إنما اقتر فيه على مواضع الإثبات، فغن العرض إنما يجب أن يبحث عن معاينة الإثباتية الوجود للشيء.
وأما انه غير مقوم، فهو إثبات معنى سلبي، فلذلك لم يبلغ من قدر هذا المعنى المحتاج إلى إثباته للعرض دون إثباته للحد والجنس إلى إفراد باب، بل جميع النظر في إثبات العرض في باب واحد. لكنه لزم من جهة النظر في الحد النظر في الهوهو، وإيراد مواضع الإثبات والإبطال في باب الهوهو، وكذلك النظر في كذا وكذا واحد أو ليس بواحد؛ واهتم بالنظر في باب الأولى والأحرى، لأن العرض كما قد يقبل الأشد والأضعف، وتكون بعض الأشياء التي من شأنها أن تشترك أولى بعرض من بعض. ولا كذلك فيما هو جنس، أو حد، أو خاصة. ولأن عمدة كل ما تفيده صناعة الجدل من حيث هي صناعة الجدل طريق الأولى والأحرى. وقد يشكل في كثير من الأمور، وإن لم تكن عرصية، هل هي موجودة لشي أو ليست،فيستعان بطريقة الأولى والأحرى، فيجعل البحث عن ذلك جاريا مجرى العرض، فإن الذاتي من حيث علمت ذاتيته لا يشك في وجوده لما هو موجود له، بل كل ا قنع منه بالوجود لم يبل بأن يجري مجرى ما يعوض. وعلى أن اعتبار الأخلقية للشيء إنما هو بحسب نسبته إلى شيء. وكل نسبة عارضة تعرض من هذه الأسباب إن زيد باب البحث عن انه هل كذا آثر وأولى بشيء، ورسم الباب بباب الآثر، فزادت مواضع في الهوهو ومواضع في الآثر، وخصوصا إذا كان النظر في الأولى والأحرى والآثر أشبه نظر بما يراد به الإقناع.
ومع هذا كله فغن الخاصة أضيفت إلى الحد، وجعل الجنس والفل في باب واحد لاشتراكهما في الذاتية والتقويم، فانحلت المباحث عن المواضع إلى مواضع الإثبات المطلق ومواضع العرض؛ ومواضع الآثر، ومواضع الجنس، ومواضع الفصل، ومواضع الخاصة، ومواضع الحد، ومواضع الهوهو. فإذا أعطيت هذه المواضع فقد أعطيت المواضع كلها. ثم تحتاج أن نعطى القانون في استعمالها عند المحاورات الجدلية. ولكن بالحرى أن يكون لنا معنى الهوهو محصلا، فنقول: إن الهوهو يقال على طريق الاختصار والرسم على معان ثلاثة: فيقال هوهو لما يشارك شيئا في معنى عام جنسي، كما يقال إن الإنسان هوهو الفرس في أنه حي. ويقال في معنى عام نوعي، كما يقال إن زيدا هو عمرو بالإنسانية. ويقال على معنى خاص شخصي، كما يقال إن زيدا هو هذا الأبيض.(2/51)
وكل ما يقال فيه هوهو فيه اثنينية ما أولا بوجه، ثم ترد إلى وحدانية. فأما الاثنينية في هوهو بالمعنى الجنسي، وهوهو في المعنى النوعي فمفهوم؛ والوحدة أيضاً مفهوم. أما في المعنى الشخصي فقد تكون الاثنينية بالعرضين، والوحدة بالموضوع، كقولنا: البناء هو الكاتب. وقد تكون الاثنينية بالموضوع، والعرض والوحدة بالمجتمع الذي يتناول بالإشارة جملته، مثل قولنا: زيد هوهو هذا الكاتب. وربما كانت الكثرة بحسب اسمين، والوحدة بحسب المعنى، وهو أولى ما يقال له هوهو، إذ لا غيرية فيه في المعنى، كما يقال: الإنسان هوهو البشر.
وربما أشكل في الشي الواحد أمر هوهو، فظن أنه بالشخص، وإنما هو بالنوع والسبب فيه أن الكثرة بالنوع قد تكون فيه ظاهرة بالفعل، وقد تكون خفية بالقوة. فحيث تكون خفية تؤخذ على أنها ليست واحدة، مثال ذلك أن المياه المفرقة في أوعية شتى، لا يشكل من أمرها أنها ليست واحدة بالعدد، وأن وحدتها بالنوع. لكن المياه المتصلة السيلان، الخارجة من عين واحدة جراوة، فمن حيث إنها تفترق بالمواضع المختلفة التي تمر عليها وتحاذيها، يعقل من أمرها التفرق، ومن حيث اتصال بعضها ببعض وتشابهها في الجزئية، اللذين هما تشابه فيها بعد النوع يظن أنها واحدة، وليست أجزاء الماء الجاري التي بهذه الصفة واحدة. وكيف يكون الماء الواحد موجودا في جزء من الأرض دون جزء، واقعا في موازاة شيء واحد وغير واقع، بل هذه كثيرة بالعدد واحدة في النوع، فهو هويتها ليست بالعدد بل بالنوع.
ولست أعني أنه إذا كان جملة السائل لا يعرض لأجزائها افتراق بمثل ما ذكرته يكون كثيرا بالعدد، بل أن يكون على ما قلت. فإن الماء المتصل الذي لا خلاف في أجزائه يكون واحدا بالفعل، سواء كان كثيرا أو قليلا، وسواء كان متحركا أو ساكنا. ولو كانت نفس الحركة منقسمة لكانت تقسمه دائما إلى متحرك ينقسم دائما إلى متحرك، فكان سيكون هاهنا كثرة أجسام وبالفعل لا نهاية لها، وهذا محال. ولكن يجب أن تؤخذ الأجزاء على الصفة المذكورة.
وأحق ما يقال له هوهو، من جملة ما عددناه، هو ما يكون بالعدد؛ ومن الذي بالعدد ما تكون الاثنينية فيه بالاسم، وتكون الوحدة في تمام المعنى، وهي التي تكون هي هي بالحد. ثم ما يكون بالخاصة، كقولنا: إن الإنسان هو الضحاك، أو قابل العلم؛ وإن النار هي المتصعدة إلى فوق؛ ثم ما بالعرض.
ولكن لقائل أن يقول: إن الإنسان والحيوان الناطق واحد بالنوع، والإنسان والضحاك ايضا، وسائر ما مثلتم. فنقول: ليس كذلك،بل الواحد بالنوع شخصان تحت نوع واحد؛ وليس كذلك حال الإنسان والحيوان الناطق والضحاك، بل الذات التي للإنسان هي التي للمحدود بالحيوان والناطق؛ والموضوع الذي هو الإنسان هو بعينه الذي يقال له الضحاك، فيصير الإنسان من حيث هو يعتبر هذا الاعتبار كذات واحدة بالعدد، وإنما تصير كلية بالقياس إلى الكثرة التي تحته.
وأما أن الاسم والعرض قد يقعان موقع هوهو، فيدل عليه أنا إذا التمسنا من خادم لنا أن يدعو إلينا صديقا حاضر محفل، قلنا: ادع إلينا ذلك الجالس الوسيم، فيدعوه؛ فتكون ذات ذلك الصديق هوهو الجالس الوسيم. وقد تدخل في باب الهوهو بالعرض ما يكون هوهو على سبيل المناسبة، على أحد وجوه المناسبات التي نذكرها بعد.
فهذه هي المباحث المفروضة للمطالب. والدليل على ذلك أن كل محمول إما أن ينعكس على الموضوع، أو لا ينعكس. فإن انعكس، فهو إما دال على الماهية، فهو حد؛ أو غير دال عليها، فهو خاصة. وإن لم ينعكس، فهو إما مقول من طريق ما هو، فهو جنس أو فصل؛ أو غير مقول، فهو عرض. فكل محمول يطلب إثباته، فهو أحد الأربعة. وقد يطال لا إثباته، بل أنه هل هو حد، أو هل هو جنس، وما أشبه ذلك. ولا تختلف الأربعة من حيث الطلب الأول، وإنما تختلف من حيث الطلب الثاني.
وأنت تعرف أن كل طلب فيرجع إلى شيء من هذا بالاستقراء. فإن قولنا: " هل النفس جوهر " ، طلب للجنس؛ وقولنا: " هل الإنسان قابل للعلم " ، و " النار متصعدة بالطبع إلى فوق " ، طلب للخاصة؛ وقولنا: " هل النفس عدد متحرك لذاته " ، طلب للحد؛ وقولنا: " هل العالم محدث " طلب للعرض اللازم.(2/52)
ويجب أن تمتحن هذه الأمور المذكورة في المقولات المعلومة؛ فإن في كل واحد منها شيئا هو جنس، وشيئا هو فصل. فإن الفصول الجوهرية قد علمت أنها جواهر، وكيف هي جواهر. وفصول الكيف، كمثل ذلك، قد تكون كيفا، على ما علمت. وربما كانت الكيفية فصلا، ولكن لمقولة أخرى غير الجوهر. وبالجملة فقد نجد في كل واحد منها فصلا، إما أن يكون لشيء داخل في بابه، أو لشيء آخر. وكذلك قد يكون في كل واحد منها ما هو خاصة. فأما في الجوهر، فإنه قد يخص الإنسان الضاحك، كما يخص الضاحك الإنسان؛ فإن الإنسان ليس جنسا للضاحك، ولا فصلا، ولا نوعا يكون الضاحك شخصه، ولا عرضا، بل هو خاصة له تدخل في حده لا كما يدخل الجزء بل كما يدخل الخارج، وعلى ما علمت، وتحققته سالفا. وأما وجود الخاصة من المقولات الأحرى، فكما تعرفه، ولا نحتاج أن نبتدئ تعريفه. والعرض قد يكون في كل واحد منها، وذلك ظاهر في جميعها. وأما الجوهر، فقد يحمل على شيء من الأشياء حملا على سبيل أنه عارض له، كما يحمل الحيوان على المتحرك من حيث هو متحرك، فتكون نسبته إلى المتحرك ليس نسبة شيء غير العرض، أعني العرض الذي هو أحد الخمسة الذي هو العرضي دون العرض الآخر.
وأيضاً فإن المحمول في المسائل يكون إما جوهرا، أو ما يدخل في الجوهر مما ليس بجوهر، كما علمت؛ وإما أحد التسعة الأخرى، إما بالقياس إلى الجوهر، وإما بالقياس إلى حد الشيء. فإن العرض له حد يدل على ماهيته، وله أيضاً مع لواحق داخلة في الحد، وهي أعراض ما. وذلك لأن العرض قد يعرض للعرض عروض الذي هو أحد الخمسة، فيكون بسيطه عرضا بمعنى العرض الذي بإزاء الجوهر، ويكون مركبه شيئا ذا ذلك العرض. وربما لم يكن إلا عرضا أعني بحسب ما يلزمه، وعلى ما علمت. وكل واحد من هذه الأجناس كما علمت، فإنما يدل من طريق ما هو لا على كل شيء؛ بل على ما هو جنسه، فهو داخل فيه بالذات. وإما على ما هو خارج عنه فقد يكون غير دال على ماهيته بل عارضا.
فهذه الأربعة تطلب في هذه العشرة. وكل واحد من هذه العشرة إنما يكون الجنس منه جنسا لما هو في مقولته. وأما العارض منه، فقد يكون عارضا لما ليس في مقولته؛ حتى إن الجوهر يكون عارضا لغيره؛ كالإنسان للمتحرك، وقد يكون عارضا لما في مقولته كالكم المنفصل يعرض للمتصل، وبالعكس. فإن كل مقولة إذا وجدت في غيرها كان على سبيل العارض لها، وإنما يقوم تقويم الجنس ما هو موجود فيها. وإذا سئل عن هذه العشرة: أو عن شيء منها هل هي موجودة أم لا، فيكون الموضع النافع فيه موضع الإثبات المطلق، وإذا سئل عنها هل هي جنس، أو فصل، أو خاصة، أو عرض، فيكون الموضع النافع فيها هو الموضع الخاص بذلك الباب. ونقول: إن اعتبار هذه الأحوال إنما هو بحسب المطالب، أي الدعاوى في القضايا الجدلية. وذلك لأن هذه المحمولات إنما حددت لتعد نحوها المواضع، والمواضع إنما تعد نحو الإثبات والإبطال. والإثبات والإبطال إنما يتوجه نحو الدعاوى؛ فإن المقدمات الجدلية من حيث هي مقدمات جدلية، وليست دعاوى منصوبة، لا ينفع النظر فيها من حيث محمولاتها أحد هذه المحمولات. وأما البرهانية، فمعرفة نسبة المحمولات إلى الموضوعات النحو من النسبة التي لها نافع جدا، فإن ذلك يحقق أحوالا من أحوال الصدق والكذب، بل حال المناسبة مع المطلوب. وأما المقدمات الجدلية، فالمعتبر فيها التسليم المشترك أو الخاص على أي نسبة كانت الحدود، فإن ذلك لا يتعين له حكم بان يكون المحمول شيئا أو غيره. وأما محمولات الدعاوى، فإن اعتبارها من حيث هي أحد المذكورة نافع في باب ارتياد الموضع المثبت أو المبطل لها.
الفصل الثامن
فصل (ح)
في تفصيل المقدمات المشهورة الجدلية والمطلوبات الجدلية
لكنه يلزمنا أن نعرف كيف نستنبط المواضع. وقبل ذلك فيلزمنا أن نحد المقدمة الجدلية التي هي جزء قياس جدلي، والمطلب الجدلي الذي هو أحد طرفي النقيض فيما يسوق إليه القياس الجدلي، وهو للمجيب ما ينصره ويحفظه، وللسائل مقابله، وهكذا يجب أن تفهم هذا الموضع من التعليم الأول، لا كما ظن من أنه يعني بهما شيئا واحدا بالفعل أو بالقوة جزء للقياس الجدلي. أما وهو ما هو بالفعل فإذا استعملت مقدمة، وأما بالقوة فإذا أخرجت على جهة السؤال كي يتسلم؛ فإن هذا غير موافق للغرض.(2/53)
والمقدمة تؤخذ في التعليم الأول حين تحد على أنها مسألة، إذ لا فرق يعتد به بحسب الغرض الذي في هذا الموضع بين أن يقال مقدمة، أو يقال مسألة؛ كما علمت فنقول: إنه ليس يمكن أن تكون مقدمة جدلية إلا مشهورة مطلقة، أو متسلمة؛ فإن العاقل لا يعمل قياسا من مقدمة مجهولة في المشهور، أو مضادة للمشهور، ولا عن غير متسلمة عند المخاطب. وبالجملة ما لا يقول به أحد، فإن سعيه يكون باطلا، لأن مالا يوضع منه شيء لا يكون عنه لزوم لازم، لأن الخصم يقول: إنما يلزمني هذا إن وضعت وسلمت. وأما إن لم أسلم فلا يمكنك أن تلزمني شيئا. فإذن المقدمة الجدلية، هي الذائعة أو المتسلمة، وبالجملة ما يراه أحد.
وأما المطلب الجدلي، فليس أيضاً يصلح أن يكون كل شيء؛ فليس كل مطلب جدليا. فإن المر الذي لا يشك فيه أحد من الناس، ولا يختلفون فيه، هو غني عن الإثبات؛ ومن يحاول نقه بالقياس، فهو أهل أن يضحك منه. وهذه هي المقدمات المشهورة المطلقة، فأمثالها لا تكون مطالب جدلية إلا بالقياس إلى المغالطين في الجدل.
وأما المشهورة الغير مطلقة، وهي التي فيها خلاف ما، أو موضع شك، إذ لا اتفاق على قبولها، فاللجدلي أن يبحث عنها، وأن يقيس على طرفي النقيض فيها. والمقدمة الجدلية المطلقة هي المتسلم المطلق الذي بحسب إنسان ما، بل هو متسلم من الجمهور، أو العلماء أو أهل النباهة، بعد أن لا يكون المتسلم عن أحد الثلاثة بدعة منافية للمشهور. وبعد ذلك فما ينبه عليه ويكسب له الحمد، إلحاقه بمشهورات أخرى إلحاقا مشهورا على سبيل التالي للمقدم، بأن يكون له مع المشهورات مناسبة إذا دل عليها كان وجوب عن حمده عن ذلك مقبولا، لظهور مناسبته للمشهور على الجهة التي ينتقل الذهن عن المشهور إليه بسرعة انتقالا في المشهور، وإن لم يكن انتقالا واجبا بحسب الحق - وهذه هي التي تشتهر بالقرينة - ولا كان الانتقال انتقالا عن قياس إلى نتيجة بل كان على سبيل تنبيه وجوب حمد شيء واستحقاقه للقبول في نفسه، لا أنه لزم عنه لزوم المجهولات التي تصدق بالقياس. وبالجملة فغن ذلك التقرين يُنبه لا على صدق تلك المقدمة والتزامها، بل على أنها مستحقة لاعتراف الحامد بها، كأنها كان يجب أن يفطن لها قبل هذا التنبيه بالقرينة، وأن يقال بوجوبها من نفسها.
وأما النتيجة فإنها بعد اللزوم يكون متحققا منها أنها مجهولة في نفسها، وإنما عرفها للقياس، فهي الآن معروفة؛ وفيما نحن فيه لا تكون كذلك، بل يكون الانتقال يقضي فيها بان من حقها أن لا تجهل أبدا ولا تنكر.
وأيضاً المقدمة الشنعة المضادة للمشهور، والمقابلة التي ليست بمشهورة أيضاً، تكون جدلية من وجه إذا قدمت على سبيل التناقض بان تنتج عن نقيض المطلوب بالقياس، ثم تجعل مقدمة في إبانة أن ما أنتج ذلك الشنع، فهو شنع. وهذا بطريق قياس الخلف.
ومن قبل ما نحن فيه جميع المقدمات والآراء الذائعة في الصناعات، فإن من الآراء الموجودة في الصناعات ما يذيع ويشتهر. فأما مثال اللواتي تحمد بالنقل، فمثل أنه إذا كان مشهورا محمودا أن العلم بالمتضادات واحد، فذكر هذا، واتبع، فقبل. وكذلك الحس بالمتضادات واحد، صار هذا محمودا، ورؤى أنه واجب الإقرار به؛ وذلك لأن مشابهة العلم للحس ظاهرة جدا وكذلك إذا لم تكن مشابهة، بل مقابلة لإيجاب مقابلة الحكم، مثل أنه إذا كان مشهورا أن الإحسان إلى الأصدقاء واجب، فإن لا يساء إليهم واجب. وهذا هو إن أخذنا نقيض مقابل الإحسان، فأقمنا مقامه، أو قلنا: إن كان محمودا أن الإحسان إلى الأصدقاء عدل، فمحمود أن الإساءة إلى العداء عدل. وهذا هو إن أخذنا شيئا وألفنا بينه وبين شيء، وحكمنا بحكم، فجعلنا مقابل الشيء الأول لمقابل الشيء الثاني بذلك الحكم. وسيظهر لك بعد أن هذا أمر واجب في نفس الأمر أو ليس بواجب، إلا أنه وأمثاله محمود.(2/54)
فهذه هي المقدمة الجدلية المطلقة، ويشترك في استعمالها السائل والمجيب. فإن المجيب يستعمل المشهورات، ولا يلتفت - على ما علمت - إلى ما يسلمه أو لا يسلمه السائل. وأيضاً فغن السائل إذا استعمل المشهورات، لم يحتج إلى التسليم في أكثر الأمر. فإن حال المشهورات في الجدل حال الأوليات في البرهان؛ فكما أن الأوليات يستعملها المبرهن من غير حاجة إلى أن يطلب قياس على صدقها، كذلك المشهورات يستعملها الجدلي في الجدل من غير أن ينزل عن درجة الشهرة المطلقة والتسليم المطلق، إلى التسليم المحدود بالمسألة عنها ليتسلم، كأنها مشكوك فيها، وكأنها معرضة لأن يقع فيها شك. وربما ضر السائل ذلك، فإنه يحرك المجيب إلى أن يتنبه لأن لا يسلم المشهور الذي ينفع السائل، فإذا أخذه أخذ واقتضبه اقتضابا، وكأنه أمر بيّن، كان أقرب إلى التسليم، ويكون كأنه قد تسلمه بالقوة، وإن لم يكن تسلمه بالفعل. فما كان من ذلك مشهورا مطلقا، فحاول المجيب أن لا يسلم له، لم يلتفت إليه؛ بل ربما سخر بالمجيب، وربما أحل الرحمة، وربما نسب إلى استحقاق العقوبة، على ما سنمثل لك بين يديك عن قريب. وكذلك كل ما كان مشهورا عند قوم، فإن استعماله معهم على سبيل الاقتضاب أنفع من استعماله معهم على سبيل المسألة.
وما بعد هذا في التعليم الأول، فإنه يفهم على وجهين: أبعدهما كأنه يقول، وأما الذي هو الأولى بان يكون مسألة جدلية، أي أن تكون مقدمة تؤخذ على سبيل المسألة، فهو ما يكون طلب التسليم فيه لمعنى ينتفع به في إثبات مطلوب من باب ما يؤثر أو يجتنب، أو مطلوب اعتقادي من باب ما يرى حقا ويقصد فيه المعرفة، فيكون إما أن يبلغ بتسلمه نفس الغرض في ذلك، أو بأن يجعل مقدمة تعين في إنتاج ما يؤخذ مقدمة بذاته، أو يكون معينا على ذلك بان يكون قانونا منطقيا ينفع منفعة المنطق. ويكون إما عن المشهورات، لا المطلقة جدا فإن ذلك لا يسأل عنه، بل المشبهة والمقابلة؛ أو التي عند قوم ما؛ أو لا تكون من المشهورة بل مما ى اعتقاد مشهور للفلاسفة فيه فضلا عن الجمهور؛ أو ما يجري فيه بين الجمهور والفلاسفة اختلاف، كاختلاف الجمهور والفلاسفة، في حال اللذة، فإنهم يرون أن اللذة خير، والفلاسفة لا يرون ذلك؛ أو يكون فيه للفلاسفة فيما بينهم اختلاف؛ أو يكون فيه للجمهور فيما بينهم اختلاف؛ وبالجملة ما يكون لأحد الفريقين فيما بينهم فيه خلاف.
والوجه الثاني، وهو أظهرهما، فكأنه يقول: أختم القول في المقدمة الجدلية، وآخذها من حيث هي جدلية بذاتها لا بحسب سائل ومجيب بأعيانهما، ثم أتبعه بالمطلوب الجدلي. فكأنه قال: وأما المطلوب الجدلي فهو حكم عملي أو حكم اعتقادي، إما شيء إنما يقاس عليه لنفسه، أو يقاس عليه ليعين في معرفة شيء آخر، وهو لا محالة مما لا يكون بيّن الشهرة، بل يكون من حقه أن يتشكك فيه، لأنه لا رأى للجمهور فيه، مثل أن الأشكال القياسية ثلاثة، أو لا رأي للفلاسفة فيه، مثل هل الكواكب زوج أو فرد؛ فربما يقيس الجدلي على ضرب منها بالمشهورات أن الأولى بها أن تكون زوجا أو فردا، أو للفلاسفة رأي مخالف لما عليه العامة، أو فيه اختلاف بين فريقين من كل فرقة. وبالجملة ما يقع فيه شك وهو موضع شك، إما ليقاوم الحجج فيه ويكافيها، وإما لفقدان الحجج في الطرفين جميعا، أو بعدها عن الأمر المشهور مثل حال العالم أهو أزلي أو ليس.
والأحرى أن يكون ما تبعد حجته ليس بمطلب جدلي، وهو ما لا يكون عليه قياس من المشهورات، ويكون القياس عليه من الأوليات بعيدا؛ مثل أنه زاوية نصف الدائرة قائمة.
واعلم أن كثيرا من آراء الفلاسفة ليس للجمهور فيها رأي، ولا للمشهور إليها سبيل، لكن للبرهان إليها سبيل. وبإزاء ذلك كثير من الآراء لا سبيل للناس من الأوائل إليها، وقد يتكلف عليها قياس من المشهور؛ مثل أنه هل الكواكب زوج أو فرد، وهل زحل نحس أو سعد وكل رأي من ذلك فهو بالقياس إلى ناصره وضع، أي دعوى. وليس ما نسميه هاهنا أيضاً، وفي كتاب " البرهان " وضعا، أعني الدعوى الذي لا يكون مؤيدا بحجة تصحبه. وإنما سمى ذلك أيضاً وضعا لمناسبة ما بينه وبين الوضع المذكور هاهنا، فإن من الدعاوى ما هو فقط، ومن الأوضاع ما هو وضع فقط.(2/55)
وما كان كذلك فيحسن أن يخص باسم الوضع؛ فغن العادة جرت بان يخص ماله معنى من المعاني المسماة باسم وليس له غير نفس ذلك المعنى باسم ذلك المعنى، على سبيل ابتداء اصطلاح، كما علمت من تسمية الممكن الخاص بما سمى به منقولا اسمه من الممكن العام، إذ كان لا وجود له إلا الوجود الذي هو به ممكن في المعنى العامي، من غير زيادة عليه.
فما كان من الأوضاع دعوى فقط، لا هو حق ولا مشهور، ولا يؤيد بالمشهور على سبيل قياس أو استقراء، ويكون قائله يقول بلسانه دون قلبه، فبالحرى أن يخص باسم الوضع، إذ هو دعوى فقط. فالوضع بهذا المعنى هو رأي مبتدع، وليس كل رأي مبتدع فإنما يبتدعه من لا نباهة له ولا بصيرة بشيء قوى لا يستحق أن يجعل له ذكر، ويجعل من المسائل والمطالب الجدلية؛ بل ما هو مبتدع ممن يذكر ويعد في أهل البصيرة والمعرفة. مثل قول من قال: إنه لا تناقض ولا خلاف البتة؛ وقول من قال: أن لا حركة وتغير البتة. وأما قول من قال: إن كل شيء واحد، وإنه ليس كل شيء إما مكونا وإما فاسدا، فإن الموسيقار إذا صار كاتبا فلي هو حادثا، لإذ قد كان موجودا قبل أن يكتب، فلو حدث لحدث كاتبا ليس له وجود ما قبله، ولا هو أزلي وإلا فقد كان دائما، فقد يكون شيء لا مكونا ولا فاسدا؛ فهو وضع سخيف.
والوضع قد يصير مطلبا بوجه من الوجوه إذا وقع فيه للأوائل خلاف، ونُصر بحجة فهذا وجه نستعمل عليه لفظة الوضع، ونعني بها المعنى الذي أشرنا إليه. ولكن ليس كل مطلوب وضعا بهذا المعنى؛ فإنه كثيرا ما يكون مطلب ليس فيه لأحد خلاف، فضلا عن أن يكون فيه للكل خلاف. وذلك لأن الوضع الصرف لا أقل من أن يكون فيه خلاف ما، ولو بين الحكماء وبين العامة أيضاً. وإذا كان فيه خلاف فهو دعوى؛ إذ ليس يقال للمقبول إنه دعوى. وإذ هو دعوى، وكل دعوى تسمى في هذا الموضع وضعا، فهو وضع؛ لكنه وضع صرف.
على أن مثل هذه الأوضاع ليست أوضاعا ومطالب جدلية على القصد الأول، بل على القصد الثاني، وعلى سبيل ما يلزم الجدلي مناقضة القائل به بحسب القائل لا بحسب القول نفسه؛ كما يلزم الفيلسوف الأول مناقضة من يرى أن بين طرفي النقيض واسطة، وذلك بحسب القائل، لا بحسب القول. وذلك لأن هذا ليس عليه قياس في نفس الأمر يصححه، إذ لا وسط في نفس الأمر أعرف منه؛ لكنه قج يكون عليه قياس بحسب المخاطب. فإنه إذا كان شيء، ذلك الشيء عنده أعرف منه عنده وهو يسلمه، وذلك الشيء ينتج نقيض وضعه، لزمه من ذلك أن يعترف به، إن كان القائل ممن يركن إلى الخطاب. وأما من لا يصغي إلى الخطاب وإلى النظر، فلا دواء له بالخطاب. وكذلك حال الوضع المذكور، فإنه بالحقيقة ليس مطلبا جدليا، ولا مما من حقه أن ينظر فيه بالنظر الجدلي الذي بالذات، فإنه إنما يجب أن يلتفت إلى وضع ما قد يتشكك فيه.
وأما ما من حقه أن يقابل قائله لا بالكلام بل بالعقوبة؛ كمن ينكر حسن عبادة الله وبر الوالدين؛ أو بالرحمة، كمن يقول: إن الصحة غير مؤثرة؛ أو بالسخرية، كمن يقول إن الشمس متبدلة كل يوم أو غير متحركة؛ أو بالتخسيس، أعني تكليف التخسيس، كمن يقول: إن الشمس غير منيرة، والنار غير محرقة؛ فغن مثل ذلك ليس مطلبا جدليا بالحقيقة، فلا مشهور أوضح منه يوضحه. وكذلك ما كان القياس الذي ينتجه قريبا منه مثل قولنا: الربع نصف النصف؛ وكذلك ما كان القياس عليه من الأوائل، وبعيدا جدا، وليس إليه قياس من المشهورات، فقد قيل في المطلب الجدلي، وقد قلنا قبله في المقدمة الجدلية، ونقول: ليس يجوز أن يسأل الجدلي عن المائية وعن اللمية، فإن هذا سؤال تعلم، بل له أن يسأل عن المائية بوجهين: إما مائية دلالة لفظ يستعمله المجيب في خلال ما يتكلم به، أو أن يقلب المائية إلى الهلية فيقول: هل تقول إن مائية كذا وكذا، حتى يناقضه ويقابله. فأما أن يبتدئ ويطلب مائية لشيء كالمكان أو الزمان أو غير ذلك، ليس على أن يقيس عليه قياسا يؤدي إلى إبطال ما يقوله، فهو تعلم. فغن أراد ذلك فطريقته أن يقول له: هل تقول إن مائية كذا كذا، حتى يخرجه إلى قول واحد فيقصده أو يقصد به.
وكذلك له أن يسأله عن اللمية من وجهين؛ أحدهما أن يقول له: لم قلت؟ من غير أن يؤاخذه بلمية الأمر في نفسه. والآخر أن يقول له مثلا: هل السبب في كون كذا كذا أم لا؟(2/56)
وقد بان من عرض ما تكلمنا أن العلوم لها مطالب قد يشارك فيها الجدلي، وذلك إذا كان المشهور قد يقاس منه عليه أو على نقيضه؛ ومطالب لا يتكفل الجدلي الكلام عليها. وأن الجدلي قد تكون له مطالب مشتركة، ومطالب خاصة، وهي التي قد يسلك إليها من المهور. ولكن الطريق إليها من الأولى الحق متعذر.
الفصل التاسع
فصل (ط)
في الآلات التي تتم بها ملكة الجدل
وطلب المواضع وهي أربع
فإذا قد تكلمنا في أبسط الأمور الجدلية وهي المحمولات؛ ثم التي تليها وهي ما منها الكلام الجدلي أعني المقدمات؛ وما فيه الكلام أعني المطالب، فيجب أن ننظر في نفس الكلام الجدلي وهو الذي إليه غاية التركيب، وهو الحجة، فتقول: وكل حجة إما قياس، وإما استقراء؛ وقد عرفتهما. والقياس أقرب إلى العقل وأشد إلزاما، فإنه إذا سلم المقدمات في القياس لزمته النتيجة لا محالة. والاستقراء أقرب إلى الحس، وأشد إقناعا، وأوقع عند الجمهور لميلهم إلى الأمثلة؛ إلا إنه أضعف إلزاما: لأنه إذا سلمت مقدمات الاستقراء، أمكن أن لا يلزم المطلوب، إذ قد يمكن أن يوجد جزئي مخالف. فالاستقراء والقياس هما أصلا حجاج الجدل، ويتم ذلك بالمواضع.
وتكتسب الملكة الجدلية بأدوات أربع: أحدها أن يكون الجدلي قد اكتسب المشهورات وجمعها، وحفظ ما يراه الجمهور وأكثرهما، وما هو مضاد أيضاً لما يرونه مضادة النقيض، أي يكون مناقضا لما يرونه، فإنه ينتفع فيه بالذات في قياس الخلف، وبالعرض بأن ينتقل مع الشنع إلى مقابله، فيجوزه إلى جمله الذائع المحمود؛ ويجوز أن يعني به ينتقل نقيضا الشهرة من أحكام في الأضداد إلى أحكام في الأضداد؛ على ما علمت.
ويجب أن تعلم أن من الذوائع ما هو مشهور جدا، ومنها ما هو مقارب ويؤيد بمثال، ومنها ما لم يذع ولم يذكر ولم يتقارب، إلا إذا ذكر وأخطر بالبال حمده الذهن المشهوري في أول وهلة حمدا واضحا، أو دون ذلك، وإن لم يكن سمعه البتة؛ لكنه يحمد كما يسمع ويقبل، وخصوصا إذا أيده مثال.
وكثير من المواضع التي تأتي بعد من جملة ما لم يشتهر، ولم يعرف، ولكنه كما يقال قولا، ويؤتى له بمثال يقبله الجمهور. والسبب فيه مناسبات تجري بينه وبين خيالات لهم، ومشهورات عندهم،أو تواتر شهادات والثقة أيضاً؛ ولأكثرها أسباب ذهنية حتى يكون هناك موجب لا يشعر به، ولو شعر به لكان قبوله على سبيل الحجة لا سبيل الحمد، وربما وضعوها وسلموها لاستقراء ما لا يجوزون له نقضا ومعاندة.
ويجب أن تكتسب الذوائع التي تكون بالقرينة، على ما أوضحناه وبيناه؛ وذلك على سبيل المشابهة، أو على سبيل المقابلة. ويجب مع ذلك أن تعمد إلى الآراء الخاصية بصناعة صناعة، وما قد أجمعوا عليه، أو قاله المتقدم فيها؛ مثل آراء " أبقراط " في الطب، و " فيثاغورس " في الموسيقى، وغير ذلك، فتجمعها جمعا، وتعلم أن المقدمات والمسائل ثلاثة أصناف: أحدها منطقية تراد لغيرها من الأمور النظرية والعلمية. والثانيخلقية، وهو فيما إلينا أن نعلمه، وهو المتعلق بالمؤثر والمهروب عنه، إما تعلقا أوليا، مثل قولنا: هل أفعال العفة سعادة أو ليست؟ وإما تعلقا ثانيا، وهو أن تكون نفس المسألة ليس رأيا هو تعليم عمل أو كسب خلق، لكنه نافع في ذلك، ويطلب لأجل ذلك؛ كقولهم هل يمكن إزالة الخلق؛ وكقولهم: هل العدالة تقبل الأشد والأضعف. والثالثة طبيعية؛ ولست أعني بالطبيعي الجزء الطبيعي الخاص فقط، بل أعني به جميع ما ينظر في الأمور الموجودة في الطباع التي ليست منسوبة إلى أنها تكون نافعة لنا بوجه من الوجوه؛ وربما كان فيها ما ينفع في أفعالنا كمعرفتنا أن النفس باقية، وأنها يجب أن تفارق البدن مقدسة طاهرة، فغن هذا ينفع بوجه من الوجوه في العلم الخلقي، ولكن لا بذاته وأولا من حيث ينظر فيه الطبيعي وعلى أنه لأجله، بل ثانيا.
ولنسرد أمثلة الأصناف الثلاثة في موضع واحد، فنقول: أما مثال المسألة المنطقية فقولنا: هل المتضادات يوجد حد بعضها في بعض؛ وأما مثال المسألة الخلقية، فقولنا: هل اللذة مؤثرة جميلة أم لا؟ وأما مثال المسألة الطبيعية، فقولنا: هل العلم أزلي أم محدث؟ وهل النفس تفسد أم تبقى؟(2/57)
فيجب إذا تأمل المشهورات من يستنبطها ويحصلها من المسموع والمكتوب أن يضيف ما يقع في فن واحد بعضه إلى بعض، ويجمعه في مجمع واحد؛ فإنه لا قياس جدلي إلا من مقدمات جدلية؛ وأصل المقدمات الجدلية هي المشهورات، فيجب أن تكون معدة، ويجب أن يجتهد حتى تكون المقدمات مأخوذة عنده بوجهين: أحدهما أن يصيرها مجموعة إلى حكم عام، وهذا للحفظ؛ مثل أنه يجب أن يجتمع لنفسه من أحكام المتضايفات والمتضادات حكم واحد عام المتقابلات حتى يجتهد أن يكون عنده بدل قوله: المتضادات كذا، إن المتقابلات كذا.
والوجه الثاني أن تكون مفصلة عنده، مقربة إلى الجزئيات، حتى يكون له تصرف في كثرة. وهذا السبب أنفع للاستعمال؛ فقد بينا سالفا أن أخذ الجدلي المقدمة في الجدل وهي أقرب إلى التفصيل أنفع له. فإذا كان عنده المتقابلات فصل ذلك إلى المتضادات وما معها، وإذا كان عنده المتضادات فصل ذلك إلى الأضداد الجزئية، فقال مثلا: العلم بالحار والبارد واحد، والعلم بالرطب واليابس واحد، والعلم بالفضيلة والرذيلة واحد، وكذلك.
والآلة الثانية القدرة على تفصيل الاسم المشترك والمتشابه والمشكك؛ وهذا ليس قانونا كالوضع، أي بحيث بالقرب مقدمات محصلة نحو مطلوب معين، بل إنما منفعته ما سيرد من بعد ذكره. فلا يجب أن يقتصر على أن كذا لفظ مشترك، بل أن تكون له قدرة على إيراد حدود ما تشترك فيه الحدود التي تدل على مباينة بعضها لبعض. فلا يقول مثلا إن الخير لا يقال على الشجاعة والعدل والعفة، وعلى المصح والمخصب بمعنى واحد فقط، بل وأن يبين كيفية ذلك، بأن يبين القول والحد؛ فيبين مثلا أن الشجاعة والعدل خير على أنها كيفية الخير نفسه. وأما المصح والمخصب فخير على أنه فاعل لكيفية الخير.
وأما القوانين النافعة في معرفة أن الاسم الواقع على أشياء كثيرة يقع عليها وهي ذوات ماهيات وحقائق مختلفة أو يقع عليها بمعنى واحد، فمنها إن كان للشيء ضد فينظر هل الأشياء المعدودة مضادة للأشياء المتفقة في ذلك الاسم هي واحدة في الاسم أو مختلفة في الاسم، فإن وجدها مختلفة الاسم في أول الأمر سهل عليه الوقوف على أن الاسم اسم مشترك. وإن لم يجدها مختلفة الأسماء، بل واحدية الاسم في جميع ما يقابل المسميات بالأول تعذر عليه؛ فإنه لا يمتنع أن يكون اسم مشترك وبإزائه اسم مشترك كالمضاد له.
فأما مثال الأول، فإن اسم الحاد يقع على الصوت وعلى السيف، ويوجد له من حيث يقع على الصوت مضاد مخصوص باسم الثقيل، ومن حيث يقع على السيف مضاد مخصوص باسم الكليل؛ وحداهما مختلفان، فسيكون الحاد في الصوت والسيف باشتراك الاسم. وأيضا يقال ثقيل للجسم الطبيعي وللصوت، لكن المضاد للجسم الثقيل مخصوص باسم الخفة، والمضاد للصوت مخصوص باسم الحدة، فالثقيل سيقع عليها باشتراك الاسم. وكذلك النظيف، فإنه يقابله في الحيوان السمج، وفي الثياب الوسخ.
وأما مثال الثاني، فهو أن يكون المضاد واحدي الاسم المشترك، كما يقال صوت صاف، وبالفارسية " روشن " ، ولون صاف، وبالفارسية روشن. ويقال صوت كدر، ولون كدر، وكلاهما بالفارسية أيضاً " تيره " . فهاهنا لا ينتفع فيه بذلك القانون ولا يوجد من جهة التسمية مخلص عن الشبهة؛ بل الحد والماهية والعلامة والخاصة هي التي تدل في أمثالها على الاشتراك، فإن الصفاء لو كان له فيها معنى واحد لكان مدركه حاسة واحدة؛ لكن ليس كذلك، بل مدرك أحدهما السمع، ومدرك الآخر البصر، كما أن مدرك الحاد الطعمي هو الذوق، ومدرك الحاد الشكلي اللمس. ولمثل ذلك ينفع في التمييز بينهما لا اعتبار الاسم، إذ كان لا يبعد أن يتفق أن يسمى ضداهما جميعا كاللين. وأيضاً إذا كان المعنيان المسميان بالاسم يوجد لأحدهما ضد، ولا يوجد للآخر البتة، مثل اللذة فإنه يقال لما يجده الصادي عند شرب الماء، ويقال لما يجده الذهن عند إدراك الحق؛ لكن لتلك اللذة أذى مقابل محسوس عند العطش، وأما التذاذ النفس بان القطر لا يشارك الضلع، فليس له أذى يقابله في الناس العاميين. وكذلك المحبة إذا قيلت للناسوجد بإزائها بُغضة لمثل ما يحبه؛ وأما إذا قيلت للأحجار كمغناطيس حين يجذب الحديد، فلا يوجد بإزائه بغضة المغناطيس لمثل ما يحبه.(2/58)
وأيضاً ينظر في حال تضاد كل واحد من المسميين هل أحدهما له واسطة والآخر ليس له واسطة، فإنه لا واسطة بين السواد إذا مثل على الجهل، والبياض إذا قيل على العلم، وواسطة بين السواد إذا قيل على لون ما، والبياض إذا قيل على آخر. وكذلك إن كان في كليهما واسطة لكنهما مختلفان، فغن بين الأسود المقول في لغة اليونانيين على الصوت والأبيض المقول عليه واسطة هي المتخلخل، ومثلها بين اللونين هو الأدكن. وأيضاً، فواسطة ما بين الصوتين واحدة، واحدة الاسم؛ وواسطة ما بين اللونين كثيرة، كثيرة الأسماء.
فهذه قوانين من جهة التضاد. فإن لم يكن للشيء مقابل بحسب التضاد، فإنه لا محالة يكون له مقابل على سبيل التناقض البسيط الذي عرفته، وعرفت الفرق بينه وبين التناقض القولي. فغن وجدت اللفظة السلبية مشتركة، فكذلك اللفظة الإيجابية، كقولنا: لا يبصر، ولا يستعمل البصر، فإن أحدهما إن كان مشتركا فيه؛ فالبصر بإزائه مشترك فيه. وكذلك إن أخذت المقابل من طريق الملكة والعدم، فإنه إن كان البصر على وجهين: بصير قلب وبصير عين، فكذلك العمى. وبالعكس، إن كان العمى عميين. فالبصر يدل على معنيين. وأيضاً إن كان العلو مشترك يقال على المكان ويقال على الفضيلة، فكذلك اسم السفل والتحت مشترك.
وأيضاً يجب أن تعتبر التصاريف والاشتقاقات كذلك؛ فإن كانت العدالة والكون على سبيل العدالة مشركا، فالعدل مشترك. وإن كان المصح مشتركا، فالصحيح مشترك.
وأيضاً يجب أن ترفع الأمور المسماة بالأسماء إلى أجناسها، فإن اختلف ارتفاعها فالاسم مشترك؛ فعن الخير إذا قيل للملك، وقيل للفضيلة، وقيل للمساوي، وجد الأول يرتقي إلى الجوهر، والثاني إلى الكيف، والثالث إلى الكم، فيكون إذن اسم الخير واقعا عليها بمعان مختلفة؛ اللهم إلا أن يعني بالخير أمر من الأمور اللازمة التي تشترك فيه لا على سبيل الاشتراك في المقومات فيكون حينئذ من السماء المشككة. إلا أن الخير ليس كذلك فإن الملك خير على أنه جوهر كامل الوجود ليس فيه ما بالقوة، وليس خيرا لأنر يعمه والمساوي، وكذلك إن لم يرتفع إلى أجناس عالية مختلفة، بل أجناس متوسطة مختلفة مثل الأبيض في الألوان والأبيض في الأصوات، ومثل الحاد من الأصوات والحاد من الزوايا؛ ومثل ما يقال الآلة القبان حمار، وللحيوان فإنها ليست ترتفع إلى أجناس عالية مختلفة ليس يحمل بعضها على بعض وفصولها متعاندة؛ ولكن ترتفع إلى أجناس قريبة مختلفة، فغن آلة القبان لا تدخل في جنس الحمار القريب الذي هو الحيوان وإن كان يدخل في جنس له دون أعلى الأجناس. وكذلك جنس أحد الأبيضين اللون والآخر الصوت، وهما داخلان تحت جنس دون أعلى الجناس. وأما إذا وقعت في أجناس مرتب بعضها تحتها بعض، فلا يدل ذلك على وقوعها تحتها بالاشتراك؛ فإنه قد يكون للشيء الواحد دائما جنسان مختلفان بهذه الصفة، بل ربما كانت أجناسا مختلفة ليس عن فصول متقابلة بل متداخلة؛ مثل الحيوان الناطق والحيوان المائت، إذا جعلنا الناطق أكثر من الإنسان عموما.
وقد يعرض من جهة الأجناس والأنواع التي بعضها فوق بعض أن يكون الاسم الواحد يقع بالاشتراك على شيء واحد من حيث يدل على العم والأخص كما قد علمت مرارا. وقد ينفع هذا النفع بعينه النظر في الأمور التي ترتفع إليها لا مفهومات اسم الموضوع بل مفهومات أمور أخرى عند اعتبار المضاد والمقابل؛ مثل أنه إن كانت المتقابلات ترتفع إلى أجناس مختلفة فاسم الضد مشترك، واسم الموضوع أيضاً مشترك؛ وكذلك من التصاريف.(2/59)
ومما ينفع في اعتبار اشتراكالاسم أن يعمد إلى الاسم المركب للشيء الذي يتركب من اسمه الخاص، ومن الاسم المنظور في اشتراكه كأنه اسم واحد لكنه مركب، فيجعل ذلك إلى الحدود أو الرسوم، ثم ترتفع الخاصيات، فغن بقى للباقي مفهوم واحد محصل فليس الاسم بمشترك. مثال ذلك صوت صاف وجسم صاف، فإنك إذا رفعت الصوت ورفعت الجسم لم يبق هناك شيء واحد، لأنه لا يبقى إذا رفعت الصوت ورفعت الجسم حس المسموع، ونافذ فيه البصر أو الشعاع؛ وربما لم ينفع الرجوع إلى الحدود والرسوم في تحصيل اشتراك الاسم. وكثيرا ما يكون الحد المسموع لجميع ما يشترك في الاسم واحدا، والسبب فيه أن يكون في التحديد اشتراك اسم آخر، كمن حد الشيء الصحي أنه الذي نسبته إلى البدن نسبة اعتدال، فيوهم هذا أنه حد واحد وليس هو بالحقيقة واحدا، بل حدودا؛ لأن لفظة نسبة الاعتدال مشتركة تدل على ما هو علامة اعتدال، وعلى ما هو سبب اعتدال.
ومما ينفع في اعتبار اشتراك الاسم أنه قيل شيء على شيئين، فهل يحتمل المقايسة، بأن يقال إنهما متساويان في معناه، فغن كانا يقبلان الأشد والأضعف، فهل يجوز أن يكون أحدهما أشد وأضعف من الآخر؛ وإن كان أحدهما يقبل والآخر لا يقبل، فهذا أول ما يدل على اشتراك الاسم. مثاله: هل الصوت الحاد مساو في حدته للسيف الحاد والطعم الحاد، أو ليس؟ وهل يمكن أن يقال صوت أحد من سيف أو سيف أحد من طعم، مع انه يمكن أن يقال صوت أحد من صوت، وسيف أحد من سيف؟ وقد يقال نور لبيان الحق، ونور للشعاع؛ ونور بيان الحق لا يقبل الأشد والأضعف، ونور الشعاع يقبلهما.
وأيضاً إذا دل الاسم على أشياء هي فصول لأجناس مختلفة متباينة، فإن الاسم مشترك؛ فإن الأجناس التي بهذه الصفة، فإن فصولها مختلفة الحدود. ومثال هذا أن الحاد يدل مرة على فصل ما للصوت، إذ الصوت يخالف صوتا بأنه حاد، ويدل على فصل ما لجنس صناعي آلي.
وأيضاً ينظر في فصول ما يدل عليه الاسم هل هي مختلفة، أو هل هي فصول واحدة بأعيانها؛ فإن وجدت الفصول مختلفة فيكون الاسم مشتركا؛ فإنك تجد فصول اللون الذي يقال على المبصر مفرقا للبصر وجامعا له، وفصول اللون الذي يقال على أحد الأجناس الثلاثة التي في الألحان خمسيا وسدسيا، فلما الفصول مختلفة كان اللون اسما مشتركا. ثم النوع لا يكون فصلا البتة لما هو نوع، ولا الفصل نوعا له. فإذا كان كذلك، فإن كان أحدهما نوعا والآخر فصلا، فالاسم مشترك؛ مثل الأبيض في الألوان فإنه نوع، وفي الأصوات فإنه فصل، فإذن هما باشتراك الاسم. ولكن يجب أن ننظر أن هذا البحث هل هو حقيقي أو بحسب المشهور، فنقول:(2/60)
أما ما يقال إن فصول الأعراض هي أنواعها، فقد علمت فيما سلف أنه لا يجب أن تفهم من ذلك أن الفصل المنطقي للعرض هو بعينه نوعه، بل تفهم أن معنى الفصل في كل موضوع غير معنى النوع، وأن الجنس ليس البتة جزءا من مفهوم الفصل، وهو جزء دائما من مفهوم النوع، لاشك فيه. لكن معنى ذلك أنه ليس النوع الذي للبسائط إلى أن يكون له فصل مجرد بسيط، حتى يكون له حينئذ فصل منطقي مشتق منه، بل الشيء الذي هو النوع فيها، إنما يكون معنى الفصل المنطقي له لذاته، يعني أن البياض وما يجري مجراه من البسائط ليس مفرقا للبصر بتفريق يقترن بشيء، فيكون منهما شيء ذو تفريق هو المفرق، بل يكون البياض بحيث مفرقا للبصر لذاته، لا كالناطق إذا كان ناطقا ينطق، وإن كان ليس أنه مفرق للبصر هو انه بياض، إذ هو مفرق البصر بمعنى أنه شيء مفرق للبصر، وهو انه بياض بمعنى أنه لون مفرق للبصر هو انه إن كان لا يوجد المفرق للبصر إلا لونا فليس أنه شيء مفرق للبصر هو انه لون مفرق للبصر؛ فإنه ليس كل ما لا يوجد الشيء إلا ويكون هو هو يجب أن يكون داخلا في مفهومه ومقوما لماهيته. وقد علمت هذا فيما سلف. فهذا الحكم إذن لا يوجب ما ظنوه من أن يكون نوع البسائط هو بعينه فصله في المعنى والمفهوم. ولهذا لا يحسن أن يقال: اللون البياض، كما يصح أن يقال اللون المفرق للبصر. فلا يجب أن يقال قد يكون الفصل نوعا يحاول بذلك إبطال هذا الموضع، وإخراجه من الحقيقي، وخصوصا ما قيل مع ذلك. لكن النوع لا يكون فصلا البتة؛ وهذا يوجب أن ينعكس فلا يكون فصل نوعا البتة، أو يقال إن هذا في أنواع الجواهر وفصولها. وكيف والأمثلة جاءت لغيرها؛ بل يجب أن تعلم أن الفصل المنطقي لا يكون البتة نوعا لشيء إلا على وجه ما لفصل منطقي آخر، وهو الذي يكون له مكان جنس. وكثيرا ما يكون ذلك الذي كالجنس فصلا الأعلى الذي فيه الشيء. مثاله الحساس، ومعناه شيء ذو حس، فإنه نوع من المدرك الذي هو شيء ذو إدراك. وقد علمت أن مثل هذا كيف يدخل في المقولات وكيف لا يدخل فيها. وأما ما هو نوع من مقولة من المقولات، فليس هو البتة فصلا لشيء على انه فصل منطقي؛ بل يكون فصلا لشيء على أنه فصل بسيط؛ والكلام هاهنا في الفصل المنطقي؛ فليس شيء من الفصول المنطقية نوعا لشيء من المقولات، وبالعكس ليس شيء من أنواع المقولات فصلا منطقيا لشيء. وإنما قلنا إن الاعتبار هاهنا مصروف إلى الفصل المنطقي، لأن المثال الذي هاهنا هو الحاد، وهو محمول على الصوت، من غير اشتقاق، فيقال: صوت حاد. ولا كذلك الفصل البسيط، فإنه إنما كما علمت بأن يشتق منه.
واعلم أنه وإن لم يكن للفصول المنطقية في الأمور البسيطة فصول بسيطة وجودا، فإنه قد يقال ذلك سبيل التفهيم قولا، فيقال: لون له تفريق البصر. فلا يجب أن تظن انه يعني به التفريق بالفعل، فإن ذلك ليس فصلا. ولا يجب أن تفهم منه أن في طباعه شيئا هو التفريق نقترن بالشيئية حتى يكون مجموعهما المفرق كالبياض المقترن بالشيئية، حتى يكون مجموعهما الأبيض، ثم يوصف به الجسم؛ بل إنما يقال ذلك على سبيل التفهيم والمجاز. ويجب أيضاً أن تعلم أنه إذا كان أحد المعنيين المفهومين من الثاني نوعا والآخر جنسا، فغن اللفظ مشترك؛ وكذلك إذا كان أحدهما جنسا، والآخر فصلا. وكذلك إذا كانا فصلي جنسين مختلفين في العموم. لكن أمثال هذه المشتركات قد يدل بها على شيء واحد بالذات أو العدد من جهتين؛ وقد سمعت أمثلة هذا مرارا.
وأما الأداة التي بعد هذا مما لابد للجدلي من الارتياض به فيه، فالاقتدار على أخذ الفصول بين الأشياء، فإنه بذلك يفرق بين الأمور المتشابهة الأحكام، ويطلب هذه الملكة بين الأمور المتجانسة بل المتشابهة جدا؛ وأفضل ذلك ما كان في اعتبارات أحكام شيء واحد. على أن البحث عن تباين أمور متشابهة الجناس نافع جدا، مثل التفريق بين أحكام الحس وأحكام العلم. وأما الأشياء المتباعدة جدا، المختلفة الأجناس، التي لا تشابه فيها في طبائعها ولا في أجناسها ولا موضوعاتها، فغن اعتبار الفروق بينها كأنه خوض في تعرف أمر معلوم، وذلك غير مفيد دربة.(2/61)
وأما الأداة الرابعة فهي الاقتدار على أخذ التشابه. ويجب أن يكون ذلك متطلبا في الأشياء البعيدة الأجناس المختلفة جدا. فمن ذلك ما يكون بمعنى مفرد، مثل تشابه الجوهر في أنهما لا ضد لهما، ومنه ما يكون بالنسبة، كما يقال إن نسبة الحس إلى المحسوس هي نسبة العلم إلى المعلوم، أو نسبة البياض إلى البصر كنسبة السواد إليه، أو نسبة البصر إلى البياض كنسبة البصر إلى السواد، ونسبة العقل إلى الخيال كنسبة الخيال إلى الحس.
وبالجملة إما أن لا يكون في الحدود مشترك، أو يكون واحد في كليهما منسوب أو في كليهما منسوب إليه، أو في أحدهما منسوب وفي الآخر منسوب إليه. ويجب أن يكون هذا كله في الأشياء المتباعدة. وأيضاً فغن الأشياء المتجانسة إذا كانت بعد التجانس متباينة جدا، كالإنسان والثور، وكالبياض والسواد، فإن ارتياد ما يجمعهما بعد التجانس نافع في الدربة.
الفصل العاشر
فصل (ى)
في منافع هذه الآلات
فالأداة الأولى نافعة في أن يكفي المجيب والسائل المُلاجّة فيما لا خلاف فيه؛ فربما كان ما يقوله المجيب غير قابل في المعنى لما يسوق إليه السائل كلامه، كمثل كثير مما وقع الخلاف فيه بين الخطباء والمشاغبين في زماننا، إذ يقول أحدهم: " إن الله يرى " ، ويقول الآخر: " إن الله لا يرى " . والذي يقول: إن الله لا يرى، يعني به أنه ليس مدركا بالبصر إدراك شيء مقابل ذي كيفية؛ والآخر يسلم هذا لو صرح به له، لكنه يقول: " يُرى " ويعني به معنى آخر لا يقدر على النطق به؛ ثم يتشاغبان على العمى. وكذلك إذا قال أحدهما: " كلام الله مخلوق " وعني به هذا المسموع، وقال الآخر: " كلام الله غير مخلوق " ويعني به شيئا آخر غير ذلك لا يتصوره ولا يصوروه للآخر؛ ثم يتشاغبان. والاقتدار على تفصيل الاسم المشترك يعين في هذا الباب معونة عظيمة، ويكفي اللجاج فيما لا يهم.
وأيضاً فإن المجيب إذا كان اللفظ المشترك؛ ثم اخذ السائل بمعنى واحد أهله للعبث به والسخرية منه؛ فكثيرا ما يحاول أن يقيس على معنى فيصرف العبارة عنه إلى معنى آخر وهو لا يشعر به.
وأيضاً فإنا نقتدر بذلك على التحرز من أن تجري علينا مغالطة باستعمال اللفظ المشترك المغالطة التي ستدل على وجوهها في الفن الذي يلي هذا الفن.
وإن شئنا أن نغالط غيرنا على سبيل القياس الامتحاني أمكننا؛ فإنه يصلح لنا أيضاً أحيانا أن نستعمل المغالطة ونمتحن بها قوة الجدلي، كما يصلح أن نستعملها فنعلم به قوة المتعلمين.
وأيضاً فإن كثيرا من الآراء المدنية قد يعلم المدبر للمدينة كنه الحق فيها، ويكون الأصلح أن يعتقد الجمهور خلافه، وأن يقنعوا أو يقنع الجدليون منهم فيه بالأقاويل الجدلية. فإن تبغ فيهم من لا يصلح للتدريج، وكان مع ذلك قوي الجدل قوي الخاطر؛ مقتدرا على ما يبنى على المشهور، فطنا بما في المشهور من العوارف فطنة طبيعية، لم يؤمن أن تعود محاجته بوبال. فيجب أن يتوخى معه كل وجه من الإلزام، فربما نفعت معه المغالطة، كما وقع لسقراط مه " ثراسوماخوس " حين تجادلا في أمر العدل، إذ غلطه " سقراط " باسم مشترك فأفحمه. وليس ينتفع بذلك المجيب وحده، ولا السائل وحده؛ فإن كلا الفريقين ينتفعان به.
أما المجيب فإذا تسلط عليه السائل بقياس يعمله على ما يحسبه مقابل وضع المجيب، ويكون مقابله في المعنى غيره، فإذا بين له ذلك أوضح عجزه وعرف قصوره.(2/62)
وأما السائل فإن يغالط المجيب بذلك إذا كان بعيدا عن تمييز معاني الاسم المشترك، فيكون للسائل في ذلك وجهان من المنفعة: أحدهما أنه إن شاء أعلم آخر الأمر عجز المجيب، والآخر أن يكون السائل لا يحضره قياس على مقابل وضع المجيب، فيأتي بقياس على مقابل ما يشاركه في الاسم مكانه؛ وإنما يمكن هذا فيما لا يكون الحكم على جميع معاني الاسم المشترك فيه واحدا، لا كما الحال عليه في قولنا: " كل عين جسم " ، فإن المجيب حينئذ أو للسائل أن يقول: إن حكم ما ذكرت أنك عملت عليه القياس كحكم المعنى، وإنما أنصر المعنيين جميعا نصرة واحدة. أو يقول السائل: أنا أقصد مقابل كذا، وهو عندك في الحكم على حكم الآخر الذي ظننت أني غلطت في إيراد القياس على مقابله، بل كلاهما عندك سواء، فيسقط بهذا التشنيع والتعجيز. وعلى أن النفع يقل في انتقال السائل من مقابل المطلوب إلى مقابل مشاركة؛ إذا كان حكمهما سواء. بل إنما ينتفع بهذا إذا كان حكم الأمرين مختلفا.
وبالجملة فإن هذا مغالطة، وليس عدلا في الجدل، ولا يحسن أن يشتغل به الجدلي إلا في مثل العذر الذي أوضحناه، وذلك إذا أحس بقصور من نفسه عن مقاومة الخصم؛ وكان غرضه في مقاومته مصلحة؛ ووجد لنفسه فرجا ووصولا إلى الغرض هما متعلقان باستعمال اللفظ المشترك؛ إذ الغرض في مثل ذلك ليس بيان الحق، بل المصلحة.
وأما الأداة المبنية على طلب الفصول فمنفعتها في ارتياد المواضع والمقدمات المعدة نحو القياسات التي تقصد قصد النظر في الواحد والغير، إذا أريد إبطال الواحد وإثبات الغير. وتنفع أيضاً في الحدود، فإن كمال الحدود بالفصول.
وأما الأداة المبنية على طلب التشابه فتنفع في الاستقراء؛ إذ الاستقراء مبني على طلب أمور متشابهة تحت كلى وكلى آخر؛ ليجعل أحد الكليين محمولا على الآخر؛ فإن كانت متباينة لم تنفع. وهذه المنفعة - على ما علمت - مشهورة لا حق؛ وينتفع بها أيضاً في القياسات الشرطية المتصلة، ولكن منفعة مشهورة أيضاً، لا حقة.
وأما كيفية المنفعة المشهورة فيها فهي على وجهين ك أحدهما ما يستعمله الجدلي وغرضه ليس الخلف والتشنيع بل الاستقامة، كقولهم: إن كان اللمس يورد الملموس على اللامس؛ فالإبصار يورد المبصر على المبصر. وهذا كلام جدلي كثيرا ما يكون مشهور القبول؛ لكنه ليس بواجب؛ أعني أن يكون الحكم في الشيء كالحكم في شبيهه. لكنه إذا ثار هذا الوجه من الاحتجاج مشهورا ومستعملا، كان من العدل في المشهور أن يطالب المخاطب بإيراد الفرق بينهما، وأما في الحقيقة فلا يلزم المخاطب ذلك، لأنه ليس يلزم في الحق أن يكون حكم الشي كحكم شبيهه، بل هذا ممكن أن يكون، وممكن أن لا يكون، فهو كنفس الدعوى. وإنما يلزم من طريق النظر الحق ما لزم من مقدمات واجبة، وإذا كانت المقدمات لست واجبة فليس الكلام بقياس، إذ ليس فيه مسلم وموضوع، وقد علمت أن هذا كان شرط القياس في أن يصير ما يلزم عنه لازما، فيكون للمخاطب أن يقول، ولم يجب أن يكون حكم البصر كحكم اللمس وإن تشابها في أنهما حاستان، فما لم يتبين ذلك عليه بغير وجه المشابهة لم يجب.
وأما الذي في طريق الخلف والتشنيع، فكما يقوله قائلهم: لو جاز أن يكون كذا، لجاز أن يكون كذا؛ أعني لو جاز أن يكون البصر يرسل رسولا إلى خارج لجاز أن يرسل اللمس رسولا أيضاً إلى الملموس، وتكون لفظة " لو " هاهنا أحسن في الاستعمال، ولفظة " إن " هناك، فإذا كان استعمال هذا عند جدلي زمان محمودا مشهورا، كان من العدل في الجدل أن يطالب الخصم بالفصل حتى يبين أنه لم جاز في هذا دون ذلك، وكان حينئذ إذا لم يبين بعد هذا، إن كان هذا المأخذ صار مشهورا مقبولا، فإن المأخذ قد يصير مشهورا، كما المقدمات قد تصير مشهورة. وأما في الحق فلا يلزم الخصم أن يجب عن ذلك البتة، بل يقول: ولم كان يجب إذا جاز شيء في شيء أن يجوز في شبيهه، بل يجوز أن يكون حكم موجودا في شيء، وغير موجود في أقرب الأشياء شبها به منه. وإذ ليست هذه المقدمة بمسلمة، فليس قياسك بقياس يلزمني طلب الفصل فيه، وهب أني لست أقدر على الفصل فيه، فأين برهانك على وجوب التشابه فيه.(2/63)
وقد ينفع هذا البحث في الحدود والرسوم، لأن أول ما يجب أن يُطلب في الحدود هو الشيء المتشابه فيه، لأن أول ما يُطلب هو الجنس؛ والجنس أصل التشابه في الأمور الذاتية؛ والرسوم قد يوجد فيها إما أجناس، وإما بدل الأجناس أمور مناسبة للأجناس.
وأيضاً فإنه إن كان عندنا حد لشيء ما، ولم يكن عندنا حد أو رسم لشيء آخر، فربما كان ذلك الآخر شيئا بعيدا عنه جدا، وكان مع ذلك يشابهه في أمر، وذلك الأمر جزء حده أو رسمه، ثم ما وراء فصوله، فينبه من هناك على جنس ذلك الشيء الآخر، ثم يقرب الأمر في ارتياد الفصل. وهذا مثل مشابهة سكون الريح لركود البحر، والوحدة للنقطة، إذ كل واحد منهما مبدأ كم.
والجدليون إذا وجدوا عاما مثل هذا، وجدوا جنسا، أو ما هو في المشهور جنس، أو ما هو قائم في الرسوم مقام الجنس.
فهذه هي الآلات النافعة في اكتساب القُنية الجدلية، ثم يليها الوقوف على المواضع.
المقالة الثانية
وهي ستة فصول
الفصل الأول
فصل (أ)
في مواضع الإثبات والإبطال
المأخوذة من جوهر الوضع
إنا سنبتدئ في هذه المقالة بذكر المواضع، سالكين فيه سهيل التعليم الأول؛ فإن ما أثبت في التعليم الأول أثبت على سبيل جمع من غير أن يتعقب مرة أخرى للترتيب؛ فإن جمع ذلك عجيب عظيم؛ والشغل به ربما صرف عن معاودة التكلف لما هو عائد بحسن الرتبة دون الضرورة. فلو شاء شاءٍ أن يرتب ما هو مواضع الإثبات والنفي المطلقين على حدة، ويميزه عن الذي يخص العرض من حيث له الوجود العرضي، لم يكن بما يتكلفه من ذلك بأس. وكذلك إن كان من المواضع شيء بينه وبين لِفقِه موضع كأنه غريب بينهما، فلمتكلف أن يتكلف تغيير الحال فيه. على أن الفطن تغنيه جودة الفهم عن الترتيب؛ والبليد لا ينفعه الترتيب الحسن؛ فنقول الآن: المطالب التي تساق إليها المقاييس كلية وجزئية؛ وما أثبت كليا أو أبطل بالكلية، فقد يضمن الجزئية فيما فعله. والعرض فقد يثبت كليا، وقد يثبت جزئيا، ولا يبطله من حيث هو عرض سلبه جزئيا. وأما ما سواه فإن جميعه يحتاج أن يثبت كليا؛ ويبطله أن لا يوجد في البعض. لكن الخاصة والحد يحتاجان أن يثبتا كليين، وأن يبطلا عما سوى الموضوع إبطالا كليا. وأما العرض فممتنع أن يثبت معاكسا للموضوع؛ فإنه حينئذ ينقلب خاصة، لكن ذلك ينفع في إبطال العرض، لكنه إذا أثبت أنه معاكس لم يكن عرضا؛ لكن إثبات ذلك صعب جدا. فإذا كان العرض وجوده أقرب إلى أن يكون وجودا بلا زيادة تأكيد حتى يكفي أن يكون موجودا، وأن لم يكن للجميع أو كان للجميع ولم يكن مقوما - وجميع ذلك لا يزيده معنى وجوديا على الوجود؛ بل الزيادة هو إما أن لا يكون عاما، وإما أن لا يكون مقوما؛ وما أشبه ذلك - وكان ما وراء العض يحتاج في أمره إلى نظر زائد؛ وكان المجيب إذا نص أن الشيء جنس تكون نصرته له بعد أن يكون سلم له الوجود؛ والسائل إذا خاصمه في انه ليس بجن إنما يخاصمه المخاصمة الخاصية بأنه ليس يجلس إذا كان سلم له أنه موجود. وأما إذا ادعى في شيء أنه عرض فيكون قد أعطى أنه لا يضمن كونه عاما بل كونه عرضا؛ فيكون في أكثر الأمر إنما يخاصمه السائل في أن هذا ليس بموجود، فضلا عن أن يكون عام. وأما أن يقول له ذا موجود، ولكنه جنس لا عرض، فهو مما يقع ندرة. فكان إلحاق مواضع العرض في التعليم بمواضع الإثبات المطلق مما له فائدة.
وعلى أن النظر في المحمولات التي هي أجناس وحدود وخواص نظران: أحدهما هل هي موجودة لموضوعاتها، وهذا النظر يدخل في اعتبار الوجود؛ وقد عرفت في مواضع أخرى ما في ذلك. والنظر في أن المحمول هل هو جنس، أو هل هو حد، أو هل هو خاصة، وهذا نظر في عارض طبيعة، لأن الجنسية - كما علمت - أمر ما يعرض للطبيعة الجنسية، فيكون النظر في هذه المحمولات من جهة نظرا أخص من النظر في الوجود، ونظرا في انه هل الشيء عرض.
وقد ظن في هذا الموضع أن السائل مبطل، والمبطل سالب. قيل: فلهذا قدم النظر في السلب الكلى في هذا الموضع على الإيجاب؛ وهذا كذب وزيغ؛ فإنه كما أن المبطل للإيجاب يكون بالسلب، كذلك المبطل لوضع سالب إنما يكون بالإيجاب.(2/64)
وأيضاً فغن التعليم الأول لم يتعرض لتقديم السلب، بل ذكر حديث إبطال، إذ السائل إنما يقيس على الإبطال لما يقوله المجيب. والإبطال الكلى فقد يكون بموجب جزئي، وقد يكون بسالب جزئي، وقد يكون بالكلى منهما جميعا.
وقد ظن في أمر العرض شيء آخر، وهو أن الجنس كالحيوان إذا قيل كان محمولا على جوهر حيوان، ودل على وجوده؛ ثم الأبيض لا يدل على وجود الثلج. ولم يعلموا أنه لقائل أن يقول: والحيوان لا يدل على وجود الإنسان، والأبيض يدل لا محالة على وجود جوهر أبيض. وأما أنه لا يدل على ماهيته فشيء آخر ليس مفهوم هذا اللفظ. وكذلك ما قالوا إن العرض لا يدل على غير واحد دلالة لا تزول؛ فهو شيء آخر ليس مفهوم هذا اللفظ.
فأول المواضع المذكورة هو النظر فيما فرض عرضا للمحمول هل هو جنس أو حد أو خاصة له. فإن كان ليس عرضا له. وهذا كأنه بعد تسليم الوجود له، وعند اعتبار نفس العرضية التي هي لا محالة غير هذه المعاني الأخرى. ومثال هذا أن يقول قائل: إن البياض عرض له أن كان لونا، وإنما اللون جنسه، وكذلك لو قال قائل: عرض للعدالة أن تكون فضيلة، فتارة يقع الغلط من الوجه الذي قلنا، وتارة بأن يجعل الجنس لا محمولا بالتواطؤ بالاشتقاق، كالأعراض، فيقال: إن البياض تلون، وإن المشي تحرك، وإن النقلة تغير. ولو كان اللون خاصة للبياض، لما كان مانع يمنع أن يشنق من بسيطها الاسم. لكن أمثال هذه الأشياء أعم من موضوعاتها، فليست أيضاً بخواص.
وهذا الموضوع برهاني، والقياس عليه من الشكل الثاني، ويصلح للإبطال، ومن وجه أيضاً للإثبات. أما الإبطال فإنه يقال مثلا: محمول كذا جنس للموضوع؛ ولا شيء مما هو عرض للموضوع بجنس له، فيكفي في الإبطال قياس واحد.
وأما في الإثبات فيحتاج إلى مقدمات كثيرة بالقوة، حتى يقال: كذا ليس بجنس، ولا حد، ولا خاصة، وكل ما ليس بكذا ولا كذا، فهو عرض. لكن هذه القياسات بالحقيقة مركبة من منفصلات كثيرة، كأنه قال: كذا إما أن يكون جنسا أو فصلا أو خاصة أو شيئا آخر؛ ثم يستثني فيقول: لكنه ليس بجنس؛ فينتج: لكنه كذا أو كذا؛ ثم يستثني مرة أخرى حتى يبقى واحد، إلا أنهم يستعملون الاستثناءات كصغرى واحدة، ثم يجعلون الكبرى مقدمة موضوعاتها مركب من محمولات الاستثناءات، وينتجون. ومع هذا فإن الأولى بهذا الموضع أن يكون معدا نحو الإبطال.
وموضع آخر معد نحو الهلية بالذات؛ وقد يمكن أن يجعل معدا نحو اعتبار العرضية؛ وهو مأخوذ من اعتبار الموضوع في المسألة بأن يقسم إلى أنواعه وأصنافه القريبة منه أولا، لئلا يتشوش بالوقوع إلى الكثرة دفعة، بل يجب أن يكون الابتداء بالقسمة مما هو أقل، ثم يتدرج إلى ما هو أكثر، فيقسم أيضاً جزئيات الجزئيات القريبة، ويوقف عند الحد الذي إذا تجوز وقع في الأشخاص، مثل ما لو كانت المسألة انه: هل العلم بالمتقابلات واحد؟ فيقسمها أولا إلى الأربع ثم يقسم الأربع إلى جزئياتها، فيقسم الأضداد إلى العدل والجور وما أشبه ذلك، ويقسم المتضايفات إلى الضعف وما أشبه ذلك؛ والعدم والملكة إلى العمى والبصر وما يشبههما؛ ويقسم النقيض إلى قولنا، الشيء كذا وقولنا ليس كذا؛ وإلى البسيط كقولنا: إنسان ولا إنسان، والمركب كقولنا: هو إنسان ليس هو بإنسان؛ على ما علمت.
فتأمل، فإن كان المحمول غير موجود في شيء منها، وكان الدعوى جزئيا موجبا، أتينا بالقياس على نقيضه، أو كان غير موجود في بعضه وكان الدعوى كليا موجبا، أتينا بالقياس على الجزئي السالب؛ وهذان للإبطال.
وأيضاً إن وجدنا الحكم مستمرا في جميعه أتينا بالقياس على كلى موجب، أو وجدناه مستمرا في بعضه أتينا بالقياس على الجزئي الموجب؛ فصلح هذا للإثبات والإبطال.
فإن كان الدعوى كليا موجبا، وكان الأمر موجودا في كل الموضوعات أو أكثرها، فإن الأكثر في الجدل كالكلى، ثم لم يظهر عناد جزئي سالب؛ أو كان الدعوى كليا سالبا وكان السلب مستمرا في الكل أو في الأكثر، ثم لم يظهر عناد لجزئي موجب، فعليك أن تسلم ولا تجادل. فإنك إذا جادلت من غير مناقضة تجدها، كنت أهلا لأن يضحك منك. فنقول: إن هذا الموضع إنما يكون برهانيا بعد أن تكون الجزئيات كلها قد رتبت فلم يفلت شيء، ثم يكون المحمول من الإيجاب والسلب على كلية كل جزئي.(2/65)
أما الذي تؤدي إليه بقسمة أولى أو بقسمة ثانية، فإنه لا بأس في أن يكون الحكم أعرف في الجزئيات منه في الكلى، وأن يتوصل من الجزئيات إلى الكلى، لكنه من شرطه أن لا يكون كل نوع أو صنف مما انتهيت إليه القسمة محمولا فيه الإيجاب والسلب إلا باستقراء الأشخاص؛ فإن ذلك لا يغني ولا ينتهي، اللهم إلا أن يكون تتبع الجزئيات الشخصية على سبيل التجربة الموقعة للتصديق الكلى المعروف حالها في كتاب " القياس " ؛ فحينئذ يصلح هذا النظر.
فأما إذا لم يكن الحكم على كلية جزئي مما هو تحت الكلى الأول الأعم بيّنا، من غير التفات إلى جزئياته الشخصية التفاتا غير تجربي، فإن هذه الطريقة لا تنفع في البراهين. وإنما تنفع في البراهين حيث تكون إما في حكم الاستقراء التام، أو في حكم التجربة التي تقع في كل نوه مما وقف عنده وقوفا؛ وهذا مما يقع في القليل.
وأما المخاطب التعليمي، فإذا أورد عليه أكثر جزئيات الأمر، وكان الحكم فيها مستمرا - لكن المعلم الول لم يبين أن ذلك في الكل، بحيث ولا شاذ واحد - كان من العدل أن لا يسلم المقدمة للمجيب، وأن ينكرها من غير أن يلزمه الإتيان بعناد البتة؛ فغن الحق ليس يتبين له بسبب أنه يجد معاندة أو لا يجد. فإنه إذا كان لا يجد هو معاندة للحكم، فليس يجب أن يكون في نفس المر له معاند. وإذا جاز أن يكون في نفس الأمر معاندة جاز عنده أن لا يكون الحكم الكلى حقا في نف المر، وإن كان حقا في الأكثر. فإذا جاز ذلك عنده، لم يكن التسليم مما يلزمه، فلم تكن نتيجة القياس مما يلزمه، فلم يكن تعليم.
وأما في الجدل فليس الغرض عقد قياس من حقيات أوليات بينة، بل مما هو بيّن في المشهور. وأكثر بيان المقدمات في المشهور؛ إنما هو في الاستقراء؛ فإذا أتى باستقراء يعم الأكثر، فقد أتى بالقانون الجدلي. فإن وجد المخاطب ما يعاند به، فقد ناقض المقدمة الكلية؛ وإن لم يجد؛ بل وجد استمرارا، قبل ما في حكم الجدل أن يقبل. فأما إن قال: لا أقبل، ومع ذلك فليس عندي عناد؛ بل أنا عاجز عن المناقضة، فقد تعرض لأن يسخر منه. فهذا الموضع معد نحو الإثبات والإبطال المطلق من هذا الوجه.
وأما أنه كيف يكون معدا نحو العرض، فأن يجعل النظر في المحمول ليس على أنه محمول مطلقا، بل على انه موجود عرضا في الكل والأكثر، أو ليس موجودا عرضا في شيء أو في الأكثر.
وموضع ثالث شبيه بهذا الموضع في شيء، ويخالفه في شيء. أما مشابهته لما مضى، فإنه تتبع لآحاد كثيرة. وأما مخالفته فلأنه تتبع لآحاد كثيرة، هي أجزاء الحد الأول، فقد كان تتبع لآحاد كثيرة وهي جزئيات الموضوع. وأيضاً، الأول كان التتبع فيه مخصوصا بجانب الموضوع. وأما هذا فإن التتبع فيه مخصوص بأحد الجانبين وحده. وأما نفس الموضع، فإن يورد حد كل واحد من الموضوع والمحمول ويحلل إلى أجزائه، ويطلب هل في الأجزاء ما يمنع وجود المحمول للموضوع، فإنه إن كان جزء من حد أحدهما منافيا للآخر، فجملة الحد مناف، فالمحدود مناف. مثال ذلك، إن قال قائل غير مبال ولا متق: " إن الله يظلم " نظرنا في شرح اسم الله تعالى، وفي حد الظلم، فنجد شرح اسم الله تعالى أنه: هو الموجود البريء عن الانفعال والتغير، والمعطى لكل موجود وجوده. ونجد حد الظالم: أنه إضرار يصدر عن الشيء طوعا - وإن كان هناك شرط زائد فلا نحتاج الآن إليه - فنجد الإضرار تغيرا ما وتأثيرا بوجه. ونجد الله تعالى لا يصلح أن ينسب إليه تأثير الضرر فيه، وتغيير الطارئ عليه إياه، فيصير ذلك لنا سببا إلى إبطال الدعوى.
وكذلك إن قال قائل: " إن الفاضل قد يحسد " ، فلننظر في حد الحسد، فنجده أذى يلحق بسبب الشعور حال الأخيار، ونجد الفاضل هو الذي يجري في الفعل والانفعال، والتلذذ والتأذي، على ما هو الجميل والعدل؛ فيجب أن يكون الفاضل غير حسود.
وكذلك لو قال قائل: " إن المنافس حسود " ، ونجد المنافس بأنه هو المتألم لحسن حال من لا يستحق الخير من الأشرار، فنعلم أن المنافس ليس بحسود.(2/66)
فإذا حللنا الحسد إلى أجزاء أولى، ولم يخرج من الأجزاء ما نشعر معه بالمنافاة، لم تقف ولم نقنط، بل لم نزل نحلل ونحلل حتى نلمح النافع في الغرض؛ أعني لم نزل نقبل على تحليل حد أجزاء الحد الأول، ونستمر في الجانبين كذلك إلى أن نقضي إلى أجزاء تنبهنا على ذلك، فنكون كلما حددنا حدا، وأتينا بتفصيل مركب لا محالة من مفردات هي أسماء وألفاظ بسيطة، أتينا بدل المفرد بقول. فإن هذا الصنيع يسهل لنا سبيل إدراك المطلوب، إما من نفس أجزاء الحد كما عرفنا، وإما من لوازم أجزاء الحد. فإنا ربما نتأدى إلى جزء حد يكون له لازم بيّن اللزوم، ويكون بيّن المنافاة للجانب الآخر. وهذا الموضع نافع في الإبطال في ظاهره؛ وظاهره معد نحو الهلية. وهو موضوع نافع في البراهين أيضاً.
وموضع آخر يشبه هذا الموضع، ويشبه الأول، وهو أن يكون الجدلي بضع المقدمات التي يريدها، ويأخذ في مقاومتها يطلب العناد، فينتفع بذلك منفعتين: إحداهما أنه من حيث هو جدلي له أن يقيس على المتقابلات، فيكون له بما فطن له من المقاومة أن تبطل المقدمة الحاصلة له عندما يحتاج أن يستعمل نقيضها في قياس آخر يسوق إلى تصحيح وضع يقابل الوضع الذي يصحح بتلك. وأيضاً فيكون له أن يحترز بالشروط التي إذا اشترطت في المقدمة لم توجد لها مقاومة، فيستعملها - عندما يستعملها - على الجهة التي ينتفع بها في أمان من نقضها. وهذا الموضع من حيث هو تتبع للجزئيات، فيشبه ما سلف؛ ومن حيث إن الغرض فيه وجود موضع واحد مشترك للقياس على متقابلين يخالفه. وبالجملة جهة اعتباره غير جهة اعتبار الموضع السالف. وهذا الموضع جدلي جدا.
الفصل الثاني
فصل (ب) في مثل ذلك
وموضع معد نحو اعتبار اللفظ، ونافع في الإثبات والإبطال جميعا؛ وهو أنه إن كان لم يأت للمعنى بالاسم المشهور له، بل اخترع من نفسه اسما، إما على سبيل اشتراك فيه، إذ كان لذلك الاسم عند الجمهور مفهوم آخر، أو على سبيل ابتداع اسم إن كان ليس له عند الجمهور دلالة، فإنه يبطل عليه قوله، ويقال له: إن اللفظ الذي أتيت به باطل، لأن الواجب علينا اتباع الجمهور في التسمية للمعاني، وإن كان لا يلزمنا اتباعهم في إيقاع ذلك الاسم بذلك المعنى، على ما يظن داخلا تحت المعنى.
ونحن نخالفه؛ فإن التسمية على وجهين: تسمية بغير واسطة، وتسمية بواسطة. والتسمية بغير واسطة كتسمية معنى الحيوان حيوانا، والمعنى الفاعل للصحة مصحا؛ وهذا إلى الجمهور. وتسمية بواسطة، كتسمية العلاج الفلاني مصحا، والجسم الفلاني حيوانا؛ وذلك بان يجعل الشيء داخلا تحت المعنى الذي له الاسم أولا؛ وليس هذا إلى الجمهور. فإن العامة إذا سموا مفيد الصحة مصحا تبعناهم؛ فغن قالوا: إن الاستفراغ قبل النضج في الأمراض الحارة والمزمنة مصح، لم نتبعهم. فإذن لنا أن نبطل قول من يأتي باللفظ الغير الدال على المعنى في المتعارف، ولنا أن نثبت بأن ندل أن هذا اللفظ صالح في التعارف لهذا المعنى.
وهذا الموضع جدلي أيضاً؛ فإن البرهانيين إذا فهموا من اللفظ شيئا أو اخترعوه، أو عملوا به ما شاءوا، لم نلتفت إلى ذلك، بعد أن يكون المعنى مراعى.
وموضع آخر يجوز أن يكون جدليا، ويجوز أن يكون مغالطيا؛ وذلك أن الجدلي إذا استعمل لفظا مشتركا ثم حكم عليه بحكم كلى، ثم بين استمراره في جميع آحاد تلك المعاني، انتقل فقال: فكل كذا كذا، مدخلا فيه المعاني الأخرى. وإنما يمكنه أن يفعل ذلك إذا كان المخاطب لا يشعر باشتراك الاسم، وإلا فإنه سيقول له: إن الذي أثبت الحكم فيه غير الذي تنتقل إليه بالمعنى، وإن كان يشارك في الاسم.(2/67)
وهذا الموضع صالح للإثبات والسلب. وأما المبطل فيكفيه أن يبين في بعض تلك المعاني أن الحكم غير موجود إذا كان يبطل كليا. وأما المثبت فلا يمكنه أن يثبت أن الحكم كلى بسبب وجوده في جزئي واحد، بل بسبب وجوده في الكلى، أو في الأكثر؛ إلا أن يكون شيء واحد، وهو أن يكون مقنعا أو مسلما أن الحكم في الجميع كالحكم في الواحد؛ وذلك في الأمور المقومة واللازمة؛ فإنه إذا صح أن المحمول مقوم لجزئي واحد من كلى أخير، صح أنه مقوم للكلى بها؛ وكذلك في اللوازم التي لا تفارق إذا سلم أنه موجود لشيء من الكلى. وفي جميع ما يقع عليه الاصطلاح بين المجيب والسائل أن الحكم في الواحد والكثير لا يختلف. فأما إن لم يكن كذلك، فالجزئي الواحد لا ينفع في إثبات حكم كلى؛ فليس إذا كان نفس الإنسان غير مائتة يلزم أن يجعل كل نفس غير مائتة. وأما إذا كان القائل قال: إن نفس إنسان واحد، حكمه واحد؛ ثم يبين أن نفس فلان غير مائتة - وقول نفس الإنسان ونفس كل حيوان يتفقان في هذا الحكم - ثم يبين أن نفس الإنسان غير مائتة بدليل من المشهورات؛ مثلا أنها خاطبت بعد الموت في الرؤيا فلانا فأخبرته بأن له رفيقا في موضع كذا، أو بأن فلانا المدعى على ورثته محق، أو بشيء مما يشبه هذا، فأقنع هذا في المشهور بأن نفسه تكون حية، وهي التي أتت نفس النائم فحدثته بما حدثته، انتقل القائل فقال: وكل نفس إنسانية لا تموت، إذا كان الخلاف في كل نفس وفي هذه الواحدة خلافا واحدا.
فكذلك حكم ما تكون الجزئيات فيه ليست جزئيات المعنى، بل جزئيات اللفظ. وإنما يلجأ الجدلي إلى هذا الصنيع، حيث لا يجد الحكم عاما بحسب معنى واحد وجود المهندس مساواة الزوايا الثلاث لقائمتين في المثلث؛ فغن الجدلي لو وجده عاما لم يحتج إلى ان يستعمل الاسم المشترك، بل له أن يقصد المعنى الواحد الذي الكلام بالحقيقة فيه، ثم يبين الحكم فيه. وإن كان لا يجد الحكم عاما، ويجده خاصا بالمعنى الذي يقصده وبيّنا فيه، فما حاجته إلى الاشتغال باللفظ المشترك؟ إنما يحوجه إلى ذلك أن الحكم يكون واضحا في غير المعنى المقصود؛ فيأخذه على أنه المعنى المقصود لاشتراك الاسم. نعم إن وجد الحكم عاما في جميع ما فيه اشتراك الاسم، فمن إظهار القوة أن يستعمل البيان في جميعها، وإن كان لا يلزمه ذلك، بل يكون كأنه يقول: إن الحكم الذي ادعيته ليس هو الحق وحده في كذا، بل وفيما يشاركه في الاسم أيضاً، فإن حكمه حكمه. مثل أنه إن قيل: هل العدل واجب، وكان الواجب يقال باشتراك الاسم على النافع وعلى الجميل نفسه، وعى الواجب وجوده، فيبين أن العدل واجب بالمعنيين جميعا، فيكون قد أظهر قدرة على البيان، وتكلف ما هو فوق الواجب. وهذا بعد أن يدل على أن هناك اشتراكا في الاسم، وأنه غير ذاهب عليه الاسم. فأما إذا دل على اشتراك الاسم، ولم يمكنه أن يستعمل هذه القوة، فأشار إلى أن أحد المعنيين موجود له الحكم، ولم يمكنه أن يبين أن المعنى الثاني كذلك، فقد خرج عن عهدة البيان. لأنه إذا بان أن أحد المعنيين موجود، وأنه إنما نحا ذلك المعنى، فقد سلمت دعواه.
فهذا الموضع إذا أخذ على ظاهر المذكور عند الشروع في بيانه، فهو سوفسطائي، وإذا أخذ على وجه آخر يكون جدليا. وهو أن كثيرا من الأسماء المشتركة في الحقيقة ليست مشتركة في المشهور، وإن كان المشهور لا يمنع أن يوقف على الشركة فيها، فتصير أيضاً حينئذ الشركة فيها مشعورا بها في المشهور، وإن كانت قبل ذلك في حكم المتواطئ؛ فغن كثيرا من المقدمات الجدلية المشهورة تكون مشهورة، ثم قد يشعر بنقيضها، وتمنع، وتوفى، فضلا عن الشهرة في اشتراك الاسم، ولا يوجب هذا كونها غير مشهورة بالحقيقة فليس الشعور بان الأمر غير حق يجعله غير مشهور، بل إذا كان ذلك الشعور أمرا ظاهرا جدا، غالبا، موقوفا عليه حال ما يخاطب عند كل أحد، فحينئذ لا تكون الشهرة حقيقية، بل تكون إنما راجت المقدمة على إنسان ما بسبب من الأسباب، وفي وقت غفلة.(2/68)
وأما ما يكون مشهورا مقبولا قد يسلمه الجمهور، وقد يعتقدونه، ويستمرون عليه، ولا يظهر لهم أن المشهور يمنع شهرته في الحال بأدنى تأمل، بل إنما يظهر ذلك بنحو من النظر أدق من ظاهر النظر العامي، فذلك مشهور في نفسه. فإذا أخذ من حيث يسلمونه، أخذ من حيث هو مشهور، وصلح استعماله على أنه مشهور. وإذا أخذ مقابله من حيث هو مشعور به، ورفد بحجة، فهو أيضاً جدلي.
وبالجملة، فإن المشهور إذا أحس بصدق مقابله، أو شهرة مقابله ايضا، أو صحح ذلك بنحو من التصحيح، كان كل واحد من المتقابلين مشهورا. فكذلك قد تكون المقدمة المستعملة لاشتراك الاسم على أنه متواطئ، إذا كان المشهور يقبله ويسلمه جدلية. وأيضاً إذا شعر بالاشتراك الذي فيها، ومنع استمرار الحكم فيها على منهاج واحد، فإن المقدمة الفاعلة ذلك تكون أيضاً جدلية.
وبالجملة ما يسلمه الخصم - وإن كان شنعا - فهو جدلي، فضلا عن أن يكون مشهورا مطلقا، ومشهورا غير مطلق. وإنما يكون استعمال الشنع مغالطة في الجدل، إذا أخذ على أنه مشهور مطلق، أو محدود محمود، ولم يكن كذلك، وروج على أنه كذلك. وأما إذا أخذت المقدمة الشنعة من حيث هي متسلمة من المخاطب، فاستعمالها عليه جدلي. فإذن هذا الموضع يصير جدليا بهذا الاعتبار. ولا مناسبة لهذا الموضع مع البراهين، لكنه قد يناسب القياسات الامتحانية والعنادية.
وموضع آخر شبيه بهذا، غير أن بدل الاسم المشترك المحصل فيه اسم متشابه أو مشكك، فإنه يجب أن تفصل دلالته مميزة محصلة، ويتأمل الحال في الواقعات تحته. وأما الأمثلة لذلك، فأن يكون لأشياء كثيرة مختلفة الحدود اسم واحد، لا بالاشتراك البحث؛ بل بالتشكيك مثلا، لأن لها كلها نسبة إلى غاية واحدة؛ أو لأنها غايات لشيء واحد؛ فإن ذوات الغايات تشترك في معنى النسبة إلى الغاية الواحدة، والغايات الكثيرة لشيء واحد تشترك في النسبة إلى ذلك الشيء المبدأ. مثال الأول أن الطب يحد بأنه العلم بالأمور الصحية الحافظة والرادة، فتكون الأمور الصحية تشترك في لفظة " الصحية " ، وتشترك أيضاً في معناه من حيث النسبة إلى غاية واحدة وهي الصحة. ومثال الثاني أن العلم بالمتقابلات واحد؛ ولفظة العلم بالشيء، بل لفظة " بالشيء " تتناول كل واحد من المتقابلات المختلفة الحدود، من جهة أن لها نسبة إلى شيء كما هاهنا إلى العلم، فهي غايات للعلم معا. فيكون مفهوم " بالشيء " مفهوما متشككا، من حيث يدل على نسبة.
زمن هذا القبيل أيضاً ما ليس التشكك فيه بحسب النسبة، بل بحسب أن المعنى الواحد بعينه المسمى بالاسم لا يكون حاله عند الموضوعات سواء؛ بل يكون لبعضها أولا وبالذات، ولبعضها ثانيا وبالعرض. مثل كون المثلث مساوي الزوايا لقائمتين، كون متساوي الأضلاع مساوي الزوايا لقائمتين. لست أقول المثلث المتساوي الأضلاع؛ والفرق بينهما أن المثلث المتساوي الأضلاع ليس حمل كون الزوايا مساوية لقائمتين عليه بالعرض؛ وإن كان ليس أولا، فإنه ليس الحمل بالذات، والحمل الأول واحد. وقد علمت هذا في موضع آخر.
ولو كان الحمل الثاني حملا بالعرض، لكان حمل الجوهر على الإنسان حملا بالعرض، ولم يكن حقيقيا، ولكان قولنا: كل مثلث فزوايا مساوية لقائمتين على انه حمل ذاتي، على الوجه الذي علمت من قصدنا بالذاتي في مثله كاذبا؛ إذ مثلت ما ليس كذلك؛ إذ إنما الذي هو كذلك هو المثلث المطلق به. وهذا شيء قد عرفته، فلا أحتاج إلى أن أطول القول فيه مرة أخرى. وإذا كان كذلك، فالمثلث المتساوي الساقين فإن حمل مساواة الزوايا لقائمتين عليه ذاتي، وإن لم يكن أوليا، مع أنه ذاتي له، اللهم إلا أن يقال: لا يعتبر في الأولية هذا، بل يعتبر أن يكون الموضع المحصور إذا جردت طبيعته، كانت طبيعة المحمول يحمل عليها المحمول حملا ذاتيا؛ وإن كان الحصر ينزل ذلك عنه إلى جزئيات، لو عينت، لم يكن الحمل عليها بعد التعيين أوليا لهذا الشرط. فهذا لو قاله قائل، لم نعنفه في هذا المثال، وساهلناه فيه، ووجدنا عنه مندوحة بغيره، وبيناه من غير هذا المثال، مذكرين بما قلنا من الفرق بين الذاتي والأولى.(2/69)
وأما المتساوي الأضلاع، فإن حمل كون الزوايا مثل قائمتين عليه حمل بالعرض؛ وذلك لأن متساوي الأضلاع قد يكون مثلثا، وقد يكون غير مثلث؛ والمثلث أيضاً قد يكون متساوي الأضلاع، وقد لا يكون. فإذا عرض لمتساوي الأضلاع أن كان مثلثا، عرض له حينئذ أن كان زواياه كقائمتين؛ فإن عرض له أن كان مربعا، لم يكن ذلك عارضا له فإذن قولنا مساوي الزوايا لقائمتين، أمر يقال على كل مثلث بالذات، وعلى متساوي الأضلاع، وقتا ما، وبالعرض لأجل ما عرض له أن كان مثلنا، ولأجل عارض له بالجمل. ومثل هذا الحمل يكون بتقدم وتأخر مطلق مختلف في الاستحقاق، ويكون بالتواطؤ الصرف بل بالتشكيك؛ أعني إذا قيل على المثلث، وعلى متساوي الأضلاع. وأما على أصناف متساوي الأضلاع فلا يكون بالتشكيك، بل يقال عليها بمعنى واحد في درجة واحدة، حتى لا يُتوهم من هذا أنا قد رجعنا مما قلنا قديما، إذ منعنا أن يكون مثل هذا المقول لا بالذات متواطئا. فإنا إنما منعنا أن يكون بالتواطؤ، وهو مقيس إلى جزئيات طبقتين قياسا يوجب في الطبقتين اختلافا من حيث التقدم والتأخر، أو الاستحقاق، أو غير ذلك مما سلف بيانه. وأما في كل طبقة، فحمله حمل واحد.
ولكن لقائل أن يقول: فمساواة الزوايا لقائمتين يقع على المثلث المطلق، وعلى متساوي الأضلاع، بالتشكيك ليس بالتواطؤ، إذ يقع بتقديم وتأخير، فلم احتجنا إلى أن نجعل متساوي الأضلاع مطلقا، لا مثلثا متساوي الأضلاع؟ فأقول: إنه ليس كذلك؛ وذلك لن التقدم والتأخر في التشكيك إنما يعتبر في أمور مختلفة، ليس يحمل بعضها على بعض بالذات، بل ذواتها متباينة الحدود. وأما ما كان تقدمه بأنه أعم، فذلك تقدم بحسب الوهم. وأما في الوجود، فالمثلث الموجود هو إما نفس المتساوي الأضلاع، أو نفس القائم الزاوية، أو غير ذلك. وقولنا: كل مثلث فإنما نعني بذلك هذه المثلثات، والحمل في القضايا عليها، وليست ذواتها متباينة في القوام للمثلث الموجود، بل هي في ذواتها وفي حقيقتها مثلثات. فكيف نضع المثلث شيئا، وهذه الأشياء أشياء مباينة له، خارجة عنه، ثم نقول عليها شيئا، كما يقال على أمور كثيرة مختلفة، لبعضها أولا ولبعضها ثانيا، وهي متباينات؛ كما يقال الموجود على ذاتين متباينتين في الحقيقة، ولكن لأحدهما أولا وللآخر ثانيا، بل قد يشتق لأحدهما الاسم من الآخر. ففي أمثال ذلك يكون اللفظ الواقع الوقوع الذي فيه تقدم وتأخر واقعا بالتشكيك. وهذا مثل متساوي الأضلاع، من حيث هو متساوي الأضلاع، والمثلث، من حيث هو مثلث؛ فليس وجود أحدهما من حيث هو متعلقا بالآخر ولا هو هو إلا بالعرض، هما شيئان متباينات مختلفان ليس أحدهما جزء من حد الآخر ولا محمول على الآخر بأنه هو هو بالذات.
فيجب إذن أن نفصل أمر التشكيك في هذا المذكور فنثبت أن الحكم موجود فيها كلها؛ أو نبطل بأن ليس موجودا فيها كلها. وقد يكون نوع من التشكيك مختلطا بأن يكون اللفظ يدل على النسبة، وليست النسبة كلها نسبة إلى غاية واحدة؛ ونسبة إلى مبدأ؛ مثل العلم بالشيء، فإنه يعم ما يكون علما بما هو له مبدأ، كالعلم بالصحة، وربما هو له كالغاية، كالعلم بالمتضادات، فيكون العلم بالشيء يعم هذين عموم مشكك، لأنه يعم كل ما تكون له نسبة إلى الشيء. وقد يكون أعم من هذا، وهو أنه يتضمن مثل هذين الشيئين، والذي بالذات وبالعرض أيضاً؛ كقولهم: " الشهوة للشيء " ، فإن لفظة للشيء مشككة، فإن الشهوة للشيء قد تكون على أنها غاية كالصحة، وعلى أنها مبدأ كالمداواة؛ وعلى ما بالذات كمن يشتهي الحلو لأنه حلو؛ وعلى ما بالعرض كمن يشتهي الشراب لا لأنه شراب بل لأنه حلو؛ فيقال لجميع هذا مشتهى بالتشكيك الشامل لجميع المعاني المذكورة. وأكثر ما يقع مثل هذا التشكيك في الأمور المضافة المنسوبة التي تقال بحسب الشيء، كالعلم بالشيء، والملك للشيء، والشهوة للشيء، فتكون أكثر منفعة هذا الموضع في الأمور المنسوبة والمضافة. وهذا الموضع ينفع في الإثبات والإبطال منفعة المواضع المأخوذة عن الأمور الكلية، من حيث اعتبار جزئياتها؛ فإنه تارة يعتبر المحمول ويؤخذ ما يعرض له فيجعل عارضا للموضوع؛ مثل قولنا: إن الإحساس إدراك ما، وتمييز ما، وكل تمييز فمن شأنه أن يقع خطأ وصوابا.(2/70)
لست أقول: وكل تمييز إما خطأ وإما صواب، على وجه قسمة تقتضي تباين الموضوعين، فإنك علمت - حيث تكلمنا في الجزئيات - أن هذا لا ينتج ما نستنتجه الآن، بل يجب أن تكون الحالتان مما يعرضان لكل واحد، كقولنا: كل إنسان يتحرك أو يسكن، ليسا مما يقتسمان المحمول، فحينئذ ينتج أن الحس قد يخطئ ويصيب. وأمثال هذه المقدمات الكلية يسهل أخذها في الجدل إذا كانت صادقة في الأغلب وفي الظاهر، فتصير لذلك مشهورة، ويصعب أخذها في البراهين.
فهذا النمط فيه بيان لحال الجزئي الموضوع من حال الكلى الموضوع. وتارة يعتبر الموضوع على نحو ما بينا. أما إن كان المطلوب جزئيا، كما يطلب طالب ليصحح أنه قد يوجد حال ما خسيسا، وحال ما فاضلا، بأنه يقول: إن كان يوجد علم ما خسيسا كعلم اتخاذ الدفوف، وعلم ما شريفا كعلم التوحيد، فقد يوجد حال ما خسيسة، وحال ما شريفة.
والموضع الأول ليس مطلق النفع في الإثبات، فإنه ليس موضعا مستمرا صادقا في نفسه في كل موضع، فإنه ليس أن يكون ما يعرض للجنس يعرض لا محالة للنوع، أو يكون مشهورا في مثله العرض، بل إنما يكون ذلك صادقا أو مشهورا إذا كان على الشرط الذي أومأنا إليه. فإن لم يكن بذلك الشرط. لم يكن بيّنا ولا مشهورا أن حكم الجزئي فيه حكم الكلى. فيجب يستعمل ذلك الموضع حيث يكون فيه الشرط المذكور، ولا يستعمل بلا ذلك الشرط، وإلا لم يكن القول مشهورا ولا حقا، فيكون استعماله مغالطة.
وأما المثال الثاني، فإنه يثبت الجزئي لا محالة بلا شرط؛ فإن كل ما يوجد للنوع، فهو موجود لطبيعة الجنس، وإن لم يعم. فإن أردنا الإبطال، أعني اللاوجود فالموضع الأول نافع على إطلاقه؛ فإنه إذا لم يوجد للجنس، لم يوجد البتة للنوع. وليس الموضع الثاني نافعا فيه، فإنه ليس إذا لم يوجد الشيء للنوع لم يوجد للجنس. لكنه يجب أن تعلم أن الموضع الثاني لا ينفع في الإثبات الكلى، والموضع الأول ينفع في الإبطال الكلى.
ونقول: إنه إذا كان الشيء الجنسي يحمل على الشيء، أو يشتق له اسم منه، كما يقال للإنسان عالم، والعالم معنى جنسي يشمل المهندس والنحوي وغيره، فيجب ضرورة أن يكون في الموضوع معنى نوعي داخل تحت المعنى الجني المحمول عليه، فيكون ذلك المعنى موجودا في ذلك الموضوع يشتق ه منه اسم، لكن المحمول مقول عليه. فإنه إذا لم يكن الإنسان موجودا فيه نوع من أنواع العلوم، حتى يشتق له منه الاسم، فيكون كاتبا أو نحويا أو مهندسا، فإنه ليس بعالم أصلا. وهذا كأنه موضع من رأس، معتبر بحسب اعتبار ما يوضع للمحمول ليس باعتبار ما يحمل عليه؛ وهو والأول مشترك على نحو ما علمت بين الجدلي والبرهاني.
بل هذه موضوعات ثلاثة: موضع من موضوعات الموضوع؛ وموضع مما يقال على المحمول قولا، وموضع مما يقال عليه المحمول قولا. وإن اتفق تتشارك بعض هذه المواضع في الموضوع فالاعتبار مختلف. وقد علمت أنه كيف يصلح ما سلف للإثبات والإبطال.
وأما هذا الموضع الأخير، فإنه يصلح للأمرين بوجهين: أما للإثبات فإنه إذا وجد أحد أنواع موضوعات المحمول محمولا على الموضوع الأول، فقد انعقد قياس من الضرب الأول. وأما الإبطال فليس أن لا يوجد إلا أحد موضوعاته، بل ولا شيء من موضوعاته حتى إذا عدت مثلا الحركات كلها، وكانت النفس لا توجد فيها حركة، صح الإبطال بأن النفس لا تتحرك أصلا.
ومنفعة هذه المواضع هي من حيث تعتبر موضوعات الحدين ومحمولاتها في الوضع، فيجبب إن لم تتبين من جهة اعتبارها أن ترجع إلى حدودها وتحللها، ليلوح لك البيان. فكذلك الحال فيما سلف لك من المواضع، فإن تحليل الحد يسهل السبيل إلى وجود الحجة، كما قد علمت.
ويجب أن تعتبر الحدود الحقيقية والمشهورة جميعا والرسوم؛ وفرق بين الحدود المشهورة وبين الرسوم، فإنه ربما كان الحد المشهور رديا أو كاذبا، لا حدا ولا رسما، وربما كان ما هو في الحقيقة حد، هو في المشهور هو رسم، وما هو في الحقيقة رسم هو في المشهور حد، وربما بينهما المشهور على العدل والواجب، وربما زاغ.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في مواضع الإثبات والإبطال المأخوذة من أمور خارجة(2/71)
وليست المواضع كلها مأخوذة من نفس الحدين، بل قد تؤخذ من أمور خارجة؛ فإنه قد تؤخذ من أمور تلزم المطلوب، أو المطلوب يلزمها، فتطلب أي أمور هي التي إذا وضعت يلزم منها المطلوب، فتطلبها وتصححها، ويكون ذلك نافعا في الإثبات للمطلوب فقط كما هو؛ كان موجبا أو سالبا، بأن تستثني عين المقدم. وأيضاً تطلب أي الأمور تلزم المطلوب؛ إذا وضع. وهذا يكون نافعا في إبطال المطلوب فقط، باستثناء نقيض التالي. وهذان موضعان يشارك الجدل فيهما البرهان.
وقد ينتفع من الأمور الخارجة باعتبار الزمان، هل يختلف فيه حد المطلوب، مثل من يقول: إن كل مغتذ نام، ثم يجد الحيوان الواقف في السن والمنحط يغتذى في ذلك الزمان، ولا ينمي. وكذلك ليس التذكر تعلما، لأن التذكر تحصيل علم أو معرفة، إن كان المعلوم بهما زمانيا، كانا فيما مضى. وأما التعلم فهو تحصيل علم في المستقبل قد يكون إن كان معلومه زمانيا علما بشيء مستقبل، كالكسوف المنتظر. وهذا أيضاً يشترك فيه الجدلي والبرهاني؛ وينفع في الإبطال دون الإثبات؛ إذ كل ما اختلف زمانه فهو مختلف، وليس كل ما اتفق زمانه فهو متفق. فهذا الموضع من جملة المواضع الخارجة عن حدي المطلوب.
وكثيرا ما يقع الانتقال عن الكلام في الشيء إلى الكلام في أمور خارجة هي ملزوماته أو لوازمه، تكون إذا صحت أم بطلت انتقل منا إلى الحكم في الشيء. فربما كان ذلك الانتقال ضروريا في الحقيقة، حيث يكون القياس المنتقل إليه، والاستقراء المنتقل إليه، لتصحيح حال لازم أو ملزوم، أو إبانة صدق الاستثناءات فيه، ضروريا في الحقيقة. وربما كانا ضروريين في ظاهر المر، وفي المشهور؛ وكلاهما مقبول في الجدل. والأول يدخل في البرهان، لكنه كثيرا ما ينتقل إلى ما ليس له تعلق بالمطلوب انتقالا على سبيل إيهام أن المنتقل إليه مما تتضح به حال المحمول إشفاقا من ظهور الانقطاع، وشغلا للمدة بالكلام، وتوقعا لقاطع من العوارض بترك الأمر معطى، أو استقداحا للخاطر الأنكد؛ وذلك مغالطة.
ومن حق المجيب البصير أن يتقدم بتعجيل التسليم لئلا يطول إمهاله، ويصرح له أن ذلك وإن سُلّم لك لا ينتج مطلوبك، فتتضاعف بذلك الفضيحة. وهذا المأخذ مغالطي صرف.
بل يجب أن يكون الانتقال إلى اللوازم والملزومات التي بينها وبين المطلوب علاقة حقيقية أو مشهورة محدودة مقبولة في الظاهر. وكل شيء يقال فله لوازم كثيرة. وتوجد له ملزومات، كما توجد موضوعات ومحمولات. فإن كل من قال شيئا بالفعل، فيشبه أن يكون قال أشياء بالقوة. وأنت تعلم كيف ينفع اعتبار اللوازم والملزومات في الإبطال والإثبات، من علمك بالشرطيات الاستثنائية.
ومن المواضع الخارجة ما ليس على سبيل اللزوم، بل على سبيل العناد والمقابلة، سواء أخذ مما من شأنه أن يتعاقب على موضوع واحد كالصحة والمرض، أو أخذ من المتباعدات، وإن انتسب آخر الأمر إلى مبدأ؛ كقولهم: إنه إما أن تكون الشمس طالعة، أو يكون الليل موجودا. فإن الإتيان بهذه المعاندات قد ينفع أيضاً بطريق الاستثناء في الإثبات والإبطال، كما علمت؛ وهذه يشترك فيها الجدل والبرهان.
ومن جملة اعتبار الأمور الخارجة، نقل الاسم وتبديله؛ فربما نفع في البيان، وخصوصا إذا كان الاسم ليس بحسب الذات، بل بحسب الصفة. فيجب أن تأخذ المعنى نفسه، وتلحظه في ذاته، وتقصر الاسم عليه؛ فغن تعدت دلالة الاسم إلى ما هو مباين للمعنى بوجه من الوجوه، بأنه أنقص منه، أو أزيد عليه، أو هو بشرط، دل عليه وعرف. وهذا كما يأخذ أحد الشجاع وجيد النفس على ان المفهوم منهما واحد، أو على أن جيد النفس هو قول بحسب اسم الشجاع، وعلى أن الكلام فيهما واحد. ثم يتأدى به الإمعان في النظر إلى الاشتغال بأحدهما من حيث له زيادة اعتبار. فيجب أن يقال للقايس حينئذ: إن النفس يفهم منه معنى جيد النفس وحده، فهما بلا لبس.
فلنترك لفظة الشجاع، ولننظر في معنى جيد النفس؛ فإنا إذا فهمنا المعنى، فلا حاجة بنا إلى استعمل لفظة الشجاع، بل لنستعمل القول كما هو؛ أن نأخذ شيئا آخر يطابق جيد النفس فقط، من غير زيادة معنى. فإن لفظة الشجاع توهم شيئا آخر زائدا على أنه جيد النفس فقط، وفي تلك الزيادة تغيير الحكم؛ كما أن الحسن الرجاء يدلك على معنى حسن الرجاء فقط. وأما لفظ الشجاع فإن له زيادة دلالة على ذلك. فلنترك أنه شجاع، ولنأخذ حسن الرجاء.(2/72)
وكذلك الجيد البخت الذي استمرت له غلبات؛ ومعناه مفهوم؛ والشجاع يشير إلى معنى آخر. فلنترك الشجاع، ولنجعل الكلام في جيد البخت. وهذا الموضع نافع في منع التلبيس وسرعة الكشف. وكأن الانتفاع به في التعليم ليس دون الانتفاع به في الجدل.
وموضع آخر ليس يعتبر فيه الوجود، بل حال الوجود؛ وذلك أن الشيء كونه موجودا للموضوع غير كونه له دائما، وأكثريا أو أقليا؛ وغير كونه له كله أو لبعضه، وغير كونه له بالقياس إلى كذا دون القياس إلى كذا. وليس إذا سلم وجود؛ فقد سلم من كل وجه. فيجب أن تراعى في ذلك أن لا تأخذ أحد الحكمين مكان الآخر، وأن لا تقنع بمطلق غير مبين، بل تطالب القائل المهمل المجمل بالبيان والتفصيل.
وأيضاً مما يشبه هذا الموضع أن يجعل الشيء آخر لأجل اسمه. فيقال كما قال بعضهم: إن من اللذات ما هو فرح، ومنه سرور، ومنه جذل. وهذه كلها ألفاظ مترادفة. فيجب أن تستكشف أمثال هذه أيضاً.
وهاهنا مواضع خارجة مأخوذة من المتقابلات، ومن أحوال الابتداء والانتهاء، ومن الإشتقاقات، وغير ذلك؛ فكأنها تنفع بحسب القياسات الاستثنائية المتصلة. أما الذي من المتقابلات الضدية فطريقه منها أن يؤخذ متقابلان ضدان ومتقابلان ضدان آخران كذلك، فيؤلف على الأنحاء التي نذكرها، ويجعل منها مقدم وتال.
فليكن تقابل هو تقابل الأصدقاء والأعداء، والآخر تقابل هو تقابل الإساءة والإحسان. ثم تكون التأليفات منها انه: إن كان الإحسان إلى الأصدقاء جائزا، فالإساءة إلى الأعداء جائز. ومنها أنه إن كان الإساءة إلى الأصدقاء قبيحة؛ فلإحسان إلى الأصدقاء جميل. ومنها: إن كان الإحسان إلى الصديق حسنا، فالإساءة إلى الصديق قبيح، وبالعكس. ومنها إن كانت الإساءة إلى الأعداء جميلة، فلإحسان إلى العداء قبيح، وبالعكس. فتكون هذه كلها مواضع تقبل وتحمد، وليست كلها واجبة.
أما الأول، فإنه ليس إذا كان أمر موجود لكل الضد يجب أن يكون ضده موجودا للضد؛ بل يجوز أن تكون الحركة الطبيعية مخالطة لكل حرارة ولكل برودة.
وأما البواقي مما ذكر، فهي بالحقيقة من ثلاث متقابلات: كالإساءة والإحسان، والقبيح والجميل، والصديق والعدو. ثم يؤخذ من إحدى الثلاث طرف، ومن الباقيتين جميعا؛ فيؤخذ مثلا من الصديق والعدو الصديق؛ ثم يؤخذ إساءة وإحسان، وقبيح وجميل، فيقال: إن كانت الإساءة إلى الأصدقاء قبيحا، فالإحسان إليهم جميل، وعلى قياس ذلك.
وهذه أيضاً ليست برهانية، فليس يجب إذا كان للشيء عند الشيء حكم أن يكون لضده عنده ضد ذلك الحكم. فإنه ليس إذا كان النور يسود شيئا، أن تكون الظلمة تبيضه أو تقابله لا محالة، بل كلها مشهورات تسلم، ولا يشعر بعنادها بأدنى النظر، إلا أن يطلب لها معاند وما كان له مناقضة وعناد، ثم لم يكن ظاهر المناقضة والعناد، فليس يجب أن يكون باطل الشهرة؛ كما قد عرفناك مرارا.
وقد يؤخذ من الأضداد مواضع أخر، وهو أن ينظر في مقابل المحمول، فإن صح إنه موجود في الموضوع، فذلك غير موجود. لكن هذا الموضع في قوة الموضع المتقدم المذكور، ولكنه قد يمكن لأن يؤخذ هذا الموضع على وجه غير مكرر. وذلك أن لا يطلب مقابل الموضوع، بل ينظر أنه هل يلزم من وجود المحمول في الموضوع أن توجد الأضداد معا، وذلك محال؛ فوجود المحمول للموضوع محال.
وهذا جزئي موضوع آخر سلف باعتبار أخص من الموضع المتقدم المذكور. والموضعان يتباينان بما أقوله: وهو أن الموضع المتقدم كان على أن اللازم يكون محالا، أي محال كان؛ ويوجب أن الملزوم محال.
وأما هاهنا فالمحال المأخوذ فيه ليس مطلقا، بل محال بصفة، وهو جمع الضدين.
ومثال هذا أن القائلين بالصور المفارقة للأمور يقولون: إنها مع أنها مفارقة، قد توجد متوسطة في المحسوسات، فتكون مفارقة وموجودة معا، ويلزمهم أن يجعلوها متحركة منتقلة، ومستحيلة فيها الحركة ثابتة معا.
أما ازوم كونها بحيث تستحيل فيها الحركة، فلأنهم يجعلونها مفارقة، ويعرفون أن المفارق يجب له الثبات، ويستحيل فيها الحركة ولو بالعرض.
وأما لزوم كونها متحركة، فلأنهم إذا جعلوها فينا، جعلوها قد تتحرك بالعرض تحركاتنا.(2/73)
وقد يؤخذ من الضد موضع آخر، وهو أنه إذا كان المحمول العارض له ضد، وكان المحمول العارض محمولا لا على الدوام والضرورة، بل على حسب الجواز والعروض، فينظر هل من شأن ضده أن يعرض لذلك الموضوع؟ فإن من شأن الموضوع أن يكون واحدا للأضداد. فإن كان الضد ليس طبيعيا، وأخذ الموضوع موضوعا قريبا له، فيجب أن يكون من شأن الضد الآخر أن يعرض لموضوعه. مثاله أنه إن كان البغض يعرض للقوة الغضبية، فيجب أن تنسب المحبة إليها لا إلى الشهوانية. وإن كان الجهل يعرض للقوة الشهوانية، فيجب أن يكون العلم يعرض لها لا محالة، لا الناطقة. وهذا ينفع في الإبطال فقط، اللهم إلا أن لا يكون الإثبات متوجها نحو الوجود، بل نحو الإمكان، فينفع في الإثبات؛ فإنه إذا أمكن عروض ضد أمكن عروض ضد آخر.
وأما هو هذا الموضع برهاني، وأنه هل يجب أن يكون الشيء القابل لضد ما قابلا للآخر، حتى إن كان الشيء يعرض له أمر ويجوز أن يخلو عنه، فهل يجوز أن يعرض له الضد الآخر وإنما يجوز أن يخلو عنه إلى واسطة، أو إلى عدم، ولا يكون من شأنه أن يقبل شيئا آخر. فإن الواجب أو المقبول هو أن الأضداد هي التي يوجد لها موضوع تشترك فيه؛ وهذا غير أن يكون لعروض أحدهما يكون موضوعا لعروض الآخر. فإنه إذا تم وصح أن للشيئين موضوعا واحدا يشتركان فيه على سبيل التعاقب، فقد صح الشرط الذي ينبغي له في أن يكون بينهما مضادة؛ وإن كان سائر الموضوعات بخلاف ذلك، بل كان بعضها لا يفارقه الضد البتة، وبعضها قد يفارقه إلى العدم ولا يقبل الآخر.
وإذا كان هذا أمر غير بيّن، فلا يجب أن تؤخذ هذه المقدمة على أنها بينة، بل على أنها مشهورة، ويكون سبب الشهرة فيها إيهام هذا العكس إيهاما جزافا، فيكون من أحد أبواب المغالطات المعنوية التي ستذكر فيما يستقبل، بل لكثرة الجزئيات الشاهدة.
فإذن هذا الموضع لا ينفع في البرهان، إذا أخذ من حيث هو أصل ومبدأ وبيّن. فإن صح أنه حق، فتكون صحته صحة المسائل؛ وإن لم يصح، فلا ينتفع به. وسنتضح حقيقة الأمر فيه في العلوم.
واعلم أن الشيء إنما يكون موضعا إذا كانت الشهرة توجيه، أو كان يصح في علم المنطق على سبيل إيجاب من المشهورات، فيوضع بعد ذلك قانونا؛ وما ليس كذلك فليس بموضع. ولذلك ما كان هذا هو موضع في الجدل للشهرة، وليس وإن ثبتت حقيقته موضعا في البرهان، أي أصلا؛ فإنه لا بيّن بنفسه، ولا بين الصدق في علم المنطق؛ فليس موضعا برهانيا منطقيا.
وأما سائر المواضع المأخوذة من المتقابلات، فمنها المواضع المأخوذة من تقابل النقيض. ومن جملة ذلك ما هو حق ومشهور معا، وهو جعل التالي عكس نقيض المقدم، أو جعل نقيض اللازم ملزوما لنقيض الملزوم؛ وهو موضع لا مرد له؛ مثاله: إن كان اللذيذ حسنا فما ليس بحسن ليس بلذيذ، وإن كان ما ليس بحسن فليس بلذيذ، فكل لذيذ حسن.
وأما عكس هذا فربما كان مشهورا في مواد، وربما لم يكن مشهورا. وأما في الأضداد فربما صح العكس واشتهر، وربما انتقض. فيجب أن يكون الجدلي مستقرئا لذلك، حتى إذا انتفع بما يعكس، ادعى العكس، وأورد له جزئيات توجب العكس. وإذا انتفع بمنع العكس، كان له ما يعاند به.
فهاهنا جزئيات كثيرة توجب العكس؛ إذ يوجد الطرفان لازمين للطرفين. فإن الشجاعة فضيلة، والجبن رذيلة، والصحة مؤثرة، والمرض مجتنب؛ واللزوم هاهنا على الاستقامة.
ويجب أن تأخذ هاهنا ما كان من الأضداد بالحقيقة، وما كان بحسب المشهور، فيجب أن تكون جزئيات كثيرة من هذا الباب معدة له.
وهاهنا جزئيات أخرى، ومواد أخرى تخالف ذلك، وربما كان المظنون فيها عند الجمهور، أو الظاهر المشهور، هو بالعكس من ذلك. فإن جودة البنية، أي اعتدال المزاج، واستواء التركيب، وتناسب الأعضاء، قد يلزمها الصحة. وأما رداءة الخلقة والبنية، وهو نقصان في أحد تلك، فقد لا يلزمها المرض، لكن المرض يلزمه رداءة الخلقة والبنية، فيؤخذ اللزوم هاهنا ليس بالاستقامة؛ بل بالعكس، إذ يؤخذ ضد اللازم ملزوما لضد الملزوم، فلا تكون إذا كانت جودة البنية صحة، فرداءة البنية مرض، بل المرض رداءة البنية، أو يلزمها رداءة البنية. فيجب أن تكون أمثال هذه معدة أيضاً.(2/74)
وأما المقابلة التي للعدم والملكة، فاللزومان مشهوران فيه جميعا. فإنه إن كان البصر حسا، فالعمى عد حس. ويشبه أن يكون هذا الموضع حقا إذا أخذ على الاستقامة. فإنه إذا قيل على البصر شيء وجودي له شيء مقابل عدمي، فليس يمكن البتة أن يقال ذلك الوجودي على العمى، وإلا لصار العدم موصوفا بأمر وجودي محصل؛ فإذن يقال عليه: عدم ذلك الوجودي، فإذا عدم ذلك الوجودي، يلزمه.
والمتضايفات تتلازم على الاستقامة إذا روعي ما يجب أن يراعى تلازما حقيقيا؛ وتتلازم على الإطلاق تلازما مشهورا. مثاله: إن كان ذو ثلاثة أضعاف كثير الأضعاف، فذو ثلاثة أجزاء كثير الجزاء. وإن كان العلم ظنا، فالمعلوم مظنون. وإن كان البصر حسا، فالمبصر محسوس. وأما في الحقيقة فليس يجب أن تلزم إلا بشرائط؛ وذلك لأن العلم - من حيث هو قُنية - مضاف إلى العالم، ومضاف من وجه آخر إلى المعلوم. وليس يجب أن يكون إذا كان العلم إدراكا أن يكون العالم مدركا، أي واقعا عليه الإدراك؛ أو المعلوم مدركا، أي واقعا منه الإدراك، بل يجب أن تكون الموازاة والمعادلة محفوظة. وكذلك فإن المدرك مضاف إلى المدرك. وليس يجب إذا كان المدرك معلوما أن يكون المدرك عالما.
وكذلك ليس يجب إذا كان محسوس ما معلوما، أن يكون حس ما علما؛ وإن كان المشهور يوجب أن يكون الحس علما، فلا تكون هذه معاندة في المشهور.
وكذلك يجوز لقائل أن يقول:إن المحسوس ليس البتة بمعلوم؛ وذلك لأن الحس في الحقيقة ليس بعلم، إذ كان كون الحس علما ليس حقا بيّنا بنفسه، بل ربما كان مشهورا. وإذا كان الحق أن الحس ليس بعلم، وكان الحق يوجب أنه إن كان الحس ليس بعلم، فما يقع عليه العلم لا يكون وقع عليه الحس؛ وبالعكس. وما وقع عليه العلم، فهو معلوم؛ وما وقع عليه الحس، فهو محسوس. فيجب أن لا يكون شيء من المحسوسات معلوما؛ وبالعكس.
فالذي قيل من أن معلوما ما محسوس، ثم بنى عليه الاعتبار، قول جدلي غير حقيقي.
الفصل الرابع
فصل (د) في مثل ذلك
ومن المواضع الخارجة مواضع كانت تعرف بالنظائر ومعنى النظائر: الأمور التي لها نسبة إلى الشيء، فيشتق لها منه اسم، إما مثل نسبة المقبول إلى القابل المشتق له منه الاسم، كالعدل الذي هو نظير العادلة اشتق له منها اسم؛ وإما مثل نسبة الغاية إلى الفاعل والحافظ، كالأمور الصحية التي تفعل أو تحفظ الصحة، فيشتق له منها من الصحة اسم؛ وإما نسبة المبدأ إلى الغاية، فيشتق له منها اسم، كما يقال مرض عفوني.
ومواضع أخرى كانت تعرف بالمأخوذة من التصاريف، ويشبه أن تكون مفارقتها للنظائر بأن لا يؤخذ لها من الشيء اسم على الإطلاق، وعلى سبيل الاشتقاق، بل أن يدل على نسبتها إلى الشيء بلفظ مأخوذ من أسامي المناسبة والملازمة مقرون باسم الشيء، كما يقال: هذا هو جار مجرى الطبيعة، وهذا مذهب العدالة، وهذا مأخذ الحكمة؛ فتكون نسبة الجاري مجرى الطبيعة نسبة ما يكون على سبيل التصاريف. وكذلك نسبة ما هو على سبيل العدالة إلى العدالة.
على أني لست أثق أيضاً بما أقوله من ذلك، إنما أخمنه تخمينا، وليس هو شيئا معروفا في عادات ألسنتنا، ولا تضر الغفلة عن ذلك في غرضنا.
وقد قيل غير ما قلته، وظن أن التصاريف هي ما يكون من الأمور صادرة عن الشيء، كالوجع عن المرض، وأخذ هذا بعيدا عن عبارة المعلم الأول، ولا يناسبه بوجه. فإنه ليس يجب أن يكون حكم الوجع، وما يجري مجراه، مقايسا بحكم المرض وما يجري مجراه. وأما ما هو على سبيل العدالة، فيجب أن يكون له حكم معتبر بالعدالة، بسبب أنه مأخوذ بوجه من العدالة، كأنه بوجه مشتق منه. ولهذا ذكر أنه يظن أن التصاريف أخص من النظائر؛ وعلى أن هذه عادة لغة لا علم لي بها.
ثم يقول: إنه ينتفع بهذه المواضع على وجهين؛ وجه أخص بالعلم الخلقي، وهو المستعمل في التعليم الأول، مثل أنه وإن كانت العدالة محمودة، فالعدل محمود؛ وإن كان ما يجري مجرى العدالة محمودا، فالعدالة محمودة. وهذا إنما يحمد إذا كان المحمول محمودا أو مؤثرا. وليس يجب أن يقع بينهما في كل محمول اتفاق، فإنهما مختلفا الحد. ولا أيضاً يصح أن يقع لهما في الخير - إذا جعل الخير محمولا - اتفاق؛ فإن الخير الحقيقي هو المطلوب لذاته، ولا يتفق الأمران. فهذا وجه.(2/75)
ووجه آخر يعتبر بحسب المقابلة، إما من النظائر، فمثل أنه إن كانت الشجاعة حكمة فالشجاع حكيم؛ وإما من التصاريف، فمثل أنه إن كان يجري مجرى الشجاعة هو ما يجري مجرى الحكمة، فالشجاعة حكمة. وهذا موضع جدلي مشهور في بعض المواد، ويصلح للإبطال والإثبات؛ وليس بتعليمي. ولا ينعكس، حتى إذا كان الحكيم شجاعا، فالشجاعة حكمة، وإن كان الحكيم يلزمه أن يكون شجاعا لزوم المقوم أو لزوم التابع، يلزم أن تكون الشجاعة يلزمها أن تكون حكمة، بل أن تكون معها الحكمة. وكذلك في المثال الآخر.
وموضع آخر من حال الكون والفساد مخصوص أيضاً بمحمول الخير والمحمود. فإن ما كونه خير فهو خير، ويجب أن يؤخذ الخير بمعنى يعم المحمود والخير الحقيقي، حتى يقرب من أن يكون تعليميا؛ فإن أخذ مطلقا لم يبعد أن يكون مشهورا. وكذلك ما كونه شر فهو شر، فيجب أن يؤخذ الخير والشر بالقياس إلى شيء واحد، أو يؤخذ كلاهما مطلقين، حتى ربما قربا من النفع في العوم. فغن أخذ بدل الكون والفساد، كان موضع آخر وكان بالعكس؛ فإن ما فساده شر فهو خير، وما فساده خير فهو شر.
وكذلك إن أخذ فاعل الخير مكان الكون، وفاعل الشر مكان الفساد؛ وليس ببرهاني فليس يجب أن يكون فاعل الخير في نفسه خيرا، لأنه فاعل الخير، ولا فاعل الشر في نفسه شرا، لأنه فاعل الشر. فإن ادعى صحة هذين القولين، احتيج إلى قياس يوجبهما. وأما إذا أخذ كالبينين بأنفسهما لم يجب الالتفات إليهما، إلا من حيث الشهرة فقط، فليس بواجب أن يجري كل فاعل مجرى فعله، ولا ببيّن بنفسه أن يكون الشر لا يصدر إلا عمن ذاته شر.
ومع ذلك فأن يفهم كون ذات الشيء شرا، وكون فعله شرا يشتغل أولا عن فصل القول في القضيتين، وينكشف ثانيا عن أن الشهرة لا تطابق الإحقاق في هذه الدعوى؛ الهم إلا أن نعني بالشر أن ذاته في نفسها شر، بل أنها يصدر الشر عنها، فيكون كأن القائل قال: فاعل الشر فاعل الشر؛ وهذا وإن كان حقا، فهو هذر.
ومن المواضع مواضع المتشابهات؛ وهي كأنها تمثيلات يجعل فيها أحد الشبيهين مقدما، والآخر تاليا. وهذا جدلي صرف؛ كقولهم: إن كان قد يكون بالأضداد علم واحد، فقد يكون بالأضداد ظن واحد. وإن جاز أن يكون البصر بخروج شيء إلى المبصر، جاز أن يكون السمع بخروج شيء إلى المسموع؛ وإن كان ما له بصر يبصر، فما له سمع يسمع. وهذا يصلح للإثبات والإبطال، على ما علمت. فإنه قد يقبل أن ما كان للشبيه فهو للشيء، وما لم يكن للشبيه فليس للشيء.
ومن المواضع مواضع إلى الوحدة والكثرة. وهذا يصلح للإبطال، أعني إذا اختلف الموضع والمحمول في النسبة إلى الكثرة والوحدة. كمن يضع أن كل علم فهو تصور وفهم، فيقال له: إن العلم قد يكون بأشياء كثيرة معا، والفهم ليس يكون لأشياء كثيرة معا؛ فليس كل علم فهما. وهذا الموضع برهاني، وفي مثاله المورد مقدمات مشهورة.
ومواضع أخرى مأخوذة من الأكثر والأقل؛ وهي مواضع الأحرى. وهي أربعة مواضع: أحدها أن يجعل ما هو أكثر في معنى الموضوع، أكثر في معنى المحمول؛ والقياس قياس شرطي، مثاله: إن كانت اللذة خيرا، فما هو أكثر فهو أكثر خيرا؛ وإن كان الجور شرا، فما هو أكثر جورا فهو أشد شرا. وهذا مشهور.
لكنه إن صدق المقدم فيه كليا، حتى كان قولنا: إن كل لذة خير حقا، صدق لا محالة ما هو أكثر لذة فهو أكثر خيرا؛ فكان الموضع علميا. وأما إن أخذ مهملا فيكون مشهورا، ولا يكون حقا؛ فإنه ليس إن كان السكنجبين نافعا للمريض، فما كان أكثر كان أنفع، بل ربما ضر. فأما إذا كان مسلما أن كل سكنجبين نافع، دخل فيه القليل والكثير، فيجب أن يكون الأكثر أيضاً نافعا؛ وإن كان نافعا لوجب أن يكون أكثر نفعا. وهذا الموضع - كما تعلم - نافع في الإثبات والإبطال جميعا.
والموضع الثاني من الأربعة. أن يعتبر مع المحمول محمول آخر، حكمه في أن يحمل أولى من حكم هذا؛ فغن لم يحمل، ولم يؤخذ ذلك، ففي المشهور أن هذا لا يحمل، ولا يؤخذ؛ وهذا للإبطال. وإن وجد ما ليس أولى، ففي المشهور أو الأولى يؤخذ؛ وهذا للإثبات.(2/76)
وأما حال هذا الموضع في العلوم فيختلف بحسب اختلاف المفهوم من لفظة " أولى " ؛ فإنه إن عني بالأولى الأول بالطبع والأقدم، صار الموضوع علميا؛ وإن عني به ما وجوده أكثر من وجود الآخرين من غير تعلق، أو وجوده أشد موافقة للموضوع من وجود ذلك من غير تعلق، فليس الموضع بتعليمي.فإنه كثيرا ما يكون ما هو في الأقل، ولا يكون ما هو في الأكثر. تأمل ذلك من طرفي النقيض، وأحدهما أولى بالشيء وأكثر له، مثل ابتلاع الإنسان لما يمضغه، والآخر ليس بأولى بالشيء، بل هو أقلي نادر، وهو كغصته به. وقد يتفق أن لا يكون هذا الذي هو أولى، ويكون ما ليس بأولى؛ وإلا لكان الأولى دائما لا أكثريا. وكذلك حكم ما كان مما ليس بأولى، فقد يؤخذ كثيرا دون الأولى.
والموضع الثالث من هذه المواضع عكس هذا، وهو أن تكون الكثرة في جه الموضوع، والمحمول واحد؛ فينظر إن لم يوجد المحمول لما هو أولى أن يوجد له، لم يوجد لما ليس أولى؛ وإن وجد لما ليس أولى، فقد وجد لما هو أولى. وهذا الموضع حاله في شروط صيرورته علميا حال الذي قبله.
والموضع الرابع من هذه المواضع، وهو أن يكون الاعتبار بين محمولين وبين موضوعين، وأحد المحمولين ليس أولى بموضوعه من المحمول الآخر بموضوعه، ثم يعتبر ما قيل.
ثم هاهنا مواضع مأخوذة من المساواة بعدد هذه المواضع بأعيانها، وهي ثلاثة: حال محمولين متساويي النسبة في الأولى وغير الأولى لموضوع أو موضوعين لمحمول، أو محمولين لموضوعين. ثم يعتبر ذلك بعينه؛ وليس شيء منها علميا. وتشترك في أنه إن كان ما هو مثل في استحقاق أن يكون قد كان، فالآخر كان؛ أو لم يكن، فلم يكن.
وموضع آخر يعتبر من فعل الشيء إذا أضيف إلى غيره، وقرن به، فجعله بحال، فتقضي بأنه بتلك الحال؛ مثل أن يجعله خيرا أو أبيض، فنقضي بأنه خير أو أبيض؛ وهو غير علمي. وأحسن مواضعه الخلقيات، فإنه قد تقترن الحركة بالمادة فتجعلها حارة، وهي غير حارة.
وموضع قريب من هذا، وهو أنه إذا زيد شيء على شيء، فجعله أزيد في حال كان له مثلا في كونه خيرا أو بياضا، فهو بتلك الحال. وليس علميا أيضاً؛ فغن الحرة إذا زيدت على الحار صار أحر، وليست حارة.
وهذا الموضع والذي قبله للإثبات؛ ولا يصلحان للإبطال؛ فإنه ليس إذا زيد شيء على شيء، فلم يجعله بصفة، لم يكن على تلك الصفة. فإن الزوج إذا زيد على الفرد، لم يجعله زوجا، وهو زوج. والحلو إذا زيد على المر، لم يجعله حلوا، بل مزاجا آخر، وهو حلو. وأيضاً فإن العصير إذا زيد على العسل، وهو حلو، لم يجعله أشد حلاوة، والعصير حلو. على أنه لا يبعد أن يحمد هذا الإبطال بعض الجدليين، حين لا يفطن لمثل هذا العناد.
وموضع آخر: أنه إذا قيل المحمول على موضع، أو على شيء بمعنى الأولى والأكثر، فهو مقول عليه بالإطلاق. مثاله: إن كان خمر أقل إسكارا من خمر وأكثر، فهو مسكر على الإطلاق. وما لم يكن الشيء خيرا يقال إنه أكثر خيرية أو أقل خيرية، فإن الشر لا يقال له إنه أكثر أو أقل خيرية. وهذا ليس يصلح في الأبطال. فإنه ليس إذا لم يقل بأقل أو أكثر، لم يقل بإطلاق؛ فكثير من الأشياء لا تقبل الأكثر والأقل.
وهذا الموضع ليس له عناد علمي، وله عناد جدلي. أما أنه ليس له عناد علمي، فهو أنه إذا لم يكن للشيء معنى بوجه من الوجوه، فليس له ذلك المعنى أقل أو أكثر. فإن الأقل والأكثر يجب أن يكون معه الشيء موجودا، حتى يكون قليلا، أو يكون كثيرا.(2/77)
وأما عناده الجدلي، فأن يقول قائل: إن خمود الشهوة خير من الفجور؛ ومع ذلك فليس خيرا على الإطلاق. فهذا مقبول في المشهور؛ وأما في الحقيقة فإنه ليس خيرا من الفجور، فإنه لا شركة بينه وبين الفجور في الخيرية حتى يجوز أن تكون حصته منه أوفر، بل هو أقل إيجابا لأمور شرية منه. وأما في نفسه فهو ردي مثله. وأما بالقياس إلى مت يلزمه من الشر فهو أكثر شرا، وذلك أقل شرا لا لمزاج خير معه، بل لقلة عدد الشر الصادر عنه، وفقد بعض الشر أن يكون منه. وأنه وإن كان فقد الخير شرا فيما وجوده فيه خير، وفقد الشر خيرا فيما وجوده فيه شر، وهو لا يخلو عن وجود ذلك أو فقده، فذلك باب آخر؛ وهو باب ما يكون الخير والشر فيه. وأما الشيء الذي يقال له خير أو شر، بأن الخير يصدر عنه، والشر يصدر عنه، فليس الأمر فيه كذلك. فليس إذا كان الشيء ليس سببا للشر، فهو سبب للخير إلا بالعرض؛ وبالعكس. وأما إذا كان الشيء القابل لهما ليس فيه شر، ففيه بإزائه خير.
وموضع آخر مشاكل بوجه من الوجوه لهذا المعنى، وهو أنه إذا كان الشيء ممكنا، أو موجدا، أو حسنا، أو نافعا في وقت من الأوقات، وموضع من المواضع، وموضوع من الموضوعات، فهو أيضاً بذلك الحال على الإطلاق؛ فإن ما ليس بممكن في نفسه، فليس بممكن عند حال، وما ليس بحسن البتة، فليس حسنا عند حال. وهذا أيضاً للإثبات.
ويعاند هذا الموضع بأمثلة مشهورة، مثل أنه قد يوجد الشيء فاضلا في أمر وليس فاضلا على الإطلاق، ويكون الشيء غير فاسد في وقت، وليس غير فاسد على الإطلاق، وينفع دواء في وقت، وفي موضع، وفي موضوع عليل، وليس نافعا على الإطلاق؛ وقد يحسن قتل القريب إذا كفر بالله تعالى، وليس حسنا على الإطلاق.وكذلك يكون الشيء حسنا عند قوم، وليس حسنا على الإطلاق، فإن من الناس من استحسن قتل الأب، وليس حسنا على الإطلاق.
وتفسير الإطلاق هو أن يقال المعنى من غير أن يزاد عليه شيء يقيد به، كما يزداد فيقال: إنه حسن عند قوم، أو حسن في وقت؛ فهذا هو الحكم المشهور، لكمنه يجب أن ننظر في هذا من جهة الحق، فنقول: إذا كان الإطلاق بالحقيقة في مثل هذا الموضع هو أن لا يكون عليه زيادة اعتبار البتة إلا معناه، فإن كان معناه إضافيا كان الإطلاق أن توجد إضافة مطلقة، مثل النافع إذا أخذ نافعا لشيء ما وحال ما، فإن هذا الإطلاق بلا زيادة لأن المضاف إليه داخل في معنى المضاف غير مزيد عليه من دوام، أو عموم، أو غير ذلك، لكن المشهور ربما لم يفصل بينه وبين الدائم وبين الذي عند كل مكان وكل وقت؛ فإذا لم يجده دائما أوهم أنه معاند.
وأيضاً فإن المشهور يأخذه مهملا، وفي العلوم يجب أن يؤخذ محصورا. فإذا راعيت هذا، فاعتبر الأمثلة التي وقع بها العناد، فيجب أن يكون الفاضل في أمر ما فاضلا على الإطلاق، أي فاضلا بلا زيادة. ولا يكون فاضلا على الإطلاق بمعنى أنه فاضل في كل شيء؛ فإن هذا ليس هو الفاضل على الإطلاق الذي نقصده إلا باشتراك الاسم، لأنه فاضل مع زيادة، وتلك الزيادة أنه في كل شيء. وتجد الممكن للقوى ممكنا على الإطلاق، وإن كان ليس ممكنا في كل وقت، ولكل واحد. ونجد ما يس فاسدا في وقت، ليس فاسدا - إلا بزيادة - أبدا. ونجد الدواء النافع للشيء نافعا على الإطلاق، لا بزيادة كل شيء، بل لشيء ما هو مضايفه المنفوع.
وأما قتل القريب فخذه محصورا، فيتبين لك الكذب في أن كل قتل قريب حسن، بل قتل ما للقريب عسى أن يكون حسنا. فذلك القتل الذي لذلك القريب نجده حسنا على الإطلاق، وإن لم يكن حسنا في كل موضوع، وكل اعتبار.
وأما المستحسن عند قوم، فذلك لا يجب أن يكون حسنا على الإطلاق، وأنت تعني بالإطلاق الوجود، لأنه معنا أنه حسن في الظن، لا في الوجود. والواجب أن تعتبر تقييد الشيء في الظن بإطلاقه في الظن، أو تقييده في الوجود بإطلاقه في الوجود؛ اللهم إلا أن يكون قد يفهم من الإطلاق أمر يعمهما جميعا، فيكون الإطلاق حينئذ حقا.
فأما اعتبار الشيء في نفسه لا بالقياس إلى الظن، فبين أن الشيء إذا كان في نفسه بصفة، وذلك في حالة ما، وفي وقت ما، وفي موضع وموضوع، وصدقت عليه الصفة في تلك الحال بأن كان فيها نافعا أو موجودا أو حسنا أو غير ذلك، فيصدق عليه أنه نافع أو موجود أو حسن أو غير ذلك على الإطلاق، بمعنى ترك الزيادة إلى الإضافة المطلقة المتضمنة في حقيقة ذلك.(2/78)
وليس يجب أن يكون " على الإطلاق " بمعنى العام، الدائم، والكائن في كل شيء، إذ ليس ذلك هو الذي على الإطلاق بالحقيقة.
ويجب أن تعتبر الحصر وتترك الإهمال، فحينئذ يصير الموضع علميا. فإنه ما لم يوجد للشيء صفة، لم توجد له تلك الصفة بحال. ولا تلتفت إلى ما يقال من كذب الشيء مفردا، وصدقه مع شيء، وما عسى أن يوجد من مناقضة هذا الموضع. فقد علمت فصل القول في ذلك، حيث تكلمنا في الفن الثالث.
الفصل الخامس
فصل (ه)
في الأوْلى والآثر
ويلي المواضع التي أعطيناها المواضع التي تعد نحو الآثر والأفضل. وظاهر الحال من البحث عن الآثر والأفضل، يقتضي أن يكون متعلقا بالأمور الخلقية، وما هو أولى بالإيثار والاجتناب فقط. لكن حقيقة النظر فيهما مقتضية للنظر في الأولى والأحرى، وفي الأزيد والأنقص. وذلك يتعدى الأمور الخلقية.
وأما مشاركة هذا البحث للبحث عن الأولى والأزيد، وما ليس بأولى وأزيد، فسيتبين لك من جهة أن جميع ما ينفع في الأزيد والأنقص، ينفع في الآثر والأفضل، وأكثرها ما ينفع في الآثر والأفضل ينفع فيهما، وإن كان ليس كله كذلك، على ما ظنه بعض المتكلمين في هذا الفن. وذلك لأن كثيرا من المواضع المعدة نحو الآثر والأفضل لا تنفع في الأزيد والأنقص، مثل المشهور: أن ما هو أطول زمانا فهو آثر، فإنه ليس يجب أن يكون ما هو أطول زمانا فهو أكرم في نفسه، أو أشد كرامة مما ليس أطول زمانا، أو يحمد ذلك.
واعلم أن المفهوم من الآثر غير المفهوم من الأفضل؛ وذلك لأن الشيء قد يكون أفضل ولا يكون آثر؛ فإن العلم أفضل، وليس آثر من اللباس عند العريان؛ فالموت على حالة كريمة أفضل من الحياة الخسيسة، وليس آثر.
وإذا قيل أفضل وأخير، فقد يقال ذلك عند التحقيق على وجوه: فيقال أفضل وأخير لشيئين متشاركين في نوع من الفضيلة تقبل الزيادة والنقصان، ويكون لأحدهما جميع ما للآخر وزيادة؛ مثل قولنا: فلان أيسر من فلان، إذا كان له جميع مقدار ما له وزيادة؛ ويقال أفضل للمتشاركين في نوع من الفضيلة يقبل الأشد والأضعف من غير أن يمكن أن يشار إلى قدر ما يساوي به الأفضل الأنقص متميزا عن الزيادة، لكن الحاصل للأفضل أشد، مثل الأجمل والأسخن، وغير ذلك.
ويقال أفضل إذا كان يشاركه في نوع الفضيلة، ذلك النوع إما أن لا يقبل التفاوت، أو إن قبل، فالذي لهما منه مثلا على السواء. لكن للأفضل فضائل أخرى من أنواع أخر، فتكون جملة ما لهذا أكثر مما لذلك؛ مثل أن يكون أحدهما شجاعا عفيفا، والآخر شجاعا مثله لكن عفيفا، فيكون الأول أفضل.
ويقال أفضل إذا كان ليس بينه وبين النقص مشاركة في نوع الفضيلة أصلا، ولكن في جنس الفضيلة، إلا أن النوع الذي له هو في جملة نفسه إلا هي دون النوع الآخر. لست أقول إنه أفضل من الآخر، فإنه بيان دور، ولكن أقول إنه إلا هي، والآخر ليس بالإهي، فهي أفضل. وأعني بالإلاهي: أن تكون فضيلة باقية لا تبيد، مثل الحكمة؛ أو تكون نافعة في الأمر الذي هو مطلوب لذاته. لست أقول في الأمر الذي هو أفضل، فيكون دورا، وهذا مثل النافع في الاخرة والمعاد. ومن هذا القبيل ما يحكم بأن الحكمة أفضل من اليسار. ويقال لما المصالح المتعلقة به، وإن كانت عاجليه، فهي أكثر عددا، وأعم، وأدوم معا من عاجليه أخرى. فإنه ليس إذا كان أكثر صار أفضل، بل ربما الواحد العام الدائم أفضل من الكثير.(2/79)
ويقال أفضل أيضاً على مثل ما يقال الأولى؛ وهو أن يكون أحد الأمرين له الفضيلة في ذاته، والآخر فضيلته مستفادة منه، أو بالعرض؛ وخصوصا إذا كان له في ذاته معنى أفضل بوجوه أخرى. وأما الأولى أيضاً، فيقال لما هو بهذه الصفة؛ ويقال لما هو أشد مناسبة، وهو أن يكون أمر يجوز أن يكون لأمرين، لكنه لأحدهما أشد مناسبة؛ مثل الكرامة، فإنه يجوز أن يكون للطارئ الذي لا ماتة له، لكنه للذي له ماتة في طبعه أولى. لأن الماتة، وهي علة من العلل المستدعية الموجبة لا يحكم فيها بالإيجاب، بل يحكم فيها بالأولى، إذا كانت توجب باقتران شرائط إليها؛ فإذا لم يشعر بجميع الشرائط التي تقترن بها حتى تصير علة موجبة، بل شعر بأكثرها، حكمنا بالأولى. ولو شعر بجميعها لكان الأمر عند الشاعر واجبا في كونه أو لا كونه. لكنه إذا كان الأمر الذي يقترن بالعلة الداعية في أحدهما أكثر من الذي يقترن بمثلها من الآخر، كان الحكم للأول أولى. وكذلك إن كان لأحدهما هذه العلة، ولم يكن للآخر، فالذي له العلة أولى. وأما الماتة فإنها داعية إلى الحكم، وليس يتم بها، بل يتم بأحوال إما فيه، وإما في المتوقع من عنده، وإما فيهما جميعا؛ بل ربما كانت، وربما لم تكن.
والأولى في الماتة يعتبر على وجهين: أحدهما بحسب الوقوع، والآخر بحسب الجميل. والأولى بحسب الوقوع هو كما يقول قائل: إن لفلان عند فلان حقوقا وقد قصده، فالأولى في نفس الأمر أن يتفق أن يقضيها، حاكما بأن ذلك الأمر واقع.
وأما الأولى بحسب الجميل، فهو أن يقول: فالأولى بالمقصود، أي الأجمل به، أن يقضيها ويعرفها، مع أنه ليس يلتفت إلى أنه يفعل ما هو أولى بأن يقع منه ذلك الأولى، بل على أنه الأجمل؛ ذلك وأنه إن لم يفعل فذلك قبيح به.
فالماتة تشارك سائر العلل التي ذكرها في أمر يوقع الوقوع؛ وتخالفها في أن العلل التي ليست بموات لا يعتبر فيها حال الجميل، لكنها إنما تقتصر بها على الوقوع. وإنما يقتصر من الموات وما يشبهها على الإيجاب الأولى، لأن الأسباب المحتاج إليها في أن تكون العلة علة بالفعل ما لم تجتمع لم يكن للمعلول وجود واجب. فإذا علم أن هذا الواحد منها قد وجد، وجهل الحكم في البواقي، وأنها هل اجتمعت، ثم كان موضع آخر لم تحصل فيه علة من تلك العلل، سبق إلى الذهن العامي أن المستحصل لعلة ما منها، أو للعلة التي تصير علة بالفعل عند شرائط، أولى بالوجود مما عدم فيه الأمران.
وأما العلل الأخرى أو الشرائط الباقية، فإنها لو كان اجتماعها كلها معلوما، لكان الحكم يثبت في أن المعلول واقع؛ ولو كان غير اجتماعها معلوما، لكان الحكم يثبت في أن المعلول غير واقع. لكن ما نشعر فيه بوجود سبب، أو بزيادة الأسباب المرجحة، نظن أن الأولى به أن يكون. فربما كانت الأسباب المرجحة متوافية في الجانب الآخر، إلا أنها تكون مجهولة. وربما لم تتواف الأسباب كلها لا في هذا ولا في ذلك، فيمتنع أن يكون ذاك ولا هذا البتة، وإن كان هذا أكثر أسباب. وأما الذي تتوافى فيه الأسباب كلها، فليس هو أولى بل واجب.
والقاصر الأسباب ليس هو لا أولى فقط، بل ممتنع أن يوجد. فإذن هذا القسم من الأولى مظنون لا وجوب له ولا امتناع، إلا أنه يفيد ميل نفس إلى أن الشيء يكون؛ وهو ظن ما يكون غير كاذبة إن كان الشيء متوافي الأسباب فوجب، ولم يكن أولى، وكاذبة إن لم يكن متوافي الأسباب، فامتنع ولم يكن أولى.
واعلم أن اعتبار الأزيد والأفضل قد يقع في كل مقولة. ولست أعني أن كون الموضوع لمحموله يكون في كل مقولة، فإن ذلك أمر لا كثير إشكال فيه، ولا أيضاً كثير منفعة في تعرفه.
ولست أيضاً أعني أن الذي إليه النسبة في أن الآخر أولى منه، أو ليس واقعا في كل مقولة، على ما دل عليه اختلاط أمثلة يوردها قوم؛ بل إن نفس ذلك المحمول قد يقع في كل مقولة. مثاله، أنه قد يقال: إن الصورة أحق بالجوهرية من الهيولي؛ ويقال: إن الشخص أولى بالجوهرية من الكلى. وهذا يكون لا على أن جوهرية أكثر من جوهرية، ولا أن جوهرية هذا أسبق من جوهرية ذلك، بل لأن ما يتساويان فيه يوجد له حكم ووصف هو أسبق لأحدهما وأكمل، وهو الوجود. وقد ذكرنا حقيقة هذا في موضعه.
وقد يقال في " الكم " و " الكيف " ، وهذا ظاهر.
وفي " الإضافة " ، كقولهم؛ إن صداقة فلان أشد.(2/80)
وفي " الأين " ، كقولهم: النار أعلى من الهواء. وقد مثّل لهذا بعضهم مثالا سخيفا، وهو أن القوة النفسانية في الدماغ أو في القلب؛ وليس هذا اختلافا في زيادة ونقصان الأين، بل في نفس الأين.
وقد يكون في " منى " ، كقولهم: تاريخ الفرس أقدم أم تاريخ العرب. وقد أورد له مثال آخر فقيل: أترى الصيف أصلح لأمر كذا أم الربيع، فأخذ الموضوع مكان المحمول، وطلب الأكثر والأزيد لا في أنواع " متى " مجعولة محمولات، بل في الأصلحية. والأصلحية ليست من مقولة " متى " ، فإن الأصلح اسم مشترك يقع في مقولات.
وأما في مقولة " الجدة " فمثل قولهم: الترس أوقى أم الدرع.
وأما في " الوضع " ، فمثل قولهم: الفلك في الإقليم الرابع أشد ميلا أو في الثالث.
وأما الأمثلة في " الفعل " و " الانفعال " ، فسهلة مشهورة.
وقد جرت العادة أن يقال في هذا الموضع في وجوه المقايسات التي يتضمنها هذا النظر أشياء. قالوا: فمن ذلك أن يكون الموضوعات اثنين والمحمول واحدا، كقولهم: الغنى آثر أم الخلد. ومن ذلك أن يكون المحمول اثنين والموضوع واحدا، كقولهم: الفضيلة أنظر أو العمل. وهذا يرجع بالمعنى إلى الأول، فإنه كأنه يقول: النظر أكثر في الفضيلة أو العمل، ويكون المحمول هو الأكثر بالحقيقة. وإما أن يكون موضوعان لمحمولين، كقولهم: اللبن أشد في البياض أم الغراب في السواد. وإما أن يكون الموضوع مضاعفا في كليهما أو أحدهما، كقولهم: الحكمة مع الشجاعة خير أم الحكمة مع العفة؛ أو الغنى مع الصحة أفضل أم الفقر مع الحكمة. والفرق بين المثالين أن في أحدهما جزءا من الموضوع مشتركا، وفي الآخر ليس. وربما كان المحمول، بل الموضوع والمحمول مضاعفا، مثل قولهم: الحكمة مع العفة أنفع في الدنيا والآخرة من الحكمة والشجاعة.
فلنشتغل الآن بالمواضع.
الفصل السادس
فصل (و)
في المواضع
إن الأمور الظاهرة التفاوت لا تحوجنا إلى استعداد لها بالموضع، بل المواضع إنما تنفعنا فيما يخفى فيه التفاوت.
فمن المواضع أن ما هو أطول زمانا، وأكثر ثباتا، فهو آثر. وليس هذا بحق، إذا أخذ مطلقا. فقد يؤثر المؤثر القصير المدة العظيم في أنه مؤثر على الخسيس الطويل المدة؛ إلا أن هذا قد يستعمل في المشهور. وأما إذا تساوى الشيئان في النوع، فأطولهما زمانا، وأكثرهما ثباتا، فهو آثر. والفرق بين ما هو أطول زمانا، وأكثر ثباتا، أن الشيء قد يكون مساويا لنظيره في الزمان، لكنه إذا ثبت على حالة واحدة من الشدة، والآخر لم يزل يشتد ويضعف في تلك المدة كان هذا أكثر ثباتا.
ومختار الأريب الحسن الاختيار، أو الصالح، أو مختار الشريعة الصحيحة، أو مختار جماعة من مبرزين في الفضل والمعرفة في ذلك الباب، أو مختار الأكثر منهم، فهو أفضل. وهو مشهور؛ ويختلف. وكذلك ما يختاره الكل لذاته، فهو المتشوق إليه بحسب الكل، فهو أفضل في ذاته، وأولى بالاختيار وهذا إنما يكون حقا إذا كان الشيء مؤثرا في نفسه لذاته، لأنه خير. وأما إذا لم يكن كذلك، فهو مشهور، وليس بحق دائما. فقد يكون ما يؤثره الناس كلهم كالصحة والسلامة ليس كما يؤثره الفضلاء من السعادة في الآخرة.
والمختار في الصناعة التي هي أفضل كالفلسفة الأولى، أولى بالاختيار مما هو مختار في صناعة أخس، كالموسيقى. وهذا يصير حقا إذا اعتبرت أمرين: أحدهما أن يكون المختار في الفلسفة مثلا من جهة ما توجبه الفلسفة، لا الفيلسوف الذي قد يخطئ. والثاني أن تعتبر الوقت والحال؛ فإن الوقت من الأوقات قد يجعل اختيار ما هو في صناعة أخس أولى من اختيار ما في صناعة أرفع، مثل الوقت الذي يوجب اختيارا للناس على استخراج شكل من الهندسة. فيجب أن نقول: إن لم يكن الوقت والحال يوجب ما في الصناعة الخسيسة.
وموضع آخر: وهو أن ما هو في جنس الخير والفضيلة فهو أفضل من الذي ليس في جنسه؛ كالعدالة، فإنها من جنس الفضيلة، إذ هي نوع منه.(2/81)
وأما العادل فهو ذاته جوهر، وليس الفضيلة مقومة لذاته، كما ليس البياض مقوما للأبيض، ولا اللون الذي هو جنسه مقوم له. لكن العادل عرض له الفضيلة، فهو في جنس الفضيلة بالعرض؛ فيجب أن تكون العدالة أفضل من العادل. وهذا قد يشتهر وقد لا يشتهر. وأما الحق فيجب أن تعلم أن معنى الأفضل هاهنا مما لا ينفرد، لأن الأفضل إن عنى به أنه الأكثر في نفسه في أنه فضيلة، كما أن الأشد سوادا هو الأكثر من الآخر في أن سواد، فليس بينهما مناسبة في ذلك؛ فإن الفاضل ليس فضيلة؛ وإن عنى بالأفضل الأجمع للفضل على أنه صفته، فليس بينهما مناسبة؛ فإن الفضيلة ليست جامعة أو حاملة للفضيلة. ثم إن أخذ اسم يعمهما فسيكون باشتراك الاسم.
وموضع آخر، وهو أن المؤثر بذاته، ولأجل نفسه، أفضل من المؤثر لأجل غيره، كالدواء والصحة؛ وهذا حق.
وأيضاً المؤثر بذاته أفضل من المؤثر بالعرض؛ وهذا قريب من الول، ويخالفه في أن الذي بالعرض قد لا يكون مؤثرا البتة، بل إنما يكون المؤثر مما يقارنه، مثل أن الشيء إذا كان حلوا ومربعا، فالحلو مؤثر لذته، والمربع بالعرض، إذ إنما أوثر لأنه حلو، وليس يتوجه إلى التربيع إيثار. وأما المؤثر لغيره يتوجه إليه إيثار. وربما كان المؤثر بالعرض ليس لأنه مؤثر، بل لأجل أن مقابله مكروه، أو يتبع مقابله مكروه، فيؤثر لا لفائدة في نفسه، فهي فيه لفائدة فيما يقارنه بالذات، فهي فيه بالعرض. لكنه إنما يؤثر لكي لا يوجد مقابله، فلا يكون هو مؤثرا لأجل أنه مؤثر لذاته بالذات، إذ ليس يوصل إلى المؤثر بالذات، بل يوصل إلى المؤثر بالعرض، وهو عدم المكروه بالذات؛ وليس عدم المكروه علة لوجود المؤثر بالذات، بل بالعرض؛ إذ علل الأمور الوجود أمور وجودية لا الأعدام. بل الأعدام ربما كانت مع علل الأمور الوجودية، وممكنات توجه العلل، لا أنها في أنفسها علل. ومثال هذا أن الفضيلة في الأصدقاء مطلوبة لذاتها، لأنها توصل إلى سعادة الصديق، وسعادة الصديق مؤثر لذاته للصديق.
وأما فضيلة الأعداء فلا تؤثر لأجل ذاتها، ولا تؤثر لأجل حصول مؤثر بالذات عنها. ولكن قد يؤثر لأجل مؤثر بالعرض، وهو عدم المكروه؛ إذ العدو إذا كان ذا فضيلة لم يحدث ضررا الذي هو عدم السلامة التي هي مؤثرة لذاتها. فيشارك هذا الوجه الأول؛ في أن الأول المؤثر فيه لا لذاته، بل لما عرض من أن كان هناك مؤثر آخر يلتفت إليه. ويفارقه المثال الأول في انه ليس سببا لذلك المؤثر ومؤديا إليه، بل عارضا له، فلا يقع له إيثار. ويفارقه المثال الثاني في أنه مؤثر، ولكن مؤديا إلى المؤثر بالذات، بل إلى عدم مقابله.
وموضع آخر قريب من الموضع الأول، وهو ان ما كان سببا للخير بذاته، كالفضيلة والكفاية، آثر مما هو سبب له بالعرض كالبخت. كما أم ما هو سبب للشر بذاته مثل القصور والرذيلة أولى بالاجتناب من السبب بالعرض كالبخت.
والفرق بين هذا الموضع والموضع الذي قبله، أن هاهنا قد أخذ الشيء سببا، وهناك أخذ مؤثرا. فهاهنا سببان لغاية، وهناك غايتان، أو سبب وغاية، بعد أن أخذا مشتركين في الإيثار في أن حصل لهما إيثار. فمنفعة الموضع هناك ليس في إثبات الإيثار نفسه، بل في أن يتعين أي الأمرين اللذين حصل لهما الإيثار أولى بأن يؤثر؛ ومنفعة الموضع هاهنا في نفس إثبات الإيثار، كأنه يوجب أن يؤثر شيء، وأن يكون هو كذا، وأنه آثر من كذا، فيكون هاهنا كالتضعيف في الإثبات بالقوة، وإن كان بالفعل إثبات واحد، وهو إثبات الآثر.
وما هو آثر عند الكل، وعلى الإطلاق، أي في عان الأحوال، آثر من الذي يصير آثر في حال، ووقت، وبحسب شخص بعينه لعذر لولاه لما كان آثر؛ كما أن الصحة آثر من البط بالمبضع للعلاج، فإن الصحة في نفسها آثر عند الذي يبط، بل ترك البط عنده آثر لولا العذر الواقع؛ وهذا حق.(2/82)
وأيضاً فغن الذي يكون للشيء بالطبع آثر من الذي لا يكون له بالطبع. ومثاله: العدالة آثر من العادل؛ ولست أقول أفضل، فإن هذا الموضع قد مر مرة. وأما في هذا الموضع، فإنما تؤخذ العدالة والعادل من حيث هما نافعان في أمر من الأمور يحتاج فيه إلى أحدهما، ومن جهة نسبتهما إلى شيء، وهو الغاية. لست أعني من جهة اعتبار مقايسة ما بينهما أن أحدهما يؤثر لذاته، والآخر لغيره، فغن هذا الموضع قد مر؛ بل من جهة ما هما مؤثران لأجل المنفعة المتعلقة بهما. لكن العدالة نافعة بمعنى طبيعي لها في ذاتها والعدل نافع لأمر مكتسب. وهذا مثل أن نقول: إن السراج آثر من المرآة المضيئة. بالعكس، إذ السراج يفعل ذلك لأمر في طبعه، والآخر يفعله لأمر مكتسب؛ وهذا حق.
وأيضاً هذا كما يقال:أن يكون لك ملكة الكتابة فتكتب آثر من أن تستكتب.
وأيضاً فإن الأمر الموجود للأفضل الأكرم آثر من الأمر الموجود لغيره؛ مثل المر الذي يخص الله تعالى، فإنه آثر مما يخص الإنسان. فهذا هو على الإطلاق مشهور. وليميز ليتحصل الحق فيه، فنقول: ليس كل أمر موجود في الأفضل فهو الأفضل، فإن اللحية موجودة في الإنسان، وليست من مبلغ الشجاعة الموجودة في الأسد. ولكن يجب أن يشترط حتى يكون الموجود للأفضل موجودا للأفضل من حيث هو به أفضل، لا من أن يشترط حتى يكون الموجود للأفضل من حيث هو به أفضل، لا من حيث هو به أخس.
والموجود للأخس موجود للأخس من حيث هو أخس، لا من حيث هو به أفضل. وبعد ذلك، فإن الحق أن ذلك أفضل. وأما أنه آثر، فإنما يكون إذا اشتركا في أنهما مؤثران، وإنما يكونان مؤثرين إذا كان كلاهما من شأنه أن يؤثر فيحصل بالكسب.وأما إذا لم يكونا كذلك، أو لم يكن الذي في أحدهما مثلا الذي في الأفضل مما يكتسب، فليس يقال إنه آثر.
وموضع آخر يشبه هذا الموضع، وليس هو، وهو أن ما كان أولا للأمور التي هي أقدم، فهو آثر؛ كالصحة بالقياس إلى الجمال والقوة، فإن الصحة يظن أنها توجد في مزاج الأركان، والجمال والقوة في تركيب الأعضاء الآلية. وكذلك ما هو في الشيء الذي هو أكرم فهو آثر، كصحة النبض بالقياس إلى جودة الهضم. وهذا يخالف الموضع الأول في أن الصحة والشدة يجتمعان معا في شخص واحد يوصف بهما. وصحة النبض وجودة الهضم يجتمعان في شخص واحد. والموضع المقدم كان يفترق فيه الموضوعان، لكن الحكمان متقاربان.
وموضع آخر قريب من بعض ما سلف، وهو أن الغاية في الشيء آثر من فاعل لغاية، أي أحرى، حتى لا يكون هذا الموضع مكررا. ولكن هذا مشهور غير حق؛ فإن صحة البدن غاية من الغايات، ثم صحة النفس، وهو الفضيلة، يسوق إلى غاية هي السعادة القصوى؛ والفضيلة آثر عند الأفاضل من صحة البدن.
وأيضاً فإن السائقين إلى غايتين يشبه أن يكون أعجلهما تأدية إلى غايته آثر، وذلك إذا تساويا وتقاربا. ولذلك فإن الجمهور يؤثرون النافع في المعاش على النافع في المعاد. وأما إذا اختلفا، وكان التفاوت عظيما، ولم يمكن الجمع بينهما، فإن الآثر عند الحصفاء ما هو أفضل، وإن تأخر.
وأيضاً فإن الغايتين إذا كان التفاوت بينهما أكثر من التفاوت بين إحداهما وبين فاعلها، وكان فضل الغاية الأخرى على هذه الغاية أكثر من فضل هذه الغاية على فاعل هذه الغاية، فإن فاعل الغاية الأخرى أفضل من هذه الغاية. وذلك بأن نسبة الغاية إلى الغاية، كنسبة الفاعل إلى الفاعل، وكانت تلك الغاية تفضل هذه الغاية أكثر من فضل هذه الغاية على فاعلها، ففاعل الغاية الأخرى يفضل فاعل الغاية الأولى هذه بأكثر من فضل الغاية الأولى. وهذه لفاعلها نفسها فضل أكثر فهو أفضل، ففاعل الغاية الأخرى أفضل من هذه الغاية؛ وكذلك بالعكس.
وهذا الموضع مشهور، وليس يبين بنفسه أنه حق؛ وذلك لأنه يبنى على إبدال النسبة، وإبدال النسبة غير بيّن. والبرهان الذي شهره إنما قام عليه في المقادير والأعداد، ولم يعم في غيرها مما لا يوجد فيها ما يوجد في المقادير والأعداد من المناسبات من وجود مشاركة في شتى مشار إليه، وأن في أحدهما فضلا عليه. فإن كان هذا الموضع حقا، فهو حق غير بيّن بنفسه.(2/83)
وموضع آخر يشبه بعض ما مضى، وهو أن يكون أحد الأمرين، وإن كان يطلب لغيره، فقد يطلب لنفسه، والأمر الآخر لا يطلب إلا لغيره، فإن الأول آثر؛ ومثاله الصحة والعدالة، فإنهما آثر من الغنى والشدة، فإن الصحة والعدالة كريمان لأنفسهما، والغنى لا فضيلة له في نفسه، بل ربما جلب أمرا كريما فاضلا.
وموضع آخر في الأمور الخفية التفاوت اللواتي تحوج إلى تدقيق نظر في أمرها، مثل النظر في اللوازم، فإن ما لازمه خير أكثر وأفضل فهو آثر. وأيضاً ما تابعه شر أقل مما للأخر، وإن لم يفضل في الخير، فهو آثر.
ومن اللوازم ما يكون مقدما مثل الجهل للمتعلم من حيث هو متعلم؛ ومنه ما يكون متأخرا تابعا مثل العلم. والتابع في أكثر الأمر هو الأفضل، إذا كان من جملة الغايات. فهذا موضع.
وأيضاً موضع آخر أن الخيرات التي هي أكثر فهي آثر، إذا كان الأقل داخلا فيها؛ فأما إذا لم يكن كذلك، فإن الأقل عددا ربما كان - وإن خالطه شر - آثر خيرات كثيرة. مثل الحكمة، فإنها مع ما يلحق كاسبها من التعب آثر من جملة الغنى والصحة والجمال والقوة.
وربما كان ما ليس بفضيلة وهي واحد آثر من عدة فضائل، مثل أن السعادة آثر من العدالة، والشجاعة، والعفة. وقد يعاند هذا الموضع فيقال: ليس يجب أن يكون مجموع الاثنين آثر من الواحد الذي فيه، مثل أن مجموع الصحة، وكوننا ذوي صحة، ليس آثر من الصحة، فإنه لا زيادة إيثار لمجموعهما على الإيثار الذي للصحة؛ وإنما يكون هذا إذا كان أحد الأمرين لأجل الآخر. وأما إذا اختلفا فحق أنه إذا كان كل واحد منهما ليس يؤثر الآخر، فهما آثر من الواحد. وهناك إذ ليس آثر، فليس أنه أنقص إيثارا، بل إيثارهما واحد. وحكم هذا الموضع في الصحة، أو الشهرة، مما لا يخفى.
وأيضاً إذا كانت المؤثرات تحصل مع لذة فهي آثر من أن تكون بلا لذة؛ وهو مشهور غير حقيقي.
وأيضاً إذا كانت بغير أذى ولا لذة، فهي آثر من الذي يكون مع أذى. وهذا على ما علمت.
وأيضاً ما يكون في وقته ثر منه في غير وقته، أو في وقت لا يعتد به، فإن الحكمة في المشايخ آثر منها في الشباب، وإن كان وجودها في الشباب أعجب. وكذلك العفة فيهم، بل العفة والحكمة بالمشايخ أولى، وفي الشباب أعجب. واكتساب ذلك وطلبه بالشباب أولى، فإن المشايخ يجب أن يحصل ذلك لهم بالطبع.
والشيء الذي هو انفع في كل وقت، وفي أكثر الأوقات، فهو آثر بالإعداد، كالعفة والعدالة فإنهما آثر من الشجاعة. لكن ربما كانت الشجاعة آثر في وقت يحوج إليها.
والشيء الذي لو كان هو لم يحتج إلى الآخر، وإذا كان الآخر احتيج إليه فهو آثر؛ كما أنه لو كان الناس عدولا لم يحتج إلى الشجاعة. ولو كان الناس كلهم شجعانا انتفع بالعدالة، بل احتيج إليها. فالعدالة آثر، وإن كان الآخر، أعني الشجاعة، ربما صارت في بعض الأوقات آثر.
وأيضا ما يتجنب فساده، أو ضده أكثر فهو آثر؛ وما يرغب في تحصيله واتخاذه أكثر، فهو آثر.
وأيضاً فإن كان شيء يكون مؤثرا دائما، ويكون الآخر مرة مؤثرا، ومرة غير مؤثر، فذلك الشيء آثر. مثال الأول لذة الحكمة؛ مثال الثاني لذة الأكل والجماع؛ فإن الذي هو مؤثر دائما آثر في نفسه، وإن كان هذا قد يصير وقتا ما آثر.
نقول: إن المواضع التي أخذت في الآثر منها ما ينفع في المؤثر نفسه، وذلك أنا إذا علمنا أن النفع آثر، علمنا أن النافع مؤثر. وكذلك إذا رأينا الأكثر في باب ما آثر، علمنا أن الكثير مؤثر؛ كما أنا إذا علمنا أن الأنفع آثر، علمنا أن النافع مؤثر. وكذلك وإن لم يكن الأمران يختلفان في الزيادة والنقصان، ورجح ما بينهما من جهة أخرى فقد يوجد للترجيح مواضع أخرى، مثل أنه إذا كان الخير بالطبع آثر، فالخير بالطبع مؤثر. وأيضاً إذا كان ما يكون خيرا بالطبع، فهو أكثر إيثارا، فيكون لا محالة للأقل إيثارا، وهو الخير الذي ليس بالطبع إيثارا ما، وإن قل، فيكون كل خير بالجملة مؤثرا. ومنها ما ينفع في الترجيح فقط.(2/84)
وقد يمكن أن تجعل هذه المواضع أعم من حال الإيثار، وتؤخذ بحيث تشتمل على الأزيد من كل تفاوت؛ فيقال مثلا: إن ما كان بالطبع بحال ما، فهو أزيد فيها من الذي ليس بالطبع. فغن الأزيد في الحال أعم من الآثر. أو تقول: إن الذي يفيض منه أمر ما فهو أولى بأن ينسب إليه من الذي لا يفيض عنه، أو الذي يفيض منه أكثر فهو أفعل لذلك الآثر، فهو أولى به. والذي هو أكثر بحال ما قبولا وتصرفا فيه، فهو أولى به. كذلك ما إذا زيد على شيء جعل الجملة أكثر بحال ما في زيادة شيء، أو كانت زيادته على ما هو أقل مخالطة للضد، كالبياض الذي هو أقل سوادية الجسم، فهو بالحال أولى، وفيها أكثر.
والمواضع الكلية - كما علمت - تنفع في الجزئيات، وإن كان للمواضع الجزئية خصوصية بحث. والمواضع الكلية، هي مثل المشتركة المذكورة في باب الإثبات والإبطال المطلقين، مثل مواضع المتقابلات والنظائر والتصاريف، فإنها أعرفها كلها، وأقربها من الشهرة.
وكذلك تلك المواضع نافعة في أن تستعمل في المطالب الجزئية؛ فإنه كما أن قولنا: إن كان كل لذة خيرا، فكل أذى شر، فهو مشهور، فكذلك سيكون مشهورا قولنا: إن كانت لذة ما خيرا، فأذى ما شر. وكذلك في سائر الأمثلة مما يجب أن تعرفه بنفسك. وكذلك مواضع الأولى والأحرى.
لكن إنما ينتفع بأخذ مقدم جزئي في الإثبات؛ فأما في الإبطال فلا ينتفع به. مثاله من باب الأولى: أنه إذا كان كل علم أولى بأن يكون خيرا من اللذة، ولذة ما خير، فعلم ما خير؛ فإن قلنا: ولا لذة بخير، لم يلزم أن يكون ولا علم بخير. وأما إن قلنا: لكن ليس علم خيرا، أنتجت: فليس لذة خيرا. وأما إذا كان الأمر من باب التساوي فيصلح للإثبات والإبطال الجزئي.
وحكم الموضع الجاهل الكلى على مثال الجزئي هو من باب الأولى والأحرى. وما بعد هذه فمكررات بعضها مما يعلم في علم القياس، وبعضها مما يعلم في المواضع المذورة.
تمت المقالة الثانية
المقالة الثالثة
وهي أربعة فصول
الفصل الأول
فصل (أ)
في المواضع الجنسية
ولأن النظر في الجنس قبل النظر في الحد، إذ الحد إنما يتم حدا بعد أن يصبح وجود ما فرض فيه جنسا؛ على أن الجدليين أكثر عنايتهم بالإثبات والإبطال المطلق، ثم إذا نظروا في الحدود كفاهم التمييز والمساواة، فلذلك تقل فطنتهم لأمر الجنس. وذلك لأن قانونهم الإثبات والإبطال؛ ويحوجون إلى التحديد لتفهيم الاسم ولا يتعدون في أكثر الأمر إلى ذلك إلى أن يعرفوا ما هو حد حقيقي، وما هو غير حقيقي، فيقصرون على ما هو تفهيم الاسم. وينعكس بالتساوي. لكنه لا يبعد أن يكون من ضبط منهم مشهورات الصنائع العلمية أن يكون قد أحس بما هو المشهور عند المنطقيين: من أن الحد مؤلف من جنس وفصل، فيكون له أن يتكل في باب الجنس والفصل.
واعلم أن أكثر المواضع المذكورة في باب الجنس علمية، فإن جرى فيها مشهور صرف، خصصناه بالتعريف.
فمن المواضع أن ينظر في الأمور المجانسية للموصوف، أي الأمور المشاركة للموضوع في طبيعته - والمتسلم أن جنسها واحد - هل شيء منها لا يحمل عليه المحمول المفروض أنه جنس. فغن وجد ما ليس يحمل عليه المفروض جنسا ما وضع جنسا بجنس، وإن لم يوجد، لم يلزمه منه شيء. وهذا الموضع للإبطال فقط، ومثاله: إن قيل إن الخير جنس اللذة، فوجدنا لذة ليست بخير، قلنا: إن الخير ليس جنسا للذة، فإن وجدنا كل لذة خيرا، لم نعلم أنه جني أو ليس، فإن كل جنس عام، لكن ليس كل عام جنسا. وأن ننظر: هل هو محمول من طريق ما هو، فإن لم يكن فليس بجنس. وأما إن كان، فكان حملا هو من طريق ما هو لا في جواب ما هو لم يجب أن يكون جنسا؛ على ما قد علمت. لكنه لا يبعد أن يوجد في المشهور جنس - وإن في جواب ما هو، ولكن لا من جهة الشركة فقط - لم يكن جنسا.
وأيضا هل يطابقه تحديد العرض، فغن طابقه فليس بجنس. ويخالف الموضع الأول في أنه ليس كل مقولا في طريق ما هو، فهو يطابقه حد العرض، بل ربما طابقه حد الخاصة.(2/85)
وأيضا إن اختلفت المقولة للجنس والنوع، فكان النوع من الكيف بالذات مثلا، والجنس من الجوهر، أو بعكس ذلك، فليس ما فرضنا جنسا. وهذا يصلح للإبطال فقط. ومثال هذا البياض والثلج، فإن البياض كيفية. والثلج جوهر. وأيضاً العلم والجميل، فغن العلم مضاف، والجميل غير مضاف. وإنما جعل العلم في هذا الموضع مضافا أي داخلا في مقولة المضاف بالذات، هو على جهة المشهور. وقد علمت أن دخوله في مقولة المضاف عند التحقيق هو على طريق آخر ومع ذلك، فإن الشيء الذي يلزم جنسه الإضافة، يلزم نوعه الإضافة، ولا يختلفان فيه. وهذا حق.
وأيضا إن حُمل على ما وضع جنسا حد ما وضع نوعا، فليس ما وضع جنسا بجنس. وهذا أيضاً للإبطال فقط. ومثاله: لو أن إنسانا جعل للموجود وللواحد جنسا، كان ذلك الجنس موجودا أو واحد في نفسه لا محالة، فكانت حقيقة النوع تقال على حقيقة الجنس، وهذا محال.
وأيضاً فإن النوع إذا كان يصدق على ما ليس يصدق عليه الموضوع جنسا، فليس الموضوع جنسا بجنس؛ مثل المظنون، فإنه يصدق على المعدوم، والموجود لا يصدق عليه. وهذا كالمكرر.
وأيضاً، فإن كان الموضوع جنسا لا يشارك شيئا من أنواع الجنس، فليس المفروض جنسا بجنس. كمن يجعل الحركة جنسا للذة، ثم لا توجد اللذة نُقلة، ولا استحالة، ولا نموا، ولا غير ذلك. وهذا إنما يكون إذا كانت الأنواع محصورة، ثم لم يكن النوع المدعى دخوله تحت الجنس لأحدهما، ولا داخلا في أحدهما.
وموضع آخر، هو مكرر بالقوة وإن لم يكن بالفعل، وهو أن يكون الموضوع نوعا يقال على أكثر مما يقال عليه الموضوع جنسا؛ كالمظنون، فإنه يقال على أكثر مما يقال عليه المعلوم. وهذا الموضع في الظاهر كأنه في القوة ما قيل قبل من أنه إن كان النوع يحمل على ما لا يحمل عليه الجنس، فليس المفروض جنسا بجنس.
لكن قولنا: إن كان حمله على أكثر مما يحمل عليه، قد يقتضي اعتبارا آخر، وهو ألا يلتفت إلى المشاركة البتة، بل يجمع لكل واحد منها موضوعاته، فتوضع الموضوعات القريبة لهذه أكثر عددا من موضوعات تلك. فلأنها أكثر عددا من جهة أن ذلك يشارك البتة أو لا يشارك البتة هذا في موضوعاته، فيكون ما وضع جنسا غير جنس.
وأيضا، إن كان المفروض نوعا مساويا في العموم للجنس، فليس ما فرض جنسا. بجنس؛ كمن يجعل الموجود جنسا للواحد، أو بالعكس؛ ثم يوجد كل ما يقال له موجود يقال واحد، وبالعكس، فلا يكون أحدهما جنسا والآخر نوعا. وأما كيفية هذا التساوي في الواحد والموجود، فلا يجب أن نشتغل به الآن، بل يؤخذ أخذا، ونقتصر على وجه كونه مثالا. وأما بيان الحقيقة، ففي العلوم العالية.
وكذلك إن جعل العلة والأول أحدهما جنسا للآخر، فإنهما متلازمان أو مترادفان. وإنما يكونان متلازمين، إذا فُهم من العلة موجود عنه وجود الثاني، من غير عكس، وفهم من الأول أنه موجود ليس عن وجود الثاني، من غير عكس. والأمران وإن كانا متلازمين، فإن بين الاعتبارين فرق ما بين اعتبار الصاعد والنازل.
وأيضاً، ننظر في الأمور التي لا تختلف في النوع، بل تختلف في الأعراض، وإن كان جنسا ليس جنسا لجميعها، فليس هو بجنس؛ مثاله من جعل غير المنقسم جنسا لخطوط مستقيمة غير منقسمة؛ فإن الخطوط الغير المنقسمة إن كانت موجودة، فلا تختلف هي والمنقسمة - كما علمت - بالنوع والماهية، بل بالأعراض. وإذ ليس ما لا ينقسم جنسا للخطوط المستقيمة المنقسمة، فليس جنسا لغير المنقسمة أيضاً.
وأيضاً إن كان للنوع جنس آخر ليس أحدهما تحت الآخر، فليس الجنس جنسا. لكنه ربما جوز ذلك في المشهور، لأن نوعا واحدا قد يقع في جنسين ليس أحدهما تحت الآخر؛ مثل أن الفهم علم وفضيلة؛ أو لا يكون هذا المثال مشهورا جدا. فعسى أن يكون كثير من الناس لا يقبلون أن الفهم علم، بل عسى أن يكون المظنون ما ذكرنا في الفن الثاني من حال الأجناس المتداخلة. لكنه إن زيد فقيل: جنس ليس أحدهما تحت الآخر، فيجب أن يتعدى الموضوع أنه جنس إلى جنسه القريب أو العالي؛ فإن لم يكن محمولا على جميع النوع أو لم يكن من طريق ما هو، فليس الموضوع جنسا بجنس.(2/86)
وأيضاً، فإنه يجب أن ننظر هل حد النوع يحمل على الجنس الأعلى؛ فإن حمل، فليس الجنس جنسا. وأما المُثبت، فإن بيّن ان الجنس العالي أو الأعلى محمول من طريق ما هو بالشركة، ثم بيّن أن الموضوع جنس موجود للشيء، كان مثبتا لأنه جنس. فإنه لا يمكن أن يكون العالي يحمل من طريق ما هو، والوسط يحمل لا من طريق ما هو.
وهاهنا موضوع بحث في أن هذا الموضع علمي، أو ليس بعلمي. وذلك لأن لقائل أن يقول: إن الجنس ربما حمل على نوعين، ثم عرض أحدهما للآخر، فكان الجنس الأعلى مقولا على النوع من طريق ما هو، ولم يكن النوع الذي هو جنس أقرب محمولا على ذلك النوع الأنزل من طريق ما هو. مثاله: أن الكمية تحمل على المنفصل وعلى المتصل؛ ثم العدد قد يحمل على المتصل، إذ يعرض له المتصل. ولا يجب من ذلك أن يكون المنفصل جنسا للمتصل بسبب أن جنسه جنس له، ومقول من طريق ما هو. فنقول: إن هذا النوع الأخير كالمتصل إما أن يكون مأخوذا على أنه متصل لذاته، أو على أنه شيء عارض له الاتصال. فإن أخذ على أنه متصل لذاته، فالمنفصل الذي يقابله لا يقال على جزئياته، وإن كان معناه أنه شيء يعرض له الاتصال. فالكم لا يقال عليه وعلى المنفصل لذاته الذي هو العدد قولا جنسيا، بل الكم يقال على العارض له الاتصال قول ما يعرض للشيء، ولا يقال على الشيء قولا جنسيا.
وأيضا فإن المنفصل لذاته، وهو العدد، لا يقال على ما فرض نوعا أخيرا تحت الكم قولا بالتواطؤ، فضلا عن أن يقال لا بالعرض. وكيف يقال، وكل نوع منهما ليس الآخر؟ بل قد يشتق لأحدهما من الآخر الاسم، فلا يقال إن المقدار عدد، أو انفصال، أو منفصل لذاته، بل محدود، أو منفصل بعدد وانفصال.
ثم المعدود ليس هو نوع الكمية بل شيئا هو مأخوذا على أنه عرض له نوع الكمية. وكذلك المنفصل، إن لم يعن به نفس العدد الذي لا يقال على المقدار، بل عنى به شيء قرن به الانفصال، حتى كان معناه أنه شيء ذو انفصال، لم يكن نوعا أيضاً من الكم، على ما علمت ان الشيء مقرون به طبيعة المقولة، ليست من المقولة. فهذه الأعراض لا تبطل شهرة الموضع، بل لا تبطل حقيقته.
وأما ما حكمنا به: أن المثبت إذا بين أن الأعلى مقول في جواب ما هو، فالأسفل الذي هو دونه مقول في جواب ما هو، فذلك حكم مشهور وليس بحقيقي واجب؛ وإن كان مشهورا فإنه يجوز أن يكون الأعم مقولا في جواب ما هو بالشركة، ثم يكون للأخص من المحمولين فصلان متساويان له، وقد أخذ مع أحد الفصلين فسمى باسم، فتكون حينئذ جميع المشتركات في الماهية التي هي أخص تشترك في شيء مبتور ليس بكمال لطبيعة الجنس، بل ليس بجنس. لكن لا يجب أن يضايق في هذا الكتاب كل هذه المضايقة، بل يجب أن تؤخذ على المشهور.
وموضع آخر إن كان ما وضع جنسا يحمل على ما تحت الموضوع نوعا من طريق ما هو فليس الموضوع جنسا بجنس للموضوع نوعا. وأما المثبت، فإنه إذا بين انه أعم ويحملان معا على ما تحت الموضوع من طريق ما هو، وجب أن يكون الأعم جنسا؛ كمن جعل المائت جنسا للإنسان والفرس، ثم المائت فصل يقسم الحيوان.
ولقائل أن يقول إنكم إن ضايقتم، فلم تجعلوا فصل الجنس في هذا الكتاب جنسا، عرض من الشك ما تقدم ذكره قبل هذا الموضع؛ وإن لم تضايقوا، فلا تضايقوا في أن يؤخذ المائت جنسا وإن كان فصل جنس.(2/87)
فنقول: أما أولا فغن الشيء الذي هو فصل إذا شعر في المشهور بفصيلته لا من جهة ما قلناه من تحديد المقول في جواب ما هو، بل من جهة مصادفة الشيء منقسما بشيء آخر قسمة لا تخفى على الجمهور بأنه فصل، حكم حينئذ بأن الشيء يكون غير جنس، وأنه ليس مقولا في جواب أي شيء هو، وأنه لا يحل في المشهور محل الجنس وإذا لم يكن شعور من هذه الجهة، والجهة الأخرى خفية، فيكون الحمل من طريق ما هو فيما يحمل من طريق ما هو كالكافي في إثبات أن ذلك الشيء جنس، لأن التفريق بين الحمل من طريق ما هو، والحمل في جواب ما هو، ليس مما يفهم في المشهور. بل الكلام في الجنس يجل على المشهور، وإنما يفطن له الأقل من الجدليين فكيف الشروط الخفية في أمر الجنس التي لا يشعر بها أيضاً في غير المشهور. بل المشهور هو أن الجنس هو المقول في طريق ما هو الذي ليس قاسما بذاته على سبيل قسمة الفصل المقول في طريق ما هو، هو ما كان ليس البتة مقولا في جواب أي شيء هو، وإن كان المقول في طريق ما هو أعم من الأمرين. فهاهنا يجب أن يوجد كالمخصوص بأحدهما.
الفصل الثاني
فصل (ب) في مثل ذلك
وأيضاً يجب أن ننظر هل من جعل الجنس جنسا للفصل كمن جعل العدد جنسا للفردية، والفردية فصل من باب الفردية بسيط، أو جعله جنسا للفرد الذي هو بمعنى شيء ذي فردية، فإن ذلك أيضاً فصل مقسم للعدد، والعدد ليس هو بنوع من أنواعه، إذ لو كان نوعا لكان إما نوعا متوسطا، وإما نوعا أخيرا؛ ولو كان نوعا أخيرا لما كان يقال على ثلاثة وخمسة؛ ولو كان نوعا متوسطا لكان مقولا على ما تحته في جواب ما هو. وقد علمت في مواضع آخر أنه ليس كذلك.
وهو أيضاً في الحقيقة ليس بفصل حقيقي ذاتي، بل هو فصل على المشهور. ولا الفرد الذي بمعنى العدد المأخوذ مع الفردية أيضاً بنوع، بل صنف؛ ولو كان نوعا لكانت الفردية فصلا، ولكان يحمل هذا الفرد على ما تحت من طريق ما هو.
واعلم أنك إذا قلت: عدد فرد، فليس معنى الفرد فيه أنه عدد ذو فردية، وإلا كنت كأنك قلت: عدد هو عدد ذو فردية، كما لو قلت: حيوان إنسان، لكنت قلت: حيوان هو حيوان ناطق؛ بل معناه أنه شيء ذو فردية، أي شيء ذو كيفية لا ينقسم معها العدد بمتساويين. فإذا قلت: عدد فرد، فمعناه أنه عدد ذو فردية، أي شيء ذو كيفية لا ينقسم معها العدد بمتساويين، فيكون العدد الثاني المأخوذ في بيان حد الفرد ليس على سبيل أنه محمول، بل على سبيل أنه جزء حد لجزء حد؛ فغن الفردية جزء حد الشيء ذي الفردية الذي هو الفرد والعدد جزء حد الفردية الذي لا يحمل عليه في ذاته، ولا يحمل أيضاً على الشيء ذي الفردية في ذاته، بل يعلم من خارج أن هذا الشيء إلا عددا، وعلى ما علمت فيما سلف. فلا تكون قد قلت مرتين للشيء إنه عدد، كما يلزمك أن تكون قلت به في المثال الأول. فهاهنا فردية، وهو كالفصل البسيط، وفرد هو كالفصل المنطقي، والعدد الفرد؛ وليس شيء منها بنوع من العدد.
لكن لقائل أن يقول: إنكم قد قلتم إن فصول الجواهر جواهر، فهي أنواع الجواهر. فنقول: أما أولا، فذلك لا يعاند به المشهور، وأما ثانيا فكان الغرض في هذا هو الفصل المنطقي. وقد علمت أن الفصل المنطقي في الجواهر ليس نوعا للجواهر بأتم بيان، وإن كان يحمل على ما يحمل عليه النوع. وأما الفصل البسيط، فلا يمنع أن يكون نوعا؛ لكن هذا فوق أن يحيط به المشهور. وإنما الغرض هاهنا في الفصل المنطقي. والفصل المنطقي لو كان يقبل في جوهره حد الجنس، لكان يكون نوعا يحتاج أن يتميز عما يشاركه في ذاته بفصل، ولا فصلا؛ أو كان يكون شخصا فيتميز بالأعراض.
وهذه أشياء قد تحققها، وعلمت أن الفصل بماذا يخالف النوع، وعلمت المذهب الحقيقي في ذلك. وأما المشهور فليكن عندك أنه مختلف غير مضبوط.(2/88)
وأيضاً ننظر هل عرض أن جعل ما هو نوع جنسا، وما هو جنس نوعا، مثل من قال: إن الالتقاء اتصال ما، وإن الاختلاط مزاج ما؛ فإن الالتقاء أعم من الاتصال، فإن المقادير تلتقي، أي توجد ولا بعد بينهما، فتكون تارة مشتركة في حد واحد فتصل، وتارة متباينة الحدين، فيكون حداهما ليس واحدا بل معا، كما يكون للماء والدهن، ويخص هذا باسم المماسة. وهذا الالتقاء أي المماسة، لا يقال على الاتصال، فلا تعرض فيه الشبهة، بل إنما يقال عليه ما قيل بالمعنى الأول، فهناك يشكل؛ فإذا كان كذلك استحال أن يكون الاتصال إلا أخص من الالتقاء، فكيف يكون جنسا له؟ وكذلك الاختلاط أعم من الامتزاج؛ إذ الاختلاط يدل على تجاوز أجسام كثيرة فائتة عن الحس، أو أعم من تجاوز الفائتة عن الحس. ثم يوجد منه مالا يفعل بعضه في بعض كدقيق الحنطة والشعير، وبالجملة اليابسة؛ ويوجد منه ما يفعل بعضه في بعض، كالماء والخمر، والسكر والخل، حتى تجتمع لها كيفية واحدة. وهذا يخص باسم المزاج؛ فكيف يكون المزاج جنسا للاختلاط؟ وكمن جعل النقلة جنسا للحركة في المكان، وهي أخص في لغة اليونانيين؛ فإن النقلة في تلك اللغة واقعة على ما يكون قسرا، أو من غير إرادة؛ ولا كذلك الحركة.
وأيضاً إن جعل ما هو نوع جنسا للفصل فقد غلط، لأن الفصل إذا لم يكن أكثر وأعم فلا أقل من أن يكون مساويا.
وأيضاً إن وضع الجنس في الفصل، فهو أبعد غلطا؛ فإن الجنس دائما أعم، فإن لم يكن مثلا أعم، بل اختلف، فشارك في شيء، وباين في شيء، كالمنقسم بمتساويين. والعدد فإن طبيعة الفصل لا تكون مقومة للجنس البتة، بل عارضة لطبيعته، وإن كانت تباينه على ما علمت.
وكذلك إن جعل الجنس فصلا، كمن جعل الاختلاط فصلا مقوما للمزاج، والتغير فصلا مقوما للنقلة.
وأيضاً، إن كان شيء من فصول الجنس أو خواصه المقسمة تحمل على الموضوع نوعا فليس الموضوع جنسا بجنس؛ مثل النفس: فإن العدد كيف يكون جنسا لها - على ما يقال - وليست النفس بفرد ولا زوج، بل كيف يكون العدد محمولا عليها؟ وأيضاً إن كانت طبيعة النوع ترفع طبيعة الجنس، كمن يجعل الحقيقة الإلهية داخلة تحت مقولة من المقولات، ويعاند هذا بطبيعة الاثنينية والثلاثية، فإنها إذا رفعت، رفع العدد أصلا. والعدد جنس، لكنه إذا أخذ الرفع لا رفع الوجود، بل رفع كون عدد آخر البتة عددا في ماهيته، سلم هذا الموضع، وإلا فلم يسلم. والحال في ذلك على ما علمت.
وأيضاً، إن كان الجنس والفصل قد يزولان، ويبقى ما وضع نوعا، فليسا بجنس ولا فصل؛ وهذا ظاهر. وكذلك إن كان ضد الفصل أو الجنس يقال على النوع.
وأيضاً إن كان النوع قد يحمل عليه شيء لا يحمل على شيء مما وضع جنسا البتة، فليس الموضوع جنسا بجنس. مثاله: أن النفس يحمل عليها الإدراك والحس والحياة، ولا شيء من الأعداد كذلك.
وأيضاً، إن كان الموضوع جنسا مما ليس يحمل بتواطؤ بل باشتقاق، فليس بجنس.
وأيضاً، إن لم يمكن أن يكون للموضوع جنسا نوع آخر غير الموضوع نوعا، فليس بجنس.
وأيضاً، إن كان إنما يقال عليه وعلى غيره مما يظن نوعا معه باشتراك الاسم لا بالتواطؤ، قول الإنفاق، على حال النغمتين وعلى حال الصديقين، فليس بجنس.
وهاهنا مواضع من جهة الأضداد، وهو أنه هل إن كان للنوع ضد وليس لجنسه ضد، فالضد ليس يحمل عليه الجنس؛ فإنه إن لم يحمل عليه فليس بجنس؛ وهذا يصلح للإثبات.
وأيضاً، إن كان للجنس ضد، فهل ضد النوع في؛ فإنه إن لم يكن فيه، لم يكن الجنس جنسا، وإن كان، كان. وهذا يرجع إلى الأصول المتقدمة أنه إن كان كذا، فضده ضد جنسه.
وأيضاً، إن كان ضد النوع ليس له جنس،بل هو جنس عال، فلا يكون النوع إلا جنسا عاليا، ولا جنس فوقه، كالخير والشر. وقد علمت فيما سلف أنه كيف ينبغي أن تعلم هذا.(2/89)
وأيضاً إن كان للجنس ضد، وللنوع ضد، فيجب في المشهور أن يكون الضد جنس ضده؛ فإن كان بين أحدهما وضده متوسط، وليس بين الثاني وضده متوسط، فسيقبل أن الجنس ليس بجنس، وخصوصا إذا أيد بمثال، مثل أنه: لما كان بين الفضيلة والرذيلة متوسط، فبين العفة والفجور متوسط، وبالعكس، وإلا فلا. فإن المتوسط إذا كان بين النوعين، فيجب لا محالة أن يقع في جنس لا يمكن، ولا يكون أحد الطرفين أولى من الآخر في أن يكون جنسا له. وليس يجوز أن يكون في جنسين ضدين فيجب أن يكون في جنس آخر؛ وإذا كان في جنس آخر، فذلك الجنس لا محالة مناسبا للطرفين مناسبة هذا النوع للطرفين.
وأيضاً، فإنه لابد للمتوسط بين الجنسين أن يكون عاما، ويقع على كل شيء يكون هو لا محالة متوسط النسبة بين النوعين. وهذا الموضع أيضاً مشهور؛ فإن الحق أن الأضداد بالذات إنما تقع في جنس واحد لا غير، وأن المتوسط معها. وقد عرفت شيئا من هذا فيما سلف.
وموضع آخر: إن كان المتوسط بين أحد الضدين متوسطا حقيقيا وجوديا، وكان المتوسط بين الآخرين متوسطا بمعنى رفع الطرفين، فليس الجنس بجنس. بل يجب أن يكون الأمر على قياس واحد؛ وذلك لأنه يجب أن يكون المتوسط الوجودي يحمل على متوسط وجودي، والمتوسط الوجودي يحمل عليه متوسط وجودي، وكذلك في جانب العدمي. وهذا أيضاً مشهور.
وأيضاً، فإذا كان بين النوعين الضدين اللذين في جنس واحد متوسط، وليس يقع في ذلك الجنس، فليس الجنس بجنس. وهذا قد يعاند في المشهور، ولا عناد له في الحق. أما في المشهور فإن المتوسط بين العفة والفجور في غير جنسهما، إذ هو في الفضيلة، وهما في الرذيلة؛ وقد عرفت ما في هذا. وأما الحق، فيوجب أن يكون المتوسط والطرفان في جنس واحد؛ وبيانه في علم آخر.
وموضع آخر: أنه إن كان للجنس ضد، وليس للنوع ضد، فليس الجنس بجنس. وهذا أيضاً في المشهور؛ فإنه لا توجد للأجناس أضداد حقيقية البتة. ويعاند هذا أيضاً في المشهور؛ فغن الصحة تضاد المرض، ومرض ما كاستدارة المعدة لا ضد له؛ لكن في الحقيقة المرض ليس ضدا للصحة، بل عدما مقابلا؛ ولكل مرض جزئي مقابل جزئي، وربما لم يكن له اسم.
وأما المواضع المشتركة المذكورة، فقد ينتفع بها أيضاً في أمر إثبات الجنس وإبطاله. مثاله: إن كانت العدالة نوعا من العلم، فالعادل نوع من العالم.
وأيضاً، إن كان ما على جهة العدالة نوعا لما على جهة العلم، فالعدالة نوع من العلم، وبالعكس، وإلا فلا.
وكذلك في حال النسبة مع الاشتقاق، كما يقال: إن حال اللذة عند الخيرية أو المنفعة كحال اللذيذ عند الخير أو النافع؛ فإن لم تكن النسبة مع الاشتقاق، كان بعيدا من الحق والشهرة. مثاله: أن حال الحيوان من الإنسان كحال الإنسان من الأشخاص، لكن الحيوان جنس للإنسان، فلا يجب أن يكون الإنسان جنسا للأشخاص، إلا أن يقال ويسلم: عن حال الحيوان من الإنسان في أنه جنسه، كحال الإنسان من الأشخاص في أنه جنسها؛ فإن سلم هذا، لزم. وأما في طريق الحق، فلا يعلم هذا اللزوم، إلا إذا علم أن كل واحد منهما جنس، فلا يحتاج إلى الإثبات، كما لا تعلم النسبة لمقدارين إلى مقدارين في مقداريتهما إلا بعد أن يكونا مقدارين.
وكذلك في حال الكون والفساد مع الاشتقاق؛ مثل أنه إن كان أن يتعلم هو نوع أن يتذكر، فأن يعلم هو نوع أن يذكر. وإن فسد انحل هو نوع إن فسد، فينحل نوع أن يفسد. وكذلك في الفواعل وغير ذلك؛ وهي للإثبات.(2/90)
ولتمتحن المواضع من الأعدام، فإنه لا يجوز أن يكون العدم مع الملكة في جنس واحد؛ وذلك لأنه إن كان العدم جزء حده الجنس الذي المعنى الوجودي فيه، ثم له زيادة معنى فصلي، فإن كان فصلا وجوديا فهو ضد لا عدم، وإن كان فصلا عدميا فذلك أن تكون طبيعته طبيعة الجنس بشرط لا زيادة أي فصل شئت بعينه من فصول أنواع الجنس، وطبيعة الجنس بشرط لا زيادة شيء آخر هو عدم النوع. فإنه ليس عدم البياض لونا عادما لصفة البياض، فإن لونا عادم صفة أيضاً، أمر مقابل، موجود الذات، واقف بإزاء البياض؛ فإنه إذا ذهب البياض وخلفه لون ليس بياضا لا يكون الخالف عدما، بل إنما يكون عدما إذا ذهب البياض ولم يخلف شيء آخر البتة، ولم يحصل هناك إلا مادة وفقدان البياض فإذن العدم لا يكون مع الملكة في جنس واحد، بل الأعدام إما أن لا يكون لها أجناس، أو تكون أجناسها أحرى، بل الأولى أن يكون ما يقوم منها مقام الأجناس أعدام الأجناس، وتكون أجناسها غير حقيقية من معنى الجنسية، على ما علمت في موضعه. فإن البصر لو كان مثلا مشتملا على أمرين كنوعين له، وكان لكل واحد منهما عدم يقابله، كان عدم حس ما يعم ذينك العدمين، ويقال عليهما كليهما، وكان كالجنس لهما، وإن لم يكن عدم الحس المطلق جنسا لهما حتى يكون عادم البصر عادم الحس مطلقا، فيكون إذن العدم إما أن لا يكون له جنس، أولا يكون جنسه الجنس الذي فيه الملكة.
وقد ظن قوم: انه إنما قيل للأخير لا من حيث هو أخير وجنس للملكة مشار إليه بل من حيث هو قريب، كأن المقولة تكون مشتركة للعدم والملكة. وقد علم في هذا ما علم، أو يشبه أن يكون كان هذا مشهورا بينهم، فأخذ الأخير على انه القريب من جهة أن المشهور كان يجعل العدم مثلا والملكة في مقولة واحدة. فإذن يجب أن يأخذ هذا على حكم المشهور أيضاً.
وأيضاً، إن كان للجنس عدم مقابل، وليس عدم النوع فيه، فليس النوع فيه؛ وإن كان فيه، فالنوع فيه. مثاله: إن كان العمى تحت عدم الحس، فالبصر تحت الحس ويجب أن تعلم أن هذا هو على المشهور؛ وأما الحق فهو على ما قلنا.
وأما النقيضان، فليس يجب أن يوضع المقابل منهما تحت المقابل، فإنه ليس إذا كان للإنسان تحت الحيوان، فيجب أن يكون اللا إنسان تحت لا حيوان؛ ولا أيضاً يجب أن يكون اللا إنسان تحت الحيوان، بل لا حيوان تحت لا إنسان، أولا إنسان تحت لا حيوان ما؛ ولا تحت لا حيوان البتة. كما هناك العمى تحت لا حس ما، لا تحت لا حس مطلقا؛ فإنه ليس إذا كان الشيء عادم البصر فهو عادم الحس مطلقا، وإن كان لا حيوان تحت لا إنسان، أو كان اللا إنسان مطلقا تحت أنه لا حيوان ما، فبين أن الإنسان تحت الحيوان. على انه ليس يجب أن تطلق أن السلوب لها أجناس حقيقية، بل تتذكر ما قد قلنا مرارا.
ويجب أن تأخذ من هذا البحث فائدة: وهو أن النقيض في المتقابلات ليس نعني به نفس القضية فقط، بل والتقابل بنعم ولا، وهو البسيط. وأما مواضع تقابل الإضافة، فمن ذلك أنه إن كان النوع مضاف الذات، أو لازما له بالإضافة، فكذلك الجنس؛ ولا ينعكس. ومنع هذا الانعكاس إنما هو في المشهور؛ كما علمت من حال جزئيات العلم، وما قيل فيها. وقد يعاند الحكم الول بأن الكيفية جنس للعلم، ولا تلزمه الإضافة، فإذا تخصصت نوعا فكانت علما. لزمته. والكيفية نفسها، وإن كان قد تلحق بها الإضافة بنحو من أنحاء النسبة، فهي غير الإضافة اللازمة، بل الرأس وهو نوع ما تلحقه إضافة، والجسم وهو جنس لا تلحقه إضافة. أما أنت من حيث تطلب الحق، فقد بُيّن لك صواب الحكم فيه في الفن الثاني.(2/91)
وأيضاً، إن كان النوع مضايفا لشيء؛ ثم لم تكن الإضافة الجنسية التي للمفروض جنسا له متعلقا بذلك الشيء، فليس المفروض جنسا له بجنس. مثل أنه إن كان الضعف يقال بالقياس إلى النصف، ثم فرض كثير الأضعاف جنسا للضعف ولم يتعلق بالنصف، فليس كثير الأضعاف جنسا. وهذا الموضع يقبل مع المثال، ويشتهر، ويعاند من طريق الحق بان الزائد جنس الضعف، وليس يجب أن يكون بالقياس إلى النصف؛ ولكن يكون بالقياس إلى جنس مضايف النوع، وهو الناقص، فغن الناقص جنس النصف؛ بل الولى أن يجعل الجنس ومضافه كالحس والمحسوس، والمبصر والبصر. ويعاند من قبيل الشهرة بأنه ليس يجب أن يكون الجنس وما فوقه يقال بالقياس إلى شيء واحد، فغن العلم نوع من الملكة، ويقال بالقياس إلى العلوم، والملكة تقال بالقياس إلى العالم. على أنه لا يمنع الحق أن يكون العلم - من حيث هو علم وأخص من الملكة - يعرض له أن يكون مضافا إلى النفس، مثل ما يعرض إلى الملكة. فكأنك علمت هذا أيضاً في موضع آخر.
وموضع آخر لا مدخل له في العلوم، وهو أن يكون الجنس يقال بلفظ زائد على اللفظ الموضوع له من الألفاظ الروابط والواصل، مثل: " من " أو " على " أو " ب " أو " إلى " ، أو بغير لفظ زائد على اللفظ الموضوع له يلحق به من هذه الألفاظ ثم يخالفه النوع. ويعاند هذا الموضع بالمخالف إذ يقال لكذا، والغير يقال على غير كذا، وأحدهما تحت الآخر.
وأيضاً، فغن العلم يقال لكذا، والملكة تقال لكذا. على أن الحق أن الإضافة للملكة ليست على نحو إضافة العلم التي نحو المعلوم، بل إذا أخذ العلم نوعا من الملكة وأجرى مجراه، كان أيضاً العلم - من حيث هو علم لا من حيث هو ملكة فقط - علما للعالم. فغن كونه علما للشيء، بسبب كونه ملكة له ويذهب مذهبه - وكذلك يعاند أن الزائد على شيء، والضعف - وهو كالنوع تحته - ضعف الشيء.
واعلم أن الأمور التي تلزمها الإضافة، منها ما وجوده ليس إلا فيما له إليه الإضافة، ومنها ما تتعلق به إضافتان. إحداهما هي إلى أمر ليس هو فيه، والأخرى إلى أمر ليس هو فيه. فإن العلم بشيء خارج، هيئة مضافة إلى العالم وإلى المعلوم الخارج، وهو في أحدهما لا يمكن أن يفارقه، وبالقياس إلى الآخر لا يمكن أن يواصله. ومنها ما يمكن له كلا الأمرين، مثل العلم: فإنه يجوز أن يكون بالعالم أيضاً إذا علمت النفس ذاتها. وبعض الأمور يستحيل فيها أن يكون المضاف موجودا في المضاف إليه البتة، مثل الضعف، فإنه ممتنع أن يكون عارضا في النصف.
وقد ينبعث من معرفة هذا موضع، من ذلك أن يكون الجنس مما إضافته إلى ما هو فيه، والنوع ليس كذلك، أو بالعكس. كمن قال: إن الذكر بقاء العلم، والبقاء بقاء للباقي وفيه،والذكر ليس هو للعلم وبالقياس إليه، بل هو للمتذكر الماضي أو للنفس. وهذا الموضع يصلح للإثبات والإبطال المطلقين، بان ننظر هل الذكر بقاء العلم؛ فيؤخذ بقاء العلم صفة للعلم بها العلم بها باق؛ وليس الذكر صفة للعلم بها العلم باق.
الفصل الثالث
فصل (ج) في مثل ذلك
ومن المواضع التي يبطل بها ما يوضع جنسا، أن تكون الملكة جعلت جنسا للفعل أو الفعل جعل جنسا للملكة. مثل من يقول: إن الحس حركة جسمانية، والحركة لا مبدأ فعل، والحس مبدأ فعل. أو يقول: إن التذكر ملكة نفسانية، والملكة النفسانية بحال ثبات، لا بحال تجدد وفعل. والتذكر بحال تجدد، لا بحال ثبات.
ومن المواضع المجانسة لذلك أن تكون القوة على المصابرة تجعل جنسا للملكة النفسانية كمن يجعل الحلم نوعا من كظم الغيظ؛ أو يجعل الشجاعة مصابرة على الخوف؛ أو العدالة قسر النفس على الامتناع من الأرباح الدنيئة. فإن هذه كلها تباين الملكات،إذ كانت الملكات هي التي لا تنفعل معها النفس شيئا من ذلك، فلا تغتاظ، ولا تغتاظ، ولا تخاف، ولا ترغب، لا أن يعتريها ذلك ثم تتكلف المصابرة عليه، فإن ذلك ضبط النفس، لا فضيلة الملكة.(2/92)
ومن المواضع الشبيهة بذلك أن يجدوا للشيء لازما لا ينفك عنه، لكنه خارج عن حقيقته وماهيته، فيجعلونه جنسا له، كمن يجعل الغم جنسا للغيظ، ويجعل الظن جنسا للتصديق؛ لكن الغم ليس هو نفس الغيظ ولا مقولا عليه، بل هو أمر يتقدمه فيوجبه، ولا الظن جنسا للتصديق، ولا مقولا على تصديق، بل يحدث أولا ظن، ثم يكون تصديق، فيكون إذن الغم والظن أمر يلزم أن يتقدما الأمرين الآخرين، وليسا بجنسين له. ولو كان الظن جنسا للتصديق لما صح أن يبقى اعتقاد واحد، فيستحيل عن كونه ظنا بعد ما كان ظنا. فإن ذات الشيء لا تبقى واحدة بالعدد وتخرج من جنسها.
وأيضاً، إن لم يكن الجنس فيما فيه النوع، بل كان النوع في غير ما فيه الجنس، فليس الجنس جنسا؛ مثل من يقول: إن الحياء خوف ما، لكن الخوف الحيواني من قوة النفس الحيوانية، والحياء في النطقية. وكذلك من يقول: إن الغيظ ألم وغم؛ فإن الغيظ في الغضبية، والألم في الحس، والغم في الشهواني أو في السياسي. وكذلك من قال: إن الحس الحيواني مشيئة ما، والمشيئة فكرية، وتلك شهوانية. وهذا الموضع وما شبهه نافع في الإثبات والإبطال المطلقين، وإن لم يكن للجنس وحده.
وموضع آخر: أنه إن كان الجنس ليس يقال على النوع قولا مطلقا، بل من جهة، فليس الجنس جنسا. وكونه من جهة يفهم منه معنيان: أحدهما أن يكون مقولا على جزئه لا على كله، مثل العضو، فإنه يقال على جزء من الإنسان قولا كالجنس، ولا يقال على كله البتة بوجه من الوجوه، فلا يقال البتة للإنسان إنه عضو. والثاني أن يكون يقال على كله، ولكن من جهة جزئه، سواء كان عارضا للجزء أوليا، أو كيف كان؛ مثال ما يقال: إن الإنسان محسوس، فإن الإنسان إنما هو محسوس لأجل ظاهر جسمه، حتى لو فصل جسمه عن نفسه ولكان ذلك الجزء محسوسا، وإن لم يكن جزء إنسان. وليس هذا شرطا في هذا القسم، فإنه ربما كان ذلك المعنى لا يقال عليه لو فصل جسمه مثل الصحيح؛ لكن إنما أوردت ذلك لتفهم أنه كيف يكون تعلقه بالجزء.
وبالجملة يجب أن يكون الجنس جنسا للشيء في ذاته مطلقا، فتكون ماهيته المشتركة المعرفة لذاته تعريفا مشتركا. فأما ما يقال على ذاته لا لأجل ذاته بل لأجل جزئه، فإنه إما غير محمول على ذاته، وإما أن يقال على ذاته من حيث تنسب ذاته إلى غيره، مثل أن ينسب إلى جزئه، فإن جزأه غيره، أو من حيث له غير آخر كيف كان، فلا يكون المحمول جنسا، فغن جنسه يحمل على صريح ماهيته التي له في ذاته لا بحسب غيره. فيجب إذن أن يكون الجنس محمولا على الذات، لا من جهة شيء في جزئه، ولا من جهة شيء في شيء آخر متصل به أو عارض له.
وموضع آخر يتلو هذا الموضع كأنه منتج منه، وكأن قائلا قال: إن الجسم يحمل على الإنسان وهو جنسه، وليس يقال عليه من جهة جملة المركب من جسم ونفس، بل يقال على أحد الجزأين: وهو جسمه الذي يخصه، فيكون جسمه الذي يخصه نوعا من الجسم ويكون الجسم جنسا لجزئه، ولا يقال عليه مطلقا. والمعلم الأول قال في جوابه: إنه لا يجوز أن يؤخذ الجزء البتة كالجنس،ولا ما يحمل عليه الجزء، فإنه لا يجوز أن يحد الحيوان بأنه جسم ذو نفس، وإلا فيكون الكل محمولا عليه الجزء الذي هو الجسم، فيكون الكل هو الجزء؛ وهذا محال.
وأقول: إن هذا الموضع علمي، والمثال المورد فيه حق من جهة العلمية، وليس بمشهور، فغن المشهور أن الجسم جنس للإنسان. فيجب عليك أن تتذكر ما علمتك في الفن الذي في " البرهان " من الفرق بين الجم الذي هو جزء إنسان، والجسم الذي هو جنس الإنسان، وتعلم من هناك أن أحدهما ليس البتة محمولا على الإنسان أو الحيوان فإن الحيوان ليس هو بالجزء الجسماني الذي هو بالحالة والطبيعة التي لأجلها اقترن بها النفس، بل هو مجموعها، وذلك المجموع جسم، لا لأنه ذلك الجسم الذي هو الجزء.
وقد طوّلنا في هذا الباب وأطنبنا، فيجب أن تعرف6 ذلك من هناك، وتعرف الفرق بين الجسم الذي هو جزء القوام، والجسم الذي هو جزء الحد، فتعرف صحة هذا الموضع وتعلم انه ليس يعني هاهنا بالجسم الذي هو جزء الحد، بل الجسم الذي هو جزء القوام، وهو أحد الشيئين اللذين في الحيوان، وبهما يتقوم الحيوان على أنهما جزءان له، وهما جسم بحال ونفس.(2/93)
وموضع آخر: أن تجعل الفعل - محمودا كان أو مذموما - نوعا من القوة عليها؛ كمن جعل السرقة قوة على حسن الاقتيات بملك الغير سرا؛ وذلك لأن القوة لا يصير بها صاحبها القوى شريرا، والسرقة يصير صاحبها السارق شريرا، ولو كانت القوة تجعل القوى شريرا، لكان الملك شريرا، ومن المشهور أنه قادر على الشر، وكان الإنسان الفاضل شريرا، ومن الحق انه قادر على الشر. بل نفس القوة مختارة محمودة، لم تخلق عبثا، بل هي معدة نحو المصالح، ولكنها لا تكون قوة أو تكون على المتقابلات. ومحال أن يكون الشر في جنس مختارا محمودا. وكذلك أيضاً إن جعل الفعل المحمود لذاته، أو الغاية المحمودة لذاتها نوعا للقوة عليها، أو نوعا للقوى والفاعل، وذلك لأن الغايات وما يؤثر لذاته، لا يكون نوعا مما يؤثر لغيره، والقوة لا تؤثر لغيرها. ومحال أن يكون المؤثر لذاته في جنس ما يؤثر لغيره، فإنه إذا كان من حيث هو قوة تؤثر لغيره كان معناه أن طبيعة القوة مؤثرة لغيرها. ومعنى هذا أن كل قوة مؤثرة لغيرها، ولا شيء من الغايات الحقيقية المحمودة لذاتها هي مؤثرة لغيرها، فينتج ما تعلم. وقد يجوز أن يكون الشيء الواحد يؤثر لذاته ولغيره؛ ولكن ليس هذا الموضع في مثل ذلك؛ فإن كان في مثل ذلك فالموضع مشهور غير حق.
والذي قال في بيان هذا الموضع إن النوع يكون مختارا مؤثرا، والجنس ليس كذلك، مثل الفضيلة والملكة، على أن الملكة ليست مؤثرة البتة، فهو قول جزافي؛ وذلك لأن الملكة ليست مختارة ولا مكروهة، بل تصير مختارة وتصير مكروهة بالفصول. ولا يمتنع أن يكون النوع مؤثرا، والجنس لا يؤثر ولا يكره، بل المنع هو أن يكون الجنس مؤثرا، والنوع مكروه الذات، أو الجنس مكروه الذات، والنوع مؤثرا. وامتناع هذا حق، أو أن يكون النوع مؤثرا لذاته، والجنس مؤثرا لغيره؛ وامتناع هذا مشهور من جملة المشهورات التي تؤيد مال واستقراء.
وموضع آخر، أن الشيء نسبته إلى كل واحد من أمرين أنهما جنس له نسبة واحدة، ثم ينسب إلى أحدهما دون الآخر، فيجعل جنسا له دون الآخر، مثل ما يقال: سارق، أو مخادع، أو ساع، فإن كل واحد من هذه يجب أن يكون قادرا، أي متمكنا. ويجب أن يكون مختارا، فإنه إن قدر وتمكن ولم يختر، أو اختار لكنه لم يقدر، أي لم يتمكن - لست أعني القدرة التي هي القوة - لم يكن مخادعا أو ساعيا أو سارقا بالفعل. ثم ليس أحد الأمرين أولى بان يكون جنسا والآخر فصلا. فإن كل واحد منهما قد ينقسم بالآخر، وكل واحد منهما يوجد في غير ما يوجد فيه الآخر. فإنه قد يكون مختارا لا يتمكن، وقد يكون متمكنا لا يختار، فإما أن لا يكون ولا واحد منهما جنسا، أو يكون كل واحد منهما جنسا؛ ثم إن كان كل واحد منهما أمرا محققا لماهية فأيهما جعلته جنسا للمفروض نوعا كالسارق، ثم لم تذكر الآخر، قلما تدل على طبيعة المعنى المشترك فيه بالكمال. فكما أنه ليس إحداهما أولى بالجنسية فليس أولى بالفصيلة. وهذا الموضوع بالحقيقة إنما يمكن في أمور يحمل عليها أمر أن كل واحد منهما شرط في وجوده وليس واحد منها أولى بأن يتخصص به من الآخر في ظاهر الأمر. فإذا أثبت أحدهما جنسا، كان للمعارض أن ينازع ويقول: إنه ليس أولى بأن يكون جنسا من الآخر. فإذا ليس الآخر جنسا، فليس هو جنس. وأما أن أمثال هذه الأشياء قد يمكن أن يكون لها جنسان، فالقول فيها هو القول فيما سلف ذكره من الأجناس الحادثة بفصول متداخلة وقد قيل فيها ما قيل؛ وأما هاهنا، وفي هذا المثال عند التحقيق، فإن الجنس هو الاختيار والتمكن هو الفصل لعلة من العلل يجعل ذلك أولى بالجنسية، وهذا بالفصيلة، وإن كان العموم لا يجعله. وليس هذا موضوع تطويل القول فيه.(2/94)
وموضوع آخر قريب من هذا، وهو أن لا تكون نسبة المرين إلى الجنسية من نسبة واحدة، بل أحدهما بعينه جنس والآخر بعينه فصل. لكن قد غلط فوضع الذي هو فصل منهما جنسا لما هو جنس منهما، كمن قال: إن التحير هو إفراط التعجب، ولم يقل تعجب مفرط. أو قال: إن التصديق قوة الرأي، ولم يقل رأي قوى؛ فجعل الإفراط جنسا، والتعجب فصلا، وجعل القوة جنسا والرأي فصلا؛ حتى جعل القوة في الرأي تصديقا لا الرأي الذي فيه قوة، فإن الشيء لا يكون هو في نفسه. وكذلك لم يجعل التحير تعجبا بحال بل حال في التعجب. وهذا محال؛ فإن الرأي نفسه في المصدق: وهو التصديق؛ والتعجب نفسه في المتحير: وهو المتحير. وأما إفراط التعجب فأمر في المتعجب. فإن كان إفراط التعجب هو التحير نفسه، إذ قيل إن هذا حده، فغن التحير يكون موجودا في التعجب لأنه إفراطه، فيكون التعجب هو المتحير لا المتعجب؛ وهذا محال. وكذلك يكون التصديق هو الذي يظن؛ وهذا محال. ثم يعرض أن يكون الإفراط مفرطا، إذ كان التعجب هو الإفراط، وفيه الإفراط؛ وإن تكون قوة الظن هي القوية.
وموضع آخر: أن يجعلوا المنفعل جنسا للانفعال اللاحق الغير المقوم حتى يكون الموضوع جنسا للعارض له، كمن يقول: إن عدم الموت هو حياة أزلية؛ فإن الحياة الأزلية أمر يتبعه ويلزمه ويلحقه؛ ويعرض له عدم الموت؛ حتى ولو توهم متوهم أن شيئا كان على أن يموت؛ ثم إن الله جعله غير مائت فدفع الموت عنه؛ فغن هذا التوهم ممكن ومقبول؛ وفطرة العقل لا تمنعه؛ إنما تمنعه حجة إن كان له نافع فتكون حينئذ حياته الواحدة مستمرة لم تتغير؛ وقد حدث به ابتداء من عنده صار غير المائت؛ وذلك حين حدث له معنى غير المائت؛ ومع ذلك فغن الحياة الواحدة قد كانت غير موصوفة بعدم الموت، ثم صارت موصوفة بعدم الموت. ومعلوم أن الحياة الأزلية إن كانت جنسا لعدم الموت فالحياة مطلقا جنس له أعلى، فيكون قد صار الشيء عادما للموت بعدما لم يكن. وطبيعة الجنس واحدة بعينها بالعدد؛ ومستحيل أن تكون طبيعة الجنس واحدة بعينها بالعدد توجد لأمرين هما متباينا الذات، أعني المائت وغير المائت، وإلا لصار طبيعة الجنس موضوعة للأمرين كالمادة التي تقبل، وهي واحدة بالعدد، أمرين متقابلين، فتكون حينئذ طبيعة الجنس وطبيعة المادة واحدة. وقد علمت الفرق بينهما في موضع آخر. وبالجملة فإن الحياة تكون حينئذ موجودة لم تفسد، بل قد استكملت؛ وإذا لم تفسد لم يتغير الشخص، فضلا عن النوع.
الفصل الرابع فصل (د) في مثل ذلك(2/95)
وموضع أخر عكس هذا، وهو أن يجعلوا الانفعال جنسا لذي الانفعال. وقد جاء مثاله في التعليم الأول أنه كمثل من جعل الريح هواء متحركا، وأوهم أن استنكاره من جهة أن الريح ليس هو هواء متحركا، بل هو حركة هواء. فظاهر الحال فيه يوهم أن الهواء لا يجب أن يجعل جنسا للريح؛ وإذا أخذ هذا على هذا الظاهر لم يكن الانفعال قد جعل جنسا للمنفعل، بل المنفعل جعل جنسا للانفعال، فيشبه أن يكون هاهنا سقط في النسخ أو يشبه أن يكون الهواء نوعا من الريح. وتفسير المثال يدل عليه، فإنه قيل: ولا يجوز أن يكون الهواء ريحا أصلا، وذلك لأن الهواء يبقى واحدا بالعدد ريحا وغير ريح. والنوع لا يبقى شخصه واحدا بالعدد، ويخرج من جنسه إلى جنس آخر. فيشبه أن يكون الريح جعل في المثال جنسا للهواء المتحرك، وإنما هو في الحقيقة عرض في الهواء، لأنه حركة في الهواء، أو لأنه متحرك من الهواء. والظاهر يدل على انه يجعل الريح حركة الهواء. ويشبه أن يكون أراد المتحرك من الهواء، وحمل على الهواء وحمل العرض العام، والهواء له كالموضوع المنفعل ببسيط هذا العرض العام الذي هو الحركة، فكأنه قال: يجب أن يكون الريح ليس هو هواء متحركا، بل متحركا هو هواء حتى يكون جنس الريح المتحرك وفصله أنه من هواء، كما أن الجرداب هو المستدير من الماء، والحرف هو المقطع من الصوت، والقدوم هو الآلة من الحديد؛ وليس شيء منها هواء ولا ماء ولا حديدا، وإلا فالجزء يكون مقولا على الكل، ويكون الموضوع مقولا على المركب. فإذا فسر مثال الموضع على هذه الجهة، وعلى أن الغرض فيه أن الهواء إذا جعل نوعا من الريح الذي هو كالعرض العام، الذي هو أحد الخمس بالقياس إلى الهواء، كان محالا. وأن الريح هو المتحرك من الهواء، إن كان بالجعل الأول قد يلم المثال عن أن لا يكون مثالا للموضع؛ وبالجعل الثاني سلم أيضاً الريح عن أن يكون، حركة وعرضا بسيطا، لا العرض العام الذي باشتراك الاسم. وكيف يكون الريح عرضا وحركة، ومن المعلوم أن الريح جسم؟ ثم إنه كان قول القائل: إن الهواء نوع من الريح يبطل بوجوه أخرى، من أن الهواء كيف يكون نوعا من الريح، والريح لا يوجد غير هواء، فليس ذلك مانعا أن يبطل أيضاً من هذا الوجه.
وليست هذه الواضع الإبطالية معدة نحو الأشياء التي لا توجد لإبطالها موضع غيرها بل أن يكون أحد المواضع هي. فلو أن قائلا قال: إن الهواء نوع من الريح، لكان قد يبطل بأن يقول إن الهواء يبقى متحركا وغير متحركا، وريحا وغير ريح، وهو واحد بالعدد، وكان ذلك إبطالا؛ كما لو أبطل بأن قيل: وهو هاهنا ريح يقال على شيء آخر.
فهذا ما يحضرني في رد هذا المقال إلى مطابقة الموضع؛ وعى أن يكون عند غيري ما هو منه. أما المفسرون فقد استمروا على أن جعلوا المثال بحسب ما يطابق الموضع بل يطابق الوضع الذي قبله. على أن باقي الأخبار عن هذا الموضع تدل على ان الحديث هو عن موضوع جعل جنسا، ويشبه أن يكون قد وقع في النسخ سقط، أو تغيير، أو سهو. ويشبه أيضاً أن لا يكون هكذا، بل يكون الكلام على النحو الذي أولناه، ثم يكون ما يتل به عودا إلى الموضع الول قبل هذا الموضع، كأنهما في حكم موضع واحد، إذ هما كالمتعاكستين. وقد يجعل الكلام في الشيء موصولا بالكلام في عكسه، على أن جملتهما كلام واحد. وأما ما هذا الكلام المتصل، فهو أنه يقول ما معناه هذا: أن في بعض الأشياء قد الموضوع على المتكون منه في المشهور، فلا يستنكر ذلك؛ فغن الناس لا يستنكرون أن يقولوا إن الريح هواء متحرك ليس متحرك هوائي، ولا ستنكرون أن يقولوا الريح هواء أو نوع هواء استنكارا مشهورا، أو قريبا من المشهور. وأما في بعضها فالأمر بالخلاف؛ وذلك كمن يقول: إن الثلج ماء جامد، فإن معنى هذا القول، إنه ماء، ومع انه ماء فهو شديد. فإنه ما لم يكن الثلج ماء لم يكن الماء جنسا له، ثم الثلج ليس ماء، بل كان ماء، إذ الماء بالفعل في العادة هو ذلك السيال، وذلك السيال ليس موجودا بالفعل.(2/96)
ومثال آخر مما يكون الموضوع جزءا ما يقال من أن الطين تراب معجون بماء، وليس الطين ترابا أصلا، فكيف يكون ترابا بالصفة، وتلك الصفة أنها معجونة بماء، ول كان الطين ترابا، لم يكن الطين هو الجملة، بل كان الطين هو الجزء الذي هو التراب من جهة ما خالط الماء. فالموضوعات التي تصدق على الجملة في المشهور، مثل: الإنسان على الكاتب، والصوت على الحرف؛ فإنها يشكل فيها الأمر، فتظن أجناسا.
وأما ما كان من النمط الثاني فيظهر بسرعة أنها ليست محمولات، فكيف تظن أجناسا؟ والموضوعات الأولى ربما كانت أنواعا أخيرة ليست، فكيف يكون لها أنواع؟ وذلك أنه إذا كان بعض الأمور النوعية إذا عرض لها شيء واحد - وهو مع ذلك العرض كشيء واحد - فسمى باسم مثل الجرداب، فإن الجرداب اسم يقع على كلية شيء موضوعه الماء، والماء - كما تعلم - طبيعة نوعية، فإذا حصل في موضعه شكل عن حركة، كان للجميع ذلك الشيء، وكان جردابا؛ فيكون الجرداب ليس هو ذلك الشكل، ولا الماء المجرد، بل مجموعهما. فإذا أخذ مثل هذا الشيء، وفقد في تحديده جنسه، أخذ موضوعه وأقيم مقام الجنس، فأشكل الأمر.
وهذه الأشياء ليس لها بالحقيقة حدود، على ما علمنا في الفلسفة الأولى. وليس لها أجناس حقيقية، بل أجناسها المتخيلة لها إما من الأمور الجنسية المركبة التي تركب من مقولات شيء، أو من الشيء المطلق مع مقولة، وعلى ما علمت في موضعه. وأما أن تقام الطبيعة الموضوعة مقام الجنس، وتؤخذ على الاعتبار الذي لا تكون بها موضوعا، بل تكون بها نوعا أو جنسا - على ما لمت من الفرق - فتصير نسبة تلك الطبيعة النوعية إليها حينئذ من وجه كنسبة الجنس، إذ كان ذلك النوع قد عرض له أن تخصص بمعنى كلى هو مقدم لطبيعة مركبة من النوع ومن ذلك العرض، إلا أنه ليس ذلك العرض بالحقيقة فصلا، لأنه لا يقوم ما يقترن به من الطبيعة المشتركة، وعلى ما علمت في مواضع أخرى. وكذلك لا يكون ذلك المخصص، متحدا في طبيعته اتحاد النوع الحقيقي.
وكما أن تلك الطبيعة النوعية لم تكن نوعا ومحمولا على الشخص، من حيث هو جزء الشخص، بل من حيث المعنى الآخر المطلق، كما علمت في موضعه؛ كذلك لا تكون محمولا على الصنف وكالجنس له من حيث هو الجزأين الذي هو موضوع العرض، بل من حيث المعنى الآخر المطلق. بل المحمول لا يكون من حيث يصلح للحمل جزءا البتة. فهذا أحد الأمور التي تشبه الحدود ولا تكون حدودا، ويكون ما وضع فيها كالجنس يشبه الأجناس، ولا يكون جنسا؛ ويكون الأولى بالمحدود أن يسمى صنفا لا نوعا.
فلهذا التأويل الذي أولناه، والفرق الذي فرقناه، أنكر المعلم الأول أن توضع أمثال هذه الأشياء من حيث اعتبار الشهرة مكان الجنس أولا، ثم سلم ذلك ثانيا، وجعله مما قد يصدق. فكأنه المنكر في المشهور من الوجهين قد نبه على شنعته بحجة، وهو كونه موضوعا لا محمولا. وذلك صحيح أيضاً من حيث اعتبار الحق، فإنه من المحال أن يكون الشيء من حيث هو موضوع محمولا على الجملة.
وأما المساعد عليه ثانيا من حيث اعتبار الشهرة، فلأنه اشتهر بالاستقراء أن الناس يقولون للريح هواء، ويقولون للجرداب ماء. ولا يجب أن يكون الاعتبار المشهور محوِجا إلى تعيين الجهة التي هو بها جنس، فإن ذلك علمي دقيق جدا. ولا يمنع اعتبار الشهرة أن يجعل طرفا النقيض مشهورين، كما علمت.
وأما من حيث اعتبار الحق فهو مأخوذ من حيث يصح أن يكون محمولا، وتلك الجهة تفرق بين كونه محمولا وبين كونه موضوعا وجزءا، وله اعتبار مفرد، كما قد تبينت.(2/97)
وأما الموضوعات التي لا تثبت على حالها، بل تكون قد تغيرت في الشهرة، مثل الموضوع في قولهم: إن العصير ما يتعفن في الشجر، والجمد ماء جامد، فإن الشهرة قد ترخص في استعمالها. لكن أشهر الشهرة هو أن تلك الموضوعات ليست محمولة البتة وقد تكون شهرة أولى من شهرة، وذلك بأحد أمرين: إما للاشتهار والفشو نفسهما إذا غلبا في شيء تلك الغلبة بل دونهما؛ وإما ظلن الحق إذا خالف المشهور ثم لم يكن المشهور قويا في معناه، وكان محتولا لأن يقال هو مجاز لفظ أو غلط عادة، وكان الحق مما يسرع إليه التنبيه عليه حتى يسلمه من اتفق، فيكون هذا من جملة المشهورات الضعيفة. فإن كان مقابل مشهورا، سريع بيان الحقيقة سهلة، غلبت شهرته. والموضع المذكور فغن شهرة طرفيه مختلفان، وأحدهما أقوى بسبب هذا الوجه الثاني.
وموضع آخر: أنه إن كانت الموضوعات للشيء المدعى أنه جن لا تختلف البتة بالنوع من جهة فصول المدعى جنسا، مثل الأشياء البيض فإنها لا تختلف تحت الأبيض بالنوع البتة؛ مثل الجص والثلج، فإنهما ليسا يختلفان من حيث أنهما أنواع للأبيض؛ بل من حيث هما انواع للجسم الطبيعي، ولا فصلاهما فصلان يقسمان الأبيض من حيث هو أبيض. فإنه لا يجوز أن يكون أبيض يعرض له فصل تقتضيه الأبيضية، فيباين به أبيض آخر، بل إن تباينا فإنما يتباينان بأمور طارئة على الأبيضية، خارجة عنها؛ أعني بهذا أن كل واحد مما هو جنس فإنه يقتضي في أن يحل عند العقل شيئا مع طبيعة ما تصير به طبيعة الجنس محصلة؛ فإذا حصل ذلك المعنى تحصلن طبيعة الجنس أمرا متقررا - على ما علمته في مواضعه - مثل الحيوان، فإنه إذا قيل: " حيوان " اقتضى العقل أن يكون شيئا أخص من الحيوان، يكون الحيوان ذلك الشيء كونا بالذات، أعني أن يكون ذلك الشيء أمرا يحصل الحيوانية في ذاتها، لا أن تكون الحيوانية كما كانت؛ وقد انضم إليه أمر آخر، إن لم يكن ذلك الأمر الآخر جاز أن يكون ذلك الحيوان بعينه محصلا عند الذهن في نفسه، بل يجب فيما يتقرر عليه الحيوان محصلا، أن تكون نفس الحيوانية ذلك الشيء كالإنسان، فإنه نفس الحيوان المحصل.
وأما البيض فإنه صار جصا لم يتخصص من حيث هو أبيض بأن يكون أبيض ذلك الأبيض كان غير محصل الطبيعة من حيث هو أبيض بأن يكون أبيض، ذلك الأبيض كان غير محصل الطبيعة - من حيث هو أبيض - في العقل، حتى صار جصا عند العقل، فكان الأبيض هو نفس ذلك الجص. وكيف والجص هو أمر متحصل الذات في نفسه، والأبيض أمر يلزمه من خارج ليس هو ذاته بذاته، ولا جزءا من أجزاء من ذاته، ولذاته عليه فضل. فإذن ليس ذات الأبيض - من حيث هو أبيض - يتخصص بأن يكون هو ذات الجص، ولا أيضاً شيئا إذا زيد عليه يتخصص، كان المجتمع عليه ذات الجص بل أمرا إذا حصل ذات الجص من حيث هو ذاته، كان هو واردا عليه. فليس إذن ذات الأبيض موقوفا في أن يتحصل إلى أن يصير عند العقل ذات الجص.
ومثل هذا ايضا، فيما لا يغلط فيه مشاكلة الجنس للمادة، أنه إذا قيل " لون " لم يقنع العقل بأنه قد حصل شيئا البتة، بل يطلب تخصيصا، ويطلب أن يعلم أن ذلك اللون أهو في ذاته ذات السواد أو ذات البياض؟ فإن أعطى أنه في جسم نبي، أو جسم فيلسوف، أو في جسم لجام، أو في قدر، لم يكن ذلك سببا يحصل ذاته بان تكون هويته أنه في جسم نبي أو جسم فيلسوف، بل يطلب ذاته أولا حتى يكون بعد ذلك يعرض له ذلك فيكون التنوع أمرا يقع في ذاته لا بحسب أمر خارج عنه؛ فإذا صار عند العقل في نفسه بياضا أو سوادا يحصل ذاته وإن لم يتحصل موضوع. وكذلك حال ما يشتق منه. وإذا كان الأبيض ليس يصير متنوعا البتة باختلاف ما يوضع تحته في أنواعه، فإنها إما أن لا تختلف ف النوع، أو تختلف في نوعية ليست نوعية الأبيض؛ فليس البيض وما يجري مجراه جنسا.(2/98)
وموضع آخر الغرض فيه هو التحذير من أن يكون المفروض جنسا ليس هو داخلا في ماهيات الأشياء التي تحمل عليه، بل من اللوازم للماهيات، ويغلط عمومه. وهذا مثل الموجود والواحد عندما نظن أن الموجود جنس لكل شيء. ونحن قد بينا أن الموجود ليس جنسا للأشياء، ولو كان جنسا للأشياء كلها لكان الواحد الموجود سيكون نوعا من الموجود، وسيكون مع ذلك مقولا على الجنس كله، فإن الواحد يقال على كل موجود، فإن كل موجود من الموجودات هو حقيقته واحد. ثم إن لم يكن الموجود جنسا لكل شيء، حتى لم يكن جنسا للواحد، بل كان جنسا للمقولات مثلا، لم يخل إما أن يكون الواحد جنسا للموجودات كلها، مع الموجود، أو سوى الموجود، أو لا يكون. فإن كان جنسا فللأشياء جنسان عاليان في مرتبة واحدة.
وأنت قد علمت استحالة هذا فيما سلف لك، وإن كان الواحد ليس جنسا. وكونه ليس جنسا هو لأنه غير داخل في ماهيات الأشياء؛ واللزوم إذا لم يقترن به شريطة الدخول في الماهية لم يجعل الشيء جنسا. ولذلك لا ينبغي أن يجعل أحد هذين فصلا. أما أولا، فلأنهما غريبان عن الماهية، كما علمت في موضعه. وأما ثانيا، فلأن الفصل لا يجب أن يقال على كل ما يقال عليه الجنس، فضلا عن أن يقال على أكثر مما يقال عليه الجنس. لكن الموجود والواحد أعم من المقولات.
وأيضاً، إن كان المفروض جنسا في جزئياته هو على سبيل وجود اللون الأبيض في الثلج حتى يكون موجودا، وإما على انه في موضوع، أو على أنه وجود الشيء البيض في الثلج، حتى يكون مشتقا من موجود في موضوع، فليس بجنس. وهذا ظاهر. وكذلك أيضاً إن كان الجنس قوله على الأنواع ليس بالتواطؤ.
وبعد هذه مواضع مشتركة القوانين يكون تعليميتها وجدليتها بحسب ما قيل في تلك المواضع، حيث قيل في الإبطال والسلب المطلقين. من ذلك أن يكون للنوع ضد، والنوع أفضل منه، ووضعا في جنسين متضادين، لكن وضع الأفضل في الأخس؛ فتوضع مثلا البرودة في النور، والحرارة في الظلمة. ومن ذلك أن تكون حاله عند أمرين متضادين حالا واحدة، فتخصه بالأخس منهما من غير وجوب، مثل أن يجعل النفس نوعا من المتحرك أو المحرك كما جعل، وحال النفس عند التحري والتسكين واحدة؛ والتسكين من حيث هو ثبات، أفضل. فبالباطل إذن أن يوضع تحت الأخس.
وموضع من الأقل والأكثر، أنه إذا كانت العدالة نوعا من الفضيلة، والفضيلة تختلف بالشدة والضعف، فينبغي أن تختلف العدالة بالشدة والضعف. وهذا إنما يكون تعليميا إذا كانت الفضيلة ليس يصدق عليها أنها تقبل الأكثر والأشد على سبيل الإهمال فقط، بل على سبيل الحصر الكلى؛ أو تكون تقبل ذلك لأنها فضيلة مطلقة، لا أن تكون من حيث هي فضيلة لا مانع لها من أن تقبل ذلك، وإن لم يجب. وفرق بين أن تكون الفضيلة من شأنها أن تصير شيئا يلزمه قبول الأشد والأضعف، وبين أن تكون طبيعة الفضيلة يلزمها قبول الأقل والأكثر، حيث كانت فضيلة، وكيف كانت.
وموضع آخر أن يكون بالعكس، فيكون النوع يقبل والجنس لا يقبل، فلا يكون الجنس جنسا. يجب أن يعتبر هاهنا في أن يصير الموضع علميا، عكس ما قيل قبل؛ فإنه إن كان طبيعة الجنس لا تقبل البتة لم يكن جنسا. وأما إذا كان لا يقبل في بعض الموضوعات، فيجوز أن يكون جنسا، فإن الكيفية لا تقبل في ذلك في بعض موضوعاتها مثل الشكل، ونوعها يقبله مثل اللون.
ومواضع أخر، أن يكون الأولى من المحمولات بان يكون جنسا ليس جنسا، فالآخر ليس. وأكثر ما يشكل هذا في أمور تدخل في ماهية النوع، ثم يشكل بجنسها، مثل الغم ومثل الظن فإن كل واحد منهما شرط في أن يكون غيظ. وكيف لا، وما لك يكن المرء قد اغتم، فلا يكون قد اغتاظ، وما لم يكن ظن الغام فلا يكون اغتاظ. فإن لم يكن الغم جنسا وهو أولاهما، فليس الآخر جنسا. وكذلك إن كان ما هو أولى بان يكون نوعا ليس في الجنس، فكذلك الآخر.(2/99)
وأما المثبت فيقول: إن كان كذا وكذا سواء في استحقاق أن يكونا جنسين، وذاك جنس، فهذا أيضاً جنس. وهذا يلزم إذا الخصم. وأما في نفس الأمر، فلا يكون شيئان ليس أحدهما أعم من الآخر سواءين في استحقاق أن يكونا جنسين قريبين للشيء، إلا ما ظن في الأجناس المتداخلة. ثم في ذلك الواحد إنما يصح في كل واحد منهما أنه جنس لأمر في نفسه، فحينئذ يتبين أنهما سواء في الجنسية؛ ليس أنه يتبين أولا أنهما سواء في الجنسية ثم يتبين من ذلك أن الواحد منهما جنس. لكن إذا لم يكن النظر في ذات الأمر، بل في التسليم، فإن سلم أن كل واحد منهما ليس أولى من الآخر في أن يكون جنسا، ثم سلم أن ما ليس أولى بأنه جنس، لزم حينئذ أن الآخر جنس؛ لست أقول بان حينئذ أن الآخر جنس.
وكذلك الحال في الموضع المبني على أن ما ليس أولى هو جنس، فالأولى جنس؛ مثل أنه إن كانت الفضيلة جنسا لضبط النفس، والقوة أولى بذلك منهما، فالقوة أيضاً جنس وهذا أيضاً على حسن التسليم. وأما بحسب الأمر في نفسه، فلا يكون جنسان معا في المرتبة وأحدهما أولى بالجنسية.
وموضع كالمكرر، وهو انه إن كان الجنس ليس تحته أمر غير النوع الموضوع يقال هو عليهما من طريق ما هو.
وموضع آخر ينحو نحو التفريق بين الجنس والفصل؛ وهذا الموضع من وجه إنما يتم مأخذ الكلام فيه ويحسن إذا كان المشهور مثلا لا يمنع أن يرى أن الفصل أيضاً مقول من طريق ما هو، حتى يكون الناطق في المشهور صالحا أن يكون مقولا في طريق ما هو قول الحيوان. فإن كان ليس هذا الآن مشهورا عاما، بل قد يخالف هذا كثيرا في المشهور؛ إذ يرى أيضاً أن ما هو في جواب أي شيء، ليس هو في جواب ما هو. وأما الحق فقد علم حاله في موضع آخر.
فلنضع أن المشهور عند قوم يرخص فيه، ويجعل للفصل دخلا أيضاً في ما هو ولننظر فيما يتبع ذلك، فنقول: إن المشهور بعد ذلك يفرق بينهما بان المشهور من شأنه أن يجعل الجنس أدل على الذات والماهية من الفصل، وبسبب أنه يقول: إن الفصل يأتي وقد حصل الشيء الذي هو أصل ذات الشيء، ثم يكفيه، مثل الفصل المشهور الذي هو المشاء فإنه يأتي الحيوان فيكفيه، فيكون الحيوان أصلا للذات، والمشاء أمرا يلحق ويكيف هذا الأصل. والذي هو الأصل أولى في المشهور بأن يكون دالا على الذات من الذي يكيف الأصل. فيكون هذا فرقا بين الجنس والفصل عند من يميل إلى هذا الوجه من المشهورات.
وأما إن قال قائل بأن الفصل أدل على الذات، فإنه يدل على ما به يصير الذات مخصوصا بهويته، وأما الجنس فمشترك. ومن المشهور أن ما دل على التخصيص، فإنه أولى بتحقيق الذات الخاصة مما يدل على المشاع الغير المحصل، كما ان الصورة أولى بأن تكون محققة للشيء من المادة، صار أيضاً عنده، وبحسب ما يسلمه أيضاً فصلا بين الجنس والفصل، فصار ما ليس أدل على الماهية جنسا.على انه يمكن أن نتأول هذا الموضع بحيث لا يكون مستعمله يضع للفصل مشاركة مع الجنس في الماهية، فيكون معنى قول المعلم الأول أدل وأولى للمنفرد بالدلالة والاستحقاق فكثيرا ما يقول هذا أحق، ولا يعني به: والآخر أيضاً حق: بل يعني به هذا هو الخاص بأنه مستحق. فحينئذ يكون معنى الكلام أن الدال منهما وحده على ما هو والمستحق له وحده هو الذي يكون منهما جنسا، ويكون الدال على ما هو إما في الحقيقة فما علمت؛ وإما في المشهور فما يدل على أصل الذات الذي هو كالهيولي لمعنى الذات، وهو المشترك.
وموضع آخر في إثبات الجنس أن يكون المشتق له السم من أمر هو من جهة ما هو كذلك تحت شيء مشتق له الاسم من أمر، ذلك المر جنسه، فسيكون أصلا الاشتقاق كذلك نسبتهما. مثاله: إن كان صاحب الموسيقى - من حيث هو صاح الموسيقى - جنسه أنه عالم لا أنه مثلا آكل، فإنه ليس له ذلك من حيث هو صاحب الموسيقى؛ بل ذلك له أمر خارج عن ذلك. فيكون إذن الموسيقى جنسه العلم. وبالعكس إن لم يكن ذلك، لم يكن هذا. وهذا مشهور قوى.(2/100)
وأما الحق فإنه يجب فيه أن تتذكر ما قيل لك في جنسية الأمور المشتق أسماؤها من أعراض. وأما في حكم الجدل، فغن ما هو أضعف دلالة من هذا - وإنما قصاراه أنه من اللوازم التي لا تنعكس - قد يوجد جنسا في المشهور، فيجعل المنقسم جنسا للعدد، والصحو لإقلاع المطر، إذ كان كل واحد منهما لازما غير منعكس عليه. ولا يبعد أن يجعل ما نحن فيه جنسا لما تحته. وهذا المشهور يعاند أيضاً في المشهور بأن كل متكون فيلزمه أنه شيء يجب أن يكون معدوما وقتا ما؛ وليس المعدوم وقتا ما، والغير الموجود، جنسا لشيء البتة.
تمت المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
ثلاثة فصول في مواضع الخاصة
الفصل الأول
فصل (أ)
في مواضع أن الخاصة أجيدت أو لم تجد
ولنبحث الآن عن المواضع المذكورة للخاصة على أنها أعم من الخاصة المفردة والمركبة والرسم. وقد نفرق لك بيم ما ذكرناه عن قريب. وعلى أن الخاصة هي على ما عرفته من أقسامها، وان التي تقاس بالقياس، أو تقال غير دائمة، فمواضعها مواضع العرض. والذي نبحث هاهنا عن مواضعها، فهي الدائمة المتساوية التي يعرف بها المجهول. فمن المواضع المعدة نحو الخاصة مواضع تشترك في اعتبار واحد، وهو أنه هل وضعت الخاصة جيدة، معتبرا فيها الجودة، غير ملتفت فيها إلى الكذب والصدق؛ وهو اعتبار انه هل وقع التعريف بالخاصة تعريفا بما هو أعرف أو ليس، إذ كانت الخاصة التي نحن في ذكرها تذكر ليعرف الشيء، وما ليس معروفا عندما الشيء مجهول، فلا يعرف به الشيء؛ وكل ما هو معروف عندما الشيء مجهول، فهو اعرف من الشيء.
فموضع من تلك المواضع أن يكون الشيء المعروف به المر على أنه خاصة هو أخفى من الشيء نفسه. فإن كان موجودا للشيء، وليس يتعرف بالشيء، مثل أن يقول قائل: إن النار جرم يشبه النفس لطافة؛ ثم النفس وغن كانت لا تعرف بالنار بقوة ولا بفعل فإنها أخفى من النار.
وموضع آخر أن يكون وجود الخاصة للمخصوص أخفى من معرفة ذات المخصوص مثل من يعرف النار أو الحار بأنه الذي تتعلق به النفس أولا. وتصديقنا بتعلق النفس بالنار أخفى من تصورنا للنار. والفرق بين هذا الموضع والأول، أن الأول كان الأخفى فيه هو تصور من تصور، وهاهنا تصديق من تصور. وهذان موضعان تعليميان أيضاً، وللإبطال. وأما للإثبات فلا يكون إلا أن يكون إلا ان يكون بعد أن صحت المساواة في الانعكاس قد بان أنها اعرف من الوجهين جميعا، أعني التصديق والتصور، فتنفع في الإثبات.
ويجب ان تعلم أن من الخاصة ما هو اعرف بالذات من المخصوص، كالحركة إلى فوق، والإضاءة، فإنها أعرف بالذات من طبيعة النار الحقيقية بالقياس إلى أوهامنا. ومنه ما صار أعرف بالنظر، مثل كون الزاوية الخارجة أعظم من كل واحدة من الداخلتين المتقابلتين، فإنها خاصة لمتساوي الزوايا لقائمتين، وأعرف منها، وبها تعرف. ومنها ما ليس أعرف منه، ولكن قد عرف بالنظر أنه يخصه، مثل كون الزوايا مساوية لقائمتين في الشكل المثلث، فإذا أوردت دلت على الشيء. والأحب إلى أن يخص من جملة هذه باسم الرسم ما كان يعرف ما هو أخفى منه، إما في معناه وذلك ظاهر، وإما بحسب اسمه، حتى يكون إذا ذكر لم يفهم، فيدل على مفهوم بالخاصة وإن كان معنى الاسم سابقا إلى التصور وأسبق من الرسم. ومثال هذا أنه إذا قيل: " مثلث " ، فلم يفهم، فعرف بأنه شكل زواياه مساوية لقائمتين، ففهم حينئذ، كان هذا القول رسما، وإن كان تصور حد المثلث أسبق من وجود هذه الخاصة؛ لكنه إذا كان الأمر من حيث دلالة الاسم عليه في هذا الموضع مجهولا، فيدل على المعلوم من حده أو المتصور منه على وجه من الوجوه. فهذه الخاصة تفهم حينئذ معنى الاسم، فهذا رسم. وإن كان معنى الاسم معلوما، فلا يغنى هذا المعنى غناء الرسم؛ لأن الرسم إنما يحتاج إليه لتعريف المجهول لا من أمر ذاتي، ولكن بعلامة. إلا أن إعطاء هذا له يكون إعلاما للخاصة ليعرف أنه له هذه الخاصة، لا لن يعرف بها ذاته بالعلامة. والفرق بين إعطاء الخاصة وبين تعريف الذات ظاهر، فإن التعريف للمجهول، والخاصة إنما يعطاها المعلوم، ويبين وجودها للمعلوم فهذا موضع فرق بين الخاصة المركبة وبين الرسم.(2/101)
ومن هذه المواضع أن يكون الفول ليس يشتمل على اسم مشترك مشكل، فإن اشتمل على ذلك لم تكن الخاصة جيدة، كمن قال: إن الحيوان خاصته انه يحس ثم لم يفهم أنه يحس بالفعل، أو أن له قوة أن يحس، لأنه لا ينعكس. والأول كاذب لأنه لا ينعكس، والثاني صادق لأنه ينعكس. وقد يكون هذا الإشكال تارة بحسب اشتراك خاص بالمفرد الداخل في جملة القول، وقد يكون بحسب الاشتراك الواقع في تركيب القول، وكلاهما غير جيد. وكيف والخاصة التي كلامنا فيها يراد بها التعريف، واللفظ المشترك في فردانيته أو تركيبه الغير الموقوف على المراد منه يزيد الأمر إشكالا. وأما المثبت، فإذا كان قد وفى إلى ما يجب توفيته عبارة لا اشتراك فيها، فقد أجاد. فإن قائلا لو قال: إن النار خاصيتها أنها جسم هي أسهل الأجسام حركة مكانية إلى فوق، ثم كان الجسم مفهوم المعنى، وكذلك الأسهل، وكذلك الحركة المكانية، وكذلك إلى فوق، فقد أجاد وأحسن من جهة العبارة.
وموضع آخر الاعتبار فيه من جهة المخصوص، إذا كان اسمه مشتركا، ثم لا يدل على أن الخاصة لأي معانيه أوردت، فإن الرداءة تكون بحالها، وتجري مجرى الموضع الأول.
ومن المواضع المتعلقة بالجودة والرداءة أن يكون في القول تكرار، كمن قال: إن خاصة النار أنها جسم ألطف الأجسام، أو قال: خاصة الأرض أنها جوهر من الأجسام ينتقل بالطبع إلى أسفل. فالمثال الأول قد صرح فيه بالتكرار؛ وذلك أنه حين قال: ألطف الأجسام، فقد قال: إنه جسم، لأن ألطف الأجسام لا يكون إلا جسما. فقوله: " جسم ألطف الأجسام " ، فيه تكرار بالفعل. والمثال الثاني فيه تكرار بالقوة: لأن الجوهر مضمن في الجسم الذي أخذه فيه. ولو قال في المثال الأول: جسم ألطف ما يكون، بدل أن قال: ألطف الأجسام، لكان ذلك في المشهور كافيا له في غرضه؛ لست أقول في إعطائه الخاصة، فإنه إذا قيل: جسم ألطف ما يكون علم أنه ألطف ما يكون من الأجسام. وإن قال: ألطف الأجسام، علم أنه جسم ألطف الأجسام، فكان في تكريره قائلا ما لا إليه. ثم من المشهور أن التلفظ بما لا حاجة إليه هذر، وأنه ليس بجيد. وأما الحق، فإن ذلك إنما يكون إذا كان معناه غير محتاج إليه؛ وأما إذا كان معناه محتاجا إليه فالتلفظ بذلك في جملة القول محاكاة ومجاراة للمعنى من حيث العبارة، وإن كان فيه تكرار. وليس إذا كان اللفظ يدل على الباقي دلالة المعنى لا دلالة اللفظ تكون العبارة تامة في إسقاط المستغنى عنه استغناء بحسب العادة والاختصار، لا بحسب الواجب. وهذا بيّن قد علمته فيما سلف.
ويشبه أن يكون المثال المشترك للمشهور وللحق في هذا أن لو قيل: النار جسم ما من الأجسام هو ألطفها، فإن قوله: " من الأجسام " هذر وتكرير، ومستغنى عنه من كل وجه، فإن قوله: " جسم ما " هو أنه من الأجسام. وأما المثال الثاني فإنه جدلي وتعليمي معا، وذلك أنه إذا قال: جوهر من الأجسام، فكأنه قال: جوهر ما من الجواهر، إذ الأجسام إذا حدثت كانت جواهر. وكما أنه إذا قال: جسم ما من أجسام كذا، كان تكريرا بالفعل، كذلك قوله: جوهر ما من الأجسام. والأجسام ماهياتها وحدودها تتم بأنها جواهر، فيكون كأنه قال: " جوهر ما في الجواهر " ، فيكون كرره بالقوة وأما المصحح إذا قال: إن الإنسان حيوان قابل للعلم فقد قال شيئا لا تكرار فيه بوجه لا بقوة ولا فعل؛ فقد علمت أن الحيوان غير مضمن في قابل العلم، وأنت تكون قابل العلم غير مضمن في الحيوان أعلم، بعد أن نتذكر ما قيل في المضمن واللازم وقابل العلم خاصة؛ فيكون الحيوان مع قابل العلم بالحقيقة رسما. أما أنه خاصة وليس بفصل فستبين من تذكرك ما قلنا حيث فرقنا بين الخاصة والفصل، فإن كونه قابل للعلم بعض الاستعدادات الذي هو عليه من حيث هو ناطق، أي ذو نفس ناطقة. فمن أحواله ولواحقه إذا حصل إنسانا بالنفس الناطقة أن يكون قابلا للعلم في طبيعته، كما لأمور أخرى وللجهل المضاد للعلم أيضاً.
وأيضاً، فإنه يجب أن تكون الخاصة مميزة كالفصل، فإن كانت مشتركة فما فعل شيء؛ كمن قال: إن خاصة العلم أنه أمر ثابت واحد، أو هو رأي لا يزول؛ ثم الأمر الثابت الواحد قد يقال لغير العلم. فأما القائل للحيوان إنه شيء ذو نفس، فلم يأت بمشترك إن لم يعن بالنفس المعنى الذي لا يشترك فيه النبات، بل أخص من ذلك.(2/102)
وأيضاً، فينبغي أن تورد الخاصة على أنها خاصة واحدة، فغن أورد فصل على ذلك فقد أوردت خاصتان على أنها خاصة واحدة؛ كمن قال: إن النار ألطف الأجسام وأخفها. فإنه كما أن من يحد حدا واحدا، إنما يحاول أن يعرف ذات الشيء تعريفا واحدا، كذلك الذي يرسم رسما واحدا إنما يحاول أن يدل على ذات الشيء بعلامته دلالة واحدة ؛ فإذا دل مرة ثم أتى بما يدل مرة أخرى، فهو مبتدئ تعريفا آخر. وعنده أنه يعرف تعريفا واحدا؛ وهذا في الجدل. وأما في التعليم فلا بأس به، وإن كان في حكم تعريفات متوالية. وأما في الحد فلا يمكن في التعليم أن يكون فوق واحد، كما علمت.
وموضع آخر أن يكون معطى الخاصة قد جعل موضوعات المخصوص خاصة للمخصوص؛ كمن يقول إن الحيوان هو الذي نوعه الإنسان؛ وهذا قبيح: فإن الإنسان إذ هو نوع من الحيوان فإنما يعرف بعد الحيوان، فكيف يعرف به الحيوان. وكذلك إذا أخذ شيئا ليس أعرف من الشيء لأنه مقابل له، أو هو معه في الوجود؛ وأعني بالمقابل المقابل بالمضادة أو التضايف. وأما الملكة والعدم والمتناقضات، فالملكة أعرف،والإيجاب أعرف وأما المتضايفات فإنها معا في المعرفة ليس بعضها أقدم، فليس بعضها يعرف ببعض، بل مع بعض. والأمور التي ليست متقابلة بالتضاد وهي معا، فهي إما متضايفات، وإما أمور كالأنواع التي تحت جنس واحد. وهذه لا يتقدم بعضها بعضا في المعرفة بوجه، فلا يجوز أن يؤخذ بعضها في تعريف البعض؛ وهذا موضع علمي. فاعلم من هذا أن الرجل المستعمل للنوع في حد الجنس - على أن ذلك النوع هو النوع المضايف للجنس - مسيء، فغن الجنس إما مع النوع معا في المعرفة، وإما أقدم من النوع.
وموضع آخر أن تجعل الخاصة ما لا يلزم دائما، كمن يجعل خاصة الإنسان أنه كاتب، فلا يكون دل على كل إنسان. وموضع يليق به، وهو أن يكون دائما إنما يريد أن يوفى خاصة شيء هو له في زمان ما، كزيد في هذه الساعة عندما يميزه عن عمرو بأنه جالس وعمرو قاعد، ثم لا يدل على انه إنما يعرف زيدا تعريفا في هذا الزمان بل بأخذه مطلقا، فيكون لم يعرف زيدا مطلقا، إذ لم يعرفه وهو في زمان آخر مشارك لعمرو في القعود، ولا عرفه في تخصيص حال، إذ لم يشر إليها.
وقريب من ذلك أن تكون الخاصة أعطيت بالقياس إلى الحس، وذلك الحس لا تدوم نسبته من الشيء؛ مثل من قال في الشمس إنها الكوكب الذي هو أضوأ الكواكب يكون متحركا فوق الأرض، فتكون هذه الخاصة للشمس عندما تحس فوق الأرض. وأما إذا غابت فلا تكون متميزة بهذه الخاصة عن سائر الكواكب. فإن لسامع هذه الخاصة أن لا يسلم أن حالها هناك هذه الحال، إلا أن ينظر نظرا آخر، فيعلم أن الحكم غير متغير، فلا تكون معرفته حاصلة من جهة قائل الخاصة بل من جهة أخرى، وتكون جهة تعريف قائل الخاصة قاصرة. فأما إن قال قائل: إن السطح هو الملون أولا فيكون قد وفى جيدا، لأنه كذلك هو، أحس أو لم يحس. وأيضاً، إن أخذ الحد على انه رسم فقد كذب، ولم يحسن.
وموضع آخر، وهو أنه يجب أن يكون المعطى للرسم والخاصة لم يغفل الجنس؛ فإن المتمم لجودة الرسم أن يكون دل فيه على الجنس؛ تعلم ذلك من وجهين: وجه سهل، ووجه حقيقي فيه أدنى صعوبة. أما الوجه السهل فلأنه لما كان التعريف المقول يكون على ثلاثة أنحاء: تعريف حدي من جنس وفصول، وتعريف من جنس وخاصة، وتعريف من أعراض وخواص؛ وكان التعريف من جنس وعرض خاصي بالنوع ليس بحد، وكل تعريف بقول مساو فهو إما حد وإما رسم وإما خاصة، لكن هذا ليس بحد، فهو إذن تعريف رسمي خاصي، لكنه أدل كثيرا على الذات من الذي ليس فيه جنس. فإذن أخذ الجنس في الرسم لا يجعل الرسم غير رسم، ويجعله أدل وأشد تعريفا، والأدل أفضل، فإذن أخذه أفضل، فتركه أنقص؛ وخصوصا أنك إذا ميزت، فيجب أن تدل على الأمر الذي يقع له التمييز بما ميزت، وهو الجنس.(2/103)
وأما من الجهة الحقيقية، فلأن إعطاء الخاصة وحدها إذا لم يقترن به جنس معلوم، لم يكن تمييز البتة؛ مثاله، إذا قلت ضحاك، أي شيء ذو استعداد للضحك، لم يكن نفس علمك بهذا يوجب أن يكون هذا الشيء حيوانا أو إنسانا، بل جوزت أن يكون من أمور أخرى، اللهم إلا أن يكون عندك علم آخر تعلم به، أو ظن تظن به أنه لا يجوز أن يكون الشيء ذو الضحك إلا حيوانا. وهذا شيء قد عرفناك مثله في الفصل. فإذا كان نفس تصورك الضحاك ما لم يقترن به علم آخر لا يمتنع أن يكون الضحاك واقعا في غير الحيوان، فيكون حينئذ غير دال على الإنسان. فإن علمت علما آخر يمنع هذا، فيكون ليس نفس التعريف هو قول القائل إنه ضحاك؛ إذ هذا وحده لم يعرفك، بل هذا وشيء آخر عندك، عرّفاك أن المشار إليه هو الإنسان. والرسم والخاصة هي التي لذاتها تعرف الشيء، أو بنفسها. وما لم يكن كذلك لم يكن رسما فاضلا، وإن كان رسما ما. فإذن لابد في الخاصة والرسم من إدخال الجنس، فإنه إما أن يدخله الراسم مصرحا، وإما أن تدخله أنت بعلم عندك فتضيفه إلى مفهوم قول الراسم، فيكون المفهوم عندك الجنس والخاصة معا. فإذا أريد أن يكون اللفظ مساويا للمعرف عندك، يجب أن تدل فيه على الجنس؛ فغن لم تدل فيه على الجنس، فاللفظ غير مطابق لجميع المعنى المعرف. لكن الحد والرسم يجب أن يكون اللفظ فيهما مطابقا للمعنى الذي يراد من غير نقص، فإن نقص فذلك إخراج لما من حقه أن يكون مقولا. فإن لم يقل ترك اختصارا، كما تضمر المقدمات الكبرى في القياس.
الفصل الثاني
فصل (ب) يشتمل على مواضع في
أن الخاصة أعطيت أو لم تعط
ويلي هذه المواضع لا تتعلق بالإجادة والرداءة،بل بأنه هل الخاصة في نفسها خاصة أو ليست. فمن هذه المواضيع أن لا يكون حمل الخاصة صادقا على واحد البتة، أولا يكون صادقا على واحد بعينه، فلا يكون ما فرض خاصة بخاصة. مثل أن يقول قائل: إن خاصة الموصوفين بأنهم علماء أنهم لا يغلطون البتة، ثم وجد أن المهندس - مع أنه عالم - قد يكون غالطا إذا غلط عليه في ترتيب الشكل؛ كما عرض لأبقراط صاحب الشكل الهلالي. فإذن ليس خاصية العالم أن لا يخطئ. وهذا المثال صحيح. وليس ما اعترض به عليه شئ، حين ظن أن فيه تجوزا، إذ من الباطل أن يكون المهندس يخطئ، فإنه إن أخطأ لم يكن مخطئا، من حيث هو مهندس. وليس الأمر على ما قالوا، فإن قولهم: إن المهندس لا يخطئ من حيث هو مهندس، لا يقابل قوله: إن المهندس يخطئ، ولا يكذبه بل يكذب شيئا آخر، وهو أن المهندس يخطئ من حيث هو مهندس. ولا سواء قولنا المهندس يخطئ، وقولنا المهندس يخطئ من حيث هو مهندس. فإذن ليس يصدق على كل مهندس أنه لا يخطئ، إلا أن يقال فيما هو فيه مهندس، أو من حيث هو مهندس. وقد علمت - فيما سلف - أن معنى قولنا: كل مهندس وما يجري مجراه، كيف هو، والمراد فيه هو.
وموضع آخر أن يكون القول أعم من أسم المخصوص، كمن قال: إن خاصة الإنسان أنه حيوان قابل للعلم، ثم يجعل الملك كذلك.
وموضع آخر، أن يجعل المخصوص خاصة للخاصة، والمخصوص هو الأمر الذي هو النوع اللازم له الخاصة. فهو في طباعه أن يكون موضوعا لا محمولا، مثل من قال: إن خاصة الطف الأجسام أن تكون نارا، وليس الأمر كذلك، بل إن كان ولا بد فإن خاصة النار هي أن تكون الطف الأجسام. وقيل في التعليم الأول: الموضوع الواحد له خواص كثيرة، كل واحد منها غير الآخر. فلو كان الموضوع خاصة لها، لكان خاصة الأمور كثيرة متباينة الحدود، فما كان خاصة. وهذا كلام في غاية الجودة.
وموضع آخر، أن يكون أخذ الفصل على أنه خاصة.
وموضوع آخر للمبطل، وهو أن تكون الخاصة توجد قبل وجود المخصوص لا دائما معها فقط؛ كالمشي في السوق، فإنه لا يمكن أن يجعل خاصة زيد، فقد يوجد قبل زيد وبعده.
وموضع آخر للمبطل، وذلك إذا كان الشيء خاصة لاسم، وليس خاصة لمرادفه، كمن يجعل الخير خاصة للمطلوب، ولا يجعله للمؤثر. وكذلك إن الشيء خاصة لموصوف بشيء وليس خاصة شئ، يكون ذلك الموصوف موصوفا بهما معا؛ كالموصوف بأنه ضحاك، فإنه بعينه الموصوف بأنه مستحى؛ فإذا كان الفحش موصوفا بأنه خاصة الموصوف بأنه ضحاك، ثم لم تكن خاصة الموصوف بأنه المستحى، كانت الخاصة ليست بخاصة.(2/104)
ولا تُدْخِلْ في واحد من الاعتبارين لفظة: " من حيث " ، فلا تأخذ الموصوف بأنه ضحاك من حيث هو ضحاك، ولا الموصوف بالمستحى من حيث هو مستحى، بل خذهما مطلقا من غير اعتبار " من حيث " ؛ فقد علمت الفرق بين المطلق وبين المقول فيه " من حيث " . وهذا الموضوع نافع في الإثبات والإبطال المطلقين.
والقائل أن يقول: قد جعلت الشيء هاهنا خاصة لمعنيين متباينيين، ومنعت ذلك من قبل.
فنقول: احفظ قولنا الموصوف بأنه الضحاك، والموصوف بأنه المستحى، فالإشارة مستحى، فالإشارة فيه إلى موضع واحد. واعلم أنا نشير بالمثال الذي أوردناه إلى أن الموصوف بخاصية الاستحياء لا يكون موصوفا أيضا بخاصية الفحش، حتى يكون الفحش يلزمه ويساويه.
وموضوع آخر، أن يكون للخاصة مقابل، وهما من الأعراض الذاتية للجنس الذي أعطيناه الخاصة لنوعه، ثم لا يوجد المقابل خاصة لسائر الأنواع بالقياس إلى هذا النوع، مثلا أن كل واحد من الإنسان والفرس واحد بالنوع تحت الحيوان، والحركة بالإرادة مقابلة للسكون بالإرادة، وكلاهما من الأعراض الذاتية للحيوان، ينقسم بهما الحيوان، على ما علمت في كتاب البرهان. فإن جعل خاصة الإنسان أنه المتحرك بذاته بالإرادة، فيجب أن تكون خاصة الفرس بالقياس إلى الإنسان أنه الساكن بذاته من تلقاء نفسه، لكنه ليس ذلك. فليست الخاصة خاصة.
وموضوع آخر، لا يبعد أن يغالط به المشاغبون، مثل أنه إذا كان لموضوع ما خاصة، ثم كان لذلك الموضوع خواص أخرى ومحمولات أخرى لا توجد لغيره؛ فإن تلك الخاصة قد يمكن أن تجعل ليس لذلك الموضوع وحده، بل لذلك الموضوع مع محمولاته الأخرى. فإنه إن كان خاصة الإنسان الضحاك، فيكون الضحاك خاصة لأشياء كثيرة، مثل أنه خاصة للإنسان الخجل، وللإنسان المستحى، وللإنسان القابل للعلم. بل قد يؤخذ محموله على الإنسان الأبيض فتعرض من ذلك وجوه من المغالطة: منها أن يكون الضحاك خاصة للإنسان، وأيضا لما هو في المعنى غير الإنسان؛ فإن الإنسان مع الخجل بالطبع غير الإنسان وحده. وأيضا سيكون الضحاك خاصة لقابل العلم أيضا، والذي من شأنه أن يستحي، فتكون الخاصة غير الخاصة.
ووجه آخر، مثلا أنك تعلم أن الإنسان الأبيض أخص من الإنسان؛ فإن رُوّجَ أن الضحاك خاصة للإنسان الأبيض بسبب أنه خاصته للإنسان، فقيل: والإنسان البيض إنسان، والإنسان خاصته أنه ضحاك، فالإنسان الأبيض خاصته أنه ضحاك، عرض من ذلك أن يكون الإنسان الأسود ليس ضحاك، أو عرض أن تكون الخاصة ليست بخاصة.
وقد يمكن أن تعرض وجوه أخرى غير ذلك؛ فأما الوجه الأول فيكفي الخطب فيه أن تعلم أن قولنا الضحاك خاصة للإنسان،معناه أنه خاصة لما يوصف بالإنسان، وما يوصف بالإنسان هو الإنسان لا غير، موضوعا له؛ على ما علمته في غير هذا الموضع. وإذا قلنا: إن الضحاك خاصة لقابل العلم، كان معناه أن الضحاك خاصة لما يوصف بأنه قابل العلم، وليس إلا الإنسان. فقد علمت فيما سلف أن الموصوف بالإنسان هو ذات الإنسان، لكن الموصوف بالأبيض هو شيء غير الأبيض، وهو إنسان ما، أو ثلج ما. وإن كان أبيض ما موصوفا بأنه أبيض مطلق، ليكن مع ذات آخر قد يكون موصوفا به شيء غيره من حيث إنه أبيض. وإنسان ما لا يكون موصوفا به شيء غيره من حيث هو إنسان، فيكون الأبيض له موصوف هو شيء آخر. وليس كذلك الإنسان. فإذا عنى بقولنا: " المستحى " الموصوف بالمستحى على الوجه الذي قلنا، لم تكن الخاصة لشيء آخر غير الإنسان. وأما إن أخذ المستحى، من حيث هو مستحى، فليس الضحاك خاصة له، فإن المستحى، من حيث هو مستحى، لا يقال عليه الضحاك. فإن المستحى، من حيث هو مستحى، ليس إلا المستحى. وأما الضحاك فشيء آخر، وعلى ما علمت هذا في مواضع أخرى.(2/105)
فإذا تأمل المتأمل، فميز بين الملكة والحال، وبين ما له الملكة والحال، وعرف الأصل الذي قلنا، تميزت له الخاصة التي تكون لشيء في نفسه، والتي تكون بالعرض وبسبب شيء آخر، إذ تكون الخاصة مثلا الملكة فتوجد لذي الملكة. إذ كان ما يخص الملكة قد يوجد أيضاً لذي الملكة، وذلك إما خاصته ملكة تحمل على ذي الملكة بالاشتقاق، وإما خاصته ملكة تحمل على ذي الملكة بغير اشتقاق. أما الذي بالاشتقاق فمثل العلم، فإن خاصة العلم تشتق منها خاصة محمولة على العالم، ولا تكون هي نفسها خاصة للعالم. وأما الذي بغير اشتقاق فمثل الضحاك، فإن خاصة الضحاك، من حيث هو ضحاك، قد توجد محمولة على الإنسان. وكذلك فإن الذي لذي الملكة قد يعرض أن يحمل على المكلة، مثل أن الضحاك، وهي خاصة الإنسان، فإنه قد توجد محمولة على المستحى، فيعرض من هذا أن يشكل الأمر.
أما في المثال الأول فيغالط ويجعل خاصة الملكة التي لا تحمل بالاشتقاق خاصة لذي الملكة، فيجعل خاصة العلم خاصة العالم، فيكون العالم أيضاً لا يزول التصديق به، كما أن العلم لا يزول التصديق به.
وأما في المثال الثاني فيجعل الخاصة خاصة لأشياء كثيرة مختلفة. فإذا راعى المراعى فميز بين الشيء الذي له الخاصة وبين ما يقارنه، إما مقارنة ملكة لذي الملكة، أو مقارنة ذي الملكة للملكة، تحصل له الخاصة التي تكون للشيء بذاته وأولا، والتي تكون على طريق العرض أو الغلط. وأما الوجه الذي ذكر أولا بعد هذا الوجه، فمعرفتك بالقياس وشروطه تخصك عن الغلط فيه.
وموضع ينفع في القسم الأول، وهو أن يراعى التصريف، فيؤخذ العلم وخاصته، ويؤخذ المشتق له الاسم من العلم وهو العالم، فيؤخذ من خاصة ملكة خاصة له بالاشتقاق. فإذا كان خاصة العلم أنه ما لا يزول التصديق به، لم يجعل ذلك خاصة العالم بل جعل خاصة العالم أنه الإنسان الذي له تصديق لا يزول. وإذا كان خاصة العالم أنه الذي لا يزول تصديقه لما صدق به وقاله، فيجب أن لا نجعل هذا خاصة العلم، بل نجعل خاصة العلم: أنه ملكة تصديقية لا يزول التصديق بها من العقد والقول. وذلك لأنه لما كان بين العلم وبين العالم معاندة ومقابلة ما، فلا يجب أن يؤخذا كشيء واحد، بل يجب أن يراعى التقابل أيضاً بين خواصهما، كما يراعى فيهما.
وموضع آخر، أن تكون الخاصة خاصة بشرط الطبع، فتؤخذ مطلقا، فيكون ذلك باطلا. مثاله، أن يقال: إن خاصة الإنسان بالقياس إلى الفرص أنه ذو رجلين، فإن هذا ما لم يقترن به أن يقال: " بالطبع " لم يكن حقا. فليس كل إنسان ذا رجلين في الوجود. وأما إذا قيل هو كذلك في طبعه، أي هو كذلك في صورته الإنسانية، حتى إذا صادفت وقت تكونه مادة وافرة، ولم تقع آفة في تلك المادة، أو لم يعرض عارض من خارج، كان ذا رجلين؛ كانت الخاصة كاملة.
وموضع آخر أن يميز في الخواص ما يكون الشيء ولا، ولشيء آخر بعده، فإذا لم يميز ذلك لم تكن الخاصة خاصة؛ مثل من يقول إن خاصة السطح التلون، ولم يقل التلون أولا، فإذا لم يقل ذلك فنجد الجسم يشارك السطح فيه، فلا يكون ذلك خاصة السطح. ولو قال ذلك لتحصلت الخاصة بواجبها.
بل يجب أن تعلم أن المحمولات تختلف بوجوه حملها اختلافا ظاهرا بشرائط تلحقها، فيجب أن تراعى في الخاصة تلك الجهات، لتعلم أنها كيف توضع خاصة. فمن الأشياء ما لا يكون وجوده للشيء لا محالة حقا، ويكون كونه في الطبع حقا، كذي الرجلين للإنسان؛ ومنها ما لا يكون وجوده له محالة حقا، ولكن يكون كونه من شأنه أن يعرض له في الندرة حقا، ويكون خاصا بالشيء، كذي أربع أصابع للإنسان.
ومنه ما تكون نسبته إلى الصورة، كقولهم: إن النار ألطف الأجسام أجزاء، وذلك في القوام.
ومنه ما تكون نسبته إلى الجملة على الإطلاق، كقولهم: إن الحيوان يحس ويتحرك، أي في طباعه أن يحس ويتحرك.
ومنه ما تكون نسبته إلى الكل ليس على الإطلاق، ولا للصورة كما هي، بل لأنه لجزء منها، كما ينسب الفهم إلى النفس، وهي صورة ما، وليس ينسب إليها كيف كان، بل هو لجزء منها بالحقيقة وهو الجزء الفكري.
ومنه ما لا يكون للشيء في الطبع البتة ولا على الإطلاق، بل يكون له بالقُنية والتعلم وغير ذلك، كالعلم للإنسان.(2/106)
ومنه ما يكون له بالشركة، ومثاله من جهة معنى أعم؛ كما يقال للإنسان إنه حاس أرحى، فذلك له من حيث هو حيوان، ويشاركه فيه غيره. فإن كان خاصة ما مثل هذا، فيكون خاصته بالقياس لا على الإطلاق. فيجب أن يوضع في الخاصة أنها بالطبع، أو في الندرة، أو للصورة، أو على الإطلاق أولى، أو الجزء من الصورة مقتنى ليس في الطبع، أو بقياس كل شيء، أو بقياس شيء.
وكذلك يراعى ما يقع فيه الاختلاف من جهة الأكثر والأقل، مثل الشيء الذي إذا كان مثلا في الغاية ظن شيء، وإذا لم يكن في الغاية ظن خاصة لمعنى أعم، مثل قولهم: إن النار هو الجسم العالي والطافي جدا؛ فإن الهواء أيضاً طاف، ويعمهما الحار، فيكون الطافي مطلقا يخص الحار، ويوهم أن الطافي جدا يخص النار.
وربما كان التفاضيل ليس يقع بحسب الجنس، بل بحسب النوع، مثل النيران فإنها تختلف باللطافة؛ فليست الشعلة الصافية المصباحية أو البرقية، مثل الشعلة الالتهابية أو الجمرة؛ وكلها نيران. فحينئذ إذا قيل إن النار هو الجسم اللطيف جدا، لم يعم النوع، ووقع الغلط. ولذلك لا تكون الخاصة المأخوذة على أنها مطلقة مثل الخفيف، وهي بعينها الخاصة المقيدة بالإفراط، كقولك: خفيف جدا، فلا يكون الخفيف خاصة للنار وحدها، ولا الخفيف جدا، فإن الخفيف جدا لا يكون مقولة على كل نار، فإن الصغيرة ليست خفيفة جدا عند الكبيرة، ولا اللهيب عند البرق.
وموضع آخر، أن تجعل الشيء خاصة لنفسه، وذلك على وجهين: إما أن تأتي باسم مرادف، كمن يقول: إن الإنسانية خاصة البشرية، والجميل خاصة اللائق، أو تأتي بالحد فيكون الحد قد جعله خاصة المحدود. ومعنى الحد هو معنى المحدود نفسه. ومعنى الخاصة شيء من بعد معنى المخصوص بل يجب أن تأخذ الخاصة ما هو غير المخصوص في طبيعته، وترجع عليه بالتكافؤ؛ مثل الجسم ذي النفس لو كان معناه غير الحيوان، وكان منعكسا عليه، لكان خاصة.
وموضع آخر، فيما يكون له أجزاء متشابهة، كماء البحر من حيث هو ماء البحر؛ والهواء من حيث هو هواء؛ ثم لا يكون أتى بخاصية يشترك فيها الكل والجزء، بل يكون ذلك إما للأكثر، كمن يقول: ماء البحر خاصيته أنه مالح، أو أن أكثره مالح. أو يكون من جهة جزئه، كمن يقول: إن الهواء هو المستنشق؛ ثم ليس ماء البحر مالحا، ولا كل ماء البحر أكثره مالح؛ وكله ماء بحر. والهواء أيضاً ليس كله مستنشقا وكله هواء، كما جزؤه هواء. بل يجب أن يكون كما يقول معطى الخاصة للأرض: إن الأرض ثقيلة بالطبع؛ فنجد الكل، وكل جزء، بهذه الصفة.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في استعمال المواضع المشتركة في الخاصة
ومواضع أخرى من الأصول المشتركة، أنه إذا لم يكن الضد خاصة الضد، لم يكن الضد الآخر خاصة الضد الآخر. فإنه إذا لم تكن خاصة العدل أنه أفضل شيء، لم تكن خاصة الجور أنه أخس شيء. ويصلح هذا أيضاً للإثبات. وقد علمت أن هذا مشهور، وأنه لا يمتنع أن يكون أحد الضدين خاصا بضد، ثم يكون الضد الآخر موجودا لضده ولأمور أخرى.
وأيضا، موضع من المتضايفات، مثل أنه إذا لم يكن الفاضل خاصة الضعف، فليس المفضول خاصة النصف؛ وهو للإثبات والإبطال.
وموضع من العدم والملكة، أنه إذا لم يكن عدم الحس خاصة للصمم، لم يكن وجود الحس خاصة للسمع؛ ويصلح للأمرين. وكذلك المشتق اسمه من الأمرين، مثل أن يعدم الحس ويصم، وإن يجد الحس ويسمع.
وكذلك من المتناقضات من جهة أنه إن كان المحمول خاصة، فمقابلة بالنقيض ليست خاصة؛ وهذا للإبطال.
وكذلك من جهة المعادلة أيضاً، أنه إن كان أن نتخيل خاصة أن نحس، فأن لا نتخيل خاصة أن لا تحس؛ وهذا للإبطال والإثبات.
والثالث أنه إن كان الشيء خاصة للشيء، فلا يكون خاصة لمقابله بالنقيض؛ وليس يصلح للإثبات إلا على سبيل المغالطة.
وموضع آخر على سبيل تعادل القسمة من جنس واحد. مثل أنه إذا كان معقول ومحسوس، وغير مائت ومائت، ثم لم يكن الحيوان المحسوس خاصة للمائتات، لم يكن الحيوان المعقول خاصة لما لا يموت، كالملائكة؛ وإن كان المحسوس خاصة للمائتات كان المعقول خاصة للملائكة.(2/107)
والمصحح يعتبر أيضاً ذلك، أنه إذا كان شيئان يشتركان في معنى عام، وكان وجودهما في شيئين ومعنيين، كل واحد منهما في واحد فقط، وكان واحد منهما يتخصص عمومه بكونه لأحد الأمرين، ويكون ذلك خاصة له، فالآخر خاصته أنه للأمر الآخر؛ مثل الفهم والعفة، فإنهما فضيلتان ووجودهما في قوتين للنفس، أعني الفكرية والشهوانية. ثم كان الفهم فضيلة للجزء الفكري، وكان ذلك خاصة للفهم، فيجب أن تكون خاصة العفة أنها فضيلة للجزء الشهواني. وهذا أيضاً علمي.
وموضع من التصاريف، أنه إذا كان المصروف ليس خاصة للمصروف، فليس التصريف خاصة للتصريف، وبالعكس. وهو موضع جدلي للإثبات والإبطال، وتؤكده أمثلة، مثل أنه إن لم تكن خاصة ما هو على طريق العدل أن يكون على طريق الجميل، لم تكن خاصة العدالة الجمال. وإن كان خاصة الإنسان أنه مشاء ذو رجلين، كانت خاصة ما يجري الإنسانية أنه يجري على طريق مشى ذي رجلين.
وكذلك يعتبر جانب سلب التصريف مه يلب المصروف، مثل ما ليس على طريق العدل، وما ليس على طريق الجميل، وغير العدل وغير الجميل. وكذلك العدم والملكة، والمضاف، والضد.
وفي موضع التصاريف والنظائر نظر علمي، وهو أنه ليس يجب إذا كان المشتق خاصة المشتق، أن يكون المصدر خاصة المصدر؛ بل ربما لم يكن المصدر محمولا على المصدر. مثاله: ليس إذا كان الضاحك خاصة الناطق يكون الضحك خاصة الناطق خاصة النطق، لكان حينئذ يكون الضحاك خاصة لا محالة. ومع ذلك فحيث لا يحمل المصدر على المصدر تكون المقارنة خاصة؛ مثل أن خاصة النطق الإنساني أن يقارنها الضحك.
وموضع آخر من النسبة، وهو أنه إذا كان نسبة شيء إلى آخر، كنسبة ثالث إلى رابع، والثاني خاصة أو ليست بخاصة، فالرابع خاصة أو ليست بخاصة. مثاله: أن المرتاض نسبته إلى الخصب نسبة الطبيب إلى الصحة، فإن كان خاصة المرتاض أن يكون مفيدا للخصب، فخاصة الطبيب أن يكون مفيدا للصحة، وبالعكس. وهذا الموضع ليس بعلمي، وإنما كان يصير علميا لو كان صار علميا بشرط، وذلك الشرط غير مفيد؛ فإنه إذا كانت النسبة مثلا هاهنا في أنه يفيد فقط لا في أن كونه مفيدا مساو له، لم يجب لأنه مفيد والأول مفيد أن يكون كونه يفيد ما يفيده مساويا له؛ وإن كان الأول كونه يفيد ما يفيده مساويا له. وأما إذا كان تقدم فعلم أن كون كل واحد منهما يفيد ما يفيده مساو له للإثبات، أو غير مساو له للإبطال، فليس يحتاج في إثبات أنه ليست بخاصة إلى اعتبار المناسبة ومثال هذا أنه يمكن أن يكون الطبيب وحده مفيدا للصحة، ويكون المرتاض وغير المرتاض معا يفيد أن الخصب. فيشترك الطبيب والمرتاض في انهما مفيدان للخصب والصحة. ثم تكون إفادة الصحة حينئذ بالطبيب، ولا تكون إفادة الخصب خاصة بالمرتاض، فإن كان علم من قبل النسبة في كل واحد منهما يوجب مساواة، حتى علم أنهما يشتركان في إفادة أمر مساو، فبين أن استعمال المناسبة في إثبات الخاصة غير مجد البتة، اللهم إلا أن يكون أمر آخر؛ وهو أن يكون قياس يوجب أنه يجب أن تكون حال المرتاض من الخصب من كل وجه كحال الطبيب من الصحة، ثم يعلم أن الطبيب يخصه إفادة الصحة، فحينئذ ننتقل من الطبيب إلى المرتاض إذا كان نسبته توجب كذا. فأما إذا اعتمد نفس المناسبة وحدها، ولم يكن على هذه الجهة لم يكن الموضع ضروريا.
وموضع آخر من نسبة الواحد إلى الاثنين وإلى الأولى، وهو أنه إذا كان حكمه عند شيئين حكما واحدا، ليس خاصة لأحدهما، فليس خاصة للآخر. وكذلك إن لم يكن خاصة للأولى لم يكن لما ليس بأولى. وأما إذا صح أنه خاصة لأحدهما؛ فقد زال أن يكون خاصة للآخر؛ لأن الخاصة لا تشارك، بل زال أن حكمه عندهما بالسواء. وكيف وهو موجود في أحدهما دون الآخر؛ فهذا لا ينتفع به في الإثبات. وأما في السلب فلا تنتفع به أيضاً إلا في الجدل، وأما في العلوم فلا ينتفع به. أما في الجدل فإنه ربما سلم المجادلة أن نسبته إلى الأمرين واحدة، أو ربما نتج ذلك عنده مما يتسلمه. وأما في العلوم فيبعد أن يكون محمول نسبته في الوجود، وفي نفس الحق، إلى شيئين نسبة واحدة السلب؛ ثم يكون هناك موضع بحث أنه خاصة أو ليس بخاصة، وذلك لأنه إن كان مجهول الحال لم يعلم أن نسبته واحدة.(2/108)
وإن كان معلوم الحال فقد علم أولا أنه ليس بخاصة حتى سلب عن كل واحد، حتى يسلب عن الاثنين، حتى علم أن حاله منهما حال واحدة في السلب.
وموضع معتبر بالكون والفساد - وأنت تعرفه - مثل أنه إذا كان خاصة الإنسان أن يكون في نفسه أمرا، فخاصة تكوّن الإنسان هو أن يكون ذلك الأمر؛ وخاصة فساده أن يفسد ذلك الأمر. وهذا علمي، وهو للإثبات والسلب.
وموضع آخر للإثبات والإبطال، أنه ينبغي أن تكون الخاصة من المعاني اللاحقة للشيء من جهة نوعه، ويكون لنوعه لما هو نوعه؛ وبالجملة لماهيته ومن طريق ماهيته. وقد علمت معنى اللاحق من قبل ما هو في غير هذا الموضع؛ فإنه إن كانت المأخوذة خاصة ليست تلحقه من حيث هوهو، كما لا يلحق السكون الإنسان من حيث صورته وماهيته، بل من حيث هو جسم؛ أو كان يلحقه ولكن لا من جهة يصير بها خاصة مساوية، مثل الملاحة التي هي من اللواحق للصورة الإنسانية ولكن ليست بخاصة حقيقية فلا تكون الخاصة خاصة.
وأما إذا كانت الخاصة مثل ما للحيوان من كونه مركبا من جسم ونفس للحيوان، فذلك يلحقه لطباعة، وتنعكس عليه؛ فهذه الخاصة جيدة.
لكن لقائل أن يقول: إن كون الحيوان مركبا من جسم ونفس هو حده لا خاصته، فنقول له: إن المركب ليس من المعاني الجنسية للحيوان، بل هو من لوازم جنسه، بل جنسه الجسم، وفصله أنه ذو نفس؛ ولم يؤخذ الجسم هاهنا جنسا؛ بل أخذ الجسم كجزء من الفصل، لأنه هو الجسم المادي لا الجسم الجنسي؛ ولم يؤخذ البتة النفس على انه فصل في الحد، فذلك لا يصح، بل على أنه جزء فصل منطقي. وليس أيضاً المركب من جسم جنسا بمعنى الجسم، فليس مفهوم المركب من جسم هو انه جسم، وإن كان يلزمه لزوما من خارج، فيفهم أن المركب من جسم لا يكون إلا جسما، ولكن ذلك مفهوم لازم؛ لا مفهوم مضمن، وإن كان يلزمه لزوما. وهذه الأشياء ظاهرة لك مما سلف، وإنما نشير إشارة للتذكر.
واعلم أن كثيرا من الحدود إذا غير تغييرا يبقى معه الصدق، فإنه ينقلب خواص ورسوما.
وموضع آخر مأخوذ من الأكثر والأقل، مثل أنه لم يكن ما هو أكثر تلونا خاصة لما هو أكثر جسمية، لم يكن الأقل تلونا خاصة لما هو أقل جسمية؛ وإن كان، كان. وقد يعتبر ذلك مع الإطلاق، فإنه إن لم يكن الأكثر لونا خاصة لما هو أكثر جسمية، فليس الملون مطلقا خاصة للجسم مطلقا. وهذا موضع قد يكون حقيقيا بشرط ومشهور إن ترك ذلك الشرط. أما حقيقيا، فإنما يكون حقيقيا إذا كان الموضوع والمأخوذ خاصة كلاهما يقبلان الأشد والأضعف معا، فحينئذ يستمر هذا القانون، مثل السواد والجمع للبصر مثلا، فإنه لما كان السواد مطلقا يجمع البصر، فكان ذلك خاصة له وكانا يقبلان الأشد والأضعف معا، فمن البين أن ما هو أشد جمعا، وما هو أقل سوادا فهو أقل جمعا، وكل خاصة لكل، وبالعكس في جميع ذلك. وكذلك في الإبطال.
وأما إذا كان الموضوع لا يقبل الأزيد والأنقص في طباعه، فليس يجب شيء من ذلك، فإنه ليس إذا كانت النار خاصتها أن تتحرك إلى فوق، والإنسان خاصته أن يفهم بالروية، يجب أن يكون ما هو أشد حركة إلى فوق أشد نارية، أو يكون ما هو أكثر فهما هو أشد إنسانية، وهذا قد وضع في المقدمة أن الإنسانية تقبل الأشد والأضعف. ولا يجب أن يقاس الأكثر في هذا المعنى بالأولى إلا على سبيل المشهور وذلك أنا قد تقول: إن أ أولى من ب بكذا، ولا يكون كذا موجود لأحدهما، وربما كان وجود أحدهما أو كليهما محالا، فنقول: كذا أولى بكذا لو كان. وبالجملة ليس كل ما هو أولى أن يكون لشيء من شيء آخر، يجب أن يكون له. مثال ذلك في الممتنع ما يقال من أن الخلاء أولى أن يسرع فيه المتحرك من الملاء الرقيق، وليس يجب أن يكون ذلك ممكنا في الخلاء. وكما يقولون: إن المستديرة أولى بأن تكون ضدا للمستقيمة منها للمستديرة، أو المستديرة أولى بذلك من المستقيمة بحسب اعتبارين، وليس يجب أن يكون. فلا يحسن إذن الانتقال من الأولى إلى المطلق في الحقيقة، بل ربما أقنع في بعض المواضع. وأما أن يحكم بأنه أكثر وجودا للشيء فقد حكم بأنه موجود له، اللهم إلا أن يأخذ الأكثر بمعنى الأولى باشتراك الاسم. ولسنا نذهب إلى ذلك في هذا الموضع.(2/109)
وموضع آخر من الأكثر والأقل في المناسبة، والذي بمعنى الأولى وغير الأولى، وقد تدخل الكثرة في الموضوع والخاصة معا. وهو جدلي غير علمي. وهو أن يقول المبطل مثلا: لما كان الحس أولى بأن يكون خاصة للحيوان من العلم للإنسان، وليس الحس خاصة، فليس العلم أيضاً خاصة. ويقول المثبت لما كان العلم أقل استحقاقا لأن يكون خاصة للإنسان من الحس للحيوان وهو خاصة، فالحس إذن خاصة للحيوان. والسبب في كون هذا غير علمي هو أن الخواص إذا كانت خواص بالحقيقة لم تكن خاصة أولى بمخصوصها من خاصة أخرى بمخصوصها في نفسها، بل بحسب التسليم والالتزام.
وموضع آخر مجانس لذلك أن يجعل الكثرة في جانب الموضوع، والوحدة في جانب المحمول، فيقول المبطل إنه لما كان اللون أولى بأن يكون خاصة للسطح منه للجسم، فإذا لم يكن خاصة للسطح لم يكن للجسم. وأما المثبت فلا يمكنه أن يقول: وهو خاصة للجسم فهو خاصة للسطح، فإنه حينئذ يكون قد جعل الخاصة مشتركة. وهذا الموضع يحسن استعماله في العلوم. ويكون الأولى بمعنى الوجود أولا وبالذات. وأما الذي لا يمكن، فهو أن تكون بعض الخواص أولى بموضوعها من بعضها بمواضع أخر. وأما إذا كانت الخاصة واحدة والموضوعات اثنين، فقد يصح أن تكون الخاصة أولى بأحد الموضوعين منه الآخر، وهو الذي هو موجود فيه بالذات وأولا.
وموضوع آخر بعكس ذلك، فإن الكثرة فيه في جانب الخاصة، فإنه إذا كان ما ليس أولى من آخر بأن يكون خاصة هو خاصة، فما أولى بذلك فهو خاصة، وإن كان ما هو أولى ليس بخاصة فما ليس بأولى ليس بخاصة. وهذا الموضع جدلي غير منتفع به في العلوم. وذلك لأنه إما أن يكون خاصة بحسب التسليم المشهور، وإما أن يكون بحسب التسليم الذي يوجبه الأمر في نفسه. والتسليم الذي يوجبه الأمر في نفسه، هو أن يسلم أن كذا أولى بان يكون خاصة فلا يقع إلا أن تكون شروط الخاصة موجودة فيه أكثر. فإن كانت شروط الخاصة موجودة فيه فكيف يقال: ولكنه ليس بخاصة، فالآخر ليس بخاصة؛ أو كيف يقال: فهو إذن خاصة، فإنه قد يكون قد علم أنه خاصة حين هلم أنه أولى بأن يكون خاصة بهذا المعنى، فضاعت إقامة الحجة عليه. فأما إن علم أن شروطها أكثر من شروط الآخر، فقد علم أن الآخر فاقد شرط، فلم يحتج أن يبين بعد ذلك أنه ليس بخاصة للشيء حتى يجعل الأكثر شروطا خاصة. فإنه ما لم تجتمع جميع شروط الخاصة، لم تكن ولا واحدة منهما خاصة؛ فإن إحداهما لا تكون خاصة، وقد كان سلف موضع من الناسبة المتعادلة أنه إذا كان شيئا لشيئين على وجه واحد، فاعتبر ذلك هاهنا مع موضع آخر، وهو أن يكون شيئان لشيء. وقد أعيد جميع ذلك في التعليم الأول، لأن ذلك الأول لم يشرط فيه أن يكون المحمول موجودا، إنما أخذ على انه موجود، فيكون فيما سلف إنما يطلب كونها خاصة مضمنا فيه طلب أنها موجودة، وهاهنا يكون الوجود والحمل متحققا، وكونه خاصة غير متحقق، فيطلب ذلك.(2/110)
وموضع آخر، أن يجعل الخاصة أمرا قد يكون بالقوة ولا يميز بين القوة التي تعلقها بشيء آخر في ذلك الشيء الآخر أن لا توجد، فيجوز لتلك القوة أن لا توجد، فتصير القوة حينئذ لا قوة، وبين القوة التي تعلقها بشيء موجود. مثال ذلك إن قال قائل: إن الهواء هو جسم مستنشق، فإن أخذه مستنشقا بالفعل فقد كذب، وإن أخذه بالقوة ثم عدم الحيوان، استحال أن تكون هذه القوة متحققة فيه، فإنه حينئذ غير مستنشق ولا بالقوة؛ وهذا للإبطال. وأما إن كانت القوة تعلقها بالموجود مثل أن تقول: إن الموجود ما في قوة طباعه أن يفعل أو ينفعل، فإن هذه القوة إضافتها إلى موجود، وذلك الموجود هو الموضوع، وقد علقت بها القوة. وأما الاستنشاق فكانت القوة فيه في المستنشق، وهو غير الموضوع الذي للخاصة. وهذا الموضع في الإبطال جدلي غير علمي. أما أنه غير علمي فلأن كل واحد منهما متعلق مع الموضوع بشيء خارج: فإن الذي يفعل يحتاج إلى أن يوجد منفعل، وإلا استحال أن يفعل. وكذلك الذي ينفعل محتاج إلى أن يوجد فاعل، وإلا استحال أن ينفعل. والهواء من حيث هو مستنشق معرض لانفعال ما؛ وقوة ذلك الانفعال متقررة فيه؛ وإن كان قوة الفعل في الموجود تقابل قوة الانفعال في غيره؛ وقوة الانفعال في الموجود تقابل قوة فعل في غيره؛ حتى إذا شرط عدم الآخر كانت القوة مستحيلا من أمرها أن تخرج إلى الفعل؛ كما إذا عم الحيوان كانت قوة الهواء في أنها تستنشق مستحيلا أن تخرج إلى الفعل. وأما أنه جدلي؛ فلأن مصدر أن يستنشق هو الاستنشاق، وهو فعل وقوته في المستنشق؛ فإن الاستنشاق وجميع المصادر الفعلية تضاف في ظاهر المشهور إلى الفاعل؛ وإن كان الفاعل التصريفي ليس الفاعل الحقيقي؛ ويجعل القوة عليها حيث يصدر منه الفعل للفاعل؛ فيقال: إن قوة الضرب في الضارب؛ وإنما في المضروب قوة الإضراب؛ وإن كان المصدر يضاف إلى المنفعل كما يضاف إلى الفاعل فذلك أخفى الأمرين. وأما القوة عليه فلا تضاف في الظاهر إلا إلى الفاعل. فلما كان ان يستنشق مأخوذا من الاستنشاق؛ وكان الظاهر أن القوة على الاستنشاق إنما هو في المستنشق؛ وكان هذا يدعو إلى أن يسلم في المشهور أن قوة الاستنشاق في غير الهواء؛ فيلزم أن يكون في شيء لا يكون موجودا، إذا كان الحيوان معدوما، فيكون المخصوص موجودا. وأما حيث ذكر الموجود وجعله موضوعا، وأضاف إليه قوة فعل أو انفعال، فجعله موصوفا بأنه فاعل أو منفعل؛ فكان الظاهر المشهور هو أن القوة على الفعل والانفعال في ذلك الموضوع المخصوص بعينه، فلو جعل للهواء من حيث هو مستنشق اسم ليس هو فيه بحسب مذهب أصحاب التصريف مفعولا به، بل فاعلا، لست أعني الفاعل الحقيقي بل الفاعل التصريفي الذي يقال فيه للمنفعل فاعل، كما يقال للمنفعل بالسقوط ساقط؛ كان حينئذ حكمه في المشهور أيضاً حكم الفاعل والمنفعل.
فليكن ذلك مثلا المواتي للفسق، فإن المواتي وإن كان في الحقيقة منفعلا، فإنه في شكل التصريف فاعل، فتكون قوة المواتاة ليست في الفاسق الخارج، بل فيه، ولا يعرض حينئذ ما عرض فيما قيل.
وموضع آخر جيد جدا؛ وهو أنه لا ينبغي أن تكون الخاصة مأخوذة بمعنى الأزيد والأغلب في موضع يجوز لو عدم الموضوع أن يبقى الخاصة لشيء آخر أغلب، مثل أنه إذا قيل: إن النار ألطف الأجسام وأخفها؛ ثم عدمت النار؛ بقى حينئذ شيء هو ألطف الأجسام وأخفها وهو الهواء؛ فكيف يجب أن يكون ذلك الشيء حينئذ نارا؛ وكان أيضاً لو كانت النار موجودة ولم يرها راء؛ ورأى الهواء ووجده ألطف الأجسام وأخفها كان يكون عنده نارا؛ فإن أكد ذلك بأن يكون عند السامع علم بعدد الأجسام كلها، وعلم بأنها لا يمكن أن تكون أكثر من ذلك العدد؛ ولا ألطف من ذلك الجسم؛ وعلم بأنها أيضاً لا يعدم شيء منها، فحينئذ يقوم هذا البيان مقتم الخاصة؛ لكن لا يكون غناؤها لنفس دلالة اللفظ، بل للقرائن التي تضاف إليها من خارج. ولا ينبغي أن يكون سبيل الحد والرسم والخاصة هذه السبيل.
تمت المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
خمسة فصول في الحدود
الفصل الأول
فصل (أ)
في الشروط الأول للتحديد
وفي مواضع اعتبار جودة التحديد(2/111)
الحدود قد ننظر من أمرها في أنها كيف تؤلف، وكيف تكتسب. وقد ننظر من أمرها في أنها هل هي موجودة على الشروط التي ينبغي في تأليفها واكتسابها. والنظر الأول في كيفية إيجاد الحد؛ والثاني في كيف اعتبار حال الحد الموجود. وقد سلف في كتاب " البرهان " حال الوجه الأول، وأما هذا الوجه الآخر، فإنما ننظر فيه في هذا الكتاب على البحث الأعم، ونستخلص في ضمنه البحث الأخص. أعنى بالبحث الأعم البحث الجدلي، وبالبحث الأخص البحث العلمي. وقد علمت كيفية كون البحث الجدلي أعم من وجه.
فأول ما يجب أن يراعى من أمر الحد أن ننظر هل هو أولا صادق على المحدود، فإنه إن لم يكن صادقا، فقد كفى سائر البحث، وعلم أنه ليس بحد. والثاني أن ننظر هل دل فيه على الماهية المشتركة وهو الجنس القريب؛ فإنه وإن لم يكن الجنس مقولا، وكان لم يذكر جنس البتة، أو ذكر جنس ليس جنس الشيء، أو ذكر جنس بعيد وترك الجنس القريب، فلم يعمل شيء. ولقد علمت جميع ذلك موضعه، وعلمت أن الجنس يدل على أصل الماهية المشتركة، وأن الفصل لا يدل على ماهية النوع، وإن دخل في جملة ما يدل حتى تتم به الماهية الخاصة ثم إن كان الجنس مذكورا، ولم يكن القول مساويا لعموم الشيء حتى يطابق القول الذات في انعكاس الحمل، ومساويا لمعنى الاسم حتى يطابق القول الذات في حقيقة الماهية، فلم يدل بعد على الحد. ثم إن كان هناك جنس، وكان أضيف إليه ما صار به منعكسا على الشيء المحدود، فليس يجب أن يكون الحد حدا. فربما كان المضاف إلى الجنس خاصة؛ وربما كان فصلا واحدا، وقد أهمل فصل آخر على النحو الذي شرح لك في غير موضع، فيكون القول حينئذ غير دال على الماهية، وإن كان مساويا.
أنا إن لم يكن أخذ الفصل، بل أخذت الخاصة مكان الفصل، فلم يدل على الماهية الخاصة بوجه. وإن لم تؤخذ خاصة ولكن أخذ فصل، وأهمل فصل مساو للفصل المأخوذ، فإن القول يجوز أن يكون مساويا بحسب المعنى.
وقد بان لك الفرق بينهما، وعلمت أن الدال على الماهية في الحقيقة إنما هو المساوي بحب المعنى، ولا محالة أنه يكون مساويا بحسب العموم. لكن هذا التحقيق لا يراعى في الحدود الجدلية، ويقتنع فيها بما يكون إلحاق الفصل فيه جاعلا القول منعكسا على المحدود، بل قد يقنع الجدلي بما هو دون هذا، فإنه إن لم يكن الجنس ولا الفصل جنسا حقيقيا وفصلا حقيقيا، بل كان الجنس جنسا بحسب المهور، والفصل فصلا بحسب المشهور، أثبت الجدلي أن الحد حد. وبعد ذلك كله، فيجب أن تكون الصنعة الحاصلة من إيراد الجنس والفصول صنعة جيدة، فإنها إن لم تكن جيدة كان للمبطل أن يعارض.
والوجوه التي بها يكون الحد فيه غير جيد الصنعة هي مثل أن يكون الحاد لم يحسن تأليفه أو خلط به؛ أو أغلق في اللفظ، أو حرف الجنس والفصل عن الجهة التي ينبغي. وإذا وقع شيء من ذلك فليس الحد على ما ينبغي.
فأما أن القول محمول أو ليس بمحمول، فقد تُعين على معرفته المواضع المذكورة في باب العرض. وأما أن الجنس هل أورد أو لم يورد، فذلك مما تعين على معرفته المواضع المذكورة في باب الجنس. وأما أن القول هل هو مساو أو ليس بمساو، فقد يعين على تحققه ما أورد من المواضع في باب الخاصة. وأما انه هل الصنعة جيدة أو ليست بجيدة فستعين عليه المواضع التي نذكرها في هذه المقالة، فلم تسلف لها مواضع.
فمن المواضع التي من هذا الباب مواضع تتعلق باللفظ، ومنها مواضع تتعلق بتجاوز صانع الحد مبلغ الكفاية إلى الفصل، ومنها مواضع تتعلق بإغفال الواجب إما تركه أصلا، وإما العدول عنه.(2/112)
ومن مواضع البحث الأول أن يكون اللفظ مشتركا غر مفهوم الغرض المحصل، كقول القائل، إن الكون مصير إلى الجوهر، أو لصحة اعتدال في الكيفيات؛ و " المصير " لفظ منغلق لاشتراكه، وأول ما يفهم منه الحركة المكانية، " والاعتدال " لفظ منغلق لاشتراكه، وأول ما يفهم تساوي المقادير والوزان. وليس ولا واحد من المعنيين يصح استعماله في الحدين. ومن ذلك أن يقع هذا الإغلاق في جانب المحدود نفسه، إذا كان اسما مشتركا. وربما راج ذلك بأن يكون الحد أيضاً مشترك الدلالة، فتطابق دلالته دلالة المحدود، كقول القائل في حد النور - وهو لا يفصل النور المحسوس من النور المعقول الذي هو البيان - انه الكاشف باتصاله للمدرك؛ فيقع هذا على النور المحسوس وعلى النور المعقول. لأن " الكاشف " أيضاً لفظ مشترك يطابق معنياه المعنيين اللذين للفظ المحدود، ولأنا إنما نحاول في كل حد محدودا معينا. ومثل هذا الحد لا يتعين في الذهن معناه، لا حدا ولا محدودا، فيكون هذا القول ليس بتحديد.
وأحسن من ذلك ما يبنى على الاستعارة، فيقال مثلا إن الهيولي أم حاضنة، وإن العفة اشتراك اتفاقي، وذلك لأن الاشتراك الاتفاقي قد يوجد في الغم، وليست العفة موجودة فيها. ولو كان الاتفاق جنسا لكان الشيء الواحد وهو العفة يقع في الفضيلة على انها جنسها وفي الاتفاق، فيكون للواحد جنسان متباينات ليس أحدهما تحت الآخر، ولا يستندان إلى عام؛ وهذا مما علمت استحالته. وكذلك حال التحديدات التي تستعمل فيها ألفاظ مختلفة لم تعتد، كمن يترك مثلا لفظة العين في حد شيء تؤخذ العين في حده، فيجيء بدل اللفظ الدال عليها في التعارف بلفظ المظللة بالحاجب. وكذلك الذي يأتي بدل الرئيلا بمعقبة اللسع، ويدل المخ بغاذي العظام، عادلا في أجزاء الحد أو في تسمية المحدود عن الأسماء المشهورة إلى هذه الأسماء.
ومن هذه الأسماء ما يقال بالاتفاق، وقد صار الاسم فيه لما يتفق فيه بالحقيقة ومنها ما يقال بالاستعارة وقد اشتهرت، ومنها ما يقال باستعارة مبتدعة لم تشتهر، ومنها ما يقال باشتقاق عن معان غير معتادة الاشتقاق عنها، مثل ما حكينا. ومنها ما هو أبعد من ذلك فلا هو مشترك، ولا هو مستعار معروف، وهو أيضاً دال على تتمة معنى مناسب للشيء وإن كان غير معتاد له بل يكون مستعارا بالقياس إلى معنى عام جدا مثل إتيانهم بدل الشريعة بالمكيال أو المقدار أو المثال، فإن هذا وما أشبهه لا يدل على خصوصية الشيء بوجه من الوجوه، وأما الاستعارة فقد تدل، فهذه وأمثالها مواضع تتعلق بوضوح اللفظ وإغلاقه.
وموضع قد وصل بهذه المواضع، وهو أن ننظر هل حد الضد يلوح من حد الضد؟ فإنه إذا أعطى شيء ذو ضد حدا، ثم لم يلح منه حد الضد الآخر، فليس ذلك بحد؛ إذ حد الضد ضد لحد الضد. وقد يجوز أن يجعل هذا الموضع في الجدل موضعا لاكتساب حد الضد وإثباته؛ فإنه ربما كان أحدهما قد سبق إلى الشهرة، وإن لم يسبق إليها سبق إلى التسليم، فينتقل منه إلى الثاني. وأما في التحقيق، فقد ظهر لك - حيث تكلمنا في " البرهان " - أن حد الضد لا يكتسب من حد ضده. على أنه وإن كان كذلك فيجب أن يلوح منه حد الضد، فهو للإبطال نافع، وإن لم يكن للكسب نافعا في العلوم. فهذه كأنها مواضع لفظية.
وأما المواضع التي بعد ذلك، فإن تعلقها بالبحث الثاني. فمنها أن يكون قد أخذ بدل الجنس شيء من المحمولات العامة، أو شيء من اللوازم التي تلزم كل شيء كالموجود والشيء أو غير ذلك؛ أو جنس بعيد أورد لا على أنه جزء حد جنس قريب لا اسم له وأخذ بدله حده؛ بل إنما أورد مع إيراد الجنس القريب، فكان فصلا مستغنى عنه؛ واشتمل الحد على تكرار؛ ولو أنه أسقط لبقى الباقي قولا خاصا دالا على الماهية.(2/113)
ويجب أن تعلم أن هذا الموضع إنما يكون حقيقيا إذا كان العام المذكور مستغنى عنه، فإن كثيرا من الأشياء لا يستغني أن يؤخذ في حدودها الشيء والموجود، كالمقولات وما هو أعم منها. والمثال المورد في التعليم الأول تحديد من حدد النفس بأنه عدد محرك لذاته، ثم المحرك لذاته عندهم يطابق ماهية النفس، لأن النفس تدل به على المحرك لذاته. فإن كان عددا فليس ذلك داخلا في مفهوم كونه نفسا، فيكون ذكر العدد فصلا، أي إن كان المحرك كالجنس القريب ولذاته كالفصل، ولم يكن مجموعهما فصلا؛ ولا مناقشة في الأمثلة؛ أو لم يكن المحرك لذاته خاصا له. وكقول من حد البلغم بأنه أول رطوبة غير منهضمة، فإنه ليس في البدن رطوبات غير منهضمة غير البلغم حتى يكون منها أول وثان؛ فإما أن يكون الأول فصلا، وإما أن يكون غير المنهضم فصلا.
وموضع آخر من أن لا تكون الزيادة الفصلية فصلا بحسب العموم، بل يكون لحوقه بسبب الخصوص؛ وذلك أن يكون لحوقه يجعل المعنى أخص، وإن اتفق أن يكون مع ذلك واقعا في أنواع كثيرة من غير أن يعمم شيئا منها، مثل البياض إذا أخذ في حد الإنسان أو النور فيجعله أخص؛ مع أن البياض من وجه أعم. وقد جعل مثاله في التعليم الأول أن يحد شيء بأنه حي، ذو رجلين، ذو أربع؛ وهذا ليس الفساد فيه من هذه الجهة، بل عسى أن يكون من جهة التناقض بالقوة، فإن ذا رجلين وذا أربع لا يجتمعان معا في نوع واحد، فيشبه أن يكون أريد فيه أن يحدد المستقل من الحيوان عن الأرض، فقيل: إنه مشاء ذو رجلين، وذو أربع، على أن يعم أصناف الماشي وعلى أن القسمين كشيء عام لذوات الأرجل كلها المستقلة عن الأرض، فيكون المحدد قد خصص الحيوان المستقل بذي الرجلين، وذي الأربع، وهو اعم من ذلك ؛ فغن منه أيضاً ما هو ذو ست أرجل، وذو ثمان أرجل، وذو أرجل كثيرة العدد، وهو يقصد أن يشتمل تحديده على كل ماش، فيكون حينئذ هذا الحد فاسدا من جهة أن الفصول أخص من المحدود، ومخصصة للمحدود. ويجوز أن يكون وقع في النسخة تحريف، أو أريد أن يحد المستقل من الحيوان، فقيل: حي، ماش، ذو رجلين أو أربع، فغلط وكتب ذو أربع، فحينئذ يكون التحريف في النسخة.
وموضع آخر أن يكون قد أخذ شيئا واحدا مكررا بالفعل أو بالقوة مرتين. فمن ذلك أن يكون التكرير من جهة اعتبار المحدود وجزء الحد، كمن يقول: إن الشهوة توقان إلى اللذيذ، فإن التوقان هو الشهوة نفسها. ومن ذلك أن يكون جزء أن يكون جزء الحد قد أخذ في الحد مرتين: إما بالقوة، فكما قيل في المثال المذكور من أن الشهوة توقان إلى اللذيذ، واللذيذ متضمن في حد التوقان، فيكون كأنه قال: إن الشهوة انبعاث إرادة لذيذ إلى لذيذ. وإما بالفعل؛ وإنما يقع ذلك حيث يستعمل اسمان مترادفان، كقولهم: إن الحركة زوال وانتقال من مكان إلى مكان، والزوال والانتقال اسمان نترادفان.
وليس لطاعن أن يطعن فيقول: إنك إذا قلت مثلا إن الإنسان حيوان مشاء ذو قائمتين، فقد قلت: الإنسان حيوان إنسان؛ إذ المشاء ذو القائمتين إنسان. وإنما لم يكن له أن يقول ذلك، لأن المشاء ذا القائمتين يدل على الإنسان بحسب اللزوم لا بحسب الترادف، ولا بحسب التضمين. وقد عرفت ذلك في مواضع أخرى. وكلامنا هذا إنما هو من حيث تكون الدلالة الموجبة للتكرير بحسب الترادف، أو بحسب التضمين. وأما إذا قلنا حيوان، فما قلنا فيه مشاء لا بالترادف ولا بالتضمين؛ وكذلك إذا قلنا مشاء، لم نقل فيه " ذو قائمتين " لا بالترادف ولا بالتضمين. إنما يكون التكرير مثل قول من يقول: إن الفهم هو محدد الموجودات وعالم بها، وليس مفهوم المحدد هاهنا إلا مفهوم العالم بها؛ وهذا بالترادف. ومثل قول القائل: إن البرد عدم الحرارة بالطبع، فإن العدم هو في كل موضع بالطبع، لأن العدم أن يبقى الطبع ولا شيء آخر. إنما الملكات هي التي تستفاد من خارج؛ فقوله بالطبع مكرر، فإنه مضمون في العدم بالقوة.(2/114)
وموضع مجانس لهذه المواضع، وهو أن تكون الزيادة المخصصة هي نوع، فيكون قد اجتمع فيه التخصيص والتكرير، إذ الجنس مضمن في طبيعة النوع. وهذا كقول القائل: إن الدعة انتقاص الأشياء الموافقة الواجبة؛ فإن الواجبة تخصص المحدود، ومع ذلك فإنها نوع من الموافقة، فتكون الموافقة مضمنة فيه، فتكون مقولة بالقوة مرتين. وهذا كقول من يقول: إن الحيوان جسم ذو نفس إنسان، فيكون خصصه بالزيادة، ويكون قال شيئا مرتين، لأن الإنسان متضمن لمعنى الحيوان.
الفصل الثاني
فصل (ب)
في مواضع إثبات الحد وإبطال الخاصة
وأما النظر ليس في انه هل أجاد الحد، بل في أنه هل حد، فأول الموضوع في ذلك أن ننظر هل حدد بأمور هي أقدم في المعرفة والطباع من المحدود، فإنه كذلك ينبغي أن يكون، لأن المأخوذة في الحد يجب أن تكون مقومات لماهية المحدود فيجب أن يكون أقدم منه بالطباع. وأيضاً يجب أن تكون معرّفة لماهيته، فيكون أعرف عندنا، ولما كان في طباع المحدود النوعي ما يقوّمه، ومنه يتوصل إلى معرفته، كما قد علمته.
وظاهر من أصول عرفتها أن جمع ذلك في قول هو حد الشيء؛ فإذا كان ذلك حدا، ثم كان المأخوذة عما ليس أقدم من المحدود وأعرف منه حدا، كان للشيء الذي له ذات واحدة حدان، وهذا هو المحال. والعرف إما عندنا، وإما على الإطلاق، وهو الذي يجب في نفسه أن يكون أعرف. ونحن إذا عرفنا الشيء، فربما عرفناه بما هو أعرف في نفسه، بأن تقول مثلا: إن الخط هو الذي مبدؤه غير منقسم أو الذي مبدؤه نقطة. على أنا نأخذ هاهنا على ما هو المشهور من أن النقطة أقدم بالذات من الخط، وكذلك الخط من السطح، والسطح من الجسم. وربما عرفناه بما هو أعرف عندنا؛ وليس أعرف على الإطلاق؛ كما قد نعرف الخط بأنه الذي طرفه نقطة. وإذا سلكنا هذا المسلك، لم نكن محددين بالحقيقة، بل راسمين، أو مستعملين وجها آخر من شرح الاسم، إن كان هاهنا شيء غير الحد الحقيقي وغير الرسم.
وإنما يكون الحد حقيقيا إذا كان مما هو أعرف عندنا وأعرف على الإطلاق. ويشبه أن يكون المتلقي بذهنه للتحديد أعلى رتبة، وأوفر دربة من المتلقى بذهنه للترسيم؛ ويكون المستعدون لتفهم الرسوم دون الحدود هم الذين دربتهم أقل، ومعرفتهم أقل، ومعرفتهم أندر.
ولو كان ما هو اعرف عندنا مبدأ للتحديد؛ أمكن أن يكون للشيء الواحد حدود كثيرة بحسب الأعرف عند كل حاد؛ فكان واحد يحد الإنسان بأنه: حيوان مستعد للفلاحة.
وربما كان الشيء أعرف في سن الشباب؛ ثم يصير غيره اعرف في سن الحنكة.
وموضع مناسب لهذا، وهو أن يكون الشيء المتحصل الذات؛ المستقر الماهية قد عرف بشيء غير متحصل الذات ولا محدودا، ولا مستقر الماهية؛ مثل من يعرف الصحة بأنها مقابلة المرض؛ والصحة متحددة، والمرض شيء في التغير وعدمي الذات. وكذلك من حد البصر بأنه: عدم العمى؛ والعمى عدم، وليس له ذات متحصلة.
ومواضع أخذ ما ليس باعرف ثلاثة: أحدهما أن يكون المأخوذ مساويا للمحدود أو المرسوم في الجهالة؛ كالضدين من المتقابلات، فإنه ليس أحدهما أعرف من الآخر، وليس تعريف أحدهما بالآخر أولى من تعريف الآخر به، مثل أنه ليس تعريف البياض والخير بان ذلك ليس بسواد وهذا ليس بشر، أعني الشر المقابل كالرذيلة، لا العدمي الذي يؤخذ في تحديده مقابله الذي هو الملكة، بأولى من أن يقال، بل السواد هو الذي ليس ببياض، والشر هو الذي ليس بخير.
وأما الملكة والعدم، والموجبة والسالبة، فتحديد الوجودي منهما مما يتم بنفسه، لأنه معقول بنفسه، وبفعله وانفعاله وخواصه. وأما العدمي والنافي السالب، فإنما يتم تعريفهما بالوجودي، فلا يمكن أن نتصور العمى إن لم نتصور أنه للبصر، فيقال إن العمى عدم البصر، لا كالبصر الذي تعرف حاله وطباعه، وإن لم تلتفت إلى انه عدم البتة في شخص.(2/115)
وأما المتضايفات فلابد أن يدخل أحدهما في حد الآخر، إذ كانت ماهيته مقولة بالقياس إلى الآخر؛ ولكن ينبغي أن يؤخذ بعضها في حدود بعض على الوجه الأوفق؛ وهذه لفظة التعليم الأول. ومعنى جملة ذلك القول أنه: لما كان كل واحد من المتضايفين ومقول الماهية بالقياس إلى الآخر، فلا بد من أن يؤخذ كل في حد الآخر؛ لكنه وإن كان ذلك كذلك، فغن الآخذ لأحدهما في حد الآخر أخذا جزافا بلا تدبير، يمكن أن يقال له إنه قد عرف الشيء بما ليس أعرف منه، بل هو مثله؛ فيجب أن تدبر في ذلك تدبيرا يوافق وترك هذا التدبير إلى إفهامنا.
فنقول: إن المتضايفين يكون لهما ذاتان فيهما الإضافتان، فإذا كان التعريف ساذجا، فقيل: ما الجار؟ فقيل: الذي له جار، لم ينتفع بذلك، وخصوصا إذا كانا كلاهما مجهولين. ولكن إذا أخذ أحدهما من حيث هو ذات، ومن حيث له مع الذات حال إن كان هو بها معدا للإضافة، فحينئذ يمكن أن يعرف به الآخر، فيقال مثلا: إن هذا المسمى جارا، فيؤخذ من حيث هو مسمى جارا؛ قم يقال: هو إنسان، فيؤخذ من حيث هو إنسان؛ ثم يقال: ساكن دار، فيؤخذ أيضاً مع الإنسان هذه الحال. ثم يقال: تلك الدار أحد حدودها هو بعينه حد دار إنسان آخر، هو الذي يسمى جار له، فتتبين به العلاقة، فيكون قد أخذ الجار من حيث الشيء مسمى به، ودل على الحال التي له، ودل على آخر، وانعقدت في النفس صورة الإضافة والمتضايفين، وعلما معا؛ فلم يؤخذ أحدهما في حد الآخر على أنه جزء حده، فإنك تجد جميع أجزاء هذا الحد مستمرا من غير أخذ المحدود من حيث هو مضايف فيهما، بل إن كان ولابد فمن حيث هو مسمى أو من حيث هو ذات بحال أخرى، ولو أنه أخذ في حده وجعل جزء حده لا على هذه الجهة لكان أعرف منه، ومعروفا قبله، وليس معروفا معه فهذا موضع من هذه المواضع.
وموضع آخر هو أن يكون الشيء قد أخذته في حد نفسه على سبيل التضمين من حيث لا تشعر به فيكون قد عرف الشيء بما ليس أعرف، كقولهم في حد الشمس: إن الشمس كوكب يطلع نهارا؛ ثم النهار حده أنه زمان حركة الشمس فوق الأرض فيكون كأنه قال: إن الشمس كوكب يطلع زمان كون الشمس فوق الأرض.
وموضع آخر أن تؤخذ الأمور المتساوية في الترتيب تحت جنس واحد بعضها في حد بعض. وهذا الموضع يدخل في تعريف الشيء بما ليس أعرف منه. ومثال هذا الموضع قول من قال: إن الفرد هو الذي يزيد على الزوج بواحد، فقوله هذا في تعريف الفرد ليس بأولى من أن يقال في تحديد الزوج: إن الزوج هو الذي يزيد على الفرد بواحد.
وموضع آخر يؤخذ فيه المحدود نفسه في حد نفسه، بسبب ما هو أخص منه؛ وتحته بأن يكون قد أخذ نوعه أو جزء نوعه في حده، كقوله: إن العدد الزوج هو المنقسم بنصفين، والنصفان من جملة الاثنين، والاثنان نوع في ظاهر الأمر من الزوج. وكذلك لو قيل: إن الزوج هم المنقسم بمتساويين، فإن التثنية، والاثنينية، تحت الزوج؛ وهذا على ظاهر المشهور. وأما في الحقيقة، فليست الزوجية فصلا للعدد، ولا جنسا لأنواعه. وقد علة هذا من مواضع أخرى، وعلم أن الزوجية من اللوازم الغير المقومة لأنواع العدد. لكن الاشتغال بتحقيق الأمثلة مع الوقوف على الغرض فضل.
ومثال آخر لهذا الموضع، أن الخير فضيلة؛ فيكون قد جمع هذا أن جعل الخير مذكورا في الفضيلة بالتضمين، وجعل الخير تحت الفضيلة.
ومن مواضع إغفال الواجب والعدول عنه، أن يكون الجنس قد اغفل وذكر الفصل، فقيل مثلا في حد الجسم: إنه ذو ثلاثة أبعاد، وأغفل الشيء الذي ذو الأبعاد الثلاثة. وقد علمت ما في ذلك، وعلمت أيضاً أن الماهية المشتركة يدل عليها الجنس.
ومن مواضعه أن يكون قد ترك بعض الفصول، فقيل مثلا: إن الكاتب هو الذي يحسن أن يخط، فإنه أيضاً الذي يحسن أن يقرأ. وإذا تركت القراءة في التحديد فقد ترك فصل غير مضمن فيما سلف، وهو محتاج إليه؛ وإن كان القول الأول ربما ساوى في العموم.
وموضع يقابل هذا، وهو أن يزيد شيئا، وإن كان مساويا، على انه فصل، وإنما يكون بالعرض؛ كقول القائل للطبيب إنه الذي يحدث الصحة والمرض، وإحداثه للمرض بالعرض.(2/116)
وموضع آخر أن يكون قد ذكر الجنس، ولكن البعيد، وأغفل القريب، فيكون اغفل الماهية؛ كما علمت فيما سلف: من ان وضع البعيد وحده إغفال وإهمال للماهية المشتركة. وإذا وضع الجنس القريب، فقد تضمن كل الأمور الذاتية التي من فوق، فيجب إما أن ترتب القريب، أو إن رتب البعيد أردف بجميع الفصول التي من فوق، إلى أن ينتهي إلى فصل جنسه القريب.
ويتلوها موضع من جهة الفصول، بأن يكون قد أغفلت أصلا، أو يكون قد ذكر ما ليس بفصل مكان الفصل. ومما يدخل في ذلك موضع من اعتبار المقاسمة؛ فإنه يجب لكل فصل أن يكون له في الجنس قسيم، إما محصل كما المفرق للبصر تحت اللون، أو غير محصل، كما الناطق وغير الناطق تحت الحيوان؛ فإن الغير الناطق فصل قسيم للناطق تحت الحيوان، فإذا كان لا يوجد لما أورد فصل قسيم، فليس ذلك بفصل. وما كان هكذا لم يحدث طبيعة أخص من الجنس، فلم يحدث نوعا. وكل فصل إذا قرن بالجنس أحدث لا محالة نوعا.
وموضع آخر في اعتبار الفصول، وهو أن يكون المورد على أنه فصل ليس يدل إلا على السبب المجرد، مثل قولهم: إن الخط طول بلا عرض، وذلك لأن هذا يوجب أن يكون الجنس مشاركا لنوعه؛ فإن الجنس كالطول إذا نظر إلى طبيعته، لم يكن له عرض، فإنه إذا نظر إلى طبيعة الطول، وكان له في حد طبيعته العرض، كان حينئذ العرض داخلا في طبيعته الطول، أو لازما له، فكان لا يكون طول إلا وله عرض، فاستحال أن يكون طول ما بلا عرض؛ فإذن طبيعة الجنس - مجردة أيضاً - طول بلا عرض، فتكون أيضاً طبيعة الجنس وطبيعة النوع الذي هو الخط - وهو الذي الذي هو طول بلا عرض - واحدة، اللهم إلا أن نعني بقوله: " بلا عرض " ، أمرا مقابلا للعرض، لا سلبا، وهذا الكلام يلزم أصحاب الصور إذا قالوا لزوما شديدا؛ فإنهم يضعون للطول لأنه جنس، طبيعة مفردة قائمة؛ فتلك الطبيعة بماذا تفارق النوع الذي هو الخط الذي لا عرض له بعد مشاركته إياه في انه طول بلا عرض؟ ونعني هاهنا بالطول مجرد امتداد في جهة واحدة من غير التفات إلى حال انقسامه في غير تلك الجهة، حتى إن مجرد هذا القول لا يمنعه انقسام ما سمى طولا في غير تلك الجهة، ولا يوجبه. فإنه لو كان معنى الطول انه امتداد غير منقسم في جهته، كان قولنا بلا عرض حشوا. فيجب أن يكون معنى الطول أعم من قولنا امتداد واحد لا ينقسم في غير تلك الجهة. ومعنى الامتداد حشو ما بين طرفين - أي طرفين كانا - فإن كان الرف منقسما، كان الامتداد منقسما في غير جهته، وإن لم يكن منقسما، لم يكن الامتداد منقسما من غير جهته. لكن لقائل ان يقول: إن هذا يلزم أيضاً أصحاب المثل، وذلك أنهم إذا قالوا: إن الخط طول بلا عرض، شارك الجنس النوع، وإن كان الجنس مفرقا ولكن موجودا في الجزئيات، إذ طبيعة الجنس موجودة لا محالة، إذا كانت طبيعة النوع موجودة. ثم النظر إلى الطول من حيث هو طول، هو غير النظر إليه من حيث هو خط أو غيره، فيكون حينئذ تلك الطبيعة لا تخلو إما أن تكون ذات عرض، أو لا تكون؛ فإن كانت ذات عرض أو لم تكن، عرض المحال الذي ألزمه أصحاب الصور. فنقول في جواب ذلك: إن تلك الطبيعة لا توجد واحدة حتى تكون غما ذات عرض أو لا عرض لها، بل منها في الوجود ماله عرض، ومنها عرض له. وأما إن أخذت الطبيعة من حيث هي تلك الطبيعة، كانت تلك الطبيعة فقط. وأما أنها بلا عرض، أو مع عرض، فهو أمر غير اعتبارها من حيث هي تلك الطبيعة؛ فإنها من حيث هي تلك الطبيعة لها معنى آخر غير تلك الطبيعة؛ وهذا أمر قد عرفته مرارا.
ثم لنأخذ هذه الطبيعة واحدة. ولا شك أنها إن وجدت واحدة، وجدت واحدة في التوهم؛ ومن حيث هي في التوهم واحدة، فهي بالقوة ذات عرض، وإن عدمت العرض، أعني بحسب الحمل والمطابقة لما خارج. وأما الخط، فهو الذي ليس في قوته ذلك، ولا توجد ذات واحدة هي طول - أخذته جنسيا أو خطيا - ذلك الطول يقارن العرض مرة، ولا يقارنه أخرى. فبذلك يفرق النوع من الجنس.(2/117)
وأما الطول الصوري، فهو - على قولهم - ذات واحدة قائمة مفارقة، ولا تصلح أن تجعل بالقوة مقارنة للفصل البتة؛ فإن الذي بالقوة سيخرج بالفعل، ولا يجوز أن يخرج العرض واللا عرض معا بالفعل، ولا أن يتعاقبا على الشيء الواحد، فيكون الطول مرة مقارنا لما لا عرض له، ومرة أخرى هو بعينه مقارن لما له عرض، فيكون الطول الجنسي غير موجود مفارقا البتة. بل إنما الموجود أحد النوعين، ولا يعمهما جميعا في وقت واحد؛ وهو واحد في ذاته على ما يضعونه.
ولكن لقائل أن يقول: إن كان ما أورد من العذر عذرا لمن لا يرى مذهب الصور، ليكون عذرا لمن عدل في أول الكلام واستقبح صنيعه، ثم انتقل عنه إلى أصحاب الصور؛ فنقول: إنه إذا كان السلب المورد سلبا عاما لما بالقوة ولما ليس بالقوة، فليس هو عذرا لأحد. فإن كان السلب سلبا للقوة والفعل جميعا، كان هناك شيء زائد على السلب المطلق، فيكون ذلك عذرا لمن سلب العرض عن الخط سلبا بهذه الصفة. وإنما كان الإنكار على من لم يزد على مجرد السلب فقط. وبالجملة فلابد من السلب في كل قسمة للجنس، ولكن يجب أن يكون سلبا مقابلا للفصل، فكما أن ذلك الذي هو إيجاب في الفصول هو إيجاب لازم في الطبع، فكذلك يجب أن يكون ما هو سلب منها سلبا لازما في الطبع. وجميع المعاني العدمية تحد بالسلب لا محالة.
ويعرض هاهنا شك، وهو أن المعنى العدمي يكون الفصل فيه سلبا مع قوة، فبماذا يفارق جنسه؟ فنقول: إن أجناس المعاني العدمية معان عدمية، كالسكون فإنه عدم الحركة فيما من شأنه أن يتحرك. لعدم الحركة كالجنس له، وهو بالقوة مقارن لفصلين: أحدهما القوة على الحركة، وإذا اقترن به كان سكونا؛ والآخر اللا قو عليها،وإذا اقترن به كان ثباتا ما غير السكون، وتكون القوة التي تقارنه في القسم الأول وتكون فصلا، ليست قوة منسوبة إلى ذلك العدم الذي هو كالجنس ويقوى على الفصلين، بل قوة هي في موضوع ذلك العدم. فإذا جرد عدم الحركة، كان بالقوة مقارنا لهذه القوة، وكانت هذه القوة غير قوية على مقارنتها بالقوة لطبيعة ذلك العدم، وكانت التي توجد لتلك الطبيعة بالفعل مطلقا، قوة على هذه القوة.
وموضع آخر من مواضع التخليط في الفصل، أن يكون قد وضع النوع مكان الفصل كما لو قيل في حد التعبير: إنه شتم مع استخفاف؛ فغن الاستخفاف نوع من الشتم، لا فصل للشتم؛ فإن الاستخفاف قول مؤذ للمخاطب يدل على قلة خطره، وهو نوع من الشتم، لأن الشتم قول مؤذ للمخاطب يدل على عيب فيه، وقلة الخطر نوع من العيب. وكثيرا ما يكون فصل النوع كنوع لفصل الجنس.
وموع آخر من ذلك مأخوذ من وضع الجنس مكان الفصل، وهو كما يقول قائل: إن الفضيلة ملكة محمودة، والمحمود جنس للفضيلة، لا فصل لها. وأما قياس المحمود إلى الملكة، فقد يجوز أن يظن أنه له على قياس الفصل، وإن كان قد يقال على غير الملكة، فإن من الفصول ما هو كذلك كالمنقسم بالمتساويين، فإنه قد يقع في غير جنس العدد؛ وهو مع ذلك فصل يقوم مع العدد الزوج، وإن كان الزوج بالحقيقة ليس نوعا للعدد، بل عارضا يوجد فيه. وذلك مما لا يختلف بحسبه هذا الحكم، فحكم الملكة والمحمود واحد في أن كل واحد منهما يؤخذ من غير الآخر، إذ ليس كل ملكة محمودا، ولا كل محمود ملكة. لكن الملكة ليس فصلا عند التحقيق للمحمود، وذلك مما لا يشك فيه، لأن المحمود ليس نوعا من المقولات العشرة، ولا واحدا منها، ولا يدل على ماهية شيء بشركة أو عموم حتى يكون جنسا، بل يدل في كل ما يلحقه ويعرض له على تمييز وتفريق تستفاد بهما الإنية. فإذن لا سبيل إلى أن نجعل الملكة فصلا والمحمود جنسا؛ وسبيل إلى أن نجعل الملكة جنا والمحمود فصلا.
وأما كون المحمود جنسا للفضيلة، فليؤخذ مساهلا فيه، وبحسب المشهور. وأما التحقيق، فقد علمته في الفن الثاني من هذه الصناعة، وحيث علمت في اعتبار الفصل، وهو حين أوصيت بأن تنظر كي لا يكون تمييزا ما وضع فصلا تمييزا مساويا لا يعم أي شيء اتفق مما يوصف. فغن الفصل يدل أي شيء من جهة ما يميز، وعلى أي شيء من جهة ما يعم، فلا يتناول واحدا بعينه، بل يتناول أي شيء كان مما يتميز به.(2/118)
ويشبه أن يكون المفهوم من أي شيء من جهة ما يعم مندرجا في أي شيء من جهة ما يميز. فإنه إذا سأل سائل فقال: أي شيء كذا من باب كذا، فكأنه سأل: أي شيء كان ليس أي شيء المعين. فغن لفظة " شيء " في قوله: " أي شيء " ، هو التنكير، والتنكير تعميم ما، فيكون سواء قرن بأي شيء لفظ عام فقيل: أي شيء الإنسان، أو قرن بذلك لفظ خاص شخصي، فقيل: أي شيء زيد، فإنك إن أجبت فقلت: أبو عبد الله ذلك المشار إليه، لم يكن الجواب جوابا، فإنه يقتضي أن نقول: شيء صفته كذا وكذا. وذلك أيضاً عام، حتى إذا سئل: أي شيء زيد؟ فقيل: ناطق، كان ذلك جوابا. فإن قال: كاتب، أو قاعد، أو سائر ما يتعين لم يكن جوابا أيضاً، لأنه طلب عن شيئيته وماهيته. وأما كونه كاتبا فعارض له لو لم يكن لكان أيضاً زيدا؛ وزيد يكون زيدا، كان كاتبا أو لم يكن، وتكون شيئيته المطلوبة ثابتة مجعولة عندما لا يكون كاتبا. فأما إن أجاب بأمر لازم كانت القناعة به أو كد، لغلط السامع، وظنه اللازم مقوما. وأما إذا قال: أيهما زيد، فقيل: أو عبد الله، أقنع بذلك، لأن الأي قرن بإشارة. فإذن الأي إذا قرن بأمر عام، لك يحسن جوابه إلا عاما؛ وإن كان مقرونا بإشارة، حسُن جوابه بإشارة.
وموضع آخر أن ننظر كي لا يكون الفصل من العرضيات التي توجد للشيء، ولا توجد إما بحسب رفع الوجود، وإما بحسب رفع التوهم.
وموضع آخر أن ننظر كي لا يكون الفصل مجمولا على الجنس، فإن هذا يبطل أن يكون المجعول فصلا، فصلا.
وموضع آخر أن يكون الجنس محمولا على الفصل؛ وقد علمت ما في ذلك من المحال، سواء كان الفصل منطقيا أو غير منطقي، لا كما ظ بعضهم أن هذا الموضع إنما هو في اعتبار الجنس والفصل الذي يسمونه بسيطا، مثل الحيوان والنطق، وأن هذا هو الذي لا يجوز أن يقال الجنس فيه على الفصل. وأما إذا كان كالناطق، فإن الحيوان يقال عليه. ومما يبطل هذا الظن، ويحقق أنه غير المذهوب إليه، هو مثال التعليم الأول، إذ قال: إنه لو كان الجنس يحمل على الفصل، ثم الفصل يحمل على النوع، لكان حيوان غير حيوان الجنس يحمل على النوع، بل حيوانات كثيرة أحدها طبيعة الجنس، والآخر الحيوان الذي هو كل فصل. فإنه إذا كان المشاء ذو الرجلين والناطق حيوانا، وهي محمولات على النوع، كانت حيوانات كثيرة محمولة على الإنسان، كالمشاء وذي الرجلين والناطق، مرارا أخرى، بعد حمل الجنس. ولو كان المراد هو الفصل البسيط، لما حسن هذا التشنيع؛ فإن المشي والنطق لو كانت حيوانات أيضاً، لم يعرض هذا المحال، فإنها ليست هي محمولة على الإنسان، فكيف يلزم هذا المحال. ويبين من ذلك محال آخر أوجبه، وهو أنه كان يكون حينئذ كل فصل نوعا؛ فهذا يدل على أن التشنيع ليس من جهة ما يقولون.
وموضع آخر أن لا يكون النوع أو ما تحته يحمل على الفصل، فيكون مقولا على كله، حتى تكون طبيعة الفصل تقتضي أن يقال على كله النوع، أو ما تحت النوع، فغن الواجب أن يكون الفصل مقولا على الوجه الذي علمت على اكثر من النوع. ولو كان النوع مقولا على الفصل، ثم هناك جنس عام، لكان الجنس يقال عليه، إذ نوعه يقال عليه، فكان النوع يفصل من طبية الفصل عن سائر ما يشاركه في طبيعة الجنس، فكان النوع يصير فصلا.
وموضع آخر مأخوذ من اعتبار الجنس والفصل في التقدم والتأخر في الوجود فغن الجنس أقدم في الوجود في اكثر المواضع من الفصل، إذ الفصل في الوجود لا يوجد إلا فيه، وفي بعضه، وقد يوجد الجنس مفارقا له. وقد يظن في بعض المواضع أن الفصل قد يوجد في خارج الجنس، كما قد أشرنا إليه مرارا. لكنه وإن كان كذلك، فلا يكون اقدم من الجن في الوجود حتى إن الجنس لا يوجد مفارقا له، وهو يفارق الجنس، بل عن جاز مفارقته للجنس، جاز مفارقة الجنس له. فغن كان شيء من الأشياء اقدم في الوجود من الجنس، فليس بفصل له، وإن كان الفصل أبدا قبل النوع. وليكن الفصل بالقياس إلى ما يشارك النوع من الأنواع هو أبدا بعد الجنس؛ فإن وإن وقع في بعض الوات خارجا عن الجنس، فإنه إذا قيس إلى أنواع الجنس الذي هو فصل لأحدهما، كان الجنس فيها أقدم منه. فكان هو بعد الجنس.
وموضع آخر أنه إن كان الفصل فصلا لجنس مباين، فليس هو فصلا بالحقيقة في الجنس الذي وضع فيه، وقد عرفت حال المباين أنه كيف يكون، وهو أن لا يكون فوقه، ولا تحته، ولا معه.(2/119)
وموضع آخر أنه إن كان الموضوع فصلا إنما وضع فصلا لجوهر، والفصل في نفسه عرض، فليس إعطاء الفصل جيدا؛ فغن فصول الجواهر ينبغي أن تكون جواهر، وأن الجوهر لا يخالف جوهرا بعرض إلا مخالفة عرضية، فلا يصير جوهر ما نوعا مخالفا لنوع آخر جوهري بان يكون مشاركا لذلك النوع في كل شيء مثلا، إلا في أينه، حتى يكون كونه في أين دون أين، يجعله نوعا دون نوع. وكذلك في عارض آخر. وهذا فقد تحققته فيما سلف. وقد صرح في هذا الموضع أن فصول الجواهر لا يجوز أن تكون مما توجد في موضوع، فبطل قول من يظن أنها تكون بالقياس إلى شيء موجودا في موضوع، وبالقياس إلى النوع لا تكون في موضوع.
قال: وأما إذا قلنا إن من الحيوان بريا ومائيا، فلسنا ندل على أينها، بل ندل على القوة التي بها ينفصل بعضها عن بعض في أصل الجوهر التي تلك القوة تقتضي لها أحوالا، فتقتضي في بعضها أن يعيش في البر، وفي بعضها أن يعيش في البحر. على أن هذه فصول بحسب الشهرة، لا بحسب الضرورة. ولا مضايقة في الأمثلة.
وموضع آخر أن تجعل الفصل للشيء انفعالا له، أي استحالة خارجة عن مقتضى طبيعته؛ فإن ما جرى هذا المجرى يوجب تزيده إفساد الجوهر. ولا شيء من الفصول كذلك مثل الماء: فإنه إذا سخن جدا تأدى به إلى بطلان جوهره، وعداه إلى صيرورته نارا.وبالجملة، وإن كان انفعال عرضي أيضاً لا يفسد الجوهر، فليس ذلك الانفعال بصالح أن يكون فصلا. فكيف ما نحن في ذكره؛ فإن الأشياء تستحيل بإستحالاتها، ولا تستحيل بفصولها، بل تُقّوم بفصولها، وتثبت حقائقها محفوظة بفصولها. والاستحالات خروج عن أحوال الإثبات على الجواهر.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في مواضع مثل التي مرت
وموضع آخر خاص بالمضاف، وهو أن الأمور التي هي مضافة، فغن فصولها يجب أن تكون مضافة. بل نقول: أما المضاف البسيط الذي عرفت حاله، فربما توهم من حاله أن فصله قد يكون أمرا غير مضاف؛ مثل نفس المشابهة فإنها إضافة في كيفية؛ والمساواة فإنها إضافة في كمية، ونسبة إلى كمية؛ والأبوة فهي إضافة في الجوهر، ونسبة أيضاً إلى جوهر. فهذا يوهم أن الفصول فيها غير مضافة، لأن الفصول فيها على ظاهر الحال كيفية وكمية وجوهر. وإذا كان هذا في المضاف البسيط، فكيف في المضاف الذي هو بالمعنى الآخر الذي عرفته وعرفت الفرق فيه.
لكن يجب أن تعلم أن الفصل غير جزء الفصل، وأن الفصل هو الذي يحمل على الشيء على ما علمت، وليس تحمل الكيفية على نوع من أنواع المشابهة، ولا الكمية على نوع من أنواع المساواة، ولا الجوهر على الأبوة؛ لكن هذه أجزاء فصول. بل المشابهة هي موافقة في الكيفية، فالفصل ليس هو الكيفية، بل الفصل هو قولك في الكيفية؛ وقولك في الكيفية معنى مقول الماهية بالقياس إلى الكيفية. وهذا من الواجب إذا كانت الإضافة مقولة على حدّه.
وقد علمت أن نوع مقولة ما لا يكون مقولا على نوع مقولة أخرى قولا مقوما، وأن الشيء لا يدخل بذاته في مقولتين فيقالان عليه قول التواطؤ البتة. قد سلف لك ذلك وصح فكيف يكون شيء ليس من باب المضاف مقولا على نوع من المضاف، ويعطيه اسمه وحده. وإذا لم يكن مقولا، كيف فصلا؟ لكن طبيعة المضاف البسيط يعرض لأمور أخرى، فتكون تلك الأمور هي مخصصاته، فتكون النسبة التي لها إلى تلك الأمور هي فصوله، ومع ذلك لا يكون لها ماهية غير ما هي به مضاف إلا الكون الذي هو شرط في تحقيق مقولة الماف - على ما علمت - ؛ فإن الكون شيئا ما مقولا بالقياس إلى الكيفية الذي هو فصل المشابهة، ليس له وجود آخر غير هذا الذي بالقياس، ليس كالأب الذي له وجود أنه إنسان. وليس إذا كان للكيفية وجود غير الوجود الذي هو به مضاف إلى موافقته التي هي فصل المشابهة، فيجب أن ينعكس في الطرف الآخر، لأن حقيقة علاقة الموافقة للمشابهة هي مع الموافقة التي في الكيفية لا إلى ذات الكيفية بما هي كيفية، وذلك المعنى قائم في الكيفية؛ وكونه قائما في الكيفية معنى لا تتخصص عرضيته، لا كونه مضافا.(2/120)
وقد سلف لك ان هذا النحو من الوجود الخاص غير معتبر في قولنا: إن المضاف الحقيق لا وجود له غير ما هو به مضاف. فإنا إنما نشير بهذا إلى وجود محصل لماهيته، ليس وجودا محصلا لعرضيته، فذلك مما لابد منه. وبالحرى أن تكون هذه الإضافة ليس شيئا آخر هو بالقياس. لكن الغرض في قولنا: بالقياس، إنما هو متجه إلى معنى أعم من المضاف، وهو كونه موجودا، أو ذا ماهية، فيكون ذلك الأعم هو الذي بالقياس. وأما جملة الإضافة فهي نفس القياس الذي بهذه الصفة.
وإذا كان الأمر قد ظهر لك في المضاف البسيط؛ فكذلك يجب أن تعلم أن فصول المضاف الذي بالمعنى الأعم لا تنفك عن إضافة. والمأخذ في بيان ذلك مناسب لهذا المأخذ بعينه. واستغن في ذلك بما سلف لك من الأصول.
مثال آخر لهذا الباب: أن العلم منه نظري ومنه عملي، فكما أن العلم شيء ذو إضافة، كذلك النظري والعملي. وأما النحو فليس هو فصلا للعلم بل نوعا؛ وقد عرفت ما في ذلك. فإذا أحببت أن تحد النحو لم تجد بدا من إضافته إلى شيء؛ فنقول: هو علم لما يعرض للغة من جهة كذا وكذا، وفصله إضافي لا محالة. وليس إذا كانت تلك الإضافة هي بعينها الإضافة التي كانت للجنس يجب من ذلك أن لا يكون الفصل مضافا. فإنه فرق بين أن تقول: إن الفصل مضاف، وبين أن تقول: إنه مضاف إضافة خاصة. على أن إضافة الجنس في أمثال هذه المواضع قد تخصصت، فإن العلم كانت إضافته إلى الموجود مثلا، والنحو إضافته إلى أمر خاص من الموجودات، وهو اللغة مثلا. وهذا ما يجب أن تعرفه في أمر هذا الموضع.
وموضع آخر أنه قد يكون لبعض المضافات بالمعنى العام إضافتان إلى شيئين، فربما كان إحداهما بالحقيقة، والأخرى بنحو من العرض. فإذا لم تكن الإضافة واقعة إلى الشيء الذي ينبغي أن يكون إليه من الجهة التي ينبغي، لم يكن التحديد جيدا. وكذلك إذا كان للشيء إضافة ما، فأراد حاد أن يحده من جهة تلك الإضافة، فحده ن جهة الذات؛ أو أراد أن يحده من جهة الذات، فحده من جهة الإضافة، فقد أبطل. مثال الأول: أن أحدا لو أراد أن يحد البصر الذي له إضافة إلى المبصر وإلى المبصر، لكنه إنما هو بصر لأنه يبصر به شيء ما، فلا يمكن أن نتوهم البصر بصرا إلا وهو الذي نتمكن به من تحقيق المبصر بالنظر. ولا يبعد أن نتوهم بصرا مفردا ليس لشيء آخر، فهو يبصر لنفسه لا على أنه آلة لغيره، فيكون تعلقه بالمبصر أمرا في هويته، وتعلقه بمبصر هو آلته أمرا لازما. فيجب أيضاً أن نراعى أن يقع التحديد من جهة إضافة الحقيقية، وإن كانت الإضافة إضافة حقيقية تقتضي الطريفين جميعا على السواء فيجب أن يشتمل الحد عليهما جميعا حتى انه لو كان المبصر لا يتوهم بصرا إلا وهو بصر لمبصر على سبيل الآلة، وجب أن يؤخذ في الحد كلاهما، فنقول: آلة بها يبصر الحيوان الألوان بالنظر.
وأما المثال لما يقع الغلط فيه من جهة الذات والإضافة أن إنسانا لو أراد أن يحد الإجانة، فأخذ إضافة تعرض لها، فقال: إنها آلة يكال بها الماء، كان قد بعُد؛ فإن الإجانة، وإن كانت من حيث هي آلة صناعية لها إضافة ما، فليست إلى الماء لا محالة دون غيره. أو أراد أن يحد المكيال، من حيث هو مكيال، فقال: إن المكيال جسم مجوف، ووقف على ذلك، فما دل على كونه مكيالا، بل على كونه جسما ما صناعيا.
وموضع آخر أن يكون قد وقع في الجناس والفصول الغلط من جهة أخذ ما ليس بأول بدلا عن الأول. مثلا إذا حد حاد الفهم فقال: إنه ملكة للإنسان أو للنفس استعدادية نحو سرعة إدراك ما يرد عليه أو عليها، وعلم أن الفهم هو أولا ملكة لجزء ما للنفس أو قوة ما للنفس، وهي القوة الفكرية، وبعد ذلك للنفس ثانيا، وبعد ذلك للإنسان؛ فلم يحسن إذن من حد هذا الحد.
وموضع آخر أن يحد شيئا ما؛ ويورد جنسه أو فصله من جهة حال وصفه له على انه في شيء ما، ثم لا يكون الحال في ذلك الشيء، فلا يكون أتى بالواجب، بل يجب أن ينسب الحال إلى محلها، كما يجب أن ينسب العلم إلى النفس.
فأما إن قال، إن النوم ضعف الحس، وضعف الحس موضوعه الحس؛ فإن الموصوف بالضعف هاهنا هو الحس؛ فإن كان النوم ضعف الحس فسيكون النائم هو الحس، لأن الضعف هو الحس، لأن الحاد أضاف إليه الضعف.
وكذا قولهم: إن الشك تساوي الأفكار؛ وتساوي الأفكار في الأفكار، فيكون الشك في الأفكار، فتكون هي الشاكة لا القوة المفكرة.(2/121)
وكذلك الخطأ في قول من يقول: إن الصحة اعتدال الأخلاط، فإذن سيكون الصحيح هو الخلط. وبالجملة الاعتدال سبب الصحة لا الصحة؛ وضعف الحس سبب النوم، لا النوم. وكذلك تفرق الاتصال سبب للوجع ليس الوجع؛ وتساوي الأفكار سبب للشك، لا الشك.
وموضع آخر، وهو ان يراعى حال زمان المحدود وزمان الحد، هل يختلفان؟ وهل في الحد لفظ ينافي مقتضى المحدود. مثاله لو أن قائلا قال في تحديد شيء غير مائت إنه الذي هو غير مائت الآن، وكان المحدود هو الذي لا يموت البتة، فلم يكن طابق بين الحد والمحدود. لكنه قد يعنى بإدخال لفظة " الآن " هاهنا معاني أحرى أيضاً.
ولنجعل مثاله في غير الفاسد، فإن الذي يقال إنه غير فاسد الآن؛ يعني أنه لم يفسد الآن، وكان يمكن ولا يستحيل لو فسد فيه. ويقال أيضاً: إنه غير فاسد الآن إذا كان من شأنه أن يفسد، ولكن لا يمكن أن يفسد في هذه الساعة، فإن كثيرا من الأشياء الممكنة أن يكون أن يعرض لها في بعض الأوقات أن لا يمكن أن يكون فيها، إذا كانت أسباب مانعة أو حافظة، أو كانت الأسباب الفاعلة لذلك الكون معدومة. ويقال إنه غير فاسد بمعنى ثالث: أنه موصوف الآن بأنه في طبعه غير فاسد البتة. فهذا المعنى، وإن كان قد يصح أن يقال على غير المائت الذي هو المحدود فإن إدخال " الآن " فيه حشو. فغن الشيء بتلك الصفة قبل ذلك الآن وبعده، فليس " الآن " شرطا في صحة القول، فلا فائدة في إدخاله له.
وأيضاً فإنه قد كان يجوز أن يفرض شيء، لو وجد لكان غير مائت، كملك متوهم، أو جرم سماوي آخر، لو كان. ولو فرضنا هذا الفرض، لكان يوجب أن نجعله غير مائت ولا يوجب أن يجعله الفرض موجودا الآن أو قبله. فبيّن إذن أن أمثال هذه الزيادات تجعل للحدود مفهومات غير المفهومات التي تقتضيها المحدودات، والتي تحاذيها الأسماء.
وقد مضى في مواضع أخر أمر الزمان واختلافه، وما يعتبر في ذلك. وكل ذلك فقد يحسن إدخاله في اعتبار الحدود، لأنها تدل على اعتبارات تدخل في الوجود، أعني وجود الحد الممى. فما منع الوجود منع ذلك، ولا ينعكس. وبالجملة فغن المواضع التي في العرض نافعة في اعتبار هل معنى الحد موجود للمسمى.
وموضع آخر أن يكون قول آخر غير ذلك الحد يجعل الشيء أكثر في المعنى وأحق به؛ فلن يكون القول المدعى انه حد حدا، مثل من يقول في حد العدالة: إنها قوة على قسمة الأمور بالسوية. ثم من البين أن إيثار فعل القسمة بالواجب المقوى عليه، والميل إليه، لا محالة عدل، وليس درجتهما بالسواء، وبينهما تفاوت. فهذا الإيثار أكثر في العدلية، فإنه إن لم يكن هذا أكثر، وليسا سواء فالقدرة على هذه القسمة إذن أكثر في العدلية. فيكون من يقدر ولا يؤثر، أعدل من الذي يؤثر أن يفعل ما يقدر عليه. وإذ هذا محال، فبيّن أن الحد الذي يجعل المحدود أنقص حالا في معناه الذي هو العدالة في هذا الموضع ليس بجيد ولا مختار.
ويلي هذه المواضع مواضع تتعلق بالأكثر والأقل، بأن يكون الحد يقبل، والمحدود لا يقبل، وبالعكس؛ أو كلاهما يقبلان، ولكن لا يذهبان في القلة والكثرة معا، كمن حد العشق بأنه شهوة الجماع؛ وإذا اشتد العشق نقصت شهوة الجماع.
وموضع آخر مجانس لهذا، ولكنه يخالفه بأدنى شيء، وهو أن يكون ما يقال عليه الحد أكثر يقال عليه الاسم أقل، وبالعكس؛ فيكون إن ازداد ذلك نقص هذا، وإن نقص ذاك ازداد هذا. كمن يقول: إن النار ألطف الأجسام كلها، واللهيب من الوقود أكنف من نار البرق، ونار الحباحب. ثم اللهيب اولى بالنارية من نار البرق أو من الشعاع على مذهب من يراه جسما ناريا. والفرق بين هذا الموضع والأول، أن هناك شهوة الجماع لا تقال على شيء من العشق، وأما هاهنا فغن ألطف الأجرام قد يقال على بع ما هو نار، فتكون النيران كلها قد يقال لها لطيفة، لكنها لا يكون كونها ألطف موازيا لكونها نارا؛ لا بل الذي هو أقل نارية أشد لطافة، وإن كان جملة النار ألطف سائر الأجسام. فلهذا ما ليس المعنى أمرا تتجوهر به النار ويدل على حدها. وأما في الموضع الذي قبله فغن حمل الحد على طبية المحدود كان كاذبا بالجملة. وهاهنا أيضاً فروق أخرى ليس في ذكرا وتعديدها كثير جدوى.
وموضع آخر أن تكون مثلا النارية في اللهيب وفي الضوء بالسوية، ثم لا تكون اللطافة فيهما بالسوية.
الفصل الرابع فصل (د) في مثل ذلك(2/122)
وموضع آخر أن يدخل الحاد في حد الشيء أمرين لا يجتمعان معا في الحدود، مثل أن يقول قائل؛ إن الحسن هو اللذيذ عند السمع، واللذيذ عند البصر، والموجود هو الذي يمكن أن يفعل وأن ينفعل. فحينئذ اللذيذ عند السمع وحده لا يكون حسنا؛ ولأن هذا حد الحسن المنعكس عليه، فيكون كل حسن مما لا يشك فيه فهو لذيذ عند السمع وعند البصر معا. لكن اللذيذ عند البصر وَحْدَه حسن، فهو حسن لا حسن. وكذلك اللذيذ عند السمع وحده. وبالجملة إن كان أحد القسمين من هذين إذا حصل أصاب وحده، فالقسم الآخر خارج عن الحد. وإن كان الشرط أن يضاف إليه القسم الثاني، فالواحد وحده ليس بحسن، ولا هو أيضا في المثال الآخر بموجود، مثل الآلة التي لا تنفعل البتة، والهيولى التي لا تفعل ألبتة، ولكنهما موجودان.
وهذا موضوع نافع، فإن كثير من الناس يحد من طريق القسمة والتشجير، وهو لا يشعر أن ذلك ليس بحد. ولا أمنع من أن يكون أيضا معاونة في الدلالة على المعنى المطلوب، بل نقول: إن دلالته دلالة العلامة، كأن المستعين بذلك يقول: إن مرادي فيما أقول هو الشيء الذي منه كذا ومنه كذا. والشيء الذي لا يخلو من كذا ومن كذا فيعرفه بأمور خارجة عنه، هي الفصول التي تلحقه والقسمة التي تناله، ويكون ذلك كالخاصة له، وهو بيان ضعيف، فإنه لو كان يدل على الشيء بعلامة تشمله ولا تُعَرفّ جوهرة، لكان بعيدا عن أن يكون تعريفا حقيقيا، فكيف هذا العريف الذي إنما يعرف الشيء بعارض لا يعمه.
ويعد هذا الموضوع موضوع كلي جدا يعم مواضيع قيلت، وهو أن يكون المدلول عليه بالاسم غير موافق بوجه ما للمدلول عليه بالحد؛ فحينئذ لا يكون الحد حدا، مثل أن يكون المدلول عليه بالاسم مضافا لنفسه كالعلم، أو لجنسه كالنحو، ثم لا يكون المدلول عليه بالحد كذلك.
ومثال الغلط في ذلك أن تحد العلم فتقول: إنه ظن لا يختلف، والظن مما يقال على العلم. ولننزل أن العلم ظن ومضاف إلى المعلوم. فقد أساء هذا الحد من الفلاسفة من جهة أنه أتى بمضاف، وأغفل مقابله في الإضافة. ولا أقل من أن يكون كان قال: إن العلم ظن بالمعلوم، أو المظنون، أو بشئ كذا لا يختلف. وكذلك قول من قال: إن الإرادة شوق لا أذى معه. فلا أقل من أن يقول: شوق إلى غرض هو خيرا، أو يرى خيرا. وكذلك إذا حد حاد صناعة الكتابة فلم يقل: إنها علم بماذا، فلم يقل مثلا أمها علم بالتسطير.
ومن هذا الباب أن يكون قد أومأ إلى الإضافة، لكنه لم يومئ إلى الشيء الذي هو الغاية، والذي إليه الإضافة بالذات والى غيره لأجله. كمن الشهوة بأنها شوق إلى اللذيذ، ولم يقل إلى اللذة: وكان يجب أن يقول إلى اللذة، فإن اللذة هي الأصل، والغاية، ولأجلها يطلب اللذيذ.
وموضع آخر أن يجعل بدل الغاية التي ينبغي أن يؤخذ في الحد المصير أليها، والاتجاه نحوها. كمن قال: إن صناعة البناء هي ملكة تحرك الأجزاء إلى الاجتماع كالطين واللبن، ولا يقول أنها ملكة لأن يوجد بالفعل، فإنها ليست لأجل حركات أن يبنى، بل لأن يكون البناء يحصل، ويفرغ من معنى أن يبنى. وقد يعاند هذا بأنا نطلب اللذة لأن نلتذ، لا لأن ينقطع الالتذاذ؛ لكن الحقيقة في هذا أن الغايات منها ما هي أمور مستقرة كحصول العلم، ومنها أمور وجودها أن تتكرر فقط، فما كان وجوده أن يكون في التكون، كالرقص وما أشبه ذلك،فإن يكون غاية على نحو وجوده؛ وما كان وجوده هو أن يستقر، فإنما تكون الغاية حاصلة، إذا تم وأستقر. وإنما يعنف الحاد إذا جعل التوجيه إلى الغاية غاية. وأما الالتذاذ فليس توجها إلى غاية، بل هي نفس الغاية؛ ولا إليها توجه أيضا بأن تكون استحالة ما متصلة نهايتها الالتذاذ، وليست بالتذاذ. والتوجه كطلب ما؛ والطلب ليس مقصودا بنفسه. وبالجملة إذا لم يكن الأمر الغير المستقر يطلب للمستقر، بل كان كحركة الفلك، أمكن أن يكون بوجه من الوجوه غاية بنفسه.(2/123)
وبعد هذا موضوع يشتمل على مواضيع كثيرة بالقوة، وهو أن يكون للمعنى المحدود تقدير بقومه، أو كيف، أو أين؛ ثم يغفله مثل أن يجد محب الكرامة أو الفاجر بأن ذلك هو الذي يشتهي أن يكرم، وهذا هو الذي يشتهى اللذة. وليس أحد من الناس إلا وهو يشتهى الكرامة، أو يشتهى اللذة. وإنما يكون محب الكرامة مخصوصا من بينهم، لأنه محب الكرامة لحد ما، ولمبلغ من شهوته للكرامة. وكذلك حال الفاجر في شهوته للذة. وكذلك حال من حد الليل فقال: إنه ظل الأرض، ولم يقل أين ومتى، وماذا وبأي مبلغ. أو قال: إن الغيم تكاثف هواء، ولم يبين أي أحد. أو قال: الريح حركة هواء، ولم يقل بأي مبلغ. أو قال: الزلزلة حركة جرم الأرض، ولم يبين كم وكيف. وهذا يعود بالجملة إلى إغفال فصل من حقه أن يدل عليه، حتى يكون الفصل فصلا. وقد قيل في هذا المكان في التعليم الأول، لأنه إذا أغفل فصلا من هذه الفصول لم يصف ماهية ذلك الشيء. وهذا دليل على أن المذهب الحق هو أن ماهية الشيء إنما تتم بكمال صفات ذاته، وأن الجنس وحده لا يدل على ماهية نوع واحد وحده.
ومن الأمثلة لهذه المواضع أن تحد الإرادة بأنها انبعاث شوقي نحو الخير، ولا يقال نحو الخير في الظاهر، فإنه قد يراد ما ليس خيرا حقيقيا. وهذا المثال يخالف المثال الأول فإن هذه الزيادة تجعل الشيء أعم، وكانت الزيادة في المثال الذي قبل هذا المثال تجعل الشيء أخص، فإن الخير في الظاهر أعم من الخير، إذا عنى الخير بالحقيقة. وهذا المثال لا يستقيم على مذهب أصحاب الصور، فإن الصورة الحقيقية إنما تكون عندهم لما يكون في نفسه حقا. وأما الشيء الذي بحسب الظاهر فلا توجد له الصورة، فكيف يمكن إذن أن يحد على هذا النحو الذي لابد من أن تحد بعض الأشياء على نحوه. وكما أن العموم من حقه أن يراعى بإزاء العموم، فكذلك الخصوص من حقه أن يراعى بإزاء الخصوص، فإن حددت شيئا نوعيا فهنالك ليس يلزم أن يكون الطاهر مأخوذا فيه، بل يجوز أن يكون المأخوذ فيه هو الحقيقي، فإن الظاهر يجعل المعنى أعم، والحقيقي يجعله أخص، فيجوز أن يكون ترك هذه الزيادة التي توجب زيادة عموم تخصيصا؛ مثل أن الشهوة المطلقة يجوز أن تكون للذيذ المطلق العام الحقيقي الذي هو في الحقيقة، والذي هو في الظاهر كذلك. والإرادة المطلقة نسبتها للخير المطلق نسبة العام الحقيقي والظاهر. وأما هذا النوع المعين من الإرادة نفسه، أو هذه الشهوة نفسها، فليس يجب أن يكون لا محالة للظاهر.
وموضع آخر، وهو أن تقاس حدود الملكات والحالات، وبالجملة حدود الصفات كاللذة مثلا، فقد حد بالقوة أشياء كثيرة مثل الموصوف بها، ومثل فاعلها، أعني قد يكون حد الملتذ واللذيذ جميعا. ومن حد العلم، فإنه يكون قد حدد بالقوة العالم والمتعلم والمعلوم وغير ذلك. فإن كان ذلك لا يستمر، فقد أخطأ. ومثله إن حد حاد اللذة بأنها نفع حسي، وكان لا يسلم أن الملتذ منتفع، فلم يحسن. وكذلك إن حد اللذيذ بأنه نافع حسي، ثم لم تكن اللذة نفعا، فلم يحسن. ولكن هذا العكس ليس ضروريا، وقد سلف لك القول في مثله.
ومن جنس هذا الموضع أن ننظر في المتقابلات وفي النظائر، مثلا في المحدودات المضافية؛ فإنه إذا كان للجنس مضايف جنسي، فهل للنوع مضايف نوعي، كمضايف الجنس فإنه إن كان الاعتقاد الكلى بحسب معتقد كلى، فاعتقاد ما بحسب معتقد ما؛ فإن لم يكن فقد غلط.
وأيضاً فإن اعتبار وجود ضد الحد حدا للضد موضع جدلي؛ وقد قيل فيه ما سلف لك. وأما المتقابلات بالعدم والملكة، فالعدم يحد بالملكة، ولا ينعكس. وقد عرفت هذا، وعرفت أنه لو انعكس لكان قد أخذت الملكة في حد نفسها، إذا أخذت في حد عدم يوجد في حده الملكة. وكذلك السلب والإيجاب.
وموضع يجب أن يراعى في حدود الأعدام التي إنما هي بحسب قائل وزمان ووقت - على ما عرفت - هل حدد ذلك في القول، فلم يقل مثلا إن العمى عدم البصر فقط، بل ذكر مع ذلك أنه فيما شأنه أن يبصر، وفي الوقت الذي فيه يبصر، وفي عضو مخصوص. وكذلك لم يقل إن الجهل هو عدم العلم وسكت، فإنه ليس الجهل أي عدم علم اتفق، بل المقابل. وننظر أيضاً في التصاريف التي بين المصادر، والأسماء والأفعال على ما علمت مرارا.(2/124)
ومن المواضع التي يجب أن تعتبر أن ننظر هل المحدود يطابقه الحد ويصدق عليه؛ وهذا الموضع كالمكرر؛ مثاله: إذا قيل إن الإنسان حيوان ناطق مائت، ثم كانت الصورة المثالية الأفلاطونية إنسانا، ولم يكن مائت. وكذلك إن كان في بعض الحدود شرط فعل أو انفعال، فإن ذلك الحد لا يطابق ذلك المثال الأفلاطوني، فإن ذلك لا يفعل ولا ينفعل.
وموضع نافع وهو أنه ربما كان اسم المحدود واقعا على أشياء كثيرة باشتراك الاسم، ثم يحد بحد، فيكون ذلك الحد أيضاً يطابق تلك الأشياء الكثيرة لاشتراك اسم فيه أيضاً، فيظن أن القول حد، ويسلم ذلك الحد بأنه صادق على جميع ما يسمى بذلك الاسم، ويخفى حال الاتفاق، ويظن تواطئا. ومثال هذا أن يحد إنسان النور على أنه مقول على الهدى وعلى الشعاع، فيقول هذا المعنى الذي به يصاب حقيقة الشيء الخفي، فيظن أن هذا حد، لأنه يصدق على كل واحد مما يسمى نورا. والخفي يقال باشتراك الاسم على الشيء المظلم، وعلى المشهور بشيء آخر، وعلى المجهول.
وكما حدت الحياة على أنها عامة للحيوان والنبات، فقيل: بأنها حركة موضوع مغتذ ينبعث عن غريزته. فلما صدق هذا على الحيوان والنبات ظن أنه حد. وهذا الموضع قد سلف لك الكلام فيه.
وأقول: إنه ربما اتفق أن كان المفروض حدا ليس فيه اشتراك اسم، وهو عام للأمرين جميعا، إلا انه ليس حدا لهما، لأن الاسم لا يدل في كل واحد منهما على معنى ذلك بعينه دلالة يكون الاسم غنما وضع فيهما جميعا بحسبهما. مثاله أنه إذا قيل للحيوان: إن له حياة، لم نعن به أنه له قوة حركة تغذية، فإنه وغن كانت له هذه القوة فليس إنما يسمى حيوانا من جهة هذه القوة، بل من جهة أنه جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة. وأما النبات فإن سمى حيا، فيشبه أن يسمى حيا من جهة هذه القوة، أو من جهة شيء يناسب هذه الجهة. فإذن إذا حد الحيوان والنبات بهذا الحد وصدق عليهما، لم يكن حدا بحسب الاسم في كل واحد، بل عساه أن يكون في أحدهما كذلك. وأما أن هذا المثال يخالف الأول، فلأن المثال الأول إنما قصد فيه أن يكون الحد نفسه ليس يدل على معنى واحد، مثل الخفي على الشيء المظلم والمستور بشيء آخر، وعلى المجهول، فإنه يقال باشتراك الاسم. فإذا حد بأنه الذي لم ينل بما من شأنه أن ينال به مع حضوره، كان الحد أيضاً مشتركا فيه. وأما هذا الآخر فإنما قصد فيه أن المعطى ليس حدا لكل واحد مما تحته.
وموضع آخر يختص بحدود الأمور المركبة، مثل الخط المتناهي، ومثل الإنسان العالم، وغير ذلك؛ فإنه يجب أن يكون إذا أسقط ما أورد لخاصة أحد الأمرين أن يكون لا أقل من أن يبقى الباقي صادقا على الباقي، بل حدا أو رسما للباقي. مثلا إذا قيل: إن الإنسان العالم هو حيوان ناطق مائت نفسه متصورة لحقائق الأشياء، ثم أسقط تصور نفسه لحقائق الأشياء، بقى الباقي مقولا على الباقي صادقا، بل حدا له. وأما إذا أخذ الخط المتناهي المستقيم بأنه نهاية سطح له نهايتان، ووسطه يسبر نهايتيه، لم يوجد الحال فيه كذلك، فإن من هذه الجملة قوله: نهاية لسطح له نهايتان هو حد الخط المتناهي. فإذا سقط ذلك ينبغي أن يكون الباقي، وهو قوله: إن وسطه يسبر نهايتيه، حدا للمستقيم، فيكون المستقيم هو الذي وسطه يسبر نهايتيه. لكن الخط المستقيم الغير المتناهي لا نهايتين له، فلا وسط له. وهذا الباقي كاذب عليه، وهو تحت الخط المستقيم.
وموضع يناسب هذا الموضع، وهو أنه إذا حد شيء مركب فيجب أن يكون بحذاء كل بسيط لفظ يدل عليه، ويكون لا زيادة على ذلك، ولا نقصان، وأن لا يكون الاقتصار واقعا على ذكر اسمي البسيطين أو مرادفيهما كشأن المركب حيث ما يدعى تحديد المركب من الاسمين، فلا يقال في حد الإنسان العالم إنه إنسان عالم، أو أنه بشر متحقق، بل يجب إما أن يؤتى بدل كل اسم بقول، أو بدل الأخير، أو بدل الخفي؛ فيقال مثلا: إنسان متصور لحقائق الأمور في نفسه. وإذا بدل بعضها باسم وبعضها بقول، فلا أقل فيما يبدل اسمه أن يكون الاسم الثاني أعرف من الاسم الأول. وربما خالفوا هذا المنهاج فقال قائلهم: إن الحجر الأبيض هو الجندل الثلجي. وأيضاً ربما وقع التبديل بما يخالف الأصل كمن قال: إن العلم النظري هو ظن نظري.(2/125)
والأصوب إذا أريد أن يحفظ اسم، ويبدل اسم باسم أو بقول، أن يحفظ اسم ما يجري مجرى الجنس - وهو الأعم - وأن يبدل ما يجري مجرى الفصل. فإذا أريد أن يحد الإنسان العالم، فليس من الجيد أو يورد حد الإنسان أو اسم مرادف للإنسان، ويترك العالم بحاله، فيقال: هو الحيوان الناطق المائت العالم، أو بشرط عالم، فإن العام يجب أن يكون كالمفروغ من معرفته قبل إلحاق الخاص به، ويكون إنما يشكل معرفته الصفة التي تلحقه وهذا المفروغ بحسب الأكثر والأولى، ليس واجبا في نفس الأمر. فربما كان العام منهما هو المشكل. وأما في أكثر الأمر فإن الموضوعات تكون معروفة، وإنما يجهل المركب بسبب أن الأخص أخفى دائما من الأعم. فإذا لم يكن التبديل تبديل اسم تحديدا، فالأولى أن يحد الأخص.
وموضع آخر قريب من هذه المواضع، وهو أنه كثيرا ما يعرض أن نظن أنه قد حدد المركب بسبب المساواة، ولا يكون ذلك حدا جيدا تاما، فإن أحدا إن حدد العدد الفرد بأنه عدد وسط، وإذا أسقط العدد تبقى له وسط، فيجب أن يكون له وسط حد الفرد، فيكون الخط والسطح والجسم أيضاً فردا.
فغن قال قائل: إن قوله يرجع إلى العدد في حد العدد الفرد، ولا يرجع إلى العدد في رصف الخط والسطح به، بل يرجع إلى الشيء، فإذن لا مشاركة للخط والسطح مع الفرد.
فيقال: اجعل بدل " له " " ذو " ، فقل: عدد ذو وسط، وتكون الشناعة لازمة. ولكن لقائل أن يقول: فكيف ينبغي أن يحد ذلك؟ فنقول: يلزم ضرورة أن نذكر العدد مرتين، فيقال: العدد الفرد هو العدد الذي له عدد وسط، أو عدد له وسط عددي. ولابد من ذلك، ولا محيد عن هذا التكرير. وقد شرح هذا فضل شرح في الفلسفة الأولى، وبين فيها أن حدود هذه تقتضي التركيب وأنها حدود بوجه ما وليست حدودا حقيقية. وسيقال في سوفسطيقا في أمرها شيء.
ومن الغلط الذي يقع في الحد أن يكون الحد لشيء مما يوجد، وقد جعله الحد شيئا لا يوجد، إذ كان في معنى الحد بحال لا يوجد. كمن يُحد المكان بأنه خلاء مهيأ؛ والمكان موجود، والخلاء محال الوجود. وكمن يحد البياض بأنه لون مخالط للنار، فإن اللون المخالط للجسم معدوم الذات محا الوجود. وبالجملة مخالطة الكيف للجسم معنى خال يقتضي أن يكون غير الجسم مخالطا للسم؛ وذلك محال.
وموضع مقارب لهذا، وهو أن يكون في الحد إضافة توجب أحد أمرين: إما أن لا تصح تلك الإضافة أصلا، أو يصح بعض المضاف إليه لا إلى جميعه، كمن يقول: إن الطب هو العلم بالموجود، فغن كان الطب ليس علما بشيء من الموجودات، أو كان ببعضها دون بعض، فقد أخطأ. وهذا الموضع في قوة مواضع سلفت. وبالجملة هو في عداد ما يغلط بإهمال مراعاة المضاف المعادل الذي بالذات؛ اللهم إلا أن يكون الشيء إنما يحدد من جهة ما هو بالعرض، فلا يجب أن يؤخذ من جهة اعتباره بالذات، بل يجب أن تؤخذ النسبة التي له بالعرض في حد ذلك الشيء، فإن للشيء من حيث هو بالعرض حدا لا ينبغي أن يكون هو وحده من حيث هو بالذات. وهذا الموضع إما أن يقع فيه كذب على المحدود، أو يجعل غير المحدود مشاركا. مثال الكذب إذا قيل: إن الطب علم بحركات الكواكب؛ مثال الموقع للشركة، أنه إذا قيل، إن الطب علم بالموجود، فتكون الهندسة لذلك طبا. وعلى أن الأول مع أن فيه كذبا، فقد تقع فيه مشاركة، فإنه يجعل الهيئة طبا، اللهم إلا أن ينسب مثلا إلى شيء لا وجود له، ولا شيء من العلوم منسوب إليه، فيكون كذبا من غير أن يشركه فيه شيء.(2/126)
وموضع آخر، وهو أن يكون إنما يورد حد شيء بسيط، فإذن هو قد حد الشيء مركبا مع شيء. وأكثر ما يقع هذا إذا كان التركيب من جنس الكمال، كمن يحد الخطيب: بأنه الذي له ملكة إقناع في كل واحد من الأمور بالسوية، لا نقص له في شيء منها. أو يحد الطبيب: بأنه الذي له ملكة إزالة الأمراض كلها، فلا يعجز شيء منها. والسارق: بأنه الذي يأخذ كل شيء سرا؛ فإنه يكون إما حادا مخطئا، وإما حادا للخطيب الحاذق، والطبيب الماهر، والسارق الملط. وأما الخطيب بما هو خطيب، فليس هو خطيبا بشرط أن يقنع. كلا ولا الطبيب بشرط أن يشفى. كلا، ولا السارق سارق بشرط أن يقدر على أخذ كل شيء سرا. بل الخطيب هو الذي يبلغ في أكثر الأمور ما يمكن أن يقال فيه طلبا للإقناع، فربما لم يبلغ الغاية، فيكون خطيبا لأنه أتى بما يمكن؛ وكذلك حال الطبيب، وكذلك حال السارق. فإذا السارق؛ وإن كان يؤثر أن يأخذ كل شيء سرا، أو يأخذ كل ما يأخذه سرا، ولكنه ليس يجب أن يمكنه ذلك في كل شيء.
وموضع آخر، وهو أن يزيد في حد شيء من المؤثر لنفسه زيادة تجعله مؤثرا لغيره، وبالعكس. مثال ذلك من حد العدالة أنها حافظة السنن، وليست العدالة للسنن، بل السنن للعدالة.
وربما اتفق في شيء أن كان مؤثرا لنفسه ومؤثرا لغيره؛ مثل الصحة، فإنها مؤثرة لنفسها، وقد تؤثر لأمور يتوصل إليها بالصحة. فينبغي إذا حد كل جهة من الجهتين، واعتبار من الاعتبارين ألا يدخل فيها الآخر، أو أراد أن يحد الصحة حدا كاملا أورد الجهتين.
الفصل الخامس فصل (ه) في مثل ذلك
وهاهنا مواضع تختص بحدود أشياء مما لها نسبة كالكل والجزء؛ فمن الخطأ في ذلك ان يذكر الأجزاء على سبيل توالي النسق بالواو، ويجعل ذلك حدا للكل. مثل أن يقول قائل: عن العدالة هي عفة وشجاعة؛ فغن هذا يجل العفة محمولة على العدالة، والشجاعة محمولا آخر عليه، فيكون كل واحد منهما محمولا وحده، ليس أحدهما مقيدا بالآخر، فلا يكون كأنه قال: عفة التي هي شجاعة، كما يقال: حيوان ناطق، أي حيوان الذي هو ناطق. ولو انه أريد بذلك هذا، وإن كان غير صحيح في مجرى العبارات كلها، كان أيضاً فاسدا.
وأما بيان فساد الاعتبار الأول، فهو أن العفة إذا كانت محمولة على العدالة، حيث يراد التحديد، كان كأنه يقول. إن العدالة هي العفة والشجاعة، بالألف واللام؛ فإن حمل الحد والخاصة والاسم المرادف إنما يصلح أن يخصص بالألف واللام في لغة العرب. فغن حملت لا كذلك، لم يكن هناك تخصيص البتة، بل كان يجوز أن نفهم أن العدالة عفة ما وشجاعة ما. وإذا حمل على الشيء عامان، كل واحد منهما أعم منه، ولم يقيد أحدهما بالآخر، لم يجتمع منهما دلالة على معنى مساو، بل يجب أن يخصص، فيكون وجه القول حينئذ: إن العدالة هي العفة والشجاعة، ولا يجوز أن يصدق أن العدالة هي العفة والشجاعة، إلا وصدق أنها العفة؛ كما لا يمكن أن يصدق أن الإنسان هو الناطق والضحاك، إلا وصدق أنه الناطق. فتكون حينئذ العدالة منعكسة على العفة والشجاعة؛ فإن كانت عفة ولا شجاعة، كانت أيضاً عدالة. فحينئذ لا يكون من شرط العدالة أن تكون عفة وشجاعة مجتمعتين؛ ويلزم مثل ذلك في جانب الشجاعة. ويلزم أيضاً أن يكون الجور فجورا وجبنا، والفجور جورا والجبن، فتكون العدالة التي هي العفة - حيث لا شجاعة - جورا.
وأما بيان فساد الاعتبار الثاني، فإنه ليس شيء مما هو عفة شجاعة، حتى تكون العدالة عفة هي الشجاعة. فإن بدلوا لفظة " الواو " بلفظة " مع " ، حتى يكونوا كأنهم عفة مع شجاعة، أو أرادوا بالواو معا، فيكون حينئذ الموصوف بأنه عدالة هي نفس العفة ولكن في حال ما تقترن إليها الشجاعة؛ فتكون إذا قارنت العفة جعلت العفة نفسها حينئذ عدالة. مثل ان الشيء إذا اقترن بشيء جعله يمينا، وجعله مضروبا، وجعله غنيا؛ ليس على ان اليمين مجموعهما، بل أحدهما نفسه ولكن إذا كان مع الآخر. وكذلك المضروب. وكذلك الفتى عند وجود المال فيكون له. إذن بعض ما هو عفة هو عدالة، وهو العفة التي اقترن إليها الشجاعة.
وبالجملة، فغن تعديد الأجزاء وتحصيلها ليس الكل، ولا نفس الكل. فإنه يكون الخشب واللبن وغير ذلك موجودا، ولا يكون موجودا. فليست الدلالة على وجود الجزاء دلالة على طبيعة الكل؛ فلا أقل من أن يقال: إن كذا مجموع كذا وكذا.(2/127)
على ان الكل يحدث من الأجزاء على ثلاثة وجوه: أحدهما أن يكون تجمع فقط، كيف اتفق، مثل الأربعة من أجزائها. والثاني أن لا يكون تجمع فقط، بل تكون هناك زيادة على نفس الجمع داخلة في كيفية الجمع، مثل البيت، فإنه ليس الجملة مجموع لبن وخشب كيف كان، بل أن يكون مجموعا جمعا على نحو؛ ولا الثوب ثوبا لاجتماع الغزل، كيف كان، بل لاجتماعه على هيئة وأسداء وألحام. والثالث بسبب زيادة على نفس الجمع وهيئة الجمع، وذلك أن يكون للجزاء المجتمعة حال وحكم بعد الجمع غير الجمع، وغير هيئته من حيث هو تركيب وجمع؛ كالممتزج، فغن له بعد الجمع وهيتئه زيادة كيفية تحدث. فما كان من الكُلات وجوده بالجمع فقط، أمكن أن يقال: لعله يكفي في حده أن يقال إنه مجموع كذا وكذا. وأما ما احتيج فيه إلى زيادة على ذلك، وخصوصا زيادة خارجة عن كيفية الجمع، فلا يكون المركب قد وفى حده ما لم يدل على هيئة ذلك الجمع، وعلى حال كيفية أخرى وحكم آخر، إن تتبعه.
وموضع آخر يليق بهذه المواضع أن ننظر: هل من شأن الأجزاء الموردة للكل أن تجتمع، فربما لم يكن من شأنها أن تجتمع البتة، فلا يكون منها كل، كمن يقول مثلا: إن السطح خط وعدد؛ والخط والعدد لا يتألف منهما شيء. أو قول من يقول: إن الجسم هو المؤلف من أجزاء غير متجزئة، والجسم ليس من شأنه أن تتألف من أجزاء غير متجزئة، ولا للأجزاء التي لا تتجزأ أن تتألف تألفا يؤدي إلى متصل.
وموضوع آخر، أن يكون للمحدود الذي هو الكل محل أو مكان واحد، وتكون الأجزاء يستند كل منها بمحل أو مكان مفرد غير مكانه، ومباين له، فيعلم أن النسبة إلى تلك الأجزاء إلى المفروض كُلا نسبة ردية؛ وهذا صالح للإبطال دون الإثبات. وأكثر هذه المواضع ذلك شأنها. ومثال ذلك أن يقال: إن الإبصار مجموع لون وإدراك، واللون في غير الشيء الذي فيه الإدراك والإبصار في شيء واحد.
وموضع آخر أن يكون الكل إذا رفع ارتفعت الجزاء؛ والأجزاء ترتفع ويبقى الكل. فإن الأمر يجب - إن كان - لابد أن يكون بالعكس.
وموضع آخر فيما يركب من متقابلين كشيء هو خير وشر، فغن ذلك يجب أن يكون دون الخير في الخيرية، دون الشر في الشرية.
وموضع قبله، وهو إن كان الخير في انه خير مثلا أشد في انه خير، من الشر في أنه شر، والمركب منهما قد يروج على انه أزيد من الناقص في الطرف الثاني، فيكون أشد خيرية منه شرية؛ اللهم إلا أن يكون الامتزاج أحدث أمرا زائدا على مقتضى البسيطين، كما أن المزاج يجعل غير الخيرين خيرا، وغير الشرين شرا، فيكون هذا أيضاً مما يقدح في الموضع المذكور، فإنه ربما اجتمع خير وشر فصار الكل خيرا أو شرا، لكنه يجب أن يكون اعتبار هذين الموضوعين، حيث يكون التركيب لا يعمل غير الجمع، وما يتبع الجمع؛ إلا فيما تقتضيه الاستحالة.
وموضع آخر ننظر كي لا يكون حد الكل مقولا على أحد الجزأين فيكون هو هو بعينه، لا المجموع منه ومن غيره. ولكن الجزء غير الكل. وقد ذكر هاهنا موضع ضمناه فينا سلف وهو أن لا يكون ذكر التركيب. وذكر أيضاً موضع هذا مع هذا، وموضع أن هذا هو هذا وهذا، وموضع أن هذا هو من هذا ومن هذا. وهذا قريب مما سلف، فإنه حينئذ يكون من هذا ومن هذا، فيكون من كل واحد منهما، ويعرض نظير ما سلف مما ذكرناه، حيث لم يكن " من " ، وخصوصا إذا كان حيث يقوم من أمرين ليس يمكن أن يكون ذلك الأمر معا.
وموضع في تفصيل المعية ونسبتها، عل بيّن أن تلك المعية في أي شيء من المحل والزمان، وبالقياس إلى أي شيء، وكيف حال أحد الأمرين من اللذين هما معا من الآخر، كمن يقول إن الشجاعة إقدام مع فكر صحيح، ولم يقل إنهما بالقياس إلى أي شيء. فربما كان ذلك بالقياس إلى استعمال المصححات، وكان صاحبهما طبيبا لا شجاعا، بل يجب أن ينسب ذلك إلى الجهاد.
وربما كان أحد الأمرين سببا للآخر، أو غاية، مثل من يقول: إن الغضب غم مع توهم استخفاف؛ فإن توهم الاستخفاف ليس جزءا من الغضب، بل سببا له وللغم. وكذلك من قال: إن الرمي هو إرسال سهم إصابة؛ فإن الإصابة ليست جزءا من الرمي، بل خارجا عنه وغاية.(2/128)
وموضع آخر من أخذهم الجمع مكان المجموع، حتى يقولوا: إن الحيوان تركيب نفس وبدن، وهذا مع رداءته في انه جعل المركب تركيبا، فليس يدل على ذلك التركيب. وكيف يكون التركيب حيوانا، أو الحيوان تركيبا، ولكل تركيب ضد هو التحليل؛ وليس للحيوان ضد هو التحليل.
وموضع آخر أن يكون المحدود شيئا منسوبا إلى ضدين بالسواء، وقد أخذ في تحديده أحدهما دون الآخر، كما أنه لو كان حال النفس من العلم كحاله من الجهل المضاد للعلم؛ ليس الذي هو عدم المقابل. فإذا قيل: إن النفس جوهر قابل للعلم، لم يكن أولى أن يقال، جوهر قابل للجهل، أي المضاد. وبالجملة، إن قبول العلم خاصة لا فصل؛ وقد علمت ذلك.
ومن المواضع التي يحتاج إليها المبطل في التمكن من الإبطال أن يعلم أنه لا حاجة له إلى رفع جملة الحد، وربما تعذر عليه ذلك من حيث هو جملة. فلينظر هل يمكنه رفع جزء من الحد وإبطاله، فغن في رفع الجزء رفع الكل الذي هو لا يثبت إلا بذلك الجزء وقد مرّ لك هذا ومثاله في موضع آخر.
ومن المواضع التي تسهل السبيل إلى الإبطال هو الاستكشاف حتى لا يكون غموض هذا سبب لأن لا يشعر بالموضع الذي منه يبطل. فإذا استكشف ظهر إما إصابته، وإما خطؤه وموضوع خطئه. وإذا كان الاستكشاف يكشف عن صواب، فيكون الحد هو هذا الدال الموضح المحصل بعد الكشف، وينسخ به ما فرض أولا انه حد من الملتبس، إذ لا حدين لشيء واحد. فإن كان الثاني هو الفاضل المعروف، فالأولى ليس بجيد، بل هو منسوخ نسخ الشريعة التي هي أفضل لما قبلها. فيجب أن لا يستهان بهذه الأصول في الحدود، بل يجب أن تجعل نصب عين الفكرة، ويعلم ان سائر كتب المنطق إنما تتم جدواها بمعرفة القوانين التي أعطيناها في هذا الكتاب إلى هذه الغاية. ومن اقتصر على ما سلف، لم يكتسب كمال الملكة في البرهان أيضاً، فغن كثيرا من الأصول النافعة في البرهان، وفي الحد البرهاني، إنما تتم في هذا الكتاب إلى هذا الموضع. وأما بعد هذا من هذا الكتاب، فإنه ليس بشديد النفع في البرهان.
تمت المقالة الخامسة
المقالة السادسة
فصل واحد
الفصل الأول
فصل (أ)
في مواضع هوهو والغير
وقد يليق أن نتكلم في المواضع التي تنفع في إثبات أن الشيء هوهو وواحد بعينه، أو غيره، وفي إبطاله. فغن ذلك مما يحق أن يقصد لنفسه لكثرة وقوع النزاع فيه؛ وينفع أيضاً في باب النظر في الحد، فغن الحد يقصد به أن يكون معناه ومعنى اسم المحدود واحدا بعينه. ثم الواحد قد يقال على معان، وأحقها باسم الواحد هو أن يكون الشيء غير منقسم بالعدد لست اعني الواحد الشخصي الذي لا يقال على كثيرين، بل أعني به الواحد في نفسه من حيث ذاته، وإن كان معنى عاما بالقياس إلى موضوعاته، وكان ذلك المعنى من خارج مطابقا لكثيرين. مثال ذلك في المسألة الجدلية أنه هل العدالة والشجاعة شيء واحد؟ فإن هاهنا ليس تعني واحدا بالشخص، ولا أيضاً واحدا بان جنسهما واحد، أو بأن نوعهما واحد، وهما كثيران بعد ذلك؛ بل تعني به هل الحقيقة التي تدل عليها العدالة هي بعينها الحقيقة التي تدل عليها الشجاعة، حتى تكون إذا عددت الشجاعة واحدا من الأشياء، تكون قد تناولت بذلك العدالة أيضاً. فهكذا يجب أن تفهم هذا الموضع وتعلم انه يستعمل لفظة الواحد بالعدد على معنى هوهو في الحقيقة، حتى إذا ذكره ذكرته، وإن كان المعنى كليا.
فمن المواضع مواضع التصريف أنه إن كانت العدالة هي بعينها الشجاعة فالشجاع عدل، والعدل شجاع؛ وبالعكس انه عن كان العادل هو بعينه الشجاع لا بالعرض كانت العدالة شجاعة. وتخالف الموضع الذي في باب العرض إذ كان لا يجب هناك الهوهو، لأنه كان هناك حمل فقط، ولم يكن مع الحمل اعتبار انه هو. وكذلك تنظر في اعتبار المتقابلات أنها هل هي هي. وأيضا من الأكوان والفاسدات، والأسباب الفاعلة والمفسدة. وأيضا من طريق الأولى أنه إن لم يكن ما هو هو أولى أن يكون هوهو، فليس ما ليس أولى بهوهو هذا. وقد علمت هذا الموضع وحكمه.(2/129)
وأيضا إن كان كل واحد منها في ترتيب باب أكثر وأفضل من جميع الغير في ذلك الترتيب، فهما واحد. وأما إن كان أحدهما أكثر في ذلك من الآخر، أو كان أكثر من كل ما هو سواء ولم يكن الآخر كذلك، فليس أحدهما هو الآخر. وقد يكون شيئان اثنان وكل واحد منهما من كل شيء مذكور بالتعيين مما يشاركه، ومع ذلك فليس أحدهما هو الآخر؛ وذلك إذا كانا في ترتيبين، وكان أحدهما يحوي الآخر. كما يقال: إن الحيوان أفضل الأجسام الكائنة الفاسدة، ثم يقول: والإنسان أفضل الأجسام الكائنة الفاسدة؛ لكن الحيوان يشمل الإنسان، فلا يجب في مثل هذا أن يكون هو هو. فهذا الموضع فيه شيء ينبغي أن يتأمل، وهو أن قد يعرض أن يقال: إن الحار جدا هو أعلى المتحركة بالاستقامة، والمتخلخل جدا هو أعلى الأجسام المتحركة بالاستقامة، ويكون المقولان صادقين، ثم لا تكون حقيقة الحار جدا والمتخلخل جدا واحدة إلا في الموضوع. لكنه يجب أن تعلم أن القولين إنما صدقا باعتبار الموضوع، حتى إنهما إذا أزيلا عن ذلك الاعتبار كذبا؛ وأن معنى قوله: " الحار جدا " ، وهو الجسم الموصوف بأنه حار جدا، وحينئذ فيكون ذلك الموضوع واحدا بعينه؛ فإن الإشارة في قوله: " والتخلخل جدا " تتناوله أيضاً. فلذلك أوجب أن يكون المشار إليه بالقولين ذاتا واحدة. فإن غُير اعتبار الموضوع الحار جدا، وأخذ من حيث هو حار جدا، حتى يكون المتخلخل جدا من حيث هو متخلخل جدا غيره، كذب قوله: إن الحار جدا من حيث هو حار جدا، أعلى من كل ما ليس حارا جدا من حيث هو حار جدا. فإن المتخلخل جدا ليس دونه في المكان من حيث هو متخلخل جدا، وهو غيره فيجب أن يراعى في هذا الموضع حال الموضوع للأمرين، وحالهما في نفسه. فإن كانت الإشارة تتناول الموضوع، فلا شك أن المشار إليه واحدا، وإن لم يكن الأمران واحدا؛ وأن تناول نفس الأمر لا موضوعه، وجب أيضاً أن يكون الأكثر واحدا؛ وإلا كان القول كاذبا.
وموضع آخر، أنه ينظر هل ما قيل إنه مع حَ واحد هو مع دَ الذي هو و حَ واحد، واحد أم لا. وهو يصلح للإثبات والإبطال. وأيضا ينظر هل يختلف في الأحوال العارضة. وأيضا هل يرتقي إلى مقولات مختلفة. وأيضا هل إن كان جنسها واحدا، ففصولها واحدة. وأيضاً هل يقبلان الأكثر والأقل معا، وعلى نسق واحد. وهذه مواضع الإبطال.
وأيضا هل كل واحد منهما إذا أضيف إلى ثالث حصل مجموعا هو بعينه مجموع الآخر وأيضا كذلك في النقصان. وأيضا هل هما يتساويان فيما يلزم رفع الشيء ووضعه، أو يلزمه رفع الشيء ووضعه، كان ذلك حقا وباطلا، فإن الشرطية ليس صدقها في صدق المقدم أو التالي، بل في صدق اللزوم. ومثال ذلك أنه إن كان الهواء والخلاء شيئا واحدا، فما يلزم من رفع الهواء يلزم من رفع الخلاء، وما يلزم من وع الهواء يلزم من وضع الخلاء. وما يلزمه الهواء أو يلزم رفعه عن وضعه أو رفعه، كذلك يلزمه الخلاء أو رفعه. لكنا إذا توهمنا رفع الهواء بقى الخلاء عند أصحاب الخلاء. وليس يلزم عند رفع الخلاء أن يبقى وضع الهواء، فليس الخلاء والهواء واحدا.
وأيضاً هل يختلف الأمران في المحمولات؛ وهذا كالمكرر بالقوة.
وموضع في قوة هذا أنه إن لم يكونا واحدا بالجنس إن كان لهما جنس، أو لم يكونا واحدا بالنوع إن كان لهما نوع، لم يكونا واحدا بالعدد بالوجه الذي قيل.
وهذه المواضع كثير منها مواضع الإثبات والإبطال المطلقين استعملت في محمول مخصوص، وهو الهوهو، وكثير منها يخص الهوهو.
ولقد كان يمكن أن يقال: يجب أن ننظر كي لا يكون أحدهما ليس محمولا على الآخر بما قدمناه من مواضع الإثبات والإبطال المطلقين، ثم يؤتى بالمواضع الخاصة. وهذه المواضع ينفع المبطلات منها في إبطال الحد، فإنه إذا لم يكن الحد يدل على ما يدل عليه المحدود بعينه لم يكن حدا. وإذ هذا لا ينعكس، فالمثبتات لا ينتفع بها في إثبات الحد، فإنه ليس كل معنى هوهو الشيء هو حده، وإن كان أيضاً هوهو بالمعنى، فربما لا يكون قد وفى توفية جيدة.
وأما أنه هل على الحد قياس أو ليس، ومتى يكون قياس ومتى لا يكون، وكيف يقتن الحد، فأمر قد عرفناكه في الفن الذي قبل هذا.(2/130)
وأما في هذا الكتاب، فقد عددنا لك المواضع في الحد، وأولاها ما تكون المواضع جدلية، وأكثرها تمكينا إيانا من التصرف، وهو مواضع التصاريف والأقل والأكثر وسائر المشتركات. وأما ما عدا ذلك فيقل عدد مواضع نفعها، وإن كانت أصح نفعا، ومع ذلك تدعو إلى نظر أدق من الجدل المعد للجمهور.
وأما أن أي المسائل أسهل إثباتا، وأيهما أسهل إبطالا، وضد ذلك، وأي المحمولات الخمسة أسهل إبطالا وإثباتا، فيجب أن تعلمه من الأصول التي يلفت في هذا الفن، والفنون التي قبله.
تمت المقالة السادسة
المقالة السابعة
أربعة فصول
الفصل الأول
فصل (أ)
في وصايا السائل وأكثرها في المقدمات
إنا أول ما شرعنا في تعليم الجدل عرفنا حده وموضوعاته، أعني مقدماته الخاصة به، وعرفنا الآلات التي ينبغي أن تكون للجدل، وعرفنا المواضع المعدة نحو الإثبات والإبطال، فبقى علينا أن نعرف كيفية الاستعمال لما يلف إعداده وتعليمه. وقد عرفت حال السائل الجدلي والمجيب الجدلي، والفرق بينهما، وعرفت أن عمدة المجادلة هو السؤال، وعليه يبنى الجواب. فلنقدم وصايا السائل، فنقول: إن عمدة الأمور التي يجب أن تلتئم للسائل ثلاثة؛ أما المسألة التي بها الجدال فهي شيء خارج منها، وهي كالعرض، والجدل نحو المشار إليه، فلذلك ليست المسألة جزءا من الجدل؛ وهذا قد عرفته. لكن أول الثلاثة أن يكون قد أعد الموضع الذي منه يأخذ المقدمة لقياسه. والثاني أن يكون قد رتب في نفسه كيفية التوسل إلى تسلمها، وكيفية التشنيع على منكرها، إن أنكرت عليه؛ وهذان مما ينبغي أن يكون قد سبق إعداده إياه مع نفسه. والثالث هو التصريح بالمعد في النفس مخاطبة به للغير.
والوجه الأول من الوجوه الثلاثة يشارك الفيلسوف فيه الجدلي؛ وذلك لأن الفيلسوف لابد له من موضع يأخذ منه مقدمات ما يصححه. والوجهان الآخران يخصان الجدلي، إذ لا حاجة للفيلسوف إلى تسليم شيء، فإنه يأخذ المقدمات من حيث هي حق، لا من حيث هي متسلمة، ولا النظر الحكمي متعلق بالمخاطبة وبالجهاد فيها، فلا يبالي في الخطاب التعليمي أن لا تسلم مقدمة بعد أن تكون المقدمات مناسبة للمطلوب قريبة منه، توجبه، ولا يحتاج فيه إلى أن يخفي قربها من النتيجة الحاجة التي للسائل الجدلي، فإنه يجتهد أن لا يفطن المجيب لما يلزم من تلك المقدمات لئلا يتعسر في تسليمها، بل يروم إخفاء قربها من النتيجة، ويرى أنها بعيدة عنه جدا. والفيلسوف يروم ضد ذلك. وكلما كانت المقدمات أقرب من النتيجة كانت إليه آثر.
وجميع القضايا التي يوردها الجدلي قسمان: ضرورية، وغير ضرورية. فالمقدمات الضرورية هي الداخلة في نفس القول الموجب للمطلوب، قياسا كان أو استقراء. وأما ما ليس بضروري، فإنما يورد لأغراض أربعة، وهي: الاستظهار في الاستقراء والقسمة، والاستظهار في تفخيم القول، والاجتهاد في إخفاء النتيجة، والتكلف لإيضاح القول.
ولقائل أن يقول: إن كان الاستقراء جدليا، كان قولا يعد لا محالة نحو المطلوب وكان ما يصححه داخلا في الضروري؛ وكذلك القسمة، فأنها تستعمل في المقاييس المنفصلة. وكيف عددتم الاستقراء والقسمة فيما ليس بضروري؟ فنقول: إن الاستقراء قد يستعمل في الجدل على وجوه ثلاثة: أحدهما في أن يصحح منه المطلوب نفسه.
والثاني أن يصحح به المقدمات الضرورية في المطلوب.
والثالث للاستظهار، وهو أن تكون المقدمات الضرورية لم يجحدها المخاطب، فيحتاج أن يصححها، بل هي غير بعيدة من أن يسلمها الخصم إذا ظهر من أحوالها أنها محمودة أو مسلمة، وأن إنكارها شنيع بعيد عن المحمود، فإذا سئل عنها مع الاستقراء فقيل مثلا: أليس الإنسان وما يجري مجراه فلان وفلان، وهو يفعل كذا وكذا، أو يسأل عن عبارة أخرى تناسب هذا الغرض، كان التسليم حينئذ أولى أن يقع، فيكون هذا النوع من الاستقراء لم تحوج إليه بعد ضرورة تلجئه إليه، بل أوردت استظهارا.
وأما المقدمات التي يصحح بها استقراء على المطلوب، أو على ضروري في المطلوب، فمقدماته ضرورية، اللهم إلا أن يكون في عدد ما ذكر كفاية، وقد استظهر بعد جزئيات أخرى لو لم يعدها حصل الغرض.(2/131)
والقسمة أيضاً قد تورد على مقتضى الضرورة، وقد تورد لتحسين الكلام فيما لا يحتاج إليه، حتى يقول مثلا: إن العلم قد يكون أشرف من علم إما لقوة برهانه، وإما لشرف موضوعه، وإما لكذا وكذا، حيث النافع مثلا أن يبين أن العلم شريف، ثم يتعداه إلى عد وجوه شرفه من غير حاجة إليه. فأحد الوجوه الأربعة أن تورد المقدمات للاستقراء الاستظهاري دون الضروري، والقسمة التي لا ضرورة إليها.
والوجه الثاني، أن يورد لبسيط القول والتوسعة فيه، إما بمدح كلامه، واستجابة مذهبه؛ وإما للتعجب ممن ينكر مأخذه؛ وإما بالأمثلة والاستشهادات بأقاويل الناس، وإما بالتصرف في تبديل العبارات للبيان والفصاحة، بأن يعبر عن قضية واحدة بعبارات مختلفة، كما هو من عادة فصحاء العرب، وإما باستعطاف المخاطب واستمالته إلى التسليم تارة بمدحه ونسبته إلى الإنصاف، وتارة بذمه وتأنيبه وأنه بعيد عن الإنصاف.
وليس لقائل أن يقول: إن بعض هذه المواضع سوفسطائية وخطابية، وذلك لأن المواضع السوفسطائية ربما احتيج إليها في الجدل إذا تنكد المجادل فجعل لا يسلم المشهورات، حتى قد يرخص له أن يغالط المتنكد باشتراك الاسم، ولولا ذلك لما كان رخص في الجدل أيضاً أن يحتال في إخفاء النتيجة ليسهل به تسلم المقدمات.
والثالث خلط ما يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه ليبعد الحدس عن النتيجة، ويخفى النافع في الحجة من غير النافع. فلو أن السائل طالب المجيب بتسليم الكبرى من النافع في الحجة فسلم له؛ ثم أعقبه بالتماس تسليم الصغرى؛ أو ابتدأ يتسلم منه الصغرى ثم أعقبه بالتماس تسلم الكبرى، عرض من ذلك أن يفطن المجيب لما يحاول السائل، فيتنكد ولا يسلمه. وأما إذا قرن بتسلم النافع شيئا لا ينفع؛ ولا يناسب المطلوب؛ وفصل بينه وبين قرينته من النافع؛ لم يبعد أن يخفى الغرض عليه. وهذا القسم هو من جنس الحشو الذي يؤتى به لإخفاء النتيجة.
والوجه الرابع هو المورد لا للضرورة، ولا للحيلة، بل للإيضاح والكشف بتبديل الألفاظ؛ وتكريرها، وبالأمثلة. ويفارق الوجه الثاني إذا كان التمثيل هناك والتكرير لأجل اجتلاب التصديق؛ وهاهنا لأجل التصوير والتفهيم. فالوجه الثاني يقصد فيه التصديق؛ وهذا الوجه يقصد فيه التصوير. وقد يستعان فيه بألفاظ الشعراء والأمثال المعروفة. وأما الوصية التي تليق بالوجه الأول، فبأن لا يذكر المقدمة الضرورية في أول الأمر، ولا يطلب تسليمها صراحا، فربما لم تسلم، بل يجب أن ينتقل عنها إلى التسليم ما هو أعم منها حتى يكون ذريعة إلى عقد القياس فيشتبه على مقابل وضعه، أو أخص منها حتى تكون مادة الاستقراء، فيسوقه إلى مقابل وضعه، أو مثلها ومساويها حتى تكون آلة لتمثيل يضربه لمقابل وضعه. فإن كان ينفعه تسلم أن العلم بالأضداد واحد، حاول أن يتسلم هل العلم بالمتقابلات واحد ترصدا للقياس، أو هل العلم بالحار والبارد والرطب واليابس أو بالمضافين واحد ترصدا للاستقراء، أو أن يستعين ببعضها في بعض في مثل أنه إذا أراد أن يتسلم مثلا ما هو أعم ابتدأ أولا بالاستقراء وبتسلم الجزئيات؛ ثم يتسلم بعد ذلك ما هو أعم، فيكون أسهل عليه، ثم يتسلم الضروري.
وأما الوصية في باب إخفاء النتيجة، فأن ينظر إن كانت النتيجة تبين بقياسات بعيدة فيجب أن يبتدئ بأبعد المقدمات عن النتيجة، ويتسلمها، فينتقل عنها إلى القريبة، سواء كان ذلك يبين بمقدمات قليلة أو يبين بكثيرة، فيحسن أن لا يسأل عنها على الترتيب القياسي، بل يسأل عن الأول في الترتيب ثانيا، وعن الثاني أولا، لئلا يسمع الحد الأوسط وقد تكرر، وهو رابط بالفعل، بل يسمع تارة في طرف، وتارة في طرف آخر، وقد تخلل بينهما فاصل. وكذلك يجب أن يخلل في كثير من يسلم المقدمات بين تسلم مقدمة وبين رقيقتها يسلم مقدمة أخرى. مثلا إذا كانت إحدى المقدمتين تنفع في مقدمة للقياس القريب، لم يضف إليها الأخرى التي تنفع في تلك المقدمة، بل التي تنفع في مقدمة أخرى لذلك القياس القريب. وكذلك إذا تسلم مقدمة مقدمة مما ينتج مقدمة اقرب منها، ثم تذكر النتيجة معها، بل يترك النتيجة ويشتغل بتسلم مقدمة للقياس الآخر. فإذا تسلم المقدمات تفاريق أورد النتائج التي هي المقدمات القريبة معا إيرادا لا يمكن المخاطب إنكارها بعد تسلمه المقدمات.(2/132)
فأما إذا تسلم مقدمتين وأنتج عنها، ثم أخذ يتسلم المقدمات للنتيجة الأخرى، لم يبعد أن يفطن المخاطب أنه إنما يحاول أن ينتج كذا لتكون مضافة إلى النتيجة الأولى، فيتنكد ويتعسر، بل يجب أن يحاول الإخفاء لأن النتيجة التي هي الغاية فقط، بل كل نتيجة، وإن كانت نتيجة تعود مقدمة ليكون ذلك أشد في الإخفاء. وفي ذلك فائدة أخرى، وهي أنه إذا أعقبها بالنتيجة الأخيرة؛ وكان قد حذف النتائج في الوسط؛ ولم يقدم المقدمات لترتيبها؛ تخيل المخاطب أن كلامه غير منتج للمطلوب؛ لأنه لا يسرده سردا يشبه المنتج، فإذا انتج في إثره فربما قال المجيب: ولم قلت إنه يلزم مما سردت هذه النتيجة؛ وعرض أن أمن المجيب تلك المقدمات؛ وظن أنها لا تنفع السائل؛ إذ النتيجة غريبة عنها وكأنها لا تلزمه؛ فلا يشتغل بالمناكدة في شيء منها، أو بتأويل جهة تسليمها؛ بأن يقول: إنما سلمت على شرط كذا، وإنما أردت بالتسليم كذا؛ بل يساهل كل المساهلة في تسليمها على أي نحو أريد منه تسليمها، فتقرر حال المقدمات على جهة مفروغ عن اللجاج معها فيها فإذا تقررت المقدمات عاد حينئذ فأبان أن المطلوب كيف يلزم عنها وانقطع المجيب.
وليس إنما ينفع ما تقدم ذكره من الانتقال من المطلوب تسلمه إلى كليه وجزئياته بل الانتقال أيضاً إلى تصريفه ونظيره ومقابله، فإن ذلك كله نافع في إخفاء النتيجة. وأنه إذا ريم نفس تسلم النافع لم يبعد أن يصرف الخصم همته إلى تمحل عذر في أن لا يسلمه.
وأما الشيء الآخر الذي هو منه بسبب، فربما لم يشاكس فيه؛ مثلا: إذا كان مراده أن يتسلم أن الغضبان هل هو المشتاق إلى الانتقام، فربما احتال المجيب فأنكر أن يكون كل غضبان كذلك، وقال: بل هاهنا غضبان على صديقه من غير أن يشتاق إلى الانتقام منه. وإن كان غمه إياه بالغضب عليه نوعا من الانتقام منه. فإن ابتدأ السائل وسأله: أليس الغضب شهوة الانتقام؛ كانت المشاكسة فيه أقل. فإذا سلم عاد وقال: فالغضبان إذن هو المشتاق إلى الانتقام.
والمواضع تختلف في هذا الباب، فربما كان المطلوب نفسه أقرب إلى أن يسلم من مقابله، فهنالك لا ينفع هذا، بل إنما ينفع حيث يكون الأمر بالعكس، كما في مثالنا فإن الاعتراض الذي به أمكن أن يشاكس في تسليم أن الغضبان المشتاق إلى الانتقام، وإن كان غير صحيح، فإنما كان يقرب حيث يقال " الغضبان " ، ويبعد حيث يقال " الغضب " .
ويجب أن يؤدي عن الغرض فيما ينحوه في تسليم ما يتسلمه، ويشير إلى شيء آخر كأنه يريد أن يصحح ذلك بما يتسلمه، ليصح بذلك مطلوبه، فإن ذلك الشيء إذا كان غريبا توثق بأنه لا يؤدي إلى المطلوب، وإذا كان يتسلمه غريبا عن ذلك الغريب، تفطن بأنه لا ينتجه؛ وإذا كان الأمر كذلك تركت المشاكسة وسومح بالتسليم. فإذا تسم توجه به نحو المطلوب.
ومن التلطف في ذا الباب أن لا يرف المجيب أي طرفي النقيض فيما يتسلمه ينفع السائل، وذلك إذا سأل سؤال تفويض، وخصوصا إذا قدم في القول المستخير من الطرفين ما لا ينفعه، وأخر ما ينفعه، فأوهم أن المقدم منهما في اللفظ هو المقدم عندك في الإثبات، فيتأكد في تسليمه ويسلم الطرف الثاني الذي هو أحب إلى السائل. وأعمل من هذا أن يسأل سؤال حجر من غير تفويض؛ ويجعل الحجر على الطرف الذي لا يريده. مثلا إذا كنت سائلا؛ وكنت تؤثر أن يسلم لك اللذة خير؛ فتسأل: ألست اللذة خيرا؟ فتوهم بفعلك ذلك ان هذا ينفعك؛ فيميل المجيب إلى إنكاره فيسلم لك أن اللذة خير؛ وخصوصا إذا كان المحذوف من طرفي أكثر شهرة وحمدا.
ومن الحيل النافعة في التسليم أن تتسلم المقدمات التي تنتج شيئا ليس هو المطلوب، لكنه يحسن أن ينتقل عنه إلى المطلوب، فيتسلم ثم ينتقل عنه إلى المطلوب، إذ يكون حكمه حكم المطلوب كالشبيه بالمطلوب مثلا.
ومن النافع في استدراج المجيب أن يسأل ما يسأل كالمتشكك فيه، وكالمستفهم، وكالمستريب، وكالمائل إلى العدل والإنصاف، وكالملتمس ذلك للتعلم والاستفادة؛ كما يقول: لنترك اللجاج، فبيّن لي ما عندك في كذا لا على طريقة ملاجتي ومغالبتي، بل على ما يجب أن يكون الأمر عليه في نفسه، ويجب أن يكون السائل كأنه يعارض نفسه، ويناقضه، ويقول مثلا: لا، إن هذا الذي قلته ونسقته ليس بجيد، بل يجب أن أرجع عنه فيصير هذا سببا إلى أن لا يتهم حبه، ويؤثر مساعدته، والتسليم له ما يتسلمه.(2/133)
ومن الأشياء النافعة في التسليم أن يقول: أجمع الناس على كذا، والعادة جرت بكذا، فإن هذا يورث السامع جبنا عن إنكاره.
ومن ذلك أن لا يظهر حرصا شديدا على تسليم شيء بعينه، بل يتعداه في الوقت ثم يتلطف في العود إليه.
واعلم أن طبائع الجدليين مختلفة فمنهم صلف سمج، والمتعسرون في أول الأمر أشد تعسرا وأكثر جحدا، فإنهم حينئذ أشد استعدادا للشقاق، ثم يفترون قليلا إذا طال الكلام، هؤلاء يجب أن يؤخر تسلم العمدة منهم. وأما الصلفون فأمرهم بالضد، فإنهم لصلفهم يستنكفوا أن يتصلبوا وان يناقشوا بل يظهرون أنه يهون عليهم أن يسلموا كل شيء واثقين بحسن تأتيهم للتخلص عن مغبة ما يوجبه التسليم؛ وخصوصا إذا كان تأديته إلى النتيجة خفية، كأنهم إذا ناقشوا ابتداء رمقوا بعين الاستجبان، وظن بهم أن الاختناق يلجئهم إلى المعاسرة، وأنهم ملزمون إلى الإلزام، فإذا حان الإنتاج عليهم انقلبوا متعسرين وأخذوا هناك يشاكسون ويتصعبون؛ فهؤلاء يجب أن نستسلم منهم العمة في بدء الأمر، وحين هم بعد سمجاء.
وينبغي أن يحاول إخفاء النتيجة بتحليل أيضاً ما لا ينتفع به، وبالتطويل، وبترويج ما سبيله لو أفرد كان قريبا من الإنكار يخلطه في جملته، كأنه غير منتفع به، وكأنه في جملة الإهاب فيتزوج، وربما دعا إلى ذلك الضجر. فهذا ما قيل في إخفاء النتيجة والوجهان الآخران، فقد علمتهما.
الفصل الثاني
فصل (ب)
في وصايا السائل
وأكثرها في أحوال القياس والاستقراء
وفيه ذكر ما يصعب وجدان القياس عليه ويسهل وإعطاء السبب فيه(2/134)
وينبغي أن تستعمل مع الجدليين القياس، ومع الذين هم أشبه بالعوام الاستقراء. وإذا لم يكن للمعنى المتشابه به اسم صعُب فيه الانتقال من الاستقراء إلى المقدمة الكلية التي المستقريات منتشرة تحت موضوعه، فيتشوش الكلام على السائل والمجيب. أما على السائل، فإنه لا يتهيأ له الانتقال إلى الكلية، وأما على المجيب، فلأنه لا يتهيأ له إيراد المناقضة، إذ لا يعلم ما الذي اشتركت فيه حتى يطلب من جملته جزئيا مختلفا. وبالجملة ربما أدخل أيضاً في جملة الاستقراء أمور غير متشابهة، فأخطأ السائل وغلط المجيب، بل يجب أن يرسم ذلك المعنى ويوضح له اسم. فإذا استقرأ السائل، ودل على ما وقع فيه التشابه، ثم لم يسلم المجيب الكلية فقد ظلم، بل عليه أن يأتي بمناقضة أو يسلم. وهذا بحسب الجدل فقط، لأن الاستقراء جدلي؛ إذ ليس من شرط الجدل أن يكون ما يورد فيه من القول موجبا للمطلوب بالضرورة، بل بحسب المشهور. ولهذا ما كان كثير من المواضع والطرق الغير الواجبة يجوز أن تصير جدلية إذا قبلت واشتهرت ويجوز أن لا تكون جدلية إذا لم تشتهر، وذلك مثل قولهم لو جاز كذا لجاز كذا، إذا كان نظير له، فإن هذا غير واجب في نفس الأمر. فإنه ليس إذا جاز في شيء حكم، جاز في نظيره نظيره. وكذلك قولهم إن لزمني هذا فقد يلزمك أيضاً، فإن هذا غير واجب؛ ولم إذا لزم الآخر كما يلزم الأول أن يترك حكم الأول. وكذلك قولهم لم قلت كذا في كذا، ولم تقل كذا، وهو في طرده، فإنه ليس إذا لم يقل ذلك وجب أن يكون هذا باطلا. وكذلك المعارض للحجة بحجة أخرى، وليس في ذلك خروج عن عهدة الحجة التي أوردت. ولكن هذه إذا اشتهرت صارت طوقا جدلية، وإن كانت غير ضرورية. والاستقراء أولى الجميع بان يُرجع إلى موجبه في حكم الجدل. وليس للمجيب الجدلي أن يقول إن الحكم فيما استقريت هو ما قلت. ولكن الحكم في غيرها ليس حكمها إلا أن يكون مدعيا في أول الأمر أن الواحد المختلف فيه وحده هو المخالف. ويكون هذا قولا سبق منه في الدعوى فلا يكون الاستقراء عاملا عليه، كما يكون قد ادعى أنه من المسلم أن كل عدد زوج، فإنه ليس بأول إلا الاثنينية. فإن قال هذا، تخلص من عهدة الاستقراء، فلا ينفع السائل ما يورد من الاستقراء معه. والمناقضة التي باشتراك الاسم ردية مثل مناقضة استقراء المستقرى ليبين أن كل حيوان حساس، بأن المصور حيوان وليس بحساس، وربما اتفق اشتراك في الاسم فخفي فصار في المشهور اشتراطا في المعنى، فحينئذ يتفق ويروج في مثله، مثل هذه المناقضة. وكذلك ينبغي أن يتمهر في اعتبار الآلات المعطاة في تفصيل معاني الاسم المشترك فيرجع إليها. وربما نوقض المستقرى، فوجد التخصيص بعد النقض يعم المطلوب، والمستقرأ لأجل المطلوب، فيتعلق المجيب التخصيص، ولا يلتفت إلى النقض. مثلا إذا كان قال: كل حيوان يحرك لحيه الأسفل فأورد جزئيات استقرائية مثل الفرس والإنسان، وما يجري مجراهما فنوقض بالتمساح، فله أن يقول: إني لست احتاج إلى الحيوان المطلق فيما استقريته، بل إلى الحيوان الماشي البري. ومن الناس من يمنع هذا، يقول: إن ذلك فرق بعد النقض؛ ولا التفات إليه، وليس في ذلك بأس عند التحقيق فإنه إذا أورد المستقريات من جملة الحيوان الماشي، ولم يكن ذكر لفظ الماشي، أو قصر فتدارك كانت حجته قائمة. وأكثر ما عليه أنه لم يحسن الاحتياط فيما لفظ به، وهذا لا يجعل الحجة غير حجة. والمثال المورد في التعليم الأول لهذا أنه إذا أورد مستقريات كلها قد فارق علما كان له، فكان ناسيا؛ فقال: كل مفارق للعلم ناس، فنوقض بمن فارقه العلم ليغير المعلوم، فيقول: إنما أوردت المستقريات من باب من فارقه العلم مع ثبات المعلوم. وكذلك إذا قال أعظم الضدين لأعظم الأمرين فاستقرى له فعوند بأن كمال الحلقة أفضل من الصحة، فإنها داخلة فيه، وذلك زائد عليها ينافي الفضيلة، لكن المرض أشد رداءة من سوء الهيئة؛ فإن القبيح من الهيئة، والمريض شر منه، فله أن يقول: إنما كلامنا في شيئين متباينين؛ وليس أحدهما في الآخر، لكن الصحة إنما هو في المقدمات الصادقة في البعض إذا لم يورد بالشرط الذي معه يصدق في الحقيقة وفي النطق. على أن هذا المذهب إذا زيفه المشهور في زمان ما يزيف ويقول: والمستقيم أولى أن يستعمله الجدلي من الخلف وتأدى إلى شنع؛ فقال المجيب إن ذلك ليس بشنع، بل هو ممكن بطل(2/135)
سعيه وضاع، فاحتاج إما إلى قياس يبين به شناعته، أو قياس آخر مستقيم ينحو نحو المطلوب نفسه. وأما في البرهان فليس المحال إنما يصير محالا بالتسليم أو يلتفت فيه إلى ذلك، بل إذا كان محالا في نفس الأمر استعمل في قياس الخلف البرهاني. وليس كذلك الحال في الجدل، فإن استعمالك للخلف فيه ربما طول عليك الأمر لأنك تحتاج فيه إلى إنتاج محال أولا، ثم تتكلف الانتقال عنه إلى المطلوب ثانيا. فإذا أنتجت المحال وحدس المجيب أن تسليمه استحالته تؤدي إلى فساد وضعه أنكر أن ذلك محال، وجعله ممكنا، فبطل سعيك، وتحتاج إلى تكلف سعى في ان تبين أن ذلك محال فغن لم يستمر ذلك لك لم تتلاف بطلان سعيك. وإن أمكنك ذلك كفاك أخذك في الأول نقيض المحال، وقرنك إياه إلى الأخرى لينتج لك المطلوب هونا. ولولا أن الأسبق إلى الذهن ليس يكون في كل وقت نقيض المحال، بل ربما سبق إلى الذهن قياس ما ولاح تأدية إلى المحال، لكن استعمال الخلف باطلا في كل موضع. وأما إذا سبق إلى الذهن المحال ونقيضه معا؛ فتتكف قياس الخلف محال. وهاهنا حين احتجت اي ان تتسلم استحالة المحال قبل عقد القياس، فقد صار نظرك إلى صحة نقيض المحال خاطرا ببالك في خيالك مع نظرك إلى المحال فحينئذ لا يحتاج إلى الخلف البتة. فلو كان عندك قياس مستقيم معدا من مادة الخلف بعينة، أو من مادة أخرى لكان يمكنك أن تتسلم مقدماته من غير أن يحدس المجيب بما يلزمها، وخصوصا إذا استعملت إخفاء النتيجة فإذا تسلمتها لزمت النتيجة، وقضى الأمر، وكان يمكنك في القياس المستقيم المشارك للخلف في المادة أن تتسلم نقيض المحال ولا يشعر المجيب بعاقبته. وأما إذا أوردت المحال على انه محال، وأفطنت المجيب عاقبته، فلا يبعد أن يشاكسك الآن مشاكسة، ربما لم يقدم عليها حين لا يفطن لذلك.ه وضاع، فاحتاج إما إلى قياس يبين به شناعته، أو قياس آخر مستقيم ينحو نحو المطلوب نفسه. وأما في البرهان فليس المحال إنما يصير محالا بالتسليم أو يلتفت فيه إلى ذلك، بل إذا كان محالا في نفس الأمر استعمل في قياس الخلف البرهاني. وليس كذلك الحال في الجدل، فإن استعمالك للخلف فيه ربما طول عليك الأمر لأنك تحتاج فيه إلى إنتاج محال أولا، ثم تتكلف الانتقال عنه إلى المطلوب ثانيا. فإذا أنتجت المحال وحدس المجيب أن تسليمه استحالته تؤدي إلى فساد وضعه أنكر أن ذلك محال، وجعله ممكنا، فبطل سعيك، وتحتاج إلى تكلف سعى في ان تبين أن ذلك محال فغن لم يستمر ذلك لك لم تتلاف بطلان سعيك. وإن أمكنك ذلك كفاك أخذك في الأول نقيض المحال، وقرنك إياه إلى الأخرى لينتج لك المطلوب هونا. ولولا أن الأسبق إلى الذهن ليس يكون في كل وقت نقيض المحال، بل ربما سبق إلى الذهن قياس ما ولاح تأدية إلى المحال، لكن استعمال الخلف باطلا في كل موضع. وأما إذا سبق إلى الذهن المحال ونقيضه معا؛ فتتكف قياس الخلف محال. وهاهنا حين احتجت اي ان تتسلم استحالة المحال قبل عقد القياس، فقد صار نظرك إلى صحة نقيض المحال خاطرا ببالك في خيالك مع نظرك إلى المحال فحينئذ لا يحتاج إلى الخلف البتة. فلو كان عندك قياس مستقيم معدا من مادة الخلف بعينة، أو من مادة أخرى لكان يمكنك أن تتسلم مقدماته من غير أن يحدس المجيب بما يلزمها، وخصوصا إذا استعملت إخفاء النتيجة فإذا تسلمتها لزمت النتيجة، وقضى الأمر، وكان يمكنك في القياس المستقيم المشارك للخلف في المادة أن تتسلم نقيض المحال ولا يشعر المجيب بعاقبته. وأما إذا أوردت المحال على انه محال، وأفطنت المجيب عاقبته، فلا يبعد أن يشاكسك الآن مشاكسة، ربما لم يقدم عليها حين لا يفطن لذلك.
واعلم أن المحال الذي نذكره هاهنا، وهو الشنع في نفس الأمر، فإن الشنع هاهنا هو المحال، كما أن المشهور هاهنا هو الحق. ويجب أن يحتال في ادعاء المقدمات الكلية أن يكون محرزة بالاحترازات التي لا يوجد معها نقض وعناد، ويكون الحكم فيها مطردا في الجزئيات، فإنه إذا فقدت المناقضة أذعن للتسليم.
ومن المسائل ما يشتمل على القياس وعلى النتيجة معا، كما يقال: أليس إذا كان فلان كذا، وفلان آخر كذا، فكذا كذا. وهذا مما لا ينبغي أن يستعمل في أكثر الأمر، فإن هذا يكشف مناسبة ما بين المقدمات والنتيجة فيعرضها للإنكار، فلا ينعقد القياس بل ينحل.(2/136)
ومن الناس من إذا سئل عن المقدمات المطلوب تسليمها، وشنعت بالقياس عليها أوهمه اقتران القياس بها أن تسليمها واجب. فهؤلاء لا بأس بمخاطبتهم على هذه الجهة. وليس كل سؤال كلي كما علمت جدليا، فإنه ليس السؤال عن ما هو، وعن أي الأشياء هو جدليا، اللهم إلا أن يكون على أحد وجهين: إما لاستكشاف لفظة يستعملها السائل، وأكثر هذا هو للمجيب، وإما على سبيل المطالبة بأحد طرفي النقيض؛ بأن يقلب السؤال عن الماهية إلى الهلية وتكون حقيقة السؤال تشير إلى الماهية، وذلك أن يجعل التحديد في قسمة طرفي النقيض، كمن يسأل فيقول: هل تقول إن ماهية الخير هو انه الذي يتشوقه الكل، أو لا تقول؟ فغن هذا يستدرج الماهية لا غير؛ وربما حمد، وربما لم يحمد. وهذا مثل أن تقول: إن لم تكن اللذة هي المتشوقة للكل فترى ما هي، ويكون كأنه يقول إن لم تكن اللذة هي كذا، فليس لها حد آخر. وكما تقول: إن لم تفهم هذا عن اللذة، فهل تفهم عنها غيره طلبا لتفصيل معاني الاشتراك. وهذا من المواضع التي تتعلق بالشهرة والحمد. فإنه إن وقع الاصطلاح من الجدليين على قبوله قبل، وإلا فللمجيب أن يقول: هو شيء لا أقوله لك، ولا أفسره، ولا يلزمني ذلك. ولعله من ساعد المجيب وتكفل إيراد حد آخر، ولإظهار اشتراك الاسم في مثل لفظة اللذة كان إلى الإنصاف ما هو. ويجب أن لا يظهر السائل حرصا على تسليم شيء بعينه، فإن ذلك يغري مجيبه باللجاج، ويدل على عجزه، وعلى إزجاء بضاعته إذ هو فقير لا قياس له إلا عن مواد بأعيانها، بل يجب إذا رآه يتعسر أن يتجافى عن تلك المقدمة، وينحرف عنها إلى شيء آخر، ثم يعاودها على جهة لطيفة من الجهات المذكورة.
وكذلك فغن الولوع بتكرير سؤال بعد سؤال، وتسلم بعد تسلم، من غير أن يتبع ذلك بالإنتاج، هو ردي؛ لأن الجدل لا يتضمن من المطالب إلا ما هو قريب المكان من المقدمات. وأما المطالب التي بينها وبين أوائلها مقدمات كثيرة جدا فهي مطلب علمية. وقد علمت هذا فيما سلف. فتكون إذن المقدمات التي ينتفع بها السائل في إبطال الوضع محدودة في عدد ليس بذلك الكثير. فمن أمعن في السؤال مجاوزا به ذلك الحد، فهو إما متوجه بتلك المسائل إلى المطلوب على سبيل خارج عن الجدل، بل أولى أن يكون ذلك تعليما؛ وإما هاذ يشغل الزمان، ويتمحل ما لم يفده، ويطوله بذلك هربا من أن يظهر قصوره عن إنتاج نقيض المطلوب، وتوقعا لأن يسمج طبعه بتذكيره ما يجب أن يعتمد عليه، إذ هو في الحال خال عادم للقياس.
والأمور التي يصعب على الجدلي مصادفة القياس عليها، إما لأنها أمور هي أحوال المبادئ، وإنما نتمكن من معرفة أحوالها إذا عرفت حدودها، وأنها إذا حدت لاح من تحديد حدودها أحوالها وأعراضها، كما علمت في مواضع أخر، فأمكن حينئذ أن يستعمل القياس على أحوالها، أعني بعد تحديدها، وتحليل حدها، فتحتاج أول شيء أن تتسلم حدودها؛ وتسلم الحدود عب. وذلك لأن السؤال عن الماهية ليس بجدلي، والسؤال عن الحد نظر في النقيض أيضاً، وعلى النحو المذكور معرض لإيجاب الطرف المقابل دون طرف الحد.
وإثبات الحد صعب جدا، وإبطاله سهل جدا. فإذا تأكد المجيب ولم يسلم الحد منع عقد القياس على الأحوال التي إنما تنكشف عن الحد ولأن الأوائل أيضاً إنما ترسم في أكثر الأمر بما يتأخر عنها؛ والمتأخرات عنها ربما كانت أمورا كثيرة، ويكون ترسيمه ببعضها ليس أولى من ترسيمه بالبعض الآخر، فيتلبد الاختيار في رسمها.(2/137)
وأيضاً، فإن الحدود قد تشوش ما يقع فيها من اشتراك الرسم والاستعارة فيتكدر فهم الحد نفسه، فيعمر على السائل إيراد الحجة والتوبيخ، وعلى المجيب أيضاً جهة الاحتراز بهذا. وإما لأنها أمور قريبة من الأوائل فتكون صعوبة القياس عليها لشد قربها من الأوائل فلا يوجد بينها وبين الأوائل التي تتبين به إلا مسلك واحد. ومصادفة الواحد قد تتعسر كثيرا، فإنك إذا كان دليلك على أمر ما إنسان واحد، وهو غائب عنك، وكان وجدانك ذلك الأمر أعسر عليك من أن يكون لك أدلاء عدة أيهم صادفته فقد صادفت الدليل. وإما لأنها أمور متأخرة بعيدة عن المبادئ. وهذه فغنما يصعب على الجدلي إصابة القياس عليها لأمور ثلاثة: أحدها كثرة المذاهب الآخذة من المبادئ إليها؛ والثاني طولها؛ والثالث اختلاط بعضها ببعض فيضل الجدلي في تخليصه كلا عن صاحبه، وإفراده عمدة لنفسه إلى أن يتخلص له واحد من جملتها عن الآخر تخلصا لا يضل فيه. وهذا صعب.
وسواء كانت هذه المبادئ مبادئ بحسب الحق أو بحسب الشهرة، فإذا تعذر عليك إصابة القياس على شيء، فانظر في حال حدّه واستكشفه، وانظر هل في حده او في اسمه اشتراك أو استعارة، وافزع إلى طلب القسمة، وإلى طلب الأوساط المرتبة، وعلى ما علمت في كتاب القياس.
واعلم أن التحديد نافع جدا في مصادفة الحجة؛ كمن يلتزم مثلا تصحيح أن الواحد ضده واحد؛ فإنه إذا وفّى الضد حقه في حده، فقال: إن الضد هو المباين في معنى واحد مباينة في الغاية، فطن الذهن حينئذ أن غاية مباينة الواحد من جهة واحدة هو لواحد. وكذلك في الهندسة إذا تعذرت معرفتنا بحال المثلث المقسوم بخط مواز لقاعدته، فرجعنا إلى تحديد النسبة، وصادفنا السطحين في النسبة كالخطين، كانت نسبة الخطين في جهة نسبة السطحين، وكان كذلك حال الخطين في الجهة الأخرى. فمتى علمنا بأن المناسبة ما هي، وأنها تقتضي ان تكون حال الأمور الداخلة فيها في أن تكون في حكم ما وأن لا تكون حالا واحدة، علمنا أن نسب الأضلاع واحدة. واعلم أن جميع التعريفات إنما تُفرض من أمثال هذه الوجوه المذكورة.
وكثيرا ما يعرض أن يضعف السائل عن إيراد مقدمات تكون أشهر من النتيجة، فتلوح له مقدمات هي إما مثل النتيجة أو أقل شهرة منها، فيختارها فيصحح المطلوب؛ وإنما يصحح المطلوب بعد أن يقيس عليها ويصححها، إذ هي تعرض أن لا تسلم، فيقع من بمحل القياس على كل مقدمة منها في كل شغل. ولو أنه أصاب رشده، لكان يصرف وكده إلى ارتياد قياس على نفس المطلوب؛ فإن حق مثل هذه المقدمات بأن يقاس عليها هو حق المطلوب، فالأولى به ان يشتغل بتصحيح الأصل المطلوب، فربما كان ذلك أهون عليه من اشتغاله بتصحيح المقدمتين الذي يتضاعف عليه معه التعب. ومع ذلك كله فيحتاج إلى أن يؤلف منهما مرة أخرى قياسا يؤديه إلى تصحيح المطلوب. ولو أنه اعرض عن تلك المقدمات، وطلب القياس على المطلوب الأول، لكان تعبه في ذلك كتعبه في تصحيح كل مقدمة منهما، اللهم إلا أن يضطر إلى ذلك لعوز القياس، إلا من جهة تلك المقدمات. وأما الجدلي البليغ في مجاهدته، فلا يرضى لنفسه بارتياد قياسات إلا من مقدمات مشهورة أو متسلمة، وأوضح من النتيجة؛ ولا يسبق لمثل ما ذكرناه. وأما في الارتياض؛ فالأصوب أن يستعرض كل قياس، وعلى كل طرف من طرفي النقيض.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في وصايا المجيب
وأما الوصايا التي يجب أن يمثلها، فليستمع من هذا المبدأ أن كل واحد من المجيب والسائل قد يكون مجيدا، وقد يكون غير مجيد. والسائل إنما يكون مجيدا من جهتين: إحداهما جهة الفعل، والأخرى جهة القدرة.
والذي يكون من جهة الفعل فأن يأتي بقياس من مقدمات هي أشهر؛ والذي يكون من جهة القدرة أن يكون قد ساق كلامه سياقة اضطرت المجيب إلى أن لزمه مقابل الوضع عن مقدمات ليست بمحمودة؛ فكان من نفاذه فيما هو محاولة أن عمل مما ليس بمحمود ما يعمله غيره من المحمودات، كمن بلغ من اقتداره أن يقطع بالكهام من السيوف، وأن يصيب بالأعصل من السهام.(2/138)
والمجيد للجواب يكون مجيدا من جهتين: إما من جهة فعل أو من جهة قدرة. والذي من جهة الفعل أن يكون ممتنعا من تسليم ما ليس بمشهور ومسلما لما هو مشهور. والذي هو من جهة القدرة، فهو إما باعتبار الانقطاع والالتزام أو باعتبار الجدال. وإنما يكون مجيدا باعتبار الالتزام أن يكون الالتزام لا يأتيه مغافصة، بل إذا أل عن طرفي النقيض ليتسلم عنه مقدمات القياس المسوق نحو مقابل وضعه قال: إني إن سلمت هذا لزمني، وإن لم أسلمه لم لزمني، لكني أوثر منقبة الجميل من تسليم المحمود على مثلبة القبيح من الانقطاع. فلأن أسلم المحمود ويلزمني آثر عندي من أن لا أسلم المشهور؛ ولى ذلك. ويكون جملة غرضه أن يعلم الإلزام ليس لضعفه، بل لضعف ما يحفظه، لأنصافه.
وأما باعتبار الجدال والمجاهدة، فهو أن يكون مع تسليمه للمشهورات يمنع أن يساق إلى النتيجة، أو أن يكون قادرا أن يورد فروقا وشروطا تجعل القول المشهور مطلقا بحيث إذا لم يراع فيه ما أورده من الشرائط صار غير مشهور فيكون له أن لا يسلمها وأن يمكنه التوقيف على أن هذا الشنع المورد عليه في التوبيخ غير شنع إيراد شرط يهدم به ظهور شناعته. وهذا كله في المفاوضات الموجهة بمعنى الغلبة: وهي المحاورات الجهادية التي يكون قصارى سعي السائل أن يفعل، وقصارى سعي المجيب أن لا يفعل.
وأما المحاورات الارتياضية، فينبغي أن لا يصرف الهم فيها إلى الاحتيال لدفع الإلزام، بل إلى استكشاف المعاني، لاستيضاح الرجمان، والرجوع إلى الأولى أو الحق ارتياضا بالمشاركة.
وكل مجيب فإما أن يحفظ وضعا مشهورا أو شنعا، أو غير مشهور ولا شنع. وكل واحد من هذه، وإن كان قد ينتج من غير جنسه، فالأولى أن ينتج من جنسه. فإن المشهور قد يمكن أن يبين بشنع، كالحق يمكن أن ينتج عن كاذب؛ وكذلك الشنع قد يمكن أن ينتج عن المشهورات، ليس كالباطل الذي لا ينتج عن الحق. وذلك لأن المشهور ليس يجب أن يكون حقا، بل ربما كان باطلا، وأمكن أن يلزمه باطل، وأن يكون ذلك الباطل مما هو أيضاً شنع وإن كانت مباديه غير شنعة، فإنه وكثير من القياسات الجدلية تساق نحو أمور شنعة وباطلة؛ كمن يثبت اثنينية الصانع من جهة تضاد الفعال، فإنه إن كان ربما أنتج من الباطل باطل، وأمكن أن يكون ذلك الباطل مشهورا، وأمكن أن يصير أي باطل شئت شنعا في زمان وفي وقت، فلا يبعد أن ينتج شنع من مشهور.(2/139)
والمشهورات الكاذبة التي أضدادها شنعة، قد يمكن أن يبين بطلانها بأوليات تساق إليها نتيجة بعد نتيجة،فتنتج هي عنه آخر الأمر. وتكون تلك الأوليات لا محالة مشهورة، إذ كل أولى مشهور، فإذن ليس يبعد أن ينتج شنع عن مشهورات. وأما ما ليس بمشهور ولا شنع، فلا يبعد أن ينتج عن المشهورات والشنعات، إذ كان الإنتاج في أكثر الأمر إنما يكون مما هو معروف لما هو مجهول، ولا يبعد إذن أن ينتج عن المشهور نتيجة لم يكن مفطونا لها قبل، حتى تحمد أو تذم. وكذلك من الشنع أيضاً. فإذا قد اتضح هذا، فليس بممتنع أن ينتج المشهور عن مخالفه، والذي ليس بأحدهما عن مخالفه؛ لكن الأكثر هو أن الشنعات من المقدمات لا تؤدي إلى المشهورات بسبب أن القياس الجدلي إما بسيط وإما مركب قليل التركيب؛ إذ الإمعان في التركيب - على ما علمت - إنما هو للعلوم. والمسافة بين الشنع والمشهور ينبغي في الأكثر أن تكون بعيدة؛ فلو كانت المسافة بينهما في أكثر الأمر قصيرة؛ لفطن لها في أكثر الأمر، فيكون المصير منها إلى المشهور بتركيبات قياسات كثيرة. وكذلك الحال في جانب المشهور. وكذلك أيضاً النتائج المجهولة قلما تول إليها المقدمات المعلومة الشهرة إلا بوسائط كثيرة. مثل المسائل الهندسية البعيدة عن المبادئ، فإن المشهورات في الأكثر لا توصل إليها. والقريب من المشهور في أكثر المر يكون مشهورا شهرة ما، أو مفطونا بوجه ما. والمفطون له بالأكثر لا يعدم إحمادا ما عند الظن، أو الذم، سواء أخذت الشهرة والشنعة مطلقة، أو بحسب قوم أو إنسان. فإذن الأكثر هو أن المشهور لا ينتج الشنع، والشنع لا ينتج المشهور. وإذا أنتج المشهور من الشنع لم يكن ذلك طريقة جميلة، لأنه إنما يجب أن ينتج الشيء عما هو أعرف، فينبغي أن ينتج المشهور مما هو أشهر. وكل واحد من المشهور والشنع لا يتوصل منه بسرعة إلى ما هو بعيد عن التفطن له، ليس يميل الظن إلى إحمادا أو ذمه بوجه. وهذا كله في الأكثر.
وأيضاً فغن مقابل المشهور في الأكثر شنع، اللهم إلا أن يكون المشهور ليس مطلقا، بل بحسب قوم وقوم، ووقت ووقت. مثل أن الغنى مؤثر، والغنى ليس بمؤثر بل وبال؛ فأيهما جعلته مشهورا فمقابله شنع عند من هو مشهور محمود عنده، وفي ذلك الوقت. ومقابل الشنع مشهور؛ فإذا كان الوضع مشهورا، فغن نتيجة السائل شنع، وبالعكس. وإذا كان ليس بمشهور ولا شنع، فإن النتيجة كذلك. وإذا كان كذلك فينبغي أن يحتاط المجيب المتقلد نصرة وضع مشهور، فيمتنع عن تسليم الشنعات، لأن نقيض وضعه، وهو نتيجة السائل أمر مستشنع، ولا يكاد ينتج عن المشهورات، بل المشهورات أقرب إلى أن تنفع في نصرة وضعه من أن يناقض بها وضعه. وإن كان متكفلا لنصرة شنع، لم يسلم المشهورات، ويقول: إني بعد أن لم أسلم لك مثلا أن الخير والشر متقابلان، فلست أسلم لك أن العم والجهل متقابلان، سواء كان ينصر الوضع على أن ذلك رأيه أو على أنه نفسه ثابت فيه عن غيره، فيقول: إن الذي أنصر وضعه إذا لم يسلم لك أن الموجودات كثيرة، فمتى يسلم لك أن جوهرا وعرضا وهما غيران. وأما إذا تكفل نصره وضع ليس بمشهور ولا شنع، فليسلم المشهورات والشنعات، فإن المسافة منها إلى إيضاح الأمر الذي لا رأي فيه في المشهور يشبه أن يكون مسافة بعيدة، وأن وقت المحاورة الواحدة لا يفي به، وإن كان بحيث ينصر وضعا شنعا واستقبح إنكار المشهور وتسليم الشنع، ثم استضعف رأى نفسه في تسليم المشهور، وإنكار الشنع، تقدم فعرف أن الذي يسلمه يبطل الوضع الذي ينصره. ولكنه إنما يسلمه كراهة للعدول عن الإنصاف.(2/140)
وللمجيب أن يتوقف في ابتداء الأمر عن تسليم ما يراد منه تسليمه إذا كان فيه غموض، فلا يسلمنه إلا بعد الاستكشاف والاستفهام. وإذا كان فيما يطال بتسليمه اشتراك اسم، فله أن يستفسره المعنى المقصود فيه، سواء تبرع فعدد معاني ذلك الاسم بنفسه، أو لم يتكلف ذلك، بل جعله إلى السائل، فإنه لا يلزمه أن يجيب عما لا يفهمه، ولا عار عليه أن يقول فيما لا يفهمه انه لا يفهمه. فإذا كان الحكم صادقا أو كاذبا في جميع المعاني لم ينتفع كثيرا بإذهاب الزمان في الاستفسار والاستفصال؛ وإن كان كاذبا في بعض المعاني وصادقا في البعض، فحينئذ يجب له: إما أن يستفهم المعنى، وإما أن يعين أحد المعنيين، ويعرف صدق الحكم عليه دون الآخر، ويجعل الاختبار في المعنيين على السائل.
وعلى أن للمجيب في جميع ذلك أن يسلم في ابتداء الأمر ما يطالب بتسليمه من غير دلالة على الوجه الذي يفهم، ويذهب إليه، ويعينه، فإذا أنتج عليه آخر نقيض وضعه، فكان من وجه آخر غير الوجه الذي فهمه، عاد فبين أن الذي يسلمه ليس هو على هذا المعنى، بل على معنى آخر. لكن هذا يغض من المجيب، ويدل على نقيضه وضعف فيه، أو قلة إنصاف ومراوغة. فربما ظن به أنه حينئذ قد أخذ يحتال، حين لزمه اللازم عما سلمه، فهو يحاول الآن أن يحرف ما سلمه عن وجهه. وربما ظن به أنه كان عييّا غير عالم بالاشتراك، وعاجزا عن طلب التفسير فيه.
والمجيب إذا مانع السائل، فإما أن يمانعه في المقدمات القريبة، وقد قيل في ذلك. وإما أن يمانعه في المقدمات المنتجة للمقدمات القريبة. والسائل إما أن يأخذ تلك المقدمات على أنها تعد نحو قياسات، أو على أنها تعد نحو الاستقراء والتمثيل. وإذا أخذها للاستقراء، وكان المجيب قد سلم الجزئيات، لم يكن له أن يماحكه، أو يمتنع عن القبول إلا بالمناقضة، كما قيل من قبل. وأضعف من المناقضة أن لا يسلم العموم مستغنيا عن أن لا يسلمه بقياس يبين به في بعض الجزئيات أنه بالخلاف، فيكون ذلك قياسا على مقدمة العناد، وهي مقدمة المناقضة. فإن للمجيب أن يفعل هذا، وأنا لم يكن إلا عمل مضطر. وإنما لا يكون له أن يفزع إلى مثل هذا إذا استقرى عليه حين ما يقصد أن يقيس لا على مقدمة العناد، بل على نفس المطلوب ليبطل به كلية الاستقراء، ويجعل للمطلوب مناقضة لللاستقراء، لئلا يتم الاستقراء، فلا يصح نقيض المطلوب. وهذا مما قد سلف لك ذكره.
وأما إذا حاول أن يأتي بقياس ينتج جزئيا غير المطلوب، يخالف حكمه حكم ما عداه فله ذلك؛ كما له أن يأتي بالجزئي المناقض به حسا أو إشارة. ولكن المشاهد والمحسوس المعترف به، آكد من المبين بالدليل. وليس له بعد تسليم الجزئيات أن يأتي بقياس يعاند به المقدمة الكلية عنادا كليا. وكيف وقد سلم الجزئيات وما يعمل بقياسه، وقد أورده قياسا يخالف الظاهرات. والقياسات التي توجب خلاف الظاهران، وإن كان يوجد فيها ما يصعب حله، مثل قياس " زينن " على إبطال الحركة؛ ومعلوم من أمرها أنها مماحكة وعدول عن الحق.
والمماحكة محاورة يعدل بها عن الإنصاف في طريقة المحاورة الاحتجاجية؛ لمثل هذا ما الأولى بالمجيب أن لا ينصر وضعا شنعا، فيحوج إلى المماحكة.(2/141)
وإذا تقلد المجيب وضعا صادقا في المشهور يقيس بقياس ينتج نقيضه في الظاهر فمعلوم أن فيه كذبا. فإن كانت إحدى المقدمتين كاذبة والأخرى صادقة، فلا ينبغي له أن يأخذ في المماحكة بالامتناع عن تسليم الصادقة في المشهور، فينسب إلى التعسف وخصوصا وله عنه محيص؛ بل يجب أن ينقض القياس من جهة إبطال الكاذبة. وأما إذا اجتمع فيهما الكذب، فإنه وإن كان إنكاره أيهما شاء رافعا للقياس، فأولى ما ينكره هو الكبرى المشتملة على القول الكلى؛ فإنها إذا دل على كذبها بالضد أبطل القياس، وأبطل أيضاً صدق النتيجة في نفسه، مثل أنه إذا كان قال: كل ح بَ، وكل بَ أ، وكان لا يمكن أن يكون شيء من بَ أ، أ امتنع القياس، وامتنع أيضاً صدق أن كل ح بَ وذلك لأنه إذا كان حَ ب، وكان لاشيء من بَ أ وجب أن يكون لاشيء من حَ أ. فأما إذا منع أن يكون كل حَ ب، وسلم أن كل بَ أ، منع القياس، ولم يمنع أن حَ تكون شيئا آخر غير َأ ل بَ، ويكون كل ذلك الشيء َأ. مع أن بَ َأ فيكون َأ أعم من بَ ومن ذلك الشيء، ويكون هناك قياس آخر. فيكون إنتاج كون كل حَ أ ممكنا، فلا يكون إذن إنكار الصغرى ومقابلته بالضد رافعا للقياس والنتيجة معا.
ومثال ذلك: إن كذب كاذب في أن سقراط جالس، وأن كل جالس يكتب، فمنع أن يكون سقراط جالسا، لم يمنع أن يكون قائما، ويكون كل قائم يكتب، كما يكون كل جالس يكتب. وأما إذا قلنا: لاشيء مما هو جالس يكتب، رفعنا القياس والنتيجة معا. وهكذا يجب أن تفهم هذا الموضع.
وممانعة المجيب إما نحو القول، وإما نحو القائل. والتي نحو القول، فان يناكد فلا يسلم المقدمات بل يأباها إباء لا على سبيل مناكدة ومشاقة للسائل إذا وجده ضعيف الملكة ضيق المجال، ومع ذلك فيعوص عليه ويأتي بمناقضة ومقاومة غير مناسبة ولا حقة، فيضعف السائل عن الإمعان فيما يحاوله، ويتبلد، ويتحير.
وإما نحو القائل؛ فأن يكون مثلا المقدمات صحيحة، وقد يلزم عنها المطلوب، إذا غيرت بع التغيير، أو ألحق بها بعض الإلحاق. لكن السائل يعجز عن ذلك فيقاومه، لا من حيث إنكار المقدمات، بل من حيث يقول إن تأليفك غير منتج، وإن ما تدعيه غير لازم مما تقدمه، فيكون القصور إنما جاء من سوء تأليف السائل للقرائن، وقبح ترتيبه للكلام، وإن كانت قوة كلامه قوة قياسية، وعلى سبيل الأمثلة المذكورة في تحليل القياسات حين بُيّن الفرق بين اللازم مطلقا، وبين اللازم بقياس. وربما كانت هذه الممانعة المتوجهة نحو القائل من سبيل أخرى؛ وذلك أن يطول عليه الزمان بمباحثات يعود فيها كأنه سائل، فيجذبه إلى أمور لا ينتفع بها، ويجد منه انجذابا معه، فيسخره وينسيه مبدأ حركته، ويتشوش عليه الأمر لاختلاط غرضه بما يشغل وقته من أمور خارجة. وهذا خسيس جدا. والمجيب يبكت السائل إما لسوء قوله، وإما لسوء مشاركته إياه لشدة معاسرته في تسليم ما حقه أن يسلم، فإن كان مجاهدا في مجادلته، فعسى أن يكون عذره في ذلك أقرب من القبول. وأما المجادل على سبيل الارتياض، فإنه يعسر بذلك على نفسه، إذ الارتياض معاملة شركية تعود فائدتها على الشريكين معا؛ فأيهما عاسر حرم نفسه جدواه كما يحرم شريكه، ولا يكون السائل حينئذ مستعجزا إن انقطع دون غايته، فإنه قد أسيئت مشاركته، اللهم إلا أن يكون الارتياض هو الارتياض المذكور بل الارتياض لكسب ملكة المجاهدة والمعاندة، فذلك شئ آخر. والمعاسر في هذه المعاملة حقه أن يقابل بمعاسرة مثلها. وكذلك إن كان الغرض فيه المجاهدة، فإن المعاسرة في جدل الجهاد له حد ما إذا تعداه الشريك لم يكن معذورا. فإن ليس له أن ينكر المشهورات الجلية والأمور الواضحة، ويمعن في ارتكاب الشنع. فإذا نعل ذلك فلا لوم على السائل إذا احتال عليه من كل وجه، وقاس عليه من كاذبات، ومن خفيات الشهرة، بعد أن يستدرجه بلطفه، ويجتلبه إلى تسليمها له.
ولا يبعد أن يكون الرضى لنفسه بإنكار المحمولات ممن يعترف بالكذب والخفي ويسلمه، ويقول به فإنه لو كان كل ذلك المميز، وكل ذلك المنصب، لما ارتكب الشنع. فهو إذن يجب لعله يسلم الشنع والخفي الشهرة، فإذا سلم وقيس عليه من هناك، فلم يسئ السائل في القياس عليه مما هو أخفى، أو ما هو كذب؛ بل الذنب ذنبه من جهتين: إحداهما أنه عائد الظاهرات، والثاني أنه سلم ما لا يجب تسليمه.(2/142)
وبالجملة فإن مجادلة المتعسرين ليس بحسب ما يختاره السائل بل بحسب ما يمكن وكما أن كثيرا من الناس إذا انفرد بفكر نفسه قال المتناقضات، والتي في قوة المتناقضات، وصادر على المطلوب الأول مع نفسه لا يشعر، فكذلك لا يبعد أن يكون ذلك حاله مع غيره، كان سائلا أو كان مجيبا، فيسلم نقيض وضعه من حيث لا يشعر، ويسلم ما لا ينبغي تسليمه. فإن استعمل السائل حينئذ ما هو مصادرة على المطلوب الأول، أو عكس قياس، فليس الذنب إلا للمجيب.
فأما الموضع المستحقة للتبكيت في القول نفسه فهي خمسة: أحدهما أن تكون الأقاويل لا تنتج أصلا، إذ لا يكون تأليفها تأليفا قياسيا لا بالفعل ولا بالقوة، حتى يكون بحيث إذا زيد فيها شئ أو نقص، تكون له صورة قياس منتج.
والثاني أن يكون منتجا ولكن لغير المطلوب.
والثالث أن يكون قد ينتج المطلوب، ولكن مما هو كذب وغير مشهور.
والرابع أن يكون فيه فضل لا يحتاج إليه.
والخامس أن تكون مقدماته صادقة، ولكن أخفى من النتيجة.
وهذا كله تبكيت القول من حيث هو قول؛ والذي سلف هو تبكيت القول من حيث القائل.
الفصل الرابع
فصل (د)
في الوصايا بينهما بعد تعريف القياس الفاضل
والقياس المستحق للتبكيت وأصناف ذلك وفيها أصناف المصادرة على المطلوب الأول والمصادرة على المقابل المطلوب
واعلم أنه لا يستوي كل موضع في استحقاق حمل مقدمات القياس عليه، بل لكل شيء مقدمة بحسبه. وكثيرا ما يكون القول المنتج أخسّ مما لا ينتج؛ وذلك لأنه قد يكون القول المنتج في صورته مؤلفا من كاذبات وشنعات وأقل شهرة. والقول غير المنتج في صورته قد يكون مؤلفا من صادقات؛ وربما كان بزيادة تزاد عليه يعود منتجا، والكاذب لا يفلح في حال. وأخس ذلك كله أن يكون مه انه مؤلف من كاذبات يراد به إنتاج صدق؛ وبالحقيقة فإن هذا لا يكون قياسا على الشيء مناسبا.
والقياسات إما تعليمية، وإما احتجاجية من عمل جدل الجهاد؛ وإما مضللة سوفسطائية التي يظن أنها تبرهن وبالحقيقة لا تبرهن؛ وإما تشكيكية. فمن ذلك جدلي ارتياضي يتم بإيراد قياسين على متقابلين؛ كما علمت. ومن ذلك جدلي امتحاني، كما يورد من القياسات على نقيض الموجود الحق والمشهور، كقياس " زينن " على دفع الحركة إذا لم يُرد به غير الامتحان. فأما إن أريد أنه مؤد إلى إيجاب حق، فذلك مضلل. والنتيجة المظنونة قد تتبع حقا ومظنونا، وقد تتبع مظنونين، وقد تتبع شنعا قد سلم ومظنونا، ويكون حكمه حكما بين الأمرين، وأضعف في بابه من كل واحد مما استعمل في قياسه.
ومن الوجوه التي يبكت بها القياس أن يكون فيه فضل لا يحتاج إليه، ويتم الكلام دونه، ثم يكون دخوله يعمي وجه اللزوم، ويخفي المقدمة التي عنها اللزوم، كما إذا عرض قائل يريد أن يبين أن بعض آكد من بعض وكان يكفيه مثلا أن يقول: لأن الأمور بعضها أكثر في الإمكان من بعض، والظن بما هو أكثر قوة أو عدد ظانين أقوى؛ فيترك هذا ويقول: إن من الأمور ما هي دائمة، ومنها ما هي غير دائمة؛ والدائمة أفضل. ثم غير الدائمة منها ما هو أفضل وأتم وجودا، ومنها ما هو أضعف وجودا، والظن لا يكون في الدائمة وإنما يكون فيما هو في الممكن الأكثري؛ ثم يتبعه بتمام الكلام. فهذا كلام فيه حشو يعميه ويصرف عن التفطن للقياسية التي فيه.
والقول الفاضل هو الصادق المقدمات الظاهرها، المصيب الترتيب بالفعل؛ ويليه الذي إن لم تكن مقدماته ظاهرة كانت قريبة عنبا، أو كانت نتيجة لازمة منها؛ أو إن كان قد عدم تمام هيئة التأليف فهو بحيث يعود إلى الترتيب والتأليف الواجب بقليل تقديم أو تأخير وزيادة ونقصان.
والقول الرذل هو ما يرى أنه منتج وليس بمنتج، وهو المرائي المشاغبي، أو الذي ينتج ولكن غير الذي يراد إنتاجه. ومن وجوه رذيلة القول في ذلك أن يكون منتجا للمطلوب، ولكن عن مقدمات خارجة عن الصناعة غير مناسبة. كمن يبرهن على الطب من مقدمات هندسية، أو على المطلوب الجدلي ببرهان تعليمي حقيقي.(2/143)
ومنها أن يكون إنتاجه للصدق إنما هو عن الكذب، لا على سبيل قياس الخلف، و لأن الكذب مشهور؛ فيكون بالحرى أن يلام مستعمله لأمر هو مستحقه لا لأجل الكذب، فإن للكذب مدخلا في استعمال الجدل، فإن القياس الكذب قد يستعمل إذ كان مشهورا. ومن استعمل لا على هذه الجهة، فقد رام المغالطة قصدا، أو غلط سهوا. وقد يستعمل الكاذب في موضع آخر استعملا موافقا، وهو أن يكون المجيب يحفظ صادقا، فيلزم السائل أن ينتج كاذبا، ويلزم أن ينتجه عن كواذب محمودة يتسلمها، فلا يكون هو معذولا في تسلمه الكاذب للكاذب.
ومنها أن يكون مصادرا على المطلوب بالحقيقة في المستقيم، أو على المقابل بالخلف، أو يكون كذلك بحسب الظن. وقد علمت ما هو بالحقيقة مصادرة على المطلوب الأول، وأنه هو الذي يكون حداه بعينه المطلوب. وأما الذي بالظن، فهو الذي يخالف حداه في الحقيقة حدي المطلوب، لكنه يؤخذ في الظن مكانه، ويقال لمستعمله إنك سواء أخذت ذاك أو أخذت هذا بدله.
والمصادرة التي بحسب الظن هي على وجوه: منها أن يأخذ الأعم مكان الأخص ليقيس، فيقول له المجيب: إنك قد أخذت الأمر نفسه في حجته، إذ سواء استعملت الأخص أو الأعم. كمن يستعمل في إثبات أن علم المتضادات واحد، أن علم المتقابلات واحد، فيقول له المجيب إن هذا بعينه هو المطلوب. أو يقول له: لو سلمت هذا لسلمت ذاك.
والثاني أن يأخذ الأخص مكان الأعم ليستقرى، كما يوجبه عك المثال المورد.
والثالث أن تكون الدعوى جملة، فيأخذ السائل بالقياس في المصادرة على جزء جزء منها. كمن يريد أن يبين أن الطب معرفة بحال الصحة وحال المرض، فيقول: لأن الطب معرفة بحال الصحة، والطب معرفة بحال المرض.
والرابع أن يأخذ اللازم بدل الشيء؛ كمن يقول: إن الضلع مباين لأنه غير مشارك؛ أو الإنسان محبوب لأن الضاحك محبوب.
والمصادرات على المتقابلات على خمسة وجوه أيضاً: إما الحقيقي المذكور. وإما أن يأخذ بدل النقيض محمولا مضادا، كقولنا: رزل، لقولنا: فاضل، بدل قولنا: ليس بفاضل. وإما أن يوجب في الجزئي مقابل ما أوجب في الكلي المدعى. وإما أن يصادر على ضد لازم ما وضع في المقدمات، أو لازم ضده؛ أو على ما يلزمه ضد لازم الموضوع.
والخطأ في المصادرة على المطلوب الأول هو باعتبار النتيجة ومراعاتها إذا ارتقينا إليها فوجدناها مأخوذة في بيان نفسها. وأما الخطأ في القياس على مقابل المطلوب، فهو اعتبار مناسبة المقدمات بعضها إلى بعض. فالأول يلتفت فيه إلى النتيجة، والثاني يعتبر حاله من نفس القياس.
وينبغي لمن أراد أن تحصل له ملكة الجدل أن يتعود عكس القياس بالنقيض والضد، فيتوسع في إناء القياسات. وربما اقتدر على أن يتلطف متى شاء في ذلك، فينقض القياس من نفسه، إذا أمكن أن يخفى صورة العكس، ووجد الشهرة تعينه.
ويجب على الجدلي أن لا يزال يطلب الدربة بالاحتجاج للشيء الواحد من المواضع المذكورة بحجج كثيرة، ثم يعود ويحتج لمقابله من مواضع أخرى فتارة يعاند مقدمات تلك الحجج، وتارة مقدمات هذه الحجج التي تقابلها؛ فإن ذلك يخرجه؛ وخصوصا إذا كان جيد الطبع، حسن الاختيار للأفضل والاجتناب للأخس. وأن يتحفظ المسائل الخلافية المشهورة، ويحفظ حجج الإثبات والإبطال فيها من المواضع التي ذكرناها. وأن تكون حدود الأصول والمبادئ مشهورة عنده، وتكون كلها على طرف لسانه. وأن يتدرب في تصيير القول الواحد أقاويل كثيرة بالقسمة، والأمثال، وتحليل الحدود والقياسات إلى المبادئ والأصول بممارسة كتاب " انولوطيقا " . وأن يجتهد على رد الجزئيات إلى أحكام عامية تكون أنفع له من حيث الحفظ، وإن كان أخذ العامي صعبا في كل شيء.
وأما في الاستعمال فينبغي للمجيب أن لا يسلم الكلى ما قدر؛ فالقياس ينبعث من الكلى، ما أن الاستقراء ينبعث من الجزئي. وقد علمت أوفق موضع استعمال كل واحد منهما، إذ علمت أن القياس ينبغي أن يستعمل مع الأقوياء، والاستقراء مع العامة.
واعلم أن صناعة الجدل تفيدنا القوة على اكتساب القياس، وعلى المناقضة، وعلى المعارضة بالاحتجاج، والتوصل إلى المقاومات، والشعور بصحة السؤال أو سقمه.(2/144)
والقياس فعل السائل، والمقاومة فعل المجيب. والمعارضة أيضاً للمجيب، وهي أن يورد قياسا ينصر وضعه يحاذي به قياس السائل الذي أبطل وضعه حين لم يقدر على مقاومة ذلك القياس من السائل؛ وهي ضعيفة جدا. والمناقضة أيضاً للمجيب، وهي في إبطال حكم الاستقراء، أو تكذيب الكبرى.
والقياس والمعارضة يبتدآن من كثرة إلى وحدة. والمناقضة والمقاومة يردان وحدة إلى كثرة. أما المناقضة فبأن يجعل الكلى الواحد الحكم غير كلى ومختلف الحكم. وأما المقاومة، فلأنها انصراف ما عن الواحد، وهي التنبيه إلى الكثرة، وهي المقدمات، ومع ذلك فإنها تحوج إلى أن تصحح ما ينكر من المقدمات بكثرة أخرى.والأولى أن لا يتكفل المجيب حفظ كل وضع أو نصرته، ولا السائل إيراد القياس على نقيض كل وضع، بل يجب على المجيب أن تكون نصرته للمشهور والصادق، وعلى السائل أن يكون إبطاله للشنع وللكاذب. ومع ذلك، فلا ضير في أن يقابل المتعنت بالتعنت، والجاحد بالجحد، والحايد عن الطريقة بالحيد عن الطريقة. بل الأولى بمثل هذا المعامل أن يكدح، ويكتح ولو بمغالطة تروج عليه، ليعرف أنه مع إنكاره للحق قابل للباطل.
تم كتاب الجدل 5 1 /السفسطة
المقالة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم الفن السابع من المنطق في السفسطة
الفصل الأول
فصل
في تعريف المغالطة
وتعديد أجزاء الصناعة المشاغبية
قد قلنا في المحاورة الجدلية بحسب الكفاية. وأما التبكيت المغالطي، وهو القياس الذي يعمله المتشبه بالجدلى أو التعليمي لينتج نقيض وضع ما، فبالحري أن نتكلم فيه، وبالحرى أن لا نسميه تبكيتاً وتوبيخاً بل تضليلاً، كما سلف منا ذكره.
وذلك انه كما أن مِن الأمور حقاً ومتشبهاً، مثل ما أن مِن الناس مَن هو نقي الجيب، طيب السريرة، ومنهم من يتراءى بذلك بما يظهره مما يعجب منه ويكنيه عن نفسه؛ ومن الحسن ما هو مطبوع، ومنه ما هو مجلوب بتطرية؛ وفي الأمور الجمادية ما هو فضة وذهب بالحقيقة، ومنها ما هو مشبه به كمارقشيثا الفضية والذهبية، وما يتخذ من الرصاص المصلب، وما يصبغ من الشبه بالمُرار؛ ومن الفضة يصبغ بالمرار وسائر الأصباغ التي يتخذها أصحاب الحيل. كذلك قد يكون من القياس ما هو حق موجود، وقد يكون منه ما هو تبكيت سوفسطائي مشبه بالحق ولا حقيقة له قياسية موجودة، وإنما يتروج على ظن من لم يتدرب، كأنهم ناظرون من بعيد.
والفرق بين القياس المطلق والتبكيت المطلق: فهو أن القياس المطلق قياس مطلق بحسب النتيجة المطلقة؛ فإن القياس: قول إذا سلَّمت فيه أشياء لزم عنها لذاتها قول آخر اضطراراً.
وأما التبكيت المطلق: فهو قياس على نتيجة هي نقيض دعوى وضع. والتبكيت السوفسطائى: هو قياس يرى أنه مناقض للحق، ونتيجته نقيض الحق، وليس كذلك بالحقيقة؛ والسوفسطائى يروجه من غير أن يشعر هو به، أو يشعر أكثر الناس بما يفعل هو. وإنما يقع هذا الترويح لأسباب كثيرة : أوكدها وأكثرها وقوعاً ما يكون بسبب تغليط الألفاظ باشتراكها في حد انفرادها أو لأجل تركيبها؛ ويكون حاصل السبب في ذلك أنهم إذا تكلموا أقاموا الأسماء في أذهانهم بدل الأمور، فإذا عرض في الأسماء اتفاق وافتراق، حكموا بذلك على الأمور، مثل الحاسب غير الماهر إذا غلط في حسابه وعقده، ظن أن حكم العدد في وجوده هو حكم عقده؛ وكذلك إذا غالطه غيره.
وقد أوجب الاتفاق في الاسم سبب قوى : وهو أن الأمور غير محدودة، ولا محصورة عند المسمين، وليس أحد منهم عند ما يسمى أمكنه حصر جميع الأمور التي يروم تسميتها، فأخذ بعد ذلك يفرد لكل معنى اسما على حدَّه، بل إنما كان المحصور عنده، وبالقياس إليه، الأسماء فقط؛ فعرض من ذلك أن جوز الاشتراك في الأسماء، إذا كانت الأسماء عنده محصورة، ولا يحتمل أن يبلغ بها تركيب بالتكثير غير متناه، لأن الأسماء حينئذ تجاوز حدا لحقه إلى طول غير محتمل، فلم يُوطَّن المسمى الواحد والمختلفون أنفسهم إلا على انحصار الأسماء في حد، ومجاوزة الأمور كل حد، فعرض اشتراك أمور كثيرة في لفظ واحد. فهكذا ينبغي أن تفهم هذا الموضع؛ وهو متكلف مجرور إلى الصواب كرهاً.(2/145)
وقد قلنا في الفنون الماضية ما دل على استنكارنا أن يكون السبب في اشتراك الاسم تناهى الالفاظ، وغير تناهى المعاني. وإذا فُهِم على هذه الصورة كان أقرب إلى الصواب. فهذا هو من أسباب أن وقع الاشتراك في الأسماء، ووقعت المغالطة بسببه، وعرض منه ما يعرض من عقد الحساب؛ فكما أن الحاسب إذا كان غير متمهر يغلط نفسه، ويغلطه غيره، كذلك يعرض لمن لا خبرة له بما يعرض من الألفاظ وغيرها من وجوه الغلط التي سنذكرها.
ويشبه أن يكون بعض الناس، بل أكثرهم، يقدم إيثاره لظن الناس به أنه حكيم، ولا يكون حكيماً، على إيثاره لكونه في نفسه حكيماً، ولا يعتقد الناس فيه ذلك. ولقد رأينا وشاهدنا في زماننا قوماً هذا وصفهم: فإنهم كانوا يتظاهرون بالحكمة، ويقولون بها، ويدعون الناس إليها، ودرجتهم فيها سافلة؛ فلما عرفناهم أنهم مقصرون، وظهر حالهم للناس، أنكروا أن تكون للحكمة حقيقة، وللفلسفة فائدة. وكثير منهم لما لم يمكنهم أن ينتسب إلى صريح الجهل، ويدعى بطلان الفلسفة من الأصل، وأن ينسلخ كل الانسلاخ عن المعرفة والعقل، قصد المشائين بالثلب، وكُتُب المنطق والبانين عليها بالعيب، فأوهم أن الفلسفة أفلاطونية، وأن الحكمة سقراطية، وأن الدراية ليست إلا عند القدماء من الأوائل.
والفيثاغوريون من الفلاسفة، وكثير منهم قال: إن الفلسفة، وإن كان لها حقيقة ما، فلا جدوى في تعلمها؛ وإن النفس الإنسانية كالبهيمية باطلة؛ ولا جدوى للحكمة في العاجلة؛ وأما الآجلة فلا آجلة. ومن أحب أن يعتقد فيه أنه حكيم، وسقطت قوته عن إدراك الحكمة، أو عاقه الكسل والدعة عنها لم يجد عن اعتناق صناعة المغالطين محيصاً. ومن ههنا نتجت المغالطة التي تكون عن قصد، وربما كانت عن ضلالة.
والمغالطون طائفتان: سوفسطائى، ومشاغبى. فالسوفسطائى هو الذي يتراءى بالحكمة، ويدعى أنه مبرهن ولا يكون كذلك، بل أكثر ما يناله أن يُظن به ذلك. وأما المشاغبى فهو الذي يتراءى بأنه جدلى، وأنه إنما يأتي في محاوراته بقياس من المشهورات المحمودة ولا يكون كذلك، بل أكثر ما يناله أن يظن به ذلك.
والحكيم بالحقيقة هو الذي إذا قضى بقضية - يخاطب بها نفسه أو غير نفسه - يعني أنه قال حقاً صدقاً، فيكون قد عقل الحق عقلاً مضاعفاً؛ وذلك لاقتداره على قوانين تميز بين الحق والباطل، حتى إذا قال صدقاً، فهذا هو الذي إذا فكر وقال أصاب، وإذا سمع من غيره قولاً، وكان كاذباً، أمكنه إظهاره؛ والأول له بحسب ما يقول، والثاني بحسب ما يسمع. فبالحرى أن يكون أول ما يصرف إليه السوفسطائى وكده أن يستقرئ الألفاظ المشتركة، ويجمعها، وينصبها حذاء عينه، بل أن يحيط علماً بجميع المخاطبات والمحاورات السوفسطائية وأصنافها، لتكون مادة معدة له لما يفعله. ويكاد أن يكون اشتراك الاسم هو أنفع شيء له في أن يظن به أنه حكيم.
ولا حاجة لنا إلى إثبات وجود هذه الألفاظ المشتركة وأجناس المخاطبات المضللة، إذ الأمر في وجودها ظاهر؛ ونقول: إن أجناس المحاورات القياسية المتعلقة بالأمور الكلية أربعة: البرهانية، والجدلية، والامتحانية، والمشاغبية؛ وقد عرفتها فيما سلف لك، وعرفت الفرق بين المشاغبية والسوفسطائية، وعرفت أن المغالطية تجمعها جميعاً؛ وقد عرفت البرهانية والجدلية والامتحانية، وبقيت المشاغبية، فنقول: إن أجزاء الصناعة المشاغبية خمسة: واحدها التبكيت المغالطي؛ وثانيهما التشنيع بما يتسلم مما يسلمه أو يقوله المخاطب؛ وثالثها سوق الكلام إلى الكذب وإلى خلاف المشهور؛ ورابعها إيراد ما يتحير فيه المخاطب ويشتبه عليه معناه من جهة اللفظ، والإغلاق، والإعجام، وعلى ما سنوضح بعد؛ وخامسها الهذيان والتكرير.
والتبكيت منه ما هو داخل في اللفظ، ومنه ما هو داخل في المعنى. والفرق بين التبكيت وبين غيره: ان التبكيت هو نفس القول الذي يراد به إنتاج نقيض الوضع؛ ونظير الحق مطلوب معلوم. وأما الآخر فليس المغالط يوردها على هذه السبيل، بل قد يبتدئ بها، ولا يعلم المخاطب مقصوده بها.
وكثيراً ما يسأل السوفسطائى عن طرفي النقيض، فإن سلم له الموجبة مثلاً عقد منها التبكيت، وإن سلمت له السالبة لم ينتفع بها في التبكيت، وشنع بأن هذا الذي سلمت مخالف وغير مشهور، فيكون صنيعه هذا من باب التشنيع، ليس من باب التبكيت. وعلى هذا القياس صنيعه فيما بقى.(2/146)
الفصل الثاني
فصل
في التبكيت الداخل في اللفظ
وأما التبكيت الداخل في اللفظ فيوقع الغلط بستة أقسام: باشتراك الاسم، والمماراة، (والتركيب ( واشتراك القسمة، وبسبب اختلاف العجمة والإعراب، وبسبب اختلاف اللفظ. وجميع ذلك يؤثر في القياس، ويؤثر في الاستقراء، ويُعلم خطؤه أيضاً بالقياس والاستقراء؛ فإنك إذا استقريت الأمثلة تحققت أن هذه هي أسباب الغلط. والقياس يوجب عليك أنه إذا وقع من اشتراك الاسم، أو الاستعجام، أو غير ذلك، وجب أن تختلف نسبة الوسط إلى الطرفين، فلا يكون واحد) اً ( بعينه، بل تختلف نسبة الطرفين إلى النتيجة فلا يكون الطرفان أو أحدهما في القياس هو بعينه الذي في النتيجة، فيعرض لا محالة أن لا يكون القياس في الحقيقة قياساً، والقياس يوجب عليك عكس هذا أيضاً، وهو أن أجناس المغالطات اللفظية هي هذه. وسيرد عليك هذا القياس في موضعه من بعد.
ومثال التبكيت المغالطي لاشتراك الاسم، كمن يقول للمتعلم إنه: " يعلم أو لا يعلم؟، فإن لم يعلم فليس بمتعلم، وإن علم فليس يحتاج إلى أن يتعلم " . والمغالطة في هذا أن قوله: " يعلم " يعني أنه يحصل له العلم، ويعني به أنه حصل له العلم؛ والذي " يعلم ليس يتعلم " يصدق إذا كان ليس يعلم، يمعنى أنه لا يحصل له العلم، ويكذب إذا كان بمعنى حصل له العلم. وربما كان لفظة: " يتعقل " في لغة العرب دالة على الفكرة والروية، وربما كانت دالة على حصول العقل نفسه.
وكذلك قول القائل: " هل شيء من الشرور بواجب أو ليس بواجب؛ فإن كان واجباً، وكل واجب خير، فبعض الشرور خير؛ وإن كان ليس بواجب، فلا يوجد ألبتة، فإن ما لا يجب له وجود ولا وقتاً ما فليس بموجود، بل يُخَيّل الموت والهرم وغير ذلك مما هو واجب ضرورة " . والمغالطة بسبب أن الواجب وجوده غير الواجب العمل به؛ وإنما يقال لهما واجب باشتراك الاسم. ومفهوم الواجب الأول أن وجوده ضروري، ومفهوم الواجب الآخر أن إيثاره محمود.
وأيضاً قولهم: " لا يخلو إما أن يكون الذي هو قائم هو القاعد بعينه، أو لا يكون؛ فإن كان بعينه، فالشيء هو بعينه قائم وقاعد؛ وإن كان غيره، فليس القائم يقدر على أن يكون قاعداً " . والمغالطة أن قولنا: " القائم " نعني به نفس القائم من حيث هو قائم، ونعني به الموضوع الذي يكون القيام ونتا فيه. فهذه أمثلة ما يقع باشتراك الاسم. فهذا القسم الأول هو الذي بحسب اشتراك لفظ مفرد.
وأما المشاغبة، أعنى المماراة، فأن لا يكون الغلط الاشتراكى واقعاً بحسب شيء من الألفاظ المفردة، ولكن يكون الغلط لاختلاف مفهوم التركيب منها، كمن يقول: " العدو لي يتغصب " ، و " المقاوم لي يأخذ " . وهذا مثال يحسن في غير لغة العرب، ومعناه: أن هذه اللفظة يفهم منها تارة أنك تتغصب لى لمراغمة العدو، وتارة أنك تتغصب للذي هو عدو لي. وكذلك: " أنت لأجل معاندتي تأخذني، أو تأخذ معاندي " .
وأما الأشبه بالغرض من الكلام العربي، فأن يقول قائل: " هل للشيء الذي يعلمه الإنسان، فذلك يعلمه الإنسان، أو ليس كذلك؟ فإن كان الشيء الذي يعلمه الإنسان فذلك يعلمه، والإنسان يعلم الحجر، فالحجر يعلم الحجر؛ وإن لم يكن كذلك، فإذا علم شيئاً فقد علم غيره " . أو يقول: " ما يعلمه الإنسان فهو ما يعلمه، ويعلم الحجر فهو حجر " والسبب في هذه المغالطة أن لفظة " ذلك " ولفظة " هو " تارة تشير إلى المعلوم، وتارة إلى الإنسان. وكذلك: " هل ما يبصر الإنسان فإياه يبصر " . وكذلك ما قلته: " موجوداً أنت موجود هو، وقلت: إن الحجر موجود، فأنت موجود حجراً " ؛ لأن قولك، " أنت موجود هو " يجوز أن تفهم " أنت " موضوعاً و " موجود هو " محمول عليه؛ ويجوز أن يكون " أنت " هو تأكيد لقوله " قلته " ، أو صلة لقوله " قلت " ؛ ويجوز أن يقال الغلط في هذا على جهة أخرى: ما قلت إنه موجود أنت ذلك موجود، وقد قلت إن الحجر موجود؛ ويكون هذا فيه أظهر. فهذا ما يقع الغلط فيه بسبب استناد أجزاء التركيب بعضها إلى بعض.
وقد يكون فيه بسبب اختلاف إيهام التقديم والتأخير، فإن القائل إذا قال: " إن العالم شريف " أمكن أن يختلف الاعتبار، فإنه يجوز أن يكون " العالم " أخذه موضوعا، و " الشريف " أخذه محمولاً، ويجوز أن يكون المحمول هو " العالم " ؛ لكن آخره كما يقال: " عالم زيد " . ومثال ذلك لو قال: " الساكت متكلم " أمكن أن تفهم أن الساكت متكلم، وأن تفهم أن المتكلم ساكت.(2/147)
وباب الاتفاق في الاسم، وباب المشاغبة، يرجع إلى خصلة واحدة، وهي، أن يكون المفهوم مختلفاً؛ لكن الذي للاتفاق فهو بحسب لفظ لفظ من المفردات، بأن يكون مشتركاً بالحقيقة، أو يكون مشتركاً بالعادة للاستعارة والمجاز. والذي للمشاغبة فبحسب التركيب بين المفردات، كقول القائل: " معرفة الكتابة " فقد تُفْهم به معرفة يكون العارف بها الكتابة، وتفهم به معرفة يكون المعروف بها الكتابة، وتركيبه يوقع كثرة في مفهومه، وكل واحد من لفظي الكتابة والمعرفة ليست مشتركة في هذا الموضع.
وأما الذي بالتركيب، فهو أن يكون للقول عند التركيب حكم، فيطلب أن يصدق ذلك الحكم عند التفصيل، ويكون الغلط في التركيب. ولا سواء أن يقال القول مركباً فيكون له حكم، وأن يقال مفصلاً؛ مثال ذلك أن يقول القائل: " قد يمكن الجالس أن يمشي، والذي ليس يكتب أن يكتب " ، فإنه لما عطف قوله: " الذي ليس يكتب أن يكتب " عطفه على أنه في مثل حكمه من الإمكان الذي فيه ما يستغنى عن تكرير الإمكان مرة أخرى اجتزاء بالعطف، وعلى أن حكمه حكم المعطوف عليه؛ فإن فَصَل هذا كذب أن يقال " الذي ليس يكتب يكتب " ، وإنما كان يصدق مركباً على الإمكان والقوة، فكان معناه: " والذي ليس يكتب هو بالقوة كاتب؛ ويتعلم الكتابة يَعْلَمها ويُعلِّمها " . يجب أن تفهم هذا الموضع هكذا، ولا تشتغل باشتراك اسم في حديث أنه " ليس يكتب " ، ففصل اشتراك الاسم فصل آخر قد مضى. وكذلك إذا ركب بين قولنا: " ليس يكتب " وقولنا: " يكتب " فإن هذا إن ركب معه " القوة " فقيل: " الذي ليس يكتب بالقوة " كان القول صادقاً، فإن فصل، وحذفت القوة، كذب القول، وصار الذي يتعلم الكتابة الآن هو في نفسه كاتب، فهو يتعلم ما يعلم، كذا يجب أن تفهم هذا الموضع.
وبعد هذا قول يمكن أن يُفهم على أنه بيان كلي، ويمكن أن يفهم على أنه مثال آخر.أما الأول فعلى ما أعبر عنه. ولو كان القول الصادق يجب أن تكون أجزاؤه صادقة هكذا لكان مَنْ يمكنه أن يقول لفظاً مركباً حقاً واحداً، لقد كان أتى بأشياء كثيرة حقة، وليس كذلك، بل القائل حقاً واحداً يجب أن يعتبر حَقّيْه في ذلك الواحد؛ وأما أجزاء الحق فربما كانت باطلة؛ كقول القائل: " لو كانت الخمسة زوجاً، كان زوج لا ينقسم " . فإن ذا الواحد حق، وليس يلزم أن يكون جزآه حقّين. وأما الثاني فهو أنه إذا صح أن يصدق القول المركب من " أن يكتب " ، " ولا يكتب " مفصولاً عنه القوة، على أن مفصوله صادقٌ صِدق مركبه، أمكن أن تغالط فتجعل من استفاد قوة على أمرٍ ما واحداً بعينه، فقد اقتدر على أمور كثيرة غيره، إذا كان إدخال القوة وإخراجها واحداً.
وقد قيل في هذا شيء آخر يوجب أن يكون هذا الباب وباب المراء واحداً فإن ذلك التفسير يجعل هذا المثال مشتركاً في تركيبه لا مغالطاً بتفصيل التركيب فيه، ولا يجب أن نمنعه البتة. فهذا المثال الذي أورد، وسائر الأمثلة، ليس هو مثال ما يكذب بالتركيب، وهو الغرض، بل مثال أن الشيء قد تختلف حال تركيبه وتفصيله. وأما الأمثلة التي تحتاج إليها لهذا الباب، فهي التي يكون التركيب فيها كاذباً لا صادقاً. والمعلم الأول عوّل في ذلك على الافهام. على أن هذه الأمثلة قد يمكن أن يُتعسف فيها، وتُناول على وجهٍ يطابق أن يكون الكذب في التركيب، ولكنا نكره مثل هذا التعسف.
وأما المثال الذي يوافق الغرض فقول القائل مُركباً: " الماشي يمكن أن يجلس حال ما هو ماش " ، فإْنً هذا التركيب كاذبٌ، وجزآء ليس فيهما كذب. فإن شاء أحدٌ أن ينظر كيف تفسير هذا على وجهٍ مطابق للخطأ في التركيب، فيلحق بهذا الموضع فصل من موضع آخر.(2/148)
وأما الموضع الذي من القسمة فأنْ يكون الشيء عند التحليل صادقاً، وعد التركيب غير صادقٍ، أو مُغلّطاً جاراً الى الكذب، وإن كان له تأويلُ صدقٍ؛ وذلك التحليل إما بحسب الموضوع من القول، وإما بحسب نفس القول. والذي بحسب الموضوع من القول إما أن يكون القولُ صادقاً على اجزاء الشيء مجموعه ويجعل صادقاً على الأجزاء بالتفصيل، أو أن يكون للشيء أجزاء زلها أحكام في التفصيل، فيجعل الشيء أجزاء نفسه، وله أحكامها التي بالتفصيل، وربما كانت متقابلة؛ مثال الأول قول القائل: " إن خمسةً زوج وفرد، وكل ما هو زوج وفرد زوج، فالخمسة زوج " ؛ كما كل ما هو أبيض وحلو فهو أيضاً أبيض. وليس كذلك، بل الزوج جزء من خمسة، والفرد جزءٌ آخر، وليس هو بحسبها زوجاً وفرداً، وإن كان في نفسه فرداً، بل له جزء زوجٍ وله جزءُ فردٍ، وهو مركب من زوج وفرد، لا زوج وفرد. وكذلك قول القائل: " إن الأعظم مساوٍ وزيادة، فهو مساوٍ " . ومثال الثاني: " أن الخمسة ثلاثة واثنان، فهو ثلاثة واثنان معاً " ؛ وهذا خلف.
والذي بحسب القول، فمثل قول القائل: إن كان الإنسان حجراً، فالإنسان جماد. وهذا نركيب صادقٌ من تفصيلين كاذبين. ولا سواء أن يكون الشيء يصدق مفصلاً ومركباً، فإنه قد يكون القول مركباً صادقاً، فإذا فصل كان كاذباً؛ وكذلك القول إذا أخذ مفرداً صدق، وإذا ركُب كذب، أو أوهم الكذب؛ وكذلك قد يكون القول باختلاف التركيبين والتفصيلين، كما قلنا في باب المراء مغلطاً بسبب تضاعف المفهوم. ومن أمثلة هذه الأبواب قولهم: " أنا أستعبِدك حين ما حررتك " وهو يعني: " أنا أستعبدك " وهو صادق، " وأنا حررتك " وهو صادق، فإذا أخذ مركباً على أنه يقول: " أنا أستعبدك حين ما حررتك " حتى يكونا مركبين معاً، كان كاذباً.
وعبارة أخرى: " أنا إياك جعلتُ عبداً، وأنت حر " فإنّ قوله: " أنا إياك جعلتُ عبداً " حقٌّ، وقوله: " وأنت حر " حقٌ، كل إذا انفرد، وإذا جمعا للتركيب، لا على أن يكون تركيب جزأين هما جزآن عدّا معا، بل على أنه يجعلهما التركيب جزءاً واحداً يتعلق لأجله أحدهما بالآخر في اتمام الكلام، كان سبيلاً إلى المغالطة. لا يجب أن تفهم من هذا غير هذا.
وقد يورد ههنا مثال آخر أنه: " قد قتل أخيلوس من خمسين مائة رجُلٍ " الوالذي يورد من تفسير المفسرين له لا يجعله خاصاً بهذا الباب، وهو باب القسمة، بل مثالاً من أمثلة ما يختلف بحسب نسب التركيب. وكذلك المثال الذي قبله. وليس يجب أن يكون كذلك، بل يجب أن يخصص اعتباره بباب القسمة الي نحن في سبيله. أمّا ما يقولون: فهو أنه إذا عنى أنه من خمسين قرية قَتل مائةَ رجل، استقام، وإن أضيف الرجل الى خمسين في تركيب القول استحال. وكان لهم أن يقولوا ما هو ألطف من هذا، وهو: أنّ من خمسين رجلاً منهم أخيلوس جاء أخيلوس فقتل مائة رجل، كان أشبه باللغز من قولهم من خمسين قرية. وأما الطريقة التي نؤثر أن نفسر عليه هذا القول حتى يكون مناسباً للقسمة، وهو أنه لو ترك قولهم: " من خمسين " فقيل: " مائة رجل قتلهم اخيلوس " ، كان أمراً لا يقع فيه غلط، فلما ركب بالخمسين هذا النوع من التركيب، صار سبباً لأن نغلط فيه، فنظن أن أخيلوس قتل من خمسين رجلاً مائة رجل.
وليس من باب القسمة مقصوراً على أنْ يكون التفصيل صادقاً والتركيب كاذباً لا محالة، بل أن يكون التفصيلُ واضحَ الصدق، والتركيبُ واضحَ الكذب، خفيّ الصدق، صائراً سبباً للكذب. ويجب أن تفهم هذا الباب على هذا الوجه.
وأما الموضع الذي من الإعجام فمن الناس من قصره على المكتوب، ونحن نجعله أعم من ذلك؛ وهو أن نغير المعنى بترك الإعراب، أو أن نغيره لفظاً، وبالنبرات، والتنقيلات، والتخفيفات، والمدات، والتشديدات، بحسب العادات في اللغات، وبالعجم كتابة. مثال الأول: قيل " عمرْ " بتسكين الراء، فلا ندري أنّ " عمر " فاعل أو مفعول به؛ مثال الثاني أن نقول بدل قوله: " إن علينا جمعه وقرآنه " ، " إن علينا جمعه وقراءته " ؛ ومثال الثالث أن ننقط على قوله: " ما أطرف زيداً " بنقطة من تحت فيصير: " ما أظرف زيداً " ، وكذلك جميع ما يختلف بالتشديد، والتليين، والمد، والقصر، وتتشابه حروفه في الأصل وتختلف بالنقط.(2/149)
وأما المتعلق بشكل اللفظ: فأن تختلف مفهوماته باختلاف أشكال التصاريف، والتأنيث والتذكير، والفاعل والمفعول، حتى يكون عند بعضهم السالم فاعلاً سبباً أو الوجع، ويكون قول القائل إن الهيولى قابلة بطبعها فعلاً ما.
فهذه هي الأنحاء التي يقع بسببها الغلط من جهة اللفظ إذا طابق المعنى لم يقع من جهته غلط، وإذا لم يطابق المعنى بعينه فإما أن يدل أو لا يدل، فإن لم بدل لم يغلط، فإن ما لا يفهم لا يغلط منه، وإن دل على معنى فواضح أن ذلك المعنى لا يكون هو المعنى المقصود، فلا يخلو إما أنْ يكون المعنى المقصود قد يفهم منه وحده أو يفهم منه لا وحده؛ فإن كان منه يفهم وحده، فإما أن يكون وهو منفرد، وإما أن يكون وهو مركب؛ فإن كان اعتبار ذلك من انفراده، فإما أن يكون في جوهره، وإما أن يكون من حالٍ فيه، وإما أن تكون حالة تلحقه من خارج؛ فإن كان في جوهره فهو المشترك في جوهره، وإن كان في حالة فهو المشترك في شكله وهيئته، وإن كان من حالٍ ما يلحقه من خارج فهو المشترك بحسب ما يلحقه من الإعجام والنقط وغير لك؛ وهذه أقسام ثلاثة.
وأما الذي يلحقه وهو مركبٌ، فإما أن يلحقه في نفسه وحدهُ، وهو الذي في تأليفه اشتراكٌ، وهو المشاغبى. وأما الذي يلحقه لا وحدهُ فيكون مع غيره، فيكون إما صدقه مع غيره، أو لا صدقه مع غيره، فيكون إما التركيب وإما القسمة. فقد علم أن هذه أيضاً ثلاثة، وأن جميع المغالطات ستة.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في كيفية وقوع الغلط من جهة المعنى
في التبكيتات المغالطية
وأما المغالطات التي تقع بحسب المعاني فهي سبعة: الأول من جهة ما بالعرض؛ والثاني من سوء اعتبار الحمل؛ والثالث من قلة العلم بالتبكيت؛ والرابع من جهة إيهام عكس اللوازم؛ والخامس من المصادرة على المطلوب الأول؛ والسادس مِن جَعْلِ ما ليس بعلة علة؛ والسابع مِن جَمْعِ المسائل الكثيرة في مسألة واحدة.
فأما التضليل الكائن بالعرض، فهو أن يؤخذ شيء عرض له مقارنة شيء على سبيل ما يعرض عروضاً غير واجب فيؤخذ واجباً، أو تعرض له أعراض كثيرة فتجعل الأعراض بعضها محمولة على بعض في كل موضع، أو يعرض شيء لشيء فيؤخذ في حكمه، مثل أن تقول: " إن زيداً غير عمرو، وعمرو إنسان، فزيد غير إنسان " . وهذا المثال يتخبط فيه أهل الكلام في هذا الباب؛ فمأخذ بعضهم يؤدي إلى أن هذا القياس غير منتج، فيكون الغلط لأنه غير منتج، ويكون من جهة الصورة لا من جهة المادة، وأخذ ما بالعرض. وإنما هو غير منتج لأن الصغرى إما سالبة، وإما الأوسط ليس محمول الأصغر بل جزء محموله. وبعضهم يؤدي كلامه إلى نتيجة صادقة، فإن زيداً غير إنسان ما؛ وهذا صحيح، فيجب أن يكون التأويل راداً للكلام إلى غلط وجب من قبل ما بالعرض، فنقول: إنه لما كان عمراً غيره، وأيضاً إنسان فينتج أن عمراً غير إنسان،أذ كان عرض للإنسان أن كان غير عمرو فأخذهما واحداً، فلما كان زيد غير عمرو، وأخذ الإنسان وعمراً شيئاً واحداً جعل زيداً غير الانسان أيضاً؛ وكذلك إذا قلت: نجعل زيداً انساناً، وكان أخذ الانسان وعمراً شيئاً واحداً، وعمرو غير زيد، كان زيد غير زيدٍ. وقد يمكن أن يخرج لهذا وجه آخر من باب ما بالعرض قريب من هذا، ولكن بهذا كفاية.
وأما الذي من جهة سوء اعتبار الحمل، فلأن المحمول قد يكون محمولاً بشرط، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون محمولاً في نفسه، وقد يكون محمولاً بالعرض، أعني محمولاً لأجل غيره، كالرابطة؛ كمن يقول: " إن ما ليس بموجود فهو مظنون، وكل مظنون هو موجود " ؛ فلأنه لا سواء أن يحمل الموجود على الإطلاق، وأن يحمل كأنه رابطة، أو كأنه موجود شيئاً ما؛ وكذلك فرق بين غير الموجود على الإطلاق، وغير الموجود شيئاً ما؛ وكذلك إذا كان الحمل على جزء وأخذ على الكل، أو على جزء آخر. وشرائط أخرى ذكرناها في النقيض يجب أن تراعى في كل حمل كان في مقدمة أو نتيجة، وأن تكون في الكبرى كما هي في النتيجة، وعلى ذلك الاعتبار.(2/150)
وأما الموضع المبني على أن القياس أو التبكيت لم يورد صواباً؛ والتبكيت الحقيقي هو الذي تناقض به شيئاً ليس في الاسم بعينه، بل وفي المعنى، وفي المحمول، وفي الموضوع، وفي الإضافة، والجهة، والزمان، وغير ذلك على ما علمت؛ وإنما يدخل الكذب فيها بسبب إغفال شيء منها. ولا يبعد أن يدخل هذا الموضع في المغالطات اللفظية من جهة أن المغالطة وقعت في اللفط لتقصير فيه وإيهام معنيين، وإن كان قد يدخل في المغالطات في القياس، من جهة أن القياس فيه على غير المطلوب، فيشبه أن يكون هذا التقصير إذا وقع في الحد الأوسط فصار الحد الأوسط لفظاً فقط - وأما في المعنى فلم يكن حداً أوسط، إذ الحد الأوسط يجب أن يكون معنى واحداً - كان هذا النوع من الوقوع يجعله من المغالطات اللفظية. وكذلك إذا وقع من جهة الطرفين فكانا يخالفان حدى المطلوب بشرط من الشرائط، فيكون ذلك القياس ليس على ذلك المطلوب؛ فإنه وإن كان ذلك الوقوع يجعله من المغالطات بحسب سوء القياس، ومن المغالطات المعنوية، فإن في لفظ حد القياس والنتيجة اختلافين، فإن المفهوم والمثال المورد من قوله: " تناقض به شيئاً ليس بحسب اللفظ فقط، بل بحسب المعنى " ، يشير إلى هذا القسم الأخير. وهذا المثال الذي في التعليم الأول ليس يعم جميع وجوه سوء التبكيت، بل هذا المثال على مذهب سائر الأمثلة في وقوعها على حال محصوصة؛ لكن الغلط في نفس القياس فقد يكون لوجوه أخرى من سوء التأليف، وكونه غير منتج في نفسه، أو غير منتج في صورته للمطلوب، كالكليتين من الشكل الثالث، فإنهما لاتنتجان كلية، فإذا أنتج منهما كلى فقد غلط فيه.
وأما المصادرة على المطلوب الأول وكيف يقع الغلط الأول، فقد علمته وتحققت أنه من العجز عن التفرقة بين الهو هو والغير.
وأما الغلط من جهة اللوازم فالسبب فيه إيهام العكس؛ وأعني باللوازم كل محمول على الكل ذاتي أو عرضي، وكل لازم للوضع في المتصلات. وإنما يغلط فيه إيهام العكس بأن يسبق إلى الذهن أن الملزوم أيضاً لازم للازمه. وأكثر من ذلك من قبل الحس إذا وجد الحس شيئاً موصوفاً بشيء لم يفرق بين اللازم والملزوم، فأخذ كل واحد منهما لازما للآخر، كمن يرى سيالاً أصفر وحلوا فيظن أن كل واحد منهما لازم للكل، فيظن أن كل سيال أصفر هو حلو وعسل. وكذلك إذا رأينا الأرض وقد نديت بالمطر، فكلما رأيناها ندية ظنناها ممطورة، كأنه لما كان الممطور ندياً كان الندى ممطوراً.
والقياسات التي تسمى في الخطابة برهانات فإنها تؤخذ من اللوازم، كقولهم: " فلان متزين فهو زان " ، إذا رأوا متزيناً زانياً. وكذلك: " فلان يطوف في الليل فهو مريب " .
وقد يقع الغلط من جهة العقل لا من جهة الحس، مثل ما وقع لرجل يقال له ماليسوس، لما كان عنده أن كل غير ذي مبدأ فهو غير مكون، أخذ أن كل غير مكون فهو غير ذي مبدأ، وكان عنده الكل غير مكون فجعله غير ذي مبدأ، وتعدى بخطاه إلى أن جعل ذلك المبدأ مبدأً مقدارياً؛ ومن وجه آخر لما ظن أن كل كائن له مبدأ، ظن أن كل ماله مبدأ كائن، كمن يظن أن كل حار محموم، لأنه رأى كل محموم حاراً.
وأما التضليل العارض من وضع ما ليس بعلة علة فهو في القياسات الخُلُفية، وذلك إذا أورد في القياس، وحاول أن يبين فساده بخلف يتبعه ثم لا يكون هو علة لذلك الخلف بل يكون ذلك الخلف لازما - كان هو أو لم يكن - كمن يريد أن يبين أن النفس والحياة ليسا شيئاً واحداً، بأن يقول: " إنه إن كان الكون مطلقا مقابلا للفساد مطلقا، فكون ما مقابل لفساد ما، والموت فساد ويضاد الحياة، فالحياة كون، فما يحيا يتكون " . وهذا محال، فليس النفس والحياة شيئاً واحداً، فإن هذا المحال إن كان لازما مما قيل فيلزمه وإن لم تكن النفس والحياة شيئاً واحداً. وههنا فإن القياس منتج، ولكن لا للمطلوب.(2/151)
وأما التضليل الواقع من جمع المسائل في مسألة واحدة، فهو أن تجمع المسائل في مسألة واحدة ليلتمس عنها جواب واحد، وأحكامها مختلفة لا تحتمل جواباً واحداً، فيغلط، فيجاب فينتج منه المحال. وإذا اختلفت المسائل في المحمول والموضوع قل وقوع الشبهة في ذلك؛ فلم يتروج على المجيب، ولم يذعن لجواب واحد. وقد يتفق أيضاً أن يكون افتراق المسألين لأنحاء الغلط، وذلك في الأكثر إذا أورد محمولان ليسا بطرفي النقيض، ومع ذلك لا يكون الموضوع مما قد يوجد فيه أحدهما أو كلاهما، كقول القائل: " هل الأرض بحر أو سماء؟ " فهذا ليس مسألة واحدة. وقد يكون من هذا ما هو أخفى، وما هو أظهر والذي يخفى فيه ذلك فقد يسألون عنه معاجلين، فإن توقف المجيب نسبوه إلى العجز والخوف والتحير والتحرز، وإن أجاب قادوه إلى الناقض.
وقد تكون هذه الكثرة في جانب الموضوع، مثل من يقول: " أزيد وعمرو إنسان أم لا؟ فإن قال: لا، تشنعوا وإن قال: نعم، فيقول: فمن ضرب زيدا وعمرا، فقد ضرب إنساناً لا ناساً أو إنسانين " . وهذا قد غالطه غير انتى يحوياها مع المغالطة التي يحوياها، وهو من جملة لفظ الإنسان.
ومثال آخر: إذا كانت أشياء هي خيرات، وأشياء هي شرور، فأخذت جملة واحدة فقيل: " هل هي خير أو شر " ؟ وكذلك " هل هي بيض أو سود؟ " وهذا يرجع أيضاً إلى باب التركيب والتفصيل، وإن خالفه في الاعتبار، لأنه يسأل عن الجملة وينقله إلى كل واحد فيجعل كل واحد خيراً وشراً. وأما إن كانوا أخذوا مع هذا زيادة فتسلموا ما شأنه أن يسلمه الأغتام أن الحكم في الجزء والكل واحد، وأنه ما يعرض للواحد يعرض للكل، فهذا يلزم لا محالة. وفي بعض المواضع يجب ذلك مثل ما يجب في الحدود والرسوم. فهذه هي الوجوه والأقسام التي من جهة المعنى.
ونقول: إنه ليس غير هذه الأقسام؛ وذلك لأن التضليل من جهة المعنى إما أن يقع من جهة أجزاء القول القياسي، وإما أن يقع من جهة جملة القياس؛ وأجزاء القول القياسي إما أن تكون قضايا، أو أجزاء القضايا، وأجزاء القضايا، لاصدق فيها ولا كذب. والتضليل في المعنى يقع من جهة الصدق والكذب، فإذن ليس عنها وحدها لذاتها تضليل.
وأما القضايا فإما أن يكون الغلط وقع في القضية من جهة نقيضها، أو من جهة نفسها لا من جهة نقيضها. وإن وقع من جهة نقيضها فهو أن يكون الكذب ليس نقيضها، فأخذ ما ليس بنقيض لها نقيضاً، وهذا هو أن يكون ما هو سؤالان جعل سؤالاً واحداً، فإنه إذا سئل عن غير النقيض فليس السؤال واحداً. وأما إن وقع من جهة نفسها، فيجب أن يكون لها لا محالة نسبة ما إلى الصدق، حتى يظن به أنه الصدق، وإذ ليست تلك النسبة من جهة اللفظ، فهي إذن من جهة معنى الموضوع، أو معنى المحمول، أو معنى النسبة. أما الذي من جهة الموضوع فهو أن تكون القضية مناسبة لقضية أخرى في الموضوع بالمشيئة. ويقال مشيئة، وتخصص تلك المشيئة بمشيئة الترويج والتلبيس. فحينئذ لا تكون كل خطابة كذلك، بل تكون بعض الخطابة كما سبق منا القول صادرة عن قوة وبصيرة، وبعضها عن مشيئة رديئة تشبه المشيئة السوفسطائية.
وليست القوة تناسب القوة الصناعية، بل يكون الغرض فيها غير النفع للمخاطب، بل لنفس الخطيب في أغراض خارجة.
فصل
الفصل الخامس
في شرح حد الخطابة
وختم الكلام في قسمة. أجزائها ومناسبتها لصنائع أخرى
فلنعد إلى تحقيق أمر هذه الصناعة الخطابية، وأنها كيف تكتسب، وكم أجزاؤها، وكيف يتوصل بها إلى الأغراض التي تخصها.
ونبتدئ فنحد الخطابة ونقول: إن الخطابة قوة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة. فقولنا " قوة " نعني به ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية، وهي أوكد من القدرة. فإن القدرة الساذجة قد توجد في كل إنسان، لكن الملكة التي تحصل إما عن قوانين تتعلم أو عن أفعال تعتاد توجد في الفرد بعد الفرد منهم. وقولنا " تتكلف " يفهم منه معنيان: أحدهما أنها تتعاطى فعلاً لا عن إرادة مؤثرة بل عن إرادة مستكرهة؛ وليس هذا هو الغرض في هذا المعنى. ويقال " تتكلف " ويراد به أنها تتعاطى فعلاً بأبلغ قصد لاتمامه؛ وهذا هو الغرض. وقولنا " الاقناع الممكن " هو تفسير الفعل الذي تتكلفه، ومعناه ما يمكن من الإقناع. ولا يلتفت إلى تفسير آخر.(2/152)
وقولنا " في كل واحد من الأمور المفردة " معناه في أي جزئى كان من الجزئيات كلها، وفي أي مقولة اتفقت. فيكون قولنا " المفردة " يدل على المقولة، ويكون قولنا " كل واحد " يدل على أن كل جزئي من كل مقولة فهو موضوع له. ويحتمل أن يكون كأنه يقول: في كل واحد من الأمور الجزئية.
وتكلف الإقناع الممكن فصل - من باب فعل الخطابة - بين الخطابة وبين البرهان والجدل والسوفسطائية. فإنها ليس شيء منها يتكف الإقناع الممكن ويقصده كما علمت. وفي هذا الفصل نشير إلى غاية الخطابة أيضاً إشارة محصلة وهو الإقناع الممكن في كل شيء.
وإذا قلنا " في كل واحد من الأمور المفردة " ، ودللنا على موضوع الخطابة، خرج من ذلك الطب؛ فإنه يشبه أن يكون الطب إنما يقنع ما يمكن من الإقناع في أمور مفردة تخص نوعا ما.
فكون جملة قولنا " تتكف الإقناع الممكن في كل وأما التي من المعاني منها الذي من العرض، فإنه ليس يجب أن يكون ما بالعرض لازماً للشيء حتى يكون كل واحد منهما هو الآخر، حتى إن كان شيء وافق الأبيض في موضوع فصار أبيض، يجب أن يكون بالاضطرار حيث كان أبيض؛ وكذلك لا يجب إذا كان المثلث موصوفاً بأنه شكل، وبأنه مستقيم الخطوط، وبأنه مساوى الزوايا لقائمتين، أن يصير الجميع في حكم واحد، ولا كل موجودين معا في حال فيجب أن يكون ذلك فيهما بالضرورة، ولا إذا كانا معاً في شيء بالضرورة كالشكل في المثلث مع مساواة الزوايا لقائمتين يجب أن يكون بالضرورة في كل موضع، وفي كل مقدمة قياس. وبالجملة ليس يجب إذا صدق اجماعها مقدمات جزؤية فيجب أن يصدق فيها مقدمات كلية، أو تكون نتيجة ضرورية.
وأما الذي من جهة شروط الحمل، فإنه لا كون المقدمة المسلمة هي بعينها المستعملة في القياس، ولا يكون الحد المشترك في كل واحد من المقدمتين هو في الآخر، إذا كان في أحدهما بشرط ولم يكن في الآخر كذلك، ولا تكون النتيجة بالحقيقة نقيض الوضع إن كان يخالفه في شرط، فلا يكون قد قاس. ولا شك أن الكائن بسبب الجهل بالتبكيت من هذا القبيل؛ وكذلك المصادرة على المطلوب الأول، وأخذ ما ليس بعلة علة، إذ كان يجب من اعتبار حكم حد القياس أن يكون المقول في القياس علة للإنتاج، وتكون النتيجة من غير الموضوعات في القياس، بل لازماً عنها من بعد.
فأما التي من اللوازم فتشبه بوجه ما بالعرض، إذ يؤخذ اللازم الذي هو أعم والشيء الملزوم له شيئاً واحداً، كما كان يؤخذ العرضان شيئاً واحداً، أو يؤخذ الشيء وعارضه أو محمول الشيء وعارضه شيئاً واحداً. وبالجملة فإن موضوعات اعتبار الغلط بسبب ما بالعرض أعم من موضوعات اعتبار الغلط بسبب اللازم، وذلك أن سبب الغلط فيما بالعرض هو إيهام الهو هو، وذلك قد يصح أن يعتبر للواحد من حيث هو واحد، ولا يلتفت إلى كثرة تحته.
وأما سبب الغلط في اللوازم فهو إيهام العكس الكلي، وذلك يحوج إلى التلفت نحو الكثرة، فموضوعات أحد الأمرين أخص من موضوعات الآخر، وإن كان كل اعتبار باباً برأسه ليس جزءاً للآخر يقسم منه؛ لكنهما يشتركان في موضوعات وأمثلة قد مرت لك.
وأما التي من أُخْذِ المقدمات الكثيرة كمقدمةٍ واحدةٍ، فالسبب فيه أنه يجب أن يكون في كل ما يصدق به محمول واحد على موضوع واحد. وكذلك ما يجري الخطيب قد يقتدر على استعمال إقناع في أمر غير الأمور المفردة. وكما أن ذلك لم يكن طبيباً إلا لأنه يعالج الإنسان، وغير ذلك له بالعرض، كذلك ليس هذا خطيباً إلا لأنه يقنع في الأمور المفردة الجزئية، وغير ذلك فله العرض.(2/153)
ونقول: إن التصديقات الخطابية قد تكون صناعية، وقد تكون من غير صناعة. والتي ليست بصناعة، ليست تكون بحيلة منا، بل لوجود الأمر الذي يدعو إليه، وليس ذلك من صنعنا وتلطفنا، مثل الشهود والتقريرات بالعذاب وغير ذلك. وأما التي بالصناعة وما يحتال فيه بالكلام، فكله، إذا اعتبر من حيث الملكة والصناعة، فإنما يكون من فكرة أنفسنا وباحتيالنا. فنحن نستنبط المواضع والأنواع الخطابية وتعلم ترتيب القياس الخطابي وما يتعلق به، لا كالشهود وما أشبههم، فليس إلينا الإقناع بهم، وإيقاع التصديق عنهم والاحتيال فيه. هذا من جهة الأصل. وأما إذا اعتبرناها من حيث الاستعمال، فبضعها قد تكون معدة لنا من قبل، وهي المقدمات التي تسمى في هذا الكتاب مواضع: فهي مقدمات من شأنها أن تصير أجزاء قياس بالقوة أو بالفعل. فإذا كانت معدة لنا، استعملناها كما هي، وإن كنا من قبل لقد استنبطناها بحيلتنا، ثم أعددناها. وبعضها لا تكون معدة لنا كما هي بل يكون المعد فيها أصولاً وقوانين، إذا علمناها، استخرجنا منها وقت المحاورة مقدمات خطابية. وتلك القوانين تسمى في هذا الكتاب أنواعاً. ولا نزال نتوصل من نتيجة إلى نتيجة مستمرين على طريق الاستدراج إلى حصول الغرض. ومثال ذلك: أنا إذا كان قد تيسر لنا عند تحصيل هذه القوة كيف ننقل الحكم من ضد إلى ضد على سبيل الإقناع، ثم خاطبنا مشيرين فقلنا: إن كان زيد الذي هو عدوك قد استوجب إساءتك إليه، فعمرو الذي هو صديقك قد استوجب إحسانك إليه، كنا قد استخرجنا هذا من قانون عندنا، ولم يكن هذا بعينه معداً لنا.
والتصديقات الصناعية التي يحتال لها بالكلام، ويكون ذلك الكلام لطباعه مقنعاً، لا لوضع أو شرع، هي ثلثة أصناف: أحدها العمود الذي يسمى تثبيتاً في هذا الكتاب؛ والثاني كيفية المتكلم عند تأديته الكلام في سمته، كما يتفق أن يكون للمتكلم سمت صالح متخشع فاضل، أو سمت صادق جاد متأن أو خلاف ذلك، ويكون له لطف في تأديته، كما علمت؛ والثالث استدراج السامعين. وهذا الذي هو عمود وتنبت فإنه قد يكون نحو الغرض نفسه، وقد يكون نحو تقرير شيء من الأبواب الأخر، فيكون عموداً وتثبيتاً في ذلك الباب، كما يبين المرء فضيلة نفسه أو خسيسة خصمه أو يبين وجوب الرحمة عليه، فهذا يدخل في القسم الأول. غير أن سمت القائل في أكثر الأمر إنما يعني في المحاورات التي تكون في أمور وقعت، كما يكون في الشكاية والاعتذار، وكما يكون في المدح والذم. وأما إذا حاول إقناعاً في أمر ممكن مستقبل، فنفس سمته وصلاحه لا يدل وبالحرى ما خص هذا الجهل والعجز بالألفاظ أولاً، وإن شاركها المعنى في ذلك؛ فإن الألفاظ أكثر تضليلاً من المعاني، ولذلك ما يقع الغلط في المحاورة أكثر منها في الفكرة. والتضليل اللفظي يقع من جهة المخاطبة أكثر منه عند الفكرة، لأن السماع اللفظي أدخل في المحاورة، واستلاخة المعنى أدخل في الفكرة؛ على أنه قد يقع عند الفكرة أيضاً، فإن الفكرة قد تقع بألفاظ متخيلة لا محالة.
وجملة سبب الغلط مشابهة شيء شيئاً، ولولا المشابهة والمناسبة لما غلط. وهذه المشابهة في الألفاظ أكثر منها في المعاني، فإن المعاني أسد. ولأسباب الغلط في المعنى مدخل في أنها تقع بسبب العجز بين الشيء وغيره؛ أما الغلط من جهة ما بالعرض فلأنه يعجز عن التفصيل بين الذي هو هو بالعرض وغير بالحقيقة، وبين ما هو هو بالحقيقة. وأما الذي من جهة اللوازم فقد بان الحال في مشاركة جهة اللوازم لجهة العرض، وأنه أخص منه في موضوعاته، أو مقتصراً على ما يجب أن تراعى فيه الكثرة، كما قد مضى ذكره، ويجعل بينهما مساواة حين يظن أنه إذا لم يفارق الملزوم اللازم، فكذلك لا يفارق اللازم الملزوم.(2/154)
وأما الغلط الواقع لسوء التبكيت بسبب ترك اعتبار شرط التقييد والإطلاق، وما قيل في شروط النقيض، فالسبب فيها إغفال ما يوجبه نقصان يسير في تفاوتٍ كثيرٍ. وكذلك المصادرة على المطلوب الأول، وأخذ ما ليس بعلةٍ علة، وجمع المسائل في مسألةٍ؛ وذلك لأنه في المصادرة على المطلوب الأول يغفل قليلُ شيءٍ من حد القياس، وهو أنه يلزم عن الموضوعات نفس الموضوعات. وفي أخذ ما ليس بعلةٍ علةً يُغفل شيء يسير وهو: المشاركة الحقيقية بين المقدمات والنتيجة. وفي جمع المسائل في مسألة يغفل شيء يسير من اعتبار ما يزيده مفهوم الجمع، أو يزيده مفهوم التفصيل. وبالجملة تغفل مراعاة التفاوت بين الغير والهو هو، إذا كان يسيراً.
وإذ قد بان لنا كمية الأسباب التي لأجلها نظن بما ليس قياساً أنه قياس، فقد علمنا أصناف القياسات المغالطية والتبكيتات المغالطية.
والقياس المغالطي ليس وحده هو الذي يظن قياسا أو تبكيتاً ولا يكون، بل والذي يكون قياساً ولا بحسب الظن فقط، ولكنه لا يكون مناسباً للموضوع الخاص بالأمر ومن مقدمات مناسبة، وإن كانت صادقة أو مشهورة أو متسلمة؛ كمن يوهم أنه مهندس فيأتي بقياسٍ في الهندسة غير مناسب للموضوع ما كان تمثيلاً. واسم البرهان في هذا الكتاب يقع على اعتبار يتم به المقصود سريعاً. والتفكير هو الضمير بعينه في الموضوع، ولكن من حيث اعتباره بالحد الأوسط، فإنه من حيث أخذ فيه وسط إنما يقتضيه الفكر هو تفكير، ومن حيث فيه نقصان مقدمة هو ضمير، ليكون التفكير والضمير واحداً بالموضوع.
وكما أن الجدل معوله على قياس واستقراء، كذلك الخطابة معولها على ضمير وتمثيل. وكل ذلك إما أصلي، وإما مظنون. وكله مستعمل في الخطابة، على ما علمت. والسبب في أن كل بيان يوجب التصديق إما أن يكون قياساً أو شبيهاً بقياس أو يكون استقراء أو شبيهاً باستقراء هو أن الشيء، إذا ادعى فيه حكم، فإما أن يقال: إنما علمت أن الشيء كذا بسبب فلان وفلان، وإما أن يقول: هو كذا لأنه كفلان. وهكذا البيانات البرهانية، فقد تكون في بعض الأوقات تمثيلية واستقرائية وعلى الوجه الذي أحطت علماً به في موضعه، وقد تكون قياسية. بل قد تكون في البيانات البرهانية ضمائر قد حذفت كبرياتها، وتكون تلك الضمائر البرهانية في قوة القياسات. فإن كبرياتها إنما تحذف لوضوحها، وعلى سبيل الاختصار، وبحيث لو صرح بها لكان البيان أوضح أو مثل بيان الضمير. وكذلك في الجدل الذي ليس على سبيل المغالطة. وأما الخطابة، فإنما تحذف الكبريات فيها لأنها لو صرح بها لزال الإقناع، لأن تلك الأحكام، إذا أحضرت بالكلية، علم كذبها، وخصوصاً في المشوريات منها. فإن المشوريات منها تكون أموراً ممكنة. وقد تحذف أيضاً لئلا يكون البيان منطقياً. فإن الخطيب، إذا نسب إلى مخاطبة منطقية أو كلامية، توهم أن اقتداره لصناعة أخرى، وأنه يغلب لفضل قوته في المنطق، لا لفضل إصابته. فالأولى به أن يخاطب خطاباً عامياً.
وكما أن حال الخطابة في استعمال الضمير بعكس حال الجدل والعلوم فيه، فكذلك انتفاعها باستعمال الاعتبار والقياس هو بضد من حال الجدل والعلوم. لأنك قد علمت أن القياس أشد إلزاماً في الجدل وأشد تحقيقاً في العلوم من الاعتبار والاستقراء. ولكن الاعتبار في الخطابة أقرب إلى إقناع الجمهور من الضمير. لأن الضمير وما يجري مجرى القياس يحتمل كثرة المراجعة في سؤال: لم كانت المقدمة؟ ولم لزم مما قلت ما ادعيت؟ وأما المثال، فيكون بأمور ظاهرة مسلمة، فلا يسئل عن مقدماتها بل تسلم، ويكون نقل الحكم إلى الشبيه فيها أو إلى الكلى عن جزئي واحد أو جزئيات قليلة أمراً ما مقبولاً عند الجمهور لا يتنازعون فيه، أو يجدوا مناقضة.
والفرق بين الاستقراء وبين المثال الذي ينقل فيه الحكم إلى الكلى لينقل عنه إلى الجزئي أو لا ينقل أن المثال يورد في نقل الحكم إلى الكلى على أنه مثل الكلى، فيجعل الحكم للكلى على أنه مثله، وعلى أنه مثل بالجزئى، كما لو جعل حكمه كأنها مسئول عنها مسلمة، فيؤلف عليه، إذ كانت مسلمة في ظنه. وإن لم يسلمها بالفعل فهو يسلمها بالقوة؛ فإن من الناس مَنْ هو يغلط مع نفسه، ويعتقد الجواب الفاسد قبل أن يُسْأل، فكيف إذا سئل؟.(2/155)
وقد يجتمع هذان جميعاً في المواضع اللفظية؛ فإن السائل فيها يعتقد أولاً خطأ، ثم يعده للقياس - ويكون فاسداً ألبتة - فيما يسأل، )و ( ناقض السؤال يخلو سؤاله عن التوقف على الغرض لبعض الأسباب المذكورة. وقد يكون المجيب أيضاً يسلم الكذب بِغَلَطِه في مثل مواضع الألفاظ المغلطة وغيرها. وترجمة أخرى توجب أن تفهم هذا الموضع: أن السائل قد يجتمع له أن يتسلم المقدمة الناقصة البيان، أو الناقصة حرفاً مغلطاً، وأن ينتج الكذب. وقد توجب ترجمة أخرى غير هذا، وهي ترجمة فاسدة.
وإذا كان جميع التضليلات التي يناقض بها إنما تقع من أسباب قياسات الكذب - وقد عدت، وإذا أعطيت قوانينها المعدودة كانت ظاهرة - فيحصل أمام الذهن عدد جميع ما يجب أن يتوقى في جزءٍ جزءٍ من التبكيت الذي هو على عدد جزء جزء من القياس؛ فإن للقياس المغالطي أجزاء كما للقياس الصادق، وربما عاد أحدهما إلى الآخر بإصلاح يسير بطريق الزيادة والنقصان. وإذا كان كذلك، فكان ذلك سبباً واقياً من الغلط، فإنك تعلم أنك إذا عرفتها توقيتها؛ وربما توصلت منها إلى القياس الحق حين راعيت ما يجب أن تراعيه في أجزاء القياس الكاذب، ولاح لك من أجزائها أجزاء الحق، فلم تأخذ مثلاً اللفظ المشترك في جوهره أو شكله كشيء واحد في المعنى، لم ينعقد عليك قياس مغالطة بسببه. وكذلك الحال في بابٍ بابٍ؛ فإنه لا يكون قياس محقق على الإطلاق إلا وقد تميزت حدوده على الإطلاق، فإذا رأيت الحدود لم تتميز على واجبها، علمت أنه لم ينعقد قياس على الإطلاق، وعلمت أنه إذا لم ينعقد قياس على الإطلاق لم ينعقد قياس على المطلوب المحدود، لأنك في مثل اشتراك الاسم وغيره لم توميء إلى المعنى المحصل المحدود، فذلك لا قياس مطلق، ولا قياس محدود، ولا قياس بحسب الأمر في نفسه، ولا قياس بحسب التسلم من المخاطب، إذ كان إنما ينعقد عليك الغلط من هذه، ومن إغفالك التمييز الذي يجب أن تحصره في أجزاء القياس بحسب ما يجب أن تراعيه من زيادة ونقصان، وتفاوت وقع بين الحق والكذب. مثال ذلك في الغلط الذي يعرض في الخلف السوفسطائي، ووضع ما ليس بعلة علة؛ وكذلك الجامع لسؤالين في سؤال يجهل أن المسألة قضية، والقضية واحدة ذات محمول واحد وموضوع واحد، أو ما في حكمه، فيزل من إغفاله مراعاة أجزاء المقدمة. والذي يغلط لا على سبيل الهوى، بل بحسب اعتقاد في انفسهم: إما واجب، وإما باغترار. فمن ذلك محمودات حقيقية، وعند كل الناس، أو عند طوائف. فإن المحمودات الحقيقية محمودات أيضاً في بادى الرأي. ومنها ما من شأنه، إذا غافص الجمهور، أقنعهم، ولا يكون هو المحمود الأول، ولكن يشبهه بمشاركة اسم أو في معاني أخرى، ويخالفه في شرط من شروط النقيض. وبالجملة: يكون فيه سبب من الأسباب المغلطة. لكن من شأن الجمهور، أو أكثرهم، أو طوائف منهم أن يقبلوه، عندما يغافصون به، قبول ظان. وإذا خلوا بأنفسهم وفكروا، درى بعضهم أنها ليست هي المحمودات التي تقبل لأنفسها، وأنه قد غلظ فيها وأُخذ مكان المحمودات بذاتها. وأما المنطقى، فإن قانونه يمنعه أن يقبل من المحمودات عند الجمهور إلا إياها بأعيانها، ومن المحمودات عند طائفةٍ ما إلا إياها بأعيانها، لمعرفته بالقوانين المميزة بين الشيء وشبيهه. فالخطابي يستعمل المحمود الحقيقي، والمحمود بحسب الظن، والذي قد ظن ظناً من غير نسبة إياه إلى أحد، وهذا هو المحمود بحسب إنسان ما. ولكن صناعة الخطابة ليست يتوقف تمامها إلى أن يعرف المحمودات بحسب شخص شخص، بل بأن يعترق أن المحمودات أيضاً بحسب شخص شخص نافعة له وإن كان يجهلها. فإذاً المحمودات بحسب شخص شخص ينتفع بها في المخاطبة من حيث يعلم منها هذا الأمر الكلي. ولا تحتاج الصناعة الى أن تحصرها حصراً، بل يجب عليها أن تحصر وتضبط المحمودات الحقيقية والمحمودات بالظن التي من شأن الجمهور أن يسلموها قبل النظر فيها والتعقب لها.(2/156)
والمحمودات الحقيقية هي التي إذا تعقبت لم يزُل حمدها، أو عرفت أنها هي التي تحمد بأعيادها لا غير، وإن زال عنها الحمد. وإنما يزول عنها باستقصاء يعرف حالها في الصدق، إذا انكشفت عن كذب، فتصير غير محمودة عند من اطلع على سرها الذي فيها؛ إلا أنه يعلم مع ذلك أنها محمودة عند الجمهور، مغلوط فيها. لكن ذلك السر ليس مما يطلع عليه عامة الجمهور. فمثل هذا هو المحمود عند الجمهور، ولا يزول حمده عنه بأن يلوح لمتعقب كذبه.
وأما المنطقي الجدلي، فإنما يأخذها محمودة لأنها عند الجمهور محمودة، ومن جهة أن هذا المعنى موجود لها. بل أهل النظر البرهاني أيضاً يرونها محمودة،
المقالة الثانية
من الفن السابع ستة فصول
الفصل الأول
فصل
في الرد على من زعم أن جميع المغالطات
إنما تقع بسبب الاسم المشترك قال المعلم الأول: والذي يؤثره بعض الناس من قسمة الأقاويل - ويعني به أفلاطون - أن بعضها موجود بحسب الاسم، وبعضها بحسب المفهوم، ولا يتفقان - وكأنه يريد أن التضليل واقع بحسب الاسم، والحق واقع بحسب المفهوم، أي أن الخطأ والغلط من جهة المسموع، والصواب والإدراك من جهة المفهوم - فليس إيثاراً صواباً: فإنه ليست قسمته للألفاظ بالفصول، ولا المغالطة بسبب اللفظ كلها نحو الاسم، ولا الالفاظ التي تتجه الى المسموع هي في ذواتها غير الألفاظ التي تتجه نحو المفهوم، فإن اللفظ بعينه يصلح لأن يستعمل في غير المعنى الذي سلمه المجيب فيغالط به، وأن يستعمل مجيب بحسب معناه فلا يغالط به، وأيضاً يستعمل في معناه ويغالط به من جهة الغلط في المعنى. وما غالط به زينون في إثبات أن الكل واحد بسبب قوله إن الموجود واحد، فهل هو متوجه نحو المسموع، أو هو أيضاً مغلط لزينون ولمن يخاطبه بحسب المفهوم. نعم، لو كان يتكلم بهذا ولا يتخيل إلا لفظاً صراحاً له نسبته إلى كثيرين لكان مغالطاً بحسب الاسم، لكنه مع ذلك قد يتخيل له مفهوماً ما، بل اللفظ بعينه يجوز أن يكون مشتركاً، فاذا نحا الى معنى واحدٍ من معانيه، وإياه فهم المجيب، صار ذلك اللفظ بعينه مقصوداً به نحو المفهوم. ولا شيء من الالفاظ إلا ويمكن أن يقصد فيها نحو المسموع، وجميعها يمكن أن يقصد فيها نحو المفهوم، ومع ذلك فقد يمكن أن يقع منه الغلط بحسب المسموع والمفهوم معاً، ولا اللفظ إذا غلط كان لأنه لا اعتقاد هناك، بل إنما تغلط جل الألفاظ بحسب المفهوم، فإن الأقاويل وضعها الأول وحقيقة فائدتها أن تكون للمفهوم، ولم توضع للمسموع ولأجل المفهوم؛ فإن أبطلت المفهوم ولم تكن هناك دلالة ألبتة فلا تغليط، فإن اللفظ المشترك إذا كان يدل على كثرةٍ ولم تلتفت إليها، بطل أن يكون أيضاً دالاً على الواحد، فإن ذلك الواحد يكون واحداً منها، وقد يمنع أن يأخذها من حيث يدل عليها، فإذا لم يدل عليها لم تبق دلالة اخرى تنسب الى المسموع فيقال إنها تغلط أو لا تغلط؛ فإن كان الاسم واحداً، ومفهومه كثيراً، فيسلم السائل من المجيب على معنى ذهب اليه المجيب، ثم غالطه فاستعمله على معنى آخر يخالف ذلك المعنى في الحكم، وقاوم به، فهذا هو واقع بحسب الاسم فقط؛ ولكن ليس كله كذلك، ولا كل الغلط من هذا القبيل، ولا كل ما يدل على كثير لا يتفق السائل والمجيب فيه على معنى مخصوص من جملة معانيه فيكون إن وقع حينئذ الغلط وقع لا نحو الاسم، إنما الأول هو الذي نحو الاسم.(2/157)
وكذلك ما كان من الألفاظ يقال قولاً جزئياً ويدل بها على معنى، والنفس تأبى التصديق لمعناها في الاعتقاد؛ وإذا تظاهر قائلها بتصديق ذلك في القول فعسى أن يكون هذا اللفظ هو الذي بحسب المفهوم؛ إلا أن ذلك بالعرض، ليس لأن وضع اللفظ كذلك. وهذا مثل تصريح زينون بأن الموجود واحد، وأن الكل واحد، فإنه إذا كان رأيه في نفسه هو أن الموجود يشتمل على كثيرٍ، علم أن قوله ليس بحسب الاعتقاد على أن اللفظ كذلك في نفسه، بل على أن المجيب أو القائل صرفه عن الاعتقاد، وذكره كذباً، فيكون مثل هذا إنما هو بحسب الاسم، بمعنى أن القول لا يتعدى السماع إلى الاعتقاد. فإن لم يكن معنى قولهم بحسب الاسم هذا، فلا هذا القول بحسب الاعتقاد، ولا بحسب الاسم، ولا القسمة المذكورة في الأول صحيحة فلا كل ما يضلل يضلل بالمسموع، ولا كل ما يضلل بالمسموع يكون بسبب أن الاسم مشترك. وقد علمت هذا، فإنه ليس كل تبكيت سوفسطائي لفظي يعرض من جهة الاسم.
على ان قوما آخرين قالوا: إن الأمر ليس كذلك، بل القياسات التي تكون دالة على وجوه مختلفة، هي التي من قبل أن اللفظ لا يتعدى المسموع، وليس جميع ذلك من قبل اشتراك الاسم، بل بعضه واليسير منه، فإن اللفظ قد يغط من وجوه غير الاشتراك في الاسم، فبالحري أن لا يكون كل تغليط لفظي من جهة اشتراك الاسم. فإذن لا سواء ما قلناه من أن كل تبكبت سوفسطائي إما أن يقع التضليل فيه من جهة اللفظ، أو من جهة المعنى. وما أرادوا أن يقولوه: إن كل ذلك من جهة الاسم فقط، ومن جهة المعنى يقع الصواب. ولا سواء أيضاً أن يقال: كل تضليل إما كذا وإما كذا وأن يقولوا: كل لفظ قال المعلم الأول. والأقبح من ذلك أن الرجل قد أعرض عن تعريف القياس مطلقا، وأخذ يتكلم في القياس المشبه، والتبكيت المشبه. وإنما تعرف القياس الردئ بعد أن تعرف القياس الجيد، فتعلم حينئذ أن القياس الردئ هو أن تكون له صورة القياس في ظاهره، أو يشبه صورة القياس ثم يفارق بالمادة وأن رداءته إما أن تكون من جهة كذب وفساد في المقدمة المأخوذة من طرفي النقيض من غير مراعاة، كمن يستعمل أن الساكت متكلم، والمتكلم ليس بساكت، فينتج مثلا أن الساكت ليس بساكت وإما أن تكون من جهة فساد في جهة التأليف، وإن كانت المقدمات صادقة بحسب اعتبار أنفسها، مثل قول القائل: إن شعر هوميروس دائرة، أي يرجع آخره إلى أوله - كأنه يذكر في آخر كل بيت ما ذكره في أوله - ثم يقول: وكل دائرة يحيط بها خط كذا، أو كل دائرة لها شكل، فإن المقدمة الصغرى صادقة والكبرى صادقة، لكن ليس لتأليفها حد مشترك إلا في اللفظ، فليس من حيث المعنى لها ائتلاف أو يكون الفساد من جهتين جميعا، كقول القائل: " إن الإنسان يعطي ما ليس له، وكل حرام فليس له، فالإنسان يعطي الحرام فقط " فيكون هذا هو القياس الجامع للفسادين، وذلك لأن الصغرى كاذبة وقد أنتجت من قياس كاذب، لأن المعطي يقال للشيء عندما يريد أن يعطيه المعطي وهو له، وإنما يصير لغيره عند القبول، وذلك بعد فعل المعطي، فإن الإنسان يعطي ما له، ليس ما ليس له، بمعنى آخر: وهو أنه ليس له أن يتناوله شرعا وأما كل ما ليس له بحسب الاستيلاء فليس بحرام عليه وأيضاً فإن القياس غير منتج. وهذه هي وجوه فساد القياس. وقد قيل في هذا المثال وجه آخر لا يلتفت إليه.
وإذا خلا القياس عن كذب المقدمات، وفساد الاشتراك، وله صورة قياسية - فهو قياس صحيح قد طلع من مكانه، وجاء من طريقه، وطرح الالتفات فيه إلى اللفظ - لم يعرض غلط حق فيجب على من يتعرض لإبانة أسباب الصواب والخطأ في النظر أن يعلم إذن صورة القياس وكيف تكون، ومادة القياس وكيف تكون، ثم ينتقل إلى السوفسطائية. وأما من فعل فعل أفلاطون فأخذ يتكلم في السوفسطيقي، ولم يحصل القياس أولا، فقد عمل هذرا، وخصوصا إذا ظن أن كل ما غلط فهو من الاسم، فيرى المهندس يغلط لأن المثلث اسم مشترك عنده، وأن مهندسا إن استعمل لفظ المثلث على أنه مشترك ثم نص لا على الشكل المعلوم، بل على شيء آخر من الأشكال مثل قطع زائد لمخروط، أو مثل شكل يحيط به ثلاثة خطوط قياسية، ثم توجه إلى مغالطة مع التنبيه على معنى المثلث، أيكون غلطه بسبب اعتقادي أو لفظي، ويرى أنه لا محالة يعرض له أن يغلط لأجل ذلك.(2/158)
وأما الذي يمنع أن يكون الاسم مشتركا ولا يغلط، فإن يفهم المجيب ويبحث عن قصد السائل، فإن أطلق المجيب الجواب، فذلك لأنه تصور معنى إياه قصد بالإيجاب والسلب، وربما لم يكن علم أن الاسم غير ما ذهب إليه دلاله ثم إن عقد عليه قياس ولم يؤت في الحد المشترك مثلا بذلك المعنى فتكون الزلة بالحقيقة، لأنه لم يعلم القياس وماهيته، فإن غلط المجيب وقبل النتيجة، فليس إنما أخطأ من جهة أن الاسم غلطه. وكيف يغلط والمعنى الواحد متصور عنده واحداً، بل إنما غلط لأنه لم يعلم هيئة القياس وحده الحد المشترك، وورد عليه الغلط من جهة الفكر لا من جهة القول. وكذلك في أمثلة أخرى لا تتعلق باللفظ من جهة الاشتراك فيه، بل من جهات أخرى مما قد علمت، مثل أن يسأل إنسان: " هل يصدق القول بأن الساكت يتكلم أو لايصدق مرة ولا يصدق أخرى " فإن أجاب المجيب بأنه لا يتكلم البتة، وعنى ما دام ساكتا، وكان الذي يسأل يظن أنه سلم أن لا يتكلم في وقت آخر ألبتة، فلم يجب أن يجتمع من المقدمتين قياس بل الذي يجب أن يقال إن الغلط فيه من أن العقدين مختلفان، وأن تأليفهما إلى مقدمة تقترن بهما للإنتاج ليس تأليفاً واحداً، بل أحدهما يتألف نحو المطلوب والآخر لا يتألف، أو يقال ليس السبب فيه إلا اللفظ فقط من دون آفة اعتقادية كلا بل الآفة القريبة هي في نفس القياس، فيجب لا محالة أن تكون المعرفة بالقياس سابقة حتى يمكن أن يقال: بئس ما عملت أيها المجيب حين سلمت هذه الأجزاء، فأتى بمعنى محصل عندك ثم لم يؤت بذلك المعنى في الحد المشترك، وراج عليك فإذن كيف يمكن أن تعرف المجيب خطأه فيما صنع من غير أن يكون قد عرف القياس؟ فكيف تضيف في تعريفه سوفسطيقي وإبانة أن الاسم يغلط ويضلل، ولا تعرف أنه كيف يغلط.
فأما الاسم المقول على أشياء كثيرة فإنه إذا استعمل في السؤال فأجاب المجيب عنه بإيجاب أو سلب، ولم ينح نحو معنى ما واعتقاد ما، فذلك الذي يسلمه لفظ فقط، لأنه الاسم الذي لا يفهم معناه، ويجوز أن يكون دالا على أي واحد شئت مما لا نهاية له من المعاني، إذ إنما يتحدد مفهومه في عدد إذا كان يفهم، وإذا لم يلتفت إلى المعنى لم يكن الاسم مفهوما، فمن سلمه فإنما يسلمه قولاً ولا اعتقاد له. ومثل هذا المجيب ليس إنما يغلط بل لا يعقل. فليس إذن الأقاويل قسمين: مضلل وحق على أن المضلل هو الذي عند المسموع، والحق هو الذي عند الاعتقاد، وعلى أن يجعل الذي عند الاعتقاد جنسا للأقاويل الصحيحة، فإن هذا الذي يغلط من جهة اللفظ هو أيضاً يغلط من جهة اعتقاد ما. وأيضاً فإن ههنا أنواع غلط من جهة الاعتقاد لا ذنب للفظ فيها، كالذي بالعرض، وبالجملة تلك السبعة المعنوية.(2/159)
وليس يحسن الذي يقول: يجب على المجيب أن يستقسم، إذ لا يفهم منه معنى ألبتة أو يستقسم، وإنما يستقسم إذا فهم أن له معاني كثيرة، ثم لم يفهم غرضه من جملتها. فأما إذا سبق إليه منها معنى واحد لاح لذهنه فكيف يمكنه أن يأخذ في الاستقسام؟ بل إنما يسلم، أو ينكر، وينحو ذلك المعنى في حدود ما يسلمه من المقدمات للقياس عليه. وشروعه في تقسيم دلالة اللفظ عليه من قبيل التعليم، ليس من قبيل المخاصمة، على قاعدة أنه مساو في المرتبة؛ بل للمخاطب أن يستفسر المعنى الذي يريده المتكلم، وأما أن يقسم عليه الوجوه فهو خارج عن عمود الخصام، ومشير إلى التعليم؛ فإنه إذا قسم عليه، ومضى إلى معنى واحد، كفى أن يستقسم وينص على ذلك المعنى ويذهب ذكر سائر الأقسام لغوا ورد منه على سبيل ما لا يحتاج إليه تبدخا، وإظهارا للقدرة، وقياما مقام المعلم. على أنه قد ينعقد من الأنقاظ التي ليست مضاعفة الدلالة كثيرة المعاني مغالطات بحسب تركيبها، مثل قولهم: " هل آحاد الرباعية مساوية لآحاد الثنائية؟ فإن أخذت متساوية، قيل: فإذن الجملتان متساويتان، وإن قيل: إنها غير متساوية، قيل: فالآحاد التي منها تركيب الثنائية مخالفة للآحاد التي منها تركيب الرباعية، لكن الرباعية مركبة من آحاد الثنائية فكيف يكون غيرها ومخالفا لها " . أو يقول: " هل الوحدات التي في الرباعيات مساوية للثنائيات التي فيها، أو بعض الوحدات التي تساوي وتكون متحدة بالثنائيات وبعضها لا تكون. وكيف تساوي الوحدة الثنائية واللواتي يتركب الشيء من أربعة منها اللواتي يتركب الشيء من اثنين منها؟ وكيف تخالف الوحدات الثنائيات وما هي إلا وحدات أيضاً اجتمعت؟ وإذا كانت كل واحدة لا تخالف كل واحدة من الثنائية لم تخالف بزعمه الوحدة الثنائية؟ " ومثل ما يقولون: " هل العلم بالأضواء واحد؟ فإن قيل: العلم بها واحد، قالوا: فالعلم بالمعلوم هو العلم بالمجهول، فبالمجهول علم. وإن قيل: مختلف، قيل: فبماذا يعلم الخلاف إذا افترق العلمان؟ " فإن هذه القسمة لا تغني في التحذير عن الغلط في كل موضع يقع فيه الغلط من اللفظ، إنما يغني في ذلك التقدم بمعرفة القياس أولا، ومراعاة شروطه، فإن هذا الإنسان إذا سلم أن الساك يكلم على معنى ما لاح له، ثم غلط، لم يكن كمن يظن أن كل شفاء وحجة إنما هو في القسمة أن يلومه ويقول له: لم لم تقسم معاني هذا اللفظ، أو تستقسم؟ وكان لصاحب المعرفة بالقياس أن يلومه ويقول له: لم لما فهمت بقولك " ليس بمتكلم " في تسليم الصغرى كذا، وفهمت في تسليم الكبرى شيئاً آخر، لم تعلم أن الأوسط ليس بواحد. فما أبعد من الحق من ظن أن كل غلط من جهة الاسم، وإن كل شفاء من جهة القسمة.
ثم إن كان المجيب يحتاج أن يقسم، فما تقول في المعلم إذا علم، وأراد أن يظهر عند من لا معرفة له بما هو عنده ظاهر معروف، وخاطبه بما يفهمه هذا المعلم وله عنده معنى واحد، أيكون تعليمه على نحو المسألة والجواب حتى تلزمه مطالبة المتعلم بالقسمة، فيأخذه يستقسمه كذا؟ بل المعلم لا يسأل، إنما يضع ويقول، ولا يقسم شيئاً، بل ينبه على المعنى الواحد الذي يريده من غير حاجة في التنبيه على ذلك المعنى الواحد إلى أن يقول: إن اللفظ قد يدل أيضاً على معان أخرى، وإنه مشترك لها، فمنها كذا ومنها كذا. وكذلك المبرهن لا يسأل عن طرفي النقيض، بل يضع الحق. إنما الممتحن يفعل ذلك، وهو بالحقيقة جدلي. والجدلي أيضاً يقصد نحو المعنى ولا يحوج إلى قسمة اللفظ المشترك، ولا إذا قسم، ولم يعلم أن القياس كيف يكون، نفعته القسمة، ولا إذا قاس، ولم تكن قسمة تؤخذ حدا وسطا، ضره ترك القسمة. والمشاغبي والسوفسطائي متشبه به بالبرهان والجدل، وإنما يخالفهما بأن قياسه مظنون.
وبالجملة فإن قياسا الغلط ثلاثة: قياس غلط مع طلب الحق وإنما وقع سهوا؛ والسبب فيه أن قايسه طلب أن يني على المباديء الخاصة، وأن يقاس إلى الحق، لكنه سها، فإما بني على شبيهة المباديء الخاصة، وإما بني على المباديء الخاصة ولم يحسن البناء.
والقياس المشاغبي الذي الغرض فيه الغلبة بغير الواجب والقياس السوفسطائي الذي الغرض فيه اظهار الحكمة وفضل البيان.(2/160)
والمرائي والسوفسطائي يسعملان المشبهات بالمقدمات العلمية والخاصية التي جرى حدودها مجرى ما ليس خارجاً عن الصناعة. فيجب أن يكون الشغل مصروفا إلى أن يعلم: ما القياس الحق؟ وما المظنون؟ فهذه الاشياء إنما ينحو بها المعلم الأول نحو إبانة أن الرجل الذي يدعي أنه معلمه لم يحسن الكلام في المنطق على الوجه الذي يجب ولا بين وجوه المغالطات البيان الذي ينبغي. وقد صدق: فإن معلمه قليل الإجداء فيما يصنعه ويضعه في العلوم المنطقية والنظرية؛ فإن أجدى شيئاً فعسى أن يكون ما عمله في العمليات، وكان العلم لم يكن نضيجا في زمانه، بل كان أوهاما معدة لمن يزيد عليها بالتهذيب كالمعلم الأول.
وليس في معرفة القياس المطلق أيضاً كفاية في أن نعلم حقيقة أصناف التضليلات، بل بنا حاجة أيضاً أن نعلم فصلا أخص من ذلك، وهو أن نعلم القياس البرهاني المناسب، والقياس الخارجي الجدلي المأخوذ من غير المناسبات، بل من المشهورات؛ فإنه وإن كان قد يتألف منه ما ينتج الحق، فإنه إذا لم يكن على سبيل التسليم والتسلم والمجادلة على سبيل التبيين عاد مغالطيا، مثل قياس بروسن في تربيع الدائرة، وقد حكيناه في كتاب البرهان.
ثم بعد ذلك نعلم أيضاً التضليل: منه ما يكون خارجا مقابلا للجدلي وهو التضليل المشاغبي، كما فعل رجل يقال له أنطيفون في تربيعه الدائرة، فإنه قال: " لا نزال نداخل المربعات بعضها في بعض إلى أن نستوفي بنقط زوايا أو بأجزاء من أضلاعها مساحة المحيط، فنكون عندئذ قد مسحنا الدائرة " ؛ فخالف الموضوعات لصناعة الهندسة والمباديء الأولى لها، وخرج عنها، إذ وضع الخط مؤلفا من النقط، أو ظن أن أجزاء المسقيمات تنطبق على المستديرة.
ومنه ما يكون مناسباً، ويكون الغلط واقعاً بعد حفظ أصول الصناعة ومباديها، وأن ما وقع ليس لمخالفتها، بل لسوء استعمالها والبناء عليها مثل تربيع رجل يقال له " أبقراط " ، فإنه فصل شكلاً هلالياً - وهو قطع من قطوع الدائرة يساوي مثلثاً - وقد ساوى مربعاً، ثم ظن أنه إذا قسم الدائرة بهلالياً يؤدي آخر الأمر الى أن يحصل لجملتها مساحة مساوية لمساحة مثلثات هي مساوية لمربع، وخفى عليه أن الدائرة لا تنقسم على تلك الهلاليات.
والمشاغبة دور ما يتكلفه خصم من خصوم المحاورة ينحو نحو الغلبة.
ومن قصد الغلبة نفسها توجه إليها خبط العشواء فقرع كل باب.
ومن الناس من يغالط ليس للغلبة بل ليظن به الحكمة. وفرق بين الأمرين: فإنه لما كان الذي يريد الغلبة يعترف بأنه إنما تغلب على غير الحق لشدة قوته، وربما كان افتخاره بأن يغلب على الحق؛ لأن الحق ناصر، والباطل خاذل، ومن غلب ومعه ناصر، أضعف حالا ممن غلب ومعه خاذل. فالأولى أن يسمى طالب الغلبة كيف اتفقت مشاغبياً، وأن يسمى المتظاهر بالمعرفة وليست له مغالطياً سوفسطائياً.
وبالجملة إذا شبه الكلام بالقياس الجدلي ولم يكن جدليا بالحقيقة، كان القياس مشاغبيا، وإذا شبه بالحكمى ولم يكن حكيماً، كان القياس مغالطياً.
ونسبة المشاغبي إلى الجدلى هي نسبة المغالطي الذي يورد مثلا الخطوط على ما ينبغي في عمل هندسي، مثل أبقراط المذكور إلى الحكيم الهندسي، إلا أنه لا يسمى مشاغبيا إذا حفظ قانون الصناعة، لأنه ليس يأتي بالأمور العامة، بل بالأمور الخاصة بالصناعة. وإذ هو في الإتيان بها إن أصاب لم يكن جدلياً، فكذلك في الخطأ فيها لا يكون مشاغبياً. وأما أنطيفون فهو مشاغبي، وكذلك الكلام المنسوب إلى زينون يستعمله ليبين أن الحركة بعد الطعام عشاء نافعة، أو ليبين بقوله أن الحركة بعد العشاء نافعة غرضاً ما له. وإن كان بعض المشاغبة أقرب إلى الجميل من بعضها، فإن خطأ أنطيفون في ذلك أقرب الى العذر من خطأ من قال إن الحركة بعد العشاء واجبة لحفظ الصحة اتباعا لقانون زينون فإن خطأه من قبل الأمور العامة المشهورة لا من قبل الأمور الخاصة بصناعة المنطق وذلك لأن الكذب في أن الحركة بعد الطعام نافعة أظهر للجمهور من الكذب بأن الخط المستدير لا يتألف من نقط، أو من قطع صغار من المستقيمات.(2/161)
وكما أن الجدلى ليس يختص بموضوع محدود، وكذلك المشاغبي والسوفسطائي؛ والبرهاني هو الذي يختص بموضوع ما. والجدلى أيضاً ليس حكمه حكم الصناعة الكلية البرهانية التي هي الفلسفة، فإن تلك تبرهن، والجدلى لا يبرهن؛ وذلك لأن الجدلى ليس عمومه كعموم الفيلسوف الأول، وذلك لأن الفيلسوف الأول ليس عمومه بأن يتكلم في أي شيء كان، بل عمومه لأن موضوعه - وهو الموجود بما هو موجود - أعم من كل شيء. والجدلى ليس عمومه بأن له موضوعا ذلك الموضوع واحد عام، بل عمومه بأن كل شيء موضوعه ويتكلم فيه من الأمور المشتركة. وليس شيء من الصنائع البرهانية جزئيتها وكليتها مبنيا على السؤال، فإن السؤال للتسلم، والتسلم بعد التسليم، والتسليم على الاختيار، فالسائل إما أن ينتفع بكل ما يسلم له، أو لا تكون له فائدة من السؤال. وأما المبرهن فيبني على الحق، وتكون له في كل نوع من النظر مباد معينة، إذ ليس كل شيء نافعا له. والذي ينفع في كل صناعة أمور معينة هي الأصول فيها، وإذا لم يستعمل النافع فيها، ومن جحدها فقد امتنعت مناظرته بالمبني عليها، ولم يمكن صاحب الصناعة محاورته فيها.
وأما الجدل، فكيف تكون له مباد محدودة؟ وإنما له ما يتسلمه، وما يكون مشهورا، مناسبا كان أو غير مناسب. والمشهور فقد يتبدل، ثم قد تجتمع الشهرة في طرفي النقيض، على نحو ما مر لك ذكره فيما سلف.
والجدلى إذا لم يسلم له المبدأ الموافق للشيء، تحير، فلم ينتفع به؛ وكذلك الصناعة الامتحانية، إذ هي مبنية على التسلم، وليس لها من حيث هي امتحانية أيضاً موضوع محدود - إذ هي والجدلية على منهاج واحد - لكن الجدلية أعم اعتبارا منها، كما مضى لك.
وبالجملة فإن الصناعة الجدلية والامتحانية ليستا يتحددان بأن لهما موضوعا، بل بسلب الموضوع، وأن ليس لهما موضوع. ولكونهما غير محدودي المبادئ والأغراض معا، صار العامي أيضاً يجادل وبنازع، وربما ظن أنه يمتحن.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في شرح أجزاء الصناعة المشاغبية
قد كنا تقدمنا فجعلنا أجزاء الصناعة المغالطية خمسة، وفرغنا من شرح القول في واحد منها وهو التبكيت السوفسطائي، فينبغي أن ننتقل إلى سائر الأقسام، فكان الذي يلي القسم المذكور وهو: التشنيع برد القول إلى كاذب وإلى شنع. وينبغي أن نتكلم في أسبابه، فنقول: إنهم إنما يتمكنون من إناج ذلك بأن يكون ما سألوه وسلموه غير محصل ولا محدود، وأن يجمعوا مسائل في مسألة واحدة بالفعل؛ ولعله أن تكون المسائل كثيرة في الحقيقة، وإن كانت واحدة بالظاهر وبالفعل. وكذلك أن يخلوا بشرط النقيض، أو غير ذلك مما يتوصل به إلى أن يكون الجواب مشوشا غير مفصل، فتلوح لهم الطرق إلى التشنيع. وبالجملة فإنما يتيسر لهم هذا باحتيالهم في تسليم شيء متفرع متشعب على جملته، فإذا عاد المجيب كالمتعلم المستفهم، وواقف واستفصل لم يمكنهم الإمعان في هذه المغالطة. ويجب أن نفعل هذا في أول الأمر، وحين نضع ونسلم، لا حين نقرب من الخلف، وعندما شورف رفع الكلام عليه. وقد بينا في الجدل أن ذلك كيف يكون جيدا، وكيف لا يكون جيدا.
وكثيرا ما يحتالون عندما يحقق عليهم المجيب، أو يخرج جوابا مخرج ما لا ينفعهم بتهذيته، تركوه، وانتقلوا إلى سؤال آخر، كأنهم يستفهمون، حتى يجدوا مهلة فكر وموضع تعلق.
ومن حرص منهم على هذه الصناعة فيجب أن يراعي مذهب كل من يريد أن يغالطه، وحينئذ ينظر إلى الأشياء التي يقولها أصحاب ذلك الرأي والمذهب، مما هو مخالف للمشهور، مكروه عند الجمهور؛ فإنه لا يخلو رأي من الآراء من مثل ذلك فيبكته على رءوس الملأ. وأيضاً فإنه يطلب من آرائه، وإن لم يكن مضادا للمشهور كان مضادا مقابلا لما ينتجه المشهور، فيبكته بذلك. فإن أنكر المشهور شنع عليه، وإن قبل بكته فيضطره إلى أن لا يسلم المشهور خوفا من التبكيت، فيقوده إلى مخالفة المشهور، والتشنيع عليه به.(2/162)
وينبغي أن يتأمل كل من المغالط والمغالط أصناف التشنيع بحسب القول واللسان، وبحسب الاعتقاد. وإذا تأمل المجيب الشنع بحسب القول الذي إليه يساق، فلم يكن مطلقا، بل كان عند قوم دون قوم. وبما كان الشنع شنعا عند قوم غير من ينصر المجيب قولهم. وأحسن من هذا، وأقطعه للشغب، أن يبين أن الخلف لم ليزم مما سلم، وهو الذي من عادة الجدلى الصرف أن يشتغل به؛ إلا أن هذا ليس من هذا الباب، بل من باب وضع ما ليس بعلة علة، ومن باب سوء التبكيت.
وكثيرا ما تكون المشهورات قولا غير المشهورات عقدا في الناس، والمشهورات بالسنن غير المشهورات بالطبع، والمشهورات بحسب السنن العامة الغير المكتوبة غير المشهورات بحسب السنن الخاصة، والمشهور عند الحكماء غير المشهور عند الجمهور. مثال الأول: أن المشهور المحمود لفظا هو ما هو أحسن قولا، والمحمود عقدا هو ما هو أوفق. مثال ذلك: أن المحمود قولا هو أن الأولى أن نموت محمودين، وربما كان المحمود عقدا هو: أن الحياة في الذم خير من الموت؛ والمشهور قولا هو: أن العدالة مع الفقر آثر، وربما كان المشهور عقدا ضده.
ومثال الثاني: أن السنة تجعل العدالة خيرا، وأما موجب الطبع فهو أن الانتفاع خير ولو بالجور.
ومثال الثالث: أن يتزوج الرجل على واحدة مطيعة، وإيحاشها مكروه في الشريعة العامة، وليس بمكروه في الشريعة الخاصة.
ومثال الرابع أن الحكماء يقولون: إن السعيد هو العادل، والجمهور يقولون هو الملك المظفر.
فيجب أن تكون هذه الأشياء محصلة عند الممارين حتى إذا سلم جانب شنعوا بالآخر، وأن تكون محصلة عند المبتلين بالممارين حتى لايغالطوا من تكلف أن يكون كلامه على حسب الأحسن بالقول، أو الأحسن بغير المكتوبة، أو الأحسن بالسنة، بأن يروه خلفا من جهة المشهور الآخر، بل يجب أن يقابل المتعسر منهم عند رده الكلام إلى الخلف بحسب مشهور مما ذكرناه أنه ليس خلفا، ويستعان فيه بالمشهور الذي يقابله إن وجد، فإن مغالطة المغالط عدل. وقد مضى في هذا في تعليم الجدل قول شاف. على أن أكثر ما ينصره المغالطون هو ما يخالف المشهور بحسب السنة، وبحسب الأجمل، فيكون الخلف الذي لا يجهر به يتبع ذلك في الأكثر خلفا يتبع مقتضى الطبيعة، ومقتضى النية الخفية في الناس التي لا يجهر بها، فيقابل ذلك بالمشهور الحقيقي الذي هو أوضح. وعلى أن تمكنهم من سؤالات تجر إلى مخالفة المشهور الحقيقي قليل، بل أكثر ما يصيرون به إلى مشهورات ليست حقيقية. وربما كان الطرفان غير شنعين، ولكل واحد منهما مناسبة من الحمد، يمكن أن تؤيد يسيرا، فإذا سأل فسلم أيهما كان آكد حمده الثاني بشيء يسير يشنع به. ومثال هذه مثل قولهم: " أترى الحكماء تطيعهم أم أهل البلد " ؟ والسؤالات التي منها يتمكنون من إنتاج الخلف المخالف للمشهور، هو مثل قولهم: " أترى طاعة الآباء أوجب، أو طاعة الحكماء " ؟ وأيهما سلم أنتج منه خلفاً، فإن سلم أن طاعة الآباء أوجب، أنتج منه: " فإذن طاعة العقل والحكمة غير واجبة " ، وإن سلم أن طاعة الحكماء أوجب أنتج منه: " فإذن قد يصير عصيان الوالد ومخالفته واجبين " . وكذلك إذا سألوا: " هل ينبغي أن نفعل ما هو أصلح أو ما هو عدل؟ وأي الأمرين أولى أن نؤثره إذا لم يكن يمكن غيرهما: أن نظلم، أو أن نظلم " ؟(2/163)
وفي أكثر الأمر يكون أحد الطرفين يجلب إلى مخالفة الحق، والآخر إلى مخالفة المشهور؛ والحق ما عليه الحكماء، والمشهور ما عليه الجمهور. وإذا وقع في أمثال هذه الشناعة إن جروا إلى مخالفة الحق حملنا عليهم بالمشهور، وإن جروا إلى مخالفة المشهور حملنا عليهم بمخالفة الحق، وما عليه الكثير، وعلى ما مضى في ذكر الذي عند الطبع والذي عند السنة، وغير ذلك. وليس هذا ظلما ولا مراوغة؛ وذلك لأن المشاغبين والجدليين ليس ممكنا أن تجري المخاطبة معهم على قوانين الحكمة والأصول الحقيقية، إذ لذلك نوع من المخاطبة غير الذي يمكن أن يفهمه أولئك. فإذن يجب أن تجري المحاورة معهم على ما هم عليه. فالجدليون يحاورون بالقوانين الجدلية ما لزموها، وأما إذا جادوا عنها وشاغبوا، فإن كانوا ممن نظر في القوانين ثم استعملها فحاد عنها، لم يخل: إما أن يكون المخاطب منهم يكون من قوته أن يفهم إذا فهم، ويرجع إلى الواجب إذا بصر، فهذا يكون مثله ممن أتفق له وإن كان مشاغبياً لم يكن ذلك منه بقصد؛ وإما ان يكون قاصداً إلى المشاغبة طباعاً، وإن فهم الحق، فكان له قدرة أن يفهم، فليس ينفع معه الاشتغال بتفهيم الحق، فيجب أن يرمي عن قوسه. واما الذي لا يفهم القوانين، ولو فهمها: فإما أن لا يحاور أصلاً، وإما إن حوور لداع من الدواعي وعلة من العلل، فالأولى أن لا تشتغل معه بما لا يجدي، أو لا تفهمه، بل بأن يردد في الحيرة، وتنكر عليه بما يريد أن ينكر به عليك.
وأما التشنيع الذي يقود المتكلم إلى هذر بالتكرير فالسبب فيه أنهم يقولون مثلاً: لا فرق بين مقتضى الاسم وحده ورسمه، وبين مقتضى الاسم مأخوذا مع شيء آخر، حتى يكون مجموعها على هيئة قول؛ فيأخذونهما كشيء واحد، فمن ذلك ما يعرض لهم في الأمور الإضافية. وكما يقول قائلهم: " أليس الضعف ضعفا للنصف، فالنصف له ضعف، فيكون الضعف إذن ضعف ما له ضعف - وهذا هذيان - فإذن ليس الضعف ضعفا للنصف. وإنما وقع هذا لأنه لم يعلم أن الهذيان غير الباطل، وأن الهذيان يجعل ما يلزم عنه هذيانا مثله لا باطلاً. وقولنا: " الضعف ضعف النصف " هو هذيان، من حيث نريد إعلام مجهول، فإنه لا ضعف إلا ضعف النصف، ولا يفهم إلا كذلك. فإذا كنا فهمنا الضعف لم تكن لنا فائدة في أن نقول إنه ضعف النصف. وأما إذا أردنا أن نخبر عن الحق كما هو من غير أن نقصد الفائدة، فيكون هذا حقا؛ وهذا كمن يقول: " إن الإنسان إنسان أم لا؟ فإن كان إنسانا فقد هذيتم أن الإنسان إنسان، وإن لم يكن إنسانا كذبتم " . فإنا نقول: إذا كررنا شيئاً هذينا ضرورة، لكن لم نقل باطلاً. والسبب في هذا الهذيان أن السؤال في نفسه هذيان، إذ المحمول فيه هو الموضوع، وإنما السؤال سؤال من جهة ما يلزم تسليم أحد طرفيه، وذلك باعتبار حال الحق في نفسه، لا باعتبار فائدة أو غيرها، فإذا تركت الفائدة وراجعت حال الحق في نفسه كان الجواب حقا. والتكرير إنما يقبح في الحدود في قول قياسي مبتدأ. وأما الذي يلزم بحسب القسمة، فموجبه والداعي إليه وهو السؤال أقبح منه. وأما إن ظنوا أن هذا التكرير واجب، لم تقع إليه ضرورة بحسب السؤال، بل بحسب المضاف، يكون حلا لهذه الدعوى. وقد يلزمون مثل هذا في التكرير في الحدود، فمن ذلك ما هو على سبيل المغالطة، ومن ذلك ما هو على سبيل الوجوب؛ أما الذي على سبيل المغالطة فمثل قول القائل على من قال " إن الشهوة شوق إلى اللذيذ " بأن يقول: " والشوق نفسه هو إلى اللذيذ " ، كانه يقول: " إن الشهوة هي شيء لأجل اللذيذ " . والمغالطة في هذا أن الشوق قد يكون إلى غير اللذيذ بل يكون إلى الغلبة، وإلى الجميل، وإن خالف اللذيذ.(2/164)
أما الذي على سبيل الوجوب فإذا كان شيء يؤخذ في حده الموضوع، وأخذ الموضوع معه، وأريد أن يحد، مثل العدد الفرد إذا أريد أن يحد من حيث هو مركب من عدد ومن فرد، والفرد حده أنه عدد له وسط، فيكون العدد الفرد عددا هو عدد ذو وسط، فيكون قد كرر العدد مرتين. وكذلك: الأفطس أنف فيه تقعير في الأنف، لأن الفطوسة تقعير في الأنف، فيكون قد قيل الأنف مرتين، وخصوصا إذا أخذ الأنف الأفطس بأنه أنف هو انف فيه تقعير في الأنف. وقد يرجع برده التفتيش إلى جزء من السؤال، فإنه إن كان الأفطس أنفا ذا تقعير، فيجب أن لايقال أنف أفطس، كما لا يقال إنسان حيوان، وشرح اسم المكرر مكررا. وإن عنى بالأفطس صاحب أنف فيه تقعير لم يجز أن يقال أنف، بل أنف الفطس. وقد قيل في أمثال هذا في الفلسفة الأولى ما فيه الكفاية. لكن مع هذا كله فإن اللفظ المفرد لا يلزمه من الشناعة ما إذا ركب التركيب الذي ذكرناه، ويكون السبب في ذلك التركيب ما بيناه.
واما الإعجام فذلك بسبب التغليط باختلاف أحوال اللفظ من حيث التذكير والتأنيث، وتوسط - إن كان - في بعض اللغات، والتشديد والتخفيف، والمد والقصر، وأحوال من عوارض اللفظ، ومن اشتراك أجزائه وتصاريفه بين ما هو موضوع له بالحقيقة، وبين ما هو مخالف له، على ما علمت.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في حل المغالطيين
وكيفية التمكن من الحل وكيفية مقاوماتهم
وهذه المضللات قد تستعمل للمغالطة، وقد تستعمل في مخاطبة العناد، على ما عرفتها، وقد تعين في التضليل بأن يأتي مستعملها للترتيب الأنفع في ذلك كما أن المواضع الجدلية قد يعينها الترتيب المذكور وحسن التصرف في استعمالها معونة شديدة على بلوغ الغرض في الجدل؛ فمن ذلك التطويل حتى يختلط الكلام، وتنسى مواضع الحل، وتتباعد أجزاء القول بعضها من بعض، فتخفى توجهها إلى المطلوب. ومن ذلك الاستعجال والإيجاز حتى يسبق زمان العبارة زمان جودة التأمل والروية. ومن ذلك التغضيب بالتشنيع حتى يغلب الانفعال النفساني قوة الفكرة فيشغلها عن التنبه للزلة. وجميع ذلك يعين على أن لا تحصر جميع المقدمات في الذهن، وإن حصرت غفل عن جهة تأديتها إلى النتيجة.
وأقوى أسباب الإسخاط التوقح بإعلان الجور، والتصريح بأنك لم تحسن أن تجيب، وأن تتكلم ألبتة. ومن ذلك تغيير الترتيب والوضع لإخفاء النتيجة؛ ومن ذلك خلط حجة بحجة، وقول بقول، وإيهام أنه يروم إنتاج المتضادين، وأنه ينتفع بتسليم كلا طرفي النقيض، فيحير المجيب فيما يجمع عليه، وفيما يعرض على ذهنه من المتقابلات حتى تتداخل، فلا يكاد يفهم أي طرفي الضدين يقصد بالقول. ومن ذلك أن يسأل المتصعب، المتمنع، العظيم الدعوى، المتكلم من سؤال التأريب والتورية، فلا يسأل عن الذي يؤثر تسليمه، بل يسأل عن مقابله تعريضا إياه للإنكار، فيتسلم المطلوب، فلا يقول مثلا: " هل العلم بالمتضادات واحد " ؟ ولا يقول أيضاً: " أليس العلم بالمتضادات واحداً " ؟ فإنه إذا سأل هكذا كان كأنه أعرض عن ذلك الآخر، وجعله غير ملتفت إليه ولامعلوم، فكان التعسر في بابه أقل. وبعد ذلك أن يسأل عن الطرفين غير موهم أنه إلى أحدهما أميل، بل كأنه غير مبال بأيهما سلم. وإذا لم يعلم غرضه، لم يتصعب، ولم يتعسر في الذي هو غرضه إلا قليلاً.
ومن الحيل في الاستقراء أن تأخذ جزئيات كالمتسلم تحصيها إحصاء، فلا توقع فيها الشك بالسؤال عنها معرضاً إياها للإنكار، فيمتنع حينئذ نقل الحكم عنها إلى الشكل، فتسوهم السامعين بترك السؤال عنها أنها مما قد سلمت عند الجمهور لا محالة، وإن سئل عنها فأعطيت فليس من الصواب أن ترجع فتسأل عن المقدمة الكلية التي هي كالنتيجة لها، فتعرضها للتشكيك، وتجعل سعيه في تسليم الجزئيات كالباطل، لأنه إذا سأل عن النتيجة، أوهم أن ذلك لم يغن، بل المجيب والسامعون قد يتصورون أنه إنما سأل عنها لأمر، وأن ذلك الأمر واجب، وأن ذلك الواجب هو الإنتاج.(2/165)
وكثيرا ما لا يلفظ باسم الكلي، بل ينقل الحكم إلى الشبيه للمستقريات، كأنه لو ذكر الكلي يذكر النقيض؛ ولا شيء في التضليل كالأمثلة، وربما كان الأنفع لهم أن يذكروا الكل، فإن ذلك أشد إيضاحا، وذلك عندما راموا النقيض أن لا يذكروا في السؤال طرفاً واحداً بعينه، بل أن يذكروا الطرفين جميعا على سبيل التضاد، محتالين لرد التضاد فيسلم الطرف المطلوب. ولو ذكر على سبيل النقيض لم يكن يستشنع، كما يسألون: " هل يجب أن يطاع الآباء في كل شيء، أو الأصوب أن لا يطاعوا في كل شيء " ؛ على أن معناه: في كل شيء لا يطاعوا. و " هل الأصوب أن يعصوا في كل شيء أو أن لا يعصوا ولا في شيء " فإذا استصوب أن لا يطاعوا في كل شيء، وأن يعصوا في كل شيء، سلم الآخر. وكما يسأل سائل: " هل يجب أن يهجر الشراب كثيره أو قليله؟ " فيوهم هذا أنه يجب أن يجاب عن أحدهما، والأقسام أكثر من ذلك وإذا كان قسم المقدمة بحال قبح أو حمد صارت المقدمة بحسبها أوضح حمداً أو قبحاً مما أورد.
وربما تكلموا بكلام غير مناسب، ثم أوردوا شيئاً كالنتيجة المفروغ منها، وكأنهم قطعوا الخصم، وفصلوا المر، وكأنه قد مضى الأمر ولا كلام بعد. وإذا سألوا ليتسلموا شيئاً لينفعهم في مطلوبهم، احتالوا: فإن سلم لهم مرادهم ساقوا إلى المحال؛ وإن لم يسلم بالحقيقة عملوا أحد أمرين: إما أن يظهروا أنه قد سلم بأن يحرفوه، فيتسلم المحرف، ويوهموا أنهم تسلموا الآخر؛ وإما أن يشنعوا بأن المجيب قد خالف المشهور، وسلم الشنع.
ويستعملون أيضاً الاستدراجات التي تذكر في الخطابة من باب الاضداد، والمتشابهات المشهورة في بادي الرأي أنها كذلك، وما هي ذات شروط يختلف بها الحكم، فيتسلمها مطلقة، وما يجري مجراها في عمود الكلام، أو في مدحه، وفي المقدمات أو في ترتيبها واستعمالها. والمجيب إذا انتقل كأنه سائل، وحاول في ذلك ضربا من التلطف، أمكن أن يغالط أيضاً السائل إذا أخذ يبكته بأنه لا يلزمه، إذ هو كالسائل.
ومما ينتفع به السائل المغالط أن يطوي المسافة بين ابتداء كلامه وبين الإنتاج، وبين ما يقرب من النتيجة وبين النتيجة - إن كانت الوسائط كثيرة - وينتج معاجلاً غير حافظ للنظام، لئلا يفطن كيفية الإنتاج فيتحير السامع، ولا يعرف ماذا ينبغي أن ينكر. وربما احتاج إلى أن يخلط بالكلام ما ليس له فيه غناء لإخفاء النتيجة، أو الغناء فيه خفي غير جلي، وآجل غير عاجل. فأما إذا كان المخاطب شديد البحث عن مقدمة مقدمة، فليس يمكن خلط الكلام معه إلا بعلة تنشأ وعذر يخترع؛ فإذا أنشئ ذلك فربما تمكن من استدراجه إلى الإصغاء إليه، فاختلط الكلام عليه، ولم يفطن للحيلة، وخفيت النتيجة. وربما انحرفوا إلى نقيض المطلوب فيثبتونه لرفع المطلوب، أو يرفعونه لوضع المطلوب؛ وربما انحرفوا عن طريق المسألة، بل أوردوا الكلام القياسي متصلا بالنتيجة كأنه ظاهر لا يحتاج إلى التسلم؛ وهذا هو الرسم في زماننا هذا عند المشاغبة الذين يسمون متكلمين. فهذه هي حيل السائلين، وينتفع بها جميع من يقيس قياس العناد.
واما المجيب فليتكلم في حاله، وأنه كيف ينبغي أن يستعمل حل التبكيت؛ وهذا ليس نافعا في المفاوضة، بل قد ينفع في الفلسفة. فمن ذلك أن يكون مفيدا، مثل تفصيل الاسم المشترك: فإن أول الفوائد في ذلك أن تكون المعاني تنفصل بلقاء الذهن، ويشعر بها، وتخطر بالبال، وتلاحظ أحكامها في الاتفاق والاختلاف. وأيضاً أن يقتدر الإنسان في تكفيره بنفسه على جودة التمييز، ولا يعرض الغلط له من نفسه. وكثيرا ما يغلط الإنسان من نفسه فوق غلطه من غيره، لأنه إذا فاوض غيره احترز وعاند، وتكون معاملته مع نفسه معاملة معجب بمن يعامله مسترسل إليه؛ وقد ينفع من جهة اكتساب المدح. وكثيرا ما يظن أن المنقطع لم ينقطع لخطئه، بل لضعفه في المفاوضة، واقتدار خصمه عليها، وأن الذي يغلب على الباطل أصنع من الذي يغلب على الحق.(2/166)
واعلم أنه ليس كل من يقتدر على حل الشك ناظرا فيه متأملا يقدر على حل الشك مجيباً مسارعاً، فإن ذلك عسى أن يكفي فيه قانون الصناعة المنطقية. وهذا التأني يحتاج فيه إلى ملكة ارتياضية، وخصوصا إذا غيرت التراتيب، وبدلت الألفاظ؛ فمن خانته الملكة فعليه بالتؤدة، فإن المفلت سهوا يعسر تداركه، كما في الكتابة، وفي كل صناعة. وكما أن القياس المعقود تارة يكون صادفاً ومن صوادق وصوابات، وتارة يكون بحسب الظن، كذلك الحل تارة ينبغي أن يبدل فيه المشهور بالحق، وتارة أن يبدل الحق بالمشهور والمظنون؛ فإنه ليس الغرض في مفاوضة السوفسطائيين أن يقاس عليهم الحق، بل أن يجازوا عن المراء مراء، ولا يبعد لو انحرفنا عن الحق إلى المشهور والمظنون؛ وجملة الغرض معهم أن نضرهم ولا يضرونا. وإن امعن السوفسطائي إلى النتيجة التي هي الحق لم يضرنا؛ ولكنه إنما يضرنا من حيث النتيجة المظنونة، فإذا أنتج الحق، واوهم أنه أنتج الشبيه به، سهل علينا أن نريه أن هذا غير مطلوبك؛ بل إن كان لا تضاعف مفهوم في سؤاله أمكن أن نتحرز فلا نسلم ما ينفعه على ثقة أنه لا ينتج إلا ذاك المعين، ولا نأخذ إلا ما ينفعه فيه - اللهم إلا أن يغالط بشبيه ذلك المعين، فلنتحرز من ذلك - وإن كان فيه تضاعف مفهوم فلا بأس أيضاً، فإنه إذا أنتج ما له، نسوق كلامه بالتحقيق، ولم يكن بين ما يعنيه في المقدمات، كان للمجيب أن يتعنت عليه، فيقول: " ما أردت في المسألة، وما أردت في الموضع الذي أحفظه كذا " ، فيكون استعمال الألفاظ الكثيرة المفهوم وبالا أيضاً على المغالط مضيعا لسعيه؛ ولو فصل وأوضح لكان ربما يورط المجيب في عهده سؤال لا يكون له أن يراوغ فيه. وهذا أكثره في اشتراك الاسم، وفي الذي سميناه المرائي.
وإذا كنا بدأنا فقسمنا معاني المفهوم، وكان هذا التلبيس متعذرا عليهم، وإن لم نكن تقدمنا ففعلنا، فأنتجوا علينا، فلما ان نفعل من بعد، ونبين أنه ليس ما سلمناه ما ذهب إليه الخصم، ولا ما أنتجه هو الذي ظنه؛ وليس ذلك رجوعا منا، بل إصلاحاً لشيء اضطرنا إليه غلط القائل، إذ الرجوع هو الرجوع عن المعنى ليس عن اللفظ. ولو كان التبكيت باشتراك الاسم تبكيتا، لكان كل ممكنا، بل الواجب أن تراعى المعاني، ويؤتى باسم غير الذي أتى به ليتميز ما يجب أن يسلب وأن يوجب، وما يجب أن يسلب عنه وأن يوجب له، لئلا يغلط إيجاب أو سلب لشيء واحد. والذين قالوا إن الخلاص من ذلك بأن يعين الموضوع المشترك في اسمه بلفظة " هذا " ، فلا يقال: " زيد موسيقار " بل " زيد هذا " فما عملوا شيئاً؛ فإنه إن كانت الدلالة كما نعلمها مختلفة، فإن " زيدا هذا " أيضاً مشترك فيه، اللهم إلا أن تشير بالإصبع فتكون قد أغنيت عن اللفظ، وجعلت الإشارة كافية في الدلالة. فإذا كان لنا أن نقسن، وأن ننص على المعنى، فلنا الحل.
وربما كان ابتداؤنا بالاستقسام والاستفهام يوهم العناد، والتعسر، والقطع على المتكلم لإيصال خلافه، ففي هذا لا يقبح أن يؤخر التخلص إلى آخره. وكثيراً ما كان إغفال ذلك وتركه يجلب الشناعة عليهم أنفسهم - كما قلنا - فترك ذلك في البدء حتى يتخلطوا. وإذا كانت القسمة ممل لا توهم التعسر، ولا لنا فيه مضرة فبالحري أن لا نتكاسل عنه؛ وإذا تسلم منا المقدمات، فمن الاحتياط أن لا نسلمها جازمين، بل نسلمها على أن نظن ذلك ظنا، فإن ذلك يمنع انعقاد التبكيت علينا، ويوجه الشناعة بخلاف المشهور إلينا.
والجمع بين السؤالين لو استحق الجواب لاستحق الجمع عن ألف سؤال، ولكن ليس للمجيب الواحد - من حيث هو مجيب واحد - أن يكون مجيبا عن كل حق؛ فإذن يجب أن يتحدد له السؤال. وقوة السؤال بالاسم المشترك - كما علمت - قوة سؤالات كثيرة، ولا السؤال عن المشترك واحد، لا الجواب.(2/167)
والذي يغلط بالمصادرة على المطلوب الأول يأخذ العبيرات، فإن كانت ظاهرة لم تقبل، وإن خفيت وتنبه لها عند الإنتاج، قيل إن المراد فيما سلمت غير ما أوردت، ولو سلمت هذا لسلمت ما فيه النزاع، وحينئذ لا تجد المغالطة سبيلا إلى إلزام كذب أو تشنيع. وإذا استعمل المغالط بدل ما في المصادرة على المطلوب الأول من لفظ كلي قولا مبنيا على المقايسة، أو لم يكن للكلي المستعمل اسم، وكان قولا ما فبدله بقول قياسي - كما نقول على ما يجري مجرى الإنسان والفرس ويشبهه، فهو يحرك فكه الأسفل - ويجعله يغير ما يصادر به من المطلوب الأول على هذه الجملة - أو في غير المصادرة أيضاً - ثم أنتج منه، فله أن يقول: إنما سلمت لك فيما يجري مجرى الإنسان ولم أسلم لك في كل شيء، وهذا ليس يجري مجرى الإنسان، فإنه يخالفه من قبل كذا. وذلك لأنه إن لم يفعل هذا تم له التبكيت، وخفى ما يريده من المصادرة على المطلوب الاول، إذا كان تغييره على هذا النحو من التغيير بانتقال إلى جزئي أو المعلومة. فإذا استعمل اسما حقيقيا لم يكن بد من الجواب، أو من القسمة إذا كان في بعض دون بعض. ويعرض أن يكون الاسم حقيقيا في القضية ليس فيها اشتباه ولا إيهام اشتراك، وإن كان في نفسه مشتركا فيحوج ظهور معناه إلى التسليم أو القسمة، ثم يكون إذا استعمل في مقدمة أخرى استعمل بوجه آخر مما له في نفسه من الاشتراك - وتكون حاله ما ذكرنا - فيعرض في النتيجة أن تكون على نحو كاذب، كما أنه يقال: " إن ما هو لأهل بلد كذا فهو ملك لهم، والحيوان كذلك هو للإنسان، فهو إذن ملك له " ؛ فتكون كل قضية تستعمل فيها لفظة " له " بمعنى معقول محصل، ولكن يغلط في النتيجة، إذ تؤخذ في النتيجة على معنى آخر. وقد علمت أن القياس لا يكون بالحقيقة قياسا، أو تكون هناك الاشتراكات الثلاثة التي للمقترنتين في أنفسهما، والتي لمقدمة مقدمة مع النتيجة. وإذا كان اللازم غير منعكس - كما قلنا - فينبغي أن نجيب في العكس بالجزئية، فلا يتهيأ التبكيت بالجزئي، فإن التجربة تحمله على إيراد الشروط، وتكثير القضايا؛ ويعسر حينئذ التأليف الصحيح في الحق فضلا عن الباطل.
وإذا كانت المسألة كلا طرفيها مشهور - كما هو في النفس من فسادها وغير فسادها؛ وفي القطر مشارك للضلع عند أصحاب الجزء ألبتة، وعند المهندس غير مشارك ألبتة؛ وأشياء أخرى مثل ذلك - فكان كل طرف مقبولا ومضادا للنقيض، فيسهل علينا في مثلها أن نقاوم، إذ يكون لنا أن لا نقبل أي الطرفين شئنا. وإذا لم يكن أحد الطرفين معتاد القبول والتسليم، وكان كل واحد من طرفي النقيض يصدق بشرط يقترن به، لم ينتفع الممارون بأماله؛ وذلك لأن للمجيب أن لا يسلم أي ذلك شاء. أما القسم الأول فلأن تسليم شيء من الطرفين غير معتاد، وأما الثاني فلأنه لما خلا عن الشرط كان حكمه حكم الأول، فإذا ألحق به الشرط، كان للآخر أن يلحق به الشرط، ثم لم يسلم مع شرط. وبالجملة تجاذب الفيضين في القبول وغير القبول يضعف سورة التبكيت؛ فإذا كان عند الإنسان معرفة حاضرة يحيط بها بكيفية العسرة في السؤالات وكيفية حلها، سارع إلى الحل وحد المقاومة. ولأن تمنع العقد أولى من أن تلبث إلى وقت الحاجة إلى الحل. وإنما تمنع عقد التبكيت الباطل أن تحس باتصال المقدمة المسئول عنها بالنتيجة أنكرتها، وللآخر أن يظهر وجه إنكاره لها؛ فإن هذا فعل الفحول من المجادلين، وبذلك يتلقون القياس الكاذب.
والقياس قد يكون مغالطيا إما لمادته فقط - إذا كانت صورته قياسية - فهذا ينقض من جهة مقدماته؛ وقد يكون مغالطيا، لأنه يشبه في صورته القياس، وليس بقياس؛ على ما علمت. وهذا فإن الحل قد يكون فيه من الوجهين جميعا، إذا كانت المقدمات أيضاً كاذبة؛ فعلى الحال أن ينظر في ذلك في صورته أيضاً، ويحل الشبهة منها؛ وينظر أيضاً في النتيجة - فإن النتيجة إذا كانت كاذبة نبهت على القياس وما فيه من الغلط - ويشرح سوء تسليم إن كان قد وقع، فإنه كما ليس الفكر كالبديهة، كذلك ليس التنبيه للسؤال - وهو بعد سؤال - كالتنبيه له إذا أنتج. فهذا هو وجه التحرز، والتمكن من الحل، ومقاومة السوفسطائية.
وأما تعقب تبكيتاتهم، وإيضاح السبب فيها، فقد يعلم مما سلف، ويزيده معرفة به معاودتنا النظر في كل واحد واحد منها.
الفصل الرابع
(د) فصل
في حل التبكيتات المغالطية(2/168)